الوصائل إلی الرسائل

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

المجلد 1

اشارة

اللهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفکر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات رکورد کتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

-------------

آية الله العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله

انتشارات: دار الفکر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

-------------

شابک دوره: 6-175-270-600-978

شابک ج1: 2-160-270-600-978

-------------

دفتر مرکزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاک 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاک 124، واحد یک، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

الوصائل إلی الرسائل

الجزء الأول

تأليف: آية الله العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله المعصومين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين.

فانّ الأصول هو جمع أصل، وأصل الشيء في اللغة أساسه القائم عليه، وهذا المعني بالذات هو المراد بأصول الفقه، لأن الفقه قائم عليه.

إذن: فلا نقل ولا مجاز في كلمة الاصول هنا.

وقالوا في تعريف علم الأصول: إنه علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فالأمر _ مثلاً _ يدل على الوجوب هو: قاعدة اصولية، فإذا تعلّق بالصلاة _ مثلاً _ جعلنا الامر بالصلاة صغرى في الدليل، والقاعدة الأصولية كبرى، وقلنا: أقيموا الصلاة أمر بالصلاة، وكل أمر يقتضي الوجوب، ينتج أن الصلاة واجبة.

وبالتالي نستخلص من هذا التعريف ان كل مسألة لا تبني حكم شرعي فرعي مباشرة وبلا واسطة فهي دخيلة على علم الأصول، وغريبة عنه.

ص: 5

وقد وضح مما قدمناه أن الغاية من علم الأصول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، والأحكام الشرعية على نوعين:

منها تكليفية، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، ومنها وضعية مثل الصحة والفساد.

وليس من شك أن من تمكن من علم الأصول وتضلّع فيه، فهو كامل العدة والآلة لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، ويستطيع الدفاع عن رأيه بمنطق الدليل والبرهان، وهذا هو عين الاجتهاد، وبذلك تبيّن أنه لا مجتهد بلا علم بأصول الفقه، ولا عالم بأصول الفقه بلا ملكة الاستنباط، وأيضاً تبيّن أن معرفة الفروع دون الأصول ليست من علم الفقه في شيء حيث اتفق العلماء على أنّ الفقه هو العلم بالاحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، ومعنى هذا أن كل فقيه مجتهد، وكل مجتهدٍ فقيه ولو بالملكة، وان غير المجتهد ليس بفقيه(1).

والكتاب الذي بين يديك هو لواحد من أعلام الفقه والأصول وهو آية الله العظمى الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، والذي ولد في مدينة دزفول الايرانية، وهاجر الى العراق وهو في عمر العشرين عاماً، وكانت كربلاء المقدّسة أول محطة له، حيث تلقى دروسه عند السيد محمد المجاهد، وعند شريف العلماء، وكان والده مردّداً بين العودة الى ايران والبقاء في العراق، فتدخل السيد محمد المجاهد في اقناع أبيه على البقاء في كربلاء المقدّسة، فبقى ملتزماً درس السيد محمد المجاهد، حتى وقعت حوادث سنة «1241ه«في كربلاء المقدّسة، حيث تم محاصرتها من قبل الوالي العثماني «داود باشا» فأضطرّ عدد كبير من طلبة العلوم الدينية ترك كربلاء الى الكاظمية والنّجف الشريفتين، وكان الشيخ مرتضى ممن هاجر الى الكاظمية ثم عاد الى كربلاء بعد انتهاء الحصار، فأخذ يحضر درس الشيخ شريف العلماء المازندراني، ثم عاد الى ايران ومكث في نراق من قرى

ص: 6


1- علم أصول الفقه: ص 11 - 15.

كاشان، وفي دزفول فترة من الزمن، ثم عاد الى العراق سنة «1269ه» أيام رئاسة الشيخ علي كاشف الغطاء، فحضر درسه في النجف الأشرف، ثم درس عند صاحب الجواهر فترة من الزمن.

وامتاز الشيخ قدس سره بمكانة علمية رفيعة حيث يعتبر الواضع لعلم الاصول الحديث عند الشيعة(1)، فقد أدخل نتائج أبحاث سبعة من الأعلام كالوحيد البهبهاني، والسيد محمد المجاهد في لباسٍ جديد، إذ كان أغلب ما كتبه الوحيد في الأصول هو في معرض مناقشاته مع الاخباريين لاثبات صحة نظرية الأصوليين.

وهكذا وعلى يد الشيخ الأنصاري بلغ علم الأصول مرحلة التكامل، فأصبحت كُتبه مادّة دراسية في علم الأصول.

يقول عنه السيد الأمين: وانتشر تلاميذه، وذاعت آثاره في الآفاق وكان من الحفّاظ، جمع بين قوة الذاكرة وقوة الفكر والذهن وجودة الرأي، حاضر الجواب، لايُعيبه حلّ مشكلة ولا جواب مسألة(2).

ثم يقول أيضاً: كتب في الأصول والفقه لا يسع الواقف عليها وعلى ما فيها من الدقائق العجيبة، والتحقيقات الغريبة، مع لزوم الجادّة المستقيمة، والسليقة المعتدلة، الاّ الالتزام لما يرى بالموافقة، والتسليم حتى يرى المجتهد الناظر في ذلك نفسه كالمقلد، وذلك أقل شيء يُقال في حقه، فقد اشتهر أمره في الآفاق، وذكره على المنابر، على وضع لم يتفق قبله لغيره، وكان مرجعاً للشيعة قاطبة في دينهم ودنياهم(3).

وقال عنه الشيخ عباس القمي قدس سره: خاتم الفقهاء والمجتهدين واكمل الربانيين من العلماء(4).

ص: 7


1- انظر أعيان الشيعة: ج10 ص118.
2- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
3- الفوائد الرضوية: ص164.
4- أعيان الشيعة: ج10 ص118.

أمّا أخلاقه وزهده: فقد عرف الشيخ مرتضى الأنصاري بكثرة الصلاة والصِلات وحسن الأخلاق(1)، وعُرف بالزهد والتقوى أيضاً، فكانت تأتيه الأموال الكثيرة فيهرب منها.

أما الحقوق الشرعية التي كانت تصل اليه، فكانت في حدود «200 ألف تومان» كان الشيخ يأخذ منها بمقدار ما يأخذ طالب العلم العادي، ثم يصرف بقية الأموال على طلبة الحوزة العلمية.

ويُذكر أنّه اذا سافر للزيارة يُعادله في المحمل خادم الشيخ «رحمة الله» وتحت كلّ منهما لحاف وبطانية من الكرباس الأخضر بلا ظهارة، ومعهما قدر صغير موضوع في وسط المحمل لطبخ غذائهما(2).

ويقول عنه التنكابني في قصص العلماء: كان في غاية الزهد والورع، العابد الدقيق في العبادة، وقد عاصرتهُ وحضرتُ مجلسه، كان ملتزماً بالنوافل اليومية، ومواظباً على زيارة عاشوراء، وصلاة جعفر الطيار، وصلت اليه الرئاسة الدينية بعد صاحب الجواهر لكنه لم يدن نفسه الى الى المخاصمات ولم يعط اجازة اجتهاد الى أحد(3).

الشيخ الاعظم وعلم الاصول

لا شك أن المدرسة الأصولية في عهد الشيخ الأنصاري بلغت ذروتها، وفي زمانه تطورت الدراسات الأصولية حتى بلغت مرتية عالية من البحث العلمي والاستدلال العميق، لكن في عهده لم يكن للاخبارية وجود ظاهري، فلم يكُن في قبال الشيخ الأنصاري أحد من الأخباريين، لكنه عاصر هذا الصراع في عهوده الأخيرة واستفاد كثيراً من الحوارات والنقاشات التي كانت تجري بين الطرفين.

ص: 8


1- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
2- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
3- قصص العلماء: ص109.

ومن زاوية هادئة كان الشيخ الأنصاري يرصد مؤاخذات كل طرف على الآخر ثم يتبحر في مناقشة أدلة كل طرف حتى توصل الى وضع الأدلّة والأجوبة القانعة والردود المحكمة، فأكتمل علم الأصول في رسائله التي كتبها: رسالة حجّية القطع والظن، رسالة أصالة البرائة، والأستصحاب، والتعادل والتراجيح، ورسالة الإجماع، التي جُمعت في مجموعة واحدة سميت بفرائد الأصول.

وكان الشيخ الأنصاري يقول: لو كان الاسترابادي(1) حاضراً في زمانه لاتبع مدرسة الأصوليين.

روايته

يروي عن استاذه النراقي، وأبيه ملاّ مهدي، عن الشيخ يوسف البحراني، عن المولى محمد رفيع الجيلاني، عن المجلسي، عن مشائخه.

تلاميذه

كان يحضر درسه في الجامع الهندي زهاء أربعمائة من العلماء، وقد تخرج على يده أكثر الفحول من بعده، مثل الميرزا الشيرازي، والميرزا حبيب الله الرشتي، والسيد حسين الترك، والشرابياني، والمامقاني، والميرزا ابو القاسم الكلانتري صاحب الهداية وغيرهم.

تصانيفه

كان لا يحب اخراج شيء من الكُتب إلاّ بعد التنقيح واعادة النظر مراراً، هذا مضافاً الى ضعف بصره مما جعل كثيراً من آثاره في الفقه غير مرتبة.

صنّف المكاسب، وهو أحسن ما صنّف في هذا الباب.

ص: 9


1- والاسترابادي هو محمد امين واضيع المدرسة الاخبارية، ورفض الأخذ بآراء الأصوليين، وكان يرى أن الكتب الأربعة قطعية الورود والدلالة وهي تكفي للفقهاء، عارض الاجتهاد والمجتهدين وقال بعدم ضرورة الادلة العقلية في الفقه.

وكتاب الطهارة ويُعرف بطهارة الشيخ.

وكتاب الصوم والزكاة والخمس.

اضافة الى رسائله الخمسة التي ذكرناها آنفاً فقد كتب: رسالة في الرضاع، ورسالة في التقية، ورسالة في العدالة، ورسالة في القضاء عن الميت، ورسالة في المواسعة والمضايقة، ورسالة في قاعدة من ملك شيئاً ملك الاقرار به، ورسالة في نفي الضرر والضرار.

وانّ أكثر كتبه قد طبعت.

أما كتبه الخطية، فكتابان: كتاب الغصب وكتابٌ في الرجال، موجودان في مكتبة الاستانة في مشهد المقدسة.

هذا عن مؤلف المتن، وأما عن مؤلف الشرع فهو آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي «دام ظله» والذي ولد سنة 1347ه في النجف الأشرف بالعراق من أسرة عُرفت على مدى عدة اجيال بالعلم والاجتهاد، انجبت خيرة القادة والعلماء العظام من أمثال المجدد الشيرازي الذي أفتى بتحريم التنباك في عهد ناصر الدين شاه أحد ملوك القاجار، والميرزا محمد تقي الشيرازي الذي أشعلت فتواه بتحريم التعامل مع الانجليز نار الثورة سنة 1338ه، تلك الفتوى التي اجبرت سلطات الاحتلال البريطاني الى الاستسلام لأرادة الشعب العراقي ومنحه الاستقلال السياسي.

فمن هذه الأسرة الطيبة ولد الامام الشيرازي وكان والده الميرزا مهدي الشيرازي آية في الأخلاق الحميدة وعنوانٌ عريض للعلم والتقوى والزهد، أصبح يُضرب به المثل في تقواه وزهده.

هاجر الامام الشيرازي من النجف الأشرف بصحبة والده وهو في نعومة أظفاره حيث لم يبلغ من العمر إلاّ تسع سنين، ثم هاجر منها الى الكويت على اثر الضغوطات التي مارستها بحقه الحكومة البعثية في العراق، ومكث قرابة عقد من الزمان في الكويت استطاع خلاله أن يوجد حوزة علمية وأن يحوّل النوّيات الاسلامية الى تيار إسلامي.

ص: 10

شيوخه وتلاميذه

درس الإمام الشيرازي عند والده المعظم، وكان يستلقي الدروس الفقهية والأصولية عند آية الله العظمى السيد هادي الميلاني أيضاً.

ودرس الفلسفة الاسلامية عند الفيلسوف الاسلامي الشيخ محمد رضا الاصفهاني.

أما في علوم اللغة والنحو، فقد تتلمذ على يد شيخ النحاة واستاذ العلماء الشيخ جعفر الرشتي.

هذا وقد تتلمذ على يده جمع من العلماء الأفاضل.

مكانته العلمية

برع الإمام الشيرازي في تدريس الفقه والأصول ابتداءً من كربلاء وحتى اقامته أخيراً في ايران، ولم يكتف بالتدريس وحده، فقد قام بتدوين أبواب الفقه بصورة شاملة وكاملة حتى أصبحت موسوعته الفقهية بمثابة مدونة فقهية قلّ نظيرها من حيث الوسعة والعمق وهي تحكي عن مكانته العلمية التي أخذت تظهر منذُ أوائل حياته الاجتماعية، فعندما بلغ من العمر ثلاثة وثلاثين سنة أوكل اليه كبار المراجع في ذلك اليوم من أمثال الامام الحكيم وآية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي وآية الله العظمى السيد احمد الخوانساري، بادارة الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة، وقد أشار المحقق الكبير آغا بزرك الطهراني الى نبوغه العلمي بمناسبة ذكر التقاريض الواردة إليه وذلك في المجلد العاشر من كتاب الغدير.

مكانته الجهادية

خاض الإمام الشيرازي جهاداً متواصلاً في مدينة كربلاء المقدسة حيث كان الطغاة يحكمون تلك البلاد بالحديد والنار، وقد مارسوا بحقه شتى وسائل الضغط والظلم والتعسّف، وأصدروا عليه حكم الاعدام مما اضطر الى مغادرة العراق قاصداً الكويت.

ص: 11

لقد آمن الامام الشيرازي بمباديء الحرية والمسؤولية الاجتماعية ودعى الى نبذ الاستعمار والى وحدة الكلمة والى إيجاد الأمة الواحدة عبر تحسين روابط الأخوة الصالحة.

وكان يرى في الصدع بهذه الافكار مسؤولية دينية، وتكليفاً شرعياً، لذا وجدنا الطغاة وأذناب الاستعمار وكل اللذين لا يريدون للأمة التقدم يصطدمون بالامام الشيرازي ويحاولون اخماد صوته، لكنه واصل مسؤوليته على رغم المصاعب والمتاعب حتى تمكن من أن يوجد تياراً سياسياً يدافع عن الاسلام والمسلمين في أرجاء العالم الاسلامي.

بين يدي الكتاب

يرى الإمام الشيرازي أن لعالم الدين مسؤوليّة كبرى، وأنّ من مسؤولية الحوزات العلمية انجاب العلماء الواعين الخيّرين، لذا صبّ إهتمامه في تطوير الحوزات العلمية التي أشرف على تأسيسها في كربلاء المقدّسة والكويت وقم المشرّفة.

وكان يرى أن التجديد والأصالة معاً كفيلان بتطوير الحوزة العلمية، فلا يجوز أن يأتي التجديد على حساب الاصالة أو العكس.

من هنا جاءت مساعي الامام الشيرازي بتطوير المناهج الدرسية في الحوزة العلمية لتأتي مناسبة ومنسجمة مع روح العصر، فبعد شرحه للمكاسب للشيخ الانصاري قام بشرح كتاب الرسائل بصورة موسّعة، فجاء شرحه في خمسة عشر جزءاً، وهو بهذا العمل أسدى خدمة كبيرة للحوزة العلمية.

عسى أن ينتفع المؤمنون من هذا الكتاب ويستفيدوا من العلوم التي اشتمل عليها أجزاءه الخمسة عشر.

والله من وراء القصد

مؤسسة الوعي الاسلامي بيروت _ لبنان ص.ب: 5083/13

البريد الإلكتروني: alwaie@shiacenter.com

ص: 12

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

لقد طالعت كثيراً من الكتب الحقوقية التي هي مبنى الحضارات المعاصرة وان كانت الحضارة المعاصرة كثيراً ما تنكّبت عن مبنى الحقوق الموضوعة، مثلها مثل من يقرر الديمقراطية في برامج عمله، ثم لا يعمل بها في حياته السلطوية، فرأيت انها مبنيّة على الدّقة الشديدة في استخراج الحقوق وفهم العرف والعادة.

دقة من جهة اصل الفهم.

ودقة من جهة فهم المقدّم من المتعارضين.

ودقة من جهة علاج المجمل، واستخراج المهمل من القواعد الاوليّة.

اذ الشيء على ثلاثة أقسام:

1- مقنّن صريح.

ص: 13

2- مقنّن مجمل.

3- مهمل في أصل التقنين.

والأول: قد يكون بدون المعارض، وقد يكون مع المعارض، والذي مع المعارض يحتاج الى العلاج من الترجيح، او الابطال، او قاعدة العدل، او التخيير.

اذ قد يلزم الترجيح في مثل أن الزوجة لأي واحد من المتنازعين، وقد لا يصل القاضي الى احدهما مما يُجبر بابطال نكاحهما، أو مايشبه الابطال، كجبرهما على الطلاق ثم تزويجها لأحدهما، أو ما أشبه ذلك.

وقد يكون مال متنازع فيه، فيعمل بقاعدة العدل.

وقد يكون تخيير في الامر، كما اذا نذر ذبح شاة في النجف الاشرف او كربلاء المقدسة، فيكون مخيراً.

وكل هذه الدّقة المحتاج اليها بناء الحكم ابتداءاً واستمراراً في كل الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والقضائية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية، وغيرها بحاجة الى ارفع مستويات التدقيق والتحقيق.

والفرق بين التحقيق والتدقيق: ان الأول: كشف الحقّ، بينما الثاني: الدّقة في الادلة.

فما هو الدليل: «الكبرى»؟ وما هو مصداق هذا الدليل: «الصغرى»؟.

ولا يخفى: ان التدقيق مقدمة التحقيق الذي هو كشف الحقّ، والمراد بالحقّ: أعم مما له مطابق في الخارج ماضياً او حالاً او مستقبلاً، أو ليس له مطابق وانما هو اعتبار بيد المعتبر بحيث يوجب درك المصلحة ودرء المفسدة.

وليس في كتبنا الفقهية والأصولية ما يفي بغرض الدّقة اللازمة في بناء الحكم

ص: 14

أو استمراره، بمثل المكاسب والرسائل للشيخ الاعظم قدس سره، فهذان الكتابان هما الوحيدان اللذان سبقا جامعات العالم الحقوقية، في بيان المنهج، وكيفية الاستنباط لكل أبعاد الحياة.

ولهذا فانّا نحتاج الى فهم الكتابين لا في استنباط الأحكام الشرعية فحسب، بل في التفوّق الحضاري على العالم، حسب «الاسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(1) فان في فهمهما واستيعابهما كاملين، الدليل الملموس لتفوق المسلمين على العالم في بناء الحضارة الحديثة.

ولو اتيح للمسلمين ترجمة هذين الكتابين باللغات الحيّة، لاخذا مكانهما في ارقى مرحلة من المراحل الدراسية في الجامعات العالمية.

وبهذا تبيّن: أن احتمال الغني عن بعض مباحث الكتابين كبحث الانسداد وبحث العدالة، او ان الطالب لا وقت له لدراسة الكتابين، ولكيلا يزاحم سائر مهامه التبليغيّة، والاجتماعية، وما اشبه، فاللازم التبعيض فيهما، او التلخيص لهما، فانه غير وارد اطلاقاً، فان الانسداد يبقى منهاج الدقّة فيه، وان لم يقل شخص بالانسداد.

هذا، وليس الكلام: ان كل الطلاب يحتاجون اليهما حتى يستشكل بالمزاحمة، وانما الكلام: فيمن يريد الوصول الى آخر تطورات الفكر البشري في التحقيق والتدقيق، الذين هما مبنى الحضارة الحديثة بل كل الحضارات الراقية.

فهل يا ترى من الصحيح: الاشكال على من يطلب العلم عشرات السنين للاختصاص في أغوار النفس، او خصوصيات الجسم، او اجواء الفضاء، للحصول

ص: 15


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص243 ح2، غوالي اللئالي: ج1 ص226 ح118، نهج الحق: ص515 فصل الحادي عشر، وسائل الشيعة: ج17 ص376 ب 1 ح11.

على دقائق النفس، أو الجسد او الفلك: بان جملة من تدقيقاته وتحقيقاته لا اثر علمي لها، أو أن الوقت لا يسمح للانسان بالجمع بين هكذا تحصيل، وبين مهامه الاقتصادية والاجتماعية ونحوهما؟.

ومن الله سبحانه استمد العون، وارجو منه الثواب، واسأله ان ينفع بهذا الشرح كما نفع بشرح المكاسب، وهو الموفق المستعان.

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

قم المقدسة

25 / جمادى الثانية / 1409 ه .ق

ص: 16

المدخل

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فاعلم انّ المكلّفَ ، إذا التفتَ

-----------------

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على اعدائهم أجمعين .

وبعد.. فهذا شرح توضيحي على الرسائل لآية اللّه العظمى في العلم والفضيلة والزهد والاخلاق ، الشيخ مرتضى الانصاري قدس سره كتبته لتسهيل الامر على المبتدئين ، واللّه سبحانه أسأل التوفيق للاتمام ، والنفع به والثواب ، انه ولي ذلك ، وهو المستعان .

قال طيب اللّه تربته : ( فاعلم ) الفاء : لتوهم تقدير اما ، وهو نوع زينة في الكلام، ولم يكن الامر بحاجة الى « اعلم » وانما ذكر مزيداً للتنبيه ، ويمكن ان يشبه بكلمة : « قل » في اوائل السور ، ونحوها ، فانه نوع تأكيد لكونه صلى الله عليه و آله وسلم هو المخاطب ، وذلك مما يزيده صلى الله عليه و آله وسلم اجلالا ( انّ المكلَّف ) اما يراد به : المجتهد ، او الاعم ، حيث ان الاصول الاربعة أحيانا تكون تكليف المقلد ايضاً .

وحيث كان المراد بالمكلّف : المكلّف شأناً قريباً لاشأناً بعيدا ، كالطفل ونحوه وهو البالغ العاقل القادر ، الذي لامحذور له في أداء التكليف ، اذا كان مقلداً ، او بيانه ، اذا كان مجتهداً ، قال رحمه اللّه تعالى : ( اذا التفت ) فلا يقال : ان القيد

ص: 17

إلى حكم شرعيّ ، فامّا أن يحصل له الشكّ فيه او القطع او الظنّ .

-----------------

مستدرك ، لان غير الملتفت غير مكلّف ، والمراد به : الالتفات الاجمالي الى ان الشيء الفلاني له حكم في الجملة من الاحكام الخمسة ، فان الاباحة ايضاً حكم ، حيث ان الاباحة الشرعية غير الاباحة العقلية ، واثر التشريع : الثواب على الاطاعة ، فاذا شرب الانسان الماء ، لان اللّه سبحانه أباحه ، اعطاه اللّه الثواب ( الى حكم شرعي ) .

وكان ينبغي اضافة : أو الموضوع المستنبط ، أو الحكم الوضعي ، لان كل الثلاثة ، مورد للقطع والظن والشك ، اللهم ان يرجع الموضوع والوضع ، الى الحكم بتكلّف .

( فاما ان يحصل له الشك فيه ) وهو : تساوي الطرفين دقيا ( او القطع او الظن ) وهو مايرجح احدهما على الاخر ولو بواحد في المائة ، وفي قباله : الوهم وان كان واحدا في المائة ، و حيث انه كلما حصل الظن في طرف حصل الوهم في طرفه الآخر ، اكتفى بذكر الظن عن الآخر ، وانما ذكره دون الوهم ، وان كان لو ذكر الوهم ، كان كذلك متلازما ايضا ، لان الظن له حكم دون الوهم .

ولا يخفى ان كلا من الظن والوهم والشك ، يطلق على الآخر توسعاً ؛ ولايخفى اني لم اجد لفظ القطع مستعملا في آية او رواية ، وانما الوارد فيهما : « اليقين » لكن حيث اراد الفقهاء والاصوليون : المانع من النقيض طابق الواقع اولا ، ذكروه دون اليقين ، ولعل السر في ذكر المصنف قدس سره الشك اولا ، لانه لاشيء في جانبه ، وهو : الاصل .

ثم ذكر القطع ، لانه كل شى ء في طرفي النقيض فيقابل الشك .

ثم ذكر الظن ، لانه ليس ذاك ولا هذا .

ص: 18

فان حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى بالاصول العمليّة .

وهي منحصرة في أربعة ،

-----------------

وعلى اي حال : ( فان حصل له ) القطع ، كان هو المرجع ، وان حصل له الظن فان كان ظنا حجة ، كان مرجعا ايضا ، وان كان غير حجة ، كان المرجع فيه هو المرجع في الشك ، وان حصل له ( الشك ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية ) ولذا فقد تكون تلك القواعد عقليّة أولاً ، ثم شرعية ، وقد تكون شرعيّة محضة سمي الجميع بالشرعية ، وليس لنا قاعدة عقلية بحتة ، يعمل على طبقها .

ان قلت : فلماذا ذكر الفقهاء العقل من جملة الادلة الاربعة ؟ .

قلت : من جهة ارادتهم بيان : إنّ الاحكام الشرعيّة عقليّة ايضا في جملة منها ، مقابل الاشاعرة والظاهرية والحشوية، الذين عطّلوا دور العقل ( الثابتة للشّاك في مقام العمل ) والمراد بها : القواعد التي تأتي من اول الفقه الى آخره ، لا مثل قاعدة الفراغ والطهارة والحلية وما اشبه ، المختصة ببعض الابواب ( وتسمّى ) تلك القواعد ( بالاصول العمليّة ) « اصل » : لتفرع الفروع عليه كأصل الشجرة ، و « العمليّة » : لكونها في قبال الاصول العقائدية .

( وهي منحصرة في اربعة ) : الاستصحاب والبرائة والتخيير والاحتياط ، اما سائر الاصول فهي اما راجعة الى احداها ، مثل : اصالة عدم الاكثر ، في الشك بين الاقل وبينه ، الراجعة الى البرائة ، واصالة العدم ، الراجعة الى الاستصحاب ، فانهما فردان من افراد الاصلين المذكورين واما هي مختصة ببعض مباحث الفقه كما تقدم ، من مثل : اصالتي الطهارة والحل ، واما اصول لفظية ، مثل : اصالة عدم التقييد ، واصالة عدم التخصيص ، وهي عبارة اخرى عن طريقة العقلاء

ص: 19

لأنّ الشكّ أمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا ، وعلى الثاني ، فامّا أن يمكن الاحتياط

-----------------

في المحاورة ، الى غير ذلك .

ثم ان الحصر في الاربعة وان قيل انه عقلي ، لكنه الى الشرعي اقرب ، اذ أحد أركانه الشرع ، والنتيجة تابعة لاضعف المقدمتين ، فانه لو دلّ الشرع على اصل خامس ، لم يكن خلاف العقل ، وانما الامر العقلي هو : الدائر بين النفي والاثبات بدون امكان ان يكون هناك شيء خارج عن الحصر ، مثل العدد اما زوج أو فرد ( لان الشكّ اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا ) .

والمراد : ان تكون هناك حالة سابقة وتكون ملحوظة شرعاً ، اذ لو لم تكن الحالة السابقة ، كان من السالبة بانتفاء الموضوع ، او كانت ، لكن الشارع لم يلاحظها ، كان مجرى لاصل آخر ، لا الاستصحاب كما اختاره الشيخ قدس سره في الشك في المقتضي : بانه ليس مجرى للاستصحاب .

( وعلى الثاني ) الذي لايلاحظ فيه الحالة السابقة ( فامّا ان يمكن الاحتياط ) بأن يجمع المكلف بين الاطراف ، كأن يأتي بصلاتي الظهر والجمعة يوم الجمعة ، وكذلك يمكن ان يجتنب عن الدخان والترياق اذا نذر ترك احدهما ، ثم نسي ان نذره تعلق بايهما ؟ حيث يلزم عليه فعلهما في الاول ، وتركهما في الثاني ، وكذلك يمكن ان يكون قد نذر إما صوم الخميس ، او ترك صوم يوم الجمعة - فيما كان لهما رجحان حتى يصلحا لتعلق النذر بهما - فانه يجمع بين فعل الاول وترك الثاني .

ولايخفى انه لاينحصر الاحتياط بين امرين ، بل يمكن ان يكون بين امور ، ثم ان الاحتياط قد لايمكن ، وقد يخل بالنظام ويوجب الهرج والمرج ، وقد يعسر أم

ص: 20

لا .

وعلى الأوّل ، فامّا أن يكون الشكّ في التكليف او في المكلّف به .

فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى أصالة البراءة ،

-----------------

عسراً رافعاً للتكليف على نحو المنع من النقيض ، وقد يعسر عسراً غير مانع عن النقيض (أم لا ) اي لايمكن .

( وعلى الاول ) : بان امكن الاحتياط ( فاما ان يكون الشك في التكليف ) وهل انه مكلّف ؟ ولايلزم ان يكون الامر لنفسه ، بل يشمل ماذكرناه من امور مقلديه ايضاً ، وربما لايكون لنفسه ولا لمقلديه ، بل يريد استظهار حكم المسألة ( أو في المكلف به ) وقد تقدم ان المراد هو الاعم من الاحكام التكليفية والوضعية بل ومن الموضوعات المستنبطة .

( فالاول ) الذي يلاحظ فيه الحالة السابقة : ( مجرى الاستصحاب ) كما اذا شك المتطهر في الحدث ، حيث يستصحب الطهارة ، أو شك في بقاء زوجته ، حيث يستصحب بقائها ، فلايجوز له التزويج باختها ، او الخامسة ، او شك في بقاء آلة اللهو بمعناها السابق في زمان المعصومين عليهم السلام حيث يستصحب بقائها .

( والثاني ) الذي هو صورة عدم امكان الاحتياط : ( مجرى التخيير ) اذا لم يكن احد الطرفين اهم ، كما اذا شك في وجوب صلاة الجمعة او حرمتها ، فقد قال بكل منهما جماعة من الفقهاء .

( والثالث ) وهو صورة الشك في التكليف : ( مجرى اصالة البرائة ) كما اذا شك في انه هل يحرم عليه التدخين ام لا ؟ .

ص: 21

والرابع مجرى قاعدة الاحتياط .

وبعبارة اُخرى : الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة او لا . فالأوّل مجرى الاستصحاب ،

-----------------

( والرابع ) وهو ماكان الشك فيه في المكلف به مع علمه بالتكليف : ( مجرى قاعدة الاحتياط ) اذا لم يكن محذور ، كما اذا كان الاحتياط عسراً او حرجاً او ضرراً .

ولايخفى ان الالفاظ الثلاثة اذا قيلت معاً ، اختص كل منها بمعنى :

الاول : بالعسر الجسدي ، مثل ما اذا كان ذهابه الى مِنى يوم العيد ، يوجب مشقة كثيرة له من جهة الحر .

والثاني : بالامر النفسي ، كما اذا كان الاغتسال على الفتاة في بيت ابيها بسبب احتلامها يوجب شدة خجلها واستحيائها .

والثالث : ماكان ضرراً جسدياً او مالياً ، كما اذا سبب الصوم مرضاً شديداً .

نعم ، اذا ذكر كل واحد منها مستقلاً شمل الاخرين ، كما ذكروا في الظرف والجار والمجرور .

ومثال ذلك : ما اذا لم يعلم ان اي ثوبيه طاهر وايهما نجس ؟ حيث يحتاط بصلاتين : في هذا صلاة ، وفي ذلك صلاة .

وحيث أُورد على هذا التقسيم بايرادات - كما هو مذكور في المفصلات - قال ( وبعبارة اخرى : الشك اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ، أولا ، فالاول : مجرى الاستصحاب ) ولعل المجى ء بباب الاستفعال ، من باب أن المكلّف يطلب صحبة الحالة السابقة ، واني لم اجد هذا اللفظ في نص شرعي ، ولعله اصطلاح اصولي .

ص: 22

والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا .

فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا .

فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، والثاني مجرى قاعدة التخيير .

وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة ،

-----------------

( والثاني : اما ان يكون الشك فيه في التكليف ، اولا ، فالاول : مجرى اصالة البرائة ) وهذه اللفظة مستعملة فيها ، لكن لا بالمعنى الاصولي ، والمراد بها هنا : ان الانسان بريء من التكليف ، بمعنى : ان لاتكليف عليه .

ثم ان المراد من التكليف : الواجب والحرام ، اما الاحكام الثلاثة الاخر ، فلا كلفة فيها ، لعدم الالزام ، فاذا شك بين الواجب والمستحب - كغسل يوم الجمعة - كان الاصل عدم الوجوب ، الى غيره من الامثلة .

( والثاني : اما ان يمكن الاحتياط فيه ، اولا ، فالاول : مجرى قاعدة الاحتياط ) وهذا اللفظ مستعمل في الروايات ، والاصل فيه « من حاطه » بمعنى : اشتمل عليه ومنه المحيط بمعنى : الدائر حول الشيء دورانا ماديا ، كالسور المحيط بالبلد ، او معنويا ، كما قال سبحانه : « واللّه من ورائهم محيط » (1) فكأنَّ المحتاط يدور حول الحكم فيأتي به ( والثاني : مجرى قاعدة التخيير ) والاصل فيه « خار » بمعنى : سهل ، اذ العمل بهذا او ذاك سهل ، بخلاف العمل بشيء واحد فقط ، وهذا اللفظ وارد في الروايات .

( وما ذكرنا ) من التقسيم ( هو المختار في مجاري الاصول الاربعة ) اذ بعض

ص: 23


1- - سورة البروج : الآية 20 .

الاصوليين قسم الاربعة بشكل آخر ، غير التقسيمين الذين ذكرناهما .

وقد وقع الخلاف فيها ، وتمام الكلام في كلّ واحد موكول إلى محلّه ، فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأوّل في القطع ، والثاني في الظّن ، والثالث في الاصول العمليّة المذكورة التي هي المرجع عند الشّك .

-----------------

ولذا قال رحمه اللّه تعالى : ( وقد وقع الخلاف فيها ) وبعضهم فسر العبارة : بأنّ المراد اختلاف بعض العلماء في جريان الحكم على احد الموضوعات الاربعة مثل انكار الاخباريين البرائة في ما اذا شك في التحريم وقالوا بالاحتياط ، لكن ماذكرناه اوفق باللفظ ( وتمام الكلام في كل واحد ) من الاربعة ، موضوعا وحكما ودليلا ( موكول الى محله ) انشاء اللّه تعالى ، والمراد بتمام الكلام : الكلام التام لابقية الكلام ، اذ التمام يستعمل تارة بهذا المعنى ، واخرى بالمعنى الثاني ، فهو من اضافة الصفة الى الموصوف ، لا اضافة الجزء الى الكل ، او الجزئي الى الكلي .

( فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الاول : في القطع ، والثاني : في الظن ) وقد عرفت انه يلازمه الوهم ، فالكلام في المقصد الثاني فيهما ، كقولهم : العمل في باب الانسداد ، بالمظنونات والموهومات والمشكوكات .

( والثالث : في الاصول العملية المذكورة ، التي هي المرجع عند الشك ) حيث انه محل اجراء الاصول العملية .

ولا يخفى انه قد يكون الظن النفسي ، حاله حال الشك في جريان احكام الشك ، وهو ما اذا كان الظن غير حجة .

* * *

ص: 24

الوصائل الى الرسائل

المقصد الاول: في القطع

اشارة

ص: 25

ص: 26

مقدمة البحث

امّا الكلام في المقصد الأول :

فنقول : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجودا ، لأنّه بنفسه طريقٌ إلى الواقع .

-----------------

( امّا الكلام في المقصد الاول ) وهو القطع ( فنقول ) : هو عبارة عما اذا كان وجدان الانسان الى طرف بحيث يمنع عن نقيضه - سواء كان مطابقا للواقع اولا - فان طابق الواقع سمّي يقينا ، وان لم يطابق سمي جهلاً مركباً ، لانه يجهل الواقع ، ويجهل انه يجهل الواقع .

هذا موضوع القطع ، اما حكمه : فانه ( لااشكال ) عقلاً وعقلائياً - وحيث انه تكويني لاشأن للتشريع فيه - ( في ) حجية القطع ، وانه يحتج المولى على العبد ان ترك العمل على طبقه ، ويحتج العبد على المولى ان عَمِل بقطعه ، وهذا هو معنى : ( وجوب متابعة القطع ) والاّ ، فمع قطع النظر عن الاحتجاج المذكور ، يمكن للانسان ان يقطع ويخالفه ( والعمل عليه ) جرياً ورائه بالعمل ، اذا كان القطع يوجبه ، كالقطع بان هذا اسد فيفرّ منه ، وبالترك ، اذا كان القطع يوجب الترك ، كالقطع بانه ليس بأسد فلا يفرّ ، ولعل الفرق بين المتابعة والعمل هو : ان الاول : لوحظ فيه ان القطع شيء يتبعه الانسان ، كاتباع زيد لعمرو في مشيه ورائه .

والثاني : لوحظ فيه حالة نفسية - لاضافة القطع الى النفس ، كاضافة الشجاعة و الكرم اليها - فيكون العمل على طبق تلك الحالة ( مادام موجوداً ) فاذا فقد القطع، كان من السالبة بانتفاء الموضوع ( لانه بنفسه طريق الى الواقع ) من غير حاجة الى تقوية وتأييد ، بخلاف الظن فانه محتاج اليهما .

ص: 27

وليس طريقيّتهُ قابلةً لجعل الشارع إثباتا ونفيا .

ومن هنا يُعلَمُ أنّ إطلاقَ الحجّة عليه ليسَ كاطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ،

-----------------

( وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع اثباتاً ) بأن يقول الشارع : اذا قطعت فاعمل على طبق قطعك ، فيكون طريقيته مجعولة ( ونفياً ) بأن يقول : اذا قطعت فلا تعمل على طبق قطعك ، شأن القطع في ذلك شأن سائر الامور التكوينية ، فان الشارع يتمكن ان يزيل القطع تكويناً ، او يوجده تكويناً ، اما ان يوجد طريقيته أو ينفيطريقيته ، فليس من شأن الامر التكويني ذلك ، فكما ان الامر التشريعي لايوجد ولا يعدم بالتكوين ، كذلك الامر التكويني لايوجد ولايعدم بالتشريع .

وافضل مثال لذلك : رؤة العين ، فان الشارع يتمكن ان يعطي لعين زيد النور ، او يسلبها النور ، لكن هل يصح ان يقول : جعلت رؤتك للماء طريقاً الى معرفتك بانه ماء ؟ او جعلت رؤتك للماء مسلوباً عنك المعرفة بانه ماء ؟ .

( ومن هنا ) اي من جهة ان القطع طريق ذاتا ( يعلم ان اطلاق الحجة عليه ) حيث يقال في الالسنة : القطع حجة ( ليس كاطلاق الحجة على ) سائر ( الامارات المعتبرة شرعاً ) كالبينة ، وخبر العادل ، وما اشبه .

علماً بان الامارة : تطلق على مايقوم على الموضوع كالبينة .

والطريق : يطلق على مايقوم على الحكم كخبر الواحد .

مثلاً : اذا قيل الخمر حرام ، فكون المائع الفلاني خمراً ، انما يثبت بشهادة شاهدين ، فشهادتهما تسمى امارة على الخمرية ، اما كونه حراماً فانه يثبت بالآية والرواية ، وهما طريقان على الحكم المذكور .

ولايخفى : ان اطلاق الحجة على القطع وسائر الامارات على نحو الحقيقة ،

ص: 28

لأنّ الحجّة عبارةٌ عن الوسط الذي به يُحتَجُّ على ثبوت الأكبرللأصغر ، ويصيرُ واسطةً للقطع بثبوته له ، كالتغيّر لاثبات حدوث العالم.

فقولنا : « الظنّ حجّة ، او البيّنة حُجّة ، او فتوى المفتي

-----------------

لان المولى والعبد يحتج كل منهما على الاخر بالقطع وبسائر الامارات ، الا ان كونه طريقاً في الاول ذاتي ، وفي الثاني عرضي - هذا بناءا على المعنى اللغوي للحجة - اما المعنى الاصطلاحي للحجة ، فهو ماذكروه في المنطق من : « الاوسط » الذي يجعل الاكبر في الكبرى محمولا على الاصغر في الصغرى ، مثلا يقال : العالم متغيّر ، وكل متغيّر حادث ( لان الحجة ، عبارة عن الوسط الذي به يحتج على ثبوت الاكبر للأصغر ) وانما سمي الاول اصغر ، لانه فرد من الافراد ، ويسمى الثاني بالاكبر ، لانه كلي يشمل الاصغر وغير الاصغر من الافراد ، ففي المثال المتقدّم ، العالم فرد من افراد المتغيّر ، ولذا تسمى المقدمة الاولى : بالصغرى والمقدمة الثانية : بالكبرى ( ويصير ) هذا الوسط ( واسطة للقطع بثبوته ) اي ثبوت الاكبر ( له ) اي للاصغر ، فانَّ قطعنا : بان العالم حادث ، انما جاء من جهة الوسط ، الذي هو « متغير » ( كالتغير لاثبات حدوث العالم ) .

اقول : لافرق بين الواسطة في الثبوت ، او في النفي ، مثلا يقال : هذا فرس ، والفرس ليس بناطق ، فهذا ليس بناطق ، فعدم النطق ثبت على هذا بواسطة الوسط ، الذي هو « فرس » .

والاقسام في المنطق تحصل من ضرب « الاصغر » و « الاوسط » الاول و « الاوسط » الثاني ، و « الاكبر » ايجابا في كل واحد ، أوسلباً في كل واحد في الاخر ، فقد يقال « العالم » وقد يقال : « غير العالم » وهكذا يأتي السلب والايجاب في الاوسطين ، وفي الاكبر ( فقولنا : الظن حجة ، او البينة حجة ، او فتوى المفتي

ص: 29

حجّة » ، يرادُ به كونُ هذه الاُمور أوساطا لاثبات أحكام متعلّقاتها .

فيقال : هذا مظنونُ الخمريّة ، وكلُّ مظنون الخمريّة يجبُ الاجتناب عنه ، وكذلك قولنا : هذا الفعل ممّا أفتى المفتي بتحريمه ، او قامت البيّنةُ على كونه محرّما ، وكلُّ ما كان كذلك فهو حرامٌ .

وهذا بخلاف القطع ، لأنّه إذا قطع بوجوب شيء فيقال : هذا

-----------------

حجة ، يراد به ) اي بكونه حجة ( كون هذه الامور ) الظن والبينة والفتوى ( اوساطاً لاثبات احكام متعلقاتها ) مثلاً : الظن بالخمر مثبت لحكم الحرمة على ماظن انه خمر ، فالحكم : الحرمة ، والمتعلق للظن : خمرية مافي الاناء ، فحيث تعلق الظن بانه خمر ، ثبت عليه الحرمة ( فيقال : هذا مظنون الخمرية ، وكل مظنون الخمرية ، يجب الاجتناب عنه ) اي حرام ، فهذا الموجود في الاناء يجب الاجتناب عنه .

وعليه : فالظن صار وسطاً لاثبات الحرمة على مافي الاناء ، كما ان المتغيّر صار وسطا ، لاثبات الحدود على العالم ( وكذلك ) في وسطية سائر الامارات ك- ( قولنا : هذا الفعل مما افتى المفتي بتحريمه ) او دل الخبر على تحريمه ( او قامت البينة على كونه محرما ، وكلّما كان كذلك ) اي قام على تحريمه الفتوى ، او الخبر ، او البينة ( فهو حرام ) فهذا حرام ، وكذلك في باب الوجوب والاستحباب والكراهة والاباحة ، وهكذا في باب الاحكام الوضعية ، كالجزء والشرط والمانع والقاطع ، وهكذا في باب ان اللفظ الفلاني ظاهر او مجمل ، او عام او خاص ، الى غير ذلك .

( وهذا ) الذي ذكرناه انما هو بالنسبة الى الامارة ( بخلاف القطع ، لانه اذا قطع بوجوب شيء ) او حرمته او سائر الاحكام الوضعية والتكليفية ( فيقال : هذا

ص: 30

واجبٌ ، وكلّ واجب يحرمُ ضدُّه او تجب مقدّمته .

وكذلك العلمُ بالموضوعات ، فاذا قطع بخمريّة شيء ، فيقال : هذا خمرٌ ، وكلُّ خمر يجبُ الاجتنابُ عنه .

ولا يقال : إنّ هذا معلومُ الوجوب أو الخمريّة ، وكلّ معلوم حكمه كذا ، لأنّ أحكامَ الخمر إنّما تثبتُ للخمر ، لا لما عُلِمَ أنّه خمرٌ .

-----------------

واجب ، وكل واجب يحرم ضده ) اذا قلنا بمسألة الضد ( او تجب مقدمته ) اذا قلنا بوجوب المقدمة ، ولا نأتي بلفظ القطع في الوسط ، فلا نقول : « هذا ماقطع بوجوبه ، وكل ماقطع بوجوبه يحرم ضده » كما كنا نقول : هذا ماافتى المفتي بوجوبه ، وكل ما افتى المفتي بوجوبه ، فهو واجب ، هذا كله في ان القطع لايكون جزءا من الحكم ( وكذلك العلم ) اي القطع ( بالموضوعات فاذا قطع بخمرية شيء ) فان القطع لايكون جزءاً من الموضوع ( فيقال : هذا خمر ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ) فهذا يجب الاجتناب عنه ( ولا يقال : ان هذا معلوم الوجوب او الخمرية ، وكل معلوم ) الخمرية ( حكمه كذا ) لوضوح ان الشارع حرّم الخمر بما هو خمر ، لا انه اذا علم وقطع بانه خمر ، فليس القطع جزء الموضوع .

نعم ، اذا قطع به ، تنجز عليه ، واذا لم يقطع به لم يتنجز ، والاّ فالخمر حرام من غير تقييد بالعلم ( لان احكام الخمر انما تثبت للخمر ) على نحو لابشرط ( لا لما علم انه خمر ) فنفس القطع لم يقع وسطا ، وانما وقع فتوى المفتي ونحوه وسطا .

ولهذا ربما يقال : انه لافرق بين القطع الحجة ذاتا ، وسائر الامارات الحجة عرضا ، في ان الحكم تابع للواقع ، فان كان الواقع كان الحكم ، والا لم يكن الحكم ، والقطع وسائر الامارات تفيد التنجيز والاعذار ، والتجري في صورة

ص: 31

والحاصلُ أنّ كونَ القطع حجّةً غيرُ معقول ، لأنّ الحجّة ما يوجب القطعَ بالمطلوب ، فلا يُطلقُ على نفس القطع .

هذا كلّه بالنسبة إلى متعلّق القطع ، وهو الأمر المقطوع به . وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر ، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا

-----------------

مخالفة الامارة او مخالفة القطع ، فيما اشتبه ولم يكن واقع ، فلا وسطية اطلاقا ، لا للامارة ولا للقطع .

( و ) على اي حال ف- ( الحاصل ) ممّا ذكره الشيخ رضوان اللّه عليه : ( ان كون القطع حجة ) بمعنى الوسط ( غير معقول ) في القطع الطريقي ( لان الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب ) اي بثبوت الاكبر على الاوسط ( فلا يطلق ) الحجة ( على نفس القطع ) الاّ اطلاقا مجازيا ، من باب اطلاق اسم السبب على المسبب .

نعم ، الحجة بمعنى احتجاج كل من المولى على العبد اذا خالف ، واحتجاج العبد على المولى اذا وافق ، يطلق على القطع كما يطلق على سائر الامارات .

( هذا كله ) الذي ذكرناه : من عدم كون القطع وسطا حجة ، انما هو ( بالنسبة الى ) حكم ( متعلق القطع ) الذي حمل الحكم وجوبا او تحريما او غير ذلك ، على الشيء المتعلق للقطع ، بما هو ، ويسمى ذلك بالقطع الطريقي ( و ) متعلق القطع (هو الامر المقطوع به ) فلا اعتبار لصفة القطع في الحكم .

( وأما ) القطع بشيء (بالنسبة الى حكم آخر ) كما اذا كان القطع بالخمر موضوعاً لحكم ، غير حرمة الخمر ، مثلاً : قال المولى : من قطع بالخمر ، فعليه ان يريق ذلك المقطوع كونه خمراً ( فيجوز ) اييمكن ( ان يكون القطع مأخوذاً

ص: 32

في موضوعه ، فيقال : إنّ الشيء المعلوم ، بوصف كونه معلوما ، حكمهُ كذا .

وحينئذٍ : فالعلمُ يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم وإن لم يطلق عليه الحجّة ، إذ المرادُ بالحجّة في باب الأدلّة

-----------------

في موضوعه ) كل الموضوع ، او جزء الموضوع ( فيقال : إنّ الشيء ) الذي هو خمر ( المعلوم ) كونه خمراً (بوصف كونه معلوماً ، حكمه كذا ) اي وجوب الاراقة - في المثال - كما ورد في باب القضاة : ان الرجل الذي يقضي بالحق وهو لايعلم ، يكون من اهل النار، فالحق المعلوم يجوز القضاء به اما الحق بما هو حق ، فلا يجوز القضاء به ، كما ورد شبه ذلك في الشيء الذي للانسان ، ويأخذه من المستولي عليه بحكم الجائر، فانه حرام على المالك نفس ذلك الشيء ، فالشيء الذي لايأخذه بحكم الجائر وانما بحكم العادل او يأخذه بنفسه بلا مراجعة حاكم الجور حلال له .

( وحينئذٍ ) اي اذا كان القطع جزء الموضوع ، او كل الموضوع ( فالعلم يكون وسطاً لثبوت ذلك الحكم ) لمتعلقه ، فيقال : « هذا معلوم الخمرية ، وكل معلوم الخمرية يلزم اراقته » فاذا كان قطع ، بدون ان يصادف الواقع ، بأن كان جهلاً مركباً، او كان خمر ، بدون ان يقطع بأنه خمر ، لم يجب اراقته .

هذا في ما اذا كان العلم جزء الموضوع ، اما اذا كان العلم كل الموضوع ، فان علم بانه خمر - وان كان علمه جهلاً مركباً - وجب اراقته ( وان لم يطلق عليه ) اي على هذا القطع الذي هو كل الموضوع ، او جزء الموضوع ( الحجة ) لان الحجة هو الوسط بين الموضوع والمحمول ، مثل : المتغير في العالم متغير ، وهذا القطع الموضوعي ، موضوع ، وليس وسطاً ( اذ المراد بالحجة في باب الادلة ) لاباب الأقيسة ، حيث ان المنطقيين يسمون كل القياس بكبراه وصغراه : حجة ، ولعله

ص: 33

ما كان وسطا لثبوت أحكام متعلّقه شرعا ، لا لحكم آخر ، كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا ، لا على نفس الخمر ، وكترتّب وجوب الاطاعة على معلوم الوجوب ، لا الواجب الواقعيّ .

وبالجملة : فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم ،

-----------------

من باب ان هذا المجموع حجة على النتيجة ( ما كان وسطاً ) لثبوت الاكبر على الاصغر اي ( لثبوت احكام متعلقه شرعاً ) كفتوى المفتي حيث يقال : فتوى المفتي حجة ، لثبوت الحكم على الموضوع ، فاذا قال المفتي : العصير العنبي قبل ذهاب الثلثين نجس ، احتج كل من المولى على العبد - اذا خالف - والعبد على المولى اذا وافق ، بهذه الفتيا ( لالحكم آخر ) كوجوب الاراقة في المثال السابق «الخمر المعلوم خمريته تجب اراقته » . حيث ان وجوب الاراقة ليس حكم الخمر، وانما هو حكم « معلوم الخمرية » والقطع ، الذي هو الموضوع كلا او جزءاً ( كما اذا رتب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمراً ، لا على نفس الخمر ) .

ولايخفى : ان « الخمر » يجوز فيه التذكير والتأنيث ، فيقال مثلاً : الخمر الحمراء ، والخمر الاحمر ( وكترتب وجوب الاطاعة ) عقلاً ( على معلوم الوجوب لا الواجب الواقعي ) .

( وبالجملة ) الجملة : مقابل التفصيل ، ويسمى جملة لان من جمال الكلام ان يجمع المتكلّم اطراف كلامه في عبارة موجزة ، فانه اقرب الى الحفظ والبقاء في الذهن ( فالقطع قد يكون طريقاً ) ويسمى قطعاً طريقياً ( للحكم ) فلا مدخلية له في الحكم ( وقد يكون مأخوذاً في موضوع الحكم ) ويسمى قطعاً موضوعياً.

ص: 34

ثم ما كان منه طريقا لايفرّق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ، إذ المفروضُ كونه طريقا إلى متعلّقه ،

-----------------

وقد تقدم ، أن القطع الموضوعي قد يكون جزء الموضوع ، وقد يكون كل الموضوع ( ثم ما كان منه طريقاً ) يختلف عما كان منه موضوعا ، في امور ثلاثة :

الاول : ان القطع الطريقي لايقع وسطاً ، ولايسمى حجة ، بخلاف القطع الموضوعي - كما تقدم الكلام فيه - .

الثاني : ان القطع الطريقي ( لايفرق فيه بين خصوصياته ) بخلاف القطع الموضوعي ، حيث ان الشارع يمكن ان يفرق فيه بين الخصوصيات ، فان الشارع يقرر حكمه على قدر مايريده من الموضوع - كما سيأتي تفصيل الكلام فيه - .

الثالث : ان القطع الطريقي ، تقوم الامارات وبعض الاصول العملية مقامه بخلاف القطع الموضوعي ، كما سياتي بيانه عند قوله :

« ثم من خواص القطع الذي هو طريق الى الواقع الى آخره » .

وحيث ظهر لك موجز الفروق ، وقد تقدم الفرق الاول ، نفصل الكلام حول الفرق الثاني ، فلا فرق في القطع الطريقي بين تمام الاحوال : ( من حيث القاطع ) فهو حجة ، سواء حصل للقطاع غير المتعارف ، او للمتعارف ( والمقطوع به ) سواء كان في الاصول او الفروع ، في الاحكام الوضعية او التكليفية ، او في الموضوعات ( واسباب القطع ) سواء كان من الادلة العقلية او اللفظية ، بل وحتى من الخارج عن المتعارف ( وازمانه ) سواء كان في زمان الانفتاح او الانسداد ، - لو قلنا بالانسداد - وزمان حضورهم عليهم السلام او حال الغيبة ( اذ المفروض كونه ) اي كون الطريقي ( طريقاً الى متعلقه ) فاذا قطع بأن المائع الفلاني خمر

ص: 35

فيترتّب عليه أحكامُ متعلّقه ، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ، لأنّه مستلزم للتناقض .

فاذا قطعَ كون مائع بولاً ، من أيّ سبب كان ، فلا يجوز للشارع أن يَحكُمَ بعدم نجاسته او عدم وجوب الاجتناب عنه ،

-----------------

( فيترتب عليه ) اي على هذا القطع الطريقي ( احكام متعلقه ) كالحرمة .

وما ذكره : مثال للقطع بالموضوع ، وكذلك حال الحكم ، فاذا قطع بان الخمر حرام ، فكلّما تحقق الموضوع تحقق الحكم ( ولايجوز للشارع ) اي يستحيل عقلاً بالنسبة الى الحكيم ، فكيف اذا كان سيد الحكماء والعقلاء ؟ ( ان ينهى عن العمل به ) اي بالقطع الطريقي ( لانه ) اي نهيه ( مستلزم للتناقض ) ولو في نظر المكلّف ، لانه من ناحية ، قال الشارع : كل خمر حرام فلا تشربه ، ومن ناحية ، قال : اشرب هذا الخمر .

وبذلك يظهر : انه لايتمكن الشارع ان ياتي بحكم آخر ، ولو غير النهي ، من الاحكام ، كان يقول : لاتشرب الخمر ، ثم يقول : ان شئت فاشرب ، او يكره شربه ، او يستحب ، او يجب ، من غير فرق في ذلك بين القطع بالموضوع ، او بالحكم .

( فاذا قطع ) المكلّف ( كون مائع بولاً ، من اي سبب كان ) قطعه ، سواء باخبار من قطع بسبب اخبارهم ، او برؤته بالعين ، او بان راى مكانه الذي نام ولده الصغير فيه مرطوباً او بغير ذلك ( فلايجوز للشارع ) بمعنى يمتنع - كما تقدم - ( ان يحكم بعدم نجاسته ، او عدم وجوب الاجتناب عنه ) اي وجوب الاجتناب من آثار النجاسة ، اذ التناقض كما يحصل بنفي المؤر ، يحصل بنفي الاثر ايضاً ، فانه اذا كان امران متلازمان ، يناقضهما أمران متلازمان آخران ، ولا يمكن الجمع

ص: 36

لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصلُ له صغرى وكبرى ، أعني قوله : « هذا بولٌ ، وكلّ بول يجبُ الاجتناب عنه ، فهذا يجبُ الاجتنابُ عنه » .

فحكمُ الشارع بأنّه لايجب الاجتناب عنه مناقضٌ له ،

-----------------

بين الملزومين ، ولا بين اللازمين ، ولابين ملزوم احدهما ولازم الآخر .

وكما لايصح ان يحكم بعدم النجاسة ، او عدم وجوب الاجتناب ، كذلك : لايصح ان يحكم بجواز الصلاة فيه ، والحال انه قال : لاتصل في البول ، وكذلك لايصح ان يقول : ان هذا ليس ببول ، الى غير ذلك .

( لان المفروض ) ان الشارع حكم بوجوب الاجتناب عن البول ، والمكلّف قطع ( انه ) بول ، فانه ( بمجرد القطع ) بالبولية (يحصل له صغرى ) وجدانية (وكبرى ) شرعية ( اعني قوله ) اي قول المكلّف : (هذا بول ، وكل بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، فحكم الشارع : بانه ) لايجب العمل بقطعك ، او يحرم ، او يستحب ، او يكره ، مما مؤداه :

( لايجب الاجتناب عنه ) اي عن هذا الشيء الذي تقطع بانه بول ( مناقض له ) ولو في نظر المكلّف ، وكما لايعقل ان يحكم الحكيم بالمناقض واقعاً كذلك لايعقل ان يحكم بما يراه المكلّف مناقضاً ، لانه يوجب نقض الغرض ، باسقاطه نفسه عن كونه حكيماً في نظر المكلّف ، الذي يراه وقد ناقض نفسه بنفسه .

وبهذا تبين : ان الامر ليس منحصراً بالتناقض ، بل ياتي نفس هذا الكلام فيما اذا رآه المكلّف مضاداً لنفسه بنفسه ، بان امر بالضدين ، او بارتفاع النقيضين ، او بارتفاع الضدين ، الذين لاثالث لهما .

هذا كله فيما اذا كانت « النجاسة » في لسان الشرع حكما للبول بنفسه ، اما اذا كان حكما للبول المعلوم من طريق خاص ، كما اذا قال الشارع : « البول الذي

ص: 37

إلاّ إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول ، بل من أحكام ماعلم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب او الشخص او غيرهما ، فيكون مأخوذا في الموضوع .

-----------------

يشهد شاهدان بانه بول ، يجب عليك الاجتناب عنه » فانه يتمكن ان يقول اما اذا رأيت بعينك انه بول ، فلا يلزم الاجتناب عنه ، لان الموضوع صار خاصاً ، والى هذا اشار بقوله : ( الا اذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب ) وامثالهما ، كوجوب التطهير بالماء القليل مرتين ، من اللازم والملزوم والملازم ( من احكام نفس البول ) ولوازمه الشرعية .

وعليه : فلا يكون القطع بالبول كاشفاً عن صغرى ، فلا يمكن رفع الحكم ، بعد حكم الشارع بالكبرى ( بل من احكام ماعلم بوليته على وجه خاص ) او من احكام ماقام على انه بول على وجه خاص ( من حيث السبب ) كما اذا قال : مارأيته بعينك انه بول ، فهو نجس ( او الشخص ) كما اذا قال: ماعلمه غير الوسواسي بانه بول ، فهو نجس ، لا ماعلمه الوسواسي ( او غيرهما ) كالزمان والمكان ، كما اذا قال : ماعلمته في الصيف انه بول ، او ماعلمته في مصر - حيث البلهارزيا - انه بول فهو نجس .

هذا ، وقد ذكر جماعة : انه اذا علم القاضي بان فلاناً زان ، لايكفي في حده بل اللازم الشهود الاربعة، او الاقرارات الاربعة ، وذلك لان النبي صلى الله عليه و آله وسلم والوصي عليه السلام علما بزنا الرجل والمرأة باول اقرار (1) ، ومع ذلك لم يجريا الحد ، مما يدل : على ان وجوب الحد على القاضي ليس بمجرد الزنا ، بل بعلمه من قيام الشهود او الاقرار - على الشرائط المقررة - ( فيكون ) القطع ، حينئذ ( مأخوذاً في الموضوع )

ص: 38


1- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص56 - 57 ب32 ح34202 .

وحكمه أنّه يُتّبع في اعتباره مطلقا او على وجه خاصّ دليلُ ذلك الحكم الثابت الذي اُخِذَ العلمُ في موضوعه .

فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف ،

-----------------

فليس البول نجساً ، بل البول المقطوع به من طريق خاص نجس .

( وحكمه ) اي حكم ذلك الموضوع ( انه يتبع في اعتباره ) اي اعتبار ذلك الحكم ( مطلقاً ) في انه كلما قطع بانه بول ، كان حكمه النجاسة ( او على وجه خاص ) كالقطع في الصيف ، او من غير الوسواسي ، او مااشبه ذلك ( دليل ذلك الحكم الثابت ) « دليل » : نائب فاعل ل- « يتبع » و ( الذي ) صفة «لحكم» ( اخذ العلم في موضوعه ) فنلاحظ هل قال الشارع : « البول المقطوع به نجس » ؟ او قال : « البول الذي يقطع به غير الوسواسي نجس » ؟ .

ففي الاول : كلما حصل القطع كان محكوماً بالنجاسة ، وفرقه عن « البول النجس » : ان لموضوع النجاسة في « البول المقطوع به » جزآن : « البول ، والقطع به » وفي « البول نجس » جزء واحد - ومرادنا بالجزء : اعم من الجزء والقيد والشرط - .

وتظهر النتيجة بين الموضوع « الفرد » و « المركب » في الاثار ( فقد يدل ) الدليل ( على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ) مطلقاً، من غير خصوصية سبب خاص ،او شخص خاص، او زمان خاص ، او مكان خاص - وقوله : بشرط يريد به : «اعم من الجزء والشرط» والقيد ، كما ذكرناه - ( بمعنى انكشافه ) اي انكشاف ذلك الشيء ( للمكلف من غير خصوصية للانكشاف ) سبباً ، او شخصاً ، او زماناً ، أو مكاناً ، ولنمثل لمدخلية القطع مطلقاً في ترتب الحكم ، بمثالين :

ص: 39

كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبدُ بكونه مطلوبا لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا ، فانّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة او المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسنا او قبيحا عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده .

-----------------

احدهما عقلي ، والآخر شرعي .

فالاول : ( كما في حكم العقل بحسن اتيان ما ) اي الفعل الذي ( قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه ) كالاحسان والعدل ، والفرق بينهما : ان العدل : عبارة عن الموزانة بين امرين ، كاعطاء الاجير اجرته حيث توازن الاجرة عمله ، والاحسان : عبارة عن الزيادة الحسنة ، مثل ان يعطيه فوق اجرته شيئاً ( وقبح ما ) اي الفعل الذي ( يقطع بكونه مبغوضاً ) لمولاه ، كالظلم ، فان القطع الذي جعل في موضوع الاحسان والاسائة ، قطع مطلق ، من اي سبب ، او في اي زمان حصل ، والى آخره .

والظاهر : ان مراد المصنف قدس سره : ان تنجيز حسن الاحسان ، وقبح الاسائة منوط بالقطع ، والاّ فمن الواضح : ان الاحسان حسن ، والاسائة قبيح ، سواء قطع بهما العبد ام لا .

وعلى اي : ( فان مدخلية القطع بالمطلوبية ) للاحسان ( أو المبغوضية ) للاساءة ( في صيرورة الفعل حسناً ، أو قبيحاً عند العقل ) و « عند » متعلق ب« صيرورة » ( لايختص ببعض افراده ) اي افراد القطع ، بل من كل سبب ، ولاي احد ، وفي اي زمان ، وفي اي مكان ، وفي اي قسم من اقسام الاحسان او الاساءة ، والى غير ذلك .

ولايخفى : ان اصل الحسن والقبح - حيث نحن بصددهما - شيء ، والمزيد في الاحسان والاسائة من جهة خارجية ، شيء آخر ، وكذا يكون القتل في الاشهر الحرم اسوء ، دون سائر الشهور ، وقد قال الامام الصادق عليه السلام لشقران :

ص: 40

وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر او نجاسته بقول مطلق ، بناءً على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيّتين إنّما تَعرضانِ مواردَهما بشرط العلم ، لا في نفس الأمر ، كما هو قول بعض .

-----------------

« ان الحسن من كل أحد حسن ، وانه منك احسن لمكانك منا ، وان القبيح من كل احد قبيح ومنك اقبح لمكانك منا » (1) .

( و ) الثاني : ( كما في حكم الشرع بحرمة ما علم انه خمر ، او نجاسته بقول مطلق ) فالقطع بالخمر من اين حصل ، ولاي انسان ، وفي اي زمان ، او مكان ، ولاي قسم من الخمر ، انما هو بقول مطلق ، من غير تفاوت في تلك الخصوصيات ( بناءاً ) اي لايريد المصنف قدس سره ان الامر كذلك ، وانما ذكره من باب المثال ( على انّ الحرمة والنجاسة الواقعيتين ، انما تعرضان مواردهما ) من المحرمات والاعيان النجسة ( بشرط العلم ) او جزئه ، او قيده ، فالتراب مثلاً حرام اكله ، بشرط القطع بانه تراب ، والكافر نجس ، بشرط القطع بانه كافر ، والخمر حرام ونجس ، بشرط القطع بانه خمر ( لافي نفس الامر كما هو قول بعض ) حتى يكون التراب حراماً ، وان لم يقطع بانه تراب ، الى غير ذلك .

وانت خبير بان المحرمات والاعيان النجسة ليست كذلك ، وانما ذكرها المصنف قدس سره من باب المثال ، واما ماورد من سؤل المسلمين عن قرائة آية الخمر على من شربها في زمن الثاني ، ورفع علي عليه السلام عنه الحد لجهله بالحرمة (2) ، فذلك لانه كان جاهلاً قاصراً ، ومن الواضح انه ليس على مثله حد ، فلا شاهد

ص: 41


1- - العدد القوية : ص153 ، سفينة البحار : ج4 ص467 باب الشين ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص205 .
2- - وسائل الشيعة : ج28 ص33 ب14 ح34145 .

وقد يدلّ دليلُ ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ او شخص خاصّ ، مثلُ ماذهب إليه بعضُ الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ،

-----------------

فيه لما ذكره قدس سره .

( وقد يدل دليل ذلك الحكم على ثبوته ) اي ثبوت ذلك الحكم ( لشيء ) من الموضوعات ( بشرط حصول القطع به من سبب خاص ، او شخص خاص ) او زمان ، او مكان ، او خصوصيات خاصة - كما تقدم - ( مثل ماذهب اليه بعض الاخباريين : من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنة ) فجواز العمل عندهم - بالمعنى الاعم للجواز ، من الوجوب وغيره ، في قبال الحرمة - انما هو بالحكم الشرعي ، المقيد حصول العلم بذلك الحكم من الكتاب والسنة .

لكن لايخفى : ان الاخباريين لايقولون بانحصار جواز العمل بالعلم الحاصل منهما ، بل يقولون بجواز العمل بالكتاب والسنة ، سواء حصل العلم منهما ، ام لا .

وانما مراد الشيخ قدس سره : ان نفي العمل بعلم غير حاصل منهما ، لايقيد الكتاب والسنة بالعلم ، فهو مثل قولنا : الشاهد حجة سواء علم القاضي بصحة كلامهما ام لا ، فهناك امور ثلاثة :

الاول : الشاهد الذي يعلم القاضي بان كلامه خلاف الواقع ، وهنا لايعمل القاضي بشهادته .

الثاني : الشاهد الذي يعلم القاضي بمطابقة كلامه للواقع ، وهنا يعمل به .

الثالث : الشاهد الذي لايعلم القاضي منه اي الامرين ، وهنا ايضاً يعمل بشهادته .

ص: 42

كما سيجيء ،وما ذهب اليه بعضٌ من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى .

-----------------

نعم ، ربما يناقش في ما اذا علم القاضي بمخالفة الشاهد للواقع ، فانه اذا لم يعمل بكلامه ، لزم الفوضى في القضاء ، حيث يتمكن القاضي من رد الشهود ، بحجة انه يعلم خلاف ماشهدا به ، ومحل البحث فيه كتاب القضاء (1) ، وهذا هو ما اشتهر بين القضاة الجدد : من ان القاضي هل يقدم جسم القانون او روح القانون ؟ (2) .

( كما سيجيء ) الكلام في قول الاخباريين في التنبيه الثاني ( و ) مثل ( ماذهب اليه بعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى ) كما اذا علم بان فلانا ارتد ، او شرب الخمر ، او ما اشبه ، لامثل السرقة والزنا ، حيث هناك حقان : حق اللّه ، وحق الناس .

والمراد بحق الناس : الحق الذي جعله اللّه للانسان ، والا فكل حق فهو للّه سبحانه .

وعلى اي حال : فمحل كلام المصنف : ان الحكم وهو مائة جلدة للخمار ، لايترتب بمجرد علم القاضي بل يترتب على علمه المقيد بكونه حاصلاً من الشهود ، وقد قال صلى الله عليه و آله وسلم : « انما اقضي بينكم بالبينات والأيمان » (3) ،بل ربما يقال بذلك ، اذا علم القاضي بالزنا - بدون شهود اربعة ، او اقرار اربع مرات - والظاهر : انه مقيد ايضاً ، وذلك لان النبي صلى الله عليه و آله وسلم والوصي عليه السلام ، علما بالزنا

ص: 43


1- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .
2- - وقد اشار الشارح الى هذه المسألة في موسوعة الفقه : كتاب القانون ص 149 .
3- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم غير القاطع كثيرةٌ ، كحكم الشارع على المقَلِّد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعيّ ، إذا علم به من الطرق الاجتهاديّة المعهودة ، لا من مثل الرمل والجفر ،

-----------------

من اقرار الزاني والزانية ثلاث مرات - قطعاً - ومع ذلك لم يجريا الحد ، وكذا اذا شهد ثلاثة عدول ، يعلم القاضي بصدقهم لايجري الحد حتى ينضم اليهم الرابع (1) .

( وامثلة ذلك ) اي تقيد الحكم بموضوع خاص ( بالنسبة الى حكم غير القاطع ) فان القاطع يعمل بقطعه - كما تقدم - من اين حصل ، اما غيره فلا ، الا اذا حصل من سبب خاص - مثلاً - وهي ( كثيرة ) بالنسبة الى المقلد وغيره ( كحكم الشارع على المقلد بوجوب الرجوع الى الغير في الحكم الشرعي اذا علم ) ذلك الغير وهو المجتهد ( به ) اي بالحكم ( من الطرق الاجتهادية المعهودة ) : الكتاب والسنة ، والاجماع ، والعقل ، على ماذكرها الفقهاء : من انها المدرك .

وفي جملة من الروايات - كما في قضاء الوسائل - حرمة رجوع الشخص الى غيرهم عليهم السلام (2) ، فاذا رجع واجتهد وان قطع بالحكم ، يكون ساقطاً عن العدالة ، فلا يجوز تقليده ، بل لايجوز الرجوع اليه وان لم يسقط عن العدالة ، لانهم عليهم السلام لم يأذنوا للرجوع الى مثل هذا المستنبط ، فالمجتهد القاطع من سبب خاص ، هو المأذون في الرجوع اليه ، لا مطلق المجتهد فانه ( لا ) يجوز الرجوع الى من علم الحكم ( من مثل الرمل والجفر) وسمي رملاً ، لان اول اكتشاف للمجهول بطرق

ص: 44


1- - وسائل الشيعة : ج28 ص96 ب12 ح34311 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص17 ح33092 فما بعده باب 3 صفات القاضي .

فانّ القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذُ به في عمل نفسه ، إلاّ أنّه لايجوز للغير تقليده في ذلك .

وكذا العلم الحاصل للمجتهد الفاسق او غير الاماميّ من الطرق الاجتهاديّة المتعارفة ، فانّه لايجوز للغير العملُ بها ؛ وكحكم

-----------------

الرمل كان بالتخطيط في رمال الارض ، كما انه سمي جفراً ، لان الجفر عبارة عن جلد السخل وكان اول كتابة هذا العلم في جلده ، وكلاهما اتخذا طريقاً لكشف المجهولات ، ومثلهما في زماننا : الكمبيوتر و الانترنيت .

( فان القطع الحاصل من هذه ) الاسباب غير المتعارفة ( وان وجب على القاطع) المجتهد ( الاخذ به في عمل نفسه ) لما تقدم : من ان القطع حجة عقلية من اي سبب ، ولأيّ احد حصل ( الا انه لايجوز للغير تقيلده في ذلك ) المقطوع به ، المكتشف بهذه الاسباب ، وان كان المجتهد جامعاً لشرائط الفتوى .

( وكذا العلم الحاصل للمجتهد الفاسق ، او غير الامامي ) او المرأة ، او العبد ، او غيرهم ممن فقد شرائط التقليد ولم يجتهد ( من الطرق الاجتهادية المتعارفة ) اي الادلة الاربعة ، فان هؤاء يفقدون بعض الشرائط ، كما ان القاطع من غير الاجتهاد المتعارف يفقد شرطاً آخر ، لانه حصل من غير الطريق المتعارف ، فالعلم الذي يجوز التقليد فيه ، مقيد بالشرائط المذكورة .

وهكذا لايجوز للمترافعين ، مراجعة القاضي الذي حصل له العلم من الامور غير المتعارفة ، كما لايصح لهما مراجعة القاضي اذا لم يكن عادلاً ، او رجلاً ، او مجتهداً مطلقاً - عند من لايكتفي بتجزي القاضي - الى غير ذلك من فاقدي الشرائط ( فانه لايجوز للغير ) مقلداً او متنازعاً ( العمل بها ) ومراجعته ( وكحكم

ص: 45

الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحسّ ، لا من الحدس ، إلى غير ذلك .

ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيامُ الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل ،

-----------------

الشارع على الحاكم ، بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له ) اي لذلك العدل (من الحس لامن الحدس ) اي من الحواس الخمس ، لا ما اذا علم بالشيء من الجفر ونحوه .

والعلم من الحواس الخمس : كان يرى بعينه الزنا ، او يتذوق الطعام فيعلم انه حامض ، فيما لو اختلف البائع والمشتري في الحموضة ، وضدها ، او يشم الخل او ماء الورد ليعلم من الرائحة : الجودة والردائة ، او يسمع صوت زيد وهو يسب عمراً ، او يلمس خشونة الحرير وزفته ، فيشهد باحدهما بعد اختلاف المتبايعين ( الى غير ذلك ) .

( ثم ) الفرق الثالث بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي - على ماتقدم الالماع الى ان بينهما ثلاثة فروق : - ( من خواص القطع الذي هو طريق الى الواقع ، قيام الامارات الشرعية ) .

والمراد بها هنا : الاعم من الطرق ، فان الامارات والطرق كالظرف والجار والمجرور اذا ذكر احدهما شمل الآخر ، وان ذكرا معاً ، كانا كما ذكرناه - فيما سبق - ( و ) بعض ( الاصول العملية ) كالاستصحاب ، الذي له كاشفية عن الواقع ، وان كانت كاشفيته ناقصة وبحاجة الى المتمم كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ( مقامه ) اي مقام القطع ( في العمل ) لافي كونه صفة نفسية ، كما هو واضح ، اذ القطع لامران :

ص: 46

...

-----------------

الاول : ان المقطوع به يعمل به .

الثاني : ان القطع صفة للنفس .

والامارة والاصل ، يقومان مقام القطع في الجهة الاولى لاالثانية ، اي كما انه يعمل بالقطع ، كذلك يعمل بالامارة والاصل .

مثلاً : اذا قطع بانه خمر وجب عليه الاجتناب ، كذلك اذا قامت البينة بانه خمر وجب الاجتناب ، وهكذا اذا كان علمه سابقاً بانه خمر ، ثم شك في انه هل بقي على الخمرية ، او انقلب خلاً ؟ استصحب خمريته ، فوجب عليه الاجتناب، فالبينة والاستصحاب قاما مقام القطع .

نعم ، الاصول الثلاثة الاخر ، اي : البرائة ، والاحتياط ، والتخيير ، لاتقوم مقام القطع ، فاذا شك في سائل انه ماء او خمر ، كان حكمه البرائة لا انه خمر ، واذا شك في ان هذا الاناء خمر او ذاك الاناء ، كان اللازم عليه الاحتياط باجتنابهما ، لا انه اذا شرب احدهما اجروا عليه حد الخمر ، او الزم بتطهير فمه ، لان الاحتياط لم يكشف عن كونه خمراً ، حتى يترتب عليه آثار الخمر .

واذا شك في مايع هل انه خمر يحرم شربه ، او خل يجب شربه ؟ لانه نذر ان يشرب اناء ماء - ولا ماء غيره فرضاً ، فيكون هذا الاناء المصداق المنحصر لنذره - تخير بين الشرب وعدمه ، ولا يكون التخيير طريقاً الى كونه خمراً .

ولا يخفى : ان مثل : الصحة ، واصل الطهارة ، واصل الحل ، وما اشبه ، تقوم ايضاً مقام القطع الطريقي - على نحو ماذكرناه في الاستصحاب - وكذلك مثل :

ص: 47

بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ، فانّه تابع لدليل ذلك الحكم .

-----------------

سوق المسلم ، ويد المسلم ، وارض المسلم ، الى غير ذلك .

( بخلاف ) القطع (المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية ) الوصفية ( فانه تابع لدليل ذلك الحكم ) اذ هو على قسمين :

الاول : القطع الموضوعي الوصفي .

الثاني : القطع الموضوعي الطريقي .

فأقسام القطع ثلاثة :

الاول : ماتقدّم من الطريقي البحث ، كما اذا قال : الخمر حرام .

الثاني : القطع الموضوعي الوصفي ، بمعنى : ان كون القطع صفة نفسية جزء الموضوع ، كما اذا قال : الخمر المقطوع به - لان القطع صفة للنفس - حرام .

الثالث : القطع الموضوعي الطريقي ، بمعنى : ان كون القطع طريقاً الى الخمر جزء الموضوع ، كما اذا قال : الخمر المقطوع به - لان القطع طريق الى الخمر - حرام ، وقد سبق الكلام في الاول .

اما الثاني : فلا يقوم الطرق والامارات مقامه ، لان الشارع اعتبر الصفة النفسية ، ومن المعلوم ان الامارات والاصول لاتحدث للنفس صفة .

واما الثالث : فالامارات والاصول تقوم مقامه ، لانه اعتبر في القطع الطريقية ، وكما يكون القطع طريقا عقليا ، تكون الامارة والاصول طريقا تعبديا .

ص: 48

فان ظهر منه اومن دليل خارج اعتبارُه على وجه الطريقيّة للموضوع

قامت الأماراتُ والاصولُ مقامه .

وإن ظهر منه اعتبارُ صفة القطع في الموضوع ، من حيث كونها صفه خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيرُهُ .

-----------------

وعلى هذا ( فان ظهر منه ) اي من الدليل نفسه ( أو من دليل خارج ) كالاجماع ( اعتباره ) اي اعتبار القطع ( على وجه الطريقية للموضوع ) وهو القسم الثالث في كلامنا ( قامت الامارات والاصول ) المصطلح عليها بالاصول المحرزة ، اي الكاشفة عن الواقع ولو كشفاً ناقصاً ، كما تقدّم من مثل : الاستصحاب ، واصالة الطهارة ، والحل ، والصحة ، وما اشبهها ( مقامه ) .

لما عرفت : من ان القطع كاشف نفسي ، وهذه الامارات والاصول كاشفة تعبدية ، بمعنى : ان الشارع اتم كشفها ، بعد ان كان لها كشف في الجملة .

( وان ظهر منه ) اي من الدليل ( اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص ) وهو القسم الثاني في كلامنا ، فانه ( لم يقم مقامه غيره ) من الامارات والاصول ، لانها لاتحدث في النفس صفة .

ثم انه يمكن ان يضاف الى الاقسام الثلاثة، التي ذكرها المصنّف قدس سره قسم رابع ، وهو : ما اعتبره الشارع طريقاً وصفة معاً - مثلاً قال : الخمر المقطوع به - لان القطع صفة للنفس وطريق الى الخمر ، حيث ان القطع طريق وصفة معاً - حرام .

وهذا القسم لا تقوم الامارات والاصول المحرزة مقامه أيضاً ، لما عرفت من عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي .

ص: 49

كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفةَ القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاُولَيينِ من الرباعيّة ، فانّ غيره ، كالظّنّ بأحد الطرفين اوأصالة عدم الزائد ، لا يقوم مقامهُ

-----------------

ثم ان المصنّف قدس سره مثّل للقطع الموضوعي الوصفي بقوله : ( كما إذا فرضنا أن الشارع اعتبر صفة القطع ) في الموضوع ( على هذا الوجه ) الخاص بانه صفة ، لابانه طريق ( في حفظ عدد الركعات الثنائية ) بان قال : إذا كانت هناك ركعتان مقطوع بهما في صلاة الصبح دائماً ، والظهرين والعشاء في السفر ، صحت الصلاة والا بطلت ، فاتخذ صف القطع في الموضوع .

( والثلاثية ) بان قال : إذا كانت هناك ثلاث ركعات مقطوع بها في صلاة المغرب صحت ، والاّ بطلت ( والاوليين من الرباعية ) بان قال : إذا كانت هناك ركعتان مقطوع بهما في أول الظهر ، وأول العصر ، وأول العشاء - في الحضر - صحت الصلاة ، والاّ بطلت ، وقام نفس النص ، أو دليل اجماع ونحوه ، على ان القطع الماخوذ في الموضوع ، انما هو قطع على نحو الصفة ( فان غيره ) اي غير هذا القطع ( كالظن باحد الطرفين ) وانه صلى ركعة أو ركعتين ، في الصبح ، وثنائية السفر ، أو انه صلى ثلاثاً أو اقل في المغرب ( أو اصالة عدم الزائد ) أو قيام البينة وما اشبه ، على احد الطرفين ( لايقوم ) خبر ل« فان غيره » ( مقامه ) اي مقام القطع الموضوعي الوصفي ، لانه لادليل على ذلك بعد عدم اعتبار الشارع القطع بما هو هو .

كما ان الامر كذلك في باب العقائد ، فان العقيدة معتبرة بذاتها اما إذا قامت البينة على ان اللّه واحد ، أو ظن بذلك ، أو قام الخبر الواحد عليه، أو اجرى اصالة عدم الثاني للاله ، لم ينفع كل ذلك في حصول التوحيد - وقد ادعى العلامة قدس سره

ص: 50

إلاّ بدليل خاصّ خارجيّ غير أدلّة حجيّة مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر .

-----------------

على ذلك : الاجماع في الباب الحادي عشر (1) - فان هذه الامور غير الصفة النفسية الخاصة التي اعتبرها الشارع .

قال فُضيل : سألته عليه السلام عن السهو ؟ فقال عليه السلام : في صلاة المغرب إذا لم تحفظ ما بين الثلاث الى الاربع فاعد صلاتك (2) .

وعليه : فلا يكون ( الاّ بدليل خاص خارجي ) بان يقول الشارع : اني وان اعتبرت الصفة الخاصة في الموضوع ، الاّ ان الظن أو البينة مثلاً ، تقوم مقام هذه الصفة (غير ادلة حجية مطلق الظن في الصلاة ) أو في غيرها ، حيث قام الدليل على حجية الظن الخاص ، المستند الى الخبر الواحد ، أو البينة ، أو ما أشبه ، أو حيث قام الدليل على حجية مطلق الظن - عند الانسدادي - ( و ) غير ( اصالة عدم الاكثر ) فيما إذا كان الشك بين الاقل والاكثر ، وانما لاينفع ادلة حجية مطلق الظن الخ، لان ادلة حجيتها منصرفة الى الحجية في القطع الطريقي لا القطع الموضوعي .

نعم إذا قال الشارع : بان كل قطع اعتبره العقل أو اعتبرته انا ، فان الظن يقوم مقامه ، أو ان الاصل يقوم مقامه ، كان الظن والاصل في هذه الحال ، يقومان مقام كل قطع طريقي أو موضوعي على نحو الطريقية أو الموضوعية .

مثلاً : عن عمار : انه قال له أبو عبد اللّه عليه السلام : ياعمار اجمع لك السهو كله في كلمتين ، متى ماشككت فخذ بالاكثر ، فاذا سلمت فاتم ماظننت انك نقصت (3) .

ص: 51


1- - النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص20 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص195 ب2 ح10407 .
3- - وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 .

ومن هذا الباب ، عدمُ جواز أداء الشهادة ، استنادا إلى البيّنة اواليد على قول ، وإن جاز تعويلُ الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ، لأنّ العلمَ بالمشهود به مأخوذٌ في مقام العمل على وجه الطريقيّة ،

-----------------

( ومن هذا الباب ) اي باب اعتبار القطع الموضوعي على وجه الصفة : باب الشهادة ، حيث لايجوز شرعاً ان يشهد الانسان إذا لم يعلم بشيء ، وان قامت عنده البينة ، أو راى المشهود له صاحب يد على ذلك الشيء ، وذلك ل( عدم جواز اداء الشهادة استناداً ) في شهادته ( الى البينة أو اليد على قول ) بعض الفقهاء ، وان أجاز آخرون مثل هذه الشهادة ، وذلك لاختلاف الروايات في المسألة في انه هل يجوز اداء الشهادة استناداً الى البينة واليد ام لا ؟ (1) .

( وان جاز تعويل الشاهد ) واعتماده ( في عمل نفسه بهما ) اي بالبينة واليد (اجماعاً ) فاذ كانت هناك دار تحت يد زيد ، أو شهدت البينة عند عمروبانها دار زيد ، فان عمراً لايتمكن من اداء الشهادة عند القاضي بانها دار زيد ، اما إذا اراد نفس عمروشرائها من زيد ، جاز له ان يعتمد عليها ويشتريها .

وكذلك إذا كان صاحب اليد مثلاً مورث عمرو، فان مات المورث جاز لعمروترتيب آثار الملك على الدار التي ورثها .

فالظن الخاص وهو البينة أو كون زيد صاحب يد على الدار، لم يقم مقام القطع في جواز أداء الشهادة - لأن الشارع أجاز الاداء في صورة القطع - وان قاما مقام القطع في معاملة نفسه .

وانما فرقنا بين اداء الشهادة وبين العمل ( لان العلم بالمشهود به مأخوذ في مقام العمل ) انما يكون ( على وجه الطريقية ) ولذا تقوم الامارة واصل الصحة

ص: 52


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ج86 كتاب الشهادات للشارح .

بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلاّ أن يثبت من الخارج ، أنّ كلّما يجوز العملُ به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة ، كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد .

-----------------

في ذي اليد ونحوهما مقام العلم .

( بخلاف مقام أداء الشهادة ) فان العلم اخذ على نحو الموضوعية ، ولذا لاتقوم البينة واستيلاء صاحب اليد مقام هذا القطع ( الاّ ان يثبت من الخارج ، ان كلّما يجوز العمل به من الطرق الشرعية ) امارة كان أو اصلاً ( يجوز الاستناد اليه في ) اداء ( الشهادة ) .

وحينئذ : تقوم الطرق الشرعية مقام القطع الموضوعي على نحو الصفة ( كمايظهر ) كفاية كل طريق شرعي ( من رواية حفص ) بن غياث ( الواردة في جواز الاستناد الى اليد ) .

والمراد : الطريق الشرعي في اداء الشهادة ، فاذا ورد مثل هذا الدليل جاز الاستناد الى الطريق في الشهادة ، كما يجوز الاستناد اليه في الشراء ، وفي الارث ، وفي سائر المعاملات .

« فقد روى حفص عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدي رَجُلٍ ، يَجُوزُ لي أن أَشهَدَ إنّهُ لَهُ ؟ .

قالَ عليه السلام : نَعَم .

قالَ الرَجُل : أشهَدُ أنّهُ في يدهِ وَلا أشهَدُ أنّهُ لَهُ فَلَعَلَهُ لِغَيرِه ؟ .

فَقالَ أبو عَبد اللّه ِ عليه السلام : أفَيَحِلّ الشِراءُ مِنه ؟ .

قالَ : نَعَم .

فَقالَ أبو عَبد اللّه ِ عليه السلام : فَلَعَلَهُ لِغَيرهِ ، فَمِن أينَ جازَ لَكَ أن تَشتَريه ، وَيَصيرُ مُلكاً

ص: 53

وممّا ذكرنا : يظهرُ أنّه لو نذر أحدٌ أن يتصدّق كلّ يوم

-----------------

لَكَ ، ثُمَّ تَقول بَعدَ المُلك هُوَ لي وَتحلِفَ عَلَيهِ ، وَلا يَجوزُ أن تَنسِبَهُ إلى مَنْ صارَ مُلكَهُ مِن قَبلِه إلَيكَ ؟ .

ثُمّ قالَ أبو عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : لَو لَم يَجز هذا ، لَم يَقُم لِلمُسلِمينَ سُوق » (1) .

وعلى اي حال ، فلم يظهر من نص انه لم تقم البينة ونحوها مقام القطع ، اي قطع كان .

نعم ، في الاعتقاديات ، الامر بحاجة الى القطع على المشهور ، وان كان بعض العلماء ذكر عدم الاحتياج هناك أيضا ، وتفصيل الكلام في الكتب الكلامية .

وكيف كان ، فقد ظهر مما تقدّم إن القطع طريقا وموضوعاً جزءاً وكلاً ، صفة وغيرها ، على سبعة اقسام :

الاول : الطريقي البحت .

الثاني : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الطريقية .

الثالث : القطع الموضوعي كلا على نحو الطريقية .

الرابع : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الصفة .

الخامس : القطع الموضوعي كلاً على نحو الصفة .

السادس : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الطريق والصفة .

السابع : القطع الموضوعي كلاً على نحو الطريق والصفة .

( ومما ذكرنا ) من ان القطع الموضوعي الوصفي لايقوم شيء آخر مقامه ، الا بدليل خاص ( يظهر : انه لو نذر ) أو حلف أو عاهد ( احد ان يتصدق كل يوم

ص: 54


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 .

بدرهم مادام متيقّنا بحياه ولده ، فانّه لايجبُ التصدّقُ عند الشكّ في الحياة ، لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فانّه يكفي في الوجوب الاستصحابُ .

ثم إنّ هذا الذي ذكرنا من كون القطع مأخوذا تارةً على وجه الطريقيّة واُخرى على جهة الموضوعيّة ، جارٍ في الظنّ أيضا ،

-----------------

بدرهم مادام متيقنا بحياة ولده ) أو انسان آخر ، أو مااشبه ذلك ، وكان قصده بالتيقن : الصفه النفسية لاالطريقية ( فانه لايجب ) عليه ( التصدق عند الشك في الحياة ، لاجل ) قيام شاهدين يشهدان بحياته ، أو لاجل ( استصحاب الحياة ) وان تمت اركانه ، اذ الموضوع : التيقن ، ولا يحصل بهما ( بخلاف ما لو ) لم يعتبر القطع اصلاً عند ندره بل ( علق النذر بنفس الحياة ) : بان نذر التصدق مادام ولده حيّ ، فانه إذا قامت البينة على الحياة ، أو تمت اركان الاستصحاب ، وجب عليه التصدق لما تقدّم : من ان الامارة والاصل يقومان مقام القطع الطريقي ( فانه يكفي في الوجوب ) الشهادة أو ( الاستصحاب ) فان القطع حينئذ طريقي محض ، ثم لو شك بانه حال النذر ، كان القطع على اي النحوين ، ولم يكن ارتكاز ونحوه ، فالاصل عدم الوجوب أيضا ، لانه من الشك في التكليف .

ومثل النذر في الاحكام المذكورة ، ما إذا شرط عليه في ضمن معاملة شيء بالقطع ، فانه يكون الشرط احياناً بسبب قطع طريقي ، واحياناً بسبب قطع موضوعي .

( ثم أن هذا الذي ذكرناه من كون القطع ) قد يكون ( ماخوذاً تارة على وجه الطريقية و) تارة ( اخرى على جهة الموضوعية ) باقسامه ، وثالثة على وجه الطريقية الموضوعية - كما ذكرناه نحن - ( جار في الظن أيضا ) فقد يكون الظن

ص: 55

فانّه وإن فارق العلمَ في كيفيّة الطريقيّة - حيث أنّ العلمَ طريقٌ بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع ، بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه ،

-----------------

موضوعاً ، وقد يكون طريقا ، وقد يكون جامعاً بينهما ( فانه وان فارق العلم في كيفية الطريقية ) فان الظن الموضوعي الوصفي مثل العلم الموضوعي الوصفي . بل كذلك حال الشك والوهم أيضا ، لان المعتبر ، له ان يعتبر الصفة النفسانية موضوعاً ، من غير فرق بين ان تكون تلك الصفة كاشفة ام لا ، كشفاً تاماً أو ناقصاً .

واما الظن الموضوعيالطريقي فيفارق القطع الموضوعي الطريقي ( حيث ان العلم طريق بنفسه ) لايحتاج الى جعل الجاعل ، بل قد تقدّم ان الجاعل لايتمكن من رفع طريقيته ، فالطريقية في القطع مثل الزوجية في الاربعة ، لاتوضع ولا ترفع ( و ) اما ( الظن المعتبر ) فهو ( طريق بجعل الشارع ) اذ لاكاشفية تامة له من نفسه .

ثم لايخفى : ان المراد بطريقية القطع : ان القاطع يراه طريقا ، لا انه دائما كذلك ، اذ كثيراً مايكون جهلاً مركباً في الواقع .

وعلى اي حال ، لايتمكن الجاعل من جعله ولا من رفعه ، لان الجعل في نظر القاطع تحصيل للحاصل ، والرفع في نظر القاطع لغو .

وكيف كان : فجعل الشارع للظن ( بمعنى كونه وسطاً ) في القياس ( في ترتب ) اي اثبات ( احكام متعلقه ) .

مثلاً : الظن بعدد الركعات جعله الشارع حجة ، ومعنى ذلك : ان الظن بعددها سبب لترتيب حكم تلك الركعات المظنونة ، على تلك الركعات فيقال : « الاربع - في صلاة الظهر مثلا - مظنونة ، وكلما ظن بالركعات كان حجة ، فكون الركعات اربع حجة » فكما انه لو قطع بانها اربع ، ترتب حكم الاربع على ذلك المقطوع به ،

ص: 56

كما أشرنا إليه سابقا - لكنّ الظنّ أيضا قد يؤخذ طريقا مجعولاً إلى متعلّقه ، سواء كان موضوعا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه او لحكم آخر يقوم مقامه سائرُ الطرق الشرعيّة ،

-----------------

كذلك كلما ظن انها اربع ترتب حكم الاربع على ذلك المظنون به ( كما اشرنا اليه ) اي الى معنى كون الحجية : الوسطية ( سابقاً ) في باب القطع .

( لكن الظن أيضا ) على سبعة اقسام ، على ما ذكرناه في باب القطع ، فانه ( قد يؤذ ) في الموضوع من جهة كونه ( طريقا مجعولا الى متعلقه ) بان ينزل الشارع الظن منزلة العلم ، فالحكم على الخمر والطريق الى انه خمر ، ظن المكلّف ( سواء كان ) الظن ( موضوعاً ) اي مجعولاً ( على وجه الطريقية ) البحتة ( لحكم متعلقه ) اي متعلق الظن ، كما مثلنا له في كونه طريقا الى ان المائع الفلاني خمر ( أو ) مجعولاً على وجه الطريقية ( لحكم آخر ) كما إذا قال : إذا ظننت بخمرية شيء يجب عليك التصدق .

ففي الأول : الظّن بالخمرية صار طريقا لاثبات الحرمة والنجاسة على المائع المظنون كونه خمراً .

وفي الثاني : الظن بخمرية مائع صار طريقا الى اثبات وجوب التصدق .

ولايخفى : ان الظن بشيء إذا كان موضوعاً لحكم آخر ، يكون على غراره القطع أيضا ، كما إذا قال : إذا قطعت بالخمرية كان قطعك موضوعاً لوجوب التصدق عليك .

ثم إذا كان الشارع جعل الظن طريقا ( يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية ) كالبينة والاستصحاب ونحوهما ، فاذا قال : الظن طريق الى الخمرية حتى يترتب احكام الخمر على ذلك الخمر المظنون ، ثم لم يكن للمكلف ظن ، لكن قامت البينة

ص: 57

فيقال حينئذٍ إنّه حجةٌ ، وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه ، أو لحكم آخر ولا يطلق عليه الحجّة حينئذٍ ، فلابدَّ من ملاحظة دليل ذلك ، ثمّ الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ،

-----------------

على انه خمر ، أو استصحب خمريته - بعد ان شك في كونه تبدل الى الخل ام لا - ، ثبتت الخمرية بالبينة أو الاستصحاب .

( فيقال حينئذ ) اي حين جعل الشارع الظن طريقا : ( انه ) اي الظن ( حجة ) ، لان الظن حينئذ وقع واسطة لاثبات احكام الخمر على مظنون الخمرية .

( وقد يؤذ ) الظن ، اي يجعله الشارع ( موضوعاً لا على وجه الطريقية ) بل على نحو الصفة للظان ( لحكم متعلقه ) اي متعلق الظن ، مثلا قال : إذا حصلت لك هذه الصفة النفسية - بان القِبلة في جهة الشمال - فصلي اليها ، فان الظن هنا موضوع لا طريق بحت ( أو لحكم آخر ) كما إذا قال : إذا حصلت لك صفة الظن بان القِبلة في جهة الشمال وجب عليك التصدق ، وهذا الظن الوصفي : « طريقا الى حكمه أو حكم آخر » لايقوم مقامه سائر الطرق الشرعية ، كالبينة والاستصحاب ، لان الشارع اعتبر الصفة النفسية موضوعاً ، وسائر الطرق الشرعية لاتحقق الموضوع المذكور .

( ولا يطلق عليه ) اي على هذا الظن الوصفي ( الحجة حينئذ ) اذ ليس حجة بل موضوعاً ( ف- ) إذا اردنا ان نعرف ان الشارع جعل الظن طريقا أو موضوعاً ( لابد من ملاحظة دليل ذلك ) الجعل للظن ، هل هو على نحو الطريق أو على نحو الصفة ؟ .

( ثم الحكم بقيام ) أو عدم قيام ( غيره من الطرق المعتبرة مقامه ) فان الطرق

ص: 58

لكنّ الغالبَ فيه الأوّل .

-----------------

المعتبرة تقوم مقام الظن الطريقي لا الظن الوصفي .

وعلى اي حال « الظن » كالقطع في كل الاقسام السبعة التي تقدمت في القطع ، ومنتهى الفرق : ان الظن ليس حجة بنفسه والقطع حجة بنفسه ، وكما ذكرنا في باب القطع من مسألة النذر ، تأتي في الظن نفس المسألة أيضا ( لكن الغالب فيه ) اي في الظن الذي جعله الشارع ( الاول ) وهو كونه طريقياً ، فتقوم سائر الطرق مقامه ، لا كونه وصفياً .

هذا ، ولكنّا لم نجد مكاناً اخذ فيه الظن على نحو الوصفية ، فلعل قول المصنّف : « الغالب » لايريد به ان في المقام « ما ليس بغالب » بل يريد : انه قدس سره استقرء فرأى موارد استقرائه من الطريقية ، لا الوصفية ، فانه قد يقول الفقيه : « المشهور » ويريد : ان هناك قولاً خلاف المشهور ، وقد يقول : « المشهور » ويريد : انه راى كلمات كثير من العلماء افتوا بذلك ، لا ان في قباله قول غير مشهور ، فتأمل .

هذا تمام الكلام في الظن الخاص ، اما ظن الانسداد فهو طريقي بحت وليس هناك ظن انسدادي موضوعي .

ثم انه يمكن ان يجعل الشك جزء الموضوع ، أو تمام الموضوع ، لكونه صفة أو مرتبطاً بالواقع ، اما كون الشك طريقياً كالقطع الطريقي ، فقد تصوره « أو ثق الوسائل » (1) ومنه يعلم حال الوهم ، لكن حيث لم يذكرهما المصنّف لانفصل الكلام فيهما .

ص: 59


1- - راجع أو ثق الوسائل : ص13 - 14 فرض الطريقية في الشك .

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأول: التجرّي

الأوّل : إنّه قد عرفتَ أنّ القاطعَ لايحتاجُ في العمل بقطعه إلى أزيدَ من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ،

-----------------

التجرّي

( وينبغي التنبيه على امور ) مرتبطة ببحث القطع ، فانه إذا قطع الانسان بموضوع - كالخمر - وعلم بالدليل ، حرمة الخمر ، تشكلت عنده صغرى : « هذا خمر » وكبرى : « وكل خمر حرام » فالنتيجة : « ان هذا حرام » ، ولا مدخلية للقطع في الموضوع وانما القطع مرآة لارائة الواقع الذي هو « خمر » فحال القطع حال المرآة ، حيث انها لامدخلية لها في الحكم المرتب على الموضوع ، وانما هي تعطي الرؤة فقط ، فاذا كان الاسد مفترساً ، كان الموضوع الاسد ، والحكم الافتراس ، فاذا راينا الاسد في المرآة قلنا انه مفترس ، ولا مدخلية للمرآة لا في الموضوع ولا في الحكم .

إذا علمت ذلك قلنا : لا اشكال في ترتب الحرمة على الواقع ، في الاحكام الشرعية ، لكن هل يترتب الحرمة على القطع إذا لم يصادف الواقع ، مما يسمى بالتجري ؟ فيه خلاف .

والتنبيه الاول ، وضع لبيان هذا الامر ، قال قدس سره : ( الاول : ) في التجري ( انه قد عرفت ان القاطع ) بشيء محرم ، أو واجب ، أو له سائر الاحكام ( لايحتاج في العمل بقطعه الى ازيد من الادلة المثبتة لاحكام مقطوعه ) فاذا قال الشارع : الخمر

ص: 60

فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة .

فاذا قطع بكون شيء خمرا ، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء .

لكنّ الكلامَ في أنّ قطعه هذا ،

-----------------

حرام ، وقطع هو بان المائع الفلاني خمر ، لم ينتظر في النتيجة - وهي فهذا حرام - الى شيء آخر ( فيجعل ذلك ) الدليل المثبت للحكم ( كبرى لصغرى قطع بها ) اي بتلك الصغرى ( فيقطع بالنتيجة ) .

اقول : القطع بالنتيجة ، انما يكون إذا كان الحكم مقطوعاً به ، والا فالنتيجة تابعة

لاخس المقدمتين ، والادلة الشرعية غالباً لاتعطي القطع ، بل الحجة المعذره والمنجزة ، فالمراد بقوله « يقطع » اي تقوم عنده الحجة .

نعم ربما يقطع المكلّف إذا كان الحكم مقطوعاً به ( فاذا قطع بكون شيء ) من المائعات ( خمراً وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها ) سواء تعلق به القطع ام لا - اذ الموضوع ليس مقيداً ، وانما القطع طريق الى الموضوع كما تقدّم - ( هي الحرمة ) حصلت النتيجة ( فيقطع ) بالقطع الطريقي - وقد عرفت المراد بالقطع - ( بحرمة ذلك الشيء ) اما إذا ظن بان شيئاً خمر ، فلا تحصل له هذه الحجة ، لان الشارع لم يجعل الظن طريقا الى الواقع .

نعم ، إذا جعل الشارع الظن في مكان طريقا ، كما قال بعض في تعيين الميقات في باب الحج ، تشكلت المقدمتان أيضا ، فيقول : « هذا ميقات » للظن به ، و«الميقات واجب الاحرام منه » ف« هذا المكان واجب الاحرام منه ».

( لكن ) حيث ان القطع قد يطابق الواقع وقد لايطابقه ، بان يكون من الجهل المركب ، وقع ( الكلام ) بين الاعلام ( في ان قطعه هذا ) الموافق أو المخالف

ص: 61

هل هو حجّةٌ عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم اللّه ، فيعاقب على مخالفته ، اوأنّه حجّة عليه إذا صادف الواقعَ ؟ .

بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه ، في مقابل من شربها جاهلاً ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا ، وإن لم يكن خمرا في الواقع .

-----------------

للواقع ( هل هو حجة عليه من الشارع ) فيحتج بقطعه ( وان كان مخالفاً للواقع في علم اللّه ) سبحانه ، ( ف- ) إذا احتج ، لايكتفي بالاحتجاج والتأنيب والعتاب بل (يعاقب على مخالفته ) اي مخالفة العبد قطعه مطلقاً وافق الواقع أو خالف .

ومقتضى ذلك : ان قطعه بموافقة الواقع ، يوجب ثوابه وان خالف في علم اللّه للواقع ، مثلاً : إذا قتل انساناً بزعم انه كافر حربي - حيث ان الكافر الحربي واجب القتل باذن الامام عليه السلام (1) - وصادف ان كان مؤنا لم يعلم القاتل بايمانه ، يثاب على القتل .

( أو انه ) اي القطع ( حجة عليه إذا صادف الواقع ) فقط ؟ فالعقاب والثواب على الواقع ، لا على المقطوع به فيما كان القطع جهلاً مركباً .

( بمعنى : انه لو شرب الخمر الواقعي عالماً ) علماً تفصيلاً أو علماً اجمالاً ( عوقب عليه ، في مقابل من شربهاجاهلاً ) حيث لاعقاب عليه ( لا انه يعاقب على ) التجري اي على ( شرب ماقطع بكونه خمراً ، وان لم يكن خمراً في الواقع ) .

فصور المسألة ست ، لانه اما خمر أو ليس بخمر ، وفي كل منهما اما قاطع بانه خمر ، أو قاطع بانه ليس بخمر ، أو شاك بانه خمر ام لا ، فاذا شك بدون حجة

ص: 62


1- - انظر وسائل الشيعة : ج28 ص307 ب1 ح34831 .

ظاهرُ كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاقُ على الأوّل ، كما يظهر ، من دعوى جماعةٍ الاجماعَ على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاةَ عصى وإن إنكشف بقاءُ الوقت ، فانّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطعَ بالضيق .

-----------------

على_'feاحد الجانبين فلا عقاب قطعاً ، وفي صورة الجهل بالخمرية لاعقاب ، وفي صورتي العلم والمطابقة للواقع عقاب قطعاً ، وانما الكلام في صورة ما لم يكن خمراً ، لكنه قطع بانه خمر .

( ظاهر كلماتهم في بعض المقامات : الاتفاق على الاول ) اي حجية القطع مطلقاً ، وافق الواقع ام لا ، ومعنى ذلك : حرمة التجري ، والعقاب عليه .

وقد استدل للحرمة بوجوه اربعة :

الاول : الاجماع ( كما يظهر من دعوى جماعة الاجماع على ان ظان ضيق الوقت) مما كان ظنه غير مطابق للواقع ، بان كان في الوقت سعة ( إذا اخر الصلاة ) بما ظن خروج الوقت ( عصى ) لانه خالف ظنه ، وملاك الظن - بالاولوية - ياتي في القطع اي فيمن قطع بضيق الوقت ، وكان قطعه خلاف الواقع .

( وان انكشف بقاء الوقت ) ؛ فالواجب شرعاً العمل بالظن وبالقطع ، فاذا لم يعمل بهما ، كان فاعلاً للحرام ومعاقباً وان صلى في الوقت ، وما ذلك الاّ لكون القطع حجة مطلقاً .

لايقال : انهم لم يذكروا القطع بضيق الوقت .

لانه يقال : ( فان تعبيرهم بظن الضيق ، لبيان ادنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق ) أيضا بطريق أولى .

ص: 63

نعم ، حُكي عن النهاية وشيخنا البهائيّ التوقفُ في العصيان ، بل في التذكرة : « لو ظنّ ضيقَ الوقت عصى لو أخر إن استمَرَّ الظنُّ ، وإن انكشف خلافه ، فالوجهُ عدمُ العصيان » ، انتهى .

واستقرب العدَم سيّدُ مشايخنا في المفاتيح ، وكذا لاخلافَ بينهم

-----------------

( نعم ) هذا الاجماع ممنوع صغرى ، ومناقش فيه كبرى ، اذ ( حكي عن النهاية ) للشيخ قدس سره ( وشيخنا البهائي قدس سره : التوقف في العصيان ) فيما انكشف الخلاف ، والظاهر : ان مرادهما هو وجود الوقت واقعاً وان لم ينكشف الخلاف ، اذ الانكشاف وعدمه لاعبرة بهما ، بل العبرة بالواقع .

( بل في التذكرة : لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر ) الصلاة ( ان استمر الظن ) بان لم ينكشف الخلاف ( وان انكشف خلافه ، فالوجه ) الذي اراه : ( عدم العصيان ) مما يدل على عدم حرمة التجري ( انتهى ) كلام التذكرة .

( واستقرب العدم ) اي عدم العصيان ( سيد مشايخنا ) السيد محمد المجاهد ولقب بهذا اللقب ، لانه جاهد الروس حيث ارادوا احتلال ايران ، وتقدموا الى الموضع الحالي منه ، بما لو لم يجاهد السيد والشيخ النراقي وغيرهما ، لكانت ايران اليوم جزءاً من روسيا في قصة مشهورة ، لكن لايخفى ان « الساساني » ذكر في كتابه : ان ايران قبل مائتي سنة ، كان عدد نفوسها مائة مليون نسمة ، ولو بقيت كذلك واطردت ، لكان نفوسها الان اضعاف ذلك ( في المفاتيح ) (1) الذي الّفه في الاصول كما ألّف في الفقه كتاب المناهل . بل يمكن ان يقال في عدم الاجماع : ان كثيراً من العلماء ، لم يذكروا هذه المسالة ، فكيف يمكن تحقق الاجماع ؟ .

( وكذا ) مما يؤد وجود الاجماع في حرمة التجري : انه ( لاخلاف بينهم

ص: 64


1- - المفاتيح : ص307 .

ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر او مقطوعه معصيةٌ ، يجب إتمامُ الصلاة فيه ، ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه ، فتأمّل .

ويؤيّده

-----------------

ظاهراً ) وانّما قلنا ظاهراً ، لان المقدار الذي رايناه من كلماتهم لاخلاف فيها ، ولعل ان هناك مخالفاً لم نظفر به ( في ان سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه، معصية يجب اتمام الصلاة فيه ) لان سفر المعصية حرام ، وكلما كان السفر حراماً كان اللازم الاتمام ، لان السفر الموجب للقصر من شرائطه ان لايكون معصية ، فاذا سافر لاجل قتل مسلم ، أو شرب خمر ، أو زنا ، أو مااشبه ، وجب عليه الصيام في شهر رمضان واتمام الصلاة ( ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه ) الا إذا كان السفر بعد الانكشاف جامعاً لشرائط القصر .

مثلاً : لو اراد بعد الانكشاف ، السير اربع فراسخ ذهاباً واياباً ، أو اراد السير ثمانية فراسخ .

( فتأمل ) لعله اشارة الى ان الكلام في القطع الطريقي أو الظن كذلك والقطع بالضرر أو ظنه في السفر ماخوذ في موضوع التمام ، اي ان الشارع قال : من ظن الضرر أو قطع فصلاته تمام وصومه واجب ، فلا يكشف كلامهم عن حرمة التجري .

أو ان امره بالتأمل اشارة الى ان قولهم في موردين ، لايكشف عن قولهم بحرمة التجرى مطلقاً ، فان الجزئي لايكون كاسباً ولا مكتسباً .

أو اشارة الى ان الاجماع وان تم صغرى ، الاّ انه محتمل الاستناد كبرى ، وليس مثله حجة كما سياتي تحقيقه .

الثاني : من ادلتهم في حرمة التجري ماذكره قدس سره بقوله : ( ويؤده ) اي الاجماع ،

ص: 65

بناءُ العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجرّي .

وقد يقرّر دلالةُ العقل على ذلك : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين

-----------------

على الحرمة ( بناء العقلاء على الاستحقاق ) للعقاب ، فان من قطع بنهيالمولى عن شيء ثم فعله ، أو قطع بامره بشيء ثم تركه ، يراه العقلاء مستحقاً للعقاب ، سواء صادف قطعه الواقع أو لم يصادف ، الا ترى انه لو استهدف العبد من زعم انه ولد المولى ، لكن كان قطعه بانه ولد المولى خطأ بان كان المرمي وحشياً من الحيوانات ، رآه العقلاء مستحقاً للعقاب ؟ .

( و ) الثالث : من ادلة القائلين بحرمة التجري : ( حكم العقل بقبح التجري ) بضميمة التلازم بين القبح والحرمة ، لانه كلما حكم به العقل حكم به الشرع .

والفرق بين حكم العقل ، وبناء العقلاء : ان بينهما عموماً مطلقاً ، فكلما كان الاول كان الثاني ولا عكس ، فاذا حكم العقل بحسن الاحسان أو قبح الظلم ، بنى العقلاء على ذلك ، اما ليس كلّما بني العقلاء على شيء كان العقل أيضا ملزماً لذلك الشيء - لو لا حكم العقلاء - .

مثلاً : العقلاء يبنون على وجود طبيب لكل الف انسان ، لانهم يرون فضيلة المجتمع في ذلك ، فهل ذلك من المستقلات العقلية ؟ الى غيره من الامور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها .

( و ) الرابع : من ادلتهم ماذكره بقوله : ( قد يقرر دلالة العقل على ذلك ) اي تحريم التجري ، والمقرر : السبزواري قدس سره في الذخيرة ، والقمي قدس سره في القوانين ، والجواهر والفصول ، على ماحكي عن بعضهم ، والدليل هو مايصطلح عليه : بالسبر والتقسيم ( بانا إذا فرضنا شخصين قاطعين ) بحرام أو واجب ، وكلاهما

ص: 66

بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فامّا أن يستحقّا العقاب ، او لا يستحقّه أحدهما ، او يستحقّه من صادف قطعُه الواقع دون الآخر أو العكس ، لا سبيلَ إلى الثاني والرابع ، والثالث

-----------------

عمل حسب قطعه باتيان المحظور أو ترك الواجب ، مثلاً : ( بأن قطع احدهما بكون مائع معين ) في الاناء الابيض ( خمراً ، وقطع الآخر بكون مائع آخر ) في اناء احمر ( خمراً )فخالفا قطعهما ( فشرباهما ) اي الانائين ( فاتفق مصادفة احدهما للواقع ) اي كان الاناء الاحمر خمراً مثلاً ( ومخالفة الآخر ) للواقع ، بان كان الاناء الابيض ماءاً ، فالصور لاتخلو عن اربع :

1 - ( فاما ان يستحقا ) كلاهما ( العقاب ) .

2 - ( أو لايستحقه احدهما ) اي لاهذا المصادف ، ولا ذاك غير المصادف .

3 - ( أو يستحقه ) اي العقاب ( من صادف قطعه الواقع ) صاحب الاناء الاحمر، حيث فيه خمر واقعاً ( دون الآخر ) صاحب الاناء الابيض ، الذي كان فيه الماء واقعاً .

4 - ( أو العكس ) بان يعاقب المولى شارب الماء ولايعاقب شارب الخمر ، وحيث ان التقسيم عقلي لا مجال لقسم خامس ( لا سبيل ) عقلاً وشرعاً ( الى الثاني ) وهو عدم استحقاق اي منهما العقاب ، اذ لازم ذلك : ان المعصية العمدية لا عقاب عليها ، وهو يخالف العقل والشرع .

( و ) كذلك لا سبيل عقلاً ولا شرعاً الى ( الرابع ) وهو استحقاق شارب الماء دون شارب الخمر ( والثالث ) وهو استحقاق شارب الخمر العقاب ، دون شارب

ص: 67

مستلزمٌ لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مُنافٍ لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل .

-----------------

الماء ، فلا سبيل اليه أيضا ، لانه ( مستلزم لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ) فان المصادفة لم تكن باختيار العاصي ، فان مافي اختيارهما هو شرب ماقطعا بانه خمر، وهما متساويان في ذلك ، فلو حكمنا باستحقاق مصادف الخمر وعدم استحقاق غير المصادف ، لزم كون استحقاق العقاب وعدم استحقاقه منوطين بامرين خارجين عن الاختيار .

( وهو ) اي هذا الاستلزام ( مناف لما يقتضيه العدل ) فانه يصح العقاب على الامر الاختياري ، لا على الامر غير الاختياري .

لايقال : فكيف طلب المؤنون من اللّه سبحانه : ان لايحملهم ما لاطاقة لهم به ؟ وكيف قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم (1) ، مع ان الصبي غير المميز لا اختيار له ؟ .

لانه يقال : معنى مالاطاقة : ماهو اخير الطاقة - كما يعبر عن ذلك عرفاً ورفع القلم عن غير المميز ، هو القلم المناسب له من تكليفه بعد ذلك ، بما هو اثر التكليف من القضاء والاعادة ، والضمان - على قول من يقول : بان لاضمان عليه إذا كبر ، كما لايلزم على وليّه الاداء من ماله - .

وكيف كان : فاذا بطلت الاقسام الثلاثة ( فتعين الاول ) وهو : استحقاق المصادف وغيره ، وهذا هو معنى حجية القطع مطلقاً وان لم يصادف الواقع ، ولازمه : حرمة التجري .

ص: 68


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، بحار الانوار : ج5 ص303 ب14 ح13 .

ويمكن الخدشة في الكلّ .

أمّا الاجماعُ ، فالمحصّلُ منه غيرُ حاصل ، والمسألة عقليّة ،خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية وستعرف من قواعد الشهيد قدس سره ، -

وهناك دليل خامس : يدل على حرمة التجري ، وهي : الآيات والروايات الدالة على ذلك ، كما يأتي جملة منها .

( و ) لكن ( يمكن الخدشة في الكل : ) فان الادلة المذكورة لايمكن قيامها دليلاً على حرمة التجري ، حتى يكون القطع حجة وان لم يصادف الواقع .

( اما الاجماع : فالمحصل منه ) وهو : ان يرى الفقيه كلمات الفقهاء ويراهم قد افتوا بشيء ( غير حاصل ) فبعضهم لم يذكر المسألة ، وبعضهم لم يقل بها - كما تقدّم الالماع الى ذلك - .

( و ) لو فرض وجود الاجماع المحصل لم ينفع ، لان ( المسألة عقلية ) والمسائل العقلية ، يكون المعيار فيها العقل لا النقل ، لان النقل انّما هو حجة في الامور الشرعية لا العقلية ، فلو فرض ان الاجماع قام على ان الثلاثة مع الثلاثة سبعة ، أو ان اللّه قابل للرؤية ، فهل يمكن الاعتماد على ذلك ؟ .

أمّا كيف ان المسألة عقلية ؟ فان العقل هو القاضي باستحقاق الثواب للمطيع والعقاب للمعاصي، كما ان العقل هو الذي يقول : ان المطيع من هو ؟ وان العاصي من هو ؟ .

وبهذا ظهر : ان الاجماع مع تماميته لاينفع ، فكيف ينفع ( خصوصاً مع مخالفة غير واحد ) مما يوجب عدم وجود الاجماع ؟ ( كما عرفت من النهاية ، وستعرف من قواعد الشهيد قدس سره ) حيث انكرا الحكم المذكور ، بل وانكره غيرهما أيضا .

ص: 69

والمنقولُ منه ليس حجّةً في المقام .

وأمّا بناءُ العقلاء ، فلو سُلِّمَ فانّما هو على مذمّة الشخص ، من حيث أنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن إنكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ، فانّ المذمّة

-----------------

( و ) بذلك ظهر : ان ( المنقول منه ) اي من الاجماع بالطريق الاولى ( ليس حجة في المقام ) اذ المحصل أقوى من المنقول : فاذا لم يكن المحصل حجة لنفيه صغراه وكبراه ، كان المنقول أولى بعدم الحجية .

( وأمّا بناء العقلاء ) الذي استدل به لحرمة التجري وعقاب المتجري ( فلو سلِّم ) ان لهم بناء في اصل المسألة ، فلا نسلّم بنائهم على الحرمة والعقاب ، وانّما قال : « لو سلم » لانه لا اشكال في عدم اطلاق ذم العقلاء للمتجري - كما سيأتي في أقسام التجري - كالتلبس بالفعل برجاء ان لايكون معصية مع خوف كونه معصية (فانما هو) اي بناؤم ( على مذمة الشخص من حيث ان هذا الفعل ) كشرب الماء باعتقاد انه خمر ( يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ) وانه لماذا لم يُرَبِّ نفسه حتى لاتَهُمَّ بالعصيان ؟ كمن يهرب عن توهم الاسد ، فانهم يذمونه لماذا لم يُرَبِّ نفسه على الشجاعة ؟ ( لا ) ان الذم ( على نفس فعله ) الخارجي الذي هو شرب الماء ، فان شرب الماء لا ذم له ، وذم العقلاء على الصفة النفسية موجود وان لم يكن فعل في الخارج .

فالشارب للماء بزعم انه خمر حاله ( كمن انكشف لهم ) اي للعقلاء ( من حاله انه) سيى ء النية ( بحيث لو قدر على قتل سيده ) أو انتهاك عرضه ، أو سرقة ماله (لقتله ) وانتهك ، وسرق ، وان لم يات منه فعل في الخارج اصلاً ( فان المذمة )

ص: 70

على المنكشف ، لا الكاشف .

ومن هنا : يظهر الجوابُ عن قبح التجرّي ، فانّه لكشف ما تجرّأ به عن خُبث الفاعل ، لكونه جريئا وعازما على العصيان والتمرّد ،

-----------------

من العقلاء انّما هي ( على المنكشف ) اي الامر الباطني ( لا الكاشف ) اي القتل الخارجي ، لفرض انه لم يقع قتل .

نعم ، لا اشكال في ان ذمهم على شارب الماء بقصد الخمر يكون اكثر من ذمهم على من لو وجد خمراً لشربها .

وعلى اي حال : فالعقلاء لايعاقبون الناوي ، وان كانوا يعاقبون العاصي ، والمتجري ناو ، وليس بعاص .

( ومن هنا : ) اي من كون المذمة على المنكشف لا الكاشف ( يظهر الجواب عن قبح التجري ) عقلاً ( فانه ) اي القبح ( لكشف ماتجرأ به ) من شرب الماء باعتقاد انه خمر ( عن خبث الفاعل ) نفساً ، خبثا بيده علاجها ، مما يرجع الى الاختيار ، لا خبثا ليس بيده اختيار ، حتى يقال : كيف يذم على الشيء غير الاختياري ؟ ( لكونه جريئاً ) وطاغياً ( وعازماً على العصيان والتمرد ) .

ومن المعلوم ان خبث النفس لاعقاب عليه ، الا إذا كان في اصول الدين ، بأن لم يعتقد بها ، عن تقصير لا عن قصور .

أو كان مما دل الدليل الخاص على العقاب عليه ، مثل ماورد : من حرمة الرضا بالمعصية ، كما في قصة عقر ناقة صالح ، وان اللّه سبحانه عمّهم بالعقاب لذلك، وكما ورد في زيارة الامام الحسين عليه السلام : « ولعن اللّه امة سمعت بذلك فرضيت به » (1) .

ص: 71


1- - مفاتيح الجنان : ص 566 .

لا على كون الفعل مبغوضا للمولى .

والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل - الغير المنهيّ عنه - واقعاً ، مبغوضاً للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضاً ، لا في أنّ هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ينبى ء عن سوء سريرة العبد مع سيّده ،

-----------------

و ( لا ) قبح عقلا في شرب الماء بزعم انه خمر ( على كون الفعل مبغوضاً للمولى ) حتى يكون حراماً ، ويكون معاقباً عليه ، فيقال له يوم القيامة : لماذا شربت الماء الحرام ؟ .

نعم ، قد يطرء على الحلال ، الحرمة لامر خارج ، وذلك بحاجة الى دليل خاص ، كما افتى بعض العلماء بحرمة الماء الذي يصبّ في آنية الذهب وان اخرجه منه وشربه ، وكما افتى غير واحد بحرمة المال الشخصي الذي يأخذه مالكه بحكم الجائر .

( والحاصل : ان الكلام في ) انه هل القطع حجة مطلقاً ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق الواقع ؟ .

ونتيجة ذلك : ( كون هذا الفعل ) كشرب الماء المزعوم انه خمر (غير المنهي عنه واقعاً ) أو لا وبالذات ( مبغوضاً للمولى ) فصار شربه كشرب الخمر ( من حيث تعلق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضاً ) أو ليس هذا الشرب مبغوضاً للمولى كما نقوله نحن ؟ .

و ( لا ) كلام لاحد ( في ان هذا الفعل ) : شرب الماء المزعوم كونه خمراً (المنهي عنه باعتقاده ) لا نهياً واقعياً ( ينبى ء عن سوء سريرة العبد ) وخبث نفسه ( مع سيده ) بل ومع غير السيد أيضا ، كما إذا كان صديقان لا يعتقد كل منهما بالآخر ، ونوى احدهما ان يسرق مال صديقه أو يقتله ، فانه لايشك العقلاء

ص: 72

وكونه جريئا في مقام الطغيان والمعصية وعازما عليه ، فانّ هذا غير منكر في هذا المقام ، كما سيجيء ، ولكن لايجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ، لأنّ استحقاق المذمّة ، على ما كشف عنه الفعلُ لايوجب استحقاقه على نفس الفعل .

-----------------

في خبث سريرة الناوي ، حتى إذا لم يات بمظهر ، فكيف ما إذا اتى به ؟ .

كما إذا رمى صيداً من بعيد ظنّه صديقه ، بقصد قتله ، أو اخذ أوراقاً زعم انها مال صديقه ، بينما كان من المباحات .

( و ) ينبي هذا الفعل عن ( كونه جريئاً ) على المولى و ( في مقام الطغيان والمعصية و ) كونه ( عازماً عليه ) اي على الطغيان والمعصية ، بل قد عرفت : انه فوق العزم حيث اتى بالمظهر أيضا ، وهو اكثر ذمّا عند العقلاء ممن لم يات بالمظهر ( فان هذا ) الكشف عن سوء السريرة ( غير منكر ) بفتح الكاف بصيغة اسم المفعول ( في هذا المقام ) اي مقام التجري ( كما سيجيء ) : من ان المتجري يستحق الذم والتوبيخ .

(ولكن ) هذا الذم ( لايجدي في كون الفعل محرّما شرعياً ) اذ لاتلازم بين الذم والحرمة ، فان الأَول اعم من الثاني ( لان استحقاق المذمة على ما ) اي القصد الذي ( كشف عنه ) اي عن ذلك القصد السييء ( الفعل ) الذي هو : شرب الماء بزعم انه خمر - في المثال - ( لايوجب استحقاقه ) اي الذم ( على نفس الفعل ) المباح فرضاً ، وهو شرب الماء ، فانه على صور :

1 - ربما يقبح الفعل دون القصد ، كمن زعم ان المسلم كافر فقتله ، ففعله قبيح دون قصده .

2 - ربما يقبح القصد دون الفعل ، كمن شرب الماء بزعم انه خمر تجريا ،

ص: 73

ومن المعلوم : أنّ الحكمَ العقليّ باستحقاق الذمّ ، إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل .

وأمّا ماذكر من الدليل العقليّ ، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعهُ الواقعَ ، لأنّه عصى اختيارا ،

-----------------

فان فعله غير قبيح ، اذ هو شرب الماء المباح ، وانّما قبح قصده ، لانه طغيان وتمرد .

3 - ربما يقبحان معاً ، كما إذا شرب الخمر عالماً عامداً ، وهذا جمع بين قبح الفعل وقبح القصد ، ولايخفى ان العلم غير العمد ، فالعلم صفة نفسية ، والعمد صفة الفعل.

( ومن المعلوم : ان الحكم العقلي ) والحكم العقلائي ، وقد سبق الفرق بينهما ( باستحقاق الذم ، انّما يلازم استحقاق العقاب شرعاً ، إذا تعلق ) الذم ( بالفعل ،

لا بالفاعل ) الذي فعل مباحاً ، وانّما كان ارتكابه كاشفاً عن سوء السريرة .

والحاصل : ان الشيء القبيح من جهة وجود مفسدة فيه ، إذا صدر عن علم وعمد ، كان سبباً للعقاب ، اما الشيء غير القبيح لعدم المفسدة فيه ، إذا صدر عن سييء السريرة بزعم انه حرام ، لم يكن فيه عقاب ، والمفروض في شرب الماء بزعم الخمرية ، انه من الثاني لا من الاول .

( واما ماذكر من الدليل العقلي ) الذي قسّم الأمر الى اربعة اقسام ، واختير فيه : تساوي شرب الماء بزعم انه خمر ، وشارب الخمر ، في العقاب ( فنلتزم ) فيه بالشق الثالث اي ( باستحقاق من صادف قطعه الواقع ) للعقاب ، دون من لم يصادف قطعه الواقع ، الذي شرب الماء بزعم انه خمر .

وذلك ( لانه ) اي من صادف قطعه الواقع كان قد ( عصى اختياراً ) كسائر

ص: 74

دون من لم يصادف .

قولك : « إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار » ، ممنوعٌ ، فانّ العقاب بما لايرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيحٌ ، إلاّ أنّ عدمَ العقاب لأمر لايرجع إلى الاختيار

-----------------

العصاة ، فله عقاب مثل مالهم عقاب ، اذ هو مصداق من مصاديق العاصي ، والعاصي له العقاب ( دون من لم يصادف ) قطعه الواقع ، حيث شرب الماء بزعم انه خمر ، لكنه لم يكن خمراً فلا عقاب له .

واشكالك ب( قولك : إن التفاوت ) بينهما ( بالاستحقاق ) في شارب الخمر ( والعدم ) في شارب الماء ( لايحسن ان يناط ) ذلك التفاوت ( بما هو خارج عن الاختيار ) من المصادفة للواقع وعدم المصادفة ، اذ اناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار غير صحيح ، فترتيبك ايها المستشكل على هذا استحقاقهما العقاب معاً بمناط الشرب الاختياري للخمر المقطوع به ( ممنوع ) لوضوح انه لاقبح في مثل هذاالتفاوت ، بل القبح في عدم التفاوت ، فان هناك امرين :

الاول : ان يعاقب الانسان بما ليس باختياره ، كأن يجبر على شرب الخمر ، ثم يعاقبه المولى ، والحال ان شرب الخمر لم يكن باختياره ، وهذا قبيح بلا اشكال .

الثاني : ان لايعاقب بما ليس باختياره ، كأن لايعاقبه لانه شرب الماء - وان كان شرب الماء لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر - وهذا الثاني ليس بقبيح .

والى هذين أشار بقوله قدس سره : ( فان العقاب بما ) اي بالشرب للخمر الاجباري الذي ( لايرجع بالاخرة ) اي لاينتهي ( الى الاختيار قبيح ) اذ العقاب انّما يكون على الامور الاختيارية ( الا أن عدم العقاب لامر ) شرب الماء الذي ( لايرجع الى الاختيار ) لما عرفت : من ان كونه ماءاً لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر ، وشربه

ص: 75

قبحُهُ غيرُ معلوم .

كما يشهد به الأخبارُ الواردةُ في أنّ : « مَن سَنّ سنّةً حَسَنَةً كان له مِثلُ أجرِ مَن عَمِلَ بها ، ومَن سَنَّ سنّةً سيّئةً كان له مثلُ وِزرِ مَن عَمِل بها » .

-----------------

بهذا القصد ، فان ( قبحه غير معلوم ) .

وبعبارة اخرى : ان قبحه معلوم العدم .

وان شئت قلت : ان الاقسام أربعة :

الاول : القبيح الاختياري ، وهذا يعاقب عليه .

الثاني : القبيح غير الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه .

الثالث : غير القبيح الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه .

الرابع : غير القبيح غير الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه أيضا .

فالاول : كشرب الخمر اختياراً .

والثاني : كشرب الخمر اجباراً .

والثالث : كشرب الماء اختياراً .

والرابع : كشرب الماء بدون الاختيار لزعمه انه خمر - مثلاً - .

والمصنّف قدس سره ذكر من الاقسام الاربعة : القسم الثاني ، والقسم الرابع - لانهما مشتركان في عدم الاختيار - .

( كما يشهد به ) اي بالتفاوت بين الاشخاص بامر خارج عن الاختيار ( الاخبار الواردة في أن : « من سنّ سنّة حسنة ، كان له مثلُ أجر من عَمِل بها » ) من غير ان ينقص من اجورهم شيء ، فلا يؤخذ من اجورهم ، ليعطي الى مَن سنّ تلك السنّة ، بل ان اللّه سبحانه يعطيه بفضله بقدر اجر كل واحد عمل بسنّته .

( « ومن سنّ سنة سيئة ، كان له مثل وزر من عمل بها» ) من غير ان ينقص

ص: 76

فاذا فرضنا أنّ شخصين سَنّا سُنّةً حَسَنة او سَيّئةً ، واتفق كثرةُ العامل بأحداهما وقلّة العامل بما سنّه الآخرُ ، فانّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل او عقابه أعظمَ ،

-----------------

من أوزارهم شيء » (1) فاذا أسّس انسان مسجداً ، كان له بقدر ثواب المصلين ، وإذا كتب كتاب علم نافع كان له بقدر ثواب المستفيدين منه ، وكذلك إذا اسس مخمرا فله بقدر وزر الخمارين فيه ، وإذا كتب كتاب ضلال ، فله بقدر وزر الظالّين به .

وجه الاستدلال بهذه الروايات للمقام ماذكره بقوله : ( فاذا فرضنا : ان شخصين سنّا سنّة حسنة ) فالشيخ المرتضى قدس سره كتب المكاسب ، والسبزواري قدس سره كتب المكاسب أيضا ( أو سيئة ) بان بني الرجل المخمر في المدينة ، حيث كثرة الخمارين ، والآخر بناه في القرية حيث قلة الخمارين ( واتفق كثرة العامل باحداهما ، وقلة العامل بما سنه الآخر ) فمكاسب الشيخ قدس سره استفاد منه الآلاف، ومكاسب السبزواري قدس سره استفاد منه العشرات .

وكذلك بالنسبة الى مثال المخمرين ( فان مقتضى الروايات ) المذكورة ( كون ثواب الاول ) من سن سنة حسنة ( أو عقابه ) من سن سنة سيئة ( أعظم ) من الثاني ، مع انه لا مدخلية لاي منهما في كثرة الاتباع وقلّتِه ، فان الكثرة والقلة امران اتفاقيان خارجان عن ارادة واختيار كل منهما .

ثم ان اعطاء الاجر بالنسبة الى من سنّ سنّة حسنة لا اشكال فيه ، لان الاجر والثواب كل فضل - كما ثبت في مورده - فمزيده أيضا فضل .

نعم ، يجب ان لايخرج المزيد عن الحكمة ، كمن يكرم انساناً بما هو خارج

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج5 ص9 ح1 ، غوالي اللئالي : ج1 ص285 ح136 (بالمعنى) .

وقد اشتهر : « أنّ للمصيب أجرين وللمخطى ء أجرا واحدا » .

-----------------

عن الحكمة ، فانه أيضا ممتنع في حقه سبحانه .

وانّما الكلام في الوزر لمن سن سنة سيئة ، فهل يعطي من سن بقدر كل من عمل بتلك السنة السيئة ، كما في الافراد ، وكيفاً في القدر - كما ربما يستظهر من الحديث - أو المراد اصل الاعطاء لا كيفه ؟ .

لايبعد الثاني ، لانه الأوفق بالحكمة ، لوضوح ان من يعمل بالسنّة السيئة أيضا له دخل في ارتكاب هذه السيئة ، فهو ومن سنّها اذن شريكان ، فاعطاء كل واحد بقدر التمام يخالف - على الظاهر - قوله تعالى : « فلا يجزى الاّ مثلها » (1) بل هما ، كما إذا اشترك اثنان في قتل شخص ، حيث لكل واحد نصيبه من الجريمة ، لا انه يعطي لكل واحد جريمة قتل .

نعم ، يمكن ان يقال : بان من سنها له امران : الفعل ، والسببية ، ولكل عقوبة .

وعلى اي حال : فكثرة الثواب والعقاب لمن كثر اتباعه ، معلول لامر اختياري هو اختيار سن الحسنة أو السيئة ، واما قلتهما فيهما ، فهو من جهة ان العلة لم تؤر قدر اثرها الممكن ، فلا ثواب ازيد ولا عقاب ازيد من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، وتفصيل الكلام في هذه المباحث موكول الى علم الكلام .

( و ) مما يدل أيضا على التفاوت بامر خارج عن الاختيار ما ( قد اشتهر ) في السنتهم ، بل نسبه سلطان العلماء في حاشية المعالم الى الرواية : ( ان للمصيب ) في اجتهاده بحيث وصل الى الواقع ( اجرين ) : اجر الاجتهاد ، واجر الاصابة ، مع ان الاصابة لم تكن باختياره ( وللمخطى ء اجرا واحدا ) (2) لاجتهاده ، مع ان

ص: 78


1- - سورة الانعام : الاية 160 ، سورة غافر : الاية 40 .
2- - حاشية سلطان العلماء على المعالم ص80 .

والأخبارُ في أمثال ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحدّ التواتر .

فالظاهرُ أنّ العقلَ إنّما يحكمُ بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل

-----------------

الاصابة وعدمها لم يكونا باختيار المجتهدين .

وهذا امر عقلي وان لم يرد فيه نص ، فان من اتعب نفسه للمولى - حسب امر المولى - لابد له من جزاء، فان صادف الواقع، كان له جزاء ثان، حيث ان الواقع له آثار .

( والاخبار في امثال ذلك ، في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر ) وذلك مثل ماورد من : ثواب الامام بكثرة المأموم ، وما ورد من : اعطاء ثواب اعمال الولد لوالده ، فان كون الانسان علة - ولو علة ناقصة ، حيث ان الامام والوالد علة ناقصة للثواب - يعطي جواز اكثرية الثواب في الحكمة ، فلا يقال : انه اعتباط ، والاعتباط لايليق بالحكيم تعالى .

وإذا عرفت العقلية والشرعية في التفاوت ، نرجع الى بحث التجري ( ف- ) نقول : ( الظاهر ) ولايخفى ان الظاهر يقال : لما تكرر حتى ظهر ، مثل ظاهر اللفظ ، وظاهر الحال ، فيقال : ظاهر اللفظ كذا ، وظاهر الحال كذا ، إذا استعمل اللفظ فيهذا المعنى مكرراً حتى صار اللفظ ظاهراً فيه ، والمسلم تكرر العمل الصحيح منه ، حتى صار ظاهر حاله انه يعمل عملاً صحيحاً ، وهكذا ، فالظاهر : (ان العقل انّما يحكم بتساويهما ) اي الشاربين للمائع ، وكلاهما قاطع بانه خمر ،لكن احدهما صادف الخمر والآخر لم يصادفه ، بل يكون شارباً للماء (في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل ) .

والشقاء هو : ايقاع النفس في المشقة ، ولذا ورد قوله سبحانه : « طَه * ما أنزَلنَا

ص: 79

وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصيةً .

وربّما يؤيّد ذلك أنّا نجدُ من أنفسنا الفرقَ في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع وبين من لم يصادف ،

-----------------

عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشْقى » (1) .

وشقاوة الفاعل عبارة عن : اختياره القاء نفسه في مشقة غضب اللّه وبعدها عنه ( وخبث سريرته ) اي سوء نيته ( مع المولى ) لان كلا الشاربين بصدد التمرد والعصيان ( لا ) بتساويهما ( في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية ) لوضوح انه لاذم لشرب الماء ، وانّما خاص لشرب الخمر .

( و ) بعد ان فرغ المصنّف من الاستدلال الشرعي والعقلي على التفاوت بين الشاربين ، وان غير المصادف لاحرمة لفعله ، فلا عقاب عليه ، أيّد ذلك بقوله :

( ربّما يؤيد ذلك ) اي استحقاق المصادف دون غيره للعقاب ( انا نجد من انفسنا ) وهذا الوجدان دليل على الواقعية ، لان النفس حسب فطرة اللّه سبحانه منطوية على درك الحقائق ( الفرق في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع ، وبين من لم يصادف ) فاذا رأينا نفرين يرميان مسلمين ، فأصاب احدهما هدفه فقتل المسلم المرمي ، والآخر لم يصب هدفه فلم يقتل ذلك المسلم الثاني ، فان العقلاء ينهالون على المصادف بكل سب وذم ، بخلاف الثاني حيث يكون سبابهم وذمهم له اقل ، فان العقلاء يرون في المصيب هدفه اسائتين ، وفي غير المصيب هدفه اسائة واحدة ، وهكذا حال شاربي الانائين بقصد الخمر ، وقد

ص: 80


1- - سورة طه : الايات 1-2 .

إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في المبغوضات العقلائيّة من حيث أنّ زيادة الذم من المولى وتأكدّ الذمّ من العقلاء بالنسبة الى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفّي المستحيل في حقّ الحكيم تعالى ، فتأمّل .

هذا ، وقد يظهر من بعض المعاصرين : « التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرّم واقعا ،

-----------------

اصاب احدهما قصده فكان مشروبه خمرا ، ولم يصب الثاني قصده فكان مشروبه ماءا .

( الاّ ان يقال : ان ذلك ) التفاوت في ذم العقلاء للمصيب هدفه ، اكثر من غير المصيب ( انّما هو في المبغوضات العقلائية ) ولا دليل على تطابق الشرع للعقلاء ( من حيث ان زيادة الذم من المولى ) للقاتل ( وتاكد الذم ) له ( من ) سائر ( العقلاء بالنسبة الى من صادف اعتقاده الواقع ) انّما هو ( لاجل التشفّي ) من القاتل ، وهو زيادة دخل فيها الحالة النفسية ( المستحيل ) ذلك التشفي ( في حق الحكيم تعالى ) .

والحاصل : ان العقلاء يفرّقون بين المصادف وغير المصادف ، من جهة التشفي ، وحيث لاتشفي فيه سبحانه ، لايكون بينهما فرق عنده .

( فتامّل ) اذ لايسلّم ان العقلاء يزيدون ذم المصادف من حيث التشفي ، فالفرق بين المصادف وغير المصادف عندهم تام عقلاً ، وكلما حكم به العقل حكم به الشرع اذا كان في سلسلة العلل كما هو في المقام ، حيث ان العلة ، القبح .

( هذا ) تمام الكلام في اطلاق القول بان التجرّي مطلقا حرام ، وكذا القول بانه ليس بحرام اطلاقا .

( وقد يظهر من بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( التفصيل ) في إستحقاق العقاب ( في صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعا ) كشرب الماء

ص: 81

فيرجّح استحقاقَ العقاب بفعله ، الاّ أنّ يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فانّه لايبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا ،

-----------------

بزعم انه خمر ، فقد يكون ذلك الفعل حراما معاقبا عليه ، وقد لايكون حراما ، فلا يعاقب عليه ( فيرجح ) في نظر الفصول ( استحقاق العقاب بفعله ) اي فعل الشيء المحلل بزعم انه حرام ، كشرب الماء بزعم انه خمر .

( الاّ ان يعتقد تحريم واجب ) توصيلي ، والمراد بالواجب التوصلي : مالا يشترط فيه قصد القربة ، اما اذا اشترط الواجب بقصد القربة ، كالطهارات ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، فيسمى بالواجب التعبدي ، ولذا وصف الواجب بقوله : ( غير مشروط بقصد القربة ) كما اذا اعتقد بان زيدا كافر واجب القتل ، فتجرى وحفظه ، وكان في الواقع مسلما واجب الحفظ ، فان الحافظ اعتقد تحريم الحفظ ، بينما كان الحفظ واجبا توصليا .

( فانه ) الضمير للشان ( لايبعد عدم استحقاق العقاب عليه ) اي على فعله - وهو الحفظ في المثال - فلا يقال له يوم القيامة : لماذا حفظت زيدا ، وقد اعتقدت انه كافر واجب القتل ؟ .

وعدم استحقاق العقاب هذا يكون ( مطلقا ) اي سواء كان مصلحة الواقع اهم من مفسدة التجري : كما اذا كان زيد - في المثال - من عدول المؤمنين .

او مساوية للمفسدة : كما لو كان زيد مسلما عاديا - حيث يفرض ان حفظ المسلم في وجوبه يساوي قتله في حرمته - .

او اضعف من المفسدة ، بان كانت المفسدة اقوى : كما لو كان زيد كافرا ذميا ، حيث ان مصلحة حفظ المسلم اقوى من مفسدة التجري .

ص: 82

او في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ،

-----------------

( او ) عدم استحقاق العقاب في التوصلي ( في بعض الموارد ) : كصورة اهمية الواجب او تساويه ، كما ذكرناهما في الصورتين الاوليين .

وانّما تردد في كلامه فقال : « مطلقا » او « بعض الموارد » لانه قد يقال : اذا تعارض واجب وحرام تساقطا وان كان الواجب اهم ، اذ الحرام لايترك الواجب على وجوبه ، وان بقى بعد سقوطه عن الوجوب شيء من الرجحان للواجب .

وقد يقال : انه اذا كان الحرام اضعف يبقى الواجب على وجوبه ، وانّما لايبقى على وجوبه في صورتين :

الاولى : صورة تساوي الواجب والحرام .

الثانية : صورة كون الحرام اهم .

وانّما يكون عدم استحقاق العقاب - في صورة التصادم بين الواجب والحرام - ( نظرا الى معارضة الجهة الواقعية ) لفرض ان من حفظه مسلم او ذمي محقون الدم ( للجهة الظاهرية ) .

فالتجري - الذي هو حرام - لايؤثر اثره في الحرمة والعقاب ، اذا كان الفعل المتجرى به واجبا في الواقع ، وانّما يؤثر اثره اذا لم يكن واجبا في الواقع ، ففي مثل شرب الماء بزعم انه خمر ، فعل المتجري حراما ، اما في مثل حفظ زيد الذي زعم انه كافر واجب القتل ، وكان مسلما واقعا ، لم يفعل المتجري حراما .

ثم ان الفصول قال : « غير مشروط بقصد القربة » لانه اذا كان من الواجب المشروط بقصد القربة ، وزعم انه حرام ، لايتأتى منه قصد القربة ، وكيف يتمكن الانسان ان يقصد القربة ، مع انه يقطع ان مايعمله حرام مبعد عن اللّه تعالى ؟ .

فاذا صلى الجنب بزعم ان صلاته حرام ، بطلت صلاته من جهة عدم تمكنه

ص: 83

فانّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلفُ بالوجوه والاعتبارات .

-----------------

من قصد القربة ، وان كان في الواقع متطهرا غير جنب ، فاذا لم تكن صلاته صحيحة من جهة عدم قصده للقربة ، فلا وجوب يقاوم حرمة التجري ، فيكون تجريا وحراما فقط ، لعدم تعارض بين الواجب والحرام - وفرض صاحب الفصول هو المورد الذي فيه تعارض بين الواجب والحرام - .

( فانّ قبح التجرّي عندنا ) نحن صاحب الفصول ( ليس ذاتيا ) بحيث لاينفك القبح عنه ، اذ ذاتي الشيء لاينفك منه ، بل حيث ما كان ذلك الشيء يكون ذلك الذاتي حاله حال زوجية الاربعة ، وناطقية الانسان ، وقبح الظلم ، فانه لايعقل ظلم غير قبيح ، فاذا رأينا ما صورته ظلم ولم يكن قبيحا ، فالواقع انه ليس بظلم ، لا انه

ظلم غير قبيح .

( بل يختلف ) التجري قبحا وحسنا وتساويا ( بالوجوه والاعتبارات ) اي يلاحظ ما وجهه ؟ وكيف اعتبره العقلاء ؟ فان الاختلاف قد يكون بسبب الوجوه وقد يلاحظ بسبب الاعتبارات المختلفة .

والفرق بينهما : ان الوجوه في نفس الشيء ، والاعتبارات انّما تكون باعتبار المعتبر .

مثلاً : الانسان من وجه عام ، ومن وجه خاص ، فمن وجه اصنافه : عام يشمل العربي والعجمي وغيرهما ، ومن وجه الحيوان : خاص .

وكذا الورق الكذائي ، فباعتبار جعل الملك له نقدا ، صار ذا قيمة كذائية ، وباعتبار انه ورق من الاوراق ليست له تلك القيمة ، ولذا لو سحب الملك اعتباره سقطت قيمته .

وعلى اي حال : فالتجري بما هو هو ، حاله حال ضرب الطفل ، ان ضربه

ص: 84

فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فانّه لايستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلاً عند من انكشف له الواقعُ ، وإن كان معذورا لو فعل .

وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ او وصيّ فتجرّى ولم يقتله .

-----------------

الضارب انتقاما او اعتباطا كان حراما ، وان ضربه تأديبا لازما كان واجبا ، وان ضربه للتأديب المستحب لا للتأديب الواجب كان جائزا ، وعلى هذا يقاس التجري .

( فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم ) وهو محرّم القتل ( بكافر واجب القتل فحسب ) اي زعم ( انه ) اي ان هذا المؤمن ( ذلك الكافر ) الواجب قتله ( وتجرّى ) حسب زعمه ( فلم يقتله ) بل حفظه ( فانه لايستحق الذم على هذا الفعل عقلاً ) لانه وان حفظ الكافر في الظاهر عنده ، حيث اعتقد انه كافر مهدور الدم ، الا إنه في الواقع حفظ المؤمن ، سواء إنكشف له بعد ذلك كونه مؤمنا ام لا .

وكذلك الحال في عدم استحقاقه الذم ( عند من انكشف له الواقع ) .

وحيث لاذم عقلاً ، لا عقابَ ، حيث إنهما متلازمان اذا كان الذم الى حد المنع عن النقيض ( وان كان معذورا ) عقلاً وشرعا ( لو ) عمل بقطعه ، و ( فعل ) مقتضاه اي القتل .

( واظهرُ من ذلك ) عدم قتل المؤمن تجريا ، حيث زعم انه كافر واجب القتل ، لكن عصى ولم يقتله مثل : ( ما لو جزم بوجوب قتل نبي او وصيّ ) نبي ، لانه زعمه كافرا واجب القتل ( فتجرى ولم يقتله ) .

وانّما كان اظهر ، لان الواجب هنا اهم من الحرام ، بينما في المثال السابق كان الواجب والحرام متماثلين .

ص: 85

ألا ترى أنّ المولى الحكيم ، إذا أمر عَبدَهُ بقتل عدوّ له فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله ، أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لايذمّه على هذا التجرّي بل يرضى به ، وإن كان معذورا لو فعل .

وكذا لو نصب له طريقا غيرَ القطع إلى معرفة عدوّه ، فأدّى الطريقُ إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل ، و

-----------------

واضعف من ذلك : مالو زعم انه واجب القتل ، لكن تجرا ولم يقتله ، وكان طرفه ذميا محقون الدم ، لان الحرام هنا اقوى - على ما تقدّم - .

( الا ترى ) في تقريب ارتفاع قبح التجري بمصادفته للواجب : ( ان المولى الحكيم اذا أمر عبده بقتل عدو له ، فصادف العبد ابنه ) اي ابن المولى ( وزعمه ) اي زعم العبد ، ان هذا الابن ( ذلك العدو ) - اشتباها - ( فتجرى ولم يقتله ) عصيانا، بزعمه ( ان المولى اذا اطلع على حاله ) وعلم انه لم يقتل ابنه تجريا ( لايذمه على هذا التجري ، بل يرضى به ، وان كان معذورا لو فعل ) وقتل ابنه ، لما عرفت من حجية قطعه .

وكذا اذا شَهد شاهدان : بانه عدو المولى ، لكنه لم يقتله تجريا ، ولذا قال الفصول قدس سره : ( وكذا ) لايذمه المولى ( لو نصب ) المولى ( له ) اي للعبد ( طريقا غير القطع ) الذي هو طريق عقلي ( الى معرفة عدوه ) كشهادة العدلين ، والشهرة ، وغيرهما ( فادى الطريق ) المجعول ( الى تعيين ابنه ، فتجرى ) العبد مع قيام الطريق ( ولم يفعل ) القتل .

( و ) ان قلت : فعلى هذا ، يجوز لكل من قام عنده الطريق مخالفته ، لانه يحتمل ان يكون الطريق غير مصادف للواقع ، بل يصادف خلاف المأمور به او المنهي عنه .

ص: 86

هذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجرّي لايُجديه إن لم يصادف الواقع ، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فانّ المظنون فيه عدمُها .

-----------------

مثلاً : لو قام عنده الطريق بوجوب صيام هذا اليوم - بزعمه انه آخر شهر رمضان - فانه يحتمل ان يكون في الواقع مصادفا لاول يوم من شوال حيث يحرم صومه ، او قام عنده الطريق بحرمة وطي هذه المرأة ، فانه يحتمل ان تكون في الواقع واجبة الوطي ، من جهة إنها زوجته ، وقد زوجها له ابوه في صغره .

فهل يجوز التجري بترك ما وجب او حرم ، حسب قيام الطريق ، اذا احتمل الخلاف ؟ .

قلت : ( هذا الاحتمال ) المخالف للطريق ( حيث يتحقق عند المتجري ، لايجديه ) اي لاينفع المتجري ( ان لم يصادف الواقع ) فان هذا الاحتمال انّما ينفع اذا وافق الاحتمال للواقع ، وموافقة الاحتمال الواقع ليس بدائمي ، بل اتفاقي .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من ان الاحتمال لايجدي ( يلزمه العقل ) اي يلزم العقل هذا الشخص الذي قام عنده الطريق ( ب- ) الانقياد و ( العمل بالطريق المنصوب ) له ( لما فيه ) اي العمل بالطريق ( من القطع بالسلامة من العقاب ) لانه اما اطاعة او انقياد ( بخلاف مالو ) تجرا و ( ترك العمل به ) لاحتمال مخالفة الطريق للواقع ( فان المظنون فيه ) اي في التجري ( عدمها ) اي عدم السلامة .

ومقولة : « المظنون » من باب المثال ، اذ ربما يظن الانسان خلاف الطريق وربما يشك ، وربما يتوهم .

نعم ، اذا قطع بان الطريق مخالف وجب عليه العمل بقطعه ، لان القطع حُجية ذاتية، وحجية الطريق عرضية ، والحجية العرضية لاتقاوم الحجية الذاتية .

ص: 87

ومن هنا : يظهرُ انّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ،

-----------------

ولهذا قال العلامة قدس سره :

إذا دل العقل على شيء والظاهر على خلافه ، ترك العمل بالظاهر واتبع القطع .

( ومن هنا ) اي مما ذكرناه : من ان التجري اذا صادف خلاف الواقع ، سقط حرمة التجري وكان الأمر للواقع ، من غير فرق بين التجري على الحرام ، او على ترك الواجب ( يظهر : ان التجري على الحرام في المكروهات الواقعية ) بان كان مكروها واقعا ، وزعم المتجري انه حرام ، كما اذا زعم ان نوم بين الطلوعين حرام، لكنه تجرا ونام - مع انه في الواقع مكروه - ( اشد منه ) اي من التجري ( في مباحاتها ) اي المباحات الواقعية ، بان كان مباحا واقعا ، لكنه زعمه حراما .

ووجه الاشديّة : هو ان الاول بتجريه يفعل المكروه ، والمكروه له غضاضة والثاني يفعل المباح ، والمباح لا غضاضة فيه .

( وهو ) اي التجري ( فيها ) اي في المباحات ( اشد منه ) اي من التجري ( في مندوباتها ) اي المندوبات الواقعية ، كمن قطع بحرمة اكل الجبن والجوز - معا - لكنه تجرا واكل ، فظهر ان اكلهما معا مستحب ، فان استحبابه الواقعي يخفف من حرمته الظاهرية بخلاف المباح .

والحاصل لكلام الفصول هو : ان مايعتقده الانسان بانه حرام ، يحتمل ان يصادف الواجب الواقعي ، او يصادف المستحب الواقعي ، او يصادف المباح الواقعي او يصادف المكروه الواقعي .

وكذلك عكسه : اي ما يعتقده الانسان بانه واجب ، فانه يحتمل ايضا ان يصادف الحرام الواقعي ، او يصادف المكروه الواقعي ، او يصادف المباح

ص: 88

ويختلفُ باختلافها ضعفا وشدّةً كالمكروهات .

ويمكن ان يراعى في الواجبات الواقعية

-----------------

الواقعي، او يصادف المستحب الواقعي .

وللتجري في كل من هذه الثمانية - على رأي الفصول - حكم مختص به دون حكم الآخر ، وقد مضى : ان مصادفة الواجب والحرام ايضا على ثلاثة اقسام : فقد يتساويان في المصلحة والمفسدة ، وقد يكون الواجب اهم ، وقد يكون الحرام أهم .

( و ) كذلك ( يختلف ) التجري ( باختلافها ) اي المندوبات ( ضعفا وشدة ) فقد يكون مستحبا مؤكدا ، وقد يكون مستحبا عاديا ( ك- ) ما ان ( المكروهات ) ايضا مختلفة شدّة وضعفا .

مثلاً : اذا كان درجة المستحب الواقعي عشرة ، ودرجة حرمة التجري مائة صارت حرمة التجري الى تسعين ، لنقص عشرة المستحب منه ، واذا كان درجة المستحب عشرين ، وحرمة التجري مائة ، صارت حرمة التجري ثمانين ، فتختلف حرمة التجري من مستحب الى مستحب .

وهكذا الامر في المكروه الواقعي : فاذا كانت درجة الكراهة عشرة ودرجة التجري مائة ، وتجرأ ، صار للتجري مائة وعشرة درجة من المبغوضية ، وكلما زادت درجة الكراهة ، زادت درجة مبغوضية التجري .

اما في المباح : فتبقى درجة التجري على حالها مائة ، بدون زيادة ولانقيصة .

( و ) على هذا ( يمكن ان يراعى في الواجبات الواقعية ) التي زعمها المتجري

ص: 89

ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي » انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : يردُ عليه ، أوّلاً : منعُ ماذكره من عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ، لأنّ التجرّي على المولى قبيح ذاتا ، سواء كان لنفس الفعل او لكشفه عن كونه جريئا ،

-----------------

حراما ( ماهو الاقوى من جهاته ) اي جهات الواجب ( وجهات التجري ) (1) فاذا تساويا تساقطا ، وان كان الواجب اهم ، الى حيث اندك التجري فيه لم تكن حرمة ، وان كانت حرمة التجري اهم ، الى حيث اندك الواجب فيه كانت الحرمة البحتة ، وهكذا .

( انتهى كلامه ) اي كلام الفصول ( رفع مقامه ) .

لكن في كلامه موارد للنظر ، ولذا قال المصنّف قدس سره ( اقول : يرد عليه ، أولاً : منع ماذكره : من عدم كون قبح التجري ذاتيا ، لان التجري على المولى قبيح ذاتا ) فان هناك افعالاً قبحها ذاتي كما يشهد به العرف ، وافعالاً حسنها ذاتي كالانقياد ، وافعالاً لاشيء لذاتها من الحسن والقبح ، وانّما ان عرضها جهة خارجية من الحسن او القبح ، تكون على وصف ماعرض ، والاّ بقت كما كانت بلا حسن ولا قبح .

مثلاً : القيام أمام الوارد ، ان كان بقصد الاهانة كان قبيحا ، وان كان بقصد الاحترام كان حسنا ، وان لم يكن بقصد احدهما ، لم يكن قبيحا ولا حسنا ( سواء كان ) القبح في التجري ( لنفس الفعل ) كما يقوله القائل بحرمة التجري فيما اذا شرب الماء معتقدا انه خمر - على ماهو المشهور - ( او لكشفه ) اي هذا الفعل ( عن ) خبث النفس و ( كونه جريئا ) على المولى - كما اخترناه - فيكون القبح

ص: 90


1- - الفصول الغرويّة : ص431 .

فيمتنع عروضُ الصفة المحسّنة له ، وفي مقابله الانقيادُ للّه سبحانه ، فانّه يمتنع أن يُعرض له جهةٌ مقبّحةٌ .

وثانيا : لو سلّم أنّه

-----------------

في صفة النفس ، المنكشفة بواسطة التجري .

( ف- ) اذا كان التجري قبيحا ذاتا ، فانه ( يمتنع عروض الصفة المحسنة له ) اي للتجري ، اذ ذاتي الشيء لايتغير - على ماتقدّم الالماع اليه - كما ان الذات ايضا لاتتغير .

وعليه : فمصادفة الفعل المتجري به لجهة محسنة واجبة ، او مستحبة ، لاتوجب تغير ذات الفعل ، ولا تغير كاشفيته عن النفس الطاغية ، وانّما يتعارض جهتا الحسن والقبح ، فيقدّم الاهم منهما ان كان ، وان لم يكن أهم في البين يتساويان ويتساقطان ، فلا حسن ولا قبح كما في كل مورد كذلك .

( وفي مقابله : الانقياد ) اذ الانقياد يقابل التجري ، فان كلاً من الواقع الحقيقي ، والواقع المزعوم ، ان كان الانسان بصدد اطاعة المولى ، كان الاول اطاعة ، والثاني انقيادا ، وان كان بصدد مخالفة المولى ، كان الاول عصيانا ، والثاني تجريا .

فكما ان التجري قبيح ذاتا كذلك الانقياد ( للّه تعالى سبحانه ) بل لكل مولى ( فانه ) حسن ذاتا ، و ( يمتنع ان يعرض له جهة مقبحة ) وان امكن وجود الكسر والانكسار ، والاهم والمهم ، على ماعرفت في التجري .

وبهذا تبين ان التجرّي قبيح ذاتا ، كما ان الانقياد حسن ذاتا .

( وثانيا : لو سلم انه ) اي التجري ليس قبيحا ذاتا ، فلا اقل من أن يكون مقتضيا للقبح .

والفرق بين الذات والاقتضاء : ان الاول : علة تامة ، والثاني : علة ناقصة ،

ص: 91

لا امتناع في أن يَعرِضَ له جهةٌ محسّنةٌ ، لكنه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة ، وليس ممّا لا يعرض له في نفسه حسنٌ ولا قبحٌ ، إلاّ بملاحظة ما يتحقق في ضمنه .

وبعبارة أُخرى :

-----------------

ومعنى العلية الناقصة : انه ( لاامتناع في ان يعرض له جهة محسنة ) اذ الاقتضاء يمكن ان يصادف بقية العلة فيؤثر اثره ، ويمكن ان لا يصادف فلا يؤثر اثره .

مثلاً : الدواء الفلاني مقتض لقطع الحمى ، فان إنضم اليه بقية العلة انقطعت الحمّى ، والا لم يؤثر الدواء في قطعها ( لكنه باق على قبحه مالم يعرض له تلك الجهة ) فكيف قال الفصول : ان التجري يختلف بالوجوه والاعتبارات ؟ مما معناه : ان لا مقتضى فيه لحسن ولا قبح ، بل يكون حال التجري حال شرب الماء ليس فيه اقتضاء ولا علية لشيء من الحسن والقبح .

( و ) على هذا : فالتجري ( ليس ) من قبيل الافعال اللا اقتضائية ( مما لايعرض له في نفسه ) مع قطع النظر عن الملابسات الخارجية ( حُسن ولا قبح ، الاّ بملاحظة ما يتحقق في ضمنه ) من المحسنات او المقبحات كشرب الماء - مثلاً - فانه اذا كان موجبا لصحة الجسم كان حسنا ، واذا كان موجبا للمرض كان قبيحا .

( وبعبارة اخرى ) نوضح قولنا : « ثانيا لو سلم » وهي : ان القبح على ثلاثة أقسام :

الاول : ماكان علة تامة للقبح كالظلم ، حيث قد تقدّم انه قبيح مطلقا ، واذا كان شيء في صورة الظلم ولم يكن قبيحا ، ففي الحقيقة انه ليس بظلم ، كالقصاص والحدود والتعزيرات .

ص: 92

لو سلّمنا عدمَ كونه علّةً تامّةً للقبح ، كالظلم ، فلا شكّ في كونه مقتضيا له ، كالكذب ، وليس من قبيل الأفعال التي لايدرك العقلُ بملاحظتها في أنفسها حسنَها ولا قبحَها .

وحينئذٍ : فيتوقف ارتفاعُ قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه ، كالكذب المتضمّن لانجاء نبيّ .

-----------------

الثاني : ما كان مقتضيا للقبح لا علة تامة له كالكذب ، فان فيه مقتضى القبح ، فاذا انضم اليه نجاة مسلم لم يكن قبيحا ، مع انه يبقى كذبا ، لان الكذب هو مخالفة الخبر للواقع .

الثالث : ما كان قبحه بالوجوه والاعتبارات ، لا أنه ذاتا قبيح ، ولا انه فيه مقتضي القبح ، كضرب اليتيم ، فانه ان ضربه تأديبا كان حسنا ، وان ضربه اعتباطا كان قبيحا ، فاذا لم يكن التجري من القسم الاول ، فلا بد وان يكون من القسم الثاني .

والى هذا اشار بقوله : ( لو سلمنا عدم كونه ) اي التجرّي ( علّة تامة للقبح ، كالظلم ) الذي هو علة تامة للقبح ( فلا شك في كونه مقتضيا له ، كالكذب ) فكيف قال الفصول : ان قبحه بالوجوه والاعتبارات ؟ ( و ) الحال ان التجرّي (ليس من قبيل الافعال ، التي لايدرك العقل - بملاحظتها في انفسها - ) وبما هي هي ( حسنها ولا قبحها ) حتى يكون حال التجري حال ضرب اليتيم .

( وحينئذ ) اي حين كان من قبيل المقتضي ( فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة ) محسنة اليه ( يتدارك بها ) أي بتلك الجهة ( قبحه ، كالكذب المتضمن لانجاء نبي ) او مؤمن ، أو كافر ذمي محقون الدم ، فان الكذب جائز هنا بل واجب ، وان كان لنجاة مثل الكافر الذمي ، فان اهل الذمة محفوظون في بلاد الاسلام دما ومالاً وعرضا .

ص: 93

ومن المعلوم أنّ تَرك قتل المؤمن - بوصف أنّه مؤمن في المثال الذي ذكره - كفعله ليس من الامور التي تتصف بحسن او قبح ، للجهل بكونه قتل مؤمن ،

-----------------

لايقال : ان الفصول سلَّم انضمام الواقع الى قبح التجري حتى يحسن التجري ، ولذا مثل بترك قتل المؤمن الذي هو حسن ، منضما الى التجري بعدم اصالة المولى ، حيث زعم المتجري أنه كافر واجب القتل .

لانه يقال : مثاله غير تام ، اذ ترك قتل المؤمن امر عدمي ، والامور العدمية لا تتصف بالحسن والقبح ، والا لكان تارك المحرمات ولو بدون الالتفات فاعلاً للحسن ، فمن لم يقتل ، ولم يزن ، ولم يشرب الخمر ، ولم يسرق - كما هو الغالب في المؤمنين - يفعل عشرات الحسنات في كل يوم .

( و ) ذلك واضح البطلان ، فان ( من المعلوم ) لدى المتشرعة على ما استفادوه من الشرع : ( ان ) الواجب الواقعي ، مثل : ( ترك قتل المؤمن ) واتصافه بالواجب - من باب : ان كل ترك حرام ، واجب ، وكل ترك واجب ، حرام - ( بوصف أنه ) ترك قتل ( مؤمن ) بدون انضمام العلم اليه ( في المثال الذي ذكره ) الفصول ( كفعله ) اي كفعل قتل المؤمن ( ليس من الامور التي يتصف بحسن أو قبح ) وانّما لا يتصف ( للجهل بكونه ) اي بكون القتل ، وعدم القتل ( قتل مؤمن ) .

فان اتصاف الشيء بالحسن أو القبح ، متوقف على العلم به ، فاذا علم أنه مؤمن ولم يقتله - وكان في صدد قتله - قيل له : احسنت ، اما اذا لم يعلم انه مؤمن ، بل زعم انه كافر ولم يقتله عصيانا ، لا يقال له : احسنت .

وكذا اذا علم بأنه مؤمن ، لكن لم يكن في صدده ، فانه لايقال له : احسنت لتركه قتل المؤمن ، والاّ بأن كان مجرد عدم قتل المؤمن حسنا ، لزم ان يكون الانسان آتيا

ص: 94

ولذا اعترف في كلامه بأنّه لو قتله كان معذورا .

فاذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجرّي في ضمنه ممّا يتصف بحسن او قبح ، لم يؤثّر في اقتضاء ما يقتضي القبح ، كما لايؤثّر

-----------------

في كل يوم آلاف الحسنات ، لانه لم يقتل من يراهم في الصحن والسوق والمدرسة من المؤمنين .

والحاصل : ان مثال صاحب الفصول ليس منطبقا على ما ذكره من انضمام جهة محسنة الى التجرّي .

اللهم الاّ ان يقال : بأن مراد صاحب الفصول : إن عدم قتل المؤمن في نفسه شيء مرغوب فيه ، ولذا اذا انهدمت عمارة فيها زيد ، فلم يصبه مكروه ، قال العرف : الحمد للّه صار امرا حسنا حيث لم يمت زيد ، بضميمة ان الفصول يرى : ان الواقع الحسن ، وان لم يكن عن قصد قاصد ، كاف في الانضمام الى التجري وجعله التجري حسنا .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من ان عدم قتله المؤمن ، لا يتصف بالحسن ( اعترف ) الفصول ( في كلامه : بانه لو قتله ، كان معذورا ) فان هذا الكلام يدل على أنه يجهل كونه مؤمنا .

( فاذا لم يكن هذا الفعل ) اي ترك قتل المؤمن ( الذي تحقق التجرّي في ضمنه، مما يتصف بحسن أو قبح ) لما عرفت : من ان الفعل انّما يتصف بهما اذا كان الفاعل عالما ، فان كان جاهلاً ، ( لم يؤثّر ) هذا الترك للقتل ( في ) قلب (اقتضاء ما يقتضي القبح ) من التجري ، حسنا ، لان ترك القتل لم يكن حسنا ، حتى يؤثر في رفع قبح التجري .

( كما ) في عكس ذلك ، فانه ( لايؤثر ) ترك الواجب الواقعي - اذا كان الانسان

ص: 95

في اقتضاء ما يقتضي الحسن لو فرض أمرُه بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره ، فانّه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن .

-----------------

جاهلاً - ( في ) قلب ( اقتضاء ما يقتضي الحسن ) من الانقياد ، قبيحا ، فان الانقياد حسن ، فاذا صادف مع قبيح وهو : ترك واجب من الواجبات ، لايكون الانقياد قبيحا .

ومثال قوله : « كما لا يؤثر » ما ذكره بقوله : ( لو فرض امره ) من المولى ( بقتل كافر ، فقتل مؤمنا ) في حال كون العبد كان ( معتقدا كفره ) فهذا القتل حيث انه انقياد للمولى يكون حسنا ، وقتل المؤمن الذي في ضمن هذا الانقياد لايكون قبيحا - حتى يقلب حسن الانقياد الى القبح - .

وانّما لايكون قبيحا لان العبد - حسب الفرض - يجهل كونه مؤمنا ( فانه لا اشكال في مدحه ) اي مدح العقلاء لهذا العبد القاتل للمؤمن - جهلاً بكونه مؤمنا - .

وانّما يمدحونه ( من حيث الانقياد ) حيث انه انقاد الى المولى ( وعدم ) عطف على « مدحه » اي لااشكال في عدم ( مزاحمة حسنه ) اي حسن الانقياد ( بكونه ) أي كون هذا الانقياد ( في الواقع ) والحقيقة ( قتل مؤمن ) اذ كونه قتل مؤمن ليس أنه قبح - كما هو المفروض لانه اعتقد كفره - حتى يزاحم قبحه ، حسن الانقياد .

ولا بأس ان نشير هنا الى ماذكرناه في « الاصول » من : أن العدم لايكون علة ولا معلولاً ، ولا وصفا ولا موصوفا ، لانه لاشيء ، ولا شيء لايكون احد هذه حتى يكون علة او معلولاً .

فهذا الكلام مجاز وحقيقته : اني بقيت في كربلاء المقدسة لبقاء ، علّية البقاء

ص: 96

ودعوى : « أنّ الفعل الذي يتحقق به التجرّي وإن لم يتصف في نفسه بحسن ولا قبح لكونه مجهول العنوان ، لكنّه لايمتنع أن يؤثّر في قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه ،

-----------------

مع انه كان لي مقتضٍ للسفر الى النجف الاشرف ، بحيث لو كانت السيارة موجودة لذهبت الى النجف الاشرف .

وعليه فقولنا السابق : « عدم قتل المؤمن حسن » يراد به : ان كفّ النفس عن القتل حسن ، لا ان العدم بما هو عدم حسن .

( و ) ان قلت : ان ترك قتل المؤمن الذي تحقق به التجري ، لايتصف بالحسن ، لان المتجرّي جاهل بكونه مؤمنا - بل زعم انه كافر واجب القتل ، ومع ذلك تجرّأ ولم يقتله - لكن لااشكال في ان ترك قتل المؤمن مشتمل على مصلحةٍ - اي ترك المفسدة - وهذه المصلحة تؤثر في رفع قبح التجرّي .

قلت : العقل مستقل بقبح التجرّي ، ومجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه لايرفع قبحه ، فان ( دعوى : ان الفعل الذي يتحقق به التجرّي ) وهو : ترك القتل (وان لم يتصف في نفسه بحسن ولا قبح ، لكونه ) أي ترك قتل المؤمن بالنسبة للمتجرّي ( مجهول العنوان ) لأنه وان علم انه ترك قتلاً إلاّ ان عنوانه : وهو ترك قتل المؤمن ، مجهول لديه .

( لكنه ) أي هذا الترك ( لايمتنع ان يؤثر في قبح ما يقتضي القبح ، بأن يرفعه ) اي يرفع القبح .

فانه ربما يرفع القبح : ما يعلم الفاعل عنوانه .

وربما يرفع القبح : مالا يعلم الفاعل عنوانه .

فان من كشف نفسه في مكان يكون فيه انسان - بزعم انه غريب - رأى انه فعل

ص: 97

الاّ أن نقول بعدم مدخليّة الاُمور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذّم ، وهو محل نظر بل منع .

-----------------

قبيحا ، لكن اذا كان ذلك الانسان زوجته - وهو جاهل بكونه زوجته - لايقبح عمله ذلك ، فجهل ، كاشف نفسه بالعنوان - اي عنوان : ان الناظر اليه زوجته - لايمنع عدم قبح فعله .

ثم ان هذا المستشكل بقوله : « ودعوى » اشكل على نفسه بقوله : ( الاّ ان نقول : بعدم مدخلية الاُمور الخارجة عن القدرة ، في استحقاق المدح والذّم ) فمصادفة عدم قتل المؤمن - تجرّيا - بما هو واجب واقعا ، لايتصف بحسن ولا قبح ، لان المصادفة خارجة عن الاختيار ، وما كان خارجا عن الاختيار ، لايكون حسنا ولا قبيحا في نفسه ، وما ليس له حسن كيف يرفع قبح غيره ؟ كما ان ما ليس له قبح كيف يرفع حسن غيره ؟ .

( و ) اجاب عن الاشكال : بان « عدم المدخلية » ( هو محل نظر ، بل منع ) فيمكن ان يؤثر ماليس هو - في نفسه - بحسن ولا قبيح في رفع قبح ، او رفع حسن ، اذ الواقع ، له مدخلية في الاشياء - وان لم يكن الواقع تحت القدرة - كما تقدّم : من ان كثرة المصلين في مسجد ، يؤثر في كثرة ثواب الباني ، وكثرة الخمارين في مخمر ، له اثر في كثرة عقاب الباني مع ان الكثرة فيهما لم تكن باختيار البانيين ، وكذا في اثنين كتب كل منهما كتابا ، احدهما صار متداولاً اكثر من الآخر .

بل يأتي الكلام في : مؤلف واحد الّف كتابين : كشرح اللمعة والمسالك للشهيد الثاني ، حيث صار أحدهما اكثر تداولاً من الآخر ، فانه مع وحدة الجهد وتشابه الاخلاص يكون ثواب احدهما - لاكثرية القراء والمستفيدين - اكثر من الآخر .

ص: 98

وعليه : يمكنُ ابتناء منع الدليل العقليّ السابق في قبح التجرّي » ،

-----------------

وفي عكسه يمثل : بمن بنى مخمرين كذلك .

ثم ان المستشكل ب- : « الا ان نقول » لما اجاب بقوله : « وهو محل نظر » ترقى عن جوابه ، فوافق جواب المصنّف قدس سره عن الفصول الذي تقدّم في : نفرين شربا مازعماه خمرا فصادف احدهما ولم يصادف الآخر ، حيث قال الفصول : كلاهما معاقبان ، لان التصادف واللاتصادف لم يكن باختيارهما ، وأجاب المصنّف قدس سره عنه : بانه لامانع من ان يكون الامر الخارج عن الاختيار مؤثرا في عدم العقاب ، واستشهد بأخبار : « من سنّ سنّة حسنة » الى آخر ماتقدّم .

نقول : - ان العبارة : ودعوى ان الفعل ... - هو كما ذكرتم انتم ياشيخنا المرتضى: من ان المصادفة واللامصادفة ليسا معيارا للعقاب وعدم ، لانهما ليسا اختياريّين وانّما المعيار في استحقاق العقاب هو : الاتيان بالحرام عمدا ، كذلك نقول نحن صاحب الفصول : بأن رفع قبح التجري المصادف مع الواجب واقعا - وان لم يقصده المتجري - غير ضار بعد ان لم يكن المعيار الاختيار ( و ) ذلك لان ( عليه ) اي على المنع من عدم مدخلية الامور الخارجة عن القدرة بل لها مدخلية ( يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق في قبح التجري ) وبطلانه من حيث عقاب نفرين : شربا ما زعماه خمرا فطابق احدهما الواقع فكان ماشربه خمرا ولم يطابق الآخر فكان ماشربه ماءا ، فانتم قلتم : اذا صادف الواقع يكون فيه العقاب فقط دون من لم يصادف - وان لم تكن المصادفة باختيار الشارب - ونحن نقول : اذا لم يصادف التجري بعدم القتل ، الواقع ، بان كان كفا عن قتل مسلم محقون الدم ، فان فيه حسنا يكسر قبح التجري ، وان لم يكن عدم الصادفة للواقع باختيار الكافّ عن القتل مع قطعه بانه كافر واجب القتل .

ص: 99

مدفوعةٌ مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي ، كما لايخفى على المتأمّل بأنّ العقل مستقلّ بقبح التجرّي في المثال المذكور .

ومجرّدُ تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه ، مع الاعتراف بأنّ ترك القتل لايتصف بحسن ولا قبح ، لايرفعُ قبحه ،

-----------------

فهذه الدعوى ( مدفوعة ) وذلك ( مضافا الى الفرق بين ما نحن فيه ) من عدم مصادفة التجري للواقع بل مصادفته للوجوب الواقعي وهو حفظ المسلم ( وبين ما تقدّم من الدليل العقلي ) في نفرين : شربا ما زعماه خمرا ، حيث ردّدنا الامر بين اربعة احتمالات ، واخترنا عقاب الشارب خمرا دون شارب الماء بزعم الخمرية ( كما لايخفى ) هذا الفرق ( على المتأمّل ) .

ففي التجري « حيث لاواقع في شرب الخمر المزعوم ، لا عقاب » وهو لايلازم رفع العقاب برفع قبح التجري فيما نحن فيه : « حيث يصادف عدم قتل المؤمن » فان واقع الخمر يؤثر في العقاب ، فحيث لا واقع لا عقاب ، لكن واقع عدم قتل المؤمن لايؤثر في ارتفاع القبح وذلك ( بان العقل مستقل بقبح التجري في المثال المذكور ) اي تجرّيه بعدم قتل الكافر - في زعمه - عصيانا للمولى وقد صادف انه كان مؤمنا ، وكان بالنتيجة عدم قتل المسلم .

( و ) لا اثر لمصادفة الوجوب الذي هو : ترك القتل ، في رفع قبح التجري، اذ ( مجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه ) اي ضمن تجرّيه ( مع الاعتراف ) من الفصول : ( بان ترك القتل لا يتصف بحسن ولا قبح ) لمجهوليته عند المتجري ، اذ المتجري لايعلم انه يترك قتل المؤمن ف( لايرفع قبحه ) اي قبح تجرّيه ، وهو تركه قتل الكافر - حسب قطعه - .

ص: 100

ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضمّ اليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك .

ثم إنّه ذكر هذا القائلُ في بعض كلماته : « أنّ التجرّي

-----------------

فنقول : ان « ترك قتل المؤمن » اذا لم يكن حسنا في نفسه ، فكيف يؤثّر في دفع قبح التجري ؟ .

علما بأن رفع القبح لايكون الا بشيء حسن في ضمن ذلك القبيح ، والمفروض انه لاشيء حسن في ضمن هذا القبيح الذي هو التجري .

( ولذا ) اي لأجل ان مالا حسن له ، لايرفع القبح ( يحكم العقل بقبح الكذب و ) قبح ( ضرب اليتيم اذا انضم اليهما ) اي الى الكذب والضرب ( ما يصرفهما الى المصلحة اذا جهل الفاعل ) للكذب والضرب ( بذلك ) الانضمام .

فاذا ضرب اليتيم - مثلاً - تشفيا وصادف انه كان تأديبا ، او كذب تشهيا وصادف كونه اصلاحا لذات بين ، لم ترفع الضميمة قبحهما ، اذ الحسن يلاحظ اذا قصد الجهة المحسنة ، لامطلقا ، فهو كما اذا كان زيد واجب القتل ، لانه سبّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ولم يعلم بذلك عمرو ، فقتله لانه عدوه ، فهل قتله للسابّ هذا يكون بلا إثم ؟ .

وهكذا حال ما اذا كان زيد قاتل ابي عمرو ، فقتله بكر ، فهل قتلُ بكر له ، يتركه بلا اثم ، والحال انه لم يكن له حق القتل ، اذ حق القتل لابن المقتول ، لا لأي انسان ؟ .

والحاصل : ان الجهة والفاعل وغيرهما مثل كيفية القتل ، لها مدخلية في الجواز والحرمة .

( ثم انه ذكر هذا القائل ) وهو الفصول ( في بعض كلماته : ان التجرّي

ص: 101

اذا صادف المعصيةَ الواقعيةَ تداخل عقابُهما » .

ولم يعلم معنىً محصّلٌ لهذا الكلام ، إذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلاً في استحقاق العقاب لا وجهَ للتداخل ، إن اريد به وحدةُ العقاب ، فانّه ترجيحٌ بلا مرجّح .

وسيجيء في الرواية أنّ على الراضي إثما وعلى الداخل إثمان ؛

-----------------

اذا صادف المعصية الواقعية ) بان تجرّى وشرب الخمر ، وكان في الواقع خمرا ، لا ماءا ( تداخل عقابهما ) عقاب للتجري ، وعقاب لانه شرب الخمر ، ( ولم يعلم معنى محصل لهذا الكلام ) لان التجرّي اذا كان حراما كان عقابان مستقلان وان لم يكن حراما لم يكن الا عقاب واحد ( اذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلاً ) في الشريعة ( في استحقاق العقاب ) كما قاله الفصول القائل بحرمة التجرّي ( لا وجه للتداخل ، ان اريد به وحدة العقاب ) اي عقاب واحد لمعصيتين ( فانه ) اي التداخل ( ترجيح بلا مرجح ) .

فهل يدخل عقاب التجرّي في عقاب المعصية ، او يدخل عقاب المعصية في عقاب التجرّي ، والمفروض انهما محرّمان ولكل محرّم عقاب ؟ .

( وسيجيء ) ما يكون للأمرين عقابان ف( في الرواية : ان على الراضي ) بعصيان الغير ( اثما ) واحدا لمكان الرضا ( وعلى الداخل ) كعاقر الناقة : ( اثمان ) : اثم الرضا ، واثم العمل (1) ، فلم تذكر الرواية التداخل .

والحاصل : ان كلام الفصول مخالف للعقل ، بالترجيح بلا مرجح ، وللشرع ايضا .

ص: 102


1- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص362 ب148 بالمعنى .

وإن اريد به عقابٌ زائدٌ على عقاب محض التجرّي ، فهذا ليس تداخلاً ، لان كل قفعلٍ اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما .

والتحقيقُ : أنّه لافرق في قبح التجرّي بين موارده وأنّ المتجرّي لا إشكال في استحقاقه الذمّ من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته وجرئته .

-----------------

( وان اريد به ) اي بالتداخل ( عقاب زائد على عقاب محض التجرّي ) فلمن شرب الماء بزعم انه خمر ، قيراط خفيف من العقاب ، ولمن صادف شربه الخمر الواقعي ، قيراط شديد من العقاب ( فهذا ليس تداخلاً ) بل هو اجتماع عقابين ، اذ الشديد ضعف الخفيف ، كشدّة النور التي هي ضِعف النور الخفيف .

وانما كان عقابين ( لأنّ كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح ) كالغصب النجس فيما اذا شرب النجس المغصوب ، حيث للنجاسة عقاب وللغصب عقاب، فانه (يزيد عقابه ) اي عقاب ذلك الفعل الجامع للعنوانين ( على ما كان ) الفعل ( فيه احدهما ) اي احد العنوانين بان كان مغصوبا طاهرا ، او غير مغصوب نجس .

( و ) حيث ذكرنا قول المفصّل في حرمة التجرّي ، القائل تارة يحرِّم ، وتارة لا يحرّم ، نقول : ( التحقيق : انه لافرق في قبح التجري بين موارده ) صادف الوجوب ام لا ( وان المتجري لا اشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه و ) الذم في الحقيقة للباطن المتمرد ، ولا مدخلية للانكشاف بما هو انكشاف ، ولذا لافرق عند العقلاء ، بين ان ينكشف باطن انسان بانه يريد السرقة ليلاً او ينكشف بانه ذهب الى السرقة ، فلم يحصل على شيء حتى يسرقه ، فان ( سوء سريرته وجرئته ) على خلاف العقل أو الشرع موجب لذمه وتقبيح قصده .

ص: 103

وأمّا استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّى في ضمنه ، ففيه أشكالٌ ، كما اعترف به الشهيد قدس سره ، فيما يأتي من كلامه .

نعم ، لو كان التجرّي على المعصية بالقصد إلى المعصية ، فالمصرّحُ به في الأخبار الكثيرة العفوُ عنه ، وإن كان يظهر من أخبار اُخَر العقابُ على القصد أيضا :

-----------------

( واما استحقاقه للذم ) والعقاب ( من حيث الفعل المتجرّأ ) به - بصيغة اسم المفعول - ( في ضمنه ) اي في ضمن التجرّي ، كشرب الماء بزعم انه خمر ( ففيه اشكال ) بل قد تقدّم المنع عنه ( كما اعترف به ) اي بالاشكال : ( الشهيد ) الاول ( قدس سره فيما يأتي من كلامه ) .

نعم ، لا ينبغي الاشكال ايضا في حصول الكسر والانكسار في مصادفة التجرّي لواجب او مستحب او مكروه او مباح .

وحيثُ انتهى المصنّف قدس سره من هذا البحث شرع في بحث آخر ، وهو : ان ما ذكرناه من اطلاق قولنا : « فيه اشكال » انما هو فيما اذا تعدّى التجرّي القصد ووصل الى العمل ، والاّ اذا كان التجرّي بالقصد فقط ، ففيه طائفتان من الاخبار ، ولذا قال : ( نعم ، لو كان التجري على المعصية ، بالقصد ) فقط ( الى المعصية ) ، كما اذا قصد شرب الخمر ولم يشرب ، او الزنا ولم يزن ، او ما اشبه ذلك (فالمصرح به في الاخبار الكثيرة : العفو عنه ) فانه وان كان مستحقا للعقاب ، لكن اللّه بكرمه يعفو عنه (وان كان يظهر من اخبار اُخر العقاب على القصد ) المجرد ( أيضا ) .

وربما يستشكل على قول المصنّف « نعم » : بانه ليس هذا استثناءا عن عدم حرمة التجرّي ، اذ لو كان القصد معاقبا عليه ، كان مع الفعل اولى بالعقاب ، وانما

ص: 104

مثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « نِيَّةُ الكافِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِه » ، وقوله : « إنّما يُحْشَرُ النّاسُ عَلى نِيّاتِهِم » .

-----------------

يصح كونه استثناءا عند من يرى حرمة التجرّي ، فيقول : التجرّي حرام اذا كان مقترنا مع المُظهر ، اما بدونه ، ففيه طائفتان .

اما انتم القائلون بعدم حرمة التجرّي ، فلا معنى لاستثنائكم هذا ، لانه يكون بمنزلة ان تقولوا : التجرّي مع الفعل ليس بحرام ؛ نعم ، في القصد المجرد طائفتان، وانما لايصح الاستثناء ، لانه اذا كان القصد غير المقترن بالفعل محرما ، فالقصد مع الفعل اولى بالتحريم .

اما الاخبار فهي ( مثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم : نِيَّةُ الكافِرِ شَرٌّ مِن عَمَلِهِ ) (1) بناءا على ان ظاهره : أفعل التفضيل ، اي ان نيّته اكثر شرّا من عمله ، فاذا قام بالسرقة عوقب بسوط مثلاً ، واذا نوى السرقة عوقب بسوطين .

ولكن ربما يقال : ان هذا المعنى خلاف الضرورة ، فللحديث معنى آخر ، فانه ربما فسر الحديث : بان « من » للتبعيض ، فالمعنى : ان نية الكافر تعدّ بعض اعماله الشرّيرة وجزء منها ، فالنية : عمل القلب ، والفعل : عمل الجوارح ، فالحديث من قبيل اخذت من الدراهم، الى غير ذلك من المعاني المتعددة المذكورة لهذا الحديث .

وكذا تأتي كل تلك المحتملات في الفقرة الثانية من الرواية وهي : قوله عليه السلام : « نيّة المؤمن خير من عمله » .

( وقوله : إنّما يُحشَرُ الناسُ عَلى نِيّاتِهِم ) (2) فالنيات توجب الثواب كما توجب العقاب .

ص: 105


1- - المحاسن : ص260 ح315 وفيه الفاجر ، وسائل الشيعة : ج1 ص50 ب6 ح95 .
2- - المحاسن : ص262 ح325 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج1 ص48 ب5 ح87 .

وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار وخلود أهل الجنّة في الجنّة بعزم كلّ من الطائفتين على الثَّباتِ على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا .

-----------------

لكن ربما يقال : ان المراد بالحديث : انه يُظهر بواطنهم لا انهم يعاقبون على نية السوء ، كما قال سبحانه : « يوم تُبلى السرائر » (1) .

( وما ورد من تعليل خلود اهل النار في النّار وخلود اهل الجنّة في الجنّة ) مع انهم لم يعصوا ولم يطيعوا إلاّ سنين معدودة فقط ، فاللازم ان يكون العقاب والثواب بقدر تلك السنين لا ازيد ، وانما الزائد ( ب- ) سبب ( عزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة ، لو خلدوا في الدنيا ) (2) فالخلود في الآخرة للنية لا للعمل .

لكن ربما يقال : ان خلود اهل الجنّة فضل ، ولا اشكال عقلاً في اعطاء الفضل بسبب النيّة ، اما النار فهي بمقتضى العدل والعدل لايكون اكثر من استحقاق الذنب .

وعليه : فاللازم عند العقلاء ان يكون العقاب بقدر المعصية .

وقد ايّده الشرع بقوله سبحانه : « جَزاءا وِفَاقا » (3) الى غيرها من الآيات والروايات ، فالخلود انما يكون مع العناد حتى في النار ، كما في دعاء الكميل « وأن تُخَلِّدَ فِيها المُعاندينَ » (4) فاذا رفع المعاند يده عن عناده ، اُخرج من النار .

لكن الذي يمكن ان يقال : هو انه لا اشكال في الخلود ، بل ادعى

ص: 106


1- - سورة الطارق : الآية 9 .
2- - المحاسن : ص331 ح94 .
3- - سورة النبأ : الآية 26 .
4- - مفاتيح الجنان : ص88 .

وما ورد من : « أنّه إذا التقى المُسلِمانِ بسَيفِهما ، فالقاتِلُ وَالمَقتولُ في النّار .

قيلَ : يارَسولَ اللّه ، هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : لأنّه أرادَ قَتلَ صاحِبِه » .

-----------------

المجلسي قدس سره الضرورة عليه ، كما لا اشكال في انه موافق للعدل ايضا ، بل هو من الضروريات .

اما كيف يكون الخلود بما لا ينافي العدل ؟ فانه من احوال الآخرة ، التي لا نفهم منها الا بقدر مداركنا القاصرة ، كما لا يفهم الجنين من الدنيا - لو فرض فهمه شيئا منها - الا بقدر مداركه القاصرة ، بل نرى ان الطفل لايدرك من لذة الكبار للعلم وللزواج الا بقدر دركه القاصر ، فيقال له - مثلاً - : لذة الجنس أو العلم كلذة الحلاوة والعسل .

واما قول بعض الحكماء بانتهاء العقاب ، فهو خلاف النص والاجماع ، بل خلاف الضرورة ، على ماعرفت .

( وما ورد من انه اذا التقى المسلمان ) لاجل قتل كل منها الآخر ( بسيفهما ، فالقاتل والمقتول ) كلاهما ( في النّار ) اي ان مصيرهما الى النّار ، مثل قوله سبحانه : « إنَّما يَأكُلونَ في بُطونِهِم نَارا » (1) ( قيل : يا رسول اللّه ، هذا القاتل ) يستحق النار لانه قتل المسلم ( فما بال المقتول ) يذهب الى النّار ؟ ( قال صلى الله عليه و آله وسلم : لأنَّه أرادَ قَتلَ صاحِبِهِ ) (2) فقد ثبت بهذا الحديث : ان القصد يوجب النّار .

ص: 107


1- - سورة النساء : الآية 10 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص174 ب22 ح25 ، وسائل الشيعة : ج15 ص148 ب67 ح20184 بالمعنى .

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام ، كَغارس الخمر والماشي لسعاية المؤمن .

وفحوى مادلّ على أنّ الرضا بفعل كفعله ،

-----------------

لكن لايخفى : ان هذا الحديث ليس من احاديث الباب ، لان الكلام في القصد المجرد ، لا القصد مع المظهر ، والالتقاء بالسيف : قصد مع المظهر .

وكيف كان : يمكن ان يكون الوجه في ذلك : ان القتل لعِظمِه عند اللّه سبحانه : يجازي عليه بالنار حتى لمن نواه اذا كان له مظهر ، فلا يدل على حرمة التجرّي مطلقا .

وعلى أيّ حال : فذلك العقاب فيما اذا لم يرد المقتول الدفاع عن نفسه - بل قصد القتل - والا فالدفاع عن النفس واجب كما دل على ذلك النص والاجماع .

( وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام ) فان ذلك فيما اذا ترتب عليه الحرام كما يظهر من النص ، فلا يمكن سحبه الى ما لم يترتب عليه ، فهذا الحديث دليل على حرمة مقدمة الحرام مطلقا ، او في هذا المورد الخاص ، ولا يكون دليلاً على حرمة القصد المجرد - كما هو عنوان كلام المصنّف قدس سره .

( كَغارِس ) العنب بقصد عمل ( الخَمر (1) ، وَالماشِي لِسعايَةِ المُؤمِنِ ) (2) عند الظالم ليأخذه فيؤذيه .

( وفحوى ) اي الملاك الاولوي ( ما دل على ان الرضا بفعل ، كفعله ) فان الرضا بصدور المعصية عن شخص ، اذا كان يعدّ معصية مع ان الراضي لم يفعل

ص: 108


1- - انظر وسائل الشيعة : ج17 ص224 ب56 ح22386 .
2- - انظر وسائل الشيعة : ج16 ص140 ب5 ح21183 .

مثل ما عن امير المؤمنين عليه السلام : « ان الراضي بفعل قَوم كالداخِلِ فيهِ معَهُم ، وَعَلى الدّاخِلِ إثمان إثمُ الرضا وإثمُ الدخول » ، ويؤيّده قوله تعالى : « اِنّ الذينَ يُحِبّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَة في الّذينَ آمَنوا لهُم عذابٌ اليمٌ » ،

-----------------

ولم يقصد العصيان ، كان قصد المعصية اولى بأن يكون معصية .

( مثل ما عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الراضِيَ بِفِعل قَومٍ كَالداخِلِ فِيه ) اي في ذلك الفعل ( مَعَهُم ) اي مع القوم ( وَعَلى الداخلِ إثمان : إثم الرِّضا ، وَإثم الدُخولِ) (1) لكن لعل ذلك من باب التعاون ، والا فالمعصية الواحدة لها عقوبة واحدة .

( و ) كيف كان : ف- ( يؤيده ) اي العقاب بالقصد المجرد الى المعصية ( قوله تعالى « إنَّ الَّذينَ يُحِبّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةَ » ) بأن يظهر العيب ويفشوه ، والمراد بالفاحشة : المعصية المتجاوزة عن الحدّ ، فان منها مالا تسمى بذلك ، كاغتياب انسان - مثلاً - فانه لايسمى فاحشة ، بينما الزنا يسمى فاحشة .

قال علي عليه السلام : « وَفُحشُ تَقَلُّبِ الدَّهر » (2) اي ان تقلّب الدهر فاحش وكبير ، وهو غير السّب وغير اللّعن وغير القذف ، الى غير ذلك ، كما يظهر الفرق بينهما من كتب فروق اللغات .

( « في الَّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أليمٌ » (3) ) يؤلمهم ، ووجه التأييد : ان العذاب على حب الشيء يدل ولو بالملاك على العذاب على قصده .

وهذا وان لم يكن دليلاً ، لان الملاك ضعيف ، فان الحب فوق القصد ،

ص: 109


1- - نهج البلاغة : قصار الحكم ص154 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص362 ب148 بالمعنى .
2- - بحار الانوار : ج77 ص202 ب8 ح1 وفيه تقلّب الليالي والأيام ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص62 ب31 .
3- - سورة النور : الآية 19 .

وقوله تعالى : « إن تُبدوا ما في أنفُسِكُم او تُخفوهُ يُحاسِبكُم بهُ اللّه » .

وما ورد من أنّ : « مَن رَضِيَ بفِعلٍ فَقَد لَزمهُ

-----------------

ولذا يقال : اقصد لقاء فلان ولكن لا احب لقائه الاّ انه ربما يقال في ردّ هذا التأييد : ان المراد بالحب نفس الاشاعة ، فهو مثل قوله سبحانه : « ولا تَقرَبوا مالَ اليَتِيمِ »(1) « ولا تَقرَبوا الزّنا » (2) وما اشبه ، فهو من باب المبالغة في التحذّر عن الاشاعة ، كالتحذّر عن مال اليتيم والزنا .

( و ) يؤيده أيضا ( قوله تعالى : « إن تُبدُوا ما فِي أنفُسِكُم ) أي تظهروه بان تعملوا به ( أو تُخفُوهُ ) بان لم تعملوا به ، سواء في الخير او الشر ، مثل قصد بناء المسجد او المخمر ، بدون اخراجهما الى عالم الوجود او مع اخراجهما الى عالم الوجود ( يُحاسِبكُم بهِ اللّه » (3) ) اي بكل من الابداء والاخفاء ، ورجوع الضمير « به » باعتبار كل واحد منهما مثل : « انظُر إلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يَتَسَنَّه » (4) أي كل واحد منها ، والاّ لزم القول : « لم يتسنّهما » .

وعلى ايّ حال : فالآية تدل على ان القصد بدون المظهر يوجب الحساب ، وهو من مسألة التجرّي وكان هذا مؤيّدا لا دليلاً ، لانه لم يقل : انه حرام او فيه عقاب ، فهو من قبيل : « في حَلالِها حِسابٌ » (5) ولكن لما كان نفس الحساب صعبا كان من المؤيدات .

( و ) يؤيده ايضا ( ماورد : مِن إنّ مَن رَضِيَ بِفِعلٍ ) خيراً او شراً ( فَقَد لَزِمَهُ )

ص: 110


1- - سورة الأنعام : الآية 152 .
2- - سورة الاسراء : الآية 32 .
3- - سورة البقرة : الآية 284 .
4- - سورة البقرة : الآية 259 .
5- - الكافي أصول : ج2 ص459 ح23 ، كفاية الأثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ح6 .

وَإن لَم يَفعَل » .

وما ورد في تفسير قوله تعالى : « فَلِمَ قَتَلتُموهُمْ إن كُنتُم صادِقين » من أنَّ نسبة القتل الى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين بكثير ، رضاهم بقتلهم .

ويؤيّده قوله تعالى : « تِلكَ الدارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلذينَ لا يُريدونَ

-----------------

ذلك الفعل ( وإن لَم يَفعَل ) (1) ومعنى لزمه، اي كأنه عمله، وقد عرفت وجه التأييد .

( و ) يؤيده ايضا ( ماورد في تفسير قوله تعالى ) في سورة آل عمران بأن يارسول اللّه ، قل لهولاء اليهود المدّعين للايمان : « قَد جائَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالبَيِّناتِ وبِالَّذي قُلْتُم » وطلبتم منهم ، لكنكم بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بهم ( « فلم قتلتموهم ) اي قتلتم اولئك الانبياء ( إن كُنتُم صادِقِينَ » ) (2) في ادعائكم بأنكم اذا علمتم نبوّتي تؤمنون بي ؟ .

وجه التأييد : (من ) جهة ( أن ) توجيه ( نسبة القتل الى المخاطبين ) في زمان النبي صلى الله عليه و آله وسلم ( مع تأخرهم عن القاتلين ب) زمان ( كثير ، رضاهم) اي رضا هؤلاء (بقتلهم ) اليهود اي مقتل آبائهم لاولئك الانبياء مما ينتج: ان الرضا من هؤلاء الاحفاد بفعل اجدادهم اشركهم في نسبة القتل اليهم ، لكن قد عرفت : ان هذا ليس بدليل ، لأنّ الرضا شيء ، والقصد شيء آخر ، فأحدهما لا يكون دليلاً على الآخر بعدم الملازمة .

( و يؤيده ) ايضا ( قوله تعالى : « تِلكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجعَلَها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ

ص: 111


1- - تفسير القمي : ج1 ص157 في تفسير سورة النساء .
2- - سورة آل عمران : الآية 183 .

عُلوّافي الارض ولا فَسادا » .

ويمكن حملُ الأخبار الأول

-----------------

عُلُوّافي الارض و لا فساداً » (1) ) حيث جعلت الآية ارادة العلو بالباطل والفساد سبباً للحرمان من الدار الاخرة ، لكن لاتكون هذه الآية دليلاً أيضا لاحتمال ارادة : «نفس العلو والفساد » لامجرد الارادة ، مثل قوله سبحانه : « انَّما يُريدُ اللّه ُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُم تَطْهيرا » (2) .

حيث المراد بالارادة : نفس الاذهاب ، والمراد بالاذهاب : « عدم جعل الرّجس فيهم » لا انه كان فاذهبه اللّه ، فهو من باب الدفع لا الرفع .

قال الادباء : قد تكون الارادة بمعنى : « الفعل » - كما في الآيتين - وقد يكون « الفعل » بمعنى الارادة ، كما في قوله تعالى : « وَإذا قُمتُم إلى الصّلاةِ ... » (3) اي اردتم القيام ، وفي آية التطهير وآية القيام بحث طويل لايليق بالشرح .

( ويمكن حمل الاخبار الأول ) الدالة على العفو مثل : مارواه جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام انه قال : « إذا هَمَّ العَبدُ بالسيئةِ ، لَم تُكتَب عَلَيهِ » (4) .

وما رواه زرارة عن احدهما عليهم السلام قال : « ان اللّه تعالى جَعَلَ لآدمَ فِي ذُريَّتِه : إنّ مَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ ولَم يَعمَلها كُتِبَ لَهُ مِثلُها ، وَمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ وعَملَها كُتِبَت لَه بها عَشَرَة ، وَمَن هَمَّ بسَيّئَةٍ ولم يعملها لَم تُكتَب عَلَيه ، وَمَن هَمَّ بها وَعَمَلَها كُتِبَت عَلَيه سَيّئَة » (5) .

وروي عن الباقر عليه السلام انه قال : « لَو كانَت النيات مِن أهل الفُسق يُؤخَذ بِها

ص: 112


1- - سورة القصص : الآية 83 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - سورة المائدة : الآية 6 .
4- - وسائل الشيعة : ج1 ص52 ب6 ح102 ، الزهد : ص27 باب التوبة والاستغفار .
5- - الكافي اصول : ج2 ص428 ح1 .

على مَن ارتدع عن قصده بنفسه ، وحملُ الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره .

او يحمل الأول على من اكتفى بمجرّد القصد ، والثانيةُ على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدِّمات ، كما يشهد له حرمةُ الاعانة على المحرّم ، حيث عمّمه

-----------------

أهلها ، إذن لاخذ كُلّ مَن نَوى الزِّنا بالزِّنا ، وكُل مَن نَوى السَرِقَةَ بالسَرِقَة ، وَكُلّ مَن نَوى القَتلَ بالقَتلِ ، وَلكنَّ اللّه َ عَدلٌ كَريمٌ لَيسَ الجَورُ مِن شَأنهِ ، وَلكنَّهُ يُثيبُ عَلى نيّات الخَيرِ أهلها واضمارهم عليها ولا يؤاخِذُ أهل الفُسق حَتّى يَفعَلوا » (1) وغيرها ، حملها ( على من ارتدع عن قصده بنفسه ، وحمل الاخبار الاخيرة ) الدالة على حصول المعصية بقصد المعصية ( على من بقي على قصده ) بالعصيان ( حتى عجز عن الفعل لا باختياره ) .

لكن لايخفى : ان هذا الجمع تبرعي ، لانه لاشاهد في آية من الطائفتين عليه .

نعم ، هو اولى من التضارب بين الطائفتين ( أو ) يجمع بين الطائفتين ، بوجه ثانٍ وهو : ان ( يحمل الاول ) الدال على العفو ، ( على من اكتفى بمجرد القصد ) دون ان يأتي بشيء آخر ( والثانية ) الدالّة على العقاب ، ( على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات ) فاذا أحدّ القاصد سيفه للقتل كان معاقبا وان لم يقتل ، اما اذا قصد القتل فقط ، ولم يفعل شيئا لم يعاقب عليه .

( كما يشهد له ) اي لهذا الجمع ( حرمة الاعانة على المحرم ) مع ان المعين غالبا لايفعل محرم ، كما لو علّق السوط بين يدي الجائر ، او أتى باحجار المخمر ليبني مخمرا ، او مااشبه ذلك ( حيث عممه ) أي عمم معنى الاعانة على الاثم

ص: 113


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص55 ب6 ح113 .

بعض الأساطين لاعانة نفسه على الحرام ، ولعلّه لتنقيح المناط ، لا للدلالة اللفظيّة .

-----------------

(بعض الاساطين ) وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره ( لاعانة نفسه على الحرام) فالمحرم : اعانة الغير وكذا اعانة النفس على المقدمات ، لان الادلة عامة والملاك واحد ، فاذا عصر الخمر ليشربها بنفسه ، كان العصر من الاعانة على الاثم ، وهكذا اذا أكل ما يتقوّى به على الزنا الى غير ذلك .

( ولعله ) اي وجه تعميمه ( لتنقيح المناط ) حيث الاعانة ، اعانة سواء للنفس او للغير ( لا للدلالة اللفظية ) في آية او رواية ، وذلك لان المتبادر من الاعانة : اعانة الغير كما في الآية الكريمة : « وتَعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعاوَنوا عَلى الاثْمِ وَالعُدوان » (1) بباب التفاعل الدالّ على وجود الاثنين او اكثر .

والبرّ : عمل الانسان المتعدي كبناء المسجد .

والتقوى : عمله غير المتعدي كصلاته وصومه .

والاثم : غير المتعدي كشربه الخمر .

والعدوان : ما يتعدّى الى الغير كقتله الناس .

لكن لايخفى : ان هذا الجمع ايضا اقرب الى التبرع .

وربما كان هناك جمع ثالث وهو : ان ما كان من شأن القلب يكون معاقبا به ومثابا عليه اذا كان من الدّين ، ولذا ورد : ان الرضا بعقر ناقة صالح سبّب هلاك الراضين به ، وجاء في زيارة الامام الحسين عليه السلام : « وَلَعن اللّه أُمّةً سَمِعَت بِذلِكَ فَرَضِيَت بِه » (2) وهكذا امثال ذلك .

اما اذا لم يكن من اصول الدّين ، لم يكن معاقبا الا على عمل المعصية ، وهذا

ص: 114


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - مفاتيح الجنان : ص566 .

ثم انّ التجرّي على أقسام يجمعها عدمُ المبالاة بالمعصية أو قلّتها .

أحدُها مجرّدُ القصد إلى المعصية ، والثاني القصدُ مع الاشتغال بمقدّماته ،

-----------------

وان كان بحاجة الى توجيه لكن لعله أوفق بروايات نفي الاثم ، بل لعله هو المركوز في اذهان المتشرعة .

( ثم ان التجري على ) ستة ( اقسام : يجمعها عدم المبالاة بالمعصية ) فعلاً : كعدم المبالاة بشرب الخمر . او تركا : كعدم المبالاة بترك الصلاة .

( او قلتها ) اي قلّة المبالاة بالمعصية .

والاقسام خمسة ، الاول : من عدم المبالاة ، والقسم السادس : من قلّة المبالاة .

ثم ان القلّة قد تكون من حيث الكم ، وقد تكون من حيث الكيف ، وعلى اي حال : فهي قلة .

( احدها : مجرد القصد الى المعصية ) قصدا جادّا لا الخلجان في الذهن بانه هل يعصي اولا ؟ وهذا تجرٍّ قلبي ، لان التجري يطلق على القلب وعلى الجوارح ، اذا إقترن العمل الجوارحي بقصد العصيان ونيته .

( والثاني : القصد مع الاشتغال بمقدماته ) من غير فرق بين المقدمات القريبة او البعيدة ، كمن يقصد قتل مؤمن مثلاً ، فيبدأ في الصداقة معه ، حتى اذا وجد فرصة مناسبة قتله ، فان الصداقة من المقدمات البعيدة ، اما مثل حمل السلاح والذهاب الى داره لقتله ، فهي من المقدمات القريبة .

كما انه لافرق في ان مانواه كان معصية واقعا ، كما اذا اراد قتل مؤمن ، او معصية وهمية كما اذا اراد قتل زيد زاعما انه مؤمن وهو ليس بمؤمن واقعا ، بل كافر محارب .

ص: 115

والثالثُ القصدُ مع التلبّس بما يعتقد كونه معصيةً ، والرابعُ التّلبّس بما يحتمل كونه معصيةً رجاءً لتحقق المعصية ، والخامسُ التّلبّس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام ، والسادسُ التلبّس برجاءِ أن لا يكون معصية وخوفَ كونها معصيةً .

-----------------

( والثالث : القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية ) من غير فرق بين كون اعتقاده عن علم ، او عن ظن معتبر ، كشهادة البيّنة ، وذلك كشرب ما يعتقد انه خمر مع انه ليس بخمر في الواقع .

( والرابع : التلبس بما يحتمل كونه معصية ) احتمالاً مظنونا أو مشكوكا أو موهوما ( رجاءا لتحقق المعصية ) لكن ذلك فيما اذا كان اللازم عليه عقلاً او شرعا الاجتناب عنه كما اذا كان هناك اناءان ، يتردد الخمرية بين احدهما : الاناء الابيض مظنون الخمرية والاحمر موهومه ، وكلاهما متساويان في الاحتمال فيشرب أحدهما فقط ، فانه أن شرب الاحمر كان موهوم الخمرية ، وأن شرب الابيض كان مظنون الخمرية .

هذا فيما اذا كان هناك ظن ووهم ، واما اذا كان شك فيكون شرب اي منهما مشكوكا ، والعلم الاجمالي منجّز ، من غير فرق بين ان يكون علما او ما يقوم مقامه ، كما اذا قامت البيّنة على أنّ احدهما خمر .

( والخامس : التلبس به ) اي بما ذكر في الرابع ( لعدم المبالاة بمصادفة الحرام ) وهذا أخف من الرابع ، كمن شرب احد الانائين من دون رجاء او خوف .

( والسادس : التلبس ) به اي بما ذكر في الرابع ( برجاء ان لايكون معصية ، وخوف كونها معصية ) كشرب أحد الانائين برجاء ان يكون ماءا ، وكوطي احد المرأتين برجاء كونها زوجته فيما اذا اشتبه هل هند زوجته او دعد ؟ .

ص: 116

ويشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الأخيرة عدمُ كون الجهل عذرا عقليّا او شرعيّا ، كما في الشبهة المحصورة الوجوبيّة

-----------------

هذا ، ويمكن ان يعدّ من التجرّي سابع : وهو ارائة مقدمات المعصية بدون قصدها ، كمن يذهب وراء غلام موهما له انه يريد الفاحشة ، ولكن لايقصد ذلك ، انما قصده في نفسه مجرد الارائة .

وثامن : ارائة مستتبعات المعصية من دون ان يكون قد ارتكبها ، كمن يتصرّف كما يتصرّف الخمارون ، يريد ارائة انه شرب الخمر من دون ان يكون قد شربها .

وتاسع : ان يتظاهر بما يزعم الناس انه عصيان ، وهو يعلم انه ليس بعصيان كمن يملأ قنينة الخمر ماءا ثم يشربها ، مما يتوهم للناس انه خمر وليس بخمر .

وعاشر : ترك مايزعم الناس انه ترك واجب ، كمن يزعمه الناس انه مستطيع ، لكنه لايحج لعدم كونه مستطيعا واقعا وان كان يريهم نفسه انه غير مبال للحج ، او تترك المرأة الحائض الصوم حيث يزعم الناس انها طاهرة ، تريهم بالترك انها غير مبالية بالصوم ، الى غير ذلك من الأمثلة .

ومما تقدّم يعلم : انه من التجري فعل المقدمات بدون القصد وهو يُوهم للناس انه قاصد ، كمن يجعل أمامه إناء خمر بحيث يزعم الناس انه يريد شربها ، او ترك أمامه ولده الجميل حيث لايعلم الناس انه ولده ، فيزعمون انه يريد به الفاحشة .

( و ) كيف كان : ف( يشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الاخيرة ) من الستة التي ذكرها المصنّف قدس سره ( عدم كون الجهل عذرا عقليا او شرعيا ) بحيث يباح له الفعل فانه اذا كان جهله عذرا ، لم يكن من التجرّي ( كما في الشبهة المحصورة الوجوبية ) بأن يشك في ان أيّ ثوبيه نجس ، فان الواجب عليه : ان يصلي صلاتين

ص: 117

او التحريميّة ،

-----------------

في هذا وفي ذاك ، فاذا ترك احدهما كان من التجرّي في الشبهة الوجوبية .

( او التحريمية ) كأن يشك في ان هذا الاناء خمر أو ذاك الاناء ؟ فيشرب احدهما فانه يتحقق بذلك التجرّي .

وهناك قسم ثالث ، وهو الشك بين الوجوب في هذا والتحريم في ذلك فيترك الاول او يأتي بالثاني ، كما اذا شك في انه هل نذر ان يشرب الشاي ، او نذر ان يترك الدخان في يوم الجمعة ؟ فانّ الواجب عليه ان يشرب الشاي ويترك الدخان، فاذا لم يشرب الشاي او دخن فانه من التجرّي .

ثم لايخفى : ان العذر كلّما كان عقليا كان شرعيا ايضا ، لوضوح ان الشارع لايحكم بخلاف العقل ، لكن ليس كلّما يكون شرعيا يكون عقليا .

فالعذر العقلي يكون شرعيا ايضا كما اذا اضطر الى شرب احد الانائين بعد العلم الاجمالي بان احدهما خمر ، فانه معذور عقلاً في شرب احدهما والشارع ايضا يعذره ، قال سبحانه : « إلاّ ما اضطُرِرتُم إلَيهِ » (1) وقال عليه السلام : « ليس شَيءٍ ممّا حَرَّمَ اللّه ُ ، إلاّ وَقَد أحَلَّهُ لِمن اضطرَّ إليه » (2) .

والعذر الشرعي بدون ان يكون عذرا عقليا : كما اذا اضطر الى احد الانائين قبل العلم الاجمالي بكون احدهما خمرا ، فجمع من الاصوليّين ذهبوا الى جواز ارتكاب غير المضطر اليه ايضا لعدم تنجز العلم الاجمالي ، كما اذا كان احد الانائين احمر والاخر ابيض ، واضطر الى الابيض ثم علم بان احدهما خمر ، فان العذر العقلي في شرب الابيض للاضطرار ، اما شرب الاحمر فلا اضطرار ، لكنهم

ص: 118


1- - سورة الانعام : الآية 119 .
2- - وسائل الشيعة : ج4 ص373 ب12 ح5428 ، نوادر القمي : ص75 باب كفارة على المحرم .

والاّ لم يتحقق احتمالُ المعصية وان تحقق احتمالُ المخالفة للحكم الواقعيّ ، كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها .

ثم إنّ الأقسام الستّة كلّها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة

-----------------

اجازوا شربه ايضا ، لانه لم ينجز العمل في حقه .

( والاّ ) بان كان الجهل عذرا ( لم يتحقق ) التجري اصلاً لعدم ( احتمال المعصية ) في الارتكاب ( وان تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي ) فان الانسان مكلف بما امره الشارع ، لا بأن لايخالف الواقع .

( كما في ) الموارد التي لا علم اجمالي منجز له ، ولا استصحاب للتكليف ، ولا يكون من موارد وجوب الفحص ، مثل : ( موارد اصالة البرائة ) : كالشك في حرمة التتن ، حيث تجري اصالة البرائة عن الحرمة ، او الشك في وجوب الجمعة في عصر الغيبة ، حيث تجري أصالة البرائة عن الوجوب شرعا وعقلاً - كما يأتي في بحث البرائة انشاء اللّه تعالى .

( واستصحابها ) أي استصحاب البرائة ، سواء كان الاستصحاب في الموضوع كاستصحاب كونه خلاً بعد ان شك في انه هل تحول الى الخمر أم لا ؟ او الاستصحاب في الحكم ، كما لو شك في انه هل حرمت المتعة بعد ان كانت حلالاً - كما يدعيه العامة - ام لا ؟ .

( ثم ان الاقسام الستة ) المتقدمة للتجرّي ( كلها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة ) من العقل ، والعقلاء ، والشارع .

لايقال : ان الشيء عند الشارع اما حلال فلا يذم عليه ، او حرام فيعاقب عليه ، اما الحلال ذو الذم فلا وجود له عنده .

ص: 119

من حيث خبث ذاته وجرأته وسوء سريرته ، وإنّما الكلامُ في تحقّق العصيان بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي .

-----------------

لانه يقال : يثبت ذلك بقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل في سلسلة العلل ، والمقام منها .

مضافاً الى ان ادلة التجرّي المتقدمة ، تصلح للدلالة على ذلك بعد دفع الحرمة والعقاب بأدلة عدم الحرمة .

بالاضافة الى وجود بعض الروايات المؤدة مثل : ما رواه عبد اللّه بن موسى بن جعفر عن ابيه عليه السلام قال : « سَألتُهُ عَن المَلَكَين هَل يَعلَمان بالذّنب إذا أرادَ العَبدُ أن يَفعَلَهُ أو الحَسَنَة ؟ .

فقال عليه السلام : ريحُ الكَنيفِ وَرِيحُ الطَيّبِ سَواء ؟ .

قلت : لا .

قال : إنّ العَبدَ إذا هَمَّ بالحَسَنَةِ خَرَجَ نَفَسهُ طَيِّبَ الريح ، فَقالَ ، صاحِبُ اليَمينِ لِصاحِبِ الشمالِ : قُم فانَّهُ قَد هَمَّ بالحَسَنَةِ ، فاذا فَعَلَها كان لِسانُه قَلمَهُ وَريقُهُ مِدادَهُ فاثبتَها له وإذا هَمَّ بالسَيئةِ خَرَجَ نَفَسُهُ مُنتَن الريح ، فَيَقولُ صاحِبُ الشِمالِ لِصاحِب اليَمينِ : قِف فانَّهُ قَد هَمَّ بالسَيّئَةِ ، فاذا فَعَلَها كان لِسانُهُ قَلَمَهُ وَريقُه مِداده واثبَتَها عَلَيه » (1) .

وقد تقدّم : ان الاستحقاق بالتجرّي ( من حيث خبث ذاته ، وجرأته ، وسوء سريرته ) اي قصده والاّ فالذات بما هي ذات لاتستحق مدحاً ولا قدحاً ( وانّما الكلام ) في التجرّي ( في تحقق العصيان ) والعقاب ( بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي ) مما هو حلال ذاتاً ، وانما توهمه المتجري حراماً كشرب الماء فيمن

ص: 120


1- - الكافي اُصول : ج2 ص429 ح3 .

وعليك بالتأمّل في كلّ من الأقسام .

قال الشهيد قدس سره ، في القواعد : « لايؤثّر نيّةُ المعصية عقابا ولا ذمّا مالم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفوُ عنه .

ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافُها ،

-----------------

زعم انه خمر .

( وعليك بالتأمل في كل من الاقسام ) التي ذكرها المصنّف وذكرناها ، لعلّك تجد دليلاً جديدا في كلها او بعضها يفيد الحرمة صريحاً ، او الحليّة صريحاً .

ولا يخفى : ان التجرّي سواء كان حراماً او مذموماً ، بعضه اكثر حرمة ومذمة من بعض ، حسب ادلة تلك المحرمات ، فالتجرّي الى الزنا اشد من التجرّي الى اللمس ، كما اذا فعلهما بمن زعم حرمتها فبانت انها زوجته ، الى غير ذلك .

وفي نهاية هذا البحث ننقل كلام الشهيد الاول قدس سره ، للدلالة على انه أيضا ممن يقول بعدم حرمة التجرّي ، ويؤد ما اختاره المصنّف ( قال الشهيد قدس سره في القواعد) « والسر » : الروح لانه مستور في البدن ، ومعنى قدس سره : ان يكون هناك في روح وراحة لانه حينئذٍ منزه عن العذاب والشدّة ويحتمل معنى آخر لايهم الكلام فيه ( : لا يؤر نية المعصية عقاباً ولا ذماً ) .

اقول : قد تقدّم وجود الذم عقلاً وشرعاً ، فان من ينوي ان يسرق مال صديقه ، اذا انكشفت نيته للناس ذموه على هذه النيّة بلا اشكال ( ما لم يتلبس بها ) اي بالمعصية ( وهو ) اي قصد العصيان ( مما ثبت في الاخبار العفو عنه ) وهو دليل على قبحه ، اذ غير القبيح لامعنى للعفو عنه .

( ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه معصية ، فظهر خلافها ) و « ظهر » هنا من باب عالم الاثبات ، والا فالمعيار هو عالم الثبوت ، فالمراد : هو ان ما زعمه عصياناً

ص: 121

ففي تأثير هذه النيّة نظرٌ ، من أنّها لمّا لم تصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة وهي غيرُ مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي » .

وقد ذكر بعضُ الأصحاب أنّه لو شرب المباحَ تشبيها بشرب المسكر فعل حراما ،

-----------------

لم يكن بعصيان - في متن الواقع - ( ففي تأثير هذه النية ) في الحرمة والعقاب ( نظر ) لوجود احتمالين :

( من انها لمّا لم تصادف المعصية ، صارت كنية مجردة ) عن العمل ( وهي غير) محرمة ولا ( مؤخذ بها ) حسب ما عرفت .

( ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي ) فهي محرمة ومعاقب عليها .

لكن لا يخفى : ان الجرئة بما هي جرئة تكون محرمة ، هو اول الكلام ، اما انتهاك الحرمة ، فالعقل والشرع متطابقان على حرمته ، فقد قال صلى الله عليه و آله وسلم : « حُرمَتِهِ

مَيتاً كَحُرمَتِهِ حَيّاً » (1) .

( وقد ذكر بعض الأصحاب : انه لو شرب ) شخص ( المباح ) المسلّم اباحته ، مع علمه بانه مباح ، ولكن ( تشبيهاً بشرب المسكر ) كما اذا كان في القنينة الخاصة بالخمر ، وبعد الشرب تظاهر بالسكر ، فقد ( فعل حراماً ) وكأنه لما ورد : من ان مَن تشبّه بقوم فهو منهم ، وهو مشمول أيضا لقوله تعالى كما في الحديث القدسي:

ص: 122


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص419 ب21 ح43 ، من لايحضره الفقيه : ج4 ص297 ب178 ح7 ، وسائل الشيعة : ج29 ص327 ب24 ح35701 ، غوالي اللئالي : ج2 ص367 وفيه عن الصادق ع .

ولعله ليس لمجرّد النيّة ، بل بانضمام فعل الجوارح .

ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد امرأةً في منزل غيره ، فظنّها أجنبيّةً فأصابها ،

-----------------

« لا تَسلِكُوا مَسالِك أعدائي » (1) .

والحاصل : انه اذا كان مثل هذا العمل حراماً ، فالتلبس بما يراه حراماً حرام بطريق اولى لكن ، لايخفى : ان في المقام امرين :

الاول : هل سلوك مسالك الاعداء حرام ؟ اختلفوا فيه .

الثاني : هل انه اذا فعل التشبه في دار خالية بما لايراه احد حرام ؟ - مع فرض حرمة سلوك مسالك الاعداء - محل مناقشة أيضا ، كالكذب على الناس ، وغيبتهم، والتقليد عليهم ، في محل خال لايراه احد .

نعم ، لا اشكال في حرمة ذلك بالنسبة الى اللّه سبحانه او الرسول او الائمة عليهم السلام كما ذكرناه في كتاب الصوم .

( ولعله ) اي لعل تحريم التشبّه ( ليس لمجرد النية ) فقد تقدّم : ان نية الحرام ليست محرمة فكيف بنية ما ليس بحرام ؟ وانما حرمته - لو قيل بالحرمة - لنفس التشبه ( بل بانضمام فعل الجوارح ) بما يكون تشبهاً خارجياً ( ويتصور محل النظر ) في الحرمة وعدمها ( في صور ) كثيرة ، ذكر منها الشهيد بعضها ، من باب المثال ، لا من باب الاستيعاب .

( منها : لو وجد امرأة في منزل غيره ، فظنها اجنبية فأصابها ) بالوطي ، واللمس ،

ص: 123


1- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص252 ح770 ، علل الشرائع : ص348 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص23 .

فبان أنّها زوجتُه او أمته .

ومنها : لو وطى ء زوجته بظنّ أنّها حائض فبانت طاهرة .

ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه .

ومنها : لو ذبح شاةً بظنّ انها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه .

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة .

-----------------

او مااشبه ، مما يحرم لغير الزوج ( فبان انها زوجته او امته ) وقد تقدّم ان الظهور من باب عالم الاثبات والا فالمعيار الزوجية واقعاً ، وكذلك حال العكس بان ظنت الزوجة انه رجل اجنبي ، وكان في الواقع زوجها .

( ومنها : مالو وطيء زوجته بظن انها حائض ) او نفساء او في عدة الغير بعدّة وطي الشبهة - مثلاً - ، او في حال الصيام الواجب ، او الاحرام ، اما اشبه ذلك (فبانت طاهرة ) او ليست في عدة الغير ، او ليست في حال صيام او احرام ، وكذلك المرأة اذا قدمت نفسها موطوئة للزوج في حال تزعم انها كذلك لكن تبين لها انها لم تكن فيحال حرمة وطيها .

( ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره ) او في دار غيره ، او بزعم انه حرام لانه ميتة او لحم خنزير ، او مااشبه ، ( فاكله ، فتبين انه ملكه ) او مباح له ، او انه لحم حلال مذكيّ .

( ومنها : لو ذبح شاة بظن انها للغير بقصد العدوان ) أي كان الذبح عدواناً ( فظهرت ملكه ) في زعمه او لا صاحب لها ، او مباحة له .

( ومنها : ما اذا قتل نفساً بظن انها معصومة ) اي محقونة الدم ( فبانت مهدورة ) بما يبيح له القتل ، لا ما اذا كانت مهدورة في نفسها بدون الاباحة له ، لان هدر الدم لانسان لا يلازم هدره لكل انسان .

ص: 124

وقد قال بعضُ العامّة : « يحكم بفسق المتعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الاخرة مالم يتب عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة » .

« وكلاهما تحكّمٌ وتخرصٌ

-----------------

فهذه امثلة للعرض ، والدم ، والمال ، كما ان هناك امثلة اخرى : مثلما اذا لم تصلّ ، او لم تصم ، او لم تحج ، زاعمة طهارة نفسها ، او استطاعتها ، بينما كانت حائضاً ، او غير مستطيعة .

( وقد قال بعض العامة : يحكم بفسق المتعاطي ) اي المرتكب ( ذلك ) اي كل واحد من هذه التجرّيات ( لدلالته ) اي دلالة التعاطي ( على عدم المبالاة بالمعاصي ) وعدم المبالاة يوجب الفسق ، لانه خارج عن طريق الاطاعة والعبودية ، وحيث كان فاسقاً لايكون اماماً ، ولا شاهداً ولا مرجع تقليد ، الى غير ذلك .

( ويعاقب ) هذا المتعاطي ( في الآخرة ) وكان ينبغي له ان يضيف : الحد ، والتعزير أيضا في الدنيا ( ما لم يتب ، عقاباً متوسطاً بين الصغيرة ) لان هذه الامور ليست بصغر الصغائر ( والكبيرة ) اي ليست بكبر الكبائر ، اما كونها فوق الصغار : فلانها في حدود المحرمات الكبيرة ، كالزنا ، والقتل ، واكل اموال الناس بالباطل ، واما كونها دون الكبائر : فلأنها لم تصادف الواقع حتى تكون من الكبائر .

( و ) قد اجاب الشهيد قدس سره عن قول بعض العامة ، هذا : بان الحكمين بالفسق والعقاب : ( كلاهما تحكم ) اي حكماً بغير دليل ، اذ من اين الفسق والعقاب ولا دليل شرعي على اي منهما ( وتخرّص ) اي تخمين بغير علم

ص: 125

على الغيب » ، انتهى .

التنبيه الثاني : حجّية القطع مطلقا

الثاني: إنّك قد عرفت أنّه لافرق فيما يكون العلمُ فيه كاشفا محضا بين أسباب العلم .

ويُنسَبُ إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين عدمُ الاعتماد

-----------------

(على الغيب) (1) اي ما غاب عن الحواس فلا دليل شرعي ولا دليل حسي عليهما .

وينبغي ان يضاف على الاشكالين : انه من اين كون العقاب متوسطاً ؟ لانه ان كان حراماً كان عقابه كسائر المحرمات ، والا لم يكن له عقاب ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

حجيّة القطع مطلقا التنبيه ( الثاني ) في حجية القطع مطلقاً ف( انك قد عرفت ) في اول البحث ، في ( انه لافرق فيما يكون العلم فيه كاشفاً محضاً ) بأن كان القطع طريقياً ، لاموضوعياً ، اذ القطع الموضوعي تابع لجعل الجاعل ، في انه هل يجعله موضوعاً مطلقاً او موضوعاً في الجملة ؟ .

لكن الطريق لافرق فيه ( بين اسباب العلم ) وانه حصل من الادلة الأربعة او من غيرها ، بل ربما يحصل العلم من المنام ، كما كان ذلك من أسباب علم الأنبياء عليهم السلام في قصص معروفة .

( وينسب الى غير واحد ) أي جماعة ( من اصحابنا الاخباريين عدم الاعتماد )

ص: 126


1- - القواعد : ج1 ص107 .

على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة القطعيّة الغير الضروريّة ، لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها ، فلا يمكن الركونُ إلى شيء منها .

-----------------

والحجية ( على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية ) .

اما اذا لم تكن تلك المقدمات قطعية فواضح عدم الحجية فيها ( غير الضرورية ) فان مايحصل من الضرورة قطعي ، مثل : اصول الدّين وفروعه ، كحسن الاحسان وقبح الظلم وما اشبه .

اما غير الضرورية فلا حجية لها مثل حكمة : بان المشروط عدم عند عدم شرطه .

وحكمة : بان الاصل في الاشياء الاباحة .

وحكمة : بوجوب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي .

وحكمة : بان الامر بالشيء ينهي او لا ينهي عن ضده .

وحكمة : بتقديم التقييد على التخصيص ، وغير ذلك .

وانما قالوا بعدم حجية مثل هذا القطع ( لكثرة وقوع الاشتباه ) فيه ، بان يشتبه هذا بذاك ، كاشتباه زيد بعمرو ( والغلط ) بان يتصور مكان الشيء عدمه او بالعكس ، وهو غير الغلط كالتصور ان النّار كامن في الحجر كموناً فعلياً ، ككمون النار في داخل الكرة الارضية ، ( فيها ) اي في المقدمات .

كما انه قد يقع الاشتباه والغلط في تطبيق الكبريات الكلية - وان كانت المقدمات صحيحة - على الصغريات الجزئية كاختلاف الاخباريين في انه هل يسهو النبي صلى الله عليه و آله وسلم لروايات الاسهاء ، وانه لطف على الامة ، او لا ، لانه نقص يتنزه النبي صلى الله عليه و آله وسلم عن مثله ؟ ( فلا يمكن الركون ) والاعتماد ، ( الى شيء منها ) اي من تلك المقدمات .

ص: 127

فان أرادوا عدمَ جواز الركون بعد حصول القطع ، فلا يُعقَلُ ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف ، ولو أمكن الحكمُ بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة طابَقَ النّعلُ بالنّعل .

وإن أرادوا عدمَ جواز الخوض في المطالب العقليّة لتحصيل المطالب

-----------------

ونحن نسأل عن مرادهم ما هو ؟ ( فان ارادوا عدم جواز الركون ) ؟ الى تلك المقدمات ( بعد حصول القطع ) منها .

( ف- ) فيه اولاً : حلاً :انه ( لايعقل ذلك ) اي عدم جواز الركون ( في مقام ) ما ثبت سابقاً من ( اعتبار العلم من حيث الكشف ) عن الواقع ، فهل يصح ان يقال لمن يرى النهار بعينه لاتعتمد على ماترى فانه اشتباه ؟ والقطع يجعل المقطوع به ، كالنهار في الوضوح .

( و ) ثانياً : نقضاً : بانه ( لو امكن الحكم بعدم اعتباره ) اي القطع الحاصل من المقدمات العقلية ( لجرى مثله ) في عدم الاعتبار ( في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية ) أيضا ، فكما لايصح الاعتماد على « العالم حادث » المترتب على ، « العالم متغير ، وكل متغير حادث » كذلك لايصح الاعتماد على « هذا حرام» المترتب على « هذا خمر ، وكل خمر حرام » .

اذ اي فرق بين الدليلين العقلي والشرعي بعد اشتراكهما في احتمال الاشتباه والغلط ( طابق النعل بالنعل ) والقذة بالقذة ؟ .

فاذا لم تقولوا بذلك في المقدمات الشرعية ، فاللازم ان لاتقولوا به في المقدمات العقلية أيضا .

( وان ) لم يريدوا المعنى الاول من الكلام المتقدم ، بل ( ارادوا : عدم جواز الخوض ) والانغمار ، ( في المطالب العقلية لتحصيل المطالب

ص: 128

الشرعيّة ، لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلو سُلِّمَ بذلك واُغمِضَ عن المعارضة ، لكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة ، فله وجهٌ .

-----------------

الشرعية ) فذلك انما لم يجز ( لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ) فالقطع وان وجب العمل به عقلاً ، الا انه معاقب على مقدماته ، وذلك لانه يلزم على الشخص سلوك مقدمات عقلية حتى يحصل القطع منها ، واذا حصل القطع وعمل به فانه لايعاقب على عمله بالقطع وانما يعاقب على سلوك طريق العقل المنتهي الى القطع .

( فلو سلم بذلك ) اي سلّمنا عدم جواز سلوك طريق العقل ، فهنا جوابان :

أوّلاً : وهو جواب حلّي - لانسلم عدم جواز السلوك ، مع ان العقل حجة باطنة ، كما ورد في النص ، فايّ دليل يدل على عدم جواز سلوك طريقه ؟ .

لايقال : عدم الجواز لكثرة ما نرى من اشتباه الحكماء والفلاسفة مثل قولهم : بالعقول ، والحال ، وما ليس بموجود ولا بمعدوم ، والقدماء الخمسة ، وحتى في الطبيعيات ، مثل : كيفية الافلاك البطليموسية وما اشبه .

لانه يقال : - عند التحقيق - اشتبهوا في المقدمات ، فجعلوا الشعرية منها ، والخطابية ، والسفسطية ، بمنزلة البرهان ، فلم تكن تلك المقدمات البرهانية ، لا أن المقدمات اذا كانت برهانية ، ، لم يكن سلوكها مشروعاً .

( و ) ثانياً : - وهو جواب نقضي - ما ذكره بقوله : و ( أغمض ) النظر ( عن المعارضة ) اي نقض ما ذكروه في الادلة العقلية ، ( لكثرة مايحصل من الخطأ في فهم المطالب من الادلة الشرعية ) وذلك لوضوح كثرة اختلاف الفقهاء ، كما لايخفى حتى على من راجع « العروة المحشّاة » ( فله ) اي لما ذكروه ( وجه )

ص: 129

وحينئذٍ : فلو خاض فيها وحصّل القطع بما لا يوافق الحكمَ الواقعيَّ لم يُعذَر في ذلك ، لتقصيره في مقدّمات التحصيل ، إلاّ أنّ الشأنَ في ثبوت كثرة

-----------------

اي بعد الجواب الحلّي ، الذي اشرنا اليه ب« لو سلّم » والنقضي المشار اليه ب- : « اُغمض » نقول :

لكلامهم وجه يمكن القول به ، حيث انه من الممكن : المنع عن الخوض في المسائل العقلية المرتبطة بالشرعيات ، اذ لادليل عليه ، بل الدليل على عدمه في بعضها ، كما ورد من النهي عن الخوض في ذات اللّه سبحانه ، وعن الخوض في مسائل القضاء والقدر ، الى غير ذلك .

( وحينئذٍ : فلو خاض فيها ، وحصل القطع بما لايوافق الحكم الواقعي ) المقرّر شرعاً ما كان معذوراً - سواء طابق الواقع او كان تكليفه الظاهري ذلك - فانه ليس المراد من الحكم الواقعي الاّ الاعم من الواقع والظاهر ، لا الواقع في قبال الظاهر .

نعم ، ربما يقال : انه اذا كان تكليفه الظاهري لم ينفع العمل بالظاهري بدون الاستناد ، اذ يقال له : لماذا عملت بهذا العمل المخالف للواقع ؟ ولا عذر له في الجواب ، بينما اذا استند حصل له العذر .

ولعل المصنّف عني ذلك من قوله : ( لم يعذر في ذلك ) العمل المخالف للواقع ( لتقصيره في مقدمات التحصيل ) فاذا استند الى مقدمات عقلية في الاكتفاء بصلاة الجمعة يومها ، وكان الواجب الظهر في عصر الغيبة ، لم يعذر في ترك الظهر ، اما اذا استند في وجوب الجمعة بالادلة الشرعية عذر يوم القيامة ، لانه سلك الطريق الذي جعله المولى .

( الاّ ان الشأن ) اي الكلام ( في ) صحة ما ذكره الاخباريون من ( ثبوت كثرة

ص: 130

الخطأ أزيدُ ممّا يقع في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة .

-----------------

الخطأ ) في الادلة العقلية وانه ( ازيد مما يقع ) من الخطأ ( في فهم المطالب من الادلة الشرعية ) ليس على ماينبغي ، اذ الخطأ في المطالب العقلية ليس بأكثر من الخطأ في المطالب الشرعية ، وعليه : فما هو الملاك الفارق بين الامرين ؟ .

ثم هنا مطلبان ، تحسن الاشارة اليهما :

الاول : ان الاصوليين والفقهاء ذكروا من جملة الادلة الاربعة : العقل ، فاين حكم العقل في الاحكام الشرعية ، مع انا نرى ان الاحكام الشرعية كلها مستندة الى الكتاب والسنة ، ونادراً الى الاجماع ، وليس هناك حكم شرعي من الطهارة الى الديات مستنداً الى العقل ؟ .

والجواب : ان الحكم الشرعي المستند الى العقل فقط في الكبرى وان لم يوجد، الاّ ان التطبيقات الصغروية على الكبريات المستفادة من الكتاب والسنة - وهي بحكم العقل - خارجة عن حد الاحصاء .

هذا ، بالاضافة الى الكبريات الاصولية العقلية مثل : مقدمة الواجب ، وان الأمر ينهى عن ضدّه ، والمفهوم ، وغيرها مما يتنقح في الاصول ، ويُنتج في الفقه ، مضافاً الى الاعتضاد بالعقل في جملة من المسائل الفقهية ، ولذا يستدلون بالادلة الاربعة في كثير من المسائل الفقهية .

الثاني : انه لماذا اختلف الفقهاء ، مع انهم يأخذون من الادلة الاربعة ، وقد ذم الامام امير المؤنين عليه السلام اختلافهم في الفتيا ، كما في نهج البلاغة ؟ .

والجواب : ان الامام عليه السلام لم يذم اختلاف الفقهاء وانما اختلاف القضاة .

كما انه لم يذم اختلافهم بما هو ، بل بما انهم في عصر انفتاح العلم وامكان الوصول اليه عليه السلام .

ص: 131

وقد عثرتُ ، بعد ما ذكرت هذا ، على كلام يُحكى عن المحدّث الاستراباديّ في فوائده المدنيّة ، قال في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة بالسماع عن الصادقين ،

-----------------

مضافاً الى انه في الحقيقة ذم للتصويب حيث قال عليه السلام : « فيصوّب آرائهم جميعاً » (1) .

اما اصل الاختلاف : فهو ناش من اختلاف تلقي الاذهان النتائج من الكبريات غير البديهية ، على ما قرره سبحانه ، وهو من وسائل الامتحان ، هذا موجز الامر ، والتفصيل موكول الى المفصّلات .

( وقد عثرت ) واطلعت ( بعد ما ذكرت هذا ) الذي نسب الى الاخباريين ( على كلام يحكى عن المحدّث الاسترابادي في فوائده المدنية ) وهذا اسم كتاب الّفه وهو مطبوع ( قال في عداد ما ) ذكره من الادلة التي ( استدل به ) في ضمن ادلته ( على انحصار الدليل في غير الضروريات الدينية ) .

والضروريات : كوجوب الصلاة ، والصوم ، والحج ، وحرمة شرب الخمر ، والزنا ، واللواط ، والسرقة ، مما يعرفه كل مسلم بحيث لايحتاج في اثباته الى دليل ( بالسماع عن الصادقين ) المعصومين عليهم السلام .

ولا يخفى ان الاخباريين على اقسام ، والقسم الاخير الذي يطلق عليهم هذا اللفظ في قبال الاصولييّن ، هم الذين يحصرون الدليل في السنّة الواردة عن الائمة عليهم السلام فقط .

لا بالكتاب ، لأنه مجمل عندهم ، وظواهره ليست حجة الاّ بقدر ما ورد من تفسيرهم عليهم السلام له .

ص: 132


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص288 .

قال : « الدليلُ التاسعُ مبنيّ على مقدّمة دقيقة شريفة تفطنتُ لها بتوفيق اللّه تعالى .

وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان ، قسمٌ ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الاحساس ،

-----------------

ولا بأقوال الرسول صلى الله عليه و آله وسلم حاله حالما يرد من تفسيرهم للقرآن الكريم .

ولا بالاجماع ، لانه ليس بحجة ، الا من جهة الدخول ، وهو راجع الى كلامهم عليهم السلام فيما اذا تحقق مثل هذا الاجماع الدخولي .

ولا بالعقل ، لما ورد من الروايات من « ان دين اللّه لا يصاب بالعقول » (1) .

فانحصر الامر في السماع عن الائمة الاثني عشر عليهم السلام ، ولم اعثر على مايذكرون حول ماورد عن الصدّيقة الطاهرة سلام اللّه عليها هل يعدّون سنّتها من قبيل قول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، او من قبيل قولهم عليهم السلام ؟ .

( قال : الدليل التاسع ) من الادلة على ماذكرناه ( مبني على مقدمة دقيقة ) لانها تحتاج الى اعمال فكر ونظر ، وهي ( شريفة ) لانها تنتهي الى مطلب شريف ، وفاقد الشيء لايعطيه ، فهي أيضا شريفة ، وقد ( تفطنت لها بتوفيق اللّه تعالى ) من دون ان اقتبسها من احد .

( وهي : ان العلوم النظرية ) المحتاجة الى الاستدلال ، في قبال العلوم العملية المرتبطة بالعمل ، كالطهارة ، والنجاسة وشرب الادوية ، وعمارة المساكن ، ونحوها ، فانها علوم عملية بخلاف مثل المنطق ، والعلوم الرياضية ، والفلكية ، ونحوها ، فانها

نظرية ، وهي : ( قسمان : قسم ينتهي الى مادة هي قريبة من الاحساس ) .

ص: 133


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب9 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

ومن هذا القسم علمُ الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق .

-----------------

والاحساس : هو مايدرك بالحواس الخمس ، والتجربيّات قريبة من الاحساس، فانها وان لم تكن حسية الا ان آثارها الحسية تجلعها قريبة من الحس ، مثل : آثار الادوية ، فان الاهليلجة - مثلاً - مسهلة لكن خاصيتها لا تُحس ، وانما يحس مفعولها ، ولذا لايشك طبيب في انها مسهلة ، وكذا ان الدار لها بانٍ ، فان الانسان وان لم يشاهد بانيها فرضاً لكن دلالة الاثر على المؤر شيء مقطوع به ، ولذا لايشك فيه احد ، الى غير ذلك من الامثلة .

( ومن هذا القسم علم الهندسة ) « الهندسة » معرّب : « اندازه » ، مثل : الحصول على مساحة المربع من ضرب احد ضلعيه في الآخر ( والحساب ) مثل الجمع والطرح ، والضرب ، والتقسيم ، فان قواعدها الكلية ليست حسية لا في الهندسة ولا في الحساب ، الاّ ان الصغريات المشاهدة بمعونة العقل تعطي الكلية .

هذا ، ولقد ذكرنا الصغريات حتى نجعلها قريبة من الحس ، والا فالكليات تدرك بالعقل بدون الاحتياج حتى الى صغريات وذكر الصغريات من باب التمرين وسرعة الانتقال .

( و ) كذا حال ( اكثر ابواب المنطق ) فانها من القريبة الى الحس ، مثل : مباحث الكلي ، والجزئي ، والتصور ، والتصديق ، والعكس ، والنقيض ، وما اشبه ، فانا نرى انه اذا قيل : كل من في الدار رجل ، ورأينا امرأة فيها ، نقول : هذه الكلية غير صحيحة ، لان السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكلية ، وهكذا .

فالمادة القريبة من الحس ، هي الكلية التي رأينا بالحس صغراها ، وذلك كما ذكرناه في الحساب والهندسة .

وانما قال : اكثر ابواب المنطق ، لان بعض ابوابها ليست كذلك ، لان المظنونات

ص: 134

وهذا القسمُ لا يقع فيه الخلافُ بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار .

والسببُ في ذلك أنّ الخطأ في الفكر ، إمّا من جهة الصورة

-----------------

والموهومات وما اشبه من مواد الصناعات الخمس ، التي تذكر في المنطق ليست مما تقرب من الحس ، بل ترتبط بالعقل - بالمعنى الاعم - .

( وهذا القسم ) القريب من الحس ( لايقع فيه الخلاف بين العلماء ) ، ولذا لا اختلاف في علم الهندسة والحساب ولا في ابواب المنطق الى غير ذلك ، لان الحس لايخطأ الا نادراً ، مثل : زعم العين صغر القمر ، واتصال الخطين اذا ابتعدا ، كما في خطَّي القطار ، واسوداد الماء المتراكم كماء البحر ، وحموضة اللبن للمريض ، الى غير ذلك ، مما عدّه بعضهم الى ثمانمائة خطأ من أخطاء الحس ، وبنى على ذلك السوفسطائيون افكارهم .

فالقريب من الحس ، بعيد عن الاختلاف ( والخطأ في نتائج الافكار ) فلا يقع فيها اختلاف ولا خطأ ( والسبب في ذلك ) من عدم وقوع الخطأ في هذه الامور القريبة من الحس هو : ( ان الخطأ في الفكر اما من جهة الصورة ) اي صورة القياس مما ذكره المنطقيون في اشكال اربعة : الشكل الاول ، والثاني ، والثالث ، والرابع ، والخطأ في الصورة بأن لاتكون جامعة للشرائط مما اشار اليها المنظومة - قسم المنطق - بقوله : « فمغكب للاول ، وخينكب للثان ، للثالث مغكاين وجب » (1) الى آخره ، كأن يقال - مثلاً - : زيد ليس بحيّ ، وما ليس بحيّ يمكن ان يكون حجراً ، فزيد يمكن ان يكون حجراً ، فان شرط ايجاب الصغرى وكلية الكبرى مفقود في هذا الشكل ، ولذا فسدت النتيجة .

ص: 135


1- - شرح منظومة السبزواري : ص118 للشارح «دام ظله» .

او من جهة المادّة .

والخطأ من جهة الصورة لايقعُ من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة .

والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ،

-----------------

( او من جهة المادة ) اي مادة القياس ، مثل : العالم اثر القديم ، واثر القديم قديم ، فالعالم قديم ، فان الخطأ في الكبرى ، اذ اثر القديم الاختياري ليس بقديم ، وانما يصح ذلك اذا كان اثر القديم جبرياً ، لعدم انفكاكه عن القديم .

ومن الواضح ان العالم ليس اثراً جبرياً للّه تعالى ، بل اثراً اختيارياً ، لان اللّه تعالى مختار وليس بموجب .

( والخطأ من جهة الصورة لايقع من العلماء ، لان معرفة الصورة ) بان يكون في الشكل الاول : الصغرى موجبة ، والكبرى كلية - مثلاً - والحد الاوسط يتكرر تكرراً حقيقياً لا صورياً ، كما في الجدار فيه فأر ، والفأر له أذن - فالنتيجة الجدار له إذن - وهو باطل حيث لم يتكرر الاوسط ، اذ الاوسط في الاول : « فيه فأر » وفي الثاني : « الفأر » .

فمعرفة الصورة ( من الامور الواضحة عند الاذهان المستقيمة ) والامور الواضحة لا تشتبه لدى العلماء ، وان امكن الاشتباه عند من ليس له إلمام كامل بالامور المنطقية .

( والخطأ من جهة المادة ) كبرى او صغرى ( لايتصور في هذه العلوم ) القريبة من الاحساس كما لايتصور في نفس المحسوسات ، مثل : هذا ابيض وكل ابيض مفرّق لنور البصر .

او مثل : زيد في الدار ، وما في الدار فهو في المدينة ، فزيد في المدينة .

ص: 136

لقرب الموادّ فيها إلى الاحساس .

وقسمٌ ينتهي الى مادّة هي بعيدة عن الاحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الالهيّة والطبيعيّة وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة

-----------------

الى غير ذلك من المحسوسات صغرى وكبرى وذلك ( لقرب المواد فيها الى الاحساس ) مثل : هذا مصنوع ، وكل مصنوع يحتاج الى صانع .

او : التمر حار طبعاً ، وكل حار طبعاً يجفف رطوبات البدن .

بل كذلك لايقع الخطأ فيما يقطع به على سبيل البداهة ، وان لم يكن محسوساً او قريباً منه مثل : النقيضان لايجتمعان ، والكل أعظم من الجزء ، والضدان اللذان لهما ثالث يمكن رفعهما ، الى غيرها من الامثلة .

( وقسم ) من العلوم النظرية ( ينتهي الى مادة هي بعيدة عن الاحساس ) لانها لم تكن من الاقسام الثلاثة المتقدمة ( ومن هذا القسم الحكمة الالهية ) .

مثل : البحث عن احوال الواجب ، والممكن ، والممتنع .

ومثل الالهيات : من الذات ، والصفات ، والمجرد ، والمادي ، وما اشبه ذلك .

( و ) الحكمة ( الطبيعية ) الباحثة عن احوال الجسم الارضي والفلكي .

( وعلم الكلام ) الباحث عن حقائق الاشياء ، والفرق بينه وبين الحكمة ، ان الحكمة تبحث عن حقائق الاشياء بما هي هي - حسب نظر حكمائها - والكلام يبحث عن حقائق الاشياء حسب النظرة الاسلامية ، وهذا هو الفارق بين شرح التجريد وشرح المنظومة .

( وعلم اصول الفقه ) كمباحث الالفاظ والادلة العقلية .

( والمسائل النظرية الفقهية ) لا البديهية ، مثل قاعدة : الخراج بالضمان ،

ص: 137

وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق .

ومن ثم وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الالهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الاسلام في اصول الفقه ومسائل الفقه وعلم الكلام ، وغير ذلك .

والسببُ في ذلك أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة

-----------------

ومن ملك شيئاً ملك الاقرار به ، وما لايضمن بصحيحه لايضمن بفاسده .

( وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ) كدليل الافتراض - مثلاً - .

( ومن ثم ) اي من هذه الجهة وهي : بُعد هذه العلوم عن الحس وانها ليست من الضروريات ( وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الالهية ) مثل خصوصيات علمه سبحانه ، وقدرته ، وصفات الذات ، وصفات الفعل ، ونحوها ، ( و ) في الحكمة ( الطبيعية ) كالهيولى والصورة .

( وبين علماء الاسلام في اصول الفقه ) مثل : هل ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّة ام لا ؟ وهل المفهوم يقيّد المنطوق ام لا ؟ ( ومسائل الفقه ) كالامثلة المتقدمة .

( و ) في ( علم الكلام ) في خصوصيات علمه سبحانه ، وقدرته ، وبصره ، وسمعه ، مااشبه .

( وغير ذلك ) كمسائل المنطق ، فهل عقد الوضع مثل : « كل انسان كاتب » قضية فعلية كما يقوله الشيخ الرئيس ، او قضية ممكنة كما يقوله الفارابي ؟ .

( والسبب في ذلك ) الاختلاف الموجود في هذه العلوم ( ان القواعد المنطقية انما هي ) آلة قانونية ( عاصمة ) للفكر ( من الخطأ من جهة الصورة ) القياسية

ص: 138

لا من جهة المادّة .

إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة ، تقسيمُ الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام .

وليست في المنطق قاعدةٌ بها يُعلَمُ أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلةٌ في أيّ قسم من الأقسام .

-----------------

باشكالها الاربعة ومقدماتها ، كمباحث العكس ، والنقيض ، وعكس النقيض ( لا من جهة المادة ) المذكورة في الصناعات الخمس ، كما المع اليها في آخر الحاشية ، وذكرها مفصّلاً الشمسية وجوهر النّضيد وغيرهما .

( اذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب مواد الاقيسة ) وهو جمع قياس ( تقسيم المواد ) من حيث الصناعات الخمس ( على وجه كلي الى اقسام ) :

البرهان ، والخطابة ، والشعر ، والسفسطة ، والجدل .

( وليست في المنطق قاعدة بها ) اي بسبب تلك القاعدة ( يعلم ان كل مادة مخصوصة داخلة في أي قسم من الاقسام ) المذكورة ، فان الاجماليات في القواعد لاتعيين لحدودها ، والصغريات تابعة في كثير من الاحيان للحدود ، مثلاً : الماء من اوضح المفاهيم ، لكنه مجمل في حدوده فالمياه الزاجية ، والكبريتية ، هل هي من الماء ام لا ؟ .

وهكذا في الالوان : الاحمر ، والاخضر ، والازرق ، من اوضح المفاهيم ، ومع ذلك حدودها في غاية الغموض ، وهنا تتدخل الاذواق والاستجابات في الامر ، فواحد يجعله من الماء دون الاحمر ، وآخر يراه من غير الماء ، او من الاصفر .

ومن الواضح : اختلاف استجابات الناس حتى في الامور المحقّقة حساً ، مثلاً : نفران احدهما يده في ماء حار ، والآخر في ماء بارد ، فاذا أدخلا يديهما في ماء

ص: 139

ومن المعلوم امتناعُ وضع قاعدة تكفل بذلك » .

ثمّ استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره ، وقال بعد ذلك :

« فان قلت : لافرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع

-----------------

فاتر رآه الاول بارداً ، والثاني حاراً ، مع ان حقيقة هذا الماء واحد ، وهو من الامور الحسية ، ومن آياته سبحانه ، اختلاف الاذواق والادراكات وغيرها الى جانب اختلاف السنتكم والوانكم .

( ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك ) وتحدد بان كل صغرى داخلة في اي من الصناعات الخمس ، ولذا نرى الفقهاء بعضهم يقول : يستفاد من هذه الرواية كذا ، وآخر يخالفه في استفادة ذلك ، والاصوليين قسم منهم يرى التبادر ، وقسم لايراه .

( ثم استظهر ببعض الوجوه ) الواردة في الروايات ، من خلط الحق بالباطل للامتحان ( تأييداً لما ذكره ) من عدم وجود قواعد منطقية لافادة ان ايّة مادة مخصوصة ، داخلة في اي واحد من الصناعات الخمس ( وقال بعد ذلك : فان قلت : لافرق في ذلك ) الذي ذكرت من كثرة الخلط والاشتباه في العقليات ( بين العقليات والشرعيات ) فكما يكثر الخلط والاشتباه في الاولى ، فكذلك في الثانية، فلماذا تبرّئون الشرعيات ولا تبرّئون العقليات ؟ .

( والشاهد على ذلك ) اي على استواء الشرعيات والعقليات في الخلط ( ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين اهل الشرع ) فبعضهم يرى عدم تنجس الماء القليل ، وبعضهم يراه يتنجس وانما العصمة للكر ، ثم اختلفوا في قدره بين سبع وعشرين ، او ست وثلاثين ، او ما يقارب ثلاثة واربعين الى غير ذلك .

ص: 140

في اصول الدين وفي الفروع الفقهيّة .

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنيّة او القطعيّة .

ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنّه ليس في المنطق قانونٌ يَعصِمُ من الخطأ في مادّة الفكر - أنّ المشّائيّين

-----------------

والاختلاف بين اهل الشرع ليس في فروع الدّين فحسب بل جاء ( في اصول الدين ) أيضا اذ يرى احدهم عدم سهو النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ويرى غيره سهوه ( و ) الى غير ذلك ، كما ان الاختلاف ( في الفروع الفقهية ) كثيرة حدّث عنها ولا حرج .

( قلت : انما نشأ ذلك ) الاختلاف في الشرعيات ( من ضمّ مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية الظنية ) ظناً معتبراً كالخبر الواحد ( او القطعية ) كالخبر المتواتر ، فالذنب يعود أيضا الى إدخال العقل في الشرع .

مثلاً : قال بعضهم : بانه كسرت رباعية الرسول صلى الله عليه و آله وسلم في بعض الحروب ، وانكر آخر ذلك ، بضم انه يجب برائة النبي صلى الله عليه و آله وسلم من العيوب الخَلْقية والخُلُقية ، فهذه المقدمة العقلية : « يجب » سببت الاختلاف .

( ومن الموضحات لما ذكرناه : من انه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادة الفكر : ان المشائيين ) وهم جماعة من الحكماء ، ورئيسهم ارسطاطاليس، وانما سموا بالمشائيين لانه كان يعلّمهم الحكمة في حالة المشي ، او لأنهم يمشون بالدليل ، لان المشي يطلق على مثل ذلك تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ،كما قال سبحانه :

ص: 141

« وانطَلَقَ المَلأُ مِنهُم أنِ امشُوا » (1) ، اي امشوا في طريقتكم ولا تعتقدوا ادّعوا البداهة في أنّ تفرقَ ماء كوز إلى كوزين إعدامٌ لشخصه وإحداثٌ لشخصين آخرين .

-----------------

بما جاء به النبي .

وفي قبال المشائيين : الاشراقيون ، ورئيسهم استاذ ارسطاطاليس وهو افلاطون ، وانما سموا بهذا الاسم من جهة انهم كانوا يعتقدون ان بالدليل وحده لايمكن الوصول الى الحقائق ، وانما اللازم تصفية الباطن ليشرق عليه نورالهداية ، ولا يخفى ان هذا الكلام في نفسه صحيح كما اشير اليه في الحديث الشريف :

« لَيسَ العِلمُ بكِثرَة التَعَلُّم ، وإنّما هوَ نورٌ يَقذِفُهُ اللّه ُ في قَلبِ مَن يَشاء » (2) .

فان من الواضح ان العلم هو : عبارة عن فهم الكون خالقاً ، ومخلوقاً ، وماضياً ، ومستقبلاً ، وحالاً - بقدر الطاقة البشرية - وليس خاصاً ببعض المعلومات ، كالطب ، والهندسة ، وما اشبه ، أو بدون الاعتقاد باللّه واليوم الآخر ، وما يلزمهما من الاعتراف بالانبياء والاوصياء ، فانه لايكون هناك علم ، وهذا العلم الشامل يقذفه اللّه في قلب المؤنين ، وهم الذين يجتهدون في الامر ، كما قال سبحانه : « والَّذينَ جاهَدوا فِينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وإنّ اللّه َ لَمَعَ المُحسِنين » (3) .

وعلى اي حال : فالاختلاف كبير بين الطائفتين في كثير من مسائل الفلسفة كما لايخفى على من راجع كتب الحكمة .

مثلاً : ( ادعوا البداهة في ان تفرق ماء كوز الى كوزين اعدام لشخصه ) اي الجسم المائي الواحد ، فانه بالتفرق خرج عن شخصية الواحد ( وإحداث لشخصين آخرين ) وانما كان إحداثاً ، لانه في حال الوحدة لم يكن هناك اثنان ،

ص: 142


1- - سورة ص : الآية 6 .
2- - منية المريد : ص69 ، مصباح الشريعة : ص16 بالمعنى ، بحار الانوار : ج70 ص140 ب52 ح5 .
3- - سورة العنكبوت : الآية 69 .

وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والاشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفةٌ من صفاته وهو الاتصالُ » .

ثمّ قال : « إذا عرفتَ ما مهّدناه من المقدّمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عُصِمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم ،

-----------------

فاعدم الواحد وصار اثنين .

ومن الواضح : انه لا يراد اعدام الماء ، واحداث الماء ، وانما الوحدة والاثنينية ، والواحد شخص غير الاثنين ، كما ان الاثنين شخص جديد في هذا وفي ذاك ، وليس شخصاً واحداً .

( وعلى هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولى ) - مثلاً - الشمع له ذات ، وله صورة فاذا رُبّع ، او ثُلث ، او خُمس ، او غير ذلك ، كان الشمع واحداً بالذات ، وانما الاختلاف بالصور ، والذات يسمى بالهيولى ، وتسمى كل صورة صورة منها ب« الصورة » .

( والاشراقيين ادعوا البداهة في انه ) اي التفريق في كوزين ( ليس اعداماً للشخص الاول ) الذي كان في الكوز الواحد ( وانما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال ) اما الذات ، فهي ذات في كلتا الحالتين ، فلا اعدام ولا ايجاد .

اقول : البحث في ذلك طويل وعميق ، وانما اكتفينا بشيء من التوضيح للتقريب الى الذهن فقط .

( ثم قال ) الاسترابادي قدس سره ( اذا عرفت ما مهّدناه من المقدمة الدقيقة الشريفة فنقول : إن تمسكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا ) وحفظنا - على صيغة المجهول - والفاعل هو اللّه سبحانه ( من الخطأ ، وان تمسكنا بغيرهم ،

ص: 143

لم نُعصَم عنه » ، انتهى كلامه .

والمستفادُ من كلامه ، عدمُ حجّيّة إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مباديه قريبةً من الاحساس إذا لم يتوافق عليه العقول .

-----------------

لم نعصم عنه (1) ، انتهى كلامه ) .

أقول : التمسك بكلامهم عليهم السلام ليس معناه : عدم فهم سائر الاشياء ، فهل يمكن فهم دليل التمانع ، وساير الآيات القرآنية المرتبطة بدقائق المبدء والمعاد ، أو فهم مواضع من كلام الرسول ، وعلي ، والائمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين بدون دراسات طويلة ؟ .

ام هل يمكن فهم قول علي عليه السلام: « مَن وَصَفَ اللّه ُ فَقَد قَرَنَه ، وَمَن قَرَنَهُ فَقَد ثَنّاهُ ، وَمَن ثَنّاهُ فَقَد جَزّأهُ ، وَمَن جَزّأهُ فَقَد جَهله » (2) .

أو قوله عليه السلام : « لايُؤيَّنُ بأين وَلا يُكَيّف بكَيف ، وَمَن قال : فيم ، فقد ضمّنه » (3) الى غيرها .

ومن الواضح وجود الاحتياج في المباحثات مع غير المسلمين او المسلمين المنحرفين الى كل تلك العلوم .

( و ) على اي حال ف( المستفاد من كلامه ، عدم حجية ادراكات العقل في غير المحسوسات و ) في غير ( ما تكون مباديه قريبة من الاحساس ) كما مثلنا له سابقاً ( اذا لم تتوافق عليه العقول ) بأن كان محل الاختلاف ، اما اذا توافقت العقول عليه ، فذلك حجة وان لم يكن من المحسوسات ، ولا من الامور القريبة من الاحساس .

ص: 144


1- - الفوائد المدنيّة : ص129 - 131 .
2- - بحار الانوار : ج4 ص247 ب4 ح5 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص75 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص140 ح5 و ح6 ، التوحيد للصدوق : ص125 ب9 ح3 (بالمعنى) .

وقد استحسن ماذكره غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، منهم السّيدُ المحدّثُ الجزائريّ قدس سره ، في أوائل شرح التهذيب ، على ما حكي عنه .

قال بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله : « وتحقيق المقام يقتضي ماذهب إليه .

فان قلتَ : قد عزلت العقل عن الحكم في

-----------------

( وقد استحسن ما ذكره ) المحدّث الاسترابادي قدس سره (غير واحد ممن تأخرعنه، منهم السيد المحدّث ) السيد نعمة اللّه ( الجزائري قدس سره في اوائل شرح التهذيب ).

وهنا مطلب خارج عن محل البحث لابأس بالاشارة اليه وهو : ان جماعة من المطّلعين ذكروا : ان كتاب « زهر الربيع » قد حُرِّف ، لما ذكر فيه مما لايليق بمقام السيد ، وهذا ليس ببعيد ، فان كتب جماعة من علمائنا قد حرّفت من بعدهم مثل كتاب : « المخلاة » و « الكشكول » للشيخ البهائي قدس سره وكتاب « مكارم الاخلاق » للطبرسي قدس سره طبع مصر ، بل سمعت من بعض الثقاة : ان الحاج النوري قدس سره الف كتاباً باسم « فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب » وان النسخة المخطوطة عنده كانت هكذا ، وانّما الغى منها بعض المرتبطين بالغربيين الردود ، واثبت فيها التحريفات ، كما اسقط كلمة « عدم » من الاسم ، وهو أيضا غير بعيد ، فان احد مسيحي لبنان جمع الاشكالات من كتب بعض علمائنا على الاسلام وحذف الاجوبة ، وطبعها كتاباً مستقلاً ، وعليه : فان الامر بحاجة الى التثبت .

وكيف كان فان الجزائري قدس سره ( على ما حكي عنه ، قال بعذ ذكر كلام المحدّث) الاسترابادي قدس سره ( المتقدم بطوله : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب اليه ) وظاهره : انه معترف بكل ما قاله الاسترابادي قدس سره .

ثم قال : ( فان قلت : قد عزلت ) بتصديقك لكلامه ( العقل عن الحكم في

ص: 145

الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكمٌ في مسألة من المسائل ؟ .

قلتُ : أمّا البديهيّاتُ فهي له وحده ، وهو الحاكمُ فيها .

وأمّا النظريّاتُ فان وافقه النقلُ وحكم بحكمه قُدِّمَ حكمُه على النقل وحده .

وأمّا لو تعارض هو والنقليّ ،

-----------------

الاصول والفروع ، فهل يبقى له ) أي العقل ( حكم في مسألة من المسائل ) ؟ .

( قلت ) نعم ، يبقى له .

( أما البديهيات فهي له وحده وهو الحاكم فيها ) وهي موجودة في الاصول والفروع ، كما تقدّم الالماع اليه .

( واما النظريات ) فالقريبة من الحس أيضا للعقل حكم فيها ، كما سبق ، واما غير القريبة ، ( فان وافقه ) اي وافق العقل ( النقل ) مثل : قبح قصد المعصية قبحاً فاعلياً، ومثل : حسن الاحسان في بعض موارد الاحسان الى الاعداء الذين يريدون قتل الانسان ، كما احسن رسول اللّه وعلي والحسين عليهم السلام باعطاء الماء لأهل بدر (1) ، ولأهل صفين(2) ولاصحاب الحرّ (3) ( وحكم بحكمه ، قدم حكمه ) أي حكم العقل ( على النقل وحده ) اذ مع العقل لا مجال الا لكون النقل مؤداً له ، ولذا قال : « وحده » اي المحكّم ، العقل وحده .

( واما لو تعارض هو ) اي العقلي ( والنقلي ) تعارضاً ليس على نحو بديهيات العقل ، اما التعارض مع بديهيات العقل ، فمأوّل .

ص: 146


1- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص122 .
2- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج3 ص319 .
3- - مقتل الحسين للمقرم : ص182 ، تاريخ الطبري : ج6 ص226 .

فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقلُ .

قال : - وهذا أصلٌ يبتنى عليه مسائل كثيرة . ثم ذكر جملة من المسائل المتفرّعة » .

-----------------

مثل : ما دل على ان الرحمن على العرش ، وان له يداً ، وانه يأتي ، الى غير ذلك ، لان في بديهي العقل كون تلك الامور - على ظاهرها - محال عليه سبحانه ، ولذا نأوّله بما لايخالف العقل . واما التعارض مع غير البديهيات ، مثل : الادلة العقلية على العقول العشرة ، او على استحالة الخرق والالتيام في الافلاك ، والمعراج الجسماني ، الى غير ذلك ( فلا شك عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات الى ما حكم به العقل ) وحده .

والمراد بالعقل: المقدمات الظنية التي تنتهي الى هذه النتائج، والا فمن الواضح : ان ما ذكروه دليلاً على تلك الامور ليست الاّ من قبيل الخطابيات ، كما لايخفى على من راجع كتب الكلام ، كشرح التجريد ، وكفاية الموحدين ، وغيرهما .

( قال ) السيد الجزائري قدس سره : ( وهذا ) الذي ذكرناه من تقديم النقل على العقل المبني على غير الضروريات ( اصل يبتنى عليه مسائل كثيرة ، ثم ذكر جملة من المسائل المتفرعة ) (1) على تقديم النقل على العقل ، مثل : مسألة الاحباط ، ومسألة الانساء في النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ومسألة ارادة الباري ، ومسألة ان اول الواجبات هل هي معرفة الباري ، او النظر والفكر في معرفته ؟ .

هذه هي بعض المسائل المنسوبة في بعض الحواشي الى السيد الجزائري قدس سره .

ص: 147


1- - شرح تهذيب الاحكام ، مخطوط .

أقول : لايحضرني شرح التهذيب حتّى اُلاحِظَ ما فرّع على ذلك ، فليت شعري إذا فرض حكمُ العقل على وجه القطع بشيء كيف يجوز حصول القطع او الظنّ من الدليل النقليّ على خلافه .

وكذا لو فرض حصولُ القطع من الدليل النقلي كيف يجوز حكمُ العقل بخلافه على وجه القطع ؟ .

-----------------

( اقول : لايحضرني شرح التهذيب ، حتى الاحظ ما فرّع على ذلك ) وقد عرفت بعضها ، لكن كل تلك المسائل لا تصادم فيها بين العقل والنقل ، كما ان اختلاف العلماء فيها ليس من جهة التصادم ، بل من جهة اختلاف الاستفادة من الادلة على ما عرفت الكلام فيه سابقاً .

( فليت شعري ) هل يصادم النقل العقل ؟ .

وهل يصادم القطع الظن ؟ كما يستفاد من كلامه فانه ( اذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء ) كامتناع الجسمية ولوازمها للباري تعالى ( كيف يجوز حصول القطع او الظن من الدليل النقلي على خلافه ؟ ) .

فما دل من النقلي على الجسمية - مثلاً - لابد من تأويله ، اذ ليس بذلك قطع ولا ظن ، بل ولا وهم ، اذ القطع معناه : المنع عن النقيض ، والوهم : احتمال ولو واحد في الالف ، ولا يعقل جمعها .

( وكذا ) العكس ، اي ( لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي ) كما لو قطع بما قام عليه التواتر فانه ( كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع ) بان يدل العقل على خلاف قطعه الحاصل من النقل .

وعلى ايّ حال : فان تعارض القطعين غير معقول ، بل لايعقل تعارض القطع والظن ، ولا القطع والشك ، ولا القطع والوهم ، بل ولا الظن والشك ، بل ولا الوهم

ص: 148

وممّن وافقهما على ذلك في الجملة المحدّثُ البحرانيّ في مقدّمات

الحدائق ، حيث نقل كلاما للسيّد المتقدّم في هذا المقام واستحسنه ، إلاّ أنّه صرّح بحجيّة العقلي الفطريّ الصحيح وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له .

-----------------

والشك ، كما هو واضح .

( وممّن وافقهما ) اي الاسترابادي والجزائري ( على ذلك ) من اسقاط دور العقل ( في الجملة ) وليس في كل ما ذكراه هو : ( المحدّث البحراني قدس سره في مقدمات الحدائق ، حيث نقل كلاماً للسيد المتقدّم ) اي الجزائري قدس سره ( في هذا المقام واستحسنه ) مما يدل موافقته له .

( الا انه ) وافقهما في الجملة لانه ( صرح بحجية ) الدليل ( العقلي الفطري الصحيح ) وهو يشعر بالحجية المطلقة للعقل ، فيما اذا كان غير مشوب بملابسات، وباقيا على فطرة سليمة التي فطرهُ اللّه عليها ، بينما الاسترابادي والجزائري يرون عدم حجيّة العقل الاّ في بعض الموارد ، وعلى كلٍ : فالمحدث البحراني قال بحجية العقل .

( وحكم بمطابقته للشرع ، ومطابقة الشرع له ) لأنهما من قبل اللّه سبحانه، ولهذا يكونان متطابقين على ما ذكروا : من « ان ما حكم به العقل حكم به الشرع » ، لان العقل لايرى الاّ الصلاح ، والشرع موضوع على المصالح والمفاسد - ايجاباً وسلباً - وان ما حكم به الشرع حكم به العقل ، لان العقل يرى : ان الشرع لايحكم الاّ وفق المصلحة ، فكلما حكم به الشرع ، عرف العقل ان فيه المصلحة ، كما ان الطبيب الحاذق المخلص يحكم العقل فيه بانه كلما وصف من الدواء شيئاً كان فيه مصلحة ، وان لم يعرف العقل خصوصيات الادوية كمّاً وكيفاً .

ص: 149

ثم قال : « لا مدخلَ للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها، ولا سبيل إليها الاّ السماع عن المعصوم عليه السّلام ، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها » .

ثمّ قال : « نعم ، يبقى الكلامُ بالنسبة الى ما لايتوقف

-----------------

( ثم قال ) الحدائق : انه ( لامدخل للعقل في شيء من الاحكام الفقهية ، من عبادات وغيرها ) فمثلاً : لماذا عدد الركعات كذا ؟ والجهر والاخفات كذا ؟ وتقديم السعي على التقصير ؟ والطواف على الصلاة ؟ وان الصيام من الفجر الى المغرب ؟ الى غير ذلك .

نعم ، كليات الاحكام يعرفها العقل ، فالصلاة : لأجل الصلة باللّه سبحانه ، والحج: لمنافع الناس ، والصوم : لكف النفس وترويضها ، وهكذا ، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب « عبادات الاسلام » (1) .

( ولاسبيل اليها ) اي الى تلك الاحكام الفقهية ( الا السماع عن المعصوم عليه السلام ) لان الخصوصيات لاتعرف الا من قِبله ، فحال الكليات والجزئيات في الاحكام حال كليات الطب ، وجزئياته ، حيث ان المرجع فيها للجاهل بالطب هو الطبيب ، وهنا هو المعصوم عليه السلام وذلك ( لقصور العقل المذكور ) وهو العقل الفطري ( عن الاطلاع عليها ) اي على تلك المسائل الفقهية .

وكلامه هذا لاينافي كلامه السابق : من التطابق بين العقل والنقل ، اذ ذاك بمعنى: انهما يحكمان على طبق المصلحة ، وهذا بالنسبة الى الخصوصيات والمزايا .

( ثم قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة الى ما ) اي الشيء الذي ( لايتوقف

ص: 150


1- - وهو كتاب من الحجم المتوسط طبع في لبنان والكويت وايران وترجم الى الفارسية باسم «فروع دين» .

على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليلُ العقليّ القطعي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهرَ البداهة ، مثل الواحد نصف الاثنين ، فلا ريبَ في صحّة العمل به . وإلاّ فان لم يعارضه دليلٌ عقليّ ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليلٌ عقليّ آخر ، فانّ تأيّد احدُهما بنقليّ كان الترجيحُ للمتأيّد بالدليل النقليّ ،

-----------------

على التوقيف ) بأن لايحتاج فيه الى الشرع ، مثل : الاعتقادات الاصولية ، من الالوهية والرسالة والمعاد ، وهكذا مسائل اصول الفقه ، مثل : كون الامر ظاهراً فيالوجوب ، والنهي في التحريم ، ووجوب المقدمة - مثلاً - .

( فنقول : ان كان الدليل العقلي القطعي المتعلق بذلك بديهياً ظاهر البداهة ) مثل : وجوب شكر المنعم ، وقبح تكليف ما لايمكن عقلاً : كاجتماع النقيضين ، او عادة : كالطيران بدون الوسيلة ، مما هو من ( مثل : الواحد نصف الاثنين ) في البداهية ( فلا ريب في صحة العمل به ) لانه من البديهيات ، والبديهي لايتوقف على شيء آخر ، فحاله حال الواحد نصف الاثنين ، سواء عارضه دليل آخر نقلي ام لا ، اذ لايعقل معارضة الدليل العقلي الفطري له .

( والاّ ) بأن لم يكن بديهياً ظاهر البداهة ( فان لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ) يلزم العمل به ، لان العقل قد حكم ، ولا معارضة له .

( وان عارضه دليل عقلي آخر ) فهما دليلان عقليان متعارضان ، مثل : « العالم متغير ، وكل متغير محتاج الى المؤر ، فالعالم محتاج الى المؤر » وفي قباله قول الملاحدة : « العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤر، فالعالم مستغن عن المؤر) .

( فان تأيد احدهما بنقلي ) كتأيد البرهان الاول به ، من مثل : كان اللّه ولم يكن معه شيء ( كان الترجيح للمتأيد بالدليل النقلي ) اذ في طرفٍ : عقل ونقل ،

ص: 151

وإلاّ فاشكال .

فانّ عارضه دليل نقليّ ، فان تأيّد ذلك العقليّ بدليل نقليّ كان الترجيحُ للعقليّ ، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارضٌ في النقليّات ، وإلاّ فالترجيح للنقليّ

-----------------

وفي طرفٍ : عقل فقط .

( والاّ ) بان لم يكن أحد الدليلين العقليين مؤد بنقل ( فاشكال ) : بأنه هل يقدّم هذا الدليل العقلي ، او ذاك ؟ .

هذا تمام الكلام في تعارض العقليين مع تأيد احدهما بنقلي ، او بدون التأيد .

اما اذا كان هناك دليل عقلي كقبح التجرّي ( فان عارضه دليل نقلي ، فان تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي ) كما في : حكم العقل بقبح التجرّي في الجملة ، المؤد بالنقل الدال على حرمة التجرّي - على ما تقدّم - ، فان كان الدليل العقلي معارضاً بدليل نقلي آخر يدل على عدم العقاب على قصد المعصية ، وانّما العقاب على فعل العصيان ( كان الترجيح للعقلي ) لان في جانب : العقل والنقل ، وفي جانب : النقل فقط ، والاولان اقوى من الثاني .

( الا ان هذا ) القسم ( في الحقيقة ) وبالنظر الدقيق ( تعارض في النقليات ) لان في كلا الجانبين نقل ، وانّما العقل في احد الجانبين فقط ، وهو يصلح مؤداً لاحد جانبي النقل .

( والاّ ) بان لم يؤد العقل بدليل نقلي ، مثل : انكار بعضهم الخرق والالتيام المنافي للمعراج - عقلاً - فان انكارهم هذا لم يؤد بدليل نقلي ، بل الدليل النقلي معارض له ، لانه يدل على المعراج الجسماني المستلزم لخرق الافلاك كلاً ( فالترجيح للنقلي ) لانه لا شأن للعقلي المبني على المقدمات غير البرهانية في رفع النقل .

ص: 152

وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره وخلافا للأكثر .

هذا بالنسبة إلى العقليّ بقول مطلق .

أمّا لو اريد المعنى الأخصّ ، وهو الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجّة

-----------------

فتحصّل : ان الحدائق قسم الامر الى ستة اقسام :

1 - العقل البديهي .

2 - غير البديهي الذي لايعارضه دليل عقلي ولا نقلي .

3 - غير البديهي الذي عارضه دليل عقلي آخر وتأيد احدهما بالنقلي .

4 - الصورة الثالثة مع انه لم يؤد بدليل نقلي .

5 - غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي وتأيد أيضا بدليل نقلي .

6 - غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي ، ولم يؤد بدليل نقلي .

وقد قال في السادس : انه يعمل بالنقلي .

وفي الرابع : ان فيه اشكالاً ، وفي بقية الصور يعمل بالعقلي .

ثم انه رجح في السادس النقلي ( وفاقاً للسيد المحدّث ) الجزائري قدس سره (المتقدّم ذكره ، وخلافاً للاكثر ) الذين يقدمون في السادس ، العقلي ، وهو المشهور .

ثم قال الحدائق : و ( هذا ) الذي ذكرناه : من عدم حجية العقل في الفقه ، والتفصيل في غير الفقه ، إنّما هو ( بالنسبة الى العقلي بقول مطلق ) اي العقلي المشوب بالأوهام .

( اما لو اريد ) بالعقلي ( المعنى الاخص ، وهو الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) ممّا لايوجد الاّ في الانبياء والأوصياء وصفوتهم ( الذي هو حجة

ص: 153

من حُجَجِ المَلِكِ العلاّم - وإن شذّ وجوده في الأنام - ففيترجيح النقليّ عليه اشكالٌ » ، انتهى .

ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظريّة مقدّما على ما هو في البداهة من قبيل « الواحدُ نصفُ الاثنين » ، مع أنّ ضروريّات الدين والمذهب

-----------------

من حجج الملك العلاّم ) كما في الروايات : من انه العقل حجة باطنة ، والنبي صلى الله عليه و آله وسلم حجة ظاهرة (1) ( وان شذ وجوده في الانام ) لكثرة الخلط والخبط ( ففي ترجيح النقلي عليه اشكال ) (2) كما يأتي وجهه .

( انتهى ) كلام المحدث البحراني قدس سره ، ولكن في كلامه موارد للنظر: الاول : انه كيف قدم النقلي على العقلي الضروري ، مثل : الواحد نصف الاثنين؟ ( ولا ادري كيف جعل الدليل النقلي في الاحكام النظرية ) الواردة فيها الاحاديث اي الدليل النقلي ( مقدماً على ما ) اي على الدليل العقلي الذي ( هو في البداهة من قبيل : الواحد نصف الاثنين ) ؟ .

مثلاً : اذا حكم العقل حكماً بديهياً ببطلان وضوء الجبيرة ، الموجب لوصول الماء الى الكسر ونحوه - مما يكون ضرراً اكيداً - كيف يقدم النقل عليه ؟ حيث قد ورد في بعض الروايات : بوجوب ايصال الماء الى العضو .

هذا ( مع ان ضروريات الدّين والمذهب ) حالها حال الضروريات العقلية ، اذ قد يكون الشيء ضروري الاسلام : كالصلاة والصيام يقبله عامة المسلمين ، وقد يكون ضروري الايمان عند الشيعة فقط ، مثل : صحة المتعة .

ص: 154


1- - الكافي أصول : ج1 ص16 ح12 ، بحار الانوار : ج1 ص137 ب4 ح3 .
2- - الحدائق الناضرة : ج1 ص132 .

لم يزد في البداهة على ذلك .

-----------------

وهناك قسم ثالث من الضروريات تسمّى بضروريات الاديان ، كوجود الجنة والنار .

وقسم رابع : هو ضروريات الفقه ، كضرورية عدم الفاصلة بين الرضعات في نشر الحرمة بشيء آخر غير اللبن من المرضعة .

فانه ( لم يزد في البداهة على ذلك ) فكما ان البديهيات الدينية والمذهبية لاتحتاج الى شيء آخر ، كذلك حال البديهيات العقلية .

هذا هو الاشكال من الشيخ قدس سره على الحدائق .

لكن ربما يقال : ان الحدائق استثنى البديهيات اولاً ، ثم جعل كلامه في غير البديهيات ، ولعل الشيخ قدس سره اطلع على ما لم نطلع نحن عليه .

وعلى أيّ حال : فانه ينبغي ان يقال : ان تقسيم العقل الى الفطري وغيرالفطري محل تأمل ، فان هناك اقسام من الناس :

الاول : المعاند ، ولا كلام فيه ، فان عقله كسائر العقول ، وانّما يعاند ، كما قال سبحانه :« وَجَحَدوا بِها وَاستَيقَنَتها أنفُسُهُم » (1) .

الثاني : الجاهل قاصراً ومقصراً ، ولا كلام فيه أيضا .

الثالث : المستقيم ، ولا كلام فيه أيضا .

الرابع : الذي اشتبه في الدليل العقلي ، ولا شك انه اذا لم يكن معانداً ، ولم يكن تلقّيه مختلفاً - كما تقدّم من مثال الاواني الثلاث - يرجع الى الواقع بالبحث والاستدلال ، فأية فائدة لهذا التقسيم بالفطري وغير الفطري ؟ .

فان كل واحد من اساطين العلم ، كأصحاب الحدائق والجواهر والمستند

ص: 155


1- - سورة النمل : الآية 14 .

والعجبُ ممّا ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ، كيف يتصوّر الترجيحُ في القطعي ، وأيّ دليل على الترجيح المذكور .

وأعجبُ من ذلك الاستشكالُ في تعارض العقليّين من دون ترجيح ،

-----------------

والرسائل والكفاية - مع اختلافاتهم الكثيرة في الاصول والفروع واستدلالاتهم العقلية والنقلية بمختلف المسائل - هل يمكن ان يقول بعضهم لبعض انه مأخوذ من العقل غير الفطري ؟ .

وحاصل كلامنا : ان جعل هذا المحور موجباً للرد والايراد بين أعلام الدّين غير خالٍ عن المناقشة .

نعم ، لاشك ان الاهواء دخلت في اديان الكفّار والمنحرفين ، لكن اذا اُلفتوا كانوا من مصاديق « وَجَحَدوا بها واستَيقَنَتها أنفُسُهُم ..» (1) .

الثاني : من موارد النظر على كلام البحراني قدس سره ما ذكره بقوله : ( والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ) بترجيح النقل على العقل ، فانه (كيف يتصور الترجيح في القطعي ) المرتبط بالعقل ؟ فاذا قطع الانسان بان الآن نهار ، وجاء نقل بانه ليل ، فهل يمكن ترك القطع الى النقل ( وأي دليل ) في مقام الاثبات ( على الترجيح المذكور ) ؟ .

لكن ربما يقال : ان مراد البحراني 1 ليس العقلي القطعي ، بل ما يسمونه بالادلة العقلية المبنية على مقدمات غير مقطوعة ، ولذا نرى ا ن بعضهم يدّعي دلالة العقل على وجوب مقدمة الواجب ، وبعضهم يدّعي دلالته على عدم الوجوب ، وهكذا .

( و ) الثالث : من موارد النظر وهو ( اعجب من ذلك : الاستشكال ) من البحراني قدس سره ( في تعارض العقليين من دون ترجيح ) فهل يمكن تعارض دليلين

ص: 156


1- - سورة النمل : الآية 14 .

مع أنّه لا اشكال في تساقطهما ، وفي تقديم النقلي على العقليّ الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام .

مع أنّ العلم بوجود الصانع جلَّ ذكره إمّا أن يحصل من هذا العقل الفطريّ او ممّا دونَهُ من العقليّات البديهيّة ، بل النظريّات المنتهية إلى البداهة .

-----------------

عقليين كل واحد الى حدّ القطع ؟ : بل قد عرفت سابقاً : ان القطع بطرف لايجتمع حتى مع الوهم في الطرف الآخر ( مع انه ) لو فرض فرضاً محالاً وجودهما وتعارضهما بدون ترجيح فانه ( لا اشكال في تساقطهما ) حالهما حال النقليين .

لكن يمكن الذب عن البحراني قدس سره بانه ليس كلامه فيما ذكره الشيخ قدس سره من العقل القطعي ، بل هو فيما ذكرناه .

( و ) الرابع من موارد النظر : ( في ) حكمه قدس سره ب( تقديم النقلي على العقلي الفطري ، الخالي عن شوائب الاوهام مع ان ) النقل لايمكن ان يصل الى مرتبة العقل ، كما هو واضح ، فان اساس النقل : العقل ، فاذا سقط دور العقل سقط النقل تلقائياً .

ومما يوضح ذلك ، هذا المثال : وهو أن ( العلم بوجود الصانع جل ذكره ) وسائر اصول الدّين ( إما ان يحصل من هذا العقل الفطري أو مما ) هو ( دونه ) في القوة ، اذ للعلم مراتب ، كسائرالصفات النفسية وكالنور يزداد وينقص ، ولهذا فانه يحصل أيضاً ( من العقليات البديهية ) مثل استدلال تلك العجوز على وجود اللّه تعالى ، حيث رفعت يدها عن المغزل ، وقول ذلك الاعرابي : البعرة تدل على البعير ، الى غير ذلك .

( بل ) يحصل من ( النظريات المنتهية الى البداهة ) كالأدلة النظرية التي تنتهي

ص: 157

والذي يقتضيه النظر ، وفاقا لأكثر أهل النظر ، أنّه كلّما حصل القطعُ من دليل عقليّ ، فلا يجوز أن يعارضه دليل نقليّ .

وإن وُجِدَ ما ظاهره المعارضة ، فلابدّ من تأويله إن لم يمكن طرحه .

-----------------

الى المقدمات البديهية ، كما هو الشأن في غالب الاستدلالات على الاصول والفروع ، حيث انها نظرية لكنها تنتهي الى القضايا البديهية ، فان ما بالغير لابد وان ينتهي الى ما بالذات كما ذكروا .

( و ) حيث قد عرفت الاشكال في كلمات المحدثين الثلاثة نقول : ( الذي يقتضيه النظر ) في الادلة ( وفاقاً لأكثر اهل النظر ) والفكر ( انه كلّما حصل القطع من دليل عقلي ) سواء سمّي بالعقل الفطري ، او غيره ، أو كان من الادلة البديهية ، او النظرية ( فلا يجوز ) اي لايمكن ( ان يعارضة دليل نقلي ) اذ العقل : الاصل ، والنقل مستند اليه في حجيته ، ولا يمكن ان يعارض الفرع الاصل .

( وان وجد ) من الأدلة النقلية ( ما ظاهره المعارضة فلابد من تأويله ) وأصل « التأويل » من الأول بمعنى : الانتهاء ، من آل يؤل ، اي لابد ان نقول : ان الكلام لايقف عند ظاهره ، بل ينتهي الى شيء غير الظاهر .

هذا ( ان لم يمكن طرحه ) من حيث السند ، او من حيث جهة الصدور امكاناً حسب الصناعة ، والاّ فان كان سنده غير نقي ، او كا ن سنده نقياً لكنه موافق للعامة، فليس ذلك بحجة ، فلا حاجة الى تأويله بما يوافق العقل بالنتيجة .

مثلاً ، العقل القطعي يدل على ان اللّه سبحانه ليس بجسم ، وانه غير قابل للرؤة ، فاذا كان في القرآن الحكيم : « الرَّحمنُ عَلى العَرشِ استَوى» (1) .

أو : « وُجُوهٌ يَومَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَة » (2) .

ص: 158


1- - سورة طه : الآية 5 .
2- - سورة القيامة : الآيات 22 - 23 .

وكلّما حصل القطعُ من دليل نقليّ ، مثلُ القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا ، فلا يجوز أن يحصل القطعُ على خلافه من دليل عقليّ ، مثلُ استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر .

-----------------

كان تأويل الآية الاولى : بان المراد هو الاستيلاء والاحاطة لا الجلوس ، وتأويل الآية الثانية : بانها ناظرة : الى نعيم ربها ، فهو كما يقال : اني انظر الى المهدي عليه السلام وقد خرج الى الكوفة ، اي اعلم انه سيخرج ، الى غير ذلك .

( وكلّما حصل القطع من دليل نقلي ، مثل : القطع الحاصل من اجماع جميع الشرائع ) الالهية ، فانه لولا اجماعهم لما حصل القطع - ( على حدوث العالم زماناً) .

اذ ربما يقال ان : العالم حادث ، لكنه حدث بعد حدوث الزمان ، وهذا يسمّى بالحادث الزماني ، اي كان في زمان معدوماً ثم وجد في زمان ثانٍ .

وربما يقال : ان العالم حادث ، لكنه حدث قبل حدوث الزمان ، فهو قديم زماني ، حادث ذاتي ، وقسم من الفلاسفة وان قال بالثاني ، الاّ ان الشرائع قالت بالاول .

( فلا يجوز ) اي لايمكن ( ان يحصل القطع على خلافه من دليل عقلي ) اذ لايعقل ان يحصل قطعان متخالفان : قطع مستند الى النقل ، وقطع مستند الى العقل، بل قد تقدّم ان الاحتمال على طرف ، لايمكن ان يجتمع مع القطع على طرف آخر .

ثم ان المصنّف مثّل للدليل العقلي على خلاف الدليل النقلي المقطوع به بقوله : ( « مثل : استحالة تخلف الاثر عن المؤر » ) فان الفلاسفة الذين قالوا بالحدوث الذاتي للعالم لا الحدوث الزماني ، استدلوا على ذلك بما جعلوه دليلاً

ص: 159

ولو حصل منه صورةُ برهان كانت شبهةً في مقابلة البديهة ، لكن هذا لا يتأتى في العقل البديهيّ من قبيل « الواحدُ نصفُ الاثنين » ولا في العقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ،

-----------------

عقلياً ، فقالوا : العالم اثر القديم ، واثر القديم قديم .

اما الصغرى : فلوضوح ان العالم لم يوجد بنفسه ، فاللازم ان يكون هناك قديم - وهو اللّه سبحانه - حتى يكون العالم اثره .

واما الكبرى : فلان الاثر معلول ، والمعلول لاينفك عن علته ، الذي هو اللّه ، فالعالم حادث ذاتاً لاستناده الى الغير ، وليس بحادث زماناً ، لانه قبل الزمان .

لكن هذا القياس غير صحيح ( ولو حصل منه صورة برهان ) اذ الكبرى غير تامة ، فان الاثر لاينفك عن المؤر المجبور ، كالحرارة من النار ، والرطوبة من الماء، اما المؤر المختار فينفك الاثر منه .

مثل افعالنا نحن البشر ، حيث انها منفكة منا ، فان الانسان يكون ، وليس بصانع باباً او كاتب كتاباً ، ثم يصنع الباب ويكتب الكتاب ، الى غير ذلك من الامثلة ، فاذا حصل صورة برهان في قبال القطع النقلي ( كانت شبهة في مقابلة البديهة ) لا برهاناً يفيد الواقع .

( لكن هذا ) الذي ذكرناه : من انه شبهة في مقابل البديهية ، وان امكن ان يأتي في النقلي القطعي ، لكنه ( لا يتأتّى في العقل البديهي من قبيل « الواحد نصف الاثنين » ) فان في قبال العقل البديهي لايمكن ان يكون نقل قطعي .

مثلاً : لايعقل ان يقوم دليل نقلي على جواز تكليف مالا يطاق .

( ولا في العقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) كحسن الاحسان وقبح الظلم .

ص: 160

فلابدّ في مواردهما من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ، لأنّ الأدلّة القطعيّة النظريّة في النقليّات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل البديهيّ او الفطريّ .

فان قلت :

-----------------

والحاصل : ان الدليل العقلي البرهاني لايعارض النقل القطعي ( فلابد في مواردهما ) اي موارد العقل البديهي والعقل الفطري ( من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ) اي على خلاف العقل .

والفرق بين البديهي والفطري : ان ما يدل عليه العقل الفطري يمكن ان لايكون بديهياً ، بل حصل بالنظر والاستدلال ، مثل وحدانية اللّه سبحانه ، حيث انه ليس بديهياً كبداهة وجود اصل الصانع ، فان من ينظر الى الكون يحصل له بالبداهة : العلم بان له صانعاً ، اما انه هل هو واحد ، او اثنان ؟ فانه لابد له من دليل ينتهي الى العقل .

والحاصل : ان الشبهة في مقابل البديهة - التي ذكرناها - انّما تكون في مقابل غير البديهي والعقل الفطري ، اذ الشبهة تحصل في قبال العقل المشوب .

ونلتزم بعدم حصول القطع على خلاف النقل الصحيح ( لان الادلة القطعية النظرية في النقليات ) كالاجماعات المحصلة ، والمتواترات ، والمستفيضات الموجبة للقطع ( مضبوطة ) قد ضبطها اصحاب الكتب و ( محصورة ) في امور مخصوصة ( ليس فيها شيء يصادم العقل ) فكيف يقال : ان الدليل القطعي يصادم العقل ؟ سواء العقل ( البديهي ) الذي هو واضح بأوّل فكره ( او الفطري ) الذي تفهمه الفطرة وان كان بملاحظةٍ واستدلال .

( فان قلت ) :ليس نظر الاخباريين في انكارهم حجة العقل ما ذكرتم : من جهة

ص: 161

لعلّ نظر هؤلاء في ذلك إلى مايستفاد من الأخبار ، مثل قولهم عليهم السلام : « حرامٌ عَلَيكم أن تَقولوا بشيءٍ مالم تَسمَعوه مِنّا» ، وقولهم عليهم السلام : « لَو أنَّ رَجُلاً قامَ ليلَهُ وَصامَ نَهارَهُ وَحَجَّ دَهرَهُ وَتَصَدَّق بجَميع مالِه وَلم يَعرِف ولايةَ وليِّ اللّه فتكون أعمالَهُ بدَلالَتِهِ فيواليَه ، ما كانَ لهُ

-----------------

كثرة الاشتباه في الادلة العقلية ، حتى يرد عليهم الاشكالات المتقدمة ، بل ( لعل نظر هؤاء في ذلك ) الذي ذكروه يشير ( الى ما يستفاد من الاخبار ) من انحصار الطريق في الاحكام في السماع من الصادقين عليهم السلام .

(مثل قولهم عليهم السلام : حَرامٌ عَلَيكُم) حرمة تكليفية ( أن تَقُولُوا بِشَيءٍ ) من الاحكام .

او الأعم من الاصول والفروع .

والاعم حتى من التاريخ الماضي ، والامور المستقبلية ، كأحوال الاُمم السالفة ، واحوال ما بعد الموت ( ما لَم تَسمَعُوه مِنّا ) (1) فانهم هم طريق الاحكام ، وخصوصيات الاصول ، كما ان غيرهم لاعلم لهم لا بالماضي ولا بالمستقبل .

( وقولهم عليهم السلام : لَو أنّ رَجُلاً ) والرجل : من باب المثال ، والا فالمرأة كذلك ( قامَ لَيلَهُ ) بالعبادة ( وَصامَ نَهارَه ) طول السنة ( وَحَجَّ دَهرَهُ ) كل عام او استمر في الحج والعمرة ( وَتَصَدَّقَ بِجَميعِ مالِه ) في سبيل اللّه : وقفاً ، وهديةً ، وهبة ، وصدقةً ، مصطلحة وبراً ( وَلَم يَعرِف ولايَةَ وَليّ اللّه ِ فَتَكون ) - بالنصب كما في القاعدة الادبية - كل ( أعمالَه بِدَلالَتِه فَيوالِيَهُ ) الفاء : تفريع على « لم يعرف » بان لم يكن له معرفة بالامام ، او لم يكن اعماله طبقاً لما قاله وليّ اللّه ، بطلت اعماله

ص: 162


1- - الكافي أصول : ج2 ص401 ح1 وفيه (الشر) بدل (حرام) .

على اللّه ثوابٌ » وقولهم عليهم السلام : « من دان اللّه بغير سماعٍ من صادِقٍ فهوَ كذا وكذا » إلى غير ذلك ، من أنّ الواجبَ علينا هو امتثالُ

-----------------

و ( ما كانَ لَه عَلى اللّه ِ ثَوابٌ ) (1) يستحقه .

( وقولهم عليهم السلام : مَن دانَ اللّه ) اي جعل دينه الذي هو طريق الى اللّه ( بغَيرِ سِماعٍ مِن صادِقٍ ) والمراد بالصادق : هم عليهم السلام ( فَهو كَذا وَكَذا ) (2) من التهديد والعقاب .

وهنا سؤل ، وهو : هل ان امر اتباع القيادة المنصوبة من قبل اللّه سبحانه بواسطة النبي صلى الله عليه و آله وسلم شرعي فقط ، او عقلي ايضاً ؟ .

ولا نقصد من العقلي ان ما ذكره الشرع بحيث لو وصل العقل الى ما فيه من المصلحة الشرعية ، الداعية لجعل ذلك قرّره ، فان ذلك مسلّم وقطعي ولا كلام فيه، اذ الشارع حكيم ، لايفعل الا حسب المصلحة ، وعليه يبنى قاعدة : ما حكم به الشرع حكم به العقل . بل بمعنى ان العقل مستقلاً عن الشرع هل يدرك المصلحة في ذلك ؟ .

الظاهر : نعم ، اذ القيادة هي التي تجمع الكلمة وتدفع الاعداء ، ولذا ورد في بعض الروايات : إنّ « الامامَةَ نِظامُ الامّة » (3) ، وبدون القيادة الصحيحة الرشيدة الموحدة ، تنهدم الدنيا وينحرف الدّين ، الذي هو مصلحة الانسان ايضاً ، كما شاهدنا ذلك في المسلمين .

( الى غير ذلك من ) الاخبار المتواترة الدالة على ( ان الواجب علينا : هو امتثال

ص: 163


1- - المحاسن : ص286 ح430 ، تفسير العياشي : ج1 ص279 في تفسير سورة النساء .
2- - الكافي أصول : ج1 ص377 ح4 ، بحار الانوار : ج2 ص93 ب14 ح24 .
3- - غرر الحكم : ج1 ص52 ح1137 .

أحكام اللّه تعالى التي بلّغها حُجَجُهُ عليهم السلام .

فكلّ حكم لم يكن الحجّةُ واسطةً في تبليغه لم يجب امتثالُه ، بل يكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » ، فانّ معنى سكوته عنه عدمُ أمر أوليائه بتبليغه وحينئذٍ

-----------------

احكام اللّه تعالى التي بلّغها حججه عليهم السلام ) ليس في الواجب والمحرم فحسب ، بل في سائر الاحكام التكليفية والوضعية ، فان امتثال كل حكم بحسبه .

( فكل حكم لم يكن الحجة واسطة في تبليغه ، لم يجب امتثاله ) بل نسبته اليه سبحانه تشريع محرم ، من غير فرق بين ان نقطع بانه حكمه تعالى ام لا ، وذلك لان الحكم مقيد به ، كما لو قال المولى : يحرم عليك ان تعمل بما علمت انه حكمي ، اذا لم يكن من طريق عبدي فلان .

( بل يكون ) ذلك الحكم الذي ليس من طريقهم ( من قبيل : « إسكُتوا عَمّا سَكَتَ اللّه ُ عَنهُ » ) (1) وسكوت اللّه كناية عن الحكم الذي لم يؤه الى الناس من طريق اوليائه ، ولفظة « اسكتوا » امر وهو يدل على الوجوب فخلافه محرم .

وعليه : ( فان معنى سكوته ) تعالى ( عنه ) اي عن ذلك الحكم ( عدم امر اوليائه بتبليغه ) الى العباد لمصلحة في ذلك ، كما قال الشيخ الخال (2) : ان اللّه اراد غلق باب الفاسق ، وان كان من اعلم المجتهدين ، ولم يكن العادل يصل اليه في العلم والتحقيق ، وأراد فتح باب العادل ولذلك فالواجب تقليد المجتهد العادل .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الامتثال انّما هو في الاحكام التي بلّغها الحجة

ص: 164


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .
2- - الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس سره قائد ثورة العشرين التحررية في العراق .

فالحكمُ المنكشفُ بغير واسطة الحجّة مُلغىً في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع .

كما يشهد به تصريحُ الامام عليه السّلام ، بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوبا ومرضيّا عند اللّه .

-----------------

(فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجة ملغى في نظر الشارع ، وان كان مطابقاً للواقع ) اي أن اللّه شرّعه ، لكن تشريعه وحده غير كاف لجواز العمل وانّما يجوز العمل به اذا جاء من طريق اوليائه عليهم السلام ، و في الحقيقة انّ ما لم يصل عن طريقهم عليهم السلام لا يكون حكماً فعلياً ، بل شأنياً( كما يشهد به ) ما ورد في الروايات ، و قد اشار اليها نصير الدين الطوسي بقوله :

لو ان عبداً اتى بالصالحت غداً***وودّ كل نبيّ مرسلٍ ، وولي

وصام ما صام صوّام بَلا ضجرِ***وقام ما قام قوام بلا ملل

وحجّ ما حجّ من فرضٍ ومن سُننِ***وطاف ما طاف حافٍ غير منتحلِ

يكسي اليتامى من الديباج كلّهم***ويطعم الجائعين البر بالعسل

وطار في الجو لا يرقى الى أحدٍ***وعاش في الناس معصوما من الزلل

ما كان في الحشر عند الله منتفعا***الاّ بحب أمير المؤمنين علي (1)

ويؤده : ( تصريح الامام عليه السلام بنفي الثواب على التصدق بجميع المال ) اذا لم يكن بدلالة وليّ اللّه ( مع القطع ) اي مع انا نقطع ( بكونه ) اي كون التصدق بجميع المال ( محبوباً ) في نفسه ( ومرضياً عند اللّه ) تعالى ، فليس نفي الثواب الا لاجل عدم دلالة وليّ اللّه ، وان كان في نفسه مرضياً له تعالى ، شأناً .

ص: 165


1- - انظر كتاب فضائل الامام علي عليه السلام لمحمد جواد مغنية ، الخاتمة .

ووجهُ الاستشكال في تقديم النقليّ على العقل الفطريّ السليم ماورد من النقل المتواتر على حجيّة العقل ، وأنّه حجّة باطنة ، وأنّه ممّا يُعبَدُ به الرَّحمنُ ويُكتَسَبُ به الجنان ، ونحوها ، ممّا يستفاد منه كونُ العقل السليم أيضا حجّة من الحجج .

فالحكم المستكشفُ به حكمٌ بلّغه الرسولُ الباطنيّ الذي هو شرعٌ من داخل ،

-----------------

( و ) ان قلت : فعلى هذا يلزم ان لانشك في تقديم النقلي على العقلي الفطري ايضاً ، فلماذا استشكل بعض الاخباريين في تقديم هذا على ذاك ، او تقديم ذاك على هذا ؟ .

قلت : ( وجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقل الفطري السليم : ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل ) الذي أودعه اللّه في الانسان ( وانه حجة باطنة ) كما الانبياء حجّة ظاهرة ( وانه مما يعبد به الرحمن ، ويكتسب به الجنان (1) ، ونحوها ) من الاخبار المادحة للعقل .

مثل ما ورد : « إنّ أوّل خَلقٍ خَلَقَهُ اللّه ُ » ، وانه سبحانه قال له : « أقبِل فأقبَل ، وأدبِر فأدْبَر ، فَقالَ لَهُ : وَعِزَّتي وَجَلالِي ما خَلَقتُ خَلقاً أحَبُّ إلَيّ مِنكَ ، بِكَ أُثيبُ وَبِكَ أُعاقِبُ » (2) ( ممّا يستفاد منه كون العقل السليم ) الفطري غير المشوب بنوازع الهوى ( أيضاً ) كالأولياء عليهم السلام ( حجة من الحجج ، فالحكم المستكشف به ) اي بالعقل الفطري ( حكم بلّغه الرسول الباطني الذي هو ) نبي و ( شرع من داخل )

ص: 166


1- - الكافي أصول : ج1 ص16 ح12 .
2- - من لايحضره الفقيه : ج4 ص369 ب2 ح5762 .

كما أنّ الشرعَ عقلٌ من خارج .

وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء ماذكره السيّد الصدر قدس سره ، في شرح الوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به العقلُ ،

-----------------

الانسان ( كما ان الشرع ) الموحى بواسطة النبي ( عقل من خارج ) (1) الانسان .

إذن له تعالى حجتان يسميان : بالنبي ، والعقل ، وكلاهما يكشفان عن شرع اللّه تعالى ، فسبب اشكال بعض الاخباريين هو التصادم الظاهري للحجتين في النقلي والعقلي .

والحاصل : ان الحكم المستكشف بغير واسطة العقل والحجة ، ملغى ، اما اذا كشف بواسطة احدهما ، وسكت الآخر ، كان حجة واذا تصادما ففيه الاشكال بانه هل يؤذ العقل ، او بما ورد من قبل الحجة ؟ اما اذا توافقا فما أحسنه ، وعليه : فالاقسام اربعة .

( ومما يشير الى ما ذكرنا ) : من ان مراد الاخباريين : مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الامتثال ( من قبل هؤاء ) الاخباريين ( ما ذكره السيد الصدر قدس سره في شرح الوافية في جملة ) من ( كلام له في حكم ما يستقل به العقل ) بمعنى : ان العقل يراه وان لم يكن شرع ، كحسن الاحسان ، وقبح الظلم .

ولا يخفى ان الاختلاف بين الناس من باب الصغريات ، لامن جهة الكبريين المذكورين ، فانك لاتجد من يقول : ان الاحسان ليس بحسن ، او الظلم ليس بقبيح ، وانّما يفعل ما يفعل ، او يقول ما يقول ، بزعمه واقعاً ، او لجهة مصلحة له فيه : انه ليس بظلم ، فان حتى مثل فرعون كان يقول : « إنّي أخافُ أن يُبَدِّلَ

ص: 167


1- - تفصيل النشأتين للراغب الاصفهاني : ص51 .

ما لفظه : « إنّ المعلوم هو أنّه يجبُ فعل شيء او تركُه او لايجبُ إذا حصل الظنُّ او القطعُ بوجوبه او حرمته او غيرهما من جهة نقل قولِ المعصوم عليه السّلام ، او فعلِه او تقريرِه ، لا أنّه يجب فعله او تركه او لايجب مع حصولهما من أيّ طريق كان» ، انتهى موضع الحاجة .

-----------------

دِينَكُم

»(1) ، والكفار كانوا يقولون « أجَعَلَ ألآلِهَةَ إلهاً واحِداً .. » (2) .

الى غير ذلك ( ما لفظه : ان المعلوم ) من الاخبار والاثار ( هو انه يجب فعل شيء ) كالصلاة ونفقة الزوجة ، واجراء الحد .

( او تركه ) كترك شرب الخمر ، وترك الجمع بين الاختين .

( او لايجب ) مع ترجيحٍ ، كالمستحب والمكروه ، او بدون ذلك كالمباح ( اذا حصل الظن ) المعتبر ( او القطع بوجوبه او حرمته او غيرهما ) من الاحكام التكليفية والوضعية ( من جهة ) متعلق ب- : « يجب » ( نقل قول المعصوم عليه السلام ، او فعله او تقريره ) طبعاً مع اشتمال كل من الثلاثة على الشرائط المقررة ، فالقول عن تقية ، او الفعل غير ظاهر الوجه ، أو التقرير أي السكوت لمانع ، وليس كذلك لأنها فاقدة للشرائط .

( لا انه يجب فعله او تركه او لايجب ) في سائر الأحكام ( مع حصولهما ) اي حصول وجوب الفعل او الترك او غيرها من الاحكام ( من أي طريق كان ) (3) ولو كان الطريق من غير المعصوم عليه السلام كأن يكون من العقل القطعي فرضاً ( انتهى موضع الحاجة ) من كلامه ، الدال على مدخلية الحجة في طريق الحكم ، فبدونه لا حكم .

ص: 168


1- - سورة غافر : الآية 26 .
2- - سورة ص : الآية 5 .
3- - شرح الوافية : مخطوط .

قلتُ : أوّلاً ، نمنعُ مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم اللّه سبحانه .

كيف والعقلُ ، بعد ما عرف أنّ اللّه تعالى لايرضى بترك الشيء الفلاني

-----------------

( قلت ) : استدلالهم بهذه الاخبار المتقدمة على عدم حجية العقل ، وان اللازم وساطة الحجة ، يرد عليه امور :

( أولاً : نمنع مدخلية توسط تبليغ الحجة في ) تنجز الاحكام و ( وجوب اطاعة حكم اللّه سبحانه ) فاذا علم الانسان انه حكم اللّه ، وعلم انه لم يقيده بكونه من طريق الحجة ، فهل يقال : بانه لايلزم عليه اتباعه ؟ ولو قيل بذلك ، لزم التناقض وهو محال .

والاخبار انّما تدل على اشتراط الطاعة بولاية وليّ اللّه مثلما تدل على ان الامور الشرعية يشترط في اجرها وقبولها الاعتراف باللّه سبحانه .

وفرق بين لزوم توسط الحجة ، وبين اشتراط قبول الحجة في القبول ، او في اسقاط العقاب .

و ( كيف ) يكون الحكم مشروطاً بوساطة الحجة ؟ ( و ) الحال ان ( العقل بعد ما عرف ان اللّه تعالى لايرضى بترك الشيء الفلاني ) فانه اذا وقع انسان في البئر يموت اذا لم ننقذه ، والقادر على الانقاذ - مثلاً - لايعرف هل قاله الائمة عليهم السلام ام لا ؟ وهو يعلم ان اللّه يريد انقاذه ، حيث قد سمع قوله سبحانه : «وَمَن أحيَاها فَكَأنَّما أحيا النّاسَ جَمِيعاً» (1) .

او لم يسمع ذلك ، لكنه اهتدى اليه بفطرة عقله ، فانه لايشك في وجوب الانقاذ ، وان انقاذه حسن مثاب عليه .

ص: 169


1- - سورة المائدة : الآية 32 .

وعلم بوجوب إطاعة اللّه ، لم يحتج بذلك إلى توسّط مبلّغ .

ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعةٌ ، فانّ المقصودَ من أمثال الخبر المذكور عدمُ جواز الاستبداد بالأحكام الشرعيّة بالعقول الناقصة

-----------------

ولهذا لم يقترب جعفر ابن ابي طالب عليهماالسلام من الخمر والزنا والكذب وعبادة الاصنام لاهتداء عقله اليه ، كما استدل هو بعقله عندما سأله الرسول صلى الله عليه و آله وسلم عن ذلك ، وشكره اللّه تعالى عليه .

فاذا عرف الانسان ( وعلم ) بضرورة عقله ( بوجوب اطاعة اللّه لم يحتج بذلك) كالانقاذ في المثال ( الى توسط مبلّغ ) .

( و ) ان قلت : فلماذا اشترط في الأخبار المتقدمة لزوم توسط الحجة ؟ .

قلت : ( دعوى استفادة ذلك ) اي مدخلية الحجة في الحكم حتى يجب او يحرم او ما اشبه ( من الاخبار ) المتقدمة ( ممنوعة ) .

( ف- ) ان قلت : ما هو المقصود إذن من هذه الاخبار ؟ .

قلت : ( ان المقصود من امثال الخبر المذكور ) والمراد من الخبر جنس الخبر ، لا خبر واحد ، فان الجنس قد يؤي بالمفرد المحلى باللام ، مثل : اكرم العالم ، وقد يؤي بالمفرد المجرد ، مثل : « آتِنا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً » (1) .

و « تَمرَةٌ خَيرٌ مِن جرادة » (2) .

الى غير ذلك كما ذكرناه في « الاصول » هو ( عدم جواز الاستبداد ) والانفراد ( بالاحكام الشرعية بالعقول الناقصة ) حيث ان العقل ما لم ينظم اليه الشرع

ص: 170


1- - سورة البقرة : الآية 201 .
2- - وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح172 ، فقه الرضا : ص228 .

الظّنّية ، على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات ،

-----------------

ناقص ، وانّما هما معاً جناحا الكمال .

( الظنية ) اذ الغالب كون الانسان يظن بالشيء ولا يستيقن به ، كما كان دأب العامة من معاصري الحجج ( على ما كان متعارفاً ) بين الناس المناوئين لهم عليهم السلام ( في ذلك الزمان من العمل بالاقيسة والاستحسانات ) والمصالح المرسلة .

والفرق بين هذه الثلاثة هو كالتالي :

ان القياس عبارة عن : تشبيه شيء بشي لاسراء حكمه اليه ، مثلاً : يُسري حكم الشاة الى الكلب في حلّيته - كما قال به بعض العامة - .

والاستحسان : ما لا شبه له في الشريعة حتى يقيس المشبه على المشبه به ، وانّما يستحسن ان يكون الحكم كذلك ، لانه اقرب الى ذوق المستحسن ، فيقول - مثلاً - ليستحسن ان يكون الكشف العلمي في الزنا ، نازلاً منزلة الشهود والاقرارات الاربعة ، وقائماً مقامها في اثبات الحكم .

واما المصالح المرسلة : فهي عبارة عن عدم وجود قياس ولا استحسان وانّما هناك مصلحة مرسلة ، اي لم يقل الشارع والعقل فيها شيئاً ، لا نصاً ولا قياساً ولا استحساناً ، وانّما يحكم فيها الفقيه بما شاء ، فاذا توقف امر مرور السيارات وضمان سلامتها من الاصطدام - مثلاً - على السير من ذات اليمين او ذات اليسار يحكم بالسير من ذات اليمين ، لا لقياس او استحسان ، بل لانه مصلحة مرسلة كذلك للفقيه ان يحكم حسب هواه ، كما يأكل الانسان ، ويلبس ويركب ويسكن حسب هواه ، لا لقياس او استحسان .

هذا الماع الى هذه الامور الثلاثة ، والاّ فالتفصيل يطلب من مظّانه.

ص: 171

من غير مراجعة حجج اللّه في مقابلهم عليهم السلام .

وإلاّ فادراكُ العقل القطعيّ للحكم المخالف للدليل النقليّ على وجه لايمكن الجمعُ بينهما في غاية الندرة ،

-----------------

اما عندنا نحن الشيعة الامامية : فليس شيء الاّ فيه حكم من كتاب او سنة ، والفقيه انّما يجتهد لرد الفروع الى الاصول ، من غير فرق بين الحكم ذي موضوعين ، او الاختياري والاضطراري .

فالاول : كالقصر والتمام في السفر والحضر .

والثاني : مثل الادلة الأولية في قبال الضرر ، والحرج ، والعسر ، والاهم والمهم .

وعلى كلٍ : فالروايات في قبال اولئك الذين كانوا يعملون ( من غير مراجعة حجج اللّه ، بل في مقابلهم عليهم السلام ) حيث كانوا اذا عرفوا شيئاً عنهم ضادّوه ، كما قالوا في التختم ونحوه ، لكن لايخفى ان ذلك على سبيل الجزئية لا الكلية ، والا فان بعضهم كان يأخذ منهم عليهم السلام ايضاً .

( والاّ ) بأن لم يكن المقصود من الاخبار المتقدمة ما ذكرناه ، بل كان المقصود تقديم النقل على العقل ، لم يحتج الامر الى هذه الكثرة من الأخبار في بيان لزوم توسيط الحجة ( ف- ) ان ( ادراك العقل القطعي ) الذي كلامنا فيه ( للحكم المخالف للدليل النقلي ) بصورة يتعارض العقل والنقل و ( على وجه لايمكن الجمع بينهما) لا جمعاً بالحكم الاولي والثانوي ولا بذي موضوعين ولا بالعموم والخصوص ، وما اشبه ( في غاية الندرة ) .

مثل : كون الارض على البقرة والحوت ، وان اللّه يعذب حسب النية ، ويكون تخليد أهل النار بذلك ، مع ان العقل لايرى الاول قطعاً ، ويرى الثاني ظلماً .

لكن لايخفى ما فيه : اذ الاول مأوّل كما ذكره السيد الشهرستاني قدس سره في كتاب :

ص: 172

بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي الاهتمامُ به في هذا الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض .

وعلى ماذكرنا يحمل

-----------------

« الهيئة والاسلام » ولا عجب من ذلك ، فانه كم من مجاز في الكتاب والسنة ، بل هو من فنون البلاغة .

والثاني : وان ذكره بعض الفلاسفة ، الا انه منضماً الى قوله سبحانه :« جَزاءاً وِفَاقاً » (1) وما اشبه ، يعطي ان الخلود لايكون جزاءاً فوق العدل ، وعدم ادراك عقولنا خصوصيات العالم الآخر ، كعدم ادراك الطفل مسائل الرياضيات العالية ، لايدع مجالاً لاحتمال الظلم في حقه سبحانه .

( بل لانعرف وجوده ) اصلاً ، لما عرفت من ان نحو هذين المثالين ، ايضاً ، تمثيلهما للنادر غير تام ، بل حتى واذا وجد نادراً - فرضاً - ( فلا ينبغي الاهتمام به ) اي بهذا التعارض ، وتقديم النقل على العقل ( في هذه الاخبار الكثيرة ) فان الاهتمام بشيء نادر الوجود ، او غير موجود ليس من شأن الحكيم ، فكيف بهم عليهم السلام الذين هم في قمة العقل والحكمة ؟ .

( مع ) ان هناك جواباً ثانياً على ما ادعاه الاخباريون من إلغاء العقل ، وذلك ( ان ظاهرها ) اي ظاهر هذه الاخبار ( ينفي حكومة العقل ) مطلقاً ( ولو مع عدم المعارض ) فكيف يحملها الاخباريون على صورة ما اذا عارض العقل النقل فقط ؟ وهل هذا الاّ حمل المطلق على فرد منه بدون القرينة ؟ .

لكن يمكن ان يجاب عنهم : بانهم انّما يعملون بالعقل مع عدم المعارض وذلك لما ورد من حجية العقل ، خرج منه ما عارضه النقل ، لأقوائية ادلة النقل

ص: 173


1- - سورة النبأ : الآية 26 .

ماورد من : « أنّ دينَ اللّه لايُصابُ بالعُقولِ » .

وأمّا نفيُ الثواب على التصدّق مع عدم

-----------------

على اخبار حجية العقل ، اما اذا لم يكن معارض العمل نقلي ، كان اللازم بالعقل .

( و ) كيف كان : فانه ( على ما ذكرنا ) من حمل الاخبار الناهية ، على العمل بالعقل الناقص ، بدون الرجوع اليهم عليهم السلام ( يحمل ما ورد : من « إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بِالعقُولِ » (1) ) اي العقل الناقص ، لا العقل الذي هو حجة .

والحاصل : ان الجمع بين ادلة حجية العقل ، وبين ادلة : « دين اللّه لا يصاب بالعقول » ان الاول : في مجال العقل ، والثاني : في مجال الامور الشرعية ، التي لامجال للعقل فيها ، مثلاً : حسن الاحسان ، وقبح الظلم ، ووجوب العدالة ، وانقاذ الغريق والحريق والمهدوم عليه ، وحسن التواضع والسخاء والشجاعة ، وقبح الظلم والحسد والغرور والكبر ، الى غيرها من مجال العقل في الجملة .

بينما العبادات بخصوصياتها ، والديات ، وخصوصيات النكاح والطلاق وما اشبه ، انّما هي من مجال الشرع ، فلا تصادم بين الطائفتين من الروايات ، ودليل هذا الجمع هو القرائن الداخلية والخارجية في الروايات .

( واما ) ما ورد من الاخبار في نفي الثواب عن التصدق بغير دلالة وليّ اللّه مما يدل على عدم اعتبار العقل القطعي اذ العقل لايشك في حسن التصدق مطلقاً ، وقد خالفه النقل بعدم الثواب عليه ، وعدم الثواب يلازم عدم حسنه ، فالجواب عنه يكون باحد امور :

اولاً : ان ( نفي الثواب على التصدق مع عدم ) توسط الحجة وعدم

ص: 174


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

كون العمل به بدلالة وليّ اللّه ، فلو اُبقي على ظاهره تدلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّةٌ من حجج الملك العلاّم ، فلابدّ من حمله على التصدّقات الغير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين ،

-----------------

( كون العمل به ) اي بالتصدق ( بدلالة ولي اللّه ) وامره وارشاده لايمكن الالتزام بظاهره ( فلو اُبقي على ظاهره تدل على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) لما عرفت من حكومة العقل الفطري بحسن التصدق مطلقاً .

( مع اعترافه ) اي الاخباري ( بانه حجة من حجج الملك العلام ) بل في الروايات الخاصة ايضاً ما يدل عليه ، ففي الحديث : « لِكُلِّ كَبَدٍ حَرّى أجر » (1) .

وفي الحديث ما مضمونه : « تخفيف العذاب عن حاتم الطائي على احسانه مع انه كان كافراً ولم يكن احسانه بدلالة ولي اللّه » .

وورد أيضاً : « صحة صدقات الكفار ببناء الكنائس ، وان وقفهم عليها صحيح ، وكذلك مساجد العامة » (2) ومن المعلوم : ان الوقف من قسم الصدقات ، الى غير ذلك ، ( فلابد من حمله على ) خلاف الظاهر من ( التصدقات غير المقبولة ، مثل : التصدق على المخالفين ) من حيث انهم مخالفون ، والا فالتصدق عليهم لانسانيتهم مقبولة قطعاً ، ولقد كان الامام الصادق عليه السلام يتصدق عليهم في ظلام الليل قائلاً : لو كانوا منا لواسيناهم حتى بالدقة ، واعطى الامام الحسين عليه السلام الماء لاهل الكوفة الذين جاءوا لقتاله (3) الى غير ذلك .

ص: 175


1- - جامع الاخبار : ص139 ، بحار الانوار : ج74 ص370 ب23 ح63 ، وكذا ورد في مجمع البحرين مادة كبد « أفضلُ الصدقةِ إبراد كبدٍ حرّاء » .
2- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه : ج60 كتاب الوقوف والصدقات للشارح .
3- - راجع مقتل الحسين للمقرم : ص182 ، تاريخ الطبري : ج6 ص226 .

لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ، كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ، لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه السلام ، وبغضهم لأعدائه ؛ او على أنّ المرادَ حبطُ ثواب التصدّق ، من أجل عدم المعرفة لوليّ اللّه تعالى

-----------------

أما التصدق عليهم ( لاجل تدينهم بذلك الدين الفاسد ) حتى يرجع التصدق الى غير اللّه سبحانه ، مثل : التصدق للاصنام ، فذلك هو مورد الرواية ( كما هو الغالب في تصدق المخالف على المخالف ) .

ومن المعلوم : ان العقل الفطري لايحكم بحسن ذلك ( كما في تصدقنا على فقراء الشيعة ) فانه ( لاجل محبتهم لامير المؤنين عليه السلام ، وبغضهم لاعدائه ) .

وعلى هذا : فلا ثواب للتصدق وذلك من جهة عدم المقتضى للثواب .

( أو ) حمل الخبر على وجود المانع ، فان الثوب قد لايحترق لاجل انه لا نار ، وقد لايحترق لاجل انه رطب ، والنار الموجودة لاتؤر فيه ، فالخبر محمول ( على ان المراد : حبط ثواب التصدق ) فانه وان كان له في نفسه اجر ، الا ان الاجر يذهب هدراً ( من اجل عدم المعرفة لولي اللّه تعالى ) فهو من قبيل : « حُبُّ عَليّ عليه السلام حَسَنَةٌ لاتَضُرُّ مَعَها سَيّئَة ، وَبُغضُ عَليّ عليه السلام سَيّئَةٌ لاتَنفَعُ مَعَها حَسَنَة (1) .

فان حبّ علي عليه السلام كالبحر ، اذا صب فيه شي من القذارة لايقذر كاملاً ، وان قذر موضعاً منه في الجملة ، وبغض علي عليه السلام كالكنيف اذا صب فيه قارورة من ماء الورد ، لاينفع في تبديل رائحته الكريهة الى الرائحة الطيبة ، لان الغلبة في كلا الجانبين للاغلب الاعم ، لا للطاريء الاقل .

ص: 176


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص86 ، نهج الحق : ص259 .

او على غير ذلك .

وثانيا ، سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الاطاعة . لكنّا اذا علمنا إجمالاً بأنّ حكمَ الواقعة الفلانيّة لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة - مضافا إلى ما ورد من قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة حجّة الوداع :

-----------------

( او على غير ذلك ) كأن يراد : ان ثوابهم لايوجب رفع النار عنهم ، وان اوجب التخفيف .

هذا كله هو الجواب الاول عن قول الاخباري : بان العقل لايؤذ به اذا خالف النقل ، وبان توسط الحجة شرط في الاخذ بالحكم ، والا بأن لم يتوسط الحجة فلا حكم ، وان قطع به وقطع بان اللّه يريده .

( وثانياً : سلّمنا مدخلية تبليغ الحجة في ) ثبوت الاحكام بحيث لولا الحجة لا حكم ، وكذا سلّمنا مدخليته في ( وجوب الاطاعة ) فلا اطاعة بدون توسط ( لكنّا ) نقول : لا ملازمة بين وساطة الحجة والسماع من الحجة ، اذ من الممكن ان العقل يحكم بالحكم ، فنضم اليه علمنا بان النبي والائمة عليهم السلام قالوا كل الاحكام ، فنستكشف منه ان هذا الحكم الذي دل عليه العقل ، هو حكمهم عليهم السلام .

وعليه : ف( اذا علمنا اجمالاً ) الكبرى الكلية ( بان حكم الواقعة الفلانية ) كذا ، كالصلاة - مثلاً - فيمن توسط الارض الغصبية وليس له من الوقت حتى يصلي في الخارج ، فيصلي في الداخل وصلاته صحيحة فنكتشف ( لعموم الابتلاء بها ) ان حكمها ( قد صدر يقيناً من الحجة ) فان الوقائع الكثيرة الابتلاء بها ، لابد وان وقعت في زمانهم واستفتوا منهم ، وانهم اجابوا عنها .

( مضافاً الى ) علمنا به من جهة كثرة الابتلاء ( ما ورد من قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة حجة الوداع ) وهي آخر حجة حجها ، لانه روي انه صلى الله عليه و آله وسلم حج واعتمر اربعين

ص: 177

« مَعاشِرَ الناس ! ما من شيء يُقَرِّبُكُم إلى الجنّة ويُباعِدكُم عن النّار إلاّ أمرتكُم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى الناّر ويُبادِدكُم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكُم عنه »

-----------------

مرّة فقال فيها : ( مَعاشِرَ النّاس ) بالنصب لحذف حرف النداء ، وهو جمع معشر بمعنى ، الجماعة ، لانهم كانوا جماعات من مختلف البلدان والاماكن والقبائل ، ويسمون بالمعشر لعشرة بعضهم مع بعض ( : ما مِن شيءٍ ) واجب او مستحب ( يُقَرِّبُكُم إلى الجَنَّةِ وَيُباعِدُكم عَن النّارِ إلاّ أمرتُكُم بِه ) امر وجوب ، او استحباب امراً بالقول ، او بالفعل ، او بالتقرير ( وَما مِن شَيءٍ ) محرم او مكروه ( يُقَرِّبُكُم إلى النّار وَيُباعِدُكُم عَن الجنّة إلاّ وَقَد نَهَيتكُم عَنهُ ) (1) .

ومن المعلوم ان المكروه يبعد الانسان عن الجنة ، كما ان المباح لايبعد ولا يقرب .

والحاصل : ان المراد ذكر كل الاحكام المحتاج اليها الناس في حياتهم .

لا يقال : كيف والاحكام كثيرة ، ولم يكن للرسول صلى الله عليه و آله وسلم وقت لذكرها جميعاً ؟ .

فانه يقال : الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ذكرها جميعاً ولو بنحو الكلّيات ، وكذا بما أودعه علياً عليه السلام « من الف باب يفتح له من كل باب الف الف باب » (2) ، مما تكون

ص: 178


1- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ونظيره ورد في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح4 .
2- - اشارة الى قول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : علمني رسول الله الف باب من العلم يفتح لي من كل باب الف باب ، انظر الخصال للصدوق : ج2 ص647 ، بصائر الدرجات : ص276 ، الغدير للاميني : ج3 ص120 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج2 ص484 ح1003 ، كنز العمال : ج6 ص392 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 .

- ثمّ أدركنا ذلك الحكمَ ، إمّا بالعقل المستقلّ ، وإمّا بواسطة مقدّمةٍ عقليّة ، - نجزمُ من ذلك

-----------------

النتيجة انه صلى الله عليه و آله وسلم ذكر الف مليون باب من العلم ، بينما لانجد في الجواهر - وهو اضخم الكتب الفقهية الى زماننا حسب اطلاعنا - الاّ ما يضاهي ربع مليون حكم .

ولا يخفى ان ايداعه صلى الله عليه و آله وسلم لعلي عليه السلام هذه العلوم الكثيرة كان اعجازياً عن طريق المعجزة .

كما ان هذاالحديث يدل على الاعم مما ذكرناه : - من دلالة العقل على ذكرهم عليهم السلام ما هو محل الابتلاء دون غيره - حيث ان الحديث يدل على ذكره صلى الله عليه و آله وسلم ما كان هو محل الابتلاء في ذلك الوقت وما لم يكن .

( ثم ) اذا علمنا الصغرى و ( ادركنا ذلك الحكم ) الذي صدر عن الحجة ( اما بالعقل المستقل ) بدون دليل شرعي في عالم الاثبات ، كحكم الشارع باتيان الصلاة لمن توسط الارض الغصبية ، ولا مجال له من الوقت حتى يصلي خارج الارض ، لان الصلاة صلة بين اللّه والعبد ، ولا يجوز تركها بأي حال ، فان العقل مستقل بذلك .

( واما بواسطة مقدمة عقلية ) مثل : استفادتنا تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة من قوله عليه السلام : « إذا كان الماءُ قَدَرَ كُرٍّ لم ينجِّسُهُ شَيءٌ » (1) .

بضميمة مقدمة عقلية وهي : ان المشروط عدم عند عدم شرطه ف( نجزم من ذلك ) القياس صاحب الكبرى المتقدمة ، وهي : « ان الحكم ذكره الشارع قطعاً » والصغرى المذكورة وهي : « ان الحكم كذا للعقل المستقل ، او لمقدمة عقلية »

ص: 179


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 ، الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 .

بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادرٌ عن الحجّة ، صلوات اللّه عليه ، فيكون الاطاعةُ بواسطة الحجّة .

إلاّ أن يدّعي : أنّ الأخبارَ المتقدّمة وأدلّةَ وجوب الرجوع الى الأئمة عليهم السلام ، تدلُّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه

-----------------

فانهما يوجبان الجزم بالنتيجة .

وصورة القياس تكون هكذا : « الحكم الكذائي دل عليه العقل » « وكل ما دل عليه العقل ذكره الشرع » « فالحكم الكذائي حكم به الشرع » .

و ( ب- ) ذلك يظهر لنا ( ان ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجة صلوات اللّه عليه ) ففي المثال الاول نقول : « الحكم بوجوب الصلاة في الغصب حكم عام البلوى » « وكل حكم عام البلوى صادر عن الحجة » « فوجوب الصلاة صادر عن الحجة » وفي المثال الثاني نقول : « الحكم بنجاسه الماء مستفاد من اذا الشرطية » « وما استفيد من اذا الشرطية صادر عن الحجة » « فالحكم بالنجاسة صادر عن الحجة » .

وعليه : ( فتكون الاطاعة بواسطة الحجة ) قد انكشف عن الدليل العقلي المستقل ، او عن مقدمة عقلية ( الاّ ان يدعى ) بصيغة المجهول ، او يدّعي الاخباري : ( ان الاخبار المتقدمة ) الدالة على وجوب اخذ الاحكام من الحجة ، وبدلالته .

( و ) كذا( ادلة وجوب الرجوع الى ) الرسول صلى الله عليه و آله وسلم والزهراء سلام اللّه عليها و ( الائمة عليهم السلام ) خاصة بالسماع عنهم ، فلا تشمل ما نستكشفه بواسطة العقل المستقل ، او بواسطة مقدمة عقلية .

وذلك لانها ( تدل على مدخلية تبليغ الحجة وبيانه ) اي بيان الحجة

ص: 180

في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يُعلم من طريق السماع عنهم عليهم السلام ولو بالواسطة ، فهو غير واجب الاطاعة .

وحينئذٍ : فلا يجدي مطابقةُ الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه السلام .

لكن قد عرفتَ عدمَ دلالة الأخبار ، ومع تسليم ظهورها ، فهو أيضا من باب تعارض النقل الظنّي

-----------------

( في طريق الحكم ) فلا يفيد ما في طريقه العقل ( وان كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم السلام ولو بالواسطة ) كالسماع من الرواة الذين سمعوا منهم عليهم السلام - اذ لاشك انه داخل في تلك الروايات ، لعدم الاحتياج الى السماع من لفظ المعصوم - ( فهو غير واجب الاطاعة ) .

ووجه هذا الادعاء : ان مثل هذا الحكم الذي في طريقه العقل داخل في قولهم عليهم السلام : « إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالعُقُول » (1) .

( وحينئذٍ : فلا يجدي ) مجرّد (مطابقة الحكم المدرك) بواسطة العقل ( لما صدر عن الحجة عليه السلام ) واقعاً من جهة عموم الابتلاء ، اذا لم نسمعه بدون الواسطة ومع الواسطة عن المعصوم عليه السلام .

( لكن ) فيه اولاً : انك ( قد عرفت عدم دلالة الاخبار ) على لزوم السماع عن المعصوم عليه السلام بل هي في مقام رد العامة في استبدادهم بالعقول بدون الاحتياج اليهم عليهم السلام .

( و ) ثانياً : ( مع تسليم ظهورها ) اي ظهور تلك الاخبار في اعتبار السماع عنهم عليهم السلام فقط ( فهو ) اي هذا الظهور ( ايضاً من باب تعارض النقل الظني )

ص: 181


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

مع العقل القطعيّ ، ولذلك لا فائدةَ مهمّةً في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقلُ بحكم وقطع بعدم رضاء اللّه جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل تركُ العمل بذلك ما دام هذا القطعُ باقيا ،

-----------------

لان هذه الاخبار الآمرة بالرجوع اليهم فقط ، انّما تفيد الظن الخاص - مقابل الظن الانسدادي - ( مع العقل القطعي ) اذ العقل اذا قطع بان حكم الواقعة كذا ، وان اللّه يريد هذا الحكم ، لايتمكن الظن الناشيء من الخبر أن يقوم في قباله .

لايقال : كيف يقطع الانسان بشيء ويظن بخلافه ؟ .

لانه يقال : المراد هو الظن النوعي لا الظن الشخصي - كما قرر في محله - .

( ولذلك ) الذي ذكرناه : من انه من تعارض القطع والنقل ( لافائدة مهمة في هذه المسألة ) وهي : دلالة الاخبار في الانحصار على السماع منهم ، وانّما قال : لافائدة مهمة ، لانه قد يترتب عليها فائدة فيما لو لم يكن العقل قطعياً ، كما لو لم يقطع العقل بوجوب الصلاة في الدار المغصوبة - في المسألة السابقة - فانه يكون حينئذٍ من تعارض الظن العقلي مع الظن النقلي ، فليس كل مكان ظن من النقل ، وقطع من العقل .

وانّما لافائدة مهمة ( اذ بعد ما قطع العقل بحكم ) سواء بالكشف من العقل المستقل ، او بسبب مقدمة عقلية - كما سبق مثالهما - ( وقطع ) العقل ايضاً ( بعدم رضاء اللّه جل ذكره بمخالفته ) .

بمعنى : انه قطع بعدم الاحتياج الى السماع ( فلا يعقل ترك العمل بذلك ) الحكم ( ما دام هذا القطع باقياً ) .

ومعنى : « لايعقل » : ان العقل يقول له : اذا خالفت فانت تستوجب العقاب ، فهو كمن قال له المولى : اسمع كلام خادمي فلان ، وجاء العبد الى الدار فراى ولد

ص: 182

فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمأوّل او مطروح .

نعم ، الانصافُ أنّ الركونَ إلى العقل فيما يتعلّق بادراك

-----------------

المولى قد سقط في البئر ، وعلم انه ان لم ينقذه هلك ، واذا هلك قطع بان المولى سيعاقبه عقوبة شديدة ، ولم يكن الخادم موجوداً حتى يستفسر منه وجوب انقاذ الولد ، او عدم وجوبه لكنه مع قطعه ذلك لم ينقذ الولد حتى هلك ، اليس العقلاء يرون استحقاقه للعقاب لمكان قطعه وان لم يأمره الخادم ؟ .

وعليه : ( فكل ما دل على خلاف ذلك ) كالاخبار الدالة على الانحصار في السماع ( فمأوّل ) بأن المراد منها : في قبال العامة لا في قبال العقل ( او مطروح ) اذا فرض انا لم نتمكن من تأويلها .

( نعم ) هذا الكلام منا ليس معناه ، الاعتماد في الفقه على العقليات ، والمناطات الفكرية ، حتى يستلزم انحراف الفقه عن منهج الفقهاء كما يزعمه بعض من يدعو الى تجديد الفقه منذ قرن من الزمان ، بل مرادنا : ان نسير بسيرة الفقهاء ، الذين كانوا على طريقة الائمة المعصومين عليهم السلام في ما امروا به من : ان « عليهم الاصول وعلينا الفروع » (1) .

أما اذا دلّ العقل القطعي المستقل ، او المقدّمي ، على شيء ، نقول به - وهذا نادر كما لايخفى - .

فان ( الانصاف ان الركون الى العقل ) بمقدماته الفلسفية المشهورة ، من ذكر التناقض والتضاد ، والدور ، والخلف ، والاقيسة المستظهرة ( فيما يتعلق بادراك

ص: 183


1- - فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا ، وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 ، كما ورد عن الامام الرضا عليه السلام (علينا القاء الاصول وعليكم التفريع) ، وسائل الشيعة : ج27 ص62 ب6 ح33202 .

مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجبٌ للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ،

-----------------

مناطات الاحكام لينتقل منها ) اي من تلك المناطات المستخرجة ( الى ادراك نفس الاحكام ) المشابهة ( موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الأمر ، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك ) .

فان الانتقال من الفرد الى الكلي ، ومن الكلي المستنبط الى فرد آخر ، لأجل كون ذلك الكلي جامعاً بين هذين الفردين له صورتان :

الاولى : صورة الطبيعيات ، كأن ننتقل من تجربة الدواء الفلاني مرات عديدة الى ان العلاج الفلاني طبيعة لهذا الدواء ، والنتيجة : ان كل فرد من أفراد هذا النوع له نفس التأثير ، وكذلك في مثل الامور الفيزيائية وغيرها .

الثانية : صورة الشرعيات ، كأن ننتقل من كون العدّة في المرأة لأجل عدم اختلاط المياه ، الى ان العلة عدم الاختلاط ، وننتقل منه الى ان المرأة العقيمة التي لا تلد ، ومن بوشر معها بحائل ، حيث لم ينتقل المني ، او بدون المني ، او كانت مقلوعة الرحم ، او ما اشبه ، لا عدة لها ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة ، التي يريد المتغربون ان يجعلوه منهجا فقهياً .

وهذا ضرره أقرب من نفعه ، لانه خلاف طريقة العلماء منذ الغيبة الى اليوم ، ويكون من : إتّباع غير سبيل المؤنين ، لأنه لو بنى الفقيه على سلوك هذا الامر ، لا يمضي زمان حتى يحصل له القطع بما لايرضى اللّه في موارد كثيرة ، ولا يكون حينئذٍ معذوراً ، كعدم معذورية الفلسفي الذي يبتني المقدمات العقلية الموصلة الى خلاف الادلة الشرعية ، للتقصير في المقدمات .

ص: 184

كما يدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة ، بمضمون : « إنّ دينَ اللّه لايُصابَ بالعُقولِ » ، و « إنَّهُ لاشَيء أبعَدُ عن دينِ اللّه مِن عُقولِ النّاس » .

وأوضحُ من ذلك كلّه روايةُ أبان بن تَغلب عن الصادق عليه السلام : « قال : قلتُ له : رَجُلٌ قَطَعَ إصبعا مِن أصابع المرأة ، كم فيها مِنَ الديَّةِ ؟ . قال : عشرُ من الابل .

-----------------

( كما يدل عليه ) اي على عدم جواز مثل هذا الركون الى العقل ( الاخبار ) المتقدمة ( الكثيرة الواردة بمضمون : إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ ) اي لايدرك ( بِالعُقُول ) (1) كما في بعضها ( وأنّهُ لاشَيءَ أبعَدُ عَن دينِ اللّه ِ مِن عُقولِ النّاسِ) (2) و « أبعد » هنا ليس بمعنى التفضيل ، بل بمعنى « البعد » مثل ما في الآية الكريمة : « أولى لَكَ فَأوْلَى » (3) ومثل قول الفقهاء : « أحوط » و « أقوى » ولايراد : أن طرفه أيضا« احتياط » أو « فيه قوة » .

( وأوضح ) الاشياء في افادة عدم الاعتماد على العقل في الشرعيات ( من ذلك) الذي ذكرناه من الاحاديث المتقدمة ( كله ) والضمير عائد الى كل واحد واحد منها ( رواية ابان بن تغلب ) على وزن تضرب ( عن الصادق عليه السلام قال : قُلتُ لَهُ : رَجُلٌ قَطَعَ إصبِعاً مِن أصابِع المَرأة ، كَم فِيها مِنَ الديّةِ ؟ ) والدية فيما اذا كان الجاني قد ارتكب الجناية خطاءاً ، أو شبه عمد ، اما اذا كان عمداً فالمجني عليه مخيّر بين الدية والقصاص ( قالَ عليه السلام : عَشرٌ مِنَ الابل ) أو ما يساوية ، فان دية الانسان احد ستة أشياء - مذكورة في الفقه - ، ولكل اصبع عُشر الدية .

ص: 185


1- - مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، كمال الدين : ص324 ح9 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص23 ح28 ، وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 .
3- - سورة القيامة : الآية 34 .

قال : قلتُ : قطع إصبعَين ؟ قال : عِشرون . قلتُ : قطع ثلاثا ، قال : ثلاثون . قلتُ : قطع أربعا . قال : عشرون . قلتُ : سبحان اللّه ! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ، كان يبلغنا هذا ونحنُ بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطانٌ . قال عليه السلام : مهلاً ، يا أبانُ ! هذا حكمُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنّ المرأةُ تُعاقِلُ الرّجلَ إلى ثُلث الدية ، فاذا بلغ الثلث رجع إلى النصف .

-----------------

( قال قُلتُ : قَطَعَ إصبِعَينِ ؟ قال عليه السلام : عِشرونَ ) من الابل ( قلت : قَطَعَ ثَلاثاً ؟ قال ) ديتها ( ثَلاثُون ) من الابل ( قُلتُ : قَطَعَ أربَعاً ؟ قال : عِشرونَ ) من الابل (قلتُ: سُبحانَ اللّه ِ ) وهذه الجملة تقال للتعجب ( يَقطَعُ ثَلاثاً فَيَكونُ عَلَيهِ ثَلاثُونَ ) من الابل ( وَيَقطَعُ أربَعاً فَيَكونُ عَلَيهِ عِشرونَ ؟ ) بينما مقتضى القياس : انه كلما زادت الجناية زادت الدية ، فيكف صارت الدية على الجناية الاكثر اقل ؟ .

ثم قال أبان للامام الصادق عليه السلام : ( كانَ يَبلغُنا هذا ) الحكم المخالف للقياس ( وَنَحنُ بالعِراقِ ) حيث كان حواره هذا مع الامام في المدينة ( فقُلنا : إنّ الّذي جاءَ بِهِ شَيطانٌ ) وليس هذا حكم اللّه تعالى .

ف( قال ) له الامام ( عليه السلام : مَهلاً يا أبان ) اي صبراً ، لاتستعجل في الفتوى ، فان (هذا ) اي وجوب العشرين في قطع الاربع ( حُكمُ رَسول اللّه ِ صلى الله عليه و آله وسلم ) .

ثم بيّن له الامام عليه السلام وجه هذا الحكم قائلاً : ( إنّ المَرأةَ تُعاقِل ) اي تساوي ، اي يكون عقلها كعقل ( الرَّجُلَ إلى ثُلُثِ الديّة ) ، والدية تسمى عقلاً ، من جهة انها توجب قيد الجاني ، والعقل بمعنى القيد ، ومنه العقل في قبال الجنون ( فاذا بَلَغَ الثُّلُثَ ) وارادت الدية المتجاوز قدرها على الثلث ( رَجَعَ إلى النّصفِ ) فدية الاصبع الواحدة عشرة ، والاثنتين عشرون ، والثلاثة ثلاثون ، فاذا كانت الزيادة

ص: 186

يا أبان ! إنّك أخذتني بالقياس ، والسُّنَّة إذا قيسَت مُحِقَ الدّين » .

-----------------

على الثلث اي الثلاثين ، رجعت الدية الى نصف دية الرجل ، وحيث ان دية الرجل في اربعة اصابع اربعون إبلاً ، كانت دية المرأة في اربعة اصابع عشرين ابلاً .

ثم قال الامام عليه السلام : ( يا أبانُ ، إنّكَ أخَذتَني ) واشكلت عليّ ( ب- ) سبب (القياسِ) حيث انه لم يوافق كلامي القياس ( و ) لكن اعلم ان ( السُنَّة ) التي جاء بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ( إذا قِيسَت ) بعض افرادها ببعض ( مُحِقَ ) اي بطل (الدّينُ ) (1) فاللازم ترك القياس وهنا امران : الاول : لماذا دية المرأة نصف دية الرجل ؟ .

والجواب : ان الدية ليست هي قيمة الانسان رجلاً كان أو امرأة ، وانّما لوحظ فيها الامر الاقتصادي ، ومن المعلوم : ان المرأة اضعف من الرجل في تحصيل المال ، حتى في العالم الذي فسح للمرأة كل مجال فانها لم تتمكن ان تعادل الرجل في كسب المال ، ولهذا كان ارثها ايضاً في الغالب نصف ارث الرجل ، كما ان نفقتها بنتاً واختاً واُمّا وزوجة على الرجل في الغالب ، فالرجل وارده اكثر ، ونفقته اكثر ، فديته تكون اكثر ، ليسدّ الخلأ الاقتصادي .

الثاني : لماذا لم يكن من الاول لكل اصبع من اصابع المرأة خمسة من الابل ؟ .

والجواب : نفع المرأة وعدم ضرر الجاني لوحظا معاً الى حدّ الثلث ، فهذا هو الاستثناء ، لا ان ديتها على النصف استثناء ، وذلك جبراً لخاطرها بما لايتضرر الجاني ضرراً بليغاً ، فاذا تجاوز الامر الثلث رجع الى القاعدة ، وهي : النصف ، هذا بالاضافة الى ان كثرة المعرضية للجراحات الصغيرة اوجبت تشديد الشارع في ديتها الى حد الثلث ، بينما الجراحات الكبيرة ليست المعرضية لها بتلك الكثرة ،

ص: 187


1- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

وهي وإن كانت ظاهرةً في توبيح أبان على ردّ الرواية الظنيّة التي سمعها في العراق بمجرّد استقلال عقله

-----------------

ولذا جعلت ديتها على القاعدة .

ومثله هذا موجود حتى لدى عقلاء العالم ، فان عقلاء العالم قرروا : عدم متابعة المحكمة للنزاعات الطفيفة ، فاذا صارت كبيرة تابعتها المحكمة .

وكذا قرروا : ان الماء والكهرباء والتلفون وما اشبه الى حد معيّن لكل وحدة منه قيمة دينار - مثلاً - فان زادت عن القدر المقرر ، اصبحت القيمة لكل وحدة نصف دينار ، وذلك للجمع بين حق الدولة في الاقل ، وامكان الناس في الاكثر .

وعلى هذا ، فأمر الدية عقلي وهو ابعد من ان يناله قياس أبان ، ومعنى ان الدين يمحق بالقياس : انه يوجب اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر لا يشابهه واقعاً ، وان زعم الناس انه يشابهه .

( و ) ان قيل : ان الرواية ليست توبيخاً على مراجعة العقل ، بل على ردّ الرواية المعتبرة السند .

فانه يقال : ( هي ) اي الرواية ( وان كانت ظاهرة في توبيخ ابان ) حيث قال له عليه السلام : « مهلاً » ( على ردّ الرواية الظنية ) ظناً حجة ، لانه كان خبراً واحداً معتبراً سندها ( التي سمعها ) ابان ( في العراق ) .

وانّما نقول : ان الرواية كانت معتبرة ، لانه ان لم تكن معتبرة ، كان اللازم ردّها بعدم حجية السند اي من باب عدم المقتضي ، لا ردها من جهة المانع ، وهو مخالفة حكمها للقياس والعقل ، فان مقتضى القاعدة ان يكون التعليل بعدم المقتضي - لا بوجود المانع - ، وانّما يعلل بالمانع ، اذا كا ن المقتضي موجوداً كما نحن فيه حيث ان ابان ردّ الرواية ( بمجرد استقلال عقله ) بواسطة القياس

ص: 188

بخلافه او على تعجّبه ممّا حكم به الامام عليه السلام ، من جهة مخالفته لمقتضى القياس ، إلاّ أنّ مرجعَ الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ، فهو توبيخٌ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع .

وقد أشرنا ، هنا وفي أوّل المسألة ، إلى عدم جواز الخوض في المطالب العقليّة لاستكشاف الأحكام الدينيّة والاستعانة بها في تحصيل مناط

-----------------

(

بخلافه ) اي بخلاف مضمون الرواية وهو تعليل بوجوب المانع .

( او ) في توبيخه ( على تعجبه ممّا حكم به الامام عليه السلام ) حيث قال أبان : « سبحان اللّه » وكان تعجبه ( من جهة مخالفته ) اي مخالفة حكم الامام عليه السلام ( لمقتضى القياس ) .

والحاصل : ان توبيخ الامام عليه السلام يرجع إما لردّ ابان الرواية، او لتعجبه من الحكم .

( الا ان مرجع الكل ) اي الامرين : من الردّ ، والتعجب ( الى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الاحكام ) من العلل المناسبة في الذهن ، لا من العلل الواقعية ، اذ العلل الواقعية ليست في متناول الانسان ( فهو ) اي توبيخ الامام عليه السلام لأبان ( توبيخ على المقدمات ) العقلية القياسية ( المفضية ) والمؤية ( الى مخالفة الواقع ) فتكون هذه الرواية شاهداً لما ذكرناه بقولنا : نعم الانصاف الخ .

( وقد اشرنا هنا ) عند قولنا : « نعم ، الانصاف » ( وفي أوّل المسألة ) عند قولنا : « ان ارادوا عدم جواز الخوض .. فلا وجه » ( الى عدم جواز الخوض في المطالب العقلية ) المبنية على المقدمات الحدسية غالباً ( لاستكشاف الأحكام الدينية ) منها ( و ) عدم جواز ( الاستعانة بها ) اي بتلك المطالب العقلية ( في تحصيل مناط

ص: 189

الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللّم ،

-----------------

الحكم ) وعلته ( والانتقال منه ) اي من المناط ( اليه ) اي الى الحكم - كما تقدّم مثاله - .

وذلك ( على طريق اللم ) وهو مشتق من « لِمَ » اي لماذا ومعناه الانتقال من العلة الى المعلول ، كما انه لا يجوز العكس ايضاً ، اي ان ننتقل من المعلول الى العلة فيرتب الاثر عليها .

مثلاً : النار علة الاحراق ، والاحراق علة الرماد ، فالانسان اذا رأى النار ، انتقل الى وجود الاحراق - بدليل « اللّم » واذا رآى الرماد ، انتقل الى وجود النار بدليل «ألإنّ » وكلاهما لايصح في الشريعة ، لأنا لانعلم العلل الحقيقية ، كما لانعلم المعلولات الحقيقية لكل حكم شرعي .

مثل : « التقوى » علة للصيام ، كما قال سبحانه : « كُتِبَ عَلَيْكُم الصّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذينَ مِن قَبْلِكُمُ لَعَلَّكُم تَتَّقون » (1) .

و « الصيام » علة لصحة البدن ، كما ورد في الحديث : « صُوموا تَصحّوا » (2) .

فلا يحق لنا ان نقول : « ان زيداً المتقي يصوم » انتقالاً من « التقوى » العلة ، الى « الصوم » المعلول ، فهو اذاً صحيح البدن ، ومن جهة قد نذر ابو زيد أن يتصدق اذا كان ابنه زيد صحيح البدن ، فننتقل من العلة الى المعلول : « صحة بدن زيد » فيترتب عليه حكم التصدق ووجوب الوفاء بالنذر .

وهكذا في عكسه : اي الانتقال من المعلول الى العلة نقول : ان عمراً صحيح البدن - كما نشاهدة - فهو اذاً يصوم ، فهو اذاً متقي ، والمتقي تقبل شهادته ، فتقبل

ص: 190


1- - سورة البقرة : الآية 183 .
2- - دعائم الاسلام : ج1 ص342 ، غوالي اللئالي : ج1 ص268 ، دعوات الراوندي : ص76 .

لأنّ أُنسَ الذهن بها يوجبُ عدمَ حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأً لطرح الأمارات النقليّة الظنيّة ،

-----------------

شهادة عمرو ، « انتقالاً » من المعلول وهو صحة البدن ، الى العلة وهو التقوى ، وهذا الانتقال يترتب عليه قبول الشهادة .

وهناك شيء ثالث غير « اللّم » و « ألإن » وهو الانتقال من الملازم الى الملازم سواء في الايجاب ، مثل : الانتقال من الحرارة الى الضوء ، و كلاهما متلازمان للنهار ، حيث الشمس طالعة ، او في السلب ، مثل : انه اذا كان النهار فليس بليل ، واذا كان ليل فليس بنهار ، لانهما ضدان لا ثالث لهما - .

هذا في التكوينيات ، ونأتي بمثل ذلك في التشريعيات ، فنقول مثلاً : ورد في الحديث : « الحَياءُ والايمان مُقتَرِنانِ » (1) .

فاذا رأينا في انسان حياءاً ، نقول : انه مؤن ، ونرتب عليه احكام الايمان ، فاذا مات دفناه في مقبرة المسلمين ، والحال انا لانعلم بانه مسلم او كافر ، لانه كان - مثلاً - يعيش في برّية ليست من ارض الاسلام ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة التي توجب الاطالة فيها الخروج عن مقصد الشرح ، واللّه المستعان .

وانّما لايجوز الخوض ( لان انس الذهن بها ) اي بالمطالب العقلية ( يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه ) من طريق المعصومين عليهم السلام ( من الاحكام التوقيفية ) التعبدية ، سواء في العبادات ، او المعاملات او سائر الاحكام الشرعية .

( فقد يصير ) انس الذهن المنتهي الى عدم الوثوق ( منشأً لطرح الامارات النقلية ) و ( الظنية ) التي اعتبرها الشارع ، كخبر الواحد ، وحجية الظهور ، ولزوم قبول قول الشاهد ، او غير ذلك ، مع ان الشرع متوقف على أخبار الاحاد ، وحجية

ص: 191


1- - الكافي أصول : ج2 ص106 ح4 ، مجموعة ورام : ج2 ص188 ، مشكاة الانوار : ص233 .

لعدم حصول الظّن له منها بالحكم .

-----------------

الظهور ، وحجية الشاهد - على الشرائط المقررة في الفقه - .

وانّما يطرح الخائض في المطالب العقلية والامارات ، ( لعدم حصول الظن له ) اي لمن انس ذهنه بالامور العقلية ( منها ) اي من الامارات ( بالحكم ) الشرعي الواصل اليه ، واذا لم يظن لايأخذ بالحكم .

والحاصل : ان الاعتماد مطلقاً على العقليات افراط ، وعدم الاعتماد اطلاقاً تفريط ، والاوسط هو طريقة فقهائنا العظام قدس سرهم من الشيخ الى الشيخ ، ومن السيّد الى السيّد ، اي من شيخ الطائفة الى الشيخ المرتضى ، ومن السيّد المرتضى الى السيّد صاحب العروة .

ولا يخفى : انه قد ابتلي بهذا الخوض المتجددون الذين انس ذهنهم بالقوانين الغربية ، ففي باب الطهارة يرون : ان كل معتصم مطهر ، وفي باب الصلاة : انه لذكر اللّه واستدلوا لذلك بقول سبحانه : « أقِم الصّلاةَ لِذِكرِي » (1) .

فقالوا ، اذا ذكر الانسان اللّه سبحانه كفى عن الصلاة ، وفي باب الصوم انه للتقوى ، فاذا كان متقياً فلا حاجة اليه ، وفي باب الحج انه كما قال اللّه تعالى :

« لِيَشهَدوا مَنافِعَ لَهُم » (2) .

فاذا كان بناء مؤسة خيرية انفع كفى عن الحج ، وفي باب الخمس والزكاة انهما من جهة ادارة الامور ، فاذا امكنت الادارة بواسطة سائر الضرائب صح جعلها عوضهما ، واستدلوا له بقوله سبحانه : « كَي لايَكونَ دولَةً بَينَ الأغنياءِ مِنكُم » (3) .

وفي باب الزواج بالاربع ، انه كان من جهة كثرة النساء في اوّل الاسلام ، فحيث

ص: 192


1- - سورة طه : الآية 14 .
2- - سورة الحج : الآية 28 .
3- - سورة الحشر : الآية 7 .

وأوجبُ من ذلك تركُ الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لادراك ما يتعلق باصول الدين ، فانّه تعريضٌ للهلاك الدائم والعذاب الخالد .

-----------------

لايكون اليوم ذلك فلا حق لأحد الا في زوجة واحدة .

وفي باب كثرة النسل انها حيث تنافي الموارد الاقتصادية الحالية ، فاللازم تحديدها ، الى غيرها ، وغيرها مما ذكروه في كل الفقه .

ومن نظر الى كتاب « الوسيط » للسنهوري من مصر ، وكتاب « القانون » للامامي في ايران رأى الآلاف من هذه الاحكام التي نشأت من التأثر بالقوانين الغربية (1) .

( و ) على اي حال ، فانه ( اوجب من ذلك ) اي من ترك الخوض في العقليات لاستنباط الاحكام الشرعية ( ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية ) المرتبطة بالعقائد ( لادراك ما يتعلق باصول الدّين ) ووجه الاوجبية : ان الانحراف في فروع الدّين ، يوجب العصيان وبعض العقاب ، اما الانحراف في اصول الدّين ، فانه يوجب الكفر ودوام العقاب والعياذ باللّه العاصم .

( فانه ) اي الخوض في العقليات في اصول الدّين ( تعريض ) للنفس ( للهلاك الدائم والعذاب الخالد ) اذا انحرف الى ما يخالف الحق فيها ، ولذا كان بعض الفقهاء يشترطون على من كان يريد درس الفلسفة ، ان يقويّ اولاً وقبل كل شيء مباني اصول دينه ويحكّم اساس فكره وعقائده بالكتب الكلامية المستقيمة ، وبمطالعة الآيات والروايات الواردة في اصول الدّين ، ثم يتعلم عند من يعرف بالاستقامة التامة ، والذي يذكر الآيات والروايات في درسه ، ويرد بها الامور

ص: 193


1- - وقد المع الشارح الى بعض تلك الامور في طيات بعض كتبه ككتاب العائلة والفقه الاسرة ولماذا تأخر المسلمون ؟ والأزمات وحلولها وسقوط بعد سقوط .

وقد اشير الى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ،

-----------------

المنحرفة لدى الوصول اليها في التدريس .

( وقد اشير الى ذلك ) اي الى ان الخائض معرض للعذاب الدائم ( عند النهي عن الخوض ) في التفكر ( في مسألة القضاء والقدر ) .

أقول : في غالب الروايات تقديم القدر على القضاء ، نعم في بعض الروايات تقديم القضاء على القدر .

والقدر : عبارة عن تقدير الاشياء .

والقضاء : عبارة عن ايجادها - في التكوينيات - قال سبحانه : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ ... » (1) .

وللامر بها في التشريعيات ، قال سبحانه : - « وَقَضى رَبُّكَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إحْسانا » (2) .

ولعل الاصل في « قضى » : الاجراء ، فبناء البيت : اجراء ، والامر بكذا : اجراء ، بل وحتى الاعلام بشيء في المستقبل : اجراء ، قال سبحانه : « وَقَضَينا إلى بَنِي إسرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفسِدُنّ في الأرضِ مَرّتَينِ ...» (3) .

والمثال السهل ، للقدر والقضاء في الامور العادية هو : انه اذا قدّر المالك حدود الدار ، التي يريد بنائها وسائر خصوصياتها ، من الغرف وغيرها ، يسمّى « تقديراً » ثم اذا أمر ببنائها ، او شرع المهندس في بنائها، سمّي كل واحد من الامرين « قضاءاً » .

واللّه سبحانه « قدّر الكون » ثم « اوجده في الخارج » ، هذا في الامور التكوينية .

ص: 194


1- - سورة فصّلت : الآية 12 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .
3- - سورة الاسراء : الآية 4 .

وعند نهي بعض أصحابهم عليهم السلام ، عن المجادلة في المسائل الكلاميّة .

لكنّ الظاهرَ من بعض تلك الأخبار أنّ الوجهَ في النهي عن الأخير عدمُ الاطمينان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة فيصيرَ مُفحَما

-----------------

و « قدّر خصوصيات الصلاة والصوم والحج وغيرها » ثم امر بها ، وهذا في الامور التشريعية .

ثم انه انّما نهى عن الخوض في مسائل القضاء والقدر ، لان الخائض اذا لم يكن من العلماء العارفين ، امكن ان ينتهي الامر به الى الجبر ، او التجسم له سبحانه ، او انه ظالم والعياذ باللّه ، الى غير ذلك .

( وعند نهي بعض اصحابهم عليهم السلام عن ) البحث و ( المجادلة في المسائل الكلامية ) قيل : وانّما سمّي علم الكلام بعلم الكلام ، لان اوّل مسألة تكلموا فيها ، هي مسألة كيفية كلام اللّه سبحانه وخصوصياته ، حيث قال تعالى : « وَكَلّمَ اللّه ُ موسى تَكلِيماً » (1) .

( لكن الظاهر من بعض تلك الاخبار ) الناهية عن التكلم والمجادلة في المسائل الاصولية ( ان الوجه في النهي عن الاخير ) اي النهي عن البحث في المسائل الكلامية لبعض الاصحاب ، لم يكن من جهة انه خوض في العقليات الاصولية ، بل من جهة ( عدم الاطمينان ) العرفي ( بمهارة الشخص المنهي في المجادلة ) فمن يكون ماهرا لابأس بتكلمه وجداله مع الاعداء ، اما من لم يكن ماهرا فلا حق له في التكلم .

فالنهي ليس عن الكلام بما هو مطلب عقلي وامر فلسفي ، وانّما من جهة الشخص المنهي ( ف- ) اذا تكلم من لا مهارة في فن الكلام ( يصير مفحما )

ص: 195


1- - سورة النساء : الآية 164 .

عند المخالفين ويوجبَ ذلك وهنَ المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف .

-----------------

اي مجابا ومغلوبا ( عند المخالفين ) الذين يجادلونه ( ويوجب ذلك ) اي افحام المخالف للموالي ( وهن المطالب الحقة في نظر اهل الخلاف ) والاستهزاء باللّه ورسوله والائمة عليهم السلام ، كما هو الشأن فيمن ليس بماهر ، ويجادل الملحدين والمنحرفين .

ولهذا امر الامام عليه السلام هشام بن الحكم بالمناقشة والمناظرة قائلاً له : « مثلك فليكلم الناس » (1) .

وقال الصادق عليه السلام ليونس - عندما ورد عليه رجل من الشام يريد البحث والجدل - : « يايونس لو كنت تحسن الكلام كلمته » ، فقلت : جعلت فداك اني سمعتك عن الكلام تقول : ويل لاصحاب الكلام يقولون : هذا ينقاد وهذا لاينقاد ، وهذا ينساق وهذا لاينساق ، هذا نعقله وهذا لانعقله ، فقال ابو عبد اللّه عليه السلام : انّما قلت : « وَيلٌ لَهُم إن تَرَكوا ما أقول ، وَذَهَبوا إلى مايُرِيدون » (2) .

وفي رواية اخرى : حيث نهى الامام عليه السلام بعض الاصحاب عن التكلم ، فقال للامام : إذن لماذا مؤمن الطاق يتكلم ؟ قال له الامام عليه السلام : انه يطير وينقض (3) ، كناية عن معرفته بالنقض والرّد ، بينما لم يكن المنهي يعرف مثل ذلك ، والروايات كثيرة مذكورة في بابه ، من البحار وغيره ، واللّه المستعان .

ثم لايخفى ان المطالب المربوطة بالمبدء والمعاد وخلق الكون والرسالة والامامة على قسمين : -

ص: 196


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص173 ب1 ح4 .
2- - الكافي أصول : ج1 ص171 ح4 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص71 ب7 ح33230 بالمعنى .

...

-----------------

الاول : ما هو خارج عن ادراك العقل ، وذلك لان العقل محدود حسب كونه ممكنا ، واللّه سبحانه وتعالى وصفاته غير محدود ، ولا يعقل احاطة المحدود بما هو غير محدود ، كما لايعقل عكسه ، اي انطباق غير المحدود على المحدود - فكلا الامرين يستلزم التناقض - .

الثاني : ماهو ليس بخارج عن ادراك العقل .

اما التكلم في الاول : فانه لايزيد الانسان علما ، ولا وصولاً الى الحقيقة والواقع ، وعليه ، فالأولى عدم التكلم فيه ، لانه على اقل تقدير ضياع للعمر .

واما التكلم في الثاني : فهو انّما يصح اذا كان مما له الى النتيجة سبيل والا كان كمدير صيدلية بغير علم مسبق ، فهل يتمكن ان يميّز بين مختلف الادوية ومنافعها ومضارها ؟.

والروايات الواردة في المقام ناظرة الى الامور الثلاثة كل في موضعه .

وهناك تقسيم آخر بالنسبة الى الاشخاص : فبعض الاذهان تتمكن ان تستوعب المطالب الممكنة ذاتا ، وبعضها لاتتمكن ، لاختلاف العقول ، قال عليه السلام :

« إنّ هذه القُلوبُ أوعِيَةٌ » (1) .

فاللازم على الانسان ان يعرف قدر امكانه حتى لايدخل فيما ليس بامكانه ، كاختلاف الاجسام في قدرة الحمل للاشياء الثقيلة ، حيث يلزم على الحامل للاثقال ان يعرف مقدار قدرته الجسمية ، فلا يحمل ما لاطاقة له به ، وكثيرا ما اذا حمل اوجب عطبه وهلاكه.

ص: 197


1- - نهج البلاغة : خطبة 147 ، روضة الواعظين : ص10 ، تحف العقول : ص169 ، كمال الدين : ص289 ، الارشاد : ج1 ص227 ، الامالي للمفيد : ص247 ، غرر الحكم : ص67 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص346 .
التنبيه الثالث : قطع القطاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطاع لا اعتبار به ولعلّ الأصلَ في ذلك ما صرّح به كاشفُ الغطاء قدس سره ، بعد الحكم بأنّ كثيرَ الشكّ لا اعتبارَ بشكّه .

-----------------

قطع القطاع

( الثالث ) من تنبيهات بحث القطع وهوانه : ( قد اشتهر في ألسنة المعاصرين ) كصاحب الجواهر وغيره ( ان قطع القطاع ) الذي يكثر قطعه من غير الاسباب العادية المفيد للقطع ، بان تمرض ذهنه في قبال من لايقطع من اسباب القطع ، لتمرض ذهنه ايضا ، والوسط بينهما هو الذي يحصل له القطع من الاسباب المتعارفة كسائر الناس المتعارفين في قطعهم وظنهم وشكهم .

ومنه يعلم انه لا يراد بالقطاع هنا : من كثر قطعه لكثرة علمه ، كالمهندس الذي يكثر قطعه بصغريات الهندسة ، مما ليس كذلك جاهل الهندسة .

وعليه : فالقطاع اعتباطا ( لا اعتبار به ) بمعنى ان قطعه ليس بحجة .

( ولعل الاصل في ذلك ) اي المنشأ في هذا الاشتهار ( ماصرح به ) الشيخ جعفر الكبير الملقب ب- : ( كاشف الغطاء قدس سره ) وانّما لقب بذلك ، لانه كتب كتابا سماه : « كشف الغطاء » ومراده : كشف غطاء الفقه ( بعد الحكم ) اي بعد حكمه في ذلك الكتاب ( بان كثير الشك لا اعتبار بشكه ) فانه يبني على الصحيح من طرفي الشك ، واذا كان كلا الطرفين صحيحا بنى على أيهما اراد .

اما اذا كان كلا الطرفين باطلاً ، كما اذا شك في ان ركعات صلاته التي صلاها

ص: 198

قال « وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنّه فيلغو اعتبارُهما في حقّه » انتهى .

أقولُ : أمّا عدمُ اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ،

-----------------

ستا او سبعا ، كانت الصلاة باطلة من جهة ان معنى هذا الشك : علمه التفصيلي بالبطلان ، وذلك اما من جهة ان الصلاة كانت ست ركعات ، او من جهة انها كانت سبع ركعات .

( قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنه ) مما يكون الظن فيه حجة ، باعتباره طريق العقلاء ، كالظن بالظهور ، ومطابقة الخبر الواحد الجامع للشرائط للواقع والظن بصحة اعمال الناس واقوالهم ، الى غير ذلك فاذا كثر قطعه او ظنه على غير المتعارف ، كأن يقطع او يظن بسبب الرؤا ، او بالتطيّر ، او بالتفؤل ، او باخبار الصبيان ، والرمّالين ، والمنوّمين ، وما اشبه ذلك ( فيلغوا اعتبارهما ) اي القطع والظن ( في حقه ) (1) أي في حق كل من القطاع والظنّان ( انتهى ) كلام كاشف الغطاء قدس سره .

( اقول : اما ) عدم اعتبار شك كثير الشك ، فلان المتبادر من أدلة الشك : هو الشاك المتعارف ، فالشكّاك خارج عن ادلة احكام الشك ، مضافاً الى وجود النص في عدم اعتبار شك كثير الشك ، كما ان في عكسه : اي قليل الشك ، بأن يظن دائماً فانه يكون كمعتارف الشك ، محكوم بحكم الشاك ، لا بحكم الظان - كما سيأتي - .

واما ( عدم إعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه ) فان الظن حجة في بعض

ص: 199


1- - كشف الغطاء : ص61 .

الاماكن، - لا في أي مكان - مثل: الظن بالقبلة، والظن بعدد الركعات، والظن الحاصل فلأنّ أدلّةَ اعتبار الظنّ في مقام يعتبر فيه مختصّةٌ بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارفُ حصولُ الظنّ منها لمتعارف الناس

-----------------

من قول الاعراب بالميقات ، الى غير ذلك ( فلان ادلة اعتبار ) حجية ( الظن في ) كل ( مقام يعتبر فيه ) الظن ( مختصة ) بالمتعارف بحكم الانصراف اذ المنصرف من كلماتهم هو المتعارف في كل مقام .

وكذا قالوا : ان الوجه اذا كان كبيراً خارجاً عن المتعارف ، لايحتاج غسل اكثر مما بين الابهام والوسطى في غسل الوجه .

كما انه اذا كان بين الابهام والوسطى اكبر من المتعارف ، حتى يصل الى قريب الاذن ، او اصغر حتى لايستوعب كل الوجه المتعارف ، لم يلزم في الاكبر الغسل ، ويلزم في الاصغر غسل اكثر مما بينهما .

الى غير ذلك ، مثل : الاشبار في الكر ، والاذرع في الفرسخ .

لا يقال : فلماذا يقولون بكفاية غسل كل البدن في الغسل اذا كان البدن صغيراً ، ويلزمون ايضاً غسل كل البدن اذا كان كبيراً خارج المتعارف ؟ .

لانه يقال في الوجه : لاشيء هناك يدل على غسله خارجاً عن المتعارف بينما في الثاني : يدل على غسل الجميع قولهم عليهم السلام : « تَحتَ كُلّ شَعرَةٍ جَنابَة » (1) .

فالاعتبار مختص ( بالظن الحاصل من الاسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس ) فقد يكون المخبر - مثلاً - غير متعارف ، ككثير النسيان ، وقد يكون متلقّي الخبر غير متعارف ، كسريع الظن ، الذي يظن حتى من طيران

ص: 200


1- - فقه الرضا : ص81 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص29 ص479 ح1213 ، بحار الانوار : ج81 ص51 ب3 ح23 ، سنن الترمذي : ج1 ص178 ح106 .

لو وجدت تلك الأسبابُ عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصلُ من غيرها يساوي الشكّ في الحكم .

وأمّا قطعُ من خرج قطعُهُ عن العادة :

-----------------

الغراب ، وقد يكون الخبر غير متعارف ، كاخبار شخص متعارف بانه راى جناً او ملكاً ، فان حصول الظن في الثلاثة غير متعارف .

ف( لو وجدت تلك الاسباب ) الموجبة للظن المتعارف ، كالخبر من الشخص المتعارف ، ( عندهم ) اي عند الناس ( على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ) الظنّان ، بأن حصل له الظن باخبار الصبي الذي لايحصل من خبره الظن عند المتعارف ، لم يكن لظنه اعتبار ، لان المتعارف لايحصل لهم الظن بخبر مثل هذا الصبي .

وعليه : ( ف- ) الظن ( الحاصل من غيرها ) اي غير الاسباب المتعارفة ( يساوي الشك في الحكم ) فأي حكم يكون للشك ، يكون لهذا الظن ايضاً ، فالظن الحاصل له - مثلاً - من قول الصبي لا يبني عليه ، بل يعامله معاملة الشك ، وكذا اذا ظن بانه صلّى ثلاثاً ، لم يبن على الثلاث ، وانّما يعتبر انه شاك بين الثلاث والاربع ، فيبني على احكام الشك من البناء على الاربع ، ثم الاتيان بصلاة الاحتياط ، إلاّ أن هناك دليل خاص على اعتبار الظن ههنا .

ان قلت : اذا كان الناس مختلفين في المتعارف ، فالاشبار المتعارفة - مثلاً - مختلفة طولاً وقصراً - مع قطع النظر عن الاشبار الطويلة ، او القصيرة غير المتعارفة - فالكر يعتبر بأيّ الاشبار المتعارفة ؟ .

قلت : كل الاشبار المتعارفة حتى اقصرها لها اعتبار ، لان اقصرها شبر متعارف - حسب الفرض - ( واما قطع من خرج قطعه عن العادة ) فلا يمكن ان يقال له :

ص: 201

فان اريد بعدم اعتباره عدمُ اعتباره في الأحكام التي يكون القطعُ موضوعا لها ، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك ، فهو حقٌ لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشملُ هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره

-----------------

ان قطعك ليس بحجة ، اذ هو يرى الواقع - بزعمه - فكيف يمكن ان يقال لمن يرى الواقع : انه ليس بواقع ، ولذا فكلام كاشف الغطاء قدس سره محل تأمّل ، والشيخ المصنّف قدس سره انّما يردد الاحتمالات في كلامه تأدباً واستجلاءاً للحقيقة ، وللتعليم ، حتى يتأدب الطالب عند رؤة كلام الاعاظم ، غير الخالي عن الاشكال ، فلا يرده بسرعة .

وعلى اي حال : ( فان اريد بعدم اعتباره ، عدم اعتباره في الاحكام التي يكون القطع موضوعاً لها ) اي لتلك الاحكام ، سواءا اتمام الموضوع ، او جزء الموضوع بان يقول المولى - مثلاً - : اذا قطعت بالحكم ، فلك ان تحكم - ايها القاضي - فانه لم يؤذ القطع هنا طريقياً بل موضوعياً على نحو تمام الموضوع ، او جزء الموضوع ، وجزئه الآخر : الواقع مثلاً .

وهذا ( كقبول شهادته وفتواه ) لغيره ، بأن يقول المولى : قلّد ايها العامي من حصل له القطع عن الطريق المتعارف لا عن طريق الرمل والجفر والمنام وما اشبه.

وكذلك اذا قال : إقبل أيها القاضي شهادة من حصل له القطع بالطريق المتعارف ( ونحو ذلك فهو ) اي كلام من اعتبر القطع المتعارف ( حق ) وصحيح ( لأن ادلة اعتبار العلم في هذه المقامات ) التي جعل العلم موضوعاً فيها ( لاتشمل هذا ) القطع الحاصل من اسباب غير عادية ( قطعاً ) لان المتبادر من القطع الموضوعي : القطع الحاصل للمتعارف من الاسباب المتعارفة .

( لكن ظاهركلام من ذكره ) اي كلام كاشف الغطاء قدس سره الذي ذكر عدم الاعتبار

ص: 202

في سياق كثير الشّكّ إرادةُ غير هذا القسم .

وإن اريد به عدمُ اعتباره في مقامات يعتبر القطعُ فيها ، من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع : فان اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه .

وكيف يحكمُ على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب

-----------------

بقطع القطاع ( في سياق ) عدم الاعتبار بشك ( كثير الشك ارادة غير هذا القسم ) اي غير ما كان القطع موضوعاً ، فانه قدس سره بعد ان قال : « بعدم اعتبار شك كثير الشك في الركعتين الاخيرتين » أردفه بقوله « وكذا قطع القطاع » وظاهره القطع الطريقي في الركعتين الاخيرتين .

( و ) الحاصل : ( ان اريد به ) اي بعدم اعتبار قطع القطاع ( عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها ) اي في تلك المقامات ( من حيث الكاشفية والطريقية الى الواقع فان اريد بذلك ) كون القطع طريقاً محضاً ، لا موضوعاً في حكم نفسه ، او حكم غيره ، ففي كلامه في القطع الطريقي للقطاع ثلاث احتمالات :

أحدها : ( انه ) اي القطاع ( حين قطعه كالشاك ) فاللازم عليه : ان يعمل عمل الشاك ، لا عمل القاطع ( فلا شك في ان ) هذا الكلام محل نظر ، ( احكام الشاك وغير العالم ) وجملة : « غير العالم » تشمل الظن غير المعتبر ، والوهم ( لايجري في حقه ) اي في حق القطاع ، لان القطاع حين قطعه لايحتمل غيره ، فحكم الشارع بعدم حجية قطعه ، تناقض في كلام الشارع بنظره - كما سبق تقريره - .

( وكيف يحكم ) الشارع ( على القاطع بالتكليف ) وان كان قطعه غير متعارف ( بالرجوع الى ما دل على عدم الوجوب ) كالرجوع الى استصحاب العدم ،

ص: 203

عند عدم العلم ، والقاطع بانّه مَن صلّى ثلاثا بالبناء على أنّه صلّى أربعا ، ونحو ذلك .

وإن اريد بذلك وجوبُ ردعه عن قطعه وتنزيله إلى الشكّ

-----------------

او البرائة ( عند عدم العلم ) فاذا قال الشارع - مثلاً - : اذا شككت في حياة زيد ، فاستصحب حياته ، فتجب النفقة لزوجته ، او قال : اذا شككت في حرمة التتن ، فأجر البرائة ، ثم قطع هذا الرجل القيّم على زوجة زيد ، ان زيداً توفي ، او قطع في حرمة التتن عليه ، فهل يمكن ان يقال له زيد حي ؟ او ان التتن حلال ؟ .

فقول المصنّف : « عدم الوجوب » من باب المثال ( و ) هكذا في بقية الامثلة ، فانه كيف يحكم الحكيم على ( القاطع بأنه من صلّى ثلاثاً ، بالبناء على انه صلّى اربعاً ) أو صلّى اثنتين ؟ ( ونحو ذلك ) .

مثل ان يقال - في التكوينيات - للقاطع بأن الان نهاراً ، انه ليل ، وقد مثل المصنّف بمثالين : احدهما للحكم ، والآخر للموضوع ، وكذلك حال الاحكام الوضعية ، كأن يقال لمن يقطع بان الشيء الفلاني جزء او شرط ؛ انه ليس بجزء ، ولا بشرط ، او بالعكس .

نعم ، يمكن ان يغير الشارع حكمه بمناسبةٍ خارجية ، كما اذا حلف طرف الدعوى بان العين الفلانية له ، والحال ان مالك العين يعلم انها له ، فان الشارع - بجهة احترام الحلف - أسقط جواز اخذ المالك حقه ، مع أنّه يعلم انه حقه - كما قال بذلك جمع من الفقهاء في كتاب القضاء لدليل خاص .

( و ) ثانيها : ( ان اريد بذلك ) اي بعدم اعتبار قطعه ( وجوب ردعه ) و زجره ( عن قطعه ) من باب النهي عن المنكر بالتشكيك في مقدمات قطعه ، حتى يزول قطعه ( و ) يتم بذلك ( تنزيله ) من قطعه ( الى الشك ) او الظن غير المعتبر

ص: 204

او تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ولو بأن يقال له : « إنّ اللّه سبحانه لايريد منك الواقع » ، لو فرض عدمُ تفطّنه لقطعه بأنّ اللّه يريد الواقع منه ومن كل أحد ،

-----------------

( أو تنبيهه على مرضه ) النفسي الموجب لكثرة قطعه غير المتعارف ، ليعالج نفسه ، وترجع الى الصحة والى المتعارف .

وذلك ( ليرتدع ) بسبب احد الامرين عن قطعه ( بنفسه ) فلا يعمل حسب قطعه المخالف للواقع ( ولو بان يقال له ) اذا لم ينفع الطريقان المذكوران : ( ان اللّه سبحانه لايريد منك الواقع ) .

وقد نقل : ان الشيخ المصنّف قدس سره جائه رجل مبتلى بالوسواس ، كان يكبّر الصلاة الى ان تطلع الشمس ، وكلما كبّر قطع بانه لم يصح تكبيره ، وهكذا كانت حاله في سائر الصلوات ، فقال له الشيخ : لماذا انت كذلك ؟ قال : اني كلما كبّرت للصلاة أتاني الشيطان وقال لي : لم يصح تكبيرك ، قال الشيخ هل أنت تقلدني ؟ قال : نعم ، قال : فكبر لكل صلاة مرة ، وبعد التكبير قل : « الشيخ المرتضى قال لي صح تكبيرك » ثم اشرع في قرائة الحمد ، وسمع الرجل كلام الشيخ حتى ذهبت عنه تلك الحالة ، ولما قيل للشيخ : ابطلت صلواته مدة بما قلت له ؟ قال : كان الامر دائراً بين الأهم والمهم فأفتيته بالاهم ، تخلصاً من المهم .

لكن انّمايمكن ان يقال للقطاع : ان اللّه لايريد منك الواقع ( لو فرض عدم تفطّنه ) والتفاته ( لقطعه ) الذي يقتضي ( بان اللّه يريد الواقع منه ، ومن كل احد )

اذ المفروض ان القطاع يقطع بامرين :

الاول : ان هذا حكم اللّه .

الثاني : ان اللّه يريده منه .

ص: 205

فهو حقٌّ ، لكنه يدخلُ في باب الارشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع ، بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطأه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة

-----------------

فالقطاع ان كان غافلاً من ان اللّه يريد منه ذلك المقطوع به ، أمكن ان يقال له : ان اللّه لايريد منك الواقع .

لايقال : اذا قلنا للقطاع : ان اللّه لايريد منه الواقع كان كذباً لان اللّه تعالى يريد الواقع من كل احد ، حتى من القطاع .

فانه يقال : إما ان نقول له ذلك على وجه التورية ، بان نقصد الواقع في زعم القطاع ، لا الواقع مطلقاً وإما ان نقول له ، ذلك على وجه الاهم والمهم - كما تقدّم في كلام الشيخ المصنّف قدس سره - .

( فهو ) اي وجوب الردع ( حق ، لكنه ) ليس من باب انه قطاع ، فلا اختصاص لمثل هذا الردع بالقطاع ، بل ( يدخل في باب الارشاد ) اي ارشاد الجاهل ، فكل انسان نتمكن من ارشاده بسبب هذا القول ، وجب ان نقول له ذلك - اما من جهة التورية ، او من جهة الأهم والمهم ، كما عرفت - ( ولا يختص ) هذا الكلام : « ان اللّه لايريد منك الواقع » ( بالقطاع ، بل بكل من قطع بما يقطع بخطأه فيه ) .

وكلمة : « قطع » على صيغة المعلوم و « يُقطع » على صيغة المجهول ، والمراد بالاول الجاهل ، وبالثاني من يرشده ، والضمير في « فيه » راجع الى « ما » وجملة ( من الاحكام الشرعية ) بيان « ما » .

مثلاً : قطع بان الرضعة الواحدة تنشر الحرمة ، فانا نقول له : ان اللّه لايريد منك ترتيب الحرمة .

( والموضوعات الخارجية ) عطف على « الاحكام » ( المتعلقة ) تلك الاحكام

ص: 206

بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة .

-----------------

والموضوعات ( بحفط النفوس والاعراض ، بل الأموال في الجملة ) .

« في الجملة » ظرف للأخير ، اي الاموال ، اذ النفس والعرض واجب حفظهما مطلقاً ، اما المال فلا يجب حفظه ، الا اذا كان مالاً كثيراً ، فاذا اراد صبي او مجنون او حيوان قتل انسان محترم ، او الزنا بعرض محترم ، وجب علينا الردع ، اما اذا اراد حرق ورقة قيمتها فلساً واحدً ، فانه لايجب علينا الحفظ ، نعم اذا كان المال كثيراً ، مثل حرق دار ، او محل ، او ما اشبه ، وجب الحفظ .

والحاصل : لو أن انساناً قطع بحكم خلاف الحكم الواقعي ، او قطع بان الموضوع الفلاني موضوع لحكم كذا ، ونعلم اشتباهه وجب ردعه ، اذا كان الحكم او الموضوع في النفوس ، والاعراض ، او في الاموال الكثيرة ، فكما يلزم ردع القطاع ، يلزم ردع هذا الشخص المتعارف الذي حصل له القطع الخطأ في مورد خاص .

هذا كله لو بني على ان الردع للقاطع ، او القطاع من باب ارشاد الجاهل .

لايقال : انه قاطع ، والقاطع غير الجاهل .

لانه يقال : هذا جاهل مركب ، اي جاهل بالواقع وجاهل بجهله ، فهو داخل في باب ارشاد الجاهل .

وهناك عنوان آخر واجب ارشاده ايضاً ، وهو تنبيه الغافل ، وذلك فيما اذا لم يكن جاهلاً ، وانّما غفل عن الامر ، وهذا يدخل فيه الساهي والناسي والغالط والنائم والسكران ونحوهم ، كما اذا انقلب النائم على طفل ان لم نزحزحه عن الطفل قتله ، فان الواجب زحزحته لحفظ الطفل .

ص: 207

وأمّا في ما عدا ذلك ممّا يتعلّقُ بحقوق اللّه سبحانه ، فلا دليلَ على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره ، ولو بني على وجوب ذلك في حقوق اللّه سبحانه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما هو ظاهرُ بعض النصوص والفتاوى ، لم يفرّق أيضا بين القطّاع وغيره .

-----------------

( وأمّا فيما عدا ذلك ، ممّا يتعلق بحقوق اللّه سبحانه ، فلا دليل على وجوب الردع في القطاع ، كما لادليل عليه في غيره ، ولو بني على وجوب ذلك ) الردع ( في حقوق اللّه سبحانه ) فانه ( من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) لا من باب الارشاد .

والفرق بينهما : ان الارشاد للجاهل ، والامر والنهي لمن يعرف الحكم ويخالفه مطلقاً ، سواء كان في امور الناس ، مثل : من يريد قتل انسان ، او في امور اللّه سبحانه ، مثل : من يشرب الخمر ، أو يترك الصلاة ( كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ) من الوجوب حتى في حق اللّه سبحانه فانه ( لم يفرق ايضاً ) في وجوب الردع ( بين القطاع وغيره ) فيجب ردع القطاع ، كما يجب ردع القاطع اذا اراد مخالفة حكم اللّه بسبب قطعه .

والحاصل : ان القطاع والقاطع ، لايختلفان في وجوب ردعهما في الأموال والأنفس والأعراض ، كما لايختلفان في وجوب ردعهما في ترك أوامر اللّه من باب الامر بالمعروف ، لكن هذا الثاني يتوقف على مسألة خارجية ، وهي : هل ان الامر بالمعروف خاص بالعالم التارك للمعروف ، أو أعم من الجاهل الشامل للجاهل جهلاً مركباً ، كما في القطاع والقاطع ؟ .

الظاهر ان إطلاق وجوب الامر بالمعروف المستفاد من النصوص والفتاوى يشمل حتى الجاهل .

ص: 208

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لايُجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو أيضا حقّ في الجملة ، لأنّ المكلّف إن كان تكليفهُ حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد ، فالمأتيُّ به المخالفُ للواقع لايُجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره .

-----------------

( و ) ثالث الاحتمالات في كلام كاشف الغطاء قدس سره بان القطاع قطعه ليس بحجة ، هو ما اشار اليه المصنّف قدس سره بقوله : و ( ان اريد بذلك ) اي بعدم اعتبار قطع القطاع ( انه ) الضمير للشأن ( بعد انكشاف الواقع ) وتبيّن ان عمله كان اشتباهاً ( لايجزي ما أتى به على طبق قطعه ) في الامور التكليفية ، ويلزم تداركه في الامور الوضعية ، كما اذا قطع بان المرأة الفلانية ليست اخته من الرضاعة فتزوجها ، فانه يلزم عليه بعد العلم تركها ، او قطع بان ما يرميه في حال الاحرام حجراً ، ثم تبيّن كونه حيواناً ، فان عليه الكفارة ( فهو أيضاً حق ) .

لكن كونه حقاً انّما هو ( في الجملة ) وفسر قوله في الجملة بقوله : ( لان المكلّف ) قطاعاً او قاطعاً وغيرهما ( ان كان تكليفه حين العمل مجرد الواقع ) بما هو واقع ( من دون مدخلية للاعتقاد ) بان لم يؤذ القطع او الظن في الموضوع ، تماماً او جزءاً ، كما اذا قال الشارع : صلّ متطهراً ، حيث انه سواء اعتقد كونه متطهراً ام لا ، وصلّى ولم يكن في الواقع متطهراً بطلت صلاته ، لان الشرط واقعي - على ما يستفاد من النصوص - ( فالمأتي به المخالف للواقع ) كالصلاة بلا طهارة ( لا يجزي عن الواقع سواء ) في ( القطاع وغيره ) .

نعم ، استشكلنا نحن في الفقه في مورد ، وهو : انه اذا لم يظهر له خلاف قطعه حتى مات ، فانه لاتجب على ورثته قضاء صلاته ، حيث ان القطاع ليس مكلفاً بالواقع حال قطعه ، فان تكليفه عبث عقلاً ولا دليل على تكليف وليّه بعده ،

ص: 209

وإن كان للاعتقاد مدخلٌ فيه ، كما في امر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلةً ، فانّ قضيّةَ هذا كفايةُ القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع ، فيجبُ عليه الاعادةُ وإن لم تجب على غيره .

-----------------

وكذلك حال الصوم والحج وما اشبه .

اما الخمس : فالواجب على الولي اخراجه ، وان لم يعلم الشخص بوجوب الخمس عليه حتى مات ، لان الحكم وضعي ، فالخمس في المال على ظاهر قوله سبحانه : « فَأنّ لِلّه خُمُسَهُ » (1) .

وكيف كان ، فان لم تُجز صلاته بلا طهور عن تكليفه ، فتجب عليه الاعادة في الوقت ، والقضاء خارجه .

( وان كان للاعتقاد مدخل فيه ) اي في التكليف ، بان اخذ فيه القطع ، او الظن ، بل او الوهم ، كما في الامور المبنية على الخوف ، ومعلوم ان الخوف يشمل الاحتمال ايضاً ( كما في امر الشارع بالصلاة الى ما ) اي الى جهة ( يعتقد كونها قبلة ) فبعد كشف الخلاف ، يلزم على القطاع ان يعيد صلاته ، دون الانسان المتعارف في قطعه .

( فان قضية ) اي مقتضى ( هذا ) اي اخذ الاعتقاد في الموضوع ( كفاية القطع المتعارف ) بالخلاف ، لان المتعارف هو المنصرف من القطع ، المأخوذ في الموضوع كلاً او جزءاً ( لا قطع القطاع ) فانه لا اعتبار بقطعه ( فيجب عليه ) اي على القطاع ( الاعادة وان لم يجب على غيره ) اي غير القطاع ممن قطعه متعارف .

والحاصل : ان في موارد القطع الطريقي تجب الاعادة على القطاع وغيره ، وفي موارد القطع الموضوعي سواء كان كل الموضوع او جزئه ، تجب الاعادة

ص: 210


1- - سورة الانفال : الآية 41 .

ثم إنّ بعضَ المعاصرين وجّه الحكمَ بعدم اعتبار قطع القطّاع - بعد تقييده بما إذا علم القطّاع او احتمل أن يكون حجيّةُ قطعه مشروطةً بعدم كونه قطّاعا - بأنّه يشترط في حجيّة القطع عدم منع الشارع عنه

-----------------

على القطاع لا غير القطاع .

ومثل مسألة القبلة : مسألة القطع بطهارة ثوبه او بدنه فصلّى ، ثم ظهر الاشتباه حيث ان الشرط ذكري فتجب الاعادة على القطاع دون غيره .

( ثم ان بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول قدس سره ( وجه الحكم ) الذي ذكره كاشف الغطاء قدس سره ( بعدم اعتبار قطع القطاع ) بانه ليس على اطلاقه ، بل مراده قطع القطاع اذا نهى المولى عن ذلك .

والظاهر : ان مراد الفصول : جعل القطع موضوعياً ، فاشكال المصنّف قدس سره غير وارد عليه حيث انه تصوّر ان مراد الفصول هو القطع الطريقي - وهو غير قابل للتفصيل - .

وعلى اي حال : فانه ( بعد تقييده ) اي تقييد عدم الاعتبار ( بما اذا علم القطاع ، او احتمل ان يكون حجية قطعه مشروطة بعدم كونه قطاعاً بانه يشترط في حجيّة القطع عدم منع الشارع عنه ) فان احوال القطاع على اربعة :

الاول : ان يعلم القطاع : بان حجية القطع مقيدة بان لايكون قطاعاً .

الثاني : ان يحتمل التقييد بذلك ، سواء كان الاحتمال على نحو الظن او الوهم او الشك .

الثالث : ان يكون غافلاً عن التقييد واللا تقييد ، غير ملتفت الى هذه الجهة .

الرابع : ان يكون عالماً بعدم التقييد ، وقد اشار المصنّف قدس سره الى الحالة الرابعة

ص: 211

وإن كان العقلُ أيضا قد يقطعُ بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجيّة القطع ظاهرا ما لم يثبت المنعُ .

وأنت خبيرٌ بأنّه يكفي في فساد ذلك عدمُ تصوّر القطع بشيء وعدمُ ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له .

-----------------

بقوله : ( وان كان العقل ايضا قد يقطع بعدم المنع ) اي ان قطع العقل بعدم المنع قد يصادف عدم المنع من الشارع ايضاً ، وقد لايصادفه ، بان يمنع الشارع عنه ( الاّ انه اذا احتمل ) العقل ( المنع ) عن العمل بقطعه ( يحكم بحجية القطع ظاهراً ما لم يثبت المنع ) وهو ماتقدّم من الحالة الثانية .

والحاصل : انه عند احتمال القطاع المنع عن قطعه ، يصح توجه المنع الى قطعه ، فان علم بالمنع ثبت واقعاً ، وان احتمل المنع لايتمكن من العمل بالمنع ، بل اللازم عليه : ان يحكم بحجية قطعه ظاهراً الى ان يثبت المنع .

( و ) حيث ان المصنّف قدس سره استظهر من كلام الفصول القطع الطريقي اشكل عليه بقوله : و ( انت خبير ) وهذه الجملة تقال فيما اذا كان الامر واضحاً لايحتاج الى الاستدلال ( بانه يكفي في فساد ذلك ) التوجيه من الفصول لكلام كاشف الغطاء قدس سره ( عدم تصور القطع بشيء ، وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه ) .

والمراد بعدم التصور بالنسبة الى المتدين ، فان من يقطع بان هذا خمر ، ويعلم بان الشارع حرّمها ، لايتمكن ان يبني على انه ليس بحرام ، والاّ لزم التناقض كما سبق تفصيل الكلام فيه .

( مع فرض كون الاثار ) كالحرمة والنجاسة - في الخمر- ( اثاراً له ) اي لذلك الشيء المقطوع به ، بأن كان القطع طريقياً ، لا قطعاً موضوعياً ، حيث ان الاثار آثار القطع ، لا الخمر ، او آثار القطع والخمر ، معاً - فيما اذا كان الخمر جزء الموضوع

ص: 212

والعجبُ ، أنّ المعاصرَ مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : « لا تَعتَمِد في معرفة أوامري على ما تقطعُ به من قِبَل عقلك او يؤدّي اليه حدسُك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة والمراسلة » .

وفسادُهُ يظهرُ ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا .

-----------------

لا كل الموضوع .

( والعجب ان المعاصر ) المذكور وهو صاحب الفصول قدس سره ( مثل لذلك ) اي لمنع الشارع عن العمل ببعض اقسام القطع ( بما اذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة اوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، او يؤّي اليه حدسك ) واجتهادك ( بل اقتصر ) في إطاعة الاوامر ( على ما يصل اليك مني بطريق المشافهة والمراسلة ) فقط .

( و ) انّما تعجب المصنّف قدس سره من هذا المثال ، لانه في القطع الطريقي غير صحيح ، والمولى الحكيم لايمكن ان يقول ذلك ، فان ( فساده ) اي فساد هذا المثال ( يظهر مما سبق من اوّل المسألة ) مسألة القطع ( الى هنا ) بما لايحتاج الى تكرار .

لكن ظاهر كلام الفصول هو ما ذكرناه ، ويؤده مثاله المذكور - في القطع الموضوعي - .

* * *

ص: 213

التنبيه الرابع : العلم الاجمالي

-----------------

العلم الاجمالي

( الرابع ) من تنبيهات القطع : في العلم الاجمالي وهو عبارة عن : علم : تفصيلي وجهل تفصيلي ، يضم احدهما الى الآخر ، فيسمّى في الاصطلاح بالعلم الاجمالي ، كما اذا علم ان احد هذين الانائين نجس ، فانه يعلم تفصيلاً بوجود النجاسة في البين ، ويجهل تفصيلاً بأنه هذا ، او ذاك ، وانضمامهما معاً يسمّى بالعلم الاجمالي ، كما يصح ان يسمّى بالجهل الاجمالي .

والعلم الاجمالي على اربعة اقسام :

ان يكون في المكلف بالكسر ، او المكلف بالفتح ، او التكليف ، او متعلق بالتكليف .

ففي المكلف : - بالكسر - مثلاً : عبدان احدهما لزيد والآخر لعمرو ، وأحد السيدين امر بأمر ، لكن العبدين لايعلمان اي السيدين امر ؟ هل سيد هذا العبد وهو زيد ، ام سيد العبد الآخر ، وهو عمرو ؟ .

وفي المكلف - بالفتح - : سيد له عبدان ، مبارك ، وكافور ، وقد امر احدهما بشيء ، لكنهما لايعلمان هل امر مباركاً ام كافوراً ؟ .

وفي التكليف : بأن لايعلم العبد هل الشيء الفلاني واجب او حرام ؟ كما بالنسبة الى صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، حيث قال بعض الفقهاء بوجوبها ، وبعض الفقهاء بحرمتها .

وفي متعلق التكليف بأن : لايعلم الشخص هل انه نذر ان يزور الامام

ص: 214

إنّ المعلوم إجمالاً هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ام لا ؟ .

-----------------

الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة ، أو الامام امير المؤنين علياً عليه السلام في النجف الاشرف في ساعة مخصوصة من يوم مخصوص - مثل يوم النيروز وقت الظهر- ؟.

قال المصنّف : هل ( ان المعلوم اجمالاً ) كما اذا تردد بين وجوب الظهر او الجمعة ، او تردد بين حرمة هذه المرأة او تلك المرأة - لان احديهما اخته من الرضاعة - او تردد بين وجوب شرب التتن ، او حرمة شرب الشاي - لانه نذر اما الفعل او الترك ، ثم نسي ان نذره تعلق بهذا او بذاك - و ( هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ) ؟ فاللازم عليه في الامثلة المتقدمة ، الجمع بين الظهر والجمعة ، وترك التزويج بكلتا المرأتين ، ولزوم التدخين ، وترك الشاي ، حتى يكون آتياً بالتكليف الواقعي ( ام لا ) ليس كالمعلوم التفصيل .

ثم لايخفى ان الفقهاء اختلفوا في العلم الاجمالي الى اربعة أقوال :

الاول : ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز ، سواء بين محتملي الحرام او محتملي - الوجوب ، او الحرام والوجوب ، كما تقدّم امثلتها ، وهذا مختار بعض المحققين .

الثاني : ان العلم الاجمالي حاله حال الجهل ، لانه لايعلم هل هذا حرام ، او ذاك ؟ او هذا واجب او ذاك ؟ او هذا واجب او ذاك حرام ؟ فالأدلة الدالة على عدم وجوب التكليف مع الجهل شاملة للمقام ، بل يجري في اطراف العلم الاجمالي ، اصل البرائة ، واستصحاب الطهارة والحل واصالتهما ، الى غير ذلك من ادلة البرائة ، ونحوها ، وقد نسب هذا القول الى العلامة المجلسي والمحققان : الخوانساري والقمي قدس سرهم .

الثالث : ان العلم الاجمالي علة لحرمة المخالفة لحكم العقل المستقل بالتنجيز ،

ص: 215

والكلامُ فيه يقع تارةً في اعتباره من حيث إثبات التكليف به وأنّ الحكم المعلوم بالاجمال كالمعلوم بالتفصيل في التنجّز على المكلّف ام هو كالمجهول رأسا .

واُخرى أنّه بعد ما ثبت التكليفُ بالعلم التفصيليّ او الاجماليّ المعتبر ،

-----------------

ومقتضٍ للموافقة القطعية ، وليس بعلة تامة لها ، لامكان جعل احد الطرفين بدلاً عن الواقع ، وهذا مختار المصنّف قدس سره وغير واحد من المحققين .

الرابع : انه يقتضي حرمة المخالفة ووجوب الموافقة - فلا علّية في احد الجانبين - ومن الممكن ان يأذن الشارع في احدهما او كليهما ، لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري مع الجهل .

قال المصنّف : ( والكلام فيه ) اي في المعلوم بالاجمال ( يقع تارة : في اعتباره من حيث اثبات التكليف به ) عقلاً وشرعاً ( وان الحكم المعلوم بالاجمال كالمعلوم بالتفصيل في التنجز على المكلف ) من غير فرق بين الحكم التكليفي ، او الوضعي ، وبين الموضوع المردد ، كون ذا حكم او ذاك .

نعم ، هذا فيما اذا لم يكن محذور ، كما ان الحكم المعلوم تفصيلاً انّما يتنجز اذا لم يكن محذور .

( ام هو كالمجهول رأساً ) فلا تكليف اطلاقاً كما تقدّم في قول العلامة المجلسي والمحققان القمي والخوانساري قدس سرهم .

( و ) تارة ( اخرى ) : يكون الكلام في ( انه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي ) كالعلم - مثلاً - بوجوب الوضوء ، لكن اشتبه الماء في انائين احدهما مطلق والآخر مضاف ، ( او الاجمالي ) كما اذا تردد الوجوب - مثلاً - بين الظهر والجمعة ( المعتبر ) اذ ربما يكون علماً اجمالياً غير معتبر ، كالمردد في غير

ص: 216

فهل يكتفي في امتثاله بالموافقة الاجماليّة ولو مع تيسّر العلم التفصيليّ ام لايكتفي به إلاّ مع تعذّر العلم التفصيليّ .

فلا يجوز إكرامُ شخصين أحدهما زيد مع التمكّن من معرفة زيد بالتفصيل ، ولا فعلُ الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة

-----------------

المحصور ، اذ لايلزم الاطاعة حينذاك ، او كما اذا اضطر الى الاحمر من الانائين ، ثم علم بنجاسة احدهما ، فانه لايلزم الاجتناب كما سياتي .

( فهل يكتفي في امتثاله ) اي امتثال ذلك التكليف المردد ( بالموافقة الاجمالية ) بان يأتي بكلا الطرفين حتى يعلم انه امتثل الواقع ( ولو ) وصلية ( مع تيسر العلم التفصيلي ) ؟ كما اذا علم - مثلاً - بنجاسة احد الثوبين ، وتمكَّن ايضاً من ان يستعلم ان أيهما نجس ، فهل يصح ان يصلي صلاتين في كل ثوب صلاة ؟.

( ام لايكتفي به ) اي بالاطاعة الاجمالية ( الاّ مع تعذر العلم التفصيلي ) بأن لم يتمكن من تشخيص النجس من الثوبين في المثال المتقدم .

وعليه : ( فلا يجوز اكرام شخصين احدهما زيد ) فيما لو قال المولى : اكرم زيداً ، وقد اشتبه عند زيد بين هذا وذاك ، ف( مع التمكن من معرفة زيد بالتفصيل ) بالرجوع الى اهل الخبرة ونحو ذلك ، لايكفي اكرام احدهما في اطاعة المولى .

والحاصل : اذا قلنا بكفاية العلم الاجمالي في الاثبات : هل يكفي الامتثال الاجمالي في الاسقاط ، سواء في التوصليات كاكرام زيد ، او في التعبديات كالصلاة في الطاهر .

فعلى القول بالمنع ( و ) لزوم الامتثال التفصيلي ( لا ) يكفي في الامتثال ( فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين ) احدهما نجس ( مع امكان الصلاة ) الواحدة

ص: 217

في ثوب طاهر .

والكلام من الجهة الاُولى يقع من جهتين ، لأنّ اعتبار العلم الاجماليّ له مرتبتان ، الاُولى حرمةُ المخالفة القطعيّة ، والثانيةُ وجوبُ الموافقة القطعيّة ، والمتكفلُ للتكلّم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، فالمقصود في المقام الأوّل

-----------------

( في ثوب طاهر ) سواء كان في ثوب ثالث يعلم بطهارته ، او حصل العلم بالطاهر منهما ، او طهّر احدهما .

( والكلام من الجهة الاولى ) وهي جهة اثبات التكليف بالعلم الاجمالي ( يقع من جهتين ) وذلك ( لان اعتبار العلم الاجمالي ) من حيث اثبات التكليف ( له مرتبتان ) : مرتبة دانية ومرتبة عالية .

ف( الاولى ) الدانية : ( حرمة المخالفة القطعية ) فقط ، فاذا علم بان احد الانائين نجس ، لايجوز له شرب كليهما ، وإنّما يكفي في الاطاعة ترك احدهما وان شرب الآخر .

( والثانية ) العالية : ( وجوب الموافقة القطعية ) فاللازم ترك شربهما ، فاذا شرب أحدهما وصادف الواقع كان معاقباً ، كذلك الحال في الشبهة المرددة وجوباً بين صلاتين : الظهر والجمعة ، وهكذا المرددة بين الوجوب في هذا أو الحرمة في ذاك.

( والمتكفل للتكلّم في المرتبة الثانية ) العالية ( هي مسألة البرائة والاشتغال عند ) ما نتكلم في ( الشك في المكلف به ) لان الشك قد يكون في اصل التكليف ، وهو مورد البرائة ، وقد نعلم بأصل التكليف ، وانّما نشك في المكلّف به ، بانه هل هو هذا او ذاك ؟ .

( فالمقصود ) هنا ( في المقام الاول ) من ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي

ص: 218

التكلّم في المرتبة الأُولى .

المقام الثاني

ولنقدّم الكلام في : المقام الثاني : وهو كفاية العلم الاجماليّ في الامتثال .

فنقول : مقتضى القاعدة

-----------------

( التكلم في المرتبة الاولى ) وهي حرمة المخالفة القطعية .

والحاصل : انه هناك مقامين :

الاول : حجية العلم الاجمالي لثبوت التكليف .

الثاني : كفاية الامتثال الاجمالي لسقوط التكليف .

والمقام الاول فيه مرتبتان .

الاولى : في حرمة المخالفة .

الثانية : في وجوب الموافقة .

المقام الثاني

( ولنقدم الكلام في المقام الثاني ) لاختصاره ( وهو : كفاية العلم الاجمالي ) بالاحتياط في اطراف العلم ، بدون الاحتياج الى تحصيل العلم التفصيلي ، كما تقدّم مثاله في الثوبين النجس احدهما (في الامتثال ) سواء في التعبديات ، او التوصليات .

( فنقول : مقتضى القاعدة ) العقلائية ، التي هي الاصل في باب الامتثال ، اذ المتعارف : ان يأمر المولى عبده ، ثم يكل طريق الامتثال الى العرف ، فانه لو أراد غير الطريقة المألوفة لزم عليه بيانها .

مثلاً : العقلاء يكتفون في باب الشاهد بالثقة ، لكن الشارع لما لم يكتف بها

ص: 219

جوازُ الاقتصار في الامتثال بالعلم الاجماليّ باتيان المكلّف به .

أمّا فيما لايحتاجُ سقوط التكليف فيه إلى قصد الاطاعة ففي غاية الوضوح ،

-----------------

واشترط العدالة ذكر ذلك كما قال سبحانه :

« شَهادَةُ بَينكُم إذا حَضَرَ أحدكُم الموتُ حينَ الوصيّةَ إثنانِ ذوا عدلٍ منكم » (1) .

وعليه : فالقاعدة تقتضي ( جواز الاقتصار في ) مقام ( الامتثال ، بالعلم الاجمالي باتيان المكلف به ) في الجملة ، وانّما قلنا في الجملة ، لانه فيما اذا لم يلزم منه محذور فانه لو كان في مكتبة المولى عشرة آلاف كتاب ، واراد من عبده ان يأتي اليه بشرح اللمعة ، وكان العبد لايعرف انه ايّها ؟ فانه ليس من طريق العقلاء أن يأتي بكل المكتبة ، فاذا فعل ذلك ذمه العقلاء .

وكذلك اذا امر المولى عبده ان يذبح شاة من شياهه ، لها عمر ستة اشهر ، ولم يعرف العبد الشاة المتصفة بهذه الصفة من بين الشياة العشرة الموجودة في المراح ؟ فانه اذا ذبح الجميع ذمه العقلاء ، والى غير ذلك من الامثلة .

والحاصل : ان العقلاء يحكمون في غير موارد المحذور بحصول الامتثال والطاعة بالاحتياط ، سواء في الواجبات ، او المحرمات ، او المردد بين وجوب هذا وحرمة ذاك .

( اما فيما لايحتاج سقوط التكليف فيه الى قصد الاطاعة ) والقربة ( ففي غاية الوضوح ) مثل : تطهير الثوب ، حيث انه من الامور التوصلية ، فاذا شك في ان أيّ المائين مطلق ، وايهما مضاف ؟ وغسل النجس بهما ، حصلت الطهارة قطعاً .

ولا فرق في الامر بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فمثال الثوب

ص: 220


1- - سورة المائدة : الآية 106 .

وأمّا فيما يحتاجُ إلى قصد الاطاعة ،

-----------------

الذي ذكرناه من الشبهة الموضوعية ، علماً بان ميزان الشبهة الموضوعية هو : ما يحتاج لمعرفته الى استطراق باب العرف ، فاذا أردنا ان نعرف أيّ المائين مطلق ، وايهما مضاف ؟ يلزم ان نسأل العرف ، اما الشبهة الحكمية - وميزانها مراجعة الشرع واستطراق بابه لمعرفتها - فمثل ان لانعلم هل الشارع حكم بنجاسة بول الحمار ، او بول الهرة ؟ وقد بال الحمار على ثوب ، والهرة على ثوب آخر ، فانا اذا غسلناهما كان امتثالاً اجمالياً ، فانه جائز وان امكن مراجعة الفقيه ، حتى نعلم الحكم تفصيلاً .

( واما فيما يحتاج ) سقوط التكليف فيه ( الى قصد الاطاعة ) والقربة ، وهو المسمّى في الاصطلاح : بالتعبدي ، من « عبّد » .

هذا وان كان التوصلي ايضاً تعبدياً بالمعنى اللغوي ، الا ان التوصلي انّما هو امر عقلي للوصول الى هدف يعرفه العقل ، فانه حتى لو لم يكن شرع الزم به العقل في الجملة ، كجميع ابواب المعاملات ، وابواب الطهارة والنجاسة ، والمعاشرات : كحقوق الجيران ، والاولاد ، والاباء ، والاقرباء ، والاصدقاء ، والفرقاء ، وغيرها ، من الحقوق ، مما ذكروه في الاداب ، وقد جمعنا جملة منها في كتاب : « الاداب والسنن » (1) .

بينما لو لم يكن الشرع ، لم يكن التعبديات امثال الصلاة ، والصوم ، والحج ، والاعتكاف ، والوضوء ، والغسل ، والتيمم ، وما اشبه ذلك .

نعم ، لاشك في ان العقل كان يدرك الخضوع للمنعم في الجملة لكن لا على

ص: 221


1- - انظر موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

فالظاهرُ أيضا تحققُ الاطاعة إذا قصد الاتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به .

ودعوى : « أنّ العلمَ بكون المأتيّ به مقرّبا معتبرٌ حين الاتيان به

-----------------

التفصيل ، وقد ذكرنا بعض البحث في ذلك في كتاب « عبادات الاسلام » (1) .

وعليه : ( فالظاهر ) في التعبديات ( أيضاً ) جواز الاحتياط حتى مع التمكن من العلم التفصيلي ل( تحقق الاطاعة ) والامتثال بالجمع بين المحتملين ، كصلاتي الظهر والجمعة فيمن شك ايهما الواجب ، وكالصلاة الى اربعة جوانب فيمن لم يعلم جهة القبلة ، مع امكان الاول من مراجعة المجتهد ، ليعرف هل الجمعة واجبة او الظهر ؟ ومراجعة الثاني الى البوصلة او اهل الخبرة ، ليخبروه بجهة القبلة ، ف( اذا قصد الاتيان بشيئين ) مثلاً ، أو ثلاثة اشياء ، او اكثر ، وهو ( يقطع بكون احدهما ) أو احدها ( المأمور به ) الذي يريده المولى على نحو الطاعة والقربة فانه يتحقق به الطاعة .

( و ) في قبال رأينا هذا بجواز الامتثال الاجمالي حتى في التعبديات ، وحتى فيما اذا تمكن المكلف من تحصيل العلم التفصيلي بالتكليف ، رأي من لايرى الجواز مطلقاً ورأي من لايرى الجواز في صورة تمكنه من العلم التفصيلي ، وانّما اجاز الامتثال الاجمالي فيما لايتمكن من تحصيل العلم بالتكليف ، او بخصوص الموضوع الذي تعلق به التكليف .

وذلك ل( دعوى : ان العلم بكون المأتي به مقرباً ، معتبر حين الاتيان به ) ، اي بالشيء المأمور به كالصلة ، سواء في اشتباه القبلة ، او في ا شتباه ان الواجب :

ص: 222


1- - وهو كتاب من الحجم المتوسط يبحث عن فروع الدين وفلسفتها ، طبع في لبنان والكويت وترجم الى الفارسية باسم «فروع الدين» وطبع في مدينة قم المقدسة .

ولا يكفي العلمُ بعده باتيانه » ، ممنوعةٌ ، إذ لا شاهد لها بعد تحقق الاطاعة بغير ذلك أيضا ، فيجوزُ لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيليّ باداء العبادات العملُ بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ .

-----------------

الظهر او الجمعة (ولا يكفي العلم بعده) اي بعد الاتيان باطراف العلم الاجمالي ( باتيانه ) اي باتيان المأمور به ، وذلك لان الانسان اذا صلّى الى اربع جهات في اشتباه القبلة ، أو صلّى الجمعة والظهر ، بعد تمام الصلوات يعلم بأنه امتثل .

لكن هذا العلم اللاحق عند من لايكتفي بالامتثال الاجمالي ، لاينفع في اسقاط التكليف لأنه يرى لزوم العلم حين الاتيان ، كأن يعلم ان واجبه الظهر فيأتي به ، او واجبه الصلاة الى طرفٍ خاص فيأتي بها غير أن هذه الدعوى ( ممنوعة ) .

فانه من اين يعتبر العلم بالامتثال حال الاتيان ؟ ( اذ لا شاهد لها ) اي لهذه الدعوى ، من عقل أو نقل ( بعد تحقق الطاعة ) عند العقلاء ( بغيرذلك ) الذي ادعوه من العلم بالطاعة حين الاتيان بها ( أيضاً ) .

وعلى ما ذكرناه : من عدم شاهد لكلام هؤاء ( فيجوز لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات ) المشروطة بالقربة ( العمل بالاحتياط ) بالجمع بين المحتملات ( وترك تحصيل العلم التفصيلي ) مقدمة للعمل .

ثم ان الاشكال في الاحتياط مع التمكن من العلم التفصيلي من وجوه :

الاول : انه لابد في الطاعة من التمييز حين العمل ، ولا تمييز في العلم الاجمالي ، لانه لايعلم هل ان هذا واجب او ذاك ؟ والى آخر ما ذكروه من هذه الجهة في المفصلات .

الثاني : اعتبار قصد الوجه في الطاعة ، فمن لايعلم ان الظهر واجبة او الجمعة ، لايتمكن ان يقصد الوجوب حين اتيان هذه او تلك ، لانه لايعلم حين الاتيان

ص: 223

...

-----------------

ان ما يأتي به واجب .

ولا يخفى : ان التمييز يكون بين امرين ، بينما الوجه يمكن ان يكون في امر واحد ، فمن علم مثلاً : بفضل غسل الجمعة لكنه لايعلم انه واجب او مستحب ، فهو فاقد للوجه دون التمييز ، لأن العمل واحد ، وليس اثنين حتى يكون فاقداً للتمييز .

الثالث : ان الاحتياط خلاف الطريق المألوف من العقلاء في كيفية الطاعة .

الرابع : احتمال المحذور في التكرار ، او في الاتيان بالزائد - عند الشك في الاقل والاكثر فيما احتاط باتيان الزائد - والمحذور يلازم الضرر ، ودفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل اذا كان ضرراً كثيراً والضرر هنا لو كان فهو كثير ، لانه عقاب الاخرة .

الخامس : التكرار والاتيان بالزائد موجب لاضاعة الوقت ، وفي الحديث : « إنّ الانسانَ يُسأَلُ يَومَ القِيامَةِ عَن عُمرهِ فِيمَ أفناهُ ؟ » (1) .

ونفس السؤل مما يحذر منه ، وقد ورد في الحديث ايضاً : « حاسِبوا أنفُسَكُم قَبْلَ أن تُحاسَبُوا » (2) .

لا يقال : قال عليه السلام : « في حلالها حساب » (3) إذن فالحساب لابد منه .

ص: 224


1- - الفصول المهمة : ص109 ، مجمع الزوائد : ج10 ص146 ، ينابيع المودّة : ص113 ، المناقب للخوارزمي : ص53 - 56 ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي : ص119 ح157 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ص42 ، بحار الانوار : ج7 ص261 ب11 ح11 و ج77 ص162 ب7 ح1 ، مجموعة ورام : ج1 ص297 ، امالي الطوسي : ص593 ح1 المجلس 26 .
2- - الكافي روضة : ج8 ص143 ب8 ح108 ، مجموعة ورام : ج1 ص235 .
3- - الكافي أصول : ج2 ص459 ح23 ، كفاية الاثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ح6 .

لكنّ الظاهرَ - كما هو المحكيّ عن بعض - ثبوتُ الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة ، بل الظاهرُ المحكيّ عن الحليّ ، في مسألة الصلاة في الثوبين ، عدمُ جواز التكرار للاحتياط

-----------------

لانه يقال : اقله لابد منه ، لا الاكثر منه .

السادس : ان تحصيل العلم بالاصول والفروع واجب ، ومن صغرياته العلم بالطاعات وهو مناف لبقاء الجهل ، ولو الجهل الاجمالي .

السابع : ان الاحتياط ، يلزم منه اللعب بامر المولى ، وهو مذموم عقلاً وشرعاً .

الثامن : ان الاتيان بما علم تفصيلاً معلوم الكفاية ، اما الاتيان بما علم اجمالاً فمشكوكها ، والعاقل لايترك المعلوم الى المشكوك في الامور الخطيرة .

التاسع : ان الوجه والتمييز لو كانا معتبرين ، كانا شرطاً لتحقق الطاعة ، فعند الشك في الشرطية يجب الاحتياط عقلاً ، لان الاشتغال اليقيني بحاجة الى البرائة اليقينية ، وهي لاتتحقق الا بالاتيان بالمعلوم تفصيلاً .

العاشر : ما ذكر من الاجماع في المسألة ، وقد أشار الشيخ قدس سره الى بعضها ، وحيث ان محل التفصيل المفصلات ، اعرضنا عن الجواب عن الادلة المذكورة .

وكيف كان : فقد أشار المصنّف الى العاشر بقوله : ( لكن الظاهر ) اي ما يظهر من كلماتهم ( - كما هو المحكي عن بعض - ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط اذا توقف ) الاحتياط ( على تكرار العبادة ) لا ما اذا كان الاحتياط في الاتيان بالازيد ، كما اذا شك في ان جلسة الاستراحة واجبة ام لا ، فانه لا اتفاق في المنع عنه ، وان كان يأتي فيه بعض الادلة السابقة لهم .

( بل الظاهر المحكي عن الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين ) اللذين احدهما نجس ، ولا يعلم بانه ايّهما ؟ ( : عدم جواز التكرار للاحتياط ) اي من جهة

ص: 225

حتى مع عدم التمكّن من العلم التفصيليّ ، وإن كا ن ماذكره من التعميم ممنوعا .

وحينئذٍ : فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق او بجهة القبلة او في ثوب طاهر

-----------------

الاحتياط ( حتى مع عدم التمكن من العلم التفصيلي ) فكيف بما اذا تمكن من العلم بالتفصيلي ؟ .

ولا يخفى : انه قد وقع الخلاف في هذه المسألة بين الحلّي قدس سره حيث يقول :

يصلي عارياً ، وبين غيره حيث يقولون : يصلي صلاتين فيهما .

اما اذا كان احدهما مغصوباً ، فلا كلام في انه لايجوز الصلاة فيهما مع امكان تحصيل العلم ، اما بدون امكان تحصيل العلم فلا يستبعد جواز الصلاة في احدهما ، لان حقه لايسقط بسبب حق الغير ، فان احد الثوبين حقه والثاني حق الغير ، وكما لايسقط حق الغير بسبب حق هذا ، كذلك لايسقط حق هذا بسبب حق الغير ، على تفصيل في الكلام موضعه الفقه .

هذا ( وان كان ما ذكره من التعميم ) لصورة عدم امكان تحصيل العلم التفصيلي ( ممنوعاً ) في الثوبين اللذين احدهما نجس - لما ذكروه : من ان فقد الوصف اولى من فقد الاصل .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الاحتياط غير جائز ، على قول هؤاء - وهم خلاف المشهور ، المجوزين للاحتياط - ( فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق ) فيمن كان له ماءان : احدهما مطلق ، والاخر مضاف ( اوبجهة القبلة ) هل هي امامه او خلفه - مثلاً - ؟ ( او في ثوب طاهر ) فيمن له ثوبان احدهما طاهر ،

ص: 226

أن يتوضّأ وضوئين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق او يصلّي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة او في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكنّ الظاهر من صاحب المدارك قدس سره ، التأمّلُ بل ترجيحُ الجواز في المسألة الأخيرة ،

-----------------

والاخر نجس ( ان يتوضأ وضوئين يقطع بوقوع احدهما بالماء المطلق ) .

ومثله : الغسل بهما ، او التيمم في اشتباه التراب بغير التراب ، وكذا الناذر للصوم ، يشتبه انه نذر يوم الخميس ، او الجمعة ، والناذر للحج في انه نذر هذا العام او العام الآتي ( او يصلي الى جهتين يقطع بكون احدهما القبلة ) و هكذا الحال لو كانت الاطراف اكثر من اثنين في كل الموارد المذكورة وغيرها - كما تقدّم الالماع اليه - ( أو في ثوبين يقطع بطهارة احدهما ) ونجاسة الآخر .

أما لو كان العلم الاجمالي في المكلف ، لا في المكلف به ، كما اذا وهب مال لزيد او عمرو ، بحيث يستطيع الموهوب له للحج ، ولم يعلم ان ايهما الموهوب له ، فهل يجب الحج على كليهما احتياطاً ، او على احدهما مخيراً ، او بالقرعة ، او لا يجب ؟ .

احتمالات اربعة :

من ادلة الاحتياط ، فالاحتياط .

ومن انه لاترجيح ، فالتخيير .

ومن ان القرعة لكل امر مشكل ، فالقرعة .

ومن استصحاب كل واحد منهما عدم الوجوب ، فالبرائة ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( لكن الظاهر من صاحب المدارك قدس سره التأمّل ) في عدم جواز الاحتياط ( بل ترجيح الجواز في المسألة الاخيرة ) وهي مسألة الثوبين اللذين احدهما نجس ،

ص: 227

ولعلّه متأمّل في الكلّ ، إذ لا خصوصيّة للمسألة الأخيرة .

وأمّا إذا لم يتوقف الاحتياطُ على التكرار ، كما إذا اُتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا ، فالظاهرُ عدمُ ثبوت اتفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ ، لكن لايبعد ذهابُ المشهور الى ذلك ،

-----------------

فانه قال بجواز الصلاة فيهما من باب الاحتياط ( ولعله متأمّل في الكل ) : الماء المشتبه ، والقبلة ، وغيرها ، حيث يجوّزها جميعاً ، فتأمّل في الاشكال ( اذ لاخصوصية للمسألة الاخيرة ) فان ملاكها جار في غيرها ايضاً .

اما اذا اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس ، ففي الرواية : « يُهْريقَهُما وَيَتَيَمَّم » (1) .

ولعله لاجل ان لايبتلي بالنجاسة اذا توضأ بهما ، لو صلّى - مثلاً - بكل وضوء صلاة ، وغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، حيث يعلم حينئذٍ بانه صلّى بالطهارة المائية قطعاً ، وكذا اذا اغتسل بهما ، وتفصيل الكلام في الفقه .

هذا كله في ما اذا توقف الاحتياط على التكرار في العبادة ( واما اذا لم يتوقف الاحتياط على التكرار ) بل كان الامر دائراً بين الزيادة والنقيصة ( كما اذا أتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل ان يكون جزءاً ) للاختلاف في بعضها هل يكون جزءاً واجباً ام لا ؟ كالاستعاذة ، والسورة ، وجلسة الاستراحة ، ونحوها ( فالظاهر عدم ثبوت اتفاق على المنع ) عن هذا الاحتياط .

( و ) كذا عدم ( وجوب تحصيل اليقين التفصيلي ) في المشكوك جزئيته ، بانه جزء فيأتي به ، او ليس بجزء فلا يأتي به ، لان كل تلك الادلة المتقدمة لاتجري هنا ، وان كان بعضها جار ايضاً .

( لكن لايبعد ) من ظاهر كلامهم ( ذهاب المشهور ) ايضاً ( الى ذلك ) المنع ،

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص249 ب1 ح24 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

بل ظاهرُ كلام السيّد الرضيّ رحمه الله ، في مسألة الجاهل بوجوب القصر وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى رحمه الله ، له ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لايعلم أحكامها .

-----------------

فلازم تحصيل العلم التفصيلي بانه جزء فيؤى به ، او ليس بجزء فلا يؤى به .

( بل ظاهر كلام السيد الرضي قدس سره في مسألة الجاهل بوجوب القصر ، وظاهر تقرير اخيه ) أي امضاء ( السيد المرتضى قدس سره له ) أي لكلام الرضي قدس سره ب( ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لايعلم احكامها ) فقد نقل عن الرضي قدس سره انه اعترض على اخيه المرتضى قدس سره حيث حكم بصحة صلاة من اتم في السفر جهلاً بالحكم لا جهلاً منه بالموضوع - فان الجهل بالموضوع معناه : انه لايعلم حصول السفر ، ولذا يصلّي تماما والجهل بالحكم معناه : انه يعلم السفر ، لكن لايعلم بان حكم المسافر القصر ، بأنا معاشر الشيعة ، اجمعنا على بطلان صلاة الجاهل بالاحكام ، فكيف تقول ايها المرتضى بصحة صلاة الجاهل المتمم في السفر ؟ .

واجاب المرتضى قدس سره بجواز تغير حكم اللّه بالجهل ، ومعنى تغير الحكم بالجهل : ان يكون الواجب في الواقع على المسافر الجاهل : التمام ، وعلى العالم : القصر ، فان هذا الجواب دليل على تقرير المرتضى قدس سره الاجماع الذي ادعاه الرضي قدس سره ، والا كان للمرتضى قدس سره ان يجيب : بانه لا اجماع في المسألة فعدم رده للاجماع دليل على تقريره .

وانّما قلنا : الظاهر عدم ثبوت اجماع في المسألة مع اجماع الرضي قدس سره وتقرير المرتضى قدس سره له ، لان كثيراً من الفقهاء لايوافقونهما في وجود هذا الاجماع ، فهو اجماع منقول متيقن خلافه .

ص: 229

هذا كلّه في تقديم العلم التفصيليّ على الاجمالي .

وهل يلحق بالعلم التفصيليّ الظنُّ التفصيليّ المعتبرُ ، فيقدّم على العلم الاجماليّ ام لا ؟ .

-----------------

( هذا كله في تقديم العلم التفصيلي على ) العلم ( الاجمالي ) مع امكان العلم التفصيلي ( و ) اذا قلنا بتقديم العلم التفصيلي على العلم الاجمالي ف- ( هل يلحق بالعلم التفصيلي ، الظن التفصيلي المعتبر ) فيما اذا لم يتعلق العلم بالحكم ، بل تعلق الظن المعتبر ،كالخبر الواحد الجامع للشرائط ؟ فهل يجب العمل على طبق الظن التفصيلي ؟ او يجوز الاحتياط بالعلم الاجمالي ( فيقدم ) الظن التفصيلي ( على العلم الاجمالي ام لا ؟ ) .

مثلاً : لو قامت الامارة على وجوب الظهر - بدون ان نقطع بذلك - فهل يجوز لنا ان نحتاط بالظهر والجمعة ، ام اللازم العمل بالامارة فقط ، لانه مع قيام الحجة لايجوز الاحتياط ؟ ونحن مقدمة لهذا البحث نقول : ان الظن على قسمين : الاول : الظن الخاص، الذي قام على اعتباره الدليل الخاص، مثل: الخبر الواحد، وما اشبه .

الثاني : الظن العام ، الذي قام على اعتباره دليل الانسداد ، اي ان باب العلم والعلمي منسدّ الى الاحكام ، فاللازم علينا ان نعمل بالظن من اي شيء حصل ، ولو بالمنام - ولا يخفى ان صاحب القوانين القائل بالانسداد يشير الى حجية المنام في الجملة (1) - وعليه : فالاول : يسمّى بالظن الخاص ، والثاني يسمّى بالظن المطلق ، كما ان المراد بالظن : الظن النوعي ، لا ظن كل شخص شخص .

ص: 230


1- - راجع كتاب القوانين المحكمة : بحث ايقاظ ، حيث ذكر : فالاعتماد مشكل سيما اذا خالف الاحكام الشرعية الواصلة الينا مع ان ترك الاعتماد مطلقا حتى فيما لو لم يخالفه شيء أيضا مشكل .

التحقيقُ أن يقال : إنّ الظنّ المذكور إن كان ممّا لم يثبت اعتباره إلاّ من جهة « دليل الانسداد » المعروف بين المتأخّرين ، لاثبات حجيّة الظنّ المطلق ، فلا اشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقف

-----------------

اذا عرفت هذا قلنا : ( التحقيق ) في المسألة ( ان يقال : ان الظن المذكور ) وهو الظن بالحكم ( ان كان مما ) اي من الظن المطلق الذي ( لم يثبت اعتباره الاّ من جهة دليل الانسداد المعروف بين المتأخرين ) المتوقف على اربع مقدمات وهي :

الاولى : انا نعلم اجمالاً بثبوت تكاليف فعلية .

الثانية : ان باب العلم والعلمي الى تلك الاحكام منسد .

الثالثة : ان الامر حينئذٍ دائر بين الاحتياط ، أو تقليد مجتهد آخر ، او العمل بالقرعة، أو العمل بالاصول، مثل الاستصحاب، والبرائة وما اشبه، والكل فيه محذور .

الرابعة : لم يبق لنا الا ان نعمل بالظن ، او الشك او الوهم ، وحيث ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، والشك والوهم مرجوحان بالنسبة الى الظن الذي هو راجح فلم يبق الا الظن ، عليه فاللازم : العمل بالظن من اي شيء حصل .

وعلى هذا : فان جماعة من المتأخرين تمسكوا بدليل الانسداد ( لاثبات حجية الظن المطلق ) وذلك ايّ ظن كان فاذا تمكن من حصوله ومن الاحتياط ( فلا اشكال في جواز ترك تحصيله ) اي الظن المطلق ( والاخذ بالاحتياط ) كما اذا علم : بانه يجب عليه الصلاة مع السورة ، او بدونهما ، وتمكن من تحصيل الظن الانسدادي باحدهما فانه لايلزم عليه تحصيل ذلك الظن ، بل يكفي له ان يصلي « احتياطاً » مع السورة ، وذلك فيما ( اذا لم يتوقف ) الاحتياط فيه

ص: 231

على التكرار .

والعجبُ ممّن يعملُ بالامارات من باب الظنّ المطلق ، ثمّ يذهبُ إلى عدم صحّة عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ،

-----------------

( على التكرار ) كالمثال الذي ذكرناه ، لا ما اذا توقف ، كالعلم الاجمالي بانه يجب عليه الظهر او الجمعة ، لان تقديم الاحتياط على الظن الانسدادي حينئذٍ محل اشكال - كما سيأتي وجه هذا الاشكال بعد اسطر .

( والعجب ممن ) اي من المحقق القمي قدس سره حيث ( يعمل بالامارات من باب الظن المطلق ) الانسدادي ، لامن باب الظن الخاص ( ثم يذهب الى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، والأخذ بالاحتياط ) فيقدم الظن المطلق على الاحتياط بالعلم الاجمالي ، مع ان مقتضى الانسداد : جواز العمل بالظن عن اجتهاد او تقليد ، لا وجوبه وعدم كفاية الاخذ بالاحتياط .

ثم لايخفى : ان العمل بالاحتياط على نحوين :

الاول :الاحتياط الاجتهادي ، بمعنى ان المجتهد يرفع يده عما وقع عليه اجتهاده ، ويحتاط بالجمع بين مقتضى اجتهاده ، ومقتضى طرف اجتهاده ، فاذا اجتهد واستظهر ان الواجب في يوم الجمعة صلاة الظهر ، يحتاط بالجمع بين الجمعة والظهر .

الثاني : الاحتياط التقليدي ، فاذا كان هناك مجتهدان كان للمكلف أن لايقلد احدهما ، بل يجمع بين رأييهما في تكرار العبادة - مثلاً - .

هذا حال تكرار العبادة ، وكذلك حال الاتيان بالزائد المشكوك فيه ، كالاستعاذة - على ما تقدّم - .

ص: 232

ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه .

ولإبطال هذه الشبهة وإثبات صحّة عبادة المحتاط محلّ آخر .

وأمّا إذا توقّف الاحتياطُ على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظنّ بتعيين المكلّف به او عدم الجواز

-----------------

( ولعل الشبهة ) في عدم صحة الأخذ بالاحتياط ، وترك طريقي الاجتهاد والتقليد ، هي ( من جهة اعتبار ) المحقق القمي قدس سره ( قصد الوجه ) والتمييز ، فان مع الاحتياط لايتأتّى هذا القصد ، بخلاف ما اذا عمل بالظن الانسدادي .

( ولابطال هذه الشبهة ) وهي لزوم قصد الوجه والتمييز ( واثبات صحة عبادة المحتاط محل آخر ) لعله يأتي في آخر بحث البرائة والاشتغال ، ونحن نشير الى وجه البطلان استطراداً ونقول : انه لادليل على اعتبار الوجه والتمييز عقلاً ولا نقلاً ، فالقول به ضعيف ، ولعل وجه شبهة المحقق القمي قدس سره لبعض الوجوه الاخر ، التي ذكرناها قبلاً الى عشرة اوجه .

هذا كله في كون الشك في الزيادة وعدمها ، كما اذا شك في ان جلسة الاستراحة جزء من الصلاة ام لا .

( واما اذا توقف الاحتياط على التكرار ) كاتيان الظهر والجمعة ، او صلاتين في ثوبين احدهما نجس ، والى غير ذلك من الامثلة المتقدمة .

( ففي جواز الاخذ به ) اي بالاحتياط ( وترك تحصيل الظن ) بان لايجتهد المجتهد ، حتى يصل الى الظن النوعي ، او لايعمل بالظن الذي وصل اجتهاده اليه وذلك ( بتعيين المكلف به ) متعلق « الباء » ب« الظن » و « به » عبارة عن الشيء الواجب ، لان العبد يكلف به .

( او عدم الجواز ) للاخذ بالاحتياط ، فيما يتوقف على التكرار ، بمعنى وجوب

ص: 233

وجهان :

من أنّ العملَ بالظن المطلق لم يثبت إلاّ جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه أمّا تقديمهُ على الاحتياط فلم يدل عليه دليلٌ .

ومن أنّ الظاهر أنّ تكرارَ العبادة احتياطا في الشبهة الحكميّة مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعيّ ، ولو كان هو الظنّ

-----------------

الاخذ بالظن ( وجهان ) .

وجه الجواز ما ذكره بقوله : ( من ان العمل بالظن المطلق ) الانسدادي ( لم يثبت الاّ جوازه ) لا وجوبه فانه اذا تمت مقدمات الانسداد ، افادت عدم وجوب الاحتياط لا عدم جوازه ( و ) كذا أفادت ( عدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ) أي على الظن ( اما تقديمه ) أي الظن ( على الاحتياط ) بان يكون اللازم العمل بالظن الانسدادي دون العمل بالاحتياط ( فلم يدل عليه دليل ) الانسداد ، لما عرفت من انه حيث لم يجب العمل بالاحتياط ، يجوز العمل بالظن المطلق ، فاذا اراد ان يعمل بالاحتياط لم يكن به بأس .

( و ) وجه تقديم الظن على الاحتياط ما ذكره بقوله : ( من ان الظاهر ) من سيرة المتشرعة ( ان تكرار العبادة احتياطاً ، في الشبهة الحكمية ) وقد تقدّم الفرق بين الشبهة الحكمية وبين الشبهة الموضوعية .

وانّما قيّد الشبهة بالحكمية ، لان الشبهة الموضوعية لم يقل احد بالانسداد فيها ، وذلك لأنّ طريق تعيين المشكوك وهو العرف مفتوح ، فلا انسداد لباب العلم والعلمي فيها حتى يتنزل الى الظن الانسدادي ( مع ثبوت ) تحصيل ( الطريق الى الحكم الشرعي ، ولو كان ) ، ذلك الطريق الى الحكم ( هو الظن

ص: 234

المطلق خلافُ السيرة ، المستمرّة بين العلماء مع أنّ جواز العمل بالظنّ اجماعيّ ، فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمالُ عدم جوازه واعتبار الاعتقاد التفصيليّ في الامتثال .

والحاصلُ : أنّ الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيليّ

-----------------

المطلق ) الانسدادي فانه ( خلاف السيرة المستمرة بين العلماء ) ، فان سيرتهم على الاحتياط اذا لم يكن لهم طريق اصلاً ، واذا كان ظن انسدادي كان لهم طريق ، فلا تصل النوبة الى الاحتياط .

وقد ذكرنا سابقاً وجه حجية السيرة : من انها كاشفة عن السنّة الممضاة من قبلهم عليهم السلام .

هذا اولاً ( مع ان ) هناك وجهاً آخر في عدم جواز الاحتياط ما دام الظن الانسدادي موجوداً ، وهو : ان ( جواز العمل بالظن ) الانسدادي حال وجوده ( اجماعي ) وجواز تكرار العبادة اختلافي ، فالاحتياط يكون في الأخذ بالاجماعي ، وترك الاختلافي .

وعليه : ( فيكفي في عدم جواز ) العمل ب( الاحتياط بالتكرار ) للعبادة ( احتمال عدم جوازه ) حيث عرفت انه اختلافي ( و ) يلزم ( اعتبار ) أي : بان نعتبر في الاطاعة حصول ( الاعتقاد التفصيلي ) أي الجزم بالعمل بالظن الانسدادي ( في ) ما اذا اراد ( الامتثال ) فاللازم الاخذ بالظن المتيقن الكفاية ، وترك الاحتياط المشكوك الكفاية .

ولا يخفى : ان هذا المبحث من صغريات دوران الامر بين التعيين والتخيير .

( والحاصل ) من احتمالي العمل بالاحتياط ، او بالظن المطلق هو : ( ان الامر ) في باب الامتثال حال الانسداد ( دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ) بالاطاعة

ص: 235

ولو كان ظنّا وبين تحصيل العلم بتحقّق الاطاعة ولو إجمالاً ، فمع قطع النظر عن الدليل الخارجيّ يكون الثاني مقدّما على الأوّل في مقام الاطاعة ، بحكم العقل والعقلاء ، لكن بَعدَ العلم بجواز الأوّل والشكّ في جواز الثاني في الشرعيّات من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك

-----------------

( ولو كان ظناً ) انسدادياً ( وبين ) الاحتياط بالجمع بين الاحتمالين مما يوجب ( تحصيل العلم بتحقق الاطاعة ولو ) كان التحقق ( اجمالاً ) لانه بعد التكرار يعلم بانه أتى بالمكلف به .

( فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي ) مثل ما تقدّم : من ان الاحتياط خلاف السيرة ، او خلاف اعتبار الوجه والتمييز ، او غير ذلك ، بل النظر الى الامرين في نفسهما ( يكون الثاني ) وهو العمل بالاحتياط والتكرار ، الموجب للقطع باتيان المكلف به ( مقدماً على الاول ) الذي هو الظن الانسدادي ( في مقام الاطاعة ) للمولى ( بحكم العقل والعقلاء ) لان في الاحتياط احراز الواقع .

والفرق بين العقل والعقلاء : ان العقل يرى حسن ذلك ، والعقلاء جعلوا ذلك طريقاً الى امتثال المولى ، اذ من الممكن ان يكون شيء حسناً في نفسه ، ومع ذلك العقلاء لايبنون عليه ، حيث يجدون فيه محذوراً .

( لكن بعد ) وجود الدليل الخارجي : من كون الاحتياط خلاف السيرة : انه خلاف الوجه والتمييز ، يحصل لنا ( العلم بجواز الاول ) وهو العمل بالظن الانسدادي - اذا تمت مقدماته - ( والشك في جواز الثاني ) وهو الاحتياط ( في الشرعيات ) ذات القربة ، وان صحت في العرفيات ، كالتوصليات وذلك ( من جهة منع جماعة من الاصحاب عن ذلك ) الاحتياط ، مع امكان العمل بالظن

ص: 236

وإطلاقهم اعتبارَ نيّة الوجه ، فالأحوطُ تركُ ذلك وإن لم يكن واجبا ، لأنّ نيّة الوجه لو قلنا باعتباره فلا نسلّمه إلاّ مع العلم بالوجه او الظنّ الخاصّ ، لاالظنّ المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه ، إلاّ بعدم وجوب الاحتياط لا بعدم جوازه ،

-----------------

( واطلاقهم اعتبار نية الوجه ) اذا أمكن ، ومع وجود الظن يمكن ذلك .

الى سائر الوجوه المتقدمة في وجه المنع عن الاحتياط .

وعليه : ( فالاحوط ترك ذلك ) التكرار ، والرجوع الى الظن الانسدادي ( وان لم يكن ) ترك الاحتياط عندنا ( واجباً ) لأنا نجعل ترك الاحتياط ، من باب الاحتياط .

وانّما نقول : بأن الاحتياط ليس بواجب ( لان ) ادلة الاحتياط مخدوشة ، فان ( نية الوجه - لو قلنا باعتباره ف- ) ليس اعتبارها مطلقاً اذ ( لانسلمه ) اي لانسلم

اعتباره ( الاّ مع ) امكان ( العلم بالوجه او الظن الخاص ) كخبر الواحد ومع امكان احدهما ( لا ) تصل النوبة الى ( الظن المطلق ) الانسدادي ، فلا يكون مقدماً على الاحتياط ( الذي لم يثبت القائل به ) اي بالظن المطلق ( جوازه ) مفعول « لم يثبت » من باب الافعال اي جواز العمل بالظن المطلق ( الاّ بعدم وجوب الاحتياط ، لا بعدم جوازه ) اي : جواز الاحتياط فانه لو كان من مقدمات الانسداد عدم جواز الاحتياط ، كان الظن المطلق مقدماً على الاحتياط ، اما لو كان من مقدمات الانسداد عدم وجوب الاحتياط ، فلا مانع من ان يعمل الانسدادي بالاحتياط ، او بالظن المطلق .

ولا يخفى : ان الاحتياط على ثلاثة اقسام :

الاول : الاحتياط الواجب ، كما اذا تردد التكليف بين امرين لامحذور في الاتيان بهما .

ص: 237

فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط .

وأمّا لو كان الظنُّ ممّا ثبت اعتبارُه بالخصوص ، فالظاهرُ أنّ تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبنيٌّ على اعتبار قصد الوجه ، وحيث قد رجّحنا في مقامه عدمَ اعتبار نيّة

-----------------

الثاني : الاحتياط المحرّم ، بأن كان الاحتياط ضاراً ضرراً بالغاً ، كما اذا اوجب الاحتياط بالغسل ، والتيمم بدله - فيما يتردد الامر بينهما - اعماه مثلاً او موته .

الثالث : الاحتياط الجائز بأن كان الاحتياط موجباً لضرر يسير يجوز تحمله ، كما يجوز عدم تحمله ، فان المكلف مخيّر في ان يعمل بالاحتياط او لا .

وعلى ايّ حال : ( ف- ) اذا جاز الاحتياط ( كيف يعقل تقديمه ) اي الظن الانسدادي ( على الاحتياط ؟ ) تقديماً لايجوز خلافه ، فان جواز الاحتياط وعدمه يوجب تخيير المكلف بين العمل بالاحتياط ، او بالظن الانسدادي .

نعم ، تقدّم ان الأحوط - في هذه الصورة - ترك الاحتياط .

( واما لو كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص ) - لا بدليل الانسداد - كخبر العادل ، والشهرة ، وفتوى الفقيه والاجماع وغير ذلك ( فالظاهر ان تقديمه ) اي تقديم الظن الخاص ( على الاحتياط ) لازم فلا يجوز العمل بالاحتياط وترك خبر العادل - مثلاً فيما ( اذا لم يتوقف على التكرار ) كجلسة الاستراحة في الصلاة اذا شك في انها جزء ام لا ؟ فيقدم الظن بانها ليست جزءاً على الاحتياط بالاتيان بها في اثناء الصلاة ، وكذلك كل ما يشك فيه بين الاقل والاكثر .

وهذا التقديم ( مبني على اعتبار قصد الوجه ) والتمييز ، فان قلنا باعتبارهما قدم الظن ، والا جاز الاحتياط .

( وحيث قد رجحنا في مقامه ) في بحث التعبدي ( عدم اعتبار ) التمييز و ( نية

ص: 238

الوجه ، فالأقوى جوازُ ترك تحصيل الظنّ والأخذ بالاحتياط ، ومن هنا يترجّح القولُ بصحّة عبادة المقلِّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، إلاّ انّه خلاف الاحتياط من جهة وجود القول بالمنع من جماعة .

-----------------

الوجه ) اذ لا دليل شرعاً او عقلاً على اي منهما ( فالاقوى جواز ترك تحصيل الظن ) الخاص لو فرض وجوده ، وعدم الزوم الاخذ به ( و ) جواز ( الاخذ بالاحتياط ) فيكون الظن الخاص غير مقدم على الاحتياط في دوران الامر بين الاقل والاكثر .

( ومن هنا ) حيث ان الاحتياط في عرض الظن الخاص ( يترجح القول بصحة عبادة المقلد ) الذي ليس بمجتهد ممن يجب عليه الرجوع الى المجتهد ( اذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ) .

وعليه : فالطريق امام المكلف اما الاجتهاد ، او التقليد ، او الاحتياط .

والاحتياط تارة في الاجتهاد ، وتارة في التقليد ، فان كل ذلك مؤّن من العقاب عقلاً وشرعاً ، اما عقلاً فواضح ، واما شرعاً فلاطلاق ادلة الاحتياط ، مثل قوله عليه السلام:

« إحتَط لِدِينِكَ بِما شِئتَ » (1) .

نعم ، يلزم ان لايصل الى الوسوسة ، وان لايكون هناك محذور خارجي ، كما اشرنا اليه سابقاً ( الا انه ) اي ترك طريق الاجتهاد والتقليد والاخذ بالاحتياط في اعماله ، ( خلاف الاحتياط ) وذلك ( من جهة وجود القول بالمنع من جماعة ) من الفقهاء ، فان منعهم قد يورث الشك في العمل بالاحتياط ، اما الاخذ بالظن والعمل به ، فلا اشكال من احد فيه .

ص: 239


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .

وإن توقّف الاحتياطُ على التكرار ، فالظاهرُ أيضا جوازُ التكرار بل أولويّته على الأخذ بالظنّ الخاصّ ، لما تقدّم من أن تحصيل الواقع بطريق العلم ولو اجمالاً أولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ولو كان تفصيلاً .

وأدلّة الظنون الخاصّة إنّما دلّت على كفايتها عن الواقع ، لا تعيّن العمل بها في مقام الامتثال ،

-----------------

هذا تمام الكلام فيما اذا كان الاحتياط بالاتيان بالاكثر ، لكن ربما يكون الاحتياط في الاتيان بالاقل ، كما اذا شك في ان الشيء الفلاني مانع ، او قاطع ، مثل البكاء بدون الصوت في الصلاة ، او امتلاء النفس بالضحك ثم الضحك خارجاً فقد ابطل الصلاة بهما بعض ، ولم يبطلها بهما بعض آخر ، ففي مثل ذلك لايأتي الكلام المذكور ، اذ بتركهما لم يترك شيئاً وجودياً حتى يقال انه فاقد الوجه أو التمييز .

وعلى ايّ حال : فهذا تمام الكلام لقوله « اذا لم يتوقف على التكرار » .

( وان توقف الاحتياط على التكرار ) كصلاتي الجمعة والظهر ، او في ثوبين احدهما طاهر ( فالظاهر ايضاً جواز التكرار ) بان يحتاط بهما ( بل اولويته ) اي الاحتياط ( على الاخذ بالظن الخاص ) اي الظن النوعي الحاصل من الاخبار ونحوها ( لما تقدّم من ان تحصيل الواقع بطريق العلم ولو ) علماً ( اجمالاً ) بالاثباتين ، او النفيين ، او بالاختلاف فانه ( اولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ) اي بالواقع ( ولو كان ) ذلك الظن ظناً ( تفصيلاً ) بالواقع .

( و ) لايقال : ادلة الظنون الخاصة دالة على وجوب العمل بها .

لانه يقال : ( ادلة الظنون الخاصة انّما دلت على كفايتها عن الواقع لا ) على ( تعيّن العمل بها ) اي بتلك الظنون ( في مقام الامتثال ) فهو كما اذا قال المولى :

ص: 240

إلاّ أنّ شبهةَ اعتبار نيّة الوجه ، كما هو قول جماعة بل المشهور بين المتأخّرين ، جعل الاحتياط في خلاف ذلك ، مضافا إلى ماعرفتَ من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة .

مع إمكان أن يقال :

-----------------

إئتني برسائل الشيخ ، ثم قال : والطريق الى معرفة كتاب الرسائل ، خادمي هذا ، فلم يسمع العبد من الخادم ، وانّما جاء بكتابين احدهما الرسائل ، فانه امتثل قطعاً ، لا انه لم يمتثل ( الا ان شبهة اعتبار ) التمييز و ( نية الوجه كما هو قول جماعة ) من الفقهاء والاصولييّن ( بل المشهور بين المتأخرين ) الذين يبدأون من المحقق الحلّي قدس سره على قولٍ ، الى امثال الاردبيلي قدس سره ويطلق عليهم متأخري المتأخرين ( جعل الاحتياط ) في الامتثال الظني فقط ( في خلاف ذلك ) الاحتياط .

والحاصل : ان في المقام احتياطين : احدهما حاكم على الاحتياط الآخر ، فالاحتياط - مثلاً - في ذكر التسبيحات الاربع ثلاث مرات ، لكن اذا كانت الصلاة في آخر الوقت مما يحتمل انه اذا سبّح ثلاث مرات فات الوقت فالاحتياط حينئذٍ في ترك هذا الاحتياط ، فيقال : الاحتياط في خلاف الاحتياط .

( مضافاً الى ما عرفت ) فيما تقدّم من الادلة الاخرى الدالة على خلاف الاحتياط ، والتي ( من ) جملتها ( مخالفة التكرار للسيرة المستمرة ) بين العقلاء ، بل وبين المتشرعة على وجه خاص .

( مع امكان ان يقال ) بوجود دليل آخر اشرنا اليه سابقاً ، وهو : دوران الامر بين التعيين والتخيير ، بضميمة : انه كلما كان كذلك قدم التعيين ، فاذا طلب المولى عالماً ، ودار الامر بين ارادته عالماً مطلقاً ، حيث له ان يأتي اما بعالم الأدب ، وعالم

الفقه ، وبين ارادته عالم الفقه فقط ، فانه اذا جاء العبد بعالم الفقه امتثل قطعاً ، سواء

ص: 241

إنّه إذا شكّ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به ، لا حصوله بأيّ وجه اتفق ، في أنّ الداعي هو التعبّد بايجاده ولو في ضمن أمرين او أزيد ، او التعبّد بخصوصه متميزا عن غيره ؛ فالأصلُ عدمُ سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، و

-----------------

اراد المولى احدهما ، او عالم الفقه فقط ، اما اذا جاء بعالم الادب ، لم يقطع بالامتثال ، لاحتمال ارادة المولى عالم الفقه فقط .

وما نحن فيه من صغريات دوران الامر بين تعيين الظن وبين التخيير بين الظن والاحتياط ، فاذا أتى بالظنّ كفى قطعا ، اما اذا أتى بالاحتياط احتمل عدم الكفاية ف( انه اذا شك ) العبد ( بعد القطع بكون داعي الامر ) للمولى ( هو التعبد بالمأمور به ) بان كان غرض المولى من الامر بالصلاة هو : اتيان العبد بها وحدها بداعي القربة ، ( لا حصوله ) اي العمل المأمور به ( بأي وجه اتفق ) في التوصليات ، مثل غسل الثوب .

وعليه : فان شك ( في ان الداعي ) للمولى من امره ( هو التعبد بايجاده ) اي ايجاد العبد المأمور به العبادة ، كالصلاة - مثلاً - ( ولو في ضمن امرين ) كالظهر والجمعة ( او ازيد ) كالصلاة الى اربعة جوانب ( او التعبد بخصوصه ) الذي وصل الظن الخاص به من طريق الخبر ، او من طريق اهل الخبرة ( متميزاً عن غيره ) بان يكون قصد التمييز معتبراً ( فالاصل ) هو التعيين لا التخيير ، وذلك ل( عدم سقوط الغرض الداعي ) الى الامر ( الاّ بالثاني ) وهو التعبد بخصوصه .

( و ) ان قلت : ليس الاصل : التعيين ، بل التخيير ، لان الاصل : الاطلاق ، حيث اطلق المولى فيما دل على العبادة فاذا قال : «صلّ» ولم يقل : صلّ صلاة وصل اليها الظن فقط ، وأتى العبد بصلاتين اطاع المولى في قوله «صلّ» اذ الامتثال

ص: 242

هذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع باطلاقه ، كما لايخفى .

-----------------

التفصيلي - لا الاجمالي - يقيّد دليل العبادة ، بينما ظاهر الدليل الاطلاق ، بل قالوا : لو شك الانسان في الاطلاق والتقييد ، فاصالة الاطلاق محكمة ، حتى يأتي دليل على التقييد ، فالظهور والاصل كلاهما مع الاطلاق .

قلت : ( هذا ) الذي ذكرناه من لزوم الامتثال التفصيلي ، في قبال الامتثال الاجمالي ( ليس تقييداً في دليل تلك العبادة حتى يرفع ) القيد ( باطلاقه ) اي بسبب اطلاق الدليل ( كما لايخفى ) على من تأمل في المسألة ، فان المكلّف مأمور بتحصيل غرض المولى اذ الامر ناشى ء منه ، فاذا أتى بالامتثال التفصيلي يقطع بانه أتى بالغرض ، اما اذا لم يأت به لايعلم انه أتى بالغرض .

وان شئت جعلت الجواب في صورة قياس فتقول : « تحصيل الغرض واجب » و « لايعلم بحصوله بدون الامتثال التفصيلي » « فيجب الامتثال التفصيلي » وعليه : فليس الامر من التقييد وعدم التقييد ، بل من الشك في الاطلاق وعدم الاطلاق ، فالبحث يكون كالمجمل الذي له قدر متيقن ، لا كالمطلق الذي اذا شك في تقييده كان الاصل عدم التقييد .

هذا بيان، ويمكن هنا بيان اخر لكلام المصنّف - اي جوابه عن الاشكال - وهو : ان الامتثال من باب الطاعة ، والعقل هو المحكم في هذا الباب لاالشرع ، فالشرع امر بالعبادة ، والعقل يُلزم بالاطاعة ، فاذا شك في تقييد الشارع امره ، كان الاصل عدم التقييد، لا ما اذا شك في ان العمل الفلاني اطاعة ام لا ؟ فالمرجع العقل ، وهو يقول : ائت بما تتيقن انه طاعة ، والامتثال التفصيلي متيقن انه اطاعة ، اما الامتثال الاجمالي فلا يقين في كونه اطاعة، فاللازم عقلاً: تركه والاتيان بالامتثال التفصيلي.

وحينئذٍ : فلا ينبغي بل لايجوز تركُ الاحتياطَ في جميع موارد إرادة

ص: 243

التكرارَ بتحصيل الواقع أوّلاً بظنّه المعتبر من التقليد او الاجتهاد باعمال الظنون الخاصّة او المطلقة وإتيان الواجب

-----------------

لكن كلام المصنّف قدس سره هذا ، محل نظر ذكرناه في « الاصول » (1) .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الواجب تحصيل غرض المولى ، فاللازم : ان يأتي المكلّف اولاً بمقتضى الامتثال التفصيلي .

وثانياً : بشقّه الآخر ، فاذا شك في ان الواجب الظهر او الجمعة ، وقد ادّى الظن الخاص الى وجوب الظهر ، أتى اولاً بالظهر ، وثانياً بالجمعة ، فانه اذا كان التكليف : الظهر ، فقد أتى به بنية الوجه والتمييز ، وان كان التكليف : الجمعة فقد أتى بها ، حيث انه امتثل اجمالاً بالجمع بين الظهر والجمعة .

وعليه : ( فلا ينبغي ، بل لايجوز ترك الاحتياط ) التام - كما صورناه - وهو يجري ( في جميع موارد ارادة التكرار ) للعبادة وذلك ( بتحصيل ) واتيان ( الواقع أولاً ب- ) ما ادّى اليه ( ظنه المعتبر ) شرعا ، لانه قام عليه الدليل الظني - وهو الخبر - بوجوب الظهر في يوم الجمعة - مثلاً - بنية الوجه والتمييز .

وهذا الظن المعتبر بالظهر حاصل ( من التقليد ) ان كان عامياً افتى مجتهده بوجوب الظهر ( او الاجتهاد ) ان كان مجتهداً وصل اجتهاده الى الظهر بالظن الخاص اذا كان انفتاحيا ، وذلك ( باعمال الظنون الخاصة ) كظاهر القرآن ، او الخبر الواحد ، او التمسك بالاجماع ، او نحو ذلك ( او ) الظنون ( المطلقة ) الحاصلة له من اي سبب كان بان كان انسدادياً ، فانه يوجب الظن النوعي - في الانسداد - .

( و ) على هذا : فعليه اولاً : ( اتيان الواجب ) الذي تميز بالظن الخاص ، مع نيّة الوجه ، ثم الاتيان بالمحتمل الاخر بقصد القربة من جهة الاحتياط .

ص: 244


1- - راجع كتاب الاصول : الجزء السابع ص29 الأدلّة العقلية للشارح .

وتوهّمُ : « أنّ هذا قد يخالف الاحتياطَ من جهة احتمال كون الواجب ما أتى به بقصد القربة ، فيكون قد أخلّ فيه بنيّة الوجوب » ، مدفوعٌ بأنّ

-----------------

او الظن المطلق ( مع نية الوجه ) والتمييز - كالظهر في مثالنا - ( ثم الاتيان بالمحتمل الآخر ) من العلم الاجمالي وهو الجمعة في مثالنا ( بقصد القربة ) لانه عبادة ، وانّما يأتي بالجمعة ( من جهة الاحتياط ) لاحتمال وجوبها .

( و ) ان قلت : اذا أتى المكلّف اولاً بما وصل اليه ظنه بقصد الوجوب - لانه مؤّى الدليل - ثم أتى بالمحتمل الآخر بقصد القربة فقط بدون قصد الوجوب ، كان ذلك خلاف الاحتياط ، لاحتمال ان الواجب واقعاً هو العمل الثاني ، ولم يأت به بقصد الوجوب ، ففاته في الثاني الوجه والتمييز ، وعليه : ف( توهم : ان هذا ) الثاني الذي اتى به بدون قصد الوجوب بل باحتمال الوجوب ( قد يخالف الاحتياط من جهة احتمال كون الواجب ) الواقعي الذي يريده المولى هو ( ما أتى به بقصد القربة ) فقط بدون قصد الوجوب ، كالجمعة في مثالنا ( فيكون قد اخل فيه ) اي في هذا الثاني ( ب- ) سبب تركه ( نية الوجوب ) بناءاً على لزوم نية الوجوب ، في الاتيان بالواجب التعبدي .

قلت : هذا التوهم ( مدفوع بأن ) نية الوجه ساقطة في الثاني ، لدوران الامر بين ان يأتي بالثاني بقصد الوجه ، وهذا تشريع محرم ، حيث الدليل دلّ على ان الاول هو الواجب لا الثاني ، وبين ان يأتي به بقصد القربة فقط ، اي بقصد احتمال انه مقرّب الى اللّه سبحانه بدون قصد الوجوب وهو خلاف الاحتياط - الذي هو قصد الوجه في العبادة - فاذا دار الامر بين ترك المحرّم وبين خلاف الاحتياط ، لزم

ص: 245

هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لابدّ منه ، إذ لو أتي به بنيّة الوجوب كان فاسدا قطعا ، لعدم وجوبه ظاهرا على المكلّف بعد فرض الاتيان بما وجب عليه في ظنّه المعتبر .

وإن شئت قلت : إنّ نيّة الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط ، إجماعا ، حتى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ،

-----------------

تقديم الاول ، فان ( هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ) بأن لايأتي بالعمل الثاني بقصد الوجوب ( مما لابد منه ) وعلاج له .

( اذ لو أتى به ) أي بالثاني ( بنيّة الوجوب كان فاسداً قطعاً ) لانّه تشريع محرم (لعدم وجوبه ) أي الثاني ( ظاهراً ) حسب الادلة الظاهرية من الاجتهاد او التقليد (على المكلّف بعد فرض الاتيان ) اي اتيان المكلّف ( بما وجب عليه في ظنّه المعتبر ) اجتهاداً او تقليداً ، اولاً .

( وان شئت قلت ) في جواب الاشكال المتقدم - وتوهم - : ( انّ نيّة الوجه ) في الثاني كالجمعة في المثال ( ساقطة فيما يؤى به من باب الاحتياط اجماعاً ) من غير فرق بين كون الاحتياط واجبا ، كما اذا لم يقم دليل على ان الواجب هو الظهر او الجمعة ، او نذر الصوم ثمّ لم يعلم انّه نذر صوم يوم الخميس او يوم الجمعة ، او نذر صوما او صلاة ثم شكّ في انّ نذره تعلق بايّهما ، فان اللازم عليه في كلّ الامثلة ان يأتي بهما جميعاً ، وبين ان يكون الاحتياط افضل اي مستحبّاً : كما اذا قام الدليل على الظهر ، لكنّه يحتمل وجوب الجمعة ، حيث يأتي بها ايضاً احتياطاً لادراك الواقع ، فانّه اجماع على عدم اعتبار نيّة الوجه في كلا القسمين من الاحتياط : الواجب والمستحب ( حتّى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ) والتمييز ، وانّما قلنا انّه

ص: 246

لأنّ لازمَ قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط عدمُ مشروعية الاحتياط وكونه لغوا .

ولا اظنّ أحدا يلتزم بذلك ، عدى السيّد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغُنية في ردّ الاستدلال على كون الأمر للوجوب بأنّه أحوط ،

-----------------

اجماع حتّى منهم ( لانّ لازم قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط ) اذا قالوا به - لكنّهم لايقولون به - ان يكون معناه : ( عدم مشروعية الاحتياط ) في العبادة ( وكونه ) اي الاحتياط ( لغواً ) لانّه لايجتمع الاحتياط مع نيّة الوجه ، فامّا ان يرفعوا اليد عن الوجه في الاحتياط ، وامّا ان يقولوا بانّه لا احتياط اطلاقاً .

( ولا اظنّ احداً ) من الفقهاء( يلتزم بذلك ) أي بانّه لااحتياط في العبادة اطلاقاً ، فحيث التزموا بوجود الاحتياط ، لابدّ وأن يرفعوا اليد عن لزوم قصد الوجه في باب الاحتياط .

( عدا ) وهو استثناء من « احداً » ( السيد ابي المكارم ) ابن زهرة ( في ظاهر كلامه في الغنية ، في ردّ الاستدلال ) من بعضهم ( على كون الامر للوجوب : بانّه احوط ) وذلك لانّهم قالوا : اذا أتى بالمأمور به اصاب الواقع ، سواء كان واجباً أو مستحباً ، امّا اذا لم يأت به لاحتمال الاستحباب ، احتمل انّه خالف الواقع ، فالاحوط : ان يحمل الامر على الوجوب حتّى يأتي به .

هذا استدلال اولئك ، وردّهم ابن زهرة حيث قال : ان حمل الامر على الوجوب ضدّ الاحتياط ، لانّه ينجرّ الى امور قبيحة كالاعتقاد بوجوب الفعل ، والعزم على اداء الفعل بقصد الوجوب ، والاعتقاد بقبح ترك ذلك الفعل ، ومن المعلوم ان كلّ هذه الامور قبيحة ، وظاهر هذا الكلام عدم تشريع الاحتياط ، وكون الاحتياط

ص: 247

وسيأتي ذكره عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد .

المقام الاوّل

أمّا المقام الأوّل : وهو كفاية العلم الاجماليّ في تنجّز التكليف واعتباره كالتفصيليّ : فقد عرفتَ أنّ الكلامَ في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة

-----------------

خلاف الاحتياط ( وسيأتى ذكره ) اي كلام ابن زهرة ( عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد ) ان شاء اللّه تعالى .

المقام الاول

( اما المقام الاول : وهو ) : انّه هل يثبت التكليف بالعلم الاجمالي ؟ بعد ان عرفت حكم المقام الثاني : وهو انّه هل يسقط التكليف بالامتثال الاجمالي ؟ .

وقد تقدّم : ( كفاية العلم الاجمالي في تنجز التكليف واعتباره ) اي اعتبار التكليف ، فلا يكون الانسان بعد علمه الاجمالي بالتكليف ، من حيث الحكم كالجاهل الذي لايعلم بالتكليف اصلاً ، فليس كالجاهل حكمه البرائة ، بل العلم الاجماليّ ( كالتفصيلي ) في التنجيز ، وله مرتبتان : مرتبة وجوب الموافقة القطعيّة ، ومرتبة حرمة المخالفة القطعيّة .

( ف) المرتبة الاولى : ( قد عرفت انّ الكلام في اعتباره ) اي اعتبار العلم الاجمالي (بمعنى : وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة ) بأن يأتي باحد طرفي العلم الاجمالي فقط ، فاذا علم - مثلاً : بنجاسة أحد الانائين ، فالواجب هو عليه الاجتناب عن احدهما فقط دون الآخر ، واذا علم - مثلاً - بوجوب اما الظهر واما الجمعة فعليه ان يأتي باحدهما فقط ، واذا علم - مثلاً - بانّه

ص: 248

راجعٌ إلى مسألة البراءة والاحتياط ، والمقصودُ هنا بيانُ اعتباره في الجملة الذي أقلُّ مرتبته حرمةُ المخالفة القطعيّة ، فنقولُ : إنّ للعلم الاجماليّ صورا كثيرةً ، لأنّ الاجمال الطاري ، إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلاً ،

-----------------

امّا يجب عليه صيام يوم ، او يحرم عليه شرب التتن - لانّه نذر احدهما ثمّ نسي المنذور منها - فاللازم عليه : امّا الصيام ، وامّا ترك الشرب ، وهذا البحث ( راجع الى مسألة البرائة والاحتياط ) ممّا سيأتي ان شاء اللّه تعالى .

( والمقصود هنا ) في بحث القطع ( بيان ) المرتبة الثانية وهي : ( اعتباره ) اي اعتبار العلم الاجمالي ( في الجملة ) مقابل عدم اعتباره مطلقاً و ( الذي اقلّ مرتبته ) من الاعتبار : ( حرمة المخالفة القطعيّة ) فلا يجوز ان يشرب كلا الانائين اللذين احدهما مقطوع النجاسة ، ولايجوز ان يترك كلتا الصلاتين : الظهر ، والجمعة ، اللتين يعلم اجمالاً بوجوب احدهما ( فنقول ) وعلى اللّه التكلان : -

( انّ ) المصنّف أتى بتقسيمين ، وقسّم التقسيم الثاني الى نوعين ، وقسّم النوع الثاني الى صنفين ، وقسّم الصنف الثاني الى شخصين ، وقد أوردوا على تقسيمه هذا عدّة اشكالات ، لكنّها حيث كانت خارجة عن مقصود الشرح تركناها للمفصّلات .

وكيف كان ، ف( للعلم الاجماليّ : صوراً كثيرة ، لانّ الاجمال الطاريء ) اي العارض على العلم في التقسيم الاول ( امّا من جهة ) الموضوع ، او من جهة الحكم ، او من جهة كلٍّ من الموضوع والحكم .

فالاول : كون ( متعلّق الحكم ) اي موضوعه مجملاً ( مع تبيّن ) ووضوح ( نفس الحكم تفصيلاً ) وله مثالان : الشبهة الوجوبية ، والشبهة التحريمية ،

ص: 249

كما لو شككنا أنّ حكمَ الوجوب في يوم الجمعة يتعلّقُ بالظهر او الجمعة ، وحكمَ الحرمة يتعلّقُ بهذا الموضوع الخارجيّ من المشتبهين أو بذاك ، وإمّا مِن جهةِ نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ، كما لو شكّ في أنّ هذا الموضوع المعلوم الكلّي او الجزئي تعلّقُ به الوجوب او الحرمة ؛

-----------------

فالشبهة الوجوبية : ( كما لو شككنا ان حكم الوجوب ) المقطوع به ( في يوم الجمعة ) ظهراً هل ( يتعلق بالظهر او الجمعة ؟ و ) الشبهة التحريمية : كما لو شككنا في ان (حكم الحرمة ) الذي جاء بسبب النذر مثلاً ، هل ( يتعلق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين ) كالتبغ ( او بذاك ) كالترياق ؟ فيما اذا نذر ان لايستعمل احدهما الخاصّ ، ثم نسي متعلّق نذره .

هذا كلّه من جهة الاشتباه في متعلق الحكم ( واما من جهة ) الاشتباه في ( نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ) بأن لم يعلم الحكم الشرعي انّه حرمة او وجوب ، لكن يعلم الموضوع ( كما لو شكّ في انّ هذا الموضوع المعلوم ) له ( الكلّي ) كالجهر بالبسملة في الصلاة الاخفائية ، واجب باعتبار انّه بسملة ، او حرام باعتبار ان الصلاة اخفاتية ، ويلزم اخفات كلّ القرائة فيها ( او الجزئي ) كما اذا شكّ في ان زوجته هذه في حالة الحيض حتّى يحرم وطيها ، او مرّ عليها اربعة اشهر حتّى_'feيجب وطيها ، ولم يعلم هل ( تعلّق به ) أي بهذا الموضوع الكلّي او الجزئي ( الوجوب او الحرمة ) ؟ .

امّا اذا كان طرف الوجوب ، الاحكام الثلاثة الاخر : من الكراهة ، او الاستحباب ، او الاباحة ، فالاصل : البرائة ، كما انّه اذا كان طرف الحرمة كذلك ، فالاصل : البرائة ايضاً ، وكذلك يكون الاصل ، البرائة فيما اذا شك بين انّه واجب او حرام ، او له احد الاحكام الثلاثة الاخر ؟ .

ص: 250

وإمّا مِن جهة الحكم والمُتعلّق جميعا ، مثل أن نعلمَ أنّ حكما من الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين .

ثمّ الاشتباهُ في كلّ من الثلاثة ،

-----------------

( وامّا ) الاشتباه ( من جهة الحكم والمتعلق ) اي الحكم والموضوع ( جميعاً ) فهناك شكّان : في نوع التكليف ، وشكّ في المكلّف به ( مثل ان نعلم ) اجمالاً ( ان حكماً من الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين ) كما اذا لم يعلم انّه حلف على الوطي ، او على ترك الوطي ، ولم يعلم ايضاً انّ حلفه تعلّق بهند او دعد ، والمفروض انهما زوجتاه .

ثم لايخفى : انّ المراد « المتعلق » اعمّ من نفس الموضوع ، او المرتبط بالموضوع ، كما اذا علم انّه حلف على الصلاة ، فالموضوع وهو الصلاة معلوم ، والحكم وهو الوجوب معلوم ايضاً ، الاّ انّه لا يعلم هل حلف على الصلاة في هذا المسجد ، او في ذاك المسجد ؟ الى غير ذلك من المتعلّقات الزمانيّة والمكانيّة وسائر الخصوصيّات ، كما اذا لم يعلم انّه حلف على الصلاة مع هذا الامام ، او ذاك الامام ؟ .

( ثم ) انّه حيث قد عرفت التقسيم الاول للمصنف ، يأتي التقسيم الثاني : وهو كون الشكّ في نوع التكليف ، او في المكلّف به ، أو فيهما معاً ، وكلّ واحد من هذه الثلاثة - التي ذكرناها في القسم الاول - يأتي في التقسيم الثاني ايضاً ، وهو : الشكّ قد يكون في الشبهة الحكميّة ، وسبب الشبهة الحكميّة قد يكون : فقدان النصّ ، او اجماله ، او تعارضه ، وقد يكون في الشبهة الموضوعيّة : ممّا يلزم استطراق باب العرف للسؤل عن الموضوع الوارد في النصّ ، فيما اذا اشتبه الموضوع لدى المكلّف ، فان ( الاشتباه في كلّ من الثلاثة ) المتقدّمة في التقسيم

ص: 251

إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع كما في مثال الظهر والجمعة ، وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب كما في المثال الثاني . والاشتباه في هذا القسم إما في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة وإمّا في المكلّف .

-----------------

الاول ( امّا ) شبهة حكميّة ناتجة ( من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع ) وهذا الاشتباه امّا من جهة فقده ، او من جهة اجماله ، او من جهة تعارضه ، مثلاً : النصّ مفقود في التبغ ، ولذا نشكّ في حكمه هل انّه حرام كما قاله بعض ، او حلال كما قاله آخرون ؟ .

والنصّ مجمل في قوله تعالى : « إِنْ عَلمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً ... » (1) ، هل يراد بالخير : الايمان ، او المال ؟ فاذا نذر ان يكاتب عبده الذي كان مصداقاً للآية ، فهل يكاتب المؤن الذي لا مال له ، او ذا المال الذي لا ايمان له .

والنصّ متعارض في صلاة الجمعة حيث يقول نصّ : بانّه من وظائف الامام ، ونصّ آخر : انّه وظيفة كلّ مسلم مع اجتماع خمسة مثلاً ( كما في مثال الظهر والجمعة ) الصادر من الشارع ، وغيرها من الامثلة .

( وامّا ) شبهة موضوعيّة ناتجة ( من جهة اشتباه مصاديق ) وافراد ( متعلق ذلك الخطاب ) اي موضوعة ، او متعلق الموضوع على ماتقدّم ( كما ) ذكر ( في المثال الثاني ) عند قوله : وحكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الى اخره ، فاذا قال الشارع: اجتنب عن الخمر ، ثمّ لم نعلم ان هذا الاناء خمر ، او الاناء الآخر ، كان من الشبهة

المصداقية (والاشتباه في هذا القسم ) ممّا سميناه صنفاً ، وهي الشبهة الموضوعية.

ص: 252


1- - سورة النور : الآية 33 .

وطرفا الشبهةِ في المكلّف إمّا أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد كما في الخنثى ،

-----------------

( امّا في ) العمل ( المكلّف به ، كما ) مثلناه ( في ) الانائين المشتبهين ، ممّا يسمّى ب- ( الشبهة المحصورة ) في قبال الشبهة غير المحصورة ، ممّا لايلزم الشارع فيها العمل بالتكليف ، كما اذا كان في بلد مائة خباز احدهم نجس ، فانّه يجوز اشتراء الخبز من بعضهم ، اذا لم يكن جميعهم محل الابتلاء ، كما سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى .

( وامّا ) الاشتباه ( في ) الشخص ( المكلّف ) فالتكليف واضح ، لكن المكلّف مجهول ، وهذا التقسيم الاخير ، وهو الشخص يكون على ضربين كما اشار اليه بقوله :

( وطرفا الشبهة في المكلّف امّا ان يكونا ) اي طرفا الشبهة ( احتمالين في مخاطب واحد ، كما في الخنثى ) حيث يحتمل ان يكون في الواقع رجلاً محكوماً باحكامه كصحة كونه مرجعاً للتقليد للرجال ، وأحد الشاهدين الرجلين ، او الشهود الرجال ، وقاضياً ، وله ضعف الانثى في الارث ، ويتزوج بزوجة ، الى غير ذلك ، ويحتمل ان يكون امرأة محكومة باحكامها كأن تكون زوجة ولها نصف الذكر ، ويلزم عليها الحجاب ، ونفقتها على الزوج ، الى غير ذلك .

ثم انّه هل الخنثى المشكل في الواقع رجل او إمرأة ، او انّه قسم ثالث ؟ المشهور على الاول ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك في الفقه ، كما لم نستبعد انّه اذا كان مشكلاً ، ان يكون له الحقّ في ان يلحق نفسه بالرجال مطلقاً ، او بالنساء مطلقاً ، لكون « الناس مسلّطون على انفسهم » (1) ، الى غير ذلك ممّا ذكرناه هناك .

ص: 253


1- - يستفاد من قوله تعالى : « النّبي اولى بالمؤمنين من أنفسهم » سورة الاحزاب الآية 6 .

وإمّا أن يكونا احتمالين في مخاطبين كما في واجدي المنيّ في الثوب المشترك .

ولابد قبل التعرّض لبيان حكم الأقسام من التعرّض لأمرين .

أحدُهما :

-----------------

( واما ان يكونا ) اي طرفا الشبهة ( احتمالين في مخاطبين ، كما في واجدي المني في الثوب المشترك ) اذ يحتمل كون الجنابة من هذا او ذاك ، وكذلك الدّم الذي يقطع بكونه حيضاً في ثوب احدى المرأتين .

ولايخفى : انّه لا فرق بين الشكّ في المكلّف به ، او المكلّف ، في انّه من اقسام الشكّ في الموضوع ، وليس شيئاً خارجاً عن قسمي الشكّ في الموضوع او في الحكم ، كما انّ هناك مثالاً آخر : وهو اذا علم بأنّه حلف ان يطأ احدى زوجتيه ، وحلف ان لايطأ زوجة اخرى ، ثمّ شكّ في انّ ايتهما محلوفة الوطي وايتهما محلوفة الترك ؟ لزم عليه وطي احداهما وترك وطي الاخرى ، لانّه يحتمل بهذا مطابقة فعله للواقع ، امّا اذا وطئهما معاً ، او تركهما معاً ، فانّه يعلم انّه قد خالف الحلف .

( ولابدّ قبل التعرض لبيان حكم الاقسام ) الستة : ثلاثة للتقسيم الاول : من انّ الأعمال قد يكون في الموضوع ، او في الحكم ، او في كليهما ، وثلاثة للتقسيم الثاني : من انّ الاشتباه في كلّ من الثلاثة الاُول امّا في الخطاب ، او في المكلّف به ، او في المكلّف ، وقد عرفت تقسيم المكلّف الى مكلّف واحد او مكلّفين .

ثم لابدّ ( من التعرض لامرين : احدهما : ) انّ كلامنا في العلم الاجمالي ، ليس فيما اذا اخذ العلم في الموضوع ، بل فيما اذا اخذ في الحكم ، اذ لو اخذ العلم في الموضوع ، كان الاعتبار بكيفية الاخذ لا بالعلم .

ص: 254

انّك قد عرفت في أوّل مسألة اعتبار العلم أنّ اعتباره قد يكونُ من باب محض الكشف والطريقيّة وقد يكونُ من باب الموضوعيّة بجعل الشارع .

والكلام هنا في الأوّل ، إذ اعتبارُ العلم الاجماليّ وعدمُه في الثاني تابعٌ لدلالة مادلّ على جعله موضوعا .

فان دلّ على كون العلم التفصيليّ داخلاً في الموضوع ،

-----------------

مثلاً : قد يقول المولى : اذا علمت علماً تفصيليّاً بانّ لنا ضيوف في هذا اليوم ، وجب عليك تهيئة الطعام .

ومعنى ذلك : انّه اذا علم اجمالاً بالضيوف في هذا اليوم او في غد لم يجب عليه تهيئة الطعام ، وقد يقول : اذا علمت سواء اجمالاً او تفصيلاً : فعليك تهيئة الطعام ، وقد يقول : اذا علمت اجمالاً لاتفصيلاً ، فعليك تهيئة الطعام ، لانّ العلم ليس بطريق في حال اخذه في الموضوع .

ف( انّك قد عرفت في اول ) الكتاب في ( مسألة اعتبار العلم : ان اعتباره ) من قبل المولى ( قد يكون من باب محض الكشف ) عن الواقع ( والطريقيّة ) الى الواقع ( وقد يكون من باب الموضوعيّة بجعل الشارع ) فلا اعتبار بكونه كاشفاً ، وانّما من جهة انّه صفة نفسانيّة .

( والكلام هنا ) في العلم الاجمالي ( في الاول ) الذي هو الطريقي المحض : وانّه هل يكون منجزاً او ليس بمنجز ؟ لا في العلم الموضوعي ( اذ اعتبار العلم الاجمالي وعدمه ) وانّه معتبر او ليس بمعتبر ( في الثاني ) اي العلم الموضوعي ( تابع لدلالة ما ) اي للدليل الذي ( دلّ على جعله ) اي جعل العلم ( موضوعاً ) وذلك على ثلاثة اقسام كما عرفت :

1 - ( فان دلّ ) الدليل ( على كون العلم التفصيلي داخلاً في الموضوع ) لا العلم

ص: 255

كما لو فرضنا أنّ الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب إلاّ عمّا علم تفصيلاً نجاستُه ، فلا اشكالَ في عدم اعتبار العلم الاجماليّ بالنجاسة .

الثاني :

-----------------

الاجمالي ( كما لو فرضنا ان الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب ، الاّ عمّا علم تفصيلاً نجاسته ) بأن قال : اجتنب عن النجس المعلوم تفصيلاً ، لا ما اذا تردّدت في انّ النجس هذا الاناء او ذاك ( فلا اشكال في عدم اعتبار العلم الاجمالي بالنجاسة ) في احد الانائين .

2 - وان دلّ الدليل على ان الموضوع اعمّ من العلم التفصيلي او الاجمالي ، كان اللازم الاجتناب عن المعلوم تفصيلاً وعن المعلوم اجمالاً معاً .

3 - وان دلّ الدليل على ان الموضوع هو العلم الاجمالي لا التفصيلي ، كان اللازم الاجتناب عن المعلوم اجمالاً لا المعلوم تفصيلاً .

ثمّ في الثالث قد يقول : اجتنب عن كلٍّ من طرفي العلم الاجمالي ، وقد يقول : اجتنب عن احدهما المعيّن ، كالاناء الاحمر لا الابيض ، وقد يقول : اجتنب عن احدهما المردّد ، فالاقسام في العلم الموضوعي خمسة .

( الثاني ) في انّ العلم التفصيلي - الذي هو طريقي - حجّة مطلقاً وان كان متولّداً من العلم الاجمالي ، فاذا علم مثلاً بأنّه : امّا قد ضحك في صلاته ، او قد بكى ، كان

عالماً بالبطلان ، لانّ كلّ واحد منهما مبطل ، وكذلك اذا علم انّه امّا اكل في الصوم

او شرب .

لكن لايخفى : انّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي انّما يكون حجّة بالقدر الجامع ، لابالقدر المختصّ بكلّ طرف من اطراف العلم الاجماليّ ، فمثلاً : الافطار بلا عذر بشرب الماء في نهار شهر رمضان موجب لكفارة واحدة ، وأكل

ص: 256

انّه إذا تولّد من العلم الاجماليّ العلمُ التفصيليّ بالحكم الشرعيّ في مورد ، وجب اتّباعُه وحرم مخالفته ، لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيليّ من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ، فلا فرقَ بين من علم تفصيلاً ببطلان صلاته بالحدث او بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ، او بين ترك ركن وفعل مبطل ،

-----------------

لحم الخنزير موجب للكفارات الثلاث ، وقد علم انّه فعل احدهما ، فانّ البطلان المتيقّن لايوجب الاّ كفارة واحدة ، لاصالة عدم الزائد عليها ، وهذا بحث مفصّل قد يأتي في ثنايا الكتاب .

وعلى ايّ حال : ف( انّه اذا تولّد من العلم الاجمالي ، العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد ) كما تقدّم مثاله ( وجب اتباعه ) اي اتباع ذلك العلم التفصيلي بترتيب اثره عليه ( وحرم مخالفته ) سواء حصل العلم التفصيلي من فعلين ، او تركين ، او فعل وترك .

وانّما يجب الاتباع ( لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ) فان القطع التفصيلي الطريقي حجّة ، من غير فرق بين الاشخاص ، والاسباب ، والازمان ، والاماكن ، وسائر الخصوصيّات .

وعليه : ( فلا فرق ) في عدم كفاية ما صلاّه ( بين من علم تفصيلاً ببطلان صلاته بالحدث ) كما اذا علم بانّه قد غلبه النوم ( او ) علم ببطلانها علماً تفصيلياً متولداً من علم اجمالي بالبطلان ( بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ) للقبلة ( او ) علم ببطلانها بواحد مردد( بين ترك ركن ) كترك الركوع ( وفعل مبطل ) كزيادة الركوع - مثلاً - فالمردّد بين الضحك والبكاء ايجابيان ، وبين ترك الركوع او السجدتين سلبيان وبين الضحك او ترك الركوع ايجابي وسلبي .

ص: 257

او بين فقد شرطٍ من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه بناءاً على اعتبار وجود شرائط الامام في علم المأموم ، إلى غير ذلك .

-----------------

ثمّ مثلّ المصنّف لما اذا كان منشأ البطلان المردّد بين مالنفسه وما لإمامه بقوله : ( او ) بواحد مردد ( بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه ) اي صلاة المصلي نفسه ( وفقد شرط من شرائط صلاة امامه ) كما اذا علم بجنابة احدهما .

والمراد بالشرط : اعمّ من الجزء ، مثلاً : لو علم بانّه امّا لم يركع هو ، وامّا لم يركع امامه ، وكان بينهما ارتباط بان جاء بركوع لاجل المتابعة ، امّا اذا لم يكن بينهما ارتباط ، لم يحصل العلم التفصيلي بالبطلان ، كما اذا علم بانّ احدهما ترك الركوع ، بدون اتيان المأموم بركوع متابعي ، فانّه لايعلم ببطلان صلاته ، لانّ امامه اذا لم يأت بالركوع ، انفردت صلاة المأموم لا انّها تبطل .

ثمّ انّما يعلم المأموم ببطلان صلاته تفصيلاً في مثال جنابة نفسه او جنابة إمامه كما تقدّم ( بناءاً على اعتبار وجود شرائط ) صلاة ( الامام في علم المأموم ) فانّ الاحتمالات هنا ثلاثة :-

الاول : انّ المناط : الواقع ، فان كانت صلاة الامام واجدة للشرائط واقعاً ، صحّت والاّ بطلت .

الثاني : المناط : علم الامام ، فاذا علم الامام بصحّة صلاته كفى في الاقتداء به - وان كان المأموم يعلم عدم وجدان صلاة الامام للشرائط - .

الثالث : انّ المناط : علم المأموم ، فاذا علم بعدم وجدان صلاة الامام للشرائط ، لايصحّ الاقتداء به ، وإلاّ صحّ .

ثم ان ماذكره المصنّف قدس سره من قوله : « بناءاً » اشارة الى الامر الثالث ، وكما ان المراد ب« العلم » : أعمّ من العلم الوجداني او التنزيلي ( الى غير ذلك ) من امثلة

ص: 258

وبالجملة : فلا فرقَ بين هذا العلم التفصيليّ ، وبين غيره من العلوم التفصيليّة ، إلاّ أنّه قَد وَقَعَ في الشّرع موارِد يوهم خِلافَ ذلك :

منها : ما حكم به بعضٌ فيما إذا اختلفت الأمّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليلٌ ، من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ،

-----------------

العلم الاجمالي المفضي الى العلم التفصيلي ، كما اذا علم بأنّ المرأة الفلانيّة امّا اخته من الرضاعة ، او اخته من النسب ، حيث يحرم عليه ان يتزوج بها .

( وبالجملة : فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي ) المتولّد من علم اجمالي ( وبين غيره من العلوم التفصيلية ) فانّ اختلاف الاسباب لايكون سبباً لعدم حجّية العلم ، وكذلك في الظنون الخاصّة ، كالخبر الواحد ، والظنّ الانسدادي ، اذا وصلت النوبة اليه ( الاّ انّه قد وقع في الشرع موارد يوهم خلاف ذلك ) اي يوهم عدم الاعتبار بالعلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ، فاللازم ان نلاحظ تلك الموارد حتّى نرى هل الشارع حكم بعدم الاعتبار فيها ام لا ؟ .

( منها ) اي من تلك الموارد ( : ماحكم به بعض فيما اذا اختلفت الامّة ) في مورد (على قولين ) كما اذا قال بعضهم : بانّ البئر لاتتنجّس بوقوع نجس فيها مطلقاً ، وقال بعضهم : بانّها تتنجّس مطلقاً ( ولم يكن مع احدهما دليل من ) الشرع معتبر يمكن الاستناد اليه ف( انّه يطرح القولان ) كأن لم يكونا ( ويرجع الى مقتضى الاصل ) من برائة ، او استصحاب ، أو ما أشبه .

فانّ الاصل قد يكون مع احدهما ، كما في مثال البئر ، حيث انّ الاصل فيها الطهارة ، وهذا لا محذور فيه ، وقد يكون الاصل خلاف كلا القولين ، كما اذا قال بعضهم : بوجوب الجهر بالبسملة في الصلاة الاخفاتيّة ، وبعضهم : بحرمة الجهر ، فانّا اذا طرحنا القولين ورجعنا الى الاصل ، كان مقتضى الاصل الجواز ،

ص: 259

فانّ إطلاقه يشمل مالو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعيّ المعلوم وجودُه بين القولين ، بل ظاهرُ كلام الشيخ ، القائل بالتخيير هو التخييرُ الواقعيّ

-----------------

وهو خلاف الوجوب والحرمة .

وعليه : ( فان اطلاقه ) اي اطلاق كلام هذا البعض ( يشمل مالو علمنا بمخالفة مقتضى الاصل للحكم الواقعي ، المعلوم وجوده بين القولين ) كما في مثال البسملة - مثلاً - انّه قد انعقد الاجماع المركّب على انّ لا حكم ثالث ، فالامام عليه السلام مع أحد القولين ، ومع وجود هذا العلم كيف يحكم بقول ثالث ؟ وهل هذا الاّ مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ؟ .

( بل ) ماذكرناه : من ترك القولين هو : ( ظاهر كلام الشيخ ) الطوسي قدس سره أيضاً فانّه (القائل بالتخيير ) بين القولين - في قبال القائل الاول ، الذي يقول بطرح القولين - فان التخيير ايضاً احداث قول ثالث ، ويكون خلاف العلم الاجمالي الذي يقول : بأنّ حكم اللّه إمّا في هذا ، أو في ذاك .

وهذا ( هو التخيير الواقعي ) لا التخيير الظاهري ، اذ التخيير الواقعي : احداث مايقطع بخلافه ، بخلاف التخيير الظاهري .

بيان ذلك : ان التخيير قد يكون واقعياً - وهو المسّمى بالواجب التخييري بمعنى : ان يكون حكم اللّه للمكلّف مخيرا بين هذا وذاك مثل : خصال الكفارة .

وقد يكون ظاهريّاً بمعنى : انّا حيث لا نعلم بالحكم الواقعي ، نتخيَّر بين الاخذ بهذا او ذاك ، كما في الخبرين المتعارضين حيث قال الامام عليه السلام :

ص: 260

المعلوم تفصيلاً مخالفته

-----------------

« إذن فتخير » (1) .

فانّ التخيير ليس حكم الواقع ، وانّما هو حكم الجاهل بالواقع كقاعدة الحلّ ، وقاعدة الطهارة ، اذ الموضوع لو كان نفس الموضوع بلا ضمّ ضميمة اليه ، كان الحكم واقعيّاً ، مثل : « الخمر حرام » حيث انّ الخمر بنفسه وضع عليه حكم الحرمة ، امّا اذا كان الموضوع هو الشيء بضميمة الجهل بحكمه ، مثل : « الشيء المجهول طهارته ونجاسته ، طاهر » فهذا حكم ظاهري ، اي انّ حكم المكلّف في حال جهله بالطهارة والنجاسة حكم الطهارة .

والتخيير الواقعي ينافي حكم اللّه ، اذ حكم اللّه امّا الظهر وامّا الجمعة - مثلاً - حسب ما افترقت عليه الأمّة من قولين فانّهم قائلون امّا بهذا القول او بذاك القول ، ولا قول سواهما ، فاذا قال احد : بانّه مخيّر واقعاً ، وفي اللوح المحفوظ التخيير بينهما ، كان مخالفاً للعلم الاجمالي ، اذ هو من التناقض ، فالحكم : وجوب الظهر ، والحكم : تخيير بين الظهر والجمعة ، تناقض .

كما انّ الحكم : وجوب الجمعة ، والحكم : تخيير بين الظهر والجمعة تناقض أيضاً .

أمّا اذا قال الشيخ : بالتخيير الظاهري ، فلا ينافي العلم الاجمالي ، اذ العلم الاجمالي يقول : في الواقع امّا ظهر أو جمعة ، والتخيير الظاهري يقول : في الظاهر تخيير ، والواقع مرتبة ، والظاهر مرتبة اخرى ، فلاتناقض في البين .

وعليه : فالتخيير الواقعي هو ( المعلوم تفصيلاً مخالفته ) اي مخالفة التخيير

ص: 261


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لِحكم اللّه الواقعيّ في الواقعة .

ومنها : حكمُ بعضٍ بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعةً او تدريجا ، فانّه قد يؤدّي إلى العلم التفصيليّ بالحرمة او النجاسة ، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جاريةً ،

-----------------

الواقعي ( لحكم اللّه الواقعي في الواقعة ) لانّ الحكم الواقعي هو الظهر فقط ، او الجمعة فقط ، فالتخيير بينهما خلاف ماثبت في اللوح المحفوظ من التعيين .

( ومنها ) اي ومن موارد حكم الفقهاء ما يستلزم خلاف العلم التفصيلي هو : (حكم بعض ) منهم ( بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة ) واحدة ، كما اذا كان هناك اناءان ، احدهما نجس فشرب احدهما ، وأراق الآخر في المسجد ، فانّه يعلم حينئذٍ بأنّه فعل حراماً . امّا بالشرب او بالأراقة ( او تدريجاً ) كأن يشرب احدهما اليوم ، ويشرب الآخر غداً ، حيث انّه بشربه للثاني يعلم بانّه شرب النجس .

( فانّه ) اي ارتكابهما دفعة او تدريجاً( قد يؤّي الى العلم التفصيلي ) الذي له نتيجة حاليّة ، وهو الذي يقصده من قوله : « قد يؤي » .

والاّ فكلّ استعمال لهما يؤّي الى النتيجة ، لكن قد لا يعلم بالنتيجة الحاليّة ، مثل ما مثّلناه من المثال الاول ، بخلاف الثاني : حيث يعلم حالاً بأنّ فمه نجس .

وقد مثّل المصنّف بما ادّى الى الحرمة في قوله : ( بالحرمة او النجاسة ) وقد عرفت مثال النجاسة وذلك ( كما ) اذا اشتبه المذكى بالميتة ، ف( لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية ) سواء باعهما واشتراها تدريجاً أو دفعة كأن اشترى نصف الجارية باحد المشتبهين اولاً ، ثم اشترى نصفها الآخر بالمشتبه الثاني ثانياً

ص: 262

فانّا نعلم تفصيلاً بطلانَ البيع في تمام الجارية لكون بعض ثمنها ميتةً ، فنعلم تفصيلاً بحرمة وطيها ، مع أنّ القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراجُ هذه الصورة .

ومنها : حكمُ بعضٍ بصحّة ائتمام

-----------------

( فانّا نعلم تفصيلاً بطلان البيع في تمام الجارية ) اي فيما قابل الميتة منها ( لكون بعض ثمنها ميتة ، فنعلم تفصيلاً بحرمة وطيها ) وسائر الاستمتاعات منها .

لايقال : انّ القائل بجواز ارتكاب المشتبهين لايقول بالجواز في هذه الصورة .

لانّه يقال : ( مع انّ القائل بجواز الارتكاب ) للمشتبهين ( لم يظهر من كلامه اخراج هذه الصورة ) التي تولّد منها العلم التفصيلي بالحرمة او بالنجاسة من الجواز ، فالمحقق القمي قدس سره قوّى في القوانين جواز الارتكاب التدريجي ، وسيأتي الكلام في ذلك ، وبعضهم ذهب الى جواز الارتكاب الدفعي ايضاً لقوله عليه السلام : «حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بِعَينِهِ » (1) .

وعلى هذا : فان كانت هناك امرأتان يعلم بان احداهما اجنبية عنه ، يجوز له على قوله وطيهما تدريجاً ، او وضع يده على هذه ، ووطي تلك ، او وضع يديه عليهما دفعةً ، الى غير ذلك من الامثلة .

اللهم الاّ ان يقال : انّ الاموال والاعراض والانفس خارجة ، للزوم الاحتياط فيها حتّى في الشبهة البدويّة ، والشبهة غير المحصورة ، فاذا علم : بانّ احدى هؤاء الالف من النسوة رضيعته ، لايجوز له الزواج منهنّ ، وكذا اذا علم بانّ احد هؤاء الالف ، مسلم محقون الدّم ، والبقيّة كفّار واجبوا القتل ، يحرم قتل ايّ منهم .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ايضاً ( : حكم بعض ) الفقهاء ( بصحة ائتمام )

ص: 263


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 .

أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك بينهما بالاخر ، مع أن المأموم يعلم تفصيلاً ببطلان صلاته من جهة حدثه او حدث إمامه .

ومنها : حكمُ الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان ، بحيث يعلم صدقُ أحدهما وكذبُ الاخر ، فانّ

-----------------

اي اقتداء ( احد واجدي المني في الثوب المشترك ) الذي هو لاحدهما ، او الفراش الذي (بينهما ) ويرى فيه آثار المني ، حيث يقطعان انّه من احدهما لكن اشتبه (بالآخر ، مع انّ المأموم يعلم تفصيلاً ببطلان صلاته ) لانّه يترك القرائة التي هي تكليف المنفرد ، عالماً عامداً ( من جهة حدثه ) بالمني ( او حدث امامه ) به .

وكذلك الحال في المرأتين ، اللّتين تعلمان بحيض احداهما ، لانّهما وجدتا آثار الحيض في الثوب المشترك بينهما ولم تغتسلا ، لاجراء كلّ واحدة منهما أصالة البرائة .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : حكم الحاكم ) بعد تعارض البيّنات ولا ترجيح ، او بعد تحالفهما ، ولابيّنة لأحدهما ، او بعد تركهما الحلف والبينة ( بتنصيف العين ) كالدار ، او القماش ، او ما اشبه ذلك ( التي تداعاها رجلان بحيث يعلم ) الحاكم من الخارج ( صدق احدهما وكذب الآخر ) كما اذا علم بانّ الاب وهب داره لاحد ولديه : زيد او عمرو ، وقد مات الاب وتداعى الولدان ، كلّ يدّعي انّه الموهوب له ، وقد حدث مثل ذلك في زمان الامام امير المؤنين عليّ عليه السلام ، حيث تداعى اثنان ناقة واقام كلّ منهما البينة ، فقضى عليه السلام على الناقة بينهما بالتنصيف (1) .

( فانّ ) فيه اولاً : كيف يحكم الحاكم بما يعلم تفصيلاً بانّه ايصال للنصف

ص: 264


1- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص251 ب12 ح33698 .

لازمَ ذلك جوازُ شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما مع أنّه يعلم تفصيلاً عدمُ انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعيّ .

ومنها : حكمهُم فيما لو كان لأحد درهمٌ ولآخر درهمان ، فتلف أحدُ الدراهم من عند الودعيّ ،

-----------------

الى غير صاحبه ، وهو علم تفصيلي بمخالفة الواقع ؟ .

وثانياً ( لازم ذلك ) الحكم ( جواز شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما ) نصفاً من هذا ونصفاً من ذاك ، او ارث ثالث لهما ( مع انّه ) اي الثالث ( يعلم تفصيلاً عدم انتقال تمام المال اليه من مالكه الواقعي ) وانّما المنتقل اليه النصف فقط .

نعم ، اذا ادّعى كلّ منهما ، كلّ المال ، ونصّفه الحاكم ، واحتملنا اشتراك كلّ منهما في النصف ، لم يعلم تفصيلاً بعدم انتقال المال .

ثمّ انّه لاحاجة في اصل المسألة الى ادّعاء كلّ واحد منهما التمام ، بل لو ادعى احدهما التمام ، والاخر النصف ، فانّ الحاكم يقسّمه اثلاثاً ، يعطي الثلثين الى مدعي الكلّ ، والثلث الى مدعي النصف - على قول بعضهم - وحينئذٍ يعلم الحاكم بانّه قد اعطى واحداً من الثلثين او الثلث لغير المستحقّ ، وكذا الثالث الذي اشتراه منهما ، او ورثه منهما ، يعلم انّه لايملك امّا الثلث او الثلثين .

لكن لايخفى : انّ مثالنا السابق بالارث ليس مطلقاً ، اذ ربّما يعلم بانّه انتقل اليه من هذا او من ذاك ، بل فيها اذا صار ابهام في الارث بما اوجب العلم التفصيلي.

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : حكمهم ) اي الفقهاء ( - فيما لو كان لأحد درهم ولآخر درهمان ) فجعلا دراهمهما الثلاثة عند امين ( فتلف احد الدراهم ) الثلاثة (من عند الودعي ) بدون تفريط ، حيث انّه لو تلف بالتفريط كان الودعي ضامناً ، ولزم عليه ردّ الثلاثة اليهما لكن لو كان من غير تفريط ، فقد حكموا

ص: 265

بأنَّ لصاحب الاثنين واحدا ونصفا ، وللآخر نصفا ، فانّه قد يتفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيليّة ، كما لو أخذ الدرهمَ المشتركَ بينهما ثالثٌ ، فانّه يعلم تفصيلاً بعدم انتقاله من مالكه الواقعيّ اليه .

ومنها : مالو أقرّ بعين لشخص

-----------------

( - : بانّ لصاحب الاثنين واحداً ونصفاً ، وللآخر ) صاحب الواحد( نصفاً ) وذلك لانّ احد الدرهمين الباقيين لصاحب الدرهمين قطعاً ، والدرهم الثاني امّا لصاحب الدرهمين وامّا لصاحب الدرهم الواحد ، فبقاعدة العدل ينصّفه الحاكم بينهما ، وبهذا وردت الرواية ، لكن بعض الفقهاء قال : بالثلثين والثلث ، لا بثلاثة ارباع والربع - كما هو مورد الرواية - والتفصيل ذكرناه في الفقه .

وفي هذا التقسيم ، سواء كان عملاً بالرواية او عملاً بالقاعدة ، مخالفتان : -

الاولى : كيف يحكم الحاكم بانّ الدرهم الثاني يقسّم بينهما ، مع انّه يعلم انّه هذا الدرهم كلّه امّا لصاحب الدرهمين وامّا لصاحب الدرهم ، فهو مخالفة للعلم التفصيليّ ؟.

الثانية : ما اشار اليه المصنّف بقوله : ( فانّه قد يتّفق افضاء ذلك ) الحكم من الحاكم بالتنصيف ( الى مخالفة تفصيليّة ، كما لو اخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث ) بالأشتراك ، او الهبة ، او ما اشبه ( فانّه ) اي الثالث ( يعلم تفصيلاً بعدم انتقاله ) بتمامه ( من مالكه الواقعي اليه ) اي الى هذا الثالث ، فكيف يتصرّف في تمامه تصرف المالك ؟ وهكذا اذا كان لهما ثوبان وثوب ، او ثلاثة دراهم ودرهمان ، الى غير ذلك .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : مالو اقرّ ) من بيده عين ( ب- ) انّ تلك ال( عين لشخص ) .

ص: 266

ثم أقرّ بها للآخر ، فانه يَغرمُ للثاني قيمةَ العين بعد دفعها إلى الأوّل ، فانّه قد يؤدّي ذلك إلى اجتماع العين والقيمة عند واحد ويبيعها بثمن واحد ، فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه ، لكون بعض مثمنه مال المقر في الواقع .

-----------------

مثلاً قال : هذا الكتاب لزيد ( ثّم اقرّ بها للاخر ) بأنّ قال : هذا الكتاب لعمرو ( فانّه ) اي المقر ( يغرم للثاني ) وهو عمرو ( قيمة العين ) كدينار قيمة الكتاب مثلاً (بعد دفعها ) اي العين ، كالكتاب في المثال ( الى الاول ) الذي اقرّ له اولاً ، كزيد في المثال .

وانّما يدفع العين الى الاول : لقاعدة اقرار العقلاء ، ويدفع القيمة للثاني : لانّه باقراره انّ الكتاب للثاني قد اعترف بانّه اتلف العين عليه باقراره للأول ( فانّه ) حينئذٍ يحصل للحاكم مايخالف علمه التفصيلي ، وذلك : -

اولاً : انّ الحاكم حيث يعلم انّه ليس على المقر الكتاب وقيمته معاً ، فيكون حكمه بالأمرين مخالفاً لعلمه التفصيلي .

وثانياً : ( قد يؤّي ذلك ) الحكم باعطائه العين للاول وقيمته للثاني ( الى اجتماع العين والقيمة عند ) شخص ( واحد ) بأن يرث الكتاب والقيمة من الاثنين المقر لهما (ويبيعها ) اي الكتاب والقيمة ( بثمن واحد ) كأن يشتري بهما داراً ( فيعلم ) هذا الثالث ب( عدم انتقال تمام الثمن ) كالدار في المثال ( اليه ، لكون بعض مثمنه ) من الكتاب وقيمته ( مال المقرّ في الواقع ) لانّ الكتاب ان كان للاول ، فالقيمة للمقرّ ، وان كان للثاني فليس الكتاب للاوّل المقر له .

هذا ، ولكن الذي ذهبنا اليه في الفقه : انّه بعد اقراره للاوّل بالكتاب ، لم يكن اقراره الثاني ذا قيمة ، اذ هو اقرار فيما لايملك ، واقرار العقلاء انّما يصحّ فيما يملكون ، لا فيما لايملكون ، سواء كان الاقرار سابقاً على الملك

ص: 267

ومنها : الحكمُ بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه او مثمنه على وجهٍ يقضى فيه بالتحالف ، كما لو اختلفا في كون المبيع بالثمن المعيّن عبدا او جاريةً ، فانّ ردّ الثمن

-----------------

أو لاحقاً له .

مثلاً : لو أقرّ بأنّ فرس زيد الذي في يده لعمرو ، فانّه اقرار في ملك الغير ، فاذا ورث الفرس لا يجب عليه اعطاؤ لعمرو - وهذا اقرار سابق على المالك - والاقرار اللاحق هو كما تقدّم في مثال الكتاب .

هذا في المال ، وامّا في غير المال فكذلك ، مثلاً : لو اقرّ زيد بانّ زوجة عمرو ليست زوجة له وانّما هي زوجة بكر ، فاذا طلّقها او مات عنها عمرو ، صحّ للمقر تزويجه منها ، ولايقال : انّه باقراره بانّها زوجة بكر لايحق له تزويجها بعد طلاق او موت زوجها عمرو ، لانّه اقرار في حقّ الغير الى غير ذلك .

هذا ، بالاضافة الى ان الاقرار ثانياً ، امّا ان يصدر عن غير عاقل ، فليس من اقرار العقلاء ، او من عاقل يدّعى انّه اشتبه في اقراره الاول ، فاللازم ان يسمع كلامه ، لا ان يحكم عليه بالاقرارين ، كما ذكروا ذلك فيمن كتب انّه تسلم الثمن ، ثمّ ادّعى انّه كتابته كانت قبل التسلم ، حيث قالوا : بانّه يسمع كلامه ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( :الحكم ) اي حكم القاضي ( بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه ، او مثمنه ) او بائعه ، او مشتريه ، بأن تنازعا ( على وجه يُقضى فيه بالتحالف ) حيث لابيّنة لاحدهما ، او تعارضت البيّنتان وتساقطتا ( كما لو ) اتّفقا على الثمن المعين كمائة دينار ، و ( اختلفا في كون المبيع ب- ) هذا ( الثمن المعيّن ، عبداً او جارية ) فقال البائع : بالأول ، والمشتري : بالثاني ( فانّ ردّ الثمن )

ص: 268

إلى المشتري بعد التحالف مخالفٌ للعلم التفصيليّ بصيرورته ملكَ البايع ثمنا للعبد او الجارية ، وكذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرةَ دنانير او مائةَ درهم ، فانّ الحكم بردّ الجارية مخالفٌ للعلم التفصيليّ بدخولها في ملك المشتري .

-----------------

بحكم القاضي ( الى المشتري بعد التحالف ) المقتضي لبطلان البيع ظاهراً ( مخالف للعلم ) اي لعلم المشتري ( التفصيلي بصيرورته ) اي الثمن ( ملك البائع ثمناً للعبد او الجارية ) فانّ البيع حسب الفرض قد وقع ، والثمن انتقل الى البائع ، فكيف يأخذه المشتري ؟ .

( وكذا) في عكسه : بأن كان الاختلاف في الثمن ، لا المثمّن كما ( لو ) اتّفقا في انّ المثمّن الجارية لكنهما ( اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرة دنانير ، او مائة درهم ف) قال البائع : بعتك بعشرة دنانير ، وقال المشتري : بل بمائة درهم ، فانّ الحكم هو التحالف ، وبعد التحالف يحكم ببطلان البيع ظاهراً وترد الجارية الى صاحبها وهو البائع ، مع وضوح ( انّ الحكم بردّ الجارية ) الى البائع ( مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري ) مثمناً للدنانير ، او الدراهم .

وكذا اذا كان الاختلاف في البائع او المشتري ، كما لو اتفق الجميع على بيع الكتاب بدينار ، لكن كان الاختلاف في انّ البائع زيد او عمرو ، او انّ المشتريّ زيد او عمرو ؟ .

وهكذا اذا كان الاختلاف في الزوج ، هل هو بكر او خالد ؟ او في الزوجة ، هل هي هند او دعد ؟ فانّ النكاح يبطل بعد التحالف ، او تعارض البيّنتين ، مع العلم بانّه وقع النكاح الى غير ذلك من مختلف الامثلة في ابواب الطلاق ،

ص: 269

ومنها : الحكمُ بأنّه لو قال أحدهما : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني إيّاها - إنّهما يتحالفان وتُردّ الجارية إلى صاحبها ، مع أنّا نعلم تفصيلاً بانتقالها عن ملك صاحبها الى الآخر ، إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبّع .

-----------------

وسائرالمعاملات .

( ومنها ) اي من موارد البحث ( : الحكم ) من الفقهاء ( بانّه لو ) اختلفا في نفس العقد بأن ( قال احدهما ) اي احد المتعاقدين ( : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني ايّاها ) فاذا كان لاحدهما البيّنة ، او اليمين مع عدمها ، حسب ماهو ميزان الدعوى فهو ، والاّ ف( انّهما يتحالفان ) .

وكذلك اذا تعارضت البيّنتان وتساقطتا فانّه يكون المرجع ( وتردّ الجارية الى صاحبها ) لأنّ احد العقدين لم يثبت ( مع انّا نعلم تفصيلاً : بانتقالها عن ملك صاحبها الى الآخر ) بيعاً او هبة .

( الى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبّع ) في الفقه ، من انقلاب العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي ، ومع ذلك لايقولون بالعمل حسب العلم التفصيلي ، كما في : حكمهم بجواز ارتكاب اطراف الشبهة غير المحصورة ، مع انّه قد يشرب الف انسان من الف اناء احدها نجس ، ثمّ يشربون من اناء واحد ، فانّه يعلم تفصيلاً بنجاسته ، لانّ احدهم تنجس فمه بالشرب ، وكما في اجراء العالم عقد الزواج لمائة يعلم بكون احد الزوجين من هذه المائة اخت الزوج من الرضاعة - مثلاً - ، حيث انّ الزواج يجوز لكلّ المائة ، لاجرائهم أصالة عدم الرضاع .

ص: 270

فلابدّ في هذه الموارد من التزام أحد امور على سبيل منع الخلوّ :

أحدُها : كونُ العلم التفصيليّ في كلّ من أطراف الشبهة موضوعا للحكم ، بأن يقال : ان الواجبُ الاجتنابُ عمّا علم كونه بالخصوص بولاً ،

-----------------

وهكذا ( فلابدّ في هذه الموارد من التزام احد امور ، على سبيل منع الخلو ) اذ بعض الموارد يمكن ان يجاب عنه باجوبة متعدّدة من الاجوبة التي سنذكرها ان شاء اللّه تعالى ، وذلك لأن مخالفة العلم موجب للتناقض كما عرفت ، فاللازم الخروج من هذا التناقض ، امّا بأجوبة تظهر من الادلة ، أو بأجوبة احتماليّة ، فلايقال : كيف يتدخل في الشريعة اجوبة احتمالية ؟ .

( احدها : كون العلم التفصيلي في كلّ من اطراف الشبهة موضوعاً للحكم ) فاذا علم الانسان تفصيلاً بالموضوع ذي الحكم ، لزم ترتيب ذلك الحكم ، امّا اذا لم يعلم تفصيلاً فليس عليه ترتيب الحكم ، كما في مسألة الائتمام - مثلاً - بأن يقول الشارع : اذا علمت بانّ امامك جنب علماً تفصيلياً ، فلا يمكن لك الاقتداء به ، امّا اذا لم تعلم تفصيلاً ، بل علمت اجمالاً بجنابة احدكما فلا بأس بالائتمام ، فالعلم التفصيلي أخذ في الموضوع ، وليس العلم طريقاً حتّى يقال : لا فرق في العلم الطريقي بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي .

وان شئت قلت : يمكن ان يُفرض : انّ الشارع قال : انّ كلاً منكما ايّها الامام والمأموم طاهر ، اذا لم يكن لكما علم تفصيلي بالجنابة ، او قال : انّ صلاتكما جماعة صحيحة اذا لم تعلما بالجنابة علماً تفصيلياً .

وبهذا الجواب نجيب في ارتكاب الانائين المشتبهين دفعة او تدريجاً ( بان يقال : ان الواجب ) شرعاً ( الاجتناب عمّا علم كونه بالخصوص بولاً ،

ص: 271

فالمشتبهان طاهران في الواقع ، وكذا المانع للصلاة الحدثُ المعلومُ صدورهُ تفصيلاً من مكلّف خاصّ ، فالمأموم والامام متطهّران في الواقع .

الثاني : انّ الحكمَ الظاهريّ في حقّ كلّ أحد نافذٌ واقعا في حق

-----------------

فالمشتبهان ) بانّ احدهما بول ( طاهران في الواقع ) فلا يلزم من شربهما تدريجاً شرب النجس ، ولا من شرب احدهما واراقة احدهما في المسجد دفعة ، استعمال النجس .

وهكذا المشتبه بالميتة ليس حراماً ، فاذا جعلا ثمنا للجارية دفعة او تدريجا ، لم يكن بعض الجارية غير مملوك للمشري حتّى يحرم وطيها .

( وكذا المانع للصلاة : الحدث ) اي الجنابة ، او الحيض في المثال المتقدم ( المعلوم صدوره تفصيلاً من مكلّف خاص ) لا الحيض ، او الجنابة الاجماليّة غير المعلومة انّها من هذا او من ذلك ( فالمأموم والامام متطهّران في الواقع ) .

وبهذا الجواب يقيّد اطلاق دليل الحرمة والنجاسة في الميتة والجنابة اي « بما علم تفصيلاً » ، لكنّهم لايلتزمون بذلك ، فهل اذا وقع الثوبان النجس احدهما ، في ماء قليل يقال بطهارته ؟ او جعل اللحمان الميتة احدهما ، في قدر يحكم بحلّيته ؟ .

والجواب ( الثاني : انّ الحكم الظاهري ) بصحّة صلاة الامام ، لانّه مستصحب الطهارة علماً بانّ استصحاب المأموم الطهارة لصحّة صلاته تظهر فائدتها في صحّة رجوع الامام اليه اذا شكّ في انّه ركع مثلاً ام لا ، فانّ المأموم اذا أشار اليه بأنّه ركع كفى في صحّة صلاته ، كما انّ استصحاب الامام الطهارة لصحّة صلاته ، تفيد المأموم لرفع شكّه ، وذلك كلّه يتوقف على انعقاد الجماعة .

وعليه : فالحكم الظاهري ( في حق¨ كلّ واحد ) منهما ( نافذ واقعاً في حقّ

ص: 272

الآخر ، بأن يقال : إنّ من كانت صلاتُه بحسب الظاهر صحيحةً عند نفسه ، فللآخر أن يرتّب عليها آثارُ الصحّة الواقعيّة ، فيجوز له الايتمام به ، وكذا من حلّ له أخذُ الدار ، ممّن وصل اليه نصفُه إذا لم يُعلَم كذبُه

-----------------

الآخر ) من الامام والمأموم وان لم يكن سبباً لصحّة صلاته واقعاً ، فاذا انكشف للامام انّه كان جنبا لزم عليه اعادتهما ، كذلك اذا انكشف للمأموم ذلك ( بان يقال : انّ من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه ) ولو كان علمه على نحو الجهل المركّب ، او على نحو الحكم الشرعي كالاستصحاب ( فللاخر ان يرتب عليها ) اي على صلاة الامام ( آثار الصحّة الواقعيّة ) .

فاذا كانت صلاة الامام عند نفسه صحيحة ، فلا اثر للعلم الاجمالي من المأموم بكون احدهما جنباً ، او أن احدهما توضأ بالماء النجس فيما اذا كان لهما اناءان ، وعلم المأموم بنجاسة احد الانائين ، فانّ كلّ واحد منهما يستصحب طهارة انائه ويتوضأ او يغتسل منه ، ويقتدي احدهما بالآخر ، او يقتدي ثالث بهما في صلاة واحدة ، او في صلاتين مع انّ المأموم يعلم انّ احد اماميه جنب ( فيجوز له ) اي للمأموم ( الايتمام به ) كما يجوز للأمام الاعتماد عليه في عدد الركعات وما اشبه .

وهكذا في الحج ، فيستنيب زيد عمرا او خالداً في حجّه حيّاً او ميّتاً ، مع انّه يعلم انّ احد النائبين جنب فيما اذا كانت الجنابة مشتبهة بين عمرو وخالد ، الى غير ذلك من المسائل .

( وكذا ) نقول : بانّ الظاهر كافٍ في الامر ، ولا يؤّر العلم الاجمالي في( من حلّ له اخذ الدار ) الّتي تداعاها رجلان من كلّ واحد ( ممّن وصل اليه نصفه ) او بالاختلاف ، بأن وصل ثلثها الى احدهما ، وثلثان آخران الى الثاني ( اذا لم يعلم ) هذا الثالث : الذي اشترى الدار منهما ، او الوارث لهما ، او نحو ذلك ( كذبه ) اي

ص: 273

في الدّعوى ، بأن استند إلى بيّنة او إقرار او اعتقاد من القرائن ، فانّه يملك هذا النصفَ في الواقع .

وكذلك إذا اشترى النصف الآخر ،

-----------------

كذب أحد المدعيين متعمداً (في الدعوى ) .

وذلك ( بان استند ) كلّ واحد من المدّعيين في دعوى ملكه للدار( الى بيّنة او اقرار ) كما اذا كانت الدار لزيد ، فاقرّ مرّة بانّها لعمرو ، واقرّ مرة بانّها لخالد ، ولم نعلم : انّ ايّ الاقرارين كان سابقاً على اقراره الآخر ؟ اذ لو علمنا فإقراره السابق ، كان اقراره اللاحق باطلاً ، لانّ الدار صارت للسابق منهما ( او اعتقاد ) كلّ واحد منهما بأنّ الدار له ( من القرائن ) كما اذا كانت دار في يد والدهما ، وكلّ لا يعلم بأنّها كانت في يد الآخر بل يزعم انّ والده وحده كانت الدار في يده ( فانّه ) اي الثالث المشتري منهما ، أو الوارث منهما ، او ما اشبه من انحاء الانتقال ( يملك هذا النصف ) الذي بيد زيد وهذا النصف الذي بيدي عمرو ( في الواقع ) لانّ الملك الواقعي متوقّف على ملك البايعين ظاهراً .

( وكذلك ) نجيب بعين هذا الجواب ( اذا اشترى ) احدهما ( النصف الآخر ) عطف على « اخذ » بان يأخذه منه مجّاناً ، او هديّةً ، او يشتريه منه ، لكن هذا يبعده : انّ الاخذ اعمّ من الاشتراء ، فلا داعي الى ذكره ، كما انّه يحتمل بعيداً أيضاً ان يريد : انّه لو اشترى احد المتنازعين نصف شريكه ، فانّه ربّما يحصل له العلم الاجمالي بأحد امرين : -

الاول : انّ نصف الدار لشريكه اذا كان في الواقع كلّ الدار لشريكه ، وقد اشترى نصفه منه ، اذ يبقى نصفه الآخر ملكاً لشريكه .

الثاني : انّ الثمن الذي أعطاه للشريك بقي على ملك نفسه ، ممّا اوجب

ص: 274

فيثبت ملكه للنصفين في الواقع .

وكذا الأخذُ ممّن وصل إليه نصفُ الدرهم في مسألة

-----------------

استطاعته ، او الخمس فيه ، فيما اذا كان كلّ الدار لنفسه ، واشترى نصفه من شريكه فانّ البيع باطل ، فهو يعلم فعلاً بأحد واجبين عليه : امّا ردّ نصف الدار الى شريكه - اذا كان كلّ الدار لشريكه وقد اشترى نصفه - وامّا وجوب الحجّ عليه بالثمن الذي دفعه ممّا اوجب استطاعته مثلاً - اذا كان كلّ الدار لنفسه وقد اشترى نصفها من شريكه اعتباطاً .

هذا اذا قلنا : بالحكم الواقعي في المسألة ، امّا اذا قلنا : بكفاية الظاهر ، فبعد قضاء الحاكم بانّ الدار نصفها لهذا ونصفها لذاك صارا في الظاهر مالكين للنصفين ، ويصحّ للثالث البناء على هذا الحكم الظاهري ، فيشتري النصفين منهما ، او يرثه منهما ، او ما اشبه من انحاء الانتقال ( فيثبت ملكه للنصفين في الواقع ) لكنّهم لايلتزمون بذلك سواء بالنسبة الى الثالث ، او الى احد الطرفين .

مثلاً : اذا تنازع الزوجان في انّها زوجته ام لا ، فادّعى الزوجيّة وانكرت ، وجاء بالشهود ، فانّ الحاكم يحكم بزوجيّتها له ، لكن هل لها ان ترتب آثار الزوجيّة التي قضي الحاكم بها وهي تعلم انّها ليست بزوجته ، وانّه والشهود قد اشتبهوا في الامر ، حيث انّ أباها قد زوجه اختها ، لا هي ؟ .

امّا ترتيبها آثار الزوجيّة في غير القدر المجبور فيها بان تذهب هي اليه للمواقعة ، وتأخذ الارث منه اذا مات ، الى غير ذلك فمعلوم العدم .

( وكذا ) نقول في مثال درهمي الودعي : فانّه بعد حكم الحاكم يصبح كلّ نصف من الدرهم لاحدهما ، مع انّ كلّ الدرهم في الواقع امّا لهذا وامّا لذاك ف( الاخذ ممّن وصل اليه نصف الدرهم في مسألة ) الوديعة المتقدّمة بحسب

ص: 275

الصلح ومسألتي التحالف .

-----------------

( الصلح ) يكون مالكاً للنصف واقعاً ، فيجوز الثالث ان يأخذ النصفين منهما ، ويكون مالكاً لكلّ الدرهم .

والظاهر : انّه كلّما لم يثبت بدليل شرعي انقلاب الواقع بسبب حكم القاضي او ما اشبه ، نقول : ببقاء الواقع على واقعيّته ، وانّه لا يجوز لمن حصل له العلم التفصيلي عدم ترتيب آثار الواقع ، سواء في الموارد السابقة ، او اللاحقة ، او غيرها .

( و ) كذا قد عرفت الكلام في الاقرار بعين واحدة لاثنين ، فانّ الاقرار الثاني : امّا باطل حيث انّه اقرار في غير الملك ، أو أنّه صحيح ويلزم تقسيم العين بين المقر لهما لقاعدة العدل .

ويؤّد الاوّل : انّ المرأة لو اعترفت : انّها زوجة لزيد ، لم يصح اقرارها الثاني انّها زوجة لعمرو ، كما إنّ الزوج إن اقرّ : انّه زوج لهند ، لم يصحّ اقراره الثاني انّه زوج لاختها .

واذا وقع قتيلان : احدهما في بغداد ، والآخر في البصرة ، فأقر انسان : انّه قتل قتيل بغداد ، ثمّ اقر : بأنّه قتل قتيل البصرة في نفس تلك الساعة ، لم يصحّ اقراره الثاني الى غير ذلك .

اما لو قيل كما قالوا في الاقرارين : من خسارة العين للأول ، وخسارة الثمن للثاني ، فنقول : بانّ الشارع قد حكم باعطاء الثاني من ماله فيكونان بحكم الشارع مالكان للعين والقيمة ، فيصح الثالث اخذهما منهما ، كما قلنا في درهمي الودعي .

وكذا الحال في( مسألتي ) الثمن والمثمن او الاختلاف في العقد انّه بيع او هبة ممّا يلزم ( التحالف ) الى غير ذلك من موارد التحالف ، وكلّها احكام ثانويّة

ص: 276

الثالث : أن يلتزم بتقييد الأحكام المذكورة بما اذا لم يُفضِ إلى العلم التفصيليّ بالمخالفة والمنع ممّا يستلزم المخالفَة المعلومةَ تفصيلاً ، كمسألة اختلاف الأُمّة على قولين ، وحمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصّا شرعيّا قهريّا ، عمّا يدّعيه من الثمن

-----------------

من الشارع مخصّصة لاطلاق الادلة الاوليّة .

الجواب : ( الثالث ) هو ( : ان يلتزم بتقييد الاحكام المذكورة ) في المسائل السابقة ، مثل : درهمي الودعي وموارد التحالف ، الى غير ذلك ( بما اذا لم يفض الى العلم التفصيلي بالمخالفة ) للواقع ، فلايصحّ لثالث اخذ نصفي الدرهم ، ولا غير ذلك ممّا تقدّم ( والمنع ممّا يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلاً ، كمسألة اختلاف الامّة على قولين ) فانّه نقول : لايجوز احداث قول ثالث بالتخيير ، كما ذكره الشيخ قدس سره ولا بغيره ، فاذا اختلفت الامّة على قولين : قول بنجاسة البئر بالملاقات مطلقاً وقول بطهارتها مطلقاً ، لم يجز احداث قول ثالث بنجاستها ببعض النجاسات وعدم نجاستها ببعض النجاسات الاخرى .

وكذلك اذا اختلفت في : وجوب الظهر او الجمعة ، لم يجز احداث قول ثالث بالاستحباب للجمعة مثلاً او تحريمها ، الى غير ذلك .

( و ) كذا يلتزم ب( حمل اخذ المبيع في مسألتي التحالف ) في صورة الاختلاف في المثمن انّه جارية او عبد ، والاختلاف في الثمن انّه عشرة دنانير او مائة درهم ، حيث قالوا : ببطلان البيع ، ورجوع كلّ من البضاعة والنقد الى مالكه ، فنقول : كلّ طرف حيث يرى نفسه محقّاً في مايدّعيه ، يأخذ بضاعته او نقده ( على كونه تقاصّاً شرعيّاً قهريّاً عمّا يدّعيه من الثمن ) او المثمن :

فمالك البضاعة يأخذ بضاعته تقاصّاً ، ومالك الثمن يأخذ ثمنه تقاصّاً ،

ص: 277

او انفساخ البيع بالتحالف من أصله او من حينه ، وكون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهريّة .

-----------------

والتقاصّ مفاعلة « قصّ » بمعنى اتباع الاثر السابق ومنه « القصة » لانها اتباع الاثر السابق ومنه قصص الانبياء عليهم السلام ، وهو يصطلح شرعاً فيما اذا لم يصل الانسان الى ماله فانّ له الحقّ ان يأخذ بقدره مثلاً او قيمة ممّن استولى عليه ، سواء كان قد استولى على عين ماله ، او كان يطلبه من جهة النفقة فلم يدفعها اليه ، كما في قصّة هند حيث أجاز لها الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ان تأخذ من مال زوجها ابي سفيان بقدر نفقتها ونفقة اولادها .

( او ) يلتزم على( انفساخ البيع ) ونحوه في الاختلاف في الثمن او المثمن ، أو الاختلاف في خصوصيّة العقد ، هل هو بيع او هبة بعوض او اجارة مثلاً ؟ الى غير ذلك انفساخاً (ب) سبب ( التحالف من اصله ) فكأنّه لم يقع بيع اصلاً ( او من حينه ) اي حين التحالف ، بان وقع البيع وبقي الى وقت التحالف ، فلما تحالفا ابطله الشارع .

والثمرة على القولين تظهر في الانفساخ لو كان من الاصل ، كانت الثمار فيما بين البيع والتحالف للمنتقل عنه ، وان كان الانفساخ من حين التحالف كانت الثمار بين البيع والتحالف للمنتقل اليه .

( و ) يلتزم ايضاً على ( كون اخذ نصف ) الدار او ( الدرهم ) في النزاع في الدار ، وفي مسألة درهمي الودعي ( مصالحة قهريّة ) من الشارع على الطرفين ، والتصالح القهري له صورتان :-

الاولى : انّ الشارع يعلم انّه احياناً يكون الدرهم الثاني لصاحب الدرهمين ، واحياناً لصاحب الدرهم ، فحكم دائماً بانّ نصفه لهذا ونصفه لذلك ، حتى تتوزع

ص: 278

وعليك بالتأمّل في دفع الاشكال عن كلّ مورد بأحد الأمور المذكورة ، فانّ اعتبار العلم التفصيليّ بالحكم الواقعيّ وحرمة مخالفته ممّا لا يقبل التخصيصَ باجماع او نحوه .

إذا عرفت هذا فلنَعد إلى حكم مخالفة العلم الاجماليّ ،

-----------------

الخسارة ولا يكون الثقل على احد الطرفين .

الثانية : انّ الدرهم وان كان ملكاً لاحدهما دائماً ، الاّ انّ الشارع جعل نصفه لمن لا يملك واقعاً بالصلح ، عوض الصلح الذي شرع لختم النزاع ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك في مثل الدرهم والدار وغيرهما في الفقه .

( وعليك بالتأمّل في دفع الاشكال عن كلّ مورد ) من الموارد التي ذكرناها ، وما فيها من الاشكال على تحوّل المعلوم بالاجمال الى المعلوم بالتفصيل ( بأحد الامور المذكورة ، فانّ اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي وحرمة مخالفته ممّا لا يقبل التخصيص باجماع او نحوه ) فاذا رأينا التخصيص ، فلابدّ وان يحمل على كون القطع موضوعيّاً ، لا طريقيّاً ، او انّ الشارع رفع يده عن الواقع لعلّة ، فلايمكن ان يقال بعدم هذين الامرين ، ومع ذلك يقال بالتخصيص باجماع او سنة .

( اذا عرفت هذا ) الذي ذكرناه من تبدّل المعلوم بالاجمال الى المعلوم بالتفصيل ومع ذلك لايلزم العمل بالمعلوم بالتفصيل ( فلنعد الى حكم مخالفة العلم الاجمالي ) وهو على قسمين :-

الاول : المخالفة لانسان واحد ، كما تقدّم .

الثاني : المخالفة لجملة من النّاس ، كما اذا أباح الشارع غير المحصور والحال انّه يعلم مخالفة البعض لحكمه الواقعي ، كما لو كان في البلد مائة لبّان والشارع يعلم انّ لبن احدهم نجس ، ومع ذلك حيث انّه غير محصور - فرضاً - يجيز

ص: 279

فنقول : مخالفةُ الحكم المعلوم بالاجمال يتصوّر على وجهين :

أحدُهما : مخالفتهُ من حيث الالتزام ، كالالتزام باباحة وطي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف ومن وجب وطيها به مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ،

-----------------

ارتكاب النّاس له ، فانّه كيف يمكن الجمع بين حرمة اللبن النجس ، وبين اجازة ارتكابه ؟ .

والجواب : انّ الشارع رفع يده عن الحرمة لاجل التسهيل مثلاً ، فلا حكم في الواقع ، فلايلزم المناقضة ، وعليه : فامّا لا حكم كما في غير المحصور ، وامّا لا اجازة كما في المحصور .

وعلى اي حال : ( فنقول : مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال ، يتصور على وجهين : احدهما : مخالفته ) اي مخالفة الحكم ( من حيث الالتزام ) بان يلتزم قلباً خلاف الحكم الفرعي ، وان التزم عملاً بالحكم ( كالالتزام باباحة وطي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف ، ومن وجب وطيها به ) اي بالحلف ، كما اذا علم بانّه حلف بأحد الامرين ، لكن لايعلم انّه حلف على الفعل او حلف على الترك .

وكذا اذا التزم قلباً بحلّية المرأتين والحال انّ احداهما واجبة الوطي ، لانّها زوجته وقد وصل زمان وجوب وطيها ، واخراهما محرّمة الوطي لانّها في حالة الحيض ، وهو لا يعلم بانّه ايّتهما هذه وايّتهما تلك ؟ وذلك ( مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ) كما اذا علم بانّه هنداً زوجته في اوّل ساعة من ليلة صيام هذا العام ، امّا واجبة الوطي او محرمة الوطي - لانّه قد حلف على احدهما - والتزم باباحتها ، كان ذلك التزاماً قلبيّاً بخلاف الحكم الذي يعلم به اجمالاً .

ص: 280

وكالالتزام باباحة موضوع كلّيّ مردّدة أمرهُ بين الوجوب والتحريم ، مع عدم كون احدهما المعيّن تعبّديّا يعتبر فيه قصدُ الامتثال ،

-----------------

وانّما قال : مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ، لان¨ في مثل هذه الحالة لا يمكن المخالفة عملاً ، بخلاف ما اذا كان مختلف الزمان ، كما اذا علم بالوجوب في اوّل الشهر ، او الحرمة في آخره ، فانّه اذا التزم بالاباحة امكن المخالفة عملاً ، بان يترك الوطي في اوّل الشهر ويطأ في آخره ، فانّ الالتزام - في هذا المثال - بخلاف الحكم المعلوم اجمالاً « من الوجوب او الحرمة » ينجرّ الى المخالفة العمليّة .

( و ) ايضاً ( كالالتزام باباحة موضوع كلّي ) كالزواج - مثلاً - ( مردّد امره ) اي امر ذلك الكلّي ( بين الوجوب والتحريم ) بأن حلف امّا على الترك أو على الفعل ، وجاء بهذا المثال الافادة انّه لا فرق في ما ذكره بين الجزئي والكلّي ، فلو التزم بالاباحة في ايّ منهما ، لم ينجرّ الى العمل ، لانّه لا يخلو من الفعل او الترك ، سواء التزم بالاباحة او لا ( مع عدم كون احدهما المعيّن تعبديّاً ) .

وقد تقدّم انّ التعبّدي في الاصطلاح : ما ( يعتبر فيه قصد الامتثال ) سواء كان كلاهما غير تعبدي - بان كانا توصليين ، بلا فرق بين الجزئي او الكلّي - او كان احدهما تعبّدياً ، لكنّه غير معيّن انّ ايّهما تعبّدي كما اذا نذر فعل الوطي او الترك قربة الى اللّه - لما فيه من الصلاح لدينه - فصار احدهما بنذره تعبّديّاً ، لكنّه لا يعلم انّ ايّاً من الفعل او الترك تعبّدي .

امّا اذا كان احدهما المعيّن تعبّدياً ، كما لو نذر ان يطأ تعبّديّاً قربة ، او يترك توصليّاً ، فالتزم بالاباحة ، فانّ التزامه حينئذٍ ينجّر الى العمل ، فانّه اذا وطأ توصليّاً يكون قد ترك كلا الامرين : اي الوطي التعبدي ، واللاوطي التوصلي ، فيكون

ص: 281

فانّ المخالفة في المثالين ليس من حيث العمل ، لأنّه لايخلو من الفعل الموافق للوجوب والترك الموافق للحرمة ، فلا قطع بالمخالفة إلاّ من حيث الالتزام باباحة الفعل .

-----------------

التزامه الاباحة منجراً الى العمل بينما الكلام في انّه هل يجوز الالتزام بالاباحة فيما لم ينجّر الى العمل ؟ ( فان المخالفة في المثالين ) الجزئي والكلّي ( ليس من حيث العمل ) الخارجي ، لانّه سواء التزم بالاباحة او لم يلتزم لا يخلو امّا من الفعل او الترك ، فالالتزام لم ينجرّ الى العمل ( لانّه ) عملاً ( لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب ) الذي هو احد المحتملين ( والترك الموافق للحرمة ) الذي هو المحتمل الآخر ( فلا قطع بالمخالفة ، الاّ من حيث الالتزام باباحة الفعل ) اي انّه التزم باباحة الفعل مع انّه امّا واجب او حرام .

ثمّ انّه لو كان كلّ من الفعل والترك تعبّدياً امكن المخالفة العمليّة ، فلو حلف - مثلاً - بان يطأ قربة ، او يترك قربة ، ثمّ وطأ بدون القربة او ترك الوطي بدون القربة علم بانّه خالف ، لانّه ان كان واجباً قربةً ، لم يفعله وان كان حراماً قربة ، لم يتركه بقصد القربة ، ومنه يعلم انّ الاقسام ثلاثة :

الاول : كون كليهما تعبديّاً .

الثاني : كون كليهما توصليّاً .

الثالث : كون احدهما تعبّدياً والآخر توصليّاً ، وهذا الثالث قد يكون معلوماً انّ ايهما تعبّدي وايّهما توصلّي ، وقد يكون مجهولاً ، وانّما يعلم اجمالاً بانّ احدهما تعبدي .

هذا تمام الكلام من حيث الالتزام ، وهو الامر الاول .

ص: 282

الثاني : مخالفتُه من حيث العمل ، كترك الأمرين اللذين يعلمُ بوجوب أحدهما ، وارتكاب فعلين يعلم بحرمة احدمها فانّ المخالفة هنا من حيث العمل .

وبعدَ ذلك ، فنقولُ : أمّا المخالفة الغير العمليّة ، فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معا ،

-----------------

( الثاني : مخالفته ) اي مخالفة الحكم ( من حيث العمل كترك الامرين اللذين يعلم بوجوب احدهما ) بأن يترك الظهر والجمعة في التعبدي ، ويترك مواقعة زوجتيه في التوصلي ( وارتكاب فعلين يعلم بحرمة احدهما ) كأن يشرب انائين يعلم بنجاسة احدهما ، ويأتي بفعل وترك يعلم منع احدهما ، كما اذا علم انّه يجب عليه امّا ترك التتن او فعل الوطي لزوجته ، فاستعمل التتن وترك الوطي ( فانّ المخالفة هنا ) في الامثلة الثلاثة ( من حيث العمل ) لا من حيث الالتزام .

( وبعد ذلك ) الذي تبيّن من انّ المخالفة قد تكون التزاميّة وقد تكون عمليّة ( فنقول : امّا المخالفة الغير العمليّة ) ، ولايخفى ان « غير » لا يدخل عليه اللام ، لانّه متوغل في الابهام ، قال سبحانه : « غير المغضوب عليهم » (1) ، ( فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعيّة ) المرتبطة بموضوعات الاحكام ( والحكميّة ) المرتبطة بالاحكام ( معاً ) .

وانّما كان الظاهر الجواز ، لانّه لا دليل على وجوب الالتزام ، فاذا التزم في قلبه بأنّ زوجته حرام عليه ، أو بأنّ شرب الماء الذي هو مباح واجب عليه ، لم يكن عليه شيء ، ولو شكّ في وجوب الالتزام بالاحكام ، كان الاصل العدم ، فاذا كان في غير الشبهة كذلك ، كان في الشبهة بطريق اولى .

ص: 283


1- - سورة الفاتحة : الآية 7 .

سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين ، لموضوع واحد ، كالمثالين المتقدّمين ، او بين حكمين لموضوعين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضّأ غفلةً بمايع مردّد بين الماء والبول .

-----------------

وان شئت قلت : المقتضي لشمول ادلّة البرائة موجود والمانع مفقود ، اذ العلم الاجمالي لا يكون مانعاً- بطريق اولى - بعد ان لم يكن العلم التفصيلي مانعاً .

لا يقال : الالتزام باحكام اللّه سبحانه لازم .

لانّه يقال : الالتزام من حيث هو مقدّمة للعمل لازم ، امّا اذا كان عدم الالتزام ، او التزام العدم ، لا ينجّر الى المخالفة العمليّة فلا ، فهل يقول احد : بأنّ الالتزام القلبيّ على انّ الماء مباح ، او الخمر حرام ، بدون اظهار او عمل على خلاف احكام اللّه سبحانه لازم .

وعليه : فالمخالفة الالتزاميّة جائزة ( سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد ، كالمثالين المتقدّمين ) اي الموضوع الشخصي المردّد ، كالمرأة المردّدة بين وجوب الوطي او حرمتها ، او الموضوع الكلّي - على ما ذكرهما المصنّف - ومثّلنا للثاني : بانّه حلف امّا على ترك الزواج او فعله ( او بين حكمين لموضوعين كطهارة البدن ) لاستصحاب الطهارة ( وبقاء الحدث ) لاستصحاب الحدث ( لمن توضأ - غفلة - بمائع مردّد بين الماء والبول ) فانّه ان كان ماءاً ، كان بدنه طاهراً وكان متطهراً من الحدث ، وان كان بولاً كان بدنه نجساً وكان محدثاً ، فالتفكيك بينهما تفكيك بين المتلازمين ، لكن قد يجري ذلك في الشرع والعقل .

ففي الشرع : كما اذا اوصى بشيء ، وكان الشاهد عليه امرأة واحدة ، فربع الوصية وان شهدت امرأتان فالنصف ، وفي الثلاث ثلاثة ارباع ، وفي الاربع الكلّ ، مع انّه فيما عدا الصورة الاخيرة ، امّا له كلّ الوصيّة او لا شيء له .

ص: 284

أما في الشبهة الموضوعيّة ، فلأنّ الأصلَ في الشبهة الموضوعيّة إنّما يخرجُ مجراه عن موضوع التكليفين ، فيقال : الأصلُ عدمُ تعلّق الحلف بوطي هذه

-----------------

وفي العقل : كما في موارد القواعد العقلائيّة من التنصيف بين المتداعيين وغير ذلك .

على اي حال ، فالقول : بانّ بدنه طاهر ولا وضوء له ، مخالفة التزاميّة ، لانّ الالتزام بالامرين معاً مخالفة للواقع قطعاً ، لكنّه ليس بمخالفة عمليّة ، فانّه سواء صلّى بذلك الوضوء او لم يصلّ ، لم يعلم بأنّه خالف عملاً ، اذ لو صلّى بذلك الوضوء ، احتمل الصّحة من جهة احتماله انّ الماء كان طاهراً ، وان لم يصلّ به بل صلّى بوضوء آخر ، او لم يصلّ اصلاً ، لانّه توضأ لصلاة النافلة ، او لأن يكون متطهراً - حيث استحباب الطهارة الدائمة - او ما اشبه ذلك ، لم يكن علم بالمخالفة العمليّة .

وانّما قال : غفلة ، لانّه اذا علم بانّ المائع مردد بين الماء والبول ، لم يأتي منه قصد القربة ، الاّ من باب الرجاء كما يأتي منه في التوضي بانائين مشتبهين .

( امّا ) دليل جواز المخالفة الالتزامية ( في الشبهة الموضوعية ، فلان الاصل ) العدمي ( في الشبهة الموضوعية انّما يخرج مجراه ) أي متعلق التكليف ، كالمرأة المشكوكة في كونها محلوفة الوطي او محلوفة الترك ( عن موضوع التكليفين ) فاذا علم بانه اما قد حلف على وطيها ، او حلف على ترك وطيها ، فلا يستصحب عدم الحلف ، حتى يكون منافياً للعلم الاجمالي بالحلف ، بل يستصحب بقائها على حالتها السابقة .

( فيقال ) حينئذٍ ( : الاصل عدم تعلق الحلف بوطي هذه ) المرأة

ص: 285

وعدم تعلّق الحلف بترك وطيها ، فتخرج المرأةُ بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ، فَيُحكَمُ بالاباحة لأجل الخروج عن موضوع الوجوب والحرمة ،

-----------------

( و ) الاصل ايضاً (عدم تعلق الحلف بترك وطيها ) لان كونها محلوفة الوطي او الترك مسبوقان بالعدم فيستصحب العدم ( فتخرج ) هذه ( المرأة بذلك ) الاصل في الطرفين ( عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ) .

لا يقال : كيف يجري الأصلان والحال انا نعلم بأنهما امّا محلوفة الوطي أو محلوفة الترك ؟ .

لانه يقال : هذا تابع لشمول دليل الاصل لهما ، فانه ربما يقال : دليل الاصل لا يشملهما ، لانه يوجب التناقض في اطراف الدليل ، وربما يقال : انه لا يشملهما، لانه لا فائدة للاصل بعد كونه اما فاعل او تارك سواء أجرى الاصل ام لا ، وربما يقال : بانه لا يشملهما لان الاصلين مناقضين للعلم الاجمالي ، بل للعلم التفصيلي بانها محلوفة في الجملة .

وكيف كان : فان قلنا بالشمول لانه لا يوجب المخالفة العملية ، والمحذور انّما هو : في لزوم الاصلين مخالفة عملية ، فانه يجري الاصلان .

فان قلت ما فائدة مثل هذا الاصل ؟ .

قلت : ان الفائدة عدم لزوم الالتزام .

والحاصل : ان الشارع قال : لا حاجة إلى الالتزام - بعد عدم امكان المخالفة العملية - فتأمل .

وعليه : ( فيحكم ) على تلك المرأة ( بالاباحة ) وطياً وتركاً ( لاجل الخروج ) أي خروجها بسبب جريان الاصلين ( عن موضوع الوجوب ) لوطيها ( والحرمة )

ص: 286

لا لأجل طرحهما ، وكذا الكلام في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمايع المردّد ،

-----------------

لوطيها ( لا لاجل طرحهما ) أي طرح الوجوب والحرمة ، فلا نقول : الاصل عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، بل نقول : الاصل كونها محلوفة الوطي ، او محلوفة الترك ، فاذا خرجت عن موضوع الحكمين ، فلا يشملهاالخطابان ، أي واجب عليك الوطي ، او حرام عليك الوطي .

وهذا مثل قول العقلاء في شيء متنازع عليه بين نفرين ولا دليل لاحدهما : ان الاصل عدم كونه كله لهذا كما ان الاصل عدم كونه كله لذاك ، فيقسم بينهما مع العلم انه لاحدهما ، فالاصلان في عمل العقلاء لاجل التقسيم العملي ، والاصلان في المرأة لاجل عدم الالتزام القلبي .

( وكذا الكلام في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردد ) بين الطاهر والنجس ، فان الشارع قد حكم بطهارة بدن المتوضي ونجاسة ما لاقى نجساً ، فعند الشك في المانع ، نقول : الاصل عدم ملاقاة هذا البدن للنجس ، كما ان الاصل عدم كون روحه روح المتوضي ، فاذا خرج بدنه وروحه عن موضوعي المتنجس الظاهري والطهارة المعنوية ، فلا يحكم بالتنجس ولا برفع الحدث ، فيستصحب بقاء طهارة البدن وبقاء حدث الروح ، ولا تستصحب الطهارة والحدث بنفسهما ، بل يجري الاصل في موضوعهما .

ولا يخفى ان هناك اربعة اشياء : البدن ، والروح ، والنفس ، والعقل .

فالبدن : هذا الهيكل الظاهر .

والنفس : ما في داخل البدن مما قد يخرج وقد يبقى كما في الميّت والحي .

والروح : ما يسبب اتصال البدن والنفس ، كما في حال الحياة .

ص: 287

وأمّا الشبهة الحكميّة ، فلأن الاُصول الجارية فيها وإن لم يُخرِج مجراها

-----------------

والعقل : ما يهدي البدن والنفس إلى المصالح وينهى عن المفاسد .

ومثال ذلك ، السيارة ، فالهيكل : هو البدن ، والماكنة : هي النفس ، والبنزين ، هو الروح ، والسائق : هو العقل ، والمثال تقريبي - كما لا يخفى - .

وربما يطلق الروح على النفس ، ويطلق النفس على الروح ، والدليل على انهما اثنان - دليلين - وذلك ان القرآن الكريم اذا ذكر النفس جعلها بين امرين ، قال سبحانه : « وَنَفسٍ وَما سَوّاها * فألهَمَها فُجورَها وَتَقْواها » (1) .

واذا ذكر الروح مدحه مطلقاً ، قال سبحانه : « قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ رَبّي ... » (2) .

( واما ) دليل جوازالمخالفة الالتزامية في ( الشبهة الحكمية ) كما اذا شك في ان الشارع هل اوجب اخراج الذباب من الحلق - اذا كان صائماً ودخل ذباب حلقه في حال الصلاة - حتى لا يبطل صومه ، او حرّمه حتى لا تبطل صلاته ، ؟ فان الاصل الجاري بعدم الوجوب وعدم الحرمة ، ينافي نفس الحكم أي الوجوب او الحرمة المحتملين ، لا ان الاصل كما في الشبهة الموضوعية يخرج مجرى الحكمين ، الا انه لا بأس باجراء اصل عدم الحكمين - هنا - لانه لا يلزم منه مخالفة عمليّة ، اذ الانسان اما يخرج الذباب او لا يخرج ، سواء اجرى الاصل او لا ، فلا يلزم من اجراء الاصل مخالفة عملية ، حتى يقال : لا يجري الاصل لانه يخالف العمل .

والحاصل : انه لا دليل على حرمة المخالفة الالتزامية لا في الموضوعات ولا في الاحكام ، بل الاصل في كليهما مع المخالفة الالتزامية ، اما في الشبهة الموضوعية فقد عرفت وجهه ، واما في الشبهة الحكمية : ( فلأن الاصول الجارية فيها ) أي في الشبهة الحكمية ( وان لم يخرج مجراها ) أي مجرى تلك الاصول

ص: 288


1- - سورة الشمس : الآيات 7 - 8 .
2- - سورة الاسراء : الآية 85 .

عن موضوع الحكم الواقعي ، بل كانت منافية لنفس الحكم ، كأصالة الاباحة مع العلم بالوجوب او الحرمة ، فانّ الاصولَ في هذه منافيةٌ ، لنفس الحكم الواقعيّ المعلوم إجمالاً ، لا مخرجةٌ عن موضوعه ،

-----------------

( عن موضوع الحكم الواقعي ) كحكم وجوب اخراج الذباب من الحلق او حرمة اخراجه ، فان الاخراج وعدم الاخراج لا يسقطان عن كونهما إخراجاً او غير إخراج ، بخلاف المرأة المحلوفة الوطي او الترك ، حيث انها تخرج عن كونها محلوفة الفعل او الترك بسبب الاصل .

وان شئت قلت : « المرأة » كلي « والمرأة المحلوفة » صنف منه ، وقد اخرجنا « المرأة المحلوفة » عن كلي المرأة بسبب الاصل ، وليس المقام كذلك ، فان «وجوب الاخراج » ليس فوقه كلي يخرج « هذا الوجوب » عنه ( بل كانت ) الاصول ، كأصل عدم وجوب الإخراج او وجوب الإخراج ( منافية لنفس الحكم ) اذ الحكم وجوب الاخراج ، او حرمة الاخراج فالمقام ( كاصالة الاباحة مع العلم ) اجمالاً ( بالوجوب او الحرمة ، فان ) اصل الاباحة كما انه ينافي الوجوب او الحرمة ، للتناقض بينهما كذلك ( الاصول في هذه ) الشبهة الحكمية ، أي اصل حرمة الاخراج او اصل وجوب الاخراج ( منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً ) كما ذكرناه .

( لا ) ان الاصل هنا - في الشبهة الحكمية - كالشبهة الموضوعية ، حتى تكون الاصول فيها ( مخرجة ) لمجرى تلك الاصول ( عن موضوعه ) أي موضوع الحكم ، فان الاصل قد ينتج اسقاط الموضوع كما في الشبهة الموضوعية ، وقد ينتج اسقاط الحكم ، كما في الشبهة الحكمية ، فالاصل في الاول ليس مناقضاً للحكم ، بينما الاصل في الثاني مناقض للحكم ، والأصل المناقض - سواء للحكم

ص: 289

إلاّ أنّ الحكم الواقعيّ المعلوم إجمالاً لا يَترتّبُ عليه أثرٌ ، إلاّ وجوبُ الاطاعة وحرمةُ المعصية ، والمفروض أنّه لايلزم من اعمال الاصول مخالفة عمليّة له لتحقيق المعصية ، ووجوبُ الالتزام بالحكم الواقعيّ مع قطع النظر

-----------------

التفصيلي او للحكم الاجمالي - لا يجري ، اذ لا يعقل ان المولى يناقض نفسه بنفسه ، بان يقول : الشيء الفلاني جائز ، ويقول : نفس ذلك الشيء واجب او حرام .

( الاّ ان ) ذلك لا يمنع من اجراء الاصلين في الحكم : اصل عدم الوجوب ، واصل عدم الحرمة ، لان ( الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً لا يترتب عليه اثر ، الاّ وجوب الاطاعة وحرمة المعصية ) .

فاذا حكم المولى بحكم ، وقال مثلاً : ان نفقة الزوجة واجبة ، فلهذا الحكم اثر واحد فقط ، وهو الانفاق على الزوجة وليس له اثران : وجوب الالتزام بوجوب النفقة قلباً ، والانفاق الخارجي عملاً .

ولهذا فان الزوج اذا اعطى النفقة ، ولم يلتزم قلباً بوجوب الانفاق ، او التزم قلباً بان الانفاق ليس بواجب لم يكن معاقباً .

وكذا في طرف النهي ، فاذا قال المولى : لا تشرب الخمر ، فلم يشربها ، فانه وان التزم عدم الحرمة ، لم يكن عاصياً ( والمفروض انه لا يلزم من اعمال الاصول ) باجراء اصل عدم وجوب اخراج الذباب ، واجراء اصل عدم حرمة اخراج الذباب - مثلاً - ( مخالفة عملية له ) أي للحكم ( لتحقيق المعصية ) لأنّه فاعل او تارك قهراً سواء أجرى الاصل ام لا .

( و ) ان قلت : الالتزام بالاحكام الالهية لازم ، وان لم تلزم مخالفة عملية .

قلت : ( وجوب الالتزام بالحكم الواقعي ) بما هو التزام ( مع قطع النظر

ص: 290

عن العمل غيرُ ثابت ، لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعيّة إنّما يجب مقدّمةً للعمل وليست كالاصول الاعتقاديّة يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات ، ولو فرض ثبوتُ الدليل عقلاً او نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعيّ لم ينفع ،

-----------------

عن العمل ) والاطاعة ( غير ثابت ) فكل حكم له طاعة واحدة ، ومعصية واحدة ، لا طاعتان ومعصيتان : طاعة ومعصية قلبية وطاعة ومعصية عملية ، ولو كان الالتزام القلبي واجباً كان لكل حكم طاعتان ومعصيتان ( لان الالتزام بالاحكام الفرعية ، انّما يجب مقدمة للعمل ) أي وجوباً مقدمياً ، وهو وجوب ارشادي عقلي ، لا مولوي شرعي ، فاذا فرض عدم مقدمية الالتزام للعمل ، بان عمل بدون الالتزام ، او بالالتزام المخالف ، لم يكن عاصياً ، كما اذا تمكن ان يكون على السطح - مثلاً- بدون نصب السلّم .

هذا ( وليست ) الاحكام الفرعية ( كالاصول الاعتقادية ) الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والنبوّة ، والامامة ، والمعاد ، حتى ( يطلب فيها الالتزام ) القلبي ( والاعتقاد من حيث الذات ) وبما هي هي .

( ولو فرض ثبوت الدليل عقلاً او نقلاً ) على ان الالتزام من لوازم قبول المولوية ، بحيث لو لم يلتزم كان معناه : عدم قبول المولى ، أو انه ينافي القلب السليم ، المذكور في قوله سبحانه : « إلاّ مَن أتى اللّه بِقَلبٍ سَلِيم » (1) .

اذ القلب الذي يضاد المولى ويخالفه ليس بقلب سليم إلى غير ذلك مما ذكر في الاستدلال ( على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي ) فانه ( لم ينفع ) ذلك فيما نحن فيه ، لانه لم يعرف الحكم تفصيلاً .

ص: 291


1- - سورة الشعراء : الآية 89 .

لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فهي كالاصول في الشبهة الموضوعيّة مُخرِجَةٌ لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني وجوب الأخذ بحكم اللّه .

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّه لو ثبت هذا التكليفُ ، أعني

-----------------

وظاهر أدلة لزوم الالتزام - لو سلم بها - يدل على لزوم الالتزام بما علم تفصيلاً انه واجب ، او حرام ، او غير ذلك .

أما في الموارد المشتبهة : بان لم يعلم ان زوجته هذه واجبة الوطي او محرمة الوطي ، وان في يوم الجمعة الظهر واجب او الجمعة ، فلا .

وذلك ( لان الاصول ) في المشتبهات ( تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ) في مرتبته الفعلية ، اذ الاصل عدم الوجوب وعدم الحرمة ، كما في اصل الطهارة او اصل الاباحة ، حيث لا يلزم ان يعتقد الانسان ويلتزم بان الواقع نجس او حرام ، مع انه يعلم اجمالاً بوجود نجس او حرام واقعي في موارد هذين الاصلين الكثيرة .

وعليه : ( فهي ) أي الاصول في الشبهات الحكمية ( كالاصول في الشبهة الموضوعية ) فكما هي تخرج المرأة عن موضوع الحرمة والوجوب لأصل عدم كونها محلوفة الوطي او محلوفة الترك ، كذلك في باب الاحكام الاصول النافية للحكم ( مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، اعني وجوب الاخذ بحكم اللّه) كما تقدّم في مثال الذباب ، لو دخل حلق الصائم وهو في الصلاة .

( هذا ) تمام الكلام في ان الالتزام ليس بلازم ، ولذا جاز ان نجري الاصل في طرفي الشبهة ( ولكن التحقيق انه لو ثبت ) شرعاً او عقلاً ( هذا التكليف أعني :

ص: 292

وجوبَ الأخذ بحكم اللّه والالتزام مع قطع النظر عن العمل ، لم تجر الاصول ، لكونها موجبةً للمخالفة العمليّة للخطاب التفصيليّ ، أعني وجوبَ الالتزام بحكم اللّه ،

-----------------

وجوب الاخذ بحكم اللّه و ) وجوب ( الالتزام ) القلبي بحكم اللّه ( مع قطع النظر عن العمل ) بان لم يكن الالتزام مقدمة للعمل ( لم تجر الأُصول ) على العدم ، اذ العلم الاجمالي بالحكم يمنع عن اجراء اصل عدم الحكم ، فيكون حكم الالتزام حينئذٍ حكم العمل ، فكما انه اذا وجب العمل لم يجر الاصل في اطراف الشبهة ، كذلك اذا وجب الالتزام لم يجر الاصل في اطراف الشبهة .

وانّما لم تجر الاصول حينئذٍ ( لكونها موجبة للمخالفة العملية ) القلبية ، فان الالتزام عمل القلب ، كما ان العمل عمل الجوارح ( للخطاب التفصيلي ) المتولّد من العلم الاجمالي ، فاذا علم بان هذه المرأة واجبة الوطي ، او واجبة الترك ، لزم عليه ان يلتزم بالزام عليه من اللّه سبحانه - ذاتاً- كما يجب عليه في المائين المشتبهين بان احدهما مضاف ان يلتزم بالوضوء بهما- مقدمة للعمل - والمخالفة العملية القلبية حاصلة في صورة وجوب الالتزام ( اعني وجوب الالتزام بحكم اللّه ) تعالى .

وبالجملة : ان الاصول في اطراف العلم الاجمالي حيث انها مخالفة لوجوب الالتزام ، لا تجري لأن ادلة الاصول لا تشمل امثال المقام ، اذ هو موجب للتناقض ، فمرّة يقول الشارع : «التزم» ومرّة يقول : « اجر الاصل » أي لا تلتزم : حيث ان لازم اجراء الاصل : عدم الالتزام .

وقد ذكرنا فيما سبق : ان التناقض كما لا يمكن مستقيماً لا يمكن غير مستقيم ايضاً ، فالسواد واللاسواد متناقض ، كما ان السواد والمفرق لنور البصر

ص: 293

وهو غير جائز حتى في الشبهة الموضوعيّة ، كما سيجيء ، فيخرج عن المخالفة الغير العمليّة .

فالحق - مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به - أنّ ترك الحكم الواقعيّ ولو كان معلوما تفصيلاً ليس محرّما ، إلاّ من حيث كونها معصيةً ، دلّ العقل على قبحها واستحقاق العقاب بها .

-----------------

- الذي معناه لا سواد - ايضاً متناقض .

( وهو ) أي اجراء الاصول ، الموجب للمخالفة العملية ( غير جائز حتى في الشبهة الموضوعية ) كالانائين المشتبهين فكيف بالشبهة الحكمية ؟ ( كما سيجيء ) الكلام فيه .

( فيخرج ) هذا الذي يستلزم المخالفة الالتزامية - على تقدير وجوب الالتزام - ( عن المخالفة غير العملية ) اذ يكون حينئذٍ من صغريات المخالفة العملية .

( فالحق ) في نتيجة كلامنا المتقدم : انه ( مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع ، على ما جاء به ) وكما عليه في الواقع ، هو : ( انّ ترك الحكم الواقعي ) أي عدم الالتزام به ( ولو كان معلوماً ) لدى المكلف ( تفصيلاً ) المكلف بكون يده متنجسة - مثلاً - وزوجته واجبة الوطي ، أو الخمر محرم الشرب ، فان ترك الالتزام بالنجاسة ، والوجوب ، ( ليس محرماً الا من حيث كونها ) والحرمة أي كون تلك المخالفة الالتزامية منجرة إلى ( معصية ) عملية في الخارج كأن استعمل النجاسة بالشرب مثلاً ، او ترك وطي الزوجة ، او شرب الخمر ، فانه ( دل العقل على قبحها ) أي قبح المعصية العملية ( واستحقاق العقاب بها ) والشرع مؤد للعقل فيهما .

ص: 294

فاذا فرض العلمُ تفصيلاً بوجوب الشيء ، فلم يلتزم به المكلّفُ ، لكنه فعله لا لداعي الوجوب ، لم يكن عليه شيءٌ .

نعم ، لو اخذ في ذلك الفعل نيّة القربة ، فالاتيانُ به لا للوجوب مخالفةٌ عمليّة ومعصية لترك المأمور به ، ولذا قيّدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة بغير ما عُلِم كونُ أحدهما تعبّديّا .

-----------------

وعلى هذا ( فاذا فرض العلم تفصيلاً بوجوب الشيء ) كوطي الزوجة ، او حرمة شيء كشرب الخمر ( فلم يلتزم به ) أي بالوجوب ، أو الحرمة ( المكلف ) .

ومعنى الالتزام عقد قلبه عليه وهو شيء فوق العلم ( لكنه فعله ) أي فعل الواجب وترك الحرام ( لا لداعي الوجوب ) او الحرمة ( لم يكن عليه شيء ) من المعصية المسقطة للعدالة ، والحدّ فيما اذا كان ذا حدّ ، كشرب الخمر ، إلى غير ذلك .

( نعم ، لو اخذ في ذلك الفعل نية القربة ) كالصلاة والوضوء ، او في ذلك الترك ، كتروك الإحرام وتروك الصيام ( فالاتيان به لا للوجوب ، مخالفة عملية ) اذ بدون قصد الوجوب لا تحقق له شرعاً ، وكذا في باب التروك المذكورة ، فاذا لم يشرب الماء في الصيام لا لأجل امر اللّه سبحانه ، بل لأجل ان الماء يضره - مثلاً- لم يعدّ ممتثلاً .

( و ) يكون فعله وتركه بدون القصد ( معصية ، لترك المأمور به ) والفعل المنهي عنه ، فان بدون قصد الامتثال يبطل العمل القربي .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من الفرق بين التوصلي والتعبدي في عدم لزوم الالتزا م في الاول ولزومه في الثاني ( قيّدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة ) أي مسألة الالتزام (بغير ما علم كون احدهما ) المعيّن ( تعبدياً ) .

ص: 295

فاذا كان هذا حال العلم التفصيليّ ، فاذا علم إجمالاً بحكم مردّد بين الحكمين ، وفرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين عُلِم بكون أحدهما حكمُ الشارع ، والمفروضُ أيضا عدمُ مخالفتهما في العمل ، فلا معصيةَ ولاقبحَ ،

-----------------

وقد ذكرنا هناك : ان الاقسام ثلاثة ، مما لا حاجة إلى تكراره .

( فاذا كان هذا ) الالتزام القلبي غير لازم في التوصليات ، وغير محرم تركه ( حال العلم التفصيلي ) بواجب او حرام ( ف- ) الالتزام في العلم الاجمالي يكون بطريق اولى غير لازم ف- ( اذا علم ) المكلّف ( اجمالاً بحكم مردد بين الحكمين ) علم بانه يلزم عليه شيء هو :

1- إما وجوب هذا او وجوب ذلك .

2- إما تحريم هذا ، او تحريم ذلك .

3- إما وجوب هذا وتحريم ذلك .

4- وإما وجوب او تحريم شيء خاص ، كمحلوفة الوطي او الترك .

( وفرضنا اجراء الاصل في نفي الحكمين الذين علم ) تفصيلاً ( بكون احدهما حكم الشارع ) في الواقع ( والمفروض ايضاً ) بالاضافة إلى نفي الحكمين بالاصل ( عدم مخالفتهما ) من قبل المكلف ( في العمل ) بان يأتي بمحتملي الوجوب في المثال الاول ، ويترك محتملي الحرمة في الثاني ، ويأتي ويترك طرفي الوجوب والحرمة في الثالث ، وفي الرابع لابد أن يأتي فقط او يترك فقط لعدم امكان خلوه عنهما .

( فلا معصية ) حينئذٍ عرفاً حيث لم يعص عملاً ( ولا قبح ) عقلاً ، اذ المناط وجود الفعل الواجب وعدم الفعل الحرام ولو بدون الاختيار ، فمن لم يشرب

ص: 296

بل وكذلك لو فرضنا عدمَ جريان الأصل ، لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيليّ .

فملخّصُ الكلام : أنّ المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ، ومخالفةَ الأحكام الفرعيّة إنّما هي في العمل ، ولا عبرةَ بالالتزام وعدمه .

ويمكن أن يقرّر دليلُ الجواز ، اي جواز المخالفة فيه بوجه آخر :

-----------------

الخمر ليس بعاص وان لم يكن عدم الشرب باختياره ، وكذا من وطأ زوجته ليس بعاص وان لم يكن الوطي باختياره ، فكيف بما اذا كان باختياره ولكن بدون الالتزام بالوجوب والحرمة .

( بل وكذلك ) لا يحرم عدم الالتزام ( لو فرضنا عدم جريان الاصل ) لان دليله لا يشمل أطراف العلم الاجمالي ( لما عرفت من ثبوت ذلك ) أي عدم المعصية بترك الالتزام ( في العلم التفصيلي ) فإن عدم الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلاً لا يضر ، فكيف بعدم الالتزام في الحكم المعلوم اجمالاً ؟ .

( فملخص الكلام : ان المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ) وان كانت خلاف الآداب ( ومخالفة الاحكام الفرعية ) الموجبة للاثار ، كالعقوبة ونحوها ( انّما هي في العمل ) فقط ، سواء في العلم الاجمالي او التفصيلي ( ولا عبرة بالالتزام وعدمه ) انهما ليسا مدار الاحكام ، نعم في الامور الاعتقادية ، الالتزام مدار الوجوب ، كما ان عدمه او الالتزام بما ليس بحق مدار التحريم ، فلو لم يعتقد باللّه ،

او اعتقد بإله غير اللّه ، كان فاعلاً للحرام ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتب اصول الدّين .

( ويمكن ان يقرر دليل الجواز ، أي جواز المخالفة فيه ) أي في الالتزام ( بوجه اخر ) غير الوجه المتقدّم الذي قال : بأنّه لا دليل عقلاً ولا شرعاً بلزوم الالتزام

ص: 297

وهو أنّه لو وجب الالتزامُ :

فان كان بأحدهما المعيّن واقعا ، فهو تكليفٌ من غير بيان ، ولا يلتزمه أحدٌ ،

-----------------

( وهو : انه لو وجب الالتزام ) في المعلوم بالاجماع لم يخلو الامر من اربعة احتمالات :

الاول : ان يلتزم بالوجوب معيناً - فيما اذا لم يعلم ان وطي المرأة واجب او حرام .

الثاني : ان يلتزم بالحرام معيناً .

الثالث : ان يلتزم بالمردد بينهما .

الرابع : ان يلتزم بالجامع ، الذي هو المنع من النقيض .

فالاوّلان : لاوجه لهما من عقل او شرع .

والثالث : ان المردد لا وجود له ، لا في الذهن ولا في الخارج ، فبماذا يلتزم ؟ .

والرابع : فانه وان امكن لزومه بلا محذور عقلي ، الا انه لا دليل عليه .

ويلحق بالرابع في عدم الدليل - وأن امكن - أن يلتزم بما هو في اللوح المحفوظ .

اما المصنّف : فقد قرّب عدم لزوم الالتزام بقوله : ( فان كان ) وجوب الالتزام (باحدهما المعيّن واقعاً ) عند اللّه - من غير معرفة المكلّف له - ( فهو ) مع انه لا دليل عليه ( تكليف من غير بيان ) فان المعيّن عند اللّه لا يعرفه المكلّف ، ولم يبيّنه الشارع ، والتكليف من غير بيان قبيح .

وان شئت قلت : ان اريد من الالتزام : الالتزام بالواقع « مجهولاً » فهو من غير دليل ، وان اريد : الالتزام « بشخصه » فهو محال ( ولا يلتزمه احد ) فلا يقول احد :

ص: 298

وإن كان بأحدهما المخيّر فيه ، فهذا لايمكنُ أن يثبت بذلك الخطاب الواقعيّ المجمل ، فلا بدّ له من خطاب آخر .

وهو ، مع أنّه لا دليل عليه ، غير معقول ، لأنّ الغرض من هذا الخطاب المفروض كونُهُ توصّليّا حصولُ مضمونه ،

-----------------

بأن المجهول يُكلف الانسان بالالتزام به معيناً .

( وان كان ) اللازم ، الالتزام ( باحدهما المخير فيه ) بان يكون مراد من يقول بلزوم الالتزام : ان المكلّف ، عليه ان ينوي قلباً انه ملتزم باحدهما ( فهذا ) فيه محذوران :

الاول : انه لا دليل ، اذ ( لا يمكن ان يثبت ) هذا الالتزام ( بذلك الخطاب الواقعي المجمل ) عند المكلّف ، اذ كل خطاب يدعو إلى نفسه ، لا انه يدعو إلى نفسه او غيره، فاذا قال : « باشر زوجتك » كان دعوة إلى المباشرة ، لا دعوة إلى المباشرة او عدمها ، فان الخطاب بالمعيّن لا دلالة له على التخيير ، فكيف يدل على الالتزام بالتخيير ؟ .

( فلابدّ له ) أي لوجوب الالتزام باحدهما مخيّراً ( من خطاب آخر ) غير الخطاب الاول .

( و ) الثاني : انه لا وجود لهذا الخطاب الاخر اذ ( هو ، مع انه لا دليل عليه ) - كما عرفت - محال ، و( غير معقول ) لان وجوده وعدمه سواء ، فهو من تحصيل الحاصل ، وذلك لغو ، ولا يصدر من الحكيم ( لان الغرض من هذا الخطاب ) الثاني ( المفروض كونه توصلياً ) - لما تقدّم - من انّ الكلام ليس في التعبدي بل في التوصلي ، والغرض في الخطاب التوصلي هو ( حصول مضمونه ) في الخارج

ص: 299

أعني : القيام بالفعل او الترك تخييرا ، وهو حاصلٌ من دون الخطاب التخييريّ ، فيكون الخطابُ طلبا للحاصل ، وهو محال .

إلاّ أن يقال :

-----------------

ولو بدون الاختيار ، فاذا قال : « والرُّجزَ فاهْجُر » (1) .

كان غرضه حصول النظافة ، وهي تحصل ولو بدون اختيار الانسان ، كأن ينزل المطر عليه - مثلاً- حتى يذهب الرجز عنه ، كما حدث في قصة بدر - بالنسبة إلى النجاسة الخبثية ، الحاصلة لهم من اثر الاحتلام - وفسّر المصنّف قدس سره حصول المضمون بقوله :

( اعني : القيام بالفعل او الترك تخييراً ) بينهما ( وهو ) أي المضمون ( حاصل من دون ) حاجة إلى ( الخطاب ) الاخر ( التخييري ) الذي يخبر المكلّف بين الفعل والترك ، لان المكلّف تكويناً اما فاعل او تارك ( فيكون الخطاب ) الآخر (طلباً للحاصل) اذ هو حاصل بدون الخطاب ( وهو ) أي طلب الحاصل (محال) .

ولا يخفى : ان طلب الحاصل لغو وليس بمحال في نفسه ، وانّما هو محال على الحكيم ، اللهم الا ان يريد : ان حصول الحاصل - بسبب الخطاب - محال .

وكيف كان : فالامر في دوران الامر بين المحذورين ، كما لا يحتاج إلى الخطاب ، كذلك في الفعلين ، والتركين ، والفعل والترك فان العقل حيث يلزم ذلك من باب العلم الاجمالي لم يكن الامر بحاجة إلى خطاب ثان ولو كان خطاب ثان فهو من الارشاد إلى حكم العقل ، لان باب الاطاعة والمعصية مرتبط بالعقل لا بالشرع .

( الا ان يقال ) ان الخطاب الاخر ليس لغواً اذ اللغوية فيما اذا اراد به ان يفعله

ص: 300


1- - سورة المدَّثر : الآية 5 .

إنّ المدّعي بالخطاب التخييريّ إنّما يدّعي ثبوته بأن يقصد منه التعبّدُ بأحد الحكمين ، لا مجرّد مضمون أحد الخطابين الذي هو حاصل ، فينحصر دفعه حينئذٍ بعدم الدليل .

و

-----------------

المكلّف او يتركه ، اما اذا اراد به الالتزام باحد الحكمين قلباً فلا لغوية ، اذا الالتزام لم يحصل من الخطاب الاول بالتكليف المردد - لجهل المكلّف - بين الفعل والترك .

وعليه : ف- ( ان المدعي ) الذي يدعي الاحتياج إلى خطاب آخر ، و( ب- ) سبب ذلك (الخطاب ) الاخر ( التخييري ) يخير المكلّف بين الفعل والترك ( انّما يدعي ثبوته ) أي ثبوت ذلك الخطاب ، لا للتوصل إلى الفعل او الترك في الخارج ، بل ( بان يقصد ) المولى ( منه التعبد ) والالتزام القلبي ( باحد الحكمين ) الفعل او الترك ( لا مجرد ) حصول ( مضمون احد الخطابين ) من الفعل او الترك ( الذي ) ذلك المضمون ( هو حاصل ) على كل حال ، سواء كان الخطاب الثاني او لم يكن ( ف- ) اذا قال القائل ذلك ، فانه ( ينحصر دفعه حينئذٍ بعدم الدليل ) على هذا الخطاب الثاني ، فالالتزام ليس بلازم لعدم وجود دليل يدل عليه .

والحاصل : ان كان الغرض من الخطاب وجود الفعل او الترك ، فهو من تحصيل الحاصل ، وان كان الغرض الالتزام قلبياً ، فهو وان كان ممكناً ، الا انه لا دليل عليه .

( و ) ان قلت : ان من الضروري عند المتشرعة ، لزوم الالتزام بما جاء به النبّي صلى الله عليه و آله وسلم ، بل هو من لوازم الايمان ، قال سبحانه : « فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً

ص: 301

أمّا دليلُ وجوب الالتزام بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا يُثبتُ إلاّ الالتزامَ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه ، لا الالتزام بأحدهما تخييرا عند الشكّ ،

-----------------

مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْماً » (1) .

ومن المعلوم ان المقام من صغريات ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فاللازم في صورة التردد بين الفعل والترك ، كالمرأة المحلوفة على الوطي او على الترك الالتزام القلبي بأحدهما .

وكذا في الاحكام الكلية كالمثال المتقدم في صائم دخل في حلقه ذباب وهو في الصلاة ، فان اراد اخراجه - لانه واجب - خرجت من فمه كلمة « اح » المبطلة للصلاة ، وان لم يخرجه - لانه حرام ابطال الصلاة - بطل صومه .

قلت : ( اما دليل وجوب الالتزام بما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ) والمعصومون من آله عليهم السلام حيث كلهم نور واحد ( فلا يثبت الا الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ) في الواقع ، فان من شروط الايمان تصديقهم عليهم السلام بما جاءوا به قولاً أو فعلاً او تقريراً ، فان علم بما جاءوا به تفصيلاً ، وجب الالتزام به تفصيلاً ، وان علم بما جاءوا به اجمالاً ، وجب الالتزام به اجمالاً .

فاذا شكّ - مثلاً - في ان الوطي واجب للحلف ، او حرام للحلف ، التزم بان الحلف موجب لمتعلقه ، لا انه يلزم عليه الالتزام بانه يلزم عليه اما الفعل او الترك تخييراً ، وكذلك في مثال الذباب والصائم في حال الصلاة إلى غير ذلك من الكليات والجزئيات ( لا ) يثبت بهذا الدليل وجوب ( الالتزام باحدهما تخييراً عند الشك ) وكذلك حال التردد في ان ايهما واجب ، او ايهما حرام ، ان ايهما واجب او حرام ؟ .

ص: 302


1- - سورة النساء : الآية 65 .

فافهم .

هذا ، ولكنّ الظاهر من جماعة من الأصحاب ، في مسألة الاجماع المركّب ،

-----------------

بل هذا الالتزام لازم حتى في المستحبات والمكروهات والمباحات ، قال سبحانه : « وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ » (1) .

والتصديق بالشيء قلبي ويستعمل في العمل مجازاً ، كما قال سبحانه لابراهيم عليه السلام : « قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤَا » (2) ، إلى غير ذلك .

( فافهم ) كي لا تقول : بانكم قلتم بجريان اصلَيْ : عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، مما يقتضي الاباحة ، والان تقولون : بلزوم الالتزام بما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، والمفروض ان ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، في المردد بين الواجب والحرام ليس الاباحة .

والجواب عن هذا الاشكال هو : ان الاباحتين في الظاهر لا تنافيان وجود حكم واقعي بالوجوب او الحرمة ، فان التكليف العملي هو : الاباحة ، اما التكليف الواقعي فهو : الوجوب او الحرمة ، وكذا في اشباه ذلك كما اذا شهدت امرأة واحدة - مثلاً - بالوصية نفذ ربع الوصية ، فان هذا هو التكليف الفعلي ونلتزم به ، بينما يلزم علينا الالتزام القلبي ، بان الموصي ان وصّى وجب كل الوصية ، وان لم يوصّ لم يجب شيء اصلاً .

( هذا ) في وجه الجمع بين الالتزام بالحكم الواقعي وبين البناء العملي على الاباحة ( ولكن الظاهر من جماعة من الاصحاب ) وجوب الالتزام لانهم قالوا ( في مسألة الاجماع المركب ) .

والمراد بالاجماع المركب : هو ما اذا كان للأمّة قولان ، فلا يجوز إحداث قول

ص: 303


1- - سورة الزّمر : الآية 33 .
2- - سورة الصّافات : الآية 105 .

إطلاقُ القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم عُلِمَ عدمُ كونه حكمَ الامام عليه السلام في الواقع ، وعليه بنوا عدم جواز الفصل فيما عُلِم كونُ الفصل فيه طرحا لقول الامام عليه السلام .

-----------------

ثالث ، كما لو قال بعضهم بوجوب الظهر ، وبعضهم الاخر بوجوب الجمعة ، فلا يجوز لثالث ان يقول بالوجوب التخييري بينهما لما ذكروا من ( اطلاق القول : بالمنع عن الرجوع إلى حكم ) آخر ( علم عدم كونه حكم الامام عليه السلام في الواقع ) سواء كان في الحكم الاخر مخالفة عملية ، او مخالفة التزامية ، فاطلاق كلامهم دال على جواز المخالفة الالتزامية .

فاذا قال جماعة : بان محلوفة الوطي او الترك يجب وطيها ، وقال آخرون : يجب تركها لم يجز لثالث ان يقول بالاباحة ، مع انه ليس للقول بالاباحة اثر عملي ، وانّما هو خلاف الالتزام بحكم الامام عليه السلام المعلوم - من الاجماع المركب - انه قال اما بالحرمة واما بالوجوب .

( وعليه ) أي على عدم جواز الرجوع إلى قول ثالث ( بنوا ) على ( عدم جواز الفصل ) أي التفصيل في المسألة بأن يقول القائل الثالث في مسألة محلوفة الوطي او الترك : انها يجب وطيها نهاراً ويحرم وطيها ليلاً ، فانه اذا لم يجز القول الثالث ، لم يجز التفصيل ايضاً ، لانه من مصاديق القول الثالث .

وهذا ( فيما علم كون الفصل فيه ) أي في القول الذي عليه الاجماع المركب ( طرحاً لقول الامام عليه السلام ) مقابل ما اذا قال بالقول الثالث ، ولم يكن طرحاً لقول الامام عليه السلام - الموجود بين القولين الذين قام الاجماع المركب عليهما - كما اذا قال بعض الامة : بوجوب الاستعاذة قبل الحمد ، وقال بعض آخر : باستحبابه ، فقال ثالث : برجحانها ، فان الرجحان وان لم يكن احد القولين ، اذ الرجحان جامع

ص: 304

نعم ، صرّح غير واحد من المعاصلين ، في تلك المسألة فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يُعلَمُ بمخالفة أحدهما للواقع ، بجواز العمل بكليهما .

وقاسه بعضهُم على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات .

لكنّ القياسَ في غير محلّه ، لما تقدّم من

-----------------

بينهما الا انه لا يلزم منه طرح قول الامام عليه السلام .

نعم ، ان ذهب إلى حرمة الاستعاذة كان طرحاً لقوله عليه السلام ، وكذلك ان قال بعض بحرمة وطي الدبر من الزوجة ، وقال آخر بالكراهة ، وقال ثالث بالمرجوحية .

( نعم ، صرح غير واحد من المعاصرين ) منهم صاحب الفصول ( في تلك المسألة ) أي مسألة الاجماع المركب ( فيما اذا اقتضى الاصلان حكمين ، يعلم بمخالفة احدهما للواقع ) كما في مسألة : دخول الذباب في حلق الصائم وهو في الصلاة ، فان اصل عدم حرمة اخراجه واصل عدم وجوب اخراجه ، يورث العلم بان احد الحكمين مخالف للواقع ، لكن قد صرح اولئك المعاصرون ( بجواز العمل بكليهما ) أي بكلا الاصلين ، فيقول بجواز كل من الاخراج وعدم الاخراج - مع ان جواز العمل بكلا الاصلين ، احداث قول ثالث مستلزم لطرح قول الامام عليه السلام - فقول المصنّف قدس سره : « ولكن الظاهر » تأييد للزوم الالتزام ، وقوله : « نعم » تأييد لعدم لزوم الالتزام .

( وقاسه ) أي العمل بالاصلين في الاحكام ( بعضهم على العمل بالاصلين المتنافيين في الموضوعات ) كاصل عدم وجوب الوطي ، واصل عدم وجوب الترك ، قال هذا البعض : فكما يجوز اجراء الاصلين في الموضوعات المرددة ، كذلك يجوز اجراء الاصلين في الاحكام المرددة .

( لكن القياس في غير محله ) وذلك ( لما تقدّم من ) الفرق بين الشبهات

ص: 305

أنّ الاصول في الموضوعات حاكمة على أدلّة التكليف ، فانّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلّق الحلف بترك وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها ، وكذا الحكمُ بعدم وجوب وطيها لأجل البناء على عدم الحلف على وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها .

-----------------

الموضوعية والحكمية ، ف- ( ان الاصول في الموضوعات حاكمة على ادلة التكليف ) الواقعي ، فاذا اجرينا الأصل في المرأة المرددة بين محلوفة الوطي ومحلوفة الترك ، وقلنا : الاصل انها ليست محلوفة على الوطي او على الترك ، لم تكن بعد الاصل تلك المرأة موضوعاً للوجوب او التحريم .

اما الحكم بعدم الحرمة ( فان البناء على عدم تحريم المرأة ) انّما هو ( لاجل البناء بحكم الاصل : على عدم تعلق الحلف بترك وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها ) اذا الشارع حكم : بحرمة من حلف الزوج بترك وطيها لكن الاصل ، يقول : انها ليست تلك المرأة التي تعلق الحلف بعدم وطيها .

( وكذا ) حال ( الحكم بعدم وجوب وطيها ) فان الاصل فيها ايضاً : عدم وجوب وطيها ( لاجل البناء ) حسب الاصل ( على عدم الحلف على وطيها ) فهي ليست واجبة الوطي ( فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها ) .

والحاصل : ان الشك في الموضوع المردد بين الوجوب والحرمة ، يجري فيه اصلان ، وبذلك يخرج الموضوع عن كونه موضوع الوجوب او التحريم .

ص: 306

هذا ، بخلاف الشبهة الحكميّة ، فانّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالاجمال وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتّى لاينافيه بجعل الشارع .

-----------------

( هذا ) في الشبهة الموضوعية ( بخلاف الشبهة الحكمية ، فان الاصل فيها ) أي في الشبهة الحكمية غير جار ، لان الاصل ( معارض لنفس الحكم ) بالوجوب او التحريم (المعلوم بالاجمال ) وقد تقدّم انه مستلزم للتناقض ، فكما ان الواجب يناقض الحرام ، كذلك « عمله الاجمالي بانه واجب او حرام » يناقض « الاصل القائل انه ليس بواجب ولا بحرام » ( وليس ) في الشبهة الحكمية حكم وموضوع ، كما كانا في الشبهة الموضوعية حتى يكون الاصل ( مخرجاً لمجراه ) أي مجرى الاصل ( عن موضوعه ) أي موضوع الحكم ( حتى ) ان الاصل ( لا ينافيه ) أي لا ينافي الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال ( ب- ) سبب ( جعل الشارع ) ذلك الاصل ، و : « ب- » متعلق ب- « لا ينافيه » .

هذا ، ولا يخفى ان اشكال المصنّف قدس سره غير وارد ، فلا فرق بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، في عدم جريان الاصول في اطرافهما ، ذلك لما يلي : -

اولا : ادلة الاصول لا تشمل اطراف العلم الاجمالي .

ثانيا : في عالم الثبوت لا يصح جعل اصل لا ثمر له ، فأي ثمر لاجراء الاصل في المرأة ، وفي عدم اجراء الاصل ، فعلى أيّ حال يكون الالتزام غير لازم - كما عرفت - والمرأة ، اما ان توطأ او لا توطأ ، لاستحالة خروجها عن الامرين .

ثم ان المصنّف قدس سره ابدى الرجوع عن قوله : « القياس في غير محله » بقوله :

ص: 307

لكنّ هذا المقدار من الفرق غير مُجدٍ ، إذ اللازم من منافاة الاصول لنفس الحكم الواقعيّ ، حتى مع العلم التفصيليّ ومعارضتها له ، كونُ العمل بالاصول موجبا لطرح الحكم الواقعيّ من حيث الالتزام ، فاذا فرض جوازُ ذلك ، لأنّ العقل والنقل لم يدلاّ ، إلاّ على حرمة المخالفة العمليّة ، فليس الطرحُ من حيث الالتزام

-----------------

( لكن هذا المقدار من الفرق ) بين الاصول في الموضوعات والاصول في الاحكام لكونها في الاول حاكمة وفي الثاني منافية ( غير مجدٍ ) فان الفرق لا يوجب عدم اجراء الاصول في الشبهة الحكمية - كما سبق الالماع اليه - فان اجراء الاصول في الشبهة الحكمية ، لا يوجب الاّ المخالفة الالتزامية ، فاذا جازت المخالفة الالتزامية ، لم يكن مانع من اجراء الاصول فيها .

( اذ اللازم من منافات الاصول لنفس الحكم الواقعي - حتى مع العلم التفصيلي - ) بالحكم ( ومعارضتها ) أي الاصول ( له ) أي للحكم الواقعي - ومعارضتها- عطف بيان ل« منافات » و ( كون ) خبر « اللازم » فكون ( العمل بالاصول موجباً لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام ) فقط ، فاذا جرى الاصلان : اصل عدم حرمة الوطي ، واصل عدم وجوب الوطي ، كان معناه : عدم التزام المكلّف بالحكم الواقعي ، الذي هو اما الوجوب واما الحرمة .

( فاذا فرض جواز ذلك ) أي جواز عدم الالتزام ، لما تقدّم : من انه لا دليل على الالتزام بالاحكام الفرعية التوصلية ( لان العقل والنقل ، لم يدلاّ ، الاّ على حرمة المخالفة العملية ) والمفروض انه لا يلزم منه مخالفة عملية ، لانه سواء جرى الاصل ام لا ، مجبر على الوطي او ترك الوطي ( فليس الطرح ) للحكم الواقعي ( من حيث الالتزام ) بان لا يلتزم بالحكم الواقعي بسبب جريان الاصلين يكون

ص: 308

مانعا عن إجراء الاصول المتنافية في الواقع .

ولا يبعدُ حملُ إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الامام عليه السلام ، في مسألة الاجماع على طرحه من حيث العمل ، اذ هو المسلّم المعروف من طرح قول الحجّة .

فراجع كلماتهم فيما إذا اختلفت الأُمّة على قولين ولم يكن مع أحدهما

-----------------

( مانعاً عن اجراء الاصول المتنافية ) تلك الاصول ( في ) صورة الجريان مع ( الواقع ) اذ من جهة الاصل : عدم الوجوب وعدم الحرمة ، ومن جهة الواقع : اما الوجوب واما الحرمة .

( و ) ان قلت : فكيف يقول العلماء : بانه لا يجوز طرح قول الامام عليه السلام ، مع ان اجراء الاصلين طرح للالتزام بقوله عليه السلام ؟ .

قلت : ( لا يبعد ) من جهة الانصراف ( حمل اطلاق كلمات العلماء ، في عدم جواز طرح قول الامام عليه السلام ) والرجوع إلى قول ثالث ( في مسألة الاجماع ) المركب كما تقدّم ( على طرحه من حيث العمل ) فمرادهم : لا يجوز طرحاً عملياً ، لا انه لا يجوز طرحاً التزامياً .

وانّما قلنا : « لا يبعد » ( اذ ) الطرح عملاً ( هو المسلّم المعروف ) المنصرف من الاطلاق ( من طرح قول الحجة ) فانه اذا قال احد : ان فلاناً طرح قول مولاه ، او طرح فتوى مرجع تقليد ، او طرح حكم الحاكم الذي حكم في القضية الفلانية ، كان المتبادر أو المنصرف : انه طرحه عملاً ، لا انه طرحه قلباً ، ولم يلتزم به - مع كونه قد عمل على طبقه - .

( فراجع كلماتهم فيما اذا اختلفت الأمّة على قولين ، ولم يكن مع احدهما

ص: 309

دليلٌ ، فانّ ظاهر الشّيخ رحمه الله ، الحكمُ بالتخيير الواقعيّ وظاهرَ المنقول عن بعضٍ طرحُهما والرجوعُ إلى الاصل ، ولا ريبَ أنّ في كليهما طرحا للحكم الواقعيّ ، لأنّ التخيير الواقعيّ كالأصل حكمٌ ثالثٌ .

-----------------

دليل ) فان الفقهاء قالوا : بعدم جواز احداث قول ثالث ولو بالتخيير بينهما ، ومرادهم : قول ثالث يخالف عملاً القولين الذين قام الاجماع المركب عليهما ( فان ظاهر الشيخ ) الطوسي قدس سره ( الحكم بالتخيير الواقعي ) ممّا يستلزم طرح كلا القولين والحال ان قول احدهما مطابق لقول الحجة ، ومع ذلك لم يمنع من عدم الالتزام بهما ( و ) كذلك ( ظاهر المنقول عن بعض ) الفقهاء ( طرحهما والرجوع إلى الاصل ) في المسألة (ولا ريب ان في كليهما ) سواء التخيير الذي ذكره الشيخ رحمه الله أو الرجوع إلى الاصل الذي ذكره ذلك البعض يكون ( طرحاً للحكم الواقعي ) .

لكن لا يخفى ان من يقول بالرجوع إلى الاصل ، انّما يقول به : اذا كان موافقاً لاحد القولين ، والاّ فلا يجوز ، لانه يعلم بطرح قول الامام عليه السلام حينئذٍ ، فاذا كان احد القولين على تنجس البئر بملاقات النجاسة مطلقاً ، كان الاخر على : انه بعد الملاقات طاهر ، لكن يفقد عاصميته فيكون حاله حال الماء القليل - مثلاً - ، لم يجز احداث قول ثالث على : انه يستصحب طهارته وعاصميته ، لانه خلاف قول الامام قطعاً الموجود بين القولين ، لغرض تحقق الاجماع المركب الطارد للقول الثالث ( لان التخيير الواقعي ) الذي قال به الشيخ قدس سره الذي قال به بعض ( كالأصل حكم ثالث ) ومع ذلك قالا به ، لأنه انّما يخالف قول الامام التزاماً لا عملاً ، وقد عرفت ان المحذور في مخالفته العملية لا مخالفته الالتزامية .

ص: 310

نعم ، ظاهرُهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتفاقُ على عدم الرجوع الى الاباحة وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة .

-----------------

( نعم ) ربما يظهر منهم ايضاً : عدم جواز الالتزام بخلاف قول الامام عليه السلام ، فان (ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ) بان لم يعلم هل الشيء الفلاني واجب او حرام ؟ - كما مثّلنا له بدخول الذباب في حلق الصائم حالة الصلاة ، من ( الاتفاق على عدم الرجوع إلى الاباحة ) مع انه عملاً ، اما ان يفعل او لا يفعل ، فتبيّن من هذه المسألة : ان خلاف الالتزام حرام لديهم .

ولا يخفى ان اولى المسألتين وهي : مسألة الاجماع المركب ، اعمّ من الثانية وهي : مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة ، اذ الاولى تشمل الاجماع المركب بين واجب ومستحب او حرام ومكروه إلى آخره ، بينما الدوران يكون في الواجب والحرام فقط ، والثانية اعم من الاولى من جهة كون منشأ الاختلاف ، اختلاف الأمّة على قولين ، او اقتضاء الدليل الوجوب والتحريم - ولو عند نفرين من الفقهاء مثلاً - بينما الاجماع المركب يكون باختلاف الامّة فقط ، فبين المسألتين كالعموم من وجه .

هذا ، ولكن لا يتمكن فقيه واحد ان يفتي في كلتا المسألتين بهذا النحو ، اذ التخيير في الاجماع المركب ، ينافي عدم جواز الالتزام في المسألة الثانية .

وعلى أي حال : فقد اتّفقوا في الدوران بين الوجوب والتحريم بعدم جواز القول بالاباحة ( وان اختلفوا ) بعد الاتفاق المتقدم ( بين قائل بالتخيير ) بين الوجوب والاباحة لعدم أولويّة أحدهما على الاخر ( وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة ) من جهة ان دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، اذ في الحرمة

ص: 311

والانصافُ : أنّه لايخلوّ عن قوّة ، لأنّ المخالفة العمليّة التي لاتلزمُ في المقام هي المخالفةُ دفعةً في الواقعة عن قصد وعلم ،

-----------------

مفسدة وفي الوجوب مصلحة .

لكن لا يخفى ان تقديم دفع المفسدة لا يؤّده عقل ولا شرع ، وانّما اللازم تقديم الأهم على المهم ، فربما يكون الواجب أهم ، وربما يكون ترك الحرام أهم ، لكن لابد وأن تصل الاهميّة إلى حدّ المنع من النقيض ، فاذا كان تحصيل الدينار واجب ، واتلاف الدينار حرام ، فقد يتساويان ، فالاباحة ، وقد يتقدم الاول ، لانه تحصيل الف دينار وتلف دينار واحد ، فيكون التحصيل مقدّماً ، وقد يكون العكس فيكون ترك الاتلاف مقدّماً ، وقد يكون تحصيل دينار واحد ، وتلف ثلاثة ارباع الدينار ، فالتحصيل مستحب ، وقد يكون العكس ، فالتحصيل مكروه .

( والانصاف انه ) أي عدم جواز الرجوع إلى الاباحة ( لا يخلو عن قوّة ) وذلك لوجهين :

( الاول : ان ينجر إلى المخالفة العملية في الامور التدريجية ( لان المخالفة العملية التي لا تلزم في المقام ) انّما ( هي المخالفة دفعة ) كما اذا حلف على الوطي، او الترك في اوّل ساعة كذا ، مما لا تكرر له ، فانه لا مخالفة عملية ، لانه في هذه الساعة اما فاعل او تارك ( في الواقعة ) الواحدة ( عن قصد وعلم ) فانه لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب ، او الترك الموافق للحرمة .

وقوله : « عن قصد ...» للتنسيق بين هذا الفرض ، والفرض الاتي في الوقائع المتعددة ، والاّ فالقصد وعدمه ، والعلم وعدمه ، لا مدخلية لهما في المرّة الواحدة .

نعم ، هما دخيلان في تسمية الفعل اختيارياً ، اذ بدون القصد لا يكون

ص: 312

وأمّا المخالفةُ تدريجا في واقعتين ، فهي لازمة البتة .

والعقلُ كما يحكمُ بقبح المخالفة دفعةً عن قصد وعلم ،كذلك يحكمُ بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها

-----------------

الفعل اختيارياً .

( واما المخالفة ) العملية القصدية ( تدريجاً في واقعتين ، فهي لازمة البتة ) فانه اذا حلف على الوطي او الترك كل ليلة من ليالي هذا الاسبوع ، ثم نسي ان الحلف تعلق بالفعل او الترك ، فاذا وطأ ليلة وترك ليلة عالماً عامداً ، حصلت المخالفة العملية ، لانه ان كان حالفاً على الوطي فقد تركه في ليلة ، وان كان حالفاً على الترك فقد وطأ في ليلة ، فجريان الاصل معناه : اجازة الشارع للمخالفة القطعية ، وقد سبق انه من المناقضة ، فاذا اجرينا الاصل في الاطراف وحكمنا بالاباحة حصلت المخالفة .

( والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعلم ) من غير فرق بين مخالفة واجب او مخالفة حرام ، او مخالفة امرين يعلم بالحكم الواقعي بينهما ، كما اذا علم بنجاسة احد مائين فشرب احدهما ، وأراق الاخر في المسجد في آن واحد ، فانه يعلم بارتكابه العصيان باحد علمية المقارنين في زمان واحد ( كذلك يحكم بحرمة المخالفة) العملية (في واقعتين تدريجاً عن قصد اليها) أي إلى المخالفة ، كما تقدّم في مثال من نسي انه حلف على الوطي او الترك في كل ليلة من الاسبوع ، ففعل ليلة وترك ليلة ، ومن المعلوم ا ن البناء على الاباحة في المحلوفة يوجب تلك المخالفة .

إن قلت : اذا حرمت المخالفة التدريجية ، فلماذا افتى بعضهم بجوازها ، فيما اذا قلّد مجتهدين تدريجاً ؟ بأن قلّد - مثلاً - من يقول : بحرمة المرأة المحلوفة الوطي

ص: 313

من غير تقييد بحكم ظاهريّ عند كلّ واقعة .

-----------------

او الترك ، في هذا الشهر فلم يطأها ، ثم في الشهر الثاني قلّد من يقول : بجواز الوطي فيطأها ، وكذلك حال من يرى : جواز العمل بالخبرين المتعارضين من باب قوله عليه السلام: « إذن فتخيّر » (1) فيختار التمام مثلاً في شهر ، والقصر في شهر آخر ، فيما اذا كان الخبران دالين على الحكمين .

والحاصل : ان التخيير الاستمراري في بابي : التقليد والخبرين المتعارضين ، يعطي الجواز في المقام أيضاً .

قلت : اولاً : نحن نمنع التخيير الاستمراري ، بل نقول : بأنّ التخيير ابتدائي ، لان الفاعل مع استمرارية التخيير يعلم بانه خالف الواقع ، وهو قبيح .

وثانيا : لو سلمنا الاستمرارية نقول : ذلك حكم ظاهري اجازه الشارع لمصلحة أهم : مثل ان تكون من باب التسليم ، كما ورد في الروايتين المتعارضتين ، فالتسليم عنوان ثانوي ، كعناوين العسر ، والحرج ، والضرر ، اوجب رفع القبح في مخالفة الواقع ، فلا قبح ، فلا يقاس ما نحن فيه حيث لا دليل فيه ، على ما فيه دليل كالموردين .

فالقبح في مخالفة الواقع انّما يكون ( من غير تقييد بحكم ظاهري عند كل واقعة ) اما اذا دلّ الدليل على التقييد ، لم يكن به بأس .

ويؤده : ان الشارع لما اجاز تقليد مجتهدين متساويين ، جاز لكل من زيد ، وعمرو ان يقلد احدهما ، مع العلم بمخالفة احدهما للواقع ، وكذلك لما خيّر

ص: 314


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وحينئذٍ : فيجبُ بحكم العقل الالتزامُ بالفعل او الترك ، إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوضٌ للشارع يقينا عن قصد .

وتعدّدُ الواقعة إنّما يُجدي مع الاذن من الشارع عند كلّ واقعة ،

-----------------

بين الخبرين ، فأخذ زيد بخبر ، وعمرو بخبر آخر ، مع العلم بأن الواقع احدهما ، ولا فرق في مخالفة الواقع بين نفر واحد وبين نفرين .

( وحينئذٍ ) أي : حين قبحت المخالفة العملية في ما نحن فيه ، مما لم يكن حجّة ظاهرية في كل مورد ( فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل او الترك ) أي ان يستمر في احدهما ، لا ان يفعل تارة ويترك اخرى ، حتى يتيقن بانه خالف ( اذ في عدمه ) أي عدم الالتزام ( ارتكاب ) قطعي ( لما هو مبغوض للشارع يقيناً ، عن قصد ) وعلم ذلك قبح عقلاً ، موجب للعقاب شرعاً .

وهل الامر كذلك ، في تعدد الموضوع ؟ كما لو كانت عنده زوجتان : حلف مرة على هذه ، ومرة على تلك ، ثم شك في انه حلف بالوطي او الترك في هذه او تلك ، فهل يلزم عليه سوقهما مساقاً واحداً ، بان يطأهما او يتركهما ؟ او أن لكل واحدة حكماً مستقلاً ، بان يطأ احداهما في كل واقعة ، ويترك احداهما في كل واقعة ؟ الظاهر : الثاني ، اذ هما واقعتان لا واقعة واحدة ، ولعلّ الحلف طابق فعله بان حلف في الواقع بوطي هند وبترك ميسون وعمله طابق حلفه في كلتيهما .

نعم ، ذلك لا يأتي في ما اذا علم ان الحلفين كانا على شكل واحد فيهما ، او كان قد حلف حلفاً واحداً لهما بالفعل او الترك .

( و ) ممّا تقدّم عرفت : ان ( تعدد الواقعة انّما يجدي ) في جواز المخالفة العملية التدريجية ( مع الاذن من الشارع عند كل واقعة ) بالحكم الظاهري ، فيكون

ص: 315

كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرّا يجوز معه الرجوعُ من أحدهما إلى الآخر ، وأمّا مع عدمه ، فالقادمُ على ما هو مبغوضٌ للشارع ، يستحق عقلاً العقابَ على ارتكاب ذلك المبغوض .

-----------------

من باب الاستثناء ( كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين ) المتناقضين في الفتوى ، فاحدهما يبيح الاخت من الرضاع بعشرة رضعات ، والآخر يحرّم ، فمرة لا يأخذها بحكم المجتهد الثاني ، ومرّة يأخذها بحكم المجتهد الاول ، اما في ان يطأ احدى زوجتيه ولا يطأ الأخرى في وقت واحد ، فقد عرفت حكمه في المحلوفتين (تخييراً مستمراً يجوز معه الرجوع من احدهما إلى الاخر ) وهكذا حال التخيير في الخبرين اذا قلنا بانه تخيير مستمر .

( واما مع عدمه ) أي عدم إذن الشارع ، كما في المرأة المحلوفة الوطي او الترك ( فالقادم ) أي الذي اقدم ( على ما هو مبغوض للشارع ) من المخالفة العملية التدريجية ( يستحق عقلاً العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض ) فانه اذا لم يكن حكم ظاهري بجواز التخيير الاستمراري ، يكون هذا العبد مقدِماً على ما هو مبغوض للشارع ، ولا فرق في استحقاق العقاب عقلاً بين علمه عند الارتكاب بانّ هذا بنفسه مبغوض ، كما في العلم التفصيلي او علمه بعد الارتكاب بانّ احدهما مبغوض ، كما في العلم الاجمالي .

وربما يكون مما نحن فيه : ما اذا سافر من بلده إلى ان وصل في آخر الوقت إلى محل يشك انه محل الترخّص ام لا ؟ ولا دليل يدل على احدهما ، فيستصحب حكم التمام ويتم في الصلاة ، فاذا رجع ووصل إلى نفس المكان استصحب القصر ، مع انه يعلم ان حكمه ذهاباً وايّاباً إمّا التمام وإما القصر .

ص: 316

أمّا لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابهُ على مخالفة الواقع لو اتّفقت .

ويمكن استفادةُ الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض .

-----------------

( اما لو التزم باحد الاحتمالين ) مستمراً بأن وطأ المرأة او تركها في كل واقعة واقعة ( قبح ) عقلاً ( عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت ) المخالفة ، اذ هو من العقاب بلا بيان ، والقبح العقلي هنا شرعي ايضاً ، قال سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوْلاً » (1) .

هذا تمام الكلام في الدليل الاول من الدليلين على لزوم الالتزام .

الثاني : ما ذكره بقوله : ( ويمكن استفادة الحكم ) بلزوم الالتزام باحدهما (ايضاً من فحوى اخبار التخيير عند التعارض ) فانه اذا كان هناك خبران متعارضان ، ولم نتمكن من ترجيح احدهما على الاخر بالمرجّحات المذكورة في باب التعادل والتراجيح ، اجاز الشارع لنا التخيير بقوله عليه السلام : « إذن فَتَخَيّر »(2) اما قبل التخيير ، فلابدّ من الالتزام باحدهما ، والمقام من قبيل قبل التخيير ، اذ لا دليل للتخيير هنا ، فما في الخبرين من لزوم الالتزام باحدهما آت هنا ايضاً ، فيلزم الالتزام باحدهما ولا يجوز العمل بهذا تارة ، وبذاك أخرى .

ثم مراده بالفحوى : اما الملاك المتساوي فيهما ، او الاولوي ، بتقريب : انه اذا وجب العمل باحد الخبرين الظنيين ، مع احتمال مخالفة كليهما للواقع - في غير صورة المتناقضين والمتضادين الذين لا ثالث لهما ، حيث في هاتين الصورتين

ص: 317


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لكن هذا الكلام لايجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدّد فيها الواقعةُ ، حتّى تحصل المخالفة العمليّة تدريجا ، فالمانعُ في الحقيقة هي المخالفةُ العمليّةُ القطعيّة ولو تدريجا مع عدم التعبّد بدليل ظاهريّ ،

-----------------

لايحتمل مخالفة كليهما للواقع - لزم الالتزام ، ثم العمل على طبق احد الاحتمالين وهو فيما نحن فيه بطريق اولى ، لان احدهما موافق للواقع قطعاً .

( لكن هذا الكلام ) أي لزوم المخالفة العملية التدريجية ( لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدد فيها الواقعة ) كالحلف بوطي او عدم وطي زوجته اوّل ساعة من ليلة الصيام فانه ، لا تعدد ( حتى تحصل المخالفة العملية تدريجاً ) .

نعم ، الواقعة الواحدة الممتدة يمكن تصور التعدد فيها امتداداً ، كما اذا شك في انه حلف على بقاء الساعة الاولى في المدرسة او المسجد ؟ فاذا بقي نصف ساعة هنا ، ونصف ساعة هناك ، كان مقطوع المخالفة .

لكن ربما يقال في ذلك : انه مثل درهمي الودعي ، التنصيف اولى ، لان العقلاء يقدّمون المخالفة القطعية في البعض على المخالفة الاحتمالية في الكل .

وعليه : ( فالمانع ) عن اجراء الاصلين في الطرفين ( في الحقيقة ) والواقع ، ليس هو المخالفة ، او اللامخالفة الالتزامية ، بل ( هي المخالفة العملية ) فاذا لم تكن مخالفة عملية ، كما اذا لم يقدر على الوطي ، فلا مانع من اجراء الاصل والالتزام بالاباحة ، فالمخالفة الالتزامية لا تحرم بالذات من حيث هي هي ، وانّما تحرم بالعرض من حيث لزوم المخالفة العملية ( القطعية ولو تدريجاً ، مع عدم التعبد ) من الشارع (بدليل ظاهري ) مجوّز للمخالفة العملية ، كما في تخيير المقلدين بين مجتهدين ، وتخيير المجتهدين بين روايتين - على ما تقدّم - .

ثم لو تمكن الحالف من الخروج عن هذا المأزق ، فهل يجب عليه ذلك ، كما

ص: 318

فتأمّل جدا .

هذا كلّه في المخالفة القطعيّة للحكم المعلوم إجمالاً من حيث الالتزام ، بان لايلتزم به او يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر ، إذا اقتضت الاصولُ ذلك .

وأمّا المخالفةُ العمليّةُ ، فان كانت لخطاب تفصيليّ ، فالظاهرُ عدمُ جوازها ، سواء كانت

-----------------

اذا كان له أب يحلّ نذره لو طلب منه ذلك ؟ احتمالان :

من ان الخروج عن الموضوع ليس بواجب ، فالمسافر لا يلزم ان يحضر ولا العكس ومن ان المقام من قبيل الاضطرار ، حيث انه ليس الاّ فيما لا مندوحة .

( فتأمّل جدّاً ) حتى يظهر لك : هل ان المخالفة الالتزامية حرام بنفسها وان لم تنجر إلى المخالفة العملية ، او انها محرمة لافضائها إلى المخالفة العملية ؟ والكلام في المقام كثير ، نكتفي منه بهذا القدر ، لئلا نخرج عن موضوع الشرح .

ولا يخفى : ان « تأمّل » بمعنى : كُن على امل ورجاء لان تفهم المسألة اكثر ، واصطلاحهم ذلك مجرداً ، يفيد الاشكال فيما ذكر قبله ، وان ذكر مع «جداً» او «جيداً» او ما اشبه ، كان اشارة إلى الدّقة في المطلب .

( هذا كله في المخالفة القطعية للحكم المعلوم اجمالاً ، من حيث الإلتزام ) لا من حيث العمل ( بأن لا يلتزم به ، او يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر ، اذا اقتضت الأصول ذلك ) أي الالتزام او عدم الالتزام .

( واما المخالفة العملية ) للعلم الاجمالي ( فان كانت ) المخالفة ( لخطاب تفصيلي ) كما اذا قال : اكرم زيداً ، او لا تشرب الخمر ، واشتبه زيد بين نفرين ، والخمر بين إنائين ( فالظاهر عدم جوازها ) وانّما قال : فالظاهر ، لان بعض الفقهاء قال بالجواز لمكان « بعينه » في الرواية - كما سيأتي - ( سواء كانت ) المخالفة

ص: 319

في الشبهة الموضوعيّة ، كارتكاب الانائين المشتبهين المخالف لقول الشارع : « اجتنب عن النجس » ، او كترك القصر والاتمام في موارد اشتباه الحكم ، لأنّ ذلك معصية لذلك الخطاب ،

-----------------

( في الشبهة الموضوعية ، كارتكاب الانائين المشتبهين ) بالنجس ( المخالف ) ذلك الارتكاب (لقول الشارع : اجتنب عن النجس ) فالخطاب معلوم بالتفصيل ، وانّما الاشتباه في الموضوع .

لكن ذلك فيما اذا لم يكن محذور كالاشتباه بالغصب - مثلاً - فانه اذا لم يتمكن من مراجعة الحاكم لتعيين كل واحد منهما حقه ، ولا من عدول المؤنين ، ولم يرض صاحب المال بالتمييز ، او لم يكن موجودا بنفسه او وليه وصل الأمر لافرازه بنفسه ، فيأخذ احد الانائين او الثوبين او ما اشبه لنفسه ، ويجعل الاخر للثاني ويكون الاداء التفصيلي ، لا الاجمالي .

( او ) في الشبهة الحكمية ( كترك القصر والاتمام في موارد اشتباه الحكم ) فانه مخاطب تفصيلاً باقامة الصلاة ، لكن الاشتباه في الحكم وانه قصر أو تمام ؟ كما اذا قصد الاقامة في مكان ثم سافر إلى ما دون اربعة فراسخ ، حيث يشك في ان تكليفه القصر او التمام ، فالخطاب معلوم تفصيلاً والمتعلق مشكوك .

او في الشبهتين معا : بأن كان الشك في الموضوع وفي الحكم ، كما اذا لم يعلم بان الرضاع ، الناشر للحرمة يحصل بخمس عشرة رضعة او بعشرة ، ولم يعلم ايضاً بان المرضعة هند او دعد ( لان ذلك ) الذي مثلناه من ارتكاب الانائين ، وترك القصر والتمام ، والتزويج بالمرأتين يعّد ( معصية ) عقلاً وعرفاً ، والمتشرعة أيضاً تعدّه عصياناً ايضاً ( لذلك الخطاب ) التفصيلي في الاولين ، والاجمالي في الثالث .

ص: 320

لأنّ المفروضَ وجوبُ الاجتناب عن النجس الموجود بين الانائين ، ووجوبُ صلاة الظهر والعصر ، وكذا لو قال : « أكرم زيدا » ، واشتبه بين شخصين ، فانّ تركَ إكرامهما معصيةٌ .

فان قلت : إذا أجرينا أصالة الطهارة في كلّ من الانائين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع

-----------------

( لان المفروض ) شرعا : ( وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الانائين ) فان اجتنب عن النجس - حيث المراد بالنجس الواقعي - يشمل المشتبه ايضاً ، ولهذا اذا قال المولى : لا تكرم زيداً ، ثم اشتبه العبد في ان زيداً هذا او ذاك ، وجب عليه لتحصيل أمر المولى ، عدم إلزامهما ، والاّ فان اكرم احدهما وكان في الواقع هو زيد ، كان معاقباً عقلاً وعرفاً .

وحيث مثّل المصنّف قدس سره للشبهة التحريمية بالنجس ، مثّل للشبهة الوجوبية بقوله : ( ووجوب صلاة الظهر والعصر ) والعشاء ، مما يكون له قصر وتمام ( وكذا لو قال : اكرم زيداً ، واشتبه بين شخصين ، فان ) العقل ، والعرف والمتشرعة يرون: ان (ترك اكرامهما معصية ) وكذلك في مثال النكاح حيث يلزم الاحتياط في الفروع .

( فان قلت ) : كلامكم هذا ينافي ما تقدّم منكم : «من ان الاصول في الموضوعات تخرج مجراها عن موضوع التكليف ، فلا يلزم لمن عمل بالاصل مخالفة عملية» ، فانا (اذا اجرينا اصالة الطهارة في كل من الانائين ) المشتبهين ( واخرجناهما ) بسبب الاصل (عن موضوع النجس ) اخراجاً ( بحكم الشارع ) لان الشارع قال : «كُلُّ شَيءٍ نَظيفٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ قَذِرٌ »(1) .

ص: 321


1- - وسائل الشيعة : ج3 ص467 ب37 ح4195 .

فليس في ارتكابهما ، بناءا على طهارة كلّ منهما ، مخالفةٌ لقول الشارع : « اجتنب عن النجس » .

قلت : أصالةُ الطهارة في كلّ منهما بالخصوص إنّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو .

وأمّا الاناء

-----------------

والاستصحاب يقوم مقام العلم ، فاذا جرى الاستصحابان لا نعلم نجاسة هذا ولا ذاك ( فليس في ارتكابهما - بناءاً على طهارة كل منهما - ) بسبب الاستصحاب (مخالفة ) عملية ( لقول الشارع ) الذي قال : ( اجتنب عن النجس ) فينحصر النهي في صورة العلم التفصيلي حكماً ومتعلقاً ، فاذا لم يعلم انه واجب او حرام ، او الواجب هذا او ذاك ، او الواجب او الحرام هذا او ذاك ؟ ، كما اذا لم يعلم انه هل يجب عليه وطي هند ، او يحرم عليه وطي دعد ؟ لم يلزم عليه شيء .

( قلت ) : قد نقول : بان الاصل في نفسه جار ، وانّما المانع - وهو المناقضة مع العلم الاجمالي - يمنع من جريانه ، وقد نقول : ان الاصل غير جار اصلاً ، فهنا جوابان :

الجواب الاول : لبيان وجود المانع عن جريان الاصل .

الجواب الثاني : لبيان عدم المقتضي للجريان .

فتارة نقول : الخشب لا يحترق مع وجود النار لوجود المانع وهو الرطوبة .

وتارة نقول : الخشب لا يحترق لعدم وجود المقتضي ، وهو النار .

وقد اشار المصنّف قدس سره إلى الجواب الاول : بانّ ( اصالة الطهارة في كل منهما ) أي من الطرفين ( بالخصوص انّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو ) أي مع قطع النظر عن وجود العلم الاجمالي ( واما ) مع وجود العلم الاجمالي ب- ( الاناء

ص: 322

النجس الموجود بينهما فلا أصلَ يدلّ على طهارته ، لأنّه نجسٌ يقينا ؛ فلابدّ إمّا من اجتنابهما تحصيلاً للموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يجتنب أحدُهما فرارا عن المخالفة القطعيّة على الاختلاف المذكور في محلّه .

هذا ، مع أنّ حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع التكليف الثابت بالأدلّة الاجتهاديّة لا معنى له ،

-----------------

النجس الموجود بينهما ) قطعاً ( فلا أصل ) يجري حتى ( يدل على طهارته ) فان المانع لا يدع المقتضي ان يؤّر اثره ( لانه ) أي النجس بينهما ( نجس يقيناً ، فلابد ) من احد أمرين :

( اما من اجتنابهما ) معاً ( تحصيلاً للموافقة القطعية ) كما يقوله المصنّف والمحققون .

( واما ان يجتنب احدهما ) مخيراً في الاجتناب ، ويرتكب احدهما مخيراً في الارتكاب ( فراراً عن المخالفة القطعية ) كما يقوله بعض الفقهاء .

وهذان القولان في العلم الاجمالي مبنيّان ( على الاختلاف المذكور في محله ) في باب الاشتغال ، حيث يبحث فيها هناك عن المستفاد من الادلة أي هذين القولين ؟ وسيأتي ان شاء اللّه تعالى .

( هذا ) كله في بيان المانع من جريان الاصلين ، وهو الجواب الاول ، فقد اشار إلى الجواب الثاني من عدم المقتضي لجريان الاصل بقوله :

( مع ان حكم الشارع بخروج مجرى الاصل ) كالانائين المشتبهين ( عن موضوع التكليف الثابت ) ذلك التكليف ( بالادلة الاجتهادية ) اذ الاناء النجس : موضوعٌ ، والحكم : وجوب الاجتناب عنه ، فان هذا الوجوب ثابت بالادلة الاجتهادية - وهي عبارة عمّا يقابل الاصول العملية - ( لا معنى له ) أي لحكم

ص: 323

إلاّ رفعُ حكم ذلك الموضوع ، فمرجعُ أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله : « اجتنب عن النجس » ، فتأمّل .

وإن كانت المخالفةُ مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين

-----------------

الشارع هذا ( الاّ رفع ) وجوب الاجتناب الذي هو ( حكم ذلك الموضوع ) وهو النجس ، فاذا قال الشارع : اجر الاصل في الانائين ، كان معناه : لا يجب الاجتناب عن النجس ، وهو يناقض : اجتنب عن النجس .

( فمرجع اصالة الطهارة ) في هذا الاناء ، وذلك الاناء ( إلى عدم وجوب الاجتناب) عن النجس (المخالف) ذلك (لقوله) عليه السلام (اجتنب عن النجس) حيث ان الشارع لا يناقض نفسه بنفسه بان يقول اجر اصل الطهارة في كلا الطرفين .

لا يقال : فكيف قال بعض الفقهاء : بعدم وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة ، وقال بعضهم : بوجوب الاجتناب عن بعض الاطراف لا عن جميع الاطراف ؟ .

لانه يقال : من قال بالاول ، يرى ان قوله : اجتنب عن النجس ، يراد به النجس المعلوم تفصيلاً ، فلم يجعل الشارع نجاسة للمردد بين الانائين ، ومن قال بالثاني، يرى ان الشارع جعل احدهما بدلاً عن الواقع مع عدم المصادفة ، ومع المصادفة فالنجس هو المأمور بالاجتناب عنه ، وسيأتي الكلام في هذين القولين .

( فتأمّل ) حتى لا تقول : ان كلام الشيخ قدس سره هنا : بعدم جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي ، يناقض كلامه السابق من جريان الاصول في اطراف العلم ، إذن كلامه السابق : كان فيما لا يستلزم اجراء الاصول : المخالفة العملية ، وكلامه هنا فيما يستلزم الاجراء : المخالفة العملية ، فلا تنافي بين الكلامين .

هذا تمام الكلام فيما اذا كانت المخالفة ، مخالفة لخطاب تفصيلي ( و ) اما ( ان كانت المخالفة ، مخالفة لخطاب مردد بين خطابين ) سواء في الشبهة الموضوعية

ص: 324

- كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع او بحرمة هذه المرأة ، او علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان ، او بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - ففي المخالفة القطعيّة حينئذٍ وجوهٌ :

أحدُها : الجوازُ مطلقا ، لأنّ المردّد بين الخمر والأجنبيّة لم يقع النهيُ عنه في خطاب من الخطابات الشرعيّة حتّى يحرم ارتكابهُ ، وكذا المردّد

-----------------

( - كما اذا علمنا بنجاسة هذا المائع او بحرمة هذه المرأة ) حيث يعلم المكلّف بتوجه الامر من المولى عليه ، لكنه لا يعلم هل هو امر باجتناب المائع او باجتناب المرأة ؟ ، « او » كان التردد في الشبهة الحكمية ، بان علم بالوجوب لكنه لم يعلم بانه ورد على أيّ موضوع ، ؟ كما اذا ( علمنا بوجوب الدعاء عند رؤة هلال رمضان ، او بوجوب الصلاة عند ذكر ) اسم ( النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - ) فهو مخاطب باقرأ او بصلِّ ، لكنه لا يعلم انه ايهما .

وهنا قسم ثالث : وهو انه يعلم اما بواجب او حرام عليه كما اذا علم بانه يجب عليه صلاة الجمعة : او يحرم عليه التبغ .

( ففي المخالفة ) العملية ( القطعية حينئذٍ ) بأن يشرب الاناء ويباشر المرأة ، ويترك الصلاة والقرائة ، ويدخّن ويترك صلاة الجمعة ( وجوه ) اربعة :

( احدها : الجواز مطلقاً ) وسواء في الشبهة الموضوعية او الحكمية من جنس الواجب كان او الحرام او بالاختلاف من نوع واحد كهذه المرأة وتلك المرأة ، او من نوعين كالتبغ والمرأة .

وقد استدل لهذا الوجه بقوله : - ( لان المردد بين الخمر والاجنبية ) مثلاً ( لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه ، وكذا المردد

ص: 325

بين الدعاء والصلاة ، فانّ الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيليّة ومخالفتها .

الثاني : عدمُ الجواز مطلقا ، لأنّ مخالفة الشارع

-----------------

بين الدعاء والصلاة ) والمردد بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، والمردد بين صلاة الجمعة وجوباً والتبغ تحريماً ، وانّما الخطابات اما وجوب لشيء معيّن او تحريم لشيء معيّن ، فالمردد خارج عن الخطابات ، واذا كان خارجاً فلا تكليف بشيء ( فان الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية ومخالفتها ) .

لكن لا يخفى ما فيه : فان العقلاء يحكمون باستحقاق العبد العقاب اذا ترك الامر الاجمالي ، كما يستحقه اذا ترك الامر التفصيلي ، فاذا قال له المولى : لاتذهب ثم شك في انه قال : لا تذهب من هذا الطريق او ذاك ، وكان امامه طريق ثالث ، فاذا لم يذهب في الثالث وذهب من الطريقين كان مستحقاً للعقاب ، وهكذا في المأكولات والمشروبات والمنكوحات ، وغيرها .

هذا في الاعتباريات ، كما هو في التكوينيات ايضاً ، فاذا علم بأن في احد الطريقين اسد ، او في احد الانائين سمّ ، فارتكب كليهما كان قد اصابه الضار ، إلى غير ذلك من الامثلة ، فان الجهل لا يغير الواقع ، سواء في الاعتباريات او في التكوينيات ، ولذا قال سبحانه : « اجْتَنِبُوا كَثِيْرا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بِعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» (1) .

( الثاني : عدم الجواز مطلقاً ) والاطلاق هنا كالاطلاق في قول من قال بالجواز (لان مخالفة الشارع ) عن علم وعمد ، سواء في العلم الاجمالي او في العلم

ص: 326


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

قبيحة عقلاً مستحقة للذمّ عليها ، ولا يعذر فيها إلاّ الجاهلُ بها .

الثالثُ : الفرقُ بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاول دون الثاني ، لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة فوق حدّ الاحصاء ،

-----------------

التفصيلي (قبيحة عقلاً ، مستحقة للذم عليها ) وللعقاب بها شرعاً ( ولا يعذر فيها ) أي في المخالفة ( الا الجاهل بها ) دون العالم ، سواء كان عالماً بها اجمالاً او عالماً تفصيلاً ، بشرط ان لا يكون الجهل تقصيراً ، والاّ فالجاهل المقصّر ايضاً معاقب عقلاً وشرعاً ، حيث يقال له : « هلاّ تعلمت » (1) - كما في الحديث - ؟ وهذا القول الثاني هو مختار المحققين من المتأخرين .

( الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز ) المخالفة ( في الاول دون الثاني ) وانّما يجب الاحتياط في الشبهة الحكمية : وجوبية او تحريمية او بالاختلاف دون الشبة الموضوعية ، بدليل الإن ( لأنّ المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حدّ الاحصاء ) فيدل ذلك - بطريق الإن - على الجواز في الشبهة الموضوعية .

وقد تقدّم جملة من الموارد التي يتحول العلم الاجمالي فيها إلى العلم التفصيلي .

بالاضافة إلى موارد كثيرة في النزاعات كما اذا ادّعى احد - مثلاً - : بان الاخر قريبة وانكر الاخر ذلك ، فالاول لا يرث من الثاني ، وتجب عليه نفقته في موارد النفقات كالاب والابن وما اشبه ، بينما لا يجب على الثاني شيء من ذلك ،

ص: 327


1- - راجع الأمالي للمفيد : ص292 .

بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يظهر من كلماتهم في مسائل الاجماع المركّب ،

-----------------

فلان الاول باعترافه صار من صغريات « اقرار العقلاء على انفسهم جائز » (1) ، بينما الاصل عدم وجوب شيء على الثاني .

وكذلك اذا قال رجل : بأنّ هذه المرأة زوجتي ، وانكرت المرأة ذلك ، فانه يحرم على الرجل التزويج بالخامسة وبالاخت والام والبنت لهذه المرأة ، ويجب عليه اعطاؤا المهر إن كان دخل بها ، وما اشبه ذلك من لوازم الزوجية ، بينما المرأة ليست كذلك ، فانه لا يجب عليها شيء من لوازم الزوجية .

وهكذا حكم العكس : بأن ادعت المرأة انها زوجته وانكر الرجل ذلك فانّه يحرم عليها الزواج ، بينما يجوز له الزواج باختها وامها وبنتها وسائر المستلزمات ، إلى غير ذلك من الامثلة الكثيرة في سائر المعاملات وفي الطلاق وغيرها ( بخلاف الشبهات الحكمية ) فانه لم يوجد فيها مورد للمخالفة القطعية ، مما يكشف - بدليل الإن - على انهم لم يجوّزوا مايؤي فيها إلى المخالفة القطعية ، وذلك ( كما يظهر من كلماتهم في مسائل الاجماع المركب) فانهم قالوا : كلما تحقق الاجماع المركب ، لم يجز خرقه بقول ثالث ولو بالتفصيل بين الرأيين ، معلّلين ذلك بعدم جواز طرح الحكم المعلوم اجمالاً بين الرأيين .

ص: 328


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

وكأن الوجهُ ماتقدّم ، من أنّ الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلّة التكليف . بخلاف الاصول في الشبهات الحكميّة فانّها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً ، وقد عرفت ضعف ذلك ، وأنّ مرجع الاخراج الموضوعي الى رفع الحكم المترتّب على ذلك ، فيكون الاصل في الموضوع في الحقيقة منافياً لنفس الدليل الواقعّي

-----------------

( وكأن الوجه ) في الفرق بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية ، حيث اجازوا المخالفة في الاول دون الثاني ( ما تقدّم ) وان كان هذا الوجه ضعيف ، كما يشير إلى ضعفه المصنّف قدس سره : ( من ان الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها) كالمرأة المحلوفة الوطي او الترك ( عن موضوعات أدلّة التكليف بخلاف الأُصول في الشبهات الحكمية ، فانها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً ) فاصالة عدم الحلف بوطيها ، واصالة عدم الحلف بترك وطيها ، تجعل المرأة خارجة عن كونها متعلق النذر اصلاً ، فالجواز في الوطي والترك لهذه المرأة لا يصادم دليل « الوفاء بالنذر » .

( و ) لكنك ( قد عرفت ) فيما تقدّم ( ضعف ذلك ) الدليل فلا يجري الاصلان في طرفي العلم الاجمالي ( و ) ذلك ل( ان مرجع الاخراج الموضوعي الى رفع الحكم ) اي الوطي لزوماً ، او عدم الوطي لزوماً ( المترتب على ذلك ) الموضوع وهي المرأة في المثال ، فالاصلان يرفعان الالزام ، والحال انا نعلم الالزام بسبب العلم الاجمالي ( فيكون الاصل ) أي كلا الاصلين معاً ( في الموضوع ) الذي هو المرأة ( في الحقيقة ) و الواقع ( منافياً ) و مناقضاً ( لنفس الدليل الواقعي ) لانه من طرف : الزام حول هذه المرأة من جهة الحلف ، ومن طرف : لا الزام من جهة الاصلين ، فلا فرق - من جهة المنافاة - بين الاصل

ص: 329

إلاّ أنّه حاكمٌ عليه لا معارضٌ له ، فافهم .

الرابعُ : الفرقُ بينَ كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين وبينَ اختلافه كوجوب الشيء وحرمة آخر .

-----------------

في الموضوع و الاصل في الحكم .

اللهم ( إلاّ ) ان يقال : ان الفرق هو ( انه ) أي الاصل ( حاكم عليه ) أي على الدليل في الموضوعات ، فيجري الاصل فيها ، ( لا ) انه ( معارض له ) حتى لا يجري ، كما هو معارض في الاحكام لنفس الدليل .

( فافهم ) فانه لايمكن القول بهذا الفرق ، لما عرفت من تصادم الحكم الواقعي مع كلا الاصلين ، سواء كان في الشبهة الموضوعية أو الشبهة الحكمية .

اقول : لايخفى ان عبارة المصنّف قدس سره لو لم يكن فيها سقط او زيادة ، فيها نوع من الضعف .

( الرابع : ) من الوجوه في المخالفة العملية في اطراف الشبهة : التفصيل و ( الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين ) جزئيّين كانا او كليّين ، وكانا ( واحدا بالنوع ) فعدم الجواز ( كوجوب احد الشيئين ) او حرمة احدهما ، مثل وجوب الصلاة عند ذكر النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم أو الدعاء عند رؤية الهلال ، او حرمة شرب هذا الاناء او هذه المرأة اما المتحد نوعا وصنفا مثل : وجوب الظهر او الجمعة ، او حرمة هذه المرأة او تلك ، فاظهر في عدم جواز المخالفة العملية ووجوب الارتكاب او الاجتناب من الاول المتحد نوعا لاصنفا .

( وبين اختلافه ) اي اختلاف النوع ، فالجواز ( كوجوب الشيء وحرمة آخر ) حيث انهما نوعان من اللزوم ، بينما الوجوبان او التحريمان نوع واحد ، كما اذا علم اجمالاً بانه تحرم هذه المرأة او يجب شرب هذا الاناء لان فيه شفائه ، او علم

ص: 330

والوجهُ في ذلك أنّ الخطاباتِ في الواجباتِ الشرعيّة بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكلّ ، فتركُ البعض معصيةٌ عرفا ، كما لو قال المولى : « افعل كذا وكذا » ، فانّه بمنزلة : « افعلهما جميعا » ، فلا فرقَ في العصيان بين ترك واحد منهما معيّنا او واحد غير معيّن عنده .

-----------------

بانه يجب عليه الدعاء عند رؤية الهلال او يحرم التتن .

( والوجه في ذلك ) التفصيل هو ( : ان الخطابات في الواجبات الشرعية ) وكذا في المحرمات الشرعية ( باسرها ) وبمجموعها ( في حكم خطاب واحد ) قد امر الشارع (بفعل الكل) ونهى عن فعل الكل ، قال سبحانه : « وَيَعمَلُ صَالِحا » (1).

فانه يشمل كل الواجبات ، وقال تعالى : « تُوبُوا إلى اللّهِ » (2) .

فانه يشمل جميع المحرمات ( فترك البعض ) في الواجبات ، او فعل البعض في المحرمات ، سواء كان معيّنا في العلم التفصيلي ، او مرددا عند العلم الاجمالي ( معصية عرفا ) فلا فرق في الصنفين مثل : الصلاة والدعاء ، او صنف واحد : كالظهر والجمعة ( كما لو قال المولى : افعل كذا وكذا ) مثلاً قال : « أقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ » (3) ( فانه بمنزلة ) قوله : ( افعلهما جميعا ، فلا فرق في العصيان ) واستحقاق العقوبة ( بين ترك واحد منهما معيّنا ) في العلم التفصيلي (او واحد ) منهما ( غير معيّن عنده ) في العلم الاجمالي كما اذا لم يعلم ان واجبه : اقامة الصلاة أو اعطاء الزكاة فترك واحدا منهما ، وكذلك في الحرام : كما في قوله تعالى :« فاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأوثانِ واجتَنِبُوا قَولَ الزّورِ» (4) .

ص: 331


1- - سورة الطلاق : الآية 11 .
2- - سورة التحريم : الآية 8 .
3- - سورة البقرة : الآية 110 .
4- - سورة الحج : الآية 30 .

نعم ، في وجوب الموافقة القطعيّة بالاتيان بكلّ واحد من المحتملين كلامٌ آخر مبني على أنّ مجرّد العلم بالحكم الواقعيّ يقتضي البراءة اليقينيّة عنه او يكتفي بأحدهما حذرا عن المخالفة القطعيّة التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء وتعدّ معصيةً عندهم وإن لم يلتزموا

-----------------

حيث لايعلم ان الحرام عليه : اجتناب هذه الصورة باعتبار احتمال انه وثن ، او اجتناب هذا القول باعتبار احتمال انه قول الزّور .

( نعم ، في وجوب الموافقة القطعية بالاتيان بكل واحد من المحتملين ) في الواجب وترك كل واحد من المحتملين في المحرم ، او كفاية الاتيان باحد الواجبين او ترك احد المحتملين من باب كفاية الموافقة الاحتمالية ( كلام آخر ) يأتي تفصيله في باب الاشتغال ان شاء اللّه تعالى ، وذلك الكلام ( مبني على مجرد العلم بالحكم الواقعي ) منجز له بحيث ( يقتضي البرائة اليقينية عنه ) اي عن ذلك الحكم ، فلا يكفي الاتيان بأحدهما ، بل اللازم الاتيان بهما ، وذلك بالنسبة الى الحرام المردد بأن يجتنبهما ( أو يكتفي بأحدهما ، حذرا عن المخالفة القطعية ، التي هي ) أي : المخالفة القطعية تكون ( بنفسها مذمومة عند العقلاء ، وتعد معصية عندهم ) لامجرد الذم ، اذ الذم اعمّ من العصيان .

ولا يخفى : ان باب الاطاعة والمعصية مربوط بالعقلاء ولا دخل للشارع فيه ، ولو قال الشارع شيئا في هذا الباب كان ارشادا .

وقد ذكرنا في « الاصول » في بحث الانسداد وجوها أربعة لذلك ، كما ان باب الموضوعات مربوط بالعرف ولا شأن للشرع فيه ، ولو قال الشارع فيه شيئا كان تفضّلاً .

وعلى ايّ حال : فان العقلاء يذمّون المخالفة القطعية ( وان لم يلتزموا )

ص: 332

الامتثال اليقينيّ لخطاب مجمل .

والأقوى من هذه الوجوه هو الوجهُ الثاني ثمّ الاولُ ثمّ الثالثُ ، هذا كلّه في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به .

وأمّا الكلامُ في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك

-----------------

ب-

(الامتثال اليقيني لخطاب مجمل ) في الواجبات المرددة ، او المحرمات المرددة ، من غير فرق بين القولين في وحدة الصنف : كصلاتين وانائين احدهما خمر ، وتعدد الصنف : كصلاة ودعاء ، ومشتبه خمر ووطي محرمة الوطي .

( والاقوى من هذه الوجوه ) الاربعة ( هو الوجه الثاني ) الذي اطلق وجوب الموافقة القطعية ، بفعلهما او تركهما ، بل وكذا اذا كانا اكثر من اثنين ، كثلاثة ، او اربعة ، او اكثر ، بشرط عدم وجود مانع خارجي كالعسر ونحوه .

( ثم ) لو فرضنا عدم الدليل على الوجه الثاني ، ف- ( الاول ) وهو : جواز المخالفة مطلقا ، لكن لايخفى ان التفصيل بالموافقة الاحتمالية اقوى من هذا الوجه .

( ثم ) على تقدير عدم الدليل على الوجه الاول ف( الثالث ) وهو التفصيل بين الشبهات الموضوعية ، فيجوز المخالفة ، والشبهات الحكمية ، فلا يجوز ، لكن الاقرب عندنا : الموافقة القطعية ثم الاحتمالية .

اما الوجهان الاخران من التفصيلين ، فلا دليل عليهما : لا شرعا و لا عقلاً ، وحيث ان الشرح مبني على التوضيح ، فلا داعي لتفصيل الكلام .

( هذا كله في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به ) وانه هل هذا واجب او ذاك او هذا حرام او ذاك او هذا واجب او ذاك حرام ؟ .

( وأما الكلام في اشتباهه ) اي الحكم ( من حيث الشخص المكلّف بذلك

ص: 333

الحكم ، فقد عرفت أنّه يقعُ تارةً في الحكم الثابت لموضوع واقعيّ مردّد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلّقة بالجنب

-----------------

الحكم ) وهو العبد ، وانّما لم يذكر المصنّف قدس سره المكلِّف - بالكسر - اي المولى ، لانه لايتصور تردد في المولى الحقيقي الذي كلامنا نحن بصدده ، وان كان يمكن ذلك في الموالي العرفية ، كأن لم يعرف عبدا زيد وعمرو ، ان زيدا او عمروا أمر عبده بكذا ، وهذا يرجع الى كيفية ارادة الموليين ، فان لها ثلاث صور :

1 - انهما يريدان في مثل ذلك الانجاز .

2 - انهما لايريدان الانجاز .

3 - انهما مختلفان في ارادة الانجاز وعدمه .

ففي الاول : ينجزان ، حسب نظر الموليين ، على نحو الموافقة القطعية ، او على نحو عدم المخالفة القطعية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الموضوعية او الحكمية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الموضوعية او الحكمية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الوجوبية او التحريمية ، الى غير ذلك .

وفي الثاني : لاينجزان .

وفي الثالث : حسب رغبة كل مولى بالنسبة الى عبده ، ولو شك في كيفية الرغبة ، فالمرجع العرف ، لانهم هم الذين يعيّنون كيفية الاطاعة اذا لم يكن للمولى كيفية خاصة ، كما تقدّم الكلام في ذلك .

وعلى كل : ( ف- ) الكلام في المكلّف ، و ( قد عرفت انه يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع ) كلي ( واقعي مردد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلقة بالجنب ) وكان كليا ، لان كل غير شخصي كلي ، منتهى الامر : انه كلي في المعيّن ، كما اذا كان له عشرة موكلين ، فاشترى لكلّي الموكل لا للجميع بل لواحد منهم ،

ص: 334

المردّد بين واجدي المنيّ ، وقد يقعُ في الحكم الثابت لشخص ، من جهة تردّده بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردّد بين الذكر والانثى .

وأمّا الكلامُ في الأوّل :

فمحصّله : أنّ مجرّد تردّد التكليف بين شخصين لايوجب على أحدهما شيئا ، إذ العبرةُ في الاطاعة والمعصية بتعلّق الخطاب بالمكلّف الخاصّ ،

-----------------

وقد ذكرنا في الفقه : الفرق بين الكلي والمردد ، وانهما وان كانا كليين ، الاّ ان الخصوصية - على نحو الكلية - داخلة في المردد ، بينما الخصوصية ليست داخلة في الكلي ، كما في ( المردد ) مصداقه ( بين واجدي المني ) وكذلك فيما اذا كان واجب وحرام ، لان جامعهما الالزام ، او بين واجبين .

( وقد يقع في الحكم الثابت لشخص ، من جهة تردده ) اي تردد ذلك الشخص ( بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردد بين الذكر والانثى ) لكنا ذكرنا في باب النكاح (1) : انه يلحق نفسه باحدهما ، كما قال به قوم حسب ماذكره الشيخ قدس سره في المبسوط .

( واما الكلام في الاول ) وهو تردد التكليف بين نفرين ( فمحصله : ان مجرد تردد التكليف بين شخصين ) او اكثر ، وذكر الشخصين من باب المثال ( لايوجب على احدهما شيئا اذ العبرة في الاطاعة والمعصية بتعلق الخطاب بالمكلّف الخاص ) فاذا علمت المرأتان : ان احداهما اخت الرجل من الرضاعة وهو لايعلم بذلك صح لكل واحد منهما ان تتزوج به ، فمجرد العلم الاجمالي بين نفرين لايوجب لاحدهما حكما .

ص: 335


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ج62 - 68 كتاب النكاح للشارح .

والجنبُ المردّد بين شخصين غير مكلّف بالغسل وإن ورد من الشارع أنّه يجب الغسلُ على كلّ جنب ، فانّ كلاً منهما شاكّ في توجّه هذا الخطاب إليه ، فيقبح عقابُ واحدٍ من الشخصين يكون جنبا بمجرّد هذا الخطاب الغير الموجّه إليه .

-----------------

( و ) عليه : ف( الجنب المردد بين شخصين ) حيث لم يتعلق به خطاب على نحو الترديد يقول : ايها الاثنان ليغتسل كل واحد منكما ، فكل منهما ( غير مكلف بالغسل ) وكذلك في مثال المرأتين وفيما اذا علم زيد وعمرو بان هندا اخت احدهما من الرضاعة ، جاز لاحدهما ان يتزوجها ، ثم اذا طلقها او مات عنها او ما اشبه ، جاز للآخر ان يتزوج بها .

( وان ) قلت : ( ورد من الشارع ) في الكتاب والسنة ( : انه يجب الغسل على كل جنب ) قال سبحانه : « وإن كُنتُم جُنُبا فاطَّهَّرُوا » (1) .

وفي الاحاديث : يجب الغسل من الجنابة .

قلت : ( فان كلاً منهما شاك في توجه هذا الخطاب اليه ، فيقبح ) عقلاً وعرفا ، وبمقتضى : « وَما كُنّا مُعَذِّبِين حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (2) .

والدال على لزوم البيان لكل مكلّف مكلّف - ( عقاب واحد من الشخصين ) الذي ( يكون جنبا ) في الواقع ( بمجرد هذا الخطاب غير الموجه اليه ) حسب علمه .

لايقال : انا نرى اذا خاطب المولى عبيده وقال : لينقذ احدكم ولدي من البئر ، ثم لم ينقذه احد منهما حتى مات ، فانه يعاقبهم جميعا ولا يقبل عذر أحد منهم بانه لم يعلم بتوجه الخطاب اليه ، ولم يتمكن من الفحص حتى يعرف انه هو

ص: 336


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

نعم ، لو اتفق لأحدهما او لثالث علمٌ بتوجّه الخطاب إليه دخل في اشتباه متعلّق التكليف الذي تقدّم حكمه بأقسامه .

ولا بأسَ بالاشارة إلى بعض فروع المسألة ، ليتّضح انطباقها على ماتقدّم في العلم الاجماليّ بالتكليف .

فمنها : حملُ أحدهما

-----------------

المكلّف بالانقاذ من بين عبيده .

لانه يقال : ذلك في ما اذا عرف الاهمية ولو بدون الخطاب ، كما اذا وقع ولد المولى في البئر وهو غير حاضر ، فلم يخرجه احد حتى مات فان عذرهم : بانه لم يأمرهم بالاخراج ، غير مسموع عند العقلاء حتى يرفع العقاب عنهم ، فلا يقاس بالمقام الذي لم يعرف فيه الاهمية والملاك .

( نعم ، لو اتفق لاحدهما او لثالث علم بتوجه الخطاب اليه ) خرج مما نحن فيه و (دخل في ) بحث ( اشتباه متعلق التكليف الذي تقدّم حكمه باقسامه ) .

( و ) حيث ذكرنا الحكم ( لابأس بالاشارة الى بعض فروع المسألة ) من الموارد التي يحصل لاحدهما او لثالث علم تفصيلي بتوجه الخطاب اليه مما يلزم عليه الاطاعة ، فان حصول العلم الاجمالي اولاً ، لا يصحّح مخالفة العلم التفصيلي الحاصل لاحدهما او لثالث ثانيا ، اذ العلم متى ما حصل وجب اتباع الحكم فيه .

وذلك ( ليتضح ) بسبب هذه المصاديق ( انطباقها ) اي انطباق هذه الفروع التي نذكرها ( على ماتقدّم ) من الكبرى الكلية ( في العلم الاجمالي بالتكليف ) لان ذكر الصغريات لبيان انطباق الكبرى عليها ، يوجب تدريب الذهن وتمرين الفكر ، حتى يعرف الانسان الاشتباه والنظائر اين ماوجدها .

( فمنها ) اي من تلك الفروع ( : حمل احدهما ) اي احد الجنبين او الحائضين

ص: 337

الآخر وإدخاله في المسجد للطواف او لغيره ، بناء على تحريم ادخال الجنب او إدخال النجاسة الغير المتعدّية .

-----------------

- كما تقدّم مثال الحيض - او ما اشبه ( الاخر وادخاله في المسجد ) الحرام ( للطواف او لغيره ) فان دخول الجنب في المسجد الحرام محرم مطلقا ، وكذا في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، بخلاف سائر المساجد حيث يحرم المكث فيها - كما قرر في الفقه - وذلك ( بناءا على تحريم ادخال الجنب ، او ادخال النجاسة غير المتعدية ) في المسجد ، اما النجاسة المتعدية ، فلا اشكال في حرمة ادخالها .

وانّما قال : « بناءا » لان هناك احتمالين :

الاول : ان المحرم دخول نفس الجنب فقط ، لا ادخال الجنب ، وعلى هذا : فلا يحرم حمل احدهما الآخر ، لانه لايقين للحامل بانه فعل الحرام ، اذ لو كان المحمول جنبا لم يكن ادخاله المسجد محرما والعلم الاجمالي انّما يؤثر اذا كان كل طرف من الاطراف موجبا لحكم الزامي .

الثاني : انه كما يحرم دخول الجنب يحرم ادخال الجنب ايضا ، والفرع الذي نحن فيه مبني على الثاني ، لان الحامل ان كان جنبا حرم عليه الدخول ، وان كان متطهّرا حرم عليه ادخال حمله ، لانه جنب - على هذا التقدير - وقال الفقهاء بالثاني ، لان الملاك العرفي موجود في الادخال ، ومثل هذه المسألة ما اذا حمل احدهما الآخر ومكثا في المسجد غير المسجدين من سائر المساجد .

ثم لايخفى ان قوله : « ادخال النجاسة غير المتعدية » يراد بها : اثر الاحتلام من الخبث الذي يبس في بدن او لباس احدهما بحيث لايسري الى المسجد ، لكن هذا الكلام لايأتي فيما اذا تطهر كلاهما عن الخبث - كما هو واضح - او كانت الجنابة بالادخال او الدخول بلا انزال .

ص: 338

فان قلنا إنّ الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة ، دخل في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلاً وإن تردّد كونه من جهة الدخول والادخال .

-----------------

( فان قلنا : ان الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة ) كما هي في احدى الاحتمالات ، اذ في المسألة ثلاثة احتمالات :

الاول : ان الدخول والادخال حركة واحدة ، لكن من حيث نسبة هذه الحركة الى الحامل يسمى دخولاً ، والى المحمول يسمّى ادخالاً ، كالكسر الواقع بين الكاسر والمكسور ، فنسبتها الى الاول كسر ، والى الثاني انكسار .

الثاني : ان الدخول والادخال حركتان ، لكن لهما جهة مشتركة .

الثالث : انهما حركتان ، وليس لهما جهة مشتركة .

فعلى الأول والثاني : يكون الامر من العلم التفصيلي ، لان الحامل - على كلا التقديرين - يعلم ان هذه الحركة محرمة .

وعلى الثالث : يكون الامر من العلم الاجمالي ، لانه يعلم اما حركته او حركة محموله - المسبّبة من حركته له - محرمة ، فيكون كما اذا صب باليدين انائين ، احدهما نجس ، في المسجد ، حيث يعلم اجمالاً بانه اما حركة يده اليمنى محرمة ، او حركة يده اليسرى .

وعلى ايّ حال : فاذا كانت الحركة الشخصية للحامل مصداقا للدخول والادخال - وهذا هو الاحتمال الاول - ( دخل ) هذا الفعل وهو الحركة ( في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلاً ) لانه يعلم انها محرمة اما لعنوان الدخول أو لعنوان الادخال ( وان تردد ) الحرام بين ( كونه ) حراما ( من جهة الدخول والادخال ) فيكون حاله حال المرأة التي يعلم كونها محرمة عليه ، لكن يتردد في ان الحرمة لكونها اخته من الرضاعة او لانها ام زوجته .

ص: 339

وإن جعلناهما متغايرين في الخارج ، كما في الذهن : فان جعلنا الدخول والادخال راجعين إلى عنوان محرّم واحد ، وهو القدرُ المشتركُ بين إدخال النفس وإدخال الغير ، كان من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيليّ ، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس .

وإن جعلنا كلاً منهما عنوانا مستقلاً

-----------------

الاحتمال الثاني : هو ما اشار اليه بقوله :

( وان جعلناهما ) ايّ الدخول والادخال فعلين متعددين ( متغايرين في الخارج ) فهما امران - وان كانا بصورة امر واحد - .

( كما ) انهما متغايران ( في الذهن ) كتغاير الحيوان والناطق في الذهن .

وعليه : فالعامل يعلم اجمالاً حرمة احد الفعلين : اما فعل الدخول او الادخال ( فان جعلنا الدخول والادخال راجعين الى عنوان محرم واحد ) فالدخول والادخال كلاهما ادخال ، لكن احدهما ادخال النفس والآخر ادخال الغير .

( و ) هذا الادخال ( هو القدر المشترك ) الجامع ( بين ادخال النفس وادخال الغير ) فكأنّ فردين من جامع محرم اندكّا في فرد واحد ، فهذا الفرد الواحد ( كان ) بلحاظ آخر فردان كالاحتمال السابق يكون ( من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيلي ) لانه قد ادخل الجنب في المسجد ، سواء بادخال النفس او بادخال الغير ( نظير ارتكاب ) الانائين ( المشتبهين بالنجس ) اذا صبهما بحركة واحدة في المسجد ، فان هذا الصب حرام تفصيلاً ، اما لنسبته الى الاناء الاحمر ، او لنسبته الى الاناء الابيض .

الاحتمال الثالث : اشار اليه بقوله ( وان جعلنا كلاً منهما ) اي الدخول والادخال (عنوانا مستقلاً ) فهما امران مستقلان ، وحيث لا اتحاد حقيقة - كما في الاحتمال

ص: 340

دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدّمة .

وكذا من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه او فرض عدمها ، فانه علم اجمالاً صدور أحد المحرّمين إمّا دخول المسجد جنبا أو استيجار جنب للدخول في المسجد ،

-----------------

الاول - ولا جامع - كما في الاحتمال الثاني - ( دخل ) الفعلان ( في المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال ) فانه قد فعل احد الحرامين ، اما دخول الجنب ، أو ادخال الجنب ( الذي عرفت فيه ) اي في هذا الخلاف بارتكاب شيئين احدهما محرم ( الوجوه ) الاربعة ( المتقدمة ) ومضى فيها ان الاقوى هو الحرمة .

هذا تمام الكلام في الحامل ، وانه فاعل للحرام التفصيلي او الحرام الاجمالي ، اما بالنسبة الى المحمول الذي استأجر الحامل ليدخله المسجد ، فانه ايضا فاعل للحرام اجمالاً ، وذلك اما من جهة دخوله اذا كان هو بنفسه جنبا ، او من جهة استيجاره اذا كان حامله جنبا والى هذا أشار بقوله : ( وكذا ) يتحقق الحرام في جانب المحمول ( من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل ) .

نعم ، اذا ادخله بدون استيجاره ، لم يعلم المحمول انه فعل حراما اجمالاً ، لانه لم يسبب دخول الحامل بالاستيجار .

هذا ( مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه ) اي على الحامل ، فانه سواء فرضنا ان الحامل حرام عليه ( او فرض عدمها ) اي عدم الحرمة على الحامل ( فانه ) اي المحمول ( علم اجمالاً : صدور احد المحرمين ) منه ( إمّا دخول المسجد جنبا ، او استيجار جنب للدخول في المسجد ) وكذا اذا لم يستأجره

ص: 341

الاّ ان يقال بأنّ الاستيجار تابع لحكم الأجير ، فاذا لم يكن هو في تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول في المسجد صحّ استيجارُ الغير له .

-----------------

وانّما امره بذلك ، فنفذ الحامل الامر ، لان الامر بالمنكر حرام ، فالمحمول يعلم انه اما دخل جنبا واما امر بالمنكر .

( الا ان يقال ) : ان المحمول لايعلم بارتكاب احد المحرمين ، لان الحامل يجوز له الدخول - من جهة اجرائه البرائة - والمحمول استأجر من يجوز له الدخول ( ب- ) سبب ( ان الاستيجار تابع لحكم الاجير ) فمن جاز له الدخول في المسجد لاجرائه الاصل ، او لفرض قطعه بانه ليس بجنب ، جاز للغير ايضا استيجاره ، ومن لايجوز له الدخول في حدّ نفسه ، ولو باجرائه الاصل ، كما اذا كان جنبا ثم شك في انه تطهر ، فاجرى اصل عدم التطهر ، لايجوز للغير استيجاره ، وحيث ان الاجير في المقام شاك في جنابة نفسه ، جاز له الدخول فجاز للغير استيجاره .

( فاذا لم يكن هو ) اي الاجير الحامل ( في تكليفه ) في حدّ نفسه ( محكوما بالجنابة ، وابيح له الدخول في المسجد ، صح استيجار الغير له ) من غير اشكال .

لكن المستظهر فقهيا : ان كل واحد من الحامل والمحمول لايحق له ذلك ، حيث انه يعلم بارتكاب الحرام في الجملة ، والتفصيل في الفقه .

ومما تقدّم ، يعرف حال شخصين كان احدهما جنبا فاستأجرهما ثالث للعبادة عن ميّته ، او ليحجّا حجين عن ميته ، او يقضيا الصيام عنه ، او استأجرهما لكنس المسجد ، او علم بان احدى المرأتين اخت احد الرجلين من الرضاعة ، ومع ذلك زوجهما لهما ، او علم بان احد المالين غصب لايملكه المستولي عليه ، ومع ذلك

ص: 342

ومنها : اقتداءُ الغير بهما في صلاة او صلاتين .

فان قلنا بأنّ عدمَ جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية ، كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيليّ ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الانائين ،

-----------------

اجرى صيغة البيع عن كلا المالين ، الى غيرها من الامثلة الكثيرة .

نعم ، فيما اذا كان الطرف يعتقد بدين يرى حليّة هذه الاُمور ، جرت فيه قاعدة الالزام ، على ماذكر في محله .

( ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة ) واحدة ، كما اذا صلّى مقتديا بامام ثم حدث للامام حدث فاستناب هو ، او اناب المأمومون مكانه آخر ، وكان احد هذين الامامين جنبا قطعا ( او ) في ( صلاتين ) كأن صلّى الظهر مع زيد ، والعصر مع عمرو .

( فان قلنا : بان عدم جواز الاقتداء من احكام الجنابة الواقعية ) فالجنابة حيث انها حدث ، فالصلاة باطلة مع الجنابة ، اماما كان الجنب او مأموما بخلاف الخبث حيث انه مبطل مع العلم ، لا مع الشك والجهل - كما قرر في الفقه - لاختلاف دليلهما من هذه الجهة ( كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة ، موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة ) فيما اذا لم يأت المأموم بتكليف المنفرد ، والا لم يكن وجه للبطلان .

أو كانت الصلاة صلاة الجمعة - مثلاً - حيث ان صحتها مشترطة بالجماعة ، والا فبطلان صلاة الامام لايوجب بطلان صلاة المأموم .

( و ) على البطلان ، يكون ( الاقتداء بهما ) اي بامامين ( في صلاتين من قبيل ارتكاب الانائين ) لعلمه الاجمالي : بانه اما بطلت ظهره او عصره ، وهكذا

ص: 343

والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الانائين .

وإن قلنا إنّه يكفي في جواز الاقتداء عدمُ جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ الاقتداء في صلاة ، فضلاً عن صلاتين ، لأنّهما طاهران بالنسبة الى حكم الاقتداء .

والأقوى هو الأوّل ، لأنّ الحدث مانع

-----------------

في سائر الصلوات .

( و ) يكون ( الاقتداء باحدهما ) فقط اي باحد الامامين المردّدين في كون احدهما جنبا ( في صلاة واحدة ، كارتكاب احد الانائين ) فاذا شك في صحتها ، كان الاصل الاشتغال ، الاّ على مذهب من يقول : بجواز الارتكاب في احد اطراف الشك لكنّا لم نختره فيما سبق .

( وان قلنا : انه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص ) الذي هو الامام ( في حكم نفسه ) فاذا راى الامام نفسه طاهرا صح الاقتداء به ، وان كان في الواقع جنبا كما في الخبث ، فانه يصح الاقتداء بالامام اذا كان بدنه او لباسه نجسا مع عدم العلم به .

وعلى هذا ( صح الاقتداء ) بالامامين ( في صلاة ) واحدة ( فضلاً عن صلاتين ) لان أيّا منهما لايرى نفسه جنبا ، وقد عرفت : ان المعيار في عدم جواز الاقتداء ، هو ان يرى الامام نفسه جنبا ( لانهما ) معا ( طاهران بالنسبة الى حكم الاقتداء ) فان المانع الجنابة المعلومة للمكلف الذي هو الامام ، والحال ان احدا من الامامين لايعلم بجنابته .

( والاقوى ) فقهيا : ( هو الاول ) اي عدم جواز الايتمام لا بصلاة واحدة ولا بصلاتين ( لان الحدث ) في باب الايتمام - حسب ما يستفاد من ادلته - ( مانع

ص: 344

واقعيّ لا علميّ .

نعم ، لا إشكال في استيجارهما لكنس المسجد ، فضلاً عن استيجار أحدهما ، لأنّ صحّة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما ، لا للطهارة الواقعيّة ، والمفروضُ إباحتُه لهما .

وقِس على ماذكرنا جميعَ ما يرد عليك

-----------------

واقعي لا ) مانع ( علمي ) .

وكذلك فيما اذا علم المأموم : أن احد الامامين الذي يقتدي بهما في صلاة واحدة ، او في صلاتين ، غير متوضيء ، لان الوضوء شرط واقعي لاشرط علمي ، وقد تقدّم : ان حال الحيض كحال الجنابة ، فيما اذا اقتدت المرأة بمرأتين في صلاة واحدة ، او في صلاتين ، الى غير ذلك .

( نعم ، لا اشكال في استيجارهما ) معا ( لكنس المسجد ، فضلاً عن استيجار احدهما ) وانّما قال : « فضلاً » لانه في استيجارهما يعلم تفصيلاً بادخاله الجنب في المسجد ، بينما ليس كذلك في استيجار احدهما ، فانه لايعلم بل يحتمل انه ادخل الجنب المسجد ( لان صحة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما ) اي لكل من الاجيرين في حدّ نفسه ، والاجير يباح له الدخول ، لان الطهارة الحديثة شرط علمي في الاستيجار ، لاشرط واقعي ، ولذا قال : ( لا للطهارة الواقعية ) كما هي شرط في الصلاة ، هذا ( والمفروض اباحته ) اي الدخول ( لهما ) اي لكل من الاجيرين الذين يعلم المستأجر إن احدهما جُنب .

لكن لايخفى : ان ظاهر ادلة الشرط هو : الواقعية ، الاّ ان يدل دليل خاص على علمية الشرط في الاستيجار ، ووجود دليل خاص متوقف على التتبع والتأمّل .

( وقس على ماذكرنا جميع مايرد عليك ) من الفروع في العلم الاجمالي ،

ص: 345

مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب ، من حيث الحدث الواقعيّ ، وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب ، من حيث انّه مانع ظاهريّ للشخص المتّصف به .

-----------------

وحكم الذي يأتي بطرف واحد ، منه ، او بكلا الطرفين ، مع اختلاف الامثلة وكثرتها .

مثلاً : اذا علم القاضي بأنّ أحد هذين الرجلين أخ لهذه المرأة من الرضاعة ، فهل يتمكن من عقدها لاحدهما ، فيكون الاتيان بطرف ؟

أو يعقدها لهما : كما اذا طلقها الاول ، ثم عقدها القاضي للثاني ، حيث في الاول يحتمل انه عقد الاخ على اخته ، وفي الثاني يعلم بانه عقدها للاخ ، فان هذه المسألة اشكل من مسألة النجاسة في الصلاة ، لما ورد من الاحتياط الشرعي في الفروج .

وفي مسألة الجنب يجب ان يكون المكلّف ( مميّزا بين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي ) وان الواقع هو المعيار ( وبين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث انه مانع ظاهري) فالشرط علمي (للشخص المتصف به ) او لغيره .

وهكذا في كل مورد مورد يجب ملاحظة ادلة ذلك المورد ، وانه ما هو المستفاد منها في كل الاحكام الوضعية والتكليفية له او لغيره اذا علم بنفسه او علم من يرتبط ذلك به .

مثلاً : لو اعتقد الاب بانه طاهر وصلّى ثم مات ، فهل يجب على ولده الاكبر مع علمه بان اباه كان غير متوضيء او غير مغتسل ، او كان متوضيا او مغتسلاً بماء نجس قضاء تلك الصلاة عنه ؟ وهكذا في حجّه ، وصومه ، وما أشبه ذلك ،

ص: 346

الخنثى

وأمّا الكلامُ في الخنثى :

-----------------

كل حسب فقده الشرط ، او الجزء ، او وجود مانع او قاطع فيه .

وهكذا حال ما اذا علم المأموم في صلاة الجمعة علما اجماليا او تفصيليا : بأنّ امامه ، او هو او احد المأمومين جنب ، حيث اذا نقص من العدد بطلت الجمعة ، لانها متوقفة على عدد خاص : خمسة او سبعة ، الى غير ذلك مما هو كثير .

الخنثى

( واما الكلام في الخنثى ) المشكل ، فانه مبتلى بالعلم الاجمالي في نفسه ، لانه ان كان ذكرا حرم عليه ان يكون زوجة ، وان كان انثى حرم عليه ان يكون زوجا ، الى غير ذلك من الاحكام ، والكلام فيه كون في الموضوع تارة ، وفي الحكم اخرى :

الاول : في انه هل الخنثى طبيعة ثالثة ؟ يعني : انه لاذكر ولا انثى ، بل هو شيء ثالث ، او انه احدهما ؟ .

الثاني : في انه على تقدير كونه احدهما ، كيف يميّز ذلك حتى يكون حكمه حكم المتميّز من الذكر أو الانثى ؟ وعلى تقدير كونه طبيعة ثالثة ، ماهي احكامه ؟ .

ظاهر الاية الكريمة : انه احدهما لا طبيعة ثالثة ، قال سبحانه : « يَهِبُ لِمَن يَشاءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذّكُور » (1) .

واما ما ورد : من انه يعطى نصفي الذكر والانثى في الارث ، فمن باب قاعدة

ص: 347


1- - سورة الشورى : الآية 49 .

...

-----------------

العدل وهو كذلك في كل مورد مالي مشتبه ، كما اذا مات الوارث قبل القسمة وترك وارثا ، ولم نعلم ان الوارث كان ذكرا او انثى ، وهكذا في سائر موارد الاشتباه المالي .

وقاعدة العدل وان لم نجد بها رواية بهذا اللفظ ، الاّ انها مستفادة من روايات متعددة فوق العشرة ، في مختلف الابواب ، مما يفهم منها الملاك عرفا .

ثم نرجع الى الخنثى ، فنقول : هو إما ذكر أو انثى ، فان عرفنا انه ايهما بالقواعد المقررة في الفقه ، فلا كلام ، وان لم نعرف انه ايهما بها ، وانّما عرفنا ذلك بسبب العلم الحديث - مثلاً - فلا اشكال ايضا من جهة العلم .

واما وان لم نحصل على دليل او علم ، فهل الميزان : القرعة ، كما قال به بعض ؟ .

او انه مكلف باجراء الاحكام المشتركة دون الاحكام المختصة - إذ له البرائة منها - كما هو احتمال ؟ .

او انه يحتاط بالجمع بين امرين بأن لايتزوج - مثلاً - ولا يتزوج به ، وهكذا كما قال به جمع ؟ .

او انّ اختيار جعل نفسه ذكرا او انثى بيده كما قال به بعض ؟ .

احتمالات ، والاقرب عندنا : الاخير ، « لان الناس مسلّطون على انفسهم » (1) الا ما خرج قطعا ، وليس المقام مما خرج بالقطع .

هذا ، بالاضافة الى ان في الجمع بين الحكمين : عسر أكيد وحرج شديد ، والقرعة : بحاجة الى العمل ، بل وظاهر رواية اعطائه نصف النصيبين ، ينفي

ص: 348


1- - مستفاد من قوله تعالى : « النّبي اولى بالمؤمنين من انفسهم » سورة الاحزاب : الآية 6 .

...

-----------------

القرعة ايضا ، والبرائة معناها : ان له ان يتزوج ويتزوج به وهو ضروري العدم ، والكلام في هذا الباب طويل ، وانّما كان قصدنا الالماع فقط ، غير انه بقي هنا امران ، لابأس بالاشارة اليهما :

الاول : لايبعد ان ماورد في بعض الروايات : من حساب الاضلاع ان يكون من باب التقية ، او من باب الالزام ، ومن باب كلّم الناس على قدر عقولهم ، شياعه بين الناس ، وذلك لانه قد شهد جماعة من ذوي الاختصاص في التشريح : بانه لاتفاوت بين اضلاع الرجل والمرأة ، اللهم الاّ ان يكشف العلم صحة ذلك الذي ورد في الروايات ببعض الوجوه المحتملة .

الثاني : قد اشتهر في بعض المطبوعات : ان بعض علماء الطب تمكن من قطع رأس قرد وزرعه على جثة قرد آخر وكذلك في الكلب ، وقد عاش الحيوان المركب منهما .

وانهم اليوم بصدد اجراء هذا الامر في الانسان ، فان صح ذلك وتحقق في المستقبل ، فهل هذا الانسان المركب من رأس زيد وبدن عمرو ، محكوم بحكم زيد او بحكم عمرو ؟ او انسان ثالث ؟ او يتبّع حكم مداركه في انها بعد التركيب مدارك زيد او مدارك عمرو ؟ او انه كالخنثى المشكل ؟ .

احتمالات ، وان كان لايبعد انه بحسب الرأس اذا بقيت مداركه على ما كانت عليه قبل التركيب فرأس زيد ، زيد سواء كان على جسده ، او جسد عمرو ، فكما ان تغيير كل اجزاء بدنه من يده ، او رجله او قلبه ، او ما اشبه ، لا يغير حقيقة كونه زيدا كذلك تغيير كل بدنه ، فلو فرض انا زرنا ابن سينا ورأيناه يعقل ويتكلم كما كان ، لا يهمنا انه على بدنه السابق او بدن جديد ، فان الناس يتعاملون معه بعد

ص: 349

فيقعُ تارةً في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكوريّة والانوثية او مجهولهما ، وحكمها بالنسبة الى التكاليف المختصّة بكلّ من الفريقين ، وتارة في معاملة الغير معها ،

-----------------

اجراء العملية وفي جميع الخصوصيات على ما كانوا يتعاملون معه قبل اجراء العملية .

نعم ، لو فرض - وهذا فرض في فرض - ان رأس الرجل ركب على بدن امرأة او بالعكس ، فالحكم يكون هنا اصعب .

وعلى ايّ حال : ( ف- ) الكلام في الخنثى ( يقع تارة في معاملتها مع غيرها ، من معلوم الذكورية والانوثية او ) معاملتها مع ( مجهولهما ) كخنثى مثله ، فهل له ان ينظر الى الرجل باعتباره رجلاً ، أو الى المرأة باعتبارها امرأة ؟ وهل له ان يتزوج بالمرأة او يزوّج بالرجل ؟ واذا كان هناك خنثى مثله ، فهل يتزاوجان بينهما ام لا ؟ وما حال الارث ؟ الى غير ذلك .

( و ) هكذا يقع الكلام في ( حكمها بالنسبة الى التكاليف المختصة بكل من الفريقين ) فهل يجب عليها الجهر - مثلاً - في اماكن الجهر ، كما هو حكم الرجل ؟ ام لا ، كما هو حكم المرأة ؟ كذلك بالنسبة الى وجوب الجمعة ، والجهاد ، وكون الدم حيضا وانعتاق المحارم بمجرد ملكه لهم ، وحرمة او حلية لبس الحرير والذهب ، ووجوب ستر جميع البدن في الصلاة ، الى غيرها من الاحكام المختصة .

اما الاحكام المشتركة كاصل الصوم ، والصلاة والحج ، والمعاملات ، والاوقاف ، ونحوها ، فلا كلام فيها .

( وتارة في معاملة الغير معها ) اي مع الخنثى فهل يجوز للرجل أو المرأة

ص: 350

وحكم الكل يرجع الى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به .

أمّامعاملتُها مع الغير ، فمقتضى القاعدة احترازُها عن غيرها مطلقا ، للعلم الاجماليّ بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين ، فيجتنب عنهما مقدّمةً .

-----------------

-

مثلاً - ان ينظر اليها ، او يتزوج بها زوجة او زوجا او يقلدها ، او يتقاضى اليها ،

او يأتم الرجل بها في الصلاة الى غير ذلك .

ولا يخفى ان الخنثى يستعمل مذكرا ومؤنثا ، كما ان بعض الالفاظ كذلك ، قال ابن حاجب :

اما التي قد كنت فيه مخيراً***هو كان سبعة عشر في التبيان

ولذا نرجع الضمير اليه مذكرا ومؤنثا .

( وحكم الكل ) منها بالنسبة الى تكاليف نفسها ، وبالنسبة الى تكليفها مع الغير ، وكذا تكليف الغير بالنسبة اليها ( يرجع الى ماذكرنا ) في باب العلم الاجمالي ( في الاشتباه المتعلق بالمكلف به ) لانها تعلم كونها رجلاً او امرأة ، فتعلم انها موظفة باحد التكليفين - حسب ماذكرناه في العلم الاجمالي - .

( اما معاملتها مع الغير : فمقتضى القاعدة ) السابقة في العلم الاجمالي من لزوم الموافقة القطعية ( احترازها ) اي الخنثى ( عن ) النظر والملامسة والمصافحة مع ( غيرها ) رجلاً كان ، او امرأة او خنثى ( مطلقا ، للعلم الاجمالي بحرمة نظرها الى

احدى الطائفتين فيجتنب عنهما ) وكذلك يجتنب عن اللمس والمصافحة ( مقدمة ) للتكليف المقطوع به بينهما .

واما اجتنابها عن الخنثى ، فلانه يحتمل ان يكون الناظر رجلاً ، والمنظور اليه امرأة ، أو بالعكس ، وهنا وان كان احتمال التساوي أيضا - مما يبيح النظر - فلا علم اجمالي بالحرمة ، الا ان كون التساوي هذا طرفا واحدا من الشبهة وهناك اطراف

ص: 351

وقد يتوهّم : « أنّ ذلك من باب الخطاب الاجماليّ ، لأنّ الذكور مخاطبون بالغضّ عن الاناث وبالعكس ، والخنثى شاكّ في دخوله في أحد الخطابين » .

-----------------

اخرى جعلته من موارد تحقق العلم الاجمالي الواجب فيه الموافقة القطعية ، وعلى هذا : فالشك في الخنثى شك في المكلّف به لا في التكليف المردد .

( وقد يتوهم ان ذلك ) الحكم للخنثى بحرمة نظرها الى الرجل والمرأة ( من باب الخطاب الاجمالي ) اي من قبيل من خرجت منه رطوبة مشتبة بين انها مني ، ليكون مخاطبا بالغسل ، او بول فهو مخاطب بالموضوع ، لا من باب المكلّف به المردد - كما اخترناه - الذي هو من قبيل من يعلم انه مخاطب بالصلاة تفصيلاً لكن لم يعلم ان المكلّف به هو الظهر او الجمعة .

وقرّب هذا التوهم بقوله : ( لان الذكور مخاطبون بالغض عن الاناث وبالعكس ) إذ الاناث ايضا مخاطبات بالغض عن الذكور ، فهنا خطابان ، والخنثى لايعلم هل انه داخل في هذا الخطاب او ذاك الخطاب ؟ فالخطاب مجمل ( و ) ذلك لان ( الخنثى شاك في دخوله في احد الخطابين ) قال سبحانه : « قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضّوا مِن أبْصارِهِم » (1) .

وقال تعالى : « وَقُل لِلمُؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبصارِهِنَّ » (2) .

فهنا خطابان ، والخنثى مشمول لاحدهما - بناءا على انه اما ذكر أو انثى - لا انه جنس ثالث .

علما بأن شك الخنثى في انه من الشك في المكلّف به ، او من الشك في التكليف ، له اثر عملي ، فقد قال في الاوثق : ثالث الاقوال في الخنثى : التفصيل

ص: 352


1- - سورة النور : الآية 30 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

والتحقيقُ هو الأوّلُ ، لأنّه علم تفصيلاً بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيليّ ، لاعبرةَ باجمال الخطاب - كما تقدّم في الدخول والادخال

-----------------

بين الشك في التكليف والشك في المكلّف به لجواز العمل بمقتضى اصالة البرائة في الاول ، ووجوب العمل بالاحتياط في الثاني ، فيجوز لها لبس الحرير والذهب في غير الصلاة ، وكذلك ترك الجهاد ، ولا يلحق بالدم الخارج منها حكم الدماء الثلاثة وهكذا .

ويجب عليها التستّر في الصلاة ، والاجتناب عن لبس الذهب والحرير فيها ، بناءا على كون الشك في الاجزاء والشرائط من قبيل الشك في المكلّف به ، واختاره صاحب الفصول بناءا على قصر وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة على ما اتحد نوع الشبهة ، والاّ فاختار الوجه الاول (1) .

( والتحقيق ) عند المصنف قدس سره ( هو ) الوجه ( الاول ) من كون الاشتباه في متعلق التكليف ( لانه ) اي الخنثى ( علم تفصيلاً بتكليفه بالغض عن احدى الطائفتين ) الذكور او الاناث ، فالخطاب وان لم يكن واحدا ، لانه في الآية خطابان ، لكن الخنثى علم من الخطابين علما تفصيليا بانه مكلّف ، ولذا لو سئل منه : هل أنت مكلّف ؟ قال : نعم .

كما اذا امر المولى زيدا باكرام عمرو ، وبكرا باكرام خالد ، فانه لو شك زيد بانه هل كلّف باكرام هذا او ذاك ؟ لايضر شكه في علمه التفصيلي بأنه مأمور بالاكرام ( ومع العلم التفصيلي ) للمكلّف ( لا عبرة باجمال الخطاب ) وانه مخاطب ب« يغضوا » او ب« يغضضن » ( كما تقدّم ) مثله ( في الدخول والادخال

ص: 353


1- - اوثق الوسائل : ص56 في بيان فروع مسألة الخنثى .

في المسجد لواجدي المنيّ - مع أنّه يمكنُ إرجاعُ الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو تحريمُ نظر كلّ إنسان إلى كلّ بالغ لايماثله في الذكوريّة والانوثيّة عدا من يحرم نكاحُه .

ولكن يمكن أن يقال :

-----------------

في المسجد لواجدي المني ) فانه يعلم بانه مكلف بالاجتناب ، وان لم يعلم ان الاجتناب لانه دخول او لانه ادخال ، الى غير ذلك من الامثلة .

( مع انه يمكن ) ان نقول بوحدة الخطاب ايضا - فلا يكون الخطاب مرددا ، وذلك لان الجامع بين الخطابين الجزئيين خطاب واحد ، كالحيوان الجامع بين الانسان والفرس ، فاذا لم يعلم ان في الدار انسانا او فرسا لا ينافي ذلك ان يعلم ان فيها حيوانا ، وكذا الجزئيات من الخطاب ، فانه يمكن ( ارجاع الخطابين ) : « يغضّوا » و « يغضضن » ( الى خطاب واحد ) هو الجامع بينهما .

( و ) الجامع ( هو : تحريم نظر كل انسان ) بالغ عاقل مختار ( الى كل بالغ لا يماثله في الذكورية والانوثية ، عدا من يحرم نكاحه ) حيث يحل النظر الى المحارم على التفصيل المذكور في الفقه ، وهناك من يحرم نكاحه لكن لايحل النظر اليهن ، كأخت الزوجة والخامسة واخت الملوط وبنته وامه للفاعل ، الا ان ذلك استثناء عن الاستثناء .

( ولكن يمكن ان يقال ) : بانه لايجب على الخنثى غض النظر عن الرجال وعن النساء ، لانه وان كان يجب الاطاعة في اطراف الشبهة من العلم الاجمالي ، كما يجب في العلم التفصيلي الا انه انّما يجب الاجتناب اذا لم يكن مجوز شرعي ، والمجوز الشرعي لنظر الخنثى الى الطائفتين هنا موجود وهو : العسر

ص: 354

إنّ الكفّ عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقّة عظيمة ، فلا يجبُ الاحتياط فيه ، بل العسرُ فيه أولى من الشبهة الغير المحصورة ، او يقال : إنّ رجوعَ الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعيّة ، لا في وجوب الموافقة القطعيّة ، فافهم .

-----------------

والحرج ف- ( ان الكف عن النظر الى ما عدا المحارم ، مشقة عظيمة ) وعسر شديد ( فلا يجب الاحتياط فيه ) اي في النظر ، بل يجوز له النظر اليهما .

( بل العسر فيه ) اي في عدم النظر ( اولى ) واشد ( من ) العسر في ( الشبهة غير المحصورة ) فاذا لم يجب الاحتياط في غير المحصور - كما سيأتي دليله - لايجب الاحتياط في الخنثى بطريق اولى .

( او يقال ) في وجه عدم حرمة النظر ( : ان رجوع الخطابين الى خطاب واحد ) كما قررتم في الوجه الثاني انّما هو ( في حرمة المخالفة القطعية ) فيحرم للخنثى النظر الى كلٍ من الرجل والمرأة معا ( لا في وجوب الموافقة القطعية ) فلا يجب كف نظره عنهما معا ، بل له ان يختار النظر اما الى الرجل ، او الى المرأة .

والحاصل : انه يكفيه اجتناب احدى الطائفتين مخيرا بينهما ، فيكون حاله حال الرجل فلا ينظر الى المرأة ، او حال المرأة فلا تنظر الى الرجل ، وذلك لما يأتي في دليل الاشتغال : من ان العلم الاجمالي مقتضٍ للأخذ باحدهما لا بكليهما .

( فافهم ) فان الجوابين محل تأمّل .

اما الجواب الاول : فان العسر انّما يرفع بقدره لا مطلقا ، فاذا كان لخنثى عسر دون خنثى ارتفع الحكم بالنسبة الى من هو عسر عليه دون الآخر ، وان كان العسر فيما اذا اراد الخنثى كف النظر عن مائة دون اربعين - مثلاً - حرم عليه النظر الى ما لا عسر فيه ، دون الباقي، وهكذا لو كان العسر في كف نظره الى الرجال فقط ،

ص: 355

وهكذا حكمُ لباس الخنثى ، حيث انّه يعلم اجمالاً بحرمة واحد من مختصّات الرجال ، كالمِنطقة والعِمامة او مختصّات النساء عليه ، فيجتنب عنهما .

-----------------

او الى النساء فقط .

واما الجواب الثاني : فقد عرفت - فيما سبق - : ان مقتضى العلم الاجمالي : الموافقة القطعية لا الاجمالية .

( وهكذا ) يجب الاحتياط في ( حكم لباس الخنثى ، حيث انه يعلم اجمالاً بحرمة واحد من مختصات الرجال ، كالمِنطَقة ) التي تشد على الوسط ، مما يختصّ بالرجال ، دون ما هو خاص بالنساء ( والعمامة ) وسائر الملابس الخاصة بالرجال .

( او مختصات النساء عليه ) كملابسهن الخاصة بهنّ ، حيث اذا لبسها الرجل قيل : انه تشبّه بالنساء .

لكن لايخفى : ان حرمة ملابس كل طائفة على الطائفة الاخرى محل كلام ، وقد ألمعنا الى ذلك في شرح العروة .

وعلى اي حال : ( ف- ) ان قيل بالحرمة ، فعلى الخنثى ان ( يجتنب عنهما ) من باب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي ، كما ان عليه ان يجتنب الحرير والذهب ، لاحتمال كونه رجلاً ، فانه وان لم يكن في قبالهما حرام على المرأة ، الا ان معنى الاحتياط في احتمال كون الخنثى رجلاً او امرأة : هو الاجتناب عن مختصات كل منهما ، فهو كما اذا علم الانسان بانه نذر اما صوما وصلاة ، او نذر صدقة ، فانه يجب عليه الاتيان بالجميع ، فلا يقال : ان الصوم في قبال الصدقة ، فيجب الاتيان بها ، أمّا الصلاة فلا قبال لها ، فالاصل البرائة منها .

ص: 356

وامّا حكمُ سِتارته في الصلاة ، فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه .

وأمّا حكمُ الجهر والاخفات ، فان قلنا بكون الاخفات في العشائين والصبح ، رخصةً للمرأة جهر الخنثى بها ،

-----------------

والحاصل : إن الخنثى ان كان رجلاً ، فعليه - مثلاً - مائة تكليف واجب وحرام ، وان كان امرأة ، فعليها - مثلاً - تسعون تكليفا ، فاللازم عليه الاتيان بالجميع ، لا الاتيان بمائة وثمانين ، بطرح عشرة لاصالة البرائة ، بدليل انه ليس في قبال العشرة في الجانب الآخر شيء .

( واما حكم ستارته ) اي تستّر الخنثى ( في الصلاة ، فيجتنب الحرير ) لاحتمال كونه رجلاً ، ( ويستر جميع بدنه ) لاحتمال كونه امرأة ، والمراد بجميع البدن : ما عدا الوجه ، والكفين ، والقدمين ، حيث لايجب سترها في الصلاة على المرأة .

( واما حكم الجهر والاخفات ) في الصلاة للخنثى ( فان قلنا : بكون الاخفات في العشائين والصبح ، رخصة للمرأة ) فهي مخيرة بين ان تخفت او تجهر ، تعيّن ( جهر الخنثى بها ) اي بصلاتي الصبح والعشائين ، لدوران الامر بين التعيين والتخيير ، بناءا على انه كلما دار الامر بينهما لزم التعيين ، فاذا دار الامر بين وجوب الجمعة فقط ، او التخيير بين الظهر والجمعة ، لزم الجمعة ، باعتبار انه اذا أتى بالجمعة ، أتى بالتكليف قطعا ، لانها واجبة اما تعيينا ، أو لانها أحد شقّي التخيير ، اما اذا أتى بالظهر لايعلم انه أتى بالواجب ، لاحتمال ان الجمعة هي الواجبة تعيينا .

وكذا في المقام ، فانه اذا جهر الخنثى ، فقد ادّى التكليف قطعا سواء كان الجهر واجبا تخييرا او تعيينا ، اما اذا اخفت ، كان من المحتمل انه لم يأت بالتكليف ، لاحتمال كون الواجب عليه تعيينا ، اما اذا اخفت ، كان من المحتمل انه لم يأت بالتكليف ، لاحتمال كون الواجب عليه تعيينا ، هو الظهر .

ص: 357

وإن قلنا إنّه عزيمةٌ لها ، فالتخييرُ ، إن قام الاجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها .

وقد يقال بالتخيير مطلقا ، من جهة ما ورد : من أنّ الجاهلَ في الجهر والاخفات معذورٌ .

-----------------

( وان قلنا : انه ) اي الاخفات في الصبح والعشائين ( عزيمة ) وفريضة ( لها ) اي للمرأة ، في قبال ان الجهر في تلك الصلوات فريضة على الرجل ، فيكون لهما تكليفان متقابلان ( ف- ) حكمه في الجهر والاخفات ( التخيير ) بان يصلي الصبح والعشائين جهرا او اخفاتا لاحتمال وجوب الجهر لكونه رجلاً ، ووجوب الاخفات لكونه امرأة ، لا ترجيح .

لكن يبقى ان مقتضى القاعدة : تكرار الصلاة جهرا واخفاتا ، للعلم الاجمالي ، لولا ( ان قام الاجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقها ) .

وهناك احتمال آخر وهو : ان يصلي صلاة واحدة ، لكن يكرر القرائة فيها جهرا واخفاتا وينوي احدى القرائتين للصلاة ، والاخرى من باب مطلق القرآن .

وقد نقل عن الميرزا النائيني قدس سره بانه شك ذات مرة في وجوب الجهر او الاخفات ، في ظهر يوم الجمعة ، ولم يسمح له الوقت للاجتهاد في المسألة ، فصلّى كذلك حتى تمكن من الاجتهاد ، وبنى على احد الطرفين .

لايقال : هذا ينافي حرمة الاقتِران .

لانه يقال : يمكن ان يقال ان الحرمة اذا قرئهما بنية الجزئية لا مطلقا .

( وقد يقال بالتخيير ) للخنثى في الجهر والاخفات ( مطلقا ) سواء قلنا بان الاخفات رخصة او عزيمة ( من جهة ماورد ) في الاخبار ( من ان الجاهل في الجهر والاخفات معذور ) بضميمة : ان الخنثى جاهل فهو معذور ، فاذا صلّى

ص: 358

وفيه - مضافا إلى أنّ النصّ إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى لزوم الاعادة لو خالف الواقعَ ، وأين هذا من تخيير الجاهل من أوّل الأمر بينهما ، بل الجاهل لو جهر او أخفى مترددا بطلت صلاتهُ ،

-----------------

جهرا وكان الواجب في الواقع الجهر ، فقد أدّى تكليفه ، وان كان الواجب الاخفات ، فهو معذور من جهة جهله .

( وفيه : مضافا الى ان ) ما ورد ، انّما يفيد : عدم وجوب الاعادة على الجاهل غير المقترن جهله بالعلم الاجمالي ، سواء كان جاهلاً بسيطا ، او جاهلاً مركبا بان قطع بالخلاف ، فاذا علم بالحكم بعد ذلك لم تجب عليه الاعادة وان كان ما أتى به على خلاف الواقع ، اذ الشارع رفع يده عن الواجب اولاً وبالذات لمصلحة ثانوية ، بينما لم يرفع اليد فيما اذا انكشف كونه محدثا .

فان ( النص انّما دلّ على معذورية الجاهل ) المركب ( بالنسبة الى لزوم الاعادة ) والقضاء ( لو خالف الواقع ) في كيفية القرائة ، فقرأ جهرا مكان الاخفات ، او اخفاتا مكان الجهر ( واين هذا ) الذي دل عليه النص ( من تخيير الجاهل ) ليشمل الجاهل المقترن جهله بالعلم الاجمالي ، كما في الخنثى ، او في غير الخنثى ، حيث يعلم بان الواجب عليه : اما جهر الصبح ، او جهر الظهر - مثلاً - فصلّى الصبح اخفاتا والظهر جهرا ، فلا يقال : بانه لاتجب عليه الاعادة .

وعلى ايّ حال : فاذا كان جاهلاً ( من اوّل الامر بينهما ) اي بين الجهر والاخفات ، لزم عليه تحصيل الواقع ان تمكن ، والاّ فالاحتياط وذلك لمقتضى العلم الاجمالي - كما في الخنثى - ( بل الجاهل ) البسيط ( لو جهر او اخفى مترددا ) في انه هل الواجب عليه هذا او ذاك ( بطلت صلاته ) ، وبطلانها : اما من جهة عدم تمشّي قصد القربة منه ، او من جهة عدم مطابقته للواقع - فيما اذا

ص: 359

إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم او العالم - : أنّ الظاهرَ من الجهل في الأخبار غيرُ هذا الجهل .

وأمّا تخييرُ قاضي الفريضة المنسيّة عن الخمس في ثلاثية ورباعيّة وثنائيّة ، فانّما هو بعدَ ورود النصّ في الاكتفاء بالثلاث

-----------------

لم يطابق الواقع - او من جهة لزوم الجزم في النية - على ما تقدّم - وهو مفقود هنا ( اذ يجب عليه الرجوع ) مع الجهل ( الى ) ما يحصل له ( العلم ) بالحكم ( او ) تقليد ( العالم ) لان الواجب على الانسان : ان يكون مجتهدا او مقلدا او محتاطا .

وعلى ايّ حال : فبالاضافة الى الاشكال السابق على : « قد يقال » ( ان الظاهر من الجهل في الاخبار ، غير هذا الجهل ) وهو الجهل بالحكم والجهل في الخنثى ليس جهلاً بالحكم ، وانّما هو جهل بالموضوع ، لانه لايعلم : انه رجل او امرأة .

( و ) ان قلت : ان المستفاد من الادلة ولو بالملاك : التخيير مطلقا ، لما جاء في مسألة الجاهل - المتقدمة - ولما ورد من ان من نسى صلاة ولم يعلم انها صبح ، او ظهر ، او عصر ، او مغرب ، او عشاء ؟ قضى ثنائية ، وثلاثية ، ورباعية ، والرباعية تكون عن الواقع ظهرا كان او عصرا او عشاءا ، وحيث لايعلم ان الرباعية التي فاتته ، كانت إحدى الظهرين حتى يقضيها اخفاتا او العشاء حتى يقضيها جهرا ، فهو مخير بين الجهر والاخفات .

قلت : الادلة لايستفاد منها الملاك ، اما في مسألة الجاهل ، فقد عرفت و ( اما ) مسألة ( تخيير قاضي الفريضة المنسية عن الخمس في ) الاتيان بصلاة ( ثلاثية ورباعية وثنائية ) اذا كان القضاء في الحضر ، وثنائية وثلاثية اذا كان القضاء في السفر ، لان الثنائية تقوم مقام محتمل الصبح ، والظهر ، والعصر ، والعشاء ( فانما هو ) تخيير ( بعد ورود النص ) الخاص ( في الاكتفاء ب- ) الصلوات ( الثلاث )

ص: 360

المستلزم لالغاء الجهر والاخفات بالنسبة إليه ، فلا دلالَة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا .

وأمّا معاملةُ الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كلّ من الرجل والمرأة إليها ،

-----------------

الظاهر بتخيير القاضي ، بين الجهر والاخفات في الرباعية ( المستلزم لالغاء ) الشارع ( الجهر والاخفات بالنسبة اليه ) اي الى قاضي الفريضة ، ومنه يتعدّى بالملاك الى من فاتته ظهر او عشاء ، او عصر او عشاء ، وحال الظهر او العشاء فيما ذكرناه ، حال من فاتته الصبح ، او الظهر ، او العصر ، في السفر ، حيث يقضي ركعتين مخيرا بين الجهر والاخفات ايضا .

اما التعدي الى مانحن فيه ، فلا ملاك قطعي ، فيكون من باب القياس ، وعليه : ( فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا ) .

هذا بعض الكلام في معاملة الخنثى مع نفسها في عباداتها ، ومع غيرها بالنظر ونحوه ( واما معاملة الغير معها ) فهل يعاملها كما يعامل الرجل ، او كما يعامل المرأة ؟ .

( فقد يقال : ) بالنسبة الى النظر - في غير المحارم فانه جائز كما لايخفى - ( بجواز نظر كل من الرجل والمرأة اليها ) وجوازه انّما هو من جهة انه جنس ثالث ، والغض يكون بين الجنسين .

وفيه اولاً : ان الكلام - كما تقدّم - يكون بناءا على انه احد الجنسين ، لا انه جنس ثالث .

ثانيا : انه على تقدير كونه جنسا ثالثا ، لايجوز ايضا النظر اليه من جهة الملاك كما لايجوز وطي احد من الرجل والمرأة فاعلاً او مفعولاً - لنفس ما ذكر

ص: 361

لكونها شبهةً في الموضوع ، والأصلُ الاباحةُ .

وفيه : أنّ عمومَ وجوب الغضّ على المؤمنات ، إلاّ عن نسائهن او الرجال المذكورين في الآية ، يدلّ على وجوب الغضّ عن الخنثى .

-----------------

من الملاك - (لكونها ) تعليل لجواز نظر الرجل والمرأة اليه ( شبهة في الموضوع ) لان الناظر لا يعلم ان الخنثى جنس مخالف حتى حرم النظر اليه ( والاصل ) في الشبهات الموضوعية ( الاباحة ) بدون الفحص ، فاذا شك في مايع انه خمر أم لا ؟ شمله : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ ... » (1) .

وكذا اذا شك الرجل او المرأة ، في ان الخنثى جنس مخالف حتى يحرم النظر اليه ، اجرى الاباحة الموجبة لجواز نظره اليه ، وهكذا .

( وفيه : ) انه لاتصل النوبة الى الشك ، لوجود العموم في المقام ف( ان عموم وجوب الغض على المؤمنات ، الاّ على نسائهن ، او الرجال المذكورين في الاية ) قال سبحانه : « وَقُل لِلمؤمِناتِ يَغضُضنَ مِن أبصارِهِنَّ ، وَيَحفَظْنَ فروجَهُنَّ ، وَلايُبدِينَ زِينَتَهُنَّ ... إلاّ لِبعولَتِهِنَّ ، أو آبائِهِنَّ ، أو آباءِ بعولَتِهِنَّ ، أو أبنائِهِنَّ ، أو أبناءِ بعولَتِهِنَّ ، أو إخوانِهِنَّ أو بَني إخوانِهِنَّ ، أو بَني أخَواتِهِنَّ أو نِسائِهِنَّ ، أو ما مَلَكَت أيمانُهُنَّ ، أو التّابِعينَ غَيرَ اُولِي الاربَةِ مِنَ الرِّجالِ ... » (2) .

فانه ( يدل على وجوب الغضّ ) منهن ( عن الخنثى ) للعموم ، والاستثناء لم يذكر الخنثى .

وعلى هذا : فلا يجوز للمرأة النظر الى الخنثى .

ص: 362


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص266 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها ، كتحريم نظرها إليهما .

بل ادّعى سبطه الاتفاق على ذلك ، فتامّل جيدا .

-----------------

وكذا لايجوز ان ينظر الرجل اليها ، لعموم الغض بدون اخراج الخنثى ، قال سبحانه : « قُل لِلمؤمِنِينَ يَغُضّوا مِن أبصارِهِم وَيَحفَظوا فُروجَهُم ... » (1) وخروج النساء المحارم بدليل خاص ، وليس في استثناء الخنثى ، ولذا يجب على الرجل الغض عن الخنثى ايضا .

( ولذا حكم ) المحقق الكركي قدس سره ( في جامع المقاصد ) وهو شرح قواعد العلامة قدس سره ( بتحريم نظر الطائفتين ) الرجال والنساء ( اليها كتحريم نظرها ) الخنثى ( اليهما ) .

ومنه يعلم : وجه حرمة نظر الخنثى الى خنثى مثله ، لانه لايعلم الناظر كون المنظور اليه من الاستثناء ( بل ادعى سبطه ) وهو المير الداماد قدس سره ( الاتفاق ) من العلماء ( على ذلك ) اي على حرمة نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى .

وبهذا ظهر انه ليس المقام من التمسك بقاعدة الحل ، اذ ليس الامر من الشك في الشيء ، بل مما قام عليه الدليل ، ( فتأمل جيدا ) .

وقال الشيخ قدس سره في الهامش : « وجهه : ان الشك في مصداق المخصص المذكور ، فلا يجوز التمسك بالعموم » ، لانه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

« ويمكن ان يقال » - في حرمة نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى - : « ان ما نحن فيه ، من قبيل ما تعلق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج

ص: 363


1- - سورة النور : الآية 30 .

ثمّ إنّ جميعَ ماذكرنا إنّما هو في غير النكاح ، وأمّا التناكحُ ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ،

-----------------

ولو بين شخصين » فليس المقام من قبيل واجدَي المني ، ونفهم غرض الشارع هذا من جهة أهمية الفروج ، والنظر واللمس تابع لها « فترخص كل منهما » الرجل والمرأة « للمخالطة » من الشارع باللمس ، والنظر ، والمفاكهة ، وما اشبه ، كما يجوز للرجال مع الرجال ، والنساء مع النساء « مخالف لغرضه المقصود : من عدم مخالطة الاجنبي مع الاجنبية ، ولا يرد النقض بترخيص الشارع ذلك » التخالط « في الشبهة الابتدائية ، ف- » انه ليس المقام من الشبهة الابتدائية ، بل « مانحن فيه ، من قبيل ترخيص الشارع لرجلين تزويج كل منهما لاحدى المرأتين ، اللتين يعلم اجمالاً انهما اختان لاحد الرجلين » فانه لايجوز ذلك ، لان الفروج مما يحتاط فيها « فافهم » فان مسألة الحرمة في المقام ليس مثلها في مقام الفروج ، فان النظر لايقاس بالفروج .

( ثم ان جميع ماذكرنا ) من احكام الخنثى ( انّما هو في غير النكاح ) باقسامه الاربعة : الدائم ، والمنقطع ، وملك اليمين ، والتحليل ( واما التناكح : فيحرم بينه وبين غيره قطعا ) لعلمه الاجمالي بحرمة احدى الطائفتين له .

فاللازم عليه بمقتضى العلم الاجمالي الاجتناب عن كلتيهما ، فهو كمن يعلم ان احدى المرأتين اخته من الرضاعة ، او كامرأة تعلم ان احد الرجلين اخوها من الرضاعة .

والاستدلال بالاصلين كما ذكره المصنّف قدس سره لايخفى مافيه ، حيث انهما لايجريان مع العلم بانتقاض احدهما ، الاّ على بعض الوجوه المتقدمة مما كان لايخلو من اشكال .

ص: 364

فلا يجوز لها تزويجُ امرأة ، لأصالة عدم ذكوريّته - بمعنى عدم ترتّب الأثر المذكور من جهة النكاح ، ووجوب حفظ الفرج ، إلا عن الزوجة وملك اليمين - ولا التزوّجُ برجل ، لأصالة عدم كونه امرأة ؛ كما صرّح به الشهيد .

-----------------

وعلى اي حال : ( ف- ) قد قال قدس سره : انه ( لايجوز لها تزويج امرأة ) دواما ، او متعة ، او ملك يمين ، او تحليل ، ( لاصالة عدم ذكوريته ) لابمعنى اصالة العدم الازلي ، التي هي محل كلام الاعلام ، بل ( بمعنى عدم ترتب الاثر المذكور ) اي اثر الزوجية ( من جهة ) صيغة ( النكاح ) او البيع في الأمة ، او التحليل .

( و ) حيث لا اثر ، فعمومات المنع تشمله ، ل- ( وجوب حفظ الفرج الاّ عن الزوجة ، وملك اليمين ) فانه شامل للكل ، ولا نعلم خروج هذا الفرد بسبب اجراء صيغة النكاح ، او التحليل ، او البيع ، ونحوه .

لكن لايخفى : ان هذا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

( ولا التزوّج برجل ، لاصالة عدم كونه امرأة ) على التقريب السابق .

والحاصل : ان الزوجية ، لم تكن حاصلة قبل العقد والتحليل ، فيستصحب عدمها ( كما صرح به الشهيد ) الاول .

لايقال : عدم التزويج عسر وحرج .

لانه يقال : اولاً : يمكن للخنثى الاستمناء لو فرض الحرج ، فانه اخف الحرامين ، واذا دار الامر بينهما قدم اخفهما ، كما اذا دار امره بين ان يشرب الماء الملاقي للنجس ، او الخمر .

وثانيا : اذا فرض الحرج بدون الزواج ، فاللازم الاقتصار على قدره ، لان الضرورات تقدر بقدرها ، ثم اذا اضطر بين زوج او زوجة ، فهل يتساويان او يقدم احدهما ؟ .

ص: 365

لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا او زوجةً ،

-----------------

لا يبعد الاول ، لانه لا دليل على اهمية احدهما بحيث يمنع عن النقيض .

( لكن ) هذا الكلام من الشهيد قدس سره وغيره في عدم تزوجه بأي منهما ، ينافي ما ذكر الشيخ ) قدس سره من ( مسألة : فرض الوارث الخنثى المشكل ، زوجا أو زوجة ) وفي بعض بالواو « زوجا وزوجة » وعلى تقديره ، فان ظاهره جواز كليهما له ، ولا يحضرني كلام الشيخ قدس سره حتى ارى هل ان مراده : كون كليهما للخنثى في وقت واحد ، كما حدث في زمان الامام علي عليه السلام حسب بعض الروايات .

وقد اتخذ ابن المقفّع من بعض حكام المنصور الدوانيقي هذه المسألة مهزلة به ، قائلاً له : ما تقول فيمن مات وخلف زوجا وزوجة ؟ .

أو ن مراده : ان أحدهما له .

وعلى ايّ حال : فالظاهر : ان الشيخ قدس سره اراد ذكر الاقسام الممكنة لا المشروعة ، وانه على فرض المشروعية ، ماذا يكون الحال في الارث ؟ كما هو ديدنهم من ذكر المسائل الفرضية ، بل المحالة عادة ، مثل فرض المصنّف قدس سره في كتاب الطهارة : الانسان خلق الساعة ، هل هو متطهر ، او محدث ؟ .

وهذا لايختص بالفقهاء والاصوليّين (1) ، بل كل اصحاب العلوم لهم أمثال هذه الفروض ، ففي الفلسفة : يذكرون مسائل الدور ، والتسلسل ، وما أشبه ، وكلّها محالات .

وفي الكلام : يذكرون مسائل شريك الباري ، وما أشبه من المحالات .

وفي الهندسة وعلم الحساب : يفرضون فروضا لا خارج لها اطلاقا ، الى غير

ص: 366


1- - وقد ذكر الشارح بعض الفروض والاحتمالات في موسوعة الفقه ، الفقه المسائل المتجددة .

فافهم .

هذا تمامُ الكلام في اعتبار العلم .

-----------------

ذلك ، وهذه الفرضيات لا تخلو من فوائد ، وهي :

اولاً : شحذ الذهن وتدريبه وتمرينه .

ثانيا : الحد بين الممكن العادي والعقلي والشرعي ، وغير الممكن .

وفائدة الاول : ان من يحلّ الاشكل ، يتمكن من حلّ المشكل .

وفائدة الثاني : انه يعطي كيفية الاستدلال ، لانه في حدّ الممكن لا المحال (1) .

وعلى ايّ حال : فالذي نراه : انه يجوز للخنثى - على فرض وجود خنثى مشكل ثبوتا ، لا في مقام الاثبات ، اذ لو فرضنا عدم وجوده في مقام الثبوت ، لزم التكلم حول علاج من جهلنا ذكوريته وانوثيته ، لا التكلم حول من ليس بمذكر ولا بمؤنث - ان يجعل نفسه ذكرا ، ويتعامل مع نفسه معاملة الذكور في كل شأن ، وكذلك يتعامل الناس معه ايضا ، او يجعل نفسه انثى فيكون لها كل احكام الانثى .

واما من يرى حرمة الصنفين للخنثى ، فهو يرى حرمة التزويج له بخنثى مثله ايضا .

( فافهم ) ولعله اشارة الى صحة فرض الشيخ قدس سره شرعا ايضا ، لا عقلاً فحسب ، وذلك بان تزوج الخنثى - وهو من اهل ملة يجوز لهم ذلك - برجل وامرأة ، ثم مات الخنثى واسلم الزوجان ، فكيف يرثانه ؟ او مات الزوجان وورثهما الخنثى ، فكيف يرثهما ؟ ولنفرض ايضا انه ليس في دينهما كيفية تقسيم الارث ، حيث يكون الفاصل بينهم - اذا راجعونا - قانون الاسلام ، وقد ذكرنا

ص: 367


1- - وقد ذكر الشارح بعض الفروض والاستدلال عليها في كتابه القول السديد في شرح التجريد وشرح منظومة السبزواري .

...

-----------------

تفصيله في كتاب « الفقه : الحقوق » (1) او كان في دينهم قانون بذلك ، لكنهم ارادوا حكم الاسلام ، فانه يجوز للقاضي ان يحكم بين اهل الاديان بما يراه دينهم او بما يراه الاسلام - كما قرر في كتاب القضاء - (2) .

هذا ، والظاهر : ان الشيخ المصنّف قدس سره اراد في بحثه هذا ، الالماع الى بعض احكام الخنثى ، بما يقتضيه المجال الاصولي ، والاّ فان قلنا : بانه قسم ثالث ، او قسم مجهول الذكورة والانوثة فانه يأتي فيه احكام كثيرة من : مباحث القضاء ، والحدود ، والديات ، والقصاص ، والارث ، ووطي الشبهة ، والاولاد ، وبعض مباحث العتق - حيث تتحرر الاخت ، والعمة ، والخالة ، ونحوها على الرجل دون المرأة - الى غير ذلك ، علما بأنّا لسنا بحاجة الى شيء من هذا كله ، وذلك ، لما ذكرناه : من التخيير ، واللّه العالم الموفق .

( هذا تمام الكلام في اعتبار العلم ) وبه ينتهي البحث عن القطع ، ليبدأ بعده الحديث حول مباحث الظن بعونه تعالى .

انتهى الجزء الأول

في بحث القطع ويليه

الجزء الثاني في بحث الظن

ونسأله العون والمدد لاتمامه

ص: 368


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 للشارح .

المحتويات

مقدمة النّاشر... 5

مقدمة الشارح ... 13

المدخل ... 17

المقصد الاول في القطع

وجوب متابعة القطع ... 27

إطلاق الحجّة على القطع ... 28

أقسام القطع ... 34

الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي ... 35

تقسيم آخر للقطع ... 46

الظن الطريقي والموضوعي... 55

تنبيهات

التنبيه الاول : هل القطع حجّة سواء صادف الواقع ام لا ؟ ... 60

ص: 369

أدلة القائلين بحرمة التجري ... 61

الاول : الاجماع ... 63

الثاني : بناء العقلاء ... 66

الثالث : العقل ... 66

الرابع : السَبر والتقسيم ... 66

جواب المصنّف عن الاجماع ... 69

الجواب عن الاستدلال ببناء العقلاء ... 70

الجواب عن الادلة الاخرى ... 71

تفصيلُ صاحب الفصول ... 81

تحقيق المصنف في كلام الفصول ... 90

لا فرق في قبح التجري بين موارده ... 103

أقسام التجري ... 115

كلام الشهيد في القواعد ... 121

تأمّلات المصنّف ... 123

التنبيه الثاني : في حجية القطع مطلقا ... 126

كلام بعض الاخباريين والجواب عنه ... 126

كلام المحدّث الاسترابادي ... 132

كلام السيّد الجزائري ... 145

كلام صاحب الحدائق في حجية العقل الفطري ... 149

مناقشات في كلام المحدث البحراني ... 154

رأي المصنّف ... 158

كلام شارح الوافية ... 167

ايراد على السيّد الصدر ... 169

ص: 370

التنبيه الثالث : في اعتبار قطع القطاع ... 198

التنبيه الرابع : هل المعلوم اجمالاً كالمعلوم تفصيلاً في الاعتبار ؟ ... 214

للبحث مقامين : ... 216

مراتب المقام الاول ... 218

بحوث في المقام الثاني ... 219

الحاق الظن التفصيلي بالعلم التفصيلي في تقدّمه على العلم الاجمالي ... 230

بحث في المقام الاول : ... 248

صور العلم الاجمالي ... 249

هل العلم الاجمالي الطريقي منجز ام لا ؟ ... 254

في حجية العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي... 256

موارد توهم عدم الاعتبار ... 259

لابدّ من التزام احد امور في هذه الموارد ... 271

في انقسام مخالفة العلم الاجمالي الى قسمين ... 279

القسم الاول : المخالفة من حيث الالتزام ... 280

القسم الثاني : المخالفة من حيث العمل ... 283

جواز المخالفة الالتزامية في الشبهة الموضوعية والحكمية ... 283

المخالفة في الالتزام والمخالفة في العمل ... 292

المخالفة في الحكم المردّد ... 296

تقرير آخر للدليل ... 297

المخالفة العملية لخطاب تفصيلي ... 319

المخالفة العملية لخطاب مردّد بين خطابين ... 325

الاشتباه من حيث الشخص المكلف بالحكم ... 333

الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ... 335

ص: 371

الحكم الثابت لموضوع واقعي مردّد بين نفرين ... 335

نماذج لفروع المسألة ... 337

الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ... 347

معاملة الخنثى مع غيرها ... 351

معاملة الغير مع الخنثى ... 361

المحتويات ... 371

* * *

ص: 372

المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .

شرح عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر موضوع : اصول فقه شیعه معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی تصنيف ديوي: 297/312 رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .

شرح عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول.

شرح رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل الشجرة الطيبة الوصائل إلی الرسائل

--------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر المطبعة: قدس الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

--------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978 شابك ج1: 2-160-270-600-978

--------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544 تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

مباحث الظن

اشارة

والكلامُ فيه يقع في مقامين :

أحدُهما في إمكان التعبّد به عقلاً ، والثاني في وقوعه

--------------------

مباحث الظنّ ( المقصد الثاني ) من مقاصد الكتاب ( في الظن ) وهو : الطرف الراجح من الاحتمال قبل الوصول الى القطع ، ويكون ارفع من الشك ، لان الشك : تساوي الطرفين - كما تقدّم في اوّل البحث - ( والكلام فيه يقع في مقامين ) كالكلام في كثير من المباحث المختلف فيها ، اذ هناك ثلاثة امور :

الاول : الواجب ، وهو الذي لايمكن عدم وجوده .

الثاني المحال ، وهو الذي لايمكن وجوده .

الثالث : الممكن ، وهو الذي يمكن وجوده كما يمكن عدمه .

والامكان في الثالث على قسمين :

الاول : الامكان بالنظر الى ذات الشيء سواء وجد ، او لم يوجد الى الابد ، مثل ان يملك انسان عادي كل الارض .

الثاني : الامكان بمعنى انه هل وقع ام لا ؟ .

ومرحلة هذا الثاني يكون بعد مرحلة الاولى - كما هو واضح - اذ مالا امكان ذاتي له ، لا امكان وقوعي له بطريق اولى .

وعليه : فيكون ( احدهما : في امكان التعبد به ) اي بالظن ، فهل يمكن للشارع (عقلاً ) ان يقول للناس : اعملوا بالظن ، او لا يمكن ذلك ؟ ( والثاني ) بعد الفراغ من النزاع في الامكان ، يكون البحث ( في وقوعه ) اي

ص: 7

عقلاً او شرعا .

المقام الأول :

أمّا الأوّلُ فاعلم أنّ المعروفَ هو إمكانهُ ، ويظهرُ من الدليل المحكيّ عن ابن قِبَة ، في استحالة العمل بالخبر الواحد ، عمومُ المنع لمطلق الظنّ ، فانّه استدلّ على مذهبه بوجهين : « الأوّل : أنّه لو جاز التعبّدُ بخبر الواحد في الاخبار عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لجاز التعبّدُ به في الاخبار عن اللّه تعالى ،

------------------

هل عبّدنا الشارع بالظن ( عقلاً ) كما قال بعضهم في دليل الانسداد - بناءا على الحكومة - ( او شرعا ) كما في الظنون الخاصة : كخبر الواحد ، ونحوه ، وكما في دليل الانسداد على الكشف - كما يأتي تفصيله ان شاء اللّه تعالى في مباحث الانسداد .

( اما ) البحث ( الاول : ) وهو هل يمكن التعبد بالظن ؟ ( فأعلم ان المعروف ) بين العلماء ( هو امكانه ) اي امكان التعبد بالظن ( و ) لكن ( يظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة : في استحالة ) تجويز الشارع ( العمل بالخبر الواحد ) انه يرى ( عموم المنع ، لمطلق الظن ) بما يشمل الخبر الواحد ، وغيره ، مما يفيد انه يرى استحالة التعبد بالظن وانه لا امكان له ( فانه استدل على مذهبه بوجهين ) هما كالتالي : ( الاول : انه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بان قال الشارع - مثلاً - : اذا جائكم خبر عادل يقول : ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال كذا ، فخذوا بذلك الخبر ( لجاز التعبد به ) اي بالخبر الواحد ( في الاخبار عن اللّه تعالى ) والملازمة واضحة ، لانهما اخبار عن الشريعة ، واطاعة الرسول كاطاعة اللّه تعالى ،

ص: 8

قال سبحانه : « مَن يُطِع الرّسولَ فَقَد أطاعَ اللّه »(1) .

والتالي باطلٌ اجماعا فالمقدم مثله .

والثاني : إن العمل به موجبٌ لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراما وبالعكس » .

------------------

( والتالي ) وهو : صحة الاخبار عن اللّه تعالى ( باطل اجماعا ) لان الخبر عن اللّه انّما يثبت اذا قطع الانسان بقول المخبر ، وبكونه رسولاً من عند اللّه سبحانه ، او منصوصا عليه بالعصمة من الزلل ، كأئمة أهل البيت عليهم السلام في نقلهم الاحاديث القدسية ، حيث قال سبحانه : « إنّما يُرِيدُ اللّه ُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيرا »(2) .

( فالمقدم ) وهو : الاخبار عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بالخبر الواحد الظني ( مثله ) في البطلان .

والحاصل : انه كلما كان امكان التعبد بالخبر عن اللّه تعالى - بدون حصول القطع - غير معقول ، كذلك امكان التعبد بالخبر عن المعصوم غير معقول ، والنبي في كلام ابن قبة من باب المثال ، وانّما كان الاخبار عن المعصوم مساويا للاخبار عن اللّه لاستواء كل منهما في كونه خبر عادل ضابط لايفيد الا الظن النوعي .

( والثاني ) من دليليّ ابن قبة ( : ان ) تجويز الشارع ( العمل به ) اي بالخبر الواحد ( موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال اذ ) قد يخالف الواقع في اخباره، فان العادل مهما كان ، فانه لايكون معصوما عن الخطأ ، والنسيان ، والسهو ، والغلط ، و ( لايؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما ) في الواقع ( وبالعكس ) بان يكون ما اخبر بحرمته حلالاً في الواقع ، ومن المعلوم : ان مثل ذلك ، يوجب تفويت المصلحة الملزمة والالقاء في المفسدة ، وهو من الحكيم سبحانه قبيح ،

ص: 9


1- - سورة النساء : الآية 80 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .

وهذا الوجه - كما ترى - جارٍ في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الامارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنَّ .

واستدلّ المشهورُ على الامكان : بأنّا نقطعُ بأنّه لايلزم من التعبّد به

------------------

ومثله لايصدر منه تعالى ، اذ فاعل القبيح اما يفعله لجهله بقبحه ، أو لاحتياجه اليه ، او لخبث فيه ، وكل ذلك محال عليه سبحانه ، فانه عالم غني منزه .

( وهذا الوجه ) وهو لزوم تحليل الحرام وعكسه ( كما ترى ) غير مختص بالخبر بل ( جار في مطلق الظنّ ) من اي طريق حصل من الغير ، او الشهرة ، والاجماع المنقول ، أو الاستصحاب ، وغيرها ، ( بل ) هو جار ( في مطلق الامارة غير العلمية ) التي لاتفيد العلم ( وان لم يفد الظن ) فان كلامنا ليس فيما يفيد الظن ، بل في الاعم مما يفيده او لايفيده ، فالبرائة وأصل الطهارة ، والحل ، وحمل فعل الشخص على الصحيح ، والسوق ، وأرض الاسلام ، وغيرها من امثال القرعة : وقاعدة العدل ، كلها مما لا يؤمن تحليلها الحرام ، وبالعكس .

ولا يخفى : ان المحذور في جعل الحكم الظاهري : امور متعددة - لم يذكر منها الاّ ما تقدّم - مثل - انه يستلزم جمع المثلين ، والضدين ، والمصلحة والمفسدة ، والارادة والكراهة ، والمحبوبية والمبغوضية ، كما سيأتي بعض الكلام فيها ان شاء اللَّه تعالى .

( واستدل المشهور على الامكان ) في قبال ابن قبة باُمور :

الأول : الوقوع خارجاً ، فان ادل دليل على الشيء ، وقوعه في الخارج ، فاذا علمنا ان الشارع حكيم ، ورأينا انه جعل الخبر الواحد وغيره طريقاً إلى احكامه ، فانه يدل ذلك على امكان التعبد من الحكيم بالظن .

الثاني : ( بانا نقطع ) قطعاً وجدانياً( بانه لا يلزم من التعبد به ) اي بالظن

ص: 10

محالٌ .

وفي هذا التقرير نظرٌ ، إذ القطعُ بعدم لزوم المحال في الواقع موقوفٌ على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمِه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه .

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لانجدُ في عقولنا بعد التأمّل مايوجب الاستحالة ، وهذا طريقٌ يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان .

------------------

( محال ) لأنه قد يكون الشيء بالنظر إلى ذاته محالاً ، كالجمع بين النقيضين ، وقد يكون مستلزماً للمحال ، كالتعبد بالظن ، فانه - على قول ابن قِبة - مستلزم للمحال ، وان لم يكن بنفسه محالاً .

( و ) لا يخفى ما ( في هذا التقرير ) الَّذي أقامه المشهور دليلاً على الامكان من (نظر ) واضح ( اذ القطع بعدم لزوم المحال ) من التعبد بالظن ( في الواقع ) الَّذي محل البحث ( موقوف على احاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمه ) اي العقل (بانتفائها ) اي بانتفاء الجهات المقبّحة ( وهو ) اي العلم بالانتفاء بعد الاحاطة ممّا لا يتسنى لغير المعصوم ، فهو لنا ( غير حاصل فيما نحن فيه ) لاحتمال ان يكون هناك جهة للقبح ، لم نحط بها علماً .

وعلى هذا ( فالأولى ) اولويّة لزومية ، من قبيل قوله تعالى : « أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى »(1) فان معنى التفضيل منسلخ منه ، كما في قول الفقهاء : الاحوط والأقوى وما اشبه ( ان يقرر ) الامكان ( هكذا ) وهو : ( انا لا نجد في عقولنا - بعد التأمل -) في الاسباب والمسبّبات ( مايوجب الاستحالة ) للتعبد بالظن ( وهذا ) اي عدم وجداننا مايوجب الاستحالة ( طريق يسلكه العقلاء في ) باب ( الحكم بالامكان )

ص: 11


1- - سورة القيامة : الآية 34 .

والجوابُ عن دليله الأوّل :

------------------

فان العقلاء - مثلاً - يحكمون بعدم استحالة ان يوجد حيوان له اربعة رؤس ، وان يكون جبل من ذهب ، وان يطول عمر انسان إلى ملايين السنوات ، وذلك لانهم لا يجدون في عقولهم ما يوجب الاستحالة ، فالحكم بالامكان ، لا يحتاج إلى القطع بعدم الاستحالة ، بل إلى عدم وجدان مايوجب الاستحالة ، والاّ فلو كان الامر بحاجة إلى القطع لما امكن للعقلاء ان يحكموا بالامثلة الثلاثة المذكورة وغيرها ، مع ان العقل لا يحيط باسباب الامكان والاستحالة الوقوعية ، وان احاط باسباب الامكان والاستحالة الذاتية ؟ .

وقول ابن سينا : « ما قرع سمعك من غرائب الزمان ، فذره في بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان » اشارة إلى ما ذكرناه من انه اذا لم يكن عندك دليل واضح على الاستحالة ، فقل : انه ممكن .

واذا تحققت الكبرى الكلية ، نقول فيما نحن فيه من الصغرى : أن لا نجد على امتناع التعبد بالظن دليلاً ، فهو اذاً ممكن .

لا يقال : ماذا تصنعون بدليلي ابن قِبة ، الَّذَيْنِ أقامهما على الاستحالة ؟.

لانه يقال : ( والجواب عن دليله الاول ) - القائل : بأنه لو جاز التعبد بالاخبار عن المعصوم ، لجاز التعبد بالاخبار عن اللّه ، والثاني باطل ، فالاول مثله - :

إن القياس غير تام ، حيث ان الاخبار عن اللّه ، يحتاج إلى شهادة اللّه تعالى للمخبر ، باجراء المعجزة على يديه والاّ فكلّ شخص يتمكن ان يدعي : انه نبي من قبله سبحانه ويخبر عنه ، ولذا قال تعالى لرسوله : « قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيْداً بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابْ »(1) .

ص: 12


1- - سورة الرعد : الآية 43 .

انّ الاجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع ، مع انّ عدم الجواز قياسا على الاخبار عن اللّه تعالى ، بعد تسليم صحّة الملازمة ،

------------------

وليس كذلك نقل الخبر عن المعصوم ، حيث ان كل عادل سمع منهم عليهم السلام ، يُمكنه ان ينقل الخبر عنهم .

ثم انه لو سلمنا وتنازلنا عن هذا الجواب لكن لنا ان نقول : قياس ابن قِبة ليس في محلّه ، وذلك لانه قاس استحالة التعبد بالخبر عن المعصوم ، باستحالة الاخبار عن اللّه تعالى ، والحال ان الاخبار عن اللّه ليس مستحيلاً ، بل غير واقع - وفرق بين ما يكون محالاً كالجمع بين النقيضين ، وبين مايكون ممكناً ، لكنه غير واقع ، كجبل من ذهب - فكيف يقول ابن قِبة باستحالة التعبّد بالظنّ قياساً على استحالة الاخبار عن اللّه ؟ مع ( ان الاجماع ) من العقلاء ( انّما قام على عدم الوقوع ) اي ان الاخبار عن اللّه غير واقع - الاّ للانبياء ونحوهم ( لا على الامتناع ) وان الاخبار عنه تعالى محال .

( مع ) ان هناك جواباً آخر عن ابن قِبة وهو : انه لو أُريد اثبات اصول الدّين وفروعه بالخبر الواحد ، كان الاخبار عن النبي كالاخبار عن اللّه تعالى ، اما اذا اريد اثبات بعض الفروع بالخبر الواحد ، لم يكن وجه للقياس ، فان الدّين لم يبن على الخبر الواحد ، وانّما بني عليه بعض الفروع فقط .

ومثاله في الماديات - حيث ان الامور الاعتبارية تقاس بالامور العينية : انه لو كان هناك خشب لم يتحمل كل البناء فانه لا يلازم عدم تحمله بعض البناء ، ف- ( ان عدم الجواز ) اي امتناع التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( قياساً على ) امتناع ( الاخبار عن اللّه تعالى ، بعد تسليم صحة الملازمة ) حيث قد عرفت في الجواب الاول : عدم الملازمة ، وان بينهما فرقاً ، اذ الاخبار عن اللّه غير

ص: 13

إنّما هو فيما إذا بني تأسيسُ الشريعة اصولاً وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل مانحن فيه ، ممّا ثبت أصلُ الدين وجميعُ فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها من جهة العوارض وإخفاء الظالمين للحقّ .

وأمّا دليلهُ الثاني : فقد اُجيب عنه تارةً بالنقض

------------------

واقع ، لا انه ممتنع .

وعليه : فعدم الجواز ( انّما هو فيما اذا بني تأسيس الشريعة اصولاً وفروعاً على العمل بخبر الواحد ) بأن يقال في القياس : كما لا تبنى الشريعة في الاخبار عن اللّه اصولاً وفروعاً على الخبر الواحد ، كذلك لا تبنى الشريعة اصولاً وفروعاً في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم عليه ( لا في مثل ما نحن فيه ، ممّا ثبت اصل الدّين وجميع فروعه بالادلة القطعية ) فان الاصول الخمسة قطعيات عقلاً ونقلاً ، واصل الصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، والزكاة ، والجهاد ، وسائر المعاملات ، والاحكام ، ايضاً قطعيات .

نعم ( لكن ) بعض الفروع غير قطعية فيرجع فيها إلى اخبار الاحاد حيث ( عرض اختفائها ) اي اختفاء تلك الفروع ( من جهة العوارض ) ككثرة الوسائط بيننا وبين المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، وعدم معرفتنا بالرواة وانهم عدول ام لا ؟ وما اشبه ذلك مثل ( واخفاء الظالمين ) والحكام الغاصبين ( للحق ) حيث احرقوا المكتبات وسعوا في اطفاء نور الحق ، ففي هذا المقدار نحتاج إلى الخبر غير القطعي ، فيكف يقاس هذا ، بالاخبار عن اللّه تعالى ، الَّذي يبنى اصول الدّين وفروعه عليه ؟ .

( واما دليله الثاني ) القائل : بانه لا يمكن التعبد بخبر الواحد ، لان التعبد مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ( فقد اجيب عنه تارة : بالنقض ) واخرى : بالحل .

ص: 14

بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ، لأنّه قد يكونُ جهلاً مركّبا ، واُخرى بالحلّ بأنّه إن اُريد تحريمُ الحلال الظاهريّ او عكسه فلا نسلّم لزومه ،

------------------

امّا الاول : فبالنقض ( بالامور الكثيرة ، غير المفيدة للعلم ) مع ان ابن قِبة يلتزم بتلك الامور ، فيقال له : ما هو الفرق بينهما ؟ مع ان كليهما مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ( كالفتوى ، والبينة ، واليد ) فان كلّها حجّة عند ابن قِبة ، مع انها قد تخالف الواقع ، فتستلزم التحليل والتحريم ( بل ) ماذا يقول ابن قبة في ( القطع ايضاً ) والحال ان العقل يقول بحجيته مع انه قد يخالف الواقع ( لانه قد يكون جهلاً مركباً ) والجهل المركب عبارة : عن الجهل والجهل بالجهل ، فيكون الانسان مشتملاً على جهلين ، ولذا يسمّى جهلاً مركباً ، وفي قباله : العلم المركب ، كما اذا علم بانه يعلم - في قبال غفلته عن علمه - .

( واخرى : بالحل ، بانه ان اريد ) من تحريم الحلال ( تحريم الحلال الظاهري ، او عكسه ) أي تحليل الحرام الظاهري ( فلا نسلم لزومه ) اذ اللازم : ان الحرام الواقعي يكون حلالاً ظاهرياً ، والحلال الواقعي يكون حراماً ظاهرياً ، لا ان الحرام والحلال يجتمعان في مرتبة واحدة .

وتوضيحه : ان الشارع حسب المفسدة والمصلحة يقرر المحرمات والواجبات ، ثم لمصلحة التسهيل ، يضع احكاماً ثانوية قد تتنافى مع الاحكام الأوليّة ، ففي شرب التتن - مثلاً - مفسدة فيحرمه الشارع اولاً حسب الواقع ، لكن يقول ثانياً : اذا لم تعلم بحرمة شيء فهو لك حلال ، والمكلّف حيث لم تصل اليه حرمة التتن يجري الحليّة ، فالتتن حرام واقعي ، وحلال ظاهري ، وفي مثل ذلك لم يجتمع الحرام والحلال في مرتبة واحدة ،بل الحرام في مرتبة الواقع ، والحلال

ص: 15

وإن اُريد تحريم الحلال الواقعيّ ظاهرا ، فلا نسلّم امتناعه .

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها بابُ العلم بالواقع ،

------------------

في مرتبة الظاهر ، ومثل هذين الحكمين لا يتنافيان ، اذ يشترط في التناقض وحدة الموضوع ، فاذا قال الشارع : ان الحرام الواقعي حلال واقعاً ، او قال : الحرام الظاهري حلال ظاهراً ، لزم التناقض ، اما اذا جعل لكل منها مرتبة ، فلا تناقض ، كما اذا قال : هذا الشيء في مرتبة بيض ، وفي مرتبة دجاجة .

( وان اريد ) ان التعبد بالظن يستلزم ( تحريم الحلال الواقعي ظاهراً ) وتحليل الحرام الواقعي ظاهراً ، او في مرتبة حلال وفي مرتبة حرام ( ف- ) لزومه وان كان مسلّماً ، لكنا ( لا نسلّم امتناعه ) اذ قد عرفت : انه لا مانع من كون الشيء ، حلالاً في مرتبة وحراماً في مرتبة اخرى ، فانه لا يستلزم التناقض ولا المحال .

( و ) حيث كان هذا الجواب الحَلِّي عن صاحب الفصول قدس سره غير مرضيّ عند المصنّف قدس سره قال : ( الاولى ان يقال : ) في جواب ابن قِبة ما سيأتي ، علماً بان المصنّف قدس سره انّما لم يرتضه لوجوه ممكنة ، كما ان الاقرب ان نقول في جواب الفصول : انه ليس هناك حكمان اصلاً ، بل التتن حرام مطلقاً ، وانّما المدخن معذور حيث لم يصل الحكم اليه ، فليس هناك حكمان : ظاهري ، وواقعي ، وانّما حكم واقعي فقط ، وقد اجاز الشارع خلافه لمصلحة التسهيل ، قال سبحانه :- « يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ، وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ »(1) إلى غير ذلك من الآيات والاخبار .

وعليه : فالأولى ان يقال : ( انه ان اراد : امتناع التعبد بالخبر ) الظنّي ( في المسألة ، الَّتي انسدّ فيها باب العلم بالواقع ) والعلمي ، والمراد : حصول الانسداد

ص: 16


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

فلا يعقل المنعُ عن العمل به فضلاً عن امتناعه ، إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع ، إمّا أن يكون للمكلّف حكمٌ في تلك الواقعة ، وإمّا أن لايكون له فيها حكمٌ ، كالبهائم والمجانين .

فعلى الأوّل : فلا مناصَ عن إرجاعه إلى ما لايفيد العلمَ

------------------

النوعي الَّذي سيأتي البحث فيه ، لا الانسداد الشخصي في مسألة او مسألتين ، وقد نقل ان أول زمان ادّعي فيه الانسداد هو زمان العلامة قدس سره ، والانسداد اذا حصل ، دار الامر بين ان يعمل الانسان بالظن ، او الوهم ، او الشك ، ومن المعلوم : لزوم العمل بالاول ، لانه ارجح منهما ، على التفصيل الَّذي سوف يأتي ان شاء اللّه تعالى ( فلا يعقل المنع عن العمل به ) اي بالظن ( فضلاً عن امتناعه ) كما ادّعاه ابن قِبة ، لان الشارع اذا اراد من المكلفين العمل بالتكاليف ، ولم يمكن الاحتياط ، او لم يرده الشارع لانه عسر ، ولم يكن طريق آخر ، انحصر الأمر في ان يعمل المكلّف بالظن ، فان اصاب الواقع فهو مراد الشارع ، وان اخطأ الواقع لا يكون في الخطأ ضرر ، اذ المفروض ان المكلّف في حال الانسداد لا يقدر على اكثر من اتباع الظن ، وتوضيح ان المنع « لا يعقل » ما ذكره بقوله :

( اذ مع فرض عدم التمكن ) اي عدم تمكن المكلّف ( من العلم ) والعلمي (بالواقع ) فلا يخلو الامر من انه ( اما ان يكون للمكلف حكم ) يريده الشارع منه الان ( في تلك الواقعة ، واما ان لا يكون له فيها حكم ) فيكون ( كالبهائم والمجانين ) لكن الثاني مقطوع العدم ، وقد دلّت الادلة الاربعة على عدم رفع التكليف ( ف- ) يبقى الاول .

و (على الأوّل) بان يكون للمكلف حكم ( فلا مناص عن ارجاعه ) اي لا طريق للشارع اذا اراد احكامه وتكاليفه الا بارجاع المكلّف ( إلى ما لا يفيد العلم )

ص: 17

من الاُصول والأمارات الظنّيّة التي منها الخبر الواحد .

وعلى الثاني يلزم ترخيصُ فعل الحرام الواقعيّ وترك الواجب الواقعيّ ، وقد فرّ المستدلّ منهما .

فان التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوبَ ولا تحريمَ ، لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله او تركه .

------------------

والقطع (من الاصول ) العملية كالاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط ( والامارات الظنية الَّتي منها الخبر الواحد ) والشهرة والاجماع المنقول وما اشبه ذلك .

( وعلى الثاني ) بان لا يكون للمكلف في حال الانسداد حكم ، وقد قلنا : انه خلاف الضرورة ، لكن على فرض التسليم نقول : ( يلزم ) من ذلك وقوع ابن قِبة فيما فرّ منه ، من : ( ترخيص فعل الحرام الواقعي ، وترك الواجب الواقعي ) وايهما افضل : ترك المكلّف كل واجب وفعل كل حرام ، أو العمل بالظن ممّا قد يؤّي إلى ترك بعض الواجب وفعل بعض الحرام ؟ ( وقد فرّ المستدل ) ابن قِبة ( منهما ) اي من تحريم الحلال وتحليل الحرام .

وعليه : ( فان ) قال ابن قِبة : بانه لا تشريع في حال الانسداد للواجب والحرام اصلاً وذلك بان ( التزم ) المستدل ( ان مع عدم التمكن من العلم ، لا وجوب ولا تحريم ) أصلاً ، فلا احكام فعلية ولا احكام غير فعلية ، بان كان في الواقع حكم لكنّه في مرحلة الشأنية فقط .

وانّما نقول بشيء ثالث وهو : لا حكم اصلاً ( لان الواجب والحرام : ما علم بطلب فعله ، او تركه ) فالاحكام مختصة بالعالمين ، اما الجاهلون فلا حكم لهم

ص: 18

قلنا : فلا يلزمُ من التعبّد بالخبر تحليلُ حرام او عكسُه .

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ إرادةَ الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهرُ

------------------

اصلاً كما هو ظاهر : « رُفِعَ مَا لاَ يَعلمُونَ »(1) ونحوه .

وقد قال بذلك بعض المصوّبة من العامة ( قلنا : فلا يلزم من التعبد بالخبر ، تحليل حرام او عكسه ) .

ولا يخفى ان ما اشتهر في السنتهم : من تحليل الحرام او تحريم الحلال ، مأخوذ من الخبر المشهور : « حلالُ محمدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم حَلالٌ إلى يومِ القيامةِ ، وحرامُ محمدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم حرامٌ إلى يومِ القيامةِ »(2) ، والمراد بالحلال : الاحكام الثلاثة : من الاباحة ، والكراهة ، والاستحباب .

والمراد بالحرام : الحكمان الاخران : وهما الواجب ، حيث ان تركه حرام ، والحرام ، حيث ان فعله حرام .

وانّما سمّي احدهما واجباً مع ان تركه حرام ، والاخر محرماً مع ان تركه واجب ، لانه ان كانت المصلحة في الفعل سمّي واجباً ، وان كانت المفسدة في الفعل سمّي حراماً ، وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه : انه ليس هناك حكمان في طرفي شيء واحد ، بأن ينشى ء الشارع وجوباً في الفعل وحرمة في الترك ، او وجوباً في الترك وحرمة في الفعل .

( وكيف كان : فلا نظن بالمستدل ) وهو ابن قِبة ( ارادة الامتناع ) للتعبد بالخبر ( في هذا الفرض ) فرض الانسداد ( بل الظاهر ) من كلامه ، وعصره

ص: 19


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
2- - بصائر الدرجات : ص 148 ، الكافي اصول : ج1 ص58 ح19 (بالمعنى) .

أنّه يدّعي الانفتاحَ ، لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاحَ باب العلم .

وممّا ذكرنا : ظهر أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ، لأنّ المفروضَ انسدادُ باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ؛

------------------

( انه ) قدس سره ( يدعي الانفتاح ) لباب العلم والعلمي ، وان مراده عدم جواز التعبد بالظن في حال الانفتاح ، وانّما كان الظاهر ذلك ( لانّه اسبق ) زماناً ( من السيد ) المرتضى قدس سره (واتباعه الذين ادعوا انفتاح باب العلم ) بل هم ادعوا : ان الاخبار قطعية الصدور ، وقولهم هذا ليس ببعيد ، لانهم كانوا في عصر الغيبة الصغرى ، واوائل الغيبة الكبرى حيث الاختلاط بالنواب الاربعة ، الذين كانوا يتشرفون بلقاء الامام عليه السلام ويأخذون منه معظم الاحكام .

( و ) على ايّ حال : فانه ( ممّا ذكرنا ) : من ان مراد ابن قِبة هو حال الانفتاح ، لا الانسداد ( ظهر : انه لا مجال للنقض عليه ) بما ذكره الفصول ( بمثل : الفتوى ) ونحوه ممّا تقدَّم الكلام فيه ( لان المفروض : انسداد باب العلم على المستفتي ) وانه لا طريق له إلى احكام اللّه سبحانه ، الاّ فتوى المجتهد ، فلا يقاس المستفتي المنسدّ عليه باب العلم ، بالمفتي المنفتح عليه باب العلم ، بان يقال : كما يجوّز ابن قِبة الرجوع إلى الفتوى كذلك ان يجوّز الرجوع إلى الظن .

( و ) ذلك لانه ( ليس له ) اي للمستفتي ( شيء ) من الطرق ( ابعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، من العمل بقول المفتي ) اذ الطرق امامه : اما القياس ، او الاستحسان ، او المصالح المرسلة ، او الحدس او ما اشبه ذلك ، وكلها اقرب إلى التحليل والتحريم من قول المفتي الَّذي اخذ فتواه من الادلة الاربعة .

ص: 20

حتّى أنّه لو تمكّن من الظنّ الاجتهاديّ فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير ، وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلاً مركّبا ، فانّ بابَ هذا الاحتمال منسدّ على القاطع .

------------------

ويؤد قرب الفتوى من تحليل الحلال وتحريم الحرام ، انه لو تمكن من الاجتهاد بنفسه ليخرج عن ربقة التقليد ، لزم عليه ذلك تعييناً ، او تخييراً بينه وبين التقليد ، لأنّ الاجتهاد من احسن الطرق إلى اصابة الواقع بتحليل الحلال وتحريم الحرام ، بل قال بعضهم : بلزوم الاجتهاد عليه ، ممّا يدل على ان الفتوى لاجل اصابة الواقع (حتى ) انه اذا وجد ما هو اصوب إلى درك الواقع ، لزم عليه سلوك الطريق الاصوب ، ف- ( انه لو تمكن من الظن الاجتهادي ، فالاكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير ) .

لكن الظاهر ان ذلك غير لازم ، اذ العقل يرى التخيير بين الفتوى والاجتهاد ، كما في سائر العلوم من الطب ، والهندسة ، نعم لا شك ان الاجتهاد افضل .

( و ) كما لا يصح نقض كلام ابن قِبة بالفتوى ( كذلك ) لا يصح ( نقضه بالقطع مع احتمال ) غير القاطع ( كونه في الواقع : جهلاً مركباً ، فان ) قولنا : غير القاطع من (باب) أن ( هذا الاحتمال منسدّ على القاطع ) نفسه لان القاطع لا يحتمل الخلاف والاّ لم يكن قطعاً بل ، ظناً ، فان القطع معناه : رؤة القاطع الواقع مائة في مائة .

ثم ان ابن قِبة قال : لا يجوز للشارع التعبد بالخبر ، لانه مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، فاشكل المستشكل عليه : بأن في الفتوى والبيّنة والقطع هذا الاحتمال موجود ايضاً فلماذا أجزْتم كلّ ذلك ، فأشكل الشيخ قدس سره على المستشكل : بان ابن قِبة يريد الفرار من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، والفتوى

ص: 21

وإن أراد الامتناعَ مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقولُ : إنّ التعبّد بالخبر حينئذٍ يتصوّر على وجهين : أحدُهما : أن يجبَ العملُ به ، لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنّيّا عنه ، بحيث لم يُلاحظ فيه مصلحةٌ سوى الكشف عن الواقع ،

------------------

من أبعد الاشياء عن ذينك الامرين ، كما انه لا يمكن ان يقال للقاطع : لا تعمل بقطعك ، وان احتمل ابن قِبة - مثلاً - انه يوجب التحليل والتحريم ، لان الكلام مع القاطع ، لا مع ابن قِبة المحتمل لامرين في القطع ، فلا يردهم ان النقضان عليه .

وان شئت قلت : يقول ابن قِبة في النقض الثاني : كلامي فيما اذا اتمكن ان اقول للمتعبد بالظن : انه يحتمل ان يكون ظنك خلاف الواقع ، لكن لا يمكن ان يقال للقاطع ذلك ، فلا ينقض كلامي بالقاطع - كمانقضه المستشكل .

( وان اراد ) ابن قبة بامتناع التعبد بالخبر (: الامتناع من انفتاح باب العلم ) اي لا يمكن التعبد بالخبر في حال الانفتاح ( والتمكن منه ) اي من العلم ( في مورد العمل بالخبر ) كأن يجيز الامام عليه السلام العمل بخبر زرارة ، مع ان المحتاج إلى المسألة يتمكن من الوصول إلى نفس الامام عليه السلام ليقطع بما يسمعه منه ( فنقول ) في جواب ابن قِبة ( ان التعبد بالخبر حينئذٍ ) اي حال الانفتاح ( يتصور على وجهين ) : الوجه الاوّل : الطريقة المحضة ، بمعنى : ان الخبر طريق إلى الواقع ، بحيث لو اخطأ لم يكن للعامل اي ثواب .

الوجه الثاني : السببيّة ، بمعنى : انه يثاب عليه مع الخطأ، واشار اليهما بقوله :

( احدهما : ) اي احد الوجهين ( ان يجب العمل به ) أي بالخبر ( لمجرد كونه طريقاً إلى الواقع ، وكاشفاً ظنيّاً ) ظناً نوعاً ( عنه ) اي عن الواقع ( بحيث لم يلاحظ فيه ) اي في الخبر ( مصلحة سوى الكشف عن الواقع ) كما هو عليه غالب الطرق

ص: 22

كما قد يتفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلّق الغرض باصابة الواقع ، فانّ الأمرَ بالعمل بالظنّ الخبريّ او غيره لا يحتاجُ إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنّيّا عن الواقع .

الثاني : أن يجبَ العملُ به ، لأجل أنه يحدثُ فيه بسبب قيام تلك الأمارة مصلحةٌ

------------------

العقلائية ، فان الطبيب اذا قال : الدواء الفلاني للمرض الفلاني واستعمله المريض وكان مطابقاً للواقع ، برء من مرضه ، اما اذا لم يطابق الواقع ، فلا شيء للمريض في شربه الدواء ، إلى غير ذلك من الامثلة .

( كما قد يتفق ذلك ) التعبد بالخبر ، او غيره ، لمجرد الكاشفية ( حين انسداد باب العلم ) سواءاً انسداداً مطلقاً ، او انسداداً جزئياً ( وتعلق الغرض ) من المولى ( باصابة الواقع ) حيث لا يريد المولى سوى الواقع ، فلا يكون في سلوك هذا الطريق مصلحة اصلاً غير انه ان اصاب ، فهو المقصود ، وان اخطأ ، كان معه معذوراً ، لانه لم يكن للعبد طريق غير ما عيّنه الانسداد من الظن على الحكومة او الكشف ( فان الامر ) من المولى ، او العقل ( بالعمل بالظن الخبري او غيره ) كالظن الحاصل من الشهرة ، او الاجماع المنقول ، او ما اشبههما ( لا يحتاج ) حال الانسداد ( إلى مصلحة سوى كونه ) اي كون ذلك الطريق ( كاشفاً ظنياً عن الواقع ) وهذايسمى بالظن الطريقي .

( الثاني ) من الوجهين : ( ان يجب العمل به ) اي بالخبر ( لاجل انه يحدث فيه) اي في مؤّى الخبر (بسبب قيام تلك الامارة) مثل : « صدّق العادل » حيث انه جعل الخبر حجة وجعل فيه ( مصلحة ) تكافيء مصلحة الواقع الفائتة ، او مصلحة ارجح من مصلحة الواقع ، او مصلحة تكافيء مفسدة الواقع ، او تكون ارجح من

ص: 23

راجحة على المصلحة الواقعيّة التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها

------------------

مفسدة الواقع فاذا سلك الطريق - مثلاً - وطابق الواقع اعطي ديناراً ، وان لم يطابق الواقع اعطي دينارا او دينارين ، واذا كان في الطريق مفسدة ، بأن يؤخذ منه دينار ، فان المولى يتداركه باعطائه ديناراً ، فلا مصلحة ولا مفسدة ، او يعطيه دينارين ، فمصلحة محضة .

لا يقال : اذا اخذ منه دينار واعطي ديناراً ، فما الفائدة من الامر بسلوك هذا الطريق ؟ .

لانه يقال : المصلحة : ضرب القانون العام ، حيث يقول المولى لمن لا يتمكن ان يميز - بالقطع - بين المصلحة وبين عدمها - : اتبع الظن مطلقاً ، ومن المعلوم : ان ضرب القانون ، فيه مصلحة التناسق بين الموارد ، وفي الحديث :- ان رجلاً سأل عليّاً عليه السلام عن سبب غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بعد موته مع ان جسده الطاهر لا يصيبه اذى بالموت ، فاجابه عليّ عليه السلام : بِأنَّ ذَلِكَ لِجَرَيَانِ السُّنَّةِ (1).

ومعنى ذلك : هو ضرب القانون ، كما ذكرنا تفصيلة في كتاب « الدولة » (2) .

وممّا تقدّم : ظهر ان قول المصنّف قدس سره فيه مصلحة ( راجحة على المصلحة الواقعية ، الَّتي تفوت عند مخالفة تلك الامارة للواقع ) يريد بالمصلحة : الاعم من كلّ الاقسام الَّتي ذكرناها ، لا خصوص ما اذا اعطي دينارين في مثالنا ( كأن يحدث في صلاة الجمعة ، بسبب اخبار العادل بوجوبها ) مع انها ليست بواجبة واقعاً بل او محرمة ، لانها من خصائص الامام عليه السلام المبسوط اليد فرضاً ، فتحدث فيها

ص: 24


1- - وسائل الشيعة : ج2 ص477 ب1 ح2691 وفيه «وذا سنة» .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج101 - 102 للشارح .

مصلحةٌ راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا .

أمّا إيجابُ العمل بالخبر على الوجه الأوّل ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم ، لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام ،

------------------

( مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها ، على تقدير حرمتها واقعاً ) حيث ان الامر لا يكون الاّ بمصلحة ملزمة ، والحرمة لا تكون الا بمفسدة ملزمة ، فقيام الامارة يوجب هذه المصلحة الغالبة على المفسدة ، لكن لا بمعنى تغيير الواقع ، اذ الواقع عند المخطّئة لا يتغير ، وانمّا بمعنى : ان المولى يتدارك تلك المصلحة الفائتة ، وهذه المفسدة الموجودة ، ويكون حال ذلك حال العناوين الثانوية فغصب مال الغير - مثلاً - واكله حرام ، لان فيه مفسدة ، اما اذا توقفت الحياة على ذلك - كعام المخمصة - وجب ، وصارت المفسدة مصلحة موجبة للثواب ، وتركه موجباً للعقاب .

( اما ايجاب العمل بالخبر ) المحتمل للمخالفة للواقع ( على الوجه الاول : ) حيث يكون الخبر طريقاً فقط ( فهو ، وان كان في نفسه قبيحاً ) لانه موجب لتفويت المصلحة ، والالقاء في المفسدة اذا خالف الخبر الواقع ( مع فرض انفتاح باب العلم ) كأن يجعل الشارع الخبر الوا حد حجة مع وجود نفس الشارع في البلد ، بحيث يتمكن المحتاج إلى السؤل من مراجعته عليه السلام والاطلاع على كلامه المطابق للواقع مائة في مائة ، بينما ليس كذلك مراجعة الراوي وان كان عدلاً ضابطاً امامياً ، لاحتمال الخطأ والسهو والنسيان بالنسبة اليه .

وانّما كان حجية الخبر في مثل هذا قبيحاً وذلك ( لما ذكره المستدل ) وهو ابن قِبة (من : تحريم الحلال وتحليل الحرام ) لوضوح ان الخبر لا يطابق الواقع دائماً

ص: 25

لكن لا يمتنع أن يكون الخبرُ أغلبَ مطابقةً للواقع في نظر الشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّفُ للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيّين ، او يكونا متساويين في نظره من حيث الايصال إلى الواقع ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا رجوعٌ إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ، إذ ليس المرادُ انسدادَ باب الاعتقاد ولو كان جهلاً مركّبا ، - كما تقدّم سابقا - فالأولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن عن الواقع .

------------------

بخلاف قول الامام عليه السلام المطابق له بالدوام .

( لكن ) يمكن ان يمنع القبح بتقريب انه : ( لا يمتنع ان يكون الخبر اغلب مطابقة للواقع - في نظر الشارع - من الأدلّة القطعية ، الَّتي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيين ) اذ ليس الكلام في خصوص من يتمكن من الوصول إلى الامام عليه السلام في كل وقت شاء ، بل يشمل من كان يعمل بالعلم والعلمي ايضاً ، كما هو الغالب .

( او يكونا ) اي العمل بالعلم والعلمي ، والعمل بالخبر ( متساويين في نظره ) اي نظر الشارع ( من حيث الايصال إلى الواقع ، الاّ ان يقال : ان هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم ، والعجز عن الوصول إلى الواقع ، اذ ليس المراد : انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلاً مركباً - كما تقدّم سابقاً - فالأولى : الاعتراف بالقبح مع فرض التمكن عن الواقع ) وفي هذين الحالين لا يكون التعبد بالخبر قبيحاً .

بل يكون التعبد به في الاول - وهو اغلبية الايصال بسبب الخبر - أولى على وجه التعيين ، او الافضلية ، والتعبد به في الثاني متساويا مع العمل بالعلم والعملي ، لأنّ المناط في نظر الشارع هو الواقع ، والمفروض ان الواقع في كليهما متساو ، سواء مع الاتفاق : بان يصل كلاهما إلى واقع احكام الصلاة او الاختلاف :

ص: 26

وأمّا وجوب العمل بالخبر على وجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلاً ، كما لا يخفى .

قال في النهاية في هذا المقام ، تبعا للشيخ قدس سره ، في العُدّة : « إنّ الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحةً ،

------------------

بأن يصل احدهما إلى بعض واقع الصلاة ، وبعض واقع الصوم ، ويصل الاخر إلى كلّ واقع الزكاة وهكذا مما يتساويان عدداً فرضاً .

( وأما وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ) وهو ما كان فيه مصلحة سلوكية ، فيجب العمل بالخبر لأجل انه يحدث فيه بسبب قيام الأمارة مصلحة راجحة ( فلا قبح فيه اصلاً ، كما لا يخفى ) اذ لم يفت على المكلّف شيء ، ويؤد ما ذكرناه : أن (قال ) العلامة قدس سره ( في النهاية في هذا المقام تبعا للشيخ قدس سره في العدّة ) وهما كتابان في الاصول ( : ان الفعل الشرعي انمّا يجب لكونه مصلحة ) في ذاته ، اي ذا مصلحة ، فوجوب الصلاة لاجل ذكر اللّه ، والصوم لاجل التقوى ، والزكاة لاجل التطهر ، والحج لاجل المنفعة ، قال سبحانه : « وأقِمِ الصَّلاَةَ لِذَكْرِي »(1) ، وقال : « كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُوْنَ»(2) ، وقال : « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرهُم ... »(3) ، وقال : «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ »(4) .

ولا يخفى : ان الحرام - ايضاً - انّما حرّمه الشارع لاجل كونه ذا مفسدة ، قال سبحانه في الخمر والقمار : « وَإِثْمهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا »(5) ، وقال تعالى في باب

ص: 27


1- - سورة طه : الآية 14 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .
3- - سورة التوبة : الآية 103 .
4- - سورة الحج : الآية 28 .
5- - سورة البقرة : الآية 219 .

ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ،

------------------

الزنا : « إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة »(1) ، وقال سبحانه في اكل اموال الناس : « بِالْبَاطِلِ »(2) . إلى غيرها .

والغالب : ان القرآن الحكيم في تشريعاته ، اشار إلى العلة - ولو بكلمة - ممّا يدرك العقل وجه التشريع الفعلي حتّى مع النظر عن الشرع .

وهذا القسم وهو : كون الامر والنهي لاجل احراز المصلحة في ذات المأمور به والنهي لاجل تجنب المفسدة في ذات المنهي عنه ، هو الاكثر في التشريعات .

وهناك قسم ثان ، وهو : ما اشار اليه العلامة قدس سره بقوله ( ولا يمتنع ان ) تكون المصلحة في ذات المأمور به ، بل في الفعل اذا وقع بصفة خاصة زمانية او مكانية ، او في نفس الفاعل ، او في سائر الخصوصيات المكتنفة بالفعل ، بحيث لا مصلحة بدون تلك الامور ، فالفعل ( يكون ) فيه ( مصلحة اذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ) .

مثلاً : يجب اكل الميتة للمضطر بحيث اذا لم يأكلها مات ، فان اكل الميتة يكون ذا مصلحة اذا كان المكلّف على صفة مخصوصة ، وهي : الاضطرار ، دون ما اذا لم يكن مضطراً حيث يحرم الاكل ، فان كان من الافعال ما في ذاته الحسن والقبح ومن الافعال ما يحسن او يقبح بالوجود والاعتبار ، فالقيام مثلاً ان كان لاجل أخذ شيء من الرف لا حسن فيه ولا قبح ، واذا كان لاجل احترام عالم كان فيه حسن واذا كان لاجل اهانة مؤن يكون فيه القبح .

ولما بيّن العلامة قدس سره الكبرى بقوله : « ولا يمتنع ...» بيّن صغراه بقوله :

ص: 28


1- - سورة النساء : الآية 22 .
2- - سورة البقرة : الآية 188 .

وكونُنا ظانين بصدق الراوي صفةٌ من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كونُ الفعل عندها مصلحة » انتهى موضع الحاجة .

فان قلتَ : إنّ هذا إنّما يوجبُ التصويبَ ،

------------------

( وكوننا ظانين بصدق الراوي ، صفة من صفاتنا ) فان الظن من صفات الانسان ، فاذا لم تكن لصلاة الجمعة في ذاتها مصلحة لكنا ظننا صدق الراوي لها ، صارت لنا صفة خاصة ، وبهذه الصفة الخاصة تكون صلاة الجمعة ذا مصلحة لانها تكون حينئذٍ انقياداً للمولى الَّذي قال للعبد : اسمع كلام زرارة ، الَّذي هو صادق ( فدخلت ) هذه الصفة اي ظننا ( في جملة احوالنا الَّتي يجوز كون الفعل عندها ) اي عند تلك الاحوال ( مصلحة )(1) .

وبذلك ظهر : ان الشيخ والعلامة يقولان بالمصلحة السلوكية ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام العلامة قدس سره .

ولا يخفى ان ما ذكرناه في المصلحة : يأتي في المفسدة ايضاً سواء كانتا إلى حدّ المنع عن النقيض ، ممّا يوجب الواجب والحرام او دونه . ممّا يوجب المستحب والمكروه ، او دونه ، مما يوجب المباح ، بأن تتعارض المصلحة الواقعية والمفسدة السلوكية ، او بالعكس ، فيكون الفعل مباحاً .

( فان قلت : ان هذا ) الَّذي ذكرتم من المصلحة والمفسدة السلوكية ( انمّا يوجب التصويب ) الَّذي قال به العامة ، والتصويب باطل ، فان الشيعة يقولون : ان للّه احكاماً في كل واقعة فان اصابها المجتهد كان مثاباً ، وان اخطأها كان معذوراً ، ولذا يسمّى الشيعة بالمخطّئة ، او يخطّئون من لم يصب الواقع ، لان اجتهاده اخطأ

ص: 29


1- - عدّة الاصول ص38 .

لأنّ المفروضَ على هذا أنّ في صلاة الجمعة التي اُخبرَ بوجوبها مصلحةً راجحةً على المفسدة الواقعيّة ، فالمفسدةُ الواقعيّة سليمةٌ عن المعارض الراجح بشرط عدم اخبار العادل بوجوبها ، وبعد الاخبار تضمحل المفسدةُ ، لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريمٌ ثبت بغير مفسدة يوجبه ، لأنّ الشرط في إيجاب المفسدة له

------------------

ولم يصب الواقع ، بخلاف العامّة ، حيث يسمّون : بالمصوّبة لانهم يقولون : بان المجتهد مصيب مطلقاً ، امّا من جهة انه ليس للّه احكام خلاف احكام المجتهدين ، او من جهة ان له احكاماً ، الا انه اذا اخطأها المجتهد ، جعل اللّه اجتهاد المجتهد حكماً .

وانمّا كانت المصلحة السلوكية توجب التصويب ( لان المفروض على هذا ) الَّذي ذكرتم : من مصلحة السلوك ( ان في صلاة الجمعة الَّتي اخبر ) الراوي ( بوجوبها ) والحال ان الراوي اشتبه ، وكانت صلاة الجمعة في الواقع حراماً ( مصلحة ) سلوكية (راجحة على المفسدة الواقعية ) الَّتي في ذات صلاة الجمعة ، ممّا سبب ان يحرّمها الشارع واقعاً .

( ف- ) عليه : تكون ( المفسدة الواقعية ) في صلاة الجمعة ( سليمة عن المعارض الراجح ) وهو الخبر بوجوبها ، فهي سليمة ( بشرط عدم اخبار العادل بوجوبها ، وبعد الاخبار ) - اشتباهاً - من العادل ( تضمحل المفسدة ) الذاتية في الجمعة ( لعروض المصلحة الراجحة ) بسبب الاخبار بالوجوب ( ف- ) لا يبقى تحريم حينئذٍ ، اذ ( لو ثبت مع هذا الوصف تحريم ) في الجمعة ( ثبت ) التحريم ( بغير مفسدة يوجبه ) اي يوجب ذلك التحريم ، ومحال على الحكيم ان يحرّم ما لا مفسدة فيه ( لان الشرط ) على هذا الفرض ( في ايجاب المفسدة له ) اي

ص: 30

خلوُّها عن معارضة المصلحة الراجحة ، فيكون إطلاقُ الحرام الواقعيّ حينئذٍ بمعنى : أنّه حرامَ لولا الاخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة

------------------

للتحريم : ( خلوها ) اي المفسدة (عن معارضة المصلحة الراجحة ) اذ قد عرفت : ان المفسدة انمّا توجب التحريم اذا لم يعارضها مصلحة ، والاّ ، لم توجبه سواء كانت المصلحة راجحة ، او مساوية ، او مرجوحة .

لكن لا يجب ان لا يبقى من المفسدة بقدر يوجب المنع عن النقيض فاذا اضرّت المفسدة - مثلاً - العبد ديناراً ، والمصلحة اربحته ديناراً ، او دينارين ، او ثلاثة ارباع الدينار فان ربع دينار المفسدة ، ليس بقدر يوجب التحريم ، بل يوجب الكراهية - مثلاً - ولذا فقوله قدس سره : « الراجحة » من باب المثال .

( ف- ) لا يقال : اذا اضمحلت المفسدة بسبب المصلحة الراجحة ، فكيف تطلقون على الشيء الخالي عن المفسدة : الحرام الواقعي ؟ مع ان الحرام لا يكون ، الاّ ما فيه مفسدة فعلية راجحة إلى حدّ المنع عن النقيض .

فانه يقال : ( يكون اطلاق الحرام الواقعي ) على مثل صلاة الجمعة الَّتي قامت الامارة على وجوبها ، فاضمحلت بسبب الامارة مفسدتها ، وحدث فيها مصلحة سلوكية ، فهو حرام ( حينئذٍ بمعنى : انه حرام لولا الاخبار ) على الوجوب ، سواء كانت الامارة : الاخبار ، او سائر الامارات : كالاجماع ، او ظهور الاية ، او الشهرة ، او السيرة ، او ما اشبه ، ممّا جعل الجمعة واجبة ( لا انه : حرام بالفعل ومبغوض واقعاً ) فالتسمية بالحرام من باب الانقضاء ، لا الفعلية ، مثل تسمية من زنى في وقت سابق بالزاني ، او ما اشبه ذلك : كالسارق ، والقاتل .

وعليه : ( فالموجود بالفعل ) ، في الظاهر وفي الواقع ( في هذه الواقعة )

ص: 31

عند الشارع ليس الاّ المحبوبيّة والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على مافيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه ، ولو فرض صحّته فلا يوجب ثبوتَ حكم شرعيّ مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة .

------------------

كالجمعة الَّتي قام الخبر- مثلاً- على وجوبها ( عند الشارع ليس الاّ المحبوبية ) والارادة والمصلحة ( والوجوب ) لاضمحلال المبغوضية والكراهة والمفسدة ( فلا يصح : اطلاق الحرام ) والمراد به : الحرام فعلاً ( على ما ) اي على الفعل الَّذي ( فيه المفسدة ) المضمحلة (المعارضة ) تلك المفسدة ( بالمصلحة الراجحة عليه ) اي على تلك المفسدة .

( ولو فرض صحته ) اي صحة اطلاق المفسدة - من باب المجاز باعتبار السابق - ذلك (فلا يوجب ) ذلك الاطلاق ( ثبوت حكم شرعي ) بالحرمة ( مغاير للحكم ) الجديد الَّذي هو الوجوب ( المسبب ) ذلك الحكم الجديد ( عن المصلحة الراجحة) على تلك المفسدة .

ولا يخفى : انه كما تنقلب الحرمة إلى الوجوب فيما اذا اخبر العادل بانه واجب ، كذلك ينقلب الوجوب إلى الحرمة ، فيما اذا اخبر العادل بانه حرام ، وكذلك بالنسبة إلى الاحكام الاخر : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

كما لا يخفى : ان في الخارج : مصلحة او مفسدة ، وفي داخل نفس المولى : حب ، او بغض ، ثم : ارادة ، او كراهة ، ثم : وجوب ، او تحريم ، وحيث ان اللّه سبحانه ليس محلاً للحوادث ، من : الحب ، والكره ، والبغض ، وما اشبه ، فالمراد : غايات تلك الامور ، فاذا قلنا : ان اللّه احب عمل كذا ، واكره عمل كذا ، يريد انّه يثيب على عمل كذا ، او يعاقب على عمل كذا ، ولذا قالوا فيه سبحانه : « خذ الغايات واترك المبادي » .

ص: 32

والتصويبُ : وإن لم ينحصر في هذا المعنى ، الاّ أنّ الظاهرَ بطلانهُ أيضا، كما اعترف به العلامة في النهاية في مسألة التصويب ، وأجاب به صاحبُ المعالم في تعريف الفقه عن قول العلاّمة بأنّ ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .

------------------

ثم نعود فنقول : ( والتصويب : وان لم ينحصر في هذا المعنى ) الَّذي ذكر من : تبدل المصلحة إلى المفسدة ، او بالعكس بسبب قيام الامارة ( الاّ ان ) -ه ليس بخارج عن هذا المعنى ايضاً ، فهذا التبدّل قسم من التصويب ، و ( الظاهر بطلانه ايضاً ) كسائر اقسام التصويب الباطلة ( كما اعترف به ) اي ببطلان هذا القسم من التصويب (العلامة في النهاية في مسألة التصويب ، واجاب به ) اي قال : بانه تصويب باطل ( صاحب المعالم في تعريف الفقه ) نقلاً ( عن قول العلامة ، بان ظنيّة الطريق لا ينافي قطعية الحكم ) فاذا اخبر زرارة عن وجوب صلاة الجمعة - مثلاً- فالطريق وهو : الخبر ، ظني ، لانا لا نعلم هل يطابق قول زرارة الواقع ام لا ؟ لكن نقطع بوجوب صلاة الجمعة بسبب هذا الخبر .

لا يقال : كيف يبنى القطع على الظن ؟ .

لانه يقال : اذا قام الطريق ، اضمحلّ الواقع إلى واقع جديد ، ولذا نقطع بالحكم .

اما النزاع بين العلامة قدس سره والمعالم فهو : ان الاصوليين عرفوا الفقه بانه : العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية .

فأشكل بعضهم على هذا التعريف : بأن الفقه - على الاغلب - هو الظن بالاحكام لا القطع ، لان الفقه مبني اما على الكتاب الَّذي هو ظني الدلالة ، واما على السنة - اي الخبر - الَّذي هو ظني السند ، لانا لا نعلم بصدوره ، بل نظن بذلك ، وما

ص: 33

...

------------------

يبنى على الظنّ لا يمكن ان يكون قطعياً ؟ .

وأجاب العلامة قدس سره عن هذا الاشكال في النهاية : بأن ظاهر الكتاب . وسند الخبر ، وان كان ظنياً ، الا ان الحكم المستفاد منهما قطعي ، لانه لما قام الخبر على شيء ، فانه امّا يقوم على حكم واقعي فذلك قطعي ، وامّا يقوم على حكم خلاف الواقع ، وحينئذٍ يضمحل الحكم الواقعي ويتبدل إلى حكم آخر على طبق مفاد الخبر ، او على طبق ما يستفيده الفقيه من ظاهر القرآن ، فيكون الحكم قطعياً - فإنّا وإن كنّا نظن بالحكم الاول بسبب قيام الخبر مثلاً ، الاّ انا نقطع بالحكم الثاني الَّذي هو مفاد الظاهر او مفاد الخبر - فالظن يولّد القطع ، وانّما قطعنا بتبدل الحكم ولّد القطع بالحكم - .

وأجاب صاحب المعالم عن العلامة قدس سره : بأن قولك هذا يا علامة ، تصويب تعترف انت ببطلانه ، فكيف تقول به ؟ .

ثم لا يخفى : ان التصويب على اقسام :- الأوّل : تغير الاحكام الواقعية بالظنون ، كما ذكرنا مثاله حيث ان الظن - وهو ظاهر الآية حسب فهم الفقيه ، أو سند الخبر الَّذي ليس بمقطوع به - اوجب تبدل المصلحة إلى المفسدة ، او بالعكس ، وتبعاً لذلك تبدّل الحكم .

الثاني : ان اللّه سبحانه جعل لكلّ مجتهد حكماً ، يؤّي اليه اجتهاد ذلك المجتهد فيما بعد ، فان اللّه يعلم - مثلاً - أنّ ابا حنيفة يقول بحرمة الشطرنج ، ومالك يقول بحلّيته ، فاللّه يجعل حكم أبي حنيفة : الحرمة ، وحكم مالك : الحلّية، فاذا اجتهد أبو حنيفة ومالك أدّى اجتهاد الاول إلى الحرمة ، واجتهاد الثاني إلى الحلّية ، لكن أداء اجتهاد كلّ واحد منهما إلى ذلك انّما هو باختياره .

ص: 34

قلتُ : لو سُلِّم كونُ هذا تصويبا مُجمعا على بطلانه ، وأغمضنا النظر عمّا سيجيء ، من عدم كون ذلك تصويبا ،

------------------

الثالث : نفس الثاني ، الاّ ان اداء اجتهاد كل واحد منهما إلى ذلك الحكم باجبار اللّه تعالى له لا باختيار المجتهد الى غير ذلك من مذاهب العامة في باب التصويب .

والصحيح عند المحققين من الشيعة : ان للّه سبحانه في كل واقعة حكماً ، ان ادّى اليه نظر المجتهد ، فهو ، وان ادّى إلى خلافه كان معذوراً ، لانّه « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وِسْعَهَا »(1) .

وعليه : ( قلت : لو سلم كون هذا ) اي حدوث المصلحة بسبب الخبر ، وتبدل المفسدة إلى المصلحة ( تصويباً مجمعاً على بطلانه ) عند الشيعة ( واغمضنا النظر عما سيجيء ، من عدم كون ذلك تصويباً ) لانا نقول : هذا من قبيل تبدّل الحكم بتبدّل الموضوع ، كما ان المسافر يصلّي قصراً والحاضر يصلّي تماماً ، والصحيح يتوضأ ، والمريض يتيمّم ، وهذا ليس من التصويب في شيء ، ففي المقام الَّذي نقول بتبدّل الحكم ، بسبب قيام ظاهر الاية او الخبر - عند الفقيه - ليس من التصويب ، بل استظهار الفقيه واعتماده على الخبر - وكلاهما مأمور به شرعاً - بدّل الحكم من الواقع الاول ، إلى الواقع الثاني .

ثم لا يخفى : انه ليس مراد المصنّف قدس سره من صلاة الجمعة - الَّتي قام عليها الخبر اشتباهاً - : انها تكون ذا مصلحة ، بل مراده : ان في سلوك هذا الطريق مصلحة تفوق مفسدة الواقع ، فلا يستشكل عليه بما قاله جمع من المعلقين على

ص: 35


1- - سورة البقرة : الآية 286 .

كان الجوابُ به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غيرَ مستحيل وإن لم يكن واقعا ، لاجماع او غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه ، إلاّ أن يقال : إنّ كلامه قدس سره ، بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله .

------------------

الكتاب : بان كلامه الاتي يكون حول المصلحة السلوكية ، وهذا الكلام حول تغير الواقع من ذي مفسدة إلى ذي مصلحة بل حاصل مراد المصنّف قدس سره ان هناك مصلحة سلوكية ، ومفسدة واقعية ترجّح على تلك المصلحة ، لا ان في ا لواقع تحدث مصلحة تقاوم المفسدة .

( كان الجواب به ) اي بحدوث المصلحة السلوكية ( عن ابن قِبة ، من جهة انه ) اي تبدّل المصلحة والمفسدة بجهة قيام الطريق ( أمر ممكن غير مستحيل ، وان لم يكن ) هذا التبدّل ( واقعاً ) شرعاً ، وانّما لم يكن واقعاً( لاجماع او غيره ) .

والحاصل : ان ابن قِبة قال : التعبد بالخبر محال ، لانه تحليل للحرام وتحريم للحلال ، اجبنا عنه :

اولاً : بان قيام الخبر يغيّر الواقع ، فان قال : تغيير الواقع تصويب اجبنا عنه :

ثانياً : بانه لو كان تصويباً لم يكن محالاً - كما ادعاه هو - بل يكون ممكناً غير واقع ، وفرق واضح : بين المحال ، وبين الممكن ، الَّذي ليس بواقع .

( وهذا المقدار يكفي في ردّه ) و ( الا ان يقال ) اشكالكم الثاني ليس بوارد على ابن قِبة ل- ( ان كلامه قدس سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب ) يعني ان ابن قِبة يقول : اذا كان التصويب باطلاً ، كان التعبد محالاً ، لا انه يقول : التعبد محال مطلقاً ، ولو على نحو التصويب ( كما هو ظاهر استدلاله ) فانه استدل لامتناع التعبد : بانه مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، ومن الواضح : انه لا امتناع في التعبد الاّ بعد بطلان التصويب شرعاً .

ص: 36

وحيث انجرَّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول في توضيح هذا المرام ، وإن كان خارجا عن محلّ الكلام : إنّ ذلك يتصوّرُ على وجهين :

الأوّلُ : أن يكونَ ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ،

------------------

( وحيث انجرّ الكلام إلى ) امكان ( التعبد بالامارات غير العلمية ) وانّما انجر الكلام لان اصل البحث كان في الكبرى وهو : امكان التعبد بالظن ، وفي انه واقع ام لا ؟ لا في الصغرى كأن يكون الكلام في انه : هل يمكن وجود الانسان ؟ وهل ان الانسان موجود ؟ ثم يتكلم حول وجود زيد ، وواضح : ان امكان الكبرى ووجودها في الجملة ، لا يلازم وجود بعض الصغريات ( فنقول في توضيح هذا المرام ) اي التعبد بالامارة ( وان كان خارجاً عن محل الكلام ) لان كلام الاصولي في الكليات لا في الجزئيات ، فاذا تكلم المنطقي حول وجود زيد او عدمه ، كان خارجاً عن مبحث المنطق ، لان بحث المنطقي يجب ان يكون عن كلّي الانسان .

( ان ذلك ) التعبد بالامارة ( يتصور على وجهين ) الطريقيّة ، والسببيّة .

ف( الاول : ان يكون ذلك ) التعبد بالامارة طريقيا ، كما اذا قال عليه السلام : «يونُس ، ثِقَةٌ ، خُذ مِنهُ مَعالِمَ دِينِكَ »(1) .

بأن كان ( من باب مجرد الكشف عن الواقع ) فالامام عليه السلام اراد من ذلك : ان قول يونس ، كاشف عن الواقع فاذا اخطأ يونس لم يصل إلى العبد شيء ، كما اذا قال المولى لعبده اذا ضللت طريق مكة ، فاسأل الناس الاعراب ، فانه لا مصلحة في سؤل الاعراب الاّ الوصول إلى مكة المكرمة ، ، فاذا اخطأوا ، لم

ص: 37


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 .

فلا يلاحظ في التعبّد بها الاّ الايصالُ إلى الواقع ، فلا مصلحةَ في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غيرَ مُلاحظ في ذلك إلاّ كونَ قول الأعراب موصلاً إلى الواقع دائما او غالبا ، والأمرُ بالعمل في هذا القسم ليس إلاّ للارشاد .

------------------

يكن للعبد شيء (فلا يلاحظ في التعبد بها ) اي بالامارة ( الاّ الايصال إلى الواقع ) فان وصل فهو والاّ فلا شيء للعبد ( فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق ) والعمل به ( وراء مصلحة الواقع) فيكون كقول الطبيب : اشرب دواء كذا حيث انه اذا اخطأ لم يكن للمريض مصلحة في شرب الدواء ( كما لو امر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد ) والعبد يريد الذهاب اليه ( بسؤل الاعراب ) ومفرده : اعرابي وهم اهل البادية ، قال سبحانه : « قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا »(1) . اما العرب ، ومفرده : عربي ، فهو من يتكلم بلغة العرب ، كما ان النسبة إلى العرب عربي ايضاً ، قال سبحانه : « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْن »(2) .

( عن الطريق ، غير ملاحظ ) المولى ( في ذلك ) الَّذي امر به عبده ( الا كون قول الاعراب ، موصلاً إلى الواقع ) الَّذي يريده العبد من الوصول إلى بغداد( دائماً او غالباً و ) من المعلوم : ان ( الامر بالعمل ) على قول الاعراب ( في هذا القسم ليس الاّ للارشاد ) فليس امراً مولويّاً وكذلك الحال في بعض الامارات ، وقد ورد في بعض الروايات : السؤل عن الامام عليه السلام في معرفة الميقات في باب الحج ، فقال عليه السلام : « لِيَسأَل النَّاس الأَعرَاب » (3) .

ص: 38


1- - سورة الحجرات : الآية 14 .
2- - سورة الشعراء : الآية 195 .
3- - وسائل الشيعة : ج11 ص315 ب5 ح14902 وفيه «والأعراب» .

الثاني : أن يكونَ ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع ، فالغرضُ إدراكُ مصلحة سلوك هذا الطريق ، التي هي مساوية لمصلحة الواقع ، او أرجح منها .

------------------

ولا يخفى : ان قول الشارع : صلّ ، يسمّى بالامر المولوي ، لان المصلحة في ذات المأمور به ، وهو الصلاة ، اما قول الشارع : « صدّق العادل » - مثلاً - فليس الاّ امراً ارشادياً ، لانه لا مصلحة في ذات تصديق العادل ، وانّما هو ارشاد إلى حكم العقل بلزوم سلوك الطريق ليصل العبد إلى اوامر المولى ، ومن قبيل الامر الارشادي ، «أَطِيْعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول »(1) ، وما اشبه ذلك .

هذا كله في القسم الاول : وهو الاوامر الطريقية حيث لا مصلحة في ذات الطريق .

( الثاني ) : الاوامر السببيّة ، ب- ( ان يكون ذلك ) التعبد بامارة غير علميّة انّما هو (لمدخلية سلوك ) العبد وفق ( الأمارة في ) حدوث ( مصلحة ) في نفس ( العمل ) بالامارة ( وان خالف الواقع ) فان اوصلت الأمارة إلى الواقع ، فللمكلف مصلحة الواقع ، وان خالفت الأمارة الواقع ، كما للعبد مصلحة سلوك هذاالطريق ، كمااذا قال المولي لعبده : اتبع قول ولدي ، فان طابق قولي ، فلك اجر الواقع ، وان اشتبه الولد وخالف قولي فاني اعطيك شيئاً لئلاّ تضيع اتعابك ( فالغرض ) من التعبد : ان العبد أن فاته ادراك الواقع ، لم يفته ( ادراك مصلحة سلوك هذا الطريق ، الَّتي هي ) اي تلك المصلحة ( مساوية لمصلحة الواقع ، او ارجح منها ) .

وقد تقدّم : ان المصلحة السلوكية ، قد تكون اقل من مصلحة الواقع ، كما اذا

ص: 39


1- - سورة محمّد : الآية 33 .

أمّا القسمُ الأوّل فالوجهُ فيه لا يخلو من أمور :

أحدُها : كونُ الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارات للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف .

الثاني : كونُها في نظر الشارع غالبَ المطابقة .

------------------

كان مصلحة الواقع ديناراً ، ومصلحة السلوك : ديناراً الاّ ربع ، لكن الربع الفاقد ، لا يوجب تداركاً من المولى ، بل من قبيل : مصلحة المستحبات ، حيث ليست بقدر يوجب ايجاب ذلك المستحب . وقد تكون اكثر من مصلحة الواقع .

( اما القسم الاول : ) وهو ما كان من باب الكشف عن الواقع ، بدون ان يكون لسلوك الطريق مصلحة ( فالوجه ) المتصور ( فيه ) اي في ايجاب الشارع العمل بالامارة ( لا يخلو من امور ) ثلاثة ، اذا كان احدها أوجب الشارع العمل طبق الأمارة .

( احدها : كون الشارع العالم بالغيب ) والعالم بانه كم تطابق الأمارة للواقع ، وكم لا تطابقه ( عالماً بدوام موافقة هذه الامارات ) كالخبر ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، والسيرة ، ونحوها ( للواقع ) ولهذا عبّد بالامارات ، اذ ايّ فرق حينئذٍ بين ان يحصل المكلّف العلم بالواقع أو أن يعمل بالامارة المطابقة للواقع دائماً ، ففي كليهما يدرك تمام مصلحة الواقع ( وان لم يعلم بذلك ) التطابق الدائم للامارة مع الواقع (المكلّف ) اذ ليس الشرط : علم المكلّف ، بل علم المولى كافٍ في تشريع الأمارة .

( الثاني : كونها ) اي الأمارة ( في نظر الشارع غالب المطابقة ) مع الواقع ، بينما القطع دائم المطابقة ، فاذا اتبع العلم وصل إلى الواقع مائة في المائة ، بينما ا ذا اتبع امارة وصل إلى الواقع تسعين في المائة .

ص: 40

الثالث : كونُها في نظره أغلبَ مطابقةً من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ، لكون أكثرها في نظر الشارع جهلاً مركّبا .

والوجهُ الأوّلُ والثالثُ يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع ، والثاني لايصحّ إلاّ مع تعذّر باب العلم ، لأنّ تفويتَ الواقع على المكلّف ، ولو في النادر من دون تداركه بشيء قبيحٌ .

------------------

( الثالث ) : عكس الثاني ، وهو : ( كونها ) اي الأمارة ( في نظره ) اي نظر الشارع ( اغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلف بالواقع ) بان تكون مطابقة العلوم تسعين في المائة وامارة خمسة وتسعين في المائة ( لكون ) العلوم ، أو ( اكثرها ، في نظر الشارع جهلاً مركباً ) فالقطع يكون فيه الخطأ اكثر ممّا في الأمارة.

( والوجه الاول ، والثالث ، يوجبان الامر بسلوك الأمارة ) اذ التطابق الدائم ، والتطابق الغالب في الأمارة يجعل الأمارة مساوية للقطع ، او افضل من القطع ( ولو مع تمكن المكلّف ) في حال الانفتاح ( من الاسباب المفيدة للقطع ) اذ لا محذور في جعل الأمارة في هذين الوجهين .

( و ) في الوجه ( الثاني لا يصح ) الامر بالعمل بالامارة في حال الانفتاح ، اذ العلم اكثر اصابة من الأمارة ( الاّ مع تعذّر باب العلم ) وحصول الانسداد ، وانّما لا يصح الا مع الانسداد ( لان تفويت ) مصلحة ( الواقع على المكلّف ، ولو في النادر ) كما اذا كان مطابقة العلم مع الواقع : مائة في المائة ، والأمارة : تسع وتسعين في المائة ( من دون تداركه بشيء قبيح ) عقلاً فاذا كانت الأمارة طريقية فقط ، لا سببيّة ، وكانت توجب تفويت بعض الواقع ، صح جعلها في حال الانسداد ، لا في حال الانفتاح ، الَّذي يكون العلم اكثر تطابقاً للواقع من الامارات .

ص: 41

وأمّا القسمُ الثاني فهو على وجوه :

أحدُها : أن يكون الحكم - مطلقا - تابعا لتلك الأمارة ،

------------------

ولا يخفى : ان هذا التقسيم الثلاثي للمصنف انّما هو من باب المثال ، والاّ فالاقسام ستة عشر ، حاصلة من ضرب الاقسام الاربعة للقطع ، وهي : دوام المطابقة واغلبيّة المطابقة ، وتساوي المطابقة واقليّة المطابقة ، مثل ان يطابق القطع مائة في مائة ، او بين الخمسين والمائة ، او خمسين في المائة ، او دون الخمسين في المائة في الاقسام الاربعة للامارة ، لكن بعض هذه الاقسام الستة عشر متداخل في بعض ، فالمساوي من القطع والأمارة قسم واحد ، لا قسمان ، وهكذا .

ولا يخفى ايضاً : انه اذا كان كلاًّ من القطع والأمارة ، غالب المطابقة ، أو نادر المطابقة - مثلاً - فقد يتساويان عدداً ، وقد تفوق الأمارة ، وقد يفوق القطع .

( وامّا القسم الثاني : ) الَّذي يتعبد فيه بالامارة لمصلحة سببيّة ، بان لم يكن الأمارة طريقاً محضاً ، بل في سلوكها بعض المصلحة ( فهو ) ايضاً ( على وجوه : احدها : ان يكون الحكم ) للجاهل ( مطلقاً ) بجميع مراتب الحكم ( تابعاً لتلك الأمارة ) القائمة على الحكم فليس - مثلاً - لصلاة الجمعة حكم في الواقع ، فاذا ادّت الأمارة إلى وجوبها ، صارت واجبة في الواقع ، واذا ادّت الأمارة إلى حرمتها ، صارت محرمة في الواقع ، وهكذا .

ثم انهم ذكروا : ان للحكم مراتب اربع :- الاولى : مرتبة الاقتضاء والشأنيّة : بان يكون في الفعل مصلحة او مفسدة بحدّ المنع عن النقيض ، او بدونه ، او لا مصلحة ولا مفسدة ، كما في المباح ، وان لم ينشى ء الحكم بعد .

الثانية : مرتبة الانشاء : بان يقول المولى : الشيء الفلاني واجب - مثلاً- .

ص: 42

بحيث لايكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها حكمٌ ، فتكون الأحكامُ الواقعيّة مختصّةً في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على

------------------

الثالثة : مرتبة الفعلية : بان يبلغ المولى الحكم بسبب الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

الرابعة : مرتبة التنجّز : وهو ان يصل الحكم إلى المكلّف ، حتَّى يكون امتثاله طاعة ، ومخالفته معصية .

وربما يستفاد بعض هذه المراتب ، من الاخبار الواردة في كون ليالي القدر ثلاث .

وقال بعضهم : ان احكامه سبحانه كاحكام الدول .

فأولاً : يكون اقتضاء في الحكم .

وثانياً : تحكم الدولة حسب ذلك الاقتضاء .

وثالثاً : يعلن الحكم بواسطة وسائل الاعلام إلى الناس .

ورابعاً : من علم بالحكم فلم يفعل ، عوقب على المخالفة .

وعليه : فالحكم تابع للامارة ( بحيث لا يكون في حقّ الجاهل ، مع قطع النظر عن وجود هذه الامارة ) القائمة على الحكم ( وعدمها حكم ) اصلاً ( فتكون الاحكام الواقعيّة ) من : صلاة ، وصوم ، وحج ، وحرمة شرب الخمر ، والزنا ، والرّبا ، إلى غيرها ( مختصّة في الواقع ) ونفس الامر ( بِالعَالِمِيْنَ بها ) بالكسر ، فالجاهل لا حكم له اطلاقاً ، ولا اشتراك بين العالم والجاهل في الحكم ، وانّما يحدث الحكم على الانسان بسبب الأمارة .

( و ) على هذا ف( الجاهل مع قطع النظر ، عن قيام امارة عنده ) قياماً ( على

ص: 43

حكم العالمين لا حكمَ له او محكومٌ بما يعلم اللّه أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، وهذا تصويبٌ باطلٌ عند أهل الصواب من التخطئة ،

------------------

حكم العالمين ، لا حكم له ) اطلاقاً ( او محكوم بما يعلم اللّه : ان الأمارة تؤّي اليه ) والفرق بين : « لا حكم له » وبين : « او محكوم » :

ان الاول : لا حكم في اللوح المحفوظ - اطلاقاً - حتَّى تقوم الأمارة عند الجاهل ، فيثبت فيه الحكم - مثلاً - .

والثاني : ان الحكم قبل قيام الأمارة موجودة في اللوح المحفوظ ، لكن هذا الحكم ليس على طبق المصلحة والمفسدة بل على طبق ما تؤي اليه الأمارة عند الجاهل ، فان اللّه يعلم بان ابا حنيفة - مثلاً - يحكم بوجوب صلاة الجمعة ، فيثبت الوجوب في اللوح المحفوظ ، فحكم اللّه تابع لحكم ابي حنيفة ، لا ان حكم ابي حنيفة تابع لحكم اللّه ( وهذا ) الوجه ( تصويب ) وهو ( باطل عند اهل الصواب ) والحق من الشيعة (من ) القائلين ب( التخطئة ) والقائلين بان المجتهد قد يصيب وقد يخطيء ، وانّما للّه احكام واقعيّة ان وصل المجتهد اليها فهو مصيب ، وان لم يصل اليها فهو على خطأ ، نعم هو معذور ، وقد ورد في بعض الروايات كما في حاشية السلطان على المعالم : « إنّ لِلمُصِيبِ أجرَين وَلِلمُخْطِيء أجراً واحِدا »(1) .

فالاجران الأوّلان : للجهد ، والواقع ، والأجر للمخطيء : من جهة الجهد ، قال تعالى : « أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ... »(2) .

ص: 44


1- - حاشية سلطان العلماء على المعالم ص 80 .
2- - سورة آل عمران : الآية 195 .

وقد تواترت بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبارُ والآثارُ .

الثاني : أن يكون الحكمُ الفعليّ تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى : أنّ للّه في كلّ

------------------

( وقد تواترت ) الاخبار ( بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل ) فسواء علم ، او لم يعلم ، قصوراً ، او تقصيراً ، له حكم ، كما دلّت على ذلك ( الاخبار ) الواردة ، (والاثار ) والاجماع قام على ذلك بالاضافة إلى انّهم استدلوا على بطلان التصويب : بلزوم الدور ، فاذا قال المولى : « اذا علمت بحرمة الخمر ، فهو حرام » يلزم ان تكون الحرمة قبل « العلم » وبعد « العلم » وقد ورد في تفسير الاية الكريمة : «قُلْ : فَللّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ »(1) ، انه يقال للعبد يوم القيامة : هل عملت ؟ فاذا قال : لم اكن اعلم ، يقال : هلاّ تعلمت ؟ (2) وعلى هذا : فللّه الحجة البالغة .

هذا ، ولكن لا يخفى : ان انشاء الحكم ، في حقّ الجاهل القاصر ، الَّذي لا يصل إلى الحكم اطلاقاً ، غير ظاهر الوجه ، اذ الحكم لا فائدة له حينئذٍ ، ولعلّ في روايات : امتحان الجاهلين في يوم القيامة كمن كان في فترة من الرّسل ، دلالة على عدم انشاء الحكم لهم في الدّنيا .

وعليه : فما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم ، خاص بالجاهل ، الَّذي يكون لجعل الحكم عليه اثر .

( الثاني ) من وجوه التصويب : ان للّه حكماً في واقعة ، لكلّ عالم وجاهل ، لكن اذا خالف رأي ابي حنيفة الواقع - مثلاً - محى اللّه ذلك الحكم الواقعي ، واثبت رأي ابي حنيفة مكانه ، وذلك ب( ان يكون الحكم الفعلي ) في حقّ المكلّف ، لا الحكم مطلقاً (تابعاً لهذه الأمارة ) القائمة فعلاً ( بمعنى : ان للّه في كلّ

ص: 45


1- - سورة الانعام : الآية 149 .
2- - الامالي للمفيد : ص292 .

واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لولا قيامُ الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ، لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبةً على مصلحة الواقع .

فالحكمُ الواقعيّ فعليٌّ في حق غير الظّان بخلافه ، وشأنيٌّ في حقّه بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظنّ على خلافه .

------------------

واقعة حكماً ) واقعياً ، ثابتاً في اللوح المحفوظ ( يشترك فيه العالم والجاهل ) على حدّ سواء ( لولا قيام الأمارة على خلافه ) فقيام الأمارة على خلاف ذلك الحكم الواقعي ، يوجب محو ذلك الحكم الواقعي ( بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة ) لحكم اللّه الواقعي ( مانعاً عن فعليّة ذلك الحكم ) .

وانّما يمحى ذلك الحكم الواقعي ( لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة ) المؤيّة إلى خلاف حكم اللّه الثابت في اللوح المحفوظ ( غالبة على مصلحة الواقع ) غلبة توجب اضمحلال الحكم الواقعي ، فاذا أثبت اللّه وجوب صلاة الجمعة في اللوح المحفوظ وادّى رأي أبي حنيفة - مثلاً - إلى حرمتها ، كان حكم المكلّف : الحرمة من قبل اللّه سبحانه ، لا الوجوب الَّذي اثبته اللّه اولاً .

( فالحكم الواقعي ) المشترك بين العالم والجاهل ( فعلي في حقّ ) العالم بالواقع ، لا في حقّ ( غير ) العالم ( الظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي .

( وشأني في حقّه ) اي في حقّ الظان بالخلاف ، فان له شأن الحكم واقتضائه ، من جهة المصلحة الكامنة فيه ، وان كانت المصلحة مندكّة بسبب مصلحة اقوى ، فالشأنيّة (بمعنى : وجود ) المصلحة في الواجب ، والمفسدة في الحرام ( المقتضي لذلك الحكم ) الواقعي ( لولا الظن على خلافه ) فاذا قام الظن بالخلاف بسبب الأمارة ، يبقى الواقع في مرحلة الشأنيّة ، بدون ان يصل إلى

ص: 46

وهذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ، لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اُخرى لاتصير منشأ للحكم ، فلا يقال للكذب النافع : إنّه قبيحٌ واقعا .

والفرقُ بينه وبين الوجه الأوّل ،

------------------

الفعلية .

( وهذا ) القسم الثاني من التصويب ( ايضاً ك) القسم ( الاول ) الَّذي تقدّم ( في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي ( لان الصفة ) الواقعيّة من المصلحة والمفسدة ( المزاحمة بصفة اخرى ) حيث ان قيام الأمارة على خلاف الواقع يزاحم الواقع وينسخه ف( لا تصير منشأً للحكم ) اذ المصلحة في وجوب الجمعة ، تندك بسبب المفسدة الَّتي صارت للجمعة بسبب قيام الأمارة على حرمتها .

فالكذب - مثلاً - قبيح بذاته ، لكن اذا صار فيه جهة صلاح اهم ، بان كان موجباً لانقاذ انسان مسلم - مثلاً - حيث يسأل الجائر زيداً عنه ، فاذا قال : في الدار ، ذهب وقتله فالصلاح حينئذٍ في الكذب ، بان يقول : لا اعلم لينقذ مسلماً من القتل فان هذا الكذب ، القبيح في ذاته ، صار حسناً ( فلا يقال للكذب النافع : انه قبيح واقعاً ) .

وكذلك الصدق الضّار ، ليس حسناً ، بل قبيح ، فإن الصفات الطارئة تغير من الصفات السابقة ، وبتغيير الصفة يتغيّر الحكم .

( والفرق بينه ) اي بين هذا القسم الثاني من التصويب ( وبين الوجه الاول ) يكون من وجهين :

اولاً : ان في الوجه الاول : لا حكم في الواقع ، وفي الوجه الثاني : كان حكم ،

ص: 47

بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ، أنّ العاملَ بالأمارة المطابقة حكمهُ حكمُ العالم ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم ، كان ظنّه مانعا عن المانع ، وهو الظنّ بالخلاف .

------------------

لكن كونه خلاف الأمارة غيّره إلى حكم مطابق للامارة .

ثانياً : من يعمل بالامارة في الاول ، يحدث له الحكم بسبب الأمارة ، اما العامل بالامارة في الثاني ، اذا كانت الأمارة مطابقة للواقع ، لا يحدث له الحكم ، لان المفروض ان الحكم موجود في الواقع ، وقد فرض وصول الأمارة اليه .

وعليه : فالوجهان ( بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي ، اذ في الاول : لا حكم واقعي قبل الأمارة ، وفي الثاني : كان حكم لكن الأمارة غيرت ذلك الحكم (: ان العامل بالامارة المطابقة ) للواقع (حكمه حكم العالم ) فهناك واقع اذا وصلت الأمارة اليه ، وكان العالم والجاهل مشتركان فيه ( ولم يحدث في حقّه ) حقّ العامل ( بسبب ظنّه ) الاماري ( حكم ) آخر .

( نعم ، كان ظنه ) المطابق للواقع ( مانعاً عن المانع و ) المانع ( هو الظن بالخلاف ) حتَّى يسبب هذا الظنّ بالخلاف تبدّل الواقع إلى مؤّى الأمارة .

والحاصل : ان في الوجه الاول - وهو : عدم حكم في الواقع -: بالامارة يحدث الحكم .

وفي الوجه الثاني - وهو وجود الحكم في الواقع -: اذا طابقت الأمارة للواقع لم يحدث حكم ، واذا خالفت الأمارة الواقع ، حدث حكم جديد ومحي الحكم المجعول اولاً .

ولا يخفى : ان قول المصنّف قدس سره : « المانع عن المانع » تعبير مسامحي ، اذ

ص: 48

الثالثُ : أن لاتكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثيرٌ في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ، ولا تحدث فيه مصلحة ، الاّ أنّ العملَ على طبق تلك الأمارة ، والالتزام به في مقام العمل على انّه هو الواقع ، وترتيبَ الاثار الشرعية المترتبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة

------------------

عدم الأمارة على الخلاف ، ليس مانعاً حتَّى تكون الأمارة على الوفاق مانعاً عن المانع .

( الثالث ) من وجوه السببيّة : ( ان لا تكون للامارة القائمة على الواقعة ، تأثير في الفعل الَّذي تضمّنت الأمارة حكمه ) فالجمعة اذا كانت محرّمة عند الشارع في الواقع ، وقامت الأمارة على انها واجبة ، فالخبر القائم على الوجوب ، لا تأثير له في تبدّل الواقع عن الحرمة إلى الوجوب ( ولا تحدث فيه ) اي في فعل ذلك الشيء (مصلحة) بل الجمعة باقية على المفسدة ، لفرض انها محرمة واقعاً .

( الاّ ان العمل على طبق تلك الأمارة ) كالخبر الَّذي يقول : بوجوب الجمعة (والالتزام ) القلبي ( به ) اي بذلك الخبر( في مقام العمل ) اي في وقت العمل ( على انه ) اي ما ادّى اليه الخبر( هو الواقع ) الَّذي يريده الشارع من المكلّف ( وترتيب الاثار الشرعيّة المترتّبة عليه ) اي على الواقع ( واقعاً ) كلزوم السعي اليها اول وقتها ، كما قال سبحانه : « إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا البَيْعَ »(1) .

وحرمة تأخيرها عن وقتها ، واستحباب النافلة لها ، ووجوب استماع الخطبتين إلى غير ذلك من احكام الجمعة ( يشتمل على مصلحة ) فليست المصلحة في

ص: 49


1- - سورة الجمعة : الآية 9 .

فاوجب الشارع ، ومعنى ايجاب العمل على الأمارة وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب ايجاد عمل على طبقها ،

------------------

صلاة الجمعة ، وانّما في اتباع الخبر الَّذي يدل على وجوبها ( فاوجب ) اي اوجب هذا العمل (الشارع ) لتلك المصلحة السلوكية ، لا لاجل مصلحة في الواقع المأتي به من صلاة الجمعة .

ثم لا يخفى : انه يلزم ان يتدارك الشارع بالمصلحة السلوكية مصلحة الواقع ، الَّتي تفوت بسبب الأمارة ، فيما اذا كان المكلّف يحرز تلك المصلحة اذا لم يضع الشارع الأمارة لأنه كان يتمكن - مثلاً - من العلم بالواقع ، فيأتي بالواقع - وقد تقدّم الالماع الى هذا سابقاً - .

( و ) ان قلت : كيف قلتم : يجب العمل على طبق الأمارة ؟ والحال ان الأمارة قد تدل على الاستحباب ، فلا يجب العمل على وفقها ، او تدل على الاباحة مثلاً .

قلت : ( معنى ايجاب العمل على الأمارة ) هو ( : وجوب تطبيق العمل عليها ) اي على تلك الأمارة ، بمعنى : اتباع الأمارة وجوباً او استحباباً ، او سائر الاحكام الخمسة .

( لا وجوب ايجاد عمل على طبقها ) بمعنى : ان اللازم على المكلّف ان دلّت الأمارة على احد الاحكام الخمسة ، العمل حسب مدلول الأمارة ، فان دلّت على الوجوب : عمل او على التحريم : ترك ، او على الاباحة : تخيّر ، او على الاستحباب : عمل مرجحاً الفعل على الترك او على الكراهة : ترك مرجحاً الترك على الفعل ، فيلتزم بمؤّى الأمارة وهذا الالتزام فيه المصلحة ، فيما كانت الأمارة مخالفة للواقع ويتدارك بهذه المصلحة السلوكية فوت مصلحة الواقع .

ص: 50

اذ قد لا تتضمن الأمارة الزاما على المكلّف ، فاذا تضمنت استحباب شيء او وجوبه تخييرا او اباحته ، وجب عليه اذا اراد الفعل ان يوقعه على وجه الاستحباب او الاباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما ، كما لو قطع بهما ، وتلك المصلحة لابدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوتُ من مصلحة الواقع ،

------------------

وانّما قلنا « ومعنى .. » ( اذ قد لا تتضمن الأمارة الزاماً على المكلّف ) في الفعل او في الترك ( فاذا تضمّنت استحباب شيء ) كغسل ليالي رمضان ، او كراهة شي ككراهة النوم بين الطلوعين ( او وجوبه تخييراً ) كوجوب كفارة القسم بين : الصيام ، والاطعام ، ( او اباحته ) كاباحة شرب التتن ، او حرمته تخييراً بان يترك هذا او ذاك .

( وجب عليه ) اي على المكلّف ( اذا اراد الفعل ) في المستحب والمباح ( ان يوقعه ) اي الفعل ( على وجه الاستحباب او الاباحة ) لا على وجه الوجوب ( بمعنى : حرمة قصد غيرهما ) .

وكذا اذا اراد ترك المكروه - الَّذي قامت الأمارة على كراهته - تركه بقصد : انه مكروه ، لا بقصد : انه حرام إلى غير ذلك ، فيكون حاله عند قيام الأمارة على الاستحباب او الاباحة ( كما لو قطع بهما ) فكيف كان يعمل او يترك ؟ كذلك اذا قامت الأمارة يعمل او يترك .

( و ) هكذا حال ما اذا دلّت الأمارة على سائر ما ذكرناه من الكراهة والوجوب التخييري ، او الحرمة التخييرية .

ثم ان ( تلك المصلحة ) السلوكية ( لابد ان تكون ممّا يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( ما يفوت من مصلحة الواقع ) وذلك لان الشارع بسبب تشريعه الأمارة فوّت على المكلّف تلك المصلحة الواقعيّة ، ولا يجوز على الحكيم ان يفوّت المصلحة على احد ، بدون ان يتداركها ، فانه ظلم وهو قبيح عقلاً .

ص: 51

لو كان الأمر بالعمل به مع التمكن من العلم ، وإلاّ كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة .

فان قلت : ماالفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالأمارة وترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها

------------------

ولزوم التدارك انّما يكون فيما ( لو كان الامر ) من الشارع ( بالعمل به ) اي بما وضعه من الأمارة ( مع التمكن ) اي تمكن المكلّف ( من العلم ) بحيث اذا ترك المولى العبد وصل إلى الواقع ، لكنه حيث جعل الأمارة عمل العبد على وفقها ، ففاتته مصلحة الواقع .

( والاّ ) بأن لم يتدارك المولى المصلحة الفائتة - في حال الانفتاح وحين تمكن المكلّف من الوصول إلى الواقع لولا الأمارة - ( كان ) أمر المولى بالعمل بالامارة (تفويتاً ) على العبد ( لمصلحة الواقع وهو ) اي هذا التفويت ( قبيح ) عقلاً ( كما عرفت ) قبحه ايضاً ( في كلام ابن قِبة ) المتقدم .

( فان قلت : ) ان الوجه الثالث ، الَّذي ذكرتموه من المصلحة السلوكيّة يطابق الوجه الثاني الَّذي حكمتم : بانه تصويب باطل وكان عبارة عن : تغيير الواقع بسبب الأمارة .

ف- ( ما ) هو ( الفرق بين هذا الوجه - الَّذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالامارة ، وترتيب احكام الواقع ) هو مثل السعي إلى الجمعة ، والاستماع إلى الخطبة ، وغير ذلك - ممّا تقدّم الكلام حوله - ( على مؤدّاها - ؟ ) اي مؤّى الأمارة .

وانّما قال : « مرجعه » لان هذا الوجه الثالث : دلّ على ان في السلوك مصلحة ولازم كون السلوك ذا مصلحة بسبب قيام الأمارة ، هو : وجود المصلحة : في العمل بالأمارة .

ص: 52

وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها على المكلّف ؟ .

مثلاً : إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر فان كان في فعل الجمعة مصلحةٌ يتدارك بها مايفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حق هذا الشخص خاليةٌ عن المصلحة الملزمة

------------------

( وبين الوجه السابق ) اي الثاني من الوجهين الاوّلين ، حيث كان اولهما : ان لا حكم في الواقع ، وثانيهما : انه للواقع حكم ، لكن اذا وصل رأي الفقيه إلى غيره محي ذلك الواقع ، واثبت مكانه هذا الَّذي رآه الفقيه ( الراجع ) ذلك الوجه الثاني ( إلى كون قيام الأمارة ، سبباً لجعل ) الشارع ( مؤّاها ) اي مؤّى تلك الأمارة حكماً واقعياً ( على المكلّف ) .

والحاصل : انه ايّ فرق بين التصويب القائل : بحدوث المصلحة في المؤّى - بالفتح - وبين قولكم : بالمصلحة السلوكية وان السلوك ذو مصلحة ، فان النتيجة واحدة اذ في كلا الحالين يضمحل الحكم الواقعي ويتبدّل بحكم آخر ، فالثالث كالثاني تصويب ايضاً.

( مثلاً : اذا فرضنا ) حرمة الجمعة في زمن الغيبة لكن كان ( قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، مع كون الواجب في الواقع ) المقرّر عند اللّه ( هي الظهر ، فان كان في فعل الجمعة ) لأنّ سلوك الأمارة معناه فعل الجمعة ( مصلحة يتدارك بها ) اي بسبب هذه المصلحة ( ما يفوت ) من المصلحة الواقعية (ب) سبب ( ترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص ) الّذي قامت عنده الأمارة على خلاف الظهر ( خالية عن المصلحة الملزمة ) .

ص: 53

فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعيّ ، فهنا وجوبٌ واحدٌ واقعا وظاهرا متعلّقٌ بصلاة الجمعة ؛ وإن لم يكن في فعل الجمعة صفة ، كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ، لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم ، فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعيّ

------------------

وعليه : فلا مصلحة تلزمه باتيان الظهر ، وحيث لا مصلحة ملزمة للظهر ( فلا صفة تقتضي وجوبها ) اي وجوب الظهر ( الواقعي ) فلا وجوب للظهر واقعاً ، لأن مصلحة الجمعة اسقطت مصلحة الظهر ونابت منابها ، فمصلحة الظهر - سواء من جهة السلوك ، كما هو الوجه الثالث ، او من جهة الجمعة ، كما هو الوجه الثاني - قد اضمحلّت في جانب مصلحة الجمعة ، الّتي قام عليها الأمارة.

( فهنا ) صار وجوب الظهر على كلا الحالين وجوباً شأنياً.

وانّما صار ( وجوب واحد ) فقط ( واقعاً ) لأنّ الجمعة صارت ذات مصلحة.

( وظاهراً ) لأنّ الأمارة قامت على طبق الجمعة.

وهذا الوجوب ( متعلق بصلاة الجمعة ) فلا ظهر يراد من المكلّف.

( و ) في هذه الحال : ( ان لم يكن في فعل الجمعة صفة ) لا في ذات الجمعة ولا في اتباع الخبر الدال عليها ( كان الأمر ) من الشارع ( بالعمل بتلك الأمارة ) الدالة على وجوب الجمعة ( قبيحاً ) فلماذا هذا الأمر الّذي لا فائدة فيه ، بل فيه الضرر ( لكونه مفوّتاً للواجب ) الاصلي وهو الظهر من دون تدارك لضرره ؟ .

( مع ) ان الشارع اذالم يكن يضع الأمارة كان للعبد ( التمكن من ادراكه ) اي ادراك الواجب الواقعي ( ب- ) سبب ( العلم ) الّذي كان يحصل عليه لأنّ المفروض انه في حال الانفتاح .

( فالوجهان : ) الثاني والثالث ( مشتركان ، في اختصاص الحكم الواقعي ) وهو

ص: 54

بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعيّ لا غير ، وانحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل .

قلت : أمّا رجوعُ الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطلٌ ،

------------------

الواجب اولاً وبالذات كالظهر في المثال ( بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ) ففي كلا الوجهين ليس الواجب الأنّ قبل قيام الأمارة الجمعة ، بل الظهر ( ف- ) عند قيام الأمارة على الجمعة ( يرجع الوجه الثالث ) من المصلحة السلوكية ( إلى الوجه الثاني ) من تبدّل الحكم الواقعي بعد قيام الأمارة إلى مؤّى الأمارة ( وهو ) اي تأخر الحكم الواقعي إلى الشأنية ل- ( كون الأمارة سبباً لجعل مؤدّاها) وهي الجمعة في المثال ( هو الحكم الواقعي لا غير ، و) ذلك بسبب (انحصار الحكم ) الواقعي الّذي هو تكليف المكلّف فعلاً ( في المثال ) المتقدم (بوجوب صلاة الجمعة ) وجوباً فعلياً عليه ، وصيرورة الظهر واجباً شأنيّاً ، ولا يريده المولى من العبد حين قيام الأمارة على الجمعة ( و ) هذا ( هو التصويب الباطل ) بعينه .

( قلت ) : هذا الاشكال غير وارد ، وليس المصلحة السلوكية تصويباً ، بل تبدّل الواقع إلى مؤّى الأمارة تصويب ، فلا يقاس الوجه الثالث بالوجه الثاني.

( اما رجوع الوجه الثالث إلى ) الوجه ( الثاني فهو باطل ) لأنّ في الوجه الثاني : تتبدّل مصلحة الظهر إلى مصلحة الجمعة ، فالجمعة تكون واجبة واقعاً ، بينما في الوجه الثالث : الجمعة لا تكون واجبة واقعاً ، بل تبقى على عدم وجوبها ، وانّما المصلحة في سلوك الطريق كمن يذهب إلى النجف ويخطيء الطريق ، فأنه

ص: 55

لأنّ مرجعَ جعل مدلول الأمارة في حقّه الذي هو مرجعُ الوجه الثاني إلى أنّ صلاة الجمعة هي واجبة عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فاذا صلاّها فقد فعل الواجب الواقعيّ ، فاذا انكشف مخالفةُ الأمارة للواقع فقد انقلب موضوعُ الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما اذا صار المسافرُ بعد صلاة القصر حاضرا ،

------------------

لا يصل إلى النجف ، وانّما يعطيه المولى اجر تعبه لسلوك الطريق ، بخلاف من يذهب إلى النجف واقعاً ، حيث يصل إلى النجف .

وذلك ( لأنّ مرجع جعل ) الشارع ( مدلول الأمارة في حقه ) حكماً واقعياً فعلياً ، ورفع يده عن حكمه الواقعي ( الّذي هو مرجع الوجه الثاني ) ممّا قلنا انه تصويب باطل ( إلى : ان صلاة الجمعة هي واجبه عليه ) بعد اداء الأمارة اليها وجوباً ( واقعاً ) وفي نفس الأمر ( كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ) بان كان الواجب واقعاً صلاة الجمعة ، فعلم المكلّف بها وادّاها ، حيث ان صلاة الجمعة تكون له حينئذٍ التكليف الواقعي (فاذا صلاّها ) المكلّف ( فقد فعل الواجب الواقعي ) من دون ان يكون هنا حكم ظاهري مقابل الحكم الواقعي .

وعليه : فيكون هنا : موضوعان ، وحكمان ، من قام عنده الأمارة : حكمه الجمعة ، ومن علم : حكمه الظهر ( فاذا ) حصل العلم لمن قامت عنده الأمارة و ( انكشف مخالفة الأمارة للواقع ) تبدل حكمه ( فقد انقلب موضوع الحكم ) انقلاباً ( واقعاً إلى موضوع آخر ) هو موضوع العالم .

( كما اذا صار المسافر ، بعد صلاة القصر حاضراً ) فان المسافر له حكم والحاضر له حكم آخر .

وكما اذا انقلب الزوج إلى الفرد ، حيث اذا كان زوجاً ، وجبت عليه : النفقة

ص: 56

إذا قلنا بكفاية السفر في أوّل الوقت لصحّة القصر واقعا .

ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها من دون أن يحدث في الفعل مصلحةٌ على تقدير مخالفة الواقع ، كما يوهمه ظاهر عبارتي العُدّة

------------------

وحرمت عليه : اخت الزوجة ، فاذا ماتت الزوجة ، او فسخ ، او طلقها ، انقلب إلى الفرد الّذي يباح له التزوج باختها ، ولم تجب النفقة عليه للزوجة المطلقة ، فهما موضوعان وحكمان .

هذا ، فيما ( اذا قلنا : بكفاية السفر في اوّل الوقت لصحة القصر واقعاً ) فاذا سافر اوّل الوقت صلّى قصراً ، ثم حضر ، انقلب تكليفه إلى التمام ، لكن صلاته القصر كانت كافية ، فلا حاجة إلى الاعادة والقضاء .

وهناك قول آخر : بان القصر الّذي صلاه ، كان مشروطاً بعدم الحضور في الوقت ، فاذا صلّى اوّل الوقت في السفر قصراً ، ثم حضر وقد بقي الوقت انكشف فساد ما أتى به ، وتبين ان الواجب عليه في هذا اليوم : التمام .

( ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة ) الّذي هو معنى سببية الطريق - كما ذكرناه في الوجه الثالث - ( وجوب ترتيب احكام الواقع على مؤاها ) اي مؤّى الأمارة ، فالحكم الواقعي وهو الظهر في المثال ، لم يتغير اصلاً وان ادّت الأمارة إلى الجمعة ( من دون ان يحدث في الفعل ) وهي الجمعة في المثال ( مصلحة على تقدير مخالفة ) المؤّى ( الواقع ) .

بخلاف الوجه الثاني : حيث يحدث في مؤّى الأمارة المصلحة ، ويسقط الواقع الاولي ، فالظهر الّذي كتبه اللّه سبحانه يسقط عن الوجوب و يكتب مكانه الجمعة (كما يوهمه ) اي يوهم تغير الواقع ( ظاهر عبارتي العدّة ) للشيخ قدس سره

ص: 57

والنهاية المتقدّمتين ، فاذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيبُ أحكام الوجوب الواقعيّ وتطبيقُ العمل على وجوبها الواقعيّ ، فان كان في أوّل الوقت جاز الدخولُ فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرُها ، فاذا فعلها جاز له فعلُ النافلة

------------------

( والنهاية ) للعلامة قدس سره ( المتقدمتين ) ممّا يوهم انهما يقولان : بالوجه الثاني ، لكن معلوميّة ابطالهما للتصويب ، يؤد : ان مرادهما هو الوجه الثالث : من المصلحة السلوكية .

وعلى ما ذكرناه : من كون الوجه الثالث ، يعطي المصلحة السلوكيّة ، لا المصلحة الواقعية ( فاذا ادّت ) الأمارة ( إلى وجوب صلاة الجمعة واقعاً ) وانّما قال : « واقعاً » لأنّ مؤّى الأمارة : انه واقع ، لم ينقلب الواقع عمّا هو عليه بل هنا حكم ظاهري فقط للجمعة وان ( وجب ) ظاهراً ( ترتيب احكام الوجوب الواقعي ، وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ) .

ولا يخفى : ان الترتيب ، والتطبيق امران : التطبيق : ان يصليها ، والترتيب : ان يسعى اليها ، ويستمع إلى الخطبة ، ويتنفل نوافلها- مثلاً - وهكذا.

وعليه : ( فان كان ) المكلّف ( في اوّل الوقت ) وقامت لديه الأمارة بوجوب الجمعة ( جاز الدخول فيها ) أي في صلاة الجمعة ( بقصد الوجوب ، وجاز تأخيرها ) إلى آخر وقت الجمعة ، لأنّ الانسان مخيّر في اول الوقت او آخره سواء في الجمعة ، او في الظهر .

منتهى الأمر : ان وقت الجمعة قصير ، ووقت الظهر إلى الغروب ، باستثناء مقدار وقت العصر .

( فاذا فعلها ) اي صلّى الجمعة ( جاز له فعل النافلة ) لانه ادّى التكليف الّذي

ص: 58

وإن حرمت في وقت الفريضة المفروضة كونها في الواقع هي الظهر ، لعدم وجوب الظهر عليه فعلاً ورخصةً في تركها ، وان كان في آخر وقتها حرام تأخيرُها والاشتغالُ بغيرها .

ثمّ إن استمرّ هذا الحكمُ الظاهريُّ - أعني الترخيص في ترك

------------------

هو الجمعة ، فلا وقت للفريضة الآن ، بينما اذا كان تكليفه الظاهري الآن : الظهر - بان كانت الجمعة باطلة - لم يجز له الآن النافلة ، لأن لم يصل الظهر بعد ، ولا يجوز النافلة في وقت الفريضة ، لمن يؤي الفريضة - على قول جمع من الفقهاء (وان حرمت) النافلة ( في وقت الفريضة المفروضة كونها ) اي تلك الفريضة (في الواقع ، هي : الظهر ) لفرض ان الأمارة اخطئت فلم تصب الواقع ، الّذي هو الظهر .

والحاصل : ان بعد قيام الأمارة يرتب المكلّف آثار الجمعة باتيان النافلة بعدها (لعدم وجوب الظهر عليه فعلاً ) بعد اتيان الجمعة الّتي قام عليها الأمارة حسب ظاهر الشرع ( ورخصة ) عطف على « عدم » اي لرخصة من الشارع (في تركها) اي في ترك الظهر ، ورخصة من الشارع : لانه بجعله الأمارة اباح عدم الفحص عن الواقع ، فاذا لم يفحص المكلّف ولم يصل إلى الظهر ، لم يكن معاقباً على الترك .

( وان كان ) قيام الأمارة ( في آخر وقتها ) بان كان - مثلاً - وقت الجمعة ساعة من اوّل الظهر ، فاذا قامت الأمارة عند المكلّف بوجوب الجمعة في اواخر الساعة المذكورة ( حرام تأخيرها ) ظاهراً إلى بعد الساعة ( و ) حرم (الاشتغال بغيرها ) من النافلة ونحوها ، لأنّ التكليف الظاهري ، هو وجوب الاشتغال بالجمعة في هذا الوقت .

( ثم ) بعد ان صلّى الجمعة ( ان ) لم ينكشف الخلاف ، بل ( استمر هذا الحكم الظاهري ) بوجوب الجمعة ، وعدم وجوب غيرها ( اعني : الترخيص في ترك

ص: 59

الظهر إلى آخر وقتها - وجب كونُ الحكم الظاهريّ ، بكون ما فعله في أوّل الوقت هو الواقع المستلزم لفوت الواقع على المكلّف مشتملاً على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ، لئلا يلزم تفويتُ الواجب الواقعيّ على المكلّف مع التمكن من اتيانه بتحصيل العلم به .

------------------

الظهر) لانه لم ينكشف له وجوب الظهر ، استمراراً ( إلى آخر وقتها ) اي وقت صلاه الظهر ، وهو قبل الغروب ، باستثناء قدر العصر .

( وجب كون الحكم الظاهري ) الّذي ادّى اليه الأمارة من وجوب الجمعة ( بكون ما فعله في اوّل الوقت ) من اداء الجمعة ( هو ) الواجب ( الواقع ، المستلزم ) هذا الواقع الظاهري ( لفوت الواقع على المكلّف ) لأنّ المكلّف انّما لم يأت بالظهر لمكان الأمارة الّتي جعلها الشارع من وجوب الجمعة ( مشتملاً ) خبر « بكون ما فعله » (على مصلحة يتدارك بها ) اي بهذه المصلحة السلوكية ( ما فات لاجله ) لاجل هذا الحكم الظاهري ( من مصلحة الظهر ) .

وذلك لأنّ في الظهر كانت مصلحة ، فاتت بسبب هذه الأمارة المجعولة الّتي دلّت على وجوب الجمعة .

وانّما لزم وجود المصلحة في الجمعة ( لئلاّ يلزم تفويت ) الشارع بسبب جعل الأمارة ( الواجب الواقعي ) وهو الظهر ( على المكلّف ) لانه - كما تقدّم - قبيح ( مع التمكن ) للمكلف ( من اتيانه ) ذلك الواجب الواقعي (ب) سبب ( تحصيل العلم به ) اي بذلك الواجب الواقعي .

فان الشارع اذا قال : صدّق ابا ذر الغفاري ، وقال ابو ذر : تجب الجمعة ، وقد كان الظهر واجباً في الواقع ، فان الشارع فوّت على المكلّف الظهر ، لانه ان لم يقل : صدّق ابا ذر ، كان المكلّف اذا شكّ في وجوب شيء عليه في يوم الجمعة ،

ص: 60

وإن لم يستمرّ بل علم بوجوب الظهر في المستقبل ، بطل وجوبُ العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ووجب العملُ على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أوّل الأمر ، لأنّ المفروضَ عدمُ حدوث الوجوب النفس الأمريّ ، وإنّما عمل على طبقه مادامت أمارةُ الوجوب قائمةً .

------------------

ذهب وسأل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيدرك الواقع ، امّا اذا اقتضت المصلحة جعل الحجّيّة لخبر ابي ذر ، فاللازم على الشارع تدارك المصلحة الفائتة على المكلّف ، بسبب ترك اتيانه الظهر .

هذا كله ان استمر الحكم الظاهري ( و ) امّا ( ان لم يستمر ) الحكم الظاهري ( بل ) صلّى المكلّف الجمعة ، ثم قبل الغروب ( علم بوجوب الظهر في المستقبل ) قبل خروج الوقت - مثلاً - ( بطل ) الحكم الظاهري الّذي هو ( وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعاً ) و « واقعاً » قيد وجوب العمل ( ووجب ) على المكلّف بعد علمه : بان الظهر واجب عليه ( العمل على طبق عدم وجوبه ) اي عدم وجوب مؤّى الأمارة الّتي هي صلاة الجمعة ( في نفس الأمر ) والواقع ، لأنّ الحكم الظاهري يرتفع بالعلم بالواقع ، فيكون الحكم الظاهري كأن لم يكن ( من اوّل الأمر ) اي من اوّل وقت الظهر في المثال .

كما اذا قامت البينة على ان الدار لزيد ، ثم تبيّن اشتباه البيّنة ، فان الدار تكون لمالكها من اوّل الأمر ، لا من حال ظهور الاشتباه ( لأنّ المفروض ) في هذا القسم الثالث وهو المصلحة السلوكية ( عدم حدوث الوجوب النفس الأمري ) الواقعي لصلاة الجمعة ( وانّما عمل ) المكلّف ( على طبقه ) اي طبق مؤّى الأمارة ، لمصلحة في هذا السلوك فقط ( ما دامت أمارة الوجوب قائمة ) ولم يظهر خلافها

ص: 61

فاذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، وجب حينئذٍ ترتيبُ ما هو كبرى لهذا المعلوم ، أعني وجوب الاتيان بالظهر ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلاّ مافات منها ، فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركةٌ بالحكم الظاهريّ

------------------

(فاذا فقدت ) الأمارة ( بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ) صار الحكم الظاهري كأن لم يكن و ( وجب حينئذٍ ) على المكلّف الّذي انكشف له الخلاف (ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ) فانه بعد معلوميّة وجوب الظهر - لا الجمعة - يتشكّل لديه قياس هكذا :- « الظهر واجبة » و « كلما وجب ، يلزم الاتيان به » فالظهر يلزم الاتيان به .

اما الصغرى : فلما انكشف .

واما الكبرى : فلوضوح ان الواجبات ، يجب الاتيان بها عقلاً وشرعاً.

فهذا الظهر المعلوم ، يشكل له كبرى : ( اعني وجوب الاتيان بالظهر ) علماً بان المصنِّف قدس سره تسامح في التعبير ، او ان مراده من «اعني » : النتيجة المترتّبة على القياس المذكور .

( و ) على ايّ حال : فاذا تبيّن وجوب الظهر واقعاً ، لزم على المكلّف ( نقض ) وابطال ( آثار وجوب صلاة الجمعة ) فاذا لم يصلّ الجمعة ، لا يصليها ، وذا صلاّها ، جعلها كأن لم تكن .

( الاّ ما فات منها ) اي من تلك الاثار ، كأن فاته وقت فضيلة الظهر ، حيث صلّى الجمعة ، أو اذا اتى بالنافلة في وقت الظهر ، على ما تقدّم : من انه لا تصح النافلة في وقت الفريضة ( فقد تقدّم ان مفسدة فواته ) اي فوات الظهر عن فضيلتها - مثلاً- (متداركة بالحكم الظاهري ) .

ص: 62

المتحقق في زمان الفوت ، فلو فرضنا العلمَ بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أنّ حكمَ الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة اللازم منه ترخيصُ ترك الظهر

------------------

فاذا كان لمن يصلّي الظهر في اوّل وقتها - مثلاً - مائة درجة من الثواب ، ولمن يصليها في آخر وقتها اربعون درجة ، وقد ادّت الأمارة إلى وجوب الجمعة فصلاها ، وحيث علم ان الواجب : الظهر ادّاها في آخر الوقت ، فقد فاتته ستون درجة ، والشارع يتدارك هذه الستين ، لانه هو الّذي سّبب فوت هذه الستين .

والتدارك انّما يكون بالحكم الظاهري ( المتحقق ) ذلك الحكم الظاهري ( في زمان الفوت ) اي قبل انكشاف الواقع .

وحيث ان المصلحة السلوكيّة تابعة للجهل بالواقع ، فالامر فيها يكون على اقسام :

الاول : ان لا يعلم - اصلاً - إلى حين الموت .

الثاني : ان لا يعلم الاّ بعد الوقت .

الثالث : ان لا يعلم الاّ في آخر الوقت - مثلاً - .

ففي الاول : يعطى من المصلحة ، بقدر كلّ مصلحة الظهر .

وفي الثاني : يعطى بقدر التفاوت بين الاداء والقضاء ، اذا قلنا : بان الانكشاف بعد الوقت يوجب قضاء الظهر ، وان لم يوجب القضاء ، كان اللازم : تدارك الشارع كلّ المصلحة الفائتة .

( فلو فرضنا العلم ) بالخلاف ، وعلمنا ان الواجب : هو الظهر ، لا الجمعة الّتي أتى المكلّف بها ، وذلك ( بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم : ان حكم الشارع بالعمل بمؤّى الأمارة ، اللازم منه ) اي من هذا الحكم هو ( ترخيص ترك الظهر

ص: 63

في الجزء الأخير لابدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدةُ ترك الظهر .

------------------

في الجزء الاخير ) من الوقت ايضاً ، فانّ معنى جعل الأمارة ، وعدم وجوب تحصيله العلم : ان لا ظهر عليه ، ف( لابدّ ان يكون ) ذلك الحكم ( لمصلحة يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( مفسدة ترك الظهر ) سواء كان في ترك الظهر مفسدة ، او عدم وصول إلى مصلحة لازمة .

لكن لا يخفى : ان مصلحة التسهيل على المكلفين احياناً ، توجب جعل الشارع الأمارة ، فلا حاجة إلى التدارك حينئذٍ فاذا اوجب الشارع : تحصيل العلم ، وقع جملة من المكلفين ، او كلّهم في الحرج النفسي ، او العسر الجسدي ، او الضرر البدني ، او المالي ، او ما يتعلق بالانسان من اهل ونحوهم ، فللحكيم : ان يرفع هذا الحكم ، الموجب لاحد الثلاثة ، بدون التدارك ، لأنّ رفع الثلاثة هو نوع من التدارك فاذا دار الأمر : بين الظهر الواقعي وفيه : ضرر ، او حرج ، او عسر ، وبين الجمعة غير الواقعيّة ، الّتي يلزم من نصب الأمارة الاتيان بها لا بالظهر ، كان للحكيم ان يشرع الأمارة لهذه المصلحة ، لا انه يصل شيء إلى المكلّف ، ليتدارك بذلك الشيء ، المصلحة الفائتة على المكلّف ، او المفسدة الّتي وقع المكلّف فيها ، بسبب تشريع الأمارة .

ولا يخفى : ان هذه الكلمات الثلاث ، الحرج ، والعسر ، والضرر ، من الكلمات الّتي اذا اجتمعت اختص كل منها بمعنى ، وان جاءت متفرقة شملت المعاني الثلاثة ، واحياناً قد يستعمل بعضها في بعض .

فالحرج : في النفس ، كمن عليه دين لا يقدر على ادائه ، فان نفسه في حرج .

والعسر : في البدن ، كمن هو في اذى من البرد ، أو الحرّ ، او ما اشبه لكن لا إلى حدّ التضرر البدني .

ص: 64

ثمّ إن قلنا : إنّ القضاء فرعُ صدق الفوت

------------------

والضرر : فيمن يتضرر بجرح في بدنة ، او خسارة في ماله ، او تمرض بعض اقربائه ممّا يلزم عليه الانفاق لمعالجته ، وما اشبه ذلك « وان كان في صدق الضرر حينئذٍ تأمل » .

( ثمّ ) انه ان ترك الظهر - في هذه الحال - إلى آخر الوقت ، فهل يجب عليه القضاء ، اذا علم بوجوب الظهر ، بعد فوات الوقت او لا يجب ؟ احتمالان .

ولا يخفى : ان هذا البحث فقهي استطرد المصنِّف قدس سره الاشارة اليه .

ف( ان قلنا : ان القضاء فرع صدق الفوت ) والفوت غير الترك ، اذ بينهما عموم مطلق - فالترك اعمّ من الفوت - والترك بمعنى : عدم تحقق شيء في الخارج اعمّ من وجود الاقتضاء وعدم وجوده ، واعمّ من تدارك المصلحة وعدم تداركه ، بينما الفوت انّما يصدق : ان كان اقتضاء ولم يتدارك المصلحة ، فاذا لم يكن - مثلاً - في الحائض اقتضاء الصلاة ولم تصل ، يقال : انها ترك الصلاة ، ولا يقال : ان الصلاة فاتتها .

واما اذا كان فيها اقتضاء الصلاة ، لكن لمانع شرعي اهم حرمت عليها ، يقال : فاتتها الصلاة ، هذا من جهة الاقتضاء واللاّاقتضاء .

نعم ، ان كان في الحائض اقتضاء الصلاة ، وأمر الشارع بامر أهم ترك صلاتها ، لكن الشارع تدارك المصلحة الفائتة ، لم يصدق الفوت ايضاً .

وربما يشكّ في الاقتضاء واللاّاقتضاء ، فاذا قال الشارع : « من فاتته فريضة ، فليقضها كما فاتته » (1) ثم ان المرأة كانت حائضاً حال الكسوف او الخسوف ، فهل كان فيها اقتضاء فيجب عليها القضاء بعد الانجلاء ؟ او لم يكن فيها اقتضاء حتىّ لا يجب عليها القضاء بعد الانجلاء ؟ احتمالان .

ص: 65


1- - تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 بالمعنى ، غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 .

المتوقف على فوت الواجب من حيث انّ فيه مصلحةً ، لم يجب فيما نحن فيه ، لأنّ الواجب وإن ترك إلاّ أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوتُ .

------------------

وان شئت قلت : هل يصدق عليها ان الايات فاتتها حتىّ يجب القضاء ، او لا يصدق حتىّ لا يجب عليها القضاء ؟ ذهب إلى كلّ واحد من الحكمين فريق من الفقهاء والكلام في المقام طويل نكتفي منه بهذا القدر .

وعليه : فالقضاء ( المتوقف ) على صدق الفوت ، انّما هو على حالة خاصة ، لا على مجرد الترك ، اذ يتوقف الصدق ( على فوت الواجب من حيث ان فيه مصلحة ) وحينئذٍ ( لم يجب ) القضاء ( فيما نحن فيه ) من ترك الظهر : الواجب الواقعي ، والاتيان بالجمعة حسب الأمارة ( لأنّ الواجب وان ترك ، الاّ ان مصلحته متداركة ) بالمصلحة السلوكية في اتيان الجمعة - على ما تقدّم - .

( فلا يصدق على هذا الترك : الفوت ) فلا يجب على فاعل الجمعة : الاتيان بالظهر القضائي اذا علم بوجوب الظهر بعد الوقت ، بل لا يجب على فاعل الجمعة : اعادة الظهر في الوقت ايضاً اذا علم بوجوب الظهر بعد الاتيان بصلاة الجمعة ، اذ دلّ الدليل على عدم وجوب صلاتين - ولو ظاهري وواقعي - في يوم واحد ، فيكون حال الظهر في الوقت حاله بعد الوقت .

فاذا قال المولى - مثلاً - : اسق الحديقة بين الصبح والمغرب ، ثم ادّت الأمارة إلى سقيها بالماء المالح ، فسقاها المكلّف ، و بعد انتهاء النهار ، علم بانه كان يلزم عليه سقيها بالماء الفرات ، فانّه لا مجال بعد ذلك للسقي ، لأنّ الماء الزائد يفسد الحديقة .

ص: 66

وإن قلنا : إنّه متفرّع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ، لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا .

إلاّ أن يقال :

------------------

( وان قلنا : انه ) اي القضاء ( متفرع على مجرد ترك الواجب ) وان تدارك المولى مصلحة ذلك الواجب المتروك بسبب تشريع المولى الأمارة ( وجب ) القضاء ( هنا ) بعد الوقت ( لفرض العلم ) من المكلّف ( بترك صلاة الظهر ، مع وجوبها عليه واقعاً ) لأنّ الثابت في اللوح المحفوظ : الظهر ، وانّما ادّت الأمارة إلى الجمعة فصلاها فقد ترك الظهر ، والواجب على التارك الاعادة وقتاً والقضاء خارج الوقت - ان علم بوجوب الظهر عليه في الوقت او في خارجه - .

( الاّ ان يقال : ) ليس الأمر على احتمالين : « ان قلنا » و : « ان قلنا » كما ذكره المصنِّف قدس سره بل القضاء واجب مطلقاً ، سواء صدق الفوت أو صدق الترك - الاعمّ من الفوت - .

وانّما يلزم القضاء مطلقاً ، لأنّ الواجب قد ترك وبذلك فاتت المصلحة ، والمصلحة السلوكية انّما تكون اذا بقي المكلّف جاهلاً إلى حال موته ، لا فيما اذا علم بعد ذلك ولو بعد الوقت ، فلا مصلحة سلوكية بعد العلم يتدارك بها المصلحة الفائتة ، فاللازم عليه : القضاء اذا علم بعد الوقت ، والاعادة اذا علم في الوقت ، بل ربما يجب على ورثته ان لم يعلم إلى الموت ، كما اذا صلّى المكلّف حسب استصحاب طهارة الماء بوضوء باطل ثم مات ، فانه يجب قضاء صلاته على ولده الاكبر - على احتمال - .

وعلى هذا : فالقضاء واجب سواء صدق الفوت ام لا ، اذ الواجب قد ترك ففات المكلّف مصلحته ، فاللازم تداركه ، ولا نسلم المصلحة السلوكيّة الّتي بها

ص: 67

إنّ غاية مايلتزم في المقام هي المصلحة في معذوريّة الجاهل مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم .

------------------

يتدارك مصلحة الواقع .

بل ( ان غاية ما يلتزم ) به ( في المقام ) من تشريع الأمارة المفوتة لمصلحة الواقع (هي : المصلحة في معذورية الجاهل ، مع تمكنه من العلم ولو كانت ) فكأن الشارع قال للجاهل : ان احببت حصّل العلم بالواقع ، وان احببت اعمل بالامارة ، وانّما شرّعت لك الأمارة ( لتسهيل الأمر ) عليك و ( على ) سائر ( المكلفين ) لئلاّ تقعوا في الحرج ، - كما ألمعنا اليه عن قريب - .

( ولا ينافي ذلك ) حصول المكلّف على المصلحة ، اذ التشريع كان لمصلحة التسهيل ، وقد حصل المكلّف عليها ، فلا منافاة بينها وبين ( صدق الفوت ) الموجب للقضاء .

توضيحه : انا كما قلنا سابقاً : ان مصلحة الواقع ان كانت متداركة للمكلف فلا قضاء عليه ، وان لم تكن متداركة لزم عليه القضاء ، حتىّ يحصل على المصلحة الفائتة ونستثني من الأوّل - صورة حصول المصلحة - فنقول : المصلحة وان حصّلها المكلّف الاّ انه يجب عليه القضاء ايضاً ، لان المصلحة هي التسهيل ، ولا منافات بين حصول المكلّف على التسهيل ، ولزوم القضاء عليه ليدرك مصلحة الواقع .

( فافهم ) فانه يمكن ان يكون في جعل الأمارة مصلحة سلوكية ، او مصلحة تسهيليّة ، ومع كلّ واحد يمكن ان يؤر بالقضاء ، وان لا يؤر به ، اذ المصلحة السلوكية يمكن ان تكون غير وافية بمصلحة الواقع فيؤر بالقضاء ، والمصلحة

ص: 68

ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهريّ للاجزاء واضحٌ ، وأمّا على القول باقتضائه له فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب .

------------------

التسهيليّة يمكن ان لا يبقى معها مصلحة الواقع فلا يؤر بالقضاء .

( ثمّ ) ان الأمارة اذا خالفت الواقع تأتي بالحكم الظاهري ، وفي الحكم الظاهري خلاف ، في انه هل يجزي عن الحكم الواقعي ام لا ؟ وإجزاؤ عن الواقعي لازمه : انه ان انكشف الواقع لا اعادة ولا قضاء ، وعدم اجزائه عن الواقعي لازمه : انه ان انكشف الواقع كان على العبد الاعادة والقضاء ، اذا عرفت ذلك قلنا : ( ان هذا كله ) من لزوم الاعادة والقضاء ان انكشف خلاف الأمارة ، انّما هو ( على ما اخترناه : من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ) عن الأمر الواقعي ان انكشف الخلاف وهو (واضح ) اذا الأمر يبقى على حاله من الوجوب ، وما أتى به من الأمر الظاهري لم يكف عن ذلك الواقع ، فاذا انكشف الخلاف لزم عليه : ان يأتي بالامر الواقعي .

( واما على القول ) الّذي ذهب اليه بعض الاصوليّين ( باقتضائه ) اي الأمر الظاهري (له ) اي للاجزاء عن الواقعي ( فقد يشكل الفرق ) المثمر عليه ( بينه ) اي بين ما ذكرناه من المصلحة السلوكية ( وبين القول بالتصويب ) وهو القول الثاني من قولي العامة ، القائلين : بان اللّه ليس له حكم اصلاً وانّما يثبّت اللّه ما أدّى اليه رأي الفقيه او ان له حكماً لكن اذا خالفه الفقيه محى اللّه حكمه الواقعي واثبت رأي الفقيه مكانه .

وانّما لم يكن بين المصلحة السلوكيّة وبين القول بالتصويب فرق ، لان المكلّف على كلّ حال - اذا عمل طبق الأمارة لا شيء عليه بعد ذلك - فايّ فرق

ص: 69

وظاهرُ شيخنا في تمهيد القواعد استلزامُ القول بالتخطئة لعدم الاجزاء . قال قدس سره : « من فروع مسألة التصويب والتخطئة لزومُ الاعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه » وإن كان في تمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر .

------------------

بين ان يقال بالمصلحة السلوكيّة او بالتصويب ؟ ( و ) لذا لم يقبل الشهيد الثاني القول بالاجزاء فان ( ظاهر شيخنا) المذكور ( في ) كتاب ( تمهيد القواعد : استلزام القول بالتخطئة لعدم الاجزاء ) واليك نصّ كلامه :

( قال قدس سره : من فروع مسألة التصويب ) الّذي ذهب اليه العامة ( والتخطئة ) الّذي ذهب اليه الخاصة ( لزوم الاعادة للصلاة بظنّ القبلة ، وعدمه )(1) اي عدم لزوم الاعادة ، فالمصوّبة يقولون : بعدم لزوم الاعادة ، لان الشارع امر باتباع الظنّ في القبلة ، فاذا صلّى حسب ظنّه فقد عمل بقول الشارع ، فاذا انكشف ان صلاته كانت خلاف القبلة ، لم تلزم عليه الاعادة ، لان الشارع جعل الظاهر مقام الواقع . والمخطئة يقولون : بوجوب الاعادة ، لان ظنّه لم يغير الحكم ، فاذا تبين الخلاف ، لزم عليه الاتيان بصلاة اخرى إلى القبلة الواقعية .

وانت ترى ان معنى هذا الكلام من الشهيد قدس سره هو : ان الاجزاء يلازم التصويب ، وعدم الاجزاء يلازم التخطئة فلا يمكن القول بالاجزاء للمصلحة السلوكية مع القول بالتخطئة ( وان كان في تمثيله ) قدس سره ( لذلك ) اي لفروع مسألة التصويب والتخطئة (بالموضوعات محل نظر ) اذ الظنّ بالقبلة من موضوعات الاحكام واختلاف المصوّبة والمخطئة انّما هو في الاحكام ، كوجوب الظهر والجمعة ، وحرمة التبغ او حليته ، لا في الموضوعات ، كاشتباه القبلة في الصلاة ،

ص: 70


1- - تمهيد القواعد : ص46 .

فعلم من ذلك أنّ ماذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ممنوع ، لأنّ فعل الجمعة قد لايستلزم إلاّ ترك الظهر في بعض أجزاء وقته ،

------------------

والميقات في الحج ، وما اشبه ذلك ، فان العامة والخاصّة متفقون على التخطئة في الموضوعات - على ما نسب اليهم - .

وعلى ايّ حال : فان في حكم الشهيد قدس سره التلازم بين الأجزاء والتصويب ، لا في مثاله .

( فعلم من ذلك ) كله : انه لا فرق بين الوجه الثاني والثالث في كونهما تصويباً ولزم ان لا نقول بالمصلحة السلوكيّة الموجبة لسقوط الواجب الواقعي عن وجوبه .

كما ( ان ما ذكره ) القائل بالمصلحة السلوكيّة ( من : وجوب كون فعل الجمعة مشتملاً على مصلحة ، يتدارك بها ) اي بسبب تلك المصلحة ( مفسدة ترك الواجب) الواقعي اعني الظهر - ( ومعه ) في المثال - اي مع التدارك ( يسقط ) الواجب الواقعي (عن الوجوب ) فلا وجوب للظهر بعد اتيان الجمعة ، لان بالجمعة ادرك المصلحة ، واذا سقطت المصلحة عن صلاة الظهر ، سقط وجوب الظهر .

فان هذا القول ( ممنوع ) لانه مستلزم للتصويب ، كما تقدّم عن الشهيد ، وحيث ان التصويب باطل ، فهذا الالتزام بالمصلحة السلوكيّة ايضاً باطل .

هذا بالاضافة إلى انه لو قلنا بالمصلحة السلوكيّة ، فانه لا يلزم منه ادراك فاعل الجمعة كلّ المصلحة دائماً ، بل قد يدرك بالجمعة بعض المصلحة فقط ( لان فعل الجمعة ، قد لا يستلزم الاّ ترك الظهر ، في بعض اجزاء وقته ) كما اذا انكشف

ص: 71

فالعمل على الأمارة معناه الاذن في الدخول فيها على قصد الوجوب والدخول في التطوع بعد فعلها ، نعم

------------------

الخلاف قبل خروج وقت الظهر ، حيث قد تقدّم : انه يجب على المكلّف حينئذٍ الاتيان بالظهر ، فاللازم على المولى : ان يتدارك المقدار الفائت من وقت فضيلة الظهر ، فلو كان للظهر - مثلاً - في اوّل الوقت مائة حسنة ، وفي آخر الوقت اربعون ، فاذا انكشف الخلاف في آخر الوقت وصلّى الظهر ، فقد ادرك اربعين حسنة ، فاللازم حينئذٍ على المولى الناصب للامارة ، ان يتدارك ما فات من المكلّف من ستين حسنة فقط ، لا كلّ المائة .

وعليه : ( فالعمل على الأمارة ) حيث امر به المولى ، المؤّية إلى فعل الجمعة (معناه ) حين انكشاف الخلاف آخر الوقت ( : الاذن ) من الشارع في تفويت فضيلة الظهر فقط و ( في الدخول فيها ) اي في الجمعة ( على قصد الوجوب ، والدخول في التطوع ) اي النافلة ( بعد فعلها ) اي فعل الجمعة .

والحاصل : ان الحكم الاوّلي : هو وجوب الظهر ، وفضيلته في اوّل الوقت ، والاتيان به بقصد الوجوب ، وعدم اجازة فعل النافلة في وقت الظهر ، لكن الأمارة على الجمعة نسفت كلّ ذلك ، فجعلت الوجوب للجمعة ، وفوّتت فضيلة الظهر ، واجازت فعل النافلة في وقت الظهر ، فعلى المولى : ان يتدارك بقدر ما نسفت الأمارة ، لا بقدر كلّ مصلحة الظهر ، حيث قد عرفت : ان العبد ادرك بعض مصلحة الظهر ، حين انكشف له الخلاف في اثناء الوقت ، بعد اداء الجمعة واداء النافلة بعد الجمعة - في وقت كان خاصاً بالظهر ، اذ الجمعة ركعتان والظهر اربع ركعات .

( نعم ) ما ذكرناه : من لزوم تدارك المولى مفسدة فعل النافلة في وقت الظهر ، فيما دلّت الأمارة على الجمعة ، والحال ان الظهر كان واجباً واقعاً ، انّما هو على

ص: 72

يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة يتدارك بها مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة لو اشتمل دليله الفريضة الواقعية المأذون في تركها ظاهرا ، وإلاّ كان جواز التطوع في تلك الحال حكما واقعيا لا ظاهريا ، وأمّا قولك إنّه مع تدارك المفسدة

------------------

قول من يرى : وجود المفسدة في فعل النافلة وقت الفريضة الواقعية والظاهرية ، امّا من يرى انحصار المفسدة في فعل النافلة في وقت الفريضة الظاهريّة فقط ، فانه لم يكن في فعل هذا الانسان النافلة مفسدة ، اذ لم تكن عليه فريضة ظاهرية ، واذ لا مفسدة فلا تدارك .

وعلى هذا : فانه ( يجب في الحكم بجواز فعل النافلة ) في وقت الفريضة (اشتماله ) اي اشتمال هذا الحكم الحاصل من الأمارة على الجمعة ( على مصلحة يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة ) حيث اتى المكلّف بالنافلة في وقت الظهر الّذي هو فريضة واقعية ، وذلك فيما ( لو اشتمل دليله ) اي دليل حرمة التطوع في وقت الفريضة ، على ( الفريضة الواقعية ) حيث ان الظهر فريضة واقعية ( المأذون في تركها ) اي ترك الفريضة الواقعية ( ظاهراً ) لان الأمارة القائمة على فعل الجمعة معناها : جواز ترك الفريضة الّتي هي الظهر ( والاّ ) بان لم يدل الدليل على حرمة التطوع في وقت الفريضة الواقعية ، بل الفريضة الظاهرية فقط ، بأن قال الدليل : « يحرم التطوع بالنافلة في وقت فريضة ظاهرية » ( كان جواز التطوع في تلك الحال ) قبل انكشاف الخلاف ( حكماً واقعياً ) فالشارع اجاز بالتطوع قبل انكشاف الخلاف ( لا ) حكماً ( ظاهرياً ) حتىّ تكون للنافلة مفسدة تحتاج إلى التدارك .

( واما قولك ) ايها المستدل ( : انه مع تدارك المفسدة ) الحاصلة من عدم

ص: 73

بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب فممنوع أيضا ، إذ قد يترتب على وجوبه واقعا حكم شرعي وإن تدارك مفسدة تركه بمصلحة فعل آخر كوجوب قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا .

------------------

الاتيان بالتكليف الواقعي ( بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب ) للحكم الواقعي ، وهو تصويب باطل ( فممنوع ايضاً ) اذ لا نقول : بسقوط وجوب الحكم الواقعي اعني الظهر - وان تدارك المولى مفسدة الجمعة بمصلحة السلوك - واثر بقاء وجوب الظهر : القضاء ان علم بالحكم إلى وقت موته ( اذ قد يترتب على وجوبه ) اي وجوب الحكم الواقعي كالظهر في المثال ( واقعاً ، حكم شرعي ) كالقضاء في الصلاة والكفارة في الصيام ، والحج ( وان تدارك ) المولى ( مفسدة تركه ) اي ترك الواجب الواقعي (بمصلحة فعل اخر ) وهو سلوك الأمارة وذلك ( كوجوب ) الشارع على المكلّف (قضائه ) لصلاة الظهر في المثال ( اذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه ) اي بوجوب الظهر ( واقعاً ) وان لم يعلم به في الوقت ، فسلوك الأمارة المؤّية للجمعة اوجب تدارك المفسدة بمصلحة السلوك ، الاّ ان الواجب لو انكشف ، لزمه تداركه بالقضاء ، والكفارة ، ونحوهما .

ان قلت : اذا تدارك المولى المصلحة ، لم يبق وجوب القضاء ، اذ الحكم بالقضاء لا يمكن بدون المصلحة ، وان لم يتدارك المولى المصلحة ، فلا مصلحة سلوكية في فعل الجمعة - مثلاً - .

قلت : انّما يتدارك المولى المصلحة في سلوك العبد لانه كلفه بسبب الأمارة ، فاللازم عليه : ان يتداركه بالثواب ، وحيث كان الواقع مُلزم كلفه ثانياً بالواقع فان من اعطى المريض دواءاً اشتباهاً لزم عليه ان يتداركه بالاجر ، لتكليفه بالدواء الاشتباهي - بسبب الأمارة الّتي شرعها- ثم اللازم تكليف المريض ثانياً بشرب

ص: 74

وبالجملة : فحالُ الأمر بالعمل بالامارة القائمة على حكم شرعيّ حالُ الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الموضوع الخارجيّ ، كحياة زيد وموت عمرو .

فكما أنّ الأمرَ بالعمل بالامارة في الموضوعات لايوجب جعلَ نفس الموضوع ، وإنما يوجب جعل أحكامه ، فيترتّب عليه الحكم مادامت الأمارةُ قائمةً عليه ؛ فاذا

------------------

الدواء الواقعي ، لان في هذا الدواء مصلحة شفائه .

( وبالجملة ) انه لا يلزم من جعل الأمارة على الحكم لمصلحة التسهيل او ما اشبه سقوط الواقع حتىّ يستلزم التصويب ( فحال الأمر بالعمل بالامارة ) الّتي جعلها الشارع : ( القائمة على حكم شرعي ) كالخبر الواحد ، والشهرة ، والاجماع ، وما اشبه ، وهكذا حال الاصول : كالاستصحاب ، والبرائة ، وغير ذلك ، والقواعد : كاصل الصحة في المعاملات وأصل الطهارة ، إلى غيرها ( حال الأمر بالعمل على الأمارة ، القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد ) بسبب الاستصحاب ( وموت عمرو ) بسبب الشهود .

( فكما ان الأمر بالعمل بالامارة في الموضوعات ، لا يوجب جعل نفس الموضوع ) واقعاً ( وانّما يوجب ) الأمر بالعمل بالامارة في الموضوع ( جعل احكامه) اي احكام ذلك الموضوع ، فاذا قامت الأمارة على موت عمرو ، ترتبت آثاره ، لا انه ميت واقعاً أي جاز لورثته تقسيم امواله ، ولزوجته بعد العدّة ان تتزوج ، ولوصيه ان ينفّذ وصيته - جوازاً ظاهرياً - .

( فيترتب عليه ) اي على الموضوع الثابت بالبينة ( الحكم ) الشرعي المترتب على ذلك الموضوع ( ما دامت الأمارة قائمة عليه ) ولم يظهر الخلاف ( فاذا

ص: 75

فقدت الأمارة وحصل العلمُ بعدم ذلك الموضوع ترتّب عليه في المستقبل جميعُ أحكام عدم ذلك الموضوع من أوّل الأمر ؛ فكذلك الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم .

------------------

فقدت الأمارة ) بان سقطت ، وانكشف الخلاف باشتباه البيّنة القائمة على موته ( وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ) او بقيَ على الاستصحاب ، بان قامت الأمارة على موت عمرو بن خالد ، ثم ظهر اشتباه البيّنة وان الميت هو عمرو بن بكر ، فان عمرو بن خالد ، لم يعلم عدم موته بعد سقوط البيّنة ، لاحتمال موته ايضاً ، فيستصحب حياته في( ترتب عليه ) اي على العلم بالعدم ، او عدم العلم ( في المستقبل ) عند انكشاف الخلاف ( جميع احكام عدم ذلك الموضوع ) كالموت في المثال ( من اوّل الأمر ) فكأَنّ الأمارة لم تقم رأساً ، فترجع الاموال إلى المورث ، والزوجة ترجع عن زوجها الثاني ، والوصي يسترجع مايمكن استرجاعه ، ممّا اراد صرفه في الثلث ونحوه .

نعم ، اذا جاء الزوج الأوّل وقد دخل الزوج الثاني بها ، لزم عليها عدة وطي الشبهة ، وقد ذكرنا في الفقه : بان الحرام للزوج الأوّل في عدة الزوج الثاني ، الوطي فقط ، لا سائر الاستمتاعات .

( فكذلك الأمر بالعمل على الأمارة : القائمة على الحكم ) الشرعي لانه لا فرق بين الموضوع والحكم من هذه الجهة ، فاذا قامت الأمارة على وجوب الجمعة - والحال انها ليست بواجبة في الواقع - فان آثار الوجوب مترتبة مادام لم يظهر خلاف الأمارة ، فاذا ظهر الخلاف رجع الأمر إلى الواقع ، من : القضاء ، او الاعادة ، او الكفارة ، او غيرها .

نعم ، بعض الاحكام لا تترتب من جهة خارجية ، مثل درء الحدود بالشبهات ،

ص: 76

وحاصلُ الكلام ثبوتُ الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعيّ المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجيّ الذي قامت عليه الأمارة .

------------------

ونحو ذلك .

( وحاصل الكلام ) في الفرق بين الوجه الثاني : من التصويب ، والوجه الثالث : من المصلحة السلوكية : هو ( ثبوت الفرق الواضح بين ) الوجه الثاني من التصويب الّذي هو عبارة عن ( جعل مدلول الأمارة حكماً واقعياً ) بمحو الحكم الأوّل ( و ) اثبات (الحكم ) الجديد ، الّذي هو مؤّى الأمارة وذلك ( بتحققه ) أي تحقق المدلول ( واقعاً عند قيام الأمارة ) المخالفة للواقع ( وبين ) الوجه الثالث من المصلحة السلوكية ، الّتي ادعيناها نحن ، فان مرجع هذا الوجه إلى ( الحكم ) الشرعي ( واقعاً ، بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالامارة ) .

وحاصل هذا الوجه : ان الشارع لم يمح واقعهِ ، بل امر بتطبيق العمل على الجمعة ، دون ان يرفع يده عن الظهر ، فيكون المقام في باب الحكم الشرعي (كالحكم واقعاً ، بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي ) كموت الزوج ( الّذي قامت عليه الأمارة ) فكما ان الزوج الموجود واقعاً ، له كل احكام الزوج ، كذلك الظهر الواقعي له كل احكام الظهر .

هذا ولا يخفى : ان هناك خلافاً بين الاصولييّن : بانه هل الطرق والأمارات صرف تنجيز واعذار - كما يقوله الكفاية - ؟ او جعل غير العلم علماً بالتعبد - كما يقوله غيره - ؟ وكلام الشيخ المصنِّف قدس سره يشير إلى الثاني .

ص: 77

وأمّا قولك : « أنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعيّ ، بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى التصويب الباطل نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعيّ حينئذٍ عن المصلحة الملزمة التي يكون في فوتها المفسدة » .

ففيه : منعُ كون هذا تصويبا . كيف والمصوّبة يمنعون حكمَ اللّه في الواقع ،

------------------

( واما قولك ) أيها المستدل : انّا نسلّم الفرق بين الوجهين من محو الحكم الواقعي على الوجه الثاني وكون مؤى الأمارة حكماً واقعياً ، ومن بقاء الحكم الواقعي على الوجه الثالث ، وكون مؤّى الأمارة حكماً ظاهرياً ، الاّ ان بنائكم على ان السلوك مشتمل على مصلحة يتدارك بها الواقع ، هو قسم آخر من اقسام التصويب وذلك ( ان مرجع تدارك ) الشارع ( مفسدة مخالفة الحكم الواقعي ، بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤّى الأمارة ، إلى التصويب الباطل ) .

انّما هو ( نظراً إلى خلوّ الحكم الواقعي - حينئذٍ - عن المصلحة الملزمة ، الّتي يكون في فوتها المفسدة ) . فالتصويب على ثلاثة اقسام :

الأوّل : عدم الحكم في الواقع ، وانّما يثبت الشارع في اللوح المحفوظ ما ادى اليه رأي الفقيه .

الثاني : وجود الحكم ، ثم محوه ، واثبات مؤّى رأي الفقيه مكانه .

الثالث : وجود الحكم وعدم محوه ، الاّ انه يمنح السالك مصلحة يتدارك بها مفسدة الواقع .

( ففيه منع كون هذا ) القسم الثالث ( تصويباً ) و ( كيف ) يكون هذا تصويباً ؟ ( و ) الحال ان ( المصوبة ) من العامة ( يمنعون حكم اللّه في الواقع ) بعد رأي

ص: 78

فلا يعقل عندهم إيجابُ العمل بما جعل طريقا إليه والتعبّدُ بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيقُ عدُّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة .

------------------

الفقيه ، ونحن نثبت حكم اللّه في الواقع قبل رأي الفقيه وبعده ، ونقول : ان الحكم الواقعي يشترك فيه العالم والجاهل ( فلا يعقل عندهم ) اي عند المصوبة ( ايجاب ) الشارع ( العمل بما جعل ) الخبر مثلاً ( طريقاً اليه ) اي إلى ذلك الواقع ، اذ عند بعضهم ، لا واقع اصلاً ، وعند بعضهم واقع ، لكن الخبر ليس طريقاً اليه ، بل كلما ادّى اليه الخبر فهو الواقع ( و ) لا يعقل عندهم ( التعبد ) من الشارع ( بترتيب آثاره ) اي آثار الواقع ( في الظاهر ) كما نقوله نحن : من وجود الواقع ، وأن تعبد الشارع بترتيب آثار ذلك الواقع على الظاهر ، فان تطابق مع الواقع ادرك المكلّف مصلحة الواقع ، وان لم يتطابق ادرك المصلحة السلوكيّة .

( بل التحقيق عدّ مثل هذا) الثالث : الّذي قلنا به من المصلحة السلوكية ( من وجوه الرّد على المصوبة ) اذا لو لم يكن حكم واقعي ثابت حتىّ بعد اداء الأمارة المخالفة له ، لم يكن معنى : لجعل الأمارة طريقاً اليه ، وتنزيل مؤاها منزلة الواقع - كما يستفاد ذلك من ادلة الأمارات - .

وامّا وجوه الرّد على المصوّبة ، فكثيرة ، فمن الكتاب قوله سبحانه : « كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ بِالقِسْطِ ، شُهَدَاء للّهِ وَلَوْ عَلَى انفُسِكُمْ »(1) .

وقوله تعالى : « وَمَن لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ »(2) ، إلى غيرهما من الآيات .

ص: 79


1- - سورة النساء : الآية 135 .
2- - سورة المائدة : الآية 44 .

وأمّا ما ذكره من : « أن من الحكم الواقعيّ إذا كان مفسدة مخالفته متداركه بمصلحة الفعل على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، والاّ ثبت انتفاء الحكم في الواقع .

------------------

ومن السنّة قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «ما مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُم إلى الجَنَّةِ» (1) إلى آخر الحديث .

ومن العقل : ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وهي موجودة قبل رأي الفقيه وبعده ، وقبل قيام سائر الأمارات وبعد قيامها ، مخالفاً او موافقاً ، وتفصيل الكلام في المفصلات .

( واما ما ذكره ) المستدل ، لابطال المصلحة السلوكيّة ( : من ان الحكم الواقعي اذا كان مفسدة مخالفته ) بالترك فيما اذا كان واجباً ، أو في الفعل فيما اذا كان محرماً (متداركة بمصلحة ) السلوك و ( الفعل على طبق الأمارة ) كما تقولون ، (ف) انه يلزم احد امرين ، كلّ واحد منهما غير صحيح .

الأوّل : ( لو بقي ) الحكم الواقعي ( في الواقع ) بعد التدارك بمصلحة السلوك موجوداً ( كان حكماً بلا صفة ) لان مصلحته زالت بسبب مصلحة سلوك الأمارة ، وليس من المعقول : ان يبقى الحكم بلا مصلحة عند العدليّة ، الذين يرون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية .

الثاني : ( وإلاّ ) بان لم يبق الحكم في الواقع بعد زوال مصلحته ( ثبت ) التصويب الّذي معناه : ( انتفاء الحكم في الواقع ) بعد قيام الأمارة على خلافه ، وقد انكرتم انتفاء الحكم بعد قيام الأمارة ، وزعمتم بان الوجه الثاني من التصويب

ص: 80


1- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 .

وبعبارة اُخرى : إذا فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فان لم يحرّم ذلك الفعلُ لم يجب العملُ بالأمارة ، وإن حرّم

------------------

الباطل عندكم .

( وبعبارة اخرى ) يمكن تقرير هذا الاشكال ببيان آخر ، وهو : انه ان بقي الواقع والظاهر ، فهما حكمان متنافيان ، وهو غير معقول وإن مُحي الحكم الواقعي ، فهو تصويب وان بقي لكن بلا ملاك ، فهو خلاف رأي العدلية ، او مع الملاك فهو خلاف ما ذكرتم : من ان الحكم الظاهري يمحو مصلحة الواقع ، حيث ينال المكلّف المصلحة السلوكية ، الجابرة لمفسدة الواقع .

وعليه : ف( اذا فرضنا الشيء ) كالظهر في المثال المتقدم ( في الواقع واجباً ، وقامت أمارة على تحريمه ) وعلى ان الواجب الجمعة فصار الظهر حراماً لانه تشريع ، كما اذا صلّى الظهر وقت الصبح ، وقد دلّ الدليل : على انه لا يراد من المكلّف في الظهر صلاتان ( فان لم يحرم ذلك الفعل ) وهو الظهر ( لم يجب العمل بالأمارة ) اذ معنى وجوب العمل بالأمارة : ان لا يأتي بالظهر ، لانه حرام حسب الأمارة ( وان حرم ) الظهر ، فذلك اما بسبب المصلحة السلوكيّة ، او بدون المصلحة السلوكيّة ، وعلى كلّ حال : فامّا ان يبقى الحكم الواقعي ، او لا يبقى فهذه اربع صور :

فعلى الأوّل : وهو اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة ، مع بقاء الحكم الواقعي ، يلزم منه اجتماع حكمين متضادين وهذا غير معقول .

وعلى الثاني : وهو انتفاء الحكم الواقعي وبقاء الحكم الظاهري فقط ، وهو تصويب باطل .

وعلى الثالث : وهو عدم اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة ، مع بقاء

ص: 81

فان بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعيّ » .

ففيه : انّ المرادَ بالحكم الواقعيّ الذي يلزم بقائه هو الحكمُ المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي تحكي عنه الأمارةُ ويتعلّق به العلمُ والظنّ

------------------

الحكم الواقعي ، وهو مستلزم ، اولاً : اجتماع الحكمين .

وثانياً : كون الحكم الظاهري بلا ملاك .

وثالثاً : تفويت مصلحة الواقع .

وعلى الرابع : وهو عدم اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة مع انتفاء الحكم الواقعي ، وهو مستلزم للتصويب ، بالاضافة إلى انه كيف يشرّع الحكم الظاهري بدون المصلحة ؟ والحاصل : ( فان بقي الوجوب ) للواقع ( لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ) من الوجوب للظهر في الواقع ، والحرمة له في الظاهر ( وان انتفى ) الوجوب للواقع (ثبت انتفاء الحكم الواقعي ) وهو التصويب .

( ففيه : ) ان الحكم الواقعي يبقى على حاله من الواقعيّة والمصلحة ، وفي الظاهر ليس حكم ، بل تنجيز أو اعذار ، وله مصلحة سلوكية ، وأي مانع من ذلك ؟.

وعليه : فلم يلزم : اجتماع الحكمين ، ولا خلو الحكم الواقع عن المصلحة ، ولا عدم تدارك المولى لمن عمل بالظاهر ، ف( ان المراد بالحكم الواقعي ، الّذي يلزم بقائه ) عند المخطئة ، فيما لو لم تصل الأمارة اليه ( هو الحكم ) ذو المصلحة (المتعيّن ) عند اللّه ( المتعلق بالعباد ) جميعاً ، وهو عارض لذات الظهر ، مع قطع النظر عن علم المكلّف او جهله ، وهذا الحكم الواقعي هو ( الّذي تحكي عنه الأمارة ويتعلق به العلم ) تارة ( والظنّ ) أخرى بسبب وصول الخبر اليه ، او وصول

ص: 82

وأمر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلاّ أنّه يكفي في كونه حكمَهُ الواقعيّ أنّه لايُعذَرُ فيه إذا كان عالما به او جاهلاً مقصّرا ، والرخصةُ في تركه عقلاً ، كما في الجاهل القاصر ، او شرعا ، كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه .

------------------

الظنّ الانسدادي ، وتارة لا يعلمه الانسان ولا يظنه ، بل يشك فيه ، او يتوهّمه ، او يجهل به جهلاً مركباً ( و ) اللّه تعالى ( امر السفراء ) عليهم السلام ( بتبليغه ) وانزل القرآن لبيانه ( وان لم يلزم امتثاله فعلاً ، في حقّ من ) جهله و ( قامت عنده أمارة على خلافه ) كمن قامت الأمارة لديه على وجوب الجمعة ، لا الظهر .

لا يقال : فما هي فائدة هذا الحكم الواقعي ، الّذي لا يتمكن المكلّف من اطاعته ، بسبب قيام الأمارة على خلافه ؟ .

لانه يقال : ان الحكم الواقعي باق في الواقع ( الاّ انه يكفي في كونه حكمه الواقعي انه ) اي المكلّف ( لا يعذر فيه ) اذا تركه ( اذا كان عالماً به ) من الأوّل ، أو بانكشاف الخلاف بعد اتيان الظاهري ، للزوم الاعادة ، أو القضاء ، أو الكفارة ( او ) كان ( جاهلاً مقصراً ) فان الجاهل المقصر ليس بمعذور ، كما دلّ عليه النصّ والفتوى ( و ) من آثار كونه حكماً واقعياً ( الرخصة ) من الشارع ( في تركه عقلاً ) وشرعاً ( كما في الجاهل القاصر ) حيث لا يعقل تكليفه ، ومعنى « الرخصة » : انه ليس بمكلّف به ( أو شرعاً ) وان لم يكن عقلاً ، لان العقل كان يلزم الفحص والاحتياط ( كمن قامت عنده أمارة معتبرة ) عند الشرع ( على خلافه ) اي خلاف ذلك الحكم الواقعي.

وان شئت قلت : ان الحكم تابع للمصلحة وحيث توجد المصلحة يوجد

ص: 83

وممّا ذكرنا يظهر حالُ الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ، فانّها من القسم الثالث .

------------------

الحكم ، فان وصل المكلّف اليه علماً ، او ظنّا خاصّا ، او عامّا ، فهو ، وان لم يصل اليه تقصيراً عوقب عليه ، لانه كان متمكناً منه وان لم يصل اليه قصوراً ، كان معذوراً.

لكن مع ذلك يبقى سؤل وهو : انه لماذا ينشيء المولى الحكم لهذا الجاهل القاصر ، الّذي لا اثر له اصلاً ، لا في الدّنيا : لانه لم يعرفه قصوراً ، ولا في الاخرة : لانه ليس يعاقب عليه ، وكذلك حال الموضوع الّذي لم يعرفه المكلّف ، ليأتي بحكمه ، فمن تيقنت بان زوجها ميت ولا يعرف الزوج الثاني ، ولا المرأة ، ولا ايّ احد آخر ، حياته ، لا حالاً ولا مستقبلاً ، فان قلتم : انها محرمة على الازواج قلنا : ما فائدة هذا التحريم ؟ وان قلتم : انها غير محرمة ، لزم ان لا يكون لها حكم التحريم ، وهو شعبة من التصويب ، لكن الّذي يهون الخطب ان التصويب الباطل هو : ان لا يكون للكلّ حكم اصلاً في الواقع ، او ان يكون حكم ، لكن يتغير بتغيّر رأي الفقيه .

امّا هذا القسم الّذي ذكرناه في الجهل القصوري بالحكم ، او بالموضوع ، فلم يعدّه احد من التصويب .

( وممّا ذكرنا ) ه من الأمارة على الاحكام الشرعية ( يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ) فاذا قامت الأمارة على ان هنداً زوجة زيد ، والحال انّها في الواقع زوجة عمرو ( فانها ) اي الأمارة على الموضوع باجماع المخطئة ، تكون ( من القسم الثالث ) لا من التصويب القسم الأوّل او الثاني .

ص: 84

والحاصلُ : أنّ المرادَ بالحكم الواقعيّ هو مدلولاتُ الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، لها آثار عقليّة وشرعيّة يترتّب عليها عند العلم بها او قيام أمارة حكم الشارعُ بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم ، هذه ليست أحكاما فعليّة بمجرّد وجودها الواقعي .

وتلخّص من جميع ماذكرناه أنّ ماذكره ابنُ قبة - من استحالة التعبّد

------------------

( والحاصل : ان المراد بالحكم الواقعي ) الّذي يفحص عنه الفقيه ( هو مدلولات الخطابات الواقعية ) الّتي جاءت الخطابات لاجل بيانها ، وتلك الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ( غير المقيدة ) تلك المدلولات ( بعلم المكلفين ) فانهم سواء علموها او لم يعلموها ، كانت تلك الاحكام ( ولا ) مقيدة ( بعدم قيام الأمارة على خلافها ) فانه سواء قامت الأمارة او لم تقم على خلافها ، فهي احكام واقعيّة و (لها آثار عقليّة ) كوجوب الاطاعة ان علم ، او وجوب الاحتياط ، وحرمة المعصية كذلك (وشرعية ) كوجوب القضاء والاعادة ، والكفارة في بعض الصور ، و (يترتب عليها ) اي على تلك الاحكام ( عند العلم بها ، او قيام أمارة ) عليها ، او وجوب الاحتياط فيها (حكم الشارع ) والعقل ( بوجوب ) سلوكها و ( البناء على كون مؤّاها ) اي مؤّى هذه الأمارات ( هو الواقع ) ان قلنا بلزوم الموافقة الالتزاميّة .

( نعم ، هذه ) الاحكام الواقعيّة ( ليست احكاماً فعليّة ) يطالب بها المولى المكلّف (بمجرد وجودها الواقعي ) بل انّما يطلبها المولى تنجيزاً اذا علم بها المكلّف ، او قام بها ظنّ خاصّ او عام ، او لزم الاحتياط فيها .

( و ) قد ( تلخّص من جميع ما ذكرناه : ان ما ذكره ابن قِبة : من استحالة التعبد

ص: 85

بخبر الواحد او بمطلق الأمارة الغير العلميّة - ممنوعٌ على إطلاقه ، وإنّما يقبح ، إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه ، كما تقدّم تفصيلُ ذلك .

ثمّ إنّه ربما يُنسبُ الى بعضٍ : « إيجابُ التعبّد بخبر الواحد او بمطلق الأمارة على اللّه تعالى ، بمعنى قبح تركه منه » ، في مقابل قول ابن قِبة .

------------------

بخبر الواحد ، او بمطلق الأمارة غير العلمية ) كالاجماع ، والشهرة ، والسيرة ، والشهادة والسوق ، واليد ، وغيرها ، من حيث انها جميعاً متحدة في الملاك ، سواء في الموضوعات او الاحكام ، وان فيها تفويت المصلحة او الالقاء في المفسدة وكلاهما قبيح ( ممنوع على اطلاقه ) فالتعبد لا يستحيل في جميع الفروض ( وانّما يقبح اذا ورد التعبد ) بما لا يعلم ( على بعض الوجوه ) وهو : انه اذا لم يكن امر أهم ، ومن ذلك الامر الأَهم ، ما اذا تداركه المولى بالمصلحة السلوكيّة ( كما تقدّم تفصيل ذلك ) فيما مضى : من ان الواقع موجود ، وانه يبقى على ما هو عليه ، سواء وافقه الطريق او خالفه ، وانه لا يستلزم من ذلك لا جمع النقيضين ، ولا التصويب الباطل .

( ثم انه ربّما ينسب إلى بعض )(1) العامة : ( ايجاب التعبد بخبر الواحد ، او بمطلق الأمارة ) الّتي تكشف عن الواقع كشفاً عرفياً ( على اللّه تعالى ) والوجوب على اللّه ( بمعنى : قبح تركه ) اي ترك التعبد ( منه ) تعالى ، واستدلّوا لذلك : بانّه لولا التعبد ، لزم وقوع الناس في ضدّ المصلحة والمفسدة ، وايقاع اللّه تعالى الناس في ذلك قبيح وهذا القول ( في مقابل قول ابن قِبة ) القائل باستحالة التعبد

ص: 86


1- - ذلك البعض كابن الشريح وابي الحسين البصري عن الميرزا محمد حسن الاشياني بحر الفوائد : ج1 ص76

فان أريد به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم وبقاء التكليف ، فحسنٌ .

وإن أراد وجوبَ الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوعٌ ، إذ جعلُ الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه اذا لم يكن هناك طريق عقليّ وهو الظنّ ،

------------------

عليه سبحانه .

( فان اريد به ) اي بوجوب التعبد عليه تعالى ( : وجوب امضاء ) الشارع ( حكم العقل بالعمل به ) اي بالطريق المؤّي إلى الواقع عند العرف كخبر الواحد ، ونحوه (عند عدم التمكن من العلم ، وبقاء التكليف ) وتعسر أو تعذر الاحتياط ، وعدم طريق آخر يساوي الاصابة مع الخبر ، او يكون اقل اصابة من الخبر ، حيث ان العقل في هذه الصورة ، وبهذه الشروط ، يرى : حجّية الظنّ خاصّا كان او عامّا ، فالواجب عليه تعالى - عقلاً - امضاء ما يراه العقل ( فحسن ) لما تقدّم وجهه في جواب ابن قِبة .

( وان اراد ) القائل بالوجوب عليه تعالى : ( وجوب الجعل بالخصوص ، في حال الانسداد ) بما له من مقدمات يذكرها المصنِّف فيما بعد ( فممنوع ) هذا الوجوب عليه تعالى ( اذ جعل الطريق ) منه تعالى ( بعد انسداد باب العلم ، انّما يجب عليه ) تعالى ( اذالم يكن هناك ) بحكم العقل ( طريق عقلي ، وهو : الظن ) وهذا ما يسمّى ب- : « الظن على الحكومة » وذلك لانه اذا دلّ العقل على حجّية الظنّ ، لم يبق داع إلى جعل الشارع ، فان المولى يجب عليه الارشاد إلى الطريق ، اذا لم يدل العقل على الطريق ، امّا اذا دلّ العقل عليه ، فايّ وجوب عقلي هذا يدعو المولى إلى الجعل والامضاء ؟ .

ص: 87

إلاّ أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصيّةٌ .

وإن أراد حكمَ صورة الانفتاح : فان أراد وجوبَ التعبّد العينيّ ،

------------------

لا يقال : اذا حكم العقل ، حكم الشرع ايضاً ، للملازمة .

لانه يقال : لا ملازمة في باب الاطاعة والمعصية ، وانّما الملازمة في باب الاسباب ، ولذا قالوا : بانها في سلسلة العلل ، لا المعاليل ، كما ذكرناه في بحث الانسداد من « الاصول » (1) .

وعلى ايّ ، لم يحتج الشارع إلى جعل الطريق ، ولا امضائه ، بعد حكم العقل بالطريق ( الاّ ان يكون لبعض الظنون في نظره ) اي نظر الشارع ( خصوصية ) سلبية ، بان لا يريدها الشارع فيمنع عنها ، كما منع من الظن القياسي في حال الانسداد - على المشهور - او فيها خصوصية ايجابية ، بان يراها أفضل من سائر الظنون ، كما اذا رأى الشارع ان الظنّ الاقوى سبباً ، او نحو ذلك أفضل من الظنّ الاضعف ، فاللازم عليه : ان يستثني الظنّ القياسي ، او الظنّ الضعيف ، في حال الانسداد .

( وان اراد : ) هذا القائل بوجوب التعبد على الشارع ( حكم صورة الانفتاح ) اي انفتاح باب العلم أو العلمي ، كما عليه مشهور الاصوليين ، حيث ذهبوا الى انفتاح باب العلم والعلمي الى الاحكام ، حتى في عصر غيبة الامام عليه السلام ، وذهب بعض إلى انسداد باب العلم والعلمي ، وقال : بلزوم اتباع الظنّ ويسمّى ذلك بالظنّ الانسدادي ، ومن هؤاء صاحب القوانين .

( فان اراد : وجوب التعبد العيني) مقابل التعبد التخييري - بأن يقول الشارع -

ص: 88


1- - للمزيد راجع كتاب الاصول الجزء السادس ، الأدلّة العقلية ، بحث الانسداد ، للشارح .

فهو غلطٌ ، لجواز تحصيل العلم معه قطعا ، وإن أراد وجوبَ التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لايدركه العقلُ ، إذ لايعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة ، اللّهم إلاّ أن يكون في تحصيل العلم حرجٌ يلزمُ في العقل رفعُ إيجابه بنصب أمارة هي أقربُ من غيرها إلى الواقع

------------------

في صورة الانفتاح : يجب عليك العمل بالأمارة وحدها ، ولا يجوز لك تحصيل العلم بالواقع ( فهو غلط ) لانه من اين هذا الوجوب العيني ؟ ( لجواز تحصيل العلم معه قطعاً ) اي مع الانفتاح فانك اذا تمكنت من تحصيل العلم : بطريق النجف ، وتمكنت ايضاً ان تسأل اهل الخبرة عن الطريق ، فهل يعقل ان يقول المولى لك : لا تحصل العلم ، بل اسأل اهل الخبرة - فيما اذا لم يكن هناك محذور في تحصيل العلم ؟ .

( وان اراد ) القائل بوجوب التعبد في حال الانفتاح : ( وجوب التعبد به ) اي بالظن (تخييراً ) بينه وبين العلم ، كأن يقول الشارع : انت مخير بين تحصيل العلم بالاحكام ، وبين ان تعمل حسب الأمارة ( فهو ممّا لا يدركه العقل ) ولا يتوصل اليه فمن اين يقول العقل على الشارع : ان يخيّر المكلّف بين العلم أو الأمارة ؟ ( اذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة ، يتدارك بها مصلحة الواقع ، الّتي تفوت بالعمل بالأمارة ) ثمّ ما هو الملزم لجعل الأمارة في حال الانفتاح - مع قطع النظر عن تدارك المصلحة وعدم تداركها .

نعم ، ان قال البصري وشريح : « امكن » لكان لقولهم وجه ، لكنهما قالا : « يجب » ( اللّهم الاّ ان يكون ) استفادتهم الوجوب ، لان ( في تحصيل العلم حرج) والشارع لا يريد الحرج ، ف( يلزم في ) موازين ( العقل رفع ايجابه ) ورفع

ص: 89

او أصحّ في نظر الشارع من غيرها في مقام البدليّة عن الواقع ، وإلاّ فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظنّ ، كصورة الانسداد .

ثمّ إذا تبيّن

------------------

الحرج يكون امّا (بنصب أمارة ، هي اقرب من غيرها ) من الأمارات ( إلى الواقع ) من حيث الكم ، كخبر الثقة فانه أقرب إلى الواقع ، من خبر من لم يعرف بفسق ولا فسوق ، حيث ان خبر الثقة نصفه يطابق الواقع بينما خبر من لم يعرف لا يطابق منه الاّ الثلث - مثلاً - .

( او اصح ) من حيث الكيف ، كما في كل واحد من : خبر الثقة ، والمجهول الوثاقة ، فانه يطابق نصفهما ، الواقع ، لكن خبر الثقة أصح حيث ان الصلاة لو فرضنا انها ذات عشرة اجزاء فخبر الثقة يصل إلى تسعة اجزاء منها ، بينما خبر المجهول يصل إلى ثمانية اجزاء منها ، فان الكمّ بالنسبة إلى الواقع وان كان متحداً ، الاّ ان كيف الثقة احسن من كيف المجهول ، فيقدّم الثقة ( في نظر الشارع من غيرها ) كالخبر المجهول في مثالنا ( في مقام البدليّة عن الواقع ) الّذي هو الحكم الأوّلي .

( والاّ ) بان لم يكن لبعض الأمارات مزيّة في نظر الشارع ، لا من جهة الكمّ ، ولا من جهة الكيف ، بل كانت في نظره متساوية من جميع الجهات ( فيكفي ) الشارع في رفع حرج تحصيل العلم - على المكلّف - ( امضاؤه للعمل بمطلق الظنّ ) الّذي يحكم العقل به ، بل قد تقدّم انه لا يحتاج إلى الامضاء ايضاً ( كصورة الانسداد ) اذ الواجب على الشارع بيان الاحكام ، امّا الطُرُق اليها ، فالعرف هو المكلّف بتحصيلها ، كسائر الموالي ، حيث يبيّنون الاحكام دون الطرق ، الاّ اذا أرادوا طرقاً خاصة .

( ثم اذا تبيّن ) الكلام في المقام الأوّل ، وهو مقام امكان التعبد ، أو وجوبه ، أو

ص: 90

المقام الثاني

عدمُ استحالة تعبّد الشارع بغير العلم وعدمُ القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلامُ في : المقام الثاني : في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعيّة مطلقا او في الجملة ، وقبل الخوض في ذلك لابدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا او

------------------

استحالته ، وذلك على ما قررنا من : ( عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم ، وعدم القبح فيه ) كما ادعاه ابن قِبة ( ولا في تركه ) التعبد ، كما تقدّم عن بعض العامّة (ف) بعد بطلان الرأيين ، وثبوت الامكان وجوداً وعدماً ( يقع الكلام في المقام الثاني ) اي : ( في وقوع التعبد به في الاحكام الشرعية مطلقاً ) سواءاً اورث الظنّ ام لا ( او في الجملة ) اي فيما اورث الظنّ الشخصي او النوعي .

والحاصل : هل الشارع تعبّدنا بالظنّ ، ام لا ؟ .

وعلى تقدير التعبد ، هل تعبّد بما اورث الظنّ مطلقاً ، او بما اورث ظنّاً خاصّاً ؟.

( وقبل الخوض ) والدخول ( في ذلك ) البحث وهو : هل تعبد ام لا ؟ وعلى تقديره ، اطلق التعبد ، او خصّصه ببعض الأمارات ؟ ( لابد من تأسيس الاصل ) في انه اذا لم نعلم بتعبد الشارع بأمارة - كالشهرة - مثلاً - فهل الاصل حرمة العمل بتلك الأمارة ، او حلّية العمل بها ؟ فان مثل هذا الاصل هو ( الّذي يكون عليه المعوّل ) والاعتماد (عند عدم الدليل ) عقلاً : كما في الظن الانسدادي على الحكومة ، أو شرعاً كما في الظنّ الانسدادي على الكشف وكذا في الظنون الخاصة ، فانه اذا لم يكن دليل ( على وقوع التعبد بغير العلم ) و : « بغير العلم » قيد توضيحي ، لانه لا يمكن التعبد بالعلم ، فان العلم - كما مرّ في مباحث القطع - لا يمكن اثباته ولا اسقاطه ( مطلقاً ) وهو قيد لعدم الدليل بأن لم يكن دليل مطلقاً ( او ) لم يكن

ص: 91

في الجملة ، فنقول :

التعبّدُ بالظنّ ، الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل محرّمٌ بالأدلّة الأربعة .

------------------

دليل ( في الجملة ) .

ففي الأوّل : ما هو الاصل في كلّ ما لم يعلم دليل على التعبد به ؟ .

وفي الثاني : فيما لم يعلم التعبد به ، وان علم التعبد ببعض الاشياء ، كما اذا علم - مثلاً - التعبد بالخبر الواحد ، ولم يعلم التعبد بالشهرة ، فما هو الاصل في الشهرة ؟ هل يتعبد فيه بالظنّ أم لا ؟.

( فنقول :) ان جماعة من العلماء : كالوحيد البهبهاني وصاحب الرياض قالا : ان العمل بالظن، من دون دليل حرام ذاتي كشرب الخمر ، واكل لحم الخنزير.

لكن المشهور قالوا : بالحرمة التشريعيّة ، اي الادخال في الدّين ما لم يعلم كونه من الدّين - وسيأتي الفرق بين القولين - فاذا لم يعلم الانسان ان الشارع اوجب الدعاء عند رؤة الهلال ، ثم دعا ناسباً ذلك إلى الشارع ، كان تشريعاً محرماً.

وعليه : ف( التعبّد ) من المكلّف ( بالظنّ ) ظنّاً مطلقاً ، لم يقم على حجّيته دليل الانسداد ، او ظنّاً خاصّاً ، كالشهرة - مثلاً - كذلك فان ( الّذي لم يدل على التعبد به ) من الشارع ( دليل ) فهو تشريع ( محرم بالادلّة الاربعة : ) الكتاب ، والسنة والاجماع ، والعقل .

لايقال : العقل لا مدخلية له في الاحكام ، ف- «ان دين اللّه لا يصاب بالعقول»(1).

لانه يقال : العقل اذا اكتشف حكم اللّه كشفاً قطعيّاً ، كان حجة ، لانه احد

ص: 92


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 .

ويكفي من الكتاب قوله تعالى « قُل ء اللّه ُ أذِنَ لكُم أم على اللّه ِ تَفتَرونَ » ، دلّ على أنّ ماليس باذن من اللّه من إسناد الحكم الى الشارع فهو افتراء ؛

------------------

الحجّتين الذين جعلهما اللّه تعالى ، فهو حجّة باطنة ، كما انّ الأنبياء حجّة ظاهرة .

المراد من : « إنّ دِينَ اللّهِ لا يُصابُ بِالعُقُولِ » (1) غير المورد الّذي ذكرناه ، فان مثل كشف العقل: عن حرمة سبّ الابوين، من قوله سبحانه: «فلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍ»(2) ، يكون حجة ، فيكون حراماً شرعاً ، إلى غير ذلك .

والحاصل : انّ ما يراه العقل قبيحاً بحيث يمنع من النقيض ، يكون حراماً ، او حسناً بحيث يمنع من النقيض يكون واجباً ، أو قبيحاً لا يمنع من النقيض يكون مكروهاً ، أو حسناً كذلك ، يكون مستحباً ، للتلازم بين حكم العقل والشرع في سلسلة العلل - كما تقدّم الإلماع اليه - .

( ويكفي من الكتاب ) الحكيم ( قوله تعالى ) في ذم الّذين حرّموا بعض ما احلّ اللّه : ( « قُلْ ) لهم يا رسول اللّه (ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ) واعلمكم انه حرام ؟ ( أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ » )(3) ؟ .

فتحكمون بالحرمة من دون دليل من اللّه تعالى .

فقد ( دلّ ) مضمون الآية المباركة ( على ان ما ليس باذن ) صريح ( من اللّه ، من اسناد الحكم إلى الشارع ) و « من » بمعنى : التبعيض ، وفيه اشارة إلى ان ذلك : أحد مصاديق اسناد الحكم إلى الشارع بدون العلم ( فهو افتراء ) لانه نسبة بدون

ص: 93


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .
3- - سورة يونس : الآية 59 .

ومن السنّة قوله عليه السلام ، في عداد القضاة من أهل النار : « ورجل قضى بالحق وهو لا يعلمُ » .

------------------

العلم ، كما اذا قال أحد : فعل زيد كذا ، وهو لا يعلم انه فعله ، او : قال زيد كذا ، وهو لا يعلم انه قاله ، إلى غير ذلك .

ولا يخفى : ان بين الكذب والافتراء عموماً مطلقاً حيث الكذب اعمّ من الافتراء .

( و ) يكفي ( من السنة : قوله عليه السلام في عداد القضاة من اهل النار : ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ) .

فقد قال الصادق عليه السلام : « القضاة اربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة :

رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار .

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم انّه قضى بجور ، فهو في النار .

ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم ، فهو في النار .

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنة »(1) .

ولا يخفى : ان ما ذكره الإمام عليه السلام هو : رؤس الاقسام والاّ فالقضاء قد يكون بالحق ، وقد يكون بالجور ، والقاضي في كلّ من الاثنين اما يعلم الوجود او العدم ، او لا يعلم ، ومن لا يعلم ، اما قاصر او مقصّر .

وعلى ايّ حال : فاذا كان العمل بدون العلم مستوجباً للنار - وان كان مطابقاً للواقع - فالنسبة بدون العلم كذلك ، لوحدة الملاك عرفاً ، وقد ادّعى بعضهم : ان الايات الدّالة على حرمة النسبة بدون العلم مائة آية ، والروايات خمسمائة رواية .

ص: 94


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

ومن الاجماع ما ادّعاه الفريد البهبهانيّ ، في بعض رسائله ، من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلاً عن العلماء ؛ ومن العقل تقبيحُ العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لايعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير .

------------------

( ومن الاجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله : من كون عدم الجواز ) وحرمة التعبّد بغير علم ( بديهيّاً عند العوام ، فضلاً عن العلماء ) فعدم الجواز من ضروريات الدّين .

( ومن العقل : تقبيح العقلاء ) تقبيحاً مانعاً عن النقيض ، لكلّ ( من يتكلف ) بالقول او العمل ( من قبل مولاه ، بما لا يعلم بوروده عن المولى ) فاذا قال العبد : قال المولى ؟ كذا والحال انّه لا يعلم ، ان مولاه قال هذا القول ، ذمّه العقلاء وقبحّوه بما يستوجب عقاب المولى ، وللمولى ان يقول له : لماذا نسبت إليّ ما لا تعلم انه قولي ؟ وكذا اذا عمل العبد عملاً ، ثم نسبه إلى مولاه ، وهو لا يعلم ان المولى اراده منه من دون فرق في الفعل والترك ، فاذا ترك العبد المشي في الليل ، ناسباً ذلك إلى المولى قبّحه العقلاء وذمّوه ، ورأوه مستحقاً للعقاب اذا لم يعلم صحّة النسبة إلى المولى .

ثم اذا قطع العبد : بان المولى ، قال ذلك القول ، أو امر به ، او نهى عنه ، فنسبه اليه ، والحال : ان المولى لم يقله ، ولم يأمر به ولم ينه عنه ، فان كان العبد قد قصّر في مقدمات القطع ، كان معاقباً ايضاً ، والاّ لم يكن عليه عقاب بسبب جهله المركب ، الّذي لم يقصّر فيه ، وإلى هذا اشار المصنِّف قدس سره بقوله :- ( ولو كان ) تكلّف العبد بالنسبة إلى المولى ( عن جهل ) بان زعم ان المولى قاله لكن كان جهله ( مع التقصير ) لا مع القصور ، اذ الجاهل المقصر معاقب ، دون

ص: 95

نعم ، قد يتوهم متوهّمٌ أنّ الاحتياط من هذا القبيل .

وهو غلط واضح ، إذ فرقٌ بين الالتزام بشيء من قبل المولى على انه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام باتيانه لاحتمال كونه منه او رجاء كونه منه ، وشتّان مابينهما ، لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن

------------------

الجاهل القاصر .

( نعم ، قد يتوهم متوهم : ان الاحتياط من هذا القبيل ) فكما انه اذا دعا عند رؤة الهلال ناسباً ذلك إلى المولى - وهو لا يعلم ان المولى قاله - كان عمله قبيحاً ، كذلك اذا أتى بدعاء الهلال احتياطاً ، فكما ان الأوّل تشريع قبيح ، كذلك الثاني ، فكيف قال الفقهاء بجواز الاحتياط مع الجهل ، بل بحسنه ؟ .

( وهو ) هذا التوهّم ( غلط واضح اذ ) لا يشبه الاحتياطُ التشريعَ بأيّ وجه ، بل هناك ( فرق بين الالتزام بشيء ) إلتزاماً عمليّاً ، اذ الالتزام القلبي بدون العمل وان كان قبيحاً ، لكن لا حرمة له في غير اصول الدّين ( من قبل المولى ) بمعنى : ان يلتزم (على انه منه ) اي من المولى ( مع عدم العلم بانه منه ) فكيف بما اذا علم انه ليس من المولى وعدم العلم شامل للظنّ والشكّ والوهم ، ( وبين الالتزام باتيانه ) بالشيء (لاحتمال كونه منه ) اي من المولى ( او رجاء كونه منه ) .

قد يقال : ان الاحتمال : في الشكّ والوهم ، الرجاء : في الظنّ ، وقد يقال : بان كلاّ من الثلاثة ، يمكن مع الرجاء وبدون الرجاء ، اذا الرجاء : حال تطلب خير يحتمله الانسان ، احتمالا مساوياً ، او مرجوحاً ، او راجحاً .

( و ) على ايّ حال : فانه ( شتّان ) اي بُعد واسع ( ما بينهما ) اي بين النسبة والرجاء ( لأنّ العقل يستقل بقبح الأوّل ) وباستحقاق العبد العقاب عليه ( وحسن

ص: 96

الثاني .

والحاصل : أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به .

وأمّا العملُ به من دون تعبّد بمقتضاه : فان كان لرجاء إدراك الواقع ،

------------------

الثاني ) وهو الاحتياط ، وباستحقاق العبد المدح عليه ، بالاضافة إلى ان اطلاق ادلة الاحتياط شاملة لذلك .

وربّما يفرق بين قول من قال : بالحرمة الذاتيّة في العمل بما لا يعلم ، وبين من قال : بالحرمة التشريعيّة : بان الأوّل يرى الحرمة وان أتى به احتياطاً ، بينما الثاني يرى الحرمة ، الا اذا أتى به احتياطاً ، لكن هذا الفرق غير ظاهر الوجه .

( و ) كيف كان : ف( الحاصل ) من الفرق بين التشريع والاحتياط ( : ان المحرم ) من جهة التشريع ( هو العمل بغير العلم ، متعبدا به ) وناسبا له الى المولى ( ومتديناً به ) أي جاعلاً ذلك له ديناً وطريقةً في الحياة ، فان الدّين بمعنى : الطريقة ، والتعبد : نسبة الشيء إلى المولى ، وان يأتي به العبد بصفة انّه عبد ، بينما التدين : جعل الشيء طريقاً دينياً .

( وامّا العمل به ، من دون تعبّد بمقتضاه ) ومن دون نسبة إلى المولى ، سواء في كلّ الاحكام الخمسة ، كأن يأتي بالشيء على انّه واجب شرعي ، او مستحب شرعي ، او مباح شرعي ، او انه لا يأتي على انه حرام ، او مكروه ، او مباح ، مع النسبة إلى الشرع .

( فان كان لرجاء ادراك الواقع ) بان يغتسل غسل الجمعة يوم الاحد - حيث ورد دليل ضعيف بانه يؤى به في كلّ ايام الاسبوع - او يدرك الواقع بدعائه عند رؤة الهلال - حيث اوجبه بعض - او يدرك الواقع بتركه التدخين - حيث حرّمه

ص: 97

فهو حسنٌ مالم يعارضه احتياط آخر او لم يثبت من دليل آخر وجوبُ العمل على خلافه ، كما لو ظنّ الوجوبَ واقتضى الاستصحابُ الحرمةَ ، فانّ الاتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به .

------------------

بعض ، وكرّهه بعض - وكذلك بالنسبة إلى المباح المحتمل فعلاً او تركاً ( فهو حسن ) لانه من مصاديق الاحتياط ( ما لم يعارضه احتياط آخر ، او لم يثبت من دليل آخر : وجوب العمل على خلافه ) فانه ليس من الاحتياط حينئذٍ .

( كما لو ظنّ الوجوب ) بسبب شهرة ، او سيرة ، او ما اشبه - وقلنا بانهما ليسا بحجة - ( واقتضى الاستصحاب الحرمة ) حيث ان الاحتياط بالاتيان ، يعارض بالاحتياط الاقوى ، وهو : الاستصحاب ، وحينئذٍ لا يكون حسناً بل قبيحاً ، لان الاستصحاب حجّة بخلاف الاحتمال المقابل له .

وربّما يتساوى الاحتياطان ، كما اذا كان الاحتياط في الصلاة الاتيان بالتسبيحات الاربع ثلاث مرّات ، لكن في آخر الوقت حيث الاحتياط بالثلاث ، يوجب خروج بعض الصلاة عن الوقت بتعارض الاحتياطان - على فرض عدم المرجّح - ويكون التخيير فلا احتياط في جانب .

وعلى أيّ : (ف) مثال المصنِّف قدس سره يكشف عن ( ان الاتيان بالفعل محرّم ) وفي عكسه : واجب ، وانهما من تعارض الحجّة مع ما ليس بحجّة ( وان لم يكن ) الاتيان به ( على وجه التعبّد بوجوبه والتّدين به ) اذ الشارع بسبب الاستصحاب ألزم عدم الفعل ، فكيف يأتي به المكلّف برجاء ادراك الواقع ، او بدون ذلك ، بل بمجرد شهوة النفس وميل القلب ؟ كمن لديه استصحاب بقاء زوجته في الحيض ، ثم يأتيها برجاء ادراك ثواب ليلة اوّل رمضان ، او بدون ذلك الرجاء بل لمجرد تشهّي النفس وميل القلب .

ص: 98

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع ، فان لزم منه طرحُ أصلٍ دلّ الدليلُ على وجوب الأخذ به حتّى يعلم خلافه ، كان محرّما أيضا ، لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر ، من مثال كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم ؛ وإن لم يلزم منه ذلك جاز العملُ ، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ،

------------------

( و ) عليه : فانه ( ان لم يكن ) الاتيان به ( لرجاء ادراك الواقع ) بل لتشهي النفس ، وعدم المبالات بالاحكام ( فان لزم منه ) أي من اتيانه لا بقصد الرجاء ( طرح اصل ) من الاصول العملية ، او دليل اجتهادي قد ( دلّ الدليل على وجوب الأخذ به ، حتّى يعلم خلافه ) كما اذا دلّ الاستصحاب على حرمة الجمعة او قام خبر واحد صحيح عليها ، فان في الأوّل : اذا جاء بالجمعة طرح الاصل ، وفي الثاني : اذا جاء بها طرح الدليل المعتبر ( كان محرّماً ايضاً ) كما قلنا بالحرمة في الصورة الاولى ، وهي : النسبة إلى المولى من دون علم بان المولى قاله ( لان فيه ) أي في العمل المذكور ( طرحاً للاصل ) او الدليل ( الواجب العمل ) .

فان الاصل قد لا يجب العمل به ، كما اذا كان مستصحب الطهارة ، فانّ له ان لا يعتني به ويتوضأ ، وكذلك اذا قام الشاهد على انه صلّى فانّ له ان لا يعتني به ويصلّي ثانياً ( كما فيما ذكر من مثال : كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم ) او قيام الخبر على التحريم .

( وان لم يلزم منه ) أي من العمل تشهياً ( ذلك ) الّذي قلناه : من طرح اصل ، او دليل قد ألزم العمل بهما شرعاً ( جاز العمل ) على خلاف الاصل والدليل ، اذا لم يلزم العمل بهما فرضاً .

( كما لو ظنّ بوجوب ما تردد بين الحرمة والوجوب ) فاذا ذهب بعض الامّة

ص: 99

فانّ الالتزام بطرف الوجوب ، لا على أنه حكم اللّه المعيّن جائزٌ ، لكن في تسمية هذا عملاً بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط .

------------------

------------------

مثلاً - : إلى وجوب الجمعة ، وبعضهم : إلى حرمتها ، فالذي يظنّ بالوجوب ويأتي بالجمعة ، لم يكن فعله محرّماً ، لانه مردد بين الفعل والترك ، ظنّ بالوجوب ام لا .

وكما اذا تردّد بين انّها محلوفة الوطي او الترك ، ووطأ لظنه الوجوب ، فانّه لم يفعل حراماً ( فان الالتزام ) العملي من المكلّف المردد ( بطرف الوجوب ) والاتيان بالفعل ( لا على انه حكم اللّه المعيّن ) في حقّه ، بل اشتهاءاً ( جائز ) .

والحاصل : ان الاقسام ثلاثة :

الأوّل : ان يأتي به تعبداً واستناداً إلى الشارع ، فهذا حرام مطلقاً ، كان في قباله اصل او دليل ، او لم يكن .

الثاني : أن يأتي به برجاء المطلوبيّة ، ولم يكن في قباله دليل معتبر ، فهذا جائز ، امّا اذا كان في قباله دليل معتبر يمنع من الاتيان به ، لم يكن جائزاً .

الثالث : ان يأتي به لا بقصد التعبد ، ولا رجاءاً ، بل تشهياً .

( لكن في تسمية هذا ) العمل بالامارة غير العلمية ، بدون رجاء ادراك الواقع (عملاً بالظنّ ، مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط ) اذ العمل بالظنّ عبارة عن التعبد به ، واما مجرد انطباق العمل على وفق الظنّ بدون الاستناد ، سواء كان العمل من باب الاحتياط ، او من باب التشهي ، فلا يسمّى من العمل بالظنّ الاّ من باب المشابهة ، لان هذا العمل شبيه با لعمل بالظنّ ، لا انه عمل بالظنّ ، كما اذا عمل انسان مثل عمل انسان آخر ، لا من باب التقليد والمحاكاة ، بل من باب انّه فعله لهدف أَراده ، فانه لا يسمّى تقليداً ومحاكاةً الاّ من باب المجاز .

ص: 100

وبالجملة ، فالعملُ بالظنّ إذا لم يصادف الاحتياط محرمٌ إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرحَ الأصل او الدليل الموجود في مقابله ام لا ؛ وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرحَ ما يقابله من الأصول والأدلّة المعلوم وجوب العمل بها .

------------------

( وبالجملة : فالعمل بالظنّ اذا لم يصادف الاحتياط ) بأن لم يكن من باب الاحتياط ، بل كان من باب التشريع ، ونسبة العمل إلى الشارع فهو ( محرّم ، اذا وقع ) هذا العمل ( على وجه التعبّد به والتديّن ) لانه افتراء ، ونسبة ما لا يعلم انه من المولى إلى المولى ( سواء استلزم طرح ) ما يقابله من ( الاصل ) العملي ( او الدّليل ) الاجتهادي ، كالاخبار والاجماعات ، وما اشبههما ( الموجود في مقابلة ) ممّا يجب العمل به ، لا ممّا لا يجب ، بان كان الاصل البرائة ، او الدليل خبراً يدل على الاباحة - مثلاً - .

( ام لا ) يستلزم الطرح ، كما اذا كان عمله موافقاً لاصل غير معتبر ، او أمارة كذلك .

والفرق بين استلزام الطرح وعدمه : انّه ان كان موجباً لطرح اصل او أمارة وقد ألزم العمل بهما ، فعمله محرم من جهتين : الطرح ، والتشريع ، وان لم يكن موجباً للطرح ، فعمله محرماً من جهة التشريع فقط .

( واذا وقع ) العمل ( على غير وجه التعبد به ) كما اذا اوقعه احتياطاً او تشهياً - على ما تقدّم من ان الاقسام ثلاثة - ( فهو محرم ، اذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول ، والادلة ، المعلوم وجوب العمل بها ) حيث لا تشريع حينئذٍ حتّى يكون محرماً من جهة التشريع ايضاً ، فهو محرّم من جهة الطرح فقط .

واذا لم يكن على وجه التعبد ، ولم يستلزم طرح دليل او اصل ، قد وجب

ص: 101

هذا ، وقد يقرر « الأصل » هُنا بوجوه اُخر :

منها : أنّ الأصل عدمُ الحجيّة وعدمُ وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به .

وفيه : ان الاصل وان كان ذلك الا انه لايترتّب على مقتضاه شيء ،

------------------

العمل بهما ، يكون غير محرم ، لانه لا سبب لتحريمه - على ما تقدّم الالماع اليه - .

وب( هذا) الّذي ذكرناه مفصلاً ، تبيّن : ان الاصل : حرمة العمل بالظنّ من جهة التشريع .

( وقد يقرر الاصل هنا ) في مسألة حرمة العمل بالظنّ ( بوجوه اُخر ) غير الوجه المتقدم .

( منها : ان الاصل ) فيما شك في حجّيته : ( عدم الحجّيّة ) لان الحجّيّة امر جديد ، فاذا شكّ فيه كان الاصل عدمه ( وعدم وقوع التعبد به ) وهذا الاصل ، مقدم على عدم الحجّيّة ، لان الحجّيّة صفة تأتي بعد التعبد ، فاذا جعل الشارع شيئاً متعبداً به ، صار حجة ( و ) كذا الاصل : عدم (ايجاب العمل به ) وهذا يفيد عدم الحكم التكليفي ، بينما اصل عدم التعبد يفيد الحكم الوضعي ، فما يضعه الشارع وضعاً ، يكون واجباً تكليفاً ، كما اذا قال : الشيء الفلاني جزء ، فانه يجب الاتيان به ، لكنّ الجزئيّة حكم وضعي ، ووجوب الاتيان به حكم تكليفي .

( وفيه : انّ الاصل وان كان ذلك ) من : عدم الحجّيّة ، وعدم التعبّد ، وعدم ايجاب العمل ( الاّ انّه لا يترتب على مقتضاه ) أي مقتضى هذا لاصل ( شيء ) ولا اثر ، وكلّ اصل لا يترتب على مقتضاه اثر ، لم يجر ، فاذا شككنا - مثلاً - في انّ اناء زيد ، الّذي هو في الهند ولا يرتبط بنا اصلاً ، طاهر او نجس ، فان الاصل فيه وان كان : الطهارة ، الا انّه حيث لا يترتب على هذه الطهارة أثر - بالنسبة الينا اطلاقاً- لم يجر ، فيكون تشريعه من الشارع لغواً ، ولا فائدة فيه اصلاً .

ص: 102

فانّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في موضوعها عدمُ العلم بورود التعبّد من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثمّ إثبات الحرمة ، والحاصلُ : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة على عدم ذلك الحادث .

------------------

والمقام من هذا القبيل ( فان حرمة العمل بالظنّ ) ليس موضوعها : عدم الحجّيّة حتّى نجري الاصل في عدم الحجّيّة فيترتب على هذا الاصل حرمة العمل ، بل (يكفي في موضوعها ) أي موضوع الحرمة ( عدم العلم بورود التعبد ) فبمجرّد ان لم نعلم : ورود التعبد ، تترتب الحرمة ( من غير حاجة ) لنا في ترتيب الحرمة هذه ( إلى احراز عدم ورود التعبّد به ) أي بالظنّ ، احرازاً بالاستصحاب ( ليحتاج ) الامر ( في ذلك ) التحريم ( إلى الاصل ) المذكور ، و ( ثمّ ) بعد اجراء الاصل يكون ( اثبات الحرمة ) .

فاذا شككنا - مثلاً - في ان هذا الماء طاهر او نجس ، والشارع قال : « كُلُّ شيء لَكَ طَاهِر » (1) .

فبمجرد هذا الشك نقول : انّه طاهر ، ولا حاجة لان نقول : كان سابقاً طاهراً ، وحيث نشكّ الان في طهارته ، نجري استصحاب الطهارة ، اذ لا مجال للاستصحاب حينئذٍ ، لانّ بمجرّد الشكّ تترتب الطهارة ، فالاثر للشكّ ، ولا حاجة إلى احراز الطهارة بالاستصحاب .

( والحاصل : ان اصالة عدم الحادث ) كاصل عدم الحجّيّة - في المقام - ( انّما يحتاج اليها ، في الاحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث ) فاذا نذر - مثلاً - بان

ص: 103


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وامّا الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشكّ ولا يحتاجُ الى احراز عدمه بحكم الأصل . وهذا

------------------

زيداً ان لم يأت اعطى الفقير درهماً ، فانّه يلزم ان يعلم عدم اتيان زيد ، امّا علماً وجدانيّاً ، أو علماً تنزيليّاً ، بالاستصحاب ، أو بقيام الشهود على عدم مجيئه ، فاذا كان أحد الثلاثة : العلم ، أو الشهود ، أو الاستصحاب ، وجب عليه اعطاء الفقير ، امّا اذا شكّ في مجيئه وعدمه ، ولم يكن احد الثلاثة ، لم يلزم عليه ان يعطي الفقير ، لان موضوع نذره : « عدم المجيء » لا « الشكّ في المجيء وعدمه » .

( وامّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث ) بأن كان موضوع الحكم : «عدم العلم » لا « العلم بالعدم » ( فيكفي فيه ) أي في ترتب الحكم ( الشكّ ) في ذلك الحادث ( ولا يحتاج ) لترتيب الحكم ( إلى احراز عدمه ) احرازاً وجدانيّاً ، او تنزيلياً - بسبب الشهود ، او الاستصحاب أي ( بحكم الاصل ) وهو متعلق ب« احراز » .

وما نحن فيه ليس من قبيل الأوّل ، بل من قبيل الثاني ، لانه بمجرد الشكّ في الحجّيّة يترتب عدم الحجّيّة ، ولا حاجة إلى استصحاب عدم الحجّيّة ، فما قاله المستدل : من ان « الاصل عدم الحجّيّة » غير تام ، اذ لا أصل في المقام يترتب عليه الاثر .

وبالجملة : ان علمنا الحجّيّة عملنا على وفقها ، ولو لم نعلم فبمجرد الشكّ يحرم العمل ، ولا حاجة إلى اجراء اصالة عدم الحجّيّة - الّذي ذكره المستدل بالاصل - .

( وهذا ) الّذي ذكرناه : من انّ مجرّد الشكّ في الحجّيّة يكفي لتحريم العمل من دون حاجة إلى اجراء اصالة عدم الحجّيّة ، فانّه يأتي في موارد أُخر ، وذلك فيما اذا

ص: 104

نظيرُ قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ، فانّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدمُ العلم بالفراغ ،

------------------

شككنا في انا صلّينا الظهر ام لا ، فبمجرّد الشكّ يجب علينا : الاتيان بالظهر ، ولا حاجة إلى أن نستصحب عدم الاتيان بالظهر ، ليلزم علينا الظهر ، لان الاثر انّما هو للشكّ في الاتيان ، لا لعدم الاتيان ، حتّى يحتاج الامر إلى الاستصحاب .

إذن : ممّا نحن فيه ( نظير قاعدة الاشتغال ) حيث ان الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البرائة اليقينيّة ( الحاكمة ) هذه القاعدة ( بوجوب اليقين بالفرغ ) عن التكليف ، والاّ فقاعدة الاشتغال محكّمة ، بدون حاجة إلى استصحاب الشغل ، فان الاثر « للشكّ في الفراغ » لا « لعدم الفراغ » حتّى يتوقف الحكم على استصحاب عدم الفراغ ( فانّه) أي الشأن ( لا يحتاج في اجرائها ) أي اجراء قاعدة الاشتغال ( إلى ) العلم بعدم الفراغ ، او ما ينزل منزلة العلم ، كالشهود ، والاستصحاب وهو : ( اجراء اصالة عدم فراغ الذمّة ) حتّى يلزم الاتيان بالمشكوك ، كالظهر - في المثال - الّذي شكّ في انّه أتى به أم لا ( بل يكفي فيها ) أي في قاعدة الاشتغال ( عدم العلم بالفراغ ) فبمجرد الشكّ ، يلزم الاتيان ، ولا حاجة إلى استصحاب عدم الاتيان .

( فافهم ) حتّى لا تقول : انه لا يكفي مجرد الشكّ في الحجّيّة ، اذ الامر بحاجة إلى الفحص .

لأنّا نقول : مرادنا بالشكّ : الشكّ بعد الفحص ، في الاحكام امّا في الموضوعات ، فالمشهور بينهم : عدم الحاجة إلى الفحص ، وان كنّا في بعض مباحث الاصول ذكرنا : عدم مساعدة الدليل على ما ذكروه .

ص: 105

فافهم .

ومنها : أنّ الأصل هي إباحة العمل بالظنّ ، لأنّها الأصلُ في الأشياء ، حكاه بعضٌ عن السيّد المحقق الكاظمي .

وفيه : على تقدير صدق النسبة ، أوّلاً ، أنّ إباحة التعبّد بالظنّ غيرُ معقول ، إذ لا معنى

------------------

وربّما يقال : ان مراد المصنِّف قدس سره من : ( فافهم ) شيء آخر .

او يقال : ان مراد المستدل « بأصل : عدم الحجّيّة » هو : ما ذكره المصنِّف قدس سره لا الاستصحاب ، حتّى يستشكل عليه : بان المقام ليس من الاستصحاب ، لان الاثر للشكّ ، لا للمشكوك .

( ومنها : ان الاصل هي اباحة العمل بالظنّ ، لانّها ) أي الاباحة ( الاصل في الاشياء ) ف- : « كُلُّ شَيء مطلق حَتّى يَرِدَ فِيْهِ نَهْي »(1) - كما في الحديث - .

وفي الآية الكريمة : « هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعا ... »(2) .

والظن ممّا في الارض ، إلى غير ذلك وهذا الوجه قد ( حكاه بعض عن السيد ) محسن الاعرجي قدس سره المعروف ب: ( المحقق الكاظمي ) وربّما يقال له : المحقق البغدادي ايضاً ، وهو صاحب الوسائل في الفقه .

( وفيه - على تقدير صدق النسبة - ) وان السيد قال هذا الكلام :- ( أولاً : ان اباحة التعبّد بالظنّ غير معقول ، اذ ) الاباحة معناها : جواز كلّ من الفعل والترك ، مثل شرب الماء ، حيث يجوز فعله ، ويجوز تركه ، و ( لا معنى

ص: 106


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .

لجواز التعبّد وتركه لا إلى بدل ، غايةُ الأمر التخييرُ بين التعبّد بالظنّ والتعبّد بالأصل او الدليل الموجود هناك في مقابله الذي يتعيّن الرجوع إليه لولا الظنّ هناك فغايةُ الأمر وجوبُ التعبّد به او بالظنّ تخييرا ،

------------------

لجواز التعبد ) بان يعلم الانسان بالظنّ ناسباً له إلى المولى ( و ) جواز ( تركه لا إلى بدل ) بان لا يعمل الانسان بالظنّ كذلك ، كأن يقول المولى : انت مخيّر بين ان تعمل بظنّك ، او ان لا تعمل بظنّك ، من دون ان يكون شيء آخر تعمله بدل ذلك ، فاذا ظننت بصلاة الجمعة - مثلاً - فان شئت صلّها ، وان لم تشأ لا تصلها من دون ان تأتي بدلها بصلاة الظهر .

وانّما لا يعقل مثل هذه الاباحة والتخيير ، لان معنى اباحة العمل بالتعبد بالظنّ هو : الالتزام بوجوب صلاة الجمعة ، فان ثبت التعبد بهذا الظنّ ، وجب العمل به ، والاّ كان الالتزام بوجوب صلاة الجمعة ، حراماً من جهة التشريع .

( غاية الامر ) ان في معنى التخيير هو : ان يكون هناك صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، والعبد مخيّر بينهما ، فيكون معناه : ( التخيير بين التعبّد بالظنّ ، والتعبّد بالاصل ) مثل استصحاب وجوب الظهر ، حيث ان الواجب في سائر ايام الاسبوع هو : الظهر ، فاذا شككنا في ان وجوب الظهر ، ارتفع في يوم الجمعة ام لا ، نستصحب ذلك الوجوب ( او الدليل ) كالخبر الوارد في وجوب صلاة الظهر ( الموجود هناك في مقابله ) أي مقابل الظنّ - على سبيل البدليّة - فان ذلك الأصل او الدليل ، هو ( الّذي يتعين الرجوع اليه ، لولا الظنّ هناك ) بوجوب الجمعة ، اذ لولا الظنّ ، كان اللازم : العمل بالظهر امّا من جهة الاصل ، أو من جهة الدليل - على ما عرفت - ( فغاية الامر ) في التخيير لا الاباحة بين الفعل والترك - هو : ( وجوب التعبّد به ) أي بذلك الاصل ، او الدليل ( أو بالظنّ تخييرا ) بينهما

ص: 107

فلا معنى للاباحة التي هي الأصلُ في الأشياء .

وثانيا ، أنّ أصالة الاباحة إنّما هي فيما لا يستقلُّ العقلُ بقبحه ، وقد عرفت استقلال العقل بقبح التعبّد بالظنّ من دون العلم بوروده من الشارع.

------------------

( فلا معنى للاباحة ) هنا ( التي هي الاصل في الاشياء ) اذ هنا : مقام التعبّد ، والاباحة جارية في غير ما يتعبد بها .

وان شئت قلت : انّه لا يمكن للمولى ان يقول : انت مخيّر في ان تلتزم بالوجوب ، او لا تلتزم لانه اذا كان ملاك الوجوب وجب ، واذا لم يكن لم يجب ، امّا كون الوجوب باختيار الانسان ، فهو غير صحيح .

( وثانياً ) لو سلمنا امكان الاباحة ، نقول : ان الاباحة لا مجرى لها فيما يستقل العقل بقبحه ، والعقل مستقل بقبح نسبة العبد إلى المولى ما لا يعلم ان المولى قاله ، و ( ان اصالة الاباحة ) في الاشياء ( انّما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه ) اذ كيف يبيح الشارع ما هو قبيح ؟ وهل هذا الاّ مثل ان يقول الشارع ما لا يعقل ؟ كأن يقول : الاربعة فرد ، او الجزء يساوي الكلّ ، او الفوضى جائز ، إلى غير ذلك .

( وقد عرفت ) فيما تقدّم ( : استقلال العقل بقبح ) التشريع ، ومن اقسام التشريع (التعبّد بالظنّ ) بان ينسب العبد إلى المولى ما ظنه ( من دون العلم بوروده من الشارع ) ولعلّ مراد السيد الكاظمي قدس سره هو ما يكون في قبال ابن قِبة ، الّذي يقول باستحالة التعبّد بالظنّ ، لا مانقل عنه : من انّ التعبّد بالظنّ مباح .

وكيف كان : فقد عرفت : ان الاشكال الأوّل : في الكبرى ، وانه لا يعقل اباحة التعبد ، والاشكال الثاني : في الصغرى ، وانه على تقدير تماميّة الكبرى ، ليس هذه الصغرى من مصاديق تلك الكبرى .

ص: 108

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخييرُ او ترجيحُ جانب التحريم ، بناءا على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة .

وفيه : منعُ الدوران ، لأنّ عدمَ العلم بالوجوب كافٍ في ثبوت التحريم ، لما عرفتَ من إطباق الأدلّة الاربعة على عدم جواز التعبّد بما لا يعلم وجوبُ التعبّد به من الشارع .

------------------

( ومنها : ان الامر في المقام ) وهو التعبد بالظنّ ( دائر بين الوجوب والتحريم ) فان الأمارة التي لم يقم على اعتبارها دليل ، ان كانت معتبرة في الواقع ، وجب التعبد بها ، والاّ فيحرم ( ومقتضاه ) أي مقتضى الدوران : ( التخيير ) بناءاً على عدم ترجيح احد الجانبين ( او ترجيح جانب التحريم ، بناءاً على ان دفع المفسدة ) بالالتزام بالحرمة ، فلا يأتي الانسان بها . حذراً من الوقوع في المفسدة ( اولى من جلب المنفعة ) بالالتزام بالوجوب .

وعلى أيّ حال : فالالتزام بالحرمة صحيح وذلك ، امّا من باب التخيير بين الحرمة والوجوب ، أو من باب تقديم الحرمة .

( وفيه : منع الدوران ) بل الحكم هنا هو : الحرمة متعيناً ( لان عدم العلم بالوجوب ، كاف في ثبوت التحريم ) فان النسبة إلى المولى بدون العلم محرم ( لما عرفت : من اطباق الادلّة الاربعة ، على عدم جواز التعبد بما لا يعلم وجوب التعبد به من الشارع ) .

هذا ، بالاضافة إلى انه لا دليل على : تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة ، اذ لو تساويا فالتخيير ، ولو رجّح احدهما على نحو المنع عن النقيض قدّم ذلك الراجح ترجيحا لازماً ، وان كان الترجيح لا بقدر المنع عن النقيض قدّم ذلك

ص: 109

الا ترى أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها كفى عدمُ ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها .

ومنها : أنّ الأمرَ في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة المعلومه إجمالاً وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ ، فيرجعُ إلى الشكّ في المكلّف به

------------------

الراجح ترجيحاً غير لازم ، ممّا يوجب : المستحب ، او المكروه .

( الا ترى ) إلى ما يدل على لزوم التحريم في المقام وهو : ( انه اذا دار الامر بين رجحان عبادة ) وجوباً : كصلاة الجمعة ، او ندباً : كالدعاء عند رؤة الهلال ( وحرمتها ، كفى عدم ثبوت الرجحان ) عقلاً او شرعاً ( في ثبوت حرمتها ) فان المشروعية منحصرة في وجود الدليل ، واذا لم يكن دليل ، كان محلاً للحرمة ، سواء شكّ ، او ظنّ ، او وهم ، ولا حاجة إلى النهي : كصلاة التراويح التي جعلها عمر ، ولا إلى عدم الامر ، قطعاً .

( ومنها:) ما ينتج حرمة العمل بالظنّ ، لكن لا من الطريق الّذي قرّره المصنِّف بل من طريق آخر وهو ( ان الامر في المقام ) وهو : أي مقام اطاعة الاحكام ( دائر بين : وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد ) الشامل للعلم والظنّ ( بالاحكام الشرعية ، المعلومة اجمالاً) فانا نعلم اجمالاً باحكام شرعية متوجهة الينا وانّ اللازم علينا ان نعلم بتلك الاحكام تفصيلاً اما بعلم قطعي ، او بالظنّ .

( وبين : وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ) بتلك الاحكام ، فلا يكفي الظنّ بها في مقام الامتثال .

( فيرجع ) ما نحن فيه ( إلى الشك في المكلّف به ) لا إلى الشك في التكليف ، الّذي حكمه البرائة ، بل الشكّ في انه هل إنّا مكلّفون بالعلم ، او بالاعمّ من العلم

ص: 110

وتردّده بين التخيير والتعيين ، فيحكمُ بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ تحصيلاً لليقين بالبراءة ، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام .

------------------

والظن ؟ ( وتردده ) أي المكلّف به ( بين التخيير والتعيين ) لانه لا نعلم هل يلزم علينا العلم فقط ، او نخيّر بين العلم والظنّ ؟ ( فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، تحصيلاً لليقين بالبرائة ) .

فاذا علم الانسان : بانه مخيّر بين امرين او متعين احدهما عليه فانّه ان جاء بذلك المحتمل التعييني ، فقد بَرء عن التكليف قطعاً ، امّا اذا جاء بما يقابل المعيّن ، فلا يعلم انه قد برء من التكليف ، والاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية .

( خلافاً لمن لم يوجب ذلك ) من تحصيل اليقين بالفراغ ( في مثل المقام ) الّذي هو من دوران الامر بين التعيين والتخيير ، فقد اختلفوا في ان الاصل في مثله : هل هو التخيير او التعيين ؟ فمن اختار الأوّل ، قال : بالتخيير بين العلم والظنّ ، ومن اختار الثاني ، قال : بلزوم تحصيل العلم .

استدل الأوّل : بالبرائة من الخصوصيّة ، فاذا شكّ بين ان الواجب : الظهر او الجمعة ، تخييراً بينهما ، او تعييناً للجمعة ، فان اصل الصلاة محرز ، اما خصوصيّة الجمعة ، فمرفوعة بأصل البرائة .

واستدل الثاني : بانّه ان أتى بالجمعة ، فقد برء من التكليف قطعاً ،امّا اذا أتى بالظهر ، فلا يعلم بالبرائة ، والحال ان الشغل اليقيني ، يحتاج إلى البرائة اليقينيّة ، فاللازم : ان يأتي بالجمعة ، لتحصيل العلم بالفراغ .

ص: 111

وفيه : أولاً : أنّ وجوبَ تحصيل الاعتقاد بالاحكام مقدّمةٌ عقليّةٌ للعمل بها وامتثالها ، فالحاكمُ بوجوبه هو العقل ، ولا معنى لتردّد العقل في موضوع حكمه

------------------

( وفيه : اولاً : ) ان المقام ليس من التعيين والتخيير الشرعي ، حتّى يقال : بانه محل البرائة ، او الاشتغال ، وانّما من التعيين والتخيير العقلي ، اذ ( ان وجوب تحصيل الاعتقاد بالاحكام ، مقدمة عقليّة للعمل بها وامتثالها ) لوضوح ان الواجب في الاحكام امتثال تلك الاحكام ، ولما كان الامتثال متوقفاً على القطع الاعتقاد بها ، وجب تحصيل الاعتقاد مقدّمة للامتثال .

( فالحاكم بوجوبه ) أي وجوب تحصيل الاعتقاد ( هو العقل ) لا الشرع ، فليس المقام من قبيل : ما لو شك في انه ، هل يجب في صلاة الجمعة بعد الفاتحة ، سورة الجمعة تعييناً ، او سورة الجمعة او ايّة سورة اخرى تخييراً ، حتّى يأتي التعيين أو التخيير ؟ .

بل المقام عقلي ( و ) العقل لا يشكّ في موضوع حكمه ابداً ، فانه ( لا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه ) لان تردّده في الموضوع ، يستلزم التردّد في نفس الحكم ، ولا يعقل ان يتردّد الحاكم في نفس حكمه .

فالعقل - مثلاً - يحكم بحسن الاحسان ، وقبح الظلم ، فاذا تردد في ان سقي الحيوان المؤي الماء ، اذا كان عطشاناً ، هل هو من الاحسان ام لا ؟ كان معناه : انه تردد في ان سقيه الماء هل هو حسن ام لا ؟ .

فانه يجب اولاً : ان نعرف حدود الاحسان وافراده ، حتّى نعرف هذه الكلّيّة : «الاحسان حسن » اذ لو احتملنا انه احسان غير حسن ، كان معناه : انا لم نعرف تلك الكلّيّة ، فان كلّيّة الموضوع وجزئيته يرجعان إلى كلّيّة الحكم وجزئيّته ، وكلّيّة

ص: 112

وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيلُ مطلق الاعتقاد او خصوص العلم منه ، بل امّا أن يستقلّ بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ على ما هو التحقيق ، وامّا أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد ،

------------------

الحكم وجزئيّته يرجعان إلى كلّيّة الموضوع وجزئيّته ، فاذا قال : اكرم كلّ عالم ، كان الاكرام كليّاً ، لان « كلّ عالم » كلّي ، وذا قال : اكرم بعض الفقهاء ، كان الاكرام جزئياً ، وكذا العكس : فاذا قال : « افراد الاكرام الواجب عليك تجاه كلّ عالم عالم الف » وفرض ان العلماء خارجاً الف شخص ، كان « العالم » كليّاً خارجيّاً ، واذا قال : افراد الاكرام تسعمائة ، كان العالم جزئيّاً ، لان مائة من العلماء - في ضمن الالف - لا يجب اكرامهم .

والحاصل : انه اذا تردد العقل في الموضوع ، تردد في الحكم ، واذا كان متردداً فكيف يحكم ؟ .

( و ) اذا ثبتت هذه الكلّيّة ، نقول : كيف يتردد العقل في المقام ( ان الّذي حكم هو ) أي العقل ( بوجوبه ) هل هو : ( تحصيل مطلق الاعتقاد ) الاعمّ من العلم او الظنّ ( او خصوص العلم منه ) .

وبالجملة : ان العقل لا يشكّ في المقام بين التعيين والترديد ( بل امّا ان يستقل : بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ) من العلم فقط ، فلا يكفي الظنّ وذلك لانه يرى عدم حصول الطاعة بدون الاعتقاد القطعي ( على ما هو التحقيق ، وامّا ان يحكم : بكفاية مطلق الاعتقاد ) الاعمّ من القطع والظنّ - كما سيأتي من المحقّق السبزواري قدس سره - لانّ العقل يستقل : بانه لا يكفي الوهم والشكّ في الاطاعة ، ومن المعلوم : ان كلّ واحد من العلم والظنّ ، ليس شكّاً او وهماً .

ص: 113

ولا يتصوّر الاجمال في موضوع الحكم العقليّ ، لأن التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ،

------------------

( ولا يتصوّر الاجمال ) والشكّ ( في موضوع الحكم العقلي ) سواء في الاجتماعيات : كحسن الاحسان ، وقبح الظلم .

أو في الهندسيات : مثل ان مساحة المربع - كامل التربيع او المستطيل منه - تحصل : بضرب أحد اضلاعه في مجاوره .

أو الحسابيات : مثل ان نتيجة ضرب الزوج في مثله زوج ، ونتيجة ضرب الفرد في مثله فرد ، ونتيجة ضرب الزوج في الفرد زوج ، إلى غير ذلك ، كالكلّيات العقلية ، فلا يشكّ العقل في انه : هل كلّ انسان حيوان ام لا ؟ او : هل كلّ جسم ذو أبعاد ثلاثة أم لا ؟ إلى غير ذلك .

وكما ان العقل لا يشكّ في موضوعه ولا حكمه ، كذلك الشرع الّذي هو سيّد العقلاء ، وانّما الجهل في الموضوع او الحكم ، يأتي في مقامين : - الأوّل : في الاستقرائيات ، مثل : هل كلّ من يعيش في خط الاستواء اسود أم لا ؟ .

الثاني : في الاحكام والموضوعات المجملة ، الصادرة من الغير ، مثل : انه هل قوله تعالى :- « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ »(1) يشمل المعاطاة ام لا ؟ إلى غير ذلك .

وعلى أيّ حال : فلا تردد في موضوع الحكم العقلي ( لان التردد في الموضوع، يستلزم التردد في الحكم ) اذ الحكم لا يتصور الاّ بعد تصور الموضوع ، لعدم

ص: 114


1- - سورة البقرة : الآية 275 .

وهو لا يتصور من نفس الحاكم ، وسيجيء الاشارة الى هذا في رد من زعم أنّ نتيجةَ دليل الانسداد مهملةٌ ، مجملة مع عدّة دليلَ الانسداد دليلاً عقليّا وحكما يستقلّ به العقلُ .

------------------

معقوليّة حكم بلا موضوع ، فاذا تردد العقل في ان الموضوع - مثلاً - : التعيين او التخيير ؟ كان معناه : انه مردّد في ان الواجب هو : الأوّل ، او الثاني ؟ .

( وهو ) أي التردد ( لا يتصور من نفس الحاكم ) فانه تناقض بين حكمه ، وبين تردده ، فان العقل لا يكون حاكماً ، الاّ بعد احراز الموضوع بتمام خصوصيّاته - والا على ماذا يحكم ؟ - وبعد احرازه الموضوع بتمام الخصوصيات والقيود ، لا يبقى تردد ، لا في الموضوع ، و لا في الحكم ، والعقل حاكم في ما نحن فيه بوجوب الاطاعة ، فلا يمكن ان يكون مردداً في : ان موضوع الوجوب ، هل هو : « الاعتقاد القطعي » او : « الاعتقاد الاعمّ من القطع والظنّ » ؟ وقد مضى : انه كما لا تردد في موضوع الحكم العقلي ، كذلك لا تردد في موضوع الحكم الشرعي بطريق اولى .

( وسيجيء الاشارة إلى هذا) الّذي ذكرناه : من عدم تردّد العقل في حدود موضوع حكمه ( في ردّ من زعم : ان نتيجة دليل الانسداد مهملة ) فلا تفيد مراتب الظنّ وموارده واسبابه ، على نحو الكلّيّة و ( مجملة ) فلا تعطي خصوصيّات النتيجة ، والفرق بين الاهمال والاجمال : ان الاهمال : في مقام الثبوت والاجمال : في مقام الدلالة ( مع عدّه ) أي عدّ هذا الزاعم ( دليل الانسداد دليلاً عقليّاً ) على حجّيّة مطلق الظنّ (وحكماً يستقل به العقل ) .

فانهم اختلفوا في ان مقدمات الانسداد لو تمت ، وانتجت حجّيّة الظنّ المطلق ، فهل النتيجة : الكشف او الحكومة ؟ .

ص: 115

وأمّا ثانيا : فلأنّ العملَ بالظنّ في مورد مخالفته للاصول والقواعد

------------------

ومعنى الكشف : ان المقدمات تكشف عن ان الشارع جعل الظنّ المطلق حجّة .

ومعنى الحكومة : ان نتيجة المقدمات تثبت ان العقل يحكم بحجّيّة الظنّ .

ثمّ ان القائل بالكشف ، له ان يقول : باجمال النتيجة ، اذ الاجمال يأتي في عالم الاثبات ، والدلالة في مراد الاخرين ، اما القائل بالحكومة فلا يتمكن من القول : باجمال النتيجة ، اذ قد عرفت : ان العقل لا اجمال في حكومته ، وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك ان شاء اللّه تعالى .

( واما ثانياً ) فلانّ المستدلّ استدلّ للزوم تحصيل الاعتقاد القطعي ، مدّعياً عدم كفاية العلم بالظنّ بدليل الاشتغال اليقيني بالتكليف - لانّا نعلم ان لكلّ واقعة حكماً شرعياً - يستدعي البرائة اليقينية ، والبرائة لا تحصل الا باليقين وهو : العمل بالقطع ، لا بالتخيير بينه وبين الظنّ لاحتمال مخالفة الظنّ للواقع المؤّية لعدم حصول البرائة اليقينيّة ، مع انه لا بدّ من احرازها بعد العلم بالشغل اليقيني .

لكن هذا الاستدلال غير محتاج اليه اذ هناك استدلال آخر مقدم عليه رتبة ، ممّا لا يدع مجالاً لهذا الاستدلال وهو : ان الشارع امر بالعمل بالاصول والادلّة المخالفة ، فرضاً - لهذا الظنّ ، فاذا اخذ المكلّف بالظنّ ، وترك الاصول والادلّة ، قطع بانه خالف الشرع ، (ف) لاتصل النوبة إلى ما ذكره المستدل : من احتمال المخالفة .

وذلك ( لان العمل بالظنّ ) ان كان على وجه التعبّد ، كان حراماً ، لانه تشريع - كما عرفت - وان كان على وجه الاحتياط او التشهيّ ، فان وافق الاصول والادلة ، حلّ بلا اشكال ، ولا كلام فيه، وامّا ( في مورد مخالفته للاصول والقواعد ) الشرعيّة

ص: 116

الذي هو محلّ الكلام مخالفةٌ قطعيّةٌ لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الاصول حتى يُعلمَ خلافُها فلا حاجةَ في ردّه الى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتماليّة للتكليف المتيقّن ، مثلاً إذا فرضنا أن الاستصحابَ يقتضي الوجوبَ والظنّ حاصلٌ بالحرمة ، فحينئذٍ يكون العملُ بالظنّ مخالفةً قطعيّة لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين ،

------------------

ممّا سمّيناها بالادلة ( الذي هو ) مورد البحث و ( محل الكلام ) وانه جائز او حرام على نحو يكون ( مخالفة قطعيّة لحكم الشارع ) الّذي حكم ( بوجوب الأخذ بتلك الاصول ) والقواعد ( حتّى يعلم خلافها ) ويقطع بخلاف تلك الاصول والقواعد وما دام لم يقطع بالخلاف ، يكون العمل بالظنّ حراماً من جهة انه طرح للقواعد الشرعيّة ، والاصول العملية .

إذن : ( فلا حاجة في ردّه ) أي ردّ العمل بالظن - كما ذكره المستدل - ( إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة ) تلك القاعدة ( الى : قدح المخالفة الاحتماليّة ، للتكليف المتيقّن ) حيث ذكر المستدل : ان العمل بالظنّ فيه احتمال المخالفة ، فاللازم : ان لا يعمل بالظنّ ، بل باليقين لان الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينيّة .

( مثلاً : اذا فرضنا ان ) الدليل الشرعي ، او ( الاستصحاب : يقتضي الوجوب ) في صلاة الجمعة ، حيث نشكّ في بقاء وجوبها بعد عصر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ام لا ( والظنّ ) بسبب خبر غير معتبر ( حاصل بالحرمة ، فحينئذٍ يكون العمل بالظنّ ) المذكور بترك صلاة الجمعة حراماً ، لكونه ( مخالفة قطعيّة لحكم الشارع ) بسبب دليل اجتهادي ، قام على ان صلاة الجمعة واجبة ، او : ( ب- ) سبب الاصل العملي الدال على ( عدم نقض اليقين بغير اليقين ) أي بالشكّ كما ورد في

ص: 117

فلا يحتاجُ الى تكلّف ان التكليفَ بالواجبات والمحرّمات يقينيٌ ، ولا نعلمُ كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها او وجوبَ تحصيل الاعتقاد القطعيّ وأنّ في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفةً احتماليّة للتكليف المتيقّن فلا يجوز ، فهذا أشبهُ شيء بالأكل عن القفا .

فقد تبيّن ممّا ذكرنا

------------------

نصّ الاستصحاب .

( فلا يحتاج ) في اثبات الحرمة ، لترك الجمعة ، بما ذكره المستدل ( إلى تكلف : ان التكليف بالواجبات والمحرّمات يقيني ) لانا نعلم بذلك - قطعاً اجمالاً - وهذا العلم يوجب علينا تحصيل الاعتقاد بتلك التكاليف مقدمة للعمل ، ( و ) لكن ( لا نعلم ) لبرائة الذمة ( كفاية : تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها ) أي في التكاليف الشامل للقطع والظنّ ( او : وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي ) حيث الامر دائر بين التعيين والتخيير ( وان في تحصيل الاعتقاد الراجح ) من الظنّ فقط ، دون الاعتقاد القطعي ، وتحصيل العلم ( مخالفة احتماليّة للتكليف المتيقن ) حيث انا مكلفون بالاحكام قطعاً ( فلا يجوز ) الاكتفاء بالظنّ ، دون تحصيل القطع .

( فهذا ) التكلّف الّذي وقع فيه المستدل ( اشبه شيء بالاكل عن القفا ) لانه ترك الطريق الواضح : من كون العمل بالظنّ مخالفة قطعيّة للادلّة والاصول وسار في الطريق الملتوي : من كون العمل بالظنّ فيه احتمال مخالفة التكليف ، فاللازم تحصيل الاعتقاد القطعي ، فهو كما اذا كان نصّ القرآن يدلّ على : تحريم شيء ، وظاهر رواية ضعيفة يدل على : التحريم ايضاً ، فيستدل انسان على التحريم بظاهر تلك الرواية ، ويدع نصّ القرآن الدال على التحريم .

( فقد تبيّن ممّا ذكرنا ) : من الاشكال على الاصول التي ذكروها في باب التعبّد

ص: 118

أنّ ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يُعتمَدَ عليه ، وحاصله : أنّ التعبّدَ بالظنّ مع الشكّ في رضا الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّدٌ بالشك ، وهو باطل عقلاً ونقلاً .

وأمّا مجرّدُ العمل على طبقه فهو محرّمٌ إذا خالف أصلاً من الاصول اللفظيّة

------------------

بالظنّ : ( انّ ما ذكرنا في بيان الاصل ) : من حرمة التعبّد بالظنّ ، ما لم يدل على التعبّد به دليل ، انّه ( هو الّذي ينبغي ان يعتمد عليه ) ويرجع اليه .

( وحاصله : ان التعبّد بالظنّ ، مع الشكّ في ) حجّيته ، وعدم العلم ب( رضا الشارع بالعمل به ) أي بالظنّ يكون ( في الشريعة ، تعبد بالشكّ ) لانّا سواء ظننا او وهمنا او شككنا ، كنّا شاكّين في الحكم الّذي وصل الظنّ اليه ، فيكون من التشريع ، وادخال ما لم يعلم كونه من الدّين في الدّين .

( وهو ) أي التعبّد بالشكّ ( باطلا عقلاً ) لان العقل يرى لزوم العلم فيما ينسبه الانسان إلى المولى .

( و ) باطل ( نقلاً ) لان الاية الكريمة تقول : « قل ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ » (1) .

هذا اذا كان على نحو التشريع .

( وامّا مجرد العمل على طبقه ) ووفق الظنّ ، من دون النسبة والتشريع ، احتياطاً او تشهّياً ( فهو محرم ، اذا خالف اصلاً من الاصول اللفظيّة ) .

كما اذا قال الشارع : « إِن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ... » (2) .

ص: 119


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .

او العمليّة الدالّة على وجوب الأخذ بمضمونها حتى يعلم الرافع .

فالعملُ بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما إذا عمل به ملتزما أنّه حكم اللّه وكان العملُ به مخالفا لمقتضى الاصول .

وقد يجتمع فيه جهةٌ واحدةٌ ، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم بكونه

------------------

وأتى خبر فاسق يدلّ على حرمة الجمعة في عصر الغيبة ، بينما تدلّ الاية على الوجوب ، فاذا طرحنا الوجوب لخبر الفاسق ، كان الاصل اللفظي مخالفاً للظنّ الحصال من خبر الفاسق .

( او ) مخالفاً للاصول ( العملية ) كما اذا اقتضى الاستصحاب : وجوب الجمعة ، ودلّ خبر الفاسق على : الحرمة ( الدالة ) تلك الاصول اللفظية او العملية ( على وجوب الأخذ بمضمونها ) اذ كيف يجتمع الاصل الّذي يجب العمل به ، مع العمل بالظنّ ، المخالف لذلك الاصل .

وهذا الوجوب مستمر ( حتّى يعلم الرافع ) فان الاصل يقول : خذ بمضموني ، حتّى تعلم الرافع لمضموني ، فاذا ظنّ الانسان بالرافع - ولم يعلمه - لم يحقّ له : الأخذ بالظنّ وترك الاصل .

وعليه : (ف) الصور أربع : اولاً : ( العمل بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ) جهة التشريع ، وجهة مخالفة الدليل ( كما اذا عمل به ) أي بمؤى الظنّ ( ملتزماً انه حكم اللّه ) فانه محرّم من جهة التشريع ( وكان العمل به ، مخالفاً لمقتضى الاصول ) اللفظيّة او العمليّة فانه محرّم من جهة مخالفة الدليل .

( و ) ثانياً : ( قد يجتمع فيه ) أي في العمل بالظنّ ( جهة واحدة ) للحرمة فقط ( كما اذا خالف ) العمل ( الاصل ) العملي او اللفظي( و ) لكن ( لم يلتزم : بكونه

ص: 120

حكم اللّه ، او التزم ولم يخالف مقتضى الاصول وقد لايكون فيه عقابٌ اصلاً ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم اللّه ولم يخالف أصلاً .

وحينئذٍ :

------------------

حكم اللّه ) بل عمل به احتياطاً او تشهّياً .

وثالثاً : ( أو التزم ) بالحكم المستند إلى الظنّ بانه حكم اللّه تعالى ( و ) لكن ( لم يخالف مقتضى الاصول ) اللفظيّة او العملية .

( و ) رابعاً : ( قد لا يكون فيه ) جهة ( عقاب اصلاً ) لا من جهة الالتزام ولا من جهة المخالفة ( كما اذا لم يلتزم : بكونه حكم اللّه ) فلا يكون تشريعاً ( ولم يخالف اصلاً ) لفظياً ولا عمليّاً ، فلا يكون مخالفاً للدليل وتكون الاقسام على ذلك اربعة :

لا يقال : كيف حصرتم النسبة في الكلّيات الراجعة إلى العموم من وجه إلى ما يكون اقصاها ثلاثة صور ، ولم تذكروا شيئاً منها ذات اربع صور مع ان في العموم من وجه اربع صور :

انسان وابيض .

وابيض بدون الانسان .

وانسان بدون الابيض .

وما ليس بانسان ولا ابيض ؟ .

لانه يقال : ان المنطقيّين ارادوا بيان : الايجاب لهما ، او لاحدهما ، لا السلب لكليهما ، فالقسم الرابع خارج عن محل كلامهم ، كما هو واضح .

( وحينئذٍ : ) بان يعمل بالظنّ لكن لم يلتزم بكونه حكم اللّه ولم يكن فيه

ص: 121

قد يستحقّ عليه الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط .

هذا ، و

------------------

ما يخالف الاصل فانه ( قد يستحق عليه ) أي على عمله هذا ( الثواب ، كما اذا) ظنّ بالتكليف و ( عمل به على وجه الاحتياط ) ولم يعارضه احتياط آخر ، فيكون فيه الثواب لانه انقياد للمولى واطاعة لقوله : « أخوكَ دِينُكَ ، فَاحتَط لِدِينِكَ بِما شِئتَ »(1) ، وغيره من اوامر الاحتياط ، وانّما قال المصنِّف قدس سره : « قد يستحق » لانه اذا لم يقصد الاحتياط ، لم يستحق ثواباً .

ثم ان ( هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ التعبّد بالظنّ ، قد يكون حراماً : اذا كان مع الاستناد ، او مخالفاً لاصل او دليل ، وقد لا يكون حراماً : اذالم يكن مع الاستناد ، ولم يكن مخالفاً لأصل ولا دليل ، غير دقيق ، وذلك لان التعبّد بالظنّ ، حرام مطلقاً والحرمة امّا من جهة واحدة وهي : التشريع ، وامّا من جهتين : التشريع ، ومخالفة الاصل او الدليل ، لان ما لا يكون مع الاستناد لا يسمّى تعبّداً بالظنّ ، فليست الصور : اربع بل هي ثلاث : - الاولى : ما كان حراماً لانه تشريع فقط .

الثانية : ما كان حراماً لانه مخالف للدليل .

الثالثة : ما كان حراماً من جهة انه : تشريع ، ومخالف للدليل ، اما اذا لم يكن لامخالفاً ولا تشريعاً ، فلا يسمّى تعبّداً بالظنّ - اصلاً - لا انه من اقسام التبّعد وجائز.

( و ) عليه : فما ذكرناه سابقاً ليس الاّ مجرّد اصطلاح ، حيث سمينا القسم

ص: 122


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

لكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملاً به .

فصحّ أن يقال : إنّ العملَ بالظنّ والتعبّد به حرامٌ مطلقا ، وافق الاصولَ او خالفها ، غايةُ الأمر أنّه إذا خالف الاصولَ يستحقّ العقابَ من جهتين ، من جهة الالتزام والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه .

------------------

الرابع ، الّذي هو « ليس بتعبّدي » تعبّداً ( لكن ) هذا الاصطلاح غير دقيق ، اذ قد مرّ : ان (حقيقة العمل بالظنّ هو : الاستناد اليه في العمل ، والالتزام بكون مؤّاه ) كصلاة الجمعة الحرام واقعاً ، المظنون وجوبها ( حكم اللّه في حقّه ) أي في حقّ الظانّ (فالعمل على ما يطابقه ) أي يطابق الظنّ ( بلا استناد اليه ) بل احتياطاً او تشهّياً (ليس عملاً به ) أي بالظنّ ، حتّى يقال : انه عمل بالظنّ ، لكنه ليس بمحرم .

( فصحّ ان يقال : ان العمل بالظنّ والتعبّد به ) باستناده إلى الشارع - بالاضافة إلى الاستناد إلى نفس الظنّ في العمل - ( حرام مطلقاً ) ومعنى مطلقاً : انّه سواء ( وافق الاصول ) والادلّة ( او خالفها ) فهو حرام .

( غاية الامر ) في الفرق بين الموافق وبين المخالف ( انه اذا خالف الاصول ، يستحق العقاب من جهتين : من جهة : الالتزام والتشريع ) والنسبة إلى المولى ما لا يعلم انه منه ، وهو حرام شرعاً ، وقبيح عقلاً - كما تقدّم ، ( ومن جهة : طرح الاصل ) أو الدليل ( المأمور بالعمل به ، حتّى يعلم بخلافه ) .

ذلك ان الاصل او الدليل ، هو اللازم الاتباع ، الاّ ان يقطع الانسان بخلافه ، فاذا قام شاهدان : على ان المال لزيد ، وقام الاصل : على انه ليس بمتطهّر ، وجب العمل بهما ، فلا يجوز اعطاء المال لعمرو للظن بانّه لعمرو ، ولا ان يدخل الصلاة

ص: 123

وقد اُشير في الكتاب والسنّة الى الجهتين : فممّا اُشير فيه إلى الاُولى قولُهُ تعالى : « قل ء اللّه اُذِنَ لكُمْ أمْ عَلى اللّه تَفتَرونَ » ، بالتقريب المتقدم ، وقوله عليه السلام : « رجلٌ قضى بالحقِّ وهوَ لايَعلمُ » .

وممّا اشير فيه إلى الثانية

------------------

للظنّ بانّه متطهّراً ، الاّ ان يعلم بانّ المال لعمرو ، حيث العلم مقدّم على الشاهد ، وان يعلم بانّه متطهر ، حيث العمل مقدّم على الاستصحاب .

( و ) اذا عرفت ذلك نقول : ( قد اشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين ) المحرّمتين ، وهما : جهة التشريع ، وجهة مخالفة اصل او دليل ، بالاضافة إلى ما عرفت : من انّ العقل يدلّ على القبحين ، بل والاجماع قائم على ذلك ايضاً ، فالادلّة الاربعة دالة على المطلب .

( فمّما اشير فيه إلى ) الجهة ( الاولى ) أي حرمة التشريع ( : قوله تعالى ) : - ( « قُلْ ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ »(1) بالتقريب المتقدّم ) في الاستدلال بهذه الآية ، اذ الآية تدلّ : على ان الاستناد من دون إذن افتراء ، والافتراء : حرام نصّاً واجماعاً ، وعقلاً .

( وقوله عليه السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ») (2) فمن لا يعلم شيئاً يعاقب عليه اذا عمل به باسناده إلى ا لمولى ، حكماً كان ذلك الشيء كما في النصّ او عملاً آخر - بالملاك - كما في ما نحن فيه ، والعقاب يلازم الحرمة .

( وممّا اشير فيه إلى ) الجهة ( الثانية ) أي حرمة العمل بالظنّ مقابل الدليل الدّال

ص: 124


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

قولُهُ تعالى :« إنّ الظّنّ لايُغني مِنَ الحقِّ شيئا » وقوله عليه السلام : « مَن افتى الناسَ بغير علم كان مايُفسدهُ أكثرَ ممّا يُصلحهُ » ، ونفس أدلّة الاصول .

------------------

على خلافه : ( قوله تعالى : « إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً » )(1) .

فان الحقّ يكون في العلم ، وفيما دلّت عليه الادلّة والاصول ، ومن الواضح : انه اذا لم يكن حقّ ، كان باطلاً ، لعدم الواسطة والعامل بالباطل فاعل للمحرم ، لان العمل بالظنّ وطرح الحقّ ، محرّم .

( وقوله عليه السلام : « مَن أفتى الناسَ بِغَيرِ عِلمٍ ، كانَ ما يُفسِدُهُ أكثَرَ مِمّا يُصلِحُهُ » )(2) فالمفتي الّذي يفتي بالظنّ ، ويطرح الدليل المقابل له يكون مفسداً ، والمفسد معاقب بالنار ، وانّما قال عليه السلام : « اكثر » لانه قد يتطابق الظنّ مع الواقع ، فلا يكون فيه فساداً وفي قباله : غير المتطابق مع الواقع ، وان دلّ عليه دليل او اصل ( و ) يدلّ ايضاً على الحرمة : ( نفس ادلّة الاصول ) والادلة : كقوله عليه السلام - في باب الاستصحاب - : « لا تَنقُض اليَقينَ بِالشَكِّ »(3) .

فاذا عمل بالظنّ كان مشمولاً لنهي « لاتنقض » وكقوله عليه السلام : « لا عُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالِينا ، في التَشكِيكِ فِيما يَرويه عَنّا ثُقاتُنا »(4) ، فاذا عمل بالظنّ ، وطرح رواية الثقة ، لم يكن له عذر في الاخرة ، وكان مستحقّاً للنار .

ص: 125


1- - سورة يونس : الآية 36 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص25 ب4 ح33112 بالمعنى ، بحار الانوار : ج1 ص208 ب5 ح7 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
4- - وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج50 ص318 ب40 ح15 وفيه «يؤديه» .

ثمّ إنّ ماذكرنا من الحرمة من الجهتين مبنيٌّ على ما هو التحقيقُ ، من أنّ اعتبارَ الاصول ، لفظيّة كانت او عمليّة ، غيرُ مقيّد بصورة عدم الظنّ على خلافها .

وامّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظنّ على خلافها ،

------------------

( ثمّ ) ان هناك خلافاً بين الاصوليين وهو : انه هل العمل بالادلّة مشروط بعدم الظنّ على خلافها ، فاذا ظنّ بالخلاف لم يجز العمل بالخبر ، كما قال به بعض ، او اللازم : العمل بالخبر سواء ظنّ بخلافه أم لا ؟ .

وهذا الخلاف موجود ايضاً في الاصول ، فهل الاستصحاب حجّة مطلقاً ، او فيما اذا لم يظنّ على خلافه ؟ .

فالذي قلناه : من انه لا يعمل بالظنّ في خلاف الخبر والاصل ، انّما هو فيما اذا قلنا - كالمشهور - : بان الخبر والاصل حجّة مطلقاً ، ظنّ المكلّف على خلافهما ، ام لا ؟ .

اما من يقول : بان الظنّ على الخلاف ، يسقط الخبر والاصل عن الحجّيّة ، فهو لا يقول : بان العمل بالظن المخالف للخبر والاصل ، يوجب العقاب .

وعليه : ف( ان ماذكرنا ) ه ( من الحرمة ) لمن يعمل بالظنّ ( من الجهتين ) جهة التشريع ، وجهة طرح اصل او دليل ( مبني على ما هو التحقيق : من ان اعتبار الاصول لفظيّة كانت ) كحجّيّة الظاهر ( او عمليّة ) كالاستصحاب ( غير مقيد ) ذلك الاعتبار (بصورة عدم الظنّ على خلافها ) أي خلاف تلك الاصول اللفظية والعمليّة .

( واما اذا قلناب) مقالة البعض : من ( اشتراط ) الحجّيّة في الاصول والادلّة ب( عدم كون الظنّ على خلافها ) أي خلاف تلك الاصول اللفظيّة والعمليّة

ص: 126

فلقائلٍ أن يمنعَ أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره .

أمّا مع عدم تيسّر العلم في المسألة ، فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظنّ وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظنّ ، وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ ، كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ، لأنّه المفروضُ ،

------------------

( فلقائل ان يمنع : اصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقاً ) والاطلاق بمعنى : انه ( لا على وجه الالتزام ) الشريعي ، ( ولا على غيره ) أي غير الالتزام .

وانّما المحرّم عند هذا القائل : الحرمة على وجه الالتزام فقط ، فان التزم حرّم للتشريع فقط - لا من جهتين - وان لم يلتزم ، لم يكن حراماً اطلاقاً سواء كان في قبال الظنّ اصل او دليل ام لا ؟ .

( امّا ) وجه عدم حرمة العمل بالظنّ العامّ ( مع عدم تيسر العلم ) ولا الظنّ الخاصّ مع فرض انسداد باب العلم والعلمي ( في المسألة ) بأن لم يكن في المسألة المبتلى بها علم ولا علمي .

( فلدوران الامر فيها ) أي في المسألة ( بين العمل بالظنّ ) العام ( وبين الرجوع إلى الاصل الموجود في تلك المسألة ) برائةً ، او اشتغالاً ، او احتياطاً ، او تخييراً ، الاصل الّذي هو ( على خلاف الظنّ ) كأن ظنّ عدم وجوب الجمعة بينما الاستصحاب يقتضي وجوبها ، او كان الشكّ في المكلّف به ممّا يقتضي الاشتغال ، لكنّ الظنّ على البرائة ، إلى غير ذلك .

( وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ ) لفرض الانسداد ( كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الاصل ) المخالف للظنّ ( لانّه المفروض ) من دليل اعتبار ذلك الاصل ،

ص: 127

فغايةُ الأمر التخييرُ بينهما او تقديمُ الظنّ ، لكونه أقربَ إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل .

وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة ، فلأنّ عدمَ جواز الاكتفاء فيها

------------------

بانه مختص بصورة الشكّ وعدم الظنّ بالخلاف .

( فغاية الامر ) هنا في دوران الامر بين الظنّ والاصل هو : ( التخيير بينهما ، او ) يقال : ب( تقديم الظنّ ) على الاصل ( لكونه اقرب إلى الواقع ) اذ الاصل : في محل الشكّ ، والظنّ مقدّم على الشكّ ( فيتعيّن ) الظنّ ( بحكم العقل ).

فان العقل يرى لزوم العلم التفصيلي ، ثم العلم الاجمالي - وربّما يقال : بالتساوي بينهما في الاطاعة ، اذا لم يكن محذور خارجي - ثم الظنّ ، فان من كان مريضاً وعلم بالدواء : شربه ، ومن شكّ بين اثنين : شربهما ، ومن لم يكن له علم تفصيلي ولا علم اجمالي ، شرب ما يظنّ انه دواء ، وكذلك في سلوك الطريق الواجب عليه ، للوصول إلى بلد ما ، وإلى غير ذلك من موارد عمل العقلاء بالظنّ بعد فقد العلم .

وعلى هذا: فالعمل بالظنّ لا يحرم من جهة التشريع ، لان العقل حكم بحجّيّته تخييراً او تعييناً ، ولا من جهة طرح الاصل ، لفرض ان حجّيّة الاصل مقيّدة بعدم الظنّ على الخلاف .

( وامّا ) وجه حرمة العمل بالظن ( مع التمكن من العلم ) او الظنّ الخاصّ - كالامارات والطرق - بالواقع ( في المسألة ) المبتلى بها (: فلان ) العقل لا يلزم الانسان بالعلم او العلمي ، وإنّما يرى كفاية الظنّ بالنجاة في قبال الشكّ بها ، او الظنّ بعدمها ، ولذا فان العقلاء يكتفون بالظنّ في غالب معاملاتهم ، وان تمكنوا من العلم ف( عدم جواز الاكتفاء فيها ) أي في

ص: 128

بتحصيل الظنّ ووجوبَ تحصيل اليقين مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ، أمّا إذا أدعى أنّ العقل لا يحكمُ بأزيد من وجوب تحصيل الظنّ وأنّ الضرر الموهوم لايجب دفعهُ ، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن .

------------------

المسألة ( بتحصيل الظنّ ) بالحكم ( ووجوب تحصيل اليقين ) او الظنّ الخاصّ ممّا يسمّى بالعلمي ( مبني على القول : بوجوب تحصيل الواقع علماً) او علميّاً .

و ( امّا اذا ادّعى ) كما عن المحقق السبزواري قدس سره ( ان العقل لا يحكم بازيد من وجوب تحصيل الظنّ ) باحكام المولى ( وان الضّرر الموهوم ، لا يجب دفعه ) بل الضّرر المشكوك ، او المظنون او المقطوع به ( فلا دليل على لزوم تحصيل العلم ) او العلمي بالاحكام ، حتّى ( مع التمكن ) .

وعليه : فالعمل بالظنّ لا يحرم ، لا من جهة ترك العلم ، ولا من جهة التشريع ، لان العقل قد استقل بكفاية تحصيل مطلق الاعتقاد ، الاعمّ من العلم والظنّ ، وكأن المحقق السبزواري قدس سره انّما قال بذلك ، لما شاهده من انّ بناء العرف في كلّ شؤهم - الاّ النادر جدّاً المحتاج إلى دليل الاستثناء - انّما هو بالعمل على الظنّ .

فمن يركب الطائرة ، او السيارة ، او الباخرة ، هل يعرف السائق ؟ وهل يعلم انه يوصله بسلام ؟ .

ومن يراجع الطبيب في مطبّه لاجل علاج مرضه ، او اجراء عمليّة جراحيّة له ، هل يعرف الطبيب ؟ وهل يعلم انه ينجح في معالجته واجراء عمليّته له ؟ .

ومن يأكل الطعام ، ويشرب المشروبات ، خصوصاً في المطاعم ، هل يعلم بان اللحم وسائر المطعومات والمشروبات خالية عن السمّ ، وسالمة من الاقذار والجراثيم ؟ .

ص: 129

ثمّ إنّه ربما يُستدلّ على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ ،

------------------

ومن يخرج من بيته للعمل ، او يذهب ابنه إلى المدرسة ، او ما اشبه ، هل يعلم بانه لا يصطدم بالسيارات العابرة ؟ وهل يضمن عودة ابنه سالماً ؟ .

ومن يسكن المناطق ،التي تحدث فيها الزلازل هل يأمن على نفسه من الزلزلة المدمّرة له ؟ .

و من يرسل زوجته ، او بنته او اخته إلى السوق ، او المدرسة ، او بيوت الارحام ، او ما اشبه هل يأمن عليها عدم الاختطاف ؟ .

إلى غير ذلك ممّا يجده الانسان من شؤون العرف في اكتفائهم بالظنّ ، والشرع ، حيث لم يحدث طريقاً جديداً ، كان معناه الاكتفاء بالظنّ ، وعدم لزوم العلم .

لكن هذا القول ضعيف لأن الشارع منع عن العمل بالظنّ ، وقد ألمعنا إلى ذلك في « الاصول » .

( ثم انه ربّما يستدلّ على اصالة حرمة العمل بالظنّ ، بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ ) مثل قوله سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(1) .

وقوله تعالى : « إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وانَّ الظنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحقِّ شَيْئاً »(2) .

وقول سبحانه : « وَان نظّنُّ إِلاَّ ظَنّاً ، وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِيْنَ »(3) إلى غيرها

ص: 130


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة النجم : الآية 28 .
3- - سورة الجاثية : الآية 32 .

وقد أطالوا الكلام في النقض والابرام في هذا المقام بما لاثمرة مهمّةً في ذكره بعد ما عرفت .

لأنّه إن اريد الاستدلالُ بها على حرمه التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظنّ ، فقد عرفتَ أنّه من ضروريات العقل ، فضلاً عن تطابق الأدلّة الثلاثة النقليّة عليه .

------------------

( وقد اطالوا) أي الاصوليون ( الكلام في النقض والابرام ، في هذا المقام ) فبعضهم نقض الادلّة المذكورة بادّعائه عدم دلالتها لانّها في اصول الدين ، ونحو ذلك ، وبعضهم ابرم دلالتها بانّها اعمّ ، ولو من جهة العلّة ، كما في : « إِنَّ الظّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً » .

ونظرة إلى القوانين والفصول ، وما اشبههما من الكتب الاصولية المفصلة ، تعلم تفاصيل النقض والابرام ( بما لا ثمرة مهمّة في ذكره ، بعد ما عرفت ) من الكلام في العمل بالظنّ واحكامه .

ثم ان الاستدلال هذا على اقسام : ( لانه ان اريد الاستدلال بها ) أي بالايات (على حرمة التعبّد ، والالتزام ، والتدّين بمؤّى الظنّ ) ونسبته إلى المولى عزّ وجلّ بان قال - فيما ظن بحرمة التبغ : المولى قال بحرمه التبغ ، او قال - فيما ظنّ بوجوب دعاء الهلال - : المولى قال بوجوب الدعاء عند الرؤة ( فقد عرفت : انه ) أي تحريم التعبّد ( من ضروريات العقل ) فان العقل يراه كذباً وافتراءاً ( فضلاً عن تطابق الادلة الثلاثة النقليّة ) من الكتاب والسنّة والاجماع ، ( عليه ) أي على التحريم .

وحيث دلّ العقل على الحرمة ، فالايات والروايات ارشاد إلى حكم العقل ، كما هو الشأن في كلّ ما دلّ عليه العقل ، ثم دلّت الادلّة الشرعيّة عليه ، والاجماع ليس

ص: 131

وإن اريد دلالتُها على حرمة العمل المطابق للظنّ وإن لم يكن عن استناد إليه : فان اريد حرمتُه إذا خالف الواقعَ مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلّة الواقعية ؛ وإن اريد حرمته إذا خالف الاصولَ مع عدم التمكّن من العلم

------------------

الاّ لكشفه عن قول المعصوم ، فهو كرواية من الروايات - على ما يراه بعض الاصوليّين من كون الاجماع حجّة من باب الكشف - .

( وان اريد : ) من الاستدلال بالايات الناهية عن العمل بالظنّ ( دلالتها ) أي الايات (على حرمة ) مجرد ( العمل المطابق للظنّ ، وان لم يكن ) العمل ( عن استناد اليه ) أي إلى الشارع فاذا ظنّ بحرمة التبغ ، او وجوب الدعاء عند رؤة الهلال - مثلاً - ترك الأوّل ، وأتى بالثاني احتياطاً او تشهّياً بلا نسبة منه إلى الشارع .

( فان اريد : حرمته ) أي حرمة العمل بالظنّ ( اذا خالف الواقع ) بان لم يكن الدعاء واجباً ، ولا التبغ حراماً عند اللّه سبحانه ( مع التمكن من العلم به ) أي بالواقع ، حيث كان الدعاء حراماً ، او التدخين - مثلاً - في الواقع ، وكان بامكانه ان يراجع الادلة ، حتّى يظهر له : حرمة الدعاء ، ووجوب التدخين ، فلم يراجع وترك التدخين وقرء الدعاء (فيكفي في ذلك ) التحريم الموجب لعقابه ( الادلة الواقعية ) التي اذا رجع اليها ، علم بالواقع ، فان دليل الاحكام الواصل إلى المكلّف حجّة عليه اذا خالف ، والوصول لا يلزم فيه - عند العقلاء - : علمه الحالي ، بل يكفي فيه : انه يتمكن من الرجوع اليها ليعلم . وعلى هذا : فلا حاجة إلى الاستدلال بالآيات الناهية عن الظنّ ، في حرمة العمل بغير العلم .

( وان اريد : حرمته ) أي حرمة العمل بالظنّ ( اذا خالف ) الظنّ : الادلة الاجتهادية ، او (الاُصول ) العمليّة ( مع عدم التمكن من العلم ) فاذا رجع اليها لا يعلم بالواقع ، لكن يصل إلى الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي المقرّر في هذه المسألة التي

ص: 132

فيكفي فيه أيضا أدلّة الاصول ، بناءا على ما هو التحقيقُ ، من أنّ مجاريها صورُ عدم العلم الشامل للظنّ ؛ وإن اريد حرمةُ العمل المطابق للظنّ من دون استناد إليه ، وتديّن به وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه و

------------------

هي محل ابتلائه ( فيكفي فيه ) أي في التحريم هنا ( ايضاً ) كما كفى في الفرض الأوّل (ادلة ) الأمارات و ( الاصول ) فان الدليل الّذي يقول بحجّيّة الخبر الواحد ، مثل : « صدق العادل » او بحجّيّة الاصل ، مثل : « لا تنقض اليقين بالشكّ »(1) يكفي في المنع عن العمل بالظنّ ، المخالف للخبر ، او للاستصحاب ، من دون حاجة إلى الايات الناهية .

ان قلت : ان الادلة والاصول ، تجري فيما يشكّ الانسان فيه ، لا فيما يظنّ ، والمفروض في المقام : حصول الظنّ بالحكم ، فلا مجال للدليل والاصل فيه ، وانّما مجالهما الشكّ فقط .

قلت : كون الدليل والاصل مقدماً على الظنّ ( بناءاً على ما هو التحقيق من انّ مجاريها ) أي الادلّة والاصول ليست عند الشكّ فقط ، بل مطلق ( صور عدم العلم الشامل ) للشك و ( للظن ) فالأدلة والأصول تجري وهي غير مقيدة بعدم الظنّ ، فسواء شكّ المكلّف ، او ظنّ بالحكم وجب عليه : اجراء الدليل او الاصل لكشف الحكم ( وان اريد : حرمة العمل المطابق للظن ، من دون استناد اليه ) إلى الشارع ليكون تشريعاً (و) لا ( تديّن به ) ليكون بدعة ، ( و ) مع ( عدم مخالفة العمل للواقع ، مع التمكن منه ) أي من الواقع ( و ) على فرض التمكّن من الواقع ، أن

ص: 133


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10463 .

لا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالةَ فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجهَ لحرمته أيضا .

والظاهرُ أنّ مضمونَ الآيات هو التعبّدُ بالظنّ والتديّنُ به ،

------------------

( لا ) يكون في العمل مخالفة ( لمقتضى ) الادلّة و ( الاصول مع العجز عن الواقع ) كي لا يكون العمل مخالفاً لما هو تكليف العامل بالظنّ فعلاً .

( فلا دلالة فيها ) أي في الايات الناهية عن العمل بالظنّ ( ولا في غيرها ) من سائر الايات والروايات ( على حرمة ذلك ) العمل الّذي ليس فيه استناد ، ولا مخالفة للواقع ، ولا للطريق المنصوب شرعاً ، فاذا دخن - مثلاً - تشهّياً لا استناداً إلى الشارع ، وكان في الواقع حلالاً ، ولم يكن خبر او اصل ، يدلّ على حرمته ، لم يكن وجه لحرمة مثل هذا التدخين .

( ولا وجه ) آخر ، غير الايات ( لحرمته أيضاً ) فلماذا يكون مثل هذا العمل حراماً ؟ بل ظاهر الادلة : حلّيته ، اذ هو ممّا :- « سكت اللّه عنه » (1) و: « كلّ شيء لك حلال » (2) : و « كلّ شيء مطلق » (3) إلى غير ذلك من ادلة البرائة : ( والظاهر ) لدى العرف حين يلقى الكلام اليه ( : ان مضمون الايات ) المتقدمة ، الناهية عن اتباع غير العلم او عن اتباع الظنّ ( هو ) : حرمة ( التعبّد بالظنّ والتديّن به ) لا حرمة مجرّد العمل من دون اسناد إلى الشارع ، ولاجل هذا الظاهر نرى : لو ان انساناً

ص: 134


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 باب الحج .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وقد عرفت أنّه ضروريّ التحريم ، فلا مهمَّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها ، إنّما المهمُّ الموضوع له هذه الرسالةُ بيان ما خرج او قيل بخروجه من هذا الأصل من الامور الغير العمليّة

------------------

عمل عملاً يظنّ هو : بحسنه ، لا يقال له : لماذا تشرّع ؟ ولو قيل له ذلك اجاب : بأنّي لا اعمله تشريعاً ، بل تشهّياً او احتياطاً ، وكلا الامرين ، ليس من التشريع في شيء .

هذا ( وقد عرفت : انه ) أي التعبّد بالظنّ من دون دليل ( ضروري التحريم ) عقلاً فلا حاجة إلى النهي الشرعي عنه ، ولو نهى الشارع كان ارشاداً ، والامر الارشادي : هو الّذي ليس له ثواب ولا عقاب ، وانه لا مصلحة الاّ في المأمور به من دون خصوصيّة للامر ، مثل أمر الطبيب بشرب الدواء ، فان المريض اذا لم يشرب الدواء اصابه ضرر عدم الشرب ، لا ان في امر الطبيب مصلحة اذا لم يطعه المريض ، اصابه ضرر مخالفة الامر بما هو امر .

وحيث قد عرفت : من عدم دلالة الآيات على النهي المولوي ( فلا مهم في اطالة الكلام في دلالة الآيات ) الناهية عن العمل بالظنّ ( وعدمها ) أي عدم الدلالة و ( انّما المهمّ ) عندنا ( الموضوع له هذه الرسالة ) من بيان أحوال الظنّ هو : ( بيان ما خرج ) عن حرمة العمل بالظنّ ، فانه وان كان في الغالب ظنّاً نوعيّاً او ان النوع يظن منه ، وان لم يحصل ظنّ شخصي للعامل ، واحياناً يكون قطعاً الاّ ان الشارع أخرجه عن حرمة العمل بالظنّ ، سواء قلنا : بان الحرمة مولوية - كما قاله غير واحد - أو ارشادية إلى حكم العقل - كما قاله الشيخ المصنّف - .

ثم ان الخارج من حرمة العمل بالظنّ : ظواهر الالفاظ ، وخبر الثقة ، بلا اشكال ولا خلاف غالباً ( او قيل بخروجه من هذا الاصل ) أي اصل حرمة العمل بالظنّ ، كالاجماع المنقول ، والشهرة ، والسيرة ( من الامور غير العملية ) ممّا يسمى بالظن

ص: 135

التي اقيم الدّليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع الى الظنّ مطلقا او في الجملة .

------------------

الخاص ، مقابل الظن الانسدادي ، الّذي يسمى بالظن العام ( التي اقيم الدليل ) الخاص ( على اعتبارها ) كالكتاب ، والروايات المتواترة ، وطريقة العقلاء الممضاة من قبل الشارع ، والسيرة القطعية من المتشرعة .

( مع قطع النظر عن انسداد باب العلم ) لانها ظنون خاصة خارجة عن حرمة العمل ، وان لم نقل بانسداد باب العلم ، اما اذا قلنا بالانسداد ، فالظن مطلقاً حجة ، ولا يراد بمطلق الظن ، الاّ الظنون عن الادلة الاربعة ، فان الانسداديّين كصاحب القوانين ايضاً ، يعملون بهذه الاربعة ، لكن من باب الظن المطلق ، لا الظن الخاص - كما يقول به المشهور - على ما سيأتي في بحث الانسداد مفصلاً ان شاء تعالى ، فان كلامنا هذا ليس في الانسداد ( الّذي جعلوه موجباً للرجوع إلى الظنّ مطلقاً ، او في الجملة ) فان الانسداديّين ربّما قالوا : بحجّيّة الظنّ مطلقاً ، من أيّ سبب ، ولأيّ شخص ، وفي أيّة مرتبة ، وفي أيّ مورد .

وبعضهم لا يقولون بهذا الاطلاق ، بل يفرّقون بين الاسباب : كالظن من الكتاب والسنة ، وكالظن من المنام والرمل ، وبين الاشخاص : كظن الفقيه المطلع ، وظنّ طالب العلم الفاضل ، وبين المراتب : كالظن القوي ، والظن الضعيف ، وبين الموارد : كالظن في باب النكاح ، والدماء ، والاموال الكثيرة ، حيث اهتم بها الشارع اهتماماً كبيراً ، وكالظن في سائر الاحكام ، التي ليست بتلك الاهمية ، فقالوا : بحجية بعض هذه الظنون دون بعض .

ثم لا يخفى ان الفقهاء على ثلاثة اقسام :

الأوّل : من يرى قطعية الاخبار الواردة في الكتب الاربعة ، ونحوها ، فعندهم

ص: 136

الظنون المعتبرة وهي امورٌ :

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة

------------------

باب العلم منفتح في معظم الفقه ، وهؤاء كانوا قبل العلامة قدس سره - كما قيل - وحجّتهم : ان قرب عصر مؤّفي هذه الكتب ، بزمن الغيبة الصغرى ، وكونهم في بغداد محل النواب الاربعة ، وما اشبه ذلك ، أوجب العلم بصحة ما في كتبهم ، الاّ ما خرج بالدليل .

الثاني : من يرى انسداد باب العلم والعلمي ، فيعمل بالظنّ المطلق .

الثالث : من يرى انسداد باب العلم في معظم الفقه ، وانفتاح باب العلمي ، من الظنون الخاصّة الّتي توجبها الاخبار ، وظواهر الكتاب .

والغالب بعد العلامة قدس سره يرون هذا الرأي ومنهم المصنِّف قدس سره ولذلك اخذ يتكلم حول ما خرج من حرمة العمل بالظنّ ، الاعمّ من الواجب العمل فقال :

( وهي امور ، منها : الأمارات المعمولة ) بها ( في ) مقام ( استنباط الاحكام الشرعيّة ) الاعمّ من الاحكام الوضعيّة كالجزئيّة ، والمانعيّة ، والشرطيّة ، ونحوها ، وتلك الأمارات هي : عبارة ( من الفاظ الكتاب ) العزيز ( والسنّة ) المطهرة ، وهي : قول المعصوم وفعله وتقريره .

ومن باب فذلكة القول نقول : ان الرواية التي وردت عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم تارة : « انّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي »(1) .

ص: 137


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص350 ، المناقب : ج2 ص41 .

وهي على قسمين :

القسمُ الأوّلُ ما

------------------

واخرى : « كتاب اللّه وسنّتي »(1) .

قد يشكل عليها في الأوّل : بخروج اقواله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لانّها ليست من الكتاب ، ولا من العترة ، وعلى الثاني : بخروج العترة ، لانها ليست من الكتاب ولا من السنة.

والجواب على الأوّل : ان اقواله صلى اللّه عليه و آله وسلم شرح للكتاب ، فهي داخلة في الكتاب .

وقد قال تعالى : « وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْي يُوْحَى »(2) .

او يقال : ان المراد بالعترة ، اعمّ تغليباً مثل : « اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرا »(3) ، أي داود وآله .

و : « أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب »(4) أي فرعون وآله .

وعلى الثاني : ان المراد من السنة ، اعمّ من العترة ، لان الالتزام بهم عليهم السلام من سنّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ثم ان الأمارات المعمولة ، ليست خاصّة بالكتاب والسنّة ، وانّما ذكرهما المصنِّف من باب المثال ، بل تشمل مثل قول اللغوي ، واصالة الحقيقة ، وما اشبه ممّا سيأتي الكلام فيها ان شاء اللّه تعالى .

( وهي ) أي الأمارات المعمولة بها ( : على قسمين : القسم الأوّل : ما ) أي أمارة

ص: 138


1- - كمال الدين : ج1 ص235 ح47 وقد روى هذا الحديث من طرف العامة الحاكم في المستدرك ج1 ص93 ، ولكن هذا الحديث ضعيف من حيث السند والدلالة حتى عند الحاكم .
2- - سورة النجم : الآية 3 - 4 .
3- - سورة سبأ : الآية 13 .
4- - سورة غافر : الآية 46 .

يُعمَلُ لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والاطلاق ومرجعُ الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بارادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطعُ بعدم القرينة ،

------------------

(يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال ) الفقيه ( ارادته ) أي ارادة المتكلّم (خلاف ذلك ) أي خلاف ظاهر الأمارة فان اللفظ ظاهر ، لكنّا نحتمل ان المتكلّم اراد خلاف هذا الظاهر .

وانّما نعمل بالظاهر- على خلاف احتمالنا - لوجود أمارة تقول بارادة المتكلّم الظاهر (كأصالة الحقيقة ، عند احتمال ارادة المجاز ) واصالة التطابق بين الارادة الجدّية والارادة الاستعماليّة ، بأن يكون الظاهر : مراده جداً ، لا مراده هزلاً ( واصالة العموم ) فلم يذكر العام وهو يريد الخاصّ ( و ) اصالة ( الاطلاق ) فلم يطلق الكلام وهو يريد المقيّد إلى غير ذلك .

والفرق بين العام والمطلق : ان في العام يكون اللفظ مرآة للافراد ، فاذا قال : اكرم كلّ عالم ، فكانّه قال : عالماً عالماً ، وفي المطلق يكون اللفظ مرآة للطبيعة ، فاذا قال : اكرم العالم ، فكانّه قال : اكرم طبيعة المتّصف بالعلم ، وحيث ان الطبيعة سارية في كلّ الافراد ، وجب اكرام كلّ فرد .

( ومرجع الكلّ ) أي كلّ هذه الاصول اللفظية التي ذكرناها ( إلى اصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى ) الّذي يكون اللفظ ظاهراً فيه ، و ( الّذي يقطع ) السامع ( بارادة المتكلم الحكيم له ) أي لذلك المعنى ( لو حصل القطع بعدم القرينة ) فاذا قطعنا بعدم القرينة ، نقطع بارادة الحكيم ، لهذا المعنى ، اذ لو اراد الحكيم غيره من دون القرينة ، كان خلاف الحكمة ، فاذا لم نقطع بعدم القرينة ، بل

ص: 139

وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع ، بناءا على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ؛ وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهلُ اللسان في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيبَ توهّم الحظر

------------------

ظننّا بعدم القرينة ، ظننّا بارادة المتكلم لذلك المعنى ، فاذا قال المولى : الاسد ، وقطعنا بانه لم ينصب قرينة صارفة عن الحيوان المفترس ، قطعنا بانه اراد الحيوان المفترس ، وانّما نقطع بذلك لانّه لو اراد غيره ، لم ينصب قرينة صارفة ، كان كلامه لغواً - فيما اذا كان اخباراً - وكان نقضاً للغرض فيما اذا قال في مقام الانشاء جئني بأسد ؛ لان العبد في المقامين لايفهم شيئاً .

( وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع ) اذا لم ينصب قرينة على ارادة الاعمّ ، او خصوص غير الفرد الشائع ، مثلاً : العالم في لسان اهل العلم ، غالب في عالم الفقه والاصول ، فاذا ارادوا : الاعمّ من ذلك ومن عالم الطب والهندسة ، او ارادوا : خصوص عالم الطبّ والهندسة ، لزم نصب القرينة ، فاذا لم ينصب المتكلم القرينة ، كان المراد : عالم الفقه والاصول ، بحكم الغلبة المذكورة ، وهذه الغلبة ، تجعل اللفظ ظاهراً في المعنى الغالب .

وانّما تكون الغلبة دليلاً ( بناءاً على عدم وصوله ) أي استعمال المطلق في الغالب ( إلى حدّ الوضع ) بحيث يخرج غير الغالب عن مصداقيّة المطلق ، والاّ فان وصل إلى حدّ الوضع لم يكن استفادة المراد من اللفظ ، من باب التمسك باصالة الغلبة ، بل باصالة الحقيقة ، لان المقام يكون فرداً من افراد اصالة الحقيقة ، التي تكلمنا عنها ( وكالقرائن ) العامة ( المقاميّة ) التي يفهم من المقام ، زماناً كان المقام او مكاناً ، او خصوصيّة مكتنفة بالكلام ، من ( التي يعتمدها اهل اللسان في محاوراتهم ) سواء كان متكلماً او سامعاً ( كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر

ص: 140

ونحو ذلك ، وبالجملة الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم ، بحيثُ لو أراد المتكلمُ القاصدُ للتفهيم خلافَ مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة عُدَّ ذلك منه قبيحا .

------------------

ونحو ذلك ) كأن يكون الراوي من اهل بلد كذا، او ما اشبه ، فاذا قال المولى : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا »(1) .

فهم منه : حلّية الصيد الّذي حرم في حال الاحرام ، لا وجوبه ، فان الامر عقيب الحظر او عند توهم الخطر ، ظاهر في الحلّية .

وكما اذا قال الامام الصادق عليه السلام لرجل من اهل الكوفة ، التقى به في طريق الحجّ وسأله عن الكرّ :- « الكر كذا رطلاً » استفيد منه الرطل العراقي لا المدني .

وكقوله سبحانه : « وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِانفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُرُوْء » ، فان الظاهر من المطلقات : الرجعيات فقط ، لا البائنات لقوله سبحانه بعد ذلك :- « وَبُعُوْلَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... »(2) ، حيث ان هذا الحكم لا يكون في البائنة .

( وبالجملة ) هذا القسم من الأمارات هي ( الامور المعتبرة عند اهل اللسان في محاوراتهم ) وتكون قرينة على انّ المتكلّم اراد هذه المعاني لا غيرها ( بحيث لو اراد المتكلم القاصد للتفهيم ) لا المتكلم القاصد : الاهمال او الاجمال لمصلحة ( خلاف مقتضاها ) أي مقتضى هذه القرائن والأمارات ( من دون نصب قرينة معتبرة ) تدلّ على ذلك الخلاف ، كما اذا اراد من الرطل : المدني ، لا العراقي - في المثال المتقدم - ( عدّ ذلك منه قبيحاً ) ويقال له : لماذا تكلمت خلاف المتفاهم عرفاً ، وانت رجل حكيم وتقصد التفهيم في اخبارك ، واوامرك ونواهيك ، وتريد

ص: 141


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - سورة البقرة : الآية 228 .

والقسمُ الثاني : مايُعمَل لتشخيص أوضاع الألفاظ وتشخيص مجازاتها من حقائقها وظواهرها عن خلافها ،

------------------

ان يأتي المكلّف بما تأمره به وتنهاه عنه ؟ .

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الأمارات الظنيّة ، الخارجة عن ادلة حرمة العمل بالظنّ .

( والقسم الثاني : ما ) أي الأمارات الظنيّة التي ( يعمل لتشخيص اوضاع الالفاظ ) لغةً او عرفاً ، اذ قد يكون الوضع تعيينّياً ، وقد يكون تعيّنيّاً ، بسبب كثرة الاستعمال عرفاً ( وتشخيص مجازاتها من حقائقها ) .

والفرق بين هذا والأوّل - من قسمي الأمارة - انّ في الأوّل : نعلم الحقيقة والمجاز ، لكن لا نعلم : هل اراد المولى الحقيقة او المجاز ؟ فيكون التشخيص : باعمال اصالة الحقيقة ، وهنا نريد ان نعرف : ايّهما حقيقة ، وايّهما مجاز ، فالتشخيص يكون بالتبادر ، وصحة السلب ، والاطراد ، وتصريح الواضع ، وقول اللغوي - حيث انّه من اهل الخبرة - وما أشبه ذلك فانها علائم الحقيقة ، واضدادها علائم المجاز .

ولا يخفى : انّ بناء اللغويّين على ذكر الحقائق ، الاّ اذا صرّحوا بانّه مجاز ، ولذا لا يوجد في كتبهم حتّى اكثر المجازات استعمالاً فانّهم لا يذكرون في مادة الاسد - مثلاً - معنى « الرجل الشجاع » ، ونضيف استطراداً : بأنّ ما اشتهر من تسمية اهل اللسان ب- : « اللغوي » لم يعرف مدركه ، لأنّه منسوب إلى اللغة وهي مشتقّة من اللغو ، فلا يناسب هذه المهنة العملية .

( و ) كذا تشخيص ( ظواهرها عن خلافها ) ، ولا يخفى انّ بين الحقيقة والمجاز والظاهر وغير الظاهر ، عموماً من وجه لإمكان ان يكون حقيقة غير

ص: 142

كتشخيص أنّ لفظ «الصعيد » موضوع لمطلق وجه الأرض او التراب الخالص ، وتعيين أن وقوعَ الأمر عقيبَ توهّم الحظر هل يوجبُ ظهورَهُ في الاباحة المطلقة ، وأنّ الشهرةَ في المجاز المشهور هل توجبُ احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من الظهور العرضيّ المسبّب من الشهرة ،

------------------

ظاهرة ، لانّ الظهور يحصل من التكرر ، بخلاف الحقيقة حيث قد تحصل من الوضع ، فمن الممكن ان يكون ظهور من غير حقيقة ، كالمجازات المشهورة ، وحقيقة من غير ظهور ، وهكذا .

وفي القسم الثاني امثلة كثيرة ( كتشخيص انّ لفظ الصعيد ) في الاية المباركة : « فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً ... »(1) .

( موضوع لمطلق وجه الارض ) فيشمل : الحجر ، والرمل ، والحصى ، والتراب (او التراب الخالص ) فقط فلا يصحّ التيمّم الاّ عليه ( وتعيين : انّ وقوع الأمر عقيب توهم الحظر ، هل يوجب ظهوره في الاباحة المطلقة ؟ وانّ الشهرة في المجاز المشهور ) كاستعمال الامر في النّدب ، والنهي في الكراهة ، وما اشبه ذلك ( هل توجب ) ظهور اللفظ في المعنى المجازي المشهور ، فاذا ألقاه المولى فهم منه المعنى المجازي لا الحقيقي ، ممّا يوجب ( احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من ) هذا ( الظهور العرضي المسبب من الشهرة ) .

فهل الظهور المجازي حجّة الاّ اذا قامت قرينة تصرف عن الظهور المجازي إلى الحقيقة ؟ او انّ اللفظ يحمل على الحقيقة وانّ كانت القرينة العامّة وهي : الشهرة ، موجودة ؟ او يحتمل كلا الامرين على سبيل التساوي ؟ .

ص: 143


1- - سورة النساء : الآية 43 .

نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض افراده .

وبالجملة ، فالمطلوبُ في هذا القسم أنّ اللفظ ظاهرٌ في هذا المعنى او غير ظاهر ، وفي القسم الأوّل أنّ الظاهرَ المفروغ عن كونه ظاهرا مرادٌ أو لا ،

------------------

الأوّل : استدل بانّه ( نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض افراده ) كالعالم المنصرف إلى عالم الفقه والاصول ، في الحوزات العلميّة ، حيث انّه لو اريد منه الاطلاق الشامل للمهندس والطبيب وما اشبه ، لزم جعل قرينة صارفة عن الانصراف العرضي ، ليكون ظاهراً في الاطلاق الّذي هو حقيقة الاوّليّة .

والثاني : استدلّ بهجرانّ الحقيقة وانّ العرف يقدّم الظاهرة المجازيّة المشهورة ، على الحقيقية المهجورة .

والثالث : استدلّ بأنّ لكلّ منهما قوة ، فللحقيقة قوة الوضع تعييناً او تعيّناً ، وللمجاز قوة الشهرة ، فيكون اللفظ فيهما كالمعنيين الحقيقيّين ، حيث كلّ واحد منهما بحاجة إلى القرينة .

( وبالجملة : فالمطلوب في هذا القسم ) الثاني من الأمارات ان نتكلّم حول ( انّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى ، او غير ظاهر ؟ ) فاذا كان ظاهراً رتّب الحكم عليه ، واذا كان غير ظاهر ولم نجد ما يفيد المعنى من الادلّة الاجتهاديّة ، لزم العمل بالاصول العمليّة ، امّا كون اللفظ حقيقة او غير حقيقة ، فليس بمهم بعد ان كان المعيار هو الظهور .

( وفي القسم الأوّل :) كان الكلام حول ( انّ الظاهر ) المسلّم ظهوره (المفروغ عن كونه ظاهراً ، مراد ) للمتكلّم ( او لا ؟ ) اذ هناك ظهور ، وارادة لذلك الظهور ، فانّ من تكلم وقال - مثلاً - بعت هذا بهذا ، فانّه يريد اللفظ ، ويريد المعنى ، ويريد تطابق اللفظ للمعنى ، ويريد الجدّ او الهزل في استعماله هذا اللفظ في المعنى ،

ص: 144

والشكّ في الأوّل مسبّبٌ عن الأوضاع اللغويّة والعرفيّة وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ، فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد .

------------------

وبعد ذلك يقال : هل انّه طيِّب النفس بهذه المعاملة - مثلاً - او ليس بطيّب النفس بها ؟ وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب « الفقه : كتاب البيع » (1) .

( والشكّ في ) القسم ( الأوّل مسبّب عن الاوضاع اللغويّة ) التعيينيّة (والعرفيّة ) التعيّنيّة ، فانّ الوضع اللغوي قد يوجب الظهور ، والوضع العرفي باستعمال اللفظ في معنى آخر ، قد يوجب الظهور ايضاً ، والمراد بالعرف : اعمّ من العرف العامّ ، كالناس عموماً ، والعرف الخاصّ ، كالفقهاء والاصولييّن والادباء ، وغيرهم ، حيث يكون لهم عرف خاصّ ، يوجب انصراف اللفظ إلى المعنى الجديد الّذي اصطلحوا عليه دون المعنى اللغوي الموضوع بسبب واضع اللغة .

( و ) الشكّ ( في ) القسم ( الثاني ) مسبَّب ( عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ) أي عدم اعتماده عليها ، فاذا شككنا في الاعتماد وعدمه ، شككنا في انّ الظاهر مراد أم لا ؟ .

( فالقسمان ، من قبيل : الصغرى والكبرى لتشخيص المراد ) فيقال مثلاً : « هذا ظاهر » و « كلّ ظاهر مراد » .

ففي القسم الأوّل من كلام المصنف : الكلام كبروي ، بمعنى « انّ المتكلّم اراد كذا » .

وفي القسم الثاني : صغروي ، بمعنى : انّ « هذا ظاهر » .

ص: 145


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : كتاب البيع ، للشارح .

القسم الأول

أمّا القسم الأوّل : فاعتباره في الجملة لا إشكال فيه ولا خلافَ ، لأنّ المفروض كونُ تلك الامور معتبرةً عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيمُ ، ومن المعلوم بديهةً

------------------

مثلاً يقال : الصعيد في الاية المباركة ، ظاهر : في مطلق وجه الارض ، وقد اراد القرآن الحكيم من الصعيد : هذا الظاهر . امّا الأوّل : ظهوره في مطلق وجه الارض ، فللانصراف . وامّا الثاني : اراد القرآن هذا الظاهر ، فلاصالة عدم القرينة ، بعد عدم اعتماد الحكيم في فهم مراده على ما لا يظهر للمخاطب ، لانّه قبيح عقلاً .

القسم الأول ( امّا القسم الأوّل ) وهي الأمارات المعمولة لتشخيص المراد - وقد تقدّم انّها راجعة إلى اصالة عدم القرينة ( فاعتباره في الجملة ) .

وانّما قال في الجملة ، لأنّه يأتي بعض الخلاف فيه لكن في الجملة ( لا اشكال فيه ولا خلاف ) فانّ الاصوليين والفقهاء اجمعوا على حجيّة الظواهر ، وانّما اجمعوا على ذلك ( لانّ المفروض كون تلك الامور ) الّتي تنتهي إلى اصالة عدم القرينة (معتبرة عند اهل اللسان ) فانّهم مجمعون على الاعتماد على اصالة عدم القرينة ، سواء المتكلّم او المخاطب ، او الّذي يسمع كلامهما ، فيما لم يكن بينهما تباين على الخلاف ( في محاوراتهم المقصود بها التفهيم ) والتّفهم ، حتّى انّ احدهم لو حاد عن ذلك اشكلوا عليه ، فاذا تكلّم شيئاً ، ثمّ قال : لم ارد ظاهره ، او سمع شيئاً ، ثمّ قال : لم افهم منه ظاهره ، كان مورد تقبيح العقلاء وعقاب الموالي .

( ومن المعلوم بديهة ) بالاضافة إلى قوله سبحانه : « مَا أَرسَلْنَا مِن رَسُوْلٍ

ص: 146

أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم .

------------------

إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ... »(1) .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّا مَعاشِرَ الأنبِياءِ ، أُمِرنا أن نُكَلِّمَ النّاس عَلى قَدَرِ عُقُولِهِمُ » (2) .

فانّ الآية والرواية تشملان الظاهر والقدر معاً ، بمعنى : انّا نكلّمهم حسب الظواهر الّتي يفهمونها ، وانّا نكلّمهم حسب مقدار افهامهم .

ومن المعلوم ( انّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين ) ومن عناهم من غيرهم ، فانّ الشارع لا يتكلّم للمخاطبين فقط ، وانّما لهم ولكلّ من يأتي ولمن لم يكن حاضراً مجلس الخطاب من الغائبين والمعدومين حال الخطاب ( لم يكن طريقاً مخترعاً ) كطريق الرموز والاشارات الاّ نادراً ، كما انّ النّادر موجود ايضاً عند سائر اهل اللسان ، لكن لا يبنى عليها ، فلم يكن طريق الشارع ( مغايراً لطريق محاورات اهل اللسان في تفهيم مقاصدهم ) .

لا يقال : فكيف اختصّ رسولنا صلى اللّه عليه و آله وسلم في الكلام بلغة واحدة ، وهي العربية ؟ .

لأنّه يقال : هذا من ضيق مجال المخاطب ، حيث لم يكن يفهم كلّ لغة ، وضيق مجال الكلام ، حيث لم تكن اللغة تُعرب اكثر من لسان واحد ، والاّ لأمكن المتكلّم انّ يتكلّم بما يفهم منه مختلف الالسنة ، كما ورد عن احد الحكماء انّه لمّا سمع انّ راعياً - موسى الكليم - يدّعي النبوّة جاء اليه وسأله قائلاً : أنت الّذي تزعم انّ علة

ص: 147


1- - سورة ابراهيم : الآية 4 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص23 ح15 و الكافي ( روضة ) : ج8 ص268 ب8 ح394 ، الامالي للشيخ الصدوق : ص418 ، تحف العقول : ص37 ، بحار الانوار : ج1 ص85 ح7 ب1 .

وإنّما الخلافُ والاشكالُ وقع في موضعين : أحدُهما : جوازُ العمل بظواهر الكتاب .

------------------

العلل كلّمك ؟ .

فاجابه موسى عليه السلام: نعم .

قال الحكيم : وكيف كلّمك ؟ .

قال موسى عليه السلام: من جميع الجهات ، وبكلّ الجهات .

فتوجّه الحكيم إلى بني اسرائيل ، وقال لهم : يا بني اسرائيل اتّبعوا نبيّكم ! ومعنى « جميع الجهات » : الجهات الست وما بينها ، فكلامه سبحانه يحيط بالانسان كاحاطة الماء والهواء به .

ومعنى « بكلّ الجهات » : انّ في كلامه سبحانه كلّ شيء ، فليس كلامه ككلام احدنا خاصّاً بأمر ، او مشيراً إلى معنى واحد ، فانّا اذا قلنا - مثلاً - الماء كان معناه الجسم السيّال ، امّا اذا قاله تعالى - لانسان قابل الفهم - كان معناه الماء ، والهواء ، والكتاب ، والقلم ، والارض ، والسماء ، والسهل ، والجبل ، وإلى آخره ، ممّا لا ندركه نحن وليس هذا بدعاً من الامر ، وانّما له مشابه ، فقد ورد في الحديث : انّ كلّ واحد من اطعمة الجنّة يحتوي على كلّ الطعوم ، إلى غير ذلك ممّا هو خارج عن مقصود الشرح .

وعلى أيّ ، فلا خلاف في حجّيّة الظواهر في الجملة ( وانّما الخلاف والاشكال وقع في موضعين : أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب ) فانّ المشهور بل فوق المشهور قالوا : بالجواز - بمعنى اللزوم - في قبال جملة من الاخباريين القائلين بعدم الجواز ، وذلك امّا لعدم ظهور للقرآن ، وامّا لانّه ظاهره لم يعلم كونه مراد اللّه سبحانه وتعالى .

ص: 148

والثاني : أنّ العملَ بالظواهر مطلقا في حقّ غير المخاطب بها قام الدليلُ عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج إلى إثبات إنسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة ام لا .

والخلافُ الأوّلُ ناظرٌ إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادَة المطلب منه مستقلاً .

------------------

وكان ينبغي له قدس سره ان يذكر هنا : ذهاب بعضهم إلى عدم جواز العمل بظواهر كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم - ايضاً - كما ذكره كاشف الغطاء : في رسالة له ، معمولة لذلك ، ناقلاً عن بعضهم : انّ اللازم فقط هو : العمل باخبارهم عليهم السلام .

( والثاني : انّ العمل بالظواهر مطلقاً ) في القرآن وغيره ، في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكلامهم عليهم السلام ، وفي سائر كلمات المتكلّمين في الوصايا ، والاقارير ، وما اشبه ( في حقّ غير المخاطب بها ) هل ( قام الدليل عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج ) حجّيّة الظواهر في حقّه ( إلى اثبات انسداد باب العلم في الاحكام الشرعية أم لا ) بأن لم يقم على ذلك دليل ؟ .

فالمشهور على الأوّل ، والمحقق القمي قدس سره وبعض آخر على الثاني ، بمعنى : انّ حجّيّة الظواهر لم تكن بدليل خاص ، كاتفاق اهل اللسان ، على اعتبار الظاهر لأصالة عدم القرينة ، بل حجّيّة الظواهر من باب : دليل الانسداد والظنّ المطلق .

( والخلاف الأوّل ) وهو في ظواهر القرآن ( ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلاً ) بل كان مقصوده سبحانه : ان يستفيد الناس المطلب من القرآن ، بضميمة تفسير الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم واهل بيته عليهم السلام - لا انّ مرادهم : انّ القرآن كالاحاجي والالغاز - فهو كما اذا قال المولى لعبده :

ص: 149

والخلافُ الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير من قُصِدَ إفهامهُ بالخطاب على مايستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب .

فمرجعُ كلا الخلافين إلى منع الصغرى ،

------------------

خذ معاني ظواهر كلامي من رئيس الخدم ، ثمّ قال : ائتني بالماء ، فانّه لا يحقّ للعبد انّ يأتي اليه بالماء ، الاّ بعد سؤله من الرئيس عن ذلك ، اذ قد يقول له : المراد بالماء هو المضاف بالسكر ، او ما اشبه ذلك .

( والخلاف الثاني ) وهو في مطلق الظواهر ( ناظر إلى منع كون المتعارف بين اهل اللسان : اعتماد غير من قصد افهامه ب) سبب ( الخطاب ) متعلّق بافهام ( على ما يستفيد ) غير المقصود ( من الخطاب ، بواسطة اصالة عدم القرينة عند التخاطب ) فالشخص الثالث لا حقّ له في ان يقول : الاصل عدم وجود قرينة عند التخاطب تصرف الكلام عن ظاهره ، فالظاهر حجّة لديّ ايضاً وذلك لانّ اهل اللسان لا يعتمدون على اصال عدم القرينة - كي يعملوا بظاهر كلام المتكلم - الاّ اذا كانوا هم مقصودون بخطاب المتكلّم ، فاذا قال زيد مخاطباً عمراً : انّك تطلبني دينارا ، فلا يحقّ لبكر ان يشهد باعتراف زيد لعمرو ، بانّه يطلبه ، اذ لعلّه كان بين زيد وعمرو قرائن ، دلّت على خلاف ظاهر كلامه له .

( فمرجع كلا الخلافين ) في ظواهر القرآن ، وظواهر كلّ كلام ( إلى منع الصغرى ) أي لا ظاهر ، لا انّه : ظاهر ، وليس بمراد ، فالقياس : « انّ هذا الكلام ظاهر في كذا» «وكلّ ظاهر مراد» ليس المنع في الكبرى ، وانّما المنع في الصغرى ، امّا في القرآن : فلما دلّ على انّه لا يجوز الاستفادة منه الاّ بضميمة رواياتهم عليهم السلام ، وأمّا في مطلق الكلمات : فلانّه من المحتمل ، انّ المتكلّم قد اعتمد قرينة

ص: 150

وأمّا الكبرى - أعني كونَ الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيمُ ما هو المتعارفُ عند أهل اللسان في الاستفادة - فممّا لا خلافَ فيه ولا إشكال .

------------------

عند التخاطب لا يعرفها غير المخاطب ، فلا يكون لكلامه ظاهر عند غير المخاطب ، وليس بناء العقلاء من أهل اللسان الاعتماد على مثل هذا الظاهر المحتمل وجود قرينة خلافه .

وعليه : فاللازم في العمل بالظاهر أمران :- الأوّل : كون الخطاب صادراً للافهام .

الثاني : كون الشخص مقصوداً بالافهام .

أما الاوّل : فمفقود في القرآن ، حيث لم يصدر لافهام الناس ، بل افهام المعصومين عليهم السلام .

وأمّا الثاني : فمفقود - ايضاً - في غير من قصد افهامه ، حيث لم يصدر الكلام الاّ لافهام المخاطب دون غيره .

( وأمّا الكبرى أعني : كون الحكم ) والطريق ( عند الشارع في استنباط ) وفهم (مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم ) لا ما كان منها بصدد الرمز والاجمال ، كفواتح السور والمتشابهات ، حيث لم يكن مقصوده بها تفهيم العامة ، فدأب الشارع على ( ما هو المتعارف عند أهل اللسان ) من الطرق : كالخبر الواحد ، والظواهر ، وما أشبه ذلك ( في الاستفادة ) من مراد المتكلّم (ف) انّ هذا ( ممّا لا خلاف فيه ولا اشكال ) ولذا لا نحتاج إلى الكلام حوله ، فانّ البديهي دليله هو نفسه ، ولذا قالوا : الشمس دليل الشمس .

ص: 151

أمّا الكلام في الخلاف الأوّل :

فتفصيله أنّه ذهب جماعةٌ من الاخباريّين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسيرُ وكشفُ المراد عن الحجج المعصومين صلوات اللّه عليهم .

وأقوى ما يُتمسّكُ لهم على ذلك وجهان : أحدهما الأخبار المتواترة

------------------

( امّا الكلام في الخلاف الأوّل ) وهو : منع العمل بظاهر الكتاب ( فتفصيله : انّه ذهب جماعة من الاخباريين ) الملتزمين ، بخصلتين :- اوّلاً : انّهم يحصرون الاحكام في الفهم من الاخبار فقط .

ثانياً : انّهم لا يهتمّون في طريق الاستنباط بالقواعد الاصوليّة .

فهؤاء ذهبوا: ( إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب ) وقالوا : بأنّ اصالة عدم القرينة الّتي تجري في كلمات المتكلمين ليست جارية في ظواهر القرآن الحكيم (من دون ما يرد ) و : « ما » بمعنى : « انّ » أي من دون ان يرد فيه ( التفسير ، وكشف المراد) من تلك الظواهر ( عن الحجج المعصومين صلوات اللّه عليهم ) .

وقد استدلّوا لذلك بأدلة متعدّدة ( و ) لكن ( اقوى ما يتمسّك لهم على ذلك ) الّذي ادّعوه من المنع ( وجهان : احدهما : الاخبار المتواترة ) والخبر المتواتر : هو الّذي يؤَن فيه من تواطؤالمخبرين على الكذب ، والتواتر على ثلاثة اقسام :

اولاً التواتر اللفظي : وهو انّ يروي امراً بلفظ واحد ، جماعة كثيرة عن المعصوم عليه السلام وتقييده بالمعصوم انّما هو بالنسبة إلى ما نحن بصدده من اخبارهم عليهم السلام ، والاّ فالتواتر يأتي في كلّ خبر ، ولو عادي ، كالاخباربالحروب ، وبفتح المدن ، وبما اشبه ذلك - .

ص: 152

المدّعى ظهورُها في المنع عن ذلك : مثلُ النبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن فَسر القُرآنَ برَأيِه ، فَليَتَبَوَّء مَقعَدهُ مِنَ النّار » ، وفي رواية اُخرى : « مَنْ قالَ في القُرآنِ بغير عِلم فَليَتَبوَّء الخ » .

وفي نبويّ ثالث : « مَنْ فَسر القرآن بِرَأيِه ، فَقَد افترى عَلى اللّه

------------------

ثانيا : التواتر المعنوي : وهو ان يكون الرواة المتعدّدون ، قد نقلوا الاخبار المتعدّدة بألفاظ مختلفة ، ولكن بمعنى واحد .

ثالثاً : التواتر الاجمالي : وهو ان نعلم : بأنّ أحد هذه الطوائف من الاخبار المتعددة وارد عن المعصوم ، لكن لا نعلم ايّها ورد ؟ فيؤذ بالاخص من الجميع ، لأنّه معلوم الورود .

فالأخبار المتواترة ( المدعى ) وهو الاخباري ( ظهورها في المنع عن ذلك ) العمل بظاهر الكتاب ، أي عن اثبات الظاهر واجراء اصالة عدم القرينة .

( مثل : النّبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَنْ فَسَّرَ القرآن برأيِهِ ، فَليتبَوَّءْ مقعدهُ مِنَ النَّار » ) (1) وتبوّء ، بمعنى : اتخذ مكاناً من : باء يبوء ، لانّ الانسان الّذي يتّخذ مكاناً، يبوء ويرجع اليه كلمّا خرج منه ، والمقعد اسم مكان بمعنى : يتخذ مكاناً لقعوده وسكنه ، و « من النار » كناية عن استحقاقه جهنّم بذلك التفسير .

( وفي رواية اخرى ) عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : (« مَنْ قَالَ فِي القرآنِ بغيرِ علمٍ فليتَبَوَّأ الخ » )(2) أي مقعده من النار .

بتقريب : انّه بدون تفسيرهم عليهم السلام يكون قولاً بغير علم .

( وفي نبويّ ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( ثالث : « مَنْ فَسَّرَ القرآنَ بِرَأيِهِ ، فَقَدِ افْتَرَى على اللّهِ

ص: 153


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص104 .
2- - منية المريد : ص368 ، بناء المقالة الفاطمية : ص84 ، وسائل الشيعة : ج27 ص204 ب13 ح33607 .

الكَذِب » .

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام : « مَنْ فَسَّر القُرآنَ بِرأيهِ إن أصابَ لم يُؤجَر وإن أخطأ سَقَطَ أبعَدَ مِنَ السّماء » .

وفي النبويّ العاميّ : « مَن فَسَّر القُرآنَ بِرَأيه فأصاب فَقَد أخطأ » .

وعن مولانا الرضا عليه السلام، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّ اللّه عَزَّ وجَلَّ قال في الحديث القدسيّ :

------------------

الكذِبَ » )(1) والافتراء هو نسبة الكذب وانّما يذكر الكذب بعده ، للتأكيد ، مثل ليل أَليل ، ونهار منير .

( وعن ابي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام : « مَنْ فَسَّرَ القرآنَ برأيِهِ ، إنْ أَصَابَ لمْ يُؤَرْ ، وَانّ أَخْطَأَ سَقَط ابْعد مِن السّمَاءِ » )(2) إلى الارض .

فان في جهنم دركات ، قد تكون المسافة بين درك إلى درك ، ابعد من السماء إلى الارض ، وهي جزاء من فسر القرانّ لا بما جاء عنهم عليهم السلام واخطأ .

( وفي النبويّ العامي ) ممّا رواه العامّة عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : (« مَنْ فَسَّرَ القُرآنَ بِرَأيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأ» )(3) أي اخطأ الطريق لانّ الطريق إلى مراده سبحانه هم المعصومون صلوات اللّه عليهم اجمعين لا هو بنفسه ، وانّ أصاب مراد اللّه تعالى.

( وعن مولانا الرضا عليه السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤنين عليهم السلام ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّ اللّه عزَّ وجلَّ قال في الحديث القدسي ) وهو الحديث المنسوب إلى ساحة القدس - والنزاهة - والأحاديث القدسية ، هي : كلماته تعالى

ص: 154


1- - وسائل الشيعة : ج27 ب12 ص190 ح33568 ، كمال الدين : ص256 ، التحصين لابن طاووس : ص625 وفيه كذبا .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص202 ب13 ح33597 وفيه خرّ .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص205 ب13 ح33610 .

ما آمَنَ بي مَن فَسَّر كَلامي برَأيِه ، وما عَرَفَني مَن شَبَّهني بِخَلقي ، وما على ديني مَن استَعمَل القياسَ في ديني » .

وعن تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « قال : مَن حَكَمَ بِرأيهِ بينَ اثنين فقَد كَفَر ،

------------------

الّتي أنزلها على أنبيائه وأوليائه من غير قصد التحدّي ، بينما القرآن نزل بقصد التحدّي ، وانّه المعجز للجنّ والانس عن الاتيان بمثله ابداً .

ولا يخفى : انّ الملائكة أيضاً عاجزون عن ذلك ، لكنّهم ليسوا مكلّفين بتكاليفنا ، ولذا لم يذكروا في باب التحدّي .

( « مَا آمَنَ بِي منْ فَسَّرَ كَلامِي برأيه » ) .

والمراد ايماناً غير مشوب بالعصيان ، فالمفسر عاص للّه تعالى .

( « ومَا عَرفَنِي منْ شَبَّهنِي بِخلْقِي » ) .

فانّ اللّه ليس شبيها بالخلق ، فاذا شبهه أحد بهم ، لم يكن عارفاً به سبحانه .

( « وَمَا عَلَى دِيْنِي مَن اسْتَعْمَلَ القِيَاس فِي دِيْنِي » )(1) .

لأنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، والقياس لا طريق له إلى تلك المصالح والمفاسد .

( وعن تفسير العياشي ، عن ابي عبد اللّه ) الصادق ( عليه السلام قال : « مَنْ حَكَمَ بِرَأيِهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ كَفَر .. » ) (2) ، أي كفراً عمليّاً ، فانّ الكفر عقيدي ، وهو : عدم الاعتقاد بواحد من اصول الدّين ، وعملي، وهو : عصيانه سبحانه في ما أمر أو نهى.

ص: 155


1- - الأمالي للصدوق : ص6 ، التوحيد : ص68 ، مشكاة الانوار : ص9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص45 ب6 ح33172 .
2- - بحار الانوار : ج92 ص111 ح15 ، تفسير العياشي : ج1 ص18 ، بحار الانوار : ج92 ص111 ب1 ح15 و ج104 ص264 ب1 ح9 .

ومَن فسّرَ برأيه آيةً مِن كتاب اللّه فقد كفر » .

وعن مجمع البيان : « إنّه قد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعن الأئمة القائمين مقامه : أنّ تفسيرَ القرآن لايجوزُ إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح » .

وقوله عليه السلام : «ليسَ شيءٌ أبعَدَ مِن عُقول الرّجال من تفسير القُرآنِ ، إنّ الآية تَكونُ أوّلُها في شيء وآخِرُها في شيء، وهو كلامٌ متصلٌ يَنصرِفُ إلى وجوه».

------------------

قال سبحانه : « وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً ، وَمَنْ كَفَرَ ، فَانَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ »(1) .

وقال تعالى : « لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزيْدَنَّكَمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَدِيْدٌ »(2) .

( « ومنْ فسَّرَ بِرأيِهِ آية مِن كِتابِ اللّهِ ، فَقَدْ كَفَرَ » )(3) ، أي كفراً عمليّاً ايضاً على ما عرفت ( وعن مجمع البيان : انّه قد صحّ عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعن الائمة ) عليهم السلام ( القائمين مقامه : انّ تفسير القرآن لا يجوز الاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح) (4) ، أي : بالخبر الّذي سنده حجّة ونصّه صريح لا لبس فيه . ( وقوله عليه السلام : لَيسَ بِشَيءٍ أبعَدَ مِنْ عُقولِ الرجالِ ، مِنْ تَفسِيرِ القُرآنِ ) .

وهذا كناية : عن انّ العقل لا يبلغ مراد اللّه سبحانه من كلامه في كتابه الحكيم ، ثمّ بيّن عليه السلام وجه عدم بلوغ العقول معنى القرآن بقوله : ( إنّ الآية تَكونُ أوّلُها في شَيءٍ ، وآخِرها في شَيءٍ ، وَهوَ كَلامٌ متَّصِلٌ يَنصَرِفُ إلى وجوهٍ )(5) فاذا اعتمد الانسان على عقله في فهم الآية ، توهّم انّ آخر الآية مرتبط من حيث

ص: 156


1- - سورة آل عمران : الآية 97 .
2- - سورة ابراهيم : الآية 7 .
3- - تفسير العياشي : ج1 ص18 ، وسائل الشيعة : ج27 ب6 ص60 ح33195 ، بحار الانوار : ج92 ص111 ب10 ح15 .
4- - مجمع البيان : ج1 ص8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص504 ب13 ح33609 .
5- - تفسير العياشي ج1 ص17 مع تفاوت ، المحاسن : ص300 ح5 ، وسائل الشيعة : ج27 ص203 ب13 ح33604 بالمعنى و ص204 ب13 ح33605 (بالمعنى) .

وفي مرسلة شعيب بن أنس عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّه قال لأبي حنيفة : أنتَ فقيهُ أهل العراق ؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : فبأي شيء تُفتيهم ؟ قال بكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : عليه السلام يا أبا حنيفة ! تعرفُ كتابَ اللّه حقَّ معرفته وتعرفُ الناسخَ من المنسوخ ؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : يا أبا حنيفة ! لقد ادّعيت علما ،

------------------

المعنى باوّل الآية ، فيفسّرها بما هو خارج عن ارادة اللّه تعالى ، فآية التطهير(1) - مثلاً - اوّلها في نساء النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وآخرها في اهل البيت عليهم السلام ، فاذا لم يعرف الانسان تفسيرها منهم عليهم السلام ، تصور انّ آخر الآية ايضاً في نساء النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهكذا في آيات اخرى .

ولذا نراهم اختلفوا في - بيع المكاسب - كلمة : « بالباطل » علّة ، والاستثناء متّصل او جزء ، والاستثناء منقطع ؟ ليكون المعنى على الأوّل . «لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُم ... »(2) « الاَّ أن تَكُوْنَ تِجَارَة ... »(3) لانّ الأكل بدون التجارة «باطل » .

وعلى الثاني « لا تأكلوا بالباطل » ويستثنى من الاكل بالباطل : « التجارة » إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من راجع التفاسير .

( وفي مرسلة شعيب ابن انس ، عن ابي عبد اللّه عليه السلام ، انّه قال لابي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق » قال ) ابو حنيفة ( : « نعم ، قال عليه السلام : « فبأيّ شيء تفتيهم ؟ قال » ) ابو حنيفة : ( « بكتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال عليه السلام : يا ابا حنيفة » ) هل ( « تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته » ) في مراداته ( «وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال » ) ابو حنيفة ( «نعم» ، قال عليه السلام : « يا ابا حنيفة لقد ادّعيت علماً » )

ص: 157


1- - اشارة الى سورة الاحزاب : الآية 33 ، وان هذه الآية نزلت في حق الرسول وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، انظر صحيح مسلم : ج2 ص368 باب فضائل اهل البيت وصحيح الترمذي : ج5 ص30 ، مسند احمد بن حنبل : ج1 ص330 ، مستدرك الصحيحين للحاكم : ج3 ص133 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج1 ص185 .
2- - سورة البقرة : الآية 188 .
3- - سورة النساء : الآية 29 .

وَيلَكَ ، ما جعَل اللّه ذلك العلم إلاّ عِندَ أهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ، وَيلَكَ ، وما هو إلاّ عِند الخاصّ من ذُريّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وما وَرَّثكَ اللّه ُ مِن كتابِه حَرفا».

------------------

أي علماً عظيماً ( « ويلك ما جعل اللّه ذلك العلم » ) باكتساب بل لا يكون هذا العلم ( « إلاّ عند اهل الكتاب ، الذين اُنزل عليهم » ) من الأئمة المعصومين عليهم السلام ، ثمّ بيّن عليه السلام المقصود من اهل الكتاب بياناً اكثر ايضاحاً بقوله : ( « ويلك وما هو » ) ذلك العلم ( « الاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم » ) لا كلّ الذريّة ، بل المعصومين منهم عليهم السلام ( « وما ورّثك اللّه من كتابه حرفاً » )(1) أي طرفاً .

أقول : القرآن له أطراف كثيرة ، طرف كوني ، وطرف تاريخي ، و طرف عقيدي ، وطرف قصصي ، وطرف أحكامي ، وطرف أمثالي ، إلى غير ذلك من الأطراف ، وقد أشار القرآن إلى كلّ طرف اشارة عابرة ، ولم يستوعبه كاملاً ، فجاء - مثلاً - ببعض من قصة الكون يرتبط بالماضي ، وببعض ما يرتبط بالاخرة ، وحول ما بقي من الدّنيا ممّا يرتبط بالمستقبل ، وكذلك ذكر بعضاً من تاريخ الأنبياء والاُمم السابقة ، وأشار إلى نزر من وقايع المستقبل وأنباء عن بعض الملاحم والفتن اللاحقة ، كما في قوله تعالى : « وَاذا وَقَعَ القولُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تكلِّمهمْ ... »(2) .

وكذلك تحدث عن طرف من العقيدة وعن طرف من القصص وعن طرف من الواجبات والمحرمات ، والأخلاق والآداب ، وعن طرف من الأمثال والعبر ، وهكذا، وترك علم بقيّة كلّ طرف من الاطراف وتفصيله عند الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمّة المعصومين من اهل بيته عليهم السلام ، وطبيعي لمثل ابي حنيفة انّه لم يكن

ص: 158


1- - وسائل الشيعة : ج27 ب6 ص48 ح33177 .
2- - سورة النمل : الآية 82 .

وفي رواية زيد الشحّام : « قال دخل قتادةُ على أبي جعفر عليه السلام ، فقال له : أنتَ فقيهُ أهل البصرة ؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه السلام بلغني أنّكَ تُفسّرُ القرآن ، قال : نعم - الى أن قال - : ياقَتادةُ ! إن كنتَ قد فَسَّرتَ القُرآن من تِلقاء نَفسِك فَقَد هَلكتَ وأهلكتَ ، وإن كنتَ قَد فَسّرتَ مِنْ الرجال فَقَد هَلكتَ وأهلكتَ . يا قتادةُ ! ويحَكَ ! إنّما يَعرفُ القُرآن

------------------

يستوعب علم حتّى طرف واحد من اطراف القرآن ، فبقيّة قصة يوسف عليه السلام - مثلاً - ، وبقيّة خصوصيّات الصلاة والصيام ، وبقية خصوصيّات الجنة والنار وغير ذلك ، ممّا لم يذكر في القرآن ، لا يعرفها الاّ من نزل القرآن عليه وهو الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام الّذين ورثوا عنه هذه العلوم دون غيرهم .

وعليه : فلا يحقّ لأحد أن يحكم بالقرآن بدون مراجعتهم .

( وفي رواية زيد الشحام « قال : دخل قتادة على ابي جعفر » ) الباقر ( « عليه السلام ، فقال له : انت فقيه اهل البصرة ؟ فقال : هكذا يزعمون » ) وكان كلامه هذا تواضعاً منه وحسن ادب مع الامام عليه السلام ( « فقال عليه السلام : بلغني انّك تفسّر القرآن ؟ قال » ) قتادة ( « نعم ، إلى ان قال » ) عليه السلام ( : « يا قتادة ان كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك » ) بلا مراجعة المعصومين عليهم السلام ( « فقد هلكت » ) حيث استحققت العذاب ( « واهلكت » ) الذين يأخذون منك ( « وان كنت قد فسّرت من » ) ، قول ( « الرجال » ) الذين لم يأخذوا العلم من الحجج عليهم السلام ( « فقد هلكت واهلكت » ) ايضاً ، لأنّ كلا الامرين موجب للهلاك والاهلاك ، وانّما فصّل عليه السلام للتأكيد ( « يا قتادة ويحك انّما يعرف القرآن » ) عامّاً وخاصّاً ، ومطلقاً ومقيّداً ، وناسخاً

ص: 159

مَن خوطِبَ بهِ » .

إلى غير ذلك ، ممّا ادّعى في الوسائل ، في كتاب القضاء ، تجاوزَها عن حدّ التواتر .

وحاصل هذا الوجه يرجعُ الى أنّ منعَ الشارع عن ذلك يكشفُ عن أنّ مقصود المتكلم ليس تفهيمَ مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة .

والجوابُ عن الاستدلال بها : أنّها

------------------

ومنسوخاً ومفصّلاً ومجملاً وغير ذلك ( « من خوطب به » )(1) وهم المعصومون عليهم السلام .

( إلى غير ذلك ممّا ادّعى في الوسائل في كتاب القضاء ) وكذلك في كتاب المستدرك ( تجاوزها عن حدّ التواتر ) ، فانّ دون هذه الكثرة يكون التواتر .

( وحاصل هذاالوجه ) الّذي استدل به الاخباريون : لعدم جواز العمل بظاهر القرآن ( يرجع إلى : ان منع الشارع عن ذلك ) العمل بظواهر القرآن (يكشف عن انّ مقصود المتكلّم ) تعالى وتقدّس ( ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ) ولهذا لا يتمكن الشخص من العلم بالظاهر ، بعد ان كان دأب المتكلّم ذلك .

وعليه : ( فليس ) القرآن الحكيم ( من قبيل المحاورات العرفيّة ) الّتي بنوا فيها على التفهيم والتفهّم ، حتّى يكون ظاهره حجّة للانسان وعلى الانسان واذا تمّ ذلك ، فلا يصحّ اجراء أصالة عدم القرينة فيه لاثبات ظاهره .

هذا ( والجواب عن الاستدلال بها) أي بهذه الاخبار على عدم حجّيّة ظواهر القرآن ( انّها ) أي تلك الاخبار الناهية ، انّما تدلّ على المنع عن التفسير بالرأي

ص: 160


1- - الكافي روضة :ج8 ص311 ح485 ب8 مع تفاوت ، وسائل الشيعة: ج27 ص185 ب13 ح33556.

لا تدلّ على المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار .

------------------

و ( لا تدلّ على المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعنى ) لدى اهل اللسان (بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها ) وتقييدها ( وارادة خلاف ظاهرها ) فحصاً ( في الاخبار ) الواردة عنهم عليهم السلام .

ثمّ انّ هنا ثلاثة امور :- الأوّل : الترجمة ، الثاني : التفسير بمراجعتهم عليهم السلام .

الثالث : التفسير بالرأي .

والاخبار انّما تدلّ على منع الثالث ، لا على منع الاوّلين ، فالترجمة معناها : تبديل اللفظ بلفظ اوضح ، سواء بنفس اللغة او بسائر اللغات ، فاذا ترجمنا قوله تعالى : « صِرَاطَ الَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... »(1) ، بطريق من انعمت عليهم ، كان من الترجمة ، وكذلك اذا ترجمناها بلغة آخرى .

والتفسير بالرأي معناه : انّه يفسّر الآية بدون مراجعتهم عليهم السلام كما اذا فسّر قوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(2) .

بانّ معناه : هو اوّل الاشياء ، فهو واحد ، ثمّ العقل الّذي خلقه اللّه تعالى اوّلاً فهو ثان ، ثمّ ثالث ، ورابع ، وهكذا ، بينما ورد في الاخبار : « إنّهُ واحِدٌ لا بِالعَدَدِ »(3) .

لان العدد يلزم انّ يكون من سنخ واحد ولا سنخيّة بين اللّه تعالى ومخلوقاته ،

ص: 161


1- - سورة الفاتحة : الآية 7 .
2- - سورة الاخلاص : الآية 1 .
3- - التوحيد : ص37 ب2 ح2 وفيه انه احد لا بالعدد .

إذ من المعلوم أنّ هذا لايُسمّى تفسيرا ، فانّ أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنّه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ، عربيّا او فارسيّا او غيرَهما ، فعمل به وامتثله ، لم يُعَدَّ هذا تفسيرا ، إذ التفسيرُ كشفُ القِناع .

ثم لو سُلِّم كونُ مطلق حمل اللّفظ على معناه تفسيرا ،

------------------

وانّما يقال : اول وثان وثالث لما يكون بينهما سنخيّة ومشاكلة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .

وامّا التفسير بمراجعة كلامهم عليهم السلام فمعناه : ان يأخذ بظاهر القرآن الّذي اُنزل لفهم الناس ، مع الخصوصيّات الّتي ذكروها عليهم السلام في بيان المراد ( اذ من المعلوم انّ هذا ) الاخذ بالظاهر بعد مراجعة كلامهم عليهم السلام ( لا يسمّى تفسيراً ) .

وعلى فرض تسميته : تفسيراً ، لا يسمّى تفسيراً بالرأي ( فانّ احداً من العقلاء ، اذا رأى في كتاب مولاه : انّه امره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ) أي مخاطبة المولى لهذا العبد العاقل باللسان المتعارف بينهما ( عربياً ) كان ( أو فارسياً او غيرهما ) كالتركي والهندي ( فعمل ) العبد العاقل ( به ) أي بما كان ظاهر كلام المولى ( وامتثله ) بظاهره بعد الفحص ، وعدم ظهور قرينة على الخلاف ( لم يعد هذا تفسيراً ) .

فلا يقال : انّ العبد فسر كلام المولى ( اذ التفسير : كشف القناع ) وليس في الأخذ بالمعنى الظاهر كشف للقناع ، وانّما المجملات والمبهمات والاشارات والرموز هي الّتي بحاجة إلى التفسير وكشف القناع ، ولو فرض انّه سمّي تفسيراً ، لم يكن من التفسير بالرأي ، بل انّما هو تفسير بالعرف ، وإلى هذا اشار بقوله :

( ثم لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه : تفسيراً ) لا ترجمة ، وانّ

ص: 162

لكنّ الظاهر أنّ المراد بالرأي : هو الاعتبارُ العقليّ الظنّيّ الراجعُ إلى الاستحسان ، فلا يشملُ حملَ ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفيّة .

------------------

التفسير أعمّ من حمل المجمل على احد محتملاته ، وحمل اللفظ على ظاهر معناه ( لكن ) الاخبار لا تدل على حرمة التفسير مطلقاً ، حتّى في مثل حمل اللفظ على معناه الظاهر ، بل تدلّ على حرمة التفسير بالرأي وهو غير ما نحن بصدده .

وذلك لانّ كلاً من الاصوليّين والاخباريّين ، متّفقون على حرمة التفسير بالرأي من دون الاستعانة بهم عليهم السلام ، ويفترقون في انّ الاصوليين لا يمنعون من الأخذ بظاهر القرآن ، بعد الاستعانة بهم عليهم السلام ، بينما الاخباريّون يمنعون الأخذ بظاهر القرآن مطلقاً ممّا نقوله نحن الاصولييّن غير ما في الاخبار الناهية اذ ( الظاهر : انّ المراد بالرأي ) الممنوع في هذه الاخبار ( هو الاعتبار العقلي الظنّي ) والاعتماد على الظنّ في تفسير معنى القرآن (الراجع إلى الاستحسان ) فما يستحقّه بظنّه يفسّر القرآن به ولو لم يقم عليه دليل ، فيستحسن - مثلاً - ان يكون معنى قوله سبحانه : « فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً »(1) .

انّ الخير هو : اعمال الخير في العبد ، لا الايمان - مثلاً - كما ورد في التفسير .

وعليه : ( فلا يشمل ) التفسير بالرأي - المنهي عنه في الاخبار - ما نحن بصدده ، من جواز ( حمل ظواهر الكتاب ) الحكيم بعد الاستعانة بتفسيرهم عليهم السلام ( على معانيها اللغويّة والعرفيّة ) فاللفظ ان كان له معنى عرفي ، حمل عليه ، والاّ حمل على المعنى اللغوي .

فقوله تعالى : « وأَقِيْمُوا الصَّلاة ... »(2) .

يحمل على الصلاة في عرف المتشرّعة ، فانّ ظاهر كلّ عرف : انّهم يتكلّمون

ص: 163


1- - سورة النور : الآية 33 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

وحينئذٍ : فالمرادُ بالتفسير بالرأي : إمّا حملُ اللفظ على خلاف ظاهره او أحد احتماليه ، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر .

ويرشد إليه

------------------

حسب اصطلاحهم ، امّا اذا لم يكن لهم عرف ، حمل على المعنى اللغوي .

وقوله تعالى : « إِنْ تَرَكَ خَيْراً ... »(1) يحمل الخير فيه على المال ، اذ لا اصطلاح خاص للشارع في لفظ « الخير » .

( وحينئذٍ : فالمراد بالتفسير بالرّأي ) المنهي عنه في الاخبار المتقدّمة ( : امّا حمل اللفظ على خلاف ظاهره ) مثل حمل قوله تعالى : « إِنَّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرَّجْسَ أَهْل البيْتِ ... »(2) .

على خلاف ظاهر « عنكم » بحمله على النساء ، بينما لو كان المراد ذلك ، كان اللازم انّ تقول الآية حينئذٍ « عنكنّ » بقرينة ما قبله : - « وَقَرْن فِيْ بيُوتِكُنَّ ... »(3) ، وغيرها .

( أو ) حمل اللفظ على ( احد احتماليه ) اذا كان مجملاً ، وله احتمالات مثل حمل : « القرء » في قوله سبحانه : « وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِانفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » (4) على احد معنييه ، وهما « الطهر والحيض » بدون قرينة واردة عنهم عليهم السلام ، (لرجحان ذلك) الأوّل الّذي هو خلاف الظاهر ورجحان الثاني في احد المعنيين المحتملين ( في نظره ) أي نظر المفسّر ( القاصر ، و ) في ( عقله الفاتر ) الّذي لا حرارة ولا قوّة حتّى يتمكن من التحرك والتوصل إلى الواقع المراد من الآية .

( ويرشد اليه ) أي إلى ما ذكرناه : من انّ التفسير بالرأي ، يراد به : الحمل على

ص: 164


1- - سورة البقرة : الآية 180 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
4- - سورة البقرة : الآية 228 .

المرويُّ عن مولانا الصادق عليه السلام ، قال في حديث طويل : «إنّما هلك الناسُ في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء عليهم السلام ، فيعرّفونهُم » .

------------------

خلاف الظاهر ، او على احد المعنيين المحتملين بدون قرينة ، الحديث (المروي عن مولانا الصادق عليه السلام ، قال في حديث طويل ) نذكر محل الشاهد منه : - ( « إنّما هَلَكَ النّاسُ في المُتَشابِهِ » ) من الايات ( « لأنّهُم لَم يَقْفوا » ) ولم يطلعوا ( « عَلى مَعناه » ) الّذي اراده اللّه تعالى ( « وَلَم يَعرِفوا حَقِيقَتِهِ » ) والمقصود منه ( « فَوَضَعوا لَهُ تَأوِيلاً » ) ومعنى يؤل المتشابه اليه ( « مِن عِندِ أنفُسِهِم ب- » ) سبب ( « آرائِهِم » ) الفجّة ، بأن كان - مثلاً - رأيهم « الجبر » فقالوا في قوله سبحانه : « يُضِلُّ مَن يَشَاء ... »(1) .

إنّ المراد منه : انّ اللّه سبحانه يجبر عباده على الضلال ( « واستغنوا » ) أي طلبوا الغنى وعدم الاحتياج العلمي ( « بذلك عن مسألة » ) وسؤل ( « الاوصياء » ) من اهل بيت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه و آله وسلم « فَيُعَرّفونَهُم ») (2) بأن كان نتيجة الاستغناء برأيهم حرمانهم عن تفسير الاوصياء وتعرفة المعنى الواقع للقرآن لهم .

أقول : هنا سؤلان :

الأوّل : لماذا لم يستوعب القرآن الحكيم كلّ قصّة ، وحكم ، وما اشبه ، كاملاً حتّى يعرفها كلّ الناس ، ولا يحتاجون فيها إلى تفسير النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والاوصياء عليهم السلام ؟ .

ص: 165


1- - سورة النحل : الآية 93 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ب13 ص201 ح33593 .

...

------------------

الثاني : لماذا جاء في القرآن المتشابه ، ممّا يحوج المسلم إلى السؤل والاستفسار ، ويوجب التفرقة في الفهم .

والجواب عن الأوّل : انّه لو كان القرآن خاصّاً بالاحكام فقط ، دون الكونيات ، والعقائد ، والتاريخ ، وما اشبه ، وكان يريد الاستيعاب حتّى يفهمه كلّ انسان خبير باللسان ، لكان اللازم ان يكون مئات المجلدات ، لانّ المسائل الشرعيّة ، والاداب والاخلاق ، وما اشبه ، ربّما تبلغ اكثر من ذلك ، فانّا وان لم نذكر كلّ المسائل في « الفقه » بلغ اكثر من مائة مجلد (1) ، فكيف بمن هو عالم بكلّ الاحكام بادقّ معنى العلم ، قال سبحانه : « اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَتهُ »(2) .

وجعل القرآن مئات المجلّدات ، ان لم يكن متعذّراً على الناس من حيث الاستيعاب كان من اشدّ انحاء العسر عليهم .

وعن الثاني : انّ كتاب التشريع يوازن كتاب التكوين ، وكما انّ من جمال الكون ان يكون فيه اشياء سهلة ، واشياء معقّدة ، كذلك من جمال التشريع ان يكون فيه محكماً ومتشابهاً ، مضافاً إلى ما فيه من تحريك الاذهان لاستكشاف الغوامض واستجلاء الكوامن .

ثمّ لا يخفى : انّه قد طرأ بالنسبة إلى القرآن الحكيم - كما في سائر كتب الحكماء والقرآن سيد الكتب - اجمال جديد وهو : تغيّر العصر عمّا كان عليه ، ممّا سبّب قلّة معرفة الانسان بخصوصيّات عصر الوحي ، فانّ كون الدنيا في تغيّر دائم ، والاجتماع في تحوّل مستمر ، اوجبا أشتباه غير المطّلعين الكُمّلينَ ، في بعض

ص: 166


1- - هذا ، وقد بلغ عدد مجلدات الموسوعة مائة وخمسين مجلدا .
2- - سورة الانعام : الآية 124 .

وإمّا الحملُ على ما يظهر له في بادي الرأي من المعاني العرفيّة واللغويّة ، من دون التأمّل في الأدلّة العقليّة ومن دون تتبّع في القرائن النقليّة ، مثل الآيات الاُخَر الدالّة على خلاف هذا المعنى

------------------

الآيات ممّا يحتاج إلى التدقيق والتحقيق كما اذا تغيّرت لغة العرب ، حيث لا يفهمون القرآن بسبب تغيير لغتهم لا بسبب القرآن نفسه ، وهذا بحث طويل ، أردنا الالماع اليه ، فقط ، واللّه العالم .

( وامّا الحمل ) على ظاهر اللفظ ، بالنظر البدوي مقابل الحمل على خلاف الظاهر ، فبالحمل ( على ما يظهر له ) أي للشخص ( في بادي الرأي ) والنظر السطحي بلا تعمّق ، وقد قال سبحانه : « أَفَلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ »(1) .

والتدبّر عبارة عن التعمّق والتوغّل للوصول إلى « دبر الشيء » وخلفه ، حتّى يظهر للمتدبّر مختلف جوانب ذلك الشيء ، فيحمل على ما يبدوا له ( من المعاني العرفيّة واللغويّة ) وقد تقدّم سبب ذكرهما معاً وانّهما امران ، لا من باب عطف البيان ( من دون التأمّل في الادلة العقلية ) فانّهم - مثلاً - يقولون : اللّه جسم بدليل انّه على العرش استوى ، من دون تأمّل في استحالة الجسميّة على اللّه تعالى ( ومن دون تتبع في القرائن النقليّة ) الّتي توجب صرف الظاهر عن ظاهره ( مثل الآيات الأُخر ، الدالّة على خلاف هذا المعنى ) الّذي يظهر من الآية ، فيقول - مثلاً - انّ اللّه قابل للرؤة ، لقوله سبحانه : «وُجُوْهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرَة * إلى ربِّهَا نَاظِرَة »(2) ، بدون ملاحظة قوله سبحانه : « لا تُدرِكهُ الأبصار ، وَهوَ يُدرِكُ الأبصارَ »(3) .

ص: 167


1- - سورة النساء : الآية 82 .
2- - سورة القيامة : الآيات 22 - 23 .
3- - سورة الانعام : الآية 103 .

والأخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها عن منسوخها .

------------------

وقوله سبحانه : « لنْ تراني » (1) .

و «لن» لنفي الأبد ، ولو كان قابلاً للرؤة لرآه موسى عليه السلام ، ولو في الاخرة مع انّ ظاهر « لن » : العدم إلى الابد .

( و ) مثل ( الاخبار الواردة في بيان المراد منها ) أي من الايات ، فقد ورد : انّ المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى : - « حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى ... »(2) بأنّها صلاة الظهر - مثلاً - .

( و ) مثل الاخبار الواردة في ( تعيين ناسخها عن منسوخها ) والمراد بالمنسوخ ، احد احتمالين : ما كان ظاهرة الابديّة ثمّ نسخ ، او ما كان لظرف زماني خاصّ ، ثمّ بيّن ذلك .

والاوّل : هو ما عليه المشهور .

والثاني : هو الّذي اختاره بعض المحققين ، ولعلّه اقرب إلى الواقع ، فقد قالوا في قوله تعالى : « اذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة »(3) : انّها منسوخة بقوله تعالى : « أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ، فَاذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ... »(4) .

لكن هل الاية الاولى يراد بها الاستمرار واقعاً : بأن تطابقت الارادة الجدّية مع الارادة الاستعمالية ثمّ نسخت ، أو يراد بها مقطعاً خاصّاً من الزمان ، بأن لم تتطابق الارادة الجدّية مع الارادة الاستعمالية ، ثمّ اظهر ذلك بالآية الثانية ؟ .

ص: 168


1- - سورة الاعراف : الآية 143 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .
3- - سورة المجادلة : الآية 12 .
4- - سورة المجادلة : الآية 13 .

وممّا يُقرّب هذا المعنى الثاني ، وإن كان الأوّل أقربَ عرفا ، أنّ المنهيّ ، في تلك الأخبار ، المخالفون الذين يستغنون بكتاب اللّه عن أهل البيت عليه السلام ، بل يخطّئونهم به .

ومن المعلوم ضرورةً من مذهبنا تقديمُ نصّ الامام عليه السلام ، على ظاهر القرآن ،

------------------

( وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني ) للتفسير بالرأي وانّ النهي عن حمل اللفظ على المعنى الظاهر من دون فحص ( وان كان ) المعنى ( الأوّل ) للتفسير بالرأي ، وهو النهي عن حمل اللفظ على خلاف الظاهر ( اقرب عرفاً ) لما ذكرناه : من انّه هو الّذي يسمّى : بالتفسير بالرأي .

وعليه : فالمقرّب للمعنى الثاني هو : ( انّ المنهي في تلك الاخبار ) الناهية عن التفسير بالرأي ، هم ( المخالفون ) للأئمّة عليهم السلام ( الذين يستغنون بكتاب اللّه عن اهل البيت عليهم السلام ) ويقولون: حسبنا كتاب اللّه ( بل يخطئونهم ) عليهم السلام في تفسيرهم وبيان أحكام القرآن ( به ) أي بسبب كتاب اللّه حيث يأخذون بظاهر القرآن ويقولون : انّ الامام عليه السلام الّذي فسر القرآن بغير هذا الظاهر ، أخطأ في تفسيره .

فالمخالف - مثلاً - يقول : « الصلاة الوسطى : صلاة العصر ، لانّها وسط بين الصبح والظهر ، من جانب ، وبين المغرب والعشاء من جانب آخر » فاذا قال الامام عليه السلام : انّ المراد بها : صلاة الظهر ، قال : انّ الامام عليه السلام أخطأ .

هذا ( و ) لكن الواجب - نظراً إلى انّهم عليهم السلام أوصياء الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وحملة علمه - ، ان يكون بالعكس - كما عليه المُآلِف - فاذا كان ظاهر القرآن شيئاً ، وقال الامام : المراد به غير ذلك يقدّم نصّ الامام على ظاهر القرآن ، فانّه ( من المعلوم ضرورة من مذهبنا : تقديم نصّ الامام عليه السلام على ظاهر القرآن ) فالخاصّ والمقيّد

ص: 169

كما أنّ المعلومَ ضرورةً من مذهبهم العكسُ .

------------------

الامامي ، مقدّم على العام والمطلق القرآني .

( كما انّ المعلوم ضرورة من مذهبهم ) أيّ المخالفين ( العكس ) فانّهم يقدّمون العامّ والمطلق القرآني ، على الخاص والمقيّد الامامي .

فاذا قال سبحانه : « وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ »(1) .

أو قال تعالى : « قُلْ : لاَ أسْألكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلاَّ المَوَدَّة فِي القُرْبَى »(2) .

قالوا : المراد : مودّة كلّ انسان قريبه ، وصلته له ، بينما الوارد في الروايات : انّ المراد : اعطاء اقرباء الرسول واهل بيته حقّهم ووجوب مودة المؤنين لهم ، اجراً لرسالته صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إلى غير ذلك .

إن قلت : كيف نقدّم الخاصّ والمقيّد الامامي ، على العام والمطلق القرآني ، ونحن نرى : انّه ورد في كثير من الروايات ، تفسير جملة من الايات المطلقة بهم عليهم السلام ، او انّها في اعدائهم او ما اشبه ذلك ، بينما الظاهر منها خلاف ما ورد ؟ .

قلت : الظاهر انّ المراد بتلك الروايات احد احتمالات ثلاثة : - الأوّل : بيان « المصاديق » لا الانحصار الكلّي فيه .

الثاني : بيان المعنى المرادف للمعنى الظاهر ، لا اختصاص الاية بذلك المعنى .

الثالث : بيان البطون من معاني الايات .

فاذا ورد - مثلاً - في الخبر : انّ قوله سبحانه : - « الّذِيْنَ يُنْفِقُوْنَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ والنَّهَارِ ، سِرّاً وَعَلاَنِيَةً »(3) .

يراد به عليّ عليه السلام ، فالمراد من ذلك احد احتمالات ثلاثة :

ص: 170


1- - سورة الاسراء : الآية 26 .
2- - سورة الشورى : الآية 23 .
3- - سورة البقرة : الآية 274 .

ويُرشِدُكَ إلى هذا

------------------

أوّلاً : انّ عليّاً عليه السلام من أجلى مصاديق الآية ، وان كانت الآية شاملة لكلّ من كان كذلك ، ولهذا ورد في خبر آخر : انّ المراد بالاية هو : من ينفق على فرسه ، الّذي يجاهد عليه في سبيل اللّه .

ثانيا : انّ علياً عليه السلام معنى ، والكلّي معنى آخر ، والمعنى الاوّل مرادف للمعنى الثاني ومراد ايضاً ، كما ورد - مثلاً - في قوله تعالى : « الم * غُلِبَتِ الرُّوْمُ * فِي أَدْنَى الأَرْض ... »(1) .

انّه يراد به دولة القائم عليه السلام ، فالظاهر : انّ الرواية في صدد بيان مصداق آخر للآية ، وانّه هناك مصداقان : - مصداق في زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومصداق في زمن الامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

وارادة المصداقين تكون أما بارادة اللّه : لهما من لفظ واحد ، وامّا باراد اللّه : الملاك ، وهو آت في دولة الامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

ثالثاً : انّ عليّاً عليه السلام في الآية بطناً من البطون ، فقد ورد عنهم عليهم السلام : « يا جابِرُ إنّ لِلقُرآن بَطناً وللبطن بطن ، وَلَهُ ظَهرٌ وَلِلظَهرِ ظَهرٌ ... » (2) .

أقول : كما ثبت انّ لكلّ جسم ومادة ظهر وبطن ، ولظهرها ظهر ، ولبطنها بطن ، - فالتفّاح مثلاً له ظاهر ، ولظاهره ظاهر هو : قشره ، ولباطنه باطن هو : نواته - كذلك القرآن له ظاهر وباطن ، ولكلّ منهما ظاهر وباطن ، وتفصيل الكلام فيه ، ذلك في موضعه ، واللّه العالم .

( ويرشدك إلى هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المراد بتلك الأخبار الناهية من

ص: 171


1- - سورة الروم : الآيات 1 - 3 .
2- - تأويل الآيات : ص23 ، المحاسن : ص300 مع تفاوت ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 .

ما تقدّم في ردّ الامام عليه السلام ، على أبي حنيفة حيث انّه يعملُ بكتاب اللّه ، ومن المعلوم أنّه إنّما كان يعمل بظواهره ، لا أنّه كان يأوّله بالرأي ، إذ لا عبرةَ بالرأي عندهم مع الكتاب والسنّة .

ويرشد إلى هذا قول أبي عبد اللّه عليه السلام ، في ذمّ المخالفين : « أنهم

------------------

التفسير : هم المخالفون ( ما تقدّم في ردّ الامام ) الصادق ( عليه السلام على ابي حنيفة ، حيث انّه ) اجاب : بانّه ( يعلم بكتاب اللّه ، ومن المعلوم انّه ) أي ابا حنيفة ( انّما كان يعمل بظواهره ) أي ظواهر القرآن من دون مراجعة اخبارهم عليهم السلام ( لا انّه ) أي ابا حنيفة ( كان يأوّله ) أي الكتاب (بالرأي ) وانّما كان لايعمل بالرأي ( اذ لا عبرة بالرأي عندهم ) أي عند المخالفين ( مع ) وجود ( الكتاب والسنّة ) .

فان مع وجود الكتاب ، يكون النهي موجّهاً إلى من يعمل بظواهر القرآن بدون مراجعة الروايات ، ولهذا وقع المخالفون في تحريم ما أحلّ اللّه ، وتحليل ما حرّم اللّه ، فمنهم من يقول : بصحة بيع الكالي بالكالي لاطلاق : « أحلَّ اللّهُ البيعَ ... »(1) .

او يقول : بصحة نكاح الشِغار ، لاطلاق : « وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ ... »(2) .

او يقول : باباحة الاستمناء ، لأنّه لا يوجد نهي عنه في القرآن .

او يقول : بأباحة اكل لحم الكلب ، او نكاح الغلام لعدم تعرّض القرآن لهما ، كما في شعر الزمخشري ، واشار اليه ابن الحجاج في قصيدته المعروفة ، وإلى غير ذلك .

( ويرشد إلى هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المخالفين يعملون بالظواهر من دون مراجعة كلامهم عليهم السلام ( قول ابي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام في ذمّ المخالفين : « أنّهُم

ص: 172


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة النور : الآية 32 .

ضربوا القرآن بعضه ببعض ،

------------------

ضَرَبوا القُرآنَ بَعضَهُ بِبَعضٍ » )(1) أي فسّروا آية باية اخرى ، مع العلم انّ بينهما : عموماً مطلقاً ، او عموماً من وجه ، او احداهما في مقام والاخرى في مقام آخر .

انّ قلت : كيف لا يجوز ذلك ، وقد ورد : انّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً ؟ .

قلت : ان ضرب القرآن بعضه ببعض ، على قسمين : - القسم الأوّل : كون المفسّر - بالكسر - تفسيراً للمفسر - بالفتح - وهذا تامّ .

القسم الثاني : ان لا يكون كذلك ، وهذا غير تام ، والمخالفون حيث لا يرجعون في التفسير اليهم عليهم السلام يعملون بالقسمين ، ولذا يقعون في الخطأ ، بينهما المُآلِف ، انّما يضربه بعضاً ببعض على ضوء ما ذكروه عليهم السلام من التفسير .

هذا ، ولا بأس بذكر مثال على ذلك ، فالمخالف - مثلاً - ربط بين قوله تعالى : «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا »(2) .

وبين قوله تعالى : « وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئةِ ، فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلها ... »(3) .

فسرق شيئاً وتصدّق به ، بزعم : انّ السرقة سيّئة واحدة ، والصدقة عشر حسنات، فينقص منها سيئة واحدة ، وتبقى له تسع حسنات بينما لم يكن بين الجملتين من الاية المباركة ربط ، حتّى يضرب احدهما بالاخر ، بل كان الربط بين قوله تعالى : « انَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ »(4) وبين قوله تعالى : « مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالهَا » .

وعليه : فانّ اعطاء مال السرقة للفقير لم يكن حسنة اصلاً ، اذ القبول من المتّقي ، والسارق ليس متّقياً ولو انّ هذا المخالف راجعهم عليهم السلام في ذلك ،

ص: 173


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص201 ب13 ح33593 .
2- - سورة الانعام : الآية 160 .
3- - سورة الانعام : الآية 160 .
4- - سورة المائدة : الآية 27 .

واحتجّوا بالمنسوخ وهو يظنّون أنه الناسخ واحتجُّوا بالخاصّ وهم يظنّون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الاية وتركوا السنّة في تأويلها

------------------

لأرشدوه إلى انّ تفيسره هذا او ضربه للقرآن بعضه ببعض انّما هو من القسم الممنوع لا من القسم الصحيح .

( « واحتجّوابالمنسوخ وهم يظنّون انّه الناسخ » ) مثلاً يظنّون في آية الحول وآية اربعة اشهر وعشراً ، انّ الثانية منسوخة بالاولى لا انّ الاولى منسوخة بالثانية («واحتجّوا بالخاصّ » ) بزعم انّ ملاكه آت في فرد آخر ايضاً ( « وهم يظنّون انّه العام » ) لانّ الملاك كان في نظرهم عام ، فتعدّوا من الخاصّ إلى سائر الافراد ، فاية الارث - مثلاً - خاصة بغير القاتل ، والكافر ، وما اشبه ، فمن زعم انّها عامّة ، فانّه يسريها إلى القاتل ، ونحوه ، وآية ارث الازواج - مثلاً - خاصّة بغير الارض للزوجة ، لكن من زعم انّها عامّة فانّه يقول بشمولها للزوجة ايضاً .

( « واحتجّوا بأوّل الاية ، وتركوا السنّة في تأويلها » ) والتأويل من الأوْل ، بمعنى : آخر الشيء مثل قوله سبحانه : « يَا أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا ، أَطِيْعُوا اللّهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء ، فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤِنُونَ بِاللّهِ وا ليَوْم الآخِر ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيْلاً »(1) .

أي انّ الرّد إلى اللّه والرسول ، مآله احسن من مآل ترونه انتم في رفع النزاع ، ودفع الخصومات ، وحلّ المشاكل ، لانّ اللّه والرسول يريان العواقب ، وانتم لا ترونها ، فتحكمون بما يكون عاقبته سيّئة ، وان كان في الحال لا يظهر لكم تلك العاقبة السيّئة .

مثلاً : قال سبحانه : « قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحي إلَيّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعمُهُ إِلاَّ أنْ

ص: 174


1- - سورة النساء : الآية 59 .

ولم ينظروا إلى مايفتح به الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره

------------------

يَكُوْنَ مَيْتَة ، أوْ دَماً مَسْفُوْحاً ، أوْ لَحْم خِنْزِيْر ... »(1) فانّ رأس الآية لها دلالة : على حليّة ما لم يكن في القرآن من المحرّمات ، بينما اللازم بالعمل بالسنة الواردة في سائر المحرّمات ايضاً ، لأن السنّة وردت في تأويل الآية ونتيجتها .

( « ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه » ) اذ قد يكون اول الكلام دليلاً على ما هو المراد من آخره ، وقد يكون آخر الكلام دليلاً على ما هو المراد من اوّله ، لانّ احد طرفي الكلام قرينة على الطرف الاخر .

فاذا قال - مثلا - : « أسد يرمي » فيرمي الّذي هو آخر الكلام دليل على ما هو المراد من الاسد الّذي هو اول الكلام .

واذا قال : « هُدىً للمُتّقِيْنَ »(2) ، كان « هدى » الّذي هو أوّل الكلام دليل على ما هو المراد من المتّقين الّذي هو اخر الكلام ، وهكذا .

( « ولم يعرفوا موارده ومصادره » ) اذ كلّ شيء يصدر من مكان ، ويرد في مكان فمصدر الفرات - مثلاً - العيون ، ومورده : البحر ، ومصدر الانسان : الرحم ، ومورده : القبر ، وهكذا ، وكما يخطيء من لا يعرف المورد والمصدر ، في التكوينيّات ، كذلك يخطي من لم يعرف المورد والمصدر في التشريعيّات ، فمن لم يعرف - مثلاً - المصدر لهذا المصداق بأن لم يعرف : انّ المعاطاة تؤذ من أيّ الكلّيّات ؟ هو تؤذ من قوله تعالى : « لاَ تَأكُلُوا أمْوَالكُمْ بِيْنَكُمْ بِالبَاطِل » ؟(3) .

أو من قوله تعالى: « إلاَّ أنْ تَكُوْنَ تِجَارَة عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ » (4) ؟ .

ص: 175


1- - سورة الانعام : الآية 145 .
2- - سورة البقرة : الآية 2 .
3- - سورة النساء : الآية 29 .
4- - سورة النساء : الآية 29 .

إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا » .

وبالجملة : فالانصافُ : يقتضي عدمَ الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبّع في سائر الأدلة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ،

------------------

فانّه لا يعرف حكمها ، اذ على الأوّل تكون باطلة ، وعلى الثاني تكون صحيحة .

ثمّ اذا صحّت المعاطاة ، فهل موردها كلّ المعاملات ، حتّى « النكاح » او خاصّة بغير النكاح ؟ إلى غير ذلك .

وانّما وقعوا في هذه الاخطاء ( « اذ لم يأخذوه » ) أي لم يأخذوا علم الكتاب ( « عن اهله » ) وهم الائمّة عليهم السلام ( « فضلّوا » ) بانفسهم ( « واضلّوا » )(1) الناس .

( وبالجملة : فالانصاف يقتضي : عدم الحكم بظهور الاخبار المذكورة ) الّتي استدل بها الاخباريون ، لعدم جواز الاستدلال بظواهر القرآن ( في النهي عن العمل بظاهر الكتاب ) كما تقدّم جملة منها ( بعد الفحص والتّتبع في سائر الادلّة ) : كاخبارهم عليهم السلام والادلّة العقلية القطعية ، والاجماع الّذي يكون حجّة ، وقد تقدّم انّ العمل بالظاهر بعد الفحص ، لا يُسمّى تفسيراً ، واذا سلّمنا كونه تفسيراً فليس تفسيراً بالرأي .

( خصوصاً ) اذا تتبّعنا في ( الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ) ووجه الخصوصيّة : انّ العقل الّذي يصرف الكتاب عن ظاهره ، قليل المورد ، كمورد اصول الدين ، من قبيل ذات اللّه وصفاته ، حيث انّ العقل يدلّ على : انّه ليس بجسم ، ولا قابل للرؤة ، وانّه عادل ولا يجبر احداً ، إلى غير ذلك .

ص: 176


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص201 ب13 ح33593 .

كيف ، ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه دلّت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم السلام .

ففي رواية سُليم بن قيس الهلاليّ عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ أمرَ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم مِثلُ القُرآن ، منه ناسخٌ ومنسوخ ، وخاصٌ وعامٌ ومُحكمٌ

------------------

اما الآثار الواردة عنهم عليهم السلام فهي في اكثر آيات القرآن : كالاحكام ، ونحوها ، فاذا فحصنا في الآثار ، واخذنا بها ، وحملنا آيات القرآن عليها لم يكن مانع من الأخذ بالظواهر بعد ذلك .

هذا هو جوابنا الأوّل وكان جواباً حليّاً - عن استدلال الاخباري بالاخبار الناهية عن العمل بظواهر القرآن ( كيف و ) لنا جواب عنهم - وهو جواب نقضي - : بأنّه ( لو دلّت ) الاخبار المتقدّمة ( على المنع من العمل ) بظاهر القرآن ( على هذا الوجه ) أي حتّى بعد الفحص وقلنا : بأنّ قوله تعالى : - « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ »(1) .

ممّا لا يجوز الاخذ بظاهره في جواز كلّ بيع جامع للشرائط ، حتّى بعد الاخبار المخصصة للبيع ، واخراج الكالي بالكالي ونحوه ل(دلّت) تلك الاخبار - بالملاك - واخبار اخرى بالتصريح ( على عدم جواز العمل باحاديث اهل البيت عليهم السلام ) اذ ملاك اخبار القرآن ، آت في رواياتهم عليهم الصلاة والسلام ، وكذلك ما دلّ من الروايات على انّ حالها حال القرآن ، في وجود : الناسخ والمنسوخ ، وما اشبه ، فالمانع في القرآن مانع في الروايات ايضاً .

( « ففي رواية سليم بن قيس الهلالي ، عن امير المؤنين عليه السلام : إنّ أمرَ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مِثلُ القُرآنِ ، مِنهُ ناسِخٌ وَمَنسوخٌ ، وَخاصٌ وَعامٌ ، وَمُحكَمٌ

ص: 177


1- - سورة البقرة : الآية 275 .

ومُتشابهٌ ، وقد كان يكون من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الكلامُ ، يكون له وجهان ، كلام عامّ وكلام خاصّ ، مثلُ القرآن » .

وفي رواية أسلم بن مسلم : « إنّ الحديث يُنسَخُ كما يُنسَخُ القُرآن » .

هذا كلّه مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ، ممّا يدلّ على جواز التمسّك بظاهر القرآن :

------------------

وَمُتَشابَهٌ ، وَقَد كان يَكون مِن رَسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الكَلامُ ، يَكونُ لَهُ وَجهان ، كَلامٌ عام ، وَكَلامٌ خاصٌّ ، مِثلُ القُرآن » )(1) .

بل ذلك شأن رواياتهم عليهم السلام ايضاً ، فانّ البليغ يتكلّم على هذا الاشكال ، فكيف بهم عليهم السلام وهم في اعلى قمّة البلاغة .

( « وفي رواية اسلم بن مسلم » ) قال عليه السلام ( « إنّ الحَديثَ يُنسَخُ كَما يُنسَخُ القُرآن » )(2) ، فانّه كما لبعض آيات القرآن أمد ، كذلك لبعض الروايات أمد ايضاً ، ففي رواية : ينهى الامام عليه السلام - مثلاً - : عن التكلّم حول بني اميّة ، لكن ذلك محدود بأمد بقائهم ، فاذا زال ملكهم جاز التكلّم حولهم ، وهكذا .

وهذا : قسم من النسخ فان تبدّل الشيء بانتهاء أمده يسمّى نسخاً ، ولذا قالت العرب نسخ الشمس الظلّ ، إلى غير ذلك .

( هذا كلّه ) في الجواب النقضي ، وهناك جواب ثالث عن استدلال الاخباري أشار اليه المصنّف قدس سره بقوله : ( مع معارضة الاخبار المذكورة ) الّتي تمسّك بها الأخباري ، للمنع عن تفسير القرآن ( باكثر منها ، ممّا يدلّ على : جواز التمسّك بظاهر القرآن ) فاللازم : انّ يراد بالاخبار المعارضة ، الّتي ذكرها الاخباري :

ص: 178


1- - الكافي أصول : ج1 ص63 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب4 ح33614 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 و ص208 ب14 ح33615 .

مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ، وغيرها ، ممّا يدل على_'feالأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه ، وعرض الأخبار المتعارضة بل ومطلق الاخبار عليه ، وردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب

------------------

غير الّذي فسّرها به الاخباري ، والاّ لوقع التضادّ بين الطائفتين ( مثل : خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « انّي مُخلّفٌ فِيكُم الثّقَلَين : كِتابَ اللّه وَعِترَتي أهلَ بَيتي ، ما إن تَمَسّكتُم بِهِما لَن تَضِلّوا بَعدي أبداً »(1) .

فانّه لو لم يكن للقرآن ظاهر يؤذ به ، لم يكن معنى للتمسك به .

( وغيرها ) أي غير خبر الثقلين ( ممّا يدلّ على الامر بالتمسك بالقرآن ، والعمل بما فيه ) وهي كثيرة ذكرت في : الوسائل ، والمستدرك ، والبحار ، وغيرها .

( و ) ما يدّل على ( عرض الاخبار المتعارضة ، بل ومطلق الاخبار ) وان لم تكن متعارضة ( عليه ) أي على القرآن .

امّا عرض الاخبار المتعارضة ، فانّه ليظهر ما يلزم الاخذ به منها ، وامّا عرض الاخبار مطلقاً ، فانّه ليظهر الصحيح من السقيم منها ، فان قُصَّاصَ المخالفين اكثروا من الروايات المختلقة والاخبار الكاذبة ، المخالفة صريحاً للقرآن ، ولهذا فانّ المخالفين انفسهم طرحوا اكثر اخبارهم ، حتّى انّ البخاري اختار صحيحه - حسب اصطلاحه - من بين ستمائة الف حديث ، وانّ ابا حنيفة كان يقول : لم يصحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الاّ سبعة احاديث - على ما ببالي - .

( و ) كذا ما دلّ على ( ردّ ) وابطال ( الشروط المخالفة للكتاب في ابواب

ص: 179


1- - معاني الاخبار : ص93 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ح1 ب2 ، و ج13 ص147 ب7 ح101 ، ارشاد القلوب : ص340 .

العقود والأخبار الدالّة قولاً وفعلاً وتقريرا على جواز التمسّك بالكتاب .

مثل قوله عليه السلام ، لمّا قال زرارةُ : « من أين عَلِمتَ أنّ المَسحَ بِبَعضِ الرّأس ؟ فقال عليه السلام : لِمَكانِ الباء » ، فعرّفه عليه السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب .

وقول الصادق عليه السلام ، في مقام نهي الدوانقيّ عن

------------------

العقود و) من المعلوم : انّه اذا لم يكن للقرآن ظاهر فكيف يمكن كلّ ذلك .

هذا بالاضافة إلى ( الاخبار الدالّة : قولاً وفعلاً وتقريراً ) من المعصوم عليه السلام ( على جواز التمسّك بالكتاب ) والاستدلال به ، واستخراج الاحكام منه .

( مثل : « قوله عليه السلام ، لما قال » ) له ( « زرارة : من اين علمت انّ المسح ببعض الرأس » ) حيث اراد زرارة ان يستظهر الأمر من القرآن ، او من قول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ليتمكن من ردّ المخالفين القائلين : بأنّ المسح على كلّ الرأس ( « فقال عليه السلام : لِمَكانِ الباء » )(1) في قوله تعالى : - « وَامْسَحُوا بِرُؤسِكُمْ ... »(2) .

فاذا قال احد : مسحت الحائط ، كان ظاهره : انّه مسح كلّ الحائط ، واذا قال : مسحت بالحائط : كان ظاهره : انّه مسح ببعض الحائط ، وهنا بحث طويل خارج عن مقصد الشرح ، ولذا نتركه لمحلّه ( فعرّفه ) الامام ( عليه السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب ) حتّى يتمكن من الاستدلال والردّ على المخالفين .

لا يقال : لعلّ البحث كان جدلياً فانّ المخالفين لا ينكرون ظهور القرآن ، بل يقولون به ؛ لأنّه يقال : الاصل عدم جدليّة البحث - كما هو بناء العقلاء - .

( و ) مثل : ( قول الامام الصادق عليه السلام في مقام نهي ) المنصور (الدوانيقي ) حين سعى الوشاة عنده على الامام عليه السلام وأراد المنصور ايذائه ، فنهاه عليه السلام ( عن

ص: 180


1- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص103 ح212 ، وسائل الشيعة : ج1 ص413 ب23 ح1073 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .

قبول خبر النمّام : « إنّه فاسق ، وقال اللّه : إن جاءكُم فاسِقٌ بنبأ فتبيّنوا ، الآية » .

وقوله عليه السلام لابنه إسماعيل : « إنّ اللّه عَزَّ وجلَّ يقول : يُؤمنُ باللّه ويُؤمِنُ للمُؤمنينَ فاذا شَهِدَ عِندَكَ المُؤمِنونَ ، فصَدِّقهُمْ » .

------------------

قبول خبر النمّام ) بسبب ( : انّه ) أي النمّام ( فاسق ) لانّ النميمة حرام ( و ) قد ( قال اللّه تعالى : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيّنوا » ... الاية »(1) )(2) فيستفاد من استدلاله عليه السلام : انّ ظاهر الاية حجّة فلو لم تكن الاية حجّة بظاهرها ، لكان للدوانيقي انّ يقول : انّك تستدلّ بشيء لا افهمه ، كما اذا استدلّ الانسان بالرمز ، او بفواتح السور ، او بما اشبه ذلك .

( وقوله ) أي الامام الصادق ( عليه السلام لابنه اسماعيل ) لما اعطى ماله لشارب الخمر للمضاربة فنهاه الامام عن ذلك ، فلم ينفعه ، فأكل ذلك الخمّار ماله وشرب عليه .

ولا يخفى : انّ امر الامام عليه السلام هذا كان للارشاد لا مولويّاً ، حتّى يقال : اسماعيل شخص جليل القدر ، فكيف خالف الامام ؟ .

( « انّ اللّه عزّ وجلّ يقول : » ) في مدح النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والنّبي اسوة يلزم الاقتداء به ، لمن اراد خير الدنيا والاخرة ( « يُؤِنُ بِاللّهِ » ) اعتقاداً ( « وَيُؤِنُ لِلمُؤِنِيْنَ » ) نفعاً لهم ويصدقهم لمصلحتهم : ( « فاذا شهد عندك المؤنون » ) بأن فلاناً شارب الخمر ( « فصدقهم » )(3) في قولهم ولا تعتمد عليه وتسلّم اليه اموالك .

ص: 181


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - الامالي للصدوق : ص611 ، بحار الانوار : ج47 ص168 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

وقوله عليه السلام ، لمن أطال الجلوسَ في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنّه لم يكن شيئا أتاه برجله : « أما سَمِعتَ قَولَ اللّه ِ عَزَّ وَجلَّ : «إنّ السَمعَ والبَصَر والفُؤادَ كُلُّ

------------------

ولا يخفى : انّ تصديق المؤنين في امثال ذلك على وجهين :

الأوّل : ترتيب الاثر الشرعي عليه ، باجراء الحد على من اشتهر بانّه : يشرب الخمر ، او يزني ، او ما اشبه ذلك ، وهذا له موازينه الفقهية .

الثاني : ترتيب الاثر العرفي عليه ، بعدم الاطمئنان اليه ، فاذا شهد المؤنون على انّه : يشرب الخمر ، أو يأكل اموال الناس ، او نحو ذلك فلا يزوجه ابنته ، لان تزويجها من شارب الخمر، مكروه كراهة شديدة، ولا يودعه امواله، لأنّه معرض لاتلافها ، وهكذا .

والمراد من الاية هنا هو : الثاني والامام عليه السلام قد استدل لابنه اسماعيل بظاهر الاية ، ممّا يدلّ على حجيّة الظاهر .

( وقوله عليه السلام ، لمن اطال الجلوس في بيت الخلاء ، لاستماع الغناء ) حيث كان له جار يلهو بالغناء وكان ملاصقاً لبيت الخلاء ، فاذا ذهب للتخلّي أطال الجلوس هناك حتّى يستمع ( اعتذاراً ) منه ( بانّه ) في استماعه هذا( لم يكن شيئاً اتاه برجله ) فانّه لم يذهب إلى محل الغناء حتّى يكون مرتكباً للاثم ، بل ذهب للتخلي ، والذهاب إلى التخلي جائز شرعاً .

لكن كلامه هذا واستدلاله كان غير صحيح ، اذ الامام عليه السلام استشكل على استماعه ، لا على ذهابه إلى محل الغناء ، كمن يقف في سطح داره للاستهلال ، ثمّ ينظر إلى نساء الجيران ، فانّ نظره حرام ، لا ذهابه إلى السطح للاستهلال .

ولهذا قال له ( اما سمعت قول اللّه عزَّ وجلّ : « إِنَّ السَّمْعَ وَالبصَرَ والفُؤدَ ، كلُّ

ص: 182

اُولئكَ كان عَنهُ مَسئولاً» » .

وقوله عليه السلام في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثا « انّه زوجٌ قال اللّه عزّ وجلّ : «حَتّى تَنكِحَ زَوجا غَيرَهُ » ، وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع انه تعالى قال : « فان طَلّقها فلا جناح عليهما » .

------------------

أولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤاً »(1) ) (2) في يوم القيامة اذا ارتكب احدها حراماً ، والفؤد ايضاً له محرّمات : كالرضا بقتل الأنبياء ، والأئمّة ، والكفر ، وما أشبه ذلك و يستفاد من استدلال الامام عليه السلام : انّ ظاهر الآية كان حجّة .

( وقوله عليه السلام في ) جواب من سأله ( تحليل العبد للمطلّقة ثلاثاً ) وانّه هل يكون محلّلاً حتّى تحلّ للزوج الأوّل ؟ فقال عليه السلام : ( انّه ) أي العبد ( زوج ) عرفا - والموضوع يؤذ من العرف - و ( قال اللّه عزّ وجلّ ) في سبب التحليل ( : « حَتّى تَنكِحَ» ) أي المطلقة ( «زَوجاً غَيرَهُ»(3) » )(4) أي غير الزوج الأوّل الّذي طلّقها ثلاثاً ، وعليه فالعبد يكون محلّلاً لظاهر القرآن .

( و ) قوله عليه السلام ( في عدم تحليلها ) أي المطلقة ثلاثاً ( بالعقد المنقطع ) غير الدائم ، حين سئل عن ذلك ، فقال : - ( « انّه تعالى قال : « فان طَلّقَها » ) أي المحلّل ( « فَلا جُناحَ عَلَيهِما » ) أي المطلق والمطلقة « أنّ يَتَراجَعا »(5) - كما في الآية - فان الإمام استدلّ بظاهر الآية على عدم كفاية العقد المنقطع للتحليل، لأنّه لا طلاق فيه .

لكن يبقى الكلام : في انّه لو مات الزوج الثاني ، أو ارتدّ ، او فسخ ، او فسخت

ص: 183


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 .
3- - سورة البقرة : الآية 230 .
4- - وسائل الشيعة : ج20 ص447 ب16 ح26058 .
5- - سورة البقرة : الآية 230 .

وتقريره عليه السلام ، التمسّكَ بقوله تعالى : « والمُحصَناتُ من الَّذينَ اُوتوا الكتابَ » وأنّه نُسِخَ بقوله تعالى « ولا تُنكِحُوا المُشرِكاتِ » .

------------------

المرأة ماذا يكون الحكم ؟ إلى غير ذلك ممّا يكون محلّه في الفقه .

( و ) مثل : ( تقريره عليه السلام ) استفادة الحسن بن الجهم من ظاهر الاية :

« وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكَات »(1) ، حيث استدل بها على عدم جواز نكاح الكتابيّة وبأنّها نسخت قوله سبحانه : « وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا الكِتَاب ... »(2) »(3) .

المجوّزة لنكاح الكتابيّة ، فلم يردّ الامام الرضا عليه السلام هذا الاستدلال منه ، ولو لم يكن للقرآن ظهور لردّه الامام ، الا ترى انّه لو استدلّ باية « المص »(4) على عدم جواز نكاح الكتابية لردّه الامام عليه السلام .

وهنا كذلك ، فلو لم يكن ظهور لردعه عن ( التمسّك بقوله تعالى : «وَالمُحْصَنَات مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الكِتَاب ... » )(5) الدالّ على جواز نكاح الكتابية ( وانّه نسخ بقوله تعالى : « وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَات ... » )(6) الدالّ على عدم الجواز ، بناءاً على انّ المشرك ، يشمل الكتابي ايضاً ، لأنّه اشرك باللّه بجعل المسيح الهاً ، او بجعل عزيز ابناً للّه ، كما قال اللّه تعالى عنهم : - « وَقَالَتِ اليَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْن اللّهِ ، وَقَالَت النَّصَارَى : المَسِيْح ابْن اللّهِ ذلِكَ قَوْلهُمْ بِأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْل الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قَاتَلَهُم اللّهُ أنّى يُؤَكُوْنَ »(7) . لكن لا يخفى : انّ الشرك منصرف عن الكتابي .

كما انّ لنا كلاماً في : النسخ في القرآن ، بالمعنى المشهور ، بل انّا نقول : بقول الشيخ جواد البلاغي رحمه اللّه ومن تبعه في مسألة النسخ .

ص: 184


1- - سورة البقرة : الآية 221 .
2- - سورة المائدة : الآية 5 .
3- - وسائل الشيعة : ج20 ص534 ب1 ح26274 .
4- - سورة الاعراف : الآية 1 .
5- - سورة المائدة : الآية 5 .
6- - سورة البقرة : الآية 221 .
7- - سورة التوبة : الآية 30 .

وقوله عليه السلام : في رواية عبد الأعلى ، في حكم من عثر ، فوقع ظُفرهُ ، فَجَعَل على إصبَعِه مَرارةً : « إنّ هذا وشبهَه يُعرَفُ مِنْ كِتابِ اللّه : «ما جَعَلَ عليكُم في الدّينِ من حَرَج » ، ثمّ قال : اِمسح عليه » فأحال عليه السلام ، معرفةَ حكم المسح على إصبعه المُغطّى بالمرارة إلى الكتاب ، موميا

------------------

كما انّا ذكرنا في «الفقه» (1): جواز نكاح الكتابيّة دواماً ومتعة - وقد قال بذلك جمع - .

ثمّ انّ المحصنات لها اطلاقان :

الأوّل : الّتي تحصن فرجها عن الحرام ، فلا تزني .

الثاني : الّتي لها زوج ، والمراد في الاية هو : المعنى الاوّل .

( وقوله عليه السلام في رواية عبد الاعلى ) آل سام ( في حكم من عثر ) وسقط على الارض بسبب حجر أو نحوه ( فوقع ظفره ، فجعل على اصبعه مرارة ) الحيوان لمعالجتها فسأل الإمام عليه السلام عن انّه كيف يمسح رجله ، والحال انّ على اصبعه مرارة ؟.

فقال عليه السلام في جواب هذا السائل : - ( انّ هذا وشبهه ) والمراد بشبهة : كلّ فعل فيه حرج ، وقد ذكرنا - فيما سبق - : الفرق بين الحرج والعسر ، والضرر ، اذا قوبل أحدها بالآخر ، امّا اذا ذكر كلّ واحد على حدة ، فربّما يشمل الاخرين أيضاً ( يعرف من كتاب اللّه ) حيث قال سبحانه : ( « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »ثمّ قال ) عليه السلام : ( امسح عليه )(2) أي على نفس الشيء الّذي هو على الاظفر ( فأحال عليه السلام معرفة حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة، إلى الكتاب) العزيز (مومياً) أي مشيراً

ص: 185


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه ، كتاب النكاح : ج62 - 68 للشارح .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ح1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

إلى أن هذا لايحتاجُ الى السؤال ، لوجوده في ظاهر القرآن .

ولا يخفى أنّ استفادةَ الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة ممّا لايظهرُ إلاّ للمتأمّل المدقّق نظرا إلى أنّ الآية الشريفة إنّما تدلّ على نفي وجوب الحرج ، أعني المسح على نفس الاصبع ، فيدور الأمرُ في بادي النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح،

------------------

( إلى انّ هذا لا يحتاج إلى السؤل لوجوده في ظاهر القرآن ) فحيث انّ المسح على الجرح ، حرج ، يرفعه الشارع بحكم الاية المباركة .

لكن هل يسقط المسح رأساً حتّى على المرارة ، أو لا يسقط ، وانّما يمسح على المرارة ؟ فانّ هذا يجب ان يعرف إمّا من دليل الميسور ، وإمّا من الدليل الذّي ذكره المصنِّف قدس سره من : انّ هذا الأمر لا يحتاج إلى السؤل ، لوجوده في ظاهر القرآن ، فانّه ليس من البواطن التي لا يعرفها ، إلاّ من خوطب به ، اذ المسح على الجُرح ، لمّا كان حرجياً ، نَفَتْهُ الاية على نحو الكبرى الكلّيّة، فانّ مورد السؤل من مصاديق ذلك .

( ولا يخفى انّ استفادة الحكم المذكور ) أي لزوم المسح فوق المرارة ( من ظاهر الاية الشريفة ، ممّا لا يظهر إلاّ للمتأمّل المدقق ) وذلك ( نظراً إلى انّ الاية الشريفة انّما تدل على نفي وجوب الحرج أعني المسح على نفس الأصبع ) فانّ المسألة ذات شقين : الشق الأوّل : سلبي ، وهو عدم وجوب المسح على نفس البشرة والشق الثاني : ايجابي ، وهو وجوب المسح على ما على البشرة من المرارة.

( فيدور الأمر في بادى ء النظر بين سقوط المسح رأساً ) لانّه حرجي ( وبين بقائه ) أي المسح ( مع ) عدم ( سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح ) فيتعيّن الثاني دون الأوّل لكن حيث انّ الاية أعمّ منهما، فانّه يحتاج إلى التأمل باحد امرين:

ص: 186

فهو بظاهره لا يدلّ على ما حكم به الامام عليه السلام ، لكن يُعلمُ عند التأمّل أنّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح ، فهو ساقط دون أصل المسح ، فيصير نفيُ الحرج دليلاً على سقوط اعتبار المباشرة في المسح ، فيمسح على الاصبع المغطّى .

فاذا أحال الامامُ عليه السلام ، استفادةَ مثل هذا الحكم إلى الكتاب ، فكيف يحتاجُ نفيُ وجوب الغسل او الوضوء ، عند الحرج الشديد المستفاد

------------------

إمّا ان يكون المسح على المرارة ، مستفاداً من دليل الميسور.

وإمّا من ظاهر الاية .

لكن المصنِّف رجّح الثاني بقوله :

(فهو) أي الكتاب العزيز (بظاهره لا يدل على) تعيين (ما حكم به الامام عليه السلام) من المسح فوق المرارة ( لكن يعلم ) ذلك ( عند التأمّل ) ل( انّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح فهو ) أي الأعتبار ( ساقط دون أصل المسح ، فيصير نفي الحرج ) بسبب التأمّل المذكور ( دليلاً على سقوط اعتبار المباشرة في المسح) لا دليلاً على سقوط المسح ، اذ الحرج من المباشرة لا في أصل المسح ، فالمباشرة ساقطة ، لا اصل المسح ساقط ( فيمسح على الأصبع المغطّى ) .

لكن في هذه الاستفادة الّتي ذكرها المصنِّف خفاء ، بل لعلّ العرف يستفيدون ما ذكرناه من ضميمة دليل الميسور المرتكز في الأذهان ، وهذا القدر كاف في الاحالة إلى القرآن الحكيم ، ولا حاجة إلى الأولويّة الّتي ذكرها المصنِّف .

وعلى أي حال : ( فاذا أحال الامام عليه السلام استفادة مثل هذا الحكم ) المحتاج إلى الدقّة والتأمّل ( إلى الكتاب ) الحكيم ( فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد ) عدم وجوبهما ، امّا بعدم الجواز اذا كان الحرج يرفع

ص: 187

من ظاهر الآية المذكورة ، او غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن ، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم السلام .

------------------

الاصل ، أو عدم وجوبهما اذا كان الحرج يرفع الوجوب ، لانّ الحرج اذا كان شديداً كان عزيمة ، والاّ كان رخصه ، وكذلك الضرر ، كان الانسان اذا صام - مثلاً - أورث عماه ، فانّه يحرم صومه ، أمّا اذا صام اورث مرضه اسبوعاً - مثلاً - فانّه يجوز له الصوم ، ويجوز له الترك ، كما اشار اليه صاحب العروة ، وشرحناه هناك مفصّلاً : ( من ظاهر الآية المذكورة ) بقوله سبحانه وتعالى : - « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »(1) .

(أو غير ذلك من الاحكام التي يعرفها ) ويستفيدها ( كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن) فكيف يحتاج ذلك (إلى ورود التفسير بذلك من اهل البيت عليهم السلام) .

وممّا يدلّ على ضعف أولويّة المصنِّف ، انّه لو تمّ ما ذكره في مسألة المرارة لزم ان يقال : بانّه اذا كان كلّ اعضاء الوضوء أو الغسل ، غير ميسور غسلها ومسحها ، لزم التنزل إلى لزوم الجبيرة على الكلّ ، وذلك ما لا يقول به احد ، بل لا يقولون بذلك اذا كان عضو كامل في الغسل ، لاحد الاطراف الثلاثة مغطّى كلاً ، أو كان عضو في الوضوء ، من الوجه او اليد ، أو اليدين مغطّى ، بانّه يلزم الوضوء ، أو الغسل ، ماسحاً على المقدار المغطّى كلاً أو بعضاً ، على ما ذكرناه .

أمّا اذا قلنا بما ذكرناه : من انّ المسح في الرواية ، يستفاد من دليل الميسور ، لم يكن محذور ، حيث انّ المسح على عضو كامل من أعضاء الغسل ، أو على كلّ الأعضاء ، وكذلك بالنسبة إلى الوضوء ، ليس ميسوراً عرفاً عن الغسل .

ص: 188


1- - سورة الحج : الآية 78 . انظر موسوعة الفقه ج34 - 37 ، كتاب الصوم للشارح .

ومن ذلك ماورد من : « أنّ المصلّيَ أربعا في السفر إن قُرئت عليه آيةُ القصر وجب عليه الاعادةُ ، وإلاّ فلا » ، وفي بعض الروايات « إن قرئت عليه وفُسرت له » .

والظاهرُ ولو بحكم أصالة الاطلاق في باقي الروايات

------------------

( ومن ذلك ) أي من الاخبار الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب ، ممّا ورد في لسانهم عليهم السلام ، ويستفاد منه عدم الخصوصية في مورده ، بل هو يشمل كلّ الكتاب العزيز باستثناء المتشابهات ( ما ورد من « إنّ المُصَلّي أربَعاً في السَفَر ، إن قُرأت عَلَيه آيَةُ القَصر ، وَجَب عَلَيه الأعادَة وإلاّ فَلا » )(1) فيدل هذا الخبر على أمرين :

الأوّل : انّ حكم القصر ، معلق على العلم لا انّه شامل للعالم والجاهل ، كأكثر الاحكام ، الثاني : انّ ظاهر القرآن حجّة .

وهكذا ما ورد من إحالة أمير المؤنين عليه السلام ، شارب الخمر على قرائة القرآن عليه وعدمه ، فان قريء عليه حُدَّ ، أي حدّ الشارب ، والاّ لم يُحدّ ، وذلك ، فيما كان عمر يريد حدّه - كما في الروايات والتواريخ ، ( وفي بعض الروايات : « ان قرأت عليه وفسّرت له »(2) ، و ) هنا توهّم ندفعه بقولنا : لا يقال : انّ ظاهر فسرت له في الخبر الثاني ، هو ما ذكره الأخباري : من انّ اللازم في القرآن الكريم ، تفسير الائمّة عليهم السلام ، فهذا الخبر دليل على قول الاخباري ، لا على قول الاصوليين ، الذين يقولون بحجيّة ظواهر القرآن بنفسها ، وبدون تفسير .

لانّه يقال : ( الظاهر ) ظهوراً ( ولو بحكم اصالة الاطلاق في باقي الروايات ) التي أحالت الاحكام على القرآن ، بدون أن يذكر في تلك الروايات ، انّ اللازم هو

ص: 189


1- - الكافي فروع : ج3 ص347 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص353 ب206 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص145 ب23 ح27 و ج3 ص226 ب13 ح80 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص435 ح1265 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص506 ب17 ح11300 .

أنّ المراد من تفسيرها له بيانُ أنّ المراد بقوله تعالى : « فليس عليكم جُناحَ ان تَقصُروا » ، بيانُ الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيّا على التخفيف ، فلا ينافي تعيّن القصر على المسافر وعدم صحّة الاتمام منه ، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاجُ إلى التفسير بلا شبهة ، وقد ذكر زرارة ومحمّد بن مسلم ، للامام عليه السلام : « إنّ اللّه تعالى قال : « لاجناح » ،

------------------

العمل بظاهر الاية ، بعد التفسير ، فلا يكون هذا الخبر المشتمل على « فسرت له » مقيِّداً لتلك الاخبار المطلقة ، بل ( انّ المراد من تفسيرها له ) في هذا الخبر : ( بيان أنّ المراد بقوله تعالى : «فَلَيسَ عَلَيكُم جُنَاَحٌ أنْ تقْصُرُوا »(1) بيان الترخيص في اصل تشريع القصر وكونه ) أي التشريع (مبنيّاً على التخفيف ، فلا ينافي ) أصل التشريع مع ( تعين القصر على المسافر ، وعدم صحّة الاتمام منه ) .

والحاصل : انّ المحتاج إلى التفسير ليس أصل الظهور ، بل شيء فوق ذلك ، وهو : انّ القصر لازم ، لا انّه جائز ، واللزوم لا يستفاد من ظاهر الاية ، فالرواية تدل على حجيّة ما يستفاد من القرآن ، في غير ما يكون اللفظ ، أعمّ ، وهو ما نريده .

نعم ، اذا كان ظاهر القرآن محتمل لأمرين ، احتاج إلى التفسير ، مثلاً : اذا قال القرآن «الماء » لم يحتج ذلك الى التفسير ، بخلاف ما اذا قال : « العين » حيث انّ العين مشترك ليس كالماء ، الّذي لا اشتراك فيه بين معنيين .

( و ) من المعلوم انّ ( مثل هذه المخالفة للظاهر ) أي كون القصر واجباً لا جائزاً (يحتاج إلى التفسير ، بلا شبهة ) وهو خارج عن محل كلامنا ، فلا يستشكل الاخباري علينا بهذه الرواية التي ورد فيها قوله عليه السلام : « وفسرت له » .

( وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامام عليه السلام : انّ اللّه تعالى قال : « لا جناح »

ص: 190


1- - سورة النساء : الآية 101 .

ولم يقل : افعلوا ، فاجاب عليه السلام ، بأنّه من قبيل قوله تعالى : « فمَن حَجّ البَيتَ او اعتَمَرَ فلا جُناحَ عليه أن يَطَّوَّفَ بهما » .

------------------

ولم يقل : افعلوا ) فكيف يناسب نفي الجناح اللزوم للقصر ؟ .

( فأجاب عليه السلام : بانّه من قبيل قوله تعالى : « فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(1) ) مع انّ الطواف واجب ، وليس برخصة ، فلا جناح في آية الطواف ، مثل لا جناح في آية القصر ، فكما انّ لا جناح في آية الطواف ، معناه عدم الحرمة ، الأعمّ من الوجوب والجواز ، وانّما يستفاد الجواز والوجوب من الخارج ، كذلك لا جناح في آية القصر .

وذلك انّ الناس كانوا يتوهّمون حرمة القصر في السفر ، وانّ تشريع الأربع سفراً وحضراً ، فنفى اللّه سبحانه الحرمة ، وكذلك كان النّاس يتوهّمون حرمة السعي ، أي : الطواف بالصفا والمروة ، فنفى اللّه تلك الحرمة .

وإليك نصوص لبعض الروايات المتقدمة :

أمّا رواية المسح على المرارة ، فعن عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : عَثَر بِي ، فَانقَطَعَ ظِفرِي ، فَجَعَلتُ عَلى اصبِعي مَرارَة ، كَيفَ أصنَعُ بِالوضوءِ للصَلاةِ ؟ .

قال : فقال عليه السلام : « يُعرَف هذا وَأشباهُهُ ، مِن كِتاب اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى : « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »(2) » امسح عليه (3) .

وأمّا رواية القصر والتمام ، فعن أبي جعفر محمد بن عليّ عليهماالسلام ، إنّه سئل عن

ص: 191


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب11 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32.

...

------------------

الصلاة في السفر ، كيف هي ؟ وكم هي ؟ .

فقال : انّ اللّه تبارك وتعالى يقول : « وإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا مِن الصَّلاَة ... »(1) .

قال : فالتقصير في السفر واجب ، كوجوب التمام في الحضر .

قيل له : يابن رسول اللّه ، انّما قال اللّه : « فلاَ جُنَاح عَلَيْكُم» ولم يقل : اقصروا ، فكيف أوجب ذلك ، كما أوجب التمام ؟ .

فقال عليه السلام : أوَ ليس قد قال اللّه عزّوجلّ : « انَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللّهِ ، فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(2) .

أفلا ترى انّ الطواف بهما واجب مفروض ؟ لانّ اللّه ذكرهما بهذا في كتابه ، وصنع ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكذلك التقصير في السفر ، ذكره اللّه ، هكذا في كتابه ، وقد صنعه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم (3).

وأمّا رواية السعي ، فعن بعض الأصحاب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سئلته عن السعي بين الصفا والمروة ، فريضة هو أم سنّة ؟ .

قال: فريضة ، قال : قلت : أليس اللّه يقول : « فَلاَ جُنَاحَ عليْهِ أن يَطّوّفَ بهمَا»(4) ؟.

قال : كان ذلك في عمرة القضاء ، وذلك انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام ، فجاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فسألوه وقيل له : انّ فلاناً لم يطف ، وقد أعيدت

ص: 192


1- - سورة النساء : الآية 101 .
2- - سورة البقرة : الآية 158 .
3- - وسائل الشيعة : ج5 ص538 ح11330 .
4- - سورة البقرة : الآية 158 .

وهذا أيضا يدلّ على تقرير الامام عليه السلام ، لهما في التعرّض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدَخل والتصرّف في ظواهره .

ومن ذلك

------------------

الاصنام ، قال : فأنزل اللّه : - « « إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ علَيْهِ ، أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(1) » (2) أي : والاصنام عليهما .

وفي رواية محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول : «انّ الصّفَا والمروةَ مِن شعَائرِ اللّهِ » يقول : لا حرج عليكم أن يطوف بهما ، فقد قالوا : كنّا نطوف بهما في الجاهلية ، فاذا جاء الاسلام ، فلا نطوف بهما ، قال : وأنزل اللّه عز وجل هذه الاية .

وفي رواية أخرى ، عن الصادق عليه السلام : انّه كان على الصفا والمروة أصنام ، فلمّا أن حجّ الناس لم يدروا كيف يصنعون ، فانزل اللّه هذه الاية ، فكان الناس يسعون ، والاصنام على حالها ، فلمّا حجّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، رمى بها (3) .

( و ) كيف كان ، فانّ ( هذا أيضاً ، يدلّ على تقرير الامام عليه السلام لهما ) أي لزرارة ومحمد بن مسلم ( في التعرض ، لاستفادة الاحكام من الكتاب ، والدّخل والتصرّف في ظواهره ) اذ لو لم يكن يستفاد من الكتاب شيء ، لم يكن مكان ، لاعتراض زرارة ومحمد بن مسلم ، على الامام عليه السلام في الاستفادة من الاية المباركة ، ولم يكن الامام يجيب بمثل هذا الجواب ، بل كان يجيب بأنّ القرانّ لا ظاهر له ، فلا حقّ لكما في الاستفادة منه .

( ومن ذلك ) أي : من الاخبار الدالة على حجّيّة ظواهر القرآن ، في غير موارد

ص: 193


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - وسائل الشيعة : ج13 ص469 ب1 ح18227 .
3- - بحار الانوار : ج21 ص116 باب فتح مكه ح11 .

استشهادُ الامام عليه السلام بآيات كثيرة ، مثل الاستشهاد لحليّة بعض النسوان بقوله تعالى : « عبدا مَملوكا لايَقدِرُ عَلى شيء » .

ومن ذلك الاستشهادُ بحليّة بعض الحيوانات بقوله تعالى : « قُل لا أجِدُ فيما اُوحيَ إليَّ مُحَرَّما ، الآية » ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى .

------------------

الاستثناء ( استشهاد الامام عليه السلام بآيات كثيرة ) تدلّ على حجيّة ظواهر القرآن ( مثل الاستشهاد ، لحلية بعض النسوان ، بقوله تعالى : « وَأَحَلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذَلِكُم ... » (1) ) .

( و ) مثل استشهاد الامام عليه السلام أيضاً ( في عدم جواز طلاق العبد ) لزوجته بدون اجازة مولاه ( بقوله تعالى : « عَبْداً مَمْلُوْكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء » (2) ) حيث انّ الطلاق شيء فتشمله الاية الكريمة .

( ومن ذلك الاستشهاد بحليّة بعض الحيوانات ، بقوله تعالى : « قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً »(3) الاية ، إلى غير ذلك ، ممّا لا يحصى ) لمن تتبّع الروايات .

كقول أمير المؤنين عليه السلام ، في خطبته المعروفة بالشقشقيّة : كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه حيث يقول : « تِلْكَ الدّارُ الآخرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِيْنَ لاَ يُرِيْدُوْنَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً »(4) » (5) .

وقوله عليه السلام في خطبة اُخرى - كما في نهج البلاغة : « والصَلاةُ عَلى نَبيّهِ ، الّذي أرسَلَهُ بِالقُرآن ، لِيَكونَ لِلعالَمين نَذيراً وَانزَلَ عَلَيه القُرآنَ لِيكونَ إلى الحَقّ هادياً ، وَبرَحمَتهِ بَشيراً ، فَالقُرآن آمِر زاجِر ، وَصامِت ناطِق، حُجّةُ اللّهِ عَلى خَلقِه ، أخَذَ عَلَيهِم مِيثاقَه »(6) إلى آخر كلامه عليه السلام .

ص: 194


1- - سورة النساء : الآية 24 .
2- - سورة النحل : الآية 75 .
3- - سورة الانعام : الآية 145 .
4- - سورة القصص : الآية 83 .
5- - نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية .
6- - نهج البلاغة : خطبة رقم 147 .

...

------------------

وعن ابن سنان ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن القرآن والفرقان ؟ .

قال : القُرآنُ ، جُملَةُ الكِتاب وَأخبارُ ما يَكون ، وَالفُرقانُ ، المُحكَمُ الّذي يُعمَلُ بِه ، وَكُلّ مُحكَم فَهوَ فُرقانٌ (1) .

وعن أبي نصير ، انّه عليه السلام ، قال : إنّ القُرآنَ مُحكَمٌ وَمُتَشابَهٌ فَامّا المُحكَم فَنؤِن بِهِ وَنَعمَل بِه وَنَدينُ بِه ، وَأمّا المُتَشابَه فَنؤِنُ بِه وَلا نَعمَلُ بِه (2) .

وفي حديث ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إذا التَبَسَت عَلَيكُم الفِتَن ، كَقِطَع اللّيل المُظلِم ، فَعَلَيكُم بِالقُرآن ، فانّهُ شافِعٌ مُشَفّع ، وَماحِل مُصَدّقٌ ، مَن جَعَلَه أمّامَه قادَه إلى الجَنّةِ ، وَمَن جَعَلَه خَلفَه ساقَه إلى النّار ، وَهوَ الدّليلُ ، يَدلّ عَلى خَير سَبِيل ، وَهو كِتاب فِيه تَفصِيلٌ وَبَيان وَتَحصِيل ، وَهوَ الفَصل ، وَلَيسَ بالهَزل ، وَلَه ظَهر وَبَطن ، فَظاهِره حُكمٌ ، وَباطِنه عِلمٌ (3) .

وعن الصادق عليه السلام : لَو إنّ رَجُلاً دَخَل فِي الاسلام ، فَأقَرّ بِه ، ثُمّ شَرِب الخَمرَ ، وَزَنا ، وَأكَل الرّبا ، وَلَم يَتَبَيّن لَه شَيء مِن الحَلال وَالحَرام ، لَم أقِم عَلَيه الحَدّ ، إذا كان جاهِلاً ، إلاّ أن تَقوم عَلَيه البَيّنَة ، إنّه قَرَء السّورَة التي فيها الزّنا ، وَالخَمرَ ، وَأكل الرّبا (4) ، وعن الصادق عليه السلام ، انّه قال في ذبائح اهل الكتاب : قَد سَمِعتُم ما قال اللّهُ تَعالى فِي كِتابِه ؟ . قالوا : نُحِبّ أن تُخبِرَنا ، فَقالَ عليه السلام لهم : لا تَأكُلوها (5) .

وهكذا ما ورد في قصة ابن الزبعرى ، لما سمع قوله سبحانه : - « انكمْ وَمَا

ص: 195


1- - بحار الانوار : ج92 ص15 ب1 ح11 .
2- - بحار الانوار : ج23 ص191 ب10 ح12 مع تفاوت .
3- - وسائل الشيعة : ج6 ص171 ب3 ح7657 .
4- - وسائل الشيعة : ج28 ص32 ب14 ح34141 .
5- - وسائل الشيعة : ج24 ص59 ب27 ح29991 .

الثاني : من وجهي المنع : إنّا نعلمُ بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك ممّا يُسقِطُها عن الظهور ، وفيه :

أوّلاً : النقضُ بظواهر السنّة ، فانّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في أكثرها.

وثانيا : انّ هذا لايوجبُ السقوط ،

------------------

تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللّهِ ، حَصَبُ جَهَنَّم » (1) .

اشكل على النّبيّ : بأن ابن مريم كان يُعبد من دون اللّه ، فهل هو حصب جهنم ؟ . وأجابه النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : بأنّ « ما » لما لا يعقل .

إلى غيرها من مئات الروايات ، التي يجدها المتتبّع في مثل تفسير البرهان ، وغيره ، من الكتب المعنيّة بهذا الشأن .

( الثاني من وجهي المنع ) الذين اقامهما الاخباري ، لعدم جواز العمل بظواهر القرآن ، هو : ( انّا نعلم ) اجمالاً ( بطروّ التقييد والتخصيص ، والتجوز ، في أكثر ظواهر الكتاب ) وانّما نعلم ذلك ، لما نشاهده من الاطلاقات المقيدَّة ، والعمومات المخصصة ، والقرائن الداخلية والخارجية التي تصرف الظواهر إلى المجازات .

( وذلك ) العلم الاجمالي ( ممّا يسقطها عن الظهور ) فانها مجملات ، والمجمل لا يجوز التمسّك به ، بأفادة مراد المتكلّم .

( وفيه ) ما يلي : - ( اولاً : النقض بظواهر السنّة ، فانّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في اكثرها ) فانّ العلم الاجمالي الموجود في الكتاب ، هو بعينه موجود في السنة .

فلماذا يأخذ الاخباري بظواهر السنّة ، ولا يسقط ظواهر السنّة عن الحجّيّة ؟ .

ثمّ ما هو الفارق بين الكتاب وبين السنّة ؟ .

( وثانياً ) بالحل وهو : ( انّ هذا) العلم الاجمالي ( لا يوجب السقوط )

ص: 196


1- - سورة الانبياء : الآية 98 .

وإنّما يوجبُ الفحصَ عمّا يوجبُ مخالفة الظاهر .

فان قلت : العلمُ الاجماليّ بوجود مخالفات الظواهر لايرتفع أثرُه ، وهو وجوبُ التوقّف بالفحص ، ولذا لو تردّد اللفظُ بين معنيين

------------------

عن الحجّيّة ، وانّما لا يوجب السقوط عن الحجّيّة : لانحلال العلم الاجمالي بما نجده في الروايات ، وغيرها ، من التقييد ، والتخصيص ، والقرآئن الصارفة .

نعم ، ( وانّما يوجب ) هذا العلم الاجمالي ( الفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر ) كما هو حال السنّة ، فانّ الانسان اذا وجد رواية في السُنّة مطلقة ، أو عامّة ، أو ظاهرة ، فانّه لا يجوز له العمل بتلك الرواية ، إلاّ بعد الفحص ، فكذلك الكتاب ليكن حاله حال السنّة ، في انّه اذا وجد ظاهراً لا يعمل به حتّى يفحص عن سائر الخصوصيّات ، مثلاً : اذا رأى الانسان في الاية الكريمة : « أحَلَّ اللّهُ البيعَ »(1) ، وجب عليه أن يفحص حتّى يجد حرمة بيع الرّبا ، وحرمة بيع الكالي بالكالي ، وحرمة بيع المجهول، وحرمة بيع الغرري ، وما اشبه ، وبعد ذلك يتمسّك باطلاق البيع . وهكذا في قوله سبحانه : « وحَرَّمَ الرِّبَا »(2) وغير ذلك .

( فان قلت : العلم الاجمالي بوجود مخالفات الظواهر ، لا يرتفع أثره ) أي : اثر ذلك العلم الاجمالي ( وهو وجوب التوقف بالفحص ) ، وذلك لانّا نعلم انّ الأخبار ، التي تكشف عن : المخصص ، والمقيد ، والمجاز لم تصل كلّها الينا ، من جهة اخفاء الظالمين لجملة كبيرة منها بالحرق ، كما أحرقوا المكتبات ، أو بقتل الرواة ، أو بخوف الرواة من الاظهار ، حتّى ماتوا ولم يبيّنوا كثيراً ممّا وصل اليهم .

( ولذا لو تردّد اللّفظ بين معنيين ) بأن تردّد - مثلاً - الصعيد ، بين أن يكون موضوعاً لمطلق وجه الارض ، حتّى يجوز التيمم بالرمل والحجر وغيرذلك ،

ص: 197


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة البقرة : الآية 275 .

او عُلِمَ إجمالاً بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الآخر - كما في العامّين من وجه وشبههما -

------------------

أو انّه موضوع للتراب الخالص فقط ، حتّى لا يجوز التيمّم بغير التراب ، فانّه اذا وردت رواية تدلّ على أحد المعنيين ، أمكن ان تكون هناك رواية اُخرى تضيّق أكثر ، أو توسّع أكثر .

فاذا قالت رواية - مثلاً - : انّ الصعيد ، مطلق وجه الارض ، فانّا نحتمل وجود رواية اُخرى لم تصل الينا ، خصصت مطلق وجه الارض بغير أرض النورة .

أو قالت رواية - مثلاً - : انّ الصعيد خاص بالتراب ، فقط ، فانّا نحتمل ان تكون هناك رواية اُخرى لم تصل الينا تقول : بأن أرض النورة يجوز التيمّم بها أيضاً ، كما نشاهد أمثال هذه الامور في روايات الصوم ، فانّه قد وردت رواية تقول : « إنّما تُفْطِر الصائم : الأكل ، والشرب ، والجماع » فمع انّها حاصرة بكلمة « إنّما » هناك بعض الروايات الاُخر ، الدالّة على وجود مفطّرات اُخر (1) ، وهكذا .

( أو عُلِمَ اجمالاً بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الاخر ، كما في العامّين من وجه ) بأن قال الشارع - مثلاً : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم الفساق ، حيث يتعارضان في مادة الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، حيث لا نعلم : هل انّه يجب اكرامه ، بتخصيص اكرم العلماء لا تكرم الفساق ، أو يحرم اكرامه ، بتخصيص لا تكرم الفساق لأكرام العلماء ؟ فنعلم اجمالاً : بأنّ أحد الظاهرين في مادة الاجتماع مخالف للواقع ، لانّ العام الاخر خصّصه ، وهكذا في سائر موارد العموم من وجه .

( وشبههما ) من تعارض الظاهرين ، كما اذا قال الشارع ، « ثَمَنُ العَذَرَةِ

ص: 198


1- - راجع وسائل الشيعة : ج10 ص32 وما بعدها .

وجب التوقّفُ فيه ولو بعد الفحص .

قلت : هذه شبهةٌ ربما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص عن المخصّص في العمومات بثبوت العلم الاجماليّ بوجود المخصّصات .

------------------

سُحْتٌ »(1) ، وقال في كلام آخر : « لا بَأسَ بِبَيعِ العَذَرَة »(2) .

حيث انّه يجب رفع اليد عن أحد الظاهرين ، اذ لا يمكن التناقض ، بانّه يجوز البيع ولا يجوز البيع ، فامّا ان نقول : بأن « لابأس » تقيّة ، وامّا ان نقول : انّ «سحت» تقيّة ، أو نجمع بينهما بسائر انحاء الجمع ، التي ذكروها في الفقه.

والحاصل : انّ الفحص أيضاً لا ينفع ، لانّه بعد وجود الاحتمال ( وجب التوقف فيه ، ولو بعد الفحص ) لبقاء التردد ( قلت : ) اولاً : هذا الاشكال وارد نقضاً ، بالنسبة إلى الروايات ايضاً فكما تعملون في الروايات ، اعملوا بظاهر القرآن ، فانّ الاشكال مشترك الورود ، فكيف تفصّلون بين القرآن وبين ظواهر الروايات ؟ .

ثانياً : نقول : ( هذه شبهة ربّما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص عن المخصص في ) العمل على ( العمومات ) والمطلقات ( بثبوت العلم الاجمالي بوجود المخصصات ) فانّ من قال : بكفاية الفحص في العمل بالعموم ، والمطلق ، وما اشبه ، أشكل عليه بهذا الاشكال وهو : انّ أثر العلم الاجمالي ان كان لا يزول بالفحص ، فما هي فائدة الفحص ؟ وذلك لانّا نعلم بوجود المخصص قبل الفحص ، وبعد الفحص نطّلع على بعض المخصصات ، أمّا اطلاعنا على كلّها حتّى نعلم بانّه لا مخصص ، فلا يحصل لنا مثل هذا العلم ، وكما لا يجوز العمل

ص: 199


1- - التهذيب : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 وح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فانّ العلم الاجماليّ إمّا أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيليّ بوجود عدّة مخصّصات ، وإمّا أن لايبقى ، فان بقي فلا يرتفع بالفحص وإلاّ فلا مقتضي للفحص.

------------------

بالعام مع العلم بوجود المخصص ، لا يجوز العمل بالعام مع الاحتمال العقلائي بوجود المخصص .

هذا ، وقد ذكر المصنِّف قدس سره تقريراً آخر للشبهة بقوله : ( فانّ العلم الاجمالي ) بوجود المخصص ( امّا أن يبقى أثره ) وهو الاجمال الموجب للتوقف ( ولو بعد ) الفحص ، والفحص ( العلم التفصيلي بوجود عدّة مخصّصات ، وامّا ان لا يبقى ) أثره (فان بقي ) الاثر ( فلا يرتفع بالفحص ) اذ الفرض انّه حتّى بعد الفحص ، يبقى الاجمال ( والاّ ) بأن لم يبق الأثر ( فلا مقتضي للفحص ) من الأوّل .

وان شئت قلت في تقرير الاشكال: انّه هل العلم الاجمالي أوجب الاجمال أم لا؟.

فان أوجب الاجمال ، فبعد الفحص ، ايضاً يبقى الاجمال ، اذ المجمل لا يخرج عن الاجمال بالفحص ، كما انّ الرمز لا يخرج بالفحص عن كونه رمزاً ، فاذا وردت - مثلاً - رواية تفسير « ألمص » وعرفنا المراد من ألمص ، فانّ « ألمص » يبقى رمزاً ، وانّ لم يوجب العلم الاجمالي الاجمال ، فلا اجمال في الظاهر حتّى يحتاج إلى الفحص .

ولا يخفى : انّا ذكرنا تقريرين للاشكال :

التقرير الأوّل : مسألة بقاء الاحتمال الموجب لعدم جواز العمل .

التقرير الثاني : مسألة انّ الاجمال امّا : ان لا يكون مطلقاً ، فلا حاجة الى الفحص ، وامّا أن يكون مطلقاً ، فلا فائدة في الفحص .

وحاصل الجواب عن الاشكال الأوّل : انّ الاحتمال لا يضر بعد كونه طريقة

ص: 200

وتندفع هذه الشبهةُ : بأنّ المعلومَ هو وجودُ مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهرُ تفصيلاً بعد الفحص ، وأمّا وجودُ مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغيرُ معلوم ، فحينئذٍ فلا يجوز العملُ قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصّص يظهر بعد

------------------

العقلاء ، في العمل بعمومات المولى ومطلقاته .

وعن الاشكال الثاني : انّه لا اجمال من الأوّل ، وانّما يجب الفحص ، لانّه اذا كان طريقة المولى الاعتماد على المنفصلات ، لزم الفحص حتّى اليأس ، وبعد ذلك لا يتمكن المولى من العقاب ، لوجود العذر للعبد ، فيما اذا خالف الواقع ، الّذي لم يصل اليه ، وقد فحص حتّى يئس .

والمصنّف أجاب : بأنّ قبل الفحص : عِلمٌ ، وبعد الفحص : احتمالٌ ، والاحتمال لا يضرّ ، بخلاف العلم .

( وتندفع هذه الشبهة ، بأنّ المعلوم هو : وجود مخالفات ) من المخصصات والمقيدات والصارفات للظواهر ( كثيرة في الواقع فيما بايدينا ) من المخصصات والمقيدات والصارفات ( بحيث تظهر ) تلك المخالفات ( تفصيلاً بعد الفحص ) بحث يسقط العلم الاجمالي .

( وامّا وجود مخالفات ) اُخر ، غير هذه المخالفات ، التي ظفرنا عليها ( في الواقع زائداً على ذلك ) الّذي وجدناه ( فغير معلوم ) أي : انّ العلم يسقط ، وبسقوط العلم يجوز العمل ، وان بقي الاحتمال .

( فحينئذٍ ) أي : اذا انحصر الأمر في الاحتمال بعد الفحص ، بينما كان علم قبل الفحص ( فلا يجوز العمل ) بالظواهر والعمومات والمطلقات ( قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصص ) بين الأخبار المخصصة والمقيدة والصارفة ( يظهر بعد

ص: 201

الفحص ، ولا يمكن نفيُه بالأصل لأجل العلم الاجماليّ ، وأمّا بعد الفحص فاحتمالُ وجود المخصّص في الواقع يُنفى بالأصل السالم عن العلم الاجماليّ ، والحاصلُ : أنّ المصنِّف لايجد فرقا بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

------------------

الفحص ) .

لكن هذا الاحتمال - قبل الفحص - مقترن بالعلم الاجمالي ( ولا يمكن نفيه ) أي : الاحتمال المقترن بالعلم الاجمالي ( بالأصل ، لاجل العلم الاجمالي ) بالمخصص .

هذا قبل الفحص ( وامّا بعد الفحص ) فيزول العلم الاجمالي ويبقى مجرّد الاحتمال ، ومجرّد الاحتمال غير المقترن بالعلم الاجمالي لا يكون ضاراً.

( فاحتمال وجود المخصّص في الواقع ) في الاخبار التي لم تصل الينا ، اذا فحصنا فحصاً عرفيّاً ( يُنفى بالاصل ، السالم عن العلم الاجمالي ) .

فالفارق هو العلم الاجمالي فانّ احتمال وجود : المخصِص ، والمقيد ، وما اشبه ، قبل الفحص ، لا يمكن نفيه بالاصل ، لأجل العلم الاجمالي ، اذ الاصل لا يجري في أطراف العلم الاجمالي ، كما حُقِقَ في موضعه .

وأمّا بعد الفحص بالقدر المقرر في موضعه ، فيزول العلم الاجمالي ، وان بقي الاحتمال ، لكن مثل هذا الاحتمال يجري في نفيه الاصل .

فاحتمال وجود المخصّص ، أو المقيد ، في الواقع ، بالنسبة إلى الاخبار التي لم تصل الينا ، والقرائن التي اختفت عنا ، يُنفى بالاصل السالم عن العلم الاجمالي ، ويبقى الاحتمال المجرّد ، والاحتمال المجرّد لا يعتني به العقلاء ، وقد جرى الشارع على الطريقة العقلائية .

( والحاصل : انّ المصنّف لا يجد فرقاً بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

ص: 202

الفحص ولا بعده .

ثم إنك قد عرفتَ أنّ العمدةَ في منع الأخباريّين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبارُ المانعةُ عن تفسير القرآن ، إلاّ أنّه يظهر من كلام السيّد الصدر شارح الوافية ، في آخر كلامه ، أنّ المنعَ عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل ، والعمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، حيث قال - بعد إثبات أنّ في القرآن محكمات

------------------

الفحص ولا بعده ) فقبل الفحص لا يجوز العمل بكليهما ، وبعد الفحص يجوز العمل بكليهما .

( ثمّ انّك قد عرفت : انّ ) ادلّة الاخباريين على عدم جواز العمل بظواهر القرآن متعدّدة لكن ( العمدة في منع الاخباريّين من العمل بظواهر الكتاب ، هي الاخبار المانعة عن تفسير القرآن ) بالرأي وانّ ذلك يشمل العمل بظواهر القرآن ، وقد أجبنا عنه سابقاً .

( الاّ انّه يظهر من كلام السيّد الصّدر ، شارح الوافية ، في آخر كلامه ) الّذي سننقله عن قريب ان شاء اللّه تعالى : ( انّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب ، هو مقتضى الاصل ) أي انّ اصالة حرمة العمل بالظنّ ، شامل لظواهر الكتاب أيضاً .

( و ) ان قلت : فماذا يصنع الاخباريون في العمل بظواهر الاخبار ، مع انّها ايضاً ظنون ، فاصالة حرمة العمل بالظنّ تشملها أيضاً ؟ .

قلت : ( العمل بظواهر الاخبار خرج بالدليل ) فالاستثناء في هذا الجانب لا في ذلك الجانب ( حيث قال ) السيد الصدر : ( بعد اثبات انّ في القرآن محكمات ) كقوله سبحانه وتعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(1) ، وقوله سبحانه وتعالى : « إنّ اللّهَ بِكُلِّ

ص: 203


1- - سورة الاخلاص : الآية 1 .

وظواهر ، وأنّه ممّا لايصحّ إنكاره ، وينبغي النزاعُ في جواز العمل بالظواهر وأنّ الحقّ مع الأخباريين - ما خلاصته : « إنّ التوضيحَ يظهرُ بعد مقدّمتين :

الاولى : انّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الافهام ،

------------------

شَيء عَلِيْم »(1) ، وقوله سبحانه وتعالى : « إنَّ اللّه عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْر »(2) ، إلى غيرها من الآيات المحكمات .

( وظواهر ) والفرق بين المحكم والظاهر : انّ المحكم نصّ ، والظاهر ظاهر ، والظواهر أمثال : الاوامر ، والنواهي ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبيّن ، والعام والخاص ، وما اشبه من الالفاظ الّتي لها ظاهر باستقلال ، او ظاهر بضميمة .

كما انّه في القرآن أيضاً قسم ثالث ، وهي الرموز ، كأوائل السور ( وانّه ممّا لا يصحّ انكاره ) .

قال السيد : ( وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر ) فقط ، أمّا المحكمات ، فلا اشكال في العمل بها ، كما انّ الرموز لا اشكال في عدم العمل بها ( وانّ الحقّ مع الاخباريين ) .

قال : ( ما خلاصته : انّ التوضيح يظهر بعد مقدمتين ) .

المقدمة ( الاولى : انّ بقاء التكليف ) بالواجبات ، والمحرّمات ، والمستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، فانّه من الاحكام الخمسة أيضاً ، ويسمّى المجموع : تكليفاً ، ولو باعتبارٍ مّا ، ( ممّا لا شك فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه ) أي بمقتضى التكليف ( موقوف على الافهام ) فيجب على الشارع بيان أحكامه الخمسة ،

ص: 204


1- - سورة البقرة : الآية 231 .
2- - سورة لقمان : الآية 23 .

وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنيّة ، إذ مدارُ الافهام على إلقاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون وإن كان احتمالُ التجوّز وخفاء القرينة باقيا .

------------------

والاحكام الوضعية منها اذا قلنا انّ الاحكام الوضعية ليست مستقلّة ، لانّ هناك خلافاً بين الأعلام في ذلك ، كما سيأتي في هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى : ( وهو ) أي : الافهام ( يكون في الاكثر بالقول ، ودلالته ) أي : دلالة القول ( في الاكثر تكون ظنيّة ، اذ مدار الأفهام على القاء الحقائق مجرّدة عن القرينة ) فانّ العقلاء ، انّما يستعملون الالفاظ في مقام التفهيم والافهام ، ويريدون المعاني الظاهرة منها ، بدون نصب قرينة تدلّ على مرادهم ، وانّما يكتفون بالظاهر .

نعم ، اذا ارادوا خلاف الظاهر ، نصبوا القرائن ، الّتي تدلّ على ذاك المراد ، المخالف للظاهر .

والحاصل : انّه اذا اختلفت الارادة الجدّيّة ، والارادة الاستعماليّة ، نصبوا القرينة على الارادة الجدّية، والاّ بأن كانت الارادة الجدّية ، والارادة الاستعمالية متطابقتان، اكتفوا باستعمال اللفظ ( و ) ذكروا الألفاظ ( على ما يفهمون ) أي يفهمه العقلاء .

هذا ( وان كان احتمال التجوّز ) أي : ارادة خلاف الظاهر مجازاً ( وخفاء القرينة باقياً ) لوضوح انّ فهم مراد المتكلّم ، انّما يكون من ظاهر اللفظ ، وذلك لا ينافي احتمال ارادة الخلاف ، سواء في الخطابات المشافهة ، او في غير المشافهة ، بل احتمال ارادة الخلاف في الخطابات غير المشافهة أقرب لاحتمال وجود قرينة اختفت عن المخاطب .

وحاصل هذه المقدّمة ، اربعة أمور :

ص: 205

الثانية : انّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : « أنا أستعمل العمومات ، وكثيرا ما اُريدُ

------------------

الأوّل : التكليف باق على عهدة المكلّفين .

الثاني : انّ العمل بالتكليف موقوف على التفهيم والتفهم .

الثالث : انّ التفهيم والتفهم غالباً يكون بسبب الالفاظ .

الرابع : دلالة الالفاظ غالباً ظنّيّة ، لاختفاء القرائن التي كانت بين المتكلّم والمخاطب .

المقدمة ( الثانية ) : انّ ظواهر القرآن كلّها من المتشابه ، والمتشابه لا يجوز العمل به .

أمّا الصغرى : وهي انّها متشابهة ، فلأن الشارع لم يعتمد على القرائن المتصلة فيكلماته ، بل قال العام ، و اراد الخاص ، أو قال المطلق ، واراد المقيد ، كما هو دأب الشارع في كلامه .

وأمّا الكبرى : وهي انّ المتشابه لا يجوز العمل به ، فلانّ اللّه نهى عن العمل بالمتشابه ، كما سيأتي في الاية الكريمة ، وكذلك النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، نهى عن التفسير بالرأي ، وهكذا العقلاء لم يجوّزوا العمل بالظنّ ، إلاّ ما خرج بالدليل ، والظواهر من المستثنى منه ، لا من المستثنى .

وهذا هو حاصل ما ذكره السيد الصدر في هذه المقدمة ، ف( انّ المتشابه كما يكون في اصل اللغة ) كالألفاظ المشتركة ، والالفاظ التي لا يعلم معناها لاجمالها ، مثل العين ، والصعيد ، وآلة اللّهو ، والاناء ، وما اشبه ، على ما ذكروا.

( كذلك يكون بحسب الاصطلاح ) الخاص بمتكلم ، أو بجماعة ، أو ما اشبه .

( مثل ان يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيراً ما اريد

ص: 206

الخصوص من غير قرينة ، وربما اُخاطِبُ أحدا واُريدُ غيره ، ونحو ذلك » فحينئذٍ لا يجوز لنا القطعُ بمراده ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ،

------------------

الخصوص من غير قرينة ) واستعمل المطلقات ، واريد المقيّد من غير قرينة ، وأتكلّم بظاهر ، ولا أريد ذلك الظاهر ، وانّما اريد المعنى المجازي من ذلك الظاهر . ( وربّما أخاطب أحداً ، وأريد غيره ، ونحو ذلك ) كما قال بعض في قوله سبحانه : « لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأخَّر » (1) ، انّ المراد به : ذنب الاُمّة ، إلى غير ذلك . ( فحينئذٍ ) أي حين اذ علمنا : بانّ عادة فلان جارية على اسلوب كذا ، يكون كلامه متشابهاً ، والشارع من هذا القبيل ، لأنّه يعتمد القرائن المنفصلة كثيراً مّا ، ف( لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ) فلا يجوز الاعتماد عليه ، والعمل به ( والقرآن من هذا القبيل ) أي : من قبيل المتشابه الاصطلاحي ( لانّه نزل على اصطلاح خاص ) واسلوب جديد ؛ وذلك لانّ اللّه سبحانه وتعالى ، كثيراً مايريد خلاف الظاهر من كلامه .

فقوله تعالى : « الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى » (2) ، وقوله تعالى : « يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيديهم »(3) ، وغيرهما لم يرد بها ظاهرها .

وكذلك قوله تعالى: « أحلَّ اللّهُ البيعَ ... »(4) ، وقوله تعالى : « تِجَارَة عَن تَرَاضٍ ... » (5)، وقوله تعالى: « وحَرَّمَ الرِّبَا »(6) ، وغيرها من الآيات ، لم يرد بها عموماتها ، واطلاقاتها .

والمراد بالاصطلاح الخاص هو : اني ( لا أقول ) انّه نزل ( على وضع جديد )

ص: 207


1- - سورة الفتح : الآية 2 .
2- - سورة طه : الآية 5 .
3- - سورة الفتح : الآية 10 .
4- - سورة البقرة : الآية 275 .
5- - سورة النساء : الآية 29 .
6- - سورة البقرة : الآية 275 .

بل أعمّ من أن يكون ذلك او يكون فيه مجازات لا يعرفها العربُ ، ومع ذلك قد وُجِدَ فيه كلمات لا يعلمُ المرادُ منها ، كالمقطّعات ، ثم قال سبحانه : « آياتٌ مُحكمات هُنَّ اُمُّ الكُتابِ واُخَرُ مُتَشابِهاتٌ » ، الآية ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات : ما هي ، وكم هي ،

------------------

فانّ اللّه سبحانه وتعالى ، لم يضع ألفاظاً جديدة .

( بل أعمّ من ان يكون ذلك ) أي بوضع جديد ، ( أو يكون فيه مجازات ) فانّه سبحانه وتعالى ، كثيراً ما أراد غير الظاهر ، سواء كان غير الظاهر ، بسبب وضع جديد ، أو بسبب ارادة المجاز ، حيث يذكر قرينتها في الكلام ، ممّا ( لا يعرفها العرب ) فالشارع - مثلاً - يستعمل : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والاعتكاف ، وما اشبه في معاني خاصّة مخترعة ، لم تكن لهذه الألفاظ هذه المعاني ، في اللغة العربية ، إلى غير ذلك .

( ومع ذلك ) أي مضافاً إلى ما ذكرناه : ( قد وجد فيه ) أي : في القرآن ( كلمات لا يعلم المراد منها ) اطلاقاً ، ( كالمقطعات ) في أوائل السور ، فثبت انّ القرآن الحكيم على اسلوب جديد ، ولم يصدر للأفهام ، وانّما فيه اصطلاحات ، ومقطَّعات ، ومجازات ، لا يظهر المراد منها .

هذا كلّه بالنسبة إلى الصغرى ، وانّ القرآن متشابه ، ثمّ نأتي إلى الكبرى ، واليها أشار بقوله : ( ثمّ قال سبحانه : « آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابهَات » الاية )(1) .

وقد ( ذمّ ) اللّه ( على اتباع المتشابه ، ولم يبين لهم المتشابهات ما هي ؟ وكم هي ؟ ) أي ما هي حقيقة المتشابه ؟ وكم من الايات القرآنية آيات متشابهة ؟ .

ص: 208


1- - سورة آل عمران : الآية 7 .

بل لم يبيّن لهم المرادَ من هذا اللفظ ، وجعل البيانَ موكولاً إلى خلفائه ، والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، نهى الناس عن التفسير بالاراء ، وجعلوا الأصلَ عدَمَ العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليلُ .

------------------

( بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ ) أي : لفظ المتشابه ، فلفظ المتشابه بنفسه متشابه أيضاً ( وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه ) والاية الكريمة ، هي قول سبحانه : « هُوَ الّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الكِتَابِ ، وَاُخَرُ مُتَشابِهَاتٍ ، فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأوِيْلِهِ وَمَا يعْلَمُ تَاوِيْلهُ إلاَّ اللّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العلْمِ يَقُولُونَ ، آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَاب »(1) .

وفي رواية عن الصادق صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « المتشابه ما اشتبه على جاهلة » ، فكأنّه عليه السلام ، أراد انّه ليس متشابهاً على أهل البيت عليهم السلام ، الذين خوطبوا بالقرآن .

وبالجملة : أراد السيد الصدر : انّ هذه الاية ، سبب سقوط ظواهر الآيات الاُخر عن الاستدلال بها ، لاحتمال دخول كلّ الايات القرآنيّة في المتشابه ، لانّا لا نعلم أيّة آية متشابهة ؟ وأنّه ايّة آية غير متشابهة ؟ كما اذا اختلط المجمل بالمبيّن ، ولم يعرف انّ أيّها مجمل وأيّها مبيّن ؟ .

( والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم نهى الناس عن التفسير بالآراء ) فقول النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أيضاً ، دليل ثان بعد الآية المباركة على انّ القرآن لم يصدر للافهام ، بل له تفسير ، والتفسير يجب أن يؤذ منهم عليهم السلام .

( وجعلوا ) أيّ العقلاء ، أو العلماء ( الأصل عدم العمل بالظنّ ،إلاّ ما اخرجه الدليل ) ، وليس القرآن ممّا اخرجه الدليل فهو باق في المستثنى منه ، بحيث

ص: 209


1- - سورة آل عمران : الآية 7 .

إذا تمهد المقدّمتان ، فنقول : مقتضى الاولى العملُ بالظواهر ومقتضى الثانية عدمُ العمل ، لأنّ ما صار متشابها لايحصل الظنّ بالمراد منه وما بقي ظهوره مندرجٌ في الأصل المذكور ، فنطالب بدليل جواز العمل ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدمُ جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليلُ .

لا يقال : إنّ

------------------

لايجوز العمل بظواهره .

وحاصل كلام السيد الصدر : انّ التكليف باق والقرآن لا يفهم منه ذلك التكليف .

( اذا تمهّدت المقدمتان ، فنقول : مقتضى ) المقدمة ( الاُولى : العمل بالظواهر ) فيما اذا لم يكن من المتشابه .

( ومقتضى ) المقدمة ( الثانية : عدم العمل ) بظواهر القرآن الحكيم ( لأنّ ما صار متشابهاً ، لا يحصل الظنّ بالمراد منه ) لأنّ المتشابه لا يظنّ بالمراد من ظاهره ( وما بقي ظهوره ) أي : لم يحصل فيه تشابه ، فهو ( مندرج في الأصل المذكور ) أي : أصل انّه لا يجوز العمل بالظنّ .

وعليه : ( فنطالب بدليل جواز العمل ، لانّ الأصل الثابث عند الخاصّة ) وقال : الخاصة ، لأنّ العامّة يعملون بالظنّ القياسي ، والاستحساني ، والمصالح المرسلة ، واجتهاد الرأي ، لا بمعنى الاجتهاد الّذي هو عندنا ، بل بمعنى انّه يضغط على رأيه ليعرف الحكم ( هو عدم جواز العمل بالظنّ الاّ ما أخرجه الدليل ) وعلى هذا : فلا دليل على حجّيّة ظواهر الكتاب ، بينما العمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، وبقي عدم العمل بظواهر القرآن على الأصل .

ثمّ قال السيد الصدر : ( لا يقال : انّ ) النهي عن اتباع المتشابه ، لا يوجب حرمة

ص: 210

الظاهرَ من المحكم ووجوب العمل بالمحكم اجماعيّ .

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساوات المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا - الى أن قال : لا يقال : إنّ ما ذكرتم لو تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ،

------------------

العمل بالظاهر ، فانّ الظاهر ليس من المتشابه حتّى يدخل في النهي عن العمل بالمتشابه ، لانّ ( الظاهر من ) اقسام : ( المحكم ، ووجوب العمل بالمحكم اجماعي ) فهنا صغرى وكبرى :

الصغرى تقول : الظاهر من المحكم . والكبرى تقول : العمل بالمحكم واجب .

وانّما لا يقال : ( لانّا ) نقول : ( نمنع الصّغرى ) ومعنى ذلك : أنّا لا نسلم كون الظاهر داخلاً في المحكم ( اذ المعلوم عندنا : مساوات المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر ، فلا ) ، اذ هناك بعض الاشياء ظاهر ، وبعض الاشياء نصّ ، فالظاهر يحتمل الانسان خلافه ، أمّا النصّ : فهو الّذي لا يحتمل خلافه ، والمحكم عبارة عن النصّ ، وليس المحكم شاملاً للظاهر ، اذا الظاهر محتمل ، لكونه من المحكم ، ومحتمل كونه من المتشابه ، ومثل هذا لا يجوز العمل به ، كما لا يجوز العمل بالمتشابه .

( إلى ان قال ) السيد الصدر : ( لا يقال : انّ ما ذكرتم لو تمّ ) أي لو كان الدليل الّذي ذكرتم ، دالاً على حرمة العمل بظواهر الكتاب ( لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار أيضاً ) وذلك لانّ ظواهر الاخبار ، وظواهر القرآن مشتركان في هذا الأمر ، اذ الاخبار أيضاً مخصصة ، ومقيدة واريد منها خلاف الظاهر ، كالقرآن الحكيم ، فلماذا انتم ايّها الاخباريون ، تفرّقون بين ظاهر الاخبار ، فتعملون به ، وبين ظاهر القرآن فلا تعملون به ؟ .

ص: 211

لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيّد .

لأنّا نقول : إنّا لو خُلِّينا وأنفسَنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكن مُنِعنا من ذلك في القرآن للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومَنَعنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم عن تفسير القرآن ، ولاريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى

------------------

وانّما نقول ذلك ( لما فيها ) أي في الاخبار (1) ( من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيد) ، والحقيقة والمجاز.

( لأنّا نقول : انّا لو خلينا وانفسنا لعملنا ) بسبب المقدمة الاولى ، التي ذكرناها : من انّ الاصل العمل بالظواهر ( بظواهر الكتاب والسنّة ) معاً ( مع عدم نصب القرينة على خلافها ) أي : خلاف الظواهر .

( ولكن مُنعنا من ذلك ) أي : من العمل بالظواهر ( في القرآن ) الحكيم ، وذلك لما ذكرناه : من انّ القرآن له اسلوب جديد ، وليس كسائر كلام الموالي ، و ( للمنع من اتباع المتشابه ، وعدم بيان حقيقته ) أي حقيقة المتشابه .

هذا من ناحية ( و ) من ناحية أخرى : ( منعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم عن تفسير القرآن ) الحكيم ، ( ولا ريب في انّ غير النصّ ) من آيات القرآن الحكيم ، لما تقدّم : من انّ بعض القرآن نص ، مثل قوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(2) وبعضه ليس بنصّ مثل قوله تعالى : « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ... »(3) ، وغير النصّ ( محتاج إلى

ص: 212


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص63 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .
2- - سورة الاخلاص : الآية 1 .
3- - سورة البقرة : الآية 275 .

التفسير وأيضا ذمّ اللّه تعالى من اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأوصيائه عليهم السلام، ولم يستثنوا ظواهر القرآن - إلى أن قال - : وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام ، كانوا عاملين

------------------

التفسير ) ولهذا السبب لا نتمكن من العمل بظواهر القرآن ، ونتمكن من العمل بظواهر الاخبار .

( وأيضاً ) الاصل حرمة العمل بالظنّ ، بما هو هو - وانّما الخارج الاخبار - لانّه ، ( ذمّ اللّه تعالى من اتباع الظنّ ، وكذا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم واوصيائه عليهم السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن ) فقد قال سبحانه وتعالى في ذلك : «إن يتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُس » (1) ، وقال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم: « مَن فَسّرَ القُرآن بِرَأيِه فَلْيَتَبَوّء مَقعَدَه مِنَ النّارِ »(2) ، إلى غير ذلك ممّا تقدّم من النهي عن التفسير في كلماتهم ، عليهم السلام .

فتحصَّل : إنّ الفارق بين الاخبار والقرآن يكون كالتالي :

اولاً : انّهم عليهم السلام ، أجازوا العمل بالاخبار ، فخرجت الاخبار عن حرمة العمل بالظنّ ، وبقي القرآن داخلاً في حرمة العمل بالظنّ .

وثانياً : انّ الاخبار لها ظواهر لانّها غير مختلطة بالمتشابه منها ، بينما القرآن لا ظواهر له ، لأنّ المحكم والمتشابه منه ، قد اختلط احدهما بالاخر ، فلا نعلم أي الايات محكم وأي الايات متشابه ؟ ( إلى أن قال : وامّا الاخبار ف) يجوز العمل بها ، خروجاً عن القاعدة ، لما ( قد سبق : انّ أصحاب الائمّة عليهم السلام كانوا عاملين

ص: 213


1- - سورة النجم : الآية 23 .ححححححححححححححححححححح
2- - غوالي اللئالي ح4 ص104 .

باخبار واحد من غير فحص عن مخصّص او معارض ناسخ ، او مقيّد ، ولولا هذا لكُنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقفين ، انتهى .

------------------

باخبار واحد ، من غير فحص عن مخصّص ، أو معارض ناسخ ، أو مقيد ) أو ما اشبه ذلك ، فانّهم ما كانوا يفحصون عن قرائن المجاز وما اشبه ، كانوا اذا القى الامام الصادق ، أو الامام الباقر ، او سائر الائمّة الطاهرين « صلوات اللّه عليهم اجمعين » على زرارة ، او محمد بن مسلم ، أو البزنطي ، أو غيرهم ، خبراً ذهب وعمل بذلك الخبر ، من دون أن يفحص عن مقيّده أو مخصّصه ، أو ما اشبه ذلك .

كما انّهم ما كانوا يسألون الامام عليه السلام عن التقييد ، والتخصيص، وقرينة المجاز ، ونحوها .

وبهذا خرجت الاخبار عن قاعدة عدم العمل بالظنون ، التي من جملتها : الظواهر .

( ولولا هذا ) الاجماع من اصحاب الائمّة في عملهم بالاخبار ( لكنّا في العمل بظواهر الاخبار ) كما في ظواهر القرآن ( أيضاً من المتوقفين ) (1) لانّ في الاخبار ، كما في القرآن : العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ، والحقيقة والمجاز ، الي غير ذلك .

( انتهى ) كلام السيد الصدر ، فتحصَّل من كلامه : انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بظاهر القرآن خارج عن القاعدة ، بينما كلام غيره ، انّ العمل بالقرآن خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، فهو رحمه اللّه يرى : حرمة العمل بالظواهر سواء الايات والاخبار ، إلاّ انّه يقول : بخروج الاخبار

ص: 214


1- - شرح الوافية مخطوط .

أقول : وفيه مواقعُ للنظر ، سيّما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الاجماع العمليّ ولولاه لتوقّف في العمل بها أيضا ، إذ لايخفى أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليه السلام ، بظواهر الأخبار لم يكن لدليل خاصّ شرعيّ وصل إليهم من أئمتهم ؛ وإنّما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة الى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الافادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع ام غيره ،

------------------

باجماع الاصحاب ، وبقاء القرآن داخلاً في عدم الجواز .

( اقول : وفيه ) أي في كلامه ( مواقع للنظر ) سنتكلم حول تلك المواقع مفصلاً ان شاء اللّه ( سيّما في جعل العمل بظواهر الاخبار من جهة قيام الاجماع العملي ، ولولاه ) أي لولا الاجماع العملي ( لتوقّف في العمل بها ) أي : بالأخبار ( أيضاً ) لانّه يرى اسلوب الاخبار والقرآن ، جديداً ، فلا يجوز العمل بهما ، وانّهما ليسا مثل سائر كلام المتكلمين .

وانّما قلنا : سيّما ( اذ لا يخفى انّ عمل أصحاب الائمّة عليهم السلام بظواهر الاخبار ، لم يكن لدليل خاص شرعي وصل اليهم من أئمّتهم ) عليهم السلام. بل (وانّما كان ) العمل بالظواهر ( امراً مركوزاً ) عرفيّاً ( في اذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم ، لاجل الافادة والاستفادة ) .

وعليه : فالعمل بالاخبار ، كان من صغريات هذه القاعدة المركوزة في أذهانهم (سواء كان من الشارع أم ) من ( غيره ) فلا نسلّم اصالة حرمة العمل بالظاهر - المدّعى بانّه من الظنّ المنهي عنه - لأنّ الظاهر ممّا يعمل عليه العقلاء دائماً ، إلاّ اذا خرج بدليل .

وأمّا الظنّ المنهي عنه في الكتاب والسنّة ، فانّه يراد به غير هذا الظنّ المستفاد

ص: 215

وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقىً للافادة والاستفادة على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم .

نعم ، الأصل الأوّليّ هي حرمة العمل بالظنّ ، على ما عرفت مفصّلاً ، لكنّ الخارج منه ليس خصوصَ ظواهر الأخبار حتّى يبقى الباقي ، بل الخارجُ منه هو مطلقُ الظهور الناشيء عن كلام كلّ متكلّم اُلقيَ إلى غيره للافهام .

------------------

من الظاهر والاّ لأشكلوا على صاحب الشرع : بأنّك كيف قلت : لا تعملوا بالظنّ ، مع انّك تأمر وتنهي ، ونحن نعمل بظواهر كلامك ؟ لوضوح انّه ليس ذلك ظاهر في كلامهم عليهم السلام من النص .

( وهذا المعنى ) الّذي هو عبارة عن : اتفاق أهل اللسان على العمل بالظواهر ، وانّ اصحاب الائمّة كانوا يطبّقون هذه الكبرى الكلّيّة على الروايات ( جار في القرآن أيضاً على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة ) .

وانّما قلنا على تقدير ذلك و ( على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم ) لأنّ الاصل في كلام المتكلمين ، الذين يريدون تحريك الناس وتحركهم ، انّهم يتكلمون للأفادة والاستفادة .

( نعم ) قد تقدّم في أوّل مبحث الظنّ : انّ ( الأصل الأوّلي ، هي حرمة العمل بالظنّ على ما عرفت مفصلاً ) لانّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ، وانّ بناء العقلاء على العمل على الأطمينانيّات ، لا على الظنّيّات ، وكنّا قد أشكلنا - فيما سبق - على هذه الكلّيّة في كتاب «الاصول» .

( لكن الخارج منه ، ليس خصوص ظواهر الاخبار ، حتّى يبقى الباقي ) كالقرآن الحكيم على ما هو ادّعاء السيد الصدر - ( بل الخارج منه ، هو مطلق الظهور ، الناشيء عن كلام كلّ متكلم ألقي إلى غيره للافهام ) فالاصل الأولي ، وان كان

ص: 216

ثمّ إنّ ماذكره - من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات واحتمال كونها من المتشابهات - ممنوعٌ : أولاً ، بأنّ المتشابه لايصدقُ على الظواهر ، لا لغةً ولا عرفا ،

------------------

المنع عن الظاهر ، لكن الاصل الثانوي حجّيّة الظواهر ببناء العقلاء ، وهو المركوز في أذهان المتشرعة أيضاً ، بعد ان الشارع لم يحدث طريقةً جديدةً .

( ثمّ انّ ما ذكره ) السيد الصدر : ( من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات ، واحتمال كونها من المتشابهات ، ممنوع ) لانّه استدل لذلك : بأنّ لفظ المتشابه ، متشابه ، فيحتمل شموله للظاهر ، فلا يقين بأنّ الظاهر من المحكم ، وانّما المتيقن من المحكم هو : النص .

هذا ، وانّما قلنا بانّه ممنوع لانّه : (اولاً : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر ، لا لغة ولا عرفاً ) .

أمّا لغة : فلأنّ المتشابه من شبه ، اذا شابه شيء شيئاً آخر ، لانّه من التفاعل كتضارب ، فاذا كان شيئان متماثلان ، سُميّا : متشابهين ، ومن الواضح : انّ الظاهر ليس من هذا القبيل .

وأمّا عرفاً ، فلأنّ المتشابه في العرف ، هو ما ليس له دلالة واضحة ، ومن الواضح : انّ الظاهر له دلالة واضحة ، فلا يصدق على الظاهر : المتماثل ، ولا غير الواضح .

وعليه : فاذا لم يكن الظاهر من المتشابه ، كان من المحكم ، لانّ المحكم مقابل المتشابه ، ولا واسطة بينهما ، وانّما الشق الثالث هو : الرمز ، وحيث انّ الظاهر ليس من الرمز قطعاً ولم يصدق عليه : المتشابه لغة ولا عرفاً ، فهو لابدّ وان يكون من المحكم .

ص: 217

بل يصحّ سلبه عنه ، فالنهيُ الوارد عن اتّباع المتشابه لا يمنعُ ، كما اعترف به في المقدّمة الاُولى ، من أنّ مقتضى القاعدة وجوبُ العمل بالظواهر .

وثانيا : بأنّ احتمالَ كونها من المتشابه لاينفعُ في الخروج عن الأصل الذي اعترف به .

------------------

( بل يصح سلبه ) : أي المتشابه ( عنه ) أي عن الظاهر ، وصحة السلب علامة عدم الحقيقة .

اذن : ( فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه ، لا يمنع ) عن العمل بالظواهر ، بخروج الظواهر موضوعاً عن المتشابه ( كما اعترف ) السيد الصدر ( به ) أي : بعدم المنع ( في المقدّمة الاولى ) من المقدّمتين اللتين ذكرهما ( : من انّ مقتضى القاعدة : وجوب العمل بالظواهر ) على الاصل الاوّلي .

( وثانياً : بانّ احتمال كونها ) أي : ظواهر القرآن ( من المتشابه ، لا ينفع في الخروج عن الاصل الّذي اعترف ) السيد الصدر ( به ) .

فلو احتملنا دخول ظواهر القرآن في المتشابه كان الواجب علينا مع ذلك ، العمل بتلك الظواهر ، لانّ هذا الاحتمال لا يسقط وجوب العمل بالظواهر ، كما اعترف السيد الصدر في المقدمة الاولى : بأنّ الأصل الثانوي : حجّيّة الظواهر مطلقاً .

فاذا علمنا بأنّ ظواهر القرآن حسب الأصل الأولي ، الّذي اعترف به هو قدس سره يلزم العمل بها ، ثمّ احتملنا دخول تلك الظواهر في المتشابه ، كان اللازم التمسّك بالعام لا بالمخصص .

فهو كما اذا قال : اكرم كلّ عالم ، وعلمنا. خروج زيد ، وشككنا خروج عمرو ، فانّ اللازم اكرام عمرو ، لأنّا علمنا دخوله في العام وشككنا في تخصيصه ،

ص: 218

ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدمٌ لما اعترف به من أصالة حجيّة الظواهر ، لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل الاّ أن يعلم كونه ممّا نهي الشارع عنه .

------------------

فاللازم اجراء اصالة عدم التخصيص ، وليس هذا من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، لانّ ذلك فيما اذا لم نعلم دخوله في العام ، ومانحن فيه ممّا علمنا دخوله في العام ، وانّما شككنا في خروجه .

( و ) ان قلت ، يلزم ان نعلم : انّه داخل في المحكم حتّى نتبعه ، والحال انّه لا علم في المقام ، مع شكّنا في انّه من المحكم ، او المتشابه ، فلا يجوز اتباعه .

قلت ( دعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم ) حتّى يعمل به ( هدم لما اعترف ) السيد الصدر ( به : من اصالة حجّيّة الظواهر ) وانّ مقتضى القاعدة : العمل بالاصل ما لم نعلم الخروج منه .

وما نحن فيه كذلك ، فقد علمنا بانّه ظاهر ونشك في الخروج منه ، فلا يلزم العلم بكونه محكماً ، حتّى نعمل به ( لانّ مقتضى ذلك الاصل ) أي : اصل حجّيّة الظواهر (جواز العمل الاّ ان يعلم كونه ) أي : العمل ( ممّا نهى الشارع عنه ) والحال انّا لا نعلم نهي الشارع عن الظواهر ، بل كما اعترف به هو يحتمل المنع ، واحتمال المنع لا يقاوم حجّيّة الظواهر ، التي اعترف بها .

فاذا قال المولى - مثلاً - كلّ ماء طاهر ، وقال : كلّ خمر نجس ، فانّه اذا شككنا في خمريّة مايع ، نتمسّك بكلّ ماء طاهر ، لا انّه نتمسّك بالمخرج ، الّذي هو : كلّ خمر نجس ، فالحكم بالنجاسة محتاج إلى احراز الخمريّة ، لا الحكم بالطهارة ، لانّ الاصل : الطهارة إلاّ ما خرج ، فاذا لم يعلم انّه مصداق ما خرج ، كان اللازم العمل بالاصل .

ص: 219

وبالجملة : فالحقّ ما اعترف به ، قدّس سرّه ، من أنّه لو خُلّينا وأنفسَنا ، لعملنا بظواهر الكتاب . ولا بدّ للمانع من إثبات المنع .

------------------

( وبالجملة : ) نقول في جواب السيد الصدر : ( فالحقّ ما اعترف به قدس سره : من انّه لو خلّينا وانفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب ) بمقتضى المقدمة الاولى .

( ولابدّ للمانع ، من اثبات المنع ) وقد عرفت : انّ المنع بسبب احتمال كونه من المتشابه ، غير نافع لانّ الاحتمال لا يقاوم الاصل ، والاّ لجرى مثل ذلك في الاخبار أيضاً ، مع انّ السيد الصدر لا يقول بالمنع في الاخبار .

اقول : بل يمكن أن يقال : انّ طريقة الشارع في القرآن وكذا في الاخبار أيضاً هي طريقة العقلاء مطلقاً ، فانّ كلامهم فيه : عام وخاص ، ومطلق ومقيّد ، ومجمل ومبين ، وظاهر ونص ، وحقيقة ومجاز ، ورمز ولغز ، وما اشبه ذلك .

ولهذا نرى انّ القوانين التي تجعل للبلاد ، يكون فيها كلّ ذلك ، ولهذا السبب ايضاً يختلف المحامون والقضاة ومجالس الامّة في الخصوصيّات ، كما يختلف الفقهاء والمتدينون في خصوصيات القرآن والروايات ، فكما نحن الآن في القرآن والاخبار بحاجة إلى الفحص ، كذلك في كلمات العقلاء ، والسرّ في الجميع ما يلي :

اولاً : اختلاف المدارك ، حيث انّ بعض الناس يرون شيئاً على حالة خاصة ، وبعض آخر يرونه على خلاف تلك الحالة ، ومن ذلك يختلف الاجتهادات ، في استنباط المدارك الاوّليّة ، سواء كانت المدارك الأوليّة دينية أو دنيوية .

وثانياً : انّ الواقع يتطلّب التنوّع ، عموماً وخصوصاً ، وظهوراً ونصاً ، واجمالاً وتوضيحاً ، إلى غير ذلك . طبعاً هذا بالنسبة إلى حال المشافهين ، فكيف بغيرهم الذين تختفي عنهم القرائن الحاليّة والمقاليّة وما اشبه ؟ .

ص: 220

ثم إنّك قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ خلافَ الأخباريّين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا ، من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لافادة المطالب واستفادتها ، وإنّما يكون خلافهُم في أنّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادةُ المراد من أنفسها ، بل بضميمة

------------------

نعم ، لا اشكال في انّ القرآن الحكيم ، حيث كان اعجازاً يكون شموله لهذه الخصوصيات أكثر ، لانّ الاعجاز فوق مستوى كلام العقلاء .

( ثمّ انّك قد عرفت ممّا ذكرنا : ) انّ النزاع بيننا وبين الاخباريين صغروي لا كبروي ، اذ القياس هكذا صورته : صغرى هذا الكلام صادر للتفهيم والتفاهم .

كبرى : كلّ كلام صادر لذلك فهو حجّة .

فالاخباريون ينكرون الصغرى ، ويقولون : انّ القرآن لم يصدر للتفهيم والتفاهم بنفسه ، ومجرّداً عن كلماتهم « عليهم الصلاة والسلام » .

وذلك أمّا لعدم ظهور للقران اطلاقاً لاختلاطه بالمتشابه ، وصيرورة الجميع متشابهاً .

وأمّا لانّ له ظهور ، لكن الشارع يريد تفهّم ذلك الظاهر بسبب تفسير الائمّة عليهم السلام ، لا انّه بحيث يعمل به كلّ احد ، من دون مراجعتهم عليهم السلام .

وأمّا الكبرى ، فمتّفق عليها بيننا وبين الاخباريين ، وأشار اليه بقوله :

( انّ خلاف الاخباريين في ظواهر الكتاب ، ليس في الوجه الّذي ذكرنا ) كبرويّاً (من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لأفادة المطالب ، واستفادتها ) فانّهم يُسلِّمون بهذه الكبرى ( وانّما يكون خلافهم في ) الصغرى ، بأمرين :

اولاً ( انّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة

ص: 221

تفسير أهل الذكر او أنّها ليس بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيّد المتقدم .

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : إنّه ربّما يتوهم بعضٌ : « أنّ الخلافَ في اعتبار ظواهر الكتاب قليلُ الجدوى

------------------

تفسير أهل الذكر ) « عليهم الصلاة والسلام » ، حيث ، انّهم هم أهل الذكر ، الذين عناهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله : « فَسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُمْ لاَتَعْلَمُونَ »(1) ، فانّ ظاهر آية الذكر ، وان كان علماء الأديان السابقة ، إلاّ انّ باطنها الائمّة عليهم السلام ، كما في الروايات .

ثانياً : ( أو انّها ) أي المذكورات ، في القرآن الحكيم من الكلمات ، والجمل والايات ( ليست بظواهر بعد ) نهي الشارع عن اتباع المتشابه ، وهي من المتشابه ايضاً ل( احتمال كون محكمها ) أي محكم الكلمات الواردة في القرآن الحكيم قد اختلطت بالمتشابه ، فصارت ( من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيد المتقدّم ) وقد تقدّم الجواب عن اشكالهم الصغروي .

هذا ( وينبغي التنبيه على أمور ) مرتبطة بالقرآن الحكيم ، وبالاخبار أيضاً :

( الاوّل : انّه ربّما يتوهّم بعض : انّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ) أي : لا ثمرة مهمّة ، لهذا البحث ، والبحث الّذي لا ثمرة مهمّة له ، الأولى تركه ، وعدم ذكره في كتاب الاصول الموضوع لاجل ان يكون مقدمة للفقه في الامور العملية .

ص: 222


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .

إذ ليست آية متعلّقة بالفروع او الاصول إلاّ ورد في بيانها او في الحكم الموافق لها خبر او أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماعُ على أكثرها ، مع أنّ جُلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكمُ فيها بامور مجملة لايمكن العملُ بها إلاّ بعد

------------------

( اذ ليست آية متعلّقة بالفروع أو الاصول إلاّ ورد في بيانها ) وتفسيرها ، والمراد منها ، وخصوصيّاتها ( أو في الحكم الموافق لها ) بدون التفسير ( خبر ، أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماع على أكثرها ) ونحن اذا راجعنا تلك الاخبار نكتفي عن البحث في ظاهر الآية وانّه هل يشمل هذا الفرع الّذي هو محل الابتلاء، أو لا يشمل ؟ .

وكذلك بالنسبة إلى اصول الدين : مثل الامور المرتبطة باللّه سبحانه وتعالى ، وصفاته ، والنبّوة العامّة والنبوّة الخاصّة ، والامامة ، والمعاد ، بل وكذلك ما هي من شؤنها : كأحوال القيامة ، وأحوال البرزخ ، والملائكة ، وغيرها .

وعلى كلّ حال : يكفينا ما وصلنا من الأخبار والاجماعات ، بل والأدلّة العقليّة في جملة من تلك الاصول ، بل والفروع أيضاً بمقتضى قاعدة : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » ، فلا حاجة إلى البحث والتفتيش والتنقيب في انّ ظواهر القرآن حجّة ام لا ؟ كما وقع بين الاخباريين .

( مع انّ جُلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكم فيها بأمور مجملة ) ومن المعلوم انّ المجمل لا يمكن الأخذ به لأنّه لا ظاهر له .

وعليه : فالآيات بين : ما لا ظاهر لها ، وبين ما لها ظاهر ، لكن الروايات والاجماعات والأدلّة العقلية تكفينا عنها ، فانّ المجمل ( لا يمكن العمل بها الاّ بعد

ص: 223

أخذ تفصيلها من الأخبار » ، انتهى .

أقول : ولعلّه قصّر نظره الى الآيات الواردة في العبادات ، فانّ أغلبها من قبيل ما ذكره ،

------------------

اخذ تفصيلها من الاخبار انتهى ) (1) .

وفيه : انّ كلا الاشكالين :- اشكال : كفاية الاخبار ، والاجماعات ، والأدلّة العقليّة ، عن الاحتياج إلى ظواهر القرآن الحكيم ، واشكال : انّ الايات كلّها مجملات فلا يمكن أخذ شيء منها - غير تامّ .

ولا يخفى انّ المتوهّم ، وان كان من اعاظم العلماء وهو : المولى أحمد النراقي في كتابه : « مناهج الاصول » ، الاّ أنّا تتبّعنا الآيات ، والروايات ، والاجماعات والادلّة العقليّة ، فظهر لنا عدم صحّة اشكالية .

( اقول : ولعلّه ) أي : المتوهّم ( قصر نظره ) أي : نظر فقط ( إلى الآيات الواردة في العبادات ) مثل قوله تعالى : « وَأقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزّكاةَ ... »(2) .

وقوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... »(3) ، وقوله تعالى : « ولِلّهُ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ ... »(4) ، وغير ذلك من سائر آيات العبادات ( فانّ اغلبها من قبيل ما ذكره ) ، أي : انّها لا ظاهر لها ، حيث انّها مجملة ، وقد ورد في تفسيرها روايات متواترة ، واجماعات متكثّرة ، فلا ثمرة في البحث عن : حجيّة ظواهرها ، أو لا حجّيّتها ، ومع ذلك فسيأتي فيآخر كلام المصنِّف الاشكال أيضاً في استفادة الاحكام من آيات العبادات .

ص: 224


1- - مناهج الاصول للنراقي : ص158 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .
4- - سورة آل عمران : الآية 97 .

وإلاّ فالاطلاقاتُ الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة او المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرةٌ جدّا ، مثل : « اُوفوا بالعُقودِ » ، و « أحَلَّ اللّه ُ البَيعَ » ،

------------------

( والاّ ) أي : وان لم يقصر نظره إلى آيات العبادات ( فالاطلاقات الواردة في المعاملات ) بالمعنى الأعم ، اذ المعاملة تشمل العقد ، وتشمل الايقاع في بعض اطلاقاتها ( ممّا ) أي من الاطلاقات التي ( يتمسّك بها في الفروع غير المنصوصة ، أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة ) أو بالنصوص المجملة ، ( كثيرة جداً ) أي انّا نحتاج إلى الآيات في موارد عديدة .

الأوّل : في الفروع التي لا نصّ فيها .

الثاني : في الفروع التي فيها نصّ لكن هناك نصوص متعارضة ومتضاربة ، ممّا يرجع إلى القرآن الحكيم من الفيصلة بينها وترجيح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا .

الثالث : الاخبار التي هي مجملة ، ولا يستفاد منها الفرق المراد ، بحيث لو لم تكن الاية لم نتمكن من استجلاء ما أريد بالرواية ، فثمرة حجّيّة ظواهر القرآن الحكيم ، تظهر في هذه الموارد .

( مثل : « اوفُوا بِالعُقُوْدِ » (1) ) هل يشمل المعاطاة والعقود الجديدة ، من : التأمين والمغارسة ، وعقد الهيئة لا الفرد ، وغيرها ، ممّا كثر ذكرها في كتب المتأخرين خصوصاً مثل الشهيد في المسالك وغيره ؟ .

( و ) مثل : ( « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ » (2) ) هل يشمل بيع الروح لا الجسم ، كأن يبيع

ص: 225


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - سورة البقرة : الآية 275 .

و « تِجارَةً عَن تراضٍ » ، و « فَرِهانٌ مقبوضَةٌ » ،

------------------

روح المال السائل في اعيانه ، لا جسم الاعيان ، فالبايع والمشتري يشتركان في هذا الروح وهذا الجسم ، فلأحدهما الروح ، ولأحدهما الجسم ؟ .

وهل يشمل بيع الحقّ ، كحقّ الصوت ، وحقّ تركيب الدواء ، ونحو ذلك ، خصوصاً في المسائل الحديثة المتكثّرة ؟ وقد ألمعنا إلى جملة من هذه المسائل الحديثة في كتاب « الفقه : الحقوق » (1) .

وهكذا يقال بالنسبة إلى وقف الروح لا الجسم ، كما اذا كانت له اموال متعددة ، كدور ، ودكاكين ، وبساتين ، وما اشبه ذلك ، لكنّه يقف روحها لا جسمها ، فالمتولي يتمكن من تبديل الجسم الى جسم آخر ، كجعل الدكان داراً ، والدار دكاناً إلى غير ذلك ، وانّما يحتفظ بالروح فقط .

( و ) مثل : ( « تِجارَة عَن تَراضٍ » (2) ) هل يشمل مثل تجارة : الحقوق وانّ كلّ من ابتكر ابتكارًا يبيع حقّه لانسان ، وذلك الانسان يتاجر بتلك الحقوق ، صلحاً ، ورهناً ، واجارة ، وما اشبه ؟ .

وهل يشمل مثل اجارة الرحم من المرأة لتربية ولد من غيرها في رحمها ، كما يتعارف عليه الآن .

( و ) مثل : ( « فَرِهَانٌ مَقْبُوْضَةٌ » (3) ) حيث دلّت على جواز الرهن ، واشتراط القبض فيه ، فهل هذا ينطبق في كلّ مكانّ ، او في أماكن خاصّة وردت في الروايات ، أو ذكرها بعض الفقهاء ؟ مثلاً : هل يشمل رهن الانسان نفسه لمقتضى ،

ص: 226


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .
2- - سورة النساء : الآية 29 .
3- - سورة البقرة : الآية 283 .

و « لا تُؤتُوا السُّفهاءَ أموالكُمْ » ، و « لا تَقرَبوا مالَ اليَتيم » ، و « اُحِلَّ لكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ » ،

------------------

« النّاس مسلّطون على انفسهم » (1) أو لا يشمل رهن الانسان نفسه ، إلى غير ذلك .

ومثل : ( « وَلاَ تُؤُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم » )(2) دلّت على انّ السّفيه ، محجور ، لكن الكلام في انّه : هل المراد السفيه الكامل ، او يشمل السفيه الأقوالي ، لا الأعمالي ؟ .

وهل يشمل السفيه ، بكلّ اقسامه : كالمعتوه والمسرف ، والمبذّر ، ونحوهم ، او خاص بقسم من السفهاء ؟ .

ومثل : ( « وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيْمِ » )(3) هل المراد بالأحسن في الاستثناء ، الأحسن واقعاً ، أو المراد : الاحسن مثل الأقوى والاحوط في اقوال الفقهاء .

ومثل الاولى في قوله سبحانه : « أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى » (4) بالنسبة إلى اهل النار ، فهل المراد بالاية المباركة امثال هذه الامور ، حيث يريد الفقهاء : القوة والاحتياط ، ويريد اللّه سبحانه وتعالى : انّه يستحق العقاب ، لا انّ العقاب اولى والجنّة أيضاً مستحقة له او المراد الأحسن التفضيلي ؟ .

( و « أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم ... » )(5) حيث وردت الآية في باب النساء في قوله سبحانه : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ، وَبَنَاتُكُمْ ، وَأَخَوَاتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ ، وَبَنَاتُ الأَخِ ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ ، وَأُمَّهَاتُكُم اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ، وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ ، وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وربائبكم اللاَّتِي فِيْ حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُم الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلاَبِكُم ، وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ، انَّ اللّهَ كَانَ غَفُوْرا رَحِيْما *

ص: 227


1- - وهذه القاعدة تستفاد من قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم الاحزاب 6 .
2- - سورة النساء : الآية 5 .
3- - سورة الانعام : الآية 152 .
4- - سورة القيامة : الآية 31 .
5- - سورة النساء : الآية 24 .

و « إن جاءكم فاسِقٌ بنَبَأ فَتَبَيَّنُوا » ، و « فلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ » ،

------------------

وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ ايْمَانكُمْ ، كَتَاب اللّهِ عَلَيْكُمْ ، وَأحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ، أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِيْنَ غَيْر مُسَافِحِيْنَ ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ، فَأتُوْهُنَّ أجُوْرَهنَّ فَرِيْضَة » (1) الآية .

فهل كلّ امرأة لم تذكر فى الآية محلّلة ، أم لا ، في غير موارد الروايات ، الّتي دلّت على حرمة أقسام أُخر من النساء ؟ .

مثلاً : لو لاط صبيّ بآخر ، وهما لم يبلغا الحلم ، فهل تحلّ اخت الملوط ، وأمّه ، وبنته للفاعل ،، بأن يكون النصّ المحرّم خاصا بالكبار دون الصغار ، أو النّصّ أعمّ ؟ .

أي انّ الآية ، هل تفيد الحليّة بالنسبة الى الطفلين ، أو لا تفيد ؟ .

( و ) مثل : ( « إن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا » (2) ) فان الآية دلّت ، على حجيّة خبر العادل ، لكن هل المراد : الفسق مطلقا ، أو الفسق اللساني ، حتّى يكون الفاسق عملاً المستقيم لسانا ، لايحتاج خبره الى التبيّن ؟ وهل المراد بالتبيّن : الى حد العلم بالدلالة ، أو يكفي التبين العرفي الموجب للظنّ ؟ .

وهل الفاسق أعمّ من غير العادل ، اذا قلنا : بأنّ بينهما واسطة ، أو خاص بالفاسق ، فالواسطة داخلة في المفهوم ؟ الى غير ذلك من الفروع المتعدّدة .

( و ) مثل : ( « فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة » ) « منهم طَائفَة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّيْنِ ، ولَيُنْذِرُوا قَوْمهُمْ إِذَا رَجعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (3) .

هل هذه الفرقة هي الثلاثة ، أو يشمل الاثنين ، أو يشمل حتّى الواحد ؟ واذا قلنا

ص: 228


1- - سورة النساء : الآيات 23 - 24 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .
3- - سورة التوبة : الآية 122 .

و « فَاسألوا أهلَ الذِّكر » ، و « عَبدا مَملوكا لا يَقدِرُ على شيء » ، و « ما على المُحسِنينَ من سَبيل »

------------------

بانّه يشمل الواحد أيضا ، فهل قوله حجّة على المستمعين ، أو ليس بحجّة ، وانّما يوجب قوله الفحص ؟ وما اشبه .

( و ) مثل : ( « فَسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ » ) « إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » (1) .

فهل الآية تشمل التقليد أم لا ؟ وكذلك بالنسبة الى القضاء ، وقول اهل الخبرة الذين ليسوا بعدول ؟ بل وهل تشمل الاعتماد على أهل الخبره ، كالاعتماد على سائقي السيارات ، والبواخر ، والطائرات ، وما اشبه ؟ فهل هو من الاعتماد على أهل الذكر للملاك أم لا ؟ .

( و ) مثل : ( « عَبْدا مَمْلُوْكا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيء » )(2) .

فهل يشمل كلام العبد أيضا في أجرائه صيغة نكاح ، أو طلاق ، أو بيع ، أو ما اشبه حتّى يلزم ان يكون باجازة المولى ؟ .

وكذلك اذا استأجرناه لقرائة قرآن ، أو دعاء ، أو نحوهما ممّا لا يزاحم حقّ المولى ، فهل هذا يحتاج الى اجازة المولى ، أو لايحتاج اليها لانّه ليس بشيء ؟ ( و ) مثل : ( « ما عَلى المُحسِنِين مِن سَبِيل » )(3) .

فهل السبيل أعمّ من الضمانات ، أو خاص بالعقوبات الدنيويّة والاخرويّة ؟ فاذا اضطر الى انقاذ غريق بالمرور في أرض مغصوبة ، أو الاستفادة من حبل مغصوب ، أو سفينة مغصوبة ، هل يضمن أم لا ؟ .

وكذلك اذا أراد انقاذ انسان من الحريق أو انسان يريد افتراسه حيوان ،

ص: 229


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - سورة النحل : الآية 75 .
3- - سورة التوبة : الآية 91 .

وغير ذلك ممّا لا يحصى .

بل وفي العبادات أيضا كثيرةٌ ، مثل قوله : « إنّما المُشرِكونَ نَجَسٌ ، فلا يَقرَبوا المَسجِدَ الحَرامَ » ، وآيات التيمّم ، والوضوء والغسل .

------------------

أو ما أشبه فحمله واخذ يركض به لانقاذه فسقط وانكسر رأس المحمول ، فهل يكون الحامل ضامنا أم لا ؟ .

( وغير ذلك ممّا لا يحصى ) في هذه العجالة .

( بل وفي العبادات أيضا ) آيات ( كثيرة ) لها ظواهر ، وليس في موردها خبر ، ولا اجماع ، ولا دليل عقلي يمكن الاعتماد عليه في استفادة الحكم ( مثل قوله ) تعالى : ( « إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ) بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا » (1) .

فهل الآية المباركة تفيد النجاسة الظاهرية أو المعنوية ؟ .

وهل تشمل أهل الكتاب أم لا ؟ .

وهل يراد بالمسجد الحرام خصوص المسجد الحرام ، أو يشمل سائر المساجد ، كمسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والمسجد الاقصى ، ومسجد الكوفة ، وغيرها من المساجد بناءا على استفادة الملاك من الآية المباركة ؟ .

( وآيات التيمّم ، والوضوء ، والغسل ) مثل قوله سبحانه : « يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إَلَى الصَّلاَةِ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ ، وَإِن كُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِن كُنْتُمْ مَرْضَى ، أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ، أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءا ، فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدا طَيِّبا ، فَامْسَحُوا بِوجُوْهِكُمْ وَأَيْديكُمْ مِنْهُ » (2) .

ص: 230


1- - سورة التوبة : الآية 28 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .

وهذه العمومات ، وإن ورد فيها أخبارٌ في الجملة ، الاّ أنّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورَدَ فيه خبر سليم عن المكافى ء ، فلاحظ وتتبّع .

------------------

ففي التيمّم : هل المقصود من الصعيد ، مطلق وجه الارض ، كي يشمل الحجارة ، والرمل ، واراضي النورة ، والجص ، ونحوها ، أو خاص بالتراب ؟ .

وفي الوضوء : اذا كان عضو عليه جبيرة ، هل عليه الوضوء أو التيمّم ؟ .

وفي الغسل : هل يشمل الاغتسال بالماء المبدّل من الهواء ، أو خاص بالماء الخارجي غير المبدّل ؟ وهل يشمل مثل ماء الورد ونحوه أو لا يشمل مثل ذلك ؟ .

( وهذه العمومات ) والظواهر ، والاطلاقات ( وان ورد فيها) أي : في مواردها (اخبار في الجملة ، الاّ انّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالاية ورد فيه خبر سليم عن المكافى ء ) ليكون ظاهرا في مفاده ، غير مجمل ( فلاحظ ) الفقه لترى هذه المباحث مطروحة هناك كثيرا .

والذي يلاحظها ، يطَّلع على انّ الايات الكريمة التي تكون محل الابتلاء في فروع كثيرة وتعدّ بالآلاف ( و ) ذلك يظهر لمن ( تتبع ) تتبّعا كاملاً .

هذا بالاضافة الى انّ القرآن كتاب أُنزل لإخراج الناس من الظلمات الى النور ، في كلّ ابعاد الحياة العلمية والعملية ، فلو لم يكن له ظاهر أو كان له ظاهر لكنه ليس بحجّة ، لم يكن له هذه الخاصيّة ، حتّى مع الغضّ عن الاصول الاعتقادية والمسائل الفرعيّة .

ويستفاد ما ذكرناه - من انّ القرآن كذلك - من تصريح عشرات الروايات في باب القرآن الحكيم ، ذكرها المجلسي في البحار ، والمحدثان : العاملي والنوري في الوسائل والمستدرك .

ص: 231

الثاني : إنّه إذا اختلف القِراءةُ في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى ، كما في قوله تعالى : « حَتّى يَطَّهَّرْنَ » ، حيث قرء بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال ، والتخفيف من الطهارة الظاهرة في النَّقاء عن الحيض .

------------------

التنبيه : ( الثاني ) في اختلاف القراءات وسنتكلّم ان شاء اللّه تعالى - في التنبيه الثالث ، حول انّ القراءات لا ربط لها بالقرآن الحكيم ، بل هي اجتهادات شخصيّة لا تفيد علما ولا عملاً بالنسبة الى ما في الكتاب ، من أوّله الى آخره .

( انّه اذا اختلف القِرائة في الكتاب ، على وجهين مختلفين في المؤدّى ) أي : في النتيجة بما كانت القرائتان تختلفان في الحكم الشرعي ( كما في قوله تعالى ) :

« وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) » (1) بالنسبة الى المرأة الحائض والنفساء ، حيث انّ النفساء أيضا كالحائض في الاحكام - كما قرر في محلّه - وذلك ( حيث قرء بالتشديد من التطهّر ) باب الافتعال ، من : تفعّل يتفعّل تفعّلاً ، (الظاهر في ) تحصيل الطهارة ، وهو : ( الاغتسال ) فاذا طهرت من الدّم ، ولم تغتسل، يحرم مقاربتها ، وانّما يجوز المقاربة بعد الغسل .

( والتخفيف ) من باب فعل يفعُل : شرف يشرف ، أي : يطهرن ( من الطهارة الظاهرة في ) حصول ( النقاء ) والطهارة ( عن الحيض ) فبمجرّد نقائها عن الحيض يجوز مقاربتها ، لانّ الدّم قد انقطع ، فتكون قد طهرت من الدّم ، وان لم تغتسل .

أقول : الظاهر انّه لا فرق بين القرائتين من المفاد ، فانّ النقاء من الدّم ، أو الاغتسال أو غسل المحل بالماء حتّى لايكون ملوّثا بالدّم كلّه طهارة ، وذلك لانّ

ص: 232


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

فلا يخلو : إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها ،

------------------

التطهّر من باب التفعل ، يستعمل بمعنى الطهارة الخبثيّة أيضا ، كما ذكروا في وجه نزول قوله سبحانه: « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِيْنَ » (1) فيمن غسل نفسه بالماء من الغائط .

لا يقال : طهر ، ظاهر في كون الطهارة بنفسها ، فيكون المراد انقطاع الدّم ، بخلاف باب التفعل ، حيث الظهور في فعل المرأة شيئا .

لانّه يقال : أوّلاً : فعل المرأة الغَسل بالفتح ، أو الغُسل بالضمّ ، هذا يبقى مجملاً ، والأصل عدم الاحتياج الى الاغتسال ، منتهى الامر : يكون اللازم غسلها نفسها .

ثانيا : يطهُرْنَ بالتخفيف ايضا يحتمل الامرين ، لانّ حصول الطهارة قد يكون بنفسه ، وقد يكون بسبب انسان ، أو ما اشبه ، ولذا يقال لمن طهّر نفسه : انّه طاهر ، وحيث انّ البحث فقهي نكتفي بهذا القدر .

وعلى أي حال : ( فلا يخلو امّا ان نقول : بتواتر القراءات ) السبع أو العشر ( كلّها ) بمعنى : انّ القراءات قد تواترت عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وانّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قرء بكلّ هذه الاوجه العشرة ، أو الأوجه السبعة .

فانّهم قد اختلفوا في انّ جميع القراءات متواترة ، عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو ليس شيء منها متواترا ، بل كلّها باجتهاد القرّاء ، حسب القواعد العربية ، والوجوه الاستحسانية ، وانّما وصل القرآن اليهم بقرائة واحدة .

أمّا مسألة الاعراب والنقاط فأمر خارج عن هذا المبحث ، لانّه لا اشكال في انّ القرآن كان يؤخذ عن الشيوخ ، وهم عن شيوخهم ، وهكذا ، حتّى ينتهي الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الى جبرائيل الى اللّه سبحانه وتعالى .

ص: 233


1- - سورة البقرة الآية 222 .

...

------------------

وقال بعض : بتواتر سبع قراءات منها .

وقال بعض : بتواتر عشر منها .

أمّا القرّاء السبعة فهم : نافع ، وابو عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم .

وأمّا العشرة : فبزيادة أبي جعفر ، وابي يعقوب ، وأُبيّ بن خلف .

وقال بعض : انّ المتواتر ليس كلّ العشرة ، بل في ضمن العشرة .

وقال بعض : انّ المتواتر في ضمن هذه السبعة لا كلّها .

ثمّ اختلفوا في انّ جميع جهات القراءة متواترة ، بمعنى جوهر الألفاظ ، مثل : «مالك وملك » في سورة الحمد ؟ أو انّ أدائها أيضا متواتر ، مثل : المدّ والادغام ونحوهما ؟ أو انّ كلّ الخصوصيات متواترة ، من الحركات ، والسكنات ، والتنوين ، وغير ذلك ؟ ثمّ اختلفوا في انّه هل يجوز في الصلاة ، القراءة بكلّ قرائة ، أو بالمتواتر من القراءات فقط ، - على الاقوال المتعدّدة - ؟ كما يظهر ذلك لمن راجع الشاطبي وغيره ، ممّن كتبوا حول التجويد ، وقد ألمعنا الى بعض ذلك من شرح الجزري .

والذي يؤيّد عدم صحّة قولهم بتواتر القراءات عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّ هؤلاء القرّاء ولدوا بعده بمدة . ووفياتهم كما ذكروا على النحو التالي :

نافع : مائة وتسعة وستين 169 ه- .

ابو عمرو : مائة وسبعة وخمسين ، 157 ه- .

كسائي : مائة وثلاثة وثمانين ، 183 ه- .

ص: 234

كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادّة ، وإمّا أن لانقول ، كما هو مذهب جماعة .

فعلى الأوّل ، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ،

------------------

حمزة : مائة وستة وخمسين ، 156 ه- .

ابن عامر : مائة وثمانية عشر ، 118 ه- .

ابن كثير : مائة وستة وعشرين ، 126 ه- .

عاصم : مائة وسبعة وعشرين ، 127 ه- .

فكيف كان المسلمون يقرؤن القرآن في تلك المدّة في زمان النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومن بعده الى أزمنة هؤلاء ؟ .

ثمّ انّ آثار الاجتهاد ظاهرة في استدلالاتهم .

وعلى أي حال : فالقول بتواتر القراءات في غاية الضعف ، وقول المصنّف : ( كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف فى المادة ) محل تأمّل ، وقد عرفت الفرق بين : المادة ، والكيفية ، والأداء .

( وامّا أن لا نقول ) : بتواتر شيء منها اطلاقا ، وانّما المتواتر هو : القرآن المتلوّ على الكيفية المعيّنة ، أكثر من عشرة قرون - على ماسيأتي - ( كما هو مذهب جماعة ) كبيرة ، بل هذا هو المشهور شهرة عظيمة ، حتّى انّ القول الاوّل ، يمكن ان يعدّ من النادر .

وكيف كان : ( فعلى الاوّل ، فهما ) أي القرائتان المتنافيتان في المؤدّى ( بمنزلة آيتين تعارضتا ) .

فكما أنّه اذا تعارضت آيتان فرضا ، يجب الجمع بينهما ، كما في تعارض الروايتين الحجّتين ، كذلك اذا تعارضت قراءتان على فرض صحّة القرائتين

ص: 235

لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لابدّ من الحكم بالتوقف والرجوع الى غيرهما .

------------------

وتواترهما ، فانّه (لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ ) اذا كان هناك نصّ وظاهر ، كالعام والخاص ( أو ) حمل الظاهر ( على الاظهر ) اذا كان بين الآيتين فرضا ظاهر واظهر ، - كما ذكروا - ذلك بالنسبة الى المفهوم والمنطوق وانّ المنطوق في مفاده اظهر من المفهوم .

وكذلك الحال اذا كان بينهما مجمل ومبيّن ، فانّ المجمل محمول على المبيّن .

وكذلك المطلق والمقيّد ، الى غير ذلك ممّا يكون وجه جمع بينهما .

( ومع التكافؤ ) والتكافؤ يحصل بان يكون بينهما تباين ، أو عموم من وجه في مورد الجمع ( لابدّ من الحكم بالتوقّف ) في الاستفادة من الآيتين ، وتقديم التخفيف على التشديد للاصل اللفظي ، أو العكس للاصل العملي ، لا وجه له .

اذ الاوّل : ليس من بناء العقلاء . والثاني عبارة عن الرجوع الى دليل خارجي ، لا الاستفادة من الآية .

نعم ، اذا كانت الرواية مطابقة لإحدى القرائتين قدّمت تلك بالمعونة الخارجيّة ، كما ان الدليل العقلي اذا كان مع احداهما ، قدمت أيضا .

( و ) على اي حال : فاذا كان الامر هو : التوقّف ، يلزم ( الرجوع الى غيرهما ) أي غير الآيتين ، فامّا يرجع في الآية المتقدّمة الى عموم : « نساؤكم حرث لكم » (1) بالنسبة الى الجواز ، أو الى استصحاب التحريم ، بالنسبة الى المنع ، هذا بالنسبة الى المقاربة ، امّا بالنسبة الى الصلاة ، والصيام ، وما اشبه ذلك فلكلّ دليله من هذا الجانب ، أو من ذلك الجانب .

ص: 236


1- - سورة البقرة الآية 223 .

وعلى الثاني ، فان ثبت جوازُ الاستدلال بكلّ قراءة كما ثبت بالاجماع جواز القراءة بكلّ قراءة ، كان الحكمُ كما تقدّم ، وإلاّ فلابدّ من التوقف في محلّ التعارض والرجوع إلى القواعد ، مع عدم المرجّح

------------------

هذا كلّه على الاوّل ، وهو : تواتر القراءات ( وعلى الثاني : ) أي : بناءا على عدم تواتر شيء من القراءات اطلاقا ( فان ثبت جواز الاستدلال بكلّ قرائة ، كما ثبت بالاجماع ) - ولعلّ المصنّف أراد : الاجماع المنقول ، والاّ لم نظفر نحن بمثل هذا الاجماع محصلاً - ( جواز القراءة بكلّ قرائة ) .

بل مقتضى السيرة القطعيّة ، والرواية التي وردت بانّه : « لايُهيّج القرآن اليوم » (1) وغيرهما : عدم جواز القراءة ، الاّ بالقرائة المتداولة المشهورة ، التي عليها المصاحف منذ أكثر من الف سنة على ما تقدّم رؤيتنا لامثال تلك المصاحف المباركة ، ( كان الحكم كما تقدّم ) اي : يجمع بين الايتين ، لحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ ، الى آخر ما ذكر في الاوّل .

( والاّ ) اي : ان لم نقل بتواتر القراءات ، وكذلك لم نقل بجواز التمسّك بكلّ قرائة - وان قلنا : بتواتر القراءات فرضا - بل قلنا : بانّه يلزم التمسّك بما هو قرآن متعارف عند المسلمين . ( ف- ) اللازم العمل ، بما هو المتواتر : قرائة ، والمذكور في المصاحف : خطا .

أمّا قول المصنِّف قدس سره : ( لابدّ من التوقف في محل التعارض والرجوع الى القواعد ) فمحل تأمّل ، اذ لم يظهر وجه لذلك ، بناءا على الاحتمال الثالث ، الذي ذكره بقوله : « والاّ ، فلابدّ من التوقّف » ( مع عدم المرجّح ) لإحدى القرائتين على الأخرى .

ص: 237


1- - بحار الانوار : ج98 ص10 ب23 وفيه «لا يغيّر القرآن اليوم» .

أو مطلقا بناءً على عدم ثبوت الترجيح هنا ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ، إذ لم يثبت تواتر التخفيف ،

------------------

( أو مطلقا ) أي : سواء كان مرجّح أو لم يكن مرجّح ( بناءا على عدم ثبوت الترجيح هنا ) في الآيات القرآنية ، وانّما الترجيح ثابت في الروايات .

وحيث لم يثبت ترجيح في الآيات القرآنية ، فاللازم التوقف ، والرجوع الى القواعد الاوّليّة من الاصول ، او غيرها .

وان شئت قلت : انّ في المقام امورا :

الأوّل : ان نقول بتواتر القراءات ، فيجمع بين الآيتين .

الثاني : ان لانقول بالتواتر ، لكن نقول بجواز الاستدلال بكلّ قرائة ، وهنا أيضا يجمع بين الآيتين .

الثالث : ان لانقول بالتواتر ، ولا بجواز الاستدلال ، وعلى هذا يلزم العمل على القراءة المشهورة المتعارفة ، لانّ هذا هو القرآن ، وغيره ليس بقرآن .

وعلى أي حال : فاذا لم يتمسّك باحدى القرائتين للتعارض بينهما ، لزم الرجوع الى دليل خارجي .

( ف- ) في المثال المتقدّم في : يَطهُرنّ ويطَّهرنَ ( يحكم باستصحاب الحرمة ) للمقاربة بعد النقاء ( قبل الاغتسال ) لانّه كان في حال الحيض محرما ، فيستصحب التحريم ، الى ان يقطع بالحليّة ، ومورد القطع بالحليّة هو : بعد الاغتسال .

لكن ربّما يقال : بعدم جواز الاستصحاب ، لانّه من تغير الموضوع عرفا .

وانّما يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بالتحريم ( اذ لم يثبت تواتر التخفيف ) الذي يدل على الجواز قبل الاغتسال .

ص: 238

او بالجواز بناءً على عموم قوله تعالى : « فأتوا حَرثكُمْ أنّى شِئتُمْ » ، من حيث الزمان ، خرج منه أيّامُ الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصّص او العمل بالعموم الزمانيّ .

------------------

( أ و ) يتمسك ( بالجواز ) للمقارنة بين النقاء وقبل الاغتسال ( بناءا على عموم قوله تعالى : « فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم » (1) ) ، فانّه اذا كان له عموم زماني ، دخل هذا الفرد في هذا العموم ، ولم يعرف بخروجه منه ، فانّه قد اختلف في المراد من « انّى » هل انّه ( من حيث الزّمان ) أو من حيث المكان ، أو من الحيثين ، للاطلاق في « أنّى » .

( وخرج منه ) أي : من العموم ، بناءا على كون « أنّى » زمانيا ، أو أعمّ ( ايّام الحيض ) فقط ، اما غير أيام الحيض ، فهو داخل في العموم .

وانّما قلنا : بانّ المورد من الاستصحاب ، او التمسّك بالعموم ( على الوجهين ) المذكورين في محله ( في كون المقام ) وامثاله ممّا كان هناك عموم وكان استصحاب :

( من : استصحاب حكم المخصّص ) وهو قوله سبحانه : « فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيْضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ... » (2) فيكون الحكم : الحرمة .

( أو العمل بالعموم الزّماني ) وهو قوله سبحانه : « فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » (3) الدال على الجواز ، فاذا قال المولى : « أَوْفُوا بِالعُقُودِ » (4) .

وقال : للمغبون خيار ثمّ شككنا في انّ الخيار مستمر ، أو خاصّ بوقت العلم بالغبن فوراً ، فانّه خلاف في انّ البيع بعد العلم بالغبن هل هو لازم ، تمسّكا بقوله

ص: 239


1- - سورة البقرة الآية 223 .
2- - البقرة : الآية 222 .
3- - سورة البقرة : الآية 223 .
4- - سورة المائدة : الآية 1 .

الثالث :

------------------

تعالى : « اوْفُوا بِالعُقُوْدِ » (1) الّذي هو العامّ ؟ أو جائز تمسّكا باستصحاب الخيار المخصّص لذلك العامّ ؟ وتفصيل الكلام في موضعه .

لكنّك قد عرفت انّ هذا المبحث اقرب إلى كونه علميّا من كونه عمليّا .

التنبيه ( الثالث : ) ونقدّم لهذا التنبيه مقدّمة ، وهي : انّ القرآن الحكيم ، كما نستظهره من الأدلّة ، ومن الحسّ ، لم ينقص منه حرف ، ولم يزد عليه حرف ، ولم يغيّر منه حتّى فتح ، أو كسر ، أو تشديد ، أو تخفيف ، ولا فيه تقديم ولا تأخير ، بالنسبة إلى ما رتّبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وان كان فيه تقديم وتأخير حسب النزول ، فانّ القرآن الّذي هو بأيدي المسلمين اليوم هو نفسه القرآن الّذي كان في زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم . فقد عيّن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بنفسه ، مواضع الآيات والسور ، حسب الّذي نجده الآن ، وهناك روايات تدلّ على ذلك : فقد روي متواتراً ، انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قال ، « مَن خَتَمَ القُرآن كَانَ لَهُ كَذا » (2) فلو لم يكن القرآن مجموعاً كاملاً في زمانه ، لم يكن معنى لختمه ، كما أن القرآن كان مكتوبا في زمانه بكامله ، وموضوعا في مسجده عند منبره ، يستنسخه من أراد ، هذا وكان الآلاف من المسلمين قد حفظوا القرآن كلّه - كما في التواريخ (3) .

وهكذا بقي القرآن الّذي كان في زمان الرسول إلى اليوم غضاً سالماً على ما كان عليه من الترتيب والتنظيم .

وامّا مسألة قرآن عليّ عليه السلام - الّذي جاء به فلم يقبلوه منه - فانّما يراد به ما فيه

ص: 240


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - اصول الكافي : ج2 ص604 ح5 .
3- - للمزيد راجع كتاب متى جمع القرآن ، للشارح .

...

------------------

من التفسير والتأويل ، كما ذكر ذلك عليّ عليه السلام بنفسه في رواية رويت عنه .

ومن المعلوم : انّهم ما كانوا يريدون التفسير والتأويل ، لأنّه كان يتنافى ومقاصدهم السياسية ، ثمّ انّه حتّى اذا لم يكن فيه التفسير والتأويل ، لم يكونوا يريدونه لانّه يكون امتيازاً له عليه السلام ، حيث يقال : انّ القرآن استنسخ منه .

وأمّا مسألة جمع عمر ، وجمع عثمان - على فرض الصحة - ، فالمراد بالجمع : انّ المصاحف المتشتتة ، الّتي كتب كلّ من الصحابة لنفسه بعض جزء منه ، اتلفت حتّى لا يكون هناك مصحف كامل ، ومصاحف ناقصة ، اذ من الطبيعي انّ مدرس الفقه أو الاصول - مثلاً - الّذي يجمع كلامه تلاميذه ، يختلفون فيما يكتبونه عنه ، حيث انّ بعضهم يكون غائباً لمرض ، أو سفر ، أو ما اشبه ، فلا يكتب هذا الغائب الكلّ ، مع انّ الاستاذ بنفسه ، أوبعض التلاميذ الدائمي الحضور ، يكتبون الكلّ .

وعمر وكذلك عثمان انّما أبادا مثل هذه المصاحف المختلفة والمتشتتة ، لا القرآن الكامل الّذي كان في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ، وقد لاحظت أنا مصاحف كتبت قبل الف سنة ، وكانت في خزانة الإمام الحسين عليه السلام ، فلم تكن إلاّ مثل هذا القرآن ، بدون أي تغيير اطلاقاً .

وأما مسألة القراءات فهي شيء حادث ، كانت حسب الاجتهادات لجماعة خاصّة ، لكن لم يعبأ بها المسلمون لا في زمان القرّاء ولا بعد زمانهم ، ولم يعتنوا بها اعتناءاً يوجب تغيير القرآن ، وقد تقدّم تاريخ أزمنة هؤاء القرّاء .

كما انّ هناك عدّة مصاحف موجودة من خط الائمة عليهم السلام في كلّ من : ايران ، والعراق ، وتركيا ، وغيرها ، وكلّها كهذا القرآن بلا تغيير اصلاً .

ص: 241

إنّ وقوعَ التحريف في القرآن ، على القول به ، لا يَمنعُ من التمسّك بالظواهر ،

------------------

ولذا نستشكل نحن في صلاة من يقرأ « ملك » في سورة الحمد ، مكان « مالك » أو « كفؤً » بالهمزة في سورة التوحيد مكان « كفواً » بالواو ، او ما اشبه ذلك ، وعلى هذا : فالبحث المذكور في هذا التنبيه مبني على ذلك القول ، لا على القول الّذي اخترناه تبعاً لغير واحد من المحقّقين قديماً وحديثاً .

كما انّ روايات التحريف الموجودة في كتب السنّة والشيعة ، روايات دخيلة ، أو غير ظاهرة الدلالة ، وقد تتبّعنا ذلك فوجدنا ، انّ الروايات الّتي في كتب الشيعة تسعين بالمأة - 90% - منها عن طريق السيّاري ، وهو باجماع الرجاليين كذّاب وضّاع ضالّ ، والبقيّة بين ما لا سند لها ، أو لا دلالة لها ، كما يجدها المتتبّع الفاحص .

واما روايات السنة : فهي أيضاً تنادي بكذب أنفسها ، كما لا يخفى على من راجع الروايات ، في البخاري ، وغيره ، وحيث انّ المسألة خارجة عن مقصد الشرح ، نكتفي منها بهذا القدر ، فنرجع إلى شرح المتن ونقول :

وكيف كان ف( انّ وقوع التحريف ) أي : الزيادة والنقصان ( في القرآن على القول به ) أي : بالتحريف كما ذهب اليه بعض ، خلافاً للمشهور من المحققين ، من عدم وقوع الزيادة والنقيصة فيه ( لا يمنع من التمسّك بالظواهر ) .

أمّا احتمال وجه المنع ، فلأنّا لا نعلم بسلامة هذه الظواهر الموجودة للعلم الاجمالي ، فاذا قال المولى - مثلاً - جئني بأسد يرمي ، فحذف يرمي من كلامه بعد التحريف ، لم يكن الاسد ظاهراً في مراده ، الّذي هو الرجل الشجاع ، فلا يمكن العمل به .

ص: 242

لعدم العلم الاجماليّ باختلال الظواهر بذلك ، مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة ، الغير المحصورة . مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ،

------------------

وكذلك اذا قال المولى ، كلمات وعلمنا بالحذف في الجملة ، فانّ ظواهر تلك الكلمات لا يمكن العمل بها ، للعلم الاجمالي بخروج بعض الظواهر ، عمّا كان ظاهراً فيه قبل التحريف .

وانّما قلنا : لا يمنع لوجوه ثلاثة ، ذكرها المصنّف : - اولاً : ( لعدم العلم الاجمالي باختلال الظواهر بذلك ) أي : بسبب التحريف ، وذلك لاحتمال ان يكون الساقط آيات مستقلّة ، او كلمات مستقلّة ، غير مخلّة بظواهر سائر الايات ، الّتي هي محل الابتلاء .

مثلاً : نحتمل ان يكون الساقط في سورة يوسف شيئاً مربوطاً بالقصة الغابرة ، ممّا لا مدخليّة لها في اصول الدين ، أو فروعه ، وهكذا ، فالظواهر تبقى على حجّيتها .

ثانياً : ( مع انّه لو علم ) أي : علمنا اجمالاً باختلال بعض الظواهر بالتحريف ( لكان من قبيل الشبهة غير المحصورة ) وقد تقرر في الاصول : انّ الشبهة غيرالمحصورة ، لا توجب للانسان تكليفاً .

كما اذا كان هناك الف أناء فتنجس أناء واحد من تلك الأواني ، فانّ العلم الاجمالي بنجاسة هذا الألف ، لا يوجب الاجتناب عن هذه الأواني في الجملة ، ومعنى في الجملة : انّه لا يجوز ارتكاب الكلّ ، كما قرر في محله .

ثالثاً : ( مع انّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ) كنجاسة أناء في عشرة أواني ، حيث يلزم الاجتناب عن جميعها ، كما قرر في باب العلم الاجمالي

ص: 243

أمكن القولُ بعدم قدحه ، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلّقة ، بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي أُمِرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب ، فافهم .

------------------

( أمكن القول بعدم قدحه ) ، مثلاً- لو فرضنا انّ واحداً في العشرين من ظواهر القرآن اختل بسبب التحريف ، فانّه لا يضرّ بالحجّيّة أيضاً ، مع انّ الشبهة من قبيل المحصورة ، وذلك ( لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره ، من الظواهر غير المتعلقة بالاحكام الشرعيّة العمليّة الّتي اُمرنا ) من قبل الشارع ( بالرجوع فيها ) أي : في تلك الاحكام ( إلى ظاهر الكتاب ) .

فانّ العلم الاجمالي انّما يكون منجّزاً ، اذا علم المكلّف انّ التكليف موجه اليه ، لا ما اذا لم يعلم ، كما اذا كان هناك عشرة أواني قرب بئر ، فوقعت قطره من ماء نجس، ولم يعلم بانّها وقعت في احدى هذه الأواني أو في البئر ، فانّه حيث لا يعلم بحدوث التكليف عليه ، جاز له ارتكاب الكلّ لأدلّة البرائة .

والمقام من هذا القبيل ، حيث انّه في القرآن أحكام وقصص وما اشبه ، فاذا احتملنا انّ التحريف وقع في القصة ، والتاريخ ، وما اشبه ولم نقطع ، بأنّ التحريف وقع في الاحكام جاز لنا الأخذ بالظواهر في جميع الاحكام الّتي هي محل الابتلاء .

( فافهم ) ولعلّه اشارة إلى انّ مناط الحجّيّة : الظهور ، ومع اختلال بعض الظواهر لا يكون بناء العقلاء على الأخذ بظاهر أي منها . فاذا أمر المولى أمراً ونهى نهياً وسَرَد تاريخاً ، ثمّ علمنا من الخارج أو من نفس قول المولى : انّ احد هذه الظواهر ، خرج عن الحجّيّة لخروجه عن الظهور ، فانّ مجرد احتمال ان يكون

ص: 244

الرابع : قد يتوهّم : « أنّ وجوبَ العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزمٌ لعدم جواز العمل بظاهره ،

------------------

الظاهر المختل هو التاريخ - مثلاً - لا ينفع في الأخذ بظاهر الأمر والنهي .

وليس المقام من الشبهة غير المحصورة ، بعد ما ورد من حذف ثلث القرآن ، بين قوله سبحانه : « وَإنْ خِفْتُمْ أن لاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامى » (1) .

وقوله سبحانه : « فِأنْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء ... » (2) .

وفي كتب العامّة ما يشبه ذلك ، بالنسبة إلى اسامي الصحابة ، المحذوفة من القرآن الحكيم .

هذا ، ولكن الجواب الّذي ذكرناه أولاً ، هو الجواب الّذي يمكن الاعتماد عليه عن هذا الاشكال .

التنبيه ( الرابع ) في جواب اشكال ذكره صاحب القوانين ، في العمل بظواهر القرآن وهو انّه ( قد يتوهّم انّ ) اثبات ( وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع ) لانّ الاجماع ، هو الّذي يفيد وجوب العمل بظواهر الكتاب ، والمراد به : اجماع غير الّذين خالفوا - كجماعة من الاخباريين - وإلاّ فمن الواضح : انّ الاجماع المطلق غير موجود في المقام .

( مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره ) أي : بظاهر الكتاب العزيز ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، لانّه يستلزم اجتماع الوجود والعدم من آن واحد ، بالنسبة إلى شيء واحد إلى سائر الشرائط المذكورة في باب التناقض ، وهذا بديهي الاستحالة .

ص: 245


1- - سورة النساء : الآية 3 .
2- - سورة النساء : الآية 3 .

لأنّ من تلك الظواهر ظاهرَ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا حتّى ظواهر الكتاب .

وفيه : أنّ فرضَ وجود الدليل على حجيّة الظواهر موجبٌ لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل

------------------

وانّما يلزم من وجوب العمل ، عدم جواز العمل ( لانّ من تلك الظواهر ) الواجب العمل بها ( ظاهر الايات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقاً ) أي : سواء كان العمل بالظنّ من الظاهر ، او من غير الظاهر ، فقوله سبحانه وتعالى : - « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1)، وغير ذلك من ا لآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، تشمل أيضا العمل بالظاهر ، لانّ العمل بالظاهر من صغريات العمل بالظنّ ، اذ نحن لا نقطع من الظاهر بالمراد ، وانّما نظنّ بانّ مراد المولى ذلك .

وعليه : فاذا وجب العمل بظاهر الكتاب ، وجوب العمل بظاهر قوله سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (2) ، وبقوله سبحانه : « إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِيْ مِنَ الحَقِّ شَيْئاً » (3) وغيرها من سائر الآيات ، ومعنى وجوب العمل بها ، عدم العمل بظاهر القرآن ، فظاهر القرآن يقول : لا تعمل بظاهر القرآن ، لأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل (حتّى ظواهر الكتاب ) نفسه .

( وفيه : ) اولاً : انّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر ، لانّ الظواهر خارجة بالاجماع فهو تخصيص في باب حرمة العمل بالظنّ ، حيث ( انّ فرض وجود الدّليل على حجيّة الظواهر، موجب لعدم ظهور الآيات الناهية ، في حرمة العمل

ص: 246


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - سورة يونس : الآية 36 .

بالظواهر ، مع أنّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجيّة أنفسها ، إلاّ أن يقال إنّها لا تشملُ أنفسَها ، فتأمّل .

وبازاء هذا التوهّم ، توهّمُ : « أنّ خروجَ ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليسَ من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ،

------------------

بالظواهر) فليست الظواهر من صغريات الظنّ ، لأنّ الظواهر خارجة بالاجماع من باب التخصيص ، وانّما يشمل الظنّ غير الظواهر من الظنون العادية .

ثانياً : ( مع انّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجّيّة أنفسها ) وذلك محال بأن تقول الاية الناهية : لا تعمل بي ، فانّه لو شملت الآيات الناهية ظواهر الكتاب أيضاً ، لشملت نفسها ، لأنّ نفس هذه الآيات الناهية من ظواهر الكتاب ، وهذا محال .

( إلاّ أن يقال : انّها ) أي : الآيات الناهية ( لا تشمل انفسها ) لأنّ المتبادر من الآيات الناهية غير انفسها .

( فتأمّل ) ويمكن أن يكون إشارة إلى انّه : لا يتمكن الاجماع من اخراج الظواهر ، على نحو التخصيص ، اذ الآيات الناهية آبية عن التخصيص فانّه كيف يمكن أن يقال : انّ طبيعة الظنّ ليست طريقاً ، ثمّ يقول : انّ هذا الظنّ ليس كذلك ؟ وبعبارة اُخرى : انّ الآيات الناهية ، وان لم تشمل انفسها من حيث التبادر اللفظي للانصراف الّذي ذكرناه ، إلاّ انّها تشمل انفسها بالمناط ، ومعنى المناط ، انّ الظنّ الّذي ليس بحجّة في نفسه شامل للظاهر أيضاً .

( وبازاء هذا التوهّم ) القائل بالتخصيص ( توهّم ) آخر قائل بالتخصّص ، وهو : (انّ خروج ظواهر الكتاب عن الايات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ) .

ص: 247

لأنّ وجود القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم الى العلم » .

وفيه : ما لا يخفى .

------------------

والفرق بينهما : انّ التخصيص خروج حكمي ، والتخصّص خروج موضوعي ، فاذا قال : اكرم العلماء إلاّ زيداً ، وكان زيد عالماً ، كان تخصيصاً ، أمّا اذا كان زيد جاهلاً كان تخصّصاً ، لانّه لم يدخل في العلماء حتّى يخرج منهم .

فالتوهّم الأوّل كأن يقول : انّ الآيات الناهية شاملة لظواهر القرآن ، إلاّ انّ الظواهر خارجة بسبب الاجماع ، فهو تخصيص .

والتوهّم الثاني كأن يقول : بأنّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر اطلاقاً ، بل تشمل سائر الظنون العاديّة ، فخروج الظواهر من باب التخصّص ، وذلك ( لانّ وجود ) الدليل ( القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم ) فانّ ما دلّ على حجّيّة الظواهر ، من الاجماع والروايات المتواترة وما اشبه ، تخرج الظواهر من كونها ظناً إلى كونها علماً .

( وفيه ما لا يخفى ) لأنّ الدليل المعتبر على حجّيّة الظواهر ، لا يجعل الظواهر علماً ، بل تكون ظناً معتبراً ، وفرق بين الظنّ المعتبر ، وبين العلم .

هذا ، ولكن يمكن ان يقال : انّ الظنّ مطلقاً حجّة عند العقلاء ، والشرع لم يغيره .

أمّا انّه حجّة مطلقاً عندهم ، فلبنائهم في كلّ اُمورهم المهمّة وغير المهمّة على الظنون ، فمن يسافر بالطائرة ، أو الباخرة ، أو السيارة ، أو غير ذلك ، هل يعلم انّ سائقها يعرف السياقة كاملاً ، فيوصله بسلام ؟ أو انّ وسيلة النقل الّتي حجز مقعده منها صحيحة سالمة توصله بسلام ؟ فمع انّه لا يعلم بذلك ، يسلم نفسه وامواله وعائلته اليهم ، كما انّه يسلمها جميعاً إلى وسيلة النقل المجهولة .

ص: 248

...

------------------

وكذلك من يعطي نفسه للطبيب ا لجرّاح ، لاجراء عمليّة جراحيّة عليه ، خصوصاً لو كانت العمليّة صعبة هل يعلم بانّ الطبيب الجراح ماهر في مهنته ؟ .

وكذا من يراجع الطبيب في مرضه ويشرب الدواء الّذي وصفه الطبيب له ، هل يعلم بأنّ الدواء دواء سالم عن الاشتباه ، صحيح من حيث التركيب ؟ .

وهكذا من يتاجر فهل يضمن ربح تجارته ؟ ومن يقوّم ملكه لبيعه هل يضمن صحّة تسعيره ؟ إلى غير ذلك من اُمورهم ، اليس كلّ ذلك ظنّ ؟ .

وأمّا انّ الظنّ في الشرع كذلك ، فلأنّ حال المسلمين في زمانهم عليهم السلام ، كان كذلك ، وهم لم يردعوا عنه ، والاّ لوصل خلافه الينا ، ولم يصل ، بل وصل العكس ، وهو : اعتمادهم على الظنّ مطلقاً .

أمّا الآيات الناهية ، فهي في قبال الدليل العقلائي القائم على عدم صحّة عبادة الاصنام ، وما أشبه ذلك حيث كان المشركون يعملون في قبال الدليل على ظنونهم غير العقلائية ، والعقلاء لا يرون مثل هذا الظنّ حجّة ، بالاضافة إلى انّها في اُصول الدين ، فلا يمكن تعديتها إلى فروع الدين ، وسائر الشؤن الدنيويّة ، لأهميّة اُصول الدين بما لا أهمية مثلها في فروع الدين .

ولو لم نقل بذلك ، كان التوهّم الثاني هو الأقرب إلى الدليل ، فخروج الظنّ ، من باب التخصّص لا التخصيص ، اذ التخصيص في معنى قوله سبحانه :

« إنّ الظَنّ لا يُغنِي مِنَ الحَقّ شَيْئاً » (1) ، غير وارد ، فانّ أمثال هذه الاية ، من قبيل ما لا يمكن تخصيصه .

ص: 249


1- - سورة يونس : الآية 36 .

وأمّا التفصيل الآخر : فهو الذي يظهر من صاحب القوانين ، في اخر مسألة حجيّة الكتاب وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو الفرقُ بين مَن قُصِدَ إفهامُه بالكلام ، فالظواهرُ حجّةٌ بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ، سواء كان مخاطبا ، كما في الخطابات الشفاهيّة ، ام لا ،

------------------

والحاصل لما مضى يكون كالتالي :

اوّلاً : انّ الظنّ حجّة مطلقاً ، إلاّ ما خرج .

ثانياً : لو لم نقل بذلك ، يكون خروج الظنّ ، في الموارد المذكورة ، من باب التخصّص لا التخصيص .

هذا هو تمام الكلام في القول : بالتفصيل ، بين ظواهر الكتاب فليست بحجّة ، وبين ظواهر غير الكتاب فهي حجّة .

( وأمّا التفصيل الآخر ، فهو الّذي يظهر من صاحب القوانين ، في آخر مسألة حجيّة الكتاب ، وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو : الفرق بين من قصد افهامه بالكلام فالظواهر حجّة ، بالنسبة اليه ) سواء كان من قصد افهامه حاضراً أو غائباً ، موجوداً أو معدوماً في حال الخطاب ، فالظاهر يكون بالنسبة اليه حجّة ( من باب الظنّ الخاصّ ) لاتفاق أهل اللسان على ذلك ، من غير فرق بين اللّغة العربية أو الفارسية أو غيرهما .

( سواء كان ) من قصد أفهامه ( مخاطباً ) شفهاً ، بان يكون حاضراً في مجلس الخطاب ، والمخاطب مشافه له ( كما في الخطابات الشفاهية ) بأن يقول النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لمن حضر مجلسه اعملوا كذا ، أو لا تعملوا كذا ، ( ام لا ) بان يخاطب المسلمين ، الحاضرين منهم والغائبين ، الموجودين منهم والمعدومين ، الذين سيأتون فيما بعد ، فيقول لهم : اعلموا ايها المسلمون انّه يجب عليكم العمل

ص: 250

كما في الناظر في الكتب المصنّفة ، لرجوع كلّ من ينظر إليها ؛ وبين من لم يُقصَد إفهامُه بالخطاب ، كأمثالنا بالنسبة الى أخبار الأئمة عليهم السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة الى الكتاب العزيز ، بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا

------------------

بكذا ( كما في الناظر في الكتب ) ، المتعارفة ( المصنّفة لرجوع كلّ من ينظر اليها ) ، فانّ امثال هذه الكتب ، لم تكتب لجماعة خاصّة كانوا في حضور المؤف ، أو كانوا في زمانه ، فانّ المصنفين غالباً يؤّفون الكتاب لكلّ من نظر فيه وطالعه ، ولو بعد آلاف السنوات ، فيكون الجميع مقصوداً بالافهام ، ولهذا تكون هذه الكتب حجّة بالنسبة اليهم . ( وبين من لم يقصد افهامه بالخطاب ) حتّى وان كان حاضراً في المجلس ، كما اذا كان المتكلّم يريد جماعة خاصّة كالعلماء - مثلاً - أو المهندسين أو الاطبّاء ، فانّ غير هؤاء اذا كانوا حاضرين في مجلس الخطاب ، لا يشملهم الخطاب ، فليس الظواهر حجّة بالنسبة اليهم ( كأمثالنا بالنسبة إلى اخبار ) الرسول والزهراء و ( الأئمّة عليهم السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤل السائلين ) ، فانّ المقصود بالخطاب هو السائل لا كلّ من يسمع الخطاب ، ولو كان حاضراً في مجلس المعصوم عليه السلام ، فالغائب في ذلك الزمان وكذلك نحن لسنا مقصودين بالافهام ، ولذا فالظاهر ليس حجّة لنا ( و ) لا لأمثالنا ( بالنسبة الى الكتاب العزيز بناءاً على عدم كون خطاباته موجّهة الينا ) بل خطاباته موجهة إلى الموجودين ، في زمن نزول الايات ، فمثل قوله سبحانه : « حَرِّضِ المُؤِنِيْنَ عَلَى القِتَالِ » (1) ، وقوله تعالى : « إِن يكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُوْنَ

ص: 251


1- - سورة الانفال : الآية 65 .

وعدم كونه من باب التأليف للمصنّفين ، فالظهور اللفظيّ ليس حجّةً حينئذٍ لنا ، إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم .

ويمكن توجيهُ هذا التفصيل :

------------------

يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ » (1) ، وقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لَعَن اللّهُ مَن تَخَلّفَ عَن جَيشِ أسامَةَ » (2) ، كلّها خاصة بأولئك ولا تشملنا ، بل لا يشمل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، هذا للجيش الّذي يعقده أسامة ، بعد وفاته صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاذا عقد جيشاً وأراد غزواً ، فلم ينظم بعض المسلمين تحت لوائه ، لا يشمله لعن الرسول .

( و ) ذلك ل( عدم كونه من باب التأليف للمصنفين ) أي : بناءاً على انّا لسنا مقصودين بالافهام ، فالقرآن العزيز - على رأيه - ليس من قبيل تأليف المصنفين ، أمّا بناءاً على كوننا مقصودين بالافهام في الكتاب العزيز ، وفي كلماتهم عليهم السلام ، فالخارج يحتاج إلى الدليل .

وعلى قول صاحب القوانين : ( فالظهور اللفظي ) في الآيات والاخبار ( ليس حجّة حينئذٍ لنا الاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم ) لا من باب الظنّ الخاصّ ، الّذي كلامنا فيه الان .

والحاصل : انّ صاحب القوانين ، يرى حجيّة هذه الامور من باب الظنّ المطلق ، كسائر الظنون ، لا من باب انّه ظنّ خاصّ .

( ويمكن توجيه هذا التفصيل ) بما حاصله : انّه اذا كان الشخص مقصوداً بالافهام ، فاحتمال خلاف ظاهر اللفظ ، يكون من جهة احتمال غفلة المتكلّم ،

ص: 252


1- - سورة الانفال : الآية 65 .
2- - دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، الصراط المستقيم : ج2 ص296 بالمعنى ، إثبات الهُداة : ج2 ص383 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 .

بأنّ الظهور اللفظيّ ليس حجّةً إلاّ من باب الظنّ النوعيّ وهو كون اللفظ بنفسه لو خُلِّيَ وطَبعهُ مفيدا للظنّ بالمراد .

فاذا كان مقصودُ المتكلّم من الكلام ، إفهامَ من يُقصَدُ إفهامُه ، فيجب عليه

------------------

أو غفلة السامع ، والغفلة منفيّة بالأصل .

أمّا اذا لم يكن الشخص مقصوداً بالافهام ، فهناك احتمال آخر في عدم ارادة المتكلّم الظاهر ، لاحتمال انّ المتكلّم أتى بقرينة يفهمها المخاطب دون الشخص الثالث ، ولا أصل ينفي هذا الاحتمال ، فكيف يمكن اعتماد الثالث ، على هذا الظاهر الّذي يحتمل احتمالاً عقلائياً ، عدم ارادة المتكلّم له ، لانّه نصب قرينة يفهمها المخاطب دون غير المخاطب ؟ .

وعليه : فانّا نعلم علماً قطعيّاً ( بأنّ الظهور اللفظي ليس حجّة الاّ من باب الظنّ ) لانّ الظواهر لا تفيد العلم ، ولذا اتفق العلماء على أنّ معيار حجيّة الظواهر من باب الظنون ، لكن لا يراد بالظنّ : الشخصي ، بل المراد بالظنّ ( النوعي ) ومعنى الظنّ النوعي : انّ النوع يظنّون من هذا الظاهر هذا المعنى : ( وهو كون اللفظ بنفسه ) أي : لا بالدليل الخارجي ( لو خلّي وطبعه ) وذلك بأن لم يكن للمتكلّم اسلوب جديد ، في افادته ما يريده ، ولم يكن للمخاطب وسوسة أو نحوها ، حتّى يظنّ الخلاف من الظاهر ( مفيداً للظنّ بالمراد ) وهذا خبر قوله : « كون اللفظ » ، فالمناط لحجّيّة الظهور عند أهل اللسان : المخاطب بالمراد ، والظنّ انّما يحصل لمن قصد افهامه ، دون غيره ، بمعنى : انّ العقلاء يظنّون ظناً نوعياً بمراد المتكلّم ، فيما اذاكان الطرف هو المخاطب ، لا ما اذا كان انساناً ثالثاً ، لم يقصد المتكلّم خطابه ، ( فان كان مقصود المتكلّم من الكلام افهام من يقصد افهامه ) أي : مخاطبه (فيجب عليه) أي : على المتكلّم من جهة أن لا يكون مغريا بالجهل

ص: 253

إلقاءُ الكلام على وجه لايقع المخاطبُ معه في خلاف المراد ، بحيث لو فرض وقوعهُ في خلاف المقصود ، كان إمّا لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه ، وإمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ،

------------------

( القاء الكلام على وجه ) يفيد المراد و ( لا يقع المخاطب معه ) أي : مع ذلك الوجه ( في خلاف المراد ) ، فاذا اراد من الصلاة : الأركان المخصوصة لا الدعاء ، وقد كان المتعارف : فهم الدعاء من الصلاة ، لا الأركان المخصوصة ، وجب على المتكلّم فيما اذا قال : أقيموا الصلاة أن يقيم قرينة كي يفهم المخاطب مراده من الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى الزكاة ، والحجّ ، وغيرها ، كما انّه اذا أراد من الأسد : الحيوان المفترس وجب عليه ان لا يأتي بقرينة ، تصرف ظاهر اللفظ عن معناه اللغوي ، أمّا اذا كان مراده من الأسد : الرجل الشجاع ، فاللازم عليه : أن يأتي بقرينة تصرف الظاهر عن ظاهره ، مثل : اسد يرمي ، أو أَسد في الحمام أو ما اشبه ذلك .

( بحيث لو فرض وقوعه ) أي : المخاطب ، ( في خلاف المقصود ) أي : خلاف مقصود المتكلّم ( كان امّا لغفلة منه ) أي : المخاطب ( في الالتفات إلى ما ) أي القرينة اللفظية ، أو العقليّة الّتي ( اكتنف به الكلام الملقى اليه ) أي : إلى المخاطب ( وامّا لغفلة من المتكلّم في القاء الكلام على وجه يفي بالمراد ) .

والحاصل : فهم خلاف المراد ، ينتج امّا من جهة انّ المتكلّم لم يأت بالقرينة ، كما اذا قال : الأسد ، وأراد الشجاع ، بدون ان يأتي بمثل يرمي ، غفلة من المتكلّم في انّ هذه القرينة لا زمة لفهم المخاطب مراده ، أو من جهة انّ المخاطب غفل عن اشتمال كلام المتكلّم على يرمي ، ففهم من الأسد الحيوان المفترس ،

ص: 254

ومعلومٌ أنّ احتمالَ الغفلة من المتكلّم او السامع احتمالٌ مرجوح في نفسه مع انعقاد الاجماع من العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفله في جميع امور العقلاء ، أقوالهم وأفعالهم .

------------------

لا ما أراده المتكلّم من الرجل الشجاع ، (ومعلوم : انّ احتمال الغفلة من المتكلّم ، أو السّامع ، احتمال ) ضعيف لا يضرّ بالظاهر ، و ( مرجوح في ) حدّ ( نفسه ) فلا يوجب عدم الظنّ بالمراد ، الظنّ الّذي هو ملاك الظهور ، والأخذ والعطاء .

هذا من ناحية ضعف الاحتمال في نفسه ( مع انعقاد الاجماع من ) أهل اللّسان ، أي : (العقلاء والعلماء ) الذين هم قسم من العقلاء ( على ) اصالة عدم الغفلة في المتكلّم ، أو في السامع و ( عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء ) من (أقوالهم وأفعالهم ) ، فانّه اذا احتمل انّ العاقل ، فعل فعلاً غفلة ، أو قال قولاً غفلة ، بحيث لا يريد ظاهر ذلك القول ، أو كان فعله صادراً عن غير ارادة جدّية لغفلته ، فالأصل العقلائي عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، مثلاً : - في الشهادات والأقارير ، والأوامر ، والنواهي ، وغيرها ، اذا أطلقها المتكلّم ، لا يحتمل العقلاء الغفلة فيها ، فلا يحتملون انّه اراد النهي وقال الامر ، أو اراد بالشهادة زيداً ، فتلفظ غفلة بلفظ عمرو ، وهكذا اذا صلّى ، أو صام ، أو اشترى ، أو باع ، أو استأجر ، أو ما اشبه ، لا يحتمل العقلاء غفلة الفاعل في هذه الافعال ، بان يحتملوا انّه يريد البيع - مثلاً - فقال لفظ الاستئجار أو بالعكس ، إلى غير ذلك .

لا يقال : انّا نعلم علماً يقينا ، بوجود الغفلة في الاقوال والافعال للعقلاء في الجملة ، فكيف نجري أصل عدم الغفلة ؟ .

لانّه يقال : الغفلة في قبال عدم الغفلة قليلة جداً ، والقليل ليس مورد اعتناء

ص: 255

وأمّا إذا لم يكن الشخصُ مقصودا بالافهام ، فوقوعه في خلاف المقصود لاينحصر سببُه في الغفلة . فانّا إذا لم نجد في آية او رواية ما يكون صارفا عن ظاهره واحتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا ،

------------------

العقلاء ، ولذا يجرون اصالة عدم الغفلة في الاقوال والافعال ، إلاّ اذا ثبت خلاف هذا الاصل .

( وامّا اذا لم يكن الشخص مقصوداً بالافهام ) فلا يلزم على المتكلّم ، رعاية حال مثل هذا الشخص ، ولذا يحتمل هذا الثالث احتمالاً عقلائياً بوجود قرينة اختفت عليه ، (فوقوعه ) أي : هذا الثالث ( في خلاف المقصود ) للمتكلّم ( لا ينحصر سببه في الغفلة ) ، للمتكلّم ، أو لهذا الشخص الّذي يريد فهم مراد المتكلّم من كلامه ، وهو الشخص الثالث ، بل ربّما يكون عدم فهم هذا الثالث مراد هذا المتكلّم ، لاختفاء القرائن المكتنفة بالكلام حالاً ، أو مقالاً بالنسبة اليه .

والحاصل : انّ اصالة عدم الغفلة من المتكلّم تكفي بالنسبة إلى الثالث ، لكن الثالث ، لا يتمكن انّ يكتفي بهذا الاصل ، بل يحتاج إلى أصل آخر ، وهو : اصالة عدم القرينة بين المتكلّم والسامع ، وهذا ليس أصلاً عقلائياً يبني عليه في التفهيم والتفاهم لدى العقلاء .

( فانّا اذا لم نجد في آية أو رواية ، ما يكون صارفاً عن ظاهره ) والضمير المذكر في «ظاهره » عائد إلى الكلام المستفاد من العبارة ( واحتملنا ان يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا ) ، بأن كانت هناك قرينة حالية ، أو مقاليّة بين المتكلّم والمخاطب بتلك الاية ، أو بتلك الرواية ، لكن تلك القرينة اختفت علينا سواء كنّا غائبين عن مجلس الخطاب ، أو كنّا معدومين في وقت الخطاب ، بل

ص: 256

فلا يكون هذا الاحتمالُ لأجل غفلة من المتكلم او منّا ، إذ لايجب على المتكلّم إلاّ نصبُ القرينة لمن يُقصَدُ افهامهُ ، مع أنّ عدم تحقّق الغفلة من المتكلّم في محلّ الكلام مفروضٌ لكونه معصوما . وليس اختفاءُ القرينة علينا مسبّبا عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء

------------------

وحتّى اذا كنّا في مجلس الخطاب ، اذا احتملنا أن يكون بين المتكلّم والمخاطب مواطاة على القرينة .

( فلا يكون هذا الاحتمال ) أي : احتمال القرينة المختفية علينا هو ( لاجل غفلة من المتكلّم أو منّا ) لانّ هذا الاحتمال ، احتمال جديد ، غير احتمال الغفلة ( اذ لا يجب على المتكلّم إلاّ ) رعاية حال مخاطبه ، لا رعاية من حضر مجلسه ، أو رعاية الغائب عن مجلسه ، أو رعاية المعدوم ، الّذي سيوجد بعد ذلك .

فاللازم على المتكلّم ( نصب القرينة لمن يقصد أفهامه ، مع انّ عدم تحقق الغفلة من المتكلّم في محل الكلام ) في باب الايات والروايات ( مفروض ) لانّ المفروض انّ محل كلامنا : الايات والروايات ، وهي صادرة عمّن لا يخطأ لانّه اللّه سبحانه وتعالى او من قبله سبحانه ( لكونه معصوما ) ، فأصالة عدم الغفلة غير محتاج اليها في محل البحث ، نعم ، غفلة الشخص الثالث وعدم غفلته ، مورد الاصل ، أي الاصل : انّ الشخص الثالث لم يغفل ، كما انّ الاصل : انّ المخاطب لم يغفل ، وكذا- في غير اللّه سبحانه وتعالى ، والمعصومين عليهم السلام ، الاصل عدم الغفلة في المتكلم أيضاً .

( وليس اختفاء القرينة علينا مسبّباً عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء ) فلا يكفي اصالة عدم غفلتنا بالنسبة إلى الايات والروايات في استفادتنا من الظواهر مراد المتكلّم ، بل نحتمل احتمالاً عقلائياً انّ القرائن كانت موجودة ، وقد اختفت

ص: 257

الخارجة عن مدخليّة المتكلّم ومن اُلقيَ إليه الكلام .

فليس هنا شيء يوجب بنفسه الظنّ بالمراد ، حتّى لو فرضنا الفحص ، فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ليس هنا ما يوجب مرجوحيّته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ،

------------------

علينا ، وهي ، القرائن ( الخارجة عن مدخلية المتكلّم ومن اُلقي اليه الكلام ) الّذي كان حاضراً في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، عند قرائة الرسول الاية عليه ، أو أمره ونهيه بشيء من الاحكام ، ومثل هذا ا لاحتمال لا أصل ينفيه ، خصوصاً بالنسبة إلى الاخبار الّتي اختلطت فيها التقيّة بغير التقيّة .

كما انّ التقطيع فيها اوجب اختفاء كثير من القرائن ، في أوّل الكلام لاخره ، أو في آخر الكلام لاوّله ، أو في وسط الكلام لاوّله ، أو آخره .

( فليس هنا ) للشخص الثالث ( شيء يوجب بنفسه الظّن بالمراد ) ، فانّه اذا لم يلزم على المتكلّم - في عرف العقلاء رعاية حال من لم يقصد افهامه ، بحيث احتمل الثالث اختفاء القرائن ، لا يحصل لهذا الثالث ، الظنّ بمراد المتكلّم ، من نفس الظاهر ، بحيث يكون ظناً نوعياً خاصاً وان كان ظناً من باب الانسداد - كما يقوله القوانين - وذلك ( حتّى لو فرضنا الفحص ) من هذا الشخص الثالث .

وعليه : ( فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ) ونحن الشخص الثالث ، لانّنا لم نكن مقصودين بالخطاب على هذا لقول ، وانّما كان المقصود بالخطاب : الذين كانوا زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمة الطاهرين عليهم السلام يثبته انّه ( ليس هنا ما يوجب مرجوحيته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ) .

وقوله : « ليس هنا » ، خبر قوله : « فاحتمال » أي : انّ احتمال وجود القرينة

ص: 258

إذ لا تحكم العادةُ ، ولو ظنّا ، بأنّها لو كانت لظفرنا بها ، إذ كثيرٌ من الامور قد اختفت علينا .

بل لايبعد دعوى العلم بأنّ مااختفى علينا من الأخبار والقرائن أكثر ممّا ظفرنا بها ، مع أنّا لو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتصلة ،

------------------

واختفائها ، احتمال قوي موجود قبل الفحص وبعد الفحص واليأس ، واذا كان هذا الاحتمال موجوداً عند العقلاء، فلا يحصل لهم الظنّ بمراد المتكلّم الظاهر من كلامه، فلا يمكن الاعتماد على الظاهر في استفادة مراد المتكلّم منه ، ( اذا لا تحكم العادة ) العقلائية ولو احتمالاً ، ( ولو ظناً ، بانّها لو كانت لظفرنا بها ) فانّ العادة لم تجر بالظفر بالقرائن المختفية ، فيما اذا لم يكن مقصود المتكلّم الشخص الثالث ، ( اذ كثير من الامور قد اختفت علينا ) ولم تتوفر الدواعي في حفظ تلك القرائن ، حيث لم نكن نحن المقصودين ، فاذا خاطب المولى عبداً واراد بذلك كلّ عبيده ، وكانت هناك قرائن ، توفرت الدواعي لحفظ تلك القرائن ، حتّى يطلع العبيد عليها ، فيطيعون المولى ، أما اذا كان المقصود المخاطب فقط ، لم تكن تلك الدواعي فلا تحفظ القرائن ، وحينئذٍ لا يكون الظاهر حجّة لدى العبيد الذين لم يكونوا مقصودين بالخطاب .

( بل لا يبعد دعوى العلم : بأن ما اختفى علينا من الاخبار والقرائن ، أكثر ممّا ظفرنا بها ) لكثرة التقطيع في الروايات ، وتداخل التقيّة في غيرها ، وعدم استواء فهم المخاطبين لكلمات المولى ، فاذا فحصنا عن تلك القرائن ، لا يحصل لنا العلم بعدمها ، بل ولا الظنّ بعدم تلك القرائن ، ولو فرض حصول الظنّ بعدم القرينة ، لم يكن هذا الظن حجّة لعدم بناء العقلاء على حجية مثل هذا الظن .

( مع انّا لو سلّمنا حصول الظنّ ) بعد الفحص ( بانتفاءالقرائن المتّصلة ) ولم

ص: 259

لكنّ القرائن الحاليّة وما اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقليّة او النقليّة الكليّة او الجزئية

------------------

نقل : بأن تقطيع الاخبار وغيره ، اوجب انتفاء القرائن المتصلة الّتي تعني المقصود من الكلام (لكن القرائن الحالية ) كصدور الكلام في حال التقيّة ( وما ) أي : القرائن الّتي (اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقلية ، او النقليّة الكلّيّة ) فلا نسلم حصوله ، اما القرينة العقليّة الكلّيّة ، فمثل : انّ المولى حكيم والحكيم لا يأمر بشيء اعتباطي ، فيكون قرينة على انّ الظاهر ليس مراد المولى ، مثلاً : لو قال المولى : تقدّم إلى النور ، لم يكن مراده : المشي إلى مكان المصباح ، - لانّه اعتباط فرضاً - بل مراده : الذهاب إلى العلم ، فيكون هذا قرينة عقليّة كلّيّة على المراد .

وأما القرينة النقليّة فمثل : وقوع الامر عقيب الحظر ، ووقوع النهي عقيب توهّم الوجوب ، فانّهما قرينتان على عدم وجوب الامر ، وعدم حرمة النهي ، فاذا قال : سبحانه : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا » (1) لم يكن معنى الامر هنا : الوجوب ، بل معناه : الاباحة ، لانّه واقع بعد النهي عن الاصطياد في حال الاحرام ، وكذلك اذا أمر بالصدقة قبل النجوى ، ثمّ قال : لا تعطوا الصدّقة ، لم يكن نهياً تحريميا ، بل لافادة ارتفاع الوجوب .

( أو الجزئيّة ) في قبال الكلّيّة ، فانّ القرينة اما عقليّة أو نقليّة ، وكلّ منهما امّا كلّيّة تشمل هذا الموضوع وسائر المواضيع وتعمّ هذا المولى وسائرالموالي أو جزئيّة مختصة بهذا الموضوع وهذا المولى كما اذا قال المولى : اكرم العلماء وعلم العبد بانّه لا يريد الفسّاق ، لانّ الفسّاق مبغوضون عنده ، فانّ هذه قرينة جزئية على عدم

ص: 260


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام ليست ممّا يحصل الظنّ بانتفائها بعد البحث والفحص ، ولو فرض حصول الظنّ من الخارج بارادة الظاهر من الكلام لم يكن ذلك ظنّا مستندا إلى الكلام ، كما نبّهنا عليه في أوّل البحث .

------------------

ارادة هذا المولى : الفاسق ، وقد لا يكون المولى كذلك ، بأن يرى العالم العادل والفاسق سواءاً .

وممّا ذكرنا : تبيّن انّ قول المصنِّف قدس سره « وما اعتمد » عطف بيان لقوله : «القرائن الحا لية » لانّ القرائن الحاليّة لا تخلو عن هذه الامور الاربعة : العقليّة ، أو النقليّة ، الكلّيّة ، أو الجزئية ( المعلومة عند المخاطب ، الصارفة لظاهر الكلام ) عمّا يظهر فيه ، إلى موضع القرينة فانّها ( ليست ممّا يحصل الظّن بانتفائها بعد البحث والفحص ) ولو فرض حصول الظنّ ، لم يكن مثل هذ الظنّ حجّة عند العقلاء .

والحاصل : انّه لا وجه لحصول الظنّ بارادة الظاهر لمن لم يقصد افهامه ( ولو فرض حصول الظّن من الخارج ) لأمر خارج عن الكلام ، اورث ظن الشخص الثالث الّذي لم يكن مخاطباً فظنّ بسبب تلك القرينة الخارجية ( بارادة الظاهر من الكلام ، لم يكن ذلك ظنّاً مستنداً إلى الكلام ) حتّى يكون من الظنون النوعيّة العقلائية ، بل هو ظنّ مستند إلى دليل خارجي ، ومثل هذا الظنّ خارج عن المبحث ( كما نبّهنا عليه في اوّل البحث ) حيث قلنا : بانّ الظهور اللفظي ليس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعي ، وهو كون اللفظ بنفسه ، أي لا بالدليل الخارجي مفيداً للظنّ ، وعليه : فالظنّ الخارجي الّذي ليس نوعياً لا يكون حجّة بين المولى والعبد حتّى يحتج العبد به على المولى ، أو يحتج المولى به على العبد .

ص: 261

وبالجملة : فظواهر الالفاظ حجّة ، بمعنى عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها ، اذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلةَ المتكلّم في كيفية الافادة او المخاطب في كيفية الاستفادة ، لأنّ احتمال الغفلة ممّا هو مرجوح في نفسه ومتّفق على عدم الاعتناء به في جميع الامور

------------------

( وبالجملة ) ففي توجيه كلام القوانين ، نقول : ( فظواهر الألفاظ حجّة ، بمعنى : عدم الاعتناء باحتمال ارادة خلافها ) أي خلاف الظواهر ( اذا كان منشأ ذلك الاحتمال ، غفلة المتكلّم ) أو خطئه ، أو نسيانه ، أو جهله ( في كيفّية الافادة ) بان اراد ما ليس بظاهر من الكلام ، لكنه نسي ، أو غفل ، أو جهل ، أو ما اشبه فلم ينصب القرينة لمراده ، ( أو المخاطب في كيفية الاستفادة ) بان لم يلتفت إلى القرينة ، لجهل ، أو غفلة ، أو نسيان ، أو خطأ ، او ما اشبه ، فالمراد هنا - باتفاق أهل اللسان ، على حجّيّة الظواهر يكون حجّة على المخاطب لأنّهم يرون الظواهر حجّة فيما اذا كان هناك احتمال الغفلة او الخلاف ، او ما اشبه سواء في المتكلّم أو المخاطب ، ويبنون على خلاف هذا الاحتمال ، ولهذا تراهم ياخذون بالظاهر ولا يعتنون بمثل هذا الاحتمال ( لانّ احتمال الغفلة ) وما اشبهها ( ممّا هو مرجوح في نفسه ) فانّ امثال هذه الاحتمالات ، المصادمة لحصول الظنّ النوعي بارادة الظاهر ، احتمالات ضعيفة والعقلاء لا يعملون بالاحتمالات الضعيفة ، لا في الافادة والاستفادة من الاقوال ، ولا في الأعمال .

(و) لذا قال المصنّف قدس سره : انّ مثل هذا الاحتمال (متّفق على عدم الاعتناء به في جميع الأمور ) فلا يحقّ للمولى العقاب مستنداً إلى مثل هذا الاحتمال ، كما لا يحق للعبد ترك العمل بأوامر المولى ونواهيه معتمداً عليه ، فانّه يحقّ للمولى عقابه حينئذٍ إلاّ اذا كان للمولى طريقة خاصة به وقد بيّن تلك الطريقة ، فهو خارج

ص: 262

دون ما إذا كان الاحتمالُ مسبّبا عن اختفاء امور لم تجر العادة القطعيّة او الظنّيّة بأنّها لو كانت لوصلت إلينا .

ومن هنا ظهر : أنّ ماذكرنا سابقا ، من اتّفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوي والأقارير والشهادات والوصايا والمكاتبات ،

------------------

عن المبحث .

( دون ما إذا كان الاحتمال مسبباً عن اختفاء أمور لم تجر العادة القطعيّة ، أو الظنيّة ، بانّها لو كانت لوصلت الينا ) وهذا عطف على قوله : « اذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلّم » ، أي اذا كان الاحتمال ، مسبباً عن اختفاء القرائن ، بالنسبة إلى الشخص الثالث ، الّذي لم يكن مخاطباً ، لم يكن بناء العقلاء على اصالة عدمها ، وذلك لانّه لم تجر عادة العقلاء - لا عادة قطعيّة ، ولا عادة ظنية - على أصالة عدم القرائن بالنسبة إلى الشخص الثالث ، فلا يكون الظاهر حجّة للشخص الثالث مع هذا الاحتمال .

ثمّ انّ قوله : « القطعيّة أو الظنيّة » انّما هو لانّ العادة قد تكون غالبة تورث الظنّ ، وقد تكون دائمة تورث القطع ، مثلاً - اذا كان الغالب انّ زيداً يأتي مع عبده ، فاذا أتى هو ولم نر عبده ، ظننا بانّه جاء مع عبده ، وانّما لم نره نحن ، امّا اذا كان دائماً يأتي مع عبده ، فانّه اذا أتى ولم نر عبده ، قطعنا بانّ عبده جاء أيضاً .

( ومن هنا ) أي من هذا التوجيه الّذي وجهنا به كلام صاحب القوانين ( ظهر : انّ ما ذكرنا سابقاً - من : اتفاق العقلاء ) بما هم عقلاء ( والعلماء ) بما هم علماء ، وقد عرفت - فيما سبق - انّ العلماء اخصّ من العقلاء ( على العمل بظواهر الكلام ، في الدعاوي ، والاقارير ، والشهادات ، والوصايا ، والمكاتبات )

ص: 263

لا ينفعُ في ردّ هذا التفصيل ، إلاّ أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد ، ودون إثباتها خرط القتاد .

------------------

والانشاءات ، والاخبارات ( - لاينفع في رد هذا التفصيل ) من الميرزا القمّي ، وذلك لانّ كلامنا السابق كان بالنسبة إلى الشخص الّذي اُريد افهامه لا بالنسبة إلى الشخص الثالث الّذي لم يرد افهامه ، فانّ هذه الظواهر ليست حجّة بالنسبة اليه ، لانّه لا أصل بالنسبة إلى الشخص الثالث ينفي احتمال وجود قرينة على خلاف الظاهر ، اختفت تلك القرينة عند هذا الشخص الثالث ، حتّى يكون الظاهر حجّة بالنسبة اليه .

( إلاّ ان يثبت كون اصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبد ) أي يقول العقلاء : باجراء اصالة عدم القرينة ، سواء كان هناك ظنّ نوعي ، أو لم يكن ، وحينئذٍ : فلا فرق في استفادة المراد من الظواهر ، بين من قصد افهامه ، ومن لم يقصد افهامه ، ( ودون اثباتها ) أي اصالة عدم القرينة مطلقاً ( خرط القتاد ) فكما انّ خرط القتاد من اصعب الاُمور ، كذلك اثبات الحجّيّة التعبديّة ، بالنسبة إلى الظواهر يكون من اصعب الأمور .

والحاصل : هل انّ العقلاء يحكمون بحجيّة الظواهر ، من باب افادتها الظنّ النوعي ، او من باب انّه ظاهر ، سواء افاد الظنّ النوعي ام لا ؟ .

الأوّل : هو مقتضى ما يظهر من العقلاء .

أما الثاني : فبعيد جداً .

والفرق بين الأوّل والثاني هو : ان الأوّل : طريقي ، بينما الثاني : موضوعي .

مثلا : العقلاء عندما يحكمون : بان معاملة الانسان محكومة بالصحة ، هل لانها طريق الى رضاه القلبي ، أو لانها معاملة لفظية فقط ؟ .

ص: 264

ودعوى « أنّ الغالب اتصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته » مردودةٌ : بأنّ من المشاهد المحسوس تطرّقَ

------------------

والظاهر من حال العقلاء : الأوّل ، فاذا لم تكن المعاملة ظاهرة الطريقية ، نوعاً لا يحكمون بصحتها .

نعم ، في بعض المواضع يكون حكمهم بالموضوعية ، اي التعبدية كالوقوف أمام اشارات المرور الحمراء ، فانّ لها موضوعيه من باب ضرب القانون حتى لو علم الانسان بانه ليس هناك ما يخشى الاصطدام بسببه .

( و ) ان قلت : انكم نفيتم حجية الظواهر بالنسبة الى الشخص الثالث ، بحجة احتمال وجود قرائن عقلية أو نقلية ، كلية او جزئية ، لكن الاصل : عدم وجود امثال هذه القرائن بالنسبة للشخص الثالث ايضا فلا يعتني بها ، وذلك ب( دعوى : « ان الغالب اتصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة ، مرجوح لندرته » ).

اي : انّا وان سلمنا ان مناط الحجية هو : الظن ، دون التعبد ، الاّ ان الظن بارادة الظاهر ظناً نوعيا ، كما يحصل لمن قصد افهامه لمرجوحية احتمال الغفلة على ما تقدّم - كذلك يحصل الظن لمن لم يقصد افهامه ، لمرجوحية احتمال اختفاء القرينة المنفصلة ، لانها نادرة الوجود ، من غير فرق بين ان تكون القرينة ، منفصلة حالاً ، او مقالاً ، كلياً ، أو جزئياً .

فمطلق اصالة عدم القرينة محكَّم ، سواء كانت القرينة متصلة ، أو منفصلة ، حالية أو مقالية .

قلت : هذه الدعوى ( مردودة : بان من المشاهد المحسوس تطرّق ) اي :

ص: 265

التقييد والتخصيص إلى أكثر العمومات والاطلاقات مع عدم وجوده في الكلام ، وليس الاّ لكون الاعتماد في ذلك كلّه على القرائن المنفصلة ، سواء كانت منفصلة عند الاعتماد كالقرائن العقليّة والنقليّة الخارجيّة أم كانت مقاليّة متصلة ، لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك ، لعروض التقطيع للأخبار او حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى او غير ذلك .

------------------

عروض (التقييد والتخصيص الى اكثر العمومات والاطلاقات ، مع عدم وجوده ) اي ذلك التقييد أو التخصيص ( في الكلام ) متصلاً .

( وليس ) ذلك التطرق ( الاّ لكون الاعتماد في ذلك ) اي الاكثر ( كلّه على القرائن المنفصلة سواء كانت منفصلة ) من الأوّل اي ( عند الاعتماد ) ووقت التكلم (كالقرائن ) الحالية والمقالية ( العقلية والنقلية الخارجية ) كما تقدمت الامثلة لذلك ( أم كانت مقالية متصلة ، لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك ، لعروض التقطيع للأخبار ) ، فاذا قال المولى - مثلاً - : إغتسل للجنابة والجمعة ، فالراوي قال مرة : اغتسل للجنابة ، وقال مرة أُخرى : اغتسل للجمعة ، فان قرينة السياق الظاهرة في الوجوب قد انعدمت بسبب التقطيع ، ولذا لم يكن لظهور الوجوب بالنسبة الى غسل الجمعة تلك القوة التي كانت لو لم يقطع الخبر .

( أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى ) « أو » عطف على « الانفصال » ، اي : عرض حصول الفتاوت ، بأن قال المولى - مثلا - : المؤن ، فنقله الراوي بالمعنى : الى المسلم مما يشمل المؤن وغير المؤن ، أو قال المولى : المسلم ، فنقله الراوي : الى المؤن ، مما لايشمل غير المؤن من المسلم ، فمن الواضح : أن المولى اراد العام والنقل بالمعنى أفاد الخاص ، او بالعكس .

( أو غير ذلك ) كما اذا قال المولى : اكرم المؤن وأطع العالم الاّ الفاسق ، فزعم

ص: 266

فجميعُ ذلك ممّا لايحصلُ الظنّ بأنّها لو كانت لوصلت إلينا .

مع إمكان أن يقال : إنّه لو حصل الظنّ لم يكن على اعتباره دليل خاصّ ، نعم ، الظنّ الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب او المتكلم ممّا أطبقَ عليه العقلاء

------------------

الراوي ان الاستثناء مرتبط بالجملتين ، فجاء بالاستثناء بعد كل جملة جملة ، بينما لم يرد المولى الاّ الاستثناء من الجملة الأخيرة ، أو عكس ذلك .

( فجميع ذلك ) اي التقطيع والنقل بالمعنى وغيرهما ( مما لايحصل الظن بانها لو كانت لوصلت الينا ) اي الى من لم يكن مقصوداً بالافهام وهو الشخص الثالث ، بينما هذه الأمور لاتجري بالنسبة الى المقصود بالافهام ، سواء كان بعيداً أو قريباً ، حاضراً في مجلس الخطاب ، أو غائباً عنه .

والحاصل : ان شيوع القرائن المنفصلة ، على انحائها المختلفة ، يمنع من حصول الظن بارادة الظاهر ، لمن لم يقصد افهامه ، فتكون الظواهر ليست حجة بالنسبة اليه ، واذا تمّ هذا الكلام ، كانت النتيجة : حجية الظن من باب الانسداد ، كما يقوله صاحب القوانين .

هذا ( مع امكان ان يقال ) توجيهاً لكلام القوانين : ( انه لو حصل الظن ) بانتفاء القرينة المنفصلة ، وارادة المولى الظاهر حتى بالنسبة الى من لم يقصد افهامه ( لم يكن على اعتباره دليل خاص ) اذ قد عرفت ان الدليل ، وهو بناء العقلاء قام على أصالة عدم الغفلة ، والسهو ، والنسيان ، والخطأ ، وما اشبه ، ولم يقم على اصالة عدم القرينة المنفصلة .

( نعم ، الظن الحاصل في مقابل احتمال الغفلة ، الحاصلة ) تلك الغفلة (للمخاطب ، أو المتكلم ) فهذا الظن ( ممّا أطبق عليه العقلاء ) والعلماء بصورة

ص: 267

في جميع أقوالهم وأفعالهم ، هذا غايةُ ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل .

ولكنّ الانصاف : انّه لافرق في العمل بالظهور اللفظيّ وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قُصِدَ إفهامُه ومن لم يُقصَد ،

------------------

خاصة ( في جميع اقوالهم وافعالهم ) .

فالنتيجة : هي حجية الظن النوعي بارادة الظاهر الحاصل لمن قصد افهامه ، دون الظن الحاصل للشخص الثالث ، الذي لم يقصد افهامه ، ولو كان حاضراً في مجلس الخطاب ، فكيف بمن كان بعيداً عن مجلس الخطاب زماناً أو مكاناً .

( هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل ) الذي ذكره القوانين .

( ولكن الانصاف ) وأصله من النصف ، لان المنصف يعطي ما لطرفه من الحق ، ويأخذ ما لنفسه من الحق ، فكأنه نصَّفَ الأمر بين نفسه وبين طرفه ، بخلاف المجحِف ، حيث يأخذ الكل ، اما الايثار وهو اعطاء كل الحق للطرف الآخر ، فهو ايضاً محبوب ، بالنسبة الى بعض الموارد دون بعض - على ما قررناه ، في « الفقه : الاداب والسنن » (1) وغيره .

وكيف كان : ف( انه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي ، وأصالة عدم الصارف عن الظاهر ، بين من قصد إفهامه ومن لم يُقصَد ) افهامه ، بل الظهور حجة ، حتى بالنسبة الى من قُصد عدم افهامه ، كما اذا أقرَّ زيد لعمرو : بان عمرو يطلبه ديناراً ، واراد عدم إفهام الثالث ، فاذا سمع الثالث كلامه ، وشَهِدَ عند الحاكم ، وحكم الحاكم على المقر ، اذا كانت الشهادة جامعة للشرائط ، وهنا يكن للمقرِّ أن يقول قصدت عدم افهام الشاهد ، والعقلاء يؤدون رأي القاضي الحاكم عليه ، لا المقرِّ ،

ص: 268


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

فانّ جميع مادلّ من اجماع العلماء وأهل اللسان على حجيّة الظواهر بالنسبة إلى من قُصِدَ إفهامُه جارٍ فيمن لم يُقصد ، لأنّ أهل اللسان اذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب يحكمون بارادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينةً صارفةً بعد الفحص في مظانّ وجودها ، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه ، فاذا وقع المكتوبُ الموجّهُ من شخص إلى شخص بيد ثالث ، فلا يتأمّل في استخراج مرادات المتكلّم من الخطاب المتوجّه إلى المكتوب إليه ،

------------------

المعتذر بعدم قصده افهام الثالث ، وعليه : ( فان جميع ما دل من : اجماع العلماء ، واهل اللسان على حجية الظواهر ، بالنسبة الى من قصد افهامه ، جارٍ فيمن لم يقصد ) إفهامه ، او قصد عدم إفهامه في غير مثل الرمز ونحوه ، حيث يكون الحق حينئذٍ مع المقرِّ ، لا مع القاضي ، الذي يحكم عليه .

وذلك ( لان اهل اللسان ، اذا نظروا الى كلام صادر من متكلم الى مخاطب ، يحكمون بارادة ظاهره منه ) ولا يلاحظون انه قصد افهامه أو لم يقصد افهامه أو قصد عدم افهامه ( اذا لم يجدوا قرينة صارفة ، بعد الفحص في مظانّ وجودها ) أي وجود القرينة المحتَمَلة ، ( ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين ، بين كونهم ) أي اهل اللسان ( مقصودين بالخطاب وعدمه ) وبين كونهم غير مقصودين بالافهام ، وعدمه بان كانوا مقصودين بعدم الافهام ، اذ القصد واللاقصد لا مدخلية له في البناء العقلائي ، وانّما المدخلية للظهور وعدمه ، وعليه : ( فاذا وقع المكتوب الموجّه من شخص الى شخص ، بيد ثالث ، فلا يتأمّل ) الشخص الثالث ( في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه الى المكتوب اليه ) بل يستخرج مراد المتكلم من نفس الكتاب ، مع انه لم يكن مقصوداً بالخطاب ،

ص: 269

فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم ، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى ، وهذا واضحٌ لمن

------------------

وانّما كان المقصود بالخطاب هو المكتوب اليه ، خصوصاً اذا كان مراده أمراً سراً ، ولذا اذا حصل الحاكم ، على كتاب مرسل من زيد الى عمرو ، يحثّه فيه باغتيال بكر ، احضر الحاكم الكاتب والمكتوب ، اليه ، وسألهما عن قصدهما ، وانه لماذا أمره بذلك ؟ ، والمقصود من احضار الحاكم لهما : احضارهما للاستفسار ، لا ان الحاكم يرتب الاثر الشرعي : من عقوبة الكاتب ، أو المكتوب اليه ، ومن الواضح ان الاثر الشرعي انّما هو للبيّنة ، والاقرار ، ولعلم الحاكم ، في الموارد التي جعل الشارع علم الحاكم حجّة - على ما ذكرناه في كتاب «القضاء » (1) وغيره .

( فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث ) الذي لم يكن مقصوداً بالتفهيم ( مع المكتوب اليه ، فيما اراد المولى منهم ) لكن لا ارادة بتفهيم ، وانّما ارادة بحكم ( فلا يجوز له ) اي للثالث الذي لم يقصد افهامه وان كان مشتركاً في التكليف ( الاعتذار في ترك الامتثال ، بعدم الاطلاع على مراد المولى ) ، فاذا كان للمولى عبيد ، وقال ذات مرة : ان التكليف على الكل سواء ، ثم كتب لاحدهم يجب عليك القيام عند مجيء العالم ، أو قال له ذلك مشافهة ، فانه اذا سمع عبد آخر هذا الكلام ، أو قرء الكتاب ، فانه لا يشك في وجوب القيام عليه ايضاً : عند مجيء العالم ، فاذا لم يقم ، واعتذر : بأن الكتاب أو الخطاب لم يكن موجهاً اليه ، لا يقبل المولى منه ، واستحق العقاب عند العرف ، لمخالفته أمر مولاه ، ( وهذا واضح لمن

ص: 270


1- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 للشارح .

راجع الأمثلة العرفيّة ، هذا حالُ أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم .

وأمّا العلماء ، فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب ، سواء كانَ ذلك في الأحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيّن إلى شخص معيّن ، ثم مسّت الحاجةُ إلى العمل بها مع فقد الموصى اليه ،

------------------

راجع الأمثلة العرفية ) .

و ( هذا ) الذي ذكرناه ( حال اهل اللسان في الكلمات الواردة اليهم ) من غير فرق بين اللغة العربية وسائر اللغات .

بل وكذلك الحال بالنسبة الى الترجمة ، فيما اذا تكلم بالعربية مع انسان ، وعلم انسان فارسي انه مشترك معه بالتكليف ، فانه يجب عليه الاطاعة ، وان لم يكن مخاطباً ، لوحدة الملاك فيما ذكرناه في كل اللغات وتراجمها .

بل وكذلك وحدة الملاك في الكتابة والخطاب والاشارة .

( واما العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع الى ) الظواهر التي تستفاد من الكتاب ، والخطاب ، وذلك لاجرائهم ( اصالة الحقيقة في الألفاظ المجردة عن القرائن ، الموجهة من متكلم الى مخاطب ) ، وكذلك بالنسبة الى المجازات المستفادة من القرائن ، وهكذا حال الالفاظ المشتركة ، التي يستفاد من القرائن ارادة هذا المعنى أو ذاك .

( سواء كان ذلك في الاحكام الجزئية ، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيَّن ، الى شخص معيّن ) بوصية لفظية ، أو كتبية ، او بالاشارة ( ثم مسّت الحاجة الى العمل بها ، مع فقد الموصى اليه ) أو موته أو جنونه ، أو ما اشبه ، مثلاً : اذا كتب زيد يوصي عمرو : بان يعطي من تركته بعد موته ، خمس سنوات صلاة قضاء ،

ص: 271

فانّ العلماء لا يتأمّلون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المقصود وكذا في الاقارير ، ام كانَ في الأحكام الكليّة ، كالأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام ، مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لاغير ،

------------------

وخمسة اشهر صيام ، وحجّة اسلام ، لكن عمرو مات قبل ان ينفّذ الوصية ، فان العالم يعين وصياً آخر ، لتنفيذ الوصية - بعد ظهور الوصية في عدم الخصوصية - ( فان العلماء ، لا يتأملون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام ، الموجه الى الموصى اليه المقصود ) بالتفهيم .

( وكذا ) الحال ( في الأقارير ) والشهادات ، والدعاوي ، والاخبارات والانشادات والأيمان ، وغيرها ، كما اذا حلف اونذر أو عاهد : على ان اللّه ان شافى ولده ذبح شاة ، ثم شوفي الولد ، ومات الحالف ، او الناذر ، او المعاهد قبل الاداء ، لزم على الوصي ونحوه اخراج الشاة وذبحها ، لانه صار واجباً عليه ، وهكذا اذا قال لزوجته بالشروط المقررة للطلاق : انت طالق ، فان الأجنبي يتمكن من تزويجها بعد انقضاء العدة ، او مباشرة اذا لم تكن لها عدة ، وكذلك اذا أجرى صيغة النكاح خفية ، فيما اذا كان الزوجان يريدان ان لا يطلع على ذلك احد ، فان ولد الرجل وأباه ، يجوز لهما النظر الى تلك المرأة .

( أم كان في الاحكام الكلية ، كالأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السلام ) فيما اذا كان الحكم مشتركاً بين المؤنين ، أو بين المسلمين ( مع كون المقصود منها ) اي من تلك الأحكام ( تفهيم مخاطبهم لا غير ) فيما اذا لم يكن الحكم خاصاً ، اما لو كان الحكم خاصاً كما اذا قال الامام الصادق عليه السلام لعبده : تاجر ، أو مااشبه ، فانه لا يشمل الغير ، لان الحكم لم يكن مشتركاً .

ص: 272

فانّه لا يتأمّل أحدٌ من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجيّة أصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب ومن قُصِدَ إفهامُهُ .

ودعوى : « كون ذلك منهم للبناء على كون الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام ، من قبيل تأليف المصنّفين » ، واضحةُ الفساد ،

------------------

وعلى اي حال : ( فانه لا يتأمل احد من العلماء ، في إستفادة الاحكام من ظواهرها ) أي من ظواهر الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، سواء كان بالقول ، أو الفعل ، أو التقرير ، ولا حق لاحد في ان لا يعمل بالظواهر ( معتذراً بعدم الدليل على حجية أصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب و ) غير ( من قصد افهامه ) فان هذا العذر لا يقبل منه .

والحاصل : ان من قصد إفهامه ، أو لم يقصد إفهامه ، يجب عليه العمل بظواهر الأخبار ، بعد ورود الدليل بكون الاحكام مشتركة بين الكل .

( ودعوى ) المحقق القمي ( كون ذلك ) وجوب العمل بالاخبار ( منهم ) أي من العلماء ( للبناء على كون الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام من قبيل تأليف المصنفين ) فالكل يجب عليهم العمل ، لان الكل مقصودون بالخطاب (واضحة الفساد ) ، لانا نقطع بالوجدان بانهم يعملون بظواهر الاخبار ، لكن لا لأن الكل مقصودون بالافهام ، بل لحجية الظواهر مطلقاً ، وليس قطعنا بذلك اعتباطاً ، بل لانه طريقة العقلاء في الاستفادة من ظواهر الكلمات ، وان لم يكونوا مقصودين بالخطاب - كما عرفت - لكن بشرط ان يكونوا مشتركين في التكليف ، فالظهور والاشتراك كاف في تعدي الحكم ، الى الشخص الثالث ، ولا حاجة الى أن يكون الثالث مقصوداً بالخطاب ، كما ادعاه المحقق القمي .

ص: 273

مع أنّها لو صحّت لجرت في الكتاب العزيز ، فانّه أولى بأن يكون من هذا القبيل ، فيرتفع ثمرةُ التفصيل المذكور ، لأنّ المفصّل اعترف بأنّ ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلفين حجّة بالخصوص ، لا لدخوله في

------------------

( مع انها ) اي هذه الدعوى ( لو صحّت ، لجرت في الكتاب العزيز ، فانّه اولى بأن يكون من هذا القبيل ) فانه لو كانت الأخبار ، من قبيل تأليف المصنفين ، يقصد بها الكل ، فالقرآن الحكيم أيضاً من هذا القبيل ، بل هو أولى من الاخبار ، لان القرآن الحكيم نزل لعمل الكل ، وقد قال سبحانه : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافَّةً لِلْنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ... » (1) .

فاذا قلنا ، بحجية ظواهر الآيات والاخبار على الكل ، لكونهم مقصودين بالافهام ، فلا يبقى ثمرة لتفصيل المحقق القمي : بين من قصد افهامه ، ومن لم يقصد افهامه ، اذ على هذا الفرض ، لا وجود أصلاً لمن لم يقصد افهامه بالنسبة الى محل البحث وهو : القرآن الحكيم ، والأخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، حيث ان المحقق القمي ، أراد إسقاط الظواهر عن الحجية ، من باب الظنون الخاصة ، ليتمسك بها من باب الانسداد والظن العام .

وعلى هذا ( فيرتفع ثمرة التفصيل المذكور ) الذي ذكره المحقق القمي ، بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد افهامه ( لأنّ المفصّل ) وهو المحقق القمي قدس سره ( اعترف : بأن ظاهر الكلام ، الذي هو من قبيل تأليف المؤفين حجة بالخصوص ) اي من باب الظن الخاص ، وقد كان من هذه الكبرى : صغرى القرآن الحكيم ، والاخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، ( لا لدخوله في

ص: 274


1- - سورة سبأ : الآية 28 .

مطلق الظنّ ، وإنّما كلامه في اعتبار ظهور الكلام الموجّه إلى مخاطب خاصّ بالنسبة إلى غيره .

والحاصلُ : أنّ القطعَ حاصلٌ لكل متتبّع في طريقة فقهاء المسلمين ، بانّهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجيّة الظنّ المطلق الثابتة بدليل الانسداد ، بل يعملُ بها من يدّعي الانفتاحَ وينكر العملَ بأخبار الآحاد ، مدّعيا كونَ معظم الفقه معلوما بالاجماع والأخبار المتواترة .

------------------

مطلق الظن ) فان تأليف المصنفين من باب الظن الخاص عنده ، لا الظن المطلق .

( وانّما كلامه ) وخلافه مع المشهور : ( في اعتبار ظهور الكلام الموجه الى مخاطب خاص ) حيث انه لا يرى : حجية مثل هذا الكلام للشخص الثالث ، الاّ من باب الظن المطلق ، فبنظره انه اذا كان الكلام موجهاً الى شخص خاص ، سواء كان لفظاً ، أو اشارة ، أو كتابة ، لايكون حجة ( بالنسبة الى غيره ) أي غير المخاطب ، الاّ من باب الظن العام ، وقد انتفت هذه الفائدة لما عرفت .

( والحاصل : ان القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين ) من العامة والخاصة ( بأنهم يعملون بظواهر الأخبار ) كما انهم يعملون بظواهر القرآن ( من دون ابتناء ذلك ) اي عملهم على ظواهر القرآن والاخبار ( على حجّية الظن المطلق الثابتة ) تلك الحجية ( بدليل الانسداد بل يعمل بها ) أي بالظواهر ( من يدعي الانفتاح ) لباب العلم كالسيد المرتضى وغيره ( وينكر العمل بأخبار الاحاد ، مدعياً كون معظم الفقه معلوماً بالاجماع والاخبار المتواترة ) ، فان الفقهاء - سواء منهم من يدعي العلم في أكثر الاحكام ، كالسيد المرتضى ، أو من يدعي منهم الظن الخاص بالاحكام ، كالمشهور - يعملون بالظواهر من جهة انها ظواهر ،

ص: 275

ويدلّ على ذلك أيضا سيرةُ أصحاب الأئمة عليه السلام ، فانّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم ، كما يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها من أئمتهم عليهم السلام ، لايفرّقون بينهما الاّ بالفحص وعدمه ، كما سيأتي .

------------------

لا من جهة انهم مقصودون بالخطاب ، وعليه : فالمنكر لحجية الخبر الظني السند ، كالسيد المرتضى أيضاً لا يقول بانحصار الحجية ، للمقصود بالخطاب فقط ، فكيف من يقول : بحجية الخبر ، الظني السند ، فانه أولى ان لايقول : بانحصار الحجية بمن قصد افهامه ؟ .

( ويدل على ذلك ) اي حجة الظواهر مطلقاً ، سواء من قصد افهامه ، أو لم يقصد إفهامه ( أيضاً ) اي بالاضافة الى ما تقدّم : من بناء أهل اللسان ، وبناء العلماء ( سيرة اصحاب الأئمة عليهم السلام ، فانهم كانوا يعملون بظواهر الاخبار الواردة اليهم ) من الرواة ، مثلاً : كان محمد بن مسلم ، الذي هو في زمن الإمام الصادق عليه السلام ، يعمل باخبار الرسول وعلي والحسن والحسين عليهم السلام من غير أن يدركهم ويخاطبوه بها ، وانّما كان يسمعها من الرواة ، فمحمد بن مسلم ، وزرارة ، والفضيل وغيرهم كانوا يعملون بتلك الروايات الواصلة اليهم ( كما يعملون بظواهر الاقوال ، التي يسمعونها من ائمتهم عليهم السلام ) المعاصرين لهم كالصادقين عليهماالسلام و ( لايفرقون بينهما ) اي بين الروايات الواردة والروايات المسموعة من الائمة مباشرة ( الاّ بالفحص وعدمه كما سيأتي ) ان شاء اللّه تعالى ، اي انهم كانوا يفحصون في الروايات الواردة اليهم عن المخصص والمقيّد لها وما اشبه ذلك بخلاف الروايات التي يسمعونها من الائمة عليهم السلام مباشرة حيث ما كانوا يفحصون عن المقيد والمخصص وما أشبه .

ص: 276

والحاصلُ : أنّ الفرق في حجيّة أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالفٌ للسيرة القطعيّة من العلماء وأصحاب الأئمة عليهم السلام .

هذا كلّه ، مع أنّ التوجيه المذكور لذلك التفصيل ، لابتنائه على الفرق بين أصالة عدم

------------------

أقول : لكن الظاهر ، انّ الفحص كان عن كل من القسمين ، لأنّ الروايات المسموعة أيضاً كانت مطلقة ، وعامة ، ولهما مقيّدات ومخصصات .

( والحاصل : انّ الفرق في حجية أصالة الحقيقة ، وعدم القرينة ) أو المجاز فيما اذا كان هناك قرينة ( بين المخاطب ) الذي قصد افهامه ( وغيره ، مخالف ) لاتفاق أهل اللسان و ( للسيرة القطعية ، من العلماء ، وأصحاب الائمة عليهم السلام ) .

و ( هذا كله ) يرد على صاحب القوانين ( مع ان التوجيه المذكور لذلك التفصيل ) الذي ذكره المحقق القمي ، يرد عليه اشكال آخر وهو :

ان تفصيل المحقق القمي قدس سره ، كان بين من قصد افهامه فالظاهر حجة بالنسبة اليه ، وبين من لم يقصد افهامه ، فالظاهر ليس حجة بالنسبة اليه ، بينما التوجيه الذي ذكرناه لهذا التفصيل ، هو : ان الاحتمال فيمن قصد افهامه هو احتمال الغفلة من المتكلّم أو السامع ، وهذا الاحتمال لايقف امام الظاهر لأن اصالة عدم الغفلة جارية لدى العقلاء ، فالظاهر يكون حجة بالنسبة اليه ، بينما الاحتمال فيمن لم يقصد افهامه هو احتمال وجود قرينة بين المتكلم والمخاطب قد خفيت عليه ، وهذا الاحتمال يقف امام الظاهر ، ولا اصل ينفيه ، لانّ اصل عدم القرينة غير جار عند العقلاء .

فان هذا التوجيه لذلك التفصيل انّما هو ( لابتنائه على الفرق بين اصالة عدم

ص: 277

الغفلة والخطأ في فهم المراد وبين مطلق أصالة عدم القرينة ، يوجبُ عدمَ كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة ، وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين ، لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في حقّهم مطلقا .

------------------

الغفلة ) فهي جارية ، اذ الغفلة ( والخطأ في فهم المراد ) يكون الاصل عدمهما ، ( وبين مطلق اصالة عدم القرينة ) فهي ليست جارية .

لكن هذا الفرق ليس بصحيح ، وغير مفيد ؛ للتفصيل الذي ذكره المحقق القمي ، اذ هذا التوجيه لهذا التفصيل ( يوجب عدم كون ظواهر ) الاخبار و ( الكتاب من الظنون المخصوصة ، وان قلنا : بشمول الخطاب للغائبين ) ، وذلك لان المحقق القمي قال : ان الخطاب لو كان شاملاً للغائبين ، كانت الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، وان لم يكن الخطاب شاملاً للغائبين ، لم تكن الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، بل تكون حجية الظواهر لهم من باب الظن العام الانسدادي .

هذا ، ولكنا نقول : حيث ان أصالة عدم الغفلة جارية في حق المشافهين فقط - على ما قاله المحقق القمي - فغير المشافهين لا يتمكنون من اجراء أصالة عدم الغفلة (لعدم جريان اصالة عدم الغفلة في حقهم مطلقاً ) سواء قصدوا بالخطاب ، أم لا .

والحاصل : ان حجية الظواهر مستندة الى أصالة عدم الغفلة - على قول المحقق القمي - واصالة عدم الغفلة ليس حجة ، الاّ في حق المشافهين ، فالغائبون سواء شملهم الخطاب ، أم لا ، لاتكون الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، فكيف قال المحقق القمي : ان الغائبين اذا كانوا مشمولين للخطاب ، كانت الظواهر حجة بالنسبة اليهم ، من باب الظن الخاص ؟ .

ص: 278

فما ذكره - من ابتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين - غيرُ سديد ، لأنّ الظنّ المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة ، الناشيء عن ظنّ عدم الغفلة والخطأ ، فلا يجري في حقّ الغائبين ، وإن قلنا بشمول الخطاب لهم ، وإن كان هو الحاصل عن أصالة عدم القرينة فهو جار

------------------

وعليه : ( فما ذكره ) المحقق القمي قدس سره ( من ابتناء كون ظواهر ) الاخبار و ( الكتاب ، ظنوناً مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين ، غير سديد ) اذ لو كان مستند حجية الظواهر ، أصالة عدم الغفلة ، فهي ليست جارية في حق الغائبين ، وان شملهم الخطاب ، فان اصالة عدم الغفلة - على ما قاله المحقق القمي - خاصة بالمشافهين ، والغائب ليس مشافهاً ، وان كان مستند حجية الظواهر اصالة عدم القرينة فالغائب يجري اصالة عدم القرينة ، سواء شمله الخطاب ، ام لا ، وهو ان أجرى اصالة عدم القرينة فالظاهر يكون حجة له ، سواء شمله الخطاب ام لا ، فلماذا فصَّل المحقق القمي قدس سره بين شمول الخطاب للغائبين ، وقال : بان الظاهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، وبين عدم شمول الخطاب للغائبين وقال : بان الظاهر ليس حجة لهم ، الاّ من باب الظن الانسدادي .

وذلك ( لان الظن المخصوص ان كان هو الحاصل من المشافهة ، الناشيء عن ظن عدم الغفلة والخطأ ) كما يقوله المحقق القمي ( فلا يجري ) هذا الظن المخصوص (في حق الغائبين ) لان الغائب ليس مشافهاً ، حتى ( وان قلنا بشمول الخطاب لهم ) .

( وان كان ) الظن الخاص ( هو الحاصل ) للشخص مستنداً ( عن اصالة عدم القرينة ) أي ان الظن الخاص مستنده عدم القرينة ( فهو ) اي الظن الخاص ( جار

ص: 279

في الغائبين وإن لم يشملهم الخطابُ .

وممّا يمكن أن يستدلّ به أيضا - زيادةً على ما مرّ من اشتراك أدلّة حجيّة الظواهر من إجماعي العلماء وأهل اللسان - ماورد في الأخبار المتواترة معنىً ، من الأمر بالرجوع إلى الكتاب وعرض الأخبار عليه ،

------------------

في الغائبين ) أيضاً كالحاضرين حتى ( وان ) قلنا : بانه ( لم يشملهم الخطاب ) ، وذلك لان الغائب أيضاً - سواء قصد افهامه أو لم يقصد افهامه - يظن بعد الفحص بعدم القرينة ، فيكون له ظن خاص مستند الى عدم القرينة .

هذا ، وقد استدل المصنِّف فيما سبق بثلاثة امور على حجية الظواهر من باب الظن الخاص ، لمن قصد افهامه أو لم يقصد افهامه ، بل وحتى لمن قصد عدم افهامه - فتكون الظواهر حجة لهم ، من باب الظن الخاص ، ثم استدل المصنِّف هنا بأمر رابع وقال : ( ومما يمكن أن يستدل به أيضاً ) على عدم الفرق بين من قصد افهامه وغير من قصد افهامه ( زيادة على ما مرّ ، من اشتراك أدلة حجيّة الظواهر ، من اجماعي : العلماء وأهل اللّسان ) وقد ذكرنا تفصيل الامور الثلاثة سابقاً ، هو ( ما ورد ) و « ما » نائب فاعل ل« يستدل » ( في الأخبار المتواترة معنىً ) وان كانت الفاظها مختلفة ( من الأمر بالرجوع الى الكتاب ، وعرض الاخبار ) المتعارضة ( عليه ) أي على الكتاب ، فان هذه الاخبار شاملة لغير المشافهين أيضاً ، ولا يجب عليهم عرض الأخبار المتعارضة على القرآن الحكيم ، ولو لم يكن القرآن حجّة بالنسبة إليهم ، كيف يأمر الائمة عليهم السلام بالرجوع الى القرآن ؟ .

والظاهر ان الرجوع الى القرآن ، من باب الظنّ الخاص لا من باب الظنّ الانسدادي ، اذ لو كان القرآن من باب الظنّ الانسدادي ، لم يكن للقرآن

ص: 280

فانّ هذه الظواهر المتواترة حجّة للمشافهين بها ، فيشترك غير المشافهين ، فيتمّ المطلوبُ ، كما لايخفى .

وممّا ذكرنا يعرف النظر فيما ذكره المحقق القمّي رحمه اللّه ، بعد ما ذكر من عدم حجيّة ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص ، بقوله : « فان قلت : إنّ أخبار الثقلين

------------------

خصوصيّة ، بل كان اللازم أن يأمروا عليهم السلام بعرض الأخبار المتعارضة على كلّ ظنّ انسدادي ، وحيث ان هذه الأخبار متواترة قطعيّة سنداً ، ونصٌّ دلالةً ، نقطع بانّ ظواهر الكتاب ، حجّة من باب الظنّ الخاص للكل ، سواء كان مشافهاً، أو غير مشافه .

( فانّ هذه الظواهر المتواترة ) في الأخبار الواردة لعلاج المتعارضين ( حجّة للمشافهين بها ) قطعاً ، لأن المشافهين كانوا يعملون بهذه الأخبار المتواترة ، في علاج الروايات المتعارضة ، ويعرضونها على القرآن الحكيم ، فاذا ثبت لأولئك المشافهين وجوب العرض على القرآن ، ثبت لنا أيضاً وان كنا غير مشافيهن لان جميع العباد مشتركون في هذا الأمر ، بلا اشكال ولا خلاف ( فيشترك غير المشافهين ) مع المشافهين في هذا الامر ( فيتم المطلوب كما لايخفى ) .

ثم ان المحقّق القمي ، أشكل على نفسه باشكال ، وأجاب بجواب لم يرتضه المصنِّف قدس سره ، ولذا قال : ( ومما ذكرنا ) من انّا نقطع بتلك الأخبار المتواترة ، الدالة على عرض الاخبار على ظواهر الكتاب ( يعرف النظر فيما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ، بعد ما ذكر من عدم حجيّة ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص ) أي من باب الظن الخاص وانّما ظواهر الكتاب حجة لنا ، من باب الظنّ بالانسداد .

وذلك ( بقوله : فان قلت : إن أخبار الثقلين ) أي الأخبار الواردة ، عن

ص: 281

يدلّ على كون ظاهر الكتاب حجّة لغير المشافهين بالخصوص .

فأجاب عنه : بأنّ رواية الثقلين غير ظاهرة في ذلك ، لاحتمال كون المراد التمسّك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة عليهم السلام ، كما يقوله الأخباريّون .

------------------

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم القائلة : « أنّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ ، ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِيَ أبَداً ، كِتابُ اللّهِ وعِترَتي أهْلَ بَيْتي ، وإنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَليّ الحَوضِ » (1) ، ظاهرة في حجيّة ظواهر الكتاب ، بالنسبة الى كل المسلمين ، سواء من كان منهم مشافهاً ، او لم يكن ، كان في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم او لم يكن ، كما فيمن يأتي بعد ذلك ، الى يوم القيامة ، فانها ممّا ( يدلّ على كون ظاهر الكتاب حجّة لغير المشافهين بالخصوص ) أي من باب الظنّ الخاص ، لا من باب الظنّ الانسدادي ، كما يقوله المحقّق القمي .

( فأجاب عنه ) أي عن هذا الاشكال بقوله : قلت : ( بأن رواية الثقلين ) وان كان سندها قطعيّاً الاّ انها ( غير ظاهرة في ذلك ) أي في حجيّة ظواهر الآيات ، بالنسبة الى غير المشافهين من باب الظنّ الخاص ( لاحتمال كون المراد : التمسّك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة عليهم السلام - كما يقوله الاخباريون - ) ، وعليه : فلم يثبت حجيّة ظواهر القرآن بالنسبة الى غير المشافهين ، كما أراده المستشكل ، فانه أراد : حجيّة ظواهر القرآن مجرّدة عن التفسير ، بالنسبة الى الغائبين عن مجلس الخطاب .

ثم قال المحقّق القمّي : فان قلت : نتمسّك بظاهر خبر الثقلين ، ونحكم بحجيّة

ص: 282


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص33 ب5 ح33144 وكذا راجع معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، ارشاد القلوب : ص340 ، كشف الغمة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص35 ، المسائل الجارودية : ص42 .

وحجّيّةُ ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرةٌ ، إذ لافرق بين ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين بها » .

وتوضيحُ النظر :

------------------

ظواهر الآيات لنا .

قلت : ( وحجّية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة الينا ) نحن معاشر الغائبين ( مصادرة ، اذ لا فرق بين ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين بها ) (1) أي بالظواهر .

والحاصل : ان الظواهر ، ليست حجّة بالنسبة الينا نحن الغائبين ، سواء ظواهر القرآن ، أو ظواهر السنّة ، فلا يمكن إثبات حجيّة ظواهر الكتاب بظواهر السنّة ، كأخبار الثقلين ، ونحوها .

( وتوضيح النظر : ) هو : ان اشكال المحقّق القمّي ، على نفسه - بسبب اخبار الثقلين - غير وارد ، وذلك :

اولاً : انه لا حاجة الى الاشكال على كلام المحقّق ، بسبب اخبار الثقلين ، فان هناك أخباراً اُخر ، تدلّ على حجيّة الظواهر ، ولو بالنسبة الى غير المشافهين .

ثانياً : ان اخبار الثقلين لا ربط لها بحجيّة الظواهر ، لانّها بصدد وجوب اطاعة الكتاب والعترة ، وهذا بمنزلة الكبرى ، أمّا الصغرى : أي ان مراد الكتاب والعترة ماذا ؟ ، فليست في هذه الأخبار .

مثلاً - نقول : هذا ظاهر ، والظاهر يجب اطاعته ، فاخبار الثقلين بصدد بيان الكبرى : الظاهر يجب اطاعته لا بصدد بيان الصغرى : هذا ظاهر .

ص: 283


1- - القوانين المحكمة : ص219 .

أنّ العمدةَ في حجيّة ظواهر الكتاب غيرُ خبر الثقلين من الأخبار المتواترة الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب ، وهذه الأخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر الكتاب بعد ورود تفسيرها من الأئمة عليهم السلام ، وليست ظاهرة في ذلك حتّى يكون التمسّك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرةً .

بل يمكن ان يقال ان خبرُ الثقلين ليس له ظهور ، إلاّ في وجوب إطاعتهما

------------------

اذ ( انّ العمدة في ) اثبات ( حجيّة ظواهر الكتاب ) لكل من المشافه ، وغير المشافه ( غير خبر الثقلين من الأخبار المتواترة ، الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب ) وقد ذكرنا هذا الموضوع سابقاً فلا حاجة الى تكراره ، ( وهذه الأخبار ) المتواترة ، الآمرة باستنباط الأحكام ، من ظواهر الكتاب ، قطعيّة دلالة ، وسنداً ، ومضموناً ، أي ليس مضمونها موافقاً للعامة ، فهي ( تفيد ) نا ( القطع : بعدم ارادة الاستدلال بظواهر الكتاب ، بعد ورود تفسيرها من الأئمة عليهم السلام ) بل المراد الاستدلال بهذه الاخبار بالاستقلال ، ( و ) هذه الأخبار المقطوع بها (ليست ظاهرة في ذلك ) المدعى حتى يقال : انه لايمكن اثبات ظواهر القرآن ، بظواهر الأخبار ، لان تلك الأخبار نصّ في المدعى ، لا انها ظاهرة فيه ( حتى يكون التمسّك بظاهرها ) أي بظاهر تلك الاخبار المتواترة ( لغير المشافهين بها ) أي بتلك الاخبار المتواترة ( مصادرة ) كما قاله المحقق القمي .

هذا حاصل الجواب الأوّل ، واما الجواب الثاني : الذي اشرنا اليه ، فقد ذكره المصنِّف قدس سره بقوله : ( بل يمكن أن يقال : ان خبر الثقلين ليس له ظهور إلاّ في ) أمر آخر ، لا يرتبط بالمقام اطلاقاً ، والأمر الآخر هو : ( وجوب اطاعتهما ) أي الكتاب

ص: 284

وحرمة مخالفتهما ، وليس في مقام اعتبار الظنّ الحاصل بهما في تشخيص الاطاعة والمعصية ، فافهم .

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه اللّه في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل المتقدم ، لا بأس بالاشارة اليه ،

------------------

والعترة ( وحرمة مخالفتهما ) ، بعد احراز الاطاعة والمخالفة أي بعد معرفة الواجبات والمحرمات ، من الكتاب والسنة ، وجب علينا اطاعتهما ، ( وليس ) خبر الثقلين ( في مقام اعتبار الظنّ الحاصل بهما ) أي بالثقلين ( في تشخيص الاطاعة والمعصية ) وتعيين المراد من الواجبات والمحرمات ، اذ كون هذا ظاهراً ، او ليس بظاهر ، مرتبط بباب آخر ، وأمّا أخبار الثقلين فهي مرتبطة بالكبرى - كما ذكرنا صورة القياس سابقاً - .

( فافهم ) ولعله يريد بذلك : ان اخبار الثقلين قطعيّة السند ، لكنها ليست قطعيّة الدّلالة ، بل هي ظنيّة الدّلالة كسائر الظواهر ، فيسقط الجواب الأوّل للمصنف ، الذي ذكره بقوله : وهذه الاخبار تفيد القطع .

( ثم انّ لصاحب المعالم رحمه اللّه في هذا المقام ) اي في مقام حجيّة ظواهر الآيات ( كلاماً يحتمل التفصيل المتقدّم ) الّذي ذكره المحقّق القمّي : من الظواهر حجّة بالنسبة الى المخاطبين ، أو الأعم منهم ومن الموجودين في زمن الخطاب ، أو الأعم منهم ومن أراد المتكلم افهامه ، أما غيرهم فليست الظواهر حجّة بالنسبة اليهم .

بينما المشهور يقولون : بأن الظواهر حجّة حتّى بالنسبة الى من لم يرد افهامه ، كما تقدّم التصريح بذلك ، ( لا بأس بالاشارة اليه ) أي الى كلام صاحب المعالم موجزاً ، لتوضيح كلام القوانين أكثر ، فيتّضح جوابنا منه أكثر أيضاً .

ص: 285

قال : - في الدليل الرابع ، من أدلّة حجيّة خبر الواحد ، بعد ذكر انسداد باب العلم في غير الضروريّ من الأحكام ، لفقد الاجماع والسنّة المتواترة ووضوح كون أصل البراءة لاتفيد غيرَ الظنّ وكونِ الكتاب ظنّيَّ الدّلالة - مالفظه : - لا يقال : إنّ الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون وذلك بضميمة مقدّمة خارجية ، وهي قبيح خطاب الحكيم بماله ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرفُ عن ذلك الظاهر ،

------------------

( قال في الدليل الرابع ، من أدلّة حجيّة خبر الواحد - بعد ذكر انسداد باب العلم ، في غير الضروري من الاحكام ) وانّما كان باب العلم منسدّاً لامور اربعة :

أوّلاً : ( لفقد الاجماع ) المحصل المفيد للعلم .

ثانياً : ( و ) فقد ( السنّة المتواترة ) لان السنّة المتواترة ، انّما هي موجودة في بعض الأحكام النادرة ، لا في كلها .

ثالثاً : ( ووضوح كون أصل البرائة ، لا تفيد غير الظّن ) اذا وصلت النوبة الى الاصل ، بان لم يكن اجماع ولا سنّة .

رابعاً : ( وكون الكتاب ظنيّ الدّلالة ) فلا يفيد الكتاب العلم أيضاً ، لان ما كان بعض أسسه ظنّاً يكون ظنيّاً ، لان النتيجة تابعة لأضعف المقدّمتين ، فان الكتاب وان كان قطعيّ السند لكنه ظنيّ الدّلالة .

قال ( - ما لفظه : لا يقال : ان الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون ، وذلك ) القطع ( بضميمة مقدّمة خارجيّة ، وهي : قبح خطاب الحكيم بماله ظاهر ) بأن كان للفظه ظهور في معنى خاص ( وهو يريد خلافه ) أي خلاف ذلك الظاهر ، فان هذا الخطاب قبيح لدى العقلاء ، والحكيم سبحانه لايفعل القبيح - كما ثبت في اصول الدين - طبعاً ( من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ) .

ص: 286

سلّمنا ، ولكن ذلك ظنّ مخصوص ،

------------------

نعم ، يجوز للحكيم : ان يكون لكلامه ظاهر وهو لا يريده ، لكنه ينصب قرينة على الخلاف ، والقرآن الحكيم لم ينصب على خلاف ظواهره دليلاً ، الاّ في المقيدات ، والمخصّصات ، وما أشبه .

مثلاً : نقطع من قوله سبحانه : « أقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ... » (1) ، وجوب الصلاة ، لأن الأمر ظاهر في الوجوب وكذلك وجوب الزكاة ، ومن قوله سبحانه : « ولا تَقْرَبوا الزِّنا ، إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ... » (2) ، حرمة الزنا ، الى غير ذلك ، فانّ العقلاء يقولون : انّ اللّه سبحانه وتعالى الحكيم ، لما أمر ونهى ، ولم يقم قرينة على ان أمره يراد به : الاستحباب ، أو انّ نهيه يراد به : الكراهة ، أو انهما في مقام الحضر ، ونحوه ، مما لا يفيد حتى الاستحباب ، مثل قوله تعالى : « وَإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادوا » (3) ، كان لابد وان يريد الحكيم سبحانه وتعالى ، الظواهر بوجوب الصلاة والزكاة ، وحرمة الزنا ونحوه .

( سلمنا ) عدم حصول القطع من ظواهر الكتاب ، وذلك لاحتمال غفلتنا عن القرينة ، بأن كانت القرينة موجودة ، لكنها اختفت علينا ، لأن القرينة كانت مقامية ، ولم تكن لفظية حتى تكون مذكورة ، كما في قوله سبحانه : « فلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » (4) ، حيث كانت القرينة فيها مقامية ، لان المشركين كانوا قد نصبوا على الجبلين صنمين ، فزعم المسلمون انه يحرم الطواف بهما .

( ولكن ذلك ) الظنّ الحاصل من ظواهر الكتاب ، وان لم نقل بالمقدّمة الخارجيّة المتقدّمة ( ظنّ مخصوص ) وليس من الظنون العامّة ، التي يظنّ بها

ص: 287


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة الاسراء : الآية 32 .
3- - سورة المائدة : الآية 2 .
4- - سورة البقرة : الآية 158 .

فهو من قبيل الشهاده لايُعدَلُ عنه إلى غيره إلاّ بدليل .

لأنّا نقول : أحكامُ الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالاجماع وقضاء الضروره باشتراك التكليف بين الكلّ .

------------------

الانسان ، لان حجيّة الظواهر بين العقلاء ، وأهل اللسان ، اتفاقية ، ( فهو ) أي الظنّ الحاصل من ظواهر الكتاب ( من قبيل الشهادة ) في الموضوعات ، فكما انّ الشهادة تفيد الظنّ ، لكنّه ظنّ حجّة ، وليس من قبيل الظنون العامّة ، كذلك الظنون الحاصلة من ظواهر القرآن الحكيم ، فانّها ظنون خاصة حجّة عند العقلاء ، وحينئذٍ ( لا يعدل عنه ) أي عن الظن الحاصل من ظاهر القرآن ( الى غيره الاّ بدليل ) خارجي ، من السنة ، أو الاجماع ، أو العقل ، بصرف ظاهر القرآن ، عن ظاهره ، كما دل العقل والاجماع والأخبار ، على ان اللّه سبحانه وتعالى ليس بجسم ، ممّا يسبّب صرف ظاهر قوله سبحانه وتعالى : « الرَّحمنُ عَلى العَرشِ استوى » (1) ، عن ظاهره فيكون الحاصل من اشكال المعالم : انّ الظواهر حجّة .

وذلك ( لانا نقول ) في جواب هذا الاشكال : ان ( احكام الكتاب ، كلها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ : انّه ) اي خطاب المشافهة ( مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وان ثبوت حكمه ) أي حكم الكتاب العزيز ( في حق من تأخر ) من سائر الأجيال الآتية بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( انّما هو بالاجماع ، وقضاء الضرورة ، باشتراك التكليف بين الكل ) .

فالظواهر ليست حجة بالنسبة الى الذين تأخروا عن زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لانها مخصوصة بالمشافهين ، وانّما نستفيد الحكم من ادلة الاشتراك .

ص: 288


1- - سورة طه : الآية 5 .

وحينئذٍ : فمن الجائز أن يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالاجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال

------------------

( وحينئذٍ ) أي : اذا كان ظواهر القرآن حجة بالنسبة الى المشافهين ، والذين هم في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، دون الغائبين يكون القرآن الحكيم دليلاً لهم فقط لا لنا ، ( ف- ) انه ( من الجائز ان يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ) من القرآن الحكيم ( ما ) أي : قرينة حالية أو مقالية ( يدلّهم ) أي : يدل المشافهين والحاضرين في زمانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على ارادة خلافها ) أي خلاف تلك الظواهر ، وقد اختفت تلك القرينة علينا ، ( وقد وقع ذلك ) أي : الاقتران ببعض ما يدل المشافهين على ارادة خلاف الظواهر ( في مواضع ) من الآيات ( علمناها بالاجماع ونحوه ) مثل ارادة الرجعيات في قوله سبحانه وتعالى : « وَبعولَتِهِنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... » (1) ، حيث انّ الآية مطلقة ، لكن الاجماع ، ونحوه ، قام على ارادة الرجعيات فقط ، فلا تشمل الآية البائنات .

وعليه : ( فيحتمل الاعتماد ) من الشارع ( في تعريفنا لسائرها ) ، أي معرفتنا لسائر خلاف الظواهر في الآيات ، التي أريد خلاف ظواهرها - حيث لم يكن اجماع ، أو ضرورة ، على تلك الارادة - ان يكون الشارع قد اعتمد فيها ( على الأمارات المفيدة للظنّ القوي ) دون الظّنون العرفيّة ، بل الظّنون المعتبرة عند العقلاء ( وخبر الواحد من جملتها ) أي : من جملة تلك الأمارات المفيدة للظن القوي، (ومع قيام هذا الاحتمال) من : ارادة الشارع خلاف الظاهر، واختفاء القرينة

ص: 289


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

ينفي القطعُ بالحكم ، ويستوي حينئذٍ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا ، وقد تبيّن خلافه ،

------------------

( ينفي القطع بالحكم ) فلا يكون ظاهر القرآن دليلاً قطعياً على المراد منه ، كما لايكون ظنّا خاصّاً ، وذلك لاختصاص الظنّ الخاص ، بالمشافهين الحاضرين ، في زمن الخطاب ، فلا يكون هذا الظنّ شاملاً لنا نحن الغائبين ، ( ويستوي حينئذٍ ) أي حين لم يكن قطع بالحكم ، ولم يكن ظن خاص من قبيل ظن المشافهين والحاضرين ( الظّن المستفاد من ظاهر الكتاب ، والحاصل من غيره ) أي : غير الكتاب كالظنّ من الأخبار ، فلا يكون للكتاب خصوصيّة من هذه الجهة ، وان كان بينهما فرق من جهة : انّ الكتاب قطعي الصدور ، والخبر على الأغلب ظني الصدور ، والاستواء انّما يكون ( بالنظر الى اناطة التكليف به ) أي : بالظنّ ، فحيث لم يكن قطع على المراد من الكتاب ، يكون الظن وهو الذي يجب الاعتماد عليه ، في افادة مراد اللّه سبحانه وتعالى من الكتاب أو في افادة مراد المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجميعن » من احاديثهم .

وانّما قلنا : يستوي الظن المستفاد من ظاهر الكتاب ، والظن الحاصل من غيره (لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب ) من القرآن الحكيم ( متوجهاً الينا ) فانه لو كان مقصود القرآن افهام الكل ، لكان ظواهر الكتاب دليلاً قطعياً او ظنّيّاً ظنّاً خاصّاً ، فكان خلاف سائر الظنون ، هذا ( و ) لكن ( قد تبيّن خلافه ) لانا قلنا : انّ الخطاب للمشافهين ، وحيث لم نكن نحن مشافهين ، لم يكن فرق بين الظنون الحاصلة من الكتاب ، وبين الظنون الحاصلة من الاخبار .

وإن قلت : هب ان الخطاب لم يكن شاملاً لنا ، فلماذا لانقطع بالمراد من ظواهر

ص: 290

ولظهور اختصاص الاجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية المفيدة للظنّ »

------------------

القرآن الحكيم ، والحال ان ادلة الاشتراك في التكليف بين المشافهين والغائبين ، تجعل حالنا نحن الغائبين حال المشافهين ، في القطع بالمراد من الظواهر .

قلت : الضرورة والاجماع لا يوجبان القطع بالمراد ، حتى فيما اذا كان هناك خبر على خلاف ظاهر الكتاب ، ( و ) ذلك ( لظهور اختصاص الاجماع والضرورة الدّالين على المشاركة في التكليف ) بين المشافهين والغائبين و ( المستفاد من ظاهر الكتاب ، بغير صورة وجود الخبر ، الجامع للشرائط الآتية ) ، « والآتية » : صفة « للشرائط » أي : سنبيّن فيما بعد ان الخبر يجب ان يكون جامعاً لشرائط خاصة ، كالعدالة ، والضبط ، والايمان في الراوي ، وغيرها ( المفيدة للظّن ) (1) ، « والمفيدة » : صفة ل« صورة وجود الخبر » كما ان قوله : « ولظهور » عطف على قوله : « لابتناء الفرق » .

والحاصل : انّ الاجماع والضرورة يقتضيان اشتراكنا، نحن الغائبين مع المشافهين، لخطابات القرآن الحكيم في الحكم ، المستفاد من ظاهر الكتاب ، بشرط عدم كونه معارضاً ومخالفاً للخبر المعتبر ، فانه اذا انتفى الشرط انتفى المشروط ، بمعنى : انه اذا كان خبر معتبر يخالف ظاهر الكتاب لا يمكن الأخذ بظاهر الكتاب ، وانّما يجب الأخذ بظاهر الخبر ، مثلاً قوله سبحانه : « فكاتِبوهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِم خَيْراً » (2) ، ظاهر في الوجوب ، لكن الخبر قام على ان المراد : استحباب المكاتبة .

ص: 291


1- - معالم الدين : ص193 .
2- - سورة النور : الآية 33 .

انتهى كلامه .

ولا يخفى : أنّ في كلامه قدس سره ، على اجماله واشتباه المراد منه كما يظهر من حواشي المحشّين

------------------

وكذا قوله سبحانه : « وَأنْكِحوا الأَيامى مِنْكُم والصّالِحِينَ مِن عَبادِكُم ... » (1) ، ظاهر في الوجوب ، لكن المستفاد من الخبر : الاستحباب .

وفي عكسه قوله سبحانه : « فَلَيسَ عَلَيْكُم جُناحَ ان تَقصروا مِنَ الصَّلاة » (2) ، وقوله سبحانه : « فَلا جُناحَ عَلَيهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما » (3) ، ظاهر أن في الاستحباب ، لكن - قامت الاخبار على وجوب القصر في السفر ، بشرائطه الخاصة وعلى وجوب السعي بين الصفا والمروة .

( انتهى كلامه ، ولا يخفى : انّ في كلامه قدس سره على اجماله واشتباه المراد منه ، كما يظهر من حواشي المحشين ) حيث فهم كل محشي من كلامه شيئاً ، فلم يعلم ما هو المراد من كلام المعالم ؟ هل انه فصّل على النحو التالي :

أوّلاً : بين المشافه وغيره ، بان الظواهر حجّة للأوّل من باب القطع ، وللثاني من باب الظنّ المطلق ؟ .

ثانياً : او انه فصّل بينهما بانها حجّة للأول من باب الظنّ الخاص ، وللثاني من باب الظنّ المطلق ؟ .

ثالثاً : او انه اراد ان يبين ان الغائبين لم يكونوا مشافهين فلا يكون الظاهر حجّة عليهم ، اذا كان على خلاف ذلك الظاهر القرآني خبر معتبر ، كما يستفاد من آخر كلامه ؟ .

ص: 292


1- - سورة النور : الآية 32 .
2- - سورة النساء : الآية 101 .
3- - سورة البقرة : الآية 158 .

مواقع للنظر والتأمّل .

------------------

رابعاً : او انه اراد بيان كل تلك الامور الثلاثة ، وردّ من قال : بانّ القرآن قطعي الدلالة .

وعلى أي حال : ففي كلامه قدس سره بالاضافة الى اجماله ( مواقع للنّظر والتأمل ) .

منها : انّ العلم بحكمة المتكلم ، لا يجعل ظاهر كلامه من قبيل النصوص ، حتى يكون ظاهر كلامه مقطوعاً به .

ومنها : انّه لم يدَّعِ أحد : كون ظاهر القرآن من الظنون العادية لا الظنون الخاصة ، وهذان الاشكالان واردان على قوله : « لايقال » .

ومنها : انه جعل كل خطابات الكتاب من قبيل خطابات المشافهة ، مع ان قوله تعالى : « يا أيُّها النّاس ... » (1) و « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا » (2) و « إنَّما المُؤِنونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلوبُهُم ... » (3) ، وغير ذلك ، من قبيل تأليف المؤفين ، الذين لا يريدون المشافهة ، فقط .

ومنها : انه لم يحتمل احد ، انه مع وجود خبر معتبر ينافي ظاهر القرآن - كما ذكرناه : في ظاهر أوامره ، ونواهيه ، ونحوهما - أو ينافي اطلاق القرآن ، أو عمومه ان لا يعمل بالخبر ، ويعمل بالظاهر ، والاطلاق ، والعموم ، وهذان الاشكالان يردان على قوله : « لانّا نقول » الى آخره .

مع ان هناك أيضاً ايرادات اخرى على جوابه ، نصفح عنها خوف التطويل .

ص: 293


1- - سورة البقرة : الآية 21 .
2- - سورة البقرة : الآية 153 .
3- - سورة الانفال : الآية 2 .

ثمّ إنّك قد عرفت :

أنّ مناط الحجّيّة والاعتبار في دلالة الألفاظ هو الظهور العرفيّ ، وهو كونُ الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المقاميّة المكتنفة بالكلام .

------------------

( ثم انّك قد عرفت ) في اوّل توجيهنا لتفصيل المحقّق القمّي رحمه اللّه ( انّ مناط الحجيّة والاعتبار في دلالة الالفاظ ) ليس هو لأن العقلاء عبّدونا بذلك ، فنحن متعبدون بما قاله العقلاء ، ولا لانه يلزم ان يحصل لنا ظنّ فعلي بمراد المتكلم ، حتى نعمل بذلك الظاهر ، بل الحجيّة والاعتبار في دلالة الالفاظ ( هو الظهور العرفي ) ، بمعنى : انّ العرف يرون هذا اللفظ ظاهراً في هذا المعنى : ( وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفاً على ذلك المعنى ) وهذا ما يعبِّرون عنه بالظن النوعي ، أي : انّ نوع العقلاء يظنون بمراد المتكلم من ظاهر كلامه ، وان كان هناك افراد لا يستظهرون من كلامه ، ذلك المراد الذي يفهمه النوع .

كما ان الظهور معناه : انّ أمراً يتكرر ، حتى ينتقل الانسان من هذا الكلام ، أو من هذا الفعل الى ذلك الأمر المخفي تحته ، كتكرر الرعد والبرق ، وانصباب المطر بعدهما ، حيث يكون للرعد والبرق ظهور في مجيى ء المطر بعدهما .

وهكذا حال ظهور الالفاظ في المعاني الخاصة ، فان ظهور : أسد في الحيوان المفترس ، انّما هو لتكرر ذكر الاسد في كلمات العقلاء ، وارادتهم الحيوان المفترس منه ، فيقال : انّ الأسد ظاهر في الحيوان المفترس .

ولا يخفى : انه لا يلزم في الظهور ان يكون اللفظ بنفسه ظاهراً في المعنى المراد ، بل يكون له ظهور ( ولو بواسطة القرائن المقاميّة المكتنفة بالكلام ) ، فانّ الظهور قد يكون بسبب الوضع التعييني أو الوضع التعيّني ، وقد يكون بسبب

ص: 294

فلا فرق بين إفادته الظنّ بالمراد وعدمها ، ولا بين وجود الظنّ الغير المعتبر على خلافه وعدمه ، لأنّ ماذكرنا من الحجّة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة .

------------------

القرائن اللفظية أو الحالية كقول زيد : كان معي البارحة أسد جلسنا معه الى الصباح ، فان هذه القرينة المقالية أو الحالية ، تدل على ان المراد بالاسد : الرجل الشجاع ، وهذا نوع من الظهور ، لكنه ظهور مجازي ، الى غير ذلك من القرائن ، التي ذكروها في باب المجاز .

وعليه : ( فلا فرق ) في حجيّة الظاهر ، الحاصل من الحقيقة ، أو من المجاز ( بين افادته الظن بالمراد ) ظنّاً فعليّاً ، كما في الاشخاص المتعارفين الذين اذا سمعوا اللفظ ، استظهروا المراد منه ( وعدمها ) كما في غير العاديين ، مثل الانسان الوسواسي ، في ارادات المتكلمين من ظواهر الفاظهم .

( و ) هكذا ( لا ) فرق ( بين وجود الظن غير المعتبر على خلافه وعدمه ) فسواء كان هناك ظنّ غير معتبر على خلاف الظاهر ، أو لم يكن ظنّ كذلك يكون الظهور حجّة ، فلا يقيّد حجيّة الظاهر بالظنّ على وفقه ، ولا بعدم الظنّ غير المعتبر على خلافه ( لان ما ذكرنا من الحجّة على العمل بها ) أي بالظواهر ( جار في جميع الصور المذكورة ) ، وذلك لان أهل اللسان يعملون بالظاهر ، سواء حصل لهم الظنّ الفعلي بالمراد ام لا ، وسواء كان هناك ظنّ غير معتبر على خلاف الظاهر ، أو لم يكن ، فاذا قال المولى : جئني بالماء ، كان اللازم على العبد ان يأتي به ، سواء ظنّ بارادة المولى الجسم السائل ام لا ، وسواء ظنّ بارادة المولى خلاف الجسم السائل أم لا .

ص: 295

وما ربما يظهر من العلماء - من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور او طرحه مع اعترافهم بعدم حجّيّة الشهرة - فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم او إطلاق ،

------------------

( و ) ان قلت : انتم ذكرتم : ان حجيّة الظّواهر ليست مشروطة بعدم الظنّ بالخلاف ، وهذا ينافي ( ما ربما يظهر من العلماء : من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح ) الجامع للشرائط ( المخالف لفتوى المشهور ، أو طرحه ، مع اعترافهم بعدم حجيّة الشهرة ) فاذا لم يكن حجيّة الظواهر عندهم مشروطة بعدم الظنّ على خلافه ، فلماذا يتوقفون في الخبر أو يطرحونه ، اذا كان مخالفاً للمشهور ؟ .

قلت : ليس التوقف أو الطرح ، من جهة المناقشة في الدلالة والحجيّة ، حيث الظهور قائم ، بل من جهة المناقشة في السند ، لان دليل حجيّة الخبر لا يشمل الخبر المخالف للمشهور .

وعدم شموله ، أمّا من جهة : انّ العقلاء لا يرون لمثل هذا الخبر حجيّة ، والشارع سيدهم ، فدليل الحجيّة منصرف عن مثل هذا الخبر .

وأمّا من جهة المناط ، في قوله عليه السلام : « خُذ بِما إشتَهَرَ بَينَ أصحابِكَ ، وَدَع الشاذَّ النّادِرَ » (1) ( فليس ) ما ربما يظهر من العلماء ( من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح ، من : عموم ، أو اطلاق ) بأن تكون الشهرة مخصصة للعموم ، او مقيّدة للاطلاق ، او صارفة لظاهر الخبر من الوجوب الى الاستحباب ، أو لظاهر النهي من التحريم الى الكراهة ، أوما اشبه ذلك .

ص: 296


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور ، بناءا على أنّ مادلّ من الدليل على حجّيّة الخبر الواحد من حيث السند لايشمل المخالف للمشهور، ولذا لايتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والسنّة المتواترة إذا عارضها

------------------

( بل من جهة مزاحمتها ) اي : الشهرة ( للخبر من حيث الصدور ) فان للخبر حيثيتين :

أولاً : حيثيّة الصدور عن المعصوم عليه السلام.

ثانياً : حيثية ظهوره في المراد .

أمّا حجيّة الخبر من حيث الصدور ، فمشروط بعدم قيام ظنّ على خلافه ، والشهرة تورث الظنّ على خلاف الخبر .

كما ان هناك في الخبر جهة ثالثة هي : جهة الصدور ، بمعنى : ان يكون الصدور لأجل الحكم الواقعي لا لأجل التقية ، فربما زاحمت الشهرة هذه الجهة الثالثة ، كما ذكروه في وقت المغرب وغيره ، فقد وردت الروايات بأن الصلاة مع سقوط قرص الشمس ، لكن المشهور لم يعملوا بهذا الخبر ، لا من جهة الظهور ، ولا الصدور ، بل من جهة احتمال التقيّة ؛ وذلك ( بناءاً على ان ما دلّ من الدّليل ، على حجّيّة الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل ) الخبر ( المخالف للمشهور )، فالخبر مشروط في صدوره ، أو جهة صدوره ، بعدم المخالفة للمشهور ، لا انّه مشروط في ظهوره بعدم الظنّ على الخلاف ، الذي يأتي من المشهور غالباً ، فانّ الانسان اذا رأى الخبر من حيث ظهوره في جانب والمشهور في جانب آخر يظنّ على خلاف هذا الخبر ، لكن هذا الظن لا اعتبار به .

(ولذا) الذي ذكرناه: من انّ الظنّ على الخلاف لا يضر بظهور الخبر في وجوب العمل به (لايتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والسنّة المتواترة، اذا عارضها

ص: 297

الشهرة .

فالتأمّل في الخبر المخالف للمشهور إنّما هو إذا خالفت الشهرةُ نفسَ الخبر لاعمومه او إطلاقه ، فلا يتأمّلون في عمومه اذا كانت الشهرة على التخصيص .

------------------

الشهرة ) مع وضوح انّه اذا عارض الشهرة ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة أيضاً ، يكون الظنّ على خلاف الظاهر .

إذن : فالمعيار ليس الظن على خلاف الظاهر وعدمه ، بل المعيار ما ذكرناه في الخبر الواحد : من سقوط السند ، او سقوط جهة الصدور ، وحيث ان في الكتاب والسنّة المتواترة ، لايكون سقوط لاحدهما ، فالعمل يكون بالكتاب والسنّة المتواترة ، في قبال الشهرة .

وعليه : ( فالتأمّل ) أو التوقّف ( في الخبر المخالف للمشهور ، انّما هو اذا خالفت الشهرة نفس الخبر ) سنداً ، أو خالفت جهة صدوره ( لا عمومه ، أو اطلاقه ) أو ظهوره في الوجوب ، او التحريم ، أو ما اشبه ذلك - كما تقدّم من قوله سبحانه : « لا جُناحَ » (1) في مسألتي القصر والسعي - .

( ف- ) انهم ( لا يتأملون في عمومه ) أي : عموم الخبر ، أو اطلاقه ، أو ظهوره بعد إحراز سنده وإحراز جهة صدوره ، فيما ( اذا كانت الشهرة على التخصيص ) أو على التقييد ، أو على صرف الظهور .

مثلاً : لو ورد في خبر متواتر : اكرم العلماء واقتضت الشهرة استثناء النحاة فهذه الشهرة ، لا تبطل عموم : اكرم العلماء بالنسبة الى العام والخاص .

ص: 298


1- - سورة البقرة : الآية 158 .

نعم ، ربما يجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين عدمُ الدليل على حجّيّة الظواهر إذا لم تفد الظنّ او إذا حصل الظنّ الغير

------------------

وكذلك اذا ورد : اكرم العالم ، واقتضت الشهرة عدم اكرام الصرفيين منهم ، فان الشهرة لا تقيد اطلاق العالم .

هكذا بالنسبة الى ما ورد من قوله تعالى : « فَكاتِبوهُم إن عَلِمْتُم فيهِم خَيراً » (1) ، واقتضت الشهرة : الاستحباب - مثلاً - بدون أن يكون هناك دليل من اجماع ، أو ضرورة ، أو خبر متواتر ، لم تكن الشهرة تبطل الظهور وتقلبه من الوجوب الى الاستحباب .

ثم انه قد تحصل مما مضى ان الظاهر حجّة مطلقاً ، سواء حصل الظنّ على خلافه ، أو حصل الظنّ على وفاقه ، أو لم يحصل الظنّ على احد الطرفين .

( نعم ) ظاهر المحقّق الكلباسي في الاشارات : انّ أدلّة كون الظاهر حجّة خاصة ، بما اذا أفاد الظنّ الفعليّ ، وهذا تفصيل آخر غير التفصيل السابق بين مفيد الظنّ وعدمه ، اذ التفصيل السابق كان يقول : أهل اللسان لا يعملون بظاهر حصل الظنّ على خلافه ، وهذا التفصيل يقول : الدليل الشرعي منع عن عمل أهل اللسان في مورد حصول الظنّ على الخلاف .

فالتفصيل الأوّل : من باب عدم المقتضي .

والتفصيل الثاني : من باب عدم وجود المانع من الشارع .

فانه ( ربمايجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين : عدم الدليل على حجيّة الظواهر ، اذا لم تفد الظّن ) الفعلي ( أو اذا حصل الظنّ غير

ص: 299


1- - سورة النور : الآية 33 .

المعتبر على خلافها .

لكن الانصاف : أنّه مخالفٌ لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كلّ زمان ولذا عدّ بعضُ الاخباريّين كالأصوليّين ، استصحاب حكم العامّ والمطلق حتّى يثبت المخصص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها ،

------------------

المعتبر على خلافها ) فالكلباسي قدس سره يرى جواز العمل بالظواهر مشروطاً بأحد أمرين :

الأوّل : أن يحصل الظنّ بالوفاق .

الثاني : أن لايحصل الظنّ بالخلاف .

( لكن الانصاف انه ) اي : ما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين (مخالف لطريقة أرباب اللّسان ) حيث عرفت انهم يرون حجيّة الظواهر مطلقاً ، فالمقتضي موجود ، ( والعلماء في كلّ زمان ) ومكان يرون حجيّة الظواهر مطلقاً ، ولا يرون ان الشارع منع عن ذلك فيما اذا كان غير مفيد للظنّ ، أو فيما حصل الظنّ غير المعتبر على خلافه .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من اطلاق حجيّة الظواهر ( عدّ بعض الأخباريين ) مثل المحدث الاسترابادي قدس سره ( كالأصوليين : استصحاب حكم العام والمطلق ) فيما اذا شككنا : انّ العام باق ، أو خصص ، وان المطلق باق أو قيد ، فانّ الاخباريين والاصوليين يستصحبون بقاء العام على عمومه ، والمطلق على اطلاقه ( حتى يثبت المخصص والمقيّد ، من الاستصحابات المجمع عليها ) ، فانّ بعض اقسام الاستصحاب مختلف فيه ، كالشك في المقتضي واستصحاب الحكم الكلي ، وبعض اقسامه مجمع عليه ، كاستصحاب عدم النسخ ، واستصحاب الجزئي ، واستصحاب عدم المانع .

ص: 300

وهذا وإن لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح إلاّ بالتوجيه ، إلاّ أنّ الغرضَ من الاستشهاد به بيانُ كون هذه القاعدة إجماعيّة .

وربما فصّل بعض المعاصرين تفصيلاً يرجع حاصله إلى :

------------------

( وهذا وان لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح ) لان الاستصحاب المصطلح ، هو عبارة عن يقين سابق ، وشك لاحق ، كما اذا علمنا انّ زيداً كان متوضئاً ، ثم شككنا في انه بطل وضوؤ بالحدث ، نستصحب وضوئه .

وكما اذا علمنا ان زيداً كا ن حياً ، ثم شككنا في موته حتى لا ننفق على زوجته ، كان استصحاب بقائه حياً موجباً للانفاق على زوجته ، ومثل هذا الاستصحاب المصطلح لا يأتي في المقام ، اذ المقام بالنسبة الى ظهور العام والمطلق لا يستصحب ، فان الظهور ليس قابلاً للشك ، لأنه أمر عرضي وجداني فهو امّا موجود ، وامّا غير موجود ، وان اللفظ امّا ان يكون ظاهراً في معنى عرفاً ، أو لايكون ظاهراً في هذا المعنى .

وعليه : فلا معنى للشك والاستصحاب ( الاّ بالتوجيه ) بأن ندرج ما ذكره الاصوليون ، وبعض الاخباريين في الاستصحاب المصطلح ، ونقول : اذا شككنا في انه حدث مخصص ، أو مقيد ، نستصحب عدم حدوث المخصص لا المقيد .

( الاّ انّ الغرض من الاستشهاد به ) اي بقول بعض الاخباريين والاصوليين هو (بيان كون هذه القاعدة ) وهي : حجيّة الظواهر ، وان لم يكن عليها ظن ، او قام على خلافها ظنّ ( اجماعيّة ) فانّ الاصولي والاخباري يرى حجيّة الظواهر ، وان كان على خلافها ظنّ أو لم يكن على وفاقها ظنّ .

( وربّما فصّل بعض المعاصرين ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم ( تفصيلاً ) جديداً ( يرجع حاصله الى ) انّه : لو شك في وجود القرينة

ص: 301

« أنّ الكلام إن كان مقرونا بحال او مقال يصلحُ أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقيّ فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف ، او كان أمر منفصل يصلحُ لكونه صارفا ،

------------------

وعدمها ، أو شك في قرينيّة الموجود بأن كان هناك ما يحتمل أن يكون قرينة ، ولكنه كان منفصلاً عن الكلام ، فالاصل الحقيقة ، امّا اذا شك في قرينيّة ما يحتمل ان يكون قرينة لكنّه كان متصلاً بالكلام ، لم تجر أصالة الحقيقة .

والحاصل : ( انّ الكلام ان كان مقروناً بحال ) كالمجاز المشهور حيث ان الشهرة حال مقترن بالكلام ( أو مقال ) كالعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، مثل قوله سبحانه : « والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قروءٍ ... وَبعولَتِهِنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... » (1) ، حيث انّ : « بعولتهن » يرجع الى بعض المطلقات ، ولا يشمل البائنات ( يصلح ) أي ذلك الحال او المقال ( أن يكون صارفاً عن المعنى الحقيقي ، فلا يتمسك فيه باصالة الحقيقة ) وذلك لان الكلام بسبب هذا الحال ، أو المقال ، المقارنين للكلام صار مجملاً .

( وان كان الشك في أصل وجود الصارف ) أي القرينة ، كما اذا قال المولى : أكرم العلماء وشكّ في وجود المخصص وعدمه ، وان كان الشكّ له مايبرره ، كما اذا شكّ في انّ المولى يريد اكرام الفاسق من العلماء أم لا ، حيث ذوق المولى عدم احترام غير العادل ، لكن لم يكن ذلك بحيث يكون قرينة حالية ، ( أو كان ) في المقام ( أمر منفصل ) مجمل ( يصلح لكونه صارفاً ) بان قال : اكرم العلماء ، وقال في كلام آخر : لا تكرم زيد ، وكان هناك زيدان عالم و جاهل ، فان كان المولى

ص: 302


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

فيعمل على أصالة الحقيقة » .

وهذا تفصيلٌ حسن متين ، لكنّه تفصيلٌ في العمل بأصالة الحقيقه عند الشكّ في الصارف ، لا في حجّيّة الظهور اللفظيّ ، ومرجعه إلى تعيين الظهور العرفيّ وتمييزه عن موارد الاجمال ،

------------------

اراد زيداً العالم ، في استثنائه ، يلزم عدم اكرام زيد العالم ، وامّا ان اراد زيداً الجاهل ، فكل العلماء يكرمون حتى زيداً العالم ، وسيأتي الكلام في ذلك ، ( فيعمل ) فيه ( على اصالة الحقيقة ) (1) لانه ليس هناك ما يهدم هذا الاصل العقلائي ، بخلاف الصورتين الأوليين ، حيث هناك ما يهدمه ، ( وهذا تفصيل حسن متين ، لكنه ) خارج عن مبحث اصالة الظهور التي نحن بصددها ، حيث انّ كلامنا في ان الظاهر حجّة مطلقاً ، أو في الجملة ، لا في انه : هل يعلم باصالة الحقيقة ام لا ؟ ، وهذا التفصيل ( تفصيل في العمل باصالة الحقيقة ، عند الشك في الصّارف ) وهو يجري عند الشكّ في وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل ، ولا يجري عند الشكّ في قرينيّة الموجود المتصل - على ما عرفت - أي ( لا في حجيّة الظهور اللّفظي ) الذي نحن بصدده .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا التفصيل الذي ذكره صاحب الحاشية ، انّما هو ( الى تعيين الظهور العرفي ، وتمييزه عن موارد الاجمال ) وليس تفصيلاً فيما نحن فيه .

والحاصل : ان الكلام في الكبرى ، وهذا المفصل فصل الصغرى ، اذ الكلام في ان الظهور حجّة مطلقاً أو ليس بحجّة مطلقاً او التفصيل ، بينما هذا المفصل فصل

ص: 303


1- - بحر الفوائد : ج1 ص110 .

فان اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الاجمال بشهادة العرف .

ولذا توقّف جماعةٌ في المجاز المشهور والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض افراده والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر

------------------

في ان أيّ مورد يوجب الظهور ، وأيّ مورد لا يوجب الظهور ، مع تسليمه بان الظهور اينما حصل حجة ، وهذا هو الذي نحن بصدده لكنه اراد تعيين ان أي لفظ باق على ظهوره ، وأي لفظ خارج عن ظهوره ، ومجمل ، حتى لا يتمسك فيه باصالة الظهور .

وعليه : ( فان اللّفظ في القسم الاوّل ) أي : فيما كان الكلام مقترناً بحال ، او مقال متصل ، صالح للقرينيّة ( يخرج عن الظهور الى الاجمال بشهادة العرف ) والوجدان فاذا راجعنا العرف في مثل هذين اللفظين لا يحكمون بالظهور ، كما انّا اذا راجعنا وجداننا نرى انّا لا نفهم الظهور في هذين الموردين ، ( ولذا توقف جماعة في المجاز المشهور ، والعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء ) كما اذا قال المولى : اكرم العلماء واحترم العباد ، واطع الامراء العدول الاّ زيداً ، وكان في كل من الطوائف زيد ، فهل الاستثناء من الجملة الاخيرة ، أو من كل الجمل ؟ .

ولا يخفى : انه لافرق في الاجمال ، بين ان يكون استثناء ، أو حال ، أو تمييز ، أو صفة ، أو ما أشبه ، فالاستثناء من باب المثال ، بل لافرق بين ان يكون في آخر الجمل ، أو في اوّلها ، كما اذا قال : لا تكرم زيداً واكرم العلماء والعباد والزهاد ، حيث انّ زيد موجود في كل من الطوائف الثلاث ، فهل الاستثناء خاص بالعلماء أو عام يشمل حتى العبّاد والزّهاد أيضاً ؟ ( و ) كذا توقف هذا البعض في ( الامر والنهي ، الواردين في مظان الحظر

ص: 304

والايجاب ، إلى غير ذلك ممّا احتفّ اللفظ بحال او مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقف أحدٌ في عامّ بمجرّد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

------------------

والايجاب ) ، اما كون الامر في مورد الحظر ، فمثل قوله سبحانه : « وَإذا حَلَلْتُم فَاصْطادوا » (1) ، حيث كان محظوراً على المحرم الصيد ، فالأمر بعد هذا الحظر ، لا يكون دليلاً على الوجوب ، واما كون النهي بعد الايجاب ، فمثل قوله عليه السلام : « لا تصلي الحائض » (2) بعد ان كانت الصلاة واجبة عليها قبل الحيض ، فالنهي بعد هذا الوجوب ، لايكون دليلاً على الحرمة ، ولذا ذهب بعض الفقهاء الى ان العبادة الشريعيّة محرّمة على الحائض ، لا ما اذا أتت بالصلاة لا بقصد التشريع ، استناداً الى ان النهي لا يدل في هذا المقام على التحريم .

( الى غير ذلك ) كالاستثناء بعد الاستثناء ، هل هو استثناء من الأوّل ، أو من الثاني ؟ فاذا قال : عندي عشرة الاّ خمسة الاّ ثلاثة ، فهل الثلاثة استثناء عن العشرة أيضاً حتى يبقى اثنان ، أو عن الخمسة حتى يبقى ثمانية ؟ ، لكن هذا ، فيما اذا كان الثاني قابلاً للخروج عن كل من المستثنى والمستثنى منه ، امّا اذا لم يكن قابلاً للخروج من الاستثناء ، فهو استثناء من الأوّل قطعاً .

كما اذا قال : عندي عشرة الاّ ثلاثة الاّ خمسة ، حيث يكون الباقي اثنان قطعاً .

ونحوه ( ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفاً ) عن الحقيقة .

( و ) أمّا الكلام في القسم الثاني : وهو ما اذا شكّ في أصل وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل فلا يخرج الكلام عن الظهور بسبب ذلك ، ولذا ( لم يتوقف أحد في عام ، بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

ص: 305


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - وسائل الشيعة : ج2 ص343 ب39 ح2318 بالمعنى .

مخصّصا له ، بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الاجمال لأجل ظهور العامّ ، ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ ورد قول آخر من المولى إنّه لاتكرم زيدا ، واشترك زيدٌ بين عالم وجاهل ، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم ، فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي .

------------------

مخصّصاً له ) كما يأتي من مثال المصنِّف عن قريب ، ( بل ربّما يعكسون الأمر ) أي : يجعلون العام المتقدّم بياناً لهذا المنفصل المجمل المتأخر ، فيكون العام مبيناً للمجمل ، لا ان المجمل يكون مخصصاً للعام ( فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال ) أي : إحتمال كون المنفصل قرينة للعام ومخصصاً له ( وارتفاع الاجمال ) من هذا المنفصل المجمل ( لأجل ظهور العام ) وبسببه ، فالعام يكون قرينة للمنفصل ، لا ان المنفصل يكون مخصصاً للعام .

( ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ وَرَد ) منفصلاً ( قول آخر من المولى : انّه لا تكرم زيداً ، واشترك زيد بين عالم وجاهل ) مما يسبب أن يكون زيد مجملاً في ان المراد هل هو : عدم اكرام زيد العالم أو المراد : عدم اكرام زيد الجاهل ؟ ، ( فلا يرفع اليد عن العموم ، بمجرد الاحتمال ) في هذا المنفصل ، بأن يقال : ان زيداً محتمل أن يكون عالماً ، فهو يخصص اكرم العلماء ( بل ) يقال : باصالة العموم في العام ، ويتمسكون بعمومه لرفع الاجمال عن زيد ، لان اكرم العلماء يشمل كل العلماء حتى زيداً العالم ، فَبه ( يرفعون الاجمال ) عن زيد في لا تكرم زيداً ، بأن يقال : انّ المراد من زيد ، الذي يحرم اكرامه ، هو زيد الجاهل ؛ وذلك ( بواسطة العموم ) فانه مبيّن لاجمال زيد ، وموضح بان المراد من زيد في قوله : لا تكرم زيداً ، هو زيد الجاهل لا العالم (فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي) .

ص: 306

وبازاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف ، وهو : « أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصحّ رفعُ اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل باصالة الحقيقة ،

------------------

وكذلك الحال بالنسبة إلى المطلق والمقيد ، فمثال المصنف قدس سره بالنسبة إلى العام والخاصّ من باب المثال ، لا من باب الخصوصيّة .

( وبازاء التفصيل المذكور ) الّذي ذكره الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، ووصفناه : بانّه حَسَن متين ( تفصيل آخر ضعيف ، وهو : انّ احتمال ارادة خلاف مقتضى اللّفظ ، إن حصل من امارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ) ، مثلاً : اذا قال المولى : أكرم العلماء ، ودلّ خبر ضعيف على النهي من إكرام زيد نجري اصالة العموم والحقيقة ، في اكرم العلماء ، ونقول : بانّه يجب اكرام كلّ فرد عالم ، ونقدّم العام : أكرم العلماء ، في زيد على لا تكرم زيداً ، وان كان لا تكرم زيداً بالنسبة إلى اكرم العلماء خاصّا ، إلاّ انّ ضعف دليل الخاصّ بسبب عدم الاعتناء به ، فنجري في الخاصّ حكم العموم ، وهو : وجوب الاكرام .

( وان حصل من دليل معتبر ، فلا يعمل بأصالة الحقيقة ) بالنسبة إلى العام ، وانّما يقدم الخاصّ الّذي يضمنه الدليل المعتبر ، على العام ، لانّ الخاصّ أخصّ من العام ، والمفروض انّ الخاصّ حجة .

وحاصل هذا التفصيل : انّه ، اذا شكّ في كون شيء قرينة على عدم ارادة العام ، فان كان الشيء المشكوك القرينية معتبراً ، فهو موجب لاجمال العام ، وان لم يكن معتبراً ، لم يكن موجباً لاجمال العام ، من غير فرق بين كون المشكوك متصلاً أو منفصلاً ، مثلاً : اذا قال : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم زيداً ، فان كان لا تكرم زيداً معتبراً ، بسبب اجمال حكم العام في انّه ، هل يشمل زيداً العالم أم لا ؟ لفرض انّ

ص: 307

ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الاجمال في ذلك العامّ ولايوجب الظنّ بالواقع . - قال فلا دليلَ على لزوم العمل بالأصل تعبّدا ، - ثمّ قال - : ولايمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ،

------------------

هناك زيدين : عالم ، وجاهل ، وان كان لا تكرم زيداً غير معتبر ، كان العام شاملاً لزيد العالم ، فيجب اكرامه ، من غير فرق بين أن يقول : لا تكرم زيداً متصلاً بالعام أو منفصلاً عنه .

( ومثّل له بما اذا اورد في السنّة المتواترة عام ) بان قال : اكرم العلماء حيث يجب اكرام كلّ عالم عالم ، حسب هذا العام ( وورد فيها ) أي : في نفس السنّة ( أيضاً ، خطاب مجمل ) نحو : لا تكرم زيداً وزيد هذا له فردان عالم وجاهل فانّه ( يوجب الاجمال في ذلك العام ، ولا يوجب ) العام فيما اذا صار مجملاً ( الظنّ بالواقع ) ، فانّه اذا كان ، لا تكرم زيداً معتبراً ، لا نظنّ بسبب العام : أكرم ، وجوب اكرام زيد ، فيسري اجمال زيد إلى اكرم العلماء ، بخلاف ما اذا كان : لا تكرم زيداً غير معتبر ، فلا يسري اجماله إلى اكرم العلماء .

ولذلك ( قال : فلا دليل على لزوم العمل بالاصل تعبّداً ) أي : العمل باصالة الحقيقة في اكرم العلماء من دون ظنّ بالواقع .

وبالجملة : الخاصّ المجمل ، اذا كان معتبراً ، أوجب صرف اصالة العموم ، والحقيقة في العام ، وعدم بقاء ظهور فيه يوجب الظنّ ، بخلاف ما اذا لم يكن معتبراً .

( ثم قال : ولا يمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل باصالة الحقيقة تعبّداً ) حتّى يقال : بانّه لا فرق بين كون المجمل معتبراً ، أو غير معتبر ، فانّه يلزم العمل

ص: 308

فانّ اكثر المحقّقين توقّفوا فيما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح » ، انتهى ، ووجهُ ضعفه يظهرُ ممّا ذكر ،

------------------

بأصالة الحقيقة ، في جانب العام ، حتّى يقال : بانّ اكرم العلماء ، يشمل زيداً أيضاً ، سواء كان لا تكرم زيداً معتبراً ، أو لم يكن معتبراً ، ( فانّ أكثر المحققين توقّفوا ، فيما اذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الرّاجح ) ممّا يدلّ على انّهم ، لا يعملون بأصالة الحقيقة تعبداً ، والاّ لم يكن وجه للتوقف في انّه هل يقدّم الحقيقة المرجوحة أو المجاز الراجح ؟ .

( انتهى ) هذا التفصيل ( ووجه ضعفه ، يظهر ممّا ذكر ) في التفصيل المتقدّم ، عن الشيخ محمد تقي صاحب المعالم - الّذي ذكرنا : انّه تفصيل متين - لانّه تفصيل في بعض شقوق التفصيل المتقدّم .

وحاصل جواب المصنّف عنه : تسليم الاجمال في المتصل مطلقاً معتبراً كان أو غير معتبر ، ومنعه في المنفصل مطلقاً معتبراً كان أو غير معتبر ، فاذا قال : اكرم العلماء ولا تكرم زيداً ، وفرضنا انّ لا تكرم زيداً معتبر ، وكان متصلاً ، أوجب الاجمال ، وكذلك لو فرضنا انّ المتصل كان غير معتبر ، أمّا اذا قال : لا تكرم زيداً منفصلاً وبعد مدة من الزمان ، فلا فرق في عدم تعديه إلى العام - ممّا يسبب اجماله - بين ان يكون لا تكرم زيداً معتبراً ، أو غير معتبر .

فانّه اذا اتصل بالكلام ، ما يصلح للقرينيّة ، خرج اللفظ عن الظهور عرفاً - على المشهور - فلا يجري اصالة الحقيقة ، وأمّا لو شكّ في القرينيّة رأساً بأن لم نعلم ، هل هناك قرينة أو لم تكن قرينة أو كان هناك شيء منفصل مجمل صالح للقرينيّة ؟ فلا يخرج اللفظ عن الظهور ، سواء كان المنفصل معتبراً ، أو لم يكن معتبراً ، ويجري الاصل في العموم المتقدّم .

ص: 309

فانّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل إحتمال خطاب آخر لكونه معارضا ممّا لم يُعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد ما تقدّم من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبيّن في الخطاب الآخر .

وأمّا قياسُ ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح ، فَعُلِم فسادُه ممّا ذكر في التفصيل المتقدم ، من أنّ

------------------

( فانّ التوقف في ظاهر خطاب ) مثل : اكرم العلماء ( لاجل احتمال خطاب آخر ) نحو : لا تكرم زيداً ، حيث كان زيد مجملاً بين العالم والجاهل ، فالتوقف فيه ( لكونه ) أي لكون ظاهر خطاب : اكرم العلماء ( معارضاً ) مع المُجمَل ، في : لا تكرم زيداً ، المحتمل للأمرين : ( ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ) لانّهم يجرون اصالة الحقيقة في : اكرم العلماء .

( بل لا يبعد ما تقدّم : من حمل المجمل ، في أحد الخطابين ) مثل : لا تكرم زيداً ( على المبيّن في الخطاب الآخر ) مثل : اكرم العلماء ، فانّ لا تكرم زيداً ، وان كان مجملاً في نفسه ، لكن وضوح اكرم العلماء في شموله لزيد العالم ، يوجب رفع الاجمال ، عن : لا تكرم زيداً .

وعليه : فيخصص زيد في : لا تكرم زيداً ، بالجاهل ، ويكون زيد العالم مشمولاً : ل- : اكرم العلماء ، ويتمّ حمل زيد المجمل المنهي عن اكرامه على زيد المبيّن المأمور باكرامه .

( وأمّا قياس ذلك ) التفصيل الّذي ذكره هذا الشخص ( على مسألة : تعارض الحقيقة المرجوحة ، مع المجاز الراجح ، فعُلِم فساده ممّا ذكر في التفصيل المتقدّم ) المتين ، ( من انّ ) اللفظ ، ان اتّصل بحال أو مقال يصلح لكونه صارفاً ،

ص: 310

الكلامَ المكتَنِف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلمُ في إرادة خلاف الحقيقة لايعدّ من الظواهر ، بل من المجملات .

وكذلك المتعقّبُ للفظ يصلح للصارفيّة كالعامّ المتعقّب بالضمير وشبهه ممّا تقدّم .

------------------

فلا يجري اصالة الحقيقة في العام ، بل يصير مجملاً ، وأمّا اذا كان المجمل منفصلا ً ، فتجري اصالة الحقيقة في العام .

ففي النوع الأوّل : ( الكلام المكتنف بما يصلح ان يكون صارفاً ، قد اعتمد عليه المتكلّم في ارادة خلاف الحقيقة ، لا يُعدّ من الظواهر ) سواء كان مقروناً بحال أو متصلاً بمقال ( بل ) يعدّ ذلك الكلام وهو العام في المثال ( من المجملات ، وكذلك المتعقّب للفظ يصلح للصارفية ، كالعام المتعقِّب بالضمير ، وشبهه ، ممّا تقدّم ) حيث ذكرنا هناك : عدم الفرق ، بين ان يكون المتعقّب للكلام استثناءاً ، أو صفة ، أو حالاً ، أو تمييزاً ، أو غيرها ، بل قد تقدّم : انّه لا فرق بين تقدّم ما يحتمل القرينيّة ، وبين تأخره .

ثم انّ ما ذكرناه فيما تقدّم : من انّ الأصل : حرمة العمل بالظنّ ، الاّ ما خرج ، فانّ الخارج امور :

الأوّل : الامارات المعمولة في استنباط الاحكام الشرعية ، من الفاظ الكتاب والسنّة ، وهي - كما اشرنا اليها سابقاً - على قسمين :

القسم الأوّل : ما يُعمل لتشخيص مراد المتكلم ، عند احتمال ارادته خلاف ذلك كأصالة الحقيقة ، واصالة العموم ، واصالة الاطلاق ، عند احتمال خلافها ، وقد تقدّم الكلام في ذلك .

ص: 311

القسم الثاني :

وأمّا القسم الثاني : وهو الظنّ الذي يعمل لتشخيص الظواهر كتشخيص أنّ اللفظَ المفردَ الفلانيّ ، كلفظ الصعيد او صيغة افعل ، او أنّ المركّب الفلانيّ ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهرٌ بحكم الوضع في المعنى الفلانيّ ، وانّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر - بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرّد رفع الحظر دون الالزام ،

------------------

ما يعمل لتشخيص أوضاع الالفاظ ، وتشخيص مجازاتها عن حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، والكلام الآن في هذا القسم ، وقد قال المصنِّف قدس سره : - القسم الثاني :

( وامّا القسم الثاني : وهو الظنّ الّذي يُعمَل لتشخيص الظواهر ، كتشخيص : انّ اللفظ المفرد الفلاني ، كلفظ الصعيد ، او صيغة افعل ، أو أنّ المركب الفلاني ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني ) أو غير ظاهر فيه : - فهل - مثلا - الصعيد ظاهر في مطلق وجه الارض ، الأعمّ من : التراب ، والحجر ، والرمل ، والحصى ، وغير ذلك ، أو خاصّ بالتراب ؟ وهل انّ صيغة افعل ظاهرة في الوجوب أو الاستحباب ، أو الأعمّ من الاستحباب ، والوجوب ؟ وهل انّ الجملة الشرطية ، ظاهرة في الانتفاء عند الانتفاء ام لا ؟ ( و ) هل ( انّ الأمر الواقع عقيب الحظر ، ظاهر - بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرّد رفع الحظر دون الالزام ) أو غير ظاهر فيه ؟ .

ولا يخفى انّ في هذه المسألة خلافاً في موضعين :

الاوّل : في انّ الأمر الواقع بعد الحظر مثل قوله تعالى : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ

ص: 312

والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى الظنّ بالوضع اللغويّ او الانفهام العرفيّ ، والأوفقُ بالقواعد عدمُ حجّيّة الظنّ هنا ، لأنّ الثابت المتيقن هي حجّيّة الظواهر .

------------------

فَاصْطَادُوا » (1) هل هو ظاهر في الوجوب أم لا ؟ .

الثاني : في انّ الامر الواقع في مقام توهّم الحظر ، مثل : الامر بالسعي في مقام توهّم حرمته ، لمكان وجود الصنمين على الصفا والمروة ، هل هو ظاهر في الوجوب ام لا ؟ ( والظّن الحاصل هنا يرجع إلى ) امرين :

اولاً : ( الظنّ بالوضع اللغوي ) مثل : الظنّ بأنّ الصعيد لمطلق وجه الارض ، أو للتراب فقط .

ثانياً : ( أو الانفهام العرفي ) كالظنّ بأنّ المتبادر عرفاً من الأمر الواقع عقيب الحظر ، هو الاباحة ، أو الوجوب وهكذا بالنسبة إلى الجملة الشرطية وغير ذلك .

( والأوفق بالقواعد عدم حجيّة الظنّ هنا ) في كلا الموضعين سواء الظنّ بالوضع اللغوي او الظنّ بالإِنفِهام العرفي ، وانّما كان الأوفق بالقواعد ، عدم حجيّة الظنّ في المقامين ، لانّ الاصل : حرمة العمل بالظنّ ، إلاّ ما خرج بالدليل ، ولا دليل على خروج هذا الظنّ في المقامين .

ان قلت : كما انّ الظنّ بالمراد من الظاهر يكون حجّة ، كذلك الظنّ بان هذا ظاهر ، حجّة .

قلت : كلا ، ليس هناك دليل على حجّية الظنّ الثاني ( لانّ الثابت المتيقن ، هي حجّية الظواهر ) بعد ان احرزنا انّ هذا الكلام - مثلاً - ظاهر في هذا المعنى .

ص: 313


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

وأمّا حجّيّةُ الظنّ في أنّ هذا ظاهر ، فلا دليلَ عليه عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئيّ من هذه المسألة ، وهي حجّيّة قول اللغويّين في الأوضاع .

فانّ المشهور كونُه من الظنون الخاصّة التي ثبت حجّيتها

------------------

( وامّا حجّية الظّن في انّ هذا ظاهر فلا دليل عليه ) بل اللازم ان نقطع بانّ هذا ظاهر ، حتّى نحكم بانّه مراد - ولو كان الحكم من باب الظنّ .

نعم ، اذا علمنا الظهور ، ولم نعلم انّ هذا الظاهر مراد ام لا ، فالظنّ هنا حجّة ، كما سبق في كلام المصنّف ، اذ العقلاء ، واهل اللسان ، متّفقون في حمل اللفظ على معناه الظاهر فيه ، فانّهم يجرون اصالة عدم القرينة اذا احتمل وجود القرينة .

واما اذا لم يعلم الظهور ، ولا دليل على حجية الظن بالظهور ، فالاصل عدم حجية مثل هذا الظن .

( عدا ) وهو استثناء من قوله : « فلا دليل عليه » ( وجوه ذكروها في اثبات جزئي من ) جزئيات ( هذه المسألة وهي ) أي ذلك الجزئي ( حجّية قول اللغويين في الاوضاع ) .

فانّهم قالوا : بأنّ قول اللغوي حجة ، مع انّ قول اللغوي لا يوجب العلم ، وانّما يوجب الظنّ ، ولم يذكر العلماء وجهاً ، على حجية سائر الجزئيات لهذه الكلية من قبيل : الاستعمال ، والقياس ، والاستحسان ، ونحوها ، ( فان المشهور كونه ) أي قول اللغوي ( من الظنون الخاصّة ، الّتي ثبت حجّيتها ) بالدليل المخصوص ، اذ المشهور عند العلماء : انّ قول اللغوي حجّة ، وليس كسائر الظنون في عدم الحجيّة - تمسّكاً باصالة عدم حجيّة الظنّ - ، وانّما خرج من ذلك العموم هذا الجزئي ، وهو : قول اللغوي للدليل الخاصّ ، فاذا لم نعرف معنى الصعيد ، أو آلة اللّهو ، أو الآنية ، أو ما اشبه ، وراجعنا اللغويين جاز لنا التمسّك بأقوالهم في افادة

ص: 314

مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة وإن كانت الحكمةُ في اعتبارها

------------------

مراد الشارع ، وترتّب الحكم عليه وان لم نكن نقطع بصحّة اقوال اللغويين ، هذا ( مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في ) معظم ( الاحكام الشرعية ) أي انّ حجيّة قول اللغوي ليست مستندة إلى الانسداد ، بل حتّى في حال انفتاح باب العلم ، يكون قول اللغوي حجة ، وذلك لانّ الظنّ الّذي هو حجة - والمراد به : الظنّ النوعي ، لا الشخصي - على قسمين :

الأوّل : الظنّ الخاصّ ، الّذي ليس وجه حجّيته : انسداد باب العلم ، بل هو حجّة ، وان كان باب العلم منفتحاً وتمكنّا من العلم ، مثلاً : خبر زرارة حجّة ، وان كان موجباً للظنّ دون العلم ، وحجّيته ثابتة حتّى مع انفتاح باب العلم ، وتَمَكُّن الّذي يسمع الخبر من زرارة ان يصل إلى الامام الصادق عليه السلام ، ويستعلم منه .

الثاني : الظنّ المطلق ، وهو الّذي حجّيته : انسداد باب العلم بمعظم الاحكام الشرعية ، فاذا فرض انّ باب العلم كان مفتوحاً ، لم يكن لمثل هذا الظنّ حجيّة .

والمشهور يقولون : بحجّية قول اللغوي ، من باب الظنّ الخاصّ ، وانّ تمكّن الانسان من العلم ، كما اذا تمكن أن يذهب إلى البلاد العربية ، ويستعلم معنى اللفظ من نفس العرب ، بما يوجب علمه بالمعنى ، فانّه ليس بواجب ، وان لم يكن عسراً وحرجاً عليه ، لانّهم يَرَوْنَ قول اللغوي حجة مطلقاً ، تمكّن الانسان من العلم أو لم يتمكن .

هذا ( وان كانت الحكمة في اعتبارها ) أي : الظنون الخاصّة من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ، فانّ العلّة لازمها دوران الأمر مدار العلّة وجوداً وعدماً ، بينما الحكمة تسبب التشريع ، ولا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً .

ص: 315

انسدادَ باب العلم في غالب مواردها ، فانّ الظاهر أنّ حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة المتقدّم ذكرُها وغيرِها ، انسدادُ باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات .

------------------

وعليه : فحكمة اعتبارها هو : ( انسداد باب العلم في غالب مواردها ) أي : موارد الظنون ( فانّ الظاهر : انّ حكمة اعتبار اكثر الظّنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة - المتقدّم ذكرها - وغيرها ) كالظاهر ، وخبر الثقة ، والشهرة ، وفتوى المفتي ، والبيّنة ، وقول المرأة بالنسبة إلى انّها متزوجة أو ليست متزوجة ، أو حامل أو ليست بحامل ، أو انقضت عدّتها أو لم تنقض عدّتها ، وغير ذلك ، انّما هو لاجل ( انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات ) .

اما العرفيّات ، فكالمكاتبات ، والمكالمات ، والوصايا ، والأقارير ، والشهادات والاشارات ، وغيرها ، ممّا نرى انّ عرف العقلاء يحكمون بحجية الظن فيها ، وان تمكّنوا من العلم .

وأمّا الشرعيات : فمثل الفاظ القرآن الحكيم ، والاخبار المروية عنهم عليهم السلام وكذا الموارد الّتي يعمل فيها بخبرالثقة ، حيث قال عليه السلام : «والأشياءُ كُلّها عَلى ذلِكَ حَتّى تَستَبِينَ أو تَقومَ بِه البَيّنَة » (1) ، إلى غيرها ، فانّ الشارع والعرف ، انّما يحكمون بكفاية الظنّ في هذه الامور ، من باب الحكمة لا من باب العلّة .

فاذا قال الشارع - مثلا : - « الماء اذا بلغ قدر كرّ فلا ينجّسه شيء » (2) ، فالانفعال

ص: 316


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

والمرادُ بالظنّ المطلق ماثبت اعتبارُه من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعيّة ، وبالظنّ الخاصّ ماثبت اعتباره ،

------------------

وعدم الانفعال ، دائران مدار الكرّيّة ، اينما كانت لم ينفعل الماء وأينما لم تكن انفعل .

أمّا اذا قال الشارع : تجب العِدّة للمطلَّقة بحكمة عدم اختلاط المياه ، فانّ وجوب العدّة وعدم وجوبها ، ليس دائراً مدار اختلاط المياه وجوداً وعدماً ، بل اللازم : العدّة في المدخولة غير اليائسة ، حتّى وان لم ينزل الرجل في دخوله بها أو علمنا بعدم وجود الماء في رحمها .

وانّما كان الحكم في بعض المواضع دائراً مدار العلّة ، وفي بعض المواضع ليس دائراً مدار العلّة ، بل من باب الحكمة ، لانّ العلّة هي الأصل ، والحكمة من جهة انّه لو أراد الشارع ، أو العقلاء ادارة الحكم مدار العلّة ، لزم تفويت المصلحة كثيراً مثلاً : اذا قال الشارع للمرأة : اذا علمت ان لا ماء في رحمك ، جاز لك التزويج فكثيراً ما يكون الماء في رحمها ، وهي بالجهل المركّب تقطع بعدم وجود الماء ، فتتزوج ، وتختلط المياه في رحمها ، فيوجب اختلاط الانساب ، وصَوناً لذلك يقول الشارع : يجب على المرأة العدّة ، سواء قطعت بوجود الماء أو بعدم وجوده ، أو شكّت في الوجود ، وعدمه ، فاختلاط المياه أخذ من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ( و ) ممّا تقدّم ظهر : انّ ( المراد بالظنّ المطلق : ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الاحكام الشرعية ) ويُسمّى ظناً مطلقاً ، من جهة انّ حجّيته ، ليس بسبب دليل مخصوص .

( و ) المراد ( بالظّن الخاصّ : ما ثبت اعتباره ) بدليل مخصوص ، بعنوان مخصوص ، كالدليل الدال على حجيّة الخبر الواحد ، أو فتوى المفتي ، أو

ص: 317

لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ بعد تعذّر العلم .

وكيف كان ، فاستدلّوا على اعتبار قول اللغويّين باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ، ولم ينكر ذلك أحدٌ على أحد .

وقد حكي عن السيّد رحمه اللّه في بعض كلماته دعوى الاجماع على ذلك ، بل ظاهر كلامه المحكيّ اتّفاقُ المسلمين .

------------------

الشهرة ، أو البيّنة ، أو ما اشبه ، فاعتباره ثابت ( لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظّن ، بعد تعذّر العلم ) وان كانت الحكمة في الظنّ الخاصّ أيضاً هو : انسداد باب العلم على الأغلب - كما أشرنا اليه - .

( وكيف كان : فاستدلّوا على اعتبار ) قبول ( قول اللّغويين ب- ) وجوه متعدّدة ، وذكر المصنِّف بعضها :

أحدها : ( اتفاق العلماء ، بل جميع العقلاء ) والفرق بينهما : انّ الأوّل : اجماع المتشرعة ، والثاني : اجماع أهل الألسنة ( على الرجوع اليهم ) أي : إلى اللغويين (في استعلام اللغات و ) في ( الاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ) مع الخصوم ، فهم يستفيدون من أهل اللغة في فهمهم أنفسهم ، كما انّهم يردّون خصومهم بأقوال أهل اللغة أيضاً ، ( ولم ينكر ذلك أحد على أحد ) فانّه لم يقل أحد ، بأن قول اللغوي ليس بحجة ، كما لم يقل أحد ، بان قول أهل الخبرة ليس بحجة ، ( وقد حكي عن السيد رحمه اللّه في بعض كلماته دعوى الاجماع ) من العلماء ( على ذلك ) الّذي ذكرناه من حجّية قول اللغوي ( بل ظاهر كلامه المحكي : اتفاق المسلمين ) الأعمّ من العلماء ، على حجّية قول اللغوي .

هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل ، وهو : اجماع العلماء .

ص: 318

قال الفاضل السبزواريّ ، فيما حكي عنه ، في هذا المقام ، ما هذا لفظه :

« صحّةُ المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان » ، انتهى .

وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوعُ إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك ، لا مطلقا ،

------------------

أما الدليل الثاني : ما ذكره المصنِّف قدس سره بقوله : ( قال الفاضل السّبزواري : فيما حكي عنه في هذا المقام ) أي : مقام حجّية قول اللغوي ( ما هذا لفظه : صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم ) المتفوقين على غيرهم ، (البارعين ) وبرع بمعنى : ظهر ، أي ظهروا ( في فنّهم ) بحيث اصبحوا يعدّون من اهل الخبرة فيه : فانّ الناس يرجعون اليهم ( فيما اختصّ بصناعتهم ) كالرجوع إلى الطبيب في الطب ، وإلى الفقهاء في الفقه ، وإلى النحاة في النحو ، وإلى البنائين في البناء ، وما اشبه ذلك ( ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان ) ومصر ، والشارع لم يغيّر طريقة العقلاء ، بل اقرّها حين الرجوع إلى الشهود ، واهل الخبرة ، وما اشبه ذلك ( انتهى ) .

وكيف كان : فانّ الشيخ ردّ هذا الدليل على اطلاقه ، وانّما قبله مقيداً ، فعنده ليس قول اللغوي بما هو لغوي حجّة مطلقاً ، حتّى يشمل الواحد من اللغويين ، وان لم يكن عادلاً ، قال : ( وفيه : انّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع اليهم ) أي إلى اللغويين (مع اجتماع شرائط الشهادة : من العدد ، والعدالة ، ونحو ذلك ) كأن يكون اخبار اللغوي عن حسّ ، بذهابه إلى مراكز العرب ، واستفادة اللغة منهم ، لا بما اذا كان ذلك عن اجتهاده ، ( لا مطلقاً ) فانّه ليس قول اللغوي

ص: 319

ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يُرجَعُ إليه من أهل الرجال ، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظاهر اتّفاقهُم على اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها .

------------------

حجّة ، إلاّ اذا كان من عنوان البيّنة فلم يثبت انّهم يرجعون إلى قول اللغوي مطلقاً ، ( ألا ترى أن أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع اليه من اهل الرجال ) ليكون داخلاً في خبر العدل ( بل وبعضهم على اعتبار : التعدد ) ليدخل في البينة ، وأي فرق بين الرجال في سند الحديث ، وبين قول اللغوي في معنى مفرداته وجمله ؟ فانّه كما يشترط في الرجال العدد والعدالة ، حتّى يؤذ بقوله ، كذلك يعتبر في اللغوي العدد والعدالة ، حتّى يؤذ بقوله .

وهذا ليس في مجرّد قول اللغوي والرجال ، بل ( والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد ، والعدالة ، في أهل الخبرة في مسألة التقويم ) لأموال الصغار والمجانين ، فيما اذا اريد بيعها أو نحوها ( وغيرها ) كتعيين الضمانات ، والخسارات ، والاضرار ، وما اشبه .

والحاصل : انّه لم يثبت اجماع من العلماء ، ولا من العقلاء على الرجوع إلى قول اللغوي ، أو غير اللغوي ، من سائر أهل الخبرة ، فيما لم يكن هناك عدد وعدالة .

هذا ما يراه المصنّف ، لكن الاظهر : انّ المشترعة والعقلاء ، لا يشترطون العدد ، ولا العدالة ، بل يرجعون في أهم اُمورهم إلى أهل الخبرة - وان لم يكن عدد وعدالة - فتراهم يراجعون الاطباء حتّى في العمليات الجراحية الخطيرة ، بدون اشتراطهم التعدد والعدالة فيهم ، وكذلك بالنسبة إلى ركوبهم البواخر ، والسيارات ، والطائرات ، خصوصاً الأخيرة ، فانّها من أخطر الأمور للنفس والمال ،

ص: 320

هذا مع أنّه لايُعرفُ الحقيقةُ عن المجاز بمجرّد قول اللغويّ ، كما اعترف به المستدلّ في بعض كلماته ، فلا ينفعُ في تشخيص الظواهر .

------------------

مع انّ سائق هذه الوسائل شخص واحد ، بدون التعدّد والعدالة غالباً ، إلى غير ذلك من رجوع العقلاء ، بل والمتشرعة إلى الواحد من أهل الخبرة .

أمّا ما يشاهد من مراجعة الفقهاء إلى المتعدد من اللغويين ، عند ارادتهم الاستنباط ، فهو من وجه الاتقان .

بل يؤد عدم لزوم التعدد : رجوع المتشرّعة وسائر العقلاء ، إلى قاض واحد ، في الدماء والاموال والفروج . ورجوعهم إلى فقيه واحد ، في مطلق الفتاوى .

وكذلك رجوع المتنازعين إلى محام واحد ، في الاستفادة من كلامه ، بالنسبة إلى قضيته ، مع وضوح وجود الخطر الكبير ، ديناً ودنياً في الرجوع إلى امثال اولئك ، لانّ مصير الانسان ومسيره ، وعرضه ، وماله ، ودمه ، متوقف عليهم .

( هذا مع انّه لا يعرف الحقيقة عن المجاز ، بمجّرد قول اللغوي ، كما اعترف به المستدِلّ في بعض كلماته ) فانّه وان ذكر : حجّية قول اللغوي من باب الظنّ الخاصّ ، لكن كلامه : بعدم معرفة الحقيقة عن المجاز في أقوال اللغويين ، يناقض ذلك ( فلا ينفع ) قولهم ( في تشخيص الظواهر ) .

فانّ اللغويين ، لا يعيّنون الحقيقة عن المجاز ، حتّى يحمل اللفظ على حقيقته عند الاطلاق ، وانّما عادتهم انّهم يذكرون : مجرد موارد الاستعمال ، سواء كان حقيقة ، أو مجازاً .

لكن فيه : انّ الظاهر : انّهم يذكرون الحقيقة فقط ، واذا ذكروا مجازاً جائوا معه بالقرينة ، ولذا لا تجدهم يذكرون حتّى أظهر المجازات في معاني الألفاظ .

مثلاً : لا يذكرون في معنى الأسد الرجل الشجاع ، ولا يذكرون في معنى القمر :

ص: 321

فالانصافُ : أنّ الرجوعَ إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط الشهادة : إمّا في مقامات يحصل العلمُ بالمستعمل فيه من مجرّد ذكر لغويّ واحد او أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ، كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهيّة من إرسال جماعة لها إرسال المسلّمات ؛ وإمّا في مقاماتُ يُتسامح فيها ،

------------------

الشخص الجميل ، ولا يذكرون في معنى البحر : الشخص الكريم ، إلى غيرها ، مع انّها من اظهر المجازات .

( فالانصاف ) عند المصنِّف قدس سره ( : انّ الرجوع إلى أهل اللغة ، مع عدم اجتماع شروط الشهادة ) انّما يكون في ثلاثة موارد فقط ، وليس في كلّ مكان ، كما ذكره جماعة لادّعائهم بانّ قول اللغوي حجّة مطلقاً ، وهي كما يلي :

أولاً : ( أمّا في مقامات يحصل العلم ) فيها ( بالمستعمل فيه ، من مجرّد ذكر لغوي واحد ، او أزيد ) من واحد (له ) أي للمعنى ، وذلك لمناسبات حاليّة أو مقاليّة ، يقطع الانسان منها ، بأنّ المعنى لهذا اللفظ ، هو هذا الّذي ذكره اللغوي لانّه ( على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ) أو من المسلّمات عند أهل العرف ، من أهل اللّسان الّذي ينقل اللغوي المعنى لكلامهم ، ( كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من ارسال جماعة ) أو فرد ( لها ) أي : لتلك المسألة ( ارسال المسلّمات ) فاذا قال الشهيدان : - مثلاً - الحكم كذا ، بلا ريب ، أو بلا اشكال ، أو بانّه ما ذكره المعصومون عليهم السلام ، أو غير ذلك ، فانّ الانسان الّذي يراجع كلامهما يحصل له العلم بتلك المسألة الفقهيّة ، بسبب هذه القرائن المقالية .

ثانياً : وقد تكون القرائن مقاميّة ، كما في قوله ، ( وامّا في مقامات يتسامح فيها ،

ص: 322

لعدم التكليف الشرعيّ بتحصيل العلم بالمعنى اللغويّ ، كما إذا اريد تفسيرُ خطبة او رواية لا تتعلّق بتكليف شرعيّ ، وإمّا في مقام انسدّ فيه طريقُ العلم ولا بدّ من العمل ، فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعيّ المستند بقول أهل اللغة .

ولا يتوهّم : « أنّ طرحَ قول اللغويّ الغير المفيد للعلم

------------------

لعدم التكليف الشرعي بتحصيل العلم بالمعنى اللّغوي ، كما اذا أريد تفسير خطبة ، أو رواية ، لا تتعلّق بتكليف شرعي ) او تفسير قصّة من قصص القرآن الحكيم ، أو غير ذلك ، فانّها حيث لا تحتاج إلى العلم ، لا يهمّ ان لا يحصل للانسان العلم ، أو ما هو بمنزلته من الحجّة الشرعيّة .

ثالثاً : ( وامّا في مقام انسدّ فيه طريق العلم ، ولابدّ من العمل ) كما اذا وجب عليه التيمّم بالصعيد ، ولا يعلم المراد منه ، ولابدّ له من العمل والتيمّم في حين انّه لم يكن التراب عنده حاضراً ، فانّه يتيمّم بالحجر ، أو الرمل ، أو ما اشبه ذلك ، والاّ بان كان يمكن له الاحتياط بالجمع بين الأمرين ، أو الأخذ بالقدر المتيقّن - مثلاً - فلا يجوز له أن يعمل بقول اللغوي ، الّذي لم يحصل له العلم منه ، لعدم الانسداد بالنسبة اليه ، من جهة تمكنه من الأخذ بالقدر المتيقّن ، أو من الاحتياط .

امّا غير المتمكن ( فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعي المستند بقول أهل اللغة ) .

( و ) لا يقال : انّا اذا طرحنا قول اللغوي ، لزم عدم فهم الكتاب والسنّة ، لانّهما مستندان إلى اللغة ، واللغة تُعرف من قول اللغوي ، فاذا سقط قول اللغوي لم نفهم الكتاب والسنّة ، فدليل الانسداد ، يدلّ على حجيّة قول اللغوي من باب الظنّ المطلق وان سلمنا انّه ليس بحجّة ، من باب الظنّ الخاصّ .

لانّه يقال : ( لا يتوهّم ، انّ طرح قول اللّغوي غير المفيد للعلم ) أي : طرحه

ص: 323

في ألفاظ الكتاب والسنّة مستلزمٌ لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام .

لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موارد اللغات إلاّ ما شذّ وندر - كلفظ الصعيد ونحوه - معلومٌ من العرف واللغة ، كما لايخفى ، والمتبعُ في الهيئات

------------------

( في الفاظ الكتاب والسنّة ، مستلزم لانسداد طريق الاستنباط ، في غالب الأحكام ) فاللازم ان نأخذ بقول اللغوي من باب الانسداد ، وان لم نأخذ بقوله ، لحجّيته من باب الظنّ الخاصّ ( لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موارد اللّغات ، الاّ ما شذّ وندر ، كلفظ الصعيد ونحوه ، معلوم من العرف واللّغة ، كما لا يخفى ) ، فموارد طرح قول اللغوي شاذ ، أو نادر ، والفرق بين الشاذّ والنادر : أنّ الشاذ : ما ليس على الموازين ، والنادر : ما كان على الموازين ، لكن يندر استعماله ، ومن المعلوم : انّ في الموارد القليلة الشاذّة ، أو النادرة ، اذا لم نأخذ بقول اللغوي - ممّا ينجرّ إلى الاحتياط ، أو الاستصحاب ، أو البرائة ، أو التخيير - لا يوجب الخروج عن الدّين الّذي هو من مقدمات دليل الانسداد ، كما يأتي تفصيل الكلام فيه .

كما انّه لو استلزم الاحتياط ، فانّه لا يكون من الاحتياط المرفوع لعسره وحرجه الّذي هو ايضاً من مقدمات الانسداد .

( و ) انّ قلت : انّ ما ذكرتم : من ندرة أو شذوذ الالفاظ غير الظاهرة المعنى ، وان تمّ فلا انسداد لباب العلم في المفردات ، بل اللازم تحصيل العلم بمعانيها ، إلاّ ان المركّبات الّتي تعطي معاني زائدة عن المفردات ، لا علم بمعانيها ، فللازم ان نقول : بحجّية قول اللغوي فيها ، امّا من باب الظنّ الخاصّ ، أو من باب الظنّ الانسدادي .

قلت : ( المتبع في الهيئات ) أي هيئات المشتقّات ، والمركبات ، ونحوهما

ص: 324

هي القواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعيّ ، واتّفاق أهل العربية او التبادر بضميمة أصالة عدم القرينة ، فانّه قد يثبت به الوضع الأصليّ الموجود في الحقائق ، كما في صيغة « إفعل » او الجملة الشرطيّة او الوصفيّة .

ومن هنا يتمسّكون - في إثبات مفهوم الوصف بفهم

------------------

( هي : القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي ، واتفاق أهل العربية ) من اللغويين ، والادباء وأهل البلاغة ونحوهم ، حيث انّ الهيئات منتشرة في هذه الكتب ، ذكروا معانيها وخصوصياتها ، وقد اخذ الاصوليون جملة منها، وذكروها ، كمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ، ومفهوم الغاية ، ودليل الاقتضاء ، ونحوها .

( أو التبادر ) لمن كان من أهل اللغة ( بضميمة اصالة عدم القرينة ) فقد تقدّم حجيّة اصالة عدم القرينة ، سواء كانت القرينة المحتملة ، مقاميّة ، أو مقاليّة ( فانّه قد يثبت به الوضع الاصلي ، الموجود في الحقائق ) اللفظية ، ( كما في صيغة افعل ) أو لا تفعل ( أو الجملة الشرطيّة ، أو الوصفيّة ) أو الغائيّة ، أو دلالة الاقتضاء ، أو الجملة الّتي فيها العدد ، ونحو ذلك ، فانّا اذا رأينا انّ أهل اللّسان ، يفهمون من الأمر : الوجوب ، ومن النهي : الحرمة ، ومن الشرط : انتفاء المشروط بانتفائه ، ومن الوصف : كذلك وهكذا من الغاية ، والعدد ، ورأينا انّ صدق الكلام ، أو صحته ، منوط بدلالة الاقتضاء ، وشككنا انّهم هل يفهمون هذه المعاني ، من نفس هذه الهيئات ، أو من القرائن الخارجية ، وما إلى ذلك ؟ اجرينا اصالة عدم القرينة ، وبذلك يثبت : انّ هذه الهيئة ، حقيقة في هذا المعنى لانّه طريق أهل اللسان .

( ومن هنا يتمسكون ) أي : الفقهاء ( في اثبات مفهوم الوصف ، بفهم

ص: 325

أبي عبيدة في حديث : « لَيُّ الواجِد » ونحوُه غيرُه من موارد الاستشهاد - بفهم أهل اللسان ، وقد يثبت به الوضعُ

------------------

أبي عبيدة ، في حديث : « لَيّ الواجِد ) يَحِل عُقوبَته وَحَبسُه » (1) وهذا حديث مروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم مختلفاً ، فقد روي تارة باللّفظ الّذي ذكرناه ، واخرى بهذا اللفظ : « ليّ الواجِد يَحل عُقوبَته وَعِرضُه » (2) ، ومعناه : انّ من قدر على إداء دينه وأخّره عن وقته ، جاز عقوبته وهتكه ، بأن يقال له : يا مسوّف ، ويا فاعل الحرام ، ويا عاصي اللّه ، وما اشبه .

وليّ : مصدر لوى يلوي ، بمعنى : انّه اذا طولب أعطى ظهره ، وانصرف بدون اجابة الطالب ، وإداء دينه .

والواجد : بمعنى المقتدر .

وقد قال ابو عبيدة : هذاالحديث ، يدلّ على انّ ليّ غير الواجد ، لا يحل عقوبته وعرضه .

واذا ضممنا إلى ذلك اصالة عدم القرينة الخارجية ، مقالية ، أو مقاميّة ، أفادا معاً : مفهوم الشرط ، وأنّ العرف يستفاد من القرينة الشرطية مفهوماً .

( ونحوه ) أي نحو تمسّك أبي عبيدة ( غيره ، من موارد الاستشهاد بفهم أهل اللّسان ) كما يجدها المتتبع في كتب الادب ، والبلاغة ، ونحوها .

لا يخفى : انّه لولا مفهوم الوصف ، لامكن - أيضاً - ان يستفاد الحكم المذكور من قوله تعالى : « وَإِنْ كَانَ ذُوْ عُسْرَةٍ ، فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَة » (3) .

( وقد يثبت به ) أي : بالتبادر ، بضميمة اصالة عدم القرينة الخاصة ، ( الوضع

ص: 326


1- - وسائل الشيعة : ج18 ص334 ب8 ح23792 ، مجمع البحرين : مادة «لوا» .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص72 ح44 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج9 ص70 .
3- - سورة البقرة : الآية 280 .

بالمعنى الأعم الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقاميّة ، كما يدّعى أنّ الأمر عقيبَ الحظر بنفسه مجرّدا عن القرينة يتبادر منه مجرّدُ رفع الحظر دون الايجاب والالزام ، واحتمالُ كونه لأجل قرينة خاصة يُدفَعُ بالأصل ، فيثبت به كونه لأجل القرينة العامّة ، وهي الوقوعُ في مقام رفع الحظر ، فيثبت بذلك ظهور ثانويّ لصيغة « إفعَل » بواسطة القرينه الكليّة .

------------------

بالمعنى الأعمّ ) والمراد بالوضع بالمعنى : الاعمّ ، أعمّ من الوضع التعييني أو التعيّني ، الحقيقي أو المجازي ، لأنّ للمجازات أيضاً أوضاعاً ( الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن ) العامّة ( المقاميّة ، كما يدعى : انّ الامر عقيب الحظربنفسه ) أي : ( مجرداً عن القرينة ) الخاصّة ( يتبادر منه : مجرّد رفع الحظر ، دون الايجاب والالزام ) مثل قوله سبحانه : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا » (1) ، فان كون الأمر عقيب الحظر ، بنفسه قرينة على عدم الايجاب ، وكذلك النهي بعد الوجوب، (واحتمال كونه لاجل قرينة خاصة، يدفع بالاصل ، فيثبت به كونه لاجل القرينة العامّة ، وهي : الوقوع) النهي بعد الوجوب (في مقام رفع الحظر) فاذا رأينا أنّ اهل اللسان يفهمون من هذه الهيئات هذه المعاني ضممنا ذلك إلى اصالة عدم قرينة خاصّة ( فيثبت بذلك ظهور ثانوي لصيغة افعل ) أو لا تفعل (بواسطة القرينة الكلّيّة) ، وهذا الظهور الثانوي بسبب القرينة العامّة ، أعمّ من أن يكون حقيقة عرفيّة ، كما ذهب اليه بعض في أمثال هذه الجمل ، أو مجازاً لغويّاً ، كما هو المشهور بين الادباء .

وعليه : فلا حاجة في فهم المعاني اللغويّة ، سواء كانت معاني حقيقية أو معاني مجازيّة ، مفردة ، أو مركّبة ، للرجوع إلى قول اللغوي ، الّذي لا يورث إلاّ الظنّ ،

ص: 327


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

وبالجملة ، فالحاجةُ إلى قول اللغويّ الذي لا يحصل العلمُ بقوله ، لقلّة مواردها لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة .

نعم ، سيجيء أنّ كلّ من عمل بالظنّ في مطلق الأحكام الشرعية الفرعية يلزمه العملُ بالظن بالحكم الناشيء من الظنّ بقول اللغويّ ، لكنّه لا يحتاجُ إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل العبرةُ

------------------

والظنّ ليس بحجّة ، فلا يحكم بحجيّة قول اللغوي بدون العدد والعدالة ، تمسّكاً بانسداد باب العلم بالاحكام ( وبالجملة ، فالحاجة إلى قول اللغويّ ، الّذي لا يحصل العلم بقوله لقلّة مواردها ) أي : موارد الحاجة ( لا تصلح سبباً للحكم باعتباره ) أي : باعتبار قول اللغوي ( لأجل الحاجة ) والظرف في قوله : « لاجل » متعلق بقوله : « سبباً » أي : لا يكون سبباً من جهة الحاجة إلى قولهم .

اقول : لكنّك قد عرفت الاشكال فيما ذهب اليه المصنِّف ، وان تبعه جماعة من الفحول .

( نعم ، سيجيء ) في مبحث الانسداد ( : انّ كلّ من ) قال بانسداد باب العلم بالاحكام ، كالمحقق القمّي ، وغيره و ( عمل بالظّن في مطلق الاحكام الشرعيّة الفرعيّة ، يلزمه العمل بالظنّ بالحكم ، الناشيء من الظّن بقول اللغوي ) أيضاً ، وذلك ، لأن الظنّ بقول اللغوي في هذه الحال ، صغرى من صغريات مبحث الانسداد - وقد عرفت انّ المراد بالظنّ : ليس الظنّ الناشيء من الامور الفرديّة ، بل المراد بالظنّ : الظنّ الناشيء من الامور النوعيّة ، ممّا يكون النوع يظنّ بسبب هذه الأمارة كالشهرة ، والاجماع ، وقول اللغوي ، وغير ذلك - وحينئذٍ فيجب العمل بهذا الظنّ لحجيّة مطلق الظن .

هذا ، و ( لكنّه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل العبرة

ص: 328

عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام ، فانّه يوجبُ الرجوعَ إلى الظنّ بالحكم الحاصل من الظنّ باللغة وإن فرض انفتاحُ باب العلم فيما عدا هذا المورد من اللغات .

------------------

عنده ) أي عند العالم الانسدادي ( بانسداد باب العلم في معظم الاحكام ) ، وحاصل هذا الوجه هو : انّ الانسداد في باب الأحكام ، يوجب حجّية قول اللغوي من باب الظنّ المطلق ، بخلاف ما ذكرناه سابقاً من قولنا : « ولا يتوهّم : انّ طرح قول اللغوي » إلى آخره ، فانّه كان بمعنى : انّ الانسداد في باب اللغة يوجب حجيّة قول اللغوي ، من باب الظنّ الخاصّ ، وكذلك في باب الرجال ، فانّه قد نقول : بحجيّة الظنون الرجاليّة من باب الانسداد في باب الرجال ، وقد نقول : بحجّيّتها من باب الانسداد ، في باب الاحكام ، وسيأتي تفصيل الكلام في محله ، ان شاء اللّه تعالى .

( فانّه ) أي : الانسداد في اللغة ( يوجب الرجوع إلى الظنّ بالحكم ، الحاصل من الظنّ باللغة ) لانّ الانسداد في اللغة ، يوجب الانسداد في الاحكام ، لعدم فهمهم معاني الآيات والاخبار ، فهماً بالعلم أو بالعلمي - كما يفرض في مقدمات الانسداد - .

وكذلك الانسداد في الرجال ، يوجب الانسداد في باب الاحكام على ما تقدّم في المثال .

حتّى ( وان فرض انفتاح باب العلم ، فيما عدا هذا المورد من اللّغات ) لما عرفت : من انّ العبرة في حجّية الظنّ المطلق ، انسداد باب العلم بمعظم الاحكام ، وان كان هناك انفتاح في غير المعظم .

والحاصل : انّ المصنِّف لا يرى : حجّية قول اللغوي ؛ لانّه لا انسداد لباب العلم

ص: 329

هذا ، ولكنّ الانصافَ : أنّ مواردَ الحاجة إلى قول اللغويّين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يُفهَمُ دخولُ الأفراد المشكوكة او خروجُها وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغويّ ، كما في مثل ألفاظ الوطن

------------------

إلاّ في النادر من اللغات ، والانسداد في النادر لا يوجب الانسداد المطلق الّذي هو معيار حجّية الظنّ المطلق .

( هذا ، ولكن الانصاف انّ ) ما تقدّم من جوابنا على : « ولا يتوهم : انّ طرح قول اللغوي ، غير المفيد للعلم في الفاظ الكتاب والسنّة ، مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الاحكام » إلى آخره ، ليس جواباً تاماً ، بل التوهّم في محله .

لانّ ( موارد ) الانسداد و ( الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من ان يحصى في تفاصيل المعاني ) دخولاً وخروجاً من جهة الافراد المشكوكة ( بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة ، أو خروجها ) عن المعنى للالفاظ ( وان كان المعنى في الجملة معلوماً ، من دون مراجعة قول اللغوي ) .

والحاصل : انّ اللفظ وان كان معلوم المعنى في الجملة ، و لا نحتاج في معناه إلى قول اللغوي ، لكن هناك الفاظ كثيرة لا نعلم معانيها على التفصيل ، بحيث نحرز دخول الافراد المشكوكة في هذه المعاني أو خروجها عنها ، فنحتاج في تعيين حكمها إلى قول اللغوي .

( كما في مثل الفاظ : الوطن ) الّذي يرتبط به حكم الصلاة والصوم ، فهل هو مختصّ بمسقط رأس الانسان ، أو يدخل فيه الوطن الاقتصادي ؟ وهل يخرج منه المسقط بعد الإعراض ، أو لا يخرج بالإعراض ، فيكون الصلاة والصوم فيه تماماً - مثلاً - ؟ .

ص: 330

والمفازة ، والتمر ، والفاكهة ، والكنز ، والمعدن ، والغوص ،

------------------

( والمفازة ) من الاراضي الموات ، الّتي لا ماء فيها ، ولا عشب ، هل يدخل فيها - مثلاً - ساحل البحر اذا نشف ماؤ ؟ وهل يخرج منها اذا احاط بها الماء ؟ إلى امثال ذلك ، من الافراد المشكوكة للمفازة المرتبط بها بعض الاحكام الشرعيّة ، كما وري فيمن لا يهتدي الى القبلة في مفازة : « يصلّي إلى اربع جوانب » (1) ، وفي اللقطة قال عليه السلام : « إنْ وَجَدت طَعاماً فِي مَفازَةٍ فَقَوِّمهُ عَلى نَفسِكَ لِصاحِبه ، ثمّ كُلُه » (2) .

( والتمر ) هل يدخل فيه الرطب ، والحشف ، أم لا ؟ . وهذا في باب الزكاة ونحوها ( والفاكهة ) هل يدخل فيها أمثال : الجوز ، واللوز ، وما اشبه ، حيث قد ورد في باب الأطمعة ، والأشربة روايات حول الفاكهة ؟ .

( والكنز ) وهو : المال المذخور تحت الارض ، بقصد ، أو بدون قصد ، هل يدخل فيه ، ما يوجب في الصندوق ، والكوز ، وما اشبه ؟ وهل يخرج منه ، ما ظهر من الارض ، لزوال التراب بزلزلة ونحوها ، أم لا ، حيث انّ الكنز مورد أحكام الخمس ونحوه ؟ .

( والمعدن ) وهو ما كان في الارض ممّا كان أصله ارضاً : كالقير والنفط ، والفيروزج ، والذهب ، وما اشبه ، هل يدخل فيه ماله منفعة عقلائيّة : كالطين الأرمني والجص ، ونحوهما ، حيث انّ المعدن موضع حكم الخمس ، وموضع حكم عدم جواز السجود عليه ؟ .

( والغوص ) وهو : ما اخرج من الماء بالغوص ، هل يدخل فيه ما يؤذ من

ص: 331


1- - وسائل الشيعة : ج4 ص310 ب8 ح5235 .
2- - وسائل الشيعة : ج25 ص444 ب2 ح32314 .

وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لايحصى ، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجبُ التوقفَ فيها محذورا ، ولعلّ هذا المقدار مع الاتفاقات المستفيضة كافٍ في المطلب ، فتأمل ، وسيتضح هذا زيادة على هذا انشاء اللّه تعالى .

------------------

ساحل البحر ، أو عن سطح الماء - مثلاً - حيث انّ الغوص فيه الخمس ؟ .

( وغير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا يحصى ) كآلة اللّهو : هل تشمل كلّ آلة ، ليست لها فائدة عقلائيّة ؟ . والغناء : هل يشمل التصنيف ؟ .

والقمار : هل يشمل كلّ لعب بشيء ولو بدون مراهنة ، كلعب المحبس ؟ .

والماء : هل يشمل المياه الزاجية ، والكبريتية ، ونحوهما ؟ .

والآنية : في حرمة آنية الذهب والفضة ، هل تشمل ما له ثقب كالمصفاة ، او مثل الحب ، والكوز ، وما اشبه ذلك ؟ الى غيرها ( وان لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها ، محذوراً ) والمراد بالمحذور : الخروج من الدّين اذا أجرينا البرائة ، أو الحرج الشديد والعسر الأكيد ، اذا أجرينا الاحتياط ، وهما من مقدّمات دليل الانسداد ( ولعلّ هذا المقدار ) من الانسداد ( مع الاتفاقات المستفيضة ) في حجّية قول اللغوي ، كما تقدّم عن السيد والسبزواري ( كاف في المطلب ) أي : في حجيّة قول اللّغوي .

وبهذا ظهر : انّ المصنِّف رحمه اللّه ، يميل إلى انّ قول اللّغوي من الظنون الخاصّة ، كما استقربناه في أول المبحث .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة إلى انّ الانسداد اذا لم يتمّ ، كما اشكلنا عليه سابقاً لم ينفع في حجيّة قول اللّغوي انضمام الاجماع اليه ( وسيتّضح هذا ) أي : حجيّة الاجماع المنقول ، اذا انضم اليه اسباب اُخر وعدم حجّيّته ( زيادة على هذا انشاء اللّه تعالى ) في باب الاجماع .

ص: 332

الاجماع المنقول

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل الاجماع المنقول بخبر الواحد عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص ،

------------------

الاجماع المنقول فَصْلٌ : قال المصنّف رحمهم اللّه : ( ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل : الاجماع المنقول بخبر الواحد ) كما اذا نقل الاجماع السيد المرتضى ، أو شيخ الطائفة ، أو صاحب الجواهر ، أو من أشبههم ، فانّ هذا الاجماع الّذي نقل بخبر واحد ، خارج عن اصالة حرمة العمل بالظنّ .

وهو اذا أورث القطع كان حجّة ولا كلام فيه ، وانّما الكلام فيما اذا أورث الظّنّ النوعي وذلك ( عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص ) لا عند من يقول باعتبار الخبر بالظنّ الانسدادي .

والاجماع على اربعة اقسام ، لأنّه قد يكون الاجماع محصّلاً ، وقد يكون منقولاً ، وكلّ منهما على قسمين : سمعي وبصري ، فالاقسام اربعة :

الأوّل : ما اذا تتبّع شخص افراد العلماء ، وسمع منهم باذنيه مباشرة فرأى انّ كلّ واحد منهم ، أفتى في مسألة كذا بحكم متّفق عليه بينهم ، حتّى يحصل له العلم بقول المعصوم ، من اتّفاق هؤاء العلماء .

الثاني : ان يتتبّع اقوال العلماء في كتبهم ويرى فتاواهم ، وذلك بمقدار يحصل له الظنّ النوعي ، بقول المعصوم عليه السلام.

الثالث : ما اذا لم يتتبّع هو ، بل سمع اقوال العلماءالذين ادّعوا الاجماع ، بحيث حصل له تواتر الاجماعات .

ص: 333

نظرا إلى أنّه من أفراده ، فيشمله أدلّته ، والمقصودُ من ذكره هنا ، مقدما على بيان الحال في الأخبار ، هو التعرّضُ للملازمة بين حجّيّة الخبر وحجّيته ، فنقول :

إنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص أنّ الدليلَ عليه هو الدليلُ على حجيّة خبر

------------------

الرابع : ان يرى ادّعاء الاجماع في قول بعض العلماء وكتبهم ، كشيخ الطائفة وغيره .

والكلام الآن في القسم الرابع ، فانّه قد ذهب جماعة من العلماء إلى حجيّة هذا القسم ( نظراً إلى انّه من افراده ) أي من افراد الخبر ، فكما انّ زرارة اذا حكى قول المعصوم ، وجب علينا اتّباعه ، كذلك اذا الشيخ ادّعى اجماع العلماء لزم اتّباعه ، وعليه : ( فيشمله ) أي : الاجماع المنقول ، ( ادلّته ) أي ادلّة الخبر ، فيكون للخبر فردان : الأوّل : رواية زرارة ، أو محمد بن مسلم ، أو من اشبههما .

والثاني : دعوى الشيخ ، أو السيد المرتضى أو من اشبههما ، الاجماع على مسألة .

( والمقصود من ذكره ) أي : حجّيّة الاجماع ( هنا ، مقدّماً على بيان الحال في الاخبار ) وانّ الخبر الواحد حجّة ، أو ليس بحجّة ( هو التعرّض للملازمة بين حجّية الخبر ، وحجيّته ) أي حجّية الاجماع ، وانّه هل بين الأَمرين ملازمة ، حتّى اذا كان الخبر الواحد حجّة ، كان الاجماع المنقول ايضاً حجّة ، او ليس بينهما ملازمة ؟ ( فنقول ) في وجه التلازم بين حجّية الخبر الواحد ، وحجّية الاجماع المنقول : (أنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره ) أي : باعتبار الاجماع المنقول ( بالخصوص انّ الدّليل عليه ) أي : الاجماع المنقول ( هو : الدّليل على حجّية خبر

ص: 334

العادل ، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند ، لأنّ مدّعي الاجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الامام عليه السلام ، بلا واسطة ،

------------------

العادل ، فهو ) أي : الاجماع المنقول ( عندهم ، كخبر صحيح عالي السّند ) ، والمراد بعالي السند : ما كان بلا واسطة إلى الامام ، أو كان بوسائط قليلة ، مثل : رواية زرارة عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام ، أو رواية زرارة عن الصادق عليه السلام .

وانّما كان الاجماع المنقول كالخبر العالي السند ( لانّ مدعي الاجماع ) الّذي هو شخص عادل ، كشيخ الطائفة ( يحكي مدلوله ) أي مدلول الاجماع ، والمراد بمدلول الاجماع : ما يفيده الاجماع ، كما اذا قال : قام الاجماع على نجاسة ماء البئر ، فنجاسة ماء البئر هو مدلول الاجماع ( ويرويه ) أي يروي هذا المدلول ( عن الامام عليه السلام بلا واسطة ) .

وانّما كان في خبر عالي السند : لانّ ناقل الاجماع ، كشيخ الطائفة - مثلاً - رأى كلمات العلماء ، وكلماتهم حاكية عن قول المعصوم ، فلا واسطة بين كلماتهم وبين قول المعصوم ، أمّا رؤته لكلماتهم ، فهو واضح حسّي ، وامّا حكاية أقوالهم عن قول المعصوم بلا واسطة : فلما سيأتي - انّ شاء اللّه - من دليل اللطف ، أو الحدس ، أو الدخول ، أو غير ذلك .

وعليه : فالاجماع المنقول ، خبر من الاخبار ، يشمله دليل حجيّة الخبر - كما سيأتي - بل جَعَلَهُ بعضهم أفضل من الخبر ، واستدل على حجيّته : بأنّ ناقل الاجماع ، يقطع المجمع عليه ، سنداً ودلالة ، أمّا سنداً : فلانّه يرى الفتاوى في كتب العلماء أو يسمعها منهم .

وأمّا دلالة : فلأّن فتاواهم نصّ في مرادهم ، فاذا انضمّ إلى ذلك : الدخول ، أو

ص: 335

ويدخل الاجماعَ ما يدخل الخبرَ من الأقسام ويلحقه مايلحقه من الأحكام .

والذي يقوى في النظر هو عدمُ الملازمة بين حجّيّة الخبر وحجّيّة الاجماع المنقول ، وتوضيحُ ذلك يحصلُ بتقديم أمرين :

------------------

الكشف ، أو اللّطف ، أو ما أشبه ، كان في الحجيّة أقوى من الخبر ، لأنّ اجماع العلماء ، يعطيه قوة ليس للخبر الواحد ، هذه القوة .

( ويدخل الاجماع ما يدخل الخبر من الاقسام ) بناءاً على انّه من اقسام الخبر - فكما يكون الخبر صحيحاً ، أو موثّقاً ، أو ضعيفاً ، أو ممدوحاً ، كذلك يكون حال الاجماع ، فهو : امّا صحيح : ان كان ناقله اماميّاً عادلاً ، كشيخ الطائفة ، وامّا موثّق : ان كان ناقله ممدوحاً لكنّه غير امامي ، وإمّا ضعيف : ان كان ناقله فاسقاً . إلى غير ذلك من الاقسام الّتي ذكروها في الخبر ، فانّه اذا كان من صغريات الخبر (و ) من افراده ، صحّ ان ( يلحقه ) أي : الاجماع المنقول ( ما يلحقه ) أي ما يلحق الخبر ، ( من الأحكام ) الّتي ذكروها في باب التعادل والتراجيح ، فيما اذا كان الاجماعان متعارضين ، حيث يأتي في التعارض التعادل احياناً ، والترجيح احياناً اخرى .

هذا هو حاصل ما يراه القائلون بحجّية الاجماع المنقول .

( و ) لكن ( الّذي يقوى في النّظر : هو عدم الملازمة بين حجّية الخبر ، وحجّية الاجماع المنقول ) فاذا قلنا : بحجيّة الخبر ، لا يستلزم ذلك ان نقول : بحجّيّة الاجماع المنقول ، لانّ الاجماع المنقول ليس من صغريات الخبر ( وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين ) : الأمر الأوّل : انّ ادلّة حجّية الخبر الواحد ، تدلّ على حجيّة الاخبار عن حسّ ، سواء كان حسّاً مبصراً ، أو حساً مسموعاً ، او حسّاً مشموماً ، او حسّاً ملموساً ، أو حسّاً مذوقاً ، أو عن حدس بديهي ينتهي إلى الحسّ أيضاً ، كالإخبار بشجاعة عليّ عليه السلام ، حيث انّها من التواتر الاجمالي - مثلاً - بينما الاجماع

ص: 336

الأوّل : إنّ الأدلّة الخاصّة التي أقاموها على حجّيّة خبر العادل لاتدلّ إلاّ على حجّيّة الاخبار عن حسّ ، لأنّ العمدةَ من تلك الأدلّة هو الاتفاق الحاصل ، من عمل القدماء وأصحاب الأئمة عليهم السلام ومعلومٌ عدمُ شمولها إلاّ للرواية المصطلحة ، وكذلك الأخبار الوارده في العمل بالروايات .

------------------

ليس اخباراً عن قول المعصوم عن حسّ ، ولا عن حدس ضروري .

الامر الثاني : انّ ناقل الاجماع ، يخبر عن قول الامام عليه السلام بطريق الحدس ، الّذي ليس بضروري ، كالحدس : بأنّ الدواء الفلاني ينفع لمرض كذا ، فيما لم يصل إلى العلم والقطع ، والحدس : بانّ المرض الكذائي حصل من السبب الفلاني ، فيما لم يصل إلى القطع أيضاً إلى غير ذلك .

ويتحصّل من هذين الامرين ، عدم دخول نقل الاجماع تحت أدلّة الخبر ، وقد أشار المصنِّف لتوضيح الامرين ، وقال :

( الأوّل : انّ الادلّة الخاصّة ، الّتي أقاموها على حجّية خبر العادل ) من : الكتاب والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، بل والسيرة - كما ذكروها - أيضاً ( لا تدلّ الاّ على حجّيّة الاخبار عن حسّ ) وقد عرفت : انّ الحسّ أعمّ من الحواس الخمس ، وذلك ( لأنّ العمدة من تلك الأدلّة ، هو : الاتفاق الحاصل من عمل القدماء ، وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ) حيث انّهم عملوا بالضرورة بالخبر الواحد ، مع الواسطة وبلا واسطة ، فيكون هذا هو العمدة من بين الادلّة ، لكنها عند المصنِّف مخدوشة في الجملة ، لما فيها من المناقشات ، الّتي يأتي ذكرها ، عند بحث حجيّة الخبر ، ( ومعلوم عدم شمولها ) أي : اعمال القدماء وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ( الاّ للرّواية المصطلحة ) اذ عملهم هذا لا يشمل الاجماع المنقول .

( وكذلك الاخبار الواردة في ) لزوم ( العمل بالروايات ) كقوله عليه السلام : « لا عذر

ص: 337

اللّهم إلاّ أن يدّعى أنّ المناطَ في وجوب العمل بالروايات هو كشفُها عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ولا يعتبر في ذلك حكايةُ ألفاظ الإمام عليه السلام ، ولذا يجوز النقلُ بالمعنى .

فاذا كان المناطُ كشفَ الروايات عن صدور معناها عن الامام عليه السلام ،- لاحد من موالينا ، في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » (1) وغير ذلك ممّا يدلّ على حجيّة الخبر المرويّ عنهم عن حسّ ، ولا يشمل مثل الاجماع ، الّذي هو دليل حدسي ، ( اللّهّم الاّ ان يدّعى : انّ المناط في وجوب العمل بالرّوايات ، هو : كشفها ) أي : كشف تلك الروايات كشفاً ظنّياً ( عن الحكم الصّادر عن المعصوم ) عليه السلام ، وهذا المناط موجود أيضاً في الاجماع المنقول .

( ولا يعتبر في ذلك ) أي في لزوم العمل بها ( حكاية الفاظ الامام عليه السلام ) والاجماع أيضاً كذلك ، فانّه لا يحكي عن الفاظ الإمام فيما اذا كان له قدر متيقّن ، وكذا اذا كان له مَعْقَدٌ ، فهو أيضاً ليس لفظ الإمام ، وانّما هو لفظ الفقيه الّذي استفاده من كلامه عليه السلام - فرضاً - .

( ولذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المناط في حجّية الروايات المصطلحة ، هو : الكشف عن حكم الامام عليه السلام - لا نقل الفاظه - فهذا المناط موجود في الاجماع أيضاً ، ولذلك ( يجوز ) في باب الاحاديث ( النقل بالمعنى ) بأن لا يذكر الراوي الفاظ الامام نصاً وانّما يذكر معاني تلك الالفاظ .

وعليه : ( فاذا كان المناط ) في لزوم العمل بالروايات ( كشف الرّوايات عن صدور معناها عن الإمام عليه السلام ) من دون نظر إلى اللفظ الخاصّ

ص: 338


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

ولو بلفظ اخر والمفروضُ أنّ حكايهَ الاجماع أيضا حكايةُ حكم صادر عن المعصوم عليه السلام، بهذه العبارة التي هي معقد الاجماع او بعبارة اُخرى وجب العملُ به .

لكن هذا المناط لو ثبت دلّ على حجّيّة الشهرة بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم

------------------

( ولو ) كان الصدور عن المعصوم ( بلفظ آخر ) غير اللفظ الّذي يرويه الرّاوي .

( والمفروض : انّ حكاية الاجماع - أيضاً - حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه السلام ) سواء كان صدوره ( بهذه العبارة ، الّتي هي معقد الاجماع ) فيما اذا كان للاجماع لفظ خاصّ هو معقده ( أو بعبارة اخرى ) بان كان النقل بالمعنى وذلك فيما اذا لم يكن للاجماع معقد ، حيث يكون دليل لبّي ، وله قدر متيقّن ، فانّهم يقولون : انّه اذا كان للاجماع معقد ، كان حجّة مطلقاً ، وأمّا اذا كان من قبيل الادلّة اللبيّة ، الّتي لا معقد لها ، فانّ القدر المتيقّن منها حجّة ، كالقدر المتيقّن من شجاعة عليّ عليه السلام ، الّذي اختلفت الالفاظ فيها ، فهي وان لم تكن كلّ واحدة واحدة حجّة - فرضا - ، لكنّها جملة تثبت انّه عليه السلام كان شجاعاً .

إذن : فلوحدة المناط فيهما ، نقول : ( وجب العمل به ) أي : بالاجماع أيضاً .

( لكن هذا المناط ) غير ثابت عندهم ، اذ ( لوثبت دلّ على حجّية الشهرة ) أيضاً ، لانّ الشهرة أيضاً ، كاشفة كشفاً ظنيّاً ، عن حكم المعصوم اذ كيف يكمن أن يذهب مشهور الفقهاء العدول المتّقون في نسبة حكم إلى الشارع ، بدون ان يكون قد وصل اليهم من المعصوم عليه السلام ما يدلّ على ذلك الحكم ؟ .

( بل فتوى الفقيه ) الواحد أيضاً حجّة ( اذا كشف عن صدور الحكم ) عن الامام عليه السلام لو لم نعلم انّه من استنباطاته ، أمّا اذا علمنا : انّه من استنباطاته ، لم يكن

ص: 339

بعبارة الفتوى او بعبارة غيرها ، كما عُمِلَ بفتوى عليّ بن بابويه ، قدّس سرّه ، لتنزيل فتواه منزلةَ روايته ، بل على حجّيّة مطلق الظنّ بالحكم الصادر عن الامام عليه السلام ، وسيجيء توضيحُ الحال إن شاء اللّه .

وأمّا الآياتُ ، فالعمدةُ فيها من حيث وضوح الدلالة هي آيةُ النبأ .

------------------

كاشفاً ، ثمّ انّ كشف الفتوى عن صدور الحكم منهم عليهم السلام أمّا يكون (بعبارة الفتوى ) كأن يقول : ما أفتي به : كذا وكذا ( أو بعبارة غيرها ) أي : غير الفتوى ، بأن يقول : الحكم عندي كذا ، أو الموضوع الفلاني كذا ، أو ما اشبه ذلك (كما عمل بفتوى عليّ بن بابويه قدس سره ، لتنزيل فتواه منزلة روايته ) لانّه : - كما ذكروا - ما كان يفتي الاّ بعين الرواية ، أو بالنقل بالمعنى ، وهكذا بالنسبة إلى شيخ الطائفة قدس سره ، في كتاب النهاية ، بل وجملة من القدماء ، كما ثبت في علم الرجال .

( بل ) لو ثبت انّ مناط حجّيّة الخبر هو : كشفه عن الحكم الصادر عن المعصوم عليه السلام ، ليشمل الاجماع ، دلّ ( على حجّية مطلق الظّن ، بالحكم الصّادر عن الامام عليه السلام ) لأنّ المناط على ذلك : هو الكشف الظنّي ، وكلّ ظنّ كاشف على هذا ، بينما لا يقول بهذا احد في باب الانفتاح ، الّذي هو مفروض كلامنا .

نعم ، في باب الانسداد نقول بحجّيّة الاجماع المنقول ، وغير المنقول ، من باب مطلق الظنّ ، لكنّه ليس محل كلام من يقول بحجيّة الاجماع من باب مناط الخبر ( وسيجيء توضيح الحال انشاء اللّه ) في خبر الواحد .

( وأمّا الآيات ، فالعمدة فيها من حيث وضوح الدّلالة ) وقلّة الاشكالات عليها ( هي آية النبأ ) وهي قوله سبحانه : « يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، إنْ جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ، أنْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ » (1) .

ص: 340


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وهي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق ، والظاهِرُ منها - بقرينة التفصيل بين العادل والفاسق حين الاخبار ، وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالاً مساويا ، لأنّ الفاسق لا رادعَ له عن الكذب -

------------------

( وهي انّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل ، دون خبر الفاسق ) لمفهوم الشرط ، أو لمفهوم الوصف - على ما سيأتي - أو للتعليل ، أو غير ذلك ، من الوجوه ، الّتي ذكروها في جهة دلالة الآية على وجوب قبول خبر العادل .

( والظاهر منها بقرينة التفصيل بين العادل والفاسق حين الاخبار ) أي : بقرينة أنّه سبحانه : فرّق في مقام الاخبار ، بين العادل ، فلا يجب التبيّن عن خبره ، ( وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق : بقيام احتمال الوقوع في النّدم ) .

وبقيام متعلّق بالتعليل ، يعني ، انّ اللّه سبحانه وتعالى ، خصّ وجوب التبين بخبر الفاسق ، بتعليل : احتمال الوقوع في الندم ان لم يتبيّن ( احتمالاً مساوياً ) في الطرفين ، أي : اذا نفّذ الانسان خبر الفاسق بلا تبيّن ، احتمل أن يقع في الندم ، كما قال سبحانه وتعالى : « أن تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَاَلةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَافَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ » (1) .

والمراد بالاحتمال المساوي : ان لا يقطع بهذا الجانب او ذاك الجانب ، او يظنّ بهذا الجانب أو بذلك الجانب ، فانّ في بعض الأحيان يحتمل الانسان احتمالاً راجحاً في أن يندم ، واحياناً يحتمل احتمالاً مرجوحاً ، وقد يحتمل احتمالاً متساوياً أي يكون شاكّاً ، وانّما كان احتمالاً متساوياً بالمعنى الّذي ذكرناه ( لأنّ الفاسق ، لا رادع له عن الكذب ) ففي خبره احتمال الوقوع في الندم احتمالاً من غير أن يقطع بوجود الندم ، أو بعدم وجود الندم ، وبين القطعين هذين احتمالان ،

ص: 341


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

هو عَدَمُ الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، لا وجوب البناء على اصابته وعدم خطائه في حدسه ،

------------------

وهما قد يكونان متساويين قدراً كالشاكّ ، وقد يرجّح هذا على ذاك، او ذاك على هذا .

وعليه : فانّ الظاهر من الاية ( هو عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ) أي : كذب العادل ، فانّ في العادل ، أيضاً يحتمل الكذب ، وذلك أمّا من جهة خطأه ، أو نسيانه ، او سهوه ، أو لانّه انقلب عن العدالة إلى الفسق ، ولا نعلم به وانّما نستصحب عدالته ( لا وجوب البناء على اصابته ) أي : العادل ( وعدم خطائه في حدسه ) .

أقول : استدلّ القائلون بحجيّة الاجماع المنقول بآية النبأ : بانّه كما اذا قال زرارة : قال الصادق عليه السلام : انّ الفقّاع حرام ، شملته الاية ، ولزم الأخذ بقول زرارة ، بدون التبيّن ، كذلك ، اذا قال شيخ الطائفة : قام الاجماع على حرمة الفقّاع ، لزم الأخذ بقوله ، وذلك لأنّه اذا قال : قام الاجماع ، أخبر بأنّ حرمة الفقّاع هو قول المعصوم عليه السلام ، للتلازم بين الاجماع وبين قول المعصوم من باب الدخول ، أو الكشف ، أو اللّطف ، أو من باب قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في الحديث الّذي ينسب اليه : « لا تَجتَمِعُ أمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ » (1) ، كما سيأتي البحث عن ذلك في باب الاجماع مفصلاً ، فالاجماع المنقول من أفراد الخبر ، الّذي تشمله الآية .

لكن الشيخ المصنِّف رحمه اللّه ، أشكل على هذا الاستدلال بما حاصله : انّ المنصرف من الاية : الاخبار الحسّيّة لا الحدسيّة ، وذلك بسبب قرينتين في نفس الآية المباركة :

ص: 342


1- - بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وفي كتاب الصراط المستقيم : ج1 ص268 و ج3 ص126 والدر المنثور للسيوطي : ج2 ص222 على ضلال وفي الالفين : ص218 (على الضلالة) .

لأنّ الفسق والعدالة حين الاخبار لاتصلحُ مناطا لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه .

------------------

الاولى : قرينة الفرق بين العادل والفاسق ، والفارق انّما يكون في الاخبارات الحسّية دون الحدسية ، اذ العادل والفاسق من جهة الحدس متساويان ، وانّما الاختلاف بينهما من جهة الحسّ ، حيث يحتمل تعمّد كذب الفاسق ، ولا يحتمل تعمّد الكذب في العادل .

الثانية : قرينة التعليل باصابة القوم بجهالة ، أي بعلم غير عقلائي ، وهذه القرينة انّما تفرّق بين اخبار العادل والفاسق ، حسّاً لا حدساً ، حيث ليس في اخبار العادل احتمال الاصابة بجهالة ، بخلاف اخبار الفاسق ، فان فيه ذلك ، الاحتمال ، أمّا في حدس العادل والفاسق فهما متساويان .

والحاصل : انّ القرينتين تفيدان أنّ المراد بالنبأ : الخبر الحسّي ، لا الحدسي ، فلا تشمل الاية الاجماع المنقول ، الّذي هو اخبار عن حدس ، لانّ شيخ الطائفة لم يسمع الخبر عن المعصوم ، أو عن الواسطة حساً ، وانّما حدس من الاجماع : انّ المعصوم قال هذا القول الّذي ادّعى عليه الشيخ الاجماع .

( لانّ الفسق والعدالة حين الاخبار ) انّما يصلح كلّ واحد منهما مناطاً لتعمّد الكذب وعدمه ، اذ الفاسق يحتمل تعمّد كذبه دون العادل ، و ( لا تصلح ) العدالة والفسق ( مناطاً ، لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه ) .

فالآية تدلّ على انّ العادل لا يتعمد الكذب ، دون الفاسق ، فانّه يحتمل فيه تعمّد الكذب ، ولذا يحتاج خبره إلى التبين ، دون خبر العادل .

وعليه : فالاية ساكتة من سائر الجهات : ومن تلك الجهات : احتمال الخطأ ، والنسيان ، والغفلة ، وما اشبه ، واليه اشار المصنِّف بقوله :

ص: 343

وكذا احتمالُ الوقوع في النَّدم من جهة الخطأ في الحدس أمرٌ مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلحُ لتعليل الفرق به .

فعلمنا من ذلك أنّ المقصودَ من الآية إرادةُ نفي احتمال تعمدُ الكذب عن العادل حين الاخبار دون الفاسق ، لأنّ هذا هو الذي يصلحُ لاناطته بالفسق والعدالة حين الاخبار ، ومنه تبيّن عدمُ دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسيّة

------------------

( وكذا احتمال الوقوع في النّدم ، من جهة الخطأ في الحدس ، أمر مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلح لتعليل الفرق به ) أي : باحتمال الوقوع في الندم ، من جهة الخطأ في الحدس في الفاسق ، دون العادل ، لأنّ الوقوع في الخطأ الحدسي مشترك بينهما .

( فعلمنا من ذلك : انّ المقصود من الآية ارادة : نفي احتمال تعمّد الكذب عن العادل حين الاخبار ، دون الفاسق ) ، وانّما قال : حين الاخبار ، لانّ العدالة والفسق ، انّما يكونان مناطين للأخذ وعدم الأخذ ، فيما اذا كان حين الاخبار عادلاً أو فاسقاً ، لا ما اذا كان حين المشاهدة عادلاً ، أو فاسقاً ، ثمّ تبدّل إلى حالة اُخرى ، اذ العدل والفسق حين المشاهدة ونحوها ، ليسا مناطاً في التبين وعدم التبيّن .

( لانّ هذا ) أي نفي احتمال تعمّد الكذب ( هو الّذي يصلح لاناطته بالفسق والعدالة حين الاخبار ) .

( ومنه ) أي : ممّا ذكرنا : من انّ الآية لا تدل على حجيّة الخبر الحدسي ، وان كان صادراً من العادل ، لأنّ الآية في الاخبارات المتعارفة ، وهي : ما كانت عن حسّ ، فلا تشمل ما كانت عن حدس ، ومن ذلك ( تبيّن عدم دلالة الآية على قبول الشّهادة الحدسية ) أيضاً ، فانّ شهادة الشهود على شيء ، قد تكون عن حسّ ، كما

ص: 344

اذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل .

فان قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبولية الخبر ، لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمّد الكذب ،

------------------

اذا شهد اثنان زيداً وهو يسرق ، وقد تكون عن حدس ، كما اذا لم يريا سرقته ، وانّما حدسا بذلك من جهة بعض القرائن ، فاذا قلنا : بدلالة الاية على قبول الشهادة أيضاً ، لزم أن نخصّص الشهادة بالحسّ ، بان تكون باحدى الحواس الخمس .

وعليه : فلا تشمل الآية الشهادة الحدسية - تخصيصاً ( اذا قلنا بدلالة الاية على اعتبار شهادة العدل ) - أيضاً .

أمّا اذا قلنا : بأنّ الآية في صدد الخبر فقط ، لا الأعمّ من الخبر والشهادة ، - بالنسبة الى الموضوعات - فلا دلالة للآية على_'feقبول الشهادة الحسية - تخصّصاً - .

وعلى أيّ حال : فالآية في مقام الحسّ ، لا في مقام الحدس ، سواء عمّمناها إلى الشهادة في الموضوعات ، أم خصصناها بالاخبار في الاحكام فقط ، لكن الظاهر شمول الآية للشهادة أيضاً ، لأنّه لا خصوصيّة للخبر ، في الآية ، إلاّ من جهة المورد ، ومن المعلوم انّ المورد لا يخصّص .

ثمّ انّ المصنّف قدس سره ، ذكر اشكالاً على دلالة آية النبأ في قبول خبر العادل وهو اجنبي عن مبحث الاجماع ، ذكره من باب التوضيح والتبيين في الآية المباركة قائلاً : ( فان قلت : انّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر ) من : نفي احتمال تعمّد الكذب في خبر العادل ( لا يوجب قبوليّة الخبر ) من العادل مطلقاً ( لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر ، وان لم يتعمّد الكذب ) لاشتباه أو سهوٍ أو نسيان ، أو نحو ذلك ، فانّ كلّ خبر يحتمل فيه الكذب والصدق . والآية تدلّ على نفي الكذب

ص: 345

فيجبُ التبيّنُ في خبر العادل أيضا ، لاحتمال خطأه وسهوه ، وهو خلاف الآية المفصِّلة بين العادل والفاسق .

غايةُ الأمر وجوبهُ في خبر الفاسق من وجهين وفي العادل من جهة واحدة .

قلت : إذا ثبت بالآية عدمُ جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ينتفي احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ،

------------------

العمدي من خبر العادل ، بينما هذا الاحتمال موجود في خبر الفاسق ، ونفي احتمال الكذب العمدي في خبر العادل ، لا يبيح الأخذ بخبر العادل ، لاحتمال خطأه فيه ، وعليه : ( فيجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لاحتمال خطأه وسهوه ) سواء قلنا : بأنّ الآية تشمل الحسّيّات ، أو الأعمّ من الحسّيّات والحدسيّات ، وسواء قلنا : بأنّ الآية تشمل الخبر ، أو الأعمّ من الخبر والشهادة .

( وهو ) أي وجوب التبين في خبر العادل ، لنفي احتمال الخطأ ، والنسيان ، والسهو ، والغفلة ، ونحوها ( خلاف الآية المفصّلة ) ، بصيغة اسم الفاعل ( بين العادل والفاسق ) لانّ ظاهر الآية عدم وجوب التبين في خبر العادل أصلاً .

( غاية الأمر وجوبه ) أي : التبين ( في خبر الفاسق من وجهين ) : وجه احتمال تعمّد الكذب ، ووجه احتمال الخطأ والنسيان ، ونحوهما ( وفي ) خبر ( العادل من جهة واحدة ) أي من جهة احتمال الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما فقط ، لانّ تعمّد الكذب مأمون في العادل .

( قلت : اذا ثبت بالآية ، عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ) أي : العادل ( ينتفي احتمال خطائه ، وغفلته ، واشتباهه ، بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ) فاحتمال تعمّد الكذب في العادل : منفي بعدالته ، واحتمال خطأه : منفي بالأصل .

ص: 346

وهذا أصلٌ عليه إطباقُ العقلاء والعلماء في جميع الموارد .

نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يُعبأُ بخبره ، لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، ولذا يعتبرون في الشاهد والراوي

------------------

أمّا بالنسبة إلى الفاسق ، فليس كذلك ، فانّه وان كان احتمال خطأه : منفي بالاصل ، لكن احتمال تعمّد كذبه : ليس منفيّاً .

إذن : فالتفصيل بين الفاسق والعادل انّما هو بتعمّد الكذب وعدمه ، لا باحتمال الخطأ وعدمه ، أي : انّ خبر الفاسق لا يؤذ به ، من جهة احتمال تعمّد كذبه ، وخبر العادل يؤذ به ، لانتفاء تعمّد كذبه ، بينما اصالة عدم الخطأ جار في الاثنين ، فلا يكون من جهة احتمال الخطأ وعدمه ، تفصيل بين الفاسق والعادل .

( وهذا اصل عليه اطباق العقلاء والعلماء ) والعلماء أخص من العقلاء ، وهم : المتشرعة ( في جميع الموارد ) سواء في باب الخبر ، أو باب الشهادة ، أو باب قول أهل الخبرة ، أو باب الفتوى ، أو باب القضاء ، أو غيرها ، فان العقلاء مُطبِقون على نفي احتمال الخطأ ، عن قول ، أو عمل كل انسان عاقل ، اذا لم يطرء عليه طاريء ، من كثرة السهو ، والنسيان ، ونحوهما .

( نعم ، لو كان المخبِر ، ممن يكثر عليه الخطأ والاشتباه ، لم يعبأ بخبره ) الحسّي أيضاً ، كما لم يعبأ بخبره الحدسي ؛ وذلك ( لعدم جريان اصالة : عدم الخطأ ، والاشتباه ) والغفلة ، ونحوها ، فيمن يكون كثير الخطأ والاشتباه ، مما يعبر عنه بعدم الضبط ، ولذا اشترطوا في باب الرّجال : ان يكون ضابطاً ، وهذا الشرط ، شرط عقلائي أقره الشارع أيضاً ، اذ لم يذكر نفيه ، ( ولذا ) الذي ذكرناه : من اشتراط عدم الخطأ ، والاشتباه ، في المخبر ( يعتبرون في الشاهد ، والراوي )

ص: 347

الضبط ، وإن كان ربما يتوهّم الجاهلُ ثبوتَ ذلك من الاجماع .

الاّ أنّ المنصفَ يشهدُ بأنّ اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجيّ مخصّص لعموم اية النبأ ونحوها ممّا دلّ على وجوب قبول قول العادل ، بل لما ذكرنا من أنّ المرادَ بوجوب قبول قول العادل رفعُ التهمة عنه من جهة احتمال تعمّده الكذبَ ، لا تصويبُه وعدمُ تخطئته او غفلته .

ويؤيّد ما ذكرنا

------------------

والمفتي ، والقاضي : (الضبط ) وهو : استقامة الحالة ، بعدم طريان الخطأ والاشتباه والنسيان عليه .

وهذا الشرط ، وهو : الضبط إنّما هو أصل عقلائي علمائي ( وان كان ربّما يتوهّم الجاهل ) بوجه اشتراط الضبط ( ثبوت ذلك ) الشرط وهو : الضبط ( من الاجماع ) اي ان الذي لايعرف وجه هذا الشرط ، ، يتصوّر انّ الاجماع هو دليله ، بينما قد عرفت : ان اشتراط الضبط ، مستفاد من الأصل العقلائي والعلمائي .

( الاّ انّ المنصف يشهد : بأنّ اعتبار هذا ) الشرط ، وهو : شرط الضبط ( في جميع موارده ) من الشهادة والتقليد والرواية ، وقول أهل الخبرة ، وغيرها ( ليس ) من جهة دليل خاص ، وهو الاجماع ، اي ، ليس ( لدليل خارجي ، مخصص لعموم آية النبأ ، ونحوها ، ممّا دلّ على : وجوب قبول قول العادل ) أو قول الشاهد ، أو قول القاضي ، أو قول المفتي ، أو غيرهم ، بل هذا الشرط ، انّما هو لأجل الاصل العقلائي ، الموجب لانصراف أدلّة حجيّة تلك الامور الى الضابط ، دون غيره ، ( بل لما ذكرنا : من انّ المراد بوجوب قبول قول العادل ، رفع التهمة عنه ، من جهة احتمال تعمّده الكذب ، لا تصويبه وعدم تخطئته ، أو غفلته ) أو نحو ذلك ( ويؤد ما ذكرنا : ) من انّ الآية انّما تدل على حجيّة الخبر الحسّي ،

ص: 348

أنّه لم يستدلّ أحدٌ من العلماء على حجّيّة فتوى الفقيه على العاميّ بآية النبأ مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال .

والظاهرُ أنّ ماذكرنا - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل

------------------

دون الخبر الحدسي ( انّه لم يستدلّ أحد من العلماء، على حجّية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ ) لان فتوى الفقيه حدس ، وليس بحسّ ، والآية انّما تدل على الحسّ لا على الحدس .

هذا ، ( مع استدلالهم عليها ) أي : على حجيّة فتوى الفقيه على العامي ( بآيتي : النفر ، والسؤل ) حيث قال سبحانه : « وَما كانَ المُؤِنونَ لِيَنْفِروا كافَّةً ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طائِفَةٌ ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلْيُنْذِروا قَوْمَهُم إذا رَجَعوا إلَيْهِم ، لَعَلَّهُم يَحْذَرون » (1) ، وقال سبحانه : « فَاسألوا أهلَ الذِّكْرِ إن كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ » (2) ، فان العلماء استدلوا بهاتين الايتين على حجّيّة فتوى الفقيه على العامي ، ولم يستدلوا بآية النبأ على الحجّيّة ؛ وذلك لانّ فتوى الفقيه حدس ، وآية النبأ لا تشمل الحدس ، وانّما تشمل الحسّ فقط ، وقد عرفت : انّ الاجماع المنقول بخبر الواحد من باب الحدس ، لا من باب الحسّ ، فالآية لا تشمل الاجماع المنقول ، الذي هو محل الكلام .

( والظاهر انّ ما ذكرنا : من عدم دلالة الآية وامثالها ) من أدلّة حجّيّة خبر الواحد ، سواء الآيات او الروايات ، كقوله عليه السلام : « لا عُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالِينا ، في التَشكِيكِ فِيما يَروِيهِ عَنّا ثُقاتُنا » (3) ، وقوله عليه السلام : « فَما أديا اليك عَنّي ، فَعَنّي يُؤّيان » (4) ، وغيرهما ( من ادلة قبول قول العادل ) هو : عدم دلالة الآية وامثالها

ص: 349


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة الأنبياء : الآية 7 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص388 ب4 ح15 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص329 ح1 .

على وجوب تصويبه في الاعتقاد - هو الوجهُ فيما ذهب إليه المعظمُ ، بل أطبقوا عليه ، كما في الرياض ، من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات اذا لم يستند إلى الحسّ

------------------

( على وجوب تصويبه في الاعتقاد ) أي في اخباره الحدسية ، وانّما الآية ونحوها، تدل على تصويبه ونسبته الى الصواب في الحسيات .

وعليه : فعدم الدلالة هناك ( هو الوجه فيما ذهب اليه المعظم ، بل اطبقوا عليه - كما في الرّياض - ) الذي ادعى هذا الاطباق ( من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات ، اذا لم يستند الى الحسّ ) اذ اللازم ان تكون الشهادة في المحسوسات ، عن حسّ ، سواء كان محسوساً بالبصر او السمع ، أو الذوق ، أو الشم، أو اللمس ، مثلاً : اذا رُأي زيداً وهو يعطي ديناراً لعمرو وشهد عليه ، قبلت شهادته ، أمّا اذا علم ذلك من القرائن ، وشهد ، فلا تقبل شهادته .

وقد اشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بيده الكريمة الى الشمس وقال لمن يريد الشهادة : على مثل هذه فاشهد (1) .

والحاصل : انّ في الحسيّات ، سواء في الشهادة ، أو في الخبر ، انّما يكون قول العادل ، حجّة اذا استفاده من الحسّ ، لا ما اذا استفاده من الحدس .

نعم ، قول الحادس في الحدسيات حجة وان استفاده من الحدس لا من الحسّ ، كالمقوّمين ، الذين يقوّمون الدور ونحوها ، بالحدس لا بالحسّ ، فان قولهم حجّة ، لانهم أهل خبرة ، وقول أهل الخبرة حجّة .

وكيف كان : فالدليل على عدم قبول الشهادة عن حدس ، في الامور الحسّية ، هو : ان دليل حجّيّة الشهادة ، منصرف عن الشهادة عن حدس ، اذا كان المشهود

ص: 350


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص342 ب20 ح33883 وفيه على مثلها فاشهد أو دع .

وإن عَلَّلَه في الرياض بما لا يخلو عن نظر ، من أنّ الشهادة من الشهودُ وهو الحضور ، فالحسّ مأخوذٌ في مفهومها .

------------------

عليه من الحسّيّات .

هذا ، ( وان علَّلَه ) أي : عدم قبول قول العادل في الحدسيات ، ( في الرّياض ، بما لا يخلو عن نظر ) فان ما ذكره ، هو عبارة ، عما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( من انّ الشهادة من الشهود ، وهو: الحضور، فالحسّ مأخوذ في مفهومها ) أي مفهوم الشهادة .

وانّما كان في كلام الرياض نظر ، لانّ الشهادة تطلق على المحسوس وغير المحسوس ، ولذا يصح ان يقول الانسان ، انّي اشهد بوجود اللّه سبحانه ، وبنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبامامة الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، وأشهد بالقيامة ، والصراط ، والجنة ، والنار ، وما الى ذلك ، مع ان كل هذا ليس من الحضور .

فليس جهة لزوم الحسّ في الشهادة ، هو من جهة لفظ الشهادة - على ما ذكره الرياض - بل انّما هو لأجل ما ذكرناه : من انصراف ادلة الشهادة في الموضوعات الى الشهادة عن حس ، إذا كان المشهود عليه من الحسيّات ، لكن لا يخفى : ان لزوم الحسّ في الشهادة ، انّما يكون اذا لم تكن هناك قرائن تفيد قطع الحاكم بصحة حدس الشاهد ، مما يوجب لحوقه بالحسّ ، كما اذا خرج زيد من الدار ، وترك عمراً سالماً فيها ، فرأى بكراً يدخل الدار ويخرج ، وهو مضطرب وبيده سكين ملطخ بالدم ، فدخل زيد الدار فرأى عمرواً مقتولاً ، فانه اذا شهد عند الحاكم شاهدان بمثل ذلك يقطع الحاكم بان بكراً قاتلُ عمرو ، الى غيره من الأمثلة.

كما انّ من الواضح : ان الحسّ انّما يقبل منه اذا لم يكن ذلك من موارد خطأ الحسّ ، والتي هي كثيرة جداً ، أنهاها بعضهم الى ثمانمائة مورد ، مثل : السراب

ص: 351

والحاصلُ : أنّه لاينبغي الاشكال في أنّ الاخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجّةً إلاّ على من وجب عليه تقليدُ المخبر في الأحكام الشرعيّة وأنّ الآية ليست عامه لكلّ خبر بدعوى خرج ما خرج .

فان قلت : فعلى هذا

------------------

الذي يحسبه الضمئان ماءاً ، والخطين المتوازيين الذين يراهما الانسان من بعيد متصلان ، الى غير ذلك من الامثلة .

( والحاصل : انه لا ينبغي الاشكال في انّ الاخبار عن حدس واجتهاد ونظر ، ليس حجّة ) لا في باب الخبر الواحد ، ولا في باب القضاء ، ولا في باب الافتاء ، ولا في باب الشهادة (الاّ على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعيّة) ، وذلك لأدلة وجوب التقليد على العوام ، كقوله عليه السلام : « مَن كان مِنَ الفُقَهاءِ ، صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لِدِينِه ، مُخالِفاً لِهَواهُ ، مُطيعاً لأمرِ مَولاهُ ، فَلِلعَوام أن يُقَلّدوه » (1) ، ولذا لا يجب على المقلد ، اتباع غير مجتهده ، لأنّ فتاواه ليست حجّة عليه .

هذا ، ( وانّ الآية ليست عامة لكل خبر ) وان كان عن حسّ أو حدس ، وذلك (بدعوى ) : انه قد ( خرج ما خرج ) عن عموم الآية من الحدسيّات لأجل الدليل ، فانه لولا الدليل لكان كل من الحدسيّات داخلاً في الآية - أيضاً - .

وبذلك ظهر : ان الاجماع المنقول ، الذي هو اخبار حدسي ، عن قول الامام عليه السلام ، ليس داخلاً في الآية المباركة ، ولا في الأخبار الدالة على وجوب العمل بخبر العادل .

( فان قلت : فعلى هذا ) الذي ذكرتم : من انّ الخبر ، مختص بالخبر الحسّي ،

ص: 352


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، الاحتجاج للطبرسي : ص458 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 .

إذا أخبر الفاسقُ بخبر يُعلَمُ بعَدم تعمّده للكذب فيه تُقبَلُ شهادتهُ فيه ، لأنّ احتمالَ تعمّده للكذب منتفٍ بالفرض ، واحتمال غفلته وخطائه منفيّ بالأصل المجمع عليه ، مع أنّ شهادته مردودة إجماعا .

------------------

وانّ الآية بصدد نفي تعمّد الكذب عن العادل ، أمّا سائر الاحتمالات المنافية كاحتمال الخطأ ، والسهو ، والنسيان ، والغفلة ، وما أشبه ، فهي منفيّة بسبب الاصل العقلائي ، وعليه : ف- ( اذا أخبر الفاسق بخبر ) وقال : انّ الإمام الصادق عليه السلام ، حكم بكذا ايجاباً أو تحريماً ، والسامع ( يعلم بعدم تعمده للكذب فيه ) لزم أن ( تقبل شهادته فيه ) أي : في ذلك الخبر ، الذي علم عدم تعمده الكذب فيه .

وذلك ( لانّ احتمال تعمده للكذب منتف بالفرض ، واحتمال غفلته ، وخطائه منفي بالأصل المجمع عليه ) عند العقلاء والعلماء ، كما ذكرنا : من انّ اصالة عدم الغفلة والخطأ وما أشبه ، مجمع عليها عند العقلاء ، ولو لم يكونوا من المتشرعة ، والعلماء الذين هم من المتشرعة .

( مع ان شهادته ) أي : الفاسق ( مردودة اجماعاً ) فتبين ان مناط قبول خبر الواحد ، ليس هو احتمالاً للكذب وعدمه ، حتى يقال : بان احتمال الكذب منفي في العادل ، فيؤذ بخبره ، وغير منفي في الفاسق ، فلا يؤذ بخبره ، بل المناط هو : العدالة والفسق .

واذا كان المناط : العدالة في قبول الخبر ، والفسق : في عدم قبول الخبر ، نقول : الاجماع المنقول أيضاً كذلك ، لأنّ المفروض ان شيخ الطائفة الذي نقل الاجماع في حرمة الفُقّاع - مثلاً - عادل ، فمناط وجوب قبول الخبر الحسّي ، موجود في هنا الحدسي وهو الاجماع ، حيث قد عرفت انّ المناط : العدالة فيلزم قبوله .

ص: 353

قلت : ليس المرادُ ممّا ذكرنا عدمَ قابليّة العدالة والفسق لاناطة الحكم بهما وجودا وعدما تعبدا ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما ،

------------------

( قلت ) : انا نقول : انّ خبر العادل يقبل في الجملة ، لانتفاء احتمال تعمد الكذب فيه ، ولا نقول : انّ كل خبر لا يحتمل فيه تعمّد الكذب يقبل حتى وان كان له منقَصةٌ اخرى ، كما اذا كان المخبر فاسقاً .

وعليه : فلا يتمكن المستشكل ، أن يستشكل علينا ، بانه لو كان المناط في قبول خبر العادل عدم احتمال تعمد الكذب ، لزم قبول كل خبر لا يحتمل فيه تعمّد الكذب ، بينما لا يقبل الفقهاء خبر الفاسق ، وان علموا بانه لا يتعمد الكذب وصاروا بحيث كلما كان خبر الفاسق لم يقبلوه ، احتمل فيه تعمد الكذب ام لا ، أمّا خبر العادل ، اذا لم يمكن نفي احتمال الخطأ فيه ، كمااذا كان العادل كثير الخطأ ، أي غير ضابط فللازم قبول خبره لنفي احتمال تعمد الكذب ، هذا خلاصة الاشكال .

ولكن لا يحقّ له الاشكال ، لانه ( ليس المراد ممّا ذكرنا ) في معنى الآية المباركة : من التفصيل بين العادل الفاسق ، بمناط احتمال تعمد الكذب في الفاسق وعدم احتمال مثله في العادل هو : ( عدم قابليّة العدالة والفسق ، لاناطة الحكم ) وحجّيّة الخبر ( بهما ) أي بالعدالة والفسق ( وجوداً وعدماً ، تعبّداً ) بان يكون وجود العدالة سبباً لقبول خبر العادل ، ووجود الفسق سبباً لعدم قبول خبر الفاسق ( كما ) هو الأمر كذلك ( في الشهادة ، والفتوى ، ونحوهما ) كالقضاء ، فان كلاً من الشاهد ، والمفتي ، والقاضي ، لو كان عادلاً ، يقبل قوله : شهادة ، وفتوى ، وقضاءاً ، واذا كان فاسقاً لم يقبل قوله ، فالقبول والرد من هؤاء الثلاثة ، أيضاً منوط بالعدالة والفسق ، وان علم بعدم تعمّد كذب الفاسق منهم .

ص: 354

بل المرادُ أنّ الآية المذكوره لا تدلّ الاّ على مانعيّة الفسق من حيث قيام احتمال تعمد الكذب معه ، فيكون مفهومُها عدمَ المانع في العادل من هذه الجهة ، فلا يدلّ على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفيُ خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصّة بالأخبار الحسّيّة ، فالايةُ لا تدلّ أيضا على اشتراط العدالة ، و مانعيّة الفسق في صورة العلم بعدم تعمّده للكذب ،

------------------

والحاصل : انه لم يكن المراد : عدم مناطية العدالة والفسق في الخبر ( بل المراد : انّ الآية المذكورة ) ساكتة عن سائر الجهات ، ف( لا تدلّ الاّ على مانعيّة الفسق ، من حيث قيام احتمال تعمّد الكذب معه ) أي : مع الفسق .

( فيكون مفهومها ) أي : الآية المباركة : ( عدم المانع في العادل ، من هذه الجهة ) ، أي : جهة احتمال تعمّد الكذب .

وحينئذٍ : ( فلا يدلّ ) شيء من الآية المباركة ( على وجوب قبول خبر العادل ، اذا لم يمكن نفي خطأه ، بأصالة عدم الخطأ ) بأن كان العادل غير ضابط ، وقد وَصَف المصنِّف قدس سره اصالة عدم الخطأ بقوله : ( المختصة بالأخبار الحسيّة ) أمّا الاخبار الحدسيّة فغير مقبولة رأسا فلا مجال لجريان او عدم جريان اصالة عدم الخطأ فيها .

( ف- ) كما انّ ( الآية ) لا تدلّ على اناطة الحكم بالعدالة والفسق وجوداً وعدماً ولم يكونا هما المناطين الوحيدين للقبول والرد - ولذا لا يقبل خبر العادل ، اذا لم يكن ضابطاً - كذلك ( لا تدل ) الآية ( أيضاً ، على اشتراط العدالة ، ومانعية الفسق ، في صورة العلم بعدم تعمده للكذب ) حتى تدل على انه اذا صار عادلاً قُبِلَ قوله ، وان كان عن حدس .

والحاصل : ان بعض العدول لا يقبل قوله ، لأنّه اخبر عن حدس ، وبعض

ص: 355

بل لابدّ له من دليل آخر ،

------------------

العدول لا يقبل قوله ، لانه ليس بضابط ، فالفسق والعدالة ليسا مناطين وحيدين ، حتى يقال : ان كل خبر عادل يقبل ، وان كل خبر فاسق اذا لم يعلم تعمده للكذب يقبل أيضاً (بل لابّد له ) اي : لكل واحد من الاشتراط والمانعية في كلّ الموارد ( من دليل آخر ) .

ولا يخفى : انّ عبارة المصنِّف مجملة أو مبهمة . وقد فسّرها « الأوثق » بقوله : محصل ما ذكره في معنى الآية الشريفة :

كونها منساقة لبيان اشتراط العدالة ، ومانعية الفسق ، في العمل بخبر المخبر ، لأجل انتفاء احتمال تعمد الكذب في العادل بحكم الشارع ، وبقاء هذا الاحتمال في الفاسق ، وهي ساكتة عن بيان وجوب التبين عن خبرهما ، وعدمه من سائر الجهات ، مثل : احتمال الخطأ والنسيان ، ونحوهما ، فكأنه قال : يجب عليكم التبين عن خبر الفاسق من هذه الجهة ، ولا يجب التبين عن خبر العادل من هذه الجهة .

ومقتضاه : عدم اشتراط العدالة ، في مورد انتفى فيه احتمال تعمدّ الكذب عن خبر الفاسق ، ولكن لا ينافيه اشتراطها تعبداً ، في بعض الموارد بدليل خارج ، كما في الشهادة والفتوى .

وكذا مقتضاه : عدم دلالتها على اعتبار خبر العادل، من حيث احتمال الخطأ، والنسيان ، ونحوهما ، فيشاركه خبر الفاسق من هذه الجهة ما لم يقم دليل على نفيهما فيه .

وكذا لو احتمل اشتراط شيء آخر في حجّيّة الخبر غير العدالة ، كما اذا احتمل اشتراط تعدد المخبر في اداء الشهادة ، فان مقتضى ما حقق به المقام ، عدم نهوض

ص: 356

فتأمّل .

الأمر الثاني : انّ الاجماعَ في مصطلح الخاصّة

------------------

الآية لنفي هذه الاحتمالات ، فتكون الآية حينئذٍ مجملة من غير جهة بيان نفي احتمال تعمد الكذب في خبر العادل ، انتهى .

( فتأمل ) ولعله اشارة الى انّ مقتضى التعليل في الآية الكريمة : انّ خبر الفاسق ما لم يكن فسقه لسانياً - كما اذا علمنا انه كالعادل لا يتعمد الكذب - أيضاً مقبول ، ولذا اعتمد الفقهاء على اخبار الكيسانية والفطحية ، ومن اشبههم ، اذ لم يحتملوا في اخبارهم الكذب ، مع انهم من اظهر مصاديق الفساق ، لانحراف عقائدهم .

ولا يخفى : ان كلام المصنِّف قدس سره في الذيل ، خارج عن مصبّ الكلام الذي هو: أنّ الآية لاتشمل الاخبار الحسيّة ، وكأنه استطراد منه رحمه اللّه .

( الأمر الثاني : ) في انّ ناقل الاجماع ، ينقل قول المعصوم عن حدس ، وليس بالحس ، كما ان الأمر الاوّل كان : في توضيح انّ الاجماع المنقول حدسي ، والآيات والاخبار الدالة على حجّيّة الخبر ، انّما تدل على حجّيّة الخبر الحسّي لا الحدسي .

ان قلت : ليس الاجماع حدسياً بل حسّي .

قلت : بل هو حدسيّ .

ولهذا ذكر المصنِّف الكبرى في الأمر الأوّل : بانّ الادلة لا تشمل الأخبار الحدسيّة ، وذكر الصغرى في الأمر الثاني : بأنّ الاجماع خبر حدسي لا حسّي .

ولا يخفى : انّ الحدس على قسمين : حدسيّ ضروري ، وحدسيّ غير ضروري على ما ذكره المنطقيون : في الصناعات الخمس ، والاجماع من الحدس غير الضروري كما هو واضح ، وذلك ( انّ الاجماع في مصطلح الخاصة ،

ص: 357

بل العامّة ، الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم ، هو اتفاقُ جميع العلماء في عصر ،

------------------

بل العامة ، الذين هم الأصل له ) حيث انه من المشهور : انّ حديث : « لا تَجتَمِع اُمّتي عَلى خطَأ» (1) اصله منهم ، لكن حيث ان هذا الخبر موجود في بعض رواياتنا ، فلا وجه لجعل الاجماع من اختراعات العامة - كما ذكره بعض الشراح والمحشّين - .

( وهو ) أي الاجماع ( الاصل لهم ) - لأنّه : كما قالوا - مبنى مذهب العامة ، اذ عمدة ادلّتهم على خلافة عمر وابي بكر ، عندهم اجماع الاُمة على ذلك .

أقول : وهذه أيضاً محل تأمّل ، فانهم بنوا مذهبهم على ما زعموا عليه جملة من الأدلة : منها ما يروونه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، انّه قال : « أصحابِي كَالنُجوم ، بِأيّهِم إقتَدَيتُم إهتَدَيتُم » (2) ، ومنها : قوله سبحانه : « والسّابِقون الأوَّلون مِنَ المُهاجِرِين ...»(3) ، وغير ذلك .

ولا يخفى ما فيها مما مَحَلُّ تفصيله الكتب العقائديّة .

وعلى كل حال : فالاجماع في مصطلح الخاصة والعامة ( هو : اتفاق جميع العلماء في عصر ) واحد ، وان اختلفوا في عصور متعددة ، كما اذا كان في عصر المحقق الحلّي - مثلاً - قد افتى العلماء بفتوى واحدة ، تحقق الاجماع ، وان كان شيخ الطائفة ، أو من بعده . كالشهيدين ، ونحوهم ، مخالفين في تلك الفتوى .

ص: 358


1- - الصراط المستقيم : ج3 ص125 ، الغدير للاميني : ج7 ص142 و ص143 .
2- - بحار الانوار : ج28 ص18 ب1 ح26 ، عيون أخبار الرضا : ج1 ص87 ، الصراط المستقيم : ج2 ص21 و ج3 ص146 ، ارشاد القلوب : ص335 ، الطرائف : ص523 ، الصوارم المهرقة : ص100 .
3- - سورة التوبة : الآية 100 .

كما ينادي بذلك تعريفاتُ كثير من الفريقين .

قال في التهذيب : « الاجماعُ هو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أُمّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم » .

وقال صاحب المبادي ، الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلاّمة قدس سره : « الاجماعُ في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، هو اتفاق أُمّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على وجه يشمل قول المعصوم » ، انتهى .

وقال في المعالم : « الاجماعُ في الاصطلاح اتّفاقٌ خاصٌ ، وهو اتّفاق من يعتبر قوله من الأُمّة » . انتهى .

------------------

( كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين ، قال ) الشيخ ( في التهذيب : الاجماع هو : اتفاق أهل الحلّ والعقد ، من أمة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ومن المعلوم : ان اتفاق أهل الحلّ والعقد من اُمته صلى اللّه عليه و آله وسلم ظاهر في الاتفاق في عصر واحد ، لا كل العصور .

( وقال صاحب ) غاية البادي في شرح ( المبادي ، الذي هو أحد علمائنا ، المعاصرين للعلامة قدس سره ) ما لفظه : ( الاجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليه السلام هو : اتفاق أمه محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم على وجه يشمل ) ذلك الاتفاق ( قول المعصوم انتهى ) (1) .

( وقال في المعالم : الاجماع في الاصطلاح ، اتفاق خاص ، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الامّة انتهى ) (2) .

والمراد بمن يعتبر قوله : أهل الحلّ والعقد ، كما ان المراد باهل الحلّ والعقد :

ص: 359


1- - غاية البادي في شرح المبادي : مخطوط .
2- - معالم الدين : ص172 .

وكذا غيرها من العبارات المصرّحة بذلك في تعريف الاجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره .

ثمّ إنّه لمّا كان وجهُ حجّيّة الاجماع عند الاماميّة اشتماله على قول الامام عليه السلام ، كانت الحجّيّةُ دائرةً مدارَ وجوده عليه السلام ، في كلّ جماعة هو أحدهم ،

------------------

الّذين لهم شخصية كبيرة بحيث يحلّون الامارات ، والولايات ، وما اشبه ، ويعقدونها ، أو الأعم من ذلك بمعنى الّذين يعقدون العقود المرتبطة بالاُمة ويحلّونها او المراد أهل الحلال والحرام من الفقهاء .

( وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك ) من انّ الاجماع هو : اتّفاق علماء عصر واحد ، فانهم قد صرحوا بهذا التفصيل للاجماع ( في ) مقام ( تعريف الاجماع وغيره ) أي : في غير هذا المقام ( من المقامات ) في مختلف أبواب الفقه ، والاصول والتفسير ، والتاريخ ، والعقائد ، وغيرها .

( كما تراهم ) أي : الفقهاء والاصوليين ، وغيرهم ( يعتذرون كثيراً ، عن وجود المخالف ، بانقراض عصره ) أي : انهم لما يدعون الاجماع يستشكل عليهم :بأنّ العالم الفلاني مخالف لهذا الرأي ، فيعتذرون : بأن العالم الفلاني المخالف ، انقرض عصره .

فان ظاهر هذه العبارة : انّ المعيار عندهم في الاجماع : اتفاق اهل عصر واحد ، وان خالفه علماء سائر الاعصار المتقدمة أو المتأخرة .

( ثمّ انّه لمّا كان وجه حجّيّة الاجماع ) الاصطلاحي ( عند الاماميّة ، اشتماله على قول الامام عليه السلام ، كانت الحجّيّة دائرة مدار وجوده عليه السلام في كل جماعة هو أحدهم ) ، فالمعيار في حجّيّة الاجماع : الاشتمال على قول المعصوم ، سواء كان اصحاب ذلك القول الذي فيه المعصوم قليلين أو كثيرين ، اذ ليس المهم الكثرة أو

ص: 360

ولذا قال السيّد المرتضى : « إذا كان علّةُ كون الاجماع حجّة كونَ الامام عليه السلام فيهم ، فكلُّ جماعة كثرت او قلّت ، كان قولُ الامام عليه السلام في أقوالها ، فاجماعها حجّة ، وإنّ خلاف الواحد والاثنين ، إذا كان الامامُ أحدَهما قطعا او تجويزا يقتضي عدمَ الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وإنّ الاجماع بعد الخلاف

------------------

القلّة ، كما انه ليس المهم العصر الواحد ، أو العصور المتعددة ، وانّما المناط : وجود الامام عليه السلام ، وعدم وجوده ، فان كان الامام في جملة العلماء كان قولهم حجّة ، وان لم يكن الامام فيهم لم يكن قولهم حجّة .

لكن لا يخفى : انّه يمكن ان يكون وجه حجّيّة الاجماع : انه « سبيل المؤنين » الواجب اتباعه ، وان لم نعلم برأي الامام عليه السلام ، كما اذا اجتمع الفقهاء في عصر الغيبة على حكم ، فان خلافه يكون مشمولاً لقوله سبحانه : « وَيَتّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤِنِينَ ...» (1) ، على تفصيل مذكور في محله .

( ولذا ) أي لما ذكرنا : من انّ حجّيّة الاجماع ، دائرة مدار وجود المعصوم ( قال السيد المرتضى ) رحمه اللّه ( : اذا كان علّة كون الاجماع ) الاصطلاحي ( حجّة كون الامام عليه السلام فيهم ، فكل جماعة كثُرت أو قلّت ، كان قول الامام عليه السلام في اقوالها ، فاجماعها حجّة ) لانه هو المعيار في الحجيّة وعدمها ، لا الكثرة والقلّة ، ( وانّ خلاف الواحد والاثنين ، اذا كان الامام أحدهما قطعاً ، أوتجويزاً ) أي : احتمالاً عقلائياً ( يقتضي : عدم الاعتداد بقول الباقين وان كثروا ) لانتفاء المناط في قول الباقين ، ( و ) هذا الذي ذكرناه : يقتضي ( انّ الاجماع بعد الخلاف ،

ص: 361


1- - سورة النساء : الآية 115 .

كالمبتدء في الحجّيّة » ، انتهى .

وقال المحقق في المعتبر ، بعد إناطة حجّيّة الاجماع بدخول قول الامام عليه السلام : « إنّه لو خلا المائةُ من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّةً ، ولو حصل في اثنين كان قولُهما حجّةٌ » ، انتهى .

وقال العلاّمة رحمه اللّه ، بعد قوله - إنّ الاجماع عندنا حجّةٌ لاشتماله على قول

------------------

كالمبتدء في الحجّيّة انتهى ) (1) أي : كما انه لو حصل الاجماع بين علماء العصر ، من أوّل الأمر ، بأن اجتهدوا ، فوصل اجتهادهم الى رأي فكما يكون قولهم هذا حجة لو كان الامام أحدهم ، فكذلك لو اختلفوا أولاً ، ثم اتفقوا على أحد القولين ، وكان في هذا القول المتفق عليه المعصوم أيضاً ، وذلك لما عرفت : من ان المناط ، اشتمال الاجماع على قول الامام عليه السلام .

وهذا القول هو من السيّد المرتضى ، حيث قال : بأنّ الاجماع بعد الخلاف كالمبتدء في الحجّيّة ، ويريد به : نفي قول بعضهم : بأنّة لا اجماع بعد الخلاف ، ونحن ايضاً لا نذهب الى قول هذا البعض ، لما عرفت من المناط الموجود في الاجماع الابتدائي ، والاجماع بعد الخلاف .

( وقال المحقّق في المعتَبر - بعد اناطة حجّيّة الاجماع ، بدخول قول الامام عليه السلام ) ما لفظه ( : انهّ لو خلا المائة من فقهائنا من قوله ) عليه السلام ( لم يكن قولهم حجّة ، ولو حصل ) قوله عليه السلام ( في اثنين كان قولهما حجّة ) (2) لما عرفت من المناط ( انتهى ) .

( وقال العلامة رحمه اللّه - بعد قوله : انّ الاجماع عندنا حجّة ، لاشتماله على قول

ص: 362


1- - الذريعة في اصول الشريعة : ج2 ص632 - 635 .
2- - المعتبر : ج1 ص6 .

المعصوم - : « وكلّ جماعة قلّت او كثرت كان قول الامام عليه السلام في جملة أقوالها فاجماعُها حجّةٌ لأجله ، لا لأجل الاجماع » ، انتهى .

هذا ، ولكن لا يلزم من كونه حجّة تسميتُه إجماعا في الاصطلاح ، كما أنّه ليس كلّ خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح وأمّا ما اشتهر بينهم من أنّه لا يقدحُ خروجُ معلوم النسب ، واحدا او أكثر ، فالمرادُ أنّه لايقدحُ في حجّيّة اتفاق الباقي ، لا في

------------------

المعصوم - ) ما لفظه : ( : وكلّ جماعة قلّت او كثرت ، كان قول الامام عليه السلام في جملة أقوالها ) بأنّ علمنا ذلك فرضاً ( فاجماعها حجّة لأجله ) أي : لأجل قول المعصوم عليه السلام ( لا لأجل ) مجرد التسمية ب( الاجماع ) لما عرفت : من انه ليس المهم الاجماع بما هو اجماع ، وانّما المهم قول المعصوم ( انتهى ) .

( هذا ، ولكن لا يلزم من كونه ) أي قول جماعة قلّت أو كثرت ( حجّة ، تسميته : اجماعاً في الاصطلاح ) فان قول الاثنين والثلاثة ونحوهما ، لا يسمى اجماعاً اصطلاحياً ، الاّ مجازاً من باب المشابهة ( كما انه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم ) يسمى ( متواتراً في الاصطلاح ) .

( و ) ان قلت : ما ذكرتم : « من انّ المناط في الحجية : قول المعصوم » ينافي ما ذكره : « من ان خروج الواحد والاثنين لا يضر بالاجماع » ، فان ظاهر هذا الكلام لزوم الكثرة في تسميته اجماعاً ، فلا يصدق الاجماع ، على الاثنين ، والثلاثة ، وما اشبه ، مما نعلم بوجود قول المعصوم في ضمنهم .

قلت : ( أمّا ما اشتهر بينهم : من انّه لا يقدح خروج معلوم النسب ، واحداً أو اكثر ، فالمراد : انه لا يقدح في حجّيّة اتفاق الباقي ) بعد ان علمنا : باشتمال أقوالهم على قول الامام عليه السلام الذي هو المناط في حجّيّة الاجماع ( لا ) انه لا يقدح ( في

ص: 363

تسميته إجماعا ، كما علم من فرض المحقق قدس سره ، الامام عليه السلام في الاثنين .

نعم ، ظاهرُ كلمات جماعة يوهم تسميته إجماعا اصطلاحا حيث تراهم يدّعون الاجماع في مسألة ثمّ يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلومُ النسب ، لكنّ التأمّل الصادق يشهدُ بأنّ الغرضَ الاعتذارُ عن قدح المخالف في الحجّيّة لا في التسمية .

------------------

تسميته اجماعاً ) .

( كما علم ) كون مرادهم ذلك الذي ذكرناه ( من فرض المحقق قدس سره ) في كلامه المتقدم : وجود ( الامام عليه السلام في الاثنين ) فان مخالفة الباقين كلهم ، لا تقدح في حجّيّة قول الاثنين، لكنها تقدح قطعاً ، في تسميته: اجماعاً اصطلاحياً.

والحاصل : انّ بين الحجيّة والتسمية بالاجماع عموم من وجه ، فربما يصدق هذا دون ذاك ، وربما يكون العكس ، وربما يتصادقان .

( نعم ، ظاهر كلمات جماعة يوهم تسميته ) أي : تسمية كل جماعة اشتملت على قول الامام ، ولو كانوا ثلاثة أو اثنين مثلاً ( اجماعاً اصطلاحاً ، حيث تراهم يدّعون الاجماع في مسألة ثم يعتذرون عن وجود المخالف بانّه معلوم النسب ) فانّ ظاهر هذا الكلام ، انّ مخالفة البعض كما لا يضرّ في الحجيّة بعد الاشتمال على قول الامام عليه السلام ، كذلك لا يضرّ في تسميته اجماعاً اصطلاحاً ، فالاثنان اجماع اصطلاحاً ، أما المخالفون لذلك ولو كانوا الفاً فرضاً ، فلا يسمى اجماعاً .

وعلى هذا يكون بين الاجماع الاصطلاحي والحجيّة تساوٍ مطلق .

( لكن التأمل الصادق ) يدل على ما ذكرناه : من انّ بينهما عموم من وجه ، لا التساوي الكلّي ، فان التأمّل ( يشهد بانّ الغرض : الاعتذار عن قدح المخالف في الحجّيّة ، لا في التسمية ) .

ص: 364

نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الاجماع على اتفاق الجماعة التي علم دخولُ الامام عليه السلام فيها ، لوجود مناط الحجّيّة فيه وكون وجود المخالف غير مؤثّر شيئا ، وقد شاع هذا التسامحُ بحيث كاد أن ينقلبَ اصطلاحُ الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتفاق طائفة من الامامية ، كما يعرف من ادنى تتبع لموارد الاستدلال ، بل إطلاقُ لفظ الاجماع بقول مطلق على إجماع الاماميّة فقط ، مع انّهم

------------------

وربما يقال : انّ بين التسمية بالاجماع والحجيّة . عموماً مطلقاً ، فكل حجّة اجماع وان كان اثنين ، أما كل ما لم يكن حجّة ، فليس باجماع وان كانوا ألفاً .

وعلى أي حال : فلا مشاحة في الاصطلاح ، وانّما المهم الحجيّة واللاحجّيّة .

( نعم ، يمكن ان يقال : انهم قد تسامحوا في اطلاق الاجماع ، على اتفاق الجماعة ، التي علم دخول الامام عليه السلام فيها لوجود مناط الحجّيّة فيه ) أي : في ذلك الاتفاق ( وكون وجود المخالف غير مؤر شيئاً ، وقد شاع هذا التسامح ) بينهم (بحيث ) صار مجازا مشهوراً بل ( كاد أن ) يصير اصطلاحاً جديداً ف( ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة ، الى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الامامية ) .

فانه كان الاجماع في اصطلاح العامة والخاصة عبارة عن اتفاق الكل في عصر من العصور ، ثم انقلب اصطلاح الخاصة الى اصطلاح آخر ، وهو : اتفاق جماعة أحدهم الامام عليه السلام ، من غير فرق بين أن يكون أولئك الجماعة ، جميع علماء الاُمة ، أو طائفة منهم أو حتى الاثنين اللّذين احدهما الامام عليه السلام .

( كما يعرف ) شيوع هذا التسامح بين فقهائنا ( من ادنى تتبع لموارد الاستدلال ، بل اطلاق لفظ الاجماع بقول مطلق ، على اجماع الامامية فقط ) حيث انهم يطلقون لفظ الاجماع بدون اضافته الى الامامية ( مع انهم ) أي : الامامية

ص: 365

بعضُ الامّة لا كلّهم ، ليس إلاّ لأجل المسامحة ، من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجّيّة .

وعلى أيّ تقدير ، فظاهرُ إطلاقهم إرادةُ دخول قول الامام عليه السلام ، في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمّن ،

------------------

( بعض الأمة لا كلّهم ) ، فان هذا ( ليس الاّ لأجل المسامحة ، من جهة انّ وجود المخالف كعدمه ) فلا يعتنون بالمخالف ، فيما اذا كان الامام احد المجمعين ولو في الاثنين ، اذ سواء كان هناك مخالف أو لم يكن مخالف ، فان مثل هذا الاجماع حجة ( من حيث مناط الحجّية ) وهو : دخول المعصوم .

وان شئت قلت : ان اصطلاح الخاصة والعامة واحد ، الاّ ان الخاصة يتسامحون في تسمية ما ليس باجماع مصطلح عند الخاصة والعامة اجماعاً .

او قلت : ان للخاصة اصطلاحاً غير اصطلاح العامة ، فاصطلاح الخاصة على التسمية بالاجماع ، فيما كان فيه قول المعصوم ، واذا سمّوا شيئاً اجماعاً ، ولم يكن فيه قول المعصوم ، كانت التسمية تسامحية .

( وعلى أيّ تقدير ) : فان تسمية الامامية الاجماع ، لما كان فيه المعصوم وان كان من اثنين فقط ، احدهما هو عليه السلام ، فانه سواء قلنا : بانه من باب التسامح مجازاً ، او من باب اصطلاح خاص ، مقابل المعنى اللغوي ، الذي هو : اتفاق الكل على شيء ( فظاهر اطلاقهم ) للاجماع هو ( ارادة دخول قول الامام عليه السلام في أقوال المجمعين ) ، فانهم اذا قالوا : قام الاجماع على كذا ، ارادوا : ان الامام داخل في المجمعين ( بحيث يكون دلالته ) أي الاجماع ( عليه ) أي على قول الامام عليه السلام ( بالتضمن ) بان كانت الدلالة التضمّنية لهذه اللفظة : وجود الامام بينهم .

ص: 366

فيكون الاخبار عن الاجماع إخبارا عن قول الامام عليه السلام ، وهذا هو الذي يدلّ عليه كلامُ المفيد والمرتضى وابن زهرة والمحقق والعلاّمة والشهيدين ومن تأخّر عنهم .

وأمّا اتفاقُ مَن عدا الامام عليه السلام - بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الامام عليه السلام ، بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه اللّه ، او التقرير كما عن بعض المتأخرين ،

------------------

وحينئذٍ : ( فيكون الاخبار عن الاجماع ، اخباراً عن قول الامام عليه السلام ) كما ان الاخبار عن بزوغ الشمس ، اخبار عن ظهور النور ، لان الشمس مشتملة على النور والدفيء .

( وهذا هو الذي يدل عليه كلام المفيد ، والمرتضى ، وابن زهرة ، والمحقق ، والعلامة ، والشهيدين ، ومن تأخّر عنهم ) فانهم صرّحوا على ان الاجماع ، هو الذي فيه قول المعصوم ، وان لم يكن المجمعون كثيرين .

( وامّا اتفاق من عدا الامام ، بحيث يكشف ) اتفاقهم ( عن صدور الحكم عن الامام عليه السلام بقاعدة اللّطف ، كما عن الشيخ رحمه اللّه ) ، فان الشيخ ، يرى حجّيّة الاجماع من باب اللطف ، حيث يقول : بأن العلماء اذا اتفقوا في حكم ، وكان مخالفاً للحكم الواقعي ، وجب على اللّه سبحانه من باب اللطف ، ان يظهر الحق على خلافهم .

واللطف هو : التقريب الى الطاعة والواقع ، والتبعيد عن المعصية وعن خلاف الواقع .

( او التقرير ، كما عن بعض المتأخرين ) من العلماء بمعنى انهم اذا اتفقوا في حكم قطعنا منه : بان الامام عليه السلام يقرّ ذلك الحكم ، اذ الامام منصوب من قبل اللّه

ص: 367

او بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الامام عليه السلام فهذا ليس إجماعا اصطلاحيّا ، إلاّ أن ينضم قول الامام عليه السلام المكشوف عنه باتفاق هؤلاء إلى أقوالهم ، فيسمى المجموعُ إجماعا ، بناءا على ماتقدّم من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الامام عليه السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير او الأكثر ،

------------------

سبحانه ، لاجل اظهار الحق ، وابطال الباطل ، فاذا اتفق الكل على حكم ، أفاد ذلك : ان الامام عليه السلام يقرّهم عليه .

( أو بحكم العادة ، القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ ) كما عليه المتأخرون حيث انهم غالباً يقولون : بحجية الاجماع من باب حكم العادة ، فان الفقهاء اذا توافقوا على حكم ( مع كمال بذل الوسع ) منهم ( في فهم الحكم ، الصادر عن الامام عليه السلام ) لابد وان يصيبوا الواقع لاستحالة توافقهم على الخطأ .

( فهذا ) أي اتفاق من عدا الامام على حكم بحيث يكون كاشف عن قول المعصوم ، لطفاً ، او تقريراً ، او عادة ( ليس اجماعاً اصطلاحيّاً ) الذي هو احد الادلة الاربعة ، ( الاّ ان ينضمّ قول الامام عليه السلام ، المكشوف عنه ) أي : عن قول الامام ( باتفاق هؤاء ) بأن ينضمّ قول الامام ( الى اقوالهم ، فيسمى المجموع ) المركب من الكاشف وهو : اتفاق هؤاء ، والمنكشف وهو : قول الامام عليه السلام ( اجماعاً ) .

فيكون حينئذٍ : المركب من الكاشِف والمكشوف اجماعاً ( بناءاً على ما تقدَّم من المسامحة ) في كلام الامامية ( في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الامام عليه السلام اجماعاً ، وان خرج عنه الكثير أو الأكثر ) بان كان الكثير خلاف هذا

ص: 368

فالدليلُ في الحقيقة هو اتفاقُ مَن عدا الامام عليه السلام ، والمدلول الحكم الصادر عنه عليه السلام نظير كلام الامام عليه السلام ومعناه .

فالنكتةُ في التعبير عن الدليل بالاجماع

------------------

القول ، الذي انضم الى قول الامام ، او الأكثر خلاف هذا القول ، الذي انضم الى قول الامام .

وكما انه قد يتسامح ، ويطلق لفظ الاجماع : على جماعة احدهم الامام عليه السلام وان كانا اثنين - وانّما يطلق عليه : الاجماع ، لشبهه بالاجماع المصطلح في الحجية - فكذلك قد يتسامح ، ويطلق على اتفاق من عدا الامام : اجماعاً ، بملاحظة انضمام حكم الامام اليهم .

( فالدليل ) بناءاً على حجّيّة الاجماع من جهة : اللطف ، او التقرير ، او الحدس (في الحقيقة هو : اتفاق من عدا الامام عليه السلام ، والمدلول ) عبارة عن (الحكم الصّادر عنه عليه السلام نظير كلام الامام عليه السلام ومعناه ) يعني : كما ان الاجماع كاشف وقول الامام مكشوف ، كذلك لفظ الامام كاشف ومعناه مكشوف .

والحاصل : ان حجّيّة الاجماع عند الاماميّة ، اما من جهة الدخول ، واما من جهة اللطف والتقرير والحدس ، وتسمية كليهما اجماعاً من باب التسامح ، اذ في كليهما لا حاجة الى اتفاق الكل ، الذي هو المعنى اللغوي للاجماع ، بل المحتاج اليه : قول المعصوم المنضم الى قول سائر العلماء ، في الأوّل ، وقول المعصوم المنكشف بسبب ذهاب جماعة من العلماء الى فتوى في الثاني .

( ف- ) ان قلت : اذا كان المعيار : قول الامام في الحجيّة فالادلة ثلاثة : كتابٌ، وسنّةٌ، وعقلٌ ، فلماذا جعلوها اربعة ، بضميمة الاجماع ، مع ان الاجماع لا دليليّة فيه ؟ .

قلت : ( النكتة في التعبير عن ) هذا ( الدليل ) الذي ذكرناه ( بالاجماع ،

ص: 369

------------------

مع توقّفه على ملاحظة انضمام مذهب الامام عليه السلام ، الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه وتسمية المجموع دليلاً - هو التحفّظُ على ماجرت سيرة أهل الفنّ ، من إرجاع كلّ دليل إلى أحد الأدلّة المعروفة بين الفريقين ، أعني الكتاب والسنّة والاجماع والعقل .

ففي إطلاق الاجماع على هذا مسامحةٌ في مسامحة ،

------------------

مع توقفه على ملاحظة انضمام مذهب الامام عليه السلام ، الذي هو المدلول ، الى الكاشف عنه ) وهو : الاجماع ، ( وتسمية المجموع ) من الكاشف والمكشوف : اجماعاً و ( دليلاً ) فان النكتة في ذلك ( هوالتحفّظ على ما جرت سيرة أهل الفن ، من ارجاع كل دليل الى احد الأدلّة ) الاربعة ( المعروفة بين الفريقين ) من الخاصة والعامة ، والادلة الاربعة ( اعني : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ) فلم يرد الاماميّة ، اخلاء الادلّة عن الاجماع ، وان كان الاجماع في الحقيقة راجعاً الى السّنة ، فان السّنة عبارة عن : قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، والاجماع : اما كاشف عنه ، واما مشتمل عليه .

وعليه : ( ففي اطلاق الاجماع على هذا ) أي : على من عدا الامام الكاشف عن قول الامام ، لطفاً ، او تقريراً ، أو عادة ( مسامحة في مسامحة ) أي هنا مسامحتان :

المسامحة الاولى : تسمية البعض اجماعاً ، مع ان الاجماع هو اتّفاق الكل .

المسامحة الثانية : جعل الاجماع حجّة بينما انّ الاجماع ليس بحجة ، وانّما المكشوف عن الاجماع هو الحجة ، سواء كان كشفاً انضماميّاً ، أو كشفاً باللّطف، او التقرير ، او الحدس .

ص: 370

وحاصلُ المسامحتين إطلاق الاجماع على اتفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطأهُم وعدمُ وصولهم إلى حكم الامام عليه السلام .

والاطّلاعُ على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصّة وأكثر العامّة على حجّيّة الاجماع يوجبُ القطعَ بخروج هذا الاطلاق عن المصطلح

------------------

( وحاصل المسامحتين : اطلاق الاجماع على اتفاق طائفة ) من الفقهاء (يستحيل بحكم العادة خطأهم ، وعدم وصولهم الى حكم الامام عليه السلام ) سواء كان من جهة الانضمام ، أو من الجهات الاُخر ، الكاشفة عن قوله عليه السلام .

أقول : لكنّا ذكرنا فيما سبق : انّ الاجماع بنفسه حجّة ، في قبال الأدلّة الثلاثة الاُخر ، وذلك من جهة : رواية : « لا تجتمع » التي رواها الخاصة ، والعامة ، ومن جهة : انّه مقتضى قوله سبحانه : « وَيَتَّبِع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤِنِين » (1) وغيرهما من الادلة ، كما في عصر الغيبة ، حيث لا دخول ، واللّطف ، والتقرير ، والحدس كلّها مخدوشة .

( والاطلاع على تعريفات الفريقين ) من الخاصة والعامة ( واستدلالات الخاصة وأكثر العامة على حجّيّة الاجماع ) حيث استدل الخاصة على حجّيّة الاجماع بوجود المعصوم ، وان كان في اثنين ، واستدل العامة على حجّيّة الاجماع : بانّ الاُمة لا تجتمع على الخطأ ( يوجب القطع بخروج هذا الاطلاق ) اي : اطلاق الاجماع على من كان فيهم المعصوم ، ولو كانوا في اثنين ، أو ثلاثة ، أو ما أشبه ( عن المصطلح ) فيما بين العامة والخاصة .

فان اصطلاح العامة والخاصة في الاجماع ، هو : اتّفاق الكل ، فلو لم يرد بذلك هذا الاصطلاح فهو مسامحة في تسميته بالاجماع .

ص: 371


1- - سورة النساء : الآية 115 .

وبنائه على المسامحة لتنزيل وجود من خرج من هذا الاتفاق منزلة عدمه ، كما قد عرفت من السيّد والفاضلين «قدّست أسرارهم» ، من أنّ كلّ جماعة قلّت او كثرت عُلِمَ دخولُ الامام عليه السلام ، فيهم فاجماعُها حجّةٌ .

ويكفيك في هذا ما سيجيّ من المحقق الثاني في تعليق الشرائع من : « دعوى الاجماع على أنّ خروجَ الواحد من علماء العصر قادحٌ في انعقاد الاجماع » ، مضافا إلى ما عرفتَ من إطباق الفريقين على تعريف الاجماع باتفاق الكلّ .

------------------

( وبنائه ) أي : هذا الاطلاق الخارج عن المصطلح ( على المسامحة ، لتنزيل وجود من خرج من هذا الاتفاق منزلة عدمه ) فيكون من اطلاق لفظ الكل وارادة البعض ( كما قد عرفت من السيّد والفاضلين « قدّس سرّهما » : من ان كل جماعة قلّت أو كثرت ، علم دخول الامام عليه السلام فيهم ، فاجماعها حجة ) فان الحقيقة في الاجماع ، هو : اتفاق الكل ، واطلاقه على اتفاق طائفة خاصة ، أحدهما الامام عليه السلام يكون مسامحة .

( ويكفيك في هذا ) من انّ الاجماع المصطلح ، غير الاجماع الدخولي ، الكاشف عن قول المعصوم ( ما سيجيء من المحقق الثاني ، في تعليق الشرائع : من دعوى الاجماع ، على أن خروج الواحد من علماء العصر ، قادح في انعقاد الاجماع ) مما يكشف من انّ الاجماع المصطلح هو عبارة : عن اتّفاق الجميع ، لا إتّفاق طائفة أحدهم الامام عليه السلام .

( مضافاً الى ماعرفت : من اطباق الفريقين ) الخاصة والعامة ( على تعريف الاجماع : باتفاق الكلّ ) ومن المعلوم : ان اتفاق طائفة خاصة ، ليس اتفاق الكل ، فاذا اطلق الاجماع الذي يراد به اتّفاق الكل ، على اتّفاق جماعة خاصة أحدهم

ص: 372

ثمّ إنّ المسامحةَ من الجهة الاولى او الثانية في اطلاق لفظ الاجماع على هذا من دون قرينة لا ضير فيها ، لأنّ العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدل .

------------------

المعصوم ، كان ذلك مجازاً .

( ثمّ ) لا يقال : انه من التدليس ، قولهم : قام الاجماع على كذا الظاهر في اتّفاق الكل ، والحال انهم لا يريدون اتفاق الكل .

فانه يقال ( انّ المسامحة من الجهة الاولى ) أي من اطلاق الاجماع ، الموضوع لاتّفاق الكل ، وارادة اتّفاق طائفة خاصة أحدهم الامام عليه السلام ، ( أو الثانية ) وهي : عدم كون المعصوم عليه السلام في هؤاء الطائفة ، وانّما اتفاقهم يكشف عن قول المعصوم ، وهذه مسامحة ثانية ( في اطلاق لفظ الاجماع على هذا ) أي : على اتفاق جماعة خاصة ، يكشف قولهم عن قول الامام عليه السلام ( من دون قرينة ) على المسامحتين .

وهذا ( لا ضير فيها ) وليس من التدليس في شيء ، حتى يقال : كيف يدلّس العلماء بذكر لفظ ، فيه اصطلاح خاص ، وهم لا يريدون ذلك الاصطلاح ، وانّما يريدون معنى مجازياً له ؟ فلا يكون من التدليس ( لان العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدّليل للمستدلّ ) لا للمنقول اليه ، فان المستدل بالاجماع ، انّما يريد ذكر دليله الكاشف عنده عن قول الامام عليه السلام ، فاذا حصل له الانكشاف من اتّفاق طائفة ، وان لم يكن المعصوم عليه السلام فيهم ، فقد أتى لنفسه بالدليل المقنع ، ولا يهمّه بعد ذلك الاثبات للغير ، وانّما يهمّه الاقتناع النفسي ، بوجود الدّليل في المسألة ، فهو مثل ان يقول : فلان ثقة ، ويريد الثقة عنده ، لا انّه ثقة عند الجميع ، أو ثقة اصطلاحي .

ص: 373

نعم ، لو كان نقلُ الاجماع المصطلح حجّةً عند الكلّ كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا ، أمّا لو لم يكن نقلُ الاجماع حجّةً او كان نقلُ مطلق الدليل القطعيّ حجّةً لم يلزم تدليسٌ أصلاً .

ويظهرُ من ذلك

------------------

( نعم ، لو كان نقل الاجماع المصطلح ، حجّة عند الكلّ ) بأن كان الناقل وغيره ، يَرون : ان الاجماع المصطلح هو الحجّة ، وان غيره ليس بحجة ( كان اخفاء القرينة في الكلام ، الذي هو المرجع للغير ، تدليساً ) لأنه ذكر الاجماع ، مع انه لا اجماع في البين .

و ( أمّا لو لم يكن نقل الاجماع حجّة ) عند الكل ( أو كان نقل مطلق الدّليل القطعي حجّة ) وان لم يكن اجماع ( لم يلزم تدليس اصلاً ) .

لأنّ ناقل الاجماع ، في الصّورة الاولى : لم يوقع المنقول اليه في الاشتباه ، اذ وجود هذا الاجماع كعدمه - حينئذٍ - في عدم كونه دليلاً .

وفي الصّورة الثانية : ذكر الناقل : الحجّة القطعية ، فلا يهم أن يكون اسمه اجماعاً أو غير ذلك .

والتدليس : عبارة عن ايقاع المنقول اليه في المحذور ، وفي كلتا الصورتين ، لا محذور بالنسبة الى المنقول اليه ، من نقل هذا المستدل الاجماع .

لا يقال : فلم ينقل الناقل الاجماع في الصّورة الاولى ، انه لا فائدة في هذا النقل ، لانه ليس بحجة لا عنده ولا عند المنقول اليه .

لانه يقال : وجه نقله أن يعلم المنقول اليه : انّ هذا القول ، هو قول جماعة من العلماء .

( ويظهر من ذلك ) الذي ذكرناه : من أنّ قصد الأصحاب من اطلاق الاجماع

ص: 374

ما في كلام صاحب المعالم ، حيث انّه بعد ما ذكر أنّ حجّيّة الاجماع إنّما هو لاشتماله على قول المعصوم واستنهض بكلام المحقّق الذي تقدّم واستجوده ، قال : « والعجبُ من غفلة جمع من الأصحاب عن هذه الأصل وتساهلهم في دعوى الاجماع عند احتياجهم اليه للمسائل الفقهية ، حتّى جعلوه عبارة عن اتفاق جماعة من الأصحاب ، فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جلية ولا دليل لهم على الحجّيّة

------------------

ما هو حجة عندهم ، لا الاجماع المصطلح ( ما في كلام صاحب المعالم ، حيث انّه بعد ما ذكر : ا نّ حجّيّة الاجماع ) عند الامامية ( انّما هو لاشتماله على قول المعصوم ، واستنهض ) أي : استشهد المعالم لكلامه ( بكلام المحقّق الذي تقدّم ) منّا ( واستجوده ) أي قال : انّ كلام المحقّق جيد .

( قال : والعجب من غفلة جمع من الاصحاب عن هذا الأصل ) أي : أصل انّ الاجماع وجه حجّيته دخول المعصوم ، ( وتساهلهم في دعوى الاجماع عند احتياجهم اليه للمسائل الفقهيّة ، حتى جعلوه ) أي : الاجماع ( عبارة عن اتفاق جماعة من الاصحاب ) فقط ، من دون أن يكون مرادهم : الكل ، وهو اصطلاح العامة ، أو أن يكون مرادهم : دخول المعصوم ، كما هو عند الخاصة ، على ما ذكره المحقق وغيره ( فعدلوا به ) أي : بالاجماع ( عن معناه ، الذي جرى عليه الاصطلاح ) الذي هو عبارة عن دخول المعصوم ( من دون نصب قرينة جلية ) عليه ( ولا دليل لهم ) أي : لهؤاء الاصحاب الذين تساهلوا ( على الحجّية ) .

ومثل هذا الاجماع ، الذي هو عبارة عن : اتّفاق جماعة من الأصحاب فقط ،

ص: 375

يعتدّ به » انتهى .

وقد عرفتَ أنّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ، بعد ما كان مناطٌ حجّيّة الاجماع الاصطلاحيّ موجودا في اتفاق جماعة من الأصحاب ، و

------------------

لا (يعتدّ به ) (1) أي : بذلك الدليل على الحجية ، فان اتّفاق جماعة ، لا يكون دليلاً على المسألة ، بعد ان لم يكن الامام موجوداً فيهم - كما هو مصطلح الخاصة - او لم يكن اتفاق الكل - كما في الاجماع المصطلح عند العامة - ( انتهى ) كلام المعالم .

( و ) فيه ما ( قد عرفت ) من ( انّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ) صحيح ، وليس كما ذكره المعالم ( بعد ما كان مناط حجّيّة الاجماع الاصطلاحي ، موجوداً في اتفاق جماعة من الاصحاب ) ، فانّ اتفاق جماعة عند المستدل ، يكشف عن قول المعصوم ، وان لم يكن المعصوم داخلاً فيهم ، او لم يكن الاجماع بمعنى اتفاق الكل ، فاذا قطع المستدل بوجود الامام من اتفاق جماعة ، لقاعدة اللّطف ، أو التقرير ، أو الاستحالة ، أو ما اشبه ، يجوز له الاستدلال بمثل هذا الاجماع ، وهو سبب علمه بالحكم ، وانّما يطلق عليه الاجماع لوجود مناط الاجماع الاصطلاحي فيه ، حيث قد عرفت : انّ مناط الاجماع الاصطلاحي هو : الكشف عن قول الامام ، من غير فرق بين أن يكون الكل ، أو البعض ، وكذا من غير فرق بين ان يكون الامام في ضمنهم ، أو كلامه منكشفاً عن اتفاقهم .

( و ) ان قلت : لماذا يسمون مثل هذا : اجماعاً مع انه ليس اجماعاً اصطلاحياً عند العامة ، وهو : اتفاق الكل ، ولا اجماعاً اصطلاحياً عند الخاصة ، وهو دخول المعصوم فيه ؟ .

ص: 376


1- - معالم الدين : ص174 .

عدم تعبيرهم عن هذا الاتّفاق بغير لفظ الاجماع ، لما عرفت من التحفّظ على عناوين الأدلّة المعروفة بين الفريقين .

إذا عرفتَ ما ذكرنا فنقول : إنّ الحاكي للاتفاق قد ينقل الاجماع بقول مطلق او مظافا إلى المسلمين او الشيعة او أهل الحقّ او غير ذلك ممّا يمكن أن يرادَ به دخول الإمام عليه السلام في المُجمعين ،

------------------

قلت : ( عدم تعبيرهم عن هذا الاتفاق ) الجزئي ( بغير لفظ الاجماع ، لما عرفت : من التحفظ على عناوين الأدلّة ) الاربعة ( المعروفة بين الفريقين ) من : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، فارادوا التحفظ على لفظ الاجماع ، كما يتحفظ على الكتاب وعلى السنة وعلى العقل .

وقد تقدّم منّا : ان الاجماع حجّة عند الخاصة - أيضاً - بالنص .

( اذا عرفت ما ذكرنا ) : من انّ الاجماع هو : اتفاق علماء العصر ، ويطلق مسامحة ، على اتّفاق جماعة ، يكشف المستدل باللّطف ، أو التقرير ، أو الاستحالة ، قول الإمام عليه السلام منه .

( فنقول ) : ( انّ الحاكي للاتفاق ، قد ينقل الاجماع بقول مطلق ) أي : بلا اضافة الى شيء ، بأن يقول : في مسألة كذا : اجماع .

( أو مضافاً الى المسلمين ) كأن يقول : في مسألة كذا : اجماع المسلمين ، ( أو الشيعة ، أو أهل الحق ، أو غير ذلك ) من التعبيرات ، بأن يقول : اجمع الامامية ، أو اجمع المسلمون ، أو أجمع الشيعة ، أو يقول : اجمعوا ، بدون توضيح الفاعل ، أو غير ذلك ( مما ) أي ، من التعبيرات التي ( يمكن ) عرفاً عند الفقهاء ( أن يراد به دخول الإمام عليه السلام ، في المجمعين ) .

ص: 377

وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه السلام ، كقوله : أجمع علماؤنا او أصحابنا او فقهاؤنا او فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فانّ ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه السلام وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغويّ ، لكنّه مرجوحٌ ، فان أضاف الاجماعَ إلى من عدا الإمام فلا اشكال في عدم حجّيّة نقله ، لأنّه لم ينقل حجّة

------------------

( وقد ينقله ) الناقل ( مضافاً ، الى من عدا الإمام عليه السلام ، كقوله : أجمع علمائنا ، أو أصحابنا ، أو فقهاؤا ، أو فقهاء أهل البيت عليهم السلام ) أو ما أشبه ذلك من التعبيرات ( فان ظاهر ذلك ) كله في المتفاهم العرفي ، انه : في ( من عدا الإمام عليه السلام ، وان كان ارادة العموم ) الشامل للإمام عليه السلام أيضاً من هذه الألفاظ ( محتملة ، بمقتضى المعنى اللغوي ) .

فان لفظ العلماء ، والفقهاء ، وفقهاء أهل البيت ، وما أشبه هذه الالفاظ ، يشمل الإمام أيضاً ، لأنّ الإمام سيد العلماء والفقهاء ، ( لكنّه مرجوح ) في المتفاهم العرفي الفقهائي .

( فان اضاف الاجماع الى من عدا الإمام ) كالعبارات الأخيرة أو قال مثلاً : أجمع تلاميذ الأئمة عليهم السلام ، أو أجمع الفقهاء التابعون لهم ، أو ما اشبه ذلك ( فلا اشكال في عدم حجّيّة نقله ، لأنّه لم ينقل حجّة ) ، اذا الحجّة عبارة عن : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، وقد فرض انّ الاجماع انّما يكون حجّة ، فيما اذا كان شاملاً لقول الإمام عليه السلام وليس هنا كذلك .

نعم ، اذا كان الانسان قائلاً باللطف ، أو ما أشبه ، كان من الاجماع الذي هو حجّة ، أو قائلاً بانّ الاجماع حجّة مستقلة - كما تقدّم الكلام في ذلك - فانه أيضاً يكون ناقلاً للحجّة .

ص: 378

وإنّ فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام من جهة هذا الاتفاق إلاّ أنّه إنّما نقل سبب العلم ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام عليه السلام حتّى يدخل في نقل الحجّة وحكاية السنّة بخبر الواحد .

نعم ، لو فرض أنّ السبب المنقول ممّا يستلزم عادةً موافقةَ قول الإمام عليه السلام ، او وجود دليل ظنّي معتبر حتّى بالنسبة إلينا ،

------------------

ثم اذا فرض انه لم ينقل الحجّة ، فان المنقول اليه الذي يرى الاجماع في كلام هذا الفقيه ، كالاجماع الذي ينقله شيخ الطائفة ، أو السيّد المرتضى ، أو من أشبه ، لا يكون حجّة بالنسبة اليه .

هذا ( وان فرض حصول العلم للنّاقل ، بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ، من جهة هذا الاتفاق ) الحاصل لفقهاء الشيعة من جهة اللّطف ، أو الحدس ، أو الاستحالة ، أو ما أشبه ذلك ، حيث قد مرّ انّ العبرة : بحصول العلم للمستدل ، وانه ليس بتدليس .

( الاّ انّه ) أي : الناقل ( انّما نقل سبب العلم ) الذي بواسطته حصل العلم للناقل ( ولم ينقل المعلوم ، وهو : قول الإمام عليه السلام ، حتى يدخل ) كلامه ( في نقل الحجّة ، وحكاية السنّة بخبر الواحد ) اذ دليل خبر الواحد لا يشمل نقله الاجماع ، وذلك لما عرفت : من ان دليل خبر الواحد يشمل الاخبار الحسّية ، لا الحدسيّة ( نعم ، لو فرض انّ السّبب المنقول ) أي : الاجماع المذكور ( ممّا يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه السلام ) بأن قال - مثلاً - : اتفق فقهاؤا من زمان الغيبة الى اليوم ، فانّه يستلزم عادة موافقة الإمام من جهة اللّطف أو الحدس ، أو ما أشبه ، ( أو ) يستلزم ( وجود دليل ظنّي معتبر ) عند المنقول اليه ( حتى بالنسبة الينا ) فانّ

ص: 379

أمكن إثباتُ ذلك السبب المحسوس بخبر العادل والانتقال منه إلى لازمه ، لكن سيجيء بيانُ الاشكال في تحقّق ذلك .

وفي حكم الاجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه السلام ، الاجماعُ المطلقُ المذكورُ في مقابل الخلاف ،

------------------

الانسان يظنّ ظنّاً معتبراً عقلائياً من اتفاق جميع فقهاء الاماميّة على شيء .

عند ذلك ( امكن اثبات ذلك السّبب المحسوس بخبر العادل ) ، لأنّ قوله : «أجمع العلماء منذ زمن الغيبة » خبر حسّي صدر من عادل ، فهذا هو السبب ( و ) يتم (الانتقال منه ) أي من هذا السبب ( الى لازمه ) وهو الحجّة الواقعية كقول الإمام عليه السلام : فيما اذا قلنا بالتلازم أو الدليل الظنّي المعتبر عند المتشرعة ، فيما اذا كان قوله مستلزماً لدليل ظني معتبر حتى بالنسبة الينا على ما عرفت .

( لكن سيجيء بيان الاشكال في تحقق ذلك ) أي : تحقق اجماع يستلزم عادة موافقة قول الإمام ، أو تحقق اجماع يستلزم وجود دليل ظني معتبر عند الكل .

( وفي حكم الاجماع المضاف الى من عدا الإمام عليه السلام ) في عدم الحجّية على ما عرفت ( الاجماع المطلق ، المذكور في مقابل الخلاف ) فان المقام قرينة على انّ المراد من الاجماع هنا : مجرد نفي الخلاف بين الفقهاء ، لا نقل قول الإمام عليه السلام أو نقل دليل معتبر ولو ظناً .

فكون الاجماع في مقابل الخلاف ، قرينة عامّة على ارادة : نفي الخلاف بين الفقهاء ، لا الاجماع الذي هو حجّة ، لاشتماله على قول المعصوم ، أو كشفه عن دليل معتبر ، أو عن قول المعصوم عليه السلام .

ص: 380

كما يقال : خُرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجسٌ إجماعا ، وإنّما اختلفوا في خُرء الطير ، او يقال : إن محلّ الخلاف هو كذا ، واما كذا فحكمه كذا إجماعا ، فانّ معناه في مثل هذا كونُه قولاً واحدا .

------------------

وذلك ( كما يقال : خرء ) أي : مدفوع ( الحيوان غير المأكول غير الطير ، نجس اجماعاً ، وانّما اختلفوا ) أي الفقهاء ( في خرء الطير ) فان الحيوان على ثلاثة أقسام :

1 - المأكول اللّحم : خرؤ طاهر .

2 - غير المأكول الدافق الدم ، وليس بطائر كالهرة ؛ خرؤ نجس .

3 - غير المأكول الطائر ، كالخفاش : وخرئه مختلف فيه ، هل هو طاهر او نجس ؟ .

والشاهد انّ الاجماع في هذا الكلام ، مقابل الاختلاف ، فيكون المراد منه : انّ هذا ليس ممّا اختلف فيه ، بينما قد اختلف في خرء الطير غير المأكول اللّحم ، فلا يكون مثل هذا الاجماع حجّة .

( أو يقال : انّ محل الخلاف ) بين الفقهاء ( هو : كذا ، وامّا كذا فحكمه كذا ، اجماعاً ) من الفقهاء ( فان معناه ) أي : الاجماع ( في مثل هذا ) الكلام ( كونه قولاً واحداً ) أي : معناه نفي الخلاف .

لكن لا يخفى : انه لا يسلّم مثل هذا الاستظهار ، اذ الناقل سواء نقل الاجماع مستقلاً ، أو في مقابل الخلاف ، فانه يكون حجة اذا كشف عن قول المعصوم ، ضمناً أو سبباً ، أو قلنا : بأنّ الاجماع بنفسه حجّة في مقابل الأدلّة الثلاثة الاُخر ، - كما سلف - .

ص: 381

وأضعفُ ممّا ذكر نقلُ عدم الخلاف ، وأنّه ظاهرُ الأصحاب او قضيّةُ المذهب وشبه ذلك .

وإن أطلق الاجماع او أضافه على وجه يظهر منه إرادةُ المعنى

------------------

هذا ، ولم يذكر الشيخ المصنّف رحمه اللّه ، دليلاً لعدم حجّيّة مثل هذا الاجماع ، الذي هو في قبال الخلاف ، ولم يشر الى انه أيّ فرق بين أن يكون الاجماع في قبال الخلاف ، أو لم يكن في قبال الخلاف ؟ .

( وأضعف ممّا ذكر ) من العبارات المتقدمة ، في عدم الحجيّة ، لانها ليست باجماع قطعي يتضمن قول الإمام ، ولا ملازمة له ، من باب اللّطف ، ونحوه ( نقل : عدم الخلاف ، وانه ظاهر الأصحاب ) ، كأن يقول : لا خلاف في هذه المسألة ، أو يقول : ظاهر المذهب كذا ، أو يقول : ظاهرهم كذا ( أو قضية المذهب ) أي مقتضى المذهب كذا ( وشبه ذلك ) من الالفاظ التي تؤيّ هذه المعاني .

ووجه الأضعفية : انّ مجرد عدم الخلاف ، أو الظهور ، ليس اجماعاً ، لامكان أن يكون هناك فقهاء ، لم تصل الينا كتبهم ، أو لم تكن لهم كتب حتى نعرف آرائهم ، فالاجماع : ايجابي ، وعدم الخلاف : سلبي ، والسلب يمكن ان يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع .

لكن ، لا يخفى ضعف هذا الكلام أيضاً ، اذ كل احتمال يأتي هنا ، يأتي في لفظ الاجماع ونحوه .

( و ) عليه : فالقسم الأوّل من الاجماع المنقول ، هو : ( ان اطلق ) الناقل ( الاجماع ) بأن ذكره بلا قيد ( أو اضافه على وجه يظهر منه : ارادة المعنى

ص: 382

المصطلح المتقدّم ولو مسامحةً لتنزيل وجود المخالف منزلةَ العدم ، لعدم قدحه في الحجّيّة ، فظاهرُ الحكاية كونُها حكايةً للسنّة أعني حكم الإمام عليه السلام ، لما عرفت من أنّ الاجماع الاصطلاحيّ متضمّن لقول الإمام عليه السلام فيدخل في الخبر والحديث .

إلاّ أنّ مستندَ علم الحاكي بقول الإمام عليه السلام ، أحدُ امور :

أحدُها الحسُّ ، كما إذا سمع الحكمَ من الإمام عليه السلام ، في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم

------------------

المصطلح ، المتقدّم ) من : اتفاق جميع علماء العصر ، أو جميع علماء المسلمين ، أو جميع علماء المذهب - مثلاً - في كل العصور ( ولو مسامحة ) ، وانّما يكون مسامحة ( لتنزيل وجود المخالف ) في الرأي سواء كان واحداً ، أو اكثر ( منزلة العدم ، لعدم قدحه ) أي : قدح المخالف ( في الحجّية ) لأنّ المخالف المعلوم النسب لا يضر بها بمعيار الحجيّة ، وهو : ا شتمال الاجماع على قول المعصوم ، أو كشفه عن قول المعصوم ، ووجود المخالف لا يضر في أي منهما .

( فظاهر الحكاية ) للاجماع ( كونها حكاية للسنّة ، أعني : حكم الإمام عليه السلام ، لما عرفت : من انّ الاجماع الاصطلاحي متضمن لقول الإمام عليه السلام ) عند الخاصة - كما تقدّم من أقوال العلماء في ذلك - ( فيدخل ) الاجماع حينئذٍ ( في الخبر والحديث ) لأنّه يكون من مصاديق الحديث .

( الاّ انّ مستند علم الحاكي ) للاجماع ( بقول الإمام عليه السلام أحد اُمور أحدها : الحسّ ) وذلك ( كما اذا سمع الحكم من الإمام عليه السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم ) بان كان في مجلس - مثلاً - جماعة من العلماء ، وعلم هذا الحاكي للاجماع انّ الامام أحد الحاضرين وان لم يعرفه بعينه

ص: 383

فيحصل له العلمُ بقول الإمام عليه السلام .

وهذا في غاية القلّة ، بل نعلم جزما أنّه لم يتفق لأحد من هؤلاء الحاكين للاجماع ، كالشيخين والسيّدين وغيرهما .

------------------

( ف- ) اذا أفتوا بشيء (يحصل له العلم بقول الإمام عليه السلام ) منه .

وفي حكم الاجماع الحسّي ، ما لو كان عند الشخص مخطوطات يعلم اجمالاً انّ أحدها للامام عليه السلام ، فانه يتمكن أن يدّعي الاجماع المسامحي ، قاصداً بذلك وجود قول الإمام عليه السلام حسّاً ، فان هذا الحسّ ، وان لم يكن بقوة الحسّ السابق ، وهو : الرؤة والسماع لجماعة من العلماء يكون الإمام أحدهم ، الاّ انّه حسّ أيضاً .

( وهذا ) النوع من الاجماع بقسميه وان كان ممكناً في نفسه ،الاّ انّه ( في غاية القلّة ) كما ينقل عن المقدس الأردبيلي ، وبحر العلوم ، ومن أشبههما ، من انهم تشرّفوا بخدمته عليه السلام ، وأخذوا منه الاحكام ، لكنهم لما لم يتمكنوا من اظهار ذلك لما ورد من تكذيب مدّعي الرؤة ، نقلوا الفتوى بلفظ الاجماع ، وهذا هو ماسماه صاحب الكفاية : بالاجماع التشرفي .

وقد سمعت من بعض الاساتيذ من تلاميذ الميرزا النائيني رحمه اللّه ، انّ بعض الاجماعات من هؤاء ، لم يوافقه حتى واحد من العلماء في الفتوى به ، مما يشكف انه كان من هذا القبيل .

( بل نعلم جزماً انّه لم يتفق لأحد من هؤاء الحاكين للاجماع كالشيخين ) : الشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي ، ( والسيدين ) : السيد المرتضى ، والسيد ابن زهرة (وغيرهما ) من الذين قالوا بالدخول ، مثل هذا الاجماع .

لكن لا يخفى : انّا سمعنا من بعض الثقاة : انّ العلامة الحلّي رحمه اللّه ، اتفق له أن تشرف بخدمته ، في طريقه الى كربلاء المقدسة ، وقد سمع منه عليه السلام بعض

ص: 384

ولذا صرّح الشيخ في العدّة ، في مقام الردّ على السيّد حيث أنكر الاجماع

------------------

الأحكام .

وعلى أي حال : فان كان هذا موجوداً فهو نادر في غاية الندرة ، فان الاجماع الدخولي ، - بحيث يسمع الناقل قوله عليه السلام في جملة أقوالهم ، أو يرى كتابه في جملة كتبهم - مختص بزمان الحضور ، لانه عليه السلام في ذلك الزمان كان يجالس الناس ويجتمع معهم في المجالس ، باستثناء الإمام الحجّة «عجل اللّه تعالى فرجه » ، حيث لم يكن له ذلك الدور الذي كان لآبائه عليهم السلام .

فكان من الممكن : أن يتفق اجتماع جماعة في مسجد ، أو بيت ، أو ما أشبه ، فيعلم الحاكي للاجماع من فتواهم أنّ الإمام احدهم ، ولا يعرفه بعينه ، كما في التاريخ : ان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم كان يجلس في مسجد ويلتفّ حوله أصحابه ، فاذا دخل الداخل ، لم يعرفه صلى اللّه عليه و آله وسلم ويسأل عنه انّه أيّهم .

والأئمة الطاهرون عليهم السلام - في زمن الحضور - أيضاً كذلك حيث كان جماعة من الناس لا يعرفونهم بأعيانهم ، كما في قصة الإمام أمير المؤنين عليه السلام ، وذلك - الشخص - الذي زاحمه على ميضاة مسجد الكوفة ، فان الرجل لم يكن يعرفه ، وانّما بعد ذلك لمّا سأل عنه ، قيل له : انّه الإمام أمير المؤنين عليه السلام (1) .

وأمّا في زمان الغيبة فمن النادر ، بل لا يعلم حتى من فرد واحد علماً قطعيّاً ان يكون الاجماع حجّة من باب الدخول ، ( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه ، من انه لا يتفق في زمان الغيبة لحاكي الاجماع ، السماع من الإمام عليه السلام ، ورؤة خطه ( صرّح الشيخ في العدة في مقام الرّد على السيّد حيث أنكر ) السيّد ( الاجماع

ص: 385


1- - عن اشباه هذه القصص راجع كتاب : السبيل الى انهاض المسلمين ، وكتاب : فقه الدولة ، وكتاب : لأوّل مرّة في تاريخ العالم ، وكتاب : لماذا تأخر المسلمون ؟ ، وكتاب : اسلوب حكومة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والإمام علي عليه السلام للشارح .

من باب وجوب اللطف ، بأنّه لولا قاعدة اللطف لم يمكن التوصّلُ إلى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين .

الثاني قاعدةُ اللطف ، على ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدّة وحكى القول به من غيره من المتقدّمين .

ولا يخفى : أنّ الاستنادَ اليه غيرُ صحيح ، على ماذكر في محلّه ،

------------------

من باب وجوب اللطف ) الذي يقول به الشيخ ، بينما أثبت السيد الاجماع من باب الدخول فرده شيخ الطائفة ( بانّه : لولا قاعدة اللّطف ، لم يمكن التوصّل الى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين ) ومعنى عدم الامكان : انّه لا يمكن في زمان الغيبة ، حتى القريب من الظهور ، كزمان الشيخ ، والسيّد ، « رحمهما اللّه » ، ان يتحقق الاجماع الدخولي قولاً أو كتابة .

( الثاني ) من مستند علم حاكي الاجماع بقول الإمام عليه السلام : (قاعدة اللطف ، على ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدة ) وهو كتاب اُصولي لشيخ الطائفة ( وحكى القول به من غيره من المتقدّمين ) .

ومعنى اللّطف : أنّه كما يجب على اللّه سبحانه وتعالى ارسال الرسل ، وانزال الكتب ، حتى لا تكون الخلقة عبثاً فان العبث محال على الحكيم تعالى ، كذلك يجب عليه سبحانه في الحكمة : اظهار الحق فيما اذا اتفق الكل على خلافه .

وعليه : فاذا اتفق الكل على شيء ، ولم يظهر اللّه سبحانه وتعالى بسبب من الأسباب خلافه ، كان ذلك الاتفاق دليلاً على انّ هذا المتفق عليه هو حكم اللّه تعالى ، لأنّ اللّه سبحانه لطيف بعباده .

( ولا يخفى : ان الاستناد اليه ) أي الى اللطف ( غير صحيح على ما ذكر في محله) لانه كما يجوز ترك اللّه سبحانه الناس ، بلا وصول حكم الانبياء اليهم ، كما

ص: 386

فاذا علم استنادُ الحاكي اليه فلا وجه للاعتماد على حكايته ، والمفروضُ أنّ اجماعاتِ الشيخ كلّها مستندةٌ إلى هذه القاعدة ، لما عرفت من الكلام المتقدّم من العدّة وستعرف منها ومن غيرها من كتبه .

فدعوى مشاركته للسيّد قدس سره - في استكشاف قول الإمام عليه السلام ، من تتبّع أقوال الاُمّة

------------------

في الفترة بين الرسل ، ونحوها ، كذلك يجوز تركهم بعد اظهار الحق في بعض الفروع الفقهية ، وان اتفقوا على خلافه ، فان الكبرى وهو نقض الغرض ، وان كان محالاً عقلاً على الحكيم ، الا انّ كون ما نحن فيه من صغريات نقض الغرض محل اشكال .

وعلى هذا : ( فاذا علم استناد الحاكي اليه ) أي : الى اللّطف ( فلا وجه للاعتماد على حكايته ) لانه لم يحك قول الإمام عليه السلام ، لما عرفت من ان قاعدة اللطف غير تامة ، ( و ) على هذا : فلا نتمكن من الاعتماد على اجماعات الشيخ ، كما لم نتمكن من الاعتماد على اجماعات السيّد المرتضى ، أمّا عدم الاعتماد على اجماعات السيّد المرتضى ، فلما عرفت : من عدم الدخول في زمان الغيبة ، وأمّا عدم الاعتماد على اجماعات الشيخ فلأن ( المفروض ، ان اجماعات الشيخ ، كلّها مستندة الى هذه القاعدة ، لما عرفت من الكلام المتقدّم من العدّة ) حيث انّ الشيخ ، قال : بأنّه لولا قاعدة اللطف ، لم يمكن التوصل الى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين ( وستعرف منها ) أي من العدة ( ومن غيرها من كتبه ) ، أي كتب الشيخ : انّ مستنده في الاجماع ، قاعدة اللطف .

وعليه : ( فدعوى مشاركته ) أي الشيخ ( للسيّد قدس سره ، في استكشاف قول الإمام عليه السلام من تتبّع أقوال الأُمة ) حيث انّ السيّد يرى حجّيّة الاجماع الحاصل من

ص: 387

واختصاصه بطريق آخر مبنيّ على وجوب قاعدة اللطف - غيرُ ثابتة ، وإن ادّعاها بعضٌ ، فانّه قدس سره قال في العُدّة - في حكم ما اذا اختلفت الامامية على قولين يكون أحدُ القولين قولَ الإمام عليه السلام ، على وجه لا يعرف بنفسه ، والباقون كلّهم على خلافه - : « إنّه متى اتفق ذلك ، فان كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السلام

------------------

تتبع أقوال الأُمة - من باب الدخول ( و ) القول بأنّ الشيخ أيضاً يرى ذلك مضافاً الى ( اختصاصه ) أي الشيخ ( بطريق آخر مبني على وجوب قاعدة اللطف ) فان دعوى المشاركة هذه ( غير ثابتة ) اذ للسّيد قاعدة الدخول وللشيخ قاعدة اللّطف ، ولا تَشبَه احداهُما الأُخرى - كما عرفت - ( وان ادّعاها ) أي : المشاركة بينهما (بعض ) من الاصوليين .

لكن لا يخفى : انّ استناد الشيخ في اجماعاته الى اللّطف أو السيّد الى الدخول ، أعم من كون اجماعاتهم كلها من هذا القبيل ، فلعلهم يستندون في بعضها على الحدس، أو على ما روي : من انّ الأُمة «لا تجتمع على ضلالة» (1)، أو ما أشبه ذلك.

وكيف كان : ( فانه ) أي الشيخ قدس سره ، قال في العدّة في حكم ما اذا اختلفت الاماميّة على قولين ، يكون أحد القولين قول الإمام عليه السلام والقول الآخر ، قول لا يطابق قول الإمام ( على وجه لا يعرف بنفسه ) أي لا نعرف انّ وجوب الجمعة ، هو قول الإمام ، او حرمة صلاة الجمعة هو قوله عليه السلام (والباقون كلّهم على خلافه) .

قال في هذا المقام ( : انّه متى اتّفق ذلك ) الاختلاف على قولين ، أحدهما قول الإمام ( فان كان على القول، الذي انفرد به الإمام عليه السلام ) في الواقع - لأنّ المفروض :

ص: 388


1- - بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وفي الدر المنثور للسيوطي : ج2 ص222 والصراط المستقيم : ج1 ص268 و ج3 ص126 وكنز العمال : ج1 ص185 ح1030 على ضلال وفي كتاب الالفين : ص218 (على الضلالة) .

دليلٌ من كتاب او سنّة مقطوعٌ بها لم يجب عليه الظهورُ ولا الدلالةُ على ذلك ، لأنّ الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن عليه دليلٌ وجب عليه الظهورُ او إظهارُ من يبيّن الحقَّ في تلك المسألة - إلى أن قال : وذكر المرتضى عليّ بن الحسين الموسويّ : « أنّه يجوزُ أن يكون الحقّ عند الإمام عليه السلام ، والأقوال الاُخَرُ كلّها باطلة ، ولا يجبُ عليه الظهورُ ،

------------------

انّا لا نعرف أنّ أيهما قول الإمام وانّما نعلم اجمالاً : انّ احدهما قول الإمام في الواقع - ( دليل من كتاب ، أو سنّة ، مقطوع بها ، لم يجب عليه ) أي على الإمام عليه السلام ، اللّطف و ( الظهور ولا الدّلالة على ذلك ) ، أي : لا يجب عليه أن يظهر بنفسه ، ويدل الامة ، على ما في الكتاب والسنّة ، من القول الذي يوافق قوله ( لانّ الموجود من الدليل ) في الكتاب والسنّة ( كاف في ازاحة التكليف ) ، ومعنى ازاحة التكليف : ازالة اسباب اختلاف التكليف ، باتمام الحجّة .

( ومتى لم يكن عليه دليل وجب عليه ) عليه السلام ( الظهور ) بنفسه وان لم يعلم بشخصه ( أو اظهار من يبيّن الحقّ في تلك المسألة ) بأن يلقي الخلاف بين المجمعين ، حتى لا يضيع الحقّ .

( الى أن قال : وذكر ) السّيد ( المرتضى علي بن الحسين الموسوي انّه ) لا يجب على اللّه اللّطف في مثل هذه المسألة فانه ( يجوز أن يكون الحقّ عند الإمام عليه السلام ) وحده ( والأقوال الأُخر ) من سائر الأُمة ( كلّها باطلة ) لأنّها تخالف الحق أجمع ، كما اذا كانت صلاة الجمعة - مثلا - واجبة في الواقع ، عند الإمام عليه السلام ، والأقوال الأُخر تقول: بالحرمة ، وبالتخيير ، وبالاستحباب ، وما أشبه .

( و ) مع ذلك ( لا يجب عليه ) عليه السلام ( الظهور ) لاظهار الحق وابطال الباطل ،

ص: 389

لأنّا إذا كنّا نحن السببَ في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما يكون معه من الأحكام قد فاتنا من قبل أنفسنا، ولو أزلنا سببَ الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقَّ الذي كان عندَهُ » .

قال : « وهذا عندي غير صحيح ، لأنّه يؤدّي إلى أن لا يصحّ الاحتجاجُ باجماع الطائفة

------------------

من بين الأُمة - فرضاً - ( لأنّا اذا كنّا نحن السبب في استتاره ) أي : في استتار الإمام عليه السلام .

وعليه : ( فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به ) أي : بالامام عليه السلام ( وبما يكون معه من الأحكام ) فانّ للامام عليه السلام فائدتين : الاولى : فائدة القيادة في الموضوعات .

الثانية : فائدة بيان الأحكام .

و ( قد فاتنا ) كلا الفائدتين ( من قبل أنفسنا ) لانّا نحن السبب في غيبته عليه السلام .

( ولو أزلنا سبب الاستتار ) وأصلحنا انفسنا ، ومهّدنا الجوّ له حتى يظهر ( لظهر ، وانتفعنا به ، وادّى الينا الحقّ الذي كان عنده ) .

لا يقال : هذا البعض قد صار سبباً للاستتار ، فما ذنب البعض الآخر ، الذين هم يهيئون للامام عليه السلام ؟ ؛ لأنّه يقال : جرت سنة اللّه تعالى في الكون على انّه لو ظلم البعض شملت ناره الآخرين ، كولد يقتل اباه ، فانه يتضرر بذلك سائر الأولاد الآخرين ، حيث يحرمون من ظلال الأب ، ومن رأفته وخدمته ، وهكذا الانبياء والائمة عليهم السلام ، فقد كانوا يُقتلون بسبب جماعة من الأشرار والكفار ، ويحرم من وجودهم الاخيار والأتقياء .

( قال ) الشيخ ( وهذا ) أي : عدم وجوب اللّطف الذي ذكره السيّد رحمه اللّه ( عندي غير صحيح ، لأنّه يؤّي الى أن لا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة

ص: 390

أصلاً ، لأنّا لا نعلمُ دخول الإمام عليه السلام ، فيها إلاّ بالاعتبار الذي بيّناه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لايجبُ ظهوره مَنَعَ ذلك من الاحتجاج بالاجماع » ، انتهى كلامه .

وذكر في موضع آخر من العدّة : « إنّ هذه الطريقة - يعني طريقةَ السيّد المتقدمة - غيرُ مرضيّة عندي ، لأنّها تؤدّي إلى أن لايُستدلّ باجماع الطائفة أصلاً

------------------

أصلاً ، لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها ) أي : في الطائفة ( الاّ بالاعتبار الذي بيناه ) من جهة اللّطف ، بل كثيراً ما نعلم بعدم دخول الإمام عليه السلام .

إذن : فالدخول غير موجود ، واللّطف انكره السّيد ، فلا اجماع للطائفة أصلاً ، مع وضوح انّا نعلم بوجود الاجماع عندنا ، والاجماع لايكون الاّ بأحد هذين الأمرين .

أقول : لكنك قد عرفت : امكان وجود الاجماع بدونهما ، من الحدس ، أو رواية : «لا تَجتَمِعُ أمّتي عَلى الخَطَأ » (1) ، أو غير ذلك .

وعلى اي حال : فقد قال الشيخ في جواب السيّد ( ومتى جوّزنا انفراده ) عليه السلام ( بالقول ، وأنّه لا يجب ظهوره ) لبيان الحق ( منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع ، انتهى كلامه ) رحمه اللّه (2) ، على ما ذكره في العدة .

( وذكر في موضع آخر من العدّة ) أيضاً ( : انّ هذه الطّريقة يعني : طريقة السّيد المتقدمة ) من عدم وجوب اللّطف على اللّه سبحانه وتعالى باظهار الإمام ليكشف الحق ، فيما لو اجمعت الاُمة على الخلاف ( غير مرضية عندي ، لانّها تؤّي الى ان لا يستدلّ باجماع الطائفة أصلاً ) وذلك من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث

ص: 391


1- - الصراط المستقيم : ج3 ص125 ، الغدير للاميني : ج7 ص142 و ص143 .
2- - عدة الاصول : ص247 .

لجواز ، أن يكون قولُ الإمام عليه السلام مخالفا لها ، ومع ذلك لا يجب عليه اظهارُ ما عنده » انتهى .

وأصرحُ من ذلك في انحصار طريق الاجماع ، عند الشيخ ، فيما ذكره من قاعدة اللطف ، ما حُكي عن بعض أنّه حكاه من كتاب التمهيد للشيخ : « انّ سيّدنا المرتضى ، قدّس سرّه ، كان يذكر كثيرا انّه لايمتنع أن يكون هنا امورٌ كثيرة غير واصلة إلينا علمُها مُودَعٌ عند الإمام عليه السلام ،

------------------

لا يكون على هذا اجماع حجّة ، وعليه : فلا يمكن الاستدلال بالاجماع ، وانّما يمكن الاستدلال بالكتاب ، والسنّة ، والعقل فقط .

وعدم الارتضاء انّما هو ( لجواز ) أي : بناءاً على عدم وجوب اللّطف ، يجوز ( أن يكون قول الإمام عليه السلام مخالفاً لها ) أي : للطائفة أجمع ( ومع ذلك ، لا يجب عليه اظهار ما عنده ) (1) من الحق ، فتكون الامة كلّها في ضلالة ، بالنسبة الى بعض المسائل الفقهية ( انتهى ) .

ومن المعلوم : ان هذه العبارات من الشيخ قدس سره ، صريحة في ارادته : عدم دخول الإمام في المجمعين، ولذلك جعل التلازم بين حجّيّة الاجماع، وبين القول باللطف ، فقال : ان كان لطف ، فالاجماع حجّة ، وان لم يكن لطف ، فلا حجّيّة للاجماع .

( وأصرح من ذلك في انحصار طريق الاجماع عند الشيخ ، فيما ذكره : من قاعدة اللّطف ) وانّه المستند عنده لحجيّة الاجماع ( ما حكي عن بعض : انّه حكاه من كتاب التمهيد للشيخ ) بما عبارته : ( انّ سيّدنا المرتضى قدس سره ، كان يذكر كثيراً : انه ) لا يجب اللّطف على اللّه سبحانه وتعالى ، و ( لا يمتنع أن يكون هنا ) في الشريعة ( اُمور كثيرة غير واصلة الينا ، علمها مودع عند الإمام عليه السلام ) في الفروع

ص: 392


1- - عدة الاصول : ص253 .

وإن كتمها الناقلون ، ولا يلزم مع ذلك سقوطُ التكليف عن الخلق - إلى أن قال - : وقد اعترضنا على هذا في كتاب العُدّة في اصول الفقه وقلنا : هذا الجوابُ صحيحٌ لولا مانستدلّ في أكثر الأحكام على صحّته باجماع الفرقه ، فمتى جوّزنا أن يكون قولُ الإمام عليه السلام ، خلافا لقولهم ، ولا يجب ظهوره ، جاز لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن يكون قول الإمام خارجا عن قول من تظاهر بالامامة ، ومع هذا لا يجب عليه الظهور ،

------------------

الفقهيّة ، المبتلى بها ، من الطهارة ، الى الديات ( وان ) بيّنها الرسول والائمة الطاهرون عليهم السلام و ( كتمها الناقلون ) للاخبار عنهم عليهم السلام ، امّا تعمداً : كالمنافقين ، أو تخوفاً : كالرواة الصالحين .

( ولا يلزم مع ذلك ) أي : مع عدم وصول ، تلك الأحكام الفقهيّة الينا ( سقوط التكليف عن الخلق ) لأنّ هناك جملة كبيرة من الأحكام ، وصلتنا بسبب الكتاب ، والسنّة ، والاجماع فيجب على الفقهاء العمل والفتوى بما أدّى اليهم اجتهادهم ، من الادلة الثلاثة المذكورة .

( الى أن قال : وقد اعترضنا على هذا ، في كتاب العدّة في اصول الفقه ، وقلنا : هذا الجواب ) الذي ذكره السيّد من عدم وجوب اللّطف ( صحيح لولا ما نستدل في أكثر الاحكام على صحته ) أي صحة اكثر الاحكام ( باجماع الفرقة ) فان اجماع الفرقة يستدل به عند علمائنا ، ومقتضى القاعدة : حيث لايكون دخول ان يكون حجيّته مستنداً الى اللّطف ( فمتى جوّزنا : ان يكون قول الإمام عليه السلام ، خلافاً لقولهم و ) قلنا : بأنّه ( لا يجب ظهوره ) عليه السلام ، سقط الاجماع مطلقاً ، كما انه ( جاز لقائل ان يقول : ما انكرتم أن يكون قول الإمام خارجاً عن قول من تظاهر بالإمامة ، ومع هذا لا يجب عليه الظهور ) أي : ان للمستشكل ان يستشكل : بأنّكم

ص: 393

لأنّهم أتوا من قبل أنفسهم ، فلا يمكننا الاحتجاجُ باجماعهم أصلاً » ، انتهى .

فانّ صريحَ هذا الكلام أنّ القادحَ في طريقة السيّد منحصرٌ في استلزامها رفع التمسّك بالاجماع ، ولا قادح فيها سوى ذلك ،

------------------

لا تنكرون أن تكون الامة ككل على باطل ، لان لازم قولكم بعدم وجود اللطف الاعتراف : بأنّه يمكن أن يدّعي أحد ما يضل به الاُمّة ككل ، بالنسبة الى بعض الفروع الفقهية ، ومع ذلك لايجب على الإمام ان يظهر حتى يريهم الحقّ في المسألة ، وانّما يكون لازمه ذلك ، لما تقدّم من استدلال السّيد بقوله : ( لانّهم ) أي الناس (أتوا من قبل أنفسهم ) وانّهم هم السبب الباعث لغيبة الإمام عليه السلام ، وعلى هذا ، فلا يجب على اللّه سبحانه وتعالى : ان يظهر الإمام ويبيّن الحقّ فيما اذا اجتمعت الاُمّة على الخلاف .

وعليه : ( فلا يمكننا الاحتجاج باجماعهم أصلاً ) (1) لأنّ اللطف : ممنوع عند، السّيد والدخول : غير ممكن في زمان الغيبة ، فلا وجه لحجّية الاجماع ، ( انتهى ) كلام الشيخ في ردّ السّيد رحمه اللّه القائل : بأنّ حجّية الاجماع من باب الدخول ، وليس من باب اللطف ، لأنّ اللطف ليس بواجب على اللّه سبحانه .

( فان صريح هذا الكلام ) من شيخ الطائفة ، يدلّ على ( انّ القادح في طريقة ، السّيد منحصر في استلزامها ) أي : استلزام طريقته ( رفع التمسّك بالاجماع ) فلا يمكن للاُمّة التمسّك بالاجماع في بعض المسائل الفقهية ، لما عرفت : من انّه لا مستند للاجماع إلاّ اللّطف ( و ) حيث انّ السّيد يمنع اللطف فلا مستند للاجماع اطلاقاً .

ولا يخفى : انّه ( لا قادح فيها ) أي : في طريقة السّيد ( سوى ذلك ) الّذي

ص: 394


1- - الغيبة : ص66 ، عدة الاصول : ص247 .

ولذا صرّح في كتاب الغيبة بأنها قويّة تقتضيها الاصول ، فلو كان لمعرفة الاجماع وجواز الاستدلال به طريقٌ آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحقّ عليه

------------------

ذكرناه : من انّ اللطف يسبب حجّية الاجماع وان لم يكن دخول ، فابطال اللطف ابطال للاجماع .

( ولذا ) أي لاجل هذا القادح ، الموجود في طريقة السّيد من : انّه يوجب ابطال الاجماع وسقوطه مطلقاً عن الحجّيّة ، فتكون أدلّة الأحكام ثلاثة فقط ( صرّح ) الشيخ ( في كتاب الغيبة : بأنّها ) أي : طريقة السّيد في نفسها مع قطع النظر عن هذا الاشكال ( قوية تقتضيها الأصول ) أي أصول المذهب ، وذلك لانّه اذا كان الناس ، هم السبب في استتار الإمام عليه السلام ، فلا يجب على اللّه سبحانه ازاحة علّتهم ، باظهار الحقّ لهم .

ولا يخفى : انّ كلمة : «ازاحة العلّة » ، وردت في الدعاء ، والمراد بها : ازالة العلّة المانعة عن التكليف باتمام الحجّة على العباد ، فقد قال عليه السلام ، في الدعاء: « أزاحَ العِلَلَ فِي التَكلِيفِ، وَسَوّى التَوفِيقَ بَينَ الضَعيفِ وَالشَرِيف » .

والمراد بالعلّة في الدعاء ، وفي تعبير الفقهاء في هذا المقام : معناها اللغوي ، من المرض ونحوه ، لا العلّة : بالمعنى الفلسفي ، الّذي هو عبارة عن : السّبب ، وانّما أطلقوها على السّبب ، وليس معناها اللغوي ذلك ، لاعتبار ، ان المرض ، كما هو سبب للضعف كذلك العلّة الفلسفيّة سبب للمعلول ، فالجامع بينهما : السببية .

( فلو كان ) من نظر الشيخ ( لمعرفة الاجماع ، وجواز الاستدلال به ، طريق آخر ، غير قاعدة : وجوب اظهار الحقّ عليه ) عليه السلام ، وهي : قاعدة اللطف المتقدّمة

ص: 395

لم يبق ما يقدحُ في طريقة السيّد ، لاعتراف الشيخ بصحّتها لولا كونُها مانعةً عن الاستدلال بالاجماع .

ثمّ إنّ الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقق الاجماع عدمَ مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني .

------------------

في كلام الشيخ ( لم يبق ما يقدح في طريقة السّيد ) .

والحاصل : انّ الشيخ معترف : بأنّ طريقة السيّد مطابقة للاُصول ، لولا المحذور الذي ذكره : من انّها توجب بطلان الاجماع ، فانّ هذا هو موضع الضعف في كلام السّيد ، وذلك ( لاعتراف الشيخ بصحّتها ) أي : بصحّة طريقة السّيد ( لولا كونها مانعة عن الاستدلال بالاجماع ) .

وبهذا كلّه تبيّن : انّ طريقة السّيد ، غير طريقة الشيخ في حجّية الاجماع ، فالسّيد : دخولي ، والشيخ : لطفي .

( ثمّ انّ الاستناد ) في تحقّق الاجماع ( إلى هذا الوجه ) الّذي ذكره الشيخ ، من قاعدة اللّطف ( ظاهر من كلّ من اشترط في تحقق الاجماع ) في الاصطلاح الامامية (عدم مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدّين ، والشهيد ، والمحقّق الثاني ) ، وذلك ، لأنّه لو خالف بعض الفقهاء لم يتحقق اجتماعهم كلّهم على الخلاف ، فلم يجب على الإمام اظهار الحقّ ، الّذي هو مقتضى قاعدة اللطف ، لأنّ مقتضى قاعدة اللطف - كما عرفت - انّما هو فيما اذا اجتمع كلّ الامّة على الخلاف .

والحاصل : انّ مستند الاجماع ، لو كان دخول المعصوم : كما يقوله السّيد ، لزم العلم بالدخول ، وان كان في اثنين من الفقهاء - على ما عرفت سابقاً - ، وان كان اللطف : كما يقوله الشيخ لزم اتفاق كلّ علماء العصر على حكم بحيث انّهم

ص: 396

...

------------------

لو كانوا على الباطل ، لزم على اللّه سبحانه وتعالى اظهار الحقّ ، من باب اللّطف .

وان كان المستند ، حديث : « لا تجتمع » : فاللازم اجتماع كلّ الامّة ، في كلّ الأعصار والأمصار . لأنّ هذا هو الظاهر من الجمع المضاف - على تأمل - .

* * * انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث في بيان كلام فخر المحققين في كتاب الايضاح وله الحمد

ص: 397

ص: 398

المحتويات

المَقصد الثاني في الظَنّ المقام الاول : امكان التعبّد بالظن عقلاً... 8

الدليل الاول لابن قِبة على استحالة التعبد بالظن... 8

الدليل الثاني لابن قِبة ... 9

أدلة المشهور ... 10

الجواب عن أدلّة ابن قِبة ... 12

التعبد بالامارات غير العلمية ... 37

اقسام التعبد بغير العلم ... 37

التعبد بالامارات للسببية... 42

قول بعض العامّة ورد المصنّف لهم ... 86

المقام الثاني : وقوع التعبد بالظن في الاحكام الشرعية ... 91

اقوال في تأسيس الاصل للعمل بالظن ... 92

تقريرات أخرى في تأسيس الاصل ... 102

معنى الآيات الدالة على حرمة العمل بالظن ... 130

الظنون المعتبرة امارات استنباط الاحكام من الكتاب والسنة... 137

القسم الاول : تشخيص المراد... 146

منع بعض الاخباريين عن العمل بظواهر الكتاب ... 152

ادلة الاخباريين الاول : الاخبار ... 152

الجواب عن الاستدلال بالاخبار ... 160

المراد من التفسير بالرأي ... 167

ص: 399

الروايات الدالة على جواز التمسك بظاهر القرآن ... 177

الثاني : من ادلة الاخباريين ... 196

الجواب عن الدليل الثاني ... 196

كلام السيد الصدر والجواب عنه ... 204

تنبيهات الاول : الخلاف في حجية الظواهر كثير الجدوى ... 222

الثاني : اختلاف القراءات ... 232

الثالث : عدم تحريف القرآن ... 240

الرابع : الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل الظواهر... 245

التفصيل بين من قصد افهامه وغيره ... 250

الاشكال على التفصيل ... 268

الاخبار الدالة على حجية الكتاب ... 280

كلام صاحب المعالم ... 285

الظهور حجة حتى لو افاد الظن ... 295

الظهور حجة حتى لو لم يفد الظن ... 299

تفصيل بعض المعاصرين ... 301

القسم الثاني : تشخيص اوضاع الالفاظ... 312

قول اللغوي... 314

دليل حجية قول اللغوي والجواب عنه ... 318

الاجماع المنقول... 333

دليل الحجية ... 334

الاجماع المحصل... 357

حجية الاجماع لكشفه عن قول الامام ... 360

مستند الكشف عن قول الامام ... 383

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور :الوصائل الی الرسائل/سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

إشارة

قال في الايضاح في مسألة ما يدخل في المبيع : « إنّ من عادة المجتهد : إذا تغيّر اجتهاده الى التردّد او الحكم بخلاف ما اختاره أوّلاً ، لم يبطل ذِكرَ الحكم الأوّل ، بل يذكر ما أدّى اليه اجتهادُه ثانيا في موضع آخر ، لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه

------------------

( قال ) فخر المحققين ابن العلامة ( في الايضاح ، في مسألة ما يدخل في المبيع ) من التوابع ، فاذا باع الدار - مثلاً - دخل في المبيع : الماء الّذي في البئر ، والانابيب الّتي تنقل الماء منها والاشجار الّتي فيها وما اشبه ذلك ، ممّا لا يسمّى داراً وكذلك توابع كلّ مبيع بحسبه .

قال : ( انّ من عادة المجتهد ، اذا تغيّر اجتهاده إلى التردّد ، أو الحكم بخلاف ما اختاره أولاً ، لم يبطل ذكر الحكم الأوّل ) بأن يشطب على ذلك الحكم ، ويكتب الحكم الثاني مكانه .

مثلاً : اذا كان اجتهاده الاوّل : وجوب صلاة الجمعة ، وصار اجتهاده الثاني : حرمة صلاة الجمعة لم يشطب على الوجوب ( بل يذكر ما أدّى اليه اجتهاده ثانياً ، في موضع آخر ) سواء في كتاب آخر ، أو في موضع آخر من نفس ا لكتاب ، وقد ذكر فخر المحققين : انّ فائدة عدم الشطب على الحكم الاوّل ، أمور : -

أحدها : ما نبّه عليه بقوله : ( لبيان عدم انعقاد ، اجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه ) أي على خلاف اجتهاده الأوّل ، اعلاماً بانّه لم ينعقد في العصر السابق اجماع على خلاف اجتهاده .

فاذا كان اجتهاده الأوّل - مثلاً - الوجوب ، واجتهاده الثاني : الحرمة ، وقد وافق كلّ علماء عصره عند اجتهاده الأوّل ، على الوجوب ، لم يبطل اجتهاده الاوّل عند تبدّل اجتهاده إلى الحرمة ، وذلك لافادة : انّ وقت اجتهاده الاوّل ، انعقد

ص: 7

وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كلّ واحد منهما وأنّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطلٌ للأوّل ، بل معارضٌ لدليله مساوٍ له » ، انتهى .

وقد أكثر في الايضاح من عدم الاعتبار بالخلاف لانقراض عصر المخالف ،

------------------

الاجماع على الوجوب.

الثاني : ما اشار اليه بقوله : ( وعدم انعقاد اجماع اهل العصر الثاني ، على كلّ واحد منهما ) أي : من الفتويين ، فتوى الوجوب أوّلاً ، وفتوى الحرمة ثانياً ، أمّا فتوى الوجوب : فلأنّه خالفه إلى الحرمة ، وأمّا فتوى الحرمة : فلأنّ علماء عصره الباقين على فتاواهم ، حتّى بعد فتواه الثاني ، قائلون بالوجوب ، وهو قائل بالحرمة .

الثالث : ما اشار اليه بقوله : ( وانّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للاوّل ، بل معارض لدليله مساوٍ له ) (1) لأنّه لا يعلم ما عند اللّه سبحانه واقعاً من صحة الفتوى الاولى ، أو الفتوى الثانية ، واّنما كان ذلك ما استظهره أوّلاً ، وهذا ما استظهره ثانياً .

ومن المعلوم : انّ الاستظهار قد يطابق الواقع ، وقد لا يطابقة ، فهما اجتهادان ، يحتمل مطابقة ذاك أو هذا للواقع ، بل وربّما يحتمل مخالفة كليهما للواقع ، فيما اذا كان أطراف الحكم ثلاثة : كالوجوب ، أو الحرمة ، أو التخيير في صلاة الجمعة ، (انتهى ) كلام الايضاح ، وما يكون شاهداً فيه لما ذكرناه ( وقد أكثر في الايضاح : من عدم الاعتبار بالخلاف ، لانقراض عصر المخالف ) ممّا يظهر منه : انّ مخالفة واحد من علماء العصر مانع من انعقاد الاجماع ، فيكون شاهداً لما ذكرناه سابقاً

ص: 8


1- - ايضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص502 .

وظاهره الانطباقُ على هذه الطريقة ، كما لا يخفى .

وقال في الذكرى :

« ظاهر العلماء المنعُ عن العمل بقول الميّت محتجّين بأنّه لا قولَ للميت ، ولهذا ينعقد الاجماعُ على خلافه ميّتا » .

------------------

من القول باللطف بقولنا : هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقّق الاجماع ، عدم مخالفة أحد من علماء العصر .

( وظاهره ) أي : ظاهر كلام الايضاح في مواضعه المتعدّدة ( : الانطباق على هذه الطّريقة ) أي : على قاعدة اللطف الّتي ذكرها الشيخ .

وذلك لأنّ قاعدة اللطف - كما عرفت - مبنيّة على عدم مخالفة أحد من العلماء ، في العصر الواحد بل اجتماع الكلّ على رأي واحد ، ممّا لو كان مخالفاً للواقع ، لوجب على اللّه سبحانه وتعالى من باب اللّطف ، اظهار المخالف ، حتّى لا تكون كلّ الأمّة على خلاف الواقع ( كما لا يخفى ) ذلك على من تأمّل فيما ذكرناه .

( وقال ) الشهيد الاول ( في الذكرى ) ما يؤّد هذا القول أيضاً حيث قال : ( ظاهر العلماء : المنع عن العمل بقول الميّت محتجين : بأنّه لا قول للميّت ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فانّ الانسان اذا مات انفقد ، وبذلك ينفقد تابعه الّذي هو قوله .

( ولهذا ) أي لأجل انّه لا قول للميت ( ينعقد الاجماع على خلافه ميّتاً ) (1)، فيما اذا كان كلّ علماء عصره ، الّذي توفي فيه ، يخالفونه في الرأي .

كما اذا ذهب علماء عصر واحد - مثلاً- إلى وجوب الجمعة وكان هو وحده من

ص: 9


1- - ذكرى الشيعة : ص3 .

واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع : « على أنّه لا قولَ للميّت ، بالاجماع على أنّ خلافَ الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنعُ من انعقاد الاجماع اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه فاذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قولُه غيرَ منظور إليه ، ولا يُعتَدّ به » ، انتهى .

------------------

بينهم ، يقول بالحرمة ، فاذا مات ، انعقد الاجماع على الوجوب ، لأنّ الّذي كان يقول بالحرمة قد مات ، فمات قوله بموته ، فلا مخالف للاجماع في العصر الثاني ، بعد موت ذلك العالم القائل بالحرمة ، فينحصر العلماء في القائلين بالوجوب ، فيكون الوجوب اجماعيّاً .

ومن المعلوم : انّ هذا الكلام - ايضاً - ممّا يشير إلى اللّطف الّذي ذكره شيخ الطائفة .

( واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع ، على انّه لا قول للميّت بالاجماع على انّ خلاف الفقيه الواحد ، لسائر أهل عصره ، يمنع من انعقاد الاجماع اعتداداً ) أي : اعتناءاً ( بقوله ) أي : لأجل الاعتناء بقول هذا الواحد ، لا ينعقد الاجماع ( و ) ذلك ( اعتباراً بخلافه ) أي خلاف هذا الواحد لاهل عصره ( فاذا مات ) هذا الواحد (وانحصر أهل العصر في المخالفين له ، انعقد ) بعد موته الاجماع ( وصار قوله غير منظور اليه ، ولا يعتدّ به (1) ، انتهى ) كلام المحقّق الثاني ، صاحب جامع المقاصد .

ومن المعلوم : انّ هذه العبارات كلّها - ايضاً - تشير إلى قاعدة اللطف ، الّتي ذكرها الشيخ في باب الاجماع .

ص: 10


1- - حاشية الشرائع : مخطوط .

وحكي عن بعض انّه حكى عن المحقّق الداماد انّه قدس سره ، قال في بعض كلام له ، في تفسير النّعمة الباطنة : « إنّ من فوائد الامام - عجّل اللّه فرجه - أن يكون مستندا لحجّية اجماع أهل الحلّ والعقد من العلماء على حكم من الأحكام إجماعا بسيطا في أحكامهم الاجماعيّة وحجّية إجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافيّة ،

------------------

( وحكي عن بعض : انّه حكى عن المحقّق الداماد : انّه قدس سره قال في بعض كلام له ، في تفسير النعمة الباطنة ) حيث انّ للّه سبحانه وتعالى نعماً ظاهرة ، ونعماً باطنة ، وقد اشار اليهما بقول سبحانه : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرِةً وَبَاطِنَةً » (1) .

قال : ( انّ من فوائد الامام ) الحجّة ( عجلّ اللّه ) تعالى ( فرجه أن يكون مستنداً لحجيّة اجماع أهل الحلّ والعقد ، من العلماء ) وقد تقدّم معنى : الحلّ والعقد ( على حكم من الأحكام ) سواء كان الحكم وجوباً ، أو حرمة ، أو غيرهما ، ( اجماعاً بسيطاً في أحكامهم الاجماعية ) والاجماع البسيط عبارة عن : اتّفاق الكلّ على حكم واحد ، كما اذا اتّفقوا جميعاً على وجوب الجمعة .

( وحجّية اجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافية ) والاجماع المركّب عبارة عن : اتّفاق الكلّ في شيء على قولين بحيث انّه لايجوز خلاف ذينك القولين .

كما اذا ذهب بعض الفقهاء : إلى حرمة الجمعة وبعض الفقهاء : إلى وجوب الجمعة فهذا هو الاجماع المركّب ، ومعناه : انّه قام اجماع الأمّة : على انّ الجمعة ، ليست مخيرة بين الظهر والجمعة ، فلا يجوز احداث القول الثالث ، لأنّه يعلم بأنّ القول الثالث خلاف الاجماع المركّب .

ص: 11


1- - سورة لقمان : الآية 20 .

فانه - عجّل اللّه فرجه - لا ينفرد بقول ، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الالهيّة أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المُختلفِ فيها ، من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره ، وصاحب أمره ، ويطابق قولهُ ، قوله وإن لم يكن ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه » ، انتهى .

وكأنّه لاجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد

------------------

( فانّه عجل اللّه ) تعالى ( فرجه لا ينفرد بقول ) مخالف للاجماع البسيط ، أو للاجماع المركّب ( بل من الرّحمة الواجبة في الحكمة الالهية ) من باب اللطف ( أن يكون في المجتهدين المختلفين ) على قول أو على أقوال ( في المسألة المختلف فيها : من علماء العصر من يوافق رأيه رأي امام عصره ، وصاحب أمره ، ويطابق قوله قوله ) « عجل اللّه تعالى فرجه » ( وان لم يكن ) هذا العالم ، الّذي يطابق رأيه رأي امام العصر ( ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه ، انتهى ) .

مثلا : اذا ذهبت الأمّة إلى وجوب الجمعة ، وكان الوجوب مخالفاً للواقع ، وجب على اللّه سبحانه وتعالى من باب اللطف : اظهار الحرمة أيضاً ، واذا ذهبت الأمة إلى قولين : قولاً بالوجوب ، وقولاً بالحرمة ، فاللازم ان يكون احد هذين القولين مطابقاً لقول الامام عليه السلام ، لكي لا يقع كلّ الاُمّة في الخلاف - على ما عرفت سابقاً - .

ومن الواضح : انّ قول المحقّق الداماد أيضاً ، يشير إلى قاعدة اللطف الّتي ذكرها شيخ الطائفة .

( وكأنّه لأجل مراعاة هذه الطريقة ) أي : طريقة اللطف الّتي تستلزم اتفاق الكلّ في عصر واحد ، فاذا خالف بعض لم يتحقق الاجماع ( التجأ الشّهيد ) الأوّل

ص: 12

في الذكرى إلى توجيه الاجماعات التي ادّعاها جماعةٌ في المسائل الخلافيّة مع وجود المخالف فيها بارادة غير المعنى الاصطلاحيّ من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم ،

------------------

( في الذكرى ، إلى توجيه الاجماعات ، الّتي ادّعاها جماعة ) من العلماء ( في المسائل الخلافيّة ، مع وجود المخالف فيها ) اذ كيف يدّعون الاجماع ، مع وجود المخالف ؟ مع وضوح : انّ الاجماع على مبنى المتقدّمين ، وهواللّطف ، لا يكون إلاّ بعدم استثناء حتّى واحد من العلماء .

والتوجيه يكون ( بارادة غير المعنى الاصطلاحي ) عند الامامية ( من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم ) فانّ المعالم ، حكى عن الشهيد في الذكرى : وجوهاً في صحّة ادّعاء العلماء الاجماع ، مع وجود المخالف .

أقول : وهذه عبارة الشهيد في الذكرى - كما حكي عنه - بالنصّ : يثبت الاجماع بخبر الواحد ، ما لم يعلم خلافه ، لأنّه أمارة قويّة كروايته ، وقد اشتمل كتاب الخلاف ، والانتصار ، والسرائر ، والغيبة ، على أكثر هذا الباب ، مع ظهور المخالف في بعضها ، حتّى من الناقل نفسه .

والعذر : امّا بعدم اعتبار المخالف المعلوم النسب - كما سلف - .

وامّا تسميتهم لما اشتهر : اجماعاً .

وامّا بعدم ظفره حين ادّعى الاجماع ، بالمخالف .

وامّا بتأييد الخلاف ، على وجه يمكن مجامعته لدعوى الاجماع - وان بعد - كجعل الحكم من باب التخيير .

وامّا اجماعهم على روايته ، بمعنى : تدوينهم في كتبهم ، منسوباً إلى الأئمّة عليهم السلام انتهى .

ص: 13

ولو جامع الاجماع وجود الخلاف ولو من معلوم النسب لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة مع بعدها او أكثرها .

الثالثُ : من طرق انكشاف قول الامام عليه السلام لمدّعي الاجماع الحدسُ ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطّأناه في استكشافه ، وهذا على وجهين :

------------------

وفي الاستدلال بكلام الشهيد ، على انّ المراد بالاجماع ، هو : الاجماع اللّطفي ما ذكره المصنّف بقوله : ( ولو جامع الاجماع ) في نظر الشهيد الأوّل ( وجود الخلاف ولو من معلوم النسب ، لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة مع بُعدها ) أي : بعد تلك التوجيهات ( أو أكثرها ) أي بعد أكثر تلك التوجيهات - على ما عرفتها - .

فعلم من كلام الشهيد الأوّل : انّ الاجماع هو من باب اللّطف ، ولذا يضرّه حتّى وجود المخالف الواحد .

وحيث قد تقدّم الاجماع الدخولي والاجماع اللطفي ، شرع المصنّف في بيان الاجماع الحدسي بقول : -

( الثالث من طرق انكشاف قول الامام عليه السلام لمدّعي الاجماع : الحدس ، و ) هو الّذي بنى عليه المتأخرون ، ويكون ( هذا ) الاجماع الحدسي (على وجهين : ) .

( أحدهما : أن يحصل له ) أي للناقل ( ذلك ) الحدس ( من طريق ) حسّي ( لو علمنا به ) أي : بذلك الطريق ( ما خطّأناه ) أي : الناقل ( في استكشافه ) للاجماع .

( وهذا ) القسم الأول أيضاً ( على وجهين ) :

ص: 14

احدهما : أن يحصل له الحدسُ الضروريّ من مباد محسوسة بحيث

يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحسّ ، فيكون بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار يحصل لنا العلمُ كما حصل له .

ثانيهما : أن يحصل الحدسُ له من إخبار جماعة

------------------

( أحدهما : أن يحصل له الحدس الضروري ، من مباد : محسوسة ) كأن يتتبع مدعي الاجماع ، أقوال جميع علماء الأعصار والأمصار ، فيراها قولاً واحداً ، فانّ مثل هذا حدس ضروري كاشف عن انّ سيّد الفقهاء ، وهو : الامام عليه السلام يوافقهم في رأيهم ، وإلاّ كيف أمكن لجميع العلماء على اختلاف مشاربهم ، وطرق استظهارهم واستنباطهم ان يتّفقوا على فتوى واحدة ( بحيث يكون الخطأ فيه ) أي في هذا الحدس ( من قبيل الخطأ في الحسّ ) .

فكما انّه لا يقع الخطأ في الحسّ الاّ نادراً - وقد ذكرنا بعض موارد الندرة سابقاً مثل رؤة الشيء الكبير على البُعد صغيراً ، ورؤة السراب ماءاً ، ورؤة الخطّين المتوازيين من بعيد متصلين ، وما اشبه ذلك ، ممّا لا يعتني العقلاء بإِحتمال الخطأ فيه ، الاّ اذا ثبت الخطأ فيه قطعاً كالأمثلة الّتي ذكرناها - كذلك الحدس المذكور ، فانّه لا يقع في الخطأ الاّ نادراً .

ومعلوم : انّ مثل هذا الحدس كالحسّ ضروري ( فيكون ) حدس هذا المدّعي للاجماع ( بحيث لو حصل لنا تلك الاخبار ) من التتبع لأقوال فقهاء الاعصار والأمصار ( يحصل لنا العلم ، كما حصل له ) أي : للناقل باستكشاف رأي الامام من هذا الطريق .

( ثانيهما ) أي ثاني القسمين ، الذين ذكرناهما في القسم الاول من الحدس ( : ان يحصل الحدس له ) لا من طريق حسّي ، بل ( من إخبار جماعة ) كالفقهاء

ص: 15

اتّفق له العلمُ بعدم اجتماعهم على الخطأ ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادةً للمطابقة لقول الامام عليه السلام ، بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة أيضا .

الثاني : أن يحصل ذلك من مقدّمات نظريّة واجتهادات كثيرة الخطأ ، بل علمنا بخطأ بعضها في موارد كثيرة من نَقَلَةِ الاجماع ،

------------------

الاعلام الذين هم مطّلعون على أقوال العلماء، كالشيخ ، والسَيّد، والمحقق ، والعلاّمة ، والشهيدين، وغيرهم ( اتّفق له ) أي : للناقل ( العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ) في الفتوى .

( لكن ليس اخبارهم ملزوماً عادة للمطابقة لقول الامام عليه السلام ) ملازمة عرفية لدى المتشرعة فليس ( بحيث لو حصل لنا ) هذه الاخبار عن هذه الجماعة التي ذكرنا اسماءهم - مثلاً - ( علمنا بالمطابقة أيضاً ) .

وعلى أي حال : ففي القسم الأوّل من الاجماع الحدسي نوعان : نوع حدسيّ ضروري ونوع حدسيّ غير ضروري .

أمّا القسم ( الثاني ) : من الاجماع الحدسي فهو ( أن يحصل ذلك ) الحدس بقول الامام عليه السلام للناقل ( من ) مبادي حدسيّة و ( مقدّمات نظريّة ، واجتهادات كثيرة الخطأ ) وعلى نحو الاجمال ، ( بل علمنا ) تفصيلاً ( بخطأ بعضها ) أي بعض تلك الاجتهادات ( في موارد كثيرة من نقلة الاجماع ) فان ادعاء هؤاء الاجماع ، مبني على اجتهاداتهم ، واجتهاداتهم على قسمين :

الاول : ما علمنا اجمالاً بخطأ بعضها .

الثاني : ما علمنا تفصيلاً ، بخطأ ذلك البعض .

وعلى أي حال : فالشيء الّذي يبنى على تلك الاجتهادات ، لا يمكن أن يؤذ به ، اما للعلم اجمالاً بخطأه ، أو للعلم تفصيلاً بخطأه .

ص: 16

علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد ، واستظهرنا ذلك منهم في موارد اُخر ، وسيجيء جملة منها .

إذا عرفتَ أنّ مستندَ خبر المخبر بالاجماع المتضمّن للاخبار من الامام عليه السلام ، لا يخلو من الامور الثلاثة المتقدّمة - وهي السماع عن الامام

------------------

ان قلت : من اين علمنا : ان هذا الناقل استند في نقله الاجماع ، الى اجتهادات نعلم خطأ كثير منها ، أو خطأ بعضها بالتفصيل ؟ .

قلت : ( علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم من موارد ) قد نقلوا فيها الاجماع وقالوا : انّ المسألة الفلانية اجماعية للآية الفلانية ، أو للحديث الفلاني ، أو للأصل ، أو ما أشبه ذلك .

كما ( واستظهرنا ذلك منهم ) أي : من الناقلين للاجماع ( في موارد اُخر ) فانّهم ، وان لم يذكروا في هذه الموارد الأخر : انّهم استندوا في نقل الاجماع إلى الاجتهاد الفلاني ، لكن القرائن الخارجية تدل على ان دعواهم للاجماع ، هذا مستندة إلى اجتهادات نعلم خطأها .

( وسيجيء جملة منها ) أي من تلك الموارد ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( اذا عرفت : انّ مستند خبر المخبر بالاجماع ) وخبر قوله « اذا عرفت » يأتي بعد أسطر حيث يقول : « وجب التوقف في العمل » ( المتضمّن ) هذا الخبر (للاخبار من الامام عليه السلام ) ولا يراد : التضمن الاصطلاحي المنطقي ، بل الأعم من ذلك ، فانه ( لا يخلو من الأمور الثلاثة المتقدّمة وهي : )

اولاً : ( السماع عن الامام ) عليه السلام الّذي كان بين المجمعين حتّى يكون الاجماع

ص: 17

مع عدم معرفته بعينه ، واستكشاف قوله من قاعدة اللطف ، وحصول العلم من الحدس ، وظَهَرَ لك أنّ الأوّل هنا غيرُ متحقق عادةً لأحد من علمائنا المدّعين للاجماع ، وأنّ الثاني ليس طريقا للعلم - فلا يُسمعُ دعوى من استند اليه ، فلم يبق ممّا يصلح أن يكون مستندا في الاجماعات المتداولة على ألسِنَة ناقليها إلاّ الحدسُ ، وعرفت أنّ الحدسَ قد يستند إلى مبادٍ محسوسة ملزومة عادةً لمطابقة قول الامام عليه السلام ،

------------------

دخولياً ( مع عدم معرفته ) عليه السلام ( بعينه ) كما عليه المتقدمون ، حيث انّه لو علم بعينه ، لم يكن من الاجماع في شيء ، وأنما كان من اخبار الامام عليه السلام .

( و ) ثانياً : ( استكشاف قوله ) عليه السلام بسبب الاتفاق المذكور ( من قاعدة اللّطف ) وهو الذي عليه الشيخ رحمه اللّه ، ومن تبعه .

( و ) ثالثاً : ( حصول العلم من الحدس ) وعليه المتأخرون .

هذا ( و ) قد ( ظهر لك أنّ الاوّل ) وهو الاجماع الدخولي ( هنا ) أي : في باب الاجماعات المنقولة من الفقهاء ( غير متحقق عادة ) في زمن الغيبة ( لأحد من علمائنا المدّعين للاجماع ) فان الشهيد ، أو العلامة ، أو من اشبة ، اذا ادعوا الاجماع نقطع بانهم لا يريدون الاجماع الدخولي ( وانّ الثاني : ) وهو اللّطف ( ليس طريقاً للعلم ) وذلك لما تقدّم من عدم وجوب اللّطف بالمعنى الذي ذكره الشيخ (فلا يسمع دعوى من استند اليه) أي: إلى اللّطف .

وعليه : ( فلم يبق ممّا يصلح أن يكون مستنداً في الاجماعات المتداولة على ألسِنَة ناقليها ، إلاّ الحدس ) وهو الامر الثالث من مستنداتهم في الاجماع .

كما ( وعرفت : انّ الحدس قد يستند إلى مباد محسوسة ، ملزومة عادة لمطابقة قول الامام عليه السلام ) كالحدس الّذي يحصل من اتفاق جميع علماء الأعصار

ص: 18

نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ، ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة او إلى مبادٍ محسوسة موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الامام عليه السلام من دون ملازمة عادية ، وقد يستند الى اجتهادات وأنظار .

------------------

والامصار ، حيث قد تقدّم بانه ( نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ) ، فاذا علم الانسان : باتفاق جميع العلماء ، منذ زمن الغيبة إلى اليوم ، ينكشف له من ذلك قول الامام، كما لو سمع الحكم من نفس الامام، أو رأى كتابته أو تقريره عليه السلام.

( و ) انّه ( نظير الحدس ) الضروري ( الحاصل لمن أخبر بالعدالة ) في العادل الفلاني ( والشجاعة ) في الشجاع الفلاني وذلك ( لمشاهدته ) أي هذا المخبر بالعدالة او الشجاعة ( آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال ) من تلك الاثار ( اليهما بحكم العادة ) أي إلى الشجاعة والعدالة ، وكذلك سائر الصفات النفسية كالسخاوة والجُبن ، ونحو ذلك عادة .

ولذا لا يستشكل على من يدّعي العلم بالعدالة ، أو الفسق ، أو الشجاعة ، أو الجُبن ، أو غير ذلك ، من الصفات النفسية : بأنك من أين عرفت هذه الاُمور ، والحال انها اُمور نفسانية لا تظهر للانسان ؟ .

( أو ) يستند الحدس ( إلى مباد محسوسة ، موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الامام عليه السلام ، من دون ملازمة عادية ) بين الأقوال الّتي تصفحها هذا الناقل للاجماع ، وبين قول الامام عليه السلام ، كما اذا كان الحدس بقوله عليه السلام من اتفاق عشرة ، أو عشرين ، أو ما اشبه من كبار الفقهاء ( وقد يستند ) الحدس ( الى اجتهادات وانظار ) كلّها ، أو جلّها مخالفة لاجتهاداتنا وانظارنا، كالاجماع المستند إلى أصل

ص: 19

وحيثُ لا دليلَ على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس ، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني ، ولم يكن هناك ما يعلم به كونُ الاخبار مستندا إلى القسم الأوّل من الحدس ، وجب التوقفُ في العمل بنقل الاجماع ، كسائر الأخبار المعلوم استنادُها الى الحدس المردد بين الوجوه المذكورة .

------------------

أو نحوه ، مما لا نراه نحن من صغريات ذلك الأصل .

( وحيث لا دليل على قبول خبر العادل ، المستند إلى القسم الاخير من الحدس ) وانّما الدليل على القسمين الأوّلين من الحدس ، حيث قد عرفت انّ الحدس على ثلاثة أقسام .

( بل ولا ) الحدس ( المستند الى الوجه الثّاني ) لما سبق : من انّ أدلة خبر العادل ، لا تدل الاّ على نفي احتمال الكذب فقط ، ولا دليل على اصالة : عدم خطأ الانسان في حدسه ، اذا لم يسبب حدس الناقل للاجماع حدسنا أيضاً ( ولم يكن هناك ) عند نقل الناقل للاجماع ( ما ) أي قرينة ( يعلم به ) اي ، بسبب تلك القرينة ( كون الاخبار ) عن قول الامام عليه السلام ( مستنداً إلى القسم الأوّل من الحدس ) ، أي : لا نعلم انّ الناقل استند إلى الحدس الضروري ، حتّى يكون من قبيل الاخبارات الحسّية .

( وجب التوقف في العمل ) وهذا جواب ما تقدّم من قوله : « اذا عرفت » .

وعليه : فلا نتمكن ان نعمل نحن ( بنقل الاجماع ، كسائر الاخبار المعلوم استنادها الى الحدس ، المردد بين الوجوه المذكورة ) أي : الاقسام الثلاثة من الحدس ، فاذا اخبر انسان بشيء ، ولم نعلم انّه من القسم الأوّل الّذي هو حجة ، أو القسم الثاني ، أو الثالث ، وهما غير حجة ، فلا نتمكن أن نأخذ بخبره ، كما اذا اخبر

ص: 20

فان قلتَ : ظاهرُ لفظ الاجماع اتفاقُ الكل ، فاذا أخبر الشخصُ بالاجماع فقد أخبر باتفاق الكلّ ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتفاق الكلّ كالضروريّ فحدس المخبر مستندٌ إلى مبادٍ محسوسة ملزومة لمطابقة قول

------------------

شخص بشجاعة زيد ، ولم نعلم انّه رأى منه شهامةً في حرب ، أو فتحاً في غزوة ، وما أشبه ذلك مما يستلزم عادة الشجاعة ، أو رأى منه موقفاً واحداً فاتفق له العلم بشجاعته ، مع ان ذلك الموقف لم يكن ، ملازماً للشجاعة عادة ، أو لم ير منه أثراً ، الاّ انّه راى كبر جسمه ، وعظم هيكله ، فحدس بشجاعته ، وأخبر عنها ، فانه لا نتمكن نحن أن نقول : بأنّ زيداً شجاع ، لأنّ الاخبار بشجاعته ، كان مردداً بين الوجوه الثلاثة ، الّتي لم يكن بعضها حجة ، وكذلك لو أخبر بالعدالة ، ونحوها من الصفات النفسية ، الّتي قد يقطع الانسان من اثارها عادة بها ، وقد لا يقطع بها عادة ، وقد يكون من القسم الثالث ، الّذي هو صرف اجتهاد محض ، واستنباط ليس بحجة .

( فان قلت : ) ذكرتم : انّ محتملات الاجماع الحدسي على ثلاثة اقسام قسمان منها ليس بحجة ، وقسم واحد حجة ، فاذا ادّعى المدّعي الاجماع ، ولم نعلم انّه من اي الاقسام الثلاثة لم يكن اجماعه حجّة .

قلت : ما ذكرتم ليس بصحيح ، لأنّ ( ظاهر لفظ الاجماع : اتفاق الكلّ ، فاذا أخبر الشخص بالاجماع ، فقد أخبر باتفاق الكل ) والناقل عادل ، فيكون اخباره صحيحاً ( ومن المعلوم : انّ حصول العلم بالحكم ) الصادر من الامام عليه السلام، المستند إلى الاجماع ، الحاصل ( من اتفاق الكلّ كالضروري ) في الحجّية .

وعليه : ( فحدس المخبر ، مستند إلى مبادٍ محسوسة ، ملزومة لمطابقة قول

ص: 21

الامام عليه السلام ، عادةً ، فامّا أن يُجعل الحجّةُ نفس ما استفاده من الاتفاق ، نظير الاخبار بالعدالة ، وإمّا أن يُجعل الحجّة إخبارهُ بنفس الاتفاق المستلزم عادةً لقول الامام عليه السلام ، ويكون نفسُ المخبر به حينئذٍ محسوسا ، نظير إخبار الشخص بامور يستلزم العدالة والشجاعة عادةً .

------------------

الامام عليه السلام ) لزوماً ( عادة ) لما تقدّم : من ان تتبع الأسباب يوجب العلم بالمسبب، وأقوال الفقهاء سبب للعلم ، بقول الامام عليه السلام .

( فأمّا أن يجعل الحجّة نفس ما استفاده من الاتفاق ) وهو : قول الامام عليه السلام ، أي : المسبب ( نظير الاخبار بالعدالة ) فان من يخبر بالعدالة ، يكون قوله حجّة ، وان كانت العدالة مسببة عن الأسباب الّتي رأها المخبر ، لانّ العدالة لا تشاهد ، و انّما تعرف بالاثار .

( وأمّا أن يجعل الحجّة ، اخباره بنفس الاتفاق ، المستلزم عادة لقول الامام عليه السلام) أي ان مدّعي الاجماع يدّعي : امّا السبب ، وهو اتفاق الكل ، واّما المسبب وهو قول الامام عليه السلام وكلاهما حجة ( ويكون نفس المخبر به حينئذٍ محسوساً ، نظير اخبار الشخص بامور يستلزم العدالة ) عادة .

فكما ان قول القائل : زيد متورِّع عن المعاصي ، وملتزم بالواجبات ، وما اشبه ، اخبار عن السبب ، وحجّة ، أو اخبار عن المسبب ، أي : العدالة وحجة أيضاً ، كذلك ناقل الاجماع ، فانه سواء اراد نقل السبب أو المسبب ، يكون حجّة ، لانه نقل لقول المعصوم ، أو السبب الكاشف عن قول المعصوم ، كاخبار الشخص ، بأسباب العدالة ، ( والشجاعة ) والجُبن ، والكرم ، وما اشبه مما تكون تلك الأسباب ملازمة لهذه الصفات ( عادة ) وعلى هذا : فلماذا لا يكون نقل الاجماع الحدسي موجباً للكشف عن قول المعصوم الذي هو حجة ؟ .

ص: 22

وقد أشار إلى الوجهين بعضُ السادة الأجلّة في شرحه على الوافية ، فانّه قدس سره ، لمّا اعترض على نفسه : ب« أنّ المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواسّ ، والمخبر بالاجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ، ومجرّد الشكّ في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه » .

أجاب عن ذلك : بأنّ المخبر هنا أيضا يرجع إلى الحس فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللّطف وغيره .

------------------

( وقد أشار إلى الوجهين ) أي حجية نقل السبب أو المسبب ( بعض السّادة الأجلّة ) وهو : الكاظمي رحمه اللّه ( في شرحه على الوافية ، فانّه قدس سره لمّا اعترض على نفسه : بأنّ المعتبر من الاخبار ، مااستند إلى احدى الحواس ) الظاهرة ، وهي : اللامسة ، والشامّة ، والذائقة ، والسّامعة ، والباصرة ( والمخبر بالاجماع ) لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، ولم ير تقريره ولا غير ذلك مما يرجع إلى الحواس ، و ( انمّا رجع ) الناقل للاجماع ، في استكشافه قول الامام عليه السلام ( الى بذل الجهد ) وتتبع أقوال العلماء في الكشف وهو أمر حدسيّ ، وليس بحسّي ، ( ومجرّد الشّك في دخول مثل ذلك في الخبر ، يقتضي منعه ) أي : منع الدخول ، فاذا شككنا في انّ هذا الخبر الحدسي ، يدخل في ادلة حجّية الخبر الواحد ، وان تلك الادلّة تشمل الاجماع ، ام لا ؟ فأصالة حرمة العمل بالظن، تقتضي : أن لا يكون الاجماع من الخبر ، فلا يشمل الاجماع أدلّة حجية الخبر.

( أجاب عن ذلك : بأنّ المخبر هنا - أيضاً - يرجع إلى الحسّ ، فيما يخبر عن العلماء ، وان جاء العلم بمقالة المعصوم عليه السلام من مراعاة أمر آخر ) من الأدلّة على حجّية الاجماع ( كوجوب اللّطف ) الّذي ذكره الشيخ ( وغيره ) كالحدس .

ص: 23

ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الاجماع على مقالة المعصوم عليه السلام ، فالاخبار إنّما هو بها ، ولا ترجعُ إلى حس .

فأجاب عن ذلك : أوّلاً ، بأنّ مدارَ الحجّية وإن كان ذلك ، لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه السلام معلومٌ لكلّ أحد ، لا يحتاجُ فيه إلى النقل ، وإنّما الغرضُ عن النقل ثبوتُ الاتفاق . فبعد اعتبار خبر الناقل لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحسّ

------------------

فان الناقل حينما ينقل اجماع العلماء على حكم كان ذلك اخباراً عن حسّ .

ومن الواضح : ان قول الامام عليه السلام ، ملزوم لهذا الشيء الحسّي من باب اللّطف ، أو من باب الحدس ، أو غير ذلك .

( ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الاجماع ، على مقالة المعصوم عليه السلام ، فالاخبار انّما هو بها ) أي : بمقالة المعصوم ( و ) الحال ان مثل هذه المقالة ( لاترجع إلى حسّ ، فاجاب عن ذلك : أولاً ) : ان الناقل انّما نقل السبب ، ويكفي نقل السبب في ثبوت المسبب وذلك (ب- ) واسطة ( انّ مدار الحجّية ، وان كان ذلك) الّذي ذكره : من الرجوع إلى الحسّ (لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء ) المتفقين على حكم ( لمقالة المعصوم عليه السلام معلوم لكلّ احد ، لا يحتاج فيه ) أي : في ذلك الاستلزام ( إلى النقل ) ، فان كل احد يعلم : بان اتفاق الكل ملازم لمقالة المعصوم ، فلا حاجة إلى أن ينقل كلام المعصوم بالنص ( وانّما الغرض ) الأصلي ( عن النقل : ثبوت الاتفاق ) لجميع العلماء ، فان الناقل ينقل اتفاق جميع العلماء.

( فبعد اعتبار خبر النّاقل لوثاقته ) إذ المفروض انّ ناقل الاجماع عادل ، موثق كلامه ، صحيح ، ولا يحتاج إلى الفحص ( ورجوعه في حكاية الاتفاق ) ونقل الاجماع ( الى الحسّ ) وذلك اما بالسماع منهم ، كما اذا كانوا في عصر واحد ،

ص: 24

كان الاتفاق معلوما ، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم للملازمة المعلومة لكلّ أحد .

وثانيا ، انّ الرجوع في حكاية الاجماع الى نقل مقالة المعصوم لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ، باعتبار أن الاتفاق من آثارها ، ولا كلامَ في اعتبار مثل ذلك ، كما في الاخبار بالايمان والفسق والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات ،

------------------

أو بالرؤة في كتبهم ، أو بالأمرين معاً ( كان الاتفاق معلوماً ) لنا شرعاً ، لان الناقل

ثقة فيما يدعي من اتفاقهم .

( ومتى ثبت ذلك ) الاتفاق ( كشف ) بالبداهة ( عن مقالة المعصوم ) عليه السلام ، فلا حاجة إلى ان ينقل قول المعصوم مباشرة ، اذ لو كان هناك سبب ومسبب ، فنقل الناقل السبب كان كما اذا نقل المسبب وذلك ( للملازمة المعلومة لكلّ أحد ) بين اتفاق العلماء ، وبين قول المعصوم .

هذا كله اذا كان غرض الناقل السبب ( و ) اما اذا كان غرضه المسبب فنُجيب :

( ثانياً ) بأنّ غرض الناقل : نقل قول الامام عليه الصلاة والسلام ف( انّ الرّجوع في حكاية الاجماع ، إلى نقل مقالة المعصوم عليه السلام ، لرجوع الناقل في ذلك ) أي : في نقل قول الامام عليه السلام ( الى الحسّ ، باعتبار انّ الاتفاق ) المحسوس للناقل ( من آثارها )، أي : من اثار مقالة المعصوم عليه السلام ، فان أثر الاتفاق هو : مقالة المعصوم ومقالة المعصوم هو : المؤر لهذا الاتفاق .

( ولا كلام في اعتبار ) وحجيّة ( مثل ذلك ) الحدس الّذي حصل من الحسّ ( كما في الاخبار بالايمان ، والفسق ، والشجاعة ، والكرم ، وغيرها من الملكات ) النفسيّة الّتي لا تُرى بالعين ، وانّما يَرى الانسان اثارها ، فاذا رأى اثارها صح له أن

ص: 25

وانّما لا يرجع إلى الاخبار في العقليّات المحضة ، فانّه لا يعوّل عليها ، وإن جاء بها ألف من الثقات حتى يدرك مثل ما أدركوا .

ثمّ أورد على ذلك : بأنّه يلزم من ذلك الرجوعُ إلى المجتهد ، لأنّه وإن لم يرجع إلى الحسّ في نفس الأحكام الاّ أنّه رجع في لوازمها وآثارها إليه

------------------

يخبر بهذه الصفات ، أو يخبر بالاثار الّتي هي ملازمة لتلك الصفات .

( وانّما لايرجع إلى الاخبار ) اي : لا يكون خبر المخبر ، حجّة ، وان ذكر اتفاق العلماء جميعاً ، لانّ الاجماع ( في العقليّات المحضة ) ليس بحجّة ، كما اذا نقل - مثلاً - اتفاق العلماء على حدوث العالم ، أو استحالة التناقض ، أو ما أشبه ذلك ، فان اللازم ان يرجع الانسان فيها الى الادلّة العقلية ، لأنّه لا شأن للاجماع في مثل هذه الامور ( فانّه لا يعوّل عليها ) أي : على الاخبار ( وان جاء بها الف من الثقات ، حتّى يدرك ) هذا المنقول اليه اجماعهم على الامور العقلية ( مثل ما ادركوا ) من الدليل العقلي عليها .

والحاصل : انّ الاجماع انّما هو حجّة في الشرعيات ، لا في العقليات .

( ثمّ أورد ) الكاظمي رحمه اللّه ( على ذلك ) ، أي ، على حجيّة الاخبار عن حدس ، فيما اذا كان مستنداً إلى الاثار الحسّية ، كالاجماع المستند إلى ما رآه مدعي الاجماع من اقوال العلماء ، فحدس بقول المعصوم من أقوالهم ( بأنّه يلزم من ذلك الرّجوع الى المجتهد ) ، أي اذا جاز استكشاف حكم المعصوم ، من فتوى المجتهدين بسبب نقل الاجماع جاز ايضاً ان نجعل آراء المجتهدين روايات المعصومين عليهم السلام ، وذلك ( لأنّه ) أي المجتهد ( وان لم يرجع إلى الحسّ في نفس الاحكام ) لأنّه لم يسمع الحكم الّذي يفتي به من الامام عليه السلام ( الاّ انّه رجع في لوازمها ) أي : لوازم الأحكام ( وآثارها اليه ) أي إلى الحس .

ص: 26

وهي الأدلة السمعيّة ، فيكون روايةً ، فلم لا يقبل اذا جاء به الثقةُ .

وأجاب : بأنّه إنّما يكفي الرجوعُ إلى الآثار إذا كانت الآثار مستلزمةً عادةً .

------------------

والفرق بين اللّوازم والآثار : ان الآثار اخص من اللّوازم ، فان اللّوازم تشمل الملازم - أيضاً - دون الآثار ، فان لازم النار - مثلاً - الحرارة ، امّا الطبخ للطعام ، فهو من آثار النار ، وان صَدَقَ عليه اللازم أيضاً ، باعتبار انّه مسبب من النار .

( و ) تلك المبادى ء الحسية ( هي : الأدلّة السمعيّة ) فكما انّ ناقل الاجماع لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، بل وصل حدسه إلى الحكم من مباديء حسّية - وتلك المباديء عبارة عن تصفحه في أقوال الفقهاء ، وحصول اتفاقهم لديه - كذلك يكون حال المفتي ، فانه لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، بل وصل اليه حدسه من المباديء الحسّية الّتي هي عبارة عن الكتاب ، والروايات ، والاجماعات ، والعقل .

فاذا كان الاجماع المنقول في حكم الحديث كما يدّعيه المدّعي ( فيكون ) الفتوى من المجتهد ايضاً ( رواية ) لأنّ ما ذكرتم في الاجماع المنقول ، آتٍ في الفتوى أيضاً ، ( فلم لا يقبل اذا جاء به ) المجتهد ( الثقة ) ؟ .

والحاصل : انّ الفتوى والاجماع ، بمنزلة واحدة ، لأن مبادئهما معاً حسّية ، وكشفهما عن قول المعصوم معاً حدسي ، فامّا ان يقبلا معاً كرواية أو لا يقبلا معاً كذلك .

( وأجاب ) الكاظمي رحمه اللّه : ( بأنّه ) ليس نقل الاجماع ، كنقل الفتوى ، لأنّه ( انّما يكفي الرّجوع إلى الآثار ، اذا كانت الآثار مستلزمة عادة ) للمؤر والاجماع مستلزم عادة لقول المعصوم بخلاف فتوى الفقيه ، فانّ فتوى الفقيه ، ليس مستلزماً لقوله عليه السلام عادة لما نعلم من كثرة الخطأ والاختلاف في فتاواهم .

ص: 27

وبالجملة : إذا افادت اليقين ، كما في آثار الملكات وآثار مقالة الرئيس ، وهي مقالة رعيّته ، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهدُ من الدليل على الحكم .

ثمّ قال : على أن التحقيق في الجواب عن السؤال الأوّل هو الوجه الأوّل ،

------------------

( وبالجملة اذا افادت ) الآثار ( اليقين ) بقول المعصوم عليه السلام (كما في آثار الملكات ) فانّ الانسان يكشف من آثار العدالة ، أو الجُبن ، أو الكرم ، أو الفسق ، أو ما أشبه تلك الملكات النفسيّة ، لأنّ الآثار الحسّية المتعددة ، مستلزمة للمؤر الحدسي ، الّذي هو الملكة .

( و ) كما في ( آثار مقالة الرئيس وهي ) أي : تلك الاثار ( مقالة رعيّته ) فان الانسان اذا وجد آثارا في البلاد ، يقطع منها أنها بأمر رئيسهم ومقالته ، فاذا رأينا المحاكم تفعل كذا ، بالنسبة الى السارق ، أو الزاني ، أو ما أشبه نقطع بأنّها من أمر الرئيس .

والفقهاء حيث انّهم رعايا الامام عليه السلام ، وهم عدول لا يريدون التخطي عن قوله، فاذا اتفقوا على شيء ، كشف ذلك عن ان هذا الشيء هو رأي الامام وحكمه.

( وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدّليل ) لوضوح انّ الدليل الّذي يقيمه المجتهد من الكتاب ، أو السنة ، أو الاجماع ، أو العقل ( على الحكم ) ليس من الاثار القطعية للحكم ، لما عرفت من كثرة الاختلاف والخطأ ، في فتاواهم ، بل في فتاوى مجتهد واحد ، فهل يمكن ان تكشف فتاواهم هذه عن انها رواية ؟ .

وعلى أي حال : فقياس الفتوى بالاجماع ، قياس مع الفارق .

( ثمّ قال ) الكاظمي رحمه اللّه : ( على انّ التحقيق في الجواب عن السّؤل الاوّل ، هو : الوجه الاول ) اذ قد أشكل الكاظمي على حجيّه الاجماع بأمرين :

ص: 28

وعليه ، فلا أثر لهذا السؤال ، انتهى .

قلتُ :

------------------

الأمر الأوّل : ان كشف الاجماع عن حكم الامام حدسي ، ودليل الخبر لا يشمل الحدسيات ، بل الحسّيات فقط .

والثاني : لو كان الاجماع حجة ، لزم ان يكون الفتوى أيضاً حجة .

ثم اجاب عن الاشكال الثاني : بأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ الفتوى ليس كالاجماع .

واجاب عن الأول بجوابين :

الجواب الأول : انّا نأخذ من الاجماع جانبه السببي وهو : نقل اتفاق الكل ، وهو أمر حسّي ملازم لقول المعصوم عليه السلام .

والجواب الثاني : إنّا نأخذ من الاجماع جانبه المسببّي وهو : نقل قول المعصوم عليه السلام ، وهو أمر حدسي .

لكنا نأخذ بالجواب الأوّل الّذي هو حسّي ، فلا يبقى مجال لان يستشكل علينا : بأنّ الخبر لا يشمل الحدسي ، اذ الاجماع انّما يفيدنا للأمر الخارجي المحسوس ونحن نستشكف من هذا الأمر الخارجي - وهو : اتفاق الكل - قول المعصوم عليه السلام .

( و ) ان قلت بناءاً (عليه ) أي : على اخذ الاجماع من جانبه الحسّي، لا الحدسي، ( فلا أثر لهذا السؤل ) (1) الذي اشكل : بان الاجماع خبر حدسي ، فلا يشمله ادلة خبر الواحد ، لانّا قد ذكرنا انا نأخذ جانبه الحسّي ، لا الحدسي ( انتهى ) كلام الكاظمي .

( قلت ) الاجماع ليس مستنداً إلى مبادي محسوسة ، ممّا يستلزم قول

ص: 29


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إنّ الظاهر من الاجماع اتفاقُ أهل عصر واحد ، لا جميع الأعصار ، كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم ، ومن المعلوم أن إجماع أهل عصر واحد مع قطع النظر عن موافقة أهالي الاعصار المتقدمة ومخالفتهم ، لايوجبُ عن طريق الحدس العلمَ الضروري بصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، ولذا قد يتخلّف ، لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو اكثرهم ، نعم ، يفيد العلمَ من باب وجوب اللّطف الذي لا نقول بجريانه في المقام ،

------------------

المعصوم ، حتى يكون من قبيل : قول الرئيس ومرئوسيه ، لان ظاهر الاجماع ليس هو اتفاق الكل ، بل ( انّ الظاهر من الاجماع ) - على ما عرفت في الاصطلاح الفقهائي عند الشيعة - هو : ( اتفاق أهل عصر واحد لا جميع الأعصار ، كما يظهر من تعاريفهم ، وسائر كلماتهم ) التي نقلنا جملة منها .

( ومن المعلوم : انّ اجماع أهل عصر واحد ، مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة ، ومخالفتهم ) وهكذا بالنسبة إلى الأعصار المتأخرة بان كان في عصر العلامة اتفاق الكل ، ثم في عصر الشهيد اختلفوا ، فانه ( لا يوجب عن طريق الحدس ، العلم الضروري بصدور الحكم عن الامام عليه السلام ) حتّى يكون حسّاً يلازم قول الامام .

( ولذا قد يتخلّف ) الاجماع عن كشف قوله عليه السلام ، اذ ليس المقام من باب الآثار والملكات ، وذلك ( لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو أكثرهم ) للاجماع المتأخر ، أو مخالفة الاجماع المتقدم للخلاف المتأخر - على ما عرفت - .

( نعم ، يفيد ) الاجماع لأهل عصر واحد - كما هو الاصطلاح - ( العلم ) بقوله عليه السلام ( من باب وجوب اللّطف الّذي لا نقول بجريانه ) أي : بوجوب اللّطف ( في المقام ) أي : في مقام الفتوى ، وان كنّا نقول : بوجوب اللّطف في إرسال

ص: 30

كما قرّر في محلّه ؛ مع انّ علماء العصر اذا كثروا ، كما في الأعصار السابقة ، يتعذّر او يتعسّر الاطلاعُ عليهم حسّا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ، الاّ إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الاحاطة برأيهم في

------------------

الرسل ، وإنزال الكتب ، ونصب الائمة عليهم السلام .

وعلى أي حال : فاتفاق علماء عصر واحد ، لا يوجب القطع بقول الامام عليه السلام ، على أي وجه كان .

لا من باب الدخول ، لانك قد عرفت : انّه لا يمكن الدخول عادة في عصر الغَيبَة .

ولا من باب اللّطف ، لأنّا لا نقول باللّطف .

ولا من باب الحدس ، لأنّه لا ملازمة ( كما قرّر في محله ) .

نعم ، أحياناً يوجب الحدس ، بالنسبة إلى بعض الناس ، لكن مثل ذلك لا يمكن أن يكون دليلاً ، كدلالة الكتاب ، والسنة ، والعقل .

هذا كله هو الاشكال على حجيّة الاجماع في الكبرى .

( مع ) انّ هناك اشكالاً على الاجماع من حيث الصغرى ، وهو : عدم تحقق العلم باتفاق علماء عصر واحد ، لكثرة العلماء ، وذلك ( انّ علماء العصر اذا كَثَروا ، كما في الأعصار السّابقة ) بل واللاحِقة ( يتعذّر أو يتعسّر ) تعسراً شديداً جداً ( الاطلاع عليهم حسّاً ، بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ) .

فانّه ، لا يمكن لاحد من الفقهاء ان يدعي ، انّه رأى قول جميع فقهاء عصره ، المنتشرين في العالم الاسلامي ، من الهند إلى باكستان ، إلى أفغان وايران ، إلى العراق والخليج ، إلى لبنان وسوريا ، وإلى سائر البلاد الّتي يكثر فيها العلماء .

( إلاّ اذا كان العلماء في عصر قليلين ، يمكن الاحاطة برأيهم في

ص: 31

المسألة فيدّعي الاجماع ، إلاّ أنّ مثل هذا الأمر المحسوس لايستلزمُ عادةً لموافقة المعصوم عليه السلام .

فالمحسوسُ المستلزم عادةً لقول الامام عليه السلام مستحيلُ التحقّق للناقل ، والممكن المتحقّق له غيرُ مستلزم عادة .

وكيف كان ، فاذا ادّعى الناقلُ الاجماع ، خصوصا إذا كان ظاهره إتفاق جميع علماء الأعصار او أكثرهم إلاّ من شذّ - كما هو الغالبُ في اجماعات مثل

------------------

المسألة ، فيدّعي ) المدعي ( الاجماع ) الاصطلاحي ، وهو : توافق جميع علماء العصر .

( الاّ انّ مثل هذا الأمر المحسوس ) أي : اتفاق علماء العصر فيما اذا كان العلماء قليلين فرضاً ( لا يستلزم عادة ، لموافقة المعصوم عليه السلام ) اذ المتعدد القليل من المرئوسين ، لا يستلزم قولهم قول الرئيس ، فاذا كان هناك رئيس ومرئوسان فقط او ثلاثة مرئوسين ، فهل يستلزم اتفاق هذين الاثنين أو الثلاثة ، تطابق قولهم مع قول الرئيس .

والحاصل : ( فالمحسوس المستلزم عادة لقول الامام عليه السلام ، مستحيل التحقّق للناقل ) الّذي نقل الاجماع ، وذلك لعدم امكان احاطة الناقل بأقوال الفقهاء كلهم ( والممكن المتحقق له ) أي للناقل ( غير مستلزم عادة ) لموافقة الامام عليه السلام .

( وكيف كان ) أي : سواء كان الاشكال في الصغرى ، أو الكبرى - على ما بيناه - (فاذا ادعى الناقل : الاجماع ، خصوصاً اذا كان ظاهره : اتفاق جميع علماء الأعصار ) لا عصر واحد ( أو أكثرهم الاّ من شذّ ، كما ) ان هذا الاجماع المراد به أحد المعنيين : من اتفاق جميع العلماء ، أو اكثرهم ( هو الغالب في اجماعات مثل

ص: 32

الفاضلين والشهيدين - انحصر محمله في وجوه : أحدُها : أن يراد به اتفاقُ المعروفين بالفتوى دون كلّ قابل للفتوى من أهل عصره او مطلقا .

الثاني : أن يريد اجماعُ الكلّ ، ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره ،

------------------

الفاضلين ) وهما : المحقق صاحب الشرائع ، والعلامة الحلّي ( والشهيدين ) وهما : الشهيد الأوّل والشهيد الثاني صاحبي اللّمعة وشرحها .

( انحصر محمله ) أي : محمل الاجماع ( في وجوه ) وانّما احتجنا إلى هذه المحامل ، لأنّا نعلم : انّ الناقل للاجماع ، حتّى مثل العلامة والشهيد وأضرابهما ، لا يريدون بالاجماع : اجماع جميع فقهاء الأعصار والأمصار ، لانه مما جرت العادة ان لا يحصل لانسان العلم بأقوال جميعهم ، بل وحتى العلم بأقوال أكثرهم ، فاللازم : أن نحمل اجماعاتهم على بعض هذه الوجوه :

( أحدها : أن يراد به ) أي : بالاجماع غير معناه المصطلح ، بل يريد بالاجماع (اتفاق المعروفين بالفتوى ) من المجتهدين الذين لهم ملكة الاستنباط ، أو قد استنبطوا ، لكن لم يفتوا للناس ، أو افتوا لكن فتاواهم لم تدرج في الكتب ، والحاصل : انّه بدعواه الاجماع يريد المعروفين ( دون كلّ قابل للفتوى من أهل عصره ، أو مطلقاً ) سواء كان اهل عصره أو أهل العصور المتقدمة .

( الثاني : أن يريد اجماع الكلّ ) أي : جميع علماء الاعصار والأمصار ( ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره ) بأن يرى اتفاق هؤاء المعروفين ، وانّه ليس هناك مخالف اطلاقاً ، ولا اشارة إلى الخلاف ، فيقطع منه باتفاق جميع أهل عصره ، وأهل الأعصار المتقدمة ، لأنّ من عادة العلماء ، الاشارة

ص: 33

وهذه الاستفادة ليست ضروريّة وإن كان قد تحصل ، لانّ اتفاق أهل عصره ، فضلاً عن المعروفين منهم ، لا يستلزمُ عادةً اتفاق غيرهم ومَن قبلهُم ، خصوصا بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد ، لا يسع هذه الرّسالةُ لذكر معشارها ، ولو فرض حصولهُ للمخبر كان

------------------

إلى الخلاف في المسألة اذا كانت خلافية ، خصوصاً في كتبهم المفصلة .

( و ) من المعلوم : ان ( هذه الاستفادة ، ليست ضروريّة ) بان ينتقل الانسان من المقدمات إلى النتائج ، كانتقاله من ظواهر العدالة إلى العدالة ، أو من ظواهر الشجاعة إلى الشجاعة ، وغير ذلك مما قد تقدّم ( وان كان قد تحصل ) هذه الاستفادة لبعض الناس ، لكنه ليس معياراً كلياً حتّى يقال : انّ الاجماع حجّة ، بل الحجّة هو القطع سواء حصل من مثل دعوى الاجماع أوغيره .

وذلك ( لأنّ اتفاق أهل عصره - فضلاً عن المعروفين منهم - لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم ) من أهل هذا العصر ، الذين لم يعرف فتاواهم ( و ) كذا لا يستلزم اتفاق ( من قبلهم ) من العلماء إلى زمان الائمة عليهم السلام ، ( خصوصاً بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد ) ، فانّا كثيراً ما نشاهد اتفاق علماء العصر ، أو المعروفين منهم على حكم ثم عندما ندقق الفحص نجد عدم الاجماع حتّى في أهل العصر الواحد ، فكيف بالعصور المتوالية ، وهذا التخلف بحدٍ من الكثرة بحيث ( لا يسع هذه الرّسالة لذكر معشارها ) أي : لا يسع ذكر حتّى العشر من تلك الاجماعات الّتي تتبعناها ، فرأينا تخلفها ، وعدم اتفاق حتّى بعض أهل العصر فيها .

( ولو فرض حصوله ) أي حصول استفادة الكل من اتفاق البعض ( للمخبر كان

ص: 34

من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلمَ عادةً .

نعم ، هي أمارة ظنّية على ذلك ، لأنّ الغالب في الاتفاقيّات عند أهل عصر كونُه من الاتفاقيّات عند مَن تقدّمهم ، وقد يحصل العلم بضميمة أمارات اُخر .

لكنّ الكلام في كون الاتفاق مستندا إلى الحسّ او إلى حدس لازم عادةً للحسّ .

------------------

من باب الحدس ، الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة ) فان الحدس قد يكون قطعياً ، وقد يكون غير قطعي ، كما اذا رأى شجاعة من زيد في مقام واحد ، أو في مقامين ، فانّه لا يمكن ان يقول : انّه شجاع بقول مطلق ، وكذا اذا رأى عدله في مقام أو مقامين ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

نعم ، قد يحصل القطع لبعض الأفراد من مثل ذلك ، لكن الكلام في القاعدة الكليّة لا في الأفراد النادرة .

( نعم ، هي ) أي : موافقة فقهاء أهل العصر على حكم ، أو اتفاق المعروفين من أهل عصر على حكم ( امارة ظنيّة على ذلك ) أي : على اتفاق الكل ( لأنّ الغالب في الاتفاقيات عند أهل عصر ، كونه من الاتفاقيات عند من تقدّمهم ) من العصور السابقة أيضاً .

هذا ، ( وقد يحصل العلم ) باتفاق الكل ، من اتفاق أهل عصر واحد ( بضميمة امارات اُخر ) كدلالة آية ، أو رواية معتبرة ، أو أصل معتبر ، أو ما اشبه ذلك .

( لكن الكلام : في كون الاتفاق مستنداً إلى الحسّ ، أو إلى حدس لازم عادة للحسّ ) وليس الكلام من باب القضايا الاتفاقية الّتي ذكرناها .

ومن المعلوم : انّ حصول العلم إتفاقاً ، لا يكون مستنداً إلى الحسّ ،

ص: 35

واُلحِق بذلك ما إذا علم اتّفاق الكلّ من اتفاق جماعة ، لحسن ظنّه بهم ، كما ذكره في أوائل المعتبر حيث قال : « ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الاجماعَ ، لوجوده في كتب الثلاثة قدس سرهم ،

------------------

أو إلى حدس لازم للحسّ ، فانه اذا كان الأمر كذلك ، كان كلياً لا اتفاقياً .

أمّا انّه ليس مستنداً إلى الحسّ : فللقطع بأن الناقل ، لم يتبع اقوال الكل فرداً فرداً - على ما عرفت سابقاً - .

وأمّا انّه ليس حدساً ملازماً للحس : فلأن الفرض : ان الناقل للاجماع ، حدس اتفاق الكل من اتفاق المعروفين من أهل عصره ، ولا ملازمة بين اتفاق المعروفين ، واتفاق الكل .

( واُلْحِق بذلك ) الاحتمال الثاني وهو : ان يريد اجماع الكل ، من اتفاق المعروفين من أهل عصره ( ما اذا علم ) الناقل للاجماع ( اتفاق الكلّ ، من اتفاق جماعة ، لحسن ظنّه بهم ) فان الشخص اذا حسن ظنه - مثلاً - بفقيه ، أو فقيهين ، أو اكثر تخيّل ان اتفاقهم يلازم اتفاق الكل .

( كما ذكره ) أي : هذا النحو من الاجماع المبني على حسن الظن ، صاحب الشرائع ( في أوائل المعتبر حيث قال : ومن المقلّدة ) وقد ذكر بعضهم : انّه عنى مثل ابن زهرة ، البادين في تلك العصور الغابرة ( من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الاجماع ، لوجوده ) أي : الاجماع ( في كتب الثلاثة قدس سرهم ) من اصحاب الكتب الاربعة ، وهم : الشيخ ، والصدوق ، والكليني ، فباتفاق هؤاء الثلاثة على حكم ، حصل لمثل ابن زهرة : الحدس باتفاق الكل ، ثم ادعى اجماع العلماء ، مع العلم بانّ مثل ذلك لا يوجب ان يكون العلماء مجمعين على حكم حتّى في زمان

ص: 36

وهو جهل إن لم يكن تجاهلاً » .

فانّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا ، مع أنّا نعلم أنّه لا يدّعي الاجماع الاّ عن علم ، إشارةً الى استناده في دعواه إلى حسن الظنّ بهم وانّ جزمه في غير محلّه ، فافهم .

------------------

اصحاب الكتب الاربعة ، فكيف بالأزمنة السابقة عليهم .

( وهو ) أي : ادعاء الاجماع استناداً إلى حسن الظن ( جهل ) بالواقع ، فانّ هؤاء الثلاث على جلالتهم ، لا يكونون حاكين عن الكل ( ان لم يكن تجاهلاً ) (1) ، والفرق بين الجهل والتجاهل : أنّ الجهل : عدم العلم ، والتجاهل : انّه مع كونه يعلم بالخلاف ، يظهر الجهل .

( فان في توصيف المدّعي : بكونه مقلّداً ) أي : توصيف المحقق للذي يدعي الاجماع : بأنّه مقلد ( مع انّا نعلم انّه ) أي : المدعي للاجماع ، ليس بمقلد في دعواه الاجماع ، وانّما هو مجتهد ، لكنه بحسن ظنه ادعى الاجماع ، و ( لا يدعي الاجماع الاّ عن علم ) باتفاق جميع العلماء .

وانّما وصفه بانه مقلد ( اشارة إلى استناده في دعواه ) الاجماع ( إلى حسن الظنّ بهم ، وان جزمه في غير محلّه ) لوضوح : انّه لا ملازمة بين اتفاق هؤاء الثلاثة على حكم واتفاق الكل .

( فافهم ) ولعله اشارة الى ان من ادعى الاجماع ، بمجرد وجوده في كتب الثلاثه ، أراد إجماع هؤاء الثلاثة ، لا إجماع الكل ، أو لعله أراد إجماع الرواية على الحكم ، لا اجماع الفتاوى .

وعلى كل حال : فليس قصد بعض المقلِّدة : الاجماع المصطلح ، وانّما قصد

ص: 37


1- - المعتبر : ص18 .

الثالثُ : أن يستفيد اتّفاق الكلّ على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل او بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ، او بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ،

------------------

أحد المعنيين ، فنسبة المحقق له إلى الجهل ، أو التجاهل محل نظر .

( الثالث ) من الوجوه المحتملة في ارادة ناقل الاجماع مع انّه ليس باجماع اصطلاحي ( أن ) يريد به : اتفاق الكل ، و انّما ( يستفيد اتفاق الكلّ على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل ، عند عدم الدليل ) لأنّ مدعي الاجماع يرى انّ الحكم الّذي يذكره ، صغرى من صغريات أصل ، وذلك الأصل متفق عند الكل .

مثلاً : يقول : شرب التتن حلال بالاجماع ، وذلك لأنّه يراه من صغريات أصل البرائة ، ويرى أن أصل البرائة مقبولة عند الجميع ، في وقت لم يكن على الحكم المذكور دليل اجتهادي .

( أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ) فانه يرى انّ هذه الصغرى التي ادّعى عليها الاجماع ، من صغريات دليل عام ، ليس لذلك الدليل العام مخصص ، والعلماء مجمعون على العمل بالأدلّة العامة فيتم الاجماع .

مثلاً : يقول : أن شرب لبن المرأة حلال إجماعاً ، لأنّه يستظهر : إنّ شربه من صغريات قوله تعالى : ، « قُل لا أجِدُ فِيما اُوحِيَ إلَيّ مُحَرّماً عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ ، إلاّ أن يَكونَ مَيتَةً ، أو دَماً مَسفوحاً ، أو لَحمَ خِنزيرٍ ... » (1) ، ومن المعلوم انّ الاية اجماعية ، فيسري الاجماع من الكبرى ، إلى الصغرى الشخصية ، التي استظهر أنّها من صغريات تلك الكبرى الكلية .

( أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ) فان الاجماع قام عندهم ، على

ص: 38


1- - سورة الانعام : الآية 145 .

او اتّفاقهم على مسألة اصوليّة نقليّة او عقليّة يستلزم القولُ بها الحكمَ في المسألة المفروضة ،

------------------

وجوب العمل بالخبر المعتبر ، الّذي لا معارض له ، فيزعم ناقل الاجماع ، انّ هذا الحكم الذي ادعى عليه الاجماع ، من صغريات ذلك الخبر المعتبر عندهم .

مثلاً : يقول : يجب قضاء الصلوات فوراً إجماعاً ، لانّه يرى انّ الحكم المذكور ، دلّ عليه خبر معتبر ، والخبر المعتبر اجماعي العمل ، فيسري الاجماع منه إلى هذه الصغرى ، فيدّعي انّ هذه الصغرى اجماعية أيضاً .

( أو اتفاقهم على مسألة أصوليّة نقليّة أو عقليّة ) :

فالنقلية ، مثل ان يدعي الاجماع على وجوب صلاة الجمعة ، لأنّه يرى اجماعهم على انّه لا نسخ بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وقد كانت صلاة الجمعة في زمان النبي ، فاللاّزم بقاءها بهذا الاجماع بعده أيضاً ، فالاجماع على المسألة الاصولية قد أسراه إلى هذا الحكم الّذي يراه صغرى من صغريات ذلك الاتفاق .

وأمّا المسألة الاصولية العقلية ، فالاتفاق فيها انّما يكون فيما ( يستلزم القول بها ) أي بتلك المسألة ( الحكم ) الّذي يذكره ( في المسألة ) الفقهية (المفروضة) أيضاً ، لانّه يرى إجماع العلماء على ان ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل ، ويرى ان هذا الحكم الذي ادعى عليه الاجماع من صغريات ما خالف الكتاب والسنّة عندهم .

مثلاً : يقول إنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحد ، لا يقع بسبب الطلاق إلاّ تطليقة واحدة لانه يرى ان الحكم المذكور مخالف للكتاب والسنّة ، وبطلانه اجماعي ، فيدعي الاجماع على هذا الحكم الفرعي لاستناده إلى الاجماع في المسألة الاصولية العقلية ، والمراد بالاصولية الاصول الجارية في الفقه من القواعد الكلية .

ص: 39

وغير ذلك من الامور المتّفق عليها التي يلزمُ باعتقاد المدّعي من القول بها ، مع فرض عدم المعارض ، القولُ بالحكم المعيّن في المسألة .

ومن المعلوم : أنّ نسبةَ هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك لا ينشأ الاّ من مقدّمتين أثبتهما المدّعي باجتهاده :

------------------

( وغير ذلك من الامور المتفق عليها ) مثل : قاعدة : « قبح العقاب بلا بيان » ، وقاعدة « من ملك شيئاً ملك الاقرار به » (1) ، وقاعدة : « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » (2) وغيرها .

فانه حيث تكون هذه القواعد اتفاقية ، ويرى مدعي الاجماع : ان الفرع الفقهي ، صغرى من صغريات هذه القواعد ، يدعي الاجماع على هذه الصغرى ( الّتي يلزم باعتقاد المدّعي من القول بها ) أي بتلك القواعد الكلّية ، المتفق عليها ( مع فرض عدم المعارض ) في هذه الصغرى الجزئية ، الّتي هي من صغريات تلك القواعد الكلية الفقهية ( القول بالحكم المعيّن في المسألة ) .

والحاصل : ان الاجماع انّما يكون على الكبرى ، وحيث يزعم ناقل الاجماع انّ هذه الصغرى من صغريات تلك الكبرى يدعي الاجماع على هذه الصغرى أيضاً .

( ومن المعلوم انّ نسبة هذا الحكم ) أي : الحكم الفرعي الشخصي الخاص ( الى العلماء ) كافة بادعاء الاجماع على هذا الحكم الفرعي ( في مثل ذلك ) أي : فيما اذا استفاد اتفاقهم على الحكم الكلي الكبروي ( لاينشأ الاّ من مقدّمتين ، اثبتهما المدّعي باجتهاده ) أي : ان ادعائه الاجماع ، على هذه الصغرى ، مبني على حدسه ، بسبب مقدمتين :

ص: 40


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .
2- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .

إحداهما كونُ ذلك الأمر المتفق عليه مقتضيا ودليلاً للحكم لولا المانع .

والثانية انتفاء المانع والمعارض ، ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غيرُ جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد .

------------------

( احداهما : كون ذلك الأمر المتفق عليه ) مثل : « قبح العقاب بلا بيان » ، أو ما اشبه ذلك ( مقتضياً ودليلاً للحكم ) الفرعي يعني : انّه يتصور انّ الكبرى الكلّية ، تشمل هذه الصغرى الجزئية أيضاً ( لولا المانع ) الدال على خلاف تلك الكبرى الكلية .

( والثانية : انتفاء المانع والمعارض ) في هذه الصور الكلية .

مثلاً : يقول : بأنّ أصل البرائة اجماعي - بلا مانع ولا معارض فيه - وشرب التتن صغرى من صغريات هذا الاصل ، فجواز شرب التتن أيضاً اجماعي .

( ومن المعلوم : انّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك ، غير جائز عند احد من العاملين ، بخبر الواحد ) فانه من الواضح : انّ العاملين بالخبر الواحد ، لا يقولون : بانّ الخبر الواحد ، يشمل مثل هذا الاجماع المبني على هاتين المقدمتين ، وليس مثل هذا بخبر عندهم ، حتّى يشمله دليل حجّية الخبر الواحد .

والحاصل : انّه ليس لناقل الاجماع ، مستند صحيح لعلمه بقول الامام عليه السلام ، فان حصل له بنفسه العلم بقول الامام ، فهو حجّة بالنسبة اليه ، لمكان العلم ، أما انّه ليس بملزم لغيره ، اذ ليست هذه الاجماعات المدعاة بمنزلة خبر زُرارة ، أو محمد بن مسلم ، ومن أشبههما ، مما هو حجة بالنسبة إلى الجميع سنداً وانّما عليهم ان ينظروا في قدر الدلالة .

وهذه الاجماعات ليست حجة سواء كانت من اللطف ، أو الحدس على الاقسام المتقدمة للحدس ، إلاّ الاجماعات الملازمة قطعاً لقول الامام ، فان الملازم

ص: 41

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الاجماعات المتعارضة من شخص واحد او من معاصرين او متقاربي العصرين ورجوع المدّعي عن الفتوى الذي ادّعى الاجماع فيها ودعوى الاجماع في مسائل غير مُعَنوَنَة في كلام من تقدّم على المدّعي

------------------

لقوله عليه السلام قليل في الاجماعات جداً .

واما ما نراه متداولاً عند كثير من الفقهاء ، كصاحب الجواهر ، ومن تقدَّمه ، ومن تأخر عنه ، حيث يدّعون كثيراً من الاجماعات في المسائل المختلفة ، من باب الطهارة الى الديات ، فليس لهذه الاجماعات قيمة الاجماع القطعي ، الّذي هو من الأدلة للأحكام .

( ثمّ انّ الظاهر ) مما تقدّم ( : انّ الاجماعات المتعارضة من شخص واحد ) حيث نرى بعض الفقهاء ، يدّعون الاجماع تارة على جواز الشيء ، وأخرى على حرمته ، أو تارة على هذا الطرف من المسألة ، وتارة على الطرف الاخر منها .

( أو من معاصرين ، أو متقاربي العصرين ) فيدعي أحدهما الاجماع على شيء ، ويدعي الاخر الاجماع على خلاف ذلك الشيء ، وهما معاصران ، أو متقاربا العصر ، حيث لا يعقل ان يكون في عصر واحد ، أو في عصور مختلفة ، قولان متخالفان في مسألة واحدة ، بان يقول الكل بهذا القول ، ويقول الكل بالقول الاخر .

( ورجوع المدّعي عن الفتوى ، الذي ادّعى الاجماع فيها ) بينما ، انّه لو كانت المسألة اجماعية ، لم يجز له الرجوع عن المجمع عليه ، الى ما يضاده .

( ودعوى الاجماع في مسائل ، غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعي ) ولا معنونة في كلام معاصريه ، فهو متفرد في المسألة ، ومع ذلك نراه يدعي الاجماع عليها .

ص: 42

وفي مسائل قد اشتهرت خلافها بعد المدّعي ، بل في زمانه ، بل فيما قبله ؛ كلُّ ذلك مبنيٌّ على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه .

ولا بأسَ بذكر بعض الموارد صرّح المدّعي بنفسه او غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك .

فمن ذلك : ما وجّه المحقّق به دعوى المرتضى والمفيد :

------------------

( وفي مسائل قد اشتهرت خلافها ) أي خلاف تلك الفتوى ، وذلك في زمان ( بعد المدّعي ، بل في زمانه ، بل فيما قبله ) فانه اذا كانت المسألة اجماعية ، كيف يفتي من جاء بعد المدعي للاجماع ، على خلاف ذلك الاجماع ، وبطريق أولى ، اذا كان في زمان المدعي ، أو ما قبل المدعي ؟ .

فان ( كلّ ذلك مبنيّ على الاستناد ، في نسبة القول إلى العلماء ، على هذا الوجه ) الثالث ، فان هذه الاجماعات لا تستند إلى تتبع كل الأقوال ، ولا إلى أقوال المعروفين من الفقهاء ، بل إلى اجتهاد الناقل مستنداً إلى أصل ، أو رواية ، أو آية ، أو دليل عقلي ، اعتقد الناقل انّ ما يدعي فيه الاجماع ، من صغريات تلك الكبريات الكلية المسلمة .

( ولا بأس بذكر بعض الموارد ) الّتي ( صرَّح المدّعي بنفسه أو ) صرّح ( غيره في مقام توجيه كلامه ) أي : كلام المدّعي للاجماع ( فيها ) اي : في تلك الموارد ( بذلك) أي بالّذي ذكرناه ، من ان دعواه للاجماع مستندة إلى الاجتهاد ، من جهة تطبيق كبرى كلية اجماعية ، على صغرى جزئية إعتَقَد الناقل للاجماع ، بانّها من صغريات تلك الكبرى الكلية .

( فمن ذلك ما ) أي الاجماع الّذي ( وجّه المحقّق به دعوى المرتضى والمفيد ) «رحمهما اللّه» حيث قالا :

ص: 43

انّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات قال :

« وأمّا قولُ السائل : كيف أضاف المفيد والسيّد ذلك إلى مذهبنا ولا نصَّ فيه ، فالجوابُ : أمّا علمُ الهدى ، فانّه ذكر في الخلاف : انّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ، لأنّ من أصلنا العملَ بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الازالة بغير الماء من المائعات

------------------

( انّ من مذهبنا : جواز ازالة النجاسة بغير الماء من المايعات ) فاذا وقعت نجاسة على ثوب أو على بدن أو على شيء آخر ، جاز ازالة تلك النجاسة بماء الورد ، أو البصاق ، أو ما اشبه ذلك ، وقد نَسبَ هذان العلمان ، هذا الحكم إلى مذهبنا ، الظاهر في الاجماع .

( قال ) المحقّق - في مقام توجيه هذا الكلام من هذين العلمين - ( وأمّا قول السائل : كيف اضاف ) أي : نسب ( المفيد والسيّد ذلك ) الحكم ( إلى مذهبنا و ) الحال انّه لا اجماع و ( لا نصّ فيه ؟ ) فكيف يدعي بعض الاجماع بدون نص ، أو اتفاق من جميع الفقهاء ؟ .

( فالجواب : أمّا علم الهدى ، فانّه ذكر في الخلاف : انّه إنّما اضاف ذلك إلى مذهبنا لأنّ من اصلنا ) أي : من قواعدنا الّتي عرفناها من الشرع ( : العمل بالأصل ) أي : اصالة الجواز ( ما لم يثبت الناقل ) أي : المانع عن أصل الجواز ، ( وليس في الشّرع ، ما يمنع الازالة بغير الماء ، من المايعات ) اذ زوال النجاسة يوجب عدم وجود حكم النجاسة ، وغير الماء من السوائل أيضاً يزيل النجاسة ، فيزول حكمها ، لانه اذا ذهب الموضوع ذهب الحكم ، وقد صرّح السيّد : بأنّه جعل هذه الفتوى ، من صغريات ذلك الأصل ، وحيث انّ ذلك الأصل اتفاقي بين العلماء ، فاللازم أن تكون هذه الصغرى ، التي استظهر السيّد انها من صغريات تلك القاعدة

ص: 44

------------------ ثم قال - : وأمّا المفيدُ ، فانّه ادّعى في مسائل الخلاف : أنّ ذلك مرويّ عن الأئمة » انتهى .

فظهر من ذلك أنّ نسبة السيّد قدس سره ، الحكم المذكورَ إلى مذهبنا من جهة الأصل ، ومن ذلك ما عن الشيخ في الخلاف حيث انّه ذكر ، فيما إذا بان فسقُ الشاهدين بما يوجب القتلَ بعد القتل ، بأنّه يُسقِطُ القِودَ ويكون الديّةُ

------------------

الكلية ، أيضاً اجماعية .

( ثمّ قال ) المحقّق ( : وأمّا المفيد : فانّه ادّعى في ) كتاب ( مسائل الخلاف انّ ذلك ) أي : جواز ازالة النجاسة بسائر المايعات ( مرويّ عن الائمة ) عليهم السلام (1) .

فالمحقق يرى : ان اجماع المفيد ، مستند إلى الرواية فالكبرى وهي : الرواية ، لما كان مجمعاً على العمل بها بقول مطلق ، ورأى المفيد : ان المسألة من صغريات تلك الكبرى الكلية ، ادعى عليها الاجماع .

( انتهى ) كلام المحقق ، بالنسبة إلى اجماعيّ : الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى « رضوان اللّه عليهم » ( فظهر من ذلك انّ نسبة السيّد ) والمفيد ( قدس سرهما الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الاصل ) والرواية المجمع عليهما .

( ومن ذلك ، ما عن الشيخ في الخلاف ، حيث انّه ذكر فيما اذا بان فسق الشاهدين ) الّذين شهدا ( بما يوجب القتل ) كالارتداد ، وزنا المُحصَن ، والقتل قصاصاً ، ثم ظهر فسق الشاهدين ( بعد القتل ) أي ، بعد أن نَفّذَ الحاكم حكم القتل على المشهود عليه ظَهَر ان الشاهدين كانا فاسِقين ، قال ( بانه يسقط القِوَد ) ، والقود : بكسر القاف ، وفتح الواو على وزن : عِنَب ، ومعنى سقوط القِوَد : انه لا يقتل الشاهدان بذلك ( ويكون الديّة ) لورثة المقتول الّذي قُتل ظلماً

ص: 45


1- - المسائل المصرية راجع فرائد الاصول : ص332 .

من بيت المال ؛ قال : « دليلُنا إجماعُ الفرقة ، فانّهُم رووا انّ ما أخطأت القضاةُ ، ففي بيت مال المسلمين » انتهى .

فعلّل انعقادَ الاجماع بوجود الرواية عند الأصحاب ، وقال بعد ذلك ، فيما اذا تعدّدت الشهودُ فيمن أعتقه المريضُ ، وعيّن كلٌّ ، غير ما عيّنه الآخر ، ولم يف الثُّلثُ بالجميع : « إنّه يخرج السابقُ بالقرعة ،

------------------

( من بيت المال ) وهو : البيت الّذي يرعاه الحاكم ، مما يجمع فيه أموال المسلمين ، لمصالح المسلمين .

( قال ) الشيخ في الخلاف ، بعد فتواه هذه ( : دليلنا : اجماع الفرقة ) المحقّة ، وهم الشيعة ( فانّهم رووا : انّ ما اخطأت القضاة ، ففي بيت مال المسلمين ) (1) وحيث انّ هذا خطأ لأن الحاكم اشتبه ، وقَبِلَ شهادة الفاسقين ، فالديّة تكون من بيت المال .

( انتهى ) كلام الشيخ في الخلاف ، وما علل به الاجماع ( ف- ) انّه قد ( علّل انعقاد الاجماع ، بوجود الرّواية عند الأصحاب ) لا أنّ اجماعه ثابت من أقوال الفقهاء الذين عاصروه ، أو الذين تقدموا عليه .

( وقال ) الشيخ في الخلاف ( بعد ذلك ) ايضا ( : فيما اذا تعدّدت الشهود ، فيمن اعتقه المريض ، وعيّن كلّ ، غير ما عيّنه الآخر ، ولم يَف الثُلث بالجميع ) كما اذا قال شاهدان : بأنّ المعتَق زيد ، وشاهدان : بأنّ المعتَق عمرو ، وشاهدان : بأنّ المعتَق خالد ، والحال انّ الثلث لا يفي بالكل ، أمّا اذا وفى الثلث بالكل فكلهم يُعتَقون .

قال : ( انّه يخرج السّابق بالقرعة ) لأنّ الوصية السابقة ، تنفّذ دون اللاحقة ،

ص: 46


1- - وسائل الشيعة : ج29 ص147 ب7 ح35351 .

------------------ قال - : دليلنا اجماعُ الفرقة واخبارُهُم ، فانّهم أجمعوا على أنّ كلّ أمر مجهول فيه القرعة » ، انتهى .

ومن الثاني ما عن المفيد في فصوله ، حيث أنّه سئل عن الدّليل على أنّ المطلقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة .

------------------

وذلك فيما اذا لم يفي الثلث بالجميع ولم يجز الورثة الاكثر من الثلث ، وحينئذٍ اذا لم نعلم انّ السابق زيد أو عمرو أو خالد ، أخرجنا السابق منهم بالقرعة ، واعتق حسب الوصية ، أما اللاحق الّذي لم يف به الثلث ، فيبقى تركة للورثة .

( قال : دليلنا : اجماع الفرقة واخبارهم ) ثم علل الاجماع بقوله : ( فانّهم أجمعوا : على انّ كلّ أمر مجهول ، فيه القرعة (1) ، انتهى ) كلام الشيخ ، فان الشيخ لم يجد الاجماع على هذه المسألة الشخصية ، و انّما وجد الاجماع على الكبرى الكلية ، وهي : انّ في كل مجهول القرعة ، وحيث رأى ، انّ هذا الفرع الفقهي ، من صغريات تلك الكلية المتضمنة للقرعة ، ادعى الاجماع على الفرع أيضاً .

( ومن ) هذا القبيل ( الثاني ) وهو الحدس باتفاق الكل ، من اتفاقهم على مسألة اصولية - على ما سبق الالماع اليه : ( ما عن المفيد ) رحمه اللّه ( في فصوله ، حيث انّه سئل عن الدّليل ، على انّ المطلقة ثلاثاً ) الّتي قال لها الزوج : انتِ طالق ثلاثاً ، بلفظ واحد ( في مجلس واحد ) أو قال : « أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق » وذلك بدون رجعة بين الطلقات ، كما يشترطها الشيعة بخلاف العامة فانهم يكتفون بكل من العبارتين ، في حصول الطلقات الثلاث .

قال ( يقع منها ) أي : من الطلقات الثلاث ( واحدة ، ف- ) انّه حيث اراد

ص: 47


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص240 ب22 ح24 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3389 ، وسائل الشيعة : ج27 ص260 ب13 ح33720 ، الأمان من أخطار الأسفار : ص96 بيان ، الخلاصة : ج2 ص620 بالمعنى .

فقال : « الدلالةُ على ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وإجماع المسلمين » ، ثمّ استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : « الطّلاقُ مرّتانِ » ثمّ بين وجه الدلالة ؛ ومن السنّة قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كُلُّ مالم يكُن على أمرِنا هذا فَهو رَدٌّ » ، وقال : « ما وافق الكتاب فخُذوه ، ومالم يوافِقهُ فاطرَحوهُ » ، وقد بينّا أنّ المرّة لا تكون المرّتين أبدا

------------------

الاستدلال على ذلك ( قال : الدّلالة على ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وسنّة نبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم واجماع المسلمين ) ، ( ثم استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : « الطّلاقُ مَرَّتانِ ) فَامساكٌ بِمَعروفٍ ، أو تَسريحٌ بِاحسانٍ » (1) ، يعني : بعد المرتين ، اما ان يمسك الزوجة امساكاً حسب العرف ويقوم بشؤنها اللازمة المتعارفة أو أن يطلقها ويسرّحها باحسان ، من دون ان يُضيّق عليها ، فاذا طلقها ثالثاً ، حرمت على الزوج إلاّ بمحلّل ، ( ثمّ بيّن ) المفيد رحمه اللّه ( وجه الدلالة ) في الاية المباركة ، بان المتبادر من المرتين ، هو : أن يطلق ، ثم يرجع ، ثم يطلق ، لا أن يقول : انت طالق مرتين ، أو ما اشبه ذلك .

قال : ( ومن السنّة : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كُلُّ ما لم يَكُن عَلى أمرِنا هذا ) » أي : لم يكن على طبق ما أمرنا به « ( فَهوَ رَدٌّ ) (2) أي : مردود .

( وقال : « ما وافَقَ الكَتابَ فَخُذوهُ ، وَما لَمْ يُوافِقُ فاطرَحُوهُ » ) (3) .

قال المفيد رحمه اللّه : ( وقد بيّنا ان المرّة ) وهي قوله : أنت طالق ثلاثاً ، أو اذا قال : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، بدون فصل رجعة بينهما ( لا تكون المرّتين أبداً ) أي :

ص: 48


1- - سورة البقرة : الآية 229 .
2- - عدة المسائل الصاغانية : ص86 ، الفصول المختارة : ص177 .
3- - الكافي اصول : : ج1 ص69 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص190 ب112 ح9 ، وسائل الشيعة : ج20 ص464 ب20 ح26099 .

وأنّ الواحدة لا تكون ثلاثا ، فأوجب السنّةُ إبطال طلاق الثلاث ، وأمّا إجماع الامّة ؟ ، فهم مُطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصفُ خلاف الطلاق بالكتاب والسنّة فحصل الاجماعُ على إبطاله» ، انتهى.

وحكي عن الحليّ في السرائر ، الاستدلال بمثل هذا .

ومن ذلك الاجماعُ الذي

------------------

قطعاً ، لوضوح انّ المتبادر من المرتين ، الطلاق ، ثم الرجوع ثم الطلاق ( وانّ الواحدة لا تكون ثلاثاً ) فلا توجب الطلقة الواحدة الحرمة ، سواء اقترنت بالمرتين، أو بالثلاث في اللفظ ( فأوجب السنّة ) اي : سنة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهو قوله المتقدم : ما لم يوافق القرآن فاطرحوه ، وغير ذلك ( ابطال طلاق الثلاث ) من دون رجعة بينها ، ومعنى الابطال : انّ الطلاق لا يقع ثلاثاً ، وانّما يقع واحداً .

( وأمّا اجماع الامّة : فهم مطبقون على انّ ما خالف الكتاب والسّنة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق ) وقلنا : ( ب- ) إنّ التطليقات الثلاث من دون رجوعين بينهما ، خلاف ( الكتاب والسنّة ، فحصل الاجماع على إبطاله انتهى ) (1) فانه جعل هذه الصور الجزئية ، من كبريات ما ورد في الكتاب والسنة ، وادعى اجماع المسلمين عليها ، حيث حصل له الحدس باجماعهم على بطلان طلاق الثلاث ، من اتفاقهم على بطلان ما خالف الكتاب والسّنة .

( وحكي عن ) ابن ادريس ( الحلّي ) رحمه اللّه ( في ) كتابه ( السرائر ، الاستدلال بمثل هذا ) الذي استدل به المفيد لبطلان التطليقات الثلاث ، في مجلس واحد ، على الكيفية الّتي ذكرناها .

( ومن ذلك ) الاجماع المستند إلى آية أو رواية ، على ما ذكرناه ( الاجماع الذي

ص: 49


1- - الفصول المختارة : ص177 .

ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال ، حيث قال :

« أطبق الاماميّةُ عليه خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت على العمل به ، ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيين ، فانّ ابني بابويه ، والأشعريين ، كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة ، وسعد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب صاحب

------------------

ادّعاه الحلّي ) أيضاً ( على المضايقة ) أي : وجوب الفور ( في قضاء الفوائت في رسالته المسماة : بخلاصة الاستدلال ) فان العلماء اختلفوا في انّ الانسان اذا فاتته صلوات ، هل يجب قضاؤا فوراً ، ويسمون ذلك بالمضايقة ، أو لا يجب ؟ بل يجوز التراخي ويسمون ذلك : بالمواسعة .

والاقوال في المسألة متعددة ، والغالب عند المتأخرين : المواسعة ، بينما يرى الحلّي وجمع آخر : المضايقة ، وهناك بعض الاقوال الأخر تفصِّل بين أقسام القضاء والصلوات ، محلها الكتب الفقهية المفصلة (1) .

( حيث قال ) الحلّي ( أطبق الاماميّة عليه ) أي : على الفور ( خلفاً عن سلف ، وعصراً بعد عصر وأجمعت ) الامامية ( على العمل به ) أي : بالفور ( ولا يعتد بخلاف نفر يسير ) أي : لا يعتنى بمخالفة عدة قليلة ، ذهبوا الى المواسعة دون المضايقة ( من الخراسانيّين ) الذين أفتوا بالمواسعة .

( فانّ ابني بابويه ) وهما الصدوقان : الاب والابن ( والأشعريّين : كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة ، وسعد بن سعد ، ومحمّد بن عليّ بن محبوب صاحب

ص: 50


1- - راجع موسوعة الفقه : ج17 - 28 للشارح .

كتاب نوادر الحكمة ، والقميّين أجمع ، كعليّ بن إبراهيم بن هاشم ، ومحمّد بن الحسين بن الوليد ، عامِلونَ بأخبار المضايقة ، لأنّهم ذكروا انّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته وحُفَظَتهم الصدوقُ ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخِرِّيتُ هذه الصّناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسيّ مودعٌ أخبارَ المضايقة في كتبه مُفتٍ بها ، والمخالفُ إذا عُلِمَ

------------------

كتاب نوادر الحكمة ، والقميّين أجمع : كعليّ بن ابراهيم بن هاشم ، ومحمّد بن الحسين بن الوليد ) وغيرهم ، من الأعلام ( عاملون بأخبار المضايقة ) التي تدل على وجوب الفور بالقضاء .

فاذا قيل لابن ادريس من أين علمت ان هؤاء عملوا باخبار المضايقة ، ليكون رأيهم الفور :

أجاب بقوله : ( لأنّهم ) نقلوا اخبار المضايقة في كتبهم و ( ذكروا : انّه لا يحل ردّ الخبر الموثوق برواته وحُفَظَتهم ) على وزن : هُمَزَة بضم الحاء ، والضمير : هم راجع الى الامامية ( الصدوق ) رحمه اللّه ( ذكر ذلك ) أي : عدم جواز ردّ الخبر ، اذا كان الراوي ثقة ( في كتاب : « من لا يحضره الفقيه » ،وخِرّيت ) بكسر الخاء ، على وزن : سِكّيت ، والمراد به : الماهر في صناعته ، كالشيخ الماهر في ( هذه الصناعة ) أي : علم الفقه ، ويسمى : صناعة ، لأنّه ليس علماً نظرياً ، بل هو علم عملي لأنّ الفقه هو العمل ، بخلاف اصول الدين فانه هو الفكر ولا يسمّى صناعة ، لانه عقائد محضة ، (و ) هذا الماهر في الفقه هو ( رئيس الأعاجم ) ونعته بهذا ليس من باب الاستخفاف بشأن الشيخ رحمه اللّه بل انه مثل قولنا : رئيس الطائفة ونحو ذلك ( الشيخ أبو جعفر الطوسيّ مودع أخبار المضايقة ) أي : أودعها وذكرها ( في كتبه ) و ( مُفتٍ بها ، والمخالف ) لهذا القول كبعض الخراسانيين - على ما تقدّم - ( اذا علم

ص: 51

باسمه ونسبه لم يضرّ خلافُه » . انتهى .

ولا يخفى : انّ اخباره باجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيٌّ على الحدس والاجتهاد من وجوه : أحدُها : دلالةُ ذكر الخبر على عمل الذاكر به ، وهذا وإن كان غالبيّا إلاّ أنّه لا يوجب القطعَ لمشاهدة التخلّف كثيرا .

الثاني : تماميةُ دلالة تلك الأخبار عند اولئك على الوجوب ،

------------------

باسمه ونسبه ، لم يضرّ خلافه ، انتهى ) (1) كلام ابن ادريس الحلّي .

( ولا يخفى ) عليك ( : انّ اخباره ) أي : الحلّي رحمه اللّه ( باجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة ، مبنيّ على الحدس والاجتهاد ، من وجوه ) متعددة .

( أحدها : دلالة ذكر الخبر ) المروي عنهم عليهم السلام في الكتاب (على عمل الذاكر به ) أي عمله بذلك الخبر ، فحدس الحلّي : ان هؤاء الذين ذكروا أخبار المضايقة قد عملوا بها ، حدس فقط ، وليس عليه دليل .

ولهذا قال المصنّف : ( وهذا ) أي : عمل الذاكر بالخبر ( وان كان غالبيّاً ) في بعضهم لا في كلهم ، فانّ بناء بعضهم على ذكر الأخبار فقط ، لا العمل بها ( الاّ انّه ) كون ذلك غالبياً ( لا يوجب القطع ) بالتلازم بين الذكر والعمل ( لمشاهدة التخلف كثيراً ) فانهم كثيراً ما يذكرون الخبر في كتبهم ، ولكن لا يعملون به .

( الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند اولئك ، على الوجوب ) فانّ الحلّي رحمه اللّه ، حدس ان هؤاء الناقلين للأخبار ، فهموا منها الوجوب ، وهذا ليس بقطعي ، فكثيراً ما يمكن للانسان ان يذكر الخبر ، ولا يستظهر منه الوجوب لقرائن خارجية وداخلية ، تدل على ان الخبر للاستحباب ، أو للكراهة في بابي : الأمر

ص: 52


1- - خلاصة الاستدلال ، مخطوط .

إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكد الاستحباب .

الثالثُ : كون رواة تلك الرّوايات موثوقا بهم عند اولئك ، لأنّ وثوق الحلّي بالرّواة لا يدلّ على وثوق اُولئك ، مع أنّ الحلّيّ لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقاتٍ ، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر الواحد

------------------

والنهي ونحوهما ، ( اذ لعلّهم فهموا منها ) أي : من تلك الأخبار الدالة ظاهراً : على المضايقة ( بالقرائن الخارجيّة تأكد الاستحباب ) للفور ، لا الوجوب ، كما انّ المتأخرين فهموا غالباً من تلك الاخبار ، تأكد الاستحباب ، لا الوجوب ، فأين التلازم بين ذكرهم الاخبار وفهمهم الوجوب منها ، الذي استفاده الحلّي بالحدس ؟ .

( الثالث : كون رواة تلك الرّوايات موثوقاً بهم عند اولئك ) الذين ذكروا تلك الاخبار في كتبهم ، فحدس الحلّي هذا بوثاقة الرواة ، عند اولئك المصنفين ، ليس بقطعي ( لأنّ وثوق الحلّي بالرّواة لا يدلّ على وثوق اولئك ) بهم وبرواياتهم .

هذا ( مع انّ الحلّي ) رحمه اللّه ( لا يرى جواز العمل باخبار الآحاد ، وان كانوا ثقات ) فهو يعمل بالخبر المتواتر ، والمستفيض ، وما اشبه ، لا بخبر الواحد ، حتى وان كان راوي الخبر الواحد ثقة .

وعليه : فانّا وان سلّمنا قطعية المقدمات الثلاث التي ذكرها الحلّي : من انّ ذاكر الخبر يعمل به ، وان ذاكر الخبر فهم من الخبر وجوب المضايقة ، وان ذاكر الخبر اعتقد بوثاقة الراوي ، لكن لا نسلم للحلّي دعوى الاجماع ، اعتماداً على هذه المقدمات ، لانّه لا يعتقد بحجيّة خبر الواحد ، فكيف يدعي الحلّي استناداً الى هذه المقدمات الاجماع ؟ .

( و ) من الواضح : ان ( المفتي اذا استند ) في ( فتواه الى خبر الواحد ،

ص: 53

لا يوجب اجتماعُ أمثاله القطعَ بالواقع ، خصوصا لمن يخطيء العملَ بأخبار الآحاد .

وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : إنّ مثلَ هذا الاجماع إخبارٌ عن قول الامام، فيدخل في خبر الواحد ، مع أنّه في الحقيقة اعتمادٌ على اجتهادات الحلّيّ مع وضوح

------------------

لا يوجب اجتماع امثاله ، القطع بالواقع ) .

لا يقال : لعل حصول الاجماع عند الحلي ، نتج من تراكم خبر الواحد لديه من هذا الكتاب ، وذلك الكتاب وسائر كتب العلماء الذين ذكرهم .

لأنّه يقال : انّ الحلي اذا علم بأنّ مدرك العلماء في حكمهم بوجوب المضايقة هو : خبر الواحد ، ومن الواضح : انّ تراكم عملهم بالخبر الواحد ، لا يوجب القطع بالواقع ؛ لان الذي يصح ان يكون معياراً للاجماع ، هو : مستند هؤاء الفقهاء لا عملهم ، فاذا كان مستندهم اخباراً آحاداً ، والحلّي لا يعمل باخبار الآحاد ، فان ذلك المستند لا يصحح ادعاء الحلّي الاجماع .

وعليه : فان المفتي ( - خصوصاً لمن يخطى ء العمل باخبار الآحاد ) كالحلّي نفسه ، لا يتمكن من ادعاء الاجماع معتمداً على آراء من يكون مستند فتواهم هو الخبر الواحد .

( وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : انّ مثل هذا الاجماع ) المستند الى امور حدسية كالمقدمات التي ذكرناها ( اخبار عن قول الامام عليه السلام ، فيدخل في خبر الواحد ) كما يدّعي ذلك من يرى دخول الاجماع في خبر الواحد .

( مع أنّه ) أي : مع ان الاعتماد على هذا النحو من الاجماع ليس اعتماداً على قول الامام عليه السلام ، بل هو ( في الحقيقة ، اعتماد على اجتهادات الحلّي ، مع وضوح

ص: 54

فساد بعضها ، فانّ كثيرا ممّن ذكر اخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا ، وأنّ المفتي إذا عُلِمَ استنادُه إلى مدرك لا يصلحُ للرّكون إليه من جهة الدّلالة او المعارضة لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الامام .

وأوضحُ حالاً في عدم جواز الاعتماد

------------------

فساد بعضها ) كاجتهاده الأوّل ، في وجود التلازم بين ذكرهم الخبر في كتبهم وعملهم بذلك الخبر .

ويدل على عدم صحة هذا الاجتهاد من الحلّي ، ما ذكره المصنّف قدس سره بقوله : (فان كثيراً ممّن ذكر اخبار المضايقة ، قد ذكر اخبار المواسعة أيضاً ) فاذا كان ذكر الخبر دليل على العمل به لزم التناقض في اعمالهم ، لأنّهم بذكرهم اخبار المضايقة عملوا بها وبذكرهم اخبار المواسعة عملوا بها أيضاً ، وهو تناقض ، فهل يمكن ادعاء مثل ذلك ؟ .

( و ) مع وضوح : ( انّ المفتي اذا علم استناده الى مدرك لا يصلح للركون اليه ) أي : الى ذلك المدرك ( من جهة الدّلالة ، أو المعارضة ) أو السند ، بان كان ذلك المدرك سنده ضعيف ، أو دلالته ضعيفة ، أو معارض بخبر آخر ، ف( لا يؤر فتواه في الكشف عن قول الامام ) عليه السلام .

فانّا اذا رأينا انّ العلماء ذكروا : ان المستند في وجوب المضايقة ، هو : اخبار المضايقة ، ورأينا ضعف سندها ، أو دلالتها ، أو جهة صدورها ، أو معارضتها بأخبار المواسعة ، فلا نكشف من ذلك : انهم قائلون بالمضايقة ، وفرضاً لو كشفنا ذلك ، لا نتمكن من الاعتماد على أقوالهم ، بعد علمنا بضعف المدرك لهذا القول .

( وأوضح حالاً في عدم جواز الاعتماد ) على الاجماعات المنقولة ، لانها مبنية

ص: 55

ما ادّعاه الحلّيُّ من الاجماع على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزةً على الزوج ، وردّه المحقّق بأنّ احدا من علماء الاسلام لم يذهب إلى ذلك . فانّ الظاهر أنّ الحلّيّ إنما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة باطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج ، متخيّلاً أنّ الحكمَ معلّقٌ على الزوجيّة ، من حيث هي زوجيّة ، ولم يتفطن لكون الحكم من حيث العيلولة او وجوب الانفاق ،

------------------

على اجتهادات الناقل ، وقد عرفت : ان اجتهادات الناقل ، لا تكون حجة بالنسبة الينا ، ولا كاشفة عن قول المعصوم عليه السلام هو ( : ما ادّعاه الحلّي من الاجماع على وجوب فطرة الزوجة ، ولو كانت ناشزة على الزوج ) حيث ادعى الحلّي اجماع علماء الاسلام على ذلك .

( وردّه المحقّق : بأنّ احداً من علماء الاسلام ، لم يذهب الى ذلك ) فكيف يدّعي الحلّي الاجماع ؟ وهل هذا إلاّ تناقض ظاهر بين فتوى الحلّي ، وبين قول المحقّق ؟ مع انّ المحقّق أقوى حجّة منه ( فان الظاهر ، انّ الحلّي ، انّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء ) لا من ذكرهم هذه الفتوى بصورة خاصة ، بل ( على تدوينهم للروايات الدالة باطلاقها ، على وجوب فطرة الزوجة على الزّوج ) وكان الحلّي في هذه الفتوى ( متخيّلاً : انّ الحكم ) بوجوب فطرة الزوجة على الزوج ( معلّق على الزّوجيّة ، من حيث هي زوجيّة ) فقال : بوجوبها عليه للناشزة وغير الناشزه .

( ولم يتفطن ) الحلّي ( لكون الحكم من حيث العيلولة ، أو وجوب الانفاق ) اذ لو كان وجوب الفطرة على الزوج ، من حيث انّها زوجته ، وجبت فطرة الناشزة على الزّوج ، لأنها بالنشوز لا تخرج عن كونها زوجته .

ص: 56

فكيف يجوز الاعتمادُ في مثله على الاخبار بالاتفاق الكاشف عن قول الامام عليه السلام ويقال إنّها سنّة محكيّة .

وما أبعدَ ما بين ما استند إليه الحلّيّ في هذا المقام وبين ماذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة ، حيث قال : « إنّ الاتّفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلامُ لا يقتضي الاجماعَ على ذلك ،

------------------

واذا كان وجوب الفطرة على الزوج ، من حيث وجوب نفقتها عليه ، لم تجب الفطرة على الزوج ، لانّها بالنشوز خرجت عن وجوب نفقتها عليه .

وهنا احتمال ثالث : وهو : وجوب الفطرة على الزوج من جهة الانفاق الفعلي عليها ، فاذا كانت في اعالته وهو ينفق عليها وهي ناشزة ، وجبت فطرتها عليه ، واذا لم تكن في اعالته وكان لا ينفق عليها فعلاً ، لم تجب فطرتها عليه .

وعليه : ( فكيف يجوز ) لنا ( الاعتماد في مثله ) أي : في مثل وجوب الفطرة للناشز ( على الاخبار ؟ ) والاخبار : بصيغة المصدر ، والمراد به : اخبار ابن ادريس (بالاتفاق الكاشف عن قول الامام عليه السلام ) اذ إخباره هذا بالاجماع ، ليس كاشفاً عن قول المصعوم عليه السلام ، ( و ) كذا لا يمكن أن ( يقال : انّها سنّة محكيّة ) والضمير في « انها » : للمؤث من جهة رجوعه الى السّنة ، فانّ الضمير اذا وقع بين مذكر ومؤث ، يجوز ان يؤى به مذكراً، ويجوز ان يؤى به مؤثاً - على ما ذكره الادباء - .

( وما أبعد ما بين ما استند اليه الحلّي في هذا المقام ) أي : مقام وجوب فطرة الناشزة ( وبين ما ذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة حيث قال ) المحقق :

( انّ الاتفاق على لفظ مطلق ، شامل لبعض افراده ، الّذي وقع فيه ) أي : في بعض الافراد ( الكلام لا يقتضي الاجماع على ذلك ) أي : انّ العلماء اذا ذكروا لفظاً مطلقاً ، كما ذكروا في المقام : وجوب فطرة الزوجة على الزّوج ، بدون ان يفصِّلوا :

ص: 57

لأنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللّفظ مالم يكن معلوما من القصد ، لأنّ الاجماعَ مأخوذٌ من قولهم : أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، فلا يدخلُ في الاجماع على الحكم الاّ من علم منه القصدُ إليه ، كما انّا لا نعلم مذهبَ عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهُم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا قائلين

------------------

في انّها هل تجب على الزّوج مطلقاً ، أو في بعض اقسام الزوجة ، وهي : غير الناشزة ، فانّ مثل اطلاقهم هذا لا يقتضي أن نفهم منه اجماعهم على وجوب فطرة الناشزة أيضاً ، حتى ننسبه اليهم ، وندعي الاجماع عليه .

وذلك ( لانّ المذهب لا يصار اليه من إطلاق اللّفظ ، ما لم يكن معلوماً من القصد ) فانّ مجرد اطلاق اللّفظ ، لا يدل على ان مذهب المفتي هو : الاطلاق ، ما لم يعلم انه قصد الاطلاق ، أو التقييد ( لان الاجماع مأخوذ من قولهم ) أي : من قول اللغويين : (أجمع على كذا اذا عزم اليه ) ، إذن فلابد فيه من العزم والقصد الى الخصوصيّة والاّ لم يكن الاجماع اجماعاً ( فلا يدخل في الاجماع على الحكم ، الاّ من علم منه القصد اليه ) أي : الى الحكم ، فاذا قلنا : أجمع علماؤا على كذا ، لابد أن نعرف انّ العلماء قصدوا الخصوصيّة أيضاً ، فالاطلاق اذا لم يعرف منه الخصوصيّة ، لا يمكن ادعاء الاجماع على الخصوصية ، وفي المقام كذلك ، فانه لما قال علماؤا بوجوب فطرة الزوجة ، ولم نعلم انهم أرادوا فطرة الناشزة أيضاً ، ام لا ، فلا نتمكن من ادعاء : اتفاقهم على وجوب فطرة الناشزة مطلقاً سواء كانت تحت عيلولة الرجل ، أو لم تكن .

( كما اّنا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء ، الذين لم ينقل مذهبهم ) في بعض الصغريات المذكورة كبراها في القرآن ( لدلالة عموم القرآن ، وان كانوا قائلين

ص: 58

به » انتهى كلامه .

وهو في غاية المتانة ،

------------------

به ) (1) أي : بعموم القرآن .

فانّ العموم لا يدل على الخصوص ، وكونهم قائلين بالعموم لا يدل على قولهم بالخصوص ، وكذا قولهم بالاطلاق لا يدل على قولهم بالفرد الذي هو من أفراد ذلك الاطلاق ، لاحتمال انهم وجدوا للعموم ، أو الاطلاق ، مخصصاً او مقيداً ، مثلاً : هل يقول العلماء : باستحباب تزويج العبد زوجة ثانية ، من اطلاق قوله سبحانه : « والصّالِحِينَ مِن عِبادِكُم ... » (2) ؟ ، أو هل يقولون بحرمة غيبة المجنون ، مع اطلاق قوله تعالى : « ولا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضاً » (3) ؟ ، الى غير ذلك ، فالقول بالعموم ، أو بالاطلاق ، لا يدل على القول بالخصوصيّة ، في بعض الافراد المشكوكة ، ( انتهى كلامه ) أي : كلام المحقّق قدس سره ( وهو في غاية المتانة ) .

لكن لا يخفى ، ما فيه ، لانّ بنائهم جار على ان اطلاق الفقهاء وعمومهم ، دليل على ارادة كل فرد فرد ، والاّ لذكروا الاستثناء ، فاذا رأيناهم بصدد بيان الحكم ، ولم يخصصوا عموم القرآن ، ولم يقيدوا اطلاقه ، لزم استظهار انهم يقولون ، بكل فرد فرد .

فتحصل : انّ الحلّي يرى : انهم لو أجمعوا عن اطلاق ، كان مرادهم كل فرد فرد ، بينما المحقّق يرى : انّه ليس مرادهم كل فرد فرد ، لاحتمال انهم أرادوا المقيد لا المطلق .

والمصنّف قدس سره أيّد قول المحقّق لكنّا استشكلنا فيه ، لأقربية قول الحلّي الى

ص: 59


1- - معارج الاصول .
2- - سورة النور : الآية 32 .
3- - سورة الحجرات : الآية 12 .

لكنّك عرفت ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ الاجماع ، وقد حكي في المعالم عن الشهيد : « إنّه أوّلَ كثيرا من الاجماعات ، لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ، بارادة الشهرة ، او بعدم الظّفر بالمخالف حين دعوى الاجماع ، او بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الاجماع ،

------------------

ظواهر كلماتهم .

ثم ان المصنّف اشكل عليهما معاً ، لأنّ الدقة لم تكن في اجماعاتهم حتى يناقش ، هل انهم ارادوا : المطلق أو المقيد ؟ فقال : ( لكنّك عرفت ما وقع من جماعة ) كالمفيد ، والسيّد ، والشيخ ، والحلّي وغيرهم ( من المسامحة في إطلاق لفظ الاجماع ) حيث انهم يطلقونه ، ولا يريدون به الكل ، بل يستندون في قولهم بالاجماع الى الاجتهادات الحدسيّة ، وعلى ذلك : فلا يمكن الذهاب الى تمامية كلام المحقّق ، ولا الى تماميّة كلام الحلّي .

( و ) يؤد ما ذكرناه : من عدم الدقة في اجماعاتهم ، وانّما هم متسامحون فيها ، ما ( قد حكي في المعالم عن الشهيد ) الأوّل رحمه اللّه ( انّه أوّل كثيراً من الاجماعات ، لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ) فانه لما وجد مخالفين في موارد اجماعاتهم أوّل الاجماعات ( ب- ) تأويلات ، حتى لا ينافي الاجماع وجود المخالف ومنها : ( ارادة الشهرة ) لا الاجماع الاصطلاحي ، فانهم اذا ذكروا الاجماع ، أرادوا الشهرة ، فلا ينافي وجود المخالف .

( أو بعدم الظّفر بالمخالف حين دعوى الاجماع ) أي : انّ المدعي للاجماع ، انّما ادعى الاجماع ، لزعمه انهم متفقون على هذا ، ولم يجد المخالفة حين دعواه الاجماع ، فالمسألة ليست اجماعية ، وانّما هو يزعم عدم جود المخالف .

( أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الاجماع ) أي : انّ الاجماع متحقّق ،

ص: 60

او بارادة الاجماع على الرّواية وتدوينها في كتب الحديث » ، انتهى .

وعن المحدّث المجلسيّ قدس سره ، في كتاب الصلاة من البحار ، بعد ذكر معنى الاجماع ووجه حجّيّته عند الأصحاب : « إنّهم لمّا رجعوا إلى الفقه كأنّهم نسوا ما ذكروه في الاصول ، ثمّ أخذ في الطعن على إجماعاتهم

------------------

وانّما المخالف يجب انّ يأول كلامه ، فاذا وجد الاجماع - مثلاً - على عدم وجوب السورة والحال انّ بعض الفقهاء يقولون بعدم وجوبها ، يحمل القول بعدم الوجوب - مثلاً - على صورة ضيق الوقت ، فيكون الاجماع على الوجوب في صورة عدم ضيق الوقت ، والمخالف الذي يقول بعدم الوجوب ، يريد صورة عدم الضيق .

( أو بارادة : الاجماع على الرّواية ، وتدوينها في كتب الحديث ) (1) فاذا قال قائل : انّ هذا الحكم اجماعي، أراد : انهم دوّنوا الرواية الدالة على هذا الحكم في كتبهم الى غير ذلك من التأويلات ، في الاجماعات التي وجد من يخالفها ( انتهى ) كلام المعالم .

( وعن المحدّث المجلسيّ قدس سره في كتاب الصلاة من البحار ، - بعد ذكر معنى الاجماع ، ووجه حجّيّته عند الاصحاب ) - الاشكال عليهم : بأنّهم يصطلحون الاجماع في الاصول على معنى ، ثم ينقلون الاجماع في الفروع بمعنى آخر ، وقال : (انهم لمّا رجعوا الى الفقه ، كأنهم نسوا ما ذكروه في الاصول ) فانهم ذكروا في الأصول : انّ الاجماع هو : ا تفاق الكل ، ثم في الفقه ادّعوا الاجماع على مسائل ليس فيها اتفاق الكل ، بل الأكثر على خلاف قول مدعي الاجماع .

( ثم أخذ في الطعن على اجماعاتهم ) والاشكال فيها ، وانه مما لا يعتمد عليها

ص: 61


1- - معالم الدين : ص174 .

------------------ إلى أن قال - : فيغلب على الظنّ أنّ مصطلَحَهُم في الفروع غيرُ ما جروا عليه في الاصول » انتهى .

والتحقيقُ : انّه لا حاجةَ إلى ارتكاب التأويل ، في لفظ الاجماع بما ذكره الشهيد ، ولا إلى ماذكره المحدّث المذكور ، من تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ، بل الحقّ أنّ دعواهم للاجماع في الفروع مبنيّ على استكشاف الآراء ورأي الامام عليه السلام ،

------------------

(الى أن قال ) المجلسي : ( فيغلب على الظّنّ : انّ مصطلحهم في الفروع ، غير ما جروا عليه في الاصول ، انتهى ) (1) كلام المجلسي .

( والتحقيق : انّه لا حاجة الى ارتكاب التأويل ، في لفظ الاجماع بما ذكره الشهيد ، ولا الى ماذكره المحدّث المذكور من : تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ) فان الامر لا يحتاج الى الاشكال بمغايرة اصطلاحهم في الاصول ، عن اصطلاحهم في الفقه ، لأنهم في كل من الاصول والفقه ، يريدون بالاجماع : اتفاق الكل ، كما انه لا حاجة الى تأويل اجماعاتهم بما لا ينافي وجود المخالف ، لأنهم باجماعاتهم يريدون : اتفاق الكل ، لكن ليس ادعائهم هذا باتفاق الكل ، حاصلاً من تتبع الأقوال ( بل ) حاصل من الحدس والاجتهاد ، ف( الحق : انّ دعواهم للاجماع في الفروع ، مبنّي على استكشاف الآراء ورأي ا لامام عليه السلام ) فهنا كشفان :

الأول : كشف اراء الكل .

الثاني : كشف رأي الامام من آراء الكل ، وهنا حدسان :

ص: 62


1- - بحار الانوار : ج89 ص222 ب1 ح65 .

إمّا من حسن الظنّ بجماعة السلف او من امور تستلزم باجتهادهم إفتاء العلماء بذلك وصدور الحكم عن الامام عليه السلام أيضا ، وليس في هذا مخالفةٌ لظاهر لفظ الاجماع حتّى يحتاج الى القرينة ، ولا تدليسٌ ، لأنّ دعوى الاجماع ليس لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلاً يستريح إليه في المسألة .

------------------

الاول : ( أمّا من حسن الظنّ بجماعة السلف ) حيث انّ المعروفين منهم اذا افتوا بشيء ، ظنّ ناقل الاجماع لحسن ظنّه ، بانه فتوى الكل ، والحال قد اشار هؤاء المفتون بالمخالف .

الثاني : ( أو من امور تستلزم باجتهادهم ) أي باجتهاد الناقلين للاجماع ( افتاء العلماء بذلك ، وصدور الحكم عن الامام عليه السلام أيضاً ) .

والحاصل : انّ الناقل للاجماع رأى فتاوى المعروفين ، فظن الاجماع أو رأي دليلاً في المسألة ، فظن الاجماع ، ومن كشفه رأي الفقهاء ، كشف رأي الامام فكشفه رأي الامام مبني على حدسين .

( وليس في هذا ) الذي ذكرناه : من اطلاقهم لفظ الاجماع الظاهر في ارادة الكل ، والحال انه مستكشف من أحد الأمرين المذكورين ( مخالفة لظاهر لفظ الاجماع ، حتى يحتاج الى القرينة ) للدلالة على انّه لم يرد الاجماع الحقيقي ، اذ ليس في الأمر مجاز حتى يحتاج الى القرينة .

( ولا تدليس ) بحيث يدّعي شيئاً ، ويقصد غيره ( لأنّ دعوى الاجماع ، ليس لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلاً يستريح ) الغير ( اليه في المسألة ) حتى يكون تدليساً ، فانّ التدليس هو ارائة الغير شيئاً والحال ا نه ليس بواقع ، فمن يحمل متاعه لنفسه لا لأجل البيع ، لا يسمّى مدلِّساً .

ص: 63

نعم ، قد يوجب التدليسَ من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء ، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم ، لكنّه يندفع بأدنى تتبّع في « الفقه » ، ليظهر أنّ مبنى ذلك على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثورا .

والحاصلُ : أنّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة يحصل له القطعُ من تراكم

------------------

نعم ، لو أراد تغرير الغير ليبيع عليه متاعه ، كان من التدليس ، وهؤاء الفقهاء يدّعون الاجماع لأنفسهم لا لغيرهم ، كما أنهم يستشهدون بالآية الكريمة ، أو الرواية ، لبيان انّهم انّما افتوا بهذه الفتوى لوجود هذا الدليل عليه .

وكيف كان : فان ادعاء الاجماع لا يوجب التدليس ولا تغرير الغير ، لأنّ مدعي الاجماع يدعيه دليلاً لنفسه ، لا لغيره .

( نعم ، قد يوجب ) ادعاء الاجماع ( التدليس من جهة نسبة الفتوى الى العلماء الظاهرة ) من قوله : أجمعوا على كذا ، أو ما أشبه ( في وجدانها ) أي : في وجدان تلك النسبة ، فكأنه يفيد الغير : انّ مدعي الاجماع ، وجد هذه الأقوال ( في ) كتب العلماء ، و ( كلماتهم ) والحال انه لم يجده في كتبهم ، فهو تدليس من هذه الجهة .

( لكنّه ) أي : التدليس من هذه الجهة المحتملة ( يندفع بأدنى تتّبع في الفقه ) فانّ المتتبع في الفقه لا يغتر بهذه الاجماعات ، وانّما ( ليظهر ) له ( انّ مبنى ذلك ) أي الاجماعات ( على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثوراً ) عنهم ، فان من يشاهد نقل الاجماع في الفقه ، يظهر له ان الناقل ، لم يتتبع أقوال الفقهاء ، بل قد حدس باجتهاداته على انهم يقولون بذلك ، فلا يكون تدليساً او تغريراً بان العلماء أفتوا بذلك .

( والحاصل : انّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة ، يحصل له القطع من تراكم

ص: 64

أمارات كثيرة باستناد دعوى النّاقلين للاجماع - خصوصا إذا أرادوا به اتّفاقَ علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين - إلى الحدس الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، او من الانتقال من الملزوم إلى لازمه مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده .

------------------

أمارات كثيرة ) مما قد ذكرناها سابقاً : كوجود المخالف في المسألة ، وانعقاد الشهرة على خلافها في بعض الأحيان ، وتعارض الاجماعين من شخص واحد في كتابيه ، بل في كتاب واحد من كتبه ، او تعارض الاجماعين من معاصرين او عدم ذكر الفقهاء للمسألة اطلاقاً ، الى غير ذلك ، ( باستناد دعوى النّاقلين للاجماع - خصوصاً اذا أرادوا به اتّفاق علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في اجماعات المتأخرين ) كالفاضلين والشهيدين ، وانّما قال : « خصوصاً » ، لأنه قد يراد بالاجماع : اتفاق علماء عصره - مثلاً - لا جميع الاعصار ، ( الى الحدس الحاصل من حسن الظّنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ) أو اتفاق المعروفين بالفتوى منهم ، وقوله : « الى الحدس » متعلق بقوله : « دعوى الناقلين » ، ( أو من الانتقال من الملزوم الى لازمه ) وكلمة : «أو» عطف على قوله : « من حسن الظن » .

والحاصل : انّ مدعي الاجماع ، انتقل من اتفاق العلماء : من العمل بأصل ، أو آية ، أو رواية ، الى انهم متفقون في هذه الصغرى ، الجزئية أيضاً ، كما تقدّم مثال اخبار المضايقة وما أشبه ، مما لا حاجة الى تكرارها .

( مع ثبوت الملازمة باجتهاد النّاقل واعتقاده ) هو ، لا انّ الملازمة ثابتة واقعاً فانه عند نفسه يظن : انّ هذه الصغرى صورة من الكبرى الكلية ، التي عليها الاجماع ، فيدعي الاجماع على هذه الصغرى الجزئية ، بينما ليس مراده اجماع جميع الفقهاء في هذه المسألة الخاصة .

ص: 65

وعلى هذا يُنزّلُ الاجماعات المتخالفة من العلماء مع اتحاد العصر او تقارب العصرين وعدم المبالاة كثيرا باجماع الغير والخروج عنه للدليل ، وكذا دعوى الاجماع مع وجود المخالف ، فانّ ما ذكرنا في مبنى الاجماع من أصحّ المحامل لهذه الامور المنافية لبناء دعوى الاجماع على تتبّع الفتاوى في خصوص المسألة .

------------------

( وعلى هذا ) أي : الانتقال من الملزوم الى اللازم ( ينزّل الاجماعات المتخالفة من العلماء ، مع اتحاد العصر ، أو تقارب العصرين ) ، مثلاً : شيخ الطائفة وابن ادريس متقاربا العصرين ، والسيد المرتضى وشيخ الطائفة متحد عصرهما .

( و ) هذا هو السر أيضاً في ( عدم المبالاة ) والاعتناء ( كثيراً باجماع الغير ، والخروج عنه للدّليل ) فانّ الاجماعات المنقولة ، غالباً لاتكون مورد اعتناء عند سائر الفقهاء ، فانهم اذا وجدوا دليلاً خالفوا الاجماع الى الدليل ؛ وذلك لان الاجماعات المنقولة مستندة الى اجتهادات الناقلين ، لا انها نقل قول جميع فقهاء العصر ، وقول المصنف : « وعدم المبالاة » عطف على قوله : « ينزّل » .

( وكذا ) يكون هو السر في ( دعوى الاجماع مع وجود المخالف ) لانّ الاجماع مبني على اجتهاد الناقل ، لا على اتفاق جميع الفقهاء .

( فانّ ما ذكرنا في مبنى الاجماع ) المنقول : من انّ الاجماع المنقول مستند الى الاجتهاد . لا الى أقوال الفقهاء هو ( من اصحّ المحامل لهذه الامور ، المنافية لبناء دعوى الاجماع على تتبع الفتاوى في خصوص المسألة ) ، فان الاجماعات المبنية على الحدس والاجتهاد هي التي تسبب ما ذكرناه من التناقض بين الاجماعات ، ومن عدم الاعتناء بالاجماع في قبال الدليل ، وما اشبه ذلك ، ممّا عرفت .

ص: 66

وذكر المحقّق السبزواريّ في الذّخيرة ، بعد بيان تعسر العلم بالاجماع :

« انّ مرادهم بالاجماعات المنقولة ، في كثير من المسائل بل في اكثرها ، لايكون محمولاً على معناه الظاهر ، بل إمّا يرجع إلى اجتهاد من الناقل مؤدّ بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها إلى أنّ المعصوم عليه السلام ، موافقٌ في هذا الحكم ، او مرادهم الشهرة ، او اتفاق أصحاب الكتب المشهورة ،

------------------

( و ) يؤد ما ذكرناه في وجه الاجماعات المنقولة : من انها مبنية على الاجتهادات ، لا على تتبع الأقوال ما ( ذكر ) ه ( المحقّق السّبزواري في الذّخيرة ، بعد بيان تعسّر العلم بالاجماع ) لكثرة العلماء والجهل بكثير منهم ، وعدم الكتب لبعضهم ، وما أشبه ذلك ( انّ مرادهم بالاجماعات المنقولة في كثير من المسائل ، بل في أكثرها ، لايكون محمولاً على معناه الظاهر ) من تتبع آراء الفقهاء فرداً فرداً في جميع الأعصار والأمصار ، ( بل امّا يرجع الى اجتهاد من الناقل ) كما تقدّم من مثال : تدوينهم أخبار المضايقة ، مما سبّب اجتهاد الناقل للاجماع الى انهم قائلون بالمضايقة ، و ( مؤّ ) ذلك الاجتهاد للناقل ( بحسب القرائن والأمارات ، التي اعتبرها ) ناقل الاجماع ، فانها مؤية له بحسب اجتهاده ( الى انّ المعصوم عليه السلام موافق في هذا الحكم ) ، فان الناقل للاجماع حصل له الحدس بسبب اجتهاده من اتفاق الفقهاء ، الى ان موافقة الامام عليه السلام معهم ، وقد عرفت : ان هنا حدسين :

اولاً : حدس بأصل اتفاق الفقهاء .

ثانياً : حدس بأنّ اتفاق الفقهاء يفصح عن رأي المعصوم عليه السلام .

( أو مرادهم : الشهرة ) لا الاجماع المصطلح ، الذي هو اتفاق الكل .

( أو : اتفاق أصحاب الكتب المشهورة ) بأن يكون المراد من الاجماع : اتفاق أصحاب الكتب المشهورة من الفقهاء ، كالشيخ ، وابن ادريس ، والمحقّق ،

ص: 67

او غير ذلك من المعاني المحتملة » .

ثمّ قال بعد كلام له : « والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين انّهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فاذا رأوا اتّفاقهم على حكم قالوا إنّه إجماعيّ .

ثمّ إذا اطّلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلّفهُ الحكمَ المذكورَ ، رجعوا عن الدّعوى المذكورة ،

------------------

والعلامة ، والشهيدين ، ومن أشبه .

( أو غير ذلك من المعاني المحتملة ) (1) التي تقدّم الكلام حولها ، مثل : اتفاق المعروفين بالفتوى من أهل عصره ، أو من أهل كل العصور ، أو اتفاق أصحاب الكتب الأربعة - على ما تقدّم - .

( ثم قال ) المحقّق السبزواري ( بعد كلام له ) ما هذا لفظه :

( والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين ) المراد بالمتأخّرين : المحقّق فمن بعده ( انهم كانوا ينظرون الى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فاذا رأوا اتّفاقهم ) أي : اتفاق أصحاب الكتب الحاضرة عند ناقل الاجماع ( على حكم ) شرعي ( قالوا انه اجماعي ) لانّهم رأوا هذه الفتوى في تلك الكتب الموجودة عندهم حال التأليف .

( ثمّ اذا اطلعوا على تصنيف آخر ، خالف مؤّفه ) أي مؤف ذلك التصنيف الآخر ( الحكم المذكور ) الذي ادعوا قبل ذلك فيه الاجماع ( رجعوا عن الدّعوى المذكورة ) من الاجماع الى فتوى مخالفة ، لما أفتوه اولاً ، مثلاً : اذا رأى أصحاب الكتب المصنفة الموجودة عنده ، يقولون : بوجوب الجمعة ، افتي : بوجوب

ص: 68


1- - ذخيرة المعاد : ص50 .

ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها » ، انتهى .

وحاصلُ الكلام ، من أوّل ما ذكرنا إلى هنا ، أنّ الناقل للاجماع إن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى من ادّعى اتفاقهم حتى الامام عليه السلام الذي هو داخل في المجمعين ، فلا إشكال في حجّيته وفي إلحاقه بالخبر الواحد ،

------------------

الجمعة ، وادعى الاجماع على وجوبها ، ثم اذا رأى جملة من الكتب الاخرى ، تقول : باستحباب الجمعة رجع الى الاستحباب ، أو الى التخيير ، أو ما أشبه ذلك .

( ويرشد الى هذا ، كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها ) (1) مما تقدّم : من تعارض الاجماعين من شخص واحد ، أو تعارض الاجماعين من متحدي العصر ، أو متقاربي العصرين ، أو عدول المفتي عن الفتوى ، التي ادعى الاجماع فيها ، الى فتوى اُخرى ، الى غير ذلك مما تقدّم الالماع الى بعضها ( انتهى ) كلام المحقق السبزواري .

( وحاصل الكلام ، من أوّل ما ذكرنا الى هنا ) حول حجيّة الاجماع المنقول وعدم حجّيته :

( انّ الناقل للاجماع ، ان احتمل في حقّه ) احتمالاً عقلائياً ، يلحق كلامه بالظهور كما اذا ( تتبّع فتاوى من ادّعى اتفاقهم ، حتى الامام عليه السلام ، الّذي هو داخل في المجمعين ) ، وكان من عادته ، انه اذا ادعى الاجماع أراد الاجماع الدخولي ( فلا اشكال في حجّيته ) أي : في حجيّة هذا الاجماع ، ( و ) كذلك لا اشكال ( في الحاقه) أي هذا الاجماع ( بالخبر الواحد ) لانّه اخبار عن قول المعصوم عليه السلام عن حسّ ، فانّ من يرى دخول المعصوم في العلماء ، فهو حسّ بانّ المعصوم عليه السلام

ص: 69


1- - ذخيرة المعاد : ص51 .

إذ لا يشترط في حجّية معرفة الامام تفصيلاً حين السماع منه ، لكن هذا الفرض ممّا يعلم بعدم وقوعه وأنّ المدّعي للاجماع لا يدّعيه على هذا الوجه .

وبعد هذا فان احتمل في حقّه تتبّع فتاوى جميع المجمعين ، والمفروضُ أنّ الظاهرَ من كلامه هو اتّفاق الكلّ المستلزم عادةً لموافقة قول الامام عليه السلام ، فالظاهرُ حجيّةُ خبره

------------------

قال ذلك الحكم ( اذ لا يشترط في حجّيته ) أي حجيّة الخبر الواحد ( معرفة الامام عليه السلام تفصيلاً حين السّماع منه ) ، وقد تقدّم : انه اذا علم ان احد هذين الاثنين ، هو الامام ، وأفتيا بشيء ، فانه يتمكن ان ينسب هذه الفتوى الى الامام عليه السلام .

و ( لكن ) سبق ان ( هذا الفرض ) أي الاجماع الدخولي ( ممّا يعلم بعدم وقوعه ) لأنّ الامام عليه السلام ، منذ غيبته الى يومنا هذا ، لم يعاشر الناس ، فكيف يعلم مدعي الاجماع بأنّه عليه السلام في الفقهاء ، وان قوله في ضمن قولهم ؟ .

نعم ، قد تقدّم : ان الاجماع التشرّفي الذي ادعاه الاخوند ، تبعاً لبعض آخر ، ممكن ، لكنه حتى لو وجد كان نادراً ندرة كبيرة ( وانّ المدّعي للاجماع ) انّما يدّعيه بالحدس و ( لا يدّعيه على هذا الوجه ) الدخولي ، حتى يكون الاجماع بمنزلة الخبر الواحد .

( وبعد هذا ) الذي ذكرناه : من انّ الاجماع الدخولي متعذر الوقوع ( فان احتمل في حقه ) أي حق مدعي الاجماع ( تتبع فتاوى جميع المجمعين ) وكل الفقهاء منذ عصر الغيبة ( و ) الى اليوم ، اذ ( المفروض ان الظاهر من كلامه هو : اتفاق الكل المستلزم عادة لموافقة قول الامام عليه السلام فالظاهر حجّية خبره ) : من أن العلماء

ص: 70

للمنقول إليه ، سواء جعلنا المناط في حجّيته تعلّقَ خبره بنفس الكاشف الذي هو من الامور المحسوسة المستلزمة ضرورةً لأمر حدسي وهو قول الامام ، او جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف وهو قول الامام عليه السلام ، لما عرفت من أنّ الخبر الحدسيّ المستند الى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادةً ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول ، وقد تقدّم الوجهان في كلام

------------------

أجمعوا على كذا ( للمنقول اليه ) الذي يريد استفادة الاجماع ، من كلام ناقل الاجماع .

( سواء جعلنا المناط في حجّيته ) أي حجيّة الخبر ( تعلّق خبره بنفس الكاشف الذي هو من الامور المحسوسة ، المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو : قول الامام عليه السلام او جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف ) فانّ من تتبع اقوال العلماء ، قد ينقل قوله عليه السلام ، وهو المنكشف والمسبب ، وقد ينقل قول العلماء واحداً واحدا ، وهو السبب والكاشف .

وعلى أي حال : فالاجماع الذي هو عبارة عن تتبع الفتاوى كلاً ونقله سواء نقل المنكشف ، أو نقل الكاشف حجة بالنسبة الى المنقول اليه ، فانه لو نقل المنكشف ( وهو قول الامام عليه السلام ) كان من الاخبار الحدسيّ المستند الى الحسّ ( لما عرفت : من انّ الخبر الحدسيّ المستند الى احساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول ) مثل ما تقدَّم : من الاخبار عن الشجاعة المتفرقة ، التي تدل وتكشف شجاعة صاحبها ، وكذلك بالنسبة الى العدالة ، والجُبن ، والكرم ، والبُخل ، وما أشبه ذلك ، فانه سواء نقل السبب أو المسبب ، حصل للمنقول اليه العلم بالمسبب .

هذا ( وقد تقدّم الوجهان ) من نقل السبب ، او نقل المسبب مشروحاً ( في كلام

ص: 71

السيّد الكاظميّ في شرح الوافية .

لكنّك قد عرفتَ سابقا القطعَ بانتفاء هذا الاحتمال ، خصوصا إذا أراد الناقل اتّفاق علماء جميع الأعصار . نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ، أمكن دعوى اتّفاقهم عن حسّ ، لكن هذا غير مستلزم عادةً لموافقة قول الامام عليه السلام . نعم ، يكشف عن موافقته ، بناءا على طريقة الشيخ المتقدّمة التي لم تثبت عندنا وعند الأكثرين .

------------------

السيّد الكاظميّ في شرح الوافية ) فلا نحتاج الى تكراره .

( لكنّك قد عرفت سابقاً : القطع بانتفاء هذا الاحتمال ) أيضاً : وذلك لعدم امكان تحقق القطع من ناقل الاجماع ، بانّه قد تتبع جميع أقوال العلماء ، فان جميع اقوال العلماء ، مع تعدد الأمصار والأزمان ، شيء متعذر قطعاً ، فاذا ادّعى أحد : انّ في المسألة اجماع ، يجب أن يحمل كلامه على غير هذا المعنى ( خصوصاً اذا اراد الناقل : اتّفاق علماء جميع الاعصار ) والأمصار .

( نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ) أي : أمكن لمدعي الاجماع ان يحيط بأقوالهم ( أمكن دعوى : اتفاقهم عن حسّ ) امكاناً عادياً .

( لكن هذا ، غير مستلزم عادة لموافقة قول الامام عليه السلام ) اذ لا يلزم قول جماعة من العلماء قول الامام عليه السلام .

( نعم ، يكشف ) اتفاق علماء العصر ، قلّوا أو كثروا ( عن موافقته ) أي : موافقة الامام عليه السلام ( بناءاً على طريقة الشيخ المتقدّمة ) من اللطف ، لأنّ اللطف لا يختص بكثرة العلماء ، بل يشمل قلتهم ، أيضاً ( التي لم تثبت عندنا وعند الأكثرين ) من الفقهاء ، فانا لا نقول باللطف في الصغرى الجزئية ، التي ادعاها الشيخ ، وان قلنا :

باللطف في مسألة الرسالة والامامة .

ص: 72

ثمّ إذا عُلمَ عدمُ استناد دعوى اتفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار الذي يكشف عادةً عن موافقة الامام عليه السلام الاّ إلى الحدس النّاشيء عن أحد الامور المتقدّمة التي مرجعُها إلى حسن الظنّ او الملازمات الاجتهاديّة ، فلا عبرةَ بنقله ، لأنّ الاخبار بقول الامام عليه السلام غير مستند إلى حسّ ملزوم له عادةً ، ليكون نظير الاخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسيّة ، والاخبار بالاتفاق أيضا حدسيّ .

نعم ،

------------------

( ثم اذا علم عدم استناد دعوى : اتفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار الذي ) ذلك الاتفاق ( يكشف عادة عن موافقة الامام عليه السلام ، الا الى الحدس النّاشيء عن أحد الامور المتقدّمة ، التي ) يكون ( مرجعها الى حسن الظّن ) بالعلماء المتقدمين ، أو بالمعروفين ، منهم - كما تقدّم - ( أو الملازمات الاجتهاديّة ) كالحدس باتّفاقهم على الحكم ، من اتّفاقهم على مسألة اُصولية أو آية أو رواية - كما مرّ سابقاً - ( فلا عبرة بنقله ) للاجماع ، وانّما لا عبرة بنقله للاجماع ( لأنّ الاخبار بقول الامام ) عليه السلام ( غير مستند الى حسّ ملزوم له ) أي : ملزوم لقول الامام عليه السلام ( عادة ، ليكون نظير الاخبار بالعدالة ، المستندة الى الآثار الحسّيّة ) لان ناقل الاجماع لم يسمع قول الامام عليه السلام وحده أو في جماعة من العلماء ، كما في الاجماع الدخولي .

هذا ( والاخبار بالاتفاق ايضاً حدسيّ ) لانه لم يتتبع أقوال جميع العلماء المستلزم لقول الامام عليه السلام ، بل استند في اجماعه الى حسن الظنّ ، أو الملازمات الاجتهادية ، وكلاهما حدس كقول الامام عليه السلام وليس عن حسّ .

( نعم ) بعد ما عرفت : من انّ الاجماع المنقول ، المستند الى حسن الظن ، أو

ص: 73

يبقى هنا شيءٌ ، وهو ان هذا المقدارَ من النسبة المحتمل استنادُ الناقل فيها إلى الحسّ يكون خبرهُ حجّةً فيها ، لأنّ ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلاّ إذا قام هناك صارف ، والمعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحس في نسبة الفتوى إلى جميع من ادّعى إجماعهم .

وأمّا استنادُ نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبّع ، فأمرٌ محتمل

------------------

الحدس الاجتهادي ، ليس بحجة ( يبقى هنا شيء ) من الفائدة لمثل هذا الاجماع المنقول ( وهو : انّ هذا المقدار من النسبة ) التي ذكرها ناقل الاجماع لأقوال هؤاء العلماء ( المحتمل استناد الناقل فيها الى الحس ، يكون خبره حجّة فيها ) أي : في تلك النسبة ، فانا بعد ما قطعنا - عقلاً وعادة - بعدم تتبع ناقل الاجماع ، أقوال كل الفقهاء بل بعضهم ، اخذنا بقدر ذلك البعض ، فاذا كان خبره ، عن عشرة - مثلاً - كان قوله حجة في العشرة ، وذلك مفيد لنا - كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى ، وذلك ( لأنّ ظاهر الحكاية ) للاجماع ( محمول ) هذا الظاهر ( على الوجدان ) أي انه تتبع أقوال جماعة من العلماء ، لا انّه استند الى أصل ، أو آية ، أو رواية ( الاّ اذا قام هناك صارف ) عن هذا التتبع ، دال على انه لم يتتبع قول الفقهاء اطلاقاً ، وانّما استند الى آية أو رواية ، أو أصل أو نحو ذلك .

( والمعلوم من الصارف هو : عدم استناد الناقل الى الوجدان والحسّ ، في نسبة الفتوى الى جميع من ادّعى إجماعهم ) بل انّما يدل قطعاً : على انه لم يتتبع جميع أقوال فقهاء الاعصار والأمصار بل ولا حتى أقوال علماء عصر واحد .

( وامّا استناد نسبة الفتوى الى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى ، الى الوجدان ) لتلك النسبة ( في كتبهم بعد التتبّع ، فأمر محتمل ) وممكن عقلاً ، فيما

ص: 74

لا يمنعه عادةٌ ولا عقلٌ .

وما تقدّم من المحقّق السبزواريّ ، من ابتناء دعوى الاجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حالَ التأليف ، فليس عليه شاهدٌ ، بل الشاهد على خلافه ، وعلى تقديره فهو ظنٌّ لا يقدح في العمل بظاهر النسبة ، فانّ نسبة الأمر الحسّي الى شخص ظاهرٌ في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص .

------------------

اذا لم تكن الكتب كثيرة جداً - كما في عصرنا - والاّ كان ذلك أيضاً من المحال العادي ، فانه ( لا يمنعه عادة ولا عقل ) في الصورة التي ذكرناها .

( وما تقدّم من المحقّق السبزواري : من ابتناء دعوى الاجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف ، فليس عليه شاهد ) لأنّا نرى كثيراً من الفقهاء ، يفحصون عن الكتب التي ليست موجودة عندهم في المكتبات ، وعند زملائهم من العلماء ، وما الى ذلك ، لهذا قال المصنف : ( بل الشاهد على خلافه ) فلا يمكن أن يدعى - مثلاً - بانّ الجواهر في اجماعاته التي ادعاها لاحظ عشرة من الكتب التي عنده فقط .

( وعلى تقديره ) أي : وجود الشاهد ، لما ذكره السبزواري رحمه اللّه ( فهو ظنّ ) أي : نظن بأنّ الناقل ، لاحظ الكتب الحاضرة عنده فقط عند دعواه الاجماع ومثله ، (لا يقدحُ في العمل بظاهر النسبة ، فانّ نسبة الأمر الحسي إلى شخص ، ظاهرٌ في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص ) ، فاذا قال : أجمع العلماء ، كان ظاهر في ان هذا المخبر عند اخباره بالاجماع ، كان قد اخبر عن حسّ ، وذلك بان رأي ما نسبه من الفتوى الى الفقهاء في كتبهم وقول المصنف : « ايّاه » يرجع الى الأمر الحسي ، وهو تتبع فتاوى الفقهاء في كتبهم .

ص: 75

وحينئذ : فنقلُ الاجماع غالبا إلاّ ما شذّ حجّةٌ بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى .

ولا يقدحُ في ذلك أنّا نجد الخلافَ في كثير من موارد دعوى الاجماع ، إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف ، فتتبّع كتبَ من عداه ونسب الفتوى إليهم ،

------------------

( وحينئذٍ ) أي : اذا كان ظاهر النسبة هو : انه أحس بفتاواهم ورآها ، لا انّه استفاد فتاواهم وحدس بها من أصل ، أو آية ، أو رواية ( ف- ) يكون ( نقل الاجماع ) من مدعي الاجماع ( غالباً الاّ ما شذّ ، حجّة بالنسبة الى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى ) في جميع الأعصار من عصر مدّعي الاجماع ، وما قبله من العصور السابقة عليه .

وقوله : « الاّ ما شذ » يراد به : ما اذا كان هناك قرينة على خلاف ظاهر كلامه ، او كان هناك من علم بمخالفته ، كما اذا علمنا انّ زيداً - مثلاً - من الفقهاء مخالف لسائر اهل الفتوى .

والحاصل : انّ ادعاء الاجماع ظاهر ، في انّه رأى فتوى المعروفين ، الاّ اذا علمنا : انه استند في دعواه للاجماع الى آية أو رواية أو أصل ، أو اذا علمنا بأنّ بعض المعروفين ، مخالفون في الفتوى لسائر العلماء .

( ولا يقدح في ذلك ) الذي ذكرناه : من حجّية نقل الاجماع بالنسبة الى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أرباب الكتب ( انّا نجد الخلاف ، في كثير من موارد دعوى الاجماع ) ، وانّما لا يقدح ذلك ( اذ من المحتمل ارادة الناقل ما عدا المخالف ) فانه لما تتبع كتب الفقهاء ووجد مخالفاً ، لم يعتن بالمخالف فادّعى الاجماع مسامحة ( فتتبّع كتب من عداه ، ونسب الفتوى إليهم ) ، وهذا الاحتمال

ص: 76

بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفا ، فلا حاجةَ الى حمل كلامه على من عدا المخالف .

وهذا المضمونُ المخبر به عن حسّ ، وإن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الامام عليه السلام ، الاّ أنّه قد

------------------

وان لم يوجب الظهور ، الاّ انه مما يذب به عن ناقل الاجماع ، فلا يستشكل على ناقل الاجماع : بأنه كيف يدعي الاجماع ، وهناك مخالف في المسألة ؟ لانه يذب عنه : بانه لم يعتن بالمخالف .

( بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفاً ) أي : لعلّ مدعي الاجماع وجد المخالف قد رجع من فتواه بعد ذلك ، فتحقّق الاجماع ، كما اذا كان العلامة - مثلاً - أولاً مخالفاً في وجوب صلاة الجمعة ، ثم رجع وقال بالوجوب ، فاطلع هذا الناقل عليه فنسب الوجوب الى فتوى جميع العلماء .

وعليه : ( فلا حاجة الى حمل كلامه على من عدا المخالف ) بناءاً على الاحتمال الثاني ، الذي ذكرناه بقولنا : « بل لعله اطلع » .

( و ) ان قلت هب انّ ناقل الاجماع رأى كل الكتب المعتمدة ، وادعى الاجماع ، فما فائدة مثل هذا الاجماع ، الذي لم يكن كاشفاً عن قول المعصوم ؟ .

قلت : ( هذا المضمون ) الحاصل من اتفاق المعروفين ، بسبب نقل الجواهر - مثلاً - للاجماع (المخبر به عن حسّ) اذ المفروض ان مدعي الاجماع ، انّما يخبر عن المعروفين ، عن حسّ ، لأنّه رأى فتاواهم في كتبهم بمقتضى ظاهر لفظه، فهذا (وان لم يكن مستلزماً بنفسه عادة لموافقة قول الامام عليه السلام) لأنّ فتوى جماعة ولو كبيرة من العلماء لا تكشف عن قول الامام عليه السلام - على ما تقدَّم - (الاّ انّه قد

ص: 77

يستلزم بانضمام أمارات اُخرَ يُحصّلها المتتبّعُ او بانضمام أقوال المتأخرين من دعوى الاجماع .

مثلاً : إذا ادّعى الشيخ قدس سره ، الاجماعَ على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ، فلا أقلَّ من احتمال أن يكون دعواه مستندةً إلى وجدان الحكم في الكتب المعدّة للفتوى

------------------

يستلزم ) فتوى المعروفين لقوله عليه السلام ( ب- ) سبب (انضمام أمارات أُخر يحصّلها المتتبّع ) كدلالة آية أو رواية أو إجماعات اخر أو سيرة ، أو ما أشبه ، ( أو بانضمام أقوال المتأخرين من ) زمان ( دعوى الاجماع ) التي يتتبعها المنقول اليه كما اذا رأينا العلامة - مثلاً - يدعي الاجماع فهو ظاهر في قول المعروفين الى زمان العلامة ، ونحن نتتبع أيضاً قول المعروفين من بعد العلامة ، فنجدهم أيضاً موافقين لاجماع العلامة ، وبذلك نحصل على انّ فقهاء الشيعة عامة ، يقولون بالأمر الفلاني ، واذا حصل لنا ذلك ، كشفنا منه قول الامام ، لأنّ اجماع الكل كاشف عن قوله عليه السلام - على ما تقدّم - .

هذا ، ونمثِّل للانضمام بالأقوال والأمارات الاخر ، المفيدة بالمجموع لقول الامام عليه السلام بما يلي :

( مثلاً : اذا ادّعى الشيخ قدس سره الاجماع ، على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ) في حال السجود ، وقال : بانه لا يصح بالاجماع ، ان يسجد الانسان في صلاته على مكان نجس ، فانه قطعاً لم يتتبع أقوال كل الفقهاء ، لمنع العقل والعادة عن مثل ذلك ( فلا أقلّ من احتمال : ان يكون دعواه مستندة الى وجدان الحكم في ) جميع (الكتب المعدّة للفتوى ) ، فانّ الفقهاء المتقدمين ، كانوا ربما يجمعون الفتاوى في كتاب مستقل وربما يجمعون ايضاً الروايات في كتاب كذلك ، ومراد المصنف من

ص: 78

وإن كان بايراد الروايات التي يفتي المؤلّف بمضمونها ، فيكون خبرهُ المتضمّنُ لافتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجّةً في المسألة ، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمةً ، عادةً ، لموافقة الامام عليه السلام ، الاّ انا إذا ضممنا

------------------

قوله : « في الكتب المعدة للفتوى » ، أعم من هذين القسمين ، ولذا قال : ( وان كان بايراد الروايات ، التي يفتي المؤّف بمضمونها ) مثل نهاية شيخ الطائفة مثلاً ، وبعض الكتب الاخرى التي يجمع الفقهاء فتاواهم في تلك الكتب ، وان كان بمجرد ذكر الروايات ، التي يعملون بها ، ويحتمل ان يريد المصنف : كتب الفتاوى فقط .

وشيخ الطائفة المدعي للاجماع على اعتبار طهارة المسجد ، قد وجد الحكم في كتبهم الفتوائية أو الروائية ( فيكون خبره ) أي خبر الشيخ ( المتضمّن لافتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم ) وهو اعتبار طهارة المسجد ( حجّة في المسألة ) المذكورة .

( فيكون ) خبر شيخ الطائفة بالنسبة الى هذا المقدار من وجدانه لفتاوى جماعة كبيرة من الفقهاء في كتبهم ، حول هذه المسألة ( كما لوجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ) فان الوجدان في الكتب يساوق السماع من أصحاب الكتب ، فيما اذا كانت الكتب معتمدة .

( و ) مجرد ( فتواهم ) أي : أهل تلك الكتب ( وان لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الامام عليه السلام ) لما تقدّم : من أن فتاوى جماعة ، لا تستلزم قول الامام عليه السلام وانّما المستلزم له عادة ، هو فتوى جميع العلماء ، ( الاّ انا اذا ضممنا

ص: 79

إليها فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى وضمّ إلى ذلك أمارات اُخر ، فربّما حصل من المجموع القطعُ بالحكم ، لاستحالة تخلّف هذه جميعها عن قول الامام عليه السلام ، وبعضُ هذا المجموع - وهو اتفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم - وإن لم يثبت لنا بالوجدان ، إلاّ أنّ المخبر قد أخبر به عن حسّ ، فيكون حجّةً كالمحسوس لنا .

وكما انّ مجموعَ ما يستلزمُ عادةً لصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، إذا

------------------

اليها ) أي : الى تلك الفتاوى التي اخبر الشيخ بها بلفظ الاجماع ( فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى ) الى زماننا هذا ( وضمّ الى ذلك ) أي : اجماع الشيخ ووجداننا لفتاوى من تأخّر عن الشيخ ( أمارات اُخر ) من آية أو رواية أو سيرة أو نحو ذلك ( فربما حصل من المجموع ) لهذه الثلاثة ( القطع بالحكم ) الشرعي من وجوب طهارة مسجد الجبهة في حال الصلاة .

وذلك ، ( لاستحالة تخلّف هذه جميعها ) أي اجماع الشيخ ، وما وجدناه ، وسائر الأمارات التي ضمت اليهما ( عن قول الامام عليه السلام وبعض هذا المجموع ، وهو : اتفاق أهل الفتاوى المأثورة ) أي : المنقولة ( عنهم ) أي عن أولئك العلماء ، الّذين لخّص فتاواهم الشيخ في قوله : اجماع ( وان لم يثبت لنا بالوجدان ) لانّا لم نتتبع أقوال معاصري الشيخ ، ومن تقدّم على الشيخ ، ( الاّ أنّ المخبر ) وهو الشيخ في المثال ( قد أخبر به ) أي : باتفاق أهل الفتاوى في زمانه ومن قبله ( عن حسّ ) لانه مقتضى ظاهر قوله : اجمع العلماء على هذه المسألة ، ( فيكون ) قول الشيخ ( حجّة كالمحسوس لنا ) فهذه الحجة المتضمنة الى الأمرين الاخرين - من تتبعنا لفتاوى من تأخّر عن الشيخ وعثورنا على سائر الامارات - أوجب لنا العلم بالحكم .

( و ) ذلك ( كما ان مجموع ما يستلزم عادة لصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، اذا

ص: 80

أخبر به العادلُ عن حسّ قُبِلَ منه وعُمِلَ بمقتضاه ، فكذا إذا أخبر العادلُ ببعضه عن حسّ .

وتوضيحه ، بالمثال الخارجيّ ، أن نقول : إنّ خبر مائة عادل او ألف مخبر بشيء مع شدّة احتياطهم في مقام الاخبار يسلتزُم عادةً لثبوت المخبر به في الخارج ،

------------------

أخبر به العادل عن حسّ ، قبل منه وعمل بمقتضاه ) كما لو فرض أن الشيخ أخبر باجماع جميع علماء الاعصار والأمصار ( فكذا اذا أخبر العادل ببعضه ) كاتفاق المعروفين في زمان الشيخ ومن قبله ( عن حسّ ) وحصلنا الباقي من الأمارات والأقوال نحن بأنفسنا .

والحاصل : انه كما اذا أخبر العادل بشيء أوجب حكماً ، كذلك اذا اخبر العادل ببعض شيء وحصلنا على بعضه الآخر - مما يوجب الحكم وجب ايضاً ، فاذا فرض ان القسامة هي : خمسون قسماً ، لاثبات الدم أو اسقاطه ، فاخبر عادل بثلاثين قسماً منها والباقي من هذه القسامة حلفوا عندنا عشرين قسماً آخر ، فان القسامة تثبت بذلك كما انها تثبت اذا اخبر العادل بخمسين قسما ، أو حلفوا عندنا خمسين قسماً ، حيث الأدلة تشمل البعض ، كما تشمل الكل .

( وتوضيحه بالمثال الخارجيّ ) غير الشرعي ( أن نقول : انّ خبر مائه عادل ، أو ألف مخبر بشيء ) وان لم يكن أولئك الألف عدولاً ، يحصل منه التواتر المفيد للعلم ( مع شدّة احتياطهم في مقام الاخبار ) اذ المهم في الخبر هو صدق المخبر ووثاقته في خبره وان لم يكن عادلاً ومحتاطاً في سائر اموره ، فانه ( يستلزم عادة لثبوت المخبر به في الخارج ) حسب الحكم الشرعي في مائة عادل ، أو حسب بناء العقلاء في الف مخبر - مثلاً - .

ص: 81

فاذا أخبرنا عادل بأنّه قد أخبر ألفُ عادل بموت زيد وحضور دفنه ، فيكون خبره باخبار الجماعة بموت زيد حجّة ، فيثبت به لازمه العاديّ ، وهو موت زيد ، وكذلك إذا أخبر العادل باخبار بعض هؤلاء وحصّلنا اخبار الباقي بالسماع منهم .

نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالاً بلفظ الاجماع على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان ممّا لا يكون بنفسها او بضميمة

------------------

( فاذا أخبرنا عادل ) واحد - مثلاً - أو أكثر ( بأنّه قد أخبر ألف ) مخبر أو مائة ( عادل بموت زيد وحضور دفنه فيكون خبره ) أي خبر هذا العادل ( باخبار الجماعة بموت زيد ، حجّة ) لنا ، لأنّه خبر عادل عن حسّ ، وقد عرفت : ان خبر العادل عن حسّ حجّة ( فيثبت به ) أي بهذا الخبر ( لازمه العاديّ وهو : موت زيد ) لأنّ الخبر : ملزوم ، وثبوت موت زيد : لا زمه .

( وكذلك اذا أخبر العادل باخبار بعض هؤاء ) بأن قال - مثلاً - أخبرني خمسمائة مخبر بموت زيد مما يحصل نصف التواتر ، أو قال : أخبرني خمسون عادلاً بموت زيد ( وحصّلنا اخبار الباقي بالسماع منهم ) كأن سمعنا من خمسمائة آخرين حتى كمل التواتر ، أو سمعنا من خمسين عادلاً آخر ، فخبر من أخبرنا نصف حجّة ، وقد حصلنا على النصف الآخر بأنفسنا ، فكملت الحجّة .

( نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة اجمالاً بلفظ الاجماع ) اذ الاجماع هو : عبارة عن الفتاوى مجملة ، بينما اذا طلعنا على أقوالهم ، تكون تلك الأقوال مفصلةً بالنسبة الينا ، فانها ( على تقدير ثبوتها ) أي : ثبوت تلك الفتاوى ( لنا بالوجدان ) والقطع ، بأن اطلعنا على تلك الفتاوى بانفسنا ( ممّا لا يكون بنفسها ، أو بضميمة

ص: 82

أمارات اُخر مستلزمةً عادةً للقطع بقول الامام عليه السلام ، وإن كانت قد تفيده ، لم يكن معنى لحجّيّة خبر الواحد في نقلها تعبّدا ، لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ترتبُ لوازمه الثابتة له ولو بضميمة اُمور اُخر . فلو أخبر العادل باخبار عشرين بموت زيد

------------------

أمارات اُخر ، مستلزمة عادة للقطع بقول الامام عليه السلام ) كما اذا اطَّلعنا على خمسة من الأقوال ، وضمت اليه آية أو رواية أو أصل ، ولا دلالة في شيء منها ، فان المجموع لا يكون ملازماً لقول الامام عليه السلام ( وان كانت قد تفيده ) من باب الاتفاق ، مثلاً : اذا رأينا - ذات مرّة - انسان يهرب من أسد قطعنا من ذلك بأنّه جبان ، وكذا اذا رأينا شخصاً ينفق ماله مرة أو مرتين - مثلاً - قطعنا بأنّه كريم ، الى غير ذلك ، لكن الكلام ليس في الندرة الاتفاقية ، وانّما في اللازمة العادية .

وعلى هذا فانه ( لم يكن معنى لحجّية خبر الواحد في نقلها ) أي : نقل تلك الفتاوى ( تعبداً ) أي بدون دليل عقلائي ، فانّ الحجيّة انّما تكون بالدلالة العقلائية .

وذلك ( لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ) كالتعبد بخبر الواحد في اتفاق العلماء على حكم ، والتعبد بخبر الواحد في اخبار جماعة بموت زيد ، كما اذا قال عمرو : انّ جماعة أخبروه بموت زيد ، أو زواج بكر ، أو ما أشبه .

فان معناه : ( ترتب لوازمه ) أي لوازم ذلك الشيء ( الثابتة له ) كصدور الحكم عن الامام عليه السلام فانه من اللوازم الثابتة لاتفاق العلماء على حكم ، وكذا موت زيد ، وزواج بكر في الأمثلة المتقدمة ( ولو ) كان هذا الخبر ( بضميمة اُمور اخر ) من القرائن والامارات الخارجية .

ومثال ذلك ما ذكره بقوله : ( فلو أخبر العادل : باخبار عشرين بموت زيد ،

ص: 83

وفرضنا أنّ إخبارهم قد يوجب العلم وقد لا يوجب ، لم يكن خبرهُ حجّة بالنسبة إلى موت زيد ، إذ لايلزم من إخبار عشرين بموت زيد موتُه .

وبالجملة : فمعنى حجّية خبر العادل وجوبُ ترتب ما يدلّ عليه المخبر به مطابقةً ، او تضمّنا ، او التزاما عقليّا او عاديّا او شرعيّا ، دون ما يقارنه أحيانا .

------------------

وفرضنا ان اخبارهم قد يوجب العلم ، وقد لا يوجب ) لأنّ اخبار عشرين لم يحقّق التواتر ، ولم تكن القرائن المنضمة الى خبر العادل ، مما يوجب ثبوت موت زيد عرفاً ف( لم يكن خبره ) أي خبر العادل حينئذٍ ( حجّة بالنسبة الى موت زيد ) أو صدور الحكم من الامام عليه السلام او زواج بكر الى غير ذلك .

( اذ ) المفروض انه ( لا يلزم من اخبار عشرين بموت زيد ) ثبوت ( موته ) .

والحاصل : انّ اخبار العادل عن قول جماعة ، ان كان بنفسه حجّة أخذ به ، كما اذا أخبر عن قول كل علماء الأعصار والأمصار ، وان كان بضميمة القرائن حجة أخذ به - ايضاً - كما اذا أخبر بالاجماع الى زمانه ، ثم حصلنا على بقية الأقوال الى زماننا ، وان لم يكن لا بنفسه ، ولا بضميمة القرائن ، حجة لم يؤذ به .

( وبالجملة : فمعنى حجّية خبر العادل ) هو : ( وجوب ترتّب ما يدلّ عليه المخبر به مطابقة ، أو تضمّنا ، أو التزاماً عقليّاً ، أو عاديّاً ، أو شرعيّاً ) ، فاذا أخبر - مثلاً - : بان بكراً زوج هند دلّ بالمطابقة على زوجيته لهند ، وبالتضمّن على انّ هنداً زوجته ، وبالالتزام العقلي على الحكم باستحقاق العقاب ، اذا لم يؤ اليها حقها ، وبالالتزام العادي على حصول الولد منها ، وبالالتزام الشرعي على محرميته مع امّها .

( دون ما يقارنه احياناً ) كما في المثال السابق : من الاخبار : بان بكراً زوج هند

ص: 84

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا يختصّ بنقل الاجماع ، بل يجري في لفظ الاتفاق وشبهه ، بل يجري في نقل الشهرة ونقل الفتاوى عن أربابها تفصيلاً .

ثم إنّه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصّله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطعُ بصدور الحكم الواقعيّ عن الامام عليه السلام ،

------------------

حيث يقارنه أحياناً أن تأتي ضيوف هند الى دار الزوج .

والفرق بين اللازم العادي والأحياني واضح ، فان العادي : ما جرت العادة بحصوله ، بينما الأحياني : هو الحصول الاتفاقي الذي لم تجر العادة به .

( ثم انّ ما ذكرنا ) من انه قد يكون لنقل الاجماع ، بعض حجّة لا كل حجّة ، وانّما تكون الحجّة كاملة بانضمام سائر الفتاوى ، أو وجود سائر الأمارات المنضمة الى نقل ذلك الاجماع ، فانه ( لا يختص بنقل الاجماع ، بل يجري في لفظ الاتفاق وشبهه ) لأنّ الاتفاق وشبهه - أيضاً - قد يكون بعض حجّة .

( بل يجري في نقل الشهرة ، ونقل الفتاوى عن أربابها تفصيلاً ) كما يفعله صاحب مفتاح الكرامة في كثير من المسائل حيث ينقل أقوال جماعة من العلماء فيها وينهيها أحياناً الى ما يقارب الثلاثين قولاً ، فان ذلك يكون بعض حجّة فاذا ضممنا اليه سائر القرائن ، مما يفيد المجموع ، الحدس للملازمة العادية ، كفى في الاستناد .

( ثم انه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل ) من الاجماع والاتفاق ، وأقوال العلماء ، وشبهها ( وما حصّله المنقول اليه ، بالوجدان من الأمارات ) من آية أو رواية أو سيرة أو اصل ( و ) من ( الأقوال ) التي وجدها هو بنفسه في كتب العلماء ( القطع بصدور الحكم الواقعيّ عن الامام عليه السلام ) لعدم بلوغ المنقول

ص: 85

لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظنّيّ معتبر بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تامّا من جهة الدلالة وفقد المعارض ، كان هذا المقدارُ أيضا كافيا في اثبات المسألة الفقهية ، بل قد تكون نفس الفتاوى التي نقلها الناقلُ للاجماع إجمالاً مستلزما لوجود دليل معتبر فيستقل الاجماع المنقول بالحجّية بعد اثبات حجّية

------------------

والمحصّل معاً الى حدّ يلازم ملازمة عادية موافقة قول الامام عليه السلام ، ( لكن حصل منه ) أي : من ذلك المجموع المنقول ، والمحصل (القطع ) والمراد به : القطع بالتعبّد لا القطع الوجداني بالحكم ، لأنّ القطع اذا حصل من شيء فهو حجّة - في غير القطع الموضوعي ، وعليه : فانه قد يقطع تعبداً ( بوجود دليل ظنيّ معتبر ، بحيث لو نقل الينا ، لاعتقدناه تامّاً من جهة ) السند وجهة الصدور ، وجهة ( الدلالة وفقد المعارض ) اذ المنقول والمحصّل ، قد يسببان : القطع بقول الامام ، وقد يسببان : القطع التعبدي بوجود دليل معتبر في المسألة .

وكيف ( كان ) فان ( هذا المقدار أيضاً ) يكون ( كافياً في اثبات المسألة الفقهية ) وذلك لانه لا يلزم للانسان ، أن يحصل له الظن التعبدي ، بقول الامام ، بل الظن التعبدي بوجود دليل معتبر في المسألة ، كاف في الاستناد .

( بل قد تكون نفس الفتاوى التي نقلها الناقل للاجماع ) نقلاً ( اجمالاً ) أو نقلاً تفصيلاً - كما ذكرنا عن صاحب مفتاح الكرامة - ( مستلزماً لوجود دليل معتبر ) بان كان ناقل الاجماع - مثلاً - من العلماء المتقنين في النقل المطلعين على أقوال العلماء في الاعصار والأمصار ، بحيث يكون نقله الاجماع سبباً لظننا بوجود دليل معتبر في المسألة ، وان لم نظن منه ظناً معتبراً بقول الامام عليه السلام .

( فيستقل ) هذا ( الاجماع المنقول ) الذي ذكرناه ( بالحجّية ، بعد إثبات حجّية

ص: 86

خبر العادل في المحسوسات ، إلاّ إذا منعنا - كما تقدّم سابقا - عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى عادةً لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاما ، وإن كان قد يحصل العلمُ بذلك من ذلك ، إلاّ أنّ ذلك شيء قد يتفق ولا يوجب ثبوت الملازمة العادية التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه .

------------------

خبر العادل في المحسوسات ) فيكون ناقل الاجماع حينئذٍ ناقلاً للمحسوس ، الملازم عادة لموافقة الامام ، أو لوجود دليل معتبر ، ويكون كمن يخبر عن عدالة زيد ، أو شجاعته ، أو كرمه ، أو ما أشبه - مما تقدمت الاشارة اليه - .

( الاّ اذا منعنا - كما تقدّم سابقاً - عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى ) المعروفين (عادة ، لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاماً ) ، كما اذا قلنا : بأنّ استناد الناقل الى الحسّ بالنسبة الى أرباب الفتاوى المعروفين ، في الكتب المصنَّفة وغيرها ، انّما يفيد أقوال اولئك فقط ، ولا يستلزم عادة بنفسه موافقة الحكم الشرعي الصادر عن الامام أو الدليل المعتبر ، الذي اذا حصَّلناه كان حجّة بالنسبة الينا ( وان كان قد يحصل العلم بذلك ) الدليل المعتبر ، أو قول الامام عليه السلام ( من ذلك ) أي من اتفاق المعروفين من أصحاب الفتاوى والكتب .

( الاّ انّ ذلك شيء قد يتفق ، ولا يوجب ) الاطلاع على تلك الفتاوى ( ثبوت الملازمة العادية ، التي هي المناط في الانتقال من المخبر به ) وهو اتفاق العلماء (اليه ) أي : الى وجود دليل معتبر ، او موافقة قول الامام عليه السلام .

كما اذا حصَّلنا أقوالهم - مثلاً - بمراجعتنا كتب الشيخ الطوسي الى كتب الشيخ المرتضى ، فلم نحصل من ذلك على دليل معتبر في المسألة ولا على انّ هذه الفتاوى توافق قول الامام عليه السلام ، فحيث ان مراجعتنا الحسّية هذه لا تلازم ذلك الحدس ، وكذلك نقل الاجماع ، من ذلك الانسان المتقن للنقل لا يلازم ذلك

ص: 87

الا ترى أنّ إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به ، لكن لا ملازمةَ عاديّةَ بينهما ، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الاخبار .

وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادةً لتحقق المخبر به ، لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه ، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم وإلاّ

------------------

الحدس ، الذي يكون حجّة شرعية ، بين الانسان وبين اللّه سبحانه وتعالى .

( ألا ترى انّ اخبار عشرة ) أو نحوهم ( بشيء قد يوجب العلم به ) ولو علماً عادياً ، وهو : الظن المعتبر ( لكن لا ملازمة عادية بينهما ) أي : بين اخبار العشرة والعلم بذلك الشيء ، الذي اخبروا به ، ( بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الاخبار ) فانه يلازم العلم بذلك الشيء الذي اخبروا به .

( وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة ) من الاخبار ، كاخبار ألف في مثالنا ( تستلزم ) تلك المرتبة ( عادة لتحقق المخبر به ) عند الانسان ، الذي نقلت اليه تلك الاخبار .

( لكن ما يوجب العلم أحياناً ) كاخبار العشرة في مثالنا ، وكاتفاق المعروفين بالنسبة الى نقل الاجماع ( قد لا يوجبه ) أي لا يوجب العلم ، اذ قد يكون هناك تلازم عادي بينهما ، وقد لا يكون وان كان كلاهما من باب الاخبار ، فان للاخبار مراتب .

( وفي الحقيقة ليس هو ) أي : الاخبار كاخبار العشرة ، وكاتفاق المعروفين ( بنفسه الموجب في مقام حصول العلم ) أي : في المقام الذي يحصل لنا منه العلم انّما يحصل لنا بسبب القرائن ، كالتواتر ، والعدالة ، وغير ذلك ، وليس حصول العلم - أو الظن المعتبر - لنا ، من نفس الاخبار ( والاّ ) بان كان العلم

ص: 88

لم يتخلّف .

ثمّ إنّه قد نبّه على ما ذكرنا من فائدة نقل الاجماع بعضُ المحقّقين في كلام طويل له ، وما ذكرنا وإن كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكنّ الأولى نقل عبارته بعينها ، فلعلّ الناظر يحصّل منه غير ما حصّلنا ، فانّا قد مررنا على العبارة مرورا ، ولا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ماله دخل في مطلبه .

قال قدس سره ، في كشف القناع وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ما هذا لفظه: « وليعلم أنّ المحقّق في ذلك هو

------------------

يحصل لنا من نفس الاخبار، لا بمعونة القرائن ، كان اللازم : ان العلم ( لم يتخلّف ) عن الاخبار أبداً ، ولزم حصول العلم لنا - أو الظن المعتبر - من مجرد الاخبار .

( ثم انّه قد نبّه على ما ذكرنا من فائدة نقل الاجماع ) وهو : كونه بعض الحجّة ، فاذا حصلنا على الاقوال الأُخر ، أو أمارات اخر كان المجموع حجّة ( بعض المحقّقين ) وهو الشيخ أسد اللّه التُستري في كتاب له كتبه في الاجماع وذلك ( في كلام طويل له ، وما ذكرنا وان كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكن الاولى نقل عبارته بعينها ، فلعل الناظر يحصّل منه غير ما حصّلنا ، فانّا قد مررنا على العبارة مروراً ) ولم ندقق فيها تدقيقاً ، حتى يكون كلامنا مطابقاً لكلامه قطعاً ، ولهذا ننقل نفس العبارة ( ولا يبعد : أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه ) وهذا نصه : ( قال قدس سره في ) كتاب ( كشف القناع ، وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ) من جهة الصلاة ، وكأن كشف القناع وغيره ، نقل نفس العبارة (ما هذا لفظه : وليعلم انّ المحقّق في ذلك ) أي في نقل الاجماع ( هو :

ص: 89

أنّ الاجماعَ الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح او بسائر الألفاظ على كثرتها ، إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه او ما في حكمه في المجمعين ، فهو إنّما يكون حجّةً على غير الناقل باعتبار نقله السببَ الكاشفَ عن قول المعصوم او عن الدّليل القاطع او مطلق الدليل المعتدّ به

------------------

انّ الاجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح ) بان قال : إجماع في المسألة ، أو أجمع العلماء ، أو أجمع الفقهاء أو ما أشبه ( أو ) نقل ( بسائر الألفاظ على كثرتها ) كما اذا قال : إتّفق العلماء ، أو إتّفق الفقهاء أو إتّفقوا على هذا الشيء أو فيه إتفاق ، أو نحو ذلك من العبارات الكثيرة .

فانه ( اذا لم يكن مبتنياً على دخول المعصوم ) عليه السلام ( بعينه ) كما في الاجماع الدخولي فانه متعذر عادة في زمن الغيبة ( أو ما في حكمه ) أي حكم دخول المعصوم ( في المجمعين ) بان سمع مدّعي الاجماع تقرير المعصوم للمجمعين ، أو رأى تقريره او حدس به من اللطف ، او المكاشفات الرياضية أو نحوها .

( فهو ) أي الاجماع المذكور ( انّما يكون حجّة على غير الناقل ) وهو المنقول اليه، من غير فرق بين ان يكون حجّة بالنسبة الى الناقل ، أو لم يكن حجّة بالنسبة اليه (باعتبار نقله ) أي نقل الناقل ( السّبب الكاشف عن قول المعصوم ) عليه السلام ، فانّ نقل الاجماع سبب كاشف عن قول المعصوم فالناقل ينقل الكاشف .

( أو عن الدّليل القاطع ) بأن يكون نقل الاجماع كاشفاً عن وجود دليل قاطع في المسألة ، يوجب القطع .

( أو مطلق الدليل المعتد به ) بأن يكون نقل الاجماع كاشفاً عن دليل معتبر مطلقاً سواء اورث القطع او الظنّ .

ص: 90

وحصول الانكشاف للمنقول إليه والمتمسّك به بعد البناء على قبوله ، لا باعتبار ما انكشف منه لناقله بحسب ادّعائه .

فهنا مقامان : الأوّل حجّيتهُ بالاعتبار الاوّل ، وهي مبتنية من جهتي الثبوت والاثبات على مقدّمات :

------------------

وعليه : فنقل الاجماع يكون على ثلاثة اقسام :

اولاً : ان يكون كاشفاً عن قول الامام عليه السلام .

ثانياً : ان يكون كاشفاً عن دليل قطعي .

ثالثاً : ان يكون كاشفاً عن مطلق الدليل المعتد به ، سواء كان ذلك قطعياً أو ظنّياً ، بأن نعلم من نقل الاجماع ، أنّ في المسألة دليل معتبر ، أمّا هل أنه قطعي ، أو ظنّي ، فلا نعلم به ؟ .

هذا بالنسبة الى نقل الاجماع وكونه كاشفاً ( و ) أمّا بالنسبة الى ( حصول الانكشاف للمنقول اليه ، والتمسّك به ) أي : بما انكشف له بسبب الاجماع ( بعد البناء على قبوله ) للسبب بان كان نقل السبب حجّة ، لأنه خبر عادل حسّي ، فانه (لا) يكون للمنقول اليه حجّة ( باعتبار ) نقل ( ما ) أي : قول الامام عليه السلام ، أو الدليل

القطعي ، أو الدليل المعتبر الذي ( انكشف منه ) أي : من الاجماع ( لناقله بحسب ادّعائه ) فانّ اطلاع ناقل الاجماع على أقوال العلماء أوجب له العلم ، أما ان ذلك يوجب العلم للمنقول اليه ، فلا ملازمة .

( فهنا مقامان : ) أي : انه من جهة نقل السبب : قطعي لأنه حسّي ، وأما من جهة نقل المسبّب : فليس بقطعي ، وان فرض انّ الناقل حصل له القطع من تتبع الفقهاء .

( الأول : حجّيته ) أي الاجماع ( بالاعتبار الأوّل ) أي : نقل السبب ( وهي : ) أي الحجيّة المذكورة ( مبتنية من جهتي الثبوت والاثبات على مقدّمات ) .

ص: 91

الاُولى : دلالة اللفظ على السبب ، وهذه لابدّ من اعتبارها ، وهي محققة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم مالم يصرف عنها صارف ،

------------------

اما جهة الثبوت فهي عبارة عن دلالة قوله : في المسألة إجماع ، على اتفاق العلماء .

واما جهة الاثبات ، فهي عبارة عن : ان هذا الاجماع يثبت قول المعصوم عليه السلام ، أو الدليل المعتبر .

لكن لا يخفى : انّ الثبوت والاثبات في الاصطلاح ، غير ما ذكره هنا ، فانه يقال - مثلاً - : في عالم الثبوت والواقع ، يمكن اجتماع الأمر والنهي وفي عالم الاثبات : هل الدليل دلّ على جمع الشارع بينهما في الصلاة في الدار المغصوبة ام لا ؟ أمّا أن يراد بالثبوت : دلالة اللّفظ على المعنى ، وبالاثبات : اثبات اللّفظ لقول الامام عليه السلام ، أو دليل معتبر - مثلاً - فهو اصطلاح له ، ولا مشاحة فيه .

اما الجهة ( الأولى : ) فهي ثبوت ( دلالة اللّفظ على السبب ) أي : سببيّة الاجماع للكشف عن قول المعصوم ، أو عن دليل معتبر ( وهذه ) الدلالة ( لا بد من اعتبارها ) فانّه لولا هذه الدلالة ، لم يكن وجه للحجّية - كما هو واضح - .

( وهي : ) أي : هذه الدلالة ( محققة ) أي : ثابتة ( ظاهراً في الالفاظ المتداولة بينهم ) في مقام حكاية الاجماع ، كقولهم : في هذه المسألة اجماع أو أجمع العلماء أو إتفقوا أو هذا هو مذهب أهل البيت ، أو ما أشبه ذلك ( ما لم يصرف عنها صارف ) بأن كان اللّفظ دالاً على الاجماع لكن كان في المقام صارف يدلّ على ارادة مدّعي الاجماع : الشهرة ، أو تدوين الرواية ، أو ما أشبه ذلك ، كما اذا قال : - أجمع العلماء الاّ قليلاً منهم أو نحو هذا اللفظ ، مما يدل على انّه يريد بالاجماع الشهرة .

ص: 92

وقد يشتبه الحالُ إذا كان النقلُ بلفظ الاجماع في مقام الاستدلال ، لكن من المعلوم أنّ مبناه ومبنى غيره ليس على

------------------

( وقد يشتبه الحال ) في عبارة مدّعي الاجماع ، ولم يعلم انه هل يريد اجماع الفقهاء أو يريد الشهرة ؟ فيما ( اذا كان النقل بلفظ الاجماع ) ، ووجه الاشتباه انّه اذا نقل الناقل ، الاجماع على الحكم بصورة مطلقة ، وقال : مطهرية ماء البئر اجماعية ، فانّه يدلّ على اتفاق الكل ، وأما اذا كان في مقام الاستدلال لما ذهب اليه كما اذا قال - في انفعال الماء القليل بملاقات النجاسة وعدمه - : الظاهر : انه ينجس للاجماع ، فانّ اجماعه هذا لا يدل على اتفاق الكل ، لاحتمال انّه أراد : الشهرة ، وانّما لا يكون دالاً على اتفاق الكل ، لأنّ الانسان في مقام الاستدلال ، يتمسك بكل شيء يراه كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام ، أو عن دليل معتبر ، ولعل الشهرة عنده كاشفة فأراد بالاجماع : المعنى المجازي له لا الاتفاق الحقيقي .

وعليه : فاذا كان النقل بلفظ الاجماع ( في مقام ا لاستدلال ) لا مطلقاً فلا يكون اجماعه كاشفاً عن انّه يريد به : اتفاق الكل .

أقول : لكن هذا التعليل المذكور ، للفرق بين : الاجماع المطلق ، والاجماع في مقام الاستدلال ، غير ظاهر الوجه عندي ، وان ذكره بعض لوضوح : انّ الاجماع هو إجماع ، سواء كان في مقام الاستدلال ، أو كان مطلقاً فانّ المتبع هو الظهور ، والظهور فيهما واحد .

( لكن من المعلوم : ان مبناه ومبنى غيره ) أي مبنى كشف الاجماع عن قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر للتلازم العادي بين الكاشف والمنكشف على الحدس ، ومبنى غيره : من اسباب حجّية الاجماع ، كاللطف ، ونحوه ( ليس على

ص: 93

الكشف الذي يدّعيه جهّال الصوفيّة ، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة ،

------------------

الكشف الذي يدّعيه جُهّال الصوفيّة ) والاضافة هنا بيانية ، أي : الصوفية الجهال ، فانّ الصوفية يقولون بان هناك مراتب للانسان :

الاولى : انّ الانسان يكشف الواقع بالدليل .

الثانية : أن يكشفه بالرؤة ، من دون احتياج الى الدليل ، كما نكشف المرئيات بالرؤة ، فلا حاجة الى الاستدلال ، والفرق بين المحسوسات والمعنويات ، انّ الاولى كشفها بالحس الظاهري ، والثانية كشفها بالعقل ، وقد اشير الى ذلك في بيت معروف بالفارسية يقول :

« پاى استدلاليان چوبين بود***پاى چوبين سخت بى تمكين بود » .

الثالثة : ان يكشفه بالاتحاد وجوداً أو موجوداً مع المبدء الأعلى ، فيكون الكاشف والمنكشف شيئاً واحداً وجوداً عند من يقول منهم : بوحدة الوجود وتعدد الموجود ، أو موجوداً عند من يقول منهم : بوحدة الوجود والموجود ، وانه لا موجود الاّ هو - بنظرهم - تعالى اللّه عن ذلك ، وقد دلّت الأدلة العقلية والسمعية على بطلان ما يذكرون من المراتب ، مما لسنا بصدد ذكرها (1) .

وقد اشار المصنّف الى ذلك ، ليعلم ان الكشف الذي يقول به الفقهاء ، ليس على نحو هذا الكشف ، وانّما هو : المفهوم منه في الفقه والاصول .

( ولا على الوجه الأخير ) وهو : مشافهة الامام عليه السلام دخولاً أو التشرف بخدمته مما قد يتفق للنادر جداً ، كما ينقل عن المقدس الأردبيلي ، والسيّد بحر العلوم ويسمّى بالاجماع التشرفي ( الذي ان وجد في الأحكام ، ففي غاية الندرة ) ، فانّ

ص: 94


1- - راجع كتاب شرح منظومة السبزواري للشارح .

مع أنه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته واقعا كافٍ في الحجّية .

فاذا انتفى الأمران تعيّن سائرُ الأسباب المقرّرة ، وأظهرُها غالبا عند الاطلاق حصولُ الاطّلاع بطريق القطع

------------------

من شافه الامام عليه السلام في زمان الغيبة الكبرى انّما يؤر عنهم : انهم قد سألوه عليه السلام عن بعض الامور .

هذا ( مع انه على تقدير بناء الناقل ، عليه ) أي على التشرف بان يدعي الاجماع ويريد : تشرفه بخدمته عليه السلام ( وثبوته واقعاً ) بأن تحقق التشرف في زمان الغيبة - كما ينقل عن المقدس الاردبيلي - وحيث انه لا يريد أن يقول : تشرفت بحضوره عليه السلام - لما ورد من تكذيب مدّعي الرؤة - فيظهره بلفظ - الاجماع ، حتى يجمع بين الأمرين : بيان الحكم واخفاء التشرف .

وهذا ( كاف في الحجيّة ) لأنّه نقل لقول المعصوم عليه السلام عن حسّ وانّما الكلام في كلا الأمرين : ثبوت التشرف واقعاً ، وبناء الناقل على ذكر التشرف بلفظ الاجماع .

( فاذا انتفى الأمران : ) من الكشف لقوله عليه السلام عن طريق الدخول وما في حكمه ، ومن التشرف بحضوره ومشافهته عليه السلام ( تعيّن سائر الأسباب المقرّرة ) لكشف قول المعصوم مثل : استكشاف قوله عليه السلام من اتفاق الكل بقاعدة اللّطف ، او بالحدس الضروري ، أو بالحدس الاتفاقي ، مما قد تقدّم : بانه قد ينضم اليه بعض الأمارات ونحوها ، فتيقن الناقل : انّ قول الامام عليه السلام مطابق لما يذكره .

( وأظهرها ) أي : أظهر تلك الأسباب ( غالباً عند الاطلاق ) للاجماع ، وعدم وجود القرينة الصارفة ( حصول الاطّلاع ) على قول الامام عليه السلام أو الطريق المعتبر ( بطريق القطع ) كما اذا تتبع جميع الأقوال لعلماء الأعصار والأمصار، ورأى الكل

ص: 95

او الظنّ المعتدّ به على اتّفاق الكلّ في نفس الحكم .

ولذا صرّح جماعة منهم باتحاد معنى الاجماع عند الفريقين وجعلوه مقابلاً للشهرة ، وربما بالغوا في أمرها بأنّها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك ،

------------------

مجمعين على رأي ( أو الظنّ المعتدّ به ) أي : الظن المتاخم للعلم ، كما اذا أخبره العادل : باتفاق الكل عن تتبع مما يكون قول العادل مفيداً للظن المعتبر بالنسبة الى المنقول اليه ، فيكون كما اذا تتبع هو بنفسه ، حيث يحصل له الظنّ المعتبر ( على اتفاق الكلّ ) أي جميع علماء الأعصار والأمصار ( في نفس الحكم ) لا اتفاق البعض ، وانّما كشف الناقل عن البعض الآخر على سبيل الظن أو نحوه .

( ولذا ) أي لأجل انّ اللّفظ الاجماعي والاتفاق ونحوهما ظاهر في اتفاق جميع العلماء على الحكم المدعى عليه الاجماع ( صرّح جماعة منهم ) أي العلماء (باتحاد معنى الاجماع عند الفريقين ) : العامة والخاصة ، فكلاهما يرى الاجماع بمعنى اتفاق الجميع لكن اتفاق جميع المسلمين عند العامة ، واتفاق جميع المؤنين عند الخاصة ( وجعلوه ) أي الاجماع ( مقابلاً للشهرة ) فانّ الشهرة أقل مرتبة من الاجماع .

كما انهم فرّقوا بين : الأشهر والمشهور ، فان المشهور أقوى من الأشهر ، لأنّ الأشهر في قباله شهرة ، بخلاف المشهور ، فليس في قباله شهرة .

( وربما بالغوا في أمرها ) أي الشهرة ( بأنّها كادت تكون إجماعاً ، ونحو ذلك ) بأن يقال : المشهور كذا ، بل قيل انه اجماعي ، أو المشهور كذا ويحتمل أن يكون اجماعياً الى غير ذلك ، مما يدل على انّ للاجماع عند الخاصة مرتبة أعلى من الشهرة .

ص: 96

وربما قالوا : إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعية ، وإذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة والمسألة والنَّقَلَة واختلف الحال في ذلك ،

------------------

( وربما قالوا : ان كان هذا مذهب فلان ، فالمسألة إجماعية ) فان هذا دليل على انّ الكل يقولون بالمسألة الاّ فلان ، فانه من المحتمل أن يقول أو ان لا يقول ، حتى انه اذا كان مذهبه أيضاً مثل غيره ، كان الانصراف اجماعياً ، وهذا كله دليل على ان الاجماع عند الخاصة عبارة عن : اتفاق جميع العلماء .

( واذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة ) كما في قولهم : في المسألة اتفاق علماء العصر ، أو إتفاق علماء الأعصار والأمصار ، أو اتفاق أرباب الكتب المعروفة ، أو اتفاق أصحاب الكتب ، ونحو ذلك .

( والمسألة ) حيث انّ بعض المسائل معنونة في كلمات العلماء ، وبعض المسائل ليست معنونة ، فاذا كانت المسألة معنونة وادعى عليها الاجماع ، كان أقرب الى الواقع .

( والنَقَلَة ) فان من النقلة من يكون كثير الاحاطة ، فاذا ادعى الاجماع ، كان قوله أقرب الى الواقع ، ومنهم من يكون قليل الاحاطة فلا اعتبار بنقله الاجماع .

( واختلف الحال في ذلك ) كما اذا شككنا : بأنّ المسألة معنونة أم لا ، أو انّ مراده بعلماء الأعصار : كل الأعصار أو بعض الأعصار ، أو انّ الناقل : قليل الاطلاع او كثير الاطلاع ، أو ان هذا الكتاب - مثلاً - الّفه عند كثرة اطلاعه ، أو قلّة اطلاعه ، فانّ الكتب تختلف - بحسب ذلك - فطهارة الشيخ المرتضى - مثلاً - كتبت في أوائل أيامه ، كما يقولون ، بينما الرسائل والمكاسب كتبتا في أواخر أيامه .

ص: 97

فيؤخذ بما هو المتيقن او الظاهر ، وكيف كان ، فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقق الاتّفاق المعتبر كان معتبرا ، وإلاّ فلا .

------------------

( فيؤخذ بما هو المتيقن ) من جهة : العبارة ، والمسألة ، والنقلة ، فاذا شككنا : بأنّ مدعي الاجماع فيما يدّعيه من اتفاق أرباب الكتب ، هل يريد : الكتب الحاضرة عنده ، أو اتفاق أصحاب الكتب المعروفين ، أو اتفاق الكتب التي كتبت في عصره ، أو مطلق الكتب ؟ أخذنا بالمتيقن وهو : الاقل ، ( أو ) اخذنا ب( الظاهر ) فيما اذا كان له ظهور في بعض تلك التي ذكرناها ، فاذا كان هناك ظاهر أخذنا به ، واذا لم يكن هناك ظاهر ، بان كان اللّفظ مجملاً ، أخذنا بالمتيقن .

( وكيف كان ) الأمر ، أي : سواء كان اجماع مدعي الاجماع ظاهرا في نقل السبب ، أو في نقل المسبب أو في نقل كليهما بنفسه ، مثل قوله : أجمع العلماء كافة ، أو أجمع علماء الشيعة ، أو ما أشبه ذلك ( فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن) الخارجية الدالة (على تحقق الاتفاق المعتبر) وهو: اتفاق جميع العلماء ؟.

وعليه : فاذا افاد اللفظ بنفسه ، أو بانضمام سائر القرائن والأمارات موافقة الامام عليه السلام أو وجود الدليل المعتبر - على ماذكرناه : من أنّ الاجماع ، قد يكون هو الكاشف بوحده ، وقد يكون بضميمة فحْصَنا لأقوال العلماء بعد مدعي الاجماع ، وقد يكون بضميمة امارة خارجية ( كان ) هذا الاجماع المدعى ( معتبرا ) ومعتمدا من فهم الأحكام ( وإلاّ ، فلا ) يمكن الاعتماد عليه .

نعم ، مثل هذه الاجماعات ، يمكن أن تكون مؤيدة .

هذا تمام الكلام في المقدمة الاولى ، وهي : كون أقوال العلماء سببا كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام ، أو عن دليل معتبر .

واما المقدمة الثانية فهي : انه اذا نقل هذا السبب مدعي الاجماع ، فهل يمكن

ص: 98

الثانيةُ : حجّية نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه ، وذلك لأنّه ليس إلاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها لمقلّديهم وغيرهم ، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه

------------------

الاعتماد عليه أم لا ؟ .

ثم بعد ذلك ، يأتي دور المقدمة الثالثة وهي : انه لو فرض تمامية هذين المقدمتين من كون قول العلماء كاشفا ، وقول مدعي الاجماع الحاكي لأقوالهم يمكن الاعتماد عليه ، فهل يمكن كشف قول المعصوم عليه السلام من الاجماع المدعى ام لا ؟ اذ لعله لايمكن كشف قول المعصوم من الاجماع المدعى ، بأن لا يكون الاجماع المدعى حجّة على قول المعصوم ليمكن الأخذ به ، وذلك فيما اذا كان الشارع لم يجعله حجّة على قول المعصوم ، كما لو لم يجعل الشاهد على الشاهد حجّة فرضا ، أو لم يجعل كتاب القاضي الى القاضي حجّة الى غير ذلك .

وقد ألمع المحقق التُستري رحمه اللّه الى المقدمة الثانية بقوله : ( الثانية : حجّيّة نقل السبب المذكور ، وجواز التعويل عليه و ) انّما يجوز ( ذلك ) لاُمور : نذكرها ( لأنّه ) أي : نقل السبب المذكور ( ليس الاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها ) أي : على فتاواهم ( لمقلّديهم وغيرهم ) .

فكما انّ ناقل الفتوى للمقلدين يقول : أفتى المجتهد بكذا ، ويكون ذلك حجّة بالنسبة الى مقلديه ، كذلك اذا قال العالم : قام الاجماع على كذا ، يكون قوله حجّة على الفقهاء ، الذين يريدون كشف قول المعصوم عليه السلام .

( و ) على هذا ، يكون نقل الاجماع مثل ( رواية ما عدا قول المعصوم عليه السلام ونحوه ) فان الراوي ، قد يروي قول المعصوم ويقول : قال الصادق عليه السلام - مثلاً - :

ص: 99

من سائر ما تضمنه الأخبار كالأسئلة التي تعرف منها أجوبته ، والأقوال والأفعال التي يعرف منها تقريره ، ونحوهما ممّا تعلّق بها ، وما نقل من سائر الرواة المذكورين في الأسانيد

------------------

« لا يَصلُح التَمرُ اليابِس بالرُطَب » (1) ، وقد يروي قول المعصوم وقول غير المعصوم - مثلاً - ويقول : سأل زرارة الصادق عليه السلام ، هل يجوز بيع الرطب بالتمر ؟ فقال الصادق عليه السلام : لا ، فان هذا الراوي نقل قول زرارة ، وقول زرارة ليس برواية ، ومع ذلك ، فانّه يكون حجّة في انّ زرارة سأل الامام عليه السلام عن ذلك .

ثم اوضح « ما عدا » بقوله : ( من سائر ما تضمنه الأخبار ، كالأسئلة التي تعرف منها ) أي من تلك الأسئلة ( أجوبته ) عليه السلام ( والأقوال والأفعال التي يعرف منها ) أي : من تلك الأقوال والأفعال ( تقريره ) عليه السلام ، فان قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة ، فكما انه اذا نقل قوله كان حجّة بالنسبة الى السامع ، كذلك اذا نقل فعله أو تقريرة ، وقال - مثلاً - : انّ فلانا فعل بحضرة الامام عليه السلام كذا ، فسكت الامام عليه من غير تقية ، ولا ضرورة ، ولا ما أشبه ، كان ذلك حجّة أيضا .

وعليه : فكما انّ رواية هذه الاُمور حجّة بالنسبة الى السّامع ، كذلك قول مدعي الاجماع يكون حجّة بالنسبة اليه ، مثل نقل الأسئلة والأقوال والأفعال المذكورة (ونحوها ممّا تعلّق بها ) أي بالاخبار كنقل قول ابن عباس - مثلاً - في التفسير أو ما أشبه ، مما يستكشف منه : انّه حيث كان من تلاميذ الامام أمير المؤمنين ، فقوله مأخوذ منه عليه السلام .

( و ) مثل : ( ما نقل من سائر الرواة المذكورين في الأسانيد ) كقول شيخ الطائفة - مثلاً - : زرارة ثقة ، ومحمد بن مسلم عين ، أو ما أشبه ، فانه يؤخذ بقوله ، كذلك

ص: 100


1- - وسائل الشيعة : ج18 ص149 ب14 ح23354 .

وغيرها ، وكنقل الشهرة واتّفاق سائر اُولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى او جماعة منهم وغير ذلك .

وقد جرت طريقةُ السلف والخلف من جميع الفِرَق على قبول أخبار الآحاد في كلّ ذلك ، ممّا كان النقلُ فيه على وجه الاجمال

------------------

اذا قال : قام الاجماع في المسألة ، فانه يؤخذ به أيضا .

( وغيرها ) أي : غير ما ذكر من حال الرواة كنقل حالات الأنبياء والأئمة عليه السلام والقصص والتواريخ ، فان نقل الاجماع مثل هذه الأمور ، فكما يقبل قول العادل في هذه الأمور ، كذلك يقبل قول العادل : في ان المسألة إجماعية .

( و ) ليس نقل الاجماع الا ( كنقل الشهرة ، واتفاق سائر أُولي الآراء ، والمذاهب وذوي الفتوى ) كاتفاق اليهود أو النصارى على كذا ، واتفاق الأطباء أو الادباء على كذا ( أو ) نقل اتفاق ( جماعة منهم ) كقوله : ذهب النحاة من أهل البصرة ، أو ذهب أطباء أنطاكية الى كذا ( وغير ذلك ) من الامور المرتبطة بالمعاش أو بالمعاد ، في جميع خصوصياتهما .

( وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفِرَق ) سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ( على قبول أخبار الاحاد في كلّ ذلك ) الذي ذكرناه من الامثلة اذا كان الناقل عدلاً عند المسلمين ، او ثقة عند غيرهم .

بل يمكن أن يقال : بأنّ نقل الثقة عند المسلمين أيضا حجّة ، فقد قال عليه السلام : « الأشياءُ كُلها عَلى هذا حَتّى يَستَبِينَ لك غير ذلك أو تَقومُ بِه البَيّنَةُ » (1) .

والاستبانة شاملة لقول الثقة أيضا ( مما كان النقل فيه على وجه الاجمال ) كنقل

ص: 101


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .

او التفصيل وما تعلّق بالشرعيّات او غيرها ، حتى أنّهم كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه والاستناد إليه لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم ، فيلزم

------------------

الشهرة ، أو الاتفاق ، أو نقل اتفاق جماعة خاصة .

( او ) على وجه ( التفصيل ) كنقل قول العلماء واحدا واحدا أو نقل فتوى المرجع لمقلديه .

( و ) ذلك بلا فرق بين نقل ( ما تعلّق بالشرعيّات أو غيرها ) فانّ الناقل قد ينقل الأمور الشرعية : كالصلاة ، والصوم ، وقد ينقل غير الشرعيات كقول اللّغوي والأديب ، والجرح والتعديل ، والطبيب والمهندس ، وغير ذلك مما يقوم عليها المعاش والمعاد .

( حتى انهم ) أي : العقلاء ( كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر ، معتمدين على نقل غيرهم ، من دون تصريح بالنقل عنه ) أي عن ذلك الغير ( و ) من دون (الاستناد اليه ) أي : الى ذلك الغير ، فيقولون - مثلاً - : معنى اللّفظ الفلاني : كذا مع العلم انهم لا يعلمون به ، وانّما ينقلونه عن صاحب القاموس ، بلا ان يذكروا : انه قول صاحب القاموس ، وكذلك في المسائل الفقهية ، والاصولية ، والأدبية ، وغيرها ، وانّما ينقلونه بدون الاستناد ( لحصول الوثوق به ) أي : بذلك الغير ، الذي حكم بذلك (وان لم يصل إلى مرتبة العلم ) فانّ من يقول : معنى الأسد الحيوان المفترس ، وهو لا يعلم انّ معناه ذلك ، وانّما رآه في القاموس واعتمد عليه فهذا الاعتماد من الانسان على اللغوي - مثلاً - يكفي في اخذ قوله مطلقا ، بلا حاجة الى العلم .

( فيلزم ) بمقتضى السيرة المذكورة للعقلاء والعلماء ، في كافة الأعصار

ص: 102

قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ، لاشتراك الجميع في كونها نقل غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل ، كما هو المفروض .

وليس شيء من ذلك من الاصول

------------------

والأمصار ( قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ) فكما انّ خبر الواحد في سائر الأبواب حجّة كذلك خبر الواحد في انّ المسألة اجماعية حجّة أيضا ، وذلك ( لاشتراك الجميع ) سواء كان يدعي الاجماع أو سائر موارد النقل ( في كونها ) أي : جميع تلك الموارد (نقل ) أمر ( غير معلوم ) للمنقول اليه ( من غير معصوم ) لمقارنة نقل قول المعصوم ، بنقل قول غير المعصوم ، فاذا كان نقل قول غير المعصوم ، حجّة ، يكون ، نقل قول المعصوم حجّة أيضا ( و ) ذلك لاشتراك الجميع في ( حصول الوثوق بالناقل ) للمنقول اليه ( كما هو المفروض ) لانه بدون الوثوق لايمكن النقل ( وليس شيء من ذلك ) أي : مما ذكرناه : من الخبر الواحد على معنى اللّغة ، أو جرح الراوي أو توثيقه ، أو نقل فتوى المجتهد ، أو اتفاق الكل، أو غير ذلك ( من الاصول ) الكلية ، التي تبنى عليها مسائل كثيرة ، كأصل : « الخراج بالضمان » (1) ، أو أصل : « ما لايدرك كله لا يترك كله » (2) ، أو أصل : « اقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (3) ، الى غير ذلك من الاصول ، حيث توهم بعض : انّ خبر الثقة فيها ليس بحجة ، وانّما حجية خبر الثقة في الامور الجزئية الفرعية ، لا في الاصول الكلية ، المبنية عليها مسائل كثيرة ، وذلك لجلالة قدر الاصول الكلية ، فلا يعتمد فيها على خبر الثقة ، وان اعتمد على خبر الثقة في الامور الجزئية .

ص: 103


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص219 ح89 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

حتى يتوهّم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد - مع أنّ هذا الوهم فاسد من أصله ، كما قُرّرَ في محلّه - ولا من الامور المتجدّدة التي لم يعهد الاعتمادُ فيها على خبر الواحد في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام والصحابة ،

------------------

وعلى أي حال : فليس ما ذكرناه ، من الاصول ( حتى يتوهّم : عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد ، مع انّ هذا الوهم ) أي : عدم الاكتفاء بالخبر الواحد في المسائل الاصولية الكلية ، ( فاسد من أصله ، كما قرّر في محلّه ) وذلك لأنّ أدلة حجّية الخبر كما قرّر في محله من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، لا يفرّق فيها بين : الاصول الكليّة ، والموارد الجزئية ، فلا فرق بين : ان يروي زرارة عن الامام عليه السلام قاعدة :« ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسدة »(1) - مثلاً - أو يروي عنه : انّ ابن أبي عمير ثقة ، مع انّ الأوّل : من الاصول الكلية ، والثاني : من الامور الجزئية ، فان ادلة خبر الواحد يشملهما معا على حدّ سواء .

( ولا ) شيء ( من الامور المتجدّدة ، التي لم يعهد الاعتماد فيها ) أي في هذه الأمور المتجددة ( على خبر الواحد في زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام ، والصحابة ) الذين اتبعوهم باحسان ، فانّ المعاني اللّغوية ، والفتوى ، وحالات الرواة وما أشبه ، ليست امورا حدثت بعد زمان المعصومين عليهم السلام او لم تكن معهودة في زمانهم حتى يقال : انّ الأدلة الدالة على حجّية خبر الواحد ، لا تشمل هذه الاُمور الحادثة بعدهم ، اذ الامور هذه كانت موجودة في زمانهم عليهم السلام والى يومنا هذا ، وقد عمل عقلاء العالم بخبر الواحد في أمثال هذه الامور ، ولم يمنعهم المعصومون عليهم السلام ، فيكون خبر الواحد حجة لنا بالنسبة الى هذه الامور أيضا .

ص: 104


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .

ولا ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ، مع أنّ هذا لا يمنعُ من التعويل على نقل العارف به ، لما ذكر .

ويدلّ عليه مع ذلك مادلّ على حجّية خبر الثقة العدل بقول مطلق

------------------

( ولا ) شيء ( ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ) فانّ الفتوى وأحوال الرواة ، والمعنى اللغوي ، وما أشبه ذلك ، ليست امورا نادرة ، حتى يقال ، بأنّ الخبر الواحد لايشمل الامور النادرة وان حجّية خبر الواحد انّما تكون في غير أمثال هذه الامور . ( مع انّ هذا ) أي : كون هذه الامور من الامور النادرة - لو سلِّم ندرتها - ( لايمنع من التعويل على نقل العارف به ) أي : بهذا الذي ذكرناه : بانه من الامور النادرة ، فان الاخبار بها وان كان لايقبل من كل أحد ، لكنه يقبل من أهل الاختصاص العارفين بها ، فكون الرّاوي ثقة أو مجروحا ، وكون معنى لفظ الآنية - مثلاً - : كل ظرف أو ظرف خاص ، أو ما أشبه ذلك ، ليس شأن كل احد حتى يكون كثيرا ، بل هو نادر ومن شأن العارف بها ، فيقبل قول العارف فيها .

وعليه : فاطلاق أدلة خبر الواحد ، وكذلك السيرة ، قائمة على حجّية خبر الواحد في هذه الامور ، ودعوى الناقل : إجماع العلماء على حكم خاص ، أيضا من قبيل هذه الاُمور ، فيقبل قوله ( لما ذكر ) من أنّه أحد أفراد الخبر الواحد ، وقد جرت سيرة العقلاء على قبوله بلا محذور .

والحاصل : انّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيؤثر المقتضي أثره .

( ويدلّ عليه ) أي : على حجّية خبر الواحد في الامور المذكورة ، والتي منها ادعاء الاجماع الذي نحن بصدده ( مع ذلك ) أي مضافا الى السيرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم السلام ( مادلّ على حجّية خبر الثقة العدل بقول مطلق ) من بناء العقلاء ، والآيات والروايات ، وغيرها ، فانّ أدلة حجّية خبر الواحد ، تشمل كل

ص: 105

وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ولا طريقَ إليه غيره غالبا .

إذ المعلوم شدّةُ الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتّى لا محيصَ عنها ، كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذّ من الأخبار والأقوال والموافق للعامّة او أكثرهم والمخالف لهم

------------------

خبر جامع للشرائط ، سواء كان خبر العادل عن الحكم ، أو عن شؤون الرواية ، أو عن شؤون اللّغة ، أو في ادعاء الاجماع ، أو غيرها .

بل ويدل على حجيّة خبر الواحد في هذه الامور ، دليل الانسداد الصغير أيضا ، واليه أشار بقوله : ( وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ) أي : ما لابد من معرفته ، ( ولا طريق إليه ) أي الى ذلك الذي لا غنى من معرفته ( غيره غالبا ) أي غير الظن المطلق ، فانه لو فرضنا عدم وجود الأدلة الخاصة على حجّية الخبر الواحد ، فدليل الانسداد كاف في افادته الحجّية .

( اذ المعلوم شدّة الحاجة الى معرفة أقوال علماء الفريقين ) : العامة والخاصة (وآراء سائر أرباب العلوم ) كالرجالي ، والنحوي ، واللغوي والمفسّر ، وغيرهم (لمقاصد شتّى ) أي : احتياجات متعددة ، وشتّى : جمع شتيت ، مثل مرضى جمع مريض ، مما ( لا محيص ) أي : لا مفر ( عنها ) أي : عن معرفة تلك الامور .

( كمعرفة المجمع عليه والمشهور ، والشاذّ من الأخبار والأقوال ) سواء كان قولاً في الحكم الفقهي ، أو في اللّغة ، أو غيرهما .

( و ) معرفة ( الموافق للعامّة ، أو أكثرهم ، والمخالف لهم ) جميعا أو أكثرا ، فانه يؤخذ بالخبر المخالف لهم ، ويترك المخالف في مقام الترجيح - اذا وصلت النوبة الى ذلك - .

ص: 106

والثقة والأوثق والأورع والأفقه ، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة وقواعد العربيّة التي عليها يبتنى استنباط المطالب الشّرعيّة وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ، وغير ذلك ، ممّا لا يخفى على المتأمّل .

ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك

------------------

( و ) معرفة ( الثقة ، والأوثق ، والأورع ، والأفقه ) من الرواة في مقام الترجيح أيضا ، حتى يتّضح الحجّة عن غير الحجة ويمتاز الراجح عن المرجوح .

( وكمعرفة اللغات ، وشواهدها المنثورة ، والمنظومة ) فانّ اللّغات لها معاني خاصة ، يمكن أن يستدل لتلك المعاني بآية ، أو رواية ، أو شعر ، أو نثر من فصحاء العرب ، أو من أشبههم .

( و ) معرفة ( قواعد العربيّة ، التي عليها يبتنى استنباط المطالب الشرعيّة ) من الفاظ الكتاب ، والسنّة ، فان الكتاب والسنّة بما هما عربيان ، يحتاج المستنبط الى فهم اللّغات الواردة فيهما ، فان ذلك من مقدمات الاجتهاد - كما هو واضح - ، هذا بالنسبة الى الأحكام ، وأما بالنسبة الى الموضوعات فكذلك ، ولذا قال ( وفهم معاني الأقارير ، والوصايا ، وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ) فانه اذا أقرّ انسان بشيء ، أو أوصى موصٍ بأمر ، أو اشترط شيئا في العقد ، أو الايقاع ، أو نحو ذلك ، فلابد من فهم معاني تلك الامور والاشياء ، حتى يحكم الحاكم الشرعي بالأحكام الشرعية التابعة لتلك الموضوعات ، ( و ) فهم ( غير ذلك ) من المشتبهات ( مما لايخفى على المتأمّل ) كفهم ما جاء في قصص الانبياء وأحوال المعصومين عليهم السلام وتاريخ الغابرين .

( ولا طريق الى ما اشتبه من جميع ذلك ) كلّه ، فيما اذا لم نكن نعرف - مثلاً -

ص: 107

غالبا سوى النقل الغير الموجب للعلم والرجوع إلى الكتب المصحّحة ظاهرا وسائر الأمارات الظنّية ؛ فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر ؛ فيكون خبرُ الواحد الثقة حجّةً معتمدا عليها فيما نحن فيه ، ولا سيّما اذا كان الناقلُ من الأفاضل الأعلام والأجلاّء الكرام ، كما هو الغالب ، بل هو

------------------

معنى الصعيد ، هل هو مطلق وجه الارض ، أو التراب فقط ، او لم نعرف انّ الآنية عبارة عن كل ظرف ، أو الظرف الذي ليس له ثقبة ، أو ما أشبه ذلك من الامور اللّغوية وغير اللّغوية ، كالامور الرجالية والتفسيرية ، وغيرها مما لا سبيل لمعرفتها (غالبا ، سوى النقل غير الموجب للعلم) فانّ من الواضح : ان قول اللّغوي ، والرجالي ، والنحوي ، والصرفي ، وما أشبه ، لا يوجب العلم الاّ نادرا ، ( و ) سوى ( الرجوع الى الكتب المصحّحة ظاهرا ) فانّ التصحيح ظاهر ، لا انه مقطوع به ( و ) كذا بالرجوع الى ( سائر الأمارات الظنّية ) كالترجيحات النظرية في موارد الاختلاف ونحوه .

( فيلزم جواز العمل بها ) أي : بالأمارات الظنية من باب الانسداد ، حيث لا طريق الى معرفة مايريده الانسان ، الاّ بما يوجب الظن ( والتعويل عليها فيما ذكر ) من الموارد ، فانّ الانسان يعتمد على الأمارات الظنية في كل تلك الموارد ، سواء كان متشرعا أو غير متشرع .

وحيث قد تحقق حجّية الأمارات الظنية مطلقا ( فيكون خبر الواحد الثقة حجّة معتمدا عليها ) في الموارد المذكورة ، لأنّ خبر الواحد من مصاديق كلي الأمارات الظنية ، و ( فيما نحن فيه ) أيضا من الاجماع المنقول ( ولا سيّما اذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام ، والأجلاّء الكرام ، كما هو الغالب ) فيمن نقل الاجماع كالشيخ ، والسيّد ، والشهيدين ، والمحقّق ، وابن ادريس ، ومن أشبههم ( بل هو ) أي نقل

ص: 108

أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ، ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ، كما لا يخفى .

------------------

الاجماع ( أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ) ، مثلاً الراوي الفلاني يروي عن الامام الصادق عليه السلام حكما ، والشيخ ينقل الاجماع على حكم ، فان قول الشيخ أولى بالقبول من الراوي الفلاني ، لأنّه ليس بحد وثاقة الشيخ ، ولا بدرجة ضبطه واطلاعه وتقواه في كثير من الاحيان ، فيكون قول الشيخ في نقل الاجماع ، أولى بالقبول من خبر الراوي الفلاني ، الذي لم يكن في الجلالة بجلالة الشيخ .

( ولذا ) أي لاجل ان الاجماعات المنقولة أولى بالقبول ، لكون ناقلها من أفاضل الأعلام ( بني على المسامحة فيه ) أي في الاجماع المنقول ( من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ) أي : في الاخبار ( كما لايخفى ) .

أمّا تلك الوجوه ، فمنها : انّ السيد المرتضى لايعمل بالخبر الواحد ، بينما يعمل بالاجماع المنقول .

ومنها : انّ الفقهاء لايشترطون وجود نفرين في حجّية الاجماع المنقول بينما يشترطون في عدالة الراوي تزكية نفرين له ، وكذلك يشترطون في الخبر أن يكون حسّيا ، بينما لايشترطون في الاجماع ذلك .

هذا ، ويحتمل أن يريد الشيخ التستري رحمه اللّه : مقارنة الخبر في الموضوعات مع الخبر في الأحكام ، وانّ التسامح واقع في الأوّل دون الثاني .

فالتسامح على هذا يكون في الاخبار عن الموضوعات ، دون الاخبار عن الأحكام ، باشتراط العدالة في الثاني دون الاول .

والسيد المرتضى لايعمل بالخبر الواحد في الاحكام ، ويعمل بها في

ص: 109

الثالثةُ : حصولُ استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب ، ووجهه أنّ السّببَ المنقول بعد حجّيته كالمحصّل فيما يستكشف منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلّة الظنّية باعتبار ظنّيّة أصله ،

------------------

الموضوعات .

والفقهاء لايشترطون تزكية المخبر في الموضوعات ، بينما يشترطون تزكية المخبر في الاحكام ، الى غير ذلك من وجوه التسامح المحتملة .

(الثالثة) من المقدمات، وقد تقدمت مقدمتان الاولى : ان اللفظ دال على السبب .

الثانية : ان نقل السبب حجّة .

المقدمة الثالثة : وهي عبارة عن : التعرف على قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر ، من ذينك المقدمتين ، وذلك ل( حصول استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب ) وهو : نقل الاجماع .

( ووجهه ) أي وجه هذا الاستكشاف ( : انّ السبب المنقول - بعد حجّيته - كالمحصّل ) فكما انّ المنقول اليه ، اذا تتبع بنفسه اقوال العلماء ، حصل له الاستكشاف لقول الامام ، أو الدليل المعتبر ، كذلك اذا نقل له الاجماع ناقل موثق وذلك ( فيما يستكشف منه ) الحجّية .

وعليه : فالمنقول مثل المحصّل في استكشاف الدليل المعتبر ، أو قول الامام عليه السلام ( و ) مثله في صحة ( الاعتماد عليه وقبوله ، وإن كان ) هذا المستكشف من قول الامام ، أو الدليل المعتبر يُعدّ ( من الادلّة الظنيّة ) وذلك (باعتبار ظنيّة أصله ) .

فان السبب اذا كان قطعيا يكون المنكشف - بالفتح - أيضا قطعيّا ، واذا كان ظنيا

ص: 110

ولذا كانت النتيجةُ في الشّكل الأوّل تابعة في الضروريّة والنظريّة والعلميّة والظنّية وغيرها لأخسّ مقدّمتيه

------------------

يكون المنكشف أيضا ظنيا ، فاذا تتبع الانسان بنفسه اقوال العلماء ، ورأى اجماعهم ، يحصل له القطع بقول الامام او الدليل المعتبر ، واذا نقل له الاجماع ناقل ثقة وظن المنقول اليه انه قد تتبع اقوال الفقهاء ورأى اجماعهم حصل له الظن بذلك .

( ولذا كانت النتيجة في الشكل الأوّل ، تابعة في الضروريّة والنظريّة ، والعلميّة والظنيّة ، وغيرها ) من الدائمة ، والوقتية ، وغيرهما ( لأخسّ مقدمتيه ) فاذا كانت احدى المقدمتين : ضرورية ، والمقدمة الاخرى ممكنة تكون النتيجة ممكنة .

وهكذا بالنسبة الى سائر النتائج ، فاذا كانت احدى المقدمتين - مثلاً - قطعية ، والاخرى ظنيّة ، تكون النتيجة ظنيّة ، لأنّه لايعقل تولد الظنية من القطعية ، كما لايعقل العكس ، وذلك قياسا على المقولات الحقيقية فاذا كان السقف على دعامتين : احديهما من الحديد ، والاخرى من الفخار ، كان قوة استقامة السقف ، قوة الفخار لا الحديد .

لا يقال : كيف لا تكون نتيجة القطع قطعية ، مع فرض انّ احدى المقدمتين قطعية ؟ .

لأنّه يقال : لايعقل ان تكون النتيجة قطعية ، لأن ماكان بعضه الظن لا يولّد القطع ، ولا ان تكون قطعية ظنية معا ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون قطعيا وظنيا في حال واحد ، فلم يبق الاّ الظنيّة .

لكن لا يخفى : ان المراد بكون النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ، هو : انه ليس لها قوة الأشرف ، لا إنها في قوة الأخسّ فقط ، لأنّ النتيجة في قوة متوسطة بين

ص: 111

مع بداهة إنتاجه .

فينبغي حينئذٍ أن يراعى حالُ الناقل حين نقله من جهة ضبطه وتورّعه في النقل وبضاعته في العلم ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال واستقصائه لما تشتّت منها

------------------

الأخس والأشرف ، كالسقف في المثال ، فان له قوة متوسطة بين الحديد والفخار ، لا بقوة الفخار فقط .

هذا ( مع بداهة انتاجه ) فان الشكل الأوّل بديهي الانتاج ، اذ الأصغر يكون تحت الاوسط ، والأوسط تحت الأكبر ، فمن البديهي : أن يكون الأصغر تحت الأكبر ، مثل : كون الصندوق في الدار ، والدار في البلد ، فالصندوق يكون في البلد بالبداهة .

( فينبغي حينئذٍ ) أي : حين كانت النتيجة حاصلة من المقدمتين ( ان يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه ) في انه ضابط ولم يكن مبتلى بالنسيان أو انه من الناس العاديين .

( و ) أن يراعى من جهة ( تورّعه في النقل ) وانه محتاط ومتورع أم لا .

( و ) يراعى من جهة ( بضاعته في العلم ) وانّه من العلماء الوسيعي الاطلاع ، أو القليلي الاطلاع .

( و ) يراعى من جهة ( مبلغ نظره ) في انّه عمقي او سطحي ، اذ هناك سعة وعمق ، وهما متغايران ، فانه : قد يكون البحر - مثلاً - واسعا لكن عمق مائه قليل ، وقد يكون عمق مائه كثيرا ، لكنه ليس بسعة البحر الأوّل .

( و ) كذا يراعى من جهة ( وقوفه على الكتب والأقوال ، واستقصائه لما تشتّت منها ) أي من تلك الكتب والأقوال ، فربما يستقصي الكتب التي ألفت في هذا

ص: 112

ووصوله إلى وقائعها ، فانّ أحوال العلماء مختلفٌ فيها اختلافا فاحشا .

وكذلك حالُ الكتب المنقول فيها الاجماع ، فربّ كتاب لغير متتبّع موضوع على مزيد التتبّع والتدقيق ، وربّ كتاب لمتتبّع موضوعٌ على المسامحة وقلّة التحقيق ،

------------------

الموضوع ، وربما لا يستقصيها ، وانّما يقتنع ببعض الكتب .

( و ) يراعى أيضا من جهة ( وصوله الى وقائعها ) أي وقائع الأقوال ، فانّ القرائن المكتنفة بالمسائل ، تدل على ان المدعي للاجماع كان يعرف الوقائع التي سببت تلك الأقوال ام لا .

مثلاً : قد يسأل انسان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عن أفضل الاعمال فيجيبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ببر الوالدين .

وقد يسأله انسان ثان نفس هذا السؤال فيجيبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : بأداء الأمانة .

والسبب في هذا الاختلاف : انّ الأوّل كان مسيئا الى والديه ، والثاني كان متسامحا في أداء الأمانة .

ومثل ذلك يكون بالنسبة الى ناقل الاجماع في المسائل المختلفة ( فانّ أحوال العلماء مختلف فيها ) أي في الجهات المذكورة ( اختلافا فاحشا ) وكبيرا .

( وكذلك ) يختلف ( حال الكتب المنقول فيها الاجماع فربّ كتاب لغير متتبّع ، موضوع على مزيد التتبّع ) حيث تعمّد المؤلف فيه : أنْ يكتب الأشياء التي تتبع فيها تتبعا بالغا ( و ) دقق فيها بمزيد من ( التدقيق ) ، والتتبع هو : السعة والتدقيق وهو : العمق - على ما تقدّم - ( وربّ كتاب لمتتبع ) ماهر محقّق ، لكنه على عكس ذلك (موضوع على المسامحة وقلّة التحقيق ) وذلك لاختلاف الأنظار في التدقيق والتوسع ، وعدمهما .

ص: 113

ومثله الحالُ في آحاد المسائل ، فانّها تختلفُ أيضا في ذلك ، وكذا حالُ لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها ، وحالُ ما يدلّ عليه من جهة متعلّقه وزمان نقله لاختلاف الحكم بذلك ،

------------------

( ومثله ) أي : مثل الحال في الناقل والكتب ( الحال في آحاد المسائل ، فانّها ) أي : المسائل ( تختلف أيضا في ذلك ) الذي ذكر من التتبع وعدمه ، او التحقيق وعدمه فان بعض المسائل يتتبع فيها ، وبعض المسائل لا يتتبع فيها ، وكذلك بالنسبة الى التحقيق فان بعضها مبني على التحقيق ، وبعضها على عدم التحقيق .

( وكذا ) يختلف ( حال لفظه ) أي : لفظ ناقل الاجماع ( بحسب وضوح دلالته على السّبب ) بان قال : أجمع العلماء أو قال : العلماء كلهم أو قال : العلماء أجمعون ( وخفائها ) أي : خفاء دلالته على السبب بان قال : تظافروا ، أو تواتروا ، أو تكاثروا على هذا الحكم ، والمراد بالسبب : انّ الاجماع سبب للكشف عن قول المعصوم عليه السلام .

( و ) هكذا يراعى ( حال ما يدلّ عليه ) اللّفظ ( من جهة متعلّقه ) في انّه هل تعلق الاجماع بما يدل على قول المعصوم ، أو تعلق بما يدل على وجود دليل معتبر ، فقد يقول - مثلاً - أجمع العلماء بما يظهر منه وجود رواية أو ما أشبه ، وقد يقول أجمع العلماء ، بما يكشف عن ان المعصوم يقول بذلك .

( و ) هكذا يراعى ( زمان نقله ، لاختلاف الحكم بذلك ) فان الاستكشاف يختلف بسبب اختلاف الأزمنة ، اذ هناك فرق بين أن يدعي الاجماع الشيخ او يدعي الاجماع صاحب الجواهر لقرب عهد الاول بالأئمة عليهم الصلاة والسلام ، دون الثاني ، وكذلك بالنسبة الى الشيخ نفسه ، بانه يفرق بين نقله الاجماع في

ص: 114

كما هو ظاهر .

ويراعى أيضا وقوعُ دعوى الاجماع في مقام ذكر الأقوال او الاحتجاج ، فانّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان الاولى أولى بالاعتماد بناءا على اعتبار السبب ،

------------------

بغداد ، حيث توفر العلماء ونقله الاجماع في النجف الأشرف حيث قلة العلماء في زمانه ( كما هو ) أي : هذا الاختلاف ( ظاهر ) باختلاف هذه الامور في قوة الاجماع وضعفه .

( ويراعى أيضا وقوع دعوى الاجماع في مقام ذكر الأقوال ) والاختلافات ، حيث ان نظره الى تحقيق الحق من الاقوال والاراء - مثلاً - .

( أو ) في مقام ( الاحتجاج ) وانه يريد بالاجماع تقوية نظره ورأيه ، ( فانّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان ) وقوع دعوى الاجماع من الجهة ( الاولى ) أي : مقام ذكر الأقوال ( أولى بالاعتماد ) من الثانية ( بناءا على اعتبار السبب ) فانّ الناقل اذا كان في مقام تحقيق الحق ، يكون اجماعه أقوى مما اذا كان في صدد ذكر الدليل ، على نظره ، وذلك لزيادة التدقيق والتحقيق في الاول دون الثاني .

هذا ، ولكنا ذكرنا فيما سبق انّه لا نرى بين الاجماعين تفاوتا .

كما انه انّما قال : « بناءا على اعتبار السبب » لأن الاجماع قد يكون سببا للكشف عن قول المعصوم عليه السلام ، وقد يكون من باب الدخول ، فما ذكره التستري رحمه اللّه ، انّما يتأتي فيما اذا كان من باب السبب الحدسي ، لا ما اذا كان من باب الدخول ، فانّه اذا كان ناقل الاجماع ، يرى حجّيّة الاجماع من باب الدخول ، فأيّ فرق بين الأمرين في تحقّق رؤيته دخول الامام عليه السلام ، في المجمعين

ص: 115

كما لا يخفى ؛ فاذا وقع التباسٌ فيما يقتضيه ويتناوله كلامُ الناقل بعد ملاحظة ما ذكر اُخِذَ بما هو المتيقن او الظاهر .

ثمّ لِيُلحَظ مع ذلك ما يمكن معرفتهُ من الأقوال على وجه العلم واليقين إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون المعلوم على التفصيل . مع انّه لو كان المنقول معلوما لما اكتفى به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخلٌ

------------------

( كما لا يخفى ) ذلك على من تأمل في المسألة .

( فاذا وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل ، بعد ملاحظة ما ذكر ) من التتبع ، والتحقيق ، والموارد ، والأزمنة ، وما أشبه ولم نعلم بان هذا من الاجماع المتيقن ، أو الاجماع المتسامح فيه ( أخذ ) المنقول اليه ( بما هو المتيقن ) من الاجماع ( أو الظاهر ) من اللّفظ .

ومن المعلوم : انّ المتيقن انّما يكون في المجمل ، والظاهر انّما يكون فيما اذا كان له ظهور .

( ثم ) انّ المنقول اليه بعد ملاحظة الامور السابقة ( ليلحظ مع ذلك ) المنقول من الاجماع ( ما يمكن ) له من الامارات المؤيدة ، وما يتيسر له ( معرفته من الأقوال ، على وجه ) التتبع والتحقيق ، و ( العلم واليقين ) ، وانّما يضم هذه الامور الى الاجماع المدعى ، ليكون الاجماع لديه اتقن ( اذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال ، دون المعلوم ) الذي يحصله بنفسه من التتبع والتحقيق ( على التفصيل ) فان الانكشاف لا يكون الاّ بالمجموع .

( مع انّه لو كان المنقول معلوما ) أيضا للمنقول اليه ( لما اكتفى به في الاستكشاف ) ولما كان مستغنيا بذلك ( عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل

ص: 116

فيه ، فكيف إذا لم يكن كذلك .

ويلحظ أيضا سائر ماله تعلّق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد من تلك الأسباب ، كما هو مقتضى الاجتهاد ، سواء كان من الامور المعلومة او المظنونة ، ومن الأقوال المتقدّمة على النقل او المتأخرة او المقارنة ،

------------------

فيه) أي : في استكشاف قول الامام عليه السلام .

( فكيف ) يستغني عن ملاحظة سائر الاقوال والأمارات ( اذا لم يكن ) الاجماع المنقول ( كذلك ) أي : معلوما لوضوح انّ مراتب العلم أيضا مختلفة ، فلا يقال : انه اذا كان المنقول معلوما ، فلا حاجة الى مزيد من التتبع والتحقيق .

كما ( ويلحظ ) المنقول اليه ( أيضا ، سائر ماله تعلّق في الاستكشاف ) لقول المعصوم عليه السلام ، بسبب الاجماع وما ينضم اليه من آية أو رواية أو شهرة أو ما اشبه ذلك ( بحسب ما يعتمد ) المنقول اليه ( من تلك الأسباب ) التي لها دخل في استكشاف قول المعصوم .

( كما هو ) أي : لحاظ هذه الامور ( مقتضى الاجتهاد ) اذ مقتضى الاجتهاد : ان يلحظ الانسان أسباب القوة في السبب الكاشف لقول الامام عليه السلام .

( سواء كان ) الملحوظ ( من الامور المعلومة ) التي يعلم المنقول اليه مدخليتها في الاستكشاف ( أو المظنونة ) التي يظن المنقول اليه مدخليتها في الاستكشاف .

( و ) سواء كان مايحصله هو بنفسه بالاضافة الى الاجماع المنقول ( من الأقوال المتقدّمة على ) زمن ( النقل أو المتأخرة ، أو المقارنة ) له ، فان المنقول اليه قد يحصل على اقوال متقدمة على زمان الناقل - لم يحصل عليها الناقل - وقد يحصل على أقوال مقارنة ، أو متأخرة عن زمان ناقل الاجماع .

ص: 117

وربّما يستغني المتتبّع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الاجماع لاستظهاره عدم مزيّة عليه في التتبّع والنظر .

وربما كان الأمرُ بالعكس

------------------

( وربّما يستغني المتتبّع ) المنقول اليه ( ب- ) سبب ( ماذكر ) من الأقوال والشواهد ، التي حصل عليها منضما الى الاجماع المنقول ( عن الرّجوع الى كلام ناقل الاجماع ) لأنّه قد حصل من الأقوال والشواهد ما ينضم بعضها الى بعض ، فيكشف عن قول الامام عليه السلام ، وبذلك يستغني في المسألة ، عن الرجوع الى كلام ناقل الاجماع .

فانه بعد حصوله على السبب الكافي الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام ، لا يحتاج الى كلام ناقل الاجماع .

وذلك ( لاستظهاره ) أي المنقول اليه ( عدم مزيّة ) للناقل فيما حصّله ( عليه ) أي على ما حصله بنفسه ، فإنه لا مزية لناقل الاجماع ( في التتبّع والنظر ) على ما حصّله هو .

والحاصل : انه ربما يظهر للمنقول اليه بعد اللحاظ الكامل للأقوال ، والشواهد ، وما أشبه ، انه لم يبق هناك قول وصل اليه الناقل ، لم يصل هو اليه ، وكذلك بالنسبة الى الشواهد ، فيكون هو أيضا كالناقل محصّلاً للاجماع ، فلا يحتاج الى الاجماع المنقول .

( وربما كان الأمر بالعكس ) بان يظهر للمنقول اليه : ان ناقل الاجماع قد وصل الى مالم يصل هو اليه ، فصاحب الجواهر - مثلاً - الذي نقل الاجماع ، قد حصل على الف قول ، بينما المنقول اليه ، وهو الشيخ المرتضى - مثلاً - قد حصل على مائة قول .

ص: 118

وأنّه إن تفرّد بشيء كان نادرا لا يعتدّ به ، فعليه أن يستفرغ وُسعَهُ ويتبع نظره وتتبعه سواء تأخّر عن الناقل ام عاصره ، وسواء أدّى فكره إلى الموافقة له او المخالفة ، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة ، وغيرها

------------------

أو يظهر له : ان ناقل الاجماع لم يصل الى ما قد وصل هو اليه ( و ) لكن يعلم ( انّه ان تفرّد بشيء ، كان ) هذا الذي تفرّد به دون الناقل ، وزاد عليه ( نادرا لا يعتد به ) كما لو ظهر للشيخ المرتضى - مثلاً - : بانه وان تفرّد على صاحب الجواهر الناقل للاجماع باقوال ، لكنها ليست هذه التي تفرّد بها وحدها بدرجة تفيد الكشف عن قول المعصوم ، بينما ان صاح الجواهر الناقل للاجماع كان قد حصل على ما يكفي الكشف عن قوله عليه السلام .

وعلى هذا : فالمنقول اليه قد يحصل على قدر ما حصله الناقل ، وقد يحصل على أقل منه ، وقد يحصل على أكثر منه .

( فعليه ) أي ، على المجتهد المنقول اليه الاجماع ( ان يستفرغ وسعه ، ويتبع نظره وتتبعه ) في الأقوال والشواهد ( سواء تأخّر عن الناقل ) للاجماع ( أم عاصره ، وسواء أدّى فكره الى الموافقة له ) أي : لناقل الاجماع بان كان صاحب الجواهر - مثلاً - يرى نجاسة الماء القليل ، والشيخ أيضا يرى نجاسته ( أو المخالفة ) بان يرى صاحب الجواهر النجاسة ، والشيخ الطهارة - مثلاً - .

( كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة وغيرها ) أي : انّ غير الاجماع أيضا حاله حال الاجماع ، فاذا إستدل صاحب الجواهر على حكم بآية ، أو رواية ، أو سيرة ، لزم على الشيخ المُرتضى أيضا التتبع في ذلك الحكم في الآيات ، والروايات ، والسيَر ، ونحوها ، واذا تتبع في ذلك ، فربما حصل على مثل ما حصله صاحب

ص: 119

ممّا تعلّق بالمسألة ، فليس الاجماعُ إلاّ كأحدها .

فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنّةُ وصول الناقل إلى مالم يصل هو اليه من جهة السبب او احتمال ذلك ،

------------------

الجواهر ، وربما يحصل على اكثر منه ، وربما حصل على أقل منه ( ممّا تعلّق بالمسألة ) المبحوث عنها .

مثلاً : الشيخ وصاحب الجواهر ، كلاهما فحصا مسألة كشف الوجه واليدين ، بالنسبة الى النساء ، لكن أحدهما حصل على ما يكفي في وجوب الستر ، والآخر لم يحصل على ما يكفي في ذلك والى غيره مما يتعلق بالمسائل المبحوث عنها ، او المدعى فيها الاجماع .

إذن : ( فليس الاجماع ) المنقول ( الاّ كأحدها ) أي : كاحد الأدلة الاُخَر التي يجب على الناقل والمنقول اليه - كلاهما - الفحص ، والبحث ، والاستدلال ، والتحقيق والتدقيق ، فربما يتوافقان ورُبما لا يتوافقان .

( ف- ) ان قلت : فما فائدة رجوع الشيخ المرتضى الى إجماعات صاحب الجواهر - مثلاً - مع انه يجب على الشيخ : ان يبحث ، ويفحص ويحقق ، ويدقق في المسألة أيضا ؟ .

قلت : ( المقتضي للرّجوع الى النقل ، هو : مظنَّة وصول الناقل ) للاجماع كصاحب الجواهر - مثلاً - ( الى مالم يصل هو ) أي : المجتهد المنقول اليه ، كالشيخ المرتضى في المثال ( اليه من جهة السبب ) أي : أقوال العلماء والشواهد ، والأدلة الاخر ، ( أو احتمال ذلك ) الوصول فان الشيخ المرتضى ربما يظن انّ صاحب الجواهر وصل الى مالم يصل هو اليه وربما يحتمل ذلك ، فقوله : « أو احتمال » عطف على قوله : « هو مظنة » .

ص: 120

فيعتمد عليه في هذا خاصّة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه ويصلح كلامه مؤيّدا فيما عداه مع الموافقة لكشفه عن توافق النُسخ

------------------

( فيعتمد عليه ) أي : على النقل ( في هذا خاصّة ) أي : في الأقوال ، التي يظن أو يحتمل انّه لم يصل اليها ، فيعتمد الشيخ المرتضى - مثلاً - على صاحب الجواهر في نقله الاجماع ، بالنسبة الى الأقوال ، التي يظنّ الشيخ ، أو يحتمل ، انه لم يصل الى تلك الأقوال التي وصل اليها صاحب الجواهر .

وذلك ( بحسب ما استظهر من حاله ، ونقله ، وزمانه ) أما ظنّ الشيخ أو احتماله بحسب ما يستظهره من حال صاحب الجواهر ، فبأنّه كان متتبعا دقيقا .

وامّا بحسب نقله للاجماع : فبأنه كان في صدد بيان الخلاف، أو بصدد بيان نظره .

واما بحسب زمانه : فبانّه كان في زمان يكثر فيه العلماء وتتوفر فيه الكتب وما أشبه ذلك مما تقدّم الكلام فيه مفصلاً .

هذا ، وقد أضفنا الى هذه الثلاثة بحسب : مكانه - أيضا - كما مثلنا له بشيخ الطائفة وهو في بغداد ، او في النجف الأشرف .

( ويصلح كلامه ) أي : كلام ناقل الاجماع كالجواهر ( مؤيّدا فيما عداه ) أي : فيما عدا ما توصل اليه الشيخ المرتضى - مثلاً - بنفسه ، فانه لما حقق ودقق ، وفحص وبحث ظفر على طائفة من الأقوال والشواهد ، لا تكفي الاّ بضميمة ما نقله صاحب الجواهر من الاجماع اليها ، أو يكون ما نقله صاحب الجواهر من الاجماع ، مؤيدا لما وجده الشيخ المرتضى ( مع الموافقة ) بين نظريهما فيكون صاحب الجواهر في دعواه الاجماع ، مؤيدا لما ظهر للشيخ المرتضى .

وذلك ( لكشفه ) أي : لكشف المنقول اليه ( عن توافق النُسخ ) التي كانت عند

ص: 121

وتقويته للنظر .

فاذا لوحظ جَميعُ ما ذكر ، وعرف الموافق والمخالف إن وجد ، فليفرض المظنونُ منه كالمعلوم ، لثبوت حجّيته بالدليل العلميّ ولو بوسائط .

------------------

الناقل مع النُسخ الموجودة عنده ، فان الشيخ المرتضى - مثلاً - اذا توصل اليه الف قول ، واتفق رأيه مع رأي صاحب الجواهر في المسألة كشف ذلك عن ان نفس الكتب ، كانت أيضا موجودة عند صاحب الجواهر ، فيسبب تأييد رأيه ( وتقويته للنظر ) أي : لنظر المنقول اليه ، وهو الشيخ المرتضى في المثال .

( فاذا لوحظ جميع ماذكر ، وعرف الموافق والمخالف ان وجد ) أي : المخالف (فليفرض المظنون منه ) أي : من هذا السبب المنقول - فان الاجماع سبب كاشف عن قول المعصوم عليه السلام - انه ( كالمعلوم ) ، فانه كما اذا علم الشيخ المرتضى - مثلاً - بان هذا سبب ، كان عليه أن يتخذه كاشفا لقول المعصوم عليه السلام كذلك اذا ظن بانّ هذا الاجماع الذي نقله الجواهر سببٌ ، كان عليه ان يتخذه كاشفا .

وانّما يكون المظنون كالمعلوم ( لثبوت حجّيته ) أي : حجّية الظن المذكور (بالدليل العلميّ ) فانّه لابد إمّا من الظنون الخاصة ، بسبب قيام السيرة ونحوها على ان مثل هذا الظن حجّة ، وامّا من الظنون العامة ، بسبب دليل الانسداد .

( ولو بوسائط ) فان الظن قد يكون حجة بدون واسطة ، وقد يكون حجة بواسطة ، أو وسائط ، فاذا قال عليه السلام - مثلاً - « تَعمد القبلة جهدك » (1) فيمن لا يعرف القبلة ، فقد جعل الظن بالقبلة حجّة بلا واسطة .

وقد يكون بواسطة ، كما اذا كان حجّية الظن لكونه من صغريات دليل ظنّي ، ينتهي ذلك الدليل الظني الى العلم ، كما يقال - مثلاً - بانّ نقل الاجماع يوجب

ص: 122


1- - الكافي فروع : ج3 ص284 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص46 ب23 ح15 .

ثمّ لِيُنظَر ، فان حَصَل من ذلك استكشاف معتبرٌ كان حجّة ظنّية حيث كان متوقفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب او كان المنكشفُ غيرَ الدّليل القاطع ، وإلاّ فلا ، وإذا تعدّد ناقل الاجماع أو النقل ، فان

------------------

الظن بقول المعصوم عليه السلام ، والظن بقوله حجّة ، لأنّه داخل في سيرة العقلاء ، حيث انهم يعملون بمثل هذه الظنون ، وسيرة العقلاء حجّة شرعا ، من جهة عدم ردع الشارع لها .

( ثم ليُنظَر ، فان حصل من ذلك ) المجموع ، من : الاجماع المنقول والقدر المحصّل ( استكشاف معتبر ) لقول الامام عليه السلام أو لدليل معتبر (كان ) هذا الاستكشاف ( حجّة ظنّية ) .

وانّما كانت حجّة ظنية لا قطعية ( حيث كان متوقفا على النقل ، غير الموجب للعلم بالسبب ) فانّ المنقول اليه ، لا يعلم بالسبب الكاشف لقول الامام عليه السلام ، لأنّ المفروض : انّ السبب حجّة ظنية بالنسبة اليه .

( أو كان المنكشف غير الدّليل القاطع ) بأن كان المجموع من : الاجماع المنقول ، والذي حصله هو بنفسه يكشف عن دليل معتبر في المسألة .

و ( الاّ ) بان لم يستكشف من المجموع لا من السبب المنقول ، ولا من الذي حصله هو بنفسه حجّة ظنية معتبرة ( فلا ) يكون له ذلك حجة معتبرة على قول الامام عليه السلام ، ولا على وجود دليل معتبر في المسألة .

( واذا تعدّد ناقل الاجماع ) كما اذا نقل الاجماع السيد المرتضى ، وشيخ الطائفة - مثلاً - ( أو ) تعدد ( النقل ) بأن كان الناقل واحدا ، لكنّه نقل الاجماع في مواضع عديدة كالشيخ في كتاب التهذيب ، وكتاب الخلاف ، وما أشبه ، ( فان

ص: 123

توافق الجميع لوحظ كلّ مع ما علم على ما فصِّل واُخِذَ بالحاصل ، وإن تخالف لوحظ جميع ماذكر واُخِذَ فيما اختلف فيه النقلُ بالأرجح بحسب حال الناقل وزمانه ووجود المعاضد وعدمه

------------------

توافق الجميع ) في الحكم ( لوحظ كل ، مع ما علم ) من حالات الناقل ، والكتاب ، والمسألة ، واللفظ ، والمتعلق ، والزمان ، والمكان ، والشواهد ، والقرائن الداخلية والخارجية ، وما أشبه ( على ما فُصِّلَ ) سابقا ، ( وأُخِذَ بالحاصل ) منه ، وانّه ، هل يستكشف من هذا المجموع : قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر ، أو لا يستكشف ؟ فان كشف المجموع عن أحد الأمرين ، كان حجّة ، والاّ فلا ، وان صلح أن يكون مؤيدا ، أو موجبا للاحتياط ، أو عدم الجرأة للفتوى على خلاف ذلك احيانا ( وان تخالف ) بعضه مع بعض بان نقل السيد المرتضى - مثلاً - الاجماع على طرف المسألة ، والشيخ على الطرف الاخر من المسألة ، أو تخالف اجماعا الشيخ في كتابيّ من كتبه - كما يرى ذلك في بعض كتب القدماء - ( لوحظ جميع ما ذكر ) من : الناقل والكتاب ، والمسألة ، وغير ذلك مما تقدّم ( وأُخِذَ فيما اختلف فيه النقل ، بالأرجح ) منها .

والترجيح انّما يكون ( بحسب حال الناقل ) انّه شديد الاحتياط في الكلام ، وانه محقق ، ومدقق ، وما أشبه - مما تقدّم او ليس كذلك .

( وزمانه ) حيث قد عرفت : انّ بعض الأزمنة تختلف عن بعض كما انّ الأمكنة كذلك - على ماسبق - .

( ووجود المعاضد وعدمه ) بأن تعدد أحد الطرفين في نقل الاجماع ، كما اذا نقل الاجماع العلامة والشهيدان على طرف من المسألة بينما الاجماع على الطرف الاخر ، لم ينقله الاّ المحقق الحلي ، والى غير ذلك .

ص: 124

وقلّته وكثرته .

ثمّ ليُعمَل بما هو المحصّل ويُحكَم على تقدير حجّيته بأنّه دليل ظنّي واحدٌ وإن توافق النقل وتعدّد الناقل .

وليس ما ذكرناه مختصّا بنقل الاجماع المتضمّن لنقل الأقوال إجمالاً ، بل يجري في نقلها تفصيلاً أيضا ،

------------------

( وقلته وكثرته ) أي : قلة وجود المعاضد في أحد الطرفين ، وكثرة وجوده في الطرف الاخر ، أو وجود المعاضد في أحد الطرفين وعدم وجوده في الطرف الاخر .

( ثم ليعمل بما هو المحصّل ) منه وانّه هل ينكشف قول الامام ، أو دليل معتبر من احد الطرفين او لا ينكشف شيء منهما أي من الطرفين ؟ ( و ) بعدها ( يحكم على تقدير حجّيته ) أي حجية احد الطرفين من المسألة ( بانّه دليل ظنّي واحد ) .

وقد عرفت : انّ الظن في مثله حجّة ، وحجّيته أمّا من جهة انه ظن خاص ، أو من جهة دليل الانسداد ، ويحكم بوحدته حتى ( وان توافق النقل ، وتعدّد الناقل ) فتكون الصور للمسألة اربعا : لأنّ كلاً من النقل والناقل ، إما : واحد أو متعدد ، فضرب أحدهما في الآخر يوجب صورا أربع .

( و ) من الواضح : انه ( ليس ما ذكرناه ) من الاعتماد على نقل السبب ، الكاشف عن المسبب وهو : قول الامام أو دليل معتبر ( مختصا بنقل الاجماع ، المتضمّن لنقل الاقوال إجمالاً ) فان الاجماع عبارة عن : نقل أقوال متعددة ، لخّصها الناقل في كلمة : الاجماع ، أو الاتفاق ، أو ما أشبههما ، ( بل يجري ) ما ذكرناه ( في نقلها ) أي : نقل الأقوال ( تفصيلاً أيضا ) فاذا نقل مفتاح الكرامة - مثلاً - عن مائة عالم قولهم بالمسألة الفلانية ، فانه اجماع أيضا ، اذ لا فرق بين أن يقول :

ص: 125

وكذلك في نقل سائر الأشياء التي يبتنى عليها معرفة الأحكام ، والحكمُ فيما إذا وجد المنقولُ موافقا لما وُجد او مخالفا مشتركٌ بين الجميع ، كما هو ظاهر .

وقد اتضح بما بيّناه

------------------

انّ في المسألة اجماعا ، أو أن يقول : انّ فلانا وفلانا وفلانا الى آخره ، ذكروا هذه المسألة بهذه الصورة .

( وكذلك في نقل سائر الاشياء ، التي يبتنى عليها معرفة الاحكام ) كنقل الشهرة ، ونقل عدم الخلاف ، ونقل وجود الرواية ، أو السيرة ، أو نحوها ، فقد ينقل الناقل أنّ في المسألة شهرة ، وقد يقول : انّ فلانا وفلانا وفلانا الى آخره ذكروا هذا الحكم ، مما يوجب مجموعهم الشهرة .

وكذلك بالنسبة الى سائر ماذكرناه ، فقد يقول احدهم : انّ في المسألة رواية - مع انا لم نشاهد الرواية - .

وهكذا بالنسبة الى سائر الاشياء التي هي حجّة ، أو مؤيدة .

( و ) من المعلوم : أنّ ( الحكم فيما اذا وجد المنقول موافقا لما وجد ، أو مخالفا ) لما وجد ( مشترك بين الجميع ) اذ لا فرق بين : الاجماع والشهرة والقرائن - فيما اذا كانت متوافقة - المنقول منها والمحصَّل ، أو كانت متخالفة بعضها مع بعض ( كما هو ظاهر ) .

فاذا كان المنقول والمحصّل متوافقين، حكم بالمجموع منضما بعضها الى بعض ، واذا كان المنقول والمحصّل متخالفين ، رجح المنقول على المحصّل ، أو المحصّل على المنقول ، أو تكافئا فتساقطا ، ويكون المرجع دليلاً آخر .

( وقد إتّضح بما بيّناه ) من : انّ الاجماع المنقول ، انّما يكون حجّة من باب نقل

ص: 126

وجهُ ما جرت عليه طريقةُ معظم الأصحاب من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا ، وردّه بعدم الثبوت او بوجدان الخلاف ونحوهما ، فانّه المتّجه على ما قلنا ،

------------------

السبب ، والسبب قد يكون سببا تاما برأسه ، وقد يكون سببا ناقصا ، ينظم اليه ما حصّله نفس المنقول اليه ، فيكون المجموع سببا ، وهذا ( وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب ) ومنهم : الشيخ المرتضى ، في كُتبه الفقهية والاُصولية ( من : عدم الاستدلال بالاجماع المنقول ، على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا ) ، نعم ، يذكرونه تأييدا للمطلب ، أو يذكرونه ليضمّوا اليه ما يكفي بمجموعة للحجّية والاستدلال .

( و ) كذا ( ردّه ) وهو عطف على : « عدم الاستدلال » أي : ظهر وجه ما جرى عليه معظم الأصحاب ، من انهم اذا ذكروا بعض الاجماعات ، ردوا تلك الاجماعات ( بعدم الثبوت ) لوجه الاجماع في المسألة ، ( أو بوجدان الخلاف ) فيردون الاجماع ويذكرون : بانّه ليس باجماع ، وذلك لوجود المخالف ، أو ما أشبه مما يدل على انّ الاجماع لو كان سببا تاما ، لم يكن وجه لعدم الاستدلال بالاجماع ، أو ردّه ( ونحوهما ) من الامور المسبّبة لردّ الاجماع ، كقولهم : انّ الدليل ثبت على خلاف الاجماع ، فلا يعمل بالاجماع ، مما لو كان الاجماع دليلاً كافيا لم يكن وجه لرده بقيام الدليل على خلافه ، بل كان اللازم : أن يوقعوا التعارض : بين الاجماع وبين الدليل الثابت على خلافه .

( فانّه ) أي : ما ذكرناه : من عدم الاستدلال بالاجماع ، أو ردّه ، أو نحو ذلك ، هو ( المتّجه على ما قلنا ) من : أنّ الاجماع المنقول ليس حجّة بنفسه ، وانّما هو حجّة من باب نقل السبب الكاشف فقد يكون كاشفا ، وقد لا يكون كاشفا - وهو

ص: 127

ولا سيّما فيما شاع فيه النزاع والجدال اذ عرفت فيه الأقوال ، او كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الاجماع ، لقلّة المتعرّض لها إلاّ على بعض الوجوه التي لا يعتدّ بها ، او كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ، لمعاصرته او قصور باعه

------------------

الأكثر - فيحتاج الى ضم ضميمة يوجب الجمع بينها وبين الاجماع الكاشف .

( ولا سيّما ) أي يتجه ما قلناه : من عدم حجّية الاجماع المنقول بنفسه ( فيما شاع فيه النزاع والجدال ) فان المسائل التي وقع فيها النزاع والجدال ، لا يمكن اثباتها بالاجماع المنقول ( اذ عرفت فيه الأقوال ) والنزاع ، ومع معرفة الأقوال والنزاع ، كيف يمكن دعوى الاجماع .

أو كيف يقبل في تلك المسألة المتنازع عليها ، والتي قد كثر فيها الأقوال قبول الاجماع دليلاً على أحد أطراف المسألة .

( أو ) فيما ( كان من الفروع النادرة ، التي لا يستقيم فيها دعوى الاجماع ، لقلّة المتعرِّض لها ) فان الفروع النادرة ليست إجماعية ، فكيف يمكن الاستناد الى الاجماع فيها ؟ ، ( الاّ على بعض الوجوه ) المتقدمة : من كون دعوى الاجماع في المسائل الخلافية ، أو في الفروع النادرة ، انّما هو بسبب اعتمادهم على آية أو رواية أو أصل مجمع عليها ، وحيث يرى ناقل الاجماع : انّ هذه الصغرى من صغريات تلك الأدلة يدّعي الاجماع فيها .

لكن عرفت - فيما سبق - : انها من الوجوه ( التي لا يعتدّ بها ) فاذا كان شيئا من هذه الوجوه مستند حجّية الاجماع ، في الفروع النادرة ، وفي المسائل المختلف فيها ، فانه مما لا عبرة ، وقد تقدّم تفصيل الكلام بذلك سابقا .

( أو ) فيما اذا ( كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ، لمعاصرته ، أو قصور باعه ) فانّه

ص: 128

او غيرهما ، ممّا يأتي بيانه ، فالاحتياجُ إليه مختصّ بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء و نادر من النقلة الأفاضل » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

------------------

لا يعتدّ باجماعاته ، لأنّ اجماعاته ليست على الوجه الكاشف .

( أو غيرهما ) أي : غير قلّة الباع والقصور من الامور الموهنة للنقل ، كمسامحة الناقل ، أو عدم احتياطه في نقل الاجماع أو نحو ذلك ( ممّا يأتي بيانه ) في كتاب التستري رحمه اللّه ، وان لم ينقله المصنّف هنا .

( فالاحتياج اليه ) أي الى الاجماع المنقول في الاستدلال به على الحكم (مختص بقليل من المسائل ) وهي المسائل التي لم تكن نادرة ، ولا محل الاختلاف كما انه لا تقبل دعوى الاجماع فيها من كل احد الاّ ( بالنسبة الى قليل من العلماء ) الذين لهم سعة الاطلاع ، وشدة التورع والاحتياط ، كالمحقق - مثلاً - ( و ) الاّ بالنسبة الى ( نادر من النقلة الافاضل ) (1) المتوفرة فيهم كل شروط الوثاقة ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

هذا ما أراده المصنّف من نقل كلام التستري « رحمهما اللّه تعالى » ، وحاصله : انه يرى حجية نقل الاجماع ، بالقدر الذي استند الناقل فيه الى الحسّ دون الزائد عليه .

فاذا استند الناقل في دعواه للاجماع الى قول جميع العلماء ، كان ذلك مثل انّ المنقول اليه وجد قول جميع العلماء .

وان استند الى قول جماعة من العلماء ، كان مثل ان وجد المنقول اليه قول اولئك الجماعة فقط .

ص: 129


1- - كشف القناع : ص400 - 405 .

لكنّك خبيرٌ بأنّ هذه الفائدة للاجماع المنقول كالمعدومة ، لأنّ القدر الثابت من الاتفاق باخبار النّاقل المستند إلى حسّه ليس ممّا يستلزم عادةً موافقة الامام عليه السلام ، وإن كان هذا الاتفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العِلمُ بصدور مضمونه ،

------------------

وان استندوا الى أصل أو رواية أو آية ، كان اللازم ان يرجع المنقول اليه الى ذلك الأصل ، أو تلك الآية ، أو الرواية ليرى هل يصح الاستدلال بها ام لا ؟ .

وبهذا أسقط التستري رحمه اللّه ، الاجماع عن الحجيّة ، وعن كشفه عن قول المعصوم عليه السلام ، اطلاقا ، وهو اشكال وارد على التستري ، واليه اشار المصنّف بقوله : ( لكنّك خبير بانّ هذه الفائدة للاجماع المنقول ) التي ذكرناها ( كالمعدومة ) فانها ليست فائدة للاجماع اطلاقا ( لأنّ القدر الثابت من الاتفاق ) الحاصل لنا ( باخبار النّاقل ، المستند الى حسّه ) وفحصه لأقوال العلماء ( ليس ممّا يستلزم عادة موافقة الامام عليه السلام ) ولا كاشفا عن وجود دليل معتبر ( وان كان هذا ) المقدار من ( الاتفاق لو ثبت لنا ) بالوجدان ، بأن فحصنا نحن ، فاطلعنا على أقوال مائة من الفقهاء - مثلاً - ( أمكن ) امكانا لا يلازم الدوام ، بل الامكان من باب الاتفاق ( أن يحصل العلم بصدور مضمونه ) أي مضمون الحكم من المعصوم ، او وجود دليل معتبر عليه .

مثلاً : انّا لو فحصنا أقوال مائة من العلماء ، الذين هم قريبون من عصر الغيبة ، حصل لنا من باب الاتفاق ، لا من باب الدوام ، والتلازم ان مضمون هذا الحكم قد صدر من المعصوم عليه السلام ، او ان هناك دليل معتبر ، استند هؤلاء العلماء الى ذلك الدليل لكن اذا نقل الاجماع لنا من وجد قول مائة من العلماء ، لم يلزم أن يحصل لنا مثل هذا العلم .

ص: 130

لكن ليس علّة تامّة لذلك ، بل هو نظير اخبار عدد معيّن في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب ، وليس أيضا ممّا يستلزم عادةً وجودَ الدليل المعتبر حتّى بالنسبة إلينا ، لأنّ استنادَ كلّ بعض منهم إلى ما لانراه دليلاً ، ليس أمرا مخالفا للعادة .

------------------

والحاصل : انّ قول المائة ، الذي نقله مدّعي الاجماع ، لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام ، كما لا يكشف عن دليل معتبر بالنسبة الى المنقول اليه ، وان كان لو وجد المنقول اليه قول المائة بنفسه : أمكن أن يحصل له العلم باحدهما ، فان الانسان اذا فحص بنفسه ، تدرّج له الظن الى أن يحصل له العلم بذلك بخلاف ما اذا اخبره غير ، فانه لا يحصل له هذا التدرّج .

( لكن ليس ) هذا القدر الثابت من الاتفاق ( علّة تامّة لذلك ) العلم ، فانا اذا فحصنا بأنفسنا أيضا ، ووجدنا قول المائة ، لم يكن قول المائة علّة تامة لوجود الدليل المعتبر ، او صدوره من المعصوم ( بل هو نظير اخبار عدد معيّن في كونه ) أي : ذلك الاخبار ( قد يوجب العلم بصدق خبرهم ، وقد لا يوجب ) العلم ، فاذا أخبرنا - مثلاً - مائة : بموت زيد ، فانه قد يوجب لنا العلم بسبب قرائن في الكلام ، وقد لا يوجب لنا العلم لفقد تلك القرائن ، أمّا اذا أخبَرنا انسان : بأنّه أخبره مائة : بموت زيد ، فانه أبعد من حصول العلم لنا بموته .

( وليس أيضا ) القدر الثابت من الاتفاق ( ممّا يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى بالنسبة الينا ) فانّ نقل الاجماع - كما مرّ - لا يوجب لنا كشفا عن قول المعصوم عليه السلام ، كما لا يوجب لنا كشفا عن دليل معتبر .

وانّما لا يكشف عن دليل معتبر ( لانّ استناد كل بعض منهم الى ما لا نراه دليلاً ، ليس أمرا مخالفا للعادة ) بل العادة قاضية : بأن هؤلاء المائة ، الذين اتفقوا على

ص: 131

الا ترى أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر ، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها ، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به ، لقصور سنده ، او لكونه من الآحاد عنده أو لقصور دلالته

------------------

حكم قد استند كُلاً منهم الى دليل معتمد عنده ، وليس معتمدا عندنا ، كأن استند بعضهم الى آية ، وبعضهم الى رواية ، بعضهم الى اصل ، ونحن لا نرى دلالة تلك الآية ، ولا صحة سند تلك الرواية ، ولا قوة ذلك الأصل في إفادة المطلب .

ثم إنّ المصنّف ، استدل على انّ أقوال الفقهاء ليست حجّة لنا لاحتمال استناد كُلّ بعض منهم الى ما لا نراه دليلاً ، بقوله : ( الا ترى : انه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون ) باتفاقهم ( بنجاسة ) ماء ( البئر ) بسبب وقوع النجس فيها ، حيث كان المشهور الى زمان المحقّق الحلّي ، انّ البئر تنجس بوقوع النجاسات فيها ، مما يوجب نزح دلاء معينة ، وكذا في بعض غير النجاسات ، مثل العقرب ، لكن اجماعهم ذلك ليس بحجّة عندنا ، لأنّ ( بعضهم قد استند الى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك ) أي : في النجاسة ( مع عدم الظفر ) منهم (بما يعارضها ) مما يوجب : حمل أخبار النجاسة على الكراهة .

( وبعضهم قد ظفر بالمعارض ) لتلك الاخبار الدالة على النجاسة ( و ) لكن ( لم يعمل به ) أي : بالمعارض ( لقصور سنده ، أو لكونه من الآحاد عنده ) أي : عند ذلك البعض ، حيث يرى المعارض قاصر السند عن المعارضة ، أو انّ المعارض من اخبار الآحاد ، وخبر الواحد ليس بحجّة عنده كما نسب ذلك الى السيد ، وابن ادريس ، وغيرهما .

( أو لقصور دلالته ) أي : دلالة ذلك الخبر المعارض .

ص: 132

أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليها بضرب من الترجيح ، فاذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطّهارة فلا يضرّه إتّفاقُ القدماء على النّجاسة المستندُ إلى الامور المختلفة المذكورة .

------------------

( أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها ) أي : ترجيح أخبار النجاسة ( عليها ) أي : على أخبار الطهارة ( بضرب من الترجيح ) فانّه وان رأى الأخبار الدالة على الطهارة ، صحيحة سندا ووافية دلالةً، الا انّه رجَّح أخبار النجاسة على أخبار الطهارة، لأمر خارجي ، مثل : التقية ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( فاذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطهارة ) كما ترجح ذلك في نظر العلاّمة والمحقّق القمي ، وغيرهما بعد قرون كان الفقهاء يرون فيها النجاسة ( فلا يضره ) أي : هذا المجتهد المتأخر ( اتفاق القدماء على النجاسة ، المستند ) اتفاقهم ذلك ( الى الأمور المختلفة المذكورة ) التي ذكرناها : من عدم وجدان المعارض ، أو قصور سنده ، أو قصور دلالته ، أو مرجوحيته بالنسبة الى أخبار النجاسة ، أو الاشكال في جهة صدوره .

إذن : فاستناد الفقهاء المتقدمون ، المجمعون على نجاسة البئر الى بعض المستندات المعتمدة عندهم ، لا عندنا ، لم يكن مانعا عن رأي المجتهد المتاخر بالطهارة .

ومما تقدّم ظهر : انّ المصنّف يرى عدم الفائدة في نقل الاجماع اطلاقا ، لا كشفا عن قول المعصوم ، ولا كشفا عن دليل معتبر ، وانّما يستشكل المصنّف على التستري : بأنّه لماذا فصّل في الاجماع وقال : بأنّ بعضه حجّة ، وبعضه ليس بحجّة ، بينما كان اللازم على التستري رحمه اللّه أن يقول : بأنّ الاجماع ليس بحُجّة اطلاقا .

ص: 133

وبالجملة : فالانصافُ - بعد التأمّل وترك المسامحة بابراز المظنون بصورة القطع ، كما هو متعارف محصّلي عصرنا - أنّ اتّفاق من يمكن تحصيلُ فتاويهم على أمر ، كما لا يستلزمُ عادةً موافقة الامام عليه السلام ، كذلك لايستلزمُ وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة او من جهات شتّى ،

------------------

( وبالجملة : فالانصاف بعد التأمّل وترك المسامحة بابراز المظنون بصورة القطع ) أي : انّا نترك المسامحة ، فلا نجعل الشيء المضنون : انه مقطوع به ( كما هو ) أي : ابراز المظنون بصورة القطع ( متعارف ) لدى ( محصّلي عصرنا ) فانهم ربما حصلوا على الظن قالوا : انه مقطوع به .

فاذا أردنا أن نترك هذه المسامحة ونقول : أن المظنون مظنون وليس بمقطوع ، والمظنون ليس بحجة ، ان نقول ( انّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاويهم على أمر ) من الامور الشرعية ، ومن يمكن تحصيل فتاواهم ، ليسوا كثيرا - كما لا يخفى على من راجع الفقه ، فان هذا الاتفاق ( كما لا يستلزم عادة موافقة الامام عليه السلام ) وان كان يستلزم ذلك اتفاقا ، لكن الكلام ليس في الاتفاقيات النادرة ، وانّما في الامور العادية ( كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ ) ، فانّ أمثال هذه الاجماعات ، لا تستلزم الكشف عن قول المعصوم عليه السلام ولا تستلزم الكشف عن وجود دليل معتبر ، لاحتمال استناد هؤلاء الفقهاء ، الذين اتفقوا على أمر ، الى أدلة غير تامة عند المجتهد المنقول اليه الاجماع ( من جهة ، أو من جهات شتى ) ، لانه - كما تقدّم - قد يكون المكشوف غير حجّة من حيث السند ، أو غير ظاهر من حيث الدلالة ، أو مبتلى بالمعارض الراجح ، او محتملاً لكونه صادرا من جهة التقية او غير ذلك مما يجعل المظنون غير حجّة .

ص: 134

فلم يبق في المقام إلاّ أن يحصّل المجتهد أمارات اُخَر من أقوال باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصّل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا القطعُ في مرحلة الظاهر باللاّزم ،

------------------

وعليه : ( فلم يبق في المقام ) الذي ينقل فيه الاجماع ( الاّ أن يحصّل المجتهد) المنقول اليه ( امارات اُخر : من أقوال باقي العلماء ، وغيرها ) من القرائن الخارجية أو الداخلية ( ليضيفها ) أي : يضيف المجتهد المتأخر ، تلك الأمارات الاخر ، والأقوال التي حصلها ( الى ذلك ) الاجماع المنقول .

( فيحصّل من مجموع المحصّل له ، والمنقول اليه ، الذي فرض ) كونه ( بحكم المحصّل ) وانّما يكون المنقول بحكم المحصّل ، لانه اخبار عن حسّ ، فيكون كالمحصّل ( من حيث وجوب العمل به تعبّدا ) ، فكما انّه اذا حصل بنفسه على تلك الأقوال وجب عليه العمل تعبدا ، كذلك اذا لم يحصل هو عليها ، وانّما أخبره عادل بتحصيل ذلك فانّه يجب عليه العمل به تعبدا أيضا اذ لافرق بين : أن يحصل الانسان بنفسه على أقوال مائة من الفقهاء ، أو أن يخبر المحقّق - مثلاً - : بأنه حصل على أقوال مائة من العلماء ويذكره اجمالاً بلفظ الاجماع .

فان ذلك يورث ( القطع ) التعبدي ( في مرحلة الظاهر ) وانّما كان في مرحلة الظاهر : لأنّ ما يحصّله الانسان انّما هو الحكم الظاهري ، وهو الذي يكلف به ، أمّا انّ الواقع ما هو ؟ فلسنا مكلفين به ، اذ التكليف انّما هو بحسب الأدلة ، والأدلة قد تطابق الواقع ، وقد لا تطابق الواقع .

والحاصل : انّ المنقول والمحصّل ، اذا انضم بعضها الى بعض حصل القطع (باللاّزم ) أي : لازم الاجماع والأمارات الاخر ، التي انضمت اليه ،

ص: 135

وهو قول الامام عليه السلام او وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الامام عليه السلام بهذا الحكم الظاهريّ المضمون لذلك الدليل ، لكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديّا لقول الامام عليه السلام ، او وجود الدليل المعتبر ، وإلاّ فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلّة حجّية خبر الواحد ، كما عرفت سابقا .

------------------

( و ) اللازم ( هو : قول الامام عليه السلام ، أو وجود دليل معتبر الذي هو ) أي : الدليل المعتبر (أيضا يرجع الى حكم الامام عليه السلام بهذا الحكم الظاهريّ ، المضمون لذلك الدليل ) .

فانّ المجموع من الاجماع ، والأمارات الاخر المنظمة اليه ، يتضمن حكم الامام عليه السلام ،

فيكون حجة لما ذكرنا سابقا : من أنّ مضمون الخبر الواحد وما يدلّ عليه بالمطابَقة ، أو بالتضمن ، أو بالالتزام ، حجّة على من وصله ذلك والاجماع المنقول المنضم اليه سائر الامارات ، يكون بحكم الخبر الواحد .

( لكنّه ) أي : كون المنقول والمحصّل حجّة ( أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الاقوال ، والمحصّل من الامارات ) والقرائن ( ملزوما عاديّا لقول الامام عليه السلام ، أو وجود الدليل المعتبر ) بأن يكون قول الامام أو الدليل المعتبر لازما للمجموع من المنقول والمحصّل .

( والاّ ) بأن لم نقل بالملازمة : بين المنقول والمحصّل ، وبين قول الامام عليه السلام ( فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل ، بادلّة حجّية خبر الواحد - كما عرفت سابقا - ) لأنّ دليل حجّية خبر الواحد ، انّما هو فيما اذا كان له دلالة مطابقية ، أو تضمنيّة ، أو التزامية على حكم من الأحكام دون ما اذا لم تكن الدلالة باحدى

ص: 136

ومن ذلك ظهر أنّ ما ذكره هذا البعضُ ليس تفصيلاً في مسألة حجّيّة الاجماع المنقول ، ولا قولاً بحجّيته في الجملة من حيث انّه إجماع منقول ، وإنّما يرجع محصّله إلى أنّ الحاكي للاجماعُ يُصدّق فيما يخبره عن حسّ

------------------

الدلالات الثلاث ، وانّما كانت من المقارنات الاتفاقية .

والحاصل : انه اذا كان تلازم بين المنقول والمحصّل ، وبين قول الامام عليه السلام ، شمل أدلة حجية خبر الواحد المنقول والمحصّل فيكونان حجّة كالخبر الواحد ، واذا لم يكن تلازم ، فلا يشمل دليل حجّية الخبر : المنقول والمحصّل ، فلا يكونان حجة .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : بأنّه انّما يكون الاجماع المنقول حجّة ، اذا كان مع الانضمام ، كاشفا عاديا عن قول الامام ، أو عن دليل معتبر ( ظهر ان ماذكره هذا البعض ) أي : التُستري رحمه اللّه من : انّ بعض الاجماعات المنقولة حجّة وبعضه ليس بحجّة ( ليس تفصيلاً في مسألة حجيّة الاجماع المنقول ) لما قد عرفت : من انّ مقتضى ماذكره : انه لا حجيّة للاجماع المنقول اطلاقا .

( ولا قولاً بحجّيّته ) أي : الاجماع المنقول ( في الجملة ، من حيث انه اجماع منقول ) فانّ الاجماع المنقول على ماذكره التُستري ، ليس كاشفا ، ولا جزء كاشف ، فليس هو بحجّة مستقلة ولا جزء حجّة .

( وانّما يرجع محصّله ) أي : محصل كلام التُستري رحمه اللّه ( الى انّ الحاكي للاجماع ، يُصدَّق فيما ) أي : في المقدار الذي ( يخبره عن حسّ ) فاذا قال المحقّق - مثلاً - : ان مائة من الفقهاء قالوا بهذا الشيء فانه يُصَدَّق بهذا المقدار ، كذلك اذا قال : اجماع بهذا الشيء ، فانّ خبره مصدَّق بالنسبة الى مقدار المائة فقط ، وذلك ليس بحجّة ، ولا بجزء حجّة .

ص: 137

فانّ فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما بنفسه ، او بضميمة أمارات اُخَر ، لصدور الحكم الواقعيّ او مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايتُهُ حجّةً ، لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ، وإلاّ فلا ، وهذا يقول به كلّ من يقول بحجّية الخبر في الجملة ،

------------------

( فان فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما بنفسه ، أو بضميمة امارات اُخر ) أو أقوال اُخر حصّلها المنقول اليه كالأقوال التي بعد المحقّق - مثلاً - ( لصدور الحكم الواقعي ) عن الامام عليه السلام ( أو ) صدور الحكم الظاهري ، وهو : (مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايته ) أي : ما يحكيه ناقل الاجماع ، مما يخبره عن الحسّ ( حجّة ) فيما اخبر به - مثلاً - من انّ مائة من العلماء قالوا بهذا الشيء وذلك ( لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ) .

وهذا هو غاية ما يمكن ان يكون الاجماع المنقول حجّة فيه .

( والاّ ) بان لم يكن ما ينقله ناقل الاجماع ، ملازما بنفسه ، أو بضميمة امارات اُخر ، لصدور الحكم الواقعي عن الامام عليه السلام ، أو دليل معتبر ( فلا ) يكون حجّة ، فانّ الخبر الواحد انّما يكون حجة اذا كان له اثر شرعي ، فاذا لم يكن له أثر شرعي ، فلا حجيّية فيه ، فاذا أخبر انسان صادق : بأنّ الجبل الفلاني ارتفاعه كذا مترا ، فانّه لا يجب تصديقه ، اذ لا يترتب على تصديقه وعدم تصديقه ، حكم شرعي - كما قرر في الخبر الواحد - .

( وهذا ) أي : وجوب تصديق العادل فيما يخبره عن حس ، اذا كان بنفسه ، أو بانضمام امارات اُخر ، أو اقوال اُخر لازما للحكم الواقعي ، أو الحكم الظاهري ( يقول به ، كلّ من يقول بحجيّة الخبر في الجملة ) فلا ربط لهذا الذي ذكره التستري بحجّية الاجماع المنقول أصلاً .

ص: 138

وقد اعترفَ بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء .

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلامُ في المتواتر المنقول

------------------

إذن : فكلام التُستري ، لايثبت حجّية الاجماع المنقول حتى ولو في الجملة ، وانّما هو دليل على عدم حجّية الاجماع المنقول مطلقا .

وقوله : « في الجملة » يعني انّ القائلين بحجيّة الخبر الواحد ، مختلفون في خصوصيات الخبر ، الذي يكون حجّة ، وانه هل يلزم فيه العدالة ؟ أو تكفي الوثاقة أو تكفي الممدوحية ، الى غير ذلك مما هو في قبال من يقول : بعدم حجّية الخبر اطلاقا ( و ) هذا ليس خاصا بالاجماع المنقول ، بل هو جار في الشهرة وفتاوى آحاد العلماء أيضا ، حيث انّ الخبر عن حسّ ، حجّة في مفاده اذا ترتب على ذلك حكم شرعي سواء كان الخبر عن حسّ ، اخبارا بالاجماع ، أو بالشهرة ، أو بفتاوى العلماء .

ولهذا ( قد اعترف ) التُستري رحمه اللّه ( بجريانه ) أي جريان وجوب تصديق المخبر ، فيما يخبر به عن حسّ ( في نقل الشهرة ، وفتاوى آحاد العلماء ) وهذا - كما هو واضح - ليس دليلاً على حجّية الشهرة ، وفتاوى آحاد العلماء ، كما انه ليس دليلاً على حجّية الاجماع المنقول .

والحاصل : انّ التُستري بكلامه هذا لم يكن مفصِّلاً في الاجماع ، بل كان ذاهبا الى عدم حجّية الاجماع المنقول اطلاقا ، الاّ انّه أثبت - فقط - اخبار المخبر عن حسّ ، بالنسبة الى أقوال العلماء قدس سرهم .

( ومن جميع ما ذكرنا ) في الاجماع المنقول ( يظهر الكلام : في المتواتر المنقول ) فان المصنّف حيث أتم الكلام في نقل الاجماع ، عرّج الى نقل التواتر وهو : انه اذا قال شيخ الطائفة - مثلاً - : ثبت لديّ بأخبار متواترة : انّ

ص: 139

وأنّ نقل التواتر في خبر لا يُثبتُ حجّيته ولو قلنا بحجّيّة خبر الواحد ، لأنّ التواتر صفة في الخبر تحصل باخبار جماعة تفيد العلم للسّامع

------------------

الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « الخراج بالضمان » (1) . لم يكن هذا النقل من الشيخ ، يثبت لنا تواتر قول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وذلك لأنّ التواتر هو : الخبر الموجب للعلم ، وحصول العلم للشيخ بسبب الخبر المتواتر لديه ، لا يلزم اثبات تواتر الخبر عندنا أيضا ، اذ لعل الشيخ علم ذلك بسبب اخبار عشرة أشخاص ، بحيث لو أخبرنا اولئك العشرة ، لم يحصل لنا العلم ، فلا تلازم بين كون الخبر متواترا عند الشيخ ، وبين كونه متواترا عندنا أيضا .

نعم ، انّا نصدّق الشيخ فيما حصل لديه من الخبر المتواتر ، لكن لا تلازم بين التواتر عنده والتواتر عندنا ، فالتواتر المنقول كالاجماع المنقول في عدم اثباتهما للمنقول اليه علما ولا عملاً .

كما ( و ) ظهر ( ان نقل التواتر في خبر ، لا يثبت حجّيته ) أي : حجّية ذلك الخبر ، فاذا قال الشيخ : أنّه ورد خبر متواتر بكذا لم يثبت ذلك لنا ( ولو قلنا بحجّية خبر الواحد ) ، لأنّ خبر الواحد الحجّة ، عبارة عن : الاخبار عن الامام بدون واسطة ، او بواسطة ، بينما نقل التواتر ليس اخبارا عن الامام اطلاقا ، بل هو اخبار عن جماعة حصل للناقل بسببهم العلم ، وبحصول العلم للناقل صار عنده متواترا ، وحصول العلم له لا يلازم حصول العلم للمنقول اليه فلا يكون متواترا عنده .

وذلك ( لأنّ التواتر صفة في الخبر ، تحصل باخبار جماعة تفيد العلم للسّامِع )

ص: 140


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص219 ح89 .

ويختلف عدده باختلاف خصوصيّات المقامات ، وليس كلّ تواتر ثبت لشخص ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة تحقّقَ المخبر به ، فاذا أخبَرَ بالتواتر فقد أخبر باخبار جماعة أفاد له العلمَ بالواقع ، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا ،

------------------

فيكون التواتر عبارة عن الخبر الذي أخبر به جماعة ، فأوجب اخبارهم العلم له ، ومن الواضح : انّ الأشخاص يتفاوتون في حصول العلم بسبب الخبر ، فلربما يحصل العلم بسبب الخبر من خمسة أشخاص ، ولربما لم يحصل حتى من العشرين ، ولربما لا يكون التواتر عند المتكلم هو التواتر عند السامع ، وكذا العكس .

كما ( ويختلف عدده باختلاف خصوصيات المقامات ) زمانا ومكانا وخبرا ومعارضا ، وغير ذلك .

كما ( و ) انه ( ليس كل تواتر ثبت لشخص ، ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة ، تحقق المخبر به ) ، ومعنى تحقق المخبر به : تحقق صدور الحكم عن الامام عليه السلام ، فانه لا يستلزم نقل التواتر على حكم صدور ذلك الحكم عنه عليه السلام ، اذ ربما كان الخبر متواترا عند الشيخ ، وليس متواترا عند ابن ادريس ، وهذا الاختلاف مما يدل على عدم التلازم بينهما .

وهكذا بالنسبة الى سائر الناقلين والمنقول اليهم ، ( فاذا أخبر بالتواتر ، فقد أخبر باخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع ، و ) من المعلوم ان ( قبول هذا الخبر ، لايجدي شيئا ) للمنقول اليه ، فانه اذا صدّق : بان شيخ الطائفة اخبره جماعة ، فأفاد له العلم ، فان ذلك لايوجب للمنقول اليه ثبوت قول الامام ولا ثبوت دليل معتبر ، وانّما يثبت لدى المنقول اليه : انّ الشيخ حصل له العلم ، وعلم الشيخ لا يستلزم

ص: 141

لانّ المفروض إن تحقق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابتة بخبر العادل .

نعم ، لو أخبر باخبار جماعةٍ يستلزم عادةً لتحقق المُخبَر به - بأن يكون حصول العلم بالمخبَر به لازم الحصول لاخبار الجماعة ، كأن أخبر مثلاً باخبار ألف عادل او ازيد بموت زيد وحضور جنازته - كان اللاّزمُ من قبول خبره الحكمَ بتحقّق الملزوم

------------------

علم المنقول اليه .

( لأنّ المفروض : انّ تحقّق مضمون المتواتر ) أي : الحكم الذي يريد التواتر اثبات صدوره عن الامام عليه السلام ( ليس من لوازم اخبار الجماعة ) فان اخبار الجماعة ( الثابتة بخبر العادل ) كشيخ الطائفة - مثلاً - لا يستلزم ان يكون متواترا عند المنقول اليه ، وان كان متواترا عند الناقل ، فكما انه لو قال : أخبرني الثقة ، ثبت صدق ادعائه : انّه اُخبر بواسطة شخص هو ثقة عنده ، ولم يستلزم ذلك ان يكون ثقة - أيضا - عند المنقول اليه ، لامكان اختلاف الشيخ والمنقول اليه في خصوصيات الوثاقة ، فلربما كان زيد ثقة عند الشيخ ولم يكن ثقة عند المنقول اليه فكذلك في نقل التواتر .

( نعم ، لو ) لم يقل الشيخ : بلغني الخبر الفلاني بالتواتر ، بل ( أخبر باخبار جماعة يستلزم عادة لتحقق المخبر به ) أي : الحكم الذي اخبره عن الجماعة ( بأن يكون حصول العلم بالمخبر به ، لازم الحصول لاخبار الجماعة ) ، أي : كان اخبار الجماعة وحصول المخبر به متلازمان ( كأن أخبر ) الشيخ ( مثلاً - : باخبار ألف عادل أو أزيد ، بموت زيد ، وحضور جنازته ، كان ) هذا الخبر حجّة ، وكان ( اللاّزم من قبول خبره ) أي : معنى حجّية خبر الشيخ ( الحكم بتحقّق الملزوم

ص: 142

وهو إخبار الجماعة ، فيثبت اللازم وهو تحقّق موت زيد ، إلاّ أنّ لازمَ من يعتمد على الاجماع المنقول وإن كان إخبارُ الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادي المحسوسة المستلزمة للمخبر به هو القولُ بحجّية التواتر المنقول .

------------------

وهو : إخبار الجماعة ) لأنّ الشيخ صادق في نقله ( فيثبت ) للمنقول اليه ( اللازم ، وهو : تحقّق موت زيد ) مما يوجب أرث زوجته ، وانفصالها عنه بعد انتهاء العدة ، وما أشبه ذلك من الأحكام .

ثم انه لا فرق في حجية نقل ما يستلزم عادة لتحقق المخبر به بين ان يقول شيخ الطائفة : أخبرني الف عالم أو أخبرني كل أهل المدرسة - وهم مثلاً : ألف - أو أن يقول : أخبرني زيد وعمرو وبكر وهكذا حتى يعدّ ألف انسان ، فان اخبار الف انسان سواء ذكرهم تفصيلاً أو اجمالاً ، يلازم الواقع ، فيثبت الواقع بالنسبة الى المنقول اليه، ويرتب على ذلك الواقع احكامه .

هذا ، ولكن مقتضى التحقيق - كما مرّ - هو : عدم ثبوت التواتر بسبب اخبار الثقة بالتواتر .

( الاّ انّ لازم من يعتمد على الاجماع المنقول وان كان اخبار الناقل مستندا الى حدس ) غير ضروري إذ الحدس قد يكون ضروريا ، وقد يكون غير ضروري ، والحدس غير الضروري ، هو ( غير مستند الى المبادي المحسوسة ، المستلزمة للمخبر به ) فان لازم من يعتمد على مثل هذا الاجماع ( هو القول بحجّية التواتر المنقول ) أيضا .

فكما يثبت قول الامام عليه السلام ، بسبب الاجماع المنقول عند امثال هؤلاء ، كذلك يثبت عندهم التواتر ، المستلزم لقول الامام بسبب نقل التواتر ، وذلك لاشتراكهما

ص: 143

لكن لِيُعلَم انّ معنى قبول نقل التواتر ، مثل الاخبار بتواتر موت زيد مثلاً ، يتصوّرُ على وجهين :

------------------

في أنّ الناقل - كالشيخ مثلاً - تحدَّس بحكم الامام من مبادي حسّية ، غير ملازمة عادة لقول الامام عليه السلام ، بلا فرق بين ان يقول : بأنّ المسألة اجماعية ، أو يقول : بأنّ الرواية في الباب الفلاني متواترة .

هذا ، ولكنك قد عرفت - ممّا سَبقَ - انا لا نقول بأي من الأمرين .

وحيث قد تبيّن : انّ نقل التواتر ، لايوجب كون الخبر متواترا عند المنقول اليه ، فاذا نقل الشهيد تواتر القراءات ، عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فانه لايوجب لنا جواز الاعتماد على نقل الشهيد هذا ، حتى نقول، بجواز الصلاة بكل تلك القراءات، لأنّ كون القراءات متواترة عند الشهيد ، لا تستلزم أن تكون متواترة عندنا أيضا .

ثم ان المصنّف بدأ في بيان ذلك ، بتقديم مقدّمة وقال : ( لكن لِيُعلَم انّ معنى قبول نقل التواتر ) بأن يكون المتواتر المنقول حجّة ( مثل الاخبار بتواتر موت زيد - مثلاً - ) كما اذا أخبر شيخ الطائفة - مثلاً - بذلك ( يتصور على وجهين ) قسَّم المصنّف الوجه الثاني من الوجهين الى وجهين ايضا ، فالوجوه ثلاثة :

الاول : ان يترتب على المخبر به ، أي : موت زيد وآثاره : كتقسيم أمواله واعتداد زوجتُه ، وما أشبه ذلك .

الثاني : أن يترتب على صفة تواتر الخبر في الجملة ، كما اذا نذر : بان كل خبر ادّعي تواتره ، فعليه ان يثبته في كتاب له .

الثالث : أن يترتب على صفة تواتر الخبر - في نظر المنقول اليه - شيء ، ثم اشار المصنّف الى كل من الثلاثة بقوله :

ص: 144

الأوّل : الحكمُ بثبوت الخبر المدّعى تواتُره ، أعني موتَ زيد ، نظيرُ حجّية الاجماع المنقول بالنسبة الى المسألة المدّعى عليها الاجماع ، وهذا هو الذي ذكرنا أنّ الشرط في قبول خبر الواحد هو كونُ ما أخبر به مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه .

الثاني : الحكمُ بثبوت تواتر الخبر المذكور

------------------

( الأوّل : الحكم بثبوت الخبر المدعى تواتره ، أعني : موت زيد ) ليثبت أحكامه المذكورة : من تقسيم أمواله ، واعتداد زوجته ، وما الى ذلك من الآثار الشرعية المترتبة على موته ، فانه لا يثبت عند المنقول اليه ، لأنّه لا يكون الخبر متواترا عنده .

وهذا في حجيته ( نظير حجّية الاجماع المنقول بالنسبة الى المسألة المدّعى عليها الاجماع ) فان الاجماع المنقول لو ثبت حجّيته ثبت الحكم الذي ادعى الاجماع عليه ، فاذا ادعي الاجماع - مثلاً - على وجوب استقرار البدن في الصلاة حال القرائة والذِّكر ، وكان الاجماع المنقول حجّة وجب الاستقرار على المنقول اليه دون مالم يكن حجّة .

( وهذا هو الذي ذكرنا ) من انه لا يثبت بالاجماع المنقول ، لأنّا لا نرى حجّية الاجماع المنقول اذ ( أنّ الشّرط في قبول خبر الواحد ، هو : كون ما أخبر به ، مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه ) وقد ذكرنا : إن الاجماع وكذلك التواتر ، لا يستلزمان ذلك بالنسبة الى المنقول اليه .

( الثاني ) مجرد ( الحكم بثبوت ) وصف ( تواتر الخبر المذكور ) مع قطع النظر عن ثبوت موت زيد أو عدم ثبوته ، فانّه عندما ينقل الشيخ - مثلاً - تواتر هذا الخبر هل يثبت انّ هذا الخبر متواتر ، أو لا يثبت ان هذا الخبر متواتر ؟ .

ص: 145

لِيُرتّب على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشّرعيّة كما إذا نذر أن يحفظ او يكتب كلّ خبر متواتر .

ثمّ أحكام التواتر ، منها : ماثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص ، ومنها : ما ثبت لما تواتر بالنسبة الى هذا الشخص .

------------------

( ليترتب على ذلك الخبر ) أعني : ادعاء التواتر في موت زيد ( آثار المتواتر ، وأحكامه الشّرعيّة ) مع غَضّ النظر عن نفس الحكم الذي ادعى تواتره ، ( كما اذا نذر : أن يحفظ أو يكتب كلّ خبر متواتر ) فانه قد يكون النذر ، بالنسبة الى ما سميّ متواترا ، ولو لم يكن متواترا عنده ، وقد يكون النذر متعلقا بما يكون متواترا عنده ، فيكون القسم الثاني على هذا أيضا على قسمين ، حيث ذكرنا انّ الأقسام ثلاثة ، وقد أشار الى اوّلهما بقوله :

( ثمّ احكام ) وصف ( التواتر منها : ما ثبت لما تواتر في الجملة ، ولو عند غير هذا الشخص ) المنقول اليه ، كما لو نذر : أن يكتب كُلَّ خبر ادّعي تواتره ، سواء ثبت التواتر عنده أو لم يثبت عنده التواتر ، وحيث ادعى الشيخ : انّ هذا الخبر متواتر شمله نذره ، فيجب عليه أن يكتب هذا الخبر في كتابه حسب نذره ، فيكون كما اذا نذر : أن يكتب كُلّ حكم ادّعي الاجماع عليه سواء كان عنده اجماعيا ام لا ، فاذا ادعى الشيخ : الاجماع على مسألة وجب عليه - حسب نذره - أن يكتبها .

ثم اشار الى ثانيهما بقوله : ( ومنها : ماثبت لما تواتر بالنسبة الى هذا الشخص ) كما لو نذر أن يكتب كُلّ خبر تواتر عنده وهذا المتواتر المنقول - حسب الفرض - ليس متواترا عنده فلا يجب عليه ان يكتبه .

ثم اخذ المصنّف يبيِّن احكام كلّ من الاقسام الثلاثة بقوله :

ص: 146

لا ينبغي الاشكال في أنّ مقتضى قبول نقل التواتر العملُ به على الوجه الأوّل وأوّل وجهي الثاني ، كما لا ينبغي الاشكالُ في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص .

ومن هُنا

------------------

( لا ينبغي الاشكال في انّ مقتضى قبول نقل التواتر : العمل به على الوجه الأوّل ) فانّ من يقول : بأنّ ادعاء التواتر مثبت لكونه متواترا ، وجب على هذا المنقول اليه : الحكم بثبوت موت زيد في المثال ، فيجب عليه ترتيب آثاره الشرعية : من تقسيم أمواله على ورثته وغير ذلك مما تقدّم .

( و ) كذا يجب العمل على ( اوّل وجهي الثاني ) ، فيجب الكتابة عليه لثبوت التواتر عند الغير ، وقد كان نذره : ان يكتب كُلّ خبر يسمّى متواترا ولو عند الغير .

( كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به ، عند نفس هذا الشخص ) وهو الوجه الثالث ، وذلك لأنّه لم يصل الى حدّ التواتر في نظر المنقول اليه ، حتى يجب عليه حفظه او كتابته ، وهذا - كما لا يخفى - تابع لكيفيّة النذر ، سواء بالنسبة الى الاجماع ، أو بالنسبة الى التواتر .

( ومن هنا ) تبيّن ان الآثار على ثلاثة اقسام :

الاول : الآثار المترتبة على المخبر به كموت زيد .

الثاني : الآثار المترتبة على صفة التواتر في الجملة ، ولو عند غير المنقول اليه .

الثالث : الآثار التي تترتب على صفة التواتر في نظر هذا الشخص .

وكذا تبيّن : انّ نقل التواتر عند من يرى حجّية هذا النقل ، يوجب الاحكام الثلاثة، بخلاف من لا يرى حجّيته فانه لايثبت عنده الاّ الثاني فقط ، دون الاول والثالث .

ص: 147

يُعلَمُ أنّ الحكمَ بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فلا اشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمه اللّه ، بتواتر القراءات الثلاث ، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه ، لكن بالشرط المتقدّم ، وهو كونُ ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادةً لتحقّق القرآنيّة .

------------------

ومنه ( يعلم انّ الحكم بوجوب القرائة في الصلاة ، ان كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بأن قلنا : وجوب القرائه من آثار القرآن الواقعي ، بحيث لو ثبت عند المنقول اليه انه قرآن واقعي ، جاز له قرائتها في الصلاة ، والاّ لم يجز ، ( فلا اشكال في جواز الاعتماد على ) نقل التواتر من ( إخبار الشهيد رحمه اللّه بتواتر القراءات الثلاث ) فان القراءات ثلاث باعتبار ، وسبع باعتبار ، وعشر باعتبار كما ذكر ذلك الشاطبي والجزري وغيرهما - وقد سبق ذكره مفصلاً - .

والمراد بالقراءات الثلاث : ( أعني قرائة ابي جعفر ، وأخويه ) أي : في القرائة ، لا في النسب ، وهما : أبو يعقوب واُبي بن خلف .

( لكن ) جواز الاعتماد انّما هو اذا كان ( بالشّرط المتقدّم ، وهو : كون ما اخبر به الشهيد من التواتر ، ملزوما عادة لتحقق القرآنيّة ) ، فاذا فرض : انّ قول مائة عادل - مثلاً - في كل طبقة من الطبقات من زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم الى زماننا، يوجب التواتر الواجب العمل به ، وادعى الشهيد : انّ في كل طبقة أخبر مائة عادل : بأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قرء القرآن على الكيفيات الثلاث ، جاز لنا أن نقرأ في الصلاة حسب كلّ من هذه القراءات الثلاث .

مثل : جاز ان تقرأ قوله تعالى : « كُفُوا » (1) بضم الفاء و « كُفْوا » بسكون الفاء،

ص: 148


1- - سورة الاخلاص : الآية 4 .

وكذا لا اشكال في الاعتماد من دون الشّرط ، إن كان الحكمُ منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ، فانّه قد ثبت تواترُ تلك القرائة عند الشهيد باخباره ، وإن كان الحكمُ معلّقا على القرآن المتواتر عند القاريء او مجتهده ، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات .

------------------

و «كُفؤا» بالهمزة عوض الواو مع سكون الفاء وضمه .

فان اخبار الشهيد بذلك ، يكون كسماعنا من المائة في كل عصر عصرٍ ، الى عصر النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم فتكون هذه القراءات الثلاث قرآنا واقعا .

( وكذا لا إشكال في الاعتماد ) على نقل التواتر من الشهيد ( من دون ) حاجة الى ( الشّرط ) المذكور ( ان كان الحكم ) أي : وجوب القرائة في الصلاة ( منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ) بأن دلّ الدليل على انه : اذا ادعي التواتر في القرآن جاز للمنقول اليه ان يقرأ القرآن على تلك الكيفية ، وان لم يثبت التواتر عنده . فيقرأ في الصلاة القرائة التي ادعى الشهيد تواترها ، لأنّ جواز القرائة يناط بادعاء التواتر ، لا بثبوت التواتر عند المنقول اليه ( فانّه قد ثبت تواتر تلك القرائة ) الثلاث ( عند الشهيد باخباره ) أي بسبب اخبار الشهيد وقد عرفت : ان ذلك كاف للمنقول اليه وان لم يثبت التواتر عنده .

( و ) أمّا ( ان كان الحكم ) بجواز القرائة في الصلاة ( معلّقا على القرآن ، المتواتر عند القاريء ) نفسه ( أو مجتهده ) الذي يقلده ذلك القاريء وانه لا يكفي التواتر الذي يدّعيه المدّعي كالشهيد - مثلاً - ما لم يثبت التواتر عند القاريء او مجتهده - (فلا يجدي إخبار الشهيد : بتواتر تلك القراءات ) الثلاث ، لعدم حصول التواتر لدى المصلّي ، أو لدى مجتهده بمجرد ادعاء الشهيد ، اذ يحتمل - مثلاً - انّ التواتر لدى الشهيد يثبت ولو باخبار عشرة في كل طبقة بينما التواتر عند المصلي

ص: 149

وإلى أحدِ الأوّلين ينظر حكم المحقّق والشهيد الثانيين بجواز القراءة بتلك القراءات مستندا الى أنّ الشهيد والعلامة ، قدّس سرّهما ، قد ادّعيا تواترها وأنّ هذا لايقصر عن نقل الاجماع ؛

وإلى الثالث

------------------

أو مجتهده ، لا يثبت الا باخبار مائة ، فكيف يمكن الاعتماد على ادعاء الشهيد هذا ، والحال انّ المصلّي أو مجتهده لم يثبت لديهما بأنّ هذا تواتر أو ليس بتواتر حتى يعتمدان عليه ؟ .

( والى أحد الأوّلين ) من : كون نقل التواتر ، كاف في اثبات وجود التواتر واقعا ، كما في نقل الاجماع ، حيث ذكر بعضهم بأن نقل الاجماع كافٍ في اثبات الحكم ، الذي ادعى عليه الاجماع . ومن : كون التواتر في الجملة - ولو عند غير المنقول اليه - كاف في القرائة على طبقه ( ينظر حكم المحقّق والشهيد الثانييّن ) وهما : المحقّق الكركي صاحب جامع المقاصد ، والشهيد الثاني صاحب المسالك ، حيث قالا (بجواز القرائة بتلك القراءات ) الثلاث ( مستندا الى أن الشهيد ) الأول ( والعلاّمة قدّس سرّهما قد ادّعيا تواترها ) أي : تواتر القراءات الثلاث .

( و ) قالا ( ان هذا ) أي : نقل التواتر ( لا يقصر عن نقل الاجماع ) فكما انّ نقل الاجماع ، كاف في ثبوت الحكم الذي ادعي الاجماع عليه كذلك نقل التواتر كاف في ثبوت كون الحكم متواترا لازم الاتباع .

لكن قد تقدَّم : ان المصنّف لا يرى ثبوت الاجماع ولا ثبوت التواتر ، بمجرد ادعاء شخص الاجماع ، أو التواتر .

( والى الثالث ) وهو : انّ التواتر لا يثبت بالنقل ، وانّما يلزم في جواز القرائة بالثلاث كونها متواترة عند القاريء نفسه ، أو عند مجتهده

ص: 150

نظر صاحبُ المدارك ، وشيخه المقدّس الاردبيليّ ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد بأنّ هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة .

ولا يخلو نظرهما عن نظر ،

------------------

( نَظَرَ صاحب المدارك ، وشيخه المقدّس الاردبيليّ ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد ) الثانيّين ( بانّ هذا ) أي : الحكم بجواز القرائة بالثلاث ، لمجرد نقل العلاّمة والشهيد الأول التواتر ( رجوع عن اشتراط التواتر في القرائة ) عند القاريء أو مجتهده .

فان من يشترط في جواز القرائة ، كون القرائة متواترة عند المصلّي ، او مجتهد المصلّي لا يتمكن أن يكتفي بادعاء العلاّمة والشهيد الأول التواتر ، لانّ التواتر لا يثبت عند المصلّي او مجتهده ، بمجرد ادعاء العلاّمة والشهيد الأول لذلك .

( ولا يخلو نظرهما ) أي : نظر المقدّس الأردبيليّ ، وصاحب المدارك ( عن نظر ) اذ كل من المحقّق والشهيد الثانيّين ، يرى جواز الاعتماد على نقل التواتر ، فلا يتمكن أن يستشكل عليهما من لا يرى جواز الاعتماد على نقل التواتر كالمقدس الاردبيلي وصاحب المدارك ، فاشكالهما ، ليس واردا على الشهيد ، والمحقّق الثانيّين ، في اعتمادهما على العلامة والشهيد الأول .

هذا ، وقد تقدّم : بانا لا نرى تواتر القراءات ، بل القرائة واحدة ، وهي : ما تعارف عليها المصاحف منذ اكثر من ألف سنة ، والى اليوم حيث لم يختلف كتابة بعضها عن بعض ، ولو بنقطة ، أو فتحَة ، أو شدّة ، فكيف بحرف أو أكثر من ذلك مثل : « ملك ومالك » و « كفوا وكفؤا » ؟ .

ص: 151

فتدبّر ، والحمد للّه ، وصلّى اللّه على محمّد وآله ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين .

------------------

( فتدبّر ، والحمد للّه ، وصلّى اللّه على محمد وآله ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ) من الآن الى قيام يوم الدين .

* * *

ص: 152

الشهرة الفتوائية

ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتُها بالخصوص الشهرة في الفتوى الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلتها فتوى غيرهم بخلاف ،

------------------

الشهرة الفتوائية

( ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتها بالخصوص : الشهرة في الفتوى ) مقابل الشهرة في الرواية ، فانه قد تكون احدى الروايتين ، أشهر من الرواية الاخرى ، فتسمّى : الشهرة الروائية ، وقد تكون احدى الفتويين ، أشهر من الاخرى ، وتسمّى : الشهرة الفتوائية .

هذا هو الغالب ، وان كان لا يلزم أن يكون في قبال الشهرة الروائية رواية أخرى أو ان يكون في قبال الشهرة الفتوائية ، فتوى اُخرى - كما سيأتي بيان ذلك - .

وهي ( الحاصلة بفتوى جُلّ ) أي : اكثر ( الفقهاء المعروفين ) في الأعصار والأمصار .

فاذا كانت هنالك فتوى مشهورة بين العلماء ، سواء في عصر واحد كعصر المحقّق - مثلاً - أو في كل الأعصار كما في عصر شيخ الطائفة الى يومنا هذا ، سمّيت : بالشهرة الفتوائية ، لكن اذا كانت الشهرة في زمان خاص ، سمّيت : بالشهرة الفتوائية في عصر كذا ، واذا كانت مطلقة سمّيت : بالشهرة الفتوائية .

( سواء كان في مقابلتها ) أي : مقابلة الشهرة الفتوائية ( فتوى غيرهم ) أي : غير هؤلاء المشهورين ، كما لو كان هناك قولان : مشهور يقول : بطهارة البئر ، وغير مشهور يقول : بنجاستها ، ونجاستها قول ( بخلاف ) المشهور .

ص: 153

ام لم يعرف الخلافُ والوفاقُ من غيرهم .

ثمّ إنّ المقصودَ هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ، بل المقصودُ إبطالُ توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلاّ فالقولُ بحجّيتها من حيث إفادة المظنّة بناءا على دليل الانسداد غيرُ بعيد .

------------------

( ام لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم ) بان كان هناك الف عالم ، وعلمنا : بأنّ تسعمائة منهم أفتوا بشيء ، ولم نعلم انّ المائة الاخرين ، أفتوا بالوفاق أم بالخلاف ، فانّ هذا أيضا يسمّى : بالشهرة الفتوائية .

كما انّ الرواية كذلك ، فاذا كانت هناك روايتان : احدى الروايتين مشهورة ، لوجودها في كثير من كتب الرواية ، والرواية الثانية لم توجد الاّ في بعض الكتب ، كانت الرواية الاولى مشهورة بالشهرة الروائية .

وقد لا يكون في قبال الرواية المشهورة رواية اُخرى وانّما نقول هذه الرواية مشهورة ، باعتبار انها موجودة في كتب كثيرة ، لا باعتبار ان في مقابلها رواية غير مشهورة .

( ثمّ انّ المقصود هنا : ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ) أي : من جهة كون الشهرة قد تكون جزءا من الدليل ، أو تكون الشهرة حجّة من باب انسداد باب العلم ( بل المقصود ابطال توهّم كونها ) أي : الشهرة ( من الظنون الخاصّة ) وانّها حجّة مطلقا كحجّية الخبر ، فان هذا هو الذي ذكره بعض ونحن نردّ عليه .

( والاّ ) بان لم يكن المقصود ابطال ذلك التوهّم ( فالقول بحجّيّتها ) أي بحجّية الشهرة ، من باب انها جزء السّبب ، أو ( من حيث إفادة المظنّة - بناءا على دليل الانسداد - غير بعيد ) فانّا نقول : بأنّ الشهرة قد تكون جزء السّبب في افادة

ص: 154

ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران أحدُهما : ما يظهرُ من بعض ، من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد يدلّ على حجّيّتها بمفهوم الموافقة ، لأنّه ربما يحصل منها الظنّ الأقوى من الحاصل من خبر العادل .

وهذا خيالٌ ضعيفٌ تخيّله بعضٌ في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي

------------------

الحكم ، كما اذا كانت هناك رواية ضعيفة لكن كان قول المشهور على طبق تلك الرواية ، فانهما معا يفيدان الحكم ، كما نقول أيضا : بأنّه اذا وصلت النوبة الى دليل الانسداد ، كانت الشهرة أيضا حجّة من باب الظنّ المطلّق ، وانّما الذي ننكره الآن في قبال صاحب الرياض ، هو القول : بأن الشهرة من الأدلة الخاصة أيضا .

( ثمّ انّ منشأ توهّم كونها ) أي : الشهرة ( من الظنون الخاصّة ) وانها حجّة مطلقا كحجّية الخبر ( أمران ) : ( أحدهما : ما يظهر من بعض ) وهو : صاحب الرياض - كما نُسب اليه - ( من انّ ادلّة حجّية خبر الواحد ، يدلّ على حجّيتها ) أي : الشهرة ( بمفهوم الموافقة ) أي : بالطريق الأولى ، فانه اذا كان خبر الواحد حجّة كانت الشهرة حجّة بطريق أولى ، لكن الخبر الواحد حجّة فالشهرة حجّة أيضا .

وذلك ( لانّه ربما يحصل منها ) أي : من الشهرة ( الظنّ الاقوى من ) الظنّ (الحاصل من خبر العادل ) فاذا كان خبر العادل حجّة بالأدلّة الأربعة ، وانّه مفيد للظنّ ، كانت الشهرة أولى بالحجّية ، لأنّ الظنّ في الشهرة أقوى من الظنّ في الخبر الواحد .

( و ) لكنّ ( هذا خيال ضعيف ، تخيّله بعض ) وهو : صاحب الرياض على ما نُسب اليه ( في بعض رسائله ) المصنّفة في الشهرة وحجّيتها .

كما ( و ) قد ( وقع نظيره ) أي نظير هذا التخيّل ( من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي ) والشياع عبارة عن : قول جماعة

ص: 155

بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين .

ووجهُ الضعف : أنّ الأولويّة الظنيّة اوهنُ بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها

------------------

كثيرة ، قد يوجب قولهم الظنّ ، وقد يوجب قولهم العلم ، فاذا كان الشياع مفيدا للعلم ، فبها ، والاّ بان كان الشياع مفيدا للظنّ فالمشهور لم يقولوا بحجيّة هذا الشياع .

والفرق بين مسألة الشياع والشّهرة : انّ الشياع يطلق في الموضوعات ، والشهرة تطلق في الأحكام .

وانّما قال الشهيد الثاني بحجية الشياع الظني ، لاستدلاله : ( بكون الظنّ الحاصل منه ) أي من الشياع ( اقوى من الحاصل من شهادة العدلين ) فاذا كان شهادتهما حجّة في الموضوعات ، فالشياع أولى بالحجية في الموضوعات منها .

لكن لا يخفى : انه لا يمكن القول : بحجّية الشياع الظنّي ، لأنّه لا دليل على انّ شهادة العدلين حجّة من باب الظنّ ، بل حجّية شهادة العدلين من باب بناء العقلاء ، وتصديق الشارع له ( ووجه الضعف ) فيما ذكره صاحب الرياض أمران :

الاول : ما أشار اليه بقوله : ( انّ الأولويّة الظنيّة أوهن ) أي : أضعف ( بمراتب من الشهرة ) اذ الأولوية ليست مظنونة الحجّية ، ولا محتملة الحجّية ولا مشكوكة الحجّية ، بل يقطع بعدم حجّيتها لِما وَرَدَ من ان : « دِين اللّه ِ لا يُصابُ بِالعُقُولِ » (1) بخلاف الشهرة ، حيث دلّ بعض الأدلّة - كما سيأتي - على حجّيتها ، وعليه ، فالأولوية أنزل بثلاث مراحل من الشهرة ( فكيف يتمسّك بها ) أي : بالأولوية

ص: 156


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

في حجّيّتها ، مع أنّ الأولويّة ممنوعة رأسا للظنّ بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّيّة الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ ، وأضعفُ من ذلك تسميةُ هذه الأولوية في كلام ذلك البعض مفهومَ الموافقة ،

------------------

( في حجّيتها ؟ ) أي في حجّية الشهرة كما عن الرياض : بأنّ الخبر الواحد حيث كان حجة، فالشهرة حجة بطريق اولى ، فبنى حجّية الشهرة على حجّية الخبر الواحد .

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ الأولويّة ممنوعة ) في المقام ، فلا تلازم بين حجّية الخبر الواحد وحجية الشهرة ( رأسا ) وذلك ( للظنّ ، بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ) أي : حجّية خبر العادل ( ليس مجرّد إفادة الظنّ ) حتى يقال : بأن خبر العادل حيث يفيد الظنّ فهو حجّة والشهرة تفيد الظنّ الأقوى ، فتكون حجة بطريق أولى .

بل ( واضعف من ذلك ) أي : من الاشكال في أولوية صاحب الرياض ( تسمية هذه الأولوية في كلام ذلك البعض : مفهوم الموافقة ) مع انه ليس من مفهوم الموافقة في شيء : حتى وان سلّمنا بالأولوية لأنّه فرق بين القياس الأولوي - الذي منه ما نحن فيه - وبين مفهوم الموافقة .

فالأوّل : لا دلالة للّفظ عليه لا مفهوما ولا منطوقا ، بل العرف يفهم شيئا خارجا عن اللّفظ بالأوْلى .

مثلاً : اذا شهد الأطفال على القتل ، يُقبل منهم ، لِما وَرَدَ في النصّ : من قبول شهادتهم في القتل ، فان شهدوا على الجرح يقبل منهم ايضا ، بطريق اولى ، وليس هذا بمنطوق النصّ ولا بمفهومه ، وانّما هذا بالقياس الأولوي ، عند من يقول : بقبول شهادتهم في الجرح .

ص: 157

مع أنّه ما كان استفادةُ حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدالّ على حكم الأصل ، مثلَ قوله تعالى : « ولا تَقُل لَهُما اُفٍّ » .

الثاني : دلالةُ مرفوعة زرارة ومقبولة ابن حنظلة على ذلك ؛ ففي الاولى : « قال زرارة : قُلتُ جُعِلْتُ فِداك ، يأتي عنكم الخَبَرانِ

------------------

والثاني : اللّفظ دال عليه ، لكن بالمفهوم لا بالمنطوق ، مثل قوله تعالى : « وَلا تَقُل لَهُما أُفٍ » (1) حيث يفهم منه بالأولى عدم ضربَهما ، لِما يُفهم منه بأن علّة التحريم هو : الايذاء ، وايذاء الضرب حيث كان اكثر من ايذاء التأفّف ، فهم منه : ان الضرب محرّم بالأولوية .

والحاصل : ان دلّ اللّفظ عليه فهو مفهوم ، وان لم يدلّ اللّفظ عليه وانّما دلّ عليه العقل ، فهو قياس أولوي ، وعليه فان تمّ كلام صاحب الرياض ، فهو من القياس الأولوي ، لا من مفهوم الموافقة .

والى هذا اشار المصنّف بقوله ( مع انّه ) أي : ان مفهوم الموافقة هو : ( ما كان استفادة حكم الفرع ، من الدليل اللّفظي الدّال على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : « وَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ » (2) ) لا ما اذا كان من دليل العقل ، فانه ان كان بدلالة العقل لا من دلالة اللّفظ ، فلا يسمّى : بمفهوم الموافقة .

الأمر ( الثاني ) لتوهم كون الشهرة من الظّنون الخاصة : ( دلالة مرفوعة زُرارَة ومقبولَة ابن حَنظَلَة على ذلك ) أي : على حجّية الشهرة الفتوائية ، وانّما سمّيت المرفوعة : مرفوعة ، لأنّ بعض السند قد سَقَط منها ، وسمّيت المقبولة : مقبولة ، لأنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول .

( ففي الاولى : « قال زُرارة : قُلتُ : جُعِلْتُ فِداكَ يأتي عَنْكُم الخَبَرانِ

ص: 158


1- - سورة الاسراء : الآية 23 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .

والحديثانِ المتعارضانِ ، فبأيّهما نعمل ؟ قال عليه السلام : خُذ بما اشتَهَرَ بَينَ أصحابِكَ وَدَع الشاذّ النادر .

قلت : ياسَيّدي إنّهما معا مشهورانِ مَأثورانِ عَنكُم . قال عليه السلام خُذ بما يَقولهُ أعدَلُهُما » ، الخبر .

------------------

والحديثان) والمراد بالخبر هنا : ما ينقُله المعصوم مستندا الى معصوم آخر بأن يقول الامام الصادق عليه السلام - مثلاً - : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : كذا ، أو قال أبي : كذا ، والمراد بالحديث : ما اذا قال الامام الصادق عليه السلام - مثلاً - « لا شَكَّ لكثير الشك » (1) وسمّي : حديثا ، لانه حادث وليس اخبارا عن أحد ، هذا اذا ذكر الخبر والحديث معا، أمّا اذا ذكر أحدهما دون الآخر فانه يشمل المعنيين .

وعليه : فاذا وَرَدَ ( المتعارضان ، فبأيّهما نعمل ؟ قال عليه السلام : خُذْ بما اشتَهَر بَينَ أصحابِك ، وَدعْ الشاذّ النادِر ) والشاذّ : هو يكون على خلاف القاعدة ، بينما النادر : هو ما يكون على وفق القاعدة ، لكنّه قليل ، فالانسان الجميل غاية الجمال كيوسُف عليه السلام - مثلاً - يسمّى : نادرا ، والانسان المتزايد ، في سوء خلقه ، الخارج عن المتعارف يسمى : شاذا ، ولَعلّ المراد بقوله عليه السلام : « وَدَع الشاذّ النّادِر » انه اذا كان على خلاف المشهور ، فدعه سواء كان شاذا أو نادرا .

( قلت : يا سيّدي ، انّهُما مَعا مَشهورانِ مَأثورانِ عَنكُم ؟ قال عليه السلام : خُذ بِما يقولُهُ أعدَلُهُما ) الى آخر ( الخبر ) (2) .

ص: 159


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 و ص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 و ص344 ومن لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

بناءاً على أنّ المرادَ بالموصول مطلقُ المشهور ، روايةً كان او فتوىً ، او أنّ إناطةَ الحكم بالاشتهار يدل على اعتبار الشهرة في نفسه وإن لم يكن في الرواية ، وفي المقبولة ،

------------------

واما وجه الاستدلال بهذه المرفوعة على حجّية الشهرة ، ولو في الفتوى ، فمن وجهين : الأول : « ما » الموصولة في قوله عليه السلام « خُذ بما اشتهر » .

( بناءا على انّ المراد بالموصول : مطلق المشهور ) فانّ مورد السؤال وان كان هو الرواية ، الاّ انّ قوله عليه السلام : « خُذْ بما اشتهر » معناه : خُذ كلّ شيء مشهور ، فيكون من قبيل : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، حيث انّ المورد وان كان الرمان ، الاّ انّ المفهوم من الكلام : ان كل حامض اجتنب أكله .

وعليه : فالمشهور ( رواية كان أو فتوى ) يُؤخَذ به ، ويُترَك ما يقابله .

الثاني ما أشار اليه بقوله : ( أو انّ إناطة الحكم بالاشتهار ) أي : انّ الامام عليه السلام ، أناط حكم الأخذ بما يكون مشهورا ( يدل على اعتبار الشهرة في نفسه ) أي : انّ الاشتهار بنفسه يوجب الأخذ ( وان لم يكن في الرواية ) بأن كان في الفتوى .

وعليه : فانا لو سلّمنا بان المراد من « ما » الموصولة ليس هو الأعم من الرواية والفتوى ، بل خصوص الرواية فقط ، الاّ انه عليه السلام ، لمّا جعل مناط وجوب أخذ الرواية ، هو: الشهرة ، علم منه : انّ الشهرة بما هي هي معتبرة وان كانت في الفتوى.

والحاصل ان الفرق بين الوجهين هو : أنّ المفهوم من « ما » الموصولة هو : الأعم من الرواية والفتوى ، والمفهوم من اناطة الحكم بالاشتهار هو انّ المناط هي الشهرة سواء كانت في الرواية أو في الفتوى حتى وان سلّمنا بانّ « ما » الموصولة لخصوص الرواية .

( وفي المقبولة ) الواردة في تعارض القضاة ، بأن حَكَمَ هذا القاضي بشي ،

ص: 160

بعد فرض السائل تساوي الروايتين في العدالة، قال عليه السلام :

« يُنظَرُ إلى ما كانَ من روايتهم عَنّا في ذلك الذي حكما به المُجمَعِ عليه بَينَ أصحابك فيؤخذُ ويُترك الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابكَ ، فانّ المُجمَعَ عليه لا رَيبَ فيه ، وإنّما الاُمورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بيّنٌ رُشدُهُ فيتّبعُ ، وأمرٌ بيّنٌ غيُّه فيُجتَنَبُ ،

------------------

وَحَكم القاضي الثاني بشيء آخر في نفس الواقعة وذلك ( بعد فرض السائل تساوي الروايتين ) حيث انّ الامام عليه السلام أمر بعد تساوي القضاة في العدالة الى مَصدَر حُكمُ القضاة وهي : الرواية التي اخذها القاضي الاول ، والرواية التي أخذها القاضي الثاني ، فاذا تساوت الرّوايتان كما تساوى القاضيان ( في العدالة ؟ قال عليه السلام : ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمّع عليه بين اصحابك ) الشيعة ( فيؤخذ ) بالمجمع عليه ( ويُترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ) والمراد بالمجمع عليه هو : المشهور ، فيدل على انّ المشهور مقدَّم على غير المشهور ، وهو كما يكون في الرواية يكون في الفتوى أيضا ، لِوحدَة المِلاك .

ثم قال عليه السلام : ( وانّما الامور ثلاثة ) .

الاول : ( أمر بيّن رُشدُه فيتبع ) كالخبر الذي لا يعارضه شيء ، فهو أمر بيّن رشده ، ويجب الأخذ به في الفتوى والعمل .

الثاني : ( وأمر بيّن غيّه ) والغيّ في قبال الرُشد ، قال سبحانه وتعالى : « قَد تَبَيّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيّ » (1) وذلك كالخبر المخالف للاجماع ، فانه بيّن غيّه ، فيجب تركه (فيجتنب ) عملاً وفتوى .

ص: 161


1- - سورة البقرة : الآية 256 .

وأمرٌ مشكلٌ يُردُّ حُكمُه إلى اللّه ورَسولِهِ . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشُبهاتٌ بَين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجى من المُحرّمات ، ومن أخذ الشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم .

------------------

الثالث : ( وأمر مشكل ) كالخبر الشاذّ أو النادر ، المخالف للمشهور ، فانه ( يردّ حكمه الى اللّه ورسوله ) ، ومعنى الردّ الى اللّه : الفحص في القرآن الحكيم ، ليعلم هل ان هذا الخبر يطابقه أو لا يطابقه ؟ ، ومعنى الردّ الى الرسول : الفحص في سنّة الرسول والائمة من أهل البيت ، حتى يعرف هل ان هذا الخبر يوافق أقوالهم عليهم السلام ، أو لا يوافقهم ؟ .

مثلاً : اذا دلّ خبر بيّن الرشد على وجوب الجمعة ، وخبر بيّن الغيّ على حرمة الجمعة ، وخبر نادر على التخيير بين الظهر والجمعة ، فان رأينا في القرآن أو سنة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : جواز ترك الجمعة الى الظهر ، قلنا : بالوجوب التخييري بين الظهر والجمعة ، وان رأينا عدم جواز ترك الجمعة الى الظهر ، قلنا : بتعين الجمعة وعدم التخيير بينها وبين الظهر .

ثم ان الامام عليه السلام ، استدل بكلام الرسول في تقسيم الامور الى ثلاثة أقسام وقال : ( قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حَلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ) والمراد بالحلال البيّن ثلاثة من الأحكام : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة ، كما ان المراد بالحرام البيّن حكمان : لأنّ فعل الحرام ، حرام ، وترك الواجب أيضا حرام .

( فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ الشبهات وقع في المحرّمات ) الواقعية احيانا ( وهلك من حيث لا يعلم ) أي : من طريق عدم العلم ، والغفلة عن الواقع .

ص: 162

قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم » ، إلى آخر الرواية .

بناءا على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهورُ بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : « ويترك الشاذّ الذي ليس

------------------

مثلاً اذا كان هناك ماء طاهر نعلم بطهارته ، وماء نجس نعلم بِنَجاسته . فالماء الطاهر نشربه ، والماء النجس نتركه .

واما اذا كان هناك اناءان مشتبهان ، لا نعلم ان أيّهما طاهر وأيّهما نجس ، فاذا شرب الانسان احد ذينك الانائين المشتبهين ، وقع احيانا في النجس الواقعي ، وعوقبَ في الاخرة بسبب شربه هذا الماء النجس ، وان لم يعلم انّه بعينه نجس ، وذلك لانّ العقل والشارع أمراه باجتناب طرفي الشبهة .

( قلت : فان كان الخبران عنكم ) كلاهما ( مَشهورَينِ ، قَد رَواهُما الثقات عَنكُم ، الى آخر الرّواية ) (1) والمراد بالخبرين المشهورين : ان يكون هذا الخبر مذكورا في السِنَة الأصحاب ، وذلك الخبر أيضا كذلك ، مقابل أن يكون أحد الخبرين مذكورا في السِنَة الأصحاب ، لكن الخبر الثاني ، لم يذكره الاّ الشاذّ أو النّادر منهم ، وانّما نستدلّ بهذه المقبولة على حجّية الشهرة وان كانت في الفتوى (بناءا على انّ المراد بالمجمع عليه ، في الموضعين ) في هذه الرواية ( : هو المشهور ) لا الاجماع المصطلح ، الذي هو اتفاق الكلّ .

وانّما نقول : بأنّ المراد بالمجمع عليه : المشهور ( بقرينة اطلاق المشهور ، عليه ) أي : على المجمع عليه ( في قوله ) عليه السلام ( ويترك الشاذّ الذي ليس

ص: 163


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بمشهور » ؛ فيكون في التعليل بقوله : « فانّ المجمع عليه » ، الخ ، دلالةٌ على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجبُ العملُ به وإن كان موردُ التعليل الشهرةَ في الرّواية .

وممّا يؤيّد إرادة الشهرة من الاجماع أنّ المراد لو كان الاجماع الحقيقي لم يكن ريبٌ في بطلان خلافه ، مع انّ الامام عليه السلام جعل مقابله ممّا فيه الرّيب .

------------------

بمشهور ) ، فكأنه عليه السلام قال ينظر الى المشهور بين أصحابه فيأخذ به ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور ، فان المشهور لا ريب فيه .

ومن المعلوم : انه اذا كان الحكم معلّقا على الشهرة ، دلّ على انّ الاعتبار بالشهرة بما هي شهرة فتشمل الرواية ، وتشمل الفتوى ، فان مورد هذه المقبولة ، وان كانت الشهرة الروائية ، الاّ ان تعليل الحكم بالشهرة ، يدلّ على ان الشهرة : حجّة مطلقا ، مثل ما تقدّم من مثال : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض .

( فيكون في التعليل بقوله ) عليه السلام : ( « فان المجمع عليه » الخ ، دلالة على : ان المشهور مطلقا ) سواء كان في الرواية او كان في الفتوى ( مما يجب العمل به ) لانه مشهور ( وان كان مورد التعليل ) في المقبولة ( الشهرة في الرواية ) .

( وممّا يؤيّد ارادة : الشهرة من الاجماع ) المتكرّر في قوله عليه السلامفي المقبولة مرّتين : مرّة « المجمع عليه بين أصحابك » : واخرى : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » ( انّ المراد لو كان ) هو ( الاجماع الحقيقي ) الاصطلاحي ، بان كان الحكم متفقا عليه بين الرواة ، ولم يكن هناك قول مخالف فانّه ( لم يكن ريب في بطلان خلافه ) أي خلاف المجمع عليه ان كان اجماعا حقيقيا ( مع انّ الامام عليه السلام ، جعل مقابله ) أي : مقابل المجمع عليه ( : مما فيه الرّيب ) والشكّ لا ممّا يثبت بطلانه .

ص: 164

ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لايخفى من الوهن :

أمّا الاُولى ، فيرد عليها - مضافا إلى ضعفها حتّى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشةُ في سند الرّوايات ، كالمحدّث البحرانيّ - أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرّواية المشهورة من الرّوايتين دون مطلق الحكم المشهور .

------------------

وذلك ان الامام عليه السلام ، قابل بين ما لاريب فيه ، وبين ما فيه الرّيب ، لا انه قابل بين ما لا ريب في صحّته ، وبين ما لا ريب في بطلانه .

ومن الواضح : انّ الشاذّ انّما يكون ممّا فيه ريب ، اذ وقع في قِبال المشهور ، لانّه لو وقع في قِبال المجمع عليه الاصطلاحي لكان ممّا لا ريب في بطلانه ، لا انه كان مما فيه ريب .

وبذلك يتعيّن : حمل « المجمع عليه » في كلام الامام عليه السلام على المشهور .

( ولكن في الاستدلال بالروايتين ) المرفوعة والمقبولة على حجّية الشهرة الفتوائية ( ما لا يخفى من الوهن ) والضعف .

( أمّا الاولى : ) وهي المرفوعة ( فيرد عليها ) أمران : ضعف السند ، وضعف الدلالة .

الأول : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( مضافا الى ضعفها ) سندا ، لانها مرفوعة وليست مسندة ( حتّى انّه ) قد ( ردّها ، من ليس دأبه الخدشة في سند الرّوايات كالمحدّث البحرانيّ ) حيث انه يعمل بكثير من الروايات التي لا يعمل بها غيره من المحدّثين .

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( انّ المراد بالموصول ) « ما » في قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر » ( هو : خصوص الرّواية المشهورة من الرّوايتين ، دون مطلق الحكم المشهور ) رواية كانت ، أو فتوى ، وذلك للتبادر ، ولانه ليس علّة حتى تعمَّم في

ص: 165

الا ترى أنك لو سُئلتَ عن أنّ أيَّ المسجدين احبُّ اليك ، قلتَ :

ما كان الاجتماعُ فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن يُنسِبَ إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان او خانا او سوقا ، وكذا لو أجبتَ عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين فقلت : ما كان أكبر .

والحاصلُ : أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرّواية ممّا لا يظنّ بادنى التفاتٍ ،

------------------

غير المورد .

( الا ترى : انك لو سُئلت عن انّ أي المسجدين أحبّ اليك ؟ ) فأجبت و ( قُلتَ : ما كان الاجتماع فيه أكثر ) كان الظاهر المتبادر منه : انّ المحبوب عندك ما كان المسجد أكثر اجتماعا فقط ، لا الأماكن الاُخر .

ولهذا ( لم يحسن للمخاطَب أن ) يحمل الموصول « ما » في قولك : « ما كان الاجتماع » على العموم ثم ( ينسِب اليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر) سواء ( بيتا كان أو ) مسجدا ، ( خانا ) كان ( أو سوقا ) أو ما أشبه ذلك .

فاذا نَسَب المخاطب اليك : انّك تحب الأكثر اجتماعا ، في كل هذه الامور قيل له : كلامك ليس دالاً على هذا الاطلاق .

( وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين ، فقلت : ما كان اكبر ) فانّ المفهوم عرفا من كلامك هذا ، ترجيح الرمّان الاكبر ، لا كلّ شيء أكبر ، والى غير ذلك من الأمثلة .

( والحاصل : انّ دعوى العموم في المقام ) في أمثال ما نحن فيه ، ممّا كان مسبوقا بطلب التعيين ، من دون أن يكون هناك شواهد داخلية ، أو خارجية ، لارادة العموم (لغير الرواية مما لا يظن بأدنى التفات ) .

ص: 166

مع أنّ الشهرة الفتوائية ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة .

فقوله : « يا سيّدي ! إنّهما مشهوران مأثوران » ، أوضحُ شاهد على أنّ المرادَ الشّهرة في الرّواية الحاصلة بان يكون الرّواية ممّا اتفق الكلّ على روايته او تدوينه ،

------------------

وان شئت قلّت : ربّما يعلم انّ الوصف عام يشمل غير المورد ، وربّما يعلم انه خاص لا يشمل الاّ المورد ، وربما يشك في انّه من ايّهما ؟ فاذا شك ، لا يجوز التمسك بالعموم ، للشك فيه ، اذ يلزم العلم بالعموم حتى يحكم على طبقه .

وفي المقام : الشهرة من هذا القبيل ، حيث لا نعلم هل ان المناط : الشهرة بما هي ، أو ان المناط : شهرة الرواية ؟ فحيث كان عموم الشهرة مشكوكا فيه ، لم يجز التمسك بعمومها ، ليعمل به حتى في الشهرة الفتوائية .

ثم انّ المصنّف ، أيّد كون الشهرة هنا ، لا تشمل الشهرة الفتوائية بقوله : ( مع انّ الشهرة الفتوائية ، ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة ) بينما ظاهر الرواية كون الشهرة في طرفي المسألة ( فقوله : يا سيّدي انّهما ) معا ( مشهوران مأثوران ، أوضح شاهد على أن المراد : الشهرة في الرواية الحاصلة ) .

وأمّا انّ الشهرة الفتوائية ، لا يمكن أن تكون في طرفي المسألة ، فلوضوح : انّ الشهرة في قبالها الشاذّ ، فلا يمكن أن تكون هنا شهرة ، وهناك شهرة في طرفي المسألة ، فالرواية خاصة بالشهرة الروائية ، وذلك ( بأن يكون ) الخبر و ( الرّواية ممّا اتفق الكلّ ) أو الجلّ ( على روايته أو تدوينه ) في كتب الأحاديث المسمّاة بالاصول .

فانه من الممكن أن تكون روايتان متقابلتان من هذا القبيل ، كما اذا كانت هناك رواية مشهورة في الكتب وعلى الألسِنَة تقول : انّ صلاة الجمعة واجبة تعيينية ،

ص: 167

وهذا ممّا يمكن اتّصافُ الرّوايتين المتعارضتين به .

ومن هنا يُعلَمُ الجوابُ عن التمسّك بالمقبولة

------------------

ورواية اُخرى مشهورة في الكتب وعلى الألسِنَة تقول : انّ صلاة الجمعة واجبة تخييرية ( وهذا ) الوصف بأن تكون الشهرة في كلا الجانبين ( ممّا يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين به ) فقط ، دون الفتوى ، فانه لا يمكن اشتهارها في الطرفين .

لكن يمكن أن يقال : ان هذا في الفتوى أيضا ممكن ، فانّه اذا اخذنا الشهرة بمعنى : الظهور - كما هو معناه اللغوي - جاز أن يكون لكل طرف ؟ علماء كثيرون يفتون به .

( ومن هنا ) اي ممّا ذكرناه في المرفوعة بانّ المراد بالموصول « ما » في قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر » خصوص الرواية المشهورة ، لا الاعم من الرواية والفتوى (يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة ) فانّ المراد بقوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » هو الرواية ، لا الأعم من الرواية والفتوى .

ثم انّ من قال : بأنّ الشهرة تشمل الشهرة الفتوائية ، حمل قوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه » على الشهرة ، مستَدلاً : بأنّه لا يمكن أن يكون هناك اجماع ومشهور معا ، فانّ الاجماع معناه : الكل والشهرة معناها : الجُلّ ، وحيث اجتمع الشهرة والاجماع في كلام الامام عليه السلام ، فلا بد أمّا أن نحمل الاجماع على الشهرة ، بأن يراد بالمجمع عليه : المشهور ، أو نحمل الشهرة على الاجماع ، بأن يراد من الشهرة : المجمع عليه .

لكن بقرينة قوله عليه السلام : « الشاذّ النادر » في مقابله ، نحمل الاجماع على الشهرة ، ونقول : انّ المراد بالمجمع عليه : الشهرة ، فالرواية دليل على حجّية الشهرة

ص: 168

وانّه لاتنافيَ بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتّى نصرف أحدَهما عن ظاهره بقرينة الآخر ، فانّ إطلاق المشهور في مقابل الاجماع إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليّين ، والاّ فالمشهور هو الواضح المعروف ، ومنه : شَهَر فلانٌ سَيفَهُ ، وسَيفٌ شاهرٌ .

------------------

لا على حجّية الاجماع ، والشهرة كما تكون في الرواية تكون في الفتوى ايضا فالرواية تقول : انّ المشهور حجّة ، سواء كان في الرواية أو كان في الفتوى .

هذا ( و ) لكن المصنّف حيث لم يرتض هذا الاستدلال أشار الى جوابه بقوله : (انّه لا تنافي بين اطلاق المجمع عليه : على المشهور ، وبالعكس ) أي : اطلاق المشهور على المجمع عليه ( حتى نصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر ) اذ التنافي بين المشهور والاجماع الاصطلاحي فانه يطلق الاجماع في المعنى الاصطلاحي : على الكل ، والشهرة : على الجُلّ ، أمّا في المعنى اللّغوي ، فالمشهور هو : المجمع عليه ، والمجمع عليه هو : المشهور .

( فانّ اطلاق : المشهور ، في مقابل الاجماع ) كما في ألسِنَة الفقهاء ، حيثُ يطلقون تارةً : الاجماع ويريدون به الكُلّ ، واخرى المشهور ويريدون به الجُلّ ( انّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليين ) والفقهاء فقط .

( والاّ ) بان لم نأخذ بالاصطلاح ( فالمشهور ) في معناه اللّغوي ( هو : الواضح المعروف ) والواضح المعروف أحيانا يطلق : على الكُلّ ، وأحيانا يطلق : على الجُلّ ، لأنّ الجُلّ والكُلّ كلاهما معروفان .

( ومنه ) أي : من المشهور بالمعنى اللّغوي ما يؤيد كون المشهور في اللّغة بمعنى : الواضح ، الشامل للكل أيضا ، لا في قِبال الكل ( شَهَرَ فُلان سَيفَه وسَيفٌ شاهر ) أي : أظهر سيفه وسيفه ظاهر ، فلا وجه لحمل المجمع عليه على المشهور

ص: 169

فالمراد أنّه يؤخذ بالرّواية التي يعرفها جميعُ أصحابك ولا ينكرها أحدٌ منهم ويُترَكُ ما لايعرفه الاّ الشاذّ ولا يعرفها الباقي . فالشاذّ مشاركٌ للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشاركُ الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة ،

------------------

الاصطلاحي ، بل المشهور والمجمع عليه متحدان في المعنى لغةً ، ولذا استعمل الامام عليه السلام تارة هذه اللّفظة واخرى تلك اللّفظة .

وعليه : ( فالمراد ) بالمقبولة : ( انّه يؤخذ بالرواية ، التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ) فلا يراد بالشهرة في الرواية : الشهرة الاصطلاحية ، وهو : الجُلّ والأكثر ، حتى يقال : انّ الأكثرية كما توجد في الرواية توجد في الفتوى أيضا .

والحاصل : انّ المستدلّ بالمقبولة ، أخذ الشهرة بمعنى الجُلّ ، وحمل المجمع عليه ، على الشهرة ، والمصنّف عكس ذلك ، فأخذ المجمع عليه بمعنى : الكُل ، وحمل الشهرة عليه ، ليكون المراد من : « المجمع عليه بين اصحابك ، فيؤخذ » في المقبولة انه يلزم : الأخذ بالرواية التي يعلمها جميع الأصحاب ( ويترك ما لايعرفه الاّ الشاذّ ) من الأصحاب ( ولا يعرفها الباقي ) منهم .

وعليه : ( فالشاذّ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ) فاذا كانت هناك روايتان : احداهما يعرفها الكُلّ ، والأخرى لا يعرفها الاّ جماعة خاصة ، فهؤلاء الجماعة الخاصة يعرفون الرواية التي يعرفها الكُل ( و ) لكن ( المشهور لا يشارك الشاذّ ، في معرفة الرواية الشاذّة ) .

وذلك لأنّ المفروض : انّ الرواية الشاذّة خاصة بجماعة، فاذا كان هنالك - مثلاً - الف عالم ، وكل الألف يعرفون رواية وجوب الجمعة، وعشرة منهم يعرفون رواية

ص: 170

ولهذا كان الرّواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل المشكل الذي يُردّ علمه إلى أهله ، والاّ ، فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث .

------------------

التخيير بين الجمعة والظهر ، فانّ هؤلاء العشرة ، يشاركون بقية العلماء في معرفة رواية وجوب الجمعة لكن بقية العلماء لا يشاركون هؤلاء العشرة في معرفة رواية التخيير .

( ولهذا ) ، أي : لكون الرواية المشهورة يعرفها الكُلّ ، والرواية الشاذّة لا يعرفها الاّ البعض النادر ( كان الرواية المشهورة من قبيل : بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل : المشكل ، الذي يُردّ علمه الى أهله ) لأنّه ورد في الروايات : انّ الانسان اذا لم يعرف وجه رواية ، فلا ينكرها ، وانّما يرد علمها الى أهلها ، وهم المعصومون صلوات اللّه عليهم اجمعين .

وهذا - بالاضافة الى انّه نوع تأدّب - واقعي ، اذ كثير من الروايات ، التي لا يعرفها الانسان مطابقة للواقع ، وانّما معرفة الانسان لم تتوصل بعد الى ذلك الواقع .

( والاّ ) بان لم يكن الأمر على ماذكرناه : من انّ الرواية المشهورة المجمع عليها ، من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّة من قبيل المشكل ، الذي يُردّ علمه الى اهله ( فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث ) حيث قال عليه السلام : انّما الامور ثلاثة :

« أَمرٌ بَيّنٌ رُشدَهُ ، فَيُتَّبَع » .

« وَأمرٌ بَيّنٌ غَيّهُ ، فَيُجتَنَب » .

« وَأمرٌ مُشكِلٌ ، يُرَدّ حُكمُهُ إلى اللّه ِ وَرَسولِهِ » .

ثم استشهد عليه السلام بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات

ص: 171

وممّا يُضحِك الثكلى في هذا المقام توجيه قوله : « هما معا مشهوران » ،

------------------

بين ذلك .. » (1) ، فانّ وجوب اتباع الرشد واجتناب الغيّ ، لا يحتاج الى الاستشهاد ، وانّما المحتاج الى الاستشهاد هو الأمر الثالث : المشتبه بينهما ، الذي هو من قبيل المشكل وهو لا يكون في الفتوى ، لان الفتوى قسمان : بيّن الرشد ، وبيّن الغيّ ، ولا ثالث .

والحاصل : ان مراد الامام عليه السلام من بيان الاقسام ، والاستشهاد بقول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، هو : بيان المشكل ، لا بيان بيّن الرشد ، وبيّن الغيّ ، ومن الواضح : انّ المشكل انّما يكون في الرواية لا في الفتوى ، فلا يمكن ان يستدلّ بالمقبولة على ان الشهرة الفتوائية أيضا حجّة ، فان التثليث يؤيد كون المراد : الشهرة الروائية ، لا الشهرة الفتوائية ، ثم انّ المصنّف بعد أن حمل الشهرة على الاجماع وقال : بأنّه لا يمكن اجماعان في الفتوى ، بينما يمكن اجماعان في الرواية ، ولذا فالمقبولة بصدد الشهرة الروائية لا الشهرة الفتوائية .

اشكل عليه : بامكان اجماعين في الفتوى ايضا ، وذلك بان يكون اجماع في عصر الشيخ على وجوب الجمعة ، واجماع في عصر المحقّق على التخيير بينها ، وبين الظهر - مثلاً - .

فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال : بأن ظاهر الرواية كون الشهرتين في زمان واحد ، لا في زمانين ، فقال : ( وممّا يضحك الثكلى في هذا المقام ، توجيه قوله ) أي : قول الراوي ( « : هما معا مشهوران » ) توجيها

ص: 172


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بامكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق بين القدماء والمتأخّرين ، فتدبّر .

------------------

( بامكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى ، وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق ) اختلاف الاجماعين ( بين القدماء والمتأخّرين ) فالقدماء كانوا يقولون : بنجاسة البئر ، والمتأخرون يقولون : بطهارة البئر .

وانّما يُضحِك الثكلى هذا التوجيه ، لِما عَرَفت : من ان ظاهر الرواية كون الاجماعين في زمان واحد ، والاجماعان لا يكونان في زمانهم عليهم السلام ، الاّ في الرواية ، لا في الفتوى .

( فتدبّر ) فانّ حمل الشهرة في المقبولة على المجمع عليه ، وارادة خصوص الرواية ، خلاف الاطلاق ، فانّ المقبولة كما تشمل هذا الفرد تشمل فردا آخر ، وهو أن تكون احدى الروايتين مشهورة عند الجُلّ لا عند الكُلّ ، والاخرى موجودة عند جماعة ، فكيف تحملون المقبولة على الفرد الأول فقط دون الثاني؟.

* * *

ص: 173

الخبر الواحد

ومن جملة الظّنون الخارجة بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم خبرُ الواحد في الجملة عند المشهور بل كاد أن يكون إجماعا .

اعلم أنّ إثباتَ الحكم الشرعيّ بالأخبار المرويّة عن الحُجج عليهم السلام ، موقوف على مقدّمات ثلاث :

الاولى : كونُ الكلام صادرا عن الحجّة .

------------------

الخبر الواحد

فصل : ( ومن جملة الظّنون ، الخارجة ، بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم : خبر الواحد ) فانّه ظنّ خاص نوعي يكون حجّة ، لا انّ حجّيته من باب الانسداد ، الذي هو من الظنون العامة .

وحجّيته ( في الجملة ) وهو اشارة الى الاختلاف الموجود ، بين من يعتبر خبر الواحد حجّة ، في انّه هل يكون حجّة اذا كان عادلاً ، أو اذا كان ثقة ، أو اذا ظنّ بصدوره ، أو اذا لم يكن الظنّ على خلاف صدوره ، أو ما اشبه ذلك من الأقوال التي تأتي في المسألة ؟ .

وحجّيته مسلّمة ( عند المشهور ) ، من العلماء ( بل كاد أن يكون إجماعا ) لأنّ المخالف قليل جدا ، وربّما يؤول كلام المخالف الى ما لا ينافي قول المشهور .

اذا عرفت هذا ، نقول : ( اعلم انّ إثبات الحكم الشرعيّ ، بالاخبار المرويّة عن الحجج عليهم السلام ) فعلاً ، أو تقريرا ، أو قولاً ( موقوف على مقدّمات ثلاث ) :

( الاولى : كون الكلام صادرا عن الحجّة ) بأن لا يكون كذبا ، أو اشتباها ، أو غلطا من الراوي ، أو ما أشبه ذلك ، والمراد : أن يكون سنده صحيحا .

ص: 174

الثانية : كونُ صدوره لبيان حكم اللّه ، لا على وجه آخر من تقيّة وغيرها .

الثالثة : ثبوتُ دلالتها على الحكم المدّعى ، وهذا يتوقفُ أوّلاً على تعيين أوضاع ألفاظ الرّواية ، وثانيا على تعيين المراد منها وأنّ المراد مقتضى وضعها او غيره ،

------------------

( الثانية : كون صدوره لبيان حكم اللّه ) تعالى ( لا على وجه آخر ، من : تقيّة ، وغيرها ) كالامتحان ، ونحوه ، وهذه الثانية تسمى : بجهة الصدور .

( الثالثة : ثبوت دلالتها على الحكم المدّعى ) فقد يكون الخبر ثابتا عنهم عليهم السلام ، وجهة صدوره بيان الحكم الواقعي ، لكنه لا يدل على مدعى من يدعي الحكم ، بان يأتي - مثلاً - بمقبولة عمر بن حنظلة ، للدلالة على انّ الشهرة الفتوائية حجّة - كما تقدّم في البحث السابق - .

( وهذا ) أي : ثبوت دلالة الخبر على الحكم المدعى ( يتوقف ) على امرين :

( أولاً : على تعيين أوضاع الفاظ الرّواية ) والمراد بتعيين الاوضاع : أعم من التعيينية والتعيّنية ، كما انّه أعم من الدلالة بنفسها ، أو بالقرينة ، وكذلك أعم من الالفاظ المفردة والأوضاع المركبة ، لأنّ كل ذلك دخيل في الدلالة .

( وثانيا : على تعيين المراد منها ) أي : من تلك الألفاظ ( وأن المراد : مقتضى وضعها ، أو غيره ) من المعاني المجازية ، فانه ربما يكون اللّفظ قد وضع لمعنى ، لكن ذلك المعنى لم يكن مراد المتكلم ، بل المراد : غير ذلك المعنى ، كأن يقول - مثلاً - اقطع لسان السائل ، فانّ اللّفظ ، وضع لقطع الجارية المخصوصة بالسكين ، بينما مراد المتكلم : اعطاء السائل مالاً حتى يكفّ عن السؤال .

ص: 175

فهذه اُمور أربعة .

قد أشرنا إلى كون الجهة الثانية من « المقدّمة الثالثة » من الظّنون الخاصّة وهو المعبّر عنه بالظهور اللّفظي ، وإلى أنّ الجهة الاولى منها

------------------

إذن : ( فهذه أمور أربعة ) فاذا ورد - مثلاً - «إقرارُ العُقَلاء عَلى أنفُسِهم جائِز» (1) كان في الجهة الاولى : انّ الامام عليه السلام قاله هذا الكلام لا أنّه مكذوب عليه .

والجهة الثانية : انّه عليه السلام قاله لبيان الحكم الواقعي ، لا للتقية ونحوها .

والجهة الثالثة : أن لفظ العقلاء - مثلاً - وضع مقابل المجنون ، لا الكيّس المحنّك الذي هو أخص من العاقل .

والجهة الرابعة : انّ الامام عليه السلام ، أراد : المعنى اللغوي الشامل لمطلق العاقل ، لا انّه أراد : الأخص ، من قبيل قوله تعالى : « لآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلون » (2) حيث لا يريد بالعقلاء : مطلق العاقل في قبال المجنون بل العاقل الذي يستفيد من الآيات .

و ( قد أشرنا الى كون الجهة الثانية ، من « المقدّمة الثالثة » ) وهو الأمر الرابع ، بانه (من الظّنون الخاصّة ، وهو المعبّر عنه : بالظهور اللفظيّ ) الكاشف عن مراد المتكلم باعانة اصالة عدم القرينة . اذ بعد العلم : بان لفظ « العقلاء » وضع في قبال المجانين ، يفهم انّ مراد المولى : العاقل في قبال المجنون ، لا العاقل الأخص ، وهذا الظنّ الحاصل بسبب أصالة الحقيقة ، واصالة عدم القرينة ، ظنّ خاص عقلائي وقد امضاه الشارع ، فهو حجة عقلاً وشرعا .

( و ) أشرنا ( الى انّ الجهة الاولى منها ) أي : من المقدمة الثالثة ، والمراد به :

ص: 176


1- - وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 ، غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 .
2- - سورة الرعد : الآية 4 .

ممّا لم يثبت كونُ الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصّة وان لم نستبعد الحجّية اخيرا .

وأمّا : « المقدّمة الثانية » ، فهو أيضا ثابت بأصالة عدم صدور الرّواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ، وهي حجّة ، لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء من حمل كلام المتكلّم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة او خوف ، ولذا

------------------

تعيين أوضاع الألفاظ ( ممّا ) يحتاج الى العلم القطعي ، أو شهادة أهل الخبرة به ، لأنّه من الموضوعات التي يقبل فيها شهادة أهل الخبرة و ( لم يثبت كون الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي ، من الظّنون الخاصّة ) لأنا ناقشنا سابقا في حجّية قول اللغوي (وان لم نستبعد الحجّية أخيرا ) كما وقد أيّدنا الحجّية نحن سابقا .

( وأما « المقدّمة الثّانية » ) وهي جهة الصدور بمعنى : صدور الكلام لبيان الحكم الواقعي ، لا للتقية ، وما أشبه ( فهو أيضا ثابت بأصالة : عدم صدور الرّواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ) وهو أصل عقلائي جار بين الموالي والعبيد ، والآمرين والمأمورين ، فيما اذا لم تكن قرينة داخلية أو خارجية تصرف كلام المولى عن بيان الحكم الواقعيّ .

( وهي ) أي : الأصالة المذكورة ( حجّة ، لرجوعها الى القاعدة المجمع عليها بين العلماء ) المتشرّعين ( والعقلاء ) من جميع الامم ( من حمل كلام المتكلّم على : كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ لا لبيان خلاف مقصوده ، من تقيّة ، أو خوف ) أو مثال ، أو امتحان ، أو مزاح ، أو ما أشبه ذلك .

( ولذا ) أي : لكون هذه القاعدة متفق عليها بين علماء المتشرعة ، وعقلاء

ص: 177

لا يُسمَعُ دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته .

أمّا « المقدّمة الاولى » ، فهي التي عُقِدَ لها مسألةُ حجّية أخبار الآحاد .

فمرجعُ هذه المسألة إلى أنّ السنّة ، أعني قول الحجّة او فعله او تقريره ، هل يثبت بخبر الواحد

------------------

العالم ، ( لا يسمع دعواه ) أي دعوى الخلاف ( ممّن يدّعيه ) أي : يدّعي انه اراد خلاف المقصود .

فاذا قال المولى لعبده : جئني بالماء - مثلاً - فلم يطع العبد ولم يأت بالماء بادعاء : احتماله انّ المولى أراد خلاف المقصود ، لم يكن معذورا ، ورأى العقلاء ان للمولى الحق في عقابه .

وكذا لو ادعى المولى : انّه اراد من : جئني بالماء خلاف الظاهر ، لم يُسمع منه ولم يكن له الحق - شرعا ولا عقلاً - في عقاب العبد الذي جاء له بالماء ، بادعاء انه اراد : امتحانه ، او الممازحة معه ، او ما أشبه .

وذلك ( اذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته ) أي : بامارات خلاف المقصود بان لم تكن قرينة داخلية أو خارجية ، على انّ المراد : غير الظاهر من اللّفظ ، أمّا اذا كانت هناك قرينة ، فانه يحق لكل من المولى والعبد الاعتماد على تلك القرينة في ارادة خلاف الظاهر .

( أمّا « المقدّمة الاولى » ) : وهي عبارة عن : صدور الكلام عن الحجّة عليه السلام ، لا انه كذب ، أو خطأ ، أو ما أشبه ( فهي التي عقد لها : مسألة حجّية أخبار الآحاد ) مما نتعرّض له في هذا المبحث .

( فمرجع هذه المسألة ) أي : مرجع انّ خبر الواحد حجّة أو ليس بحجّة ( الى انّ السنّة ، أعني : قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، هل يثبت بخبر الواحد ،

ص: 178

ام لا يثبت الاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضحُ دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلّة .

------------------

أم لا يثبت الاّ بما يفيد القطع ، من : التواتر والقرينة ) الموجبة للقطع ؟ .

( ومن هنا ) حيث انّ مرجع هذه المسألة الى انّ السنّة ، هل تثبت بخبر الواحد ام لا تثبت ؟ ( يتضح دخولها في مسائل اصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلّة ) .

ووجه ارجاع المصنّف هذا البحث ، وهو : مسألة انّ خبر الواحد حجّة ام لا ؟ الى البحث حول : انّ السنّة هل تثبت بالخبر الواحد ام لا ؟ هو :

انّ صاحب القوانين جعل موضوع علم الاصول : الادلّة الاربعة ، واشكل عليه : بأنّه اذا كان الموضوع الأدلّة ، فالبحث عن انّ الشيء الفلاني - كالخبر الواحد - دليل ام لا ، بحث عن المباديء ، لا عن المسائل .

مثلاً : اذا قلنا : ان موضوع النحو : الكلمة ، فالبحث عن انّ الشيء الفلاني كلمة ، أو لا ، يكون بحثا عن المباديء ، لا عن الكلمة ، اذ البحث عن الكلمة ، انّما يكون عن العوارض والأحوال الطارئة على الموضوع ، كالبحث عن الرفع ، والنّصب ، والجرّ ، وما أشبه ، الطاريء على الكلمة ، لا أنّ الشيء الفلاني كلمة أم لا .

ولاجل التخلّص من هذا الاشكال الوارد على صاحب القوانين ، قال صاحب الفصول : انّ موضوع علم الاصول : ذوات الأدلّة الأربعة ، لا الأدلّة بما هي أدلّة ، فالبحث عن دليليّة الدّليل ، يكون داخلاً في الاصول أيضا .

واشكل عليه : بأنه يلزم منه : أن يكون علم التفسير ، وعلم الرجال ، وعلم الدّراية ، وما أشبه داخلاً ايضا في الاصول ، لأن كلّ ذلك البحث عن ذوات القرآن والسنّة .

ولاجل التخلّص من هذا الاشكال أيضا ، اجاب المصنّف بجواب آخر ، وهو :

ص: 179

ولا حاجة إلى تجشّم دعوى أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحثٌ عن أحوال الدّليل .

ثمّ اعلم أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ،

------------------

انّ بحث حجّية الخبر راجع الى انه : هل السنّة تثبت بالخبر الواحد ام لا ؟ فيكون الموضوع لهذه المسألة : نفس السنّة ، وهي من الأدلّة الأربعة .

واشكل صاحب الكفاية على جواب المصنّف - أيضا - بما اوضحناه في شرح الكفاية ، مما لا حاجة الى تكراره .

ثم ان المصنّف اشار الى ردّ جواب الفصول بقوله : ( ولا حاجة الى تجشّم ) وتكلّف الفصول ( دعوى : انّ البحث عن دليليّة الدّليل ، بحث عن احوال الدّليل ) أيضا ، حتى يصحّ كلام القوانين ، فان هذا البحث ، بحث عن ذاته لا عن احواله .

وعلى أي حال : فالبحث في المقام حول حجّية خبر الواحد ، كما يقوله المشهور ، أو عدم حجّيته ، كما يقوله بعضٌ .

( ثمّ اعلم : أنّ أصل وجوب العمل بالاخبار ) أي : مع قطع النظر عن كونها قطعية الصدور ، كما يقوله بعض الاخباريين ، أو انها ليست كذلك ، كما يقوله معظم الأصوليين .

وكذا مع قطع النظر عن كون وجوب العمل بها ، من باب الظنّ الخاص ، كما يقوله المُعظم ، أو من باب الانسداد والظنّ المطلق كما يقوله القوانين ومن اشبهه .

فالعمل بالاخبار ( المدوّنة في الكتب المعروفة ) من الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، والفقيه ، وغيرها ( ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ) فانّه لايوجد حتى فقيه واحد ، يقول بعدم حجّية خبر الواحد مطلقا .

ص: 180

بل لا يبعد كونُه ضروريّ المذهب .

وإنّما الخلافُ في مقامين أحدُهما : كونُها مقطوعَة الصّدور او غيرَ مقطوعة .

فقد ذهب شِرذِمَةٌ من متأخري الأخباريّين ، فيما نسب إليهم ، إلى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قولٌ لا فائدة في بيانه والجواب عنه

------------------

( بل لا يبعد كونه ) أي : كون وجوب العمل بالخبر الواحد في الحال الحاضر (ضروريّ المذهب ) بل ضروريّ الدّين ، فان المسلمين كافة يعملون بالخبر الواحد بلا خلاف .

( وانّما الخلاف في مقامين ) :

( أحدهما : كونها مقطوعة الصّدور ، أو غير مقطوعة ) الصّدور ، فانّ جماعة قالوا : بان كلّ الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة قطعيّة الصّدور بينما المشهور لم يقبلوا ذلك ( فقد ذهب شِرذمَة من متأخّري الأخباريّين ) وهم قسم من الفقهاء اذ الفقهاء انقسموا الى : اصوليين ، وأخباريين ، ومعظم الفَرق بينهما : التدقيقات الاصولية حيث يراها الاصوليون طريقا الى استنباط الأحكام ، ولا يراها الأخباريون ، بل يجعلون مثل هذه التدقيقات ، من اقسام القياس ، والاستحسان ، والاعتماد على العقول الناقصة ، ممّا قد نهى الأئمة عليهم السلام عن ذلك بقولهم : « انّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالعُقولِ » (1) وغيرها من الروايات .

فان جماعة من الاخباريين ( فيما نُسب إليهم ) ذهبوا ( الى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه ) لانّ من جملة ادلّته :

ص: 181


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ،

------------------

انّ كتب الحديث ، كانت معتمدة قطعيّة عند اصحاب الأئمة عليهم السلام ، مما كانوا يرجعون اليها ، ولا يرجعون الى الأئمة عليهم السلام ، مع تمكنهم من الوصول اليهم عليهم السلام .

وقد جُمعَت كُلها في الكتب المعتمدة ، كالكتب الخمسة ، والتي منها مدينة العلم للصدوق ، وغيرها ، مثل كتاب ان قولويه ، ونحوه ، فاللازم أن يكون كل هذه الأخبار الموجودة فيها مقطوعة السّند ، ولا حاجة الى التكلم حول اسنادها اطلاقا ، وانّما يلزم البحث حول دلالتها .

لكن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، أجابوا عن هذا الدّليل : بانه ان كان المراد : القطع بالصحة في الجملة ، فذلك غير مفيد ، اذ الصغرى الجزئية لا تفيد الكبرى الكلية .

وان كان المراد : القطع بصدور كلّ هذه الأخبار ، فانه خلاف الوجدان ، حتى عند أصحاب الائمة عليهم السلام ، فانّ عملهم بالاصول الأربعمائة ، لم يكن لأنّها قطعيّة ، بل لأنّها اخبار عقلاء المتشرّعة ، فيعتمدون عليها حسب أوامرهم عليهم السلام ، مثل قولهم عليهم السلام : « لا عُذرَ لأحدٍ مِن مَوالِينا في التَشكيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثُقاتُنا » (1) . وما أشبه ذلك مما لا حاجة الى تفصيل الكلام حوله .

وعلى أي حال : فانه لا فائدة في بيان أدلتهم وأجوبتها ( الاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم ، كما حصل لهم ) أي : ان فائدة التعرّض لذلك منحصرة في ان

ص: 182


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وإلاّ فمدّعي القطع لايُلزَمُ بذكر ضعف مبنى قطعه ، وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول رسالةً تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر .

الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرةٌ بالخصوص

------------------

لايحصل هذا التوهم للآخرين ، كما حصل مثله لأولئك الاخباريين .

( والاّ ) أي : بقطع النظر عن هذه الفائدة التي ذكرناها ، فلا فائدة اُخرى في ذكر الأدلة وأجوبتها ، اذ الأخباري لا يقبل أجوبتنا ، ولهذا يبقى هو على أخباريته .

وعليه : ( فمدّعي القطع ) بصدور هذه الأخبار ( لا يُلزَم ) أي : لا يمكن الزامه (بذكر ضعف مبنى قطعه ) فأي فائدة لنا أوله ، وانّما الفائدة تكون منحصرة في الشخص الثالث : بأن لا يحصل له هذا الوهم ؟ .

لكن لا يخفى : انّه يمكن أن تكون فائدة اُخرى بذكر الوهم وجوابه ، وهو : رجوع بعض الاخباريين اذا رأوا ضعف أدلتهم ، كما رَجَعَ صاحبُ الحدائق ، حيث ناقشه الوحيد البهبهاني ، فان القاطع - أيضا - اذا نوقش في مبنى قطعه ، أمكن رجوعه - بعد زوال قطعه - .

وكأنه من اجل هذا ، أضرَبَ المصنّف عن كلامه السابق بقوله : ( وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول ) من الأخباري بقطعيّة الأخبار صدورا ( رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه ) أي الأخباريون ( وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر ) ومن المحتمل : أن يكون مراد المصنّف في ذكر هذه الرسالة - ما تقدّم منه - : من التحرز عن وقوع الاخباريين في هذا الوهم .

المقام ( الثاني : انّها ) أي الأخبار ( مع عدم قطعيّة صدورها ) كما نقول به نحن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، هل هي ( معتبرة بالخصوص ) من باب

ص: 183

ام لا .

فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن إدريس قدس سرهم ، المنعُ ، وربما نسب إلى المفيد قدس سره ، حيث حكى عنه في المعارج انّه قال : « إن خبر الواحد القاطع للعذر ، هو الذي يقترن إليه دليلٌ يُفضي بالنظر إلى العلم ، وربّما يكون ذلك

------------------

الظنّ الخاص ( ام لا ؟ ) بل انها معتبرة من جهة الانسداد ، أو ليست بمعتبرة اطلاقا ، فالأقوال في المسألة أربعة :

1 - انها قطعية الصدور .

2 - عدم حجّيتها اطلاقا .

3 - حجّيتها من باب الظنّ الخاص .

4 - حجّيتها من باب الظنّ الانسداديّ .

( فالمحكّي عن السيّد ) المرتضى ( والقاضي ) ابن البراج ( وابن زُهرة ) وهو من علماء حَلب ( والطبرسيّ ) صاحب مجمع البيان ( وابن ادريس قدس سرهم : المنع) عن حجّية الخبر اطلاقا .

( وربّما نسب ) هذا القول ( الى المفيد قدس سره ، حيث حكى ) المحقّق ( عنه في المعارج : انّه قال : انّ خبر الواحد القاطع للعذر ) أي : لعذر كل من المولى والعبد بمعنى : كونه حجّة ( هو الذي يقترن اليه ) أي الى ذلك الخبر ( دليل ) أي : قرينة حاليّة أو مقاليّة ( يفضي بالنظر الى العلم ) بأن يؤدّي ذلك الدّليل المقترن بالخبر ، الى العلم بصدور ذلك الخبر ، والاّ فلا يكون الخبر بنفسه بدون قرينة حجّة .

ثم قال : ( « وربّما يكون ذلك » ) الدليل المقترن بالخبر الذي نسميه : بالقرينة

ص: 184

إجماعا او شاهدا من عقل » ، وربّما يُنسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا إلى المحقق ، بل إلى ابن بابويه ، بل في الوافية : « أنّه لم يجد القولَ بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة » ، وهو عجيبٌ .

وأمّا القائلون بالاعتبار فهم مختلفون ، من جهة أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب الاربعة ، كما يحكى عن بعض الأخباريّين أيضا ،

------------------

الحاليّة أو المقاليّة ، ( اجماعا ، أو شاهدا من عقل ) (1) فانّ العقل حجّة باطنة اذا شهد بشيء ، بل هو حجّة من قبل اللّه سبحانه وتعالى .

( وربّما ينسب ) القول بعدم حجّية الخبر الواحد ( الى الشيخ رحمه اللّه ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا ) نسب هذا القول ( الى المحقّق ) صاحب الشرائع (بل الى ابن بابويه ) الصدوق ( بل في الوافية : انّه لم يجد القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة ) .

فكأنّ صاحب الوافية اراد أن يقول : بأنّ القدماء كانوا يقولون بعدم الحجّية ( وهو عجيب ) لأنّ جماعة من القدماء ، ذهبوا الى حجّية خبر الواحد - كما سيأتي بيانه .

( وأمّا القائلون بالاعتبار ) أي : اعتبار الخبر الواحد من باب الظنّ الخاص ، لا من باب الانسداد ( فهم مختلفون من جهة : انّ المعتبر منها ) اي من الأخبار (كلّ ما في الكتب الأربعة ) سواء كان صحيحا في الاصطلاح الرجالي ، أو لم يكن، وسواء كان مخالفا للمشهور ، أو لم يكن ، وسواء كان معمولاً به ، أو لم يكن .

( كما يحكى عن بعض الأخباريّين ) هذا القول ( أيضا ) دون صحة جميع

ص: 185


1- - معارج الاصول : ص187 .

وتبعهم بعضُ المعاصرين من الاصوليّين بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ، او أنّ المعتبر بعضُها وأنّ المناطَ في الاعتبار عملُ الأصحاب كما يظهر من كلام المحقّق ، أو عدالةُ الرّاوي او وثاقته او مجرّدُ الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي ، او غير ذلك من التفصيلات في الأخبار .

------------------

الأخبار، الموجودة في كل الكتب المعتبرة الاعم من الاربعة .

( وتبعهم ) على ذلك ( بعض المعاصرين من الاصوليّين ) وهو النّراقي ، كما نسب اليه ( بعد استثناء ) النّراقي من الحجّية ( ما كان مخالفا للمشهور ) ( أو أنّ المعتبر ) من الاخبار ( بعضها ) فقط دون الجميع .

( و ) على هذا القول ، هل ( انّ المناط في الاعتبار ) أي : في صورة اعتبار البعض ( : عمل الأصحاب ) سواء كان الخبر صحيحا أو لم يكن ، فالخبر المعتبر هو الذي عمل به الأصحاب ، والمراد بالعمل : ليس عمل كلهم ، بل عمل جماعة معتد به منهم ( كما يظهر من كلام المحقّق ) صاحب الشرائع .

( أو ) ان المناط : ( عدالة الرّاوي ) من غير فرق بين إن عمل به الأصحاب ، ام لا ( أو ) انه يكفي في الاعتبار ( وثاقته ) أي : وثاقة الرّاوي ، وان لم يكن عادلاً ، ولم يَعمل بخبره الأصحاب ( أو ) ان المناط في إعتبار الخبر : ( مجرّد الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي ) فلا يشترط أن يكون عادلاً ، ولا ان يكون موثقا ، ولا ان يكون الأصحاب عملوا بالخبر ( أو غير ذلك من التفصيلات في الاخبار ) كالتفصيل بين ما حصل منه الظنّ الابتدائي ،

ص: 186

والمقصودُ هنا بيانُ إثبات حجّيّته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي ، ولنذكر ، أوّلاً : ما يمكنُ أن يحتجّ به القائلون بالمنع ، ثم نعقّبه بذكر أدلّة الجواز فنقول :

حجة المانعين

أمّا حُجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة :

------------------

وبين غيره ، وما أشبه ذلك .

( و ) لا يخفى انّ ( المقصود هنا ) في بحثنا عن حجّية الخبر ، ولا حجّيته ( بيان اثبات حجّيته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي ) الذي ذهب اليه بعض وقال : بانّ الخبر ليس بحجة مطلقا ، ونحن نريد أن نقول : بأنّه حجّة في الجملة ولا نريد اثبات الكلي : بان نقول : كل خبر حجّة ، فنحن أيضا مفصّلون في المسألة ، كما انه ليس مقصودنا الان ، التعرض الى اختلاف ادلّتها واجوبتها .

هذا ( ولنذكر ، أوّلاً : ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع ) وانّما نقدم قول القائلين بالمنع وادّلتهم ، لأنّ المنع أولاً : مطابق للأصل الاوّلي ، فان كلّ شيء شُك في حجّيته ، فالاصل عدم حجّيته ، حتى تثبت حجّيته ، وثانيا انّ أدلّة القائلين بالمنع قليلة ، بخلاف أدلّة القائلين بالاثبات ، فانها كثيرة - كما سيأتي - .

(ثم نعقِّبه بذكر أدلّة الجواز) في الجملة ، في قبال السّلب الكلّي - كما عرفت - .

حجة المانعين

( فنقول : أمّا حجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة ) : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع .

وربما يضاف اليها العقل أيضا لدلالته على المنع ، وذلك لان العقل يرى : لزوم الاتقان في العمل ، وهو لا يحصل الاّ بالعلم ، ولأنّ العمل بالخبر يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، والوقوع في خلاف الواقع مبغوض للانسان ، حتى وان لم

ص: 187

أما الكتاب :

فالآياتُ الناهيةُ عن العمل بما وراء العلم والتعليلُ المذكورُ في آية النبأ ، على ما ذكره أمينُ الاسلام ، من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد .

------------------

يكن هنالك مصلحة تفوّت ، أو مفسدة تجلب ، ولأنّ العمل به ، يوجب تفويت المصالح والالقاء في المفاسد ، الى غير ذلك مما اشير اليه في الاصول .

( أمّا ) الاستدلال ب( الكتاب ، فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم ) كقوله سبحانه : « وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِه عِلمٌ إنَّ السّمعَ ، والبَصَرَ وَالفُؤادَ ، كُلُّ أولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولاً » (1) ، وقوله سبحانه : « إنّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقّ شَيئا » (2) ، وقوله سبحانه « إن يَتَّبِعونَ إلاّ الظّنَّ » (3) .

بضميمة : انّ الخبر الواحد ، هو : مما وراء العلم ، حتى وان أورث الظن ، فكيف به اذا لم يورث الظن ؟ وذلك بأن كان العامل بالخبر ، شاكا أو واهما (والتعليل المذكور في) آخر (آية النبأ) حيث قال سبحانه :«يا أيُّها الّذينَ آمَنوا، إنْ جآئَكُم فاسِقٌ بنَبأ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصيبُوا قَوما بجَهالَةٍ، فتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ»(4) فصدر الآية يدلّ على : وجوب التبيّن في خبر الفاسق فقط ، فيكون مفهومه : جواز الأخذ بخبر العادل ، الاّ انّ التعليل في آخر الآية ، يدل على : وجوب التبيّن في كل خبر يحتمل فيه الندم ، فيكون ذكر الفاسق من باب المورد .

هذا ( على ما ذكره أمين الاسلام ) الطبرسي ( من انّ فيها ) أي في آية النبأ (دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد ) مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون

ص: 188


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة يونس : الآية 36 .
3- - سورة النجم : الآية 28 .
4- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وأمّا السنّةُ :

فهي أخبارٌ كثيرةٌ تدلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصّدور الاّ إذا اُحتفّ بقرينة معتبرة من كتاب او سنّة معلومة :

مثلُ ما رواه في البحار عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى ، قال : « أقرأني داودُ بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام

------------------

الآتي به عادلاً ، او فاسقا ، وسيأتي بيانه عند ذكر أدلّة المجوّزين ، حيث انّ المجوّزين ، استدلّوا بهذه الآية المباركة على جواز العمل بخبر العادل .

( وأمّا السنّة : فهي اخبار كثيرة تدلّ على المنع من العمل بالخبر غير المعلوم الصّدور ، الاّ اذا احتفّ بقرينة معتبرة ، من كتابٍ ، أو سُنّةٍ ) نبوية ، فالخبر الواحد المعلوم الصّدور او المحتفّ بالقرينة المعتبرة ، يجوز العمل بهما ، أمّا غيرهما فلا يجوز العمل به .

لكن لا يخفى : انّه يلزم أن يكون الكتاب دالاً لا مُجمَلاً ، كما انه يلزم أن تكون السنّة ( معلومة ) لا مجرد سنّة ، والاّ كان من التمسّك بغير الحجّة لغير الحجّة .

وكيف كان : فالأخبار المذكورة الناهية عن العمل بالخبر ( مثل ما رواه في البحار ، عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى قال : أقرأني ) أي : أمرني بقرائته ، امّا أمرا صريحا لفظيا أو أمرا بالاشارة ، بان قدّم الكتاب اليه وأشار بأن أقرأه ، كما انه ليس المراد من ، أقرأني : باللّفظ ، بل الأعم من اللّفظ والمطالعة .

وعليه : فقد اقرأني ( داود بن فرقد الفارسيّ كتابه ) الذي كتبه ( الى ابن الحسن الثالث عليه السلام ) : وهو الامام الهادي عليه السلام ، كما أنّ أبا الحسن الأوّل ، او ابا الحسن بلا قيد : هو موسى بن جعفر ، وأبا الحسن الثاني : هو علي بن موسى الرضا عليهم السلام .

ص: 189

وجوابه بخطّه عليه السلام ، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك ، صلوات اللّه عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العملُ به على اختلافه ؟ فكتب عليه السلام ، بخطّه : ما عَلِمْتُمْ أنَّهُ قولنا فألزموهُ وَما لَم تَعلَموهُ فرُدّوهُ إلينا » ،

------------------

أمّا اطلاق أبي الحسن على أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو المشهور في التواريخ ، والقصص ، والتفاسير ، لا في الرجال ، والفقه ، فان المشهور فيهما بابي الحسن : هؤلاء الثلاثة صلوات اللّه عليهم أجمعين .

قال الرّاوي ( و ) أقرأني أيضا ( جوابه بخطّه عليه السلام فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات اللّه عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه ) بمعنى : انّ الناقلين لتلك الأخبار ، مختلفون في الوثاقة وعدمها ، كما أنهم مختلفون في النقل عنهم عليهم السلام ، فبعضهم ينقل شيئا ، وينقل آخر خلافه .

( فكيف العمل به ) أي : بما ينقل عن آبائك عليهم السلام ( على اختلافه ؟ ) أي : على اختلاف المنقول عنكم ( فكتب عليه السلام بخطّه : ما عَلِمتُم أنَّهُ قولنا ) وهو يحصل ، امّا بالعلم ، الوجداني ، أو التواتر ، أو بالاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، أو بمطابقة الكتاب، أو ما أشبه ذلك ( فألزِموه ، وَما لَم تَعلَموهُ ، فَرُدّوهُ إلينا ) (1) .

وقد تقدّم معنى الردّ اليهم : بانه السكوت ، لا الاعراض ، فان هناك فرقا بين أن يسكت الانسان في قبال خبر لا يعلم انه منهم ، وبين أن يرد ذلك الخبر ويقول : هذا الخبر غير صحيح ، ونحن مأمورون في الأخبار المشكوكة بالردّ اليهم عليهم السلام ، دون الاعراض .

ص: 190


1- - بصائر الدرجات : ص524 ح26 ، مستطرفات السرائر : ص584 ، بحار الانوار : ج2 ص241 ب29 ح33 ، وسائل الشيعة : ج27 ص120 ب9 ح 33369 .

ومثله عن مستطرفات السرائر .

والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلاّ إذا وُجِدَ له شاهدٌ من كتاب اللّه او من السنّة المعلومة ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة :

مثلُ ما ورد في غير واحد من الأخبار أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : «ما جاءكم عَنّي مِمّا لا يُوافِقُ القُرآن فَلَم اقُلهُ » .

وقولِ أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهماالسلام :

------------------

( ومثله ) أي : هذا الخبر المتقدِّم ما روي ( عن مستطرفات السرائر ) لابن ادريس الحلي رحمه اللّه ( و ) مثله ( الأخبار الدّالة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور ، الاّ اذا وُجِدَ له شاهد من كتاب اللّه أو من السنّة ) النبويّة ( المعلومة ) سواء كان عِلما وجدانيا ، أو عِلما عرفيا ، بأن يكون الخبر محفوفا بالقرينة التي تستريح النفس اليها .

( فتدلّ ) هذه الأخبار ( على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة ) من الكتاب ، أو من سنّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار ) المتعددة .

منها : ( انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : ما جائَكُم عنّي مِمّا لا يُوافِقُ القُرآن ، فَلَمْ أقُلهُ ) (1) فيدلّ على لزوم : أن يكون الخبر موافقا للقرآن ، حتى يجوز لنا ان نعمل به ، وما هو جار في خبر النبيّ يجري في أخبار سائر الائمة عليهم السلام ، لوحدة المناط فيهما .

( وقول أبي جعفر ) الباقر عليه السلام ( وأبي عبد اللّه ) الصادق عليه السلام حيث قالا

ص: 191


1- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح5 (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج1 ص69 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 .

« لا يُصدَّقُ عَلَينا إلاّ ما يُوافِقُ كِتابَ اللّه وسُنَّةَ نَبيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم » .

وقولهِ عليه السلام : « إذا جائكُم حَديثٌ عَنّا فَوَجَدتُم عَليهِ شاهِدا أو شاهدَيْنِ مِنْ كِتاب اللّه ِ فَخذوا به وإلاّ فَقِفوا عِندَهُ ثم رُدّوهُ إلينا حتّى نُبيّنَ لكُم » .

ورواية ابن أبي يعفور قالَ : « سألتُ أبا عَبدِ اللّه عليه السلام عَن إختِلافِ الحَديثِ ، يَرويهِ مِن اثِقُ بهِ ، ومَن لا أثِقُ بِهِ . قال عليه السلام : إذا وَرَدَ عَليكُم حَديثٌ فوَجدتُم له شاهدا مِنْ كِتابِ اللّه ِ أو مِنْ قول رَسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فخُذوا به، وإلاّ فالذي جائكُم به أولى بهِ» .

------------------

( لا يُصدَّق عَلَينا ) أي لا تقبلوا الخبر الذي ينقل عنا ( إلاّ ما يُوافِقُ كِتابَ اللّه وسُنّةَ نبِيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) وهو يدلّ نصّا على : عدم قبول الخبر ، الذي لم يكن له شاهد من كتاب اللّه ، أو سنّة نبيّه ( وقوله عليه السلام إذا جائَكم حَديثٌ عنّا ، فَوَجدتُم عَليهِ شاهِدا ، أو شاهِدَين مِن كِتابِ اللّه ، فخُذوا به ، والاّ فَقِفوا عِندَه ، ثم رُدّوهُ إلينا حتى نُبيّنَ لَكُم) (2) انه حق ، أو ليس بحق ، فليس - لنا أن نعمل بالخبر الاّ اذا كان له شاهد ، أم شاهدان من كتاب اللّه سبحانه وتعالى ، وانّما احتِيج الأمرُ الى شاهدين ، فيما اذا لم يكن الشاهد الأول واضح الشهادة .

( ورواية ابن أبي يعفور ، قال سألتُ أبا عبدِ اللّه ِ عليه السلام عن إختِلاف ) أي : تضارب ( الحديثِ ) وانه ( يرويهِ مِن أثِقُ بِهِ ، وَمَن لا أثِقُ بهِ ) فماذا أعمل بها وهي أحيانا متضاربة وأحيانا يكون ناقلها غير ثقة ؟ .

( قال عليه السلام : إذا وَرَدَ عَلَيكُم حَديثٌ ، فَوَجَدتُم لَهُ شاهدا مِن كِتابِ اللّه ِ ، أو من قولِ رَسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فَخُذوا بهِ ، وإلاّ فالّذي جائَكُم بهِ أولى به) (3) فلا تقبلوا منه

ص: 192


1- - وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33380 ، تفسير العياشي: ج1 ص29 وفيه بما بدل (ما).
2- - الكافي اصول : ج2 ص222 ح4 وفيه (يستبين) بدل (نبيّن) .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص110 ب9 ح33344 .

وقوله عليه السلام لمحمّد بن مسلم : « ما جاءَكَ مِنْ رواية مِن بَرّ او فاجِر يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَخُذْ بِهِ ، وما جاءَكَ مِنْ رِوايةِ من برّ او فاجِر ، يُخالِفُ كِتابَ اللّه ِ ، فلا تأخُذ بِه » .

وقوله عليه السلام : « ما جاءَكُم مِنْ حَديثٍ لايُصدّقه كِتابُ اللّه ِ فَهوَ باطِلٌ » .

وقول أبي جعفر عليه السلام : « ما جاءَكُم عَنّا فان وَجدتُموه مُوافِقا لِلقُرآنِ فخُذوا بِهِ ، وإن لَم تَجدوه مُوافِقا فَردّوه ، وإن إشتَبَه الأمرُ عِندَكُم

------------------

وردّوه اليه ، بضاعته لنفسه ، لا انّها بضاعة تصدر الى الناس أيضا .

( وقوله عليه السلام لمحمّد بن مسلم : ما جائَكَ مِن روايةِ مِن برِّ أو فاجِر) أي سواء كان الراوي عادلاً ، أو كان فاسقا فان كان الخبر ( يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَخُذ بهِ ، وما جائَكَ مِن روايةِ مِن برّ أو فاجِرِ ، يُخالِفُ كِتابَ اللّه ِ ، فلا تأخُذ به ) (1) فان هذا الخبر يدلّ على ، انّ المعيار : موافقة الكتاب ، وعدم موافقته ، لا انّ الراوي عادل أو غير عادل .

( وقوله عليه السلام : ما جائَكُم مِن حَديثٍ لا يُصدّقه كِتابُ اللّه ، فَهوَ باطلٌ ) (2) فيلزم أن يكون الخبر مطابقا لكتاب اللّه سبحانه وتعالى ، وذكر كتاب اللّه وحده ، من باب المثال والاّ فالسنّة المعلومة أيضا كالكتاب - كما أشير اليه في جملة من الروايات - .

( وقول أبي جعفر عليه السلام : ما جائَكُم عَنّا ، فان وَجدتُموهُ مُوافقا للقُرآنِ ، فَخذوا بهِ ، وإن لَم تَجِدوهُ مُوافِقا ، فَردّوهُ ، وإن إشتَبهَ الأمرُ عِندَكُم ) بان لم تعلموا انّه يوافق القرآن ، او لا يوافقه ، كما اذا كان بينه وبين القرآن عموم من وجه ، أو كانت دلالة

ص: 193


1- - بحار الانوار : ج2 ص244 ب29 ح50 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص20 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 ، بحار الانوار : ج2 ص242 ب29 ح38 بالمعنى .

فَقِفوا عِندَه ورُدّوه إلينا حتّى نَشرَحَ مِن ذلك » .

وقول الصادق عليه السلام : « كُلُّ شَيء مَردودٌ إلى كِتابِ اللّه ِ والسُنّةِ ، وكُلُّ حَديثٍ لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه فَهوَ زُخرُفٌ » .

وصَحيحة هِشام بن حَكَم عن أبي عَبد اللّه عليه السلام : « لا تَقبَلوا عَلَينا حَديثا إلاّ

------------------

الآية غامضة ، أو ما أشبه ذلك ( فَقِفوا عِندَه ، ورُدّوه إلَينا ، حَتّى نَشرَحَ ) لكم ونبيّن الصدق والكذب (مِن ذلك ) (1) المنقول عَنّا ، وعليه : فالاخبار على ثلاثة أقسام :

1 - قسم يؤخذ به مطلقا .

2 - قسم لا يؤخذ به مطلقا .

3 - قسم لا يعمل به ، ولا يعرض عنه ، وانّما يتوقف الانسان عنده ، حتى يتبيّن صدقه من كذبه ( وقول الصادق عليه السلام : كُلُّ شَيء مَردود الى كِتابِ اللّه ِ والسُنّة ) أي : انّ الشيء الذي وَرَدَ في أخبارنا ، يُردّ الى الكتاب والسنة فان كان موافِقا لهما يؤخذ به ، وان لم يكن موافقا لهما فلا يؤخذ به ، بلا فرق بين أن يكون الشيء الوارد حكما ، أو قصّة نبيّ ، أو تاريخ أمّة سابقة ، أو غير ذلك .

( وكلّ حَديث لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَهوَ زُخرُف ) (2) والزخرف : هو الباطل الذي له جمال الصحيح وزينته ، فان كون الخبر مرويا عنهم عليهم السلام ، زينة للخبر من جهة المنقول عنه ، وان كان باطلاً في نفسه ، ولم يقله الائمة الطاهرون عليهم السلام .

( وصحيحة هشام بن حَكَم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : لا تَقبَلوا عَلَينا حَديثا ، إلاّ

ص: 194


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص120 ب9 ح33370 ، امالي الطوسي : ص232 وفيه عليكم بدل (عندكم) .
2- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .

ما وافَقَ الكِتابَ والسُنّةِ أو تَجدونَ مَعَهُ شاهِدا مِن أحاديثَنا المتَقَدّمَة ، فانّ المغيرَةَ بن سَعيد - لَعَنَهُ اللّه - دَسَّ في كُتُبِ أصحابِ أبي أحاديثَ لَم يُحَدِّث بها أبي ، فاتَّقوا اللّه َ ولا تَقبَلوا عَلَينا ما خالَفَ قولِ رَبّنا وسُنَّة نَبيّنا » .

------------------

ما وافَقَ الكِتابَ والسنّةِ ، أو تَجدونَ مَعَهُ ) أي مع ذلك الخبر ( شاهِدا مِن أحاديثَنا المتَقَدّمة ) أي شاهدا من الأحاديث المعتبرة ، الصادرة عنا قبل ذلك الحديث .

ثم انّ الامام عليه السلام بيّن السّبب في لزوم أن يكون الخبر ، مدعوما بالكتاب ، أو السنّة أو بأخبارهم عليهم السلام بقوله : ( فانّ المغيرَةَ بن سَعيد لَعَنَهُ اللّه ) وكان مفسِّدا وغاليا ، فاسدا في عقيدته ، ومفسِّدا في عمله ، وقد قتله عيسى بن موسى ، الوالي من قبل العبّاسيّين ، لأنّه كان مفسِّدا بين الناس .

( دسّ ) أي أدخَل ( في كُتُب أصحابِ أبي ) الباقر عليه السلام ( أحاديثَ لم يُحدّث بِها أبي ) عليه السلام ، ولهذا اختلفت الأخبار ، فلم يعلم الصحيح منها من الفاسد ، الاّ بقرينة من كتاب ، أو سنّة ، أو أحاديث سابقة ( فَاتقوا اللّه ، ولا تَقبَلوا عَلَينا ما خالَفَ قَولِ رَبّنا وسُنّةَ نبيّنا ) (1) .

لكن لا يخفى : انّ هذا الخبر يَرِدُ عليه اُمور :

الأوّل : انّ هذا ، كان بالنسبة الى الأخبار الصادرة في زمان المغيرة ، لا الأخبار السابقة واللاحقة عليه .

الثاني : انّه خاص بجماعة ، تمكن المغيرة من أخذ كتبهم ، لا مطلقا .

الثالث : انّه بالاضافة الى الأمرين المتقدمين : ان الخبر محلّ تأمّل ، اذ كيف يمكن الدسّ في كتب الناس ، مع وضوح اختلاف الخط والاسلوب وما اشبه ؟ فهذا الخبر من الأخبار التي يلزم ردّ علمه الى أهله .

ص: 195


1- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح62 ، رجال الكشي : ج3 ص224 ح401 .

والأخبارُ الواردةُ في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترةٌ جدّا ، وجه الاستدلال بها : انّ من الواضحات أنّ الأخبار الواردَة عنهُم عليهم السلام ، في مخالفةِ ظواهر الكتاب ، والسنّة

------------------

هذا بالاضافة الى انّه بعد ذلك الزمان ، كتبت الأخبار ونقّحت ، بما لو كان الأمر على ماذكر في هذا الخبر ، لم يبق من دسّه أثر بعد ذلك .

ويعرف هذا من قياس الأمر بما اذا دسّ بعض تلاميذ فقيه ، في تقريرات تلاميذه ، فهل يمكن بقاء الدسّ بعد قيام الفقيه وتلاميذه بالتهذيب والتنقيح ؟ .

( و ) لا يخفى : انّ ( الأخبار الواردة ، في طرح الأخبار المخالفَة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترة جدّا ) فانّ بعض الأخبار وردت لمعالجة الروايات المتعارضة ، ليؤخذ بالموافق منها للكتاب والسنّة ويطرح المخالف منها للكتاب والسنّة ، وبعض الأخبار وردت في مطلق المخالف للكتاب والسنّة وان لم يكن هنالك تعارض بين خبرين ، وهذه الأخبار بحدّ التواتر وفوق حدّ التواتر .

واما ( وجه الاستدلال بها ) أي : بهذه الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم التعارض بين تلك الاخبار - فهو : انّ الأخبار الدالة على طرح الأخبار المعارضة ، لا يراد بها : الأخبار المعارضة بالتباين ، اذ المخالِفون ما كانوا يضعون الأخبار المتباينة ، وانّما يراد بها : المعارضة بالعموم المطلق ، أو بالعموم من وجه ، ومع ذلك قال الأئمة عليهم السلام ، بطرحها ، مما يدل على انّ الخبر ليس بحجّة ، الاّ اذا علم صدوره ، او احتفّ بالقرائن القطعيّة .

وهذا هو مراد من يقول : بأنّ الخبر الواحد ليس بحجّة ، وذلك ل( انّ من الواضحات : انّ الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ) مخالفة بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه

ص: 196

في غاية الكثرة ، والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسُنّة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي بحيث يتعذّر او يتعسّر الجمع ، إذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ما يباين الكتاب والسنّة كليّة ، إذ لا يصدّقهم أحدٌ في

------------------

سواء بعنوان العام والخاص ، أو بعنوان الاطلاق والتقييد ( في غاية الكثرة ) حتى انه لو لم يؤخذ ، بمثل هذه الاخبار ، لزم تعطيل أكثر الأحكام .

فانّ أبواب الصلاة ، والصوم ، والحجّ ، والخمس ، والزكاة ، وغيرها من بقيّة الاحكام قد ورد جميعها في القرآن ، بعنوان العام أو بعنوان المطلق ، والأخبار الكثيرة خصّصتها ، أو قيّدتها ، سواء عندنا أو عند العامة .

( والمراد من المخالفة للكتاب ، في تلك الأخبار الناهية ) التي تنهى ( عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسنّة ) هي : المخالفة التي ذكرناها بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد و ( ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي ، بحيث يتعذّر أو يتعسّر الجمع ) بينها .

اما متعذّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن الحكم : اللّه واحد ، وتقول الرواية : بتعدّد الآلهة .

واما متعسّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن : اللّه عالم بكل شيء ، وتقول الرواية : ليس بعالم بالجزئيات ، ويكون وجه الجمع - بتعسّر وتكلّف - : ان كل شيء ، يراد به : الكلّيات فقط ، دون الجزئيات ، كما قال به بعض الحكماء ، وهو : قولٌ لم ينزل اللّه به من سلطان .

( اذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ) أي على المعصومين عليهم السلام ( ما يباين الكتاب والسنّة ) مباينة ( كلّية اذ لا يصدّقهم ) أي : لا يصدق الكذابين ( أحد في

ص: 197

ذلك ، فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن إلاّ نظير ما كان يرد من الأئمة عليهم السلام ، في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ، فليس المقصودُ من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب والسنّة إلاّ عرض ما كان منها غير معلوم الصّدور عنهم ، وأنّه إن وُجد له قرينة وشاهد معتمد فهو ، وإلاّ فليتوقّف فيه ، لعدم افادته العلمَ بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة .

ثمّ إنّ عدم ذكر الاجماع ودليل العقل من جملة قرائن الخبر في هذه

------------------

ذلك ) الخبر المباين للقرآن مباينة كلّية ( فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن الاّ نظير ما كان يرد من الائمة عليهم السلام ) من الاطلاق والتقييد ، والعام والخاص ( في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ) .

إذن : فالمراد بالمخالفة التي نهى الائمة عليهم السلام عن العمل بها ، هي المخالفة على ذينك الوجهين ، أي : العموم المطلق ، ومن وجه ، أو الاطلاق والتقييد .

وعلى هذا : ( فليس المقصود ) بقولهم عليهم السلام : ( من عرض ما يرد من الحديث ، على الكتاب والسنّة الاّ عرض ما كان منها ) أي : من تلك الأخبار الواردة ، المنسوبة اليهم ( غير معلوم الصّدور عنهم ) لوضوح : انّ معلوم الصّدور ، لا يحتاج الى العرض .

( وانّه ) أي : ان هذا الخبر غير معلوم الصدور ، بل المحتمل الصدور عنهم وعن غيرهم ( ان وجد له قرينة وشاهد معتمد ) يدلّ على صدوره عنهم ( فهو ، والاّ فليتوقف فيه ، لعدم افادته العلمَ بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة ) فتكون هذه الروايات ، دالّة على المنع عن العمل بالخبر الواحد ، غير المعلوم الصدور ، المجرد عن القرائن ، وهذا هو ما يريده المانعون .

( ثم ان عدم ذكر : الاجماع ، ودليل العقل ، من جملة قرائن الخبر في هذه

ص: 198

الرّوايات ، كما فعله الشيخ في العدّة ، لأنّ مرجعهما إلى الكتاب والسنّة ، كما يظهر بالتأمّل .

------------------

الرّوايات ) وانّما اكتفت هذه الروايات بذكر قرينتين : موافقة الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولم تذكر من القرائن : موافقة الاجماع ، ودليل العقل ( كما فعله الشيخ ) رحمه اللّه ( في العدّة ) حيث جعل معيار حجّية الأخبار : الموافقة للكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل .

وانّما لم تتعرض لذكر الاجماع والعقل هذه الأخبار ( لأنّ مرجعهما ) أي : الاجماع والعقل ( الى الكتاب والسنّة ) أيضا ( كما يظهر بالتأمّل ) .

أمّا الاجماع : فلتضمنه قول المعصوم عليه السلام ، على الدخول أو كشفه عنه على الحدس .

وأمّا العقل ، فلأنه «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» ، على ماذكروه ، في باب الملازمة .

لكن لا يخفى بان المستنبِط من الاخبار : يرى ان كلاً من الاجماع والعقل حجّة بنفسه كحجّية الكتاب والسنّة ، فانه كما لا يقال : انّ السنّة ترجع الى الكتاب في حجّيتها كذلك يلزم أن يقال : ان الاجماع والعقل ، لا يرجعان الى الكتاب والسنّة في حجّيتهما .

ومما يدلّ على ذلك : الرواية المرويّة عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام ، حيث جاء فيها :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم »

« جميع أُمور الأديان أربعة : أمرٌ لا إختلافَ فيه ، وَهو إجماعُ الأمّة عَلى الضَرورة التي يَضطَرون إليها ، والأخبارُ المُجمَعُ عَليها ، وَهي الغايةُ المَعروض

ص: 199

ويشيرُ إلى ما ذكرنا ، من أنّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة هو في غير معلوم الصدور ، تعليلُ العرض في بعض الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الاماميّة .

------------------

عَلَيها كُلّ شُبهَةٍ ، والمُستَنبِط مِنها كُلّ حادثة .

وأمر يحتمل الشكّ والانكار ، فَسَبيلُه إستيضاحُ أهله لمُنتحليه ، بحجّةِ من كتابِ اللّه مُجمَع عَلى تَأويلها ، وَسُنّة مُجمَع عَليها لا إختلافَ فِيها ، أو قِياس تَعرف العُقولُ عَدله ، وَلا تَسَعُ خاصَة الأمّة وَعامّتُها الشَكُّ فيه ، والانكارِ لَه » (1) الحديث ، وقد المعنا الى ذلك فيما سبق ، لكن حيث انّ البحث حول هذا الأمر خارج عن مقصد الشّرح نتركه لمحلّه .

هذا ، ومن الممكن ، أن يكون الوجه في عدم ذكر الاجماع والعقل من جملة قرائن الخبر هو : ماذكره الأوثق : من قلّة الأحكام التي يكون العقل أو الاجماع فيها قرينة لصحة الخبر أو عدم صحته .

( ويشير الى ما ذكرنا : من انّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة ) ليس هو عرض مطلق الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، ولو كان غير محتمل الكذب سندا، او غير محتمل التقية دلالة - كما يقوله المانع - بل ( هو في غير معلوم الصدور ) المحتمل الكذب سندا والتقيّة دلالة فقط .

يشير اليه ( تعليل العرض في بعض ) هذه ( الأخبار : بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الامامية ) ممّا يدلّ على ان المقصود من العرض ، هو : التخلّص من الأخبار المكذوبة سندا ، أو غير الواقعية دلالة فلا يدلّ على عرض مطلق الاخبار المخالفة .

ص: 200


1- - تحف العقول : ص407 ، بحار الانوار : ج2 ص238 ب29 ح31 ، وسائل الشيعة : ج27 ص103 ب8 ح33329 .

وأمّا الاجماع :

فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس سره ، في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة .

وقد إعترف بذلك الشيخُ ، على ما يأتي في كلامه ، إلاّ أنّه أوَّلَ معقدَ الاجماع بارادة الأخبار التي يرويها المخالفون .

------------------

وعليه : فالاخبار المحتمل صدورها ، او المشكوك صدورها ، بل والمعلوم صدورها ، لكن لا يعلم هل صدرت تقيّة ، أو لبيان الحكم الواقعي ، تعرض على الكتاب والسنّة ، لا مطلق الأخبار ، بينما يقول المانع : انّ الأخبار مطلقا ولو كانت غير محتملة الكذب سندا ، أو غير محتملة التقيّة دلالةً ، تعرض على الكتاب والسنّة ، فالمانع يمنع عموما ، وهذه الأخبار تدلّ على المنع في الجملة .

( وأمّا الاجماع : فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس سره في مواضع من كلامه ) حيث قال : انّ الاجماع قام على عدم عمل الشيعة بالخبر الواحد ( وجعله ) أي : جعل السيّد العمل بالخبر الواحد ( في بعضها ) أي : في بعض تلك المواضع ( بمنزلة القياس في كون ترك العمل به ) أي : بالخبر الواحد ( معروفا من مذهب الشيعة ) كما انّ ترك العمل بالقياس معروف من مذهبهم أيضا .

( وقد اعترف بذلك ) أي : بالاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد ، عند الشيعة ( الشيخ ، على ما يأتي في كلامه ، الاّ انّه أوَّلَ مَعْقَد الاجماع ) أي : الاجماع المنعقد على : عدم العمل بالخبر الواحد ( بارادة الأخبار ) الضعيفة السّند ( التي يرويها المخالفون ) .

فقد قال الشيخ : بأنّ مراد المجمعين من قولهم : اجمعنا على عدم العمل ، بالخبر الواحد، هو : المنع عن العمل بالخبر الضعيف المرويّ من طرق المخالفين.

ص: 201

وهو ظاهرُ المحكيّ عن الطبرسيّ في مجمع البيان ، قال : « لا يجوز العملُ بالظنّ عند الاماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات واروش الجنايات » .

------------------

ولا يخفى : انّ الاجماع قد يكون له مَعْقَد ، مثل ما اذا قالوا : أجمعوا على الطمأنينة ، حال القرائة والذكر في الصلاة ، وقد لا يكون له معقد ، بأن قالوا : أجمعوا على لزوم الطمأنينة ، في الجملة ، فلا لفظ خاص يتعلق به الاجماع ، بل يكون من قبيل التواتر المعنوي .

وعليه : فاذا كان للاجماع معقد ، فلا يجوز مخالفته اطلاقا ، أمّا اذا لم يكن له مَعْقَد، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منه .

قال المصنّف : ( وهو ) أي : الاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد ( ظاهر المحكيّ عن الطبرسيّ ، في مجمع البيان ) أيضا حيث ( قال : لا يجوز العمل بالظنّ عند الاماميّة ) .

فانّ ظاهر هذا اللّفظ شامل للخبر الواحد ، لانّ الخبر الواحد ممّا يورِث الظنّ النوعيّ ( الاّ في شهادة العدلين ) فانّ القاضي اذا شَهدَ عنده عدلان على شيء ، عَمِلَ بشهادتهما ، مع انه لا يعلم بالواقع ، بل يظنّ به ظنّا نوعيّا من باب شهادة العدلين .

( و ) الاّ في قول أهل الخبرة ، فانه ايضا يعمل بقولهم ، ولو لم يعلم بصحته بل يظنّ به ظنّا نوعيّا ، وذلك في ( قيم المتلفات ، واروش الجنايات ) (1) .

فانّه اذا اتلف انسان على انسان شيئا ، سئل أهل الخبرة عن قيمة المتلف حتى

ص: 202


1- - مجمع البيان : ج9 ص133 .

والجواب :

أمّا عن الآيات فبأنّها ، بعد تسليم دلالتها ، عموماتُ مخصّصةٌ بما سيجيء من الأدلّة .

وأمّا عن الأخبار فعن الرّواية الاولى فبأنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلالُ بها على المنع عن الخبر الواحد .

------------------

يعطى للمالك ، وكذلك بالنسبة الى الجنايات الواردة على الانسان أو الحيوان ، فان قيمة تلك الجناية يرجع فيها الى أهل الخبرة ، والى هنا ، تم استدلال المانعين عن العمل بالخبر الواحد ، ثم بدأ المصنّف في الجواب عن أدلتهم قائلاً : ( والجواب : امّا عن الآيات فبأنّها ) لا تدل على : المنع عن العمل بالخبر الواحد ، في الفروع الفقهية ، بل ظاهرها : المنع عن العمل بالظنّ في الاصول الاعتقاديّة ، لأن الكفّار كانوا ينكرون التوحيد والنبوّة ، والمعاد ، من باب الظنّ ، فالآية وردت ناهية عن ذلك ، فلا اطلاق لها حتى تشمل الفروع .

و ( بعد تسليم دلالتها ) نقول : انّها ( عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة ) الأربعة على حجّية خبر الثقة ، من : الكتاب والسنّة ، والاجماع والعقل .

لكن لا يخفى : انّ بعض الآيات آبية عن التخصيص ، كما ذكرناه ، في الاصول ، فاللازم حملها على الاصول الاعتقادية - كما فصلناه في موضعه - .

( وأمّا عن الأخبار ، فعن الرّواية الاولى ) وهي قول ابي الحسن عليه السلام : ما علمتم انّه قولنا فالتزموه ، وما لم تعلموه فردوه الينا .

( فبانّها خبر الواحد ، لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد ) لأنّها ان دلّت على المنع عن خبر الواحد ، شمل نفسه ايضا وذلك يستلزم المناقضة .

هذا ، بالاضافة الى ان العلم ، وعدم العلم في الخبر ، يراد به الحجّة ،

ص: 203

وأمّا أخبارُ العرض على الكتاب ، فهي وإن كانت متواترةً بالمعنى الاّ أنّها بين طائفتين ، احداهما مادلّ على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب ، والثانية ما دلّ على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب .

------------------

لا خصوصية العلم ، فانّ الحجّة هي المتبادرة الى الأذهان من العلم .

( وأمّا أخبار العرض على الكتاب ) والسنّة في حجّية الخبر ( فهي وان كانت متواترة بالمعنى ) لا باللفظ ، والمراد بالمتواتر المعنوي ما اختلفت الفاظه ، لكنها تشير الى أمر واحد ، وهذه الأخبار من هذا القبيل ، فان الفاظها وان كانت مختلفة ، لكنها تشير الى معنى واحد ، وهو : لزوم عرض الأخبار على الكتاب والسنّة .

اذن : فلا يَردُ على هذه الأخبار : الاشكال الذي ذكرناه بالنسبة الى الخبر الأول .

( الاّ انّها ) أي : اخبار العرض منحصرة ( بين طائفتين ) .

( احداهما : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي يخالف الكتاب ، والثانية : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي لا يوافق الكتاب ) .

ومن المعلوم : انّ هناك ثلاثة اقسام من الاخبار :

الاول : ما يخالف الكتاب .

الثاني : ما لا يوافق الكتاب .

الثالث : ما ليس بمخالف ولا موافق للكتاب .

مثلاً : الخبر الذي يقول : لا يجب الحجّ اطلاقا ، مخالف للكتاب .

والخبر الذي يقول : يجب الحجّ كل عام لا يوافق الكتاب ، لأنّ الكتاب لم يقل بوجوب الحجّ على المستطيع في كل عام .

والخبر الذي يقول : بجواز تحليل الأمة من مالكها لغير المالك ، لا يوافق الكتاب، ولا يخالفه، لأنّه لم يُذكَر في الكتاب هذا الحكم اطلاقا، لا سلبا ، ولا ايجابا .

ص: 204

أمّا الطائفة الاولى ، فلا تدلّ على المنع عن الخبر الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة .

فان قلت : ما من واقعة إلاّ ويمكن استفادةُ حكمها من عمومات الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنّة القطعيّة .

مثل قوله تعالى : « خَلَقَ لكم ما في الأرض جَميعا » ،

------------------

( أمّا الطائفة الاولى : ) وهي : الطائفة التي تدل على طرح الخبر المخالف للكتاب ( فلا تدلّ على المنع عن الخبر ، الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة ) لعدم صدق المخالف على ذلك الخبر .

فالدليل - وهو الرّواية المتقدّمة - أخصّ من المدّعى ، اذ مدّعى المانع : عدم حجّية خبر الواحد مطلقا ، وهو يشمل ما خالف الكتاب والسنّة وما لم يوجد مضمونه في كتاب أو سنّة ، بينما هذا الخبر دليل على طرح المخالف للكتاب والسنّة فقط ، دون ما لم يوجد مضمونه فيهما أصلاً .

( فان قلت ) ما من خبر الاّ وهو مخالف للكتاب والسنّة ، أو موافق لهما ، وليس لنا ما ليس بموافق ولا مخالف - كما ذكرتم - اذ ( ما من واقعة الاّ ويمكن استفادة حكمها من عمومات الكتاب ) فان في الكتاب عمومات تشمل كل واقعة واقعة .

( المقتصر في تخصيصها ) أي تخصيص تلك العمومات ( على السنّة القطعيّة ) فقط ، فان السنّة القطعيّة هي التي تخصص عمومات الكتاب ، والاّ فعمومات الكتاب تشمل كلّ حكم حكم ، من الأحكام ، التي يحتاج اليها الانسان .

( مثل : قوله تعالى : « خَلَق لَكُمْ ما في الأرضِ جَميعا ... » ) (1) حيث انه دليل على

ص: 205


1- - سورة البقرة : الآية 29 .

وقوله تعالى : « إنّما حَرَّمَ عَلَيكُم المَيتَةَ » ، الخ . و « كُلو مِمّا غَنِمتُم حَلالاً طَيّبا » ، و « يُريدُ اللّه َ بِكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِكمُ العُسر » .

------------------

حليّة كلّ شيء الاّ ما خرج .

( وقوله : « إنّما حَرَّمَ عَلَيكُم المَيتَةَ » (1) الى آخر الآية ) حيث انّ هذه الآية الثانية خَصّصَت الآية الاولى : « خَلَق لَكُم ما في الأرضِ جميعا » ، فالمخصص هي ما ذكر في الآية الثانية ، وما ليس في الآية الثانية يجوز للانسان تناولها .

( و ) قوله تعالى : ف( « كُلو مِمّا غَنِمتُم حَلالاً طَيّبا » ) (2) حيث انها دليل على حلّيّة كل الغنائم ، التي يغنمها الانسان بالطرق الشرعية - فلا شيء من الغنائم المشروعة مستثناة في القرآن الحكيم .

( و ) قوله تعالى : ( « يُريدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ... » ) (3) حيث دلّت الآية على انّ كل يسر مجاز فيه ، وكل عسر مرفوع عن الانسان .

ومن الواضح : انّ ما يبتلى به الانسان ، امّا يسر أو عسر ، فلا خارج عنهما اطلاقا حتى يقال : بأنّه شيء ليس في الكتاب والسنّة ، فكلّ خبر ، امّا موافق للكتاب وعموماته ، فيؤخذ به ، وامّا مخالف له ، فيطرح .

الا اذا كان الخبر المخالف مما قطع بصدوره ، ودلالته ، ومضمونه ، فيؤخذ به ، ولا يوجد في الاخبار ما يكون مباينا للقرآن كهذا ، وانّما الموجود هو امّا من باب التخصيص للكتاب ، أو من باب التقييد له .

لا يقال : ذكر الآية الكريمة : « وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (4) ، ليس فيه شيء زائد

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 173 .
2- - سورة الانفال : الآية 69 .
3- - سورة البقرة : الآية 185 .
4- - سورة البقرة : الآية 185 .

ونحو ذلك فالأخبارُ المخصّصَة لها كلّها ولكثير من عمومات السنّة القطعيّة مخالفةٌ للكتاب والسنّة .

------------------

على : «يُريدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ » (1) .

لأنّه يقال : هناك ثلاثة أشياء : يسر ، وعسر ، وامر عادي .

ولم يذكر القرآن الكريم الأمر العادي ، لا في الآية نصا ، ولا في احدى الجملتين تضمنا ، لتبقى فجوة بينهما يتطلبها الذهن من الخارج ، كما هي عادة القرآن الكريم ، في كل الامور ، حتى في القصص والتاريخ ، من انه لا يذكر كلّ الخصوصيات فيها ليحفّز الانسان على التعليم ، والفحص ، واستطراق أبواب المعصومين عليهم السلام .

( ونحو ذلك ) من العمومات القرآنية ، مثل قوله سبحانه : « قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِي إليَّ مُحَرَّما عَلى طاعِم يطعَمُهُ ... » (2) .

وقوله سبحانه : « وأُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلكُم ... » (3) الى غيرها من الآيات العامة ، التي يشمل عمومها كل جزئي جزئي نحتاج اليه في حياتنا .

وعلى هذا : ( فالأخبار ) الآحاد ( المخصّصة لها ) أي : لعمومات الكتاب ( كلّها ) أي : كل تلك الأخبار ( و ) كذلك الأخبار المخصصة ( لكثير من عمومات السنّة القطعيّة ، مخالفة للكتاب والسنّة ) فيلزم طرحها .

وانّما فرّق المصنّف ، بين عمومات الكتاب ، حيث جعل كلها مخصصة ، وبين عمومات السنّة حيث جعل أكثرها مخصصة ، لأنّه لا عموم في الكتاب لم

ص: 207


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - سورة النساء : الآية 24 .

قلت : أوّلاً : انّه لا يُعَدُّ مخالفةُ ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات ، مخالفةً والاّ لعُدّت الاخبار الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم السلام ، المخالفة لعمومات الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفا للكتاب والسنّة .

------------------

يخصص ، بينما هناك في السنّة ، بعض العمومات غير مخصصة .

( قلت ) ما ذكرتم - من : انّ كل خبر لا يكون موافقا للحكم الموجود في عموم الكتاب والسنّة فهو مخالف لهما - : غير تام اذ الأخبار التي تخالف عمومات الكتاب الوسيعة جدا ، لا تسمّى : مخالفا لها ، فانّ في القرآن عمومات واسعة جدا ، وعمومات دونها في السعة .

فمثل قوله تعالى : « خَلَقَ لَكُم ما في الأرض جَميعا » (1) من العمومات الواسعة ، ولذا لا يقال : بأن حرمة محرمات النسب ، والمصاهرة ، ونحوها ، مخالفة لعموم قوله تعالى : « خَلَقَ لَكُم ما في الأرض جَميعا » .

والى هذا اشار المصنّف بقوله : ( أولاً : انّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات ) الوسيعة جدا ( مخالفة ) عرفا .

فانّ الأحكام التي تستفاد من هذه العمومات الوسيعة جدا ، لا يصدق عليها عرفا : انها موجودة في الكتاب والسنّة ، كما انه لا يصدق على الأخبار التي تخصص هذه العمومات : انها تخالف الكتاب والسنّة .

( والاّ ) بأن كانت الأخبار المخالفة لمثل هذه العمومات ، تعدّ مخالفة لعمومات الكتاب ( لعدّت الأخبار ، الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم السلام ، المخالفة لعمومات ) وردت في ( الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفة للكتاب والسنّة ) .

ص: 208


1- - سورة البقرة : الآية 29 .

غايةُ الأمر ثبوتُ الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيخرجُ عن عموم أخبار العرض ؛ مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة يقطعُ بأنّها تأبى عن التخصيص .

------------------

فانّه لو كان المراد من المخالفة : مطلق المخالفة - ولو بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، فيما اذا كان العام والمطلق واسعين جدا - لزم طرح كل خبر مخالف لهما ، حتى ولو كان معلوم الصدور فيلزم انحصار الحجّة : في الكتاب والسنّة القطعيّة ، ويلزم تعطيل أكثر الأحكام وذلك بديهي البطلان .

فان قلت : إذن لماذا ذَكَرَ القُرآن الحكيم ، مثل هذه العمومات الوسيعة جدا .

قلت : ذكرها للالماع الى الخطوط العامة في الأحكام ، فهي بمثابة قول الطبيب للمريض : لا بد أن تشرب الدواء ممّا ليس الطبيب بصدد البيان حين يذكر هذه الجملة ، وانّما بصدد : ان لا يترك المريض نفسه بدون دواء ، فاذا قال الطبيب بعد ذلك اشرب الدواء الفلاني ، او قال : اجتنب الدواء الفلاني ، لم يكن من قبيل المطلق والمقيد ، ولا أحد كلاميه مخالفا مع الآخر .

( غاية الأمر : ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب اللّه ، وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيخرج عن عموم أخبار العرض ) فالأخبار القطعية الصّدور ، خارجة عن عموم اخبار العرض ، ويعمل بها مع انها مخالفة لكتاب اللّه وسنّة نبيه .

هذا ( مع انّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص ) لأنّها بصدد : انّ القرآن هو المحور مطلقا وأنّ كل شيء يخالفه يجب أن يطرح .

وعليه : فكيف يمكن أن يقال : انّ القرآن هو المحور وكل مخالف له يطرح الاّ انه ليس بمحور، ويقبل مخالفه في الأحكام العامّة الواسعة جدا ؟ فهل هذا الكلام

ص: 209

وكيف تُرتكبُ التخصيصُ في قوله عليه السلام : « كلُّ حديث لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو زُخرُفٌ » ، وقوله : « ما أتاكُمُ مِن حَديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو باطلٌ » ، وقوله عليه السلام : « لا تَقبلوا عَلينا خِلافَ القُرآن ، فانّا إن حَدَّثنا حَدَّثنا بموافَقَةِ القرآن وموافَقَةِ السنّة »

------------------

إلاّ تناقض .

وان شئت قلت : الأخبار المخصصة إما مخالفة ، أو ليست بمخالفة ، فان كانت مخالفة لزم تخصيص أخبار العرض ، والحال : ان اخبار العرض لا تخصص ، وان لم تكن مخالفة ، فكل الأخبار المخصصة ليست بمخالفة ، فيجوز العمل بها ، لأنّ اخبار العرض لا تشملها .

وعليه : فحيث لا يمكن أن نقول : بأنّ أخبار العرض مخصصة يجب أن نقول : بأنّ المخالفة بالتخصيص والتقييد ، ليست من المخالفة في شيء .

( وكيف ترتكب التخصيص في قوله عليه السلام : كُلُّ حديثٍ لا يُوافِق كِتابَ اللّه ، فهو زُخرُف ) (1) أي : له ظاهر جميل وباطن غير جميل .

( وقوله عليه السلام : ما أتاكم مِن حَديثٍ لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ ، فَهُوَ باطِلٌ ) (2) فانّه يدل على ان القرآن هو المحور ، الكلُّ في الكل ، ولا يمكن أن يكون هناك شيء يخالفه ، ويكون ذلك المخالف حقا ( وقوله عليه السلام : لا تَقبَلوا عَلينا خِلافَ القُرآن ، فَانّا إن حَدَّثنا ، حَدَّثنا بموافَقَةِ القُرآن ومُوافَقَة السنّة ) (3) فهل يمكن أن يقال :

ص: 210


1- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 ، بحار الانوار : ج2 ص242 ب29 ح38 .
3- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح62 ، رجال الكشي : ج3 ص224 ح401 .

وقد صحّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أنّه قال : « ما خالَفَ كِتابَ اللّه ِ فليسَ مِن حَديثي ، أو لَم أقلهُ » ، مع أنّ أكثر عمومات الكتاب قد خصّص بقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وممّا يدلّ على أنّ المخالفة لتلك العمومات لا تعدّ مخالفةً ، مادلّ من الأخبار على بيان ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ بناءا على تلك العمومات

------------------

لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، الاّ في الموارد الفلانية ، فانا نقول فيها : خلاف القرآن ؟ وهل هذا إلا مِن التناقض الواضح ؟ .

( وقد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : ما خالَفَ كِتابَ اللّه ِ ، فَلَيسَ مِن حديثي ، أو لَم أقُلهُ ) (1) والترديد ب«أو» بين الجملتين امّا من الرّاوي ، وانّه شَكَّ في أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : فليس من حديثي ، أو قال : لم أقله ، أو أنّ المراد بأو : انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال مرة ذلك ، وقال اخرى هذا - ( مع انّ أكثر عمومات الكتاب ، قد خصّص بقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم) فقوله : ما خالف كتاب اللّه فليس من حديثي ، يجب أن يراد به : ما خالفه بالتّباين ، لا ماخالفه بالعموم والخصوص ، أو الاطلاق والتقييد . (وممّا يدلّ على انّ المخالفة لتلك العمومات) القرآنية على نحو : العموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ( لا تعدّ مخالفة ) وانّ أخبار العرض على القرآن لا تطرد الأخبار المخصّصة والمقيّدة ، وانّما تطرد الأخبار المخالفة للقرآن على نحو التباين فقط ، هو ( ما دلّ من الأخبار على بيان : ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى اللّه عليه و آله وسلم ، اذ بناءا على تلك العمومات ) بأن قلنا : انّ عمومات

ص: 211


1- - قرب الاسناد : ص44 ، تفسير العياشي : ج1 ص8 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 ، بحار الانوار : ج2 ص227 ب29 ح5 .

لا توجد واقعةٌ لا يوجد حكمُها فيها .

فمن تلك الأخبار : ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما مرسلةً عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : « ما وَجدتُم في كِتابِ اللّه فالعَمَلُ بهِ لازمٌ ، ولا عُذرَ لَكُم في تَركِه ، وَمالَم يَكُن في كِتابِ اللّه ِ تَعالى وكانَت فيه سُنّة منّي فلا عُذرَ لكُم في تَرك شَيءٍ ،

------------------

الكتاب شاملة لكل الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصصة ، مخالفة للقرآن ، فانه على ذلك ( لا توجد واقعة لا يوجد حكمها فيها ) أي : في عمومات الكتاب وكذا في السنّة النبويّة .

وعليه : فهذه الأخبار تشهد بما ذكرناه : من انّ الأخبار المخصصة ليست من الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، فانّه لو وجد في الكتاب كلّ الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصّصة والمقيّدة مخالفة للقرآن والسنّة ، لزم عدم صحة الأخبار التي تقول : انّ هناك أحكاما لا توجد في القرآن .

وذلك للتلازم بين القول : بشمول القرآن لكل الاحكام ، وبين القول : بعدم وجود مصداق لهذه الاخبار ، الدالة على عدم وجود بعض الأحكام في القرآن .

( فمن تلك الأخبار ) الدالّة على ان بعض الأحكام ، لا توجد في القرآن ( ما عن البصائر ، والاحتجاج ، وغيرهما ، مرسلة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : ما وَجدتُم في كِتابِ اللّه ِ ، فالعَمَلُ بِه لازمٌ ، وَلا عُذرَ لَكُم في تركِه ) والمراد : أعم من الواجب والحرام ، فاذا كان في القرآن واجب لا يجوز تركه ، واذا كان في القرآن حرام ، لا يجوز فعله ، وفعله عبارة عن : ترك ما في القرآن .

( وما لَم يَكُن في كِتابِ اللّه تَعالى وَكانَت فيه سُنّةٌ مِنّي ، فلا عُذرَ لَكُم في تَرك شيء) مما في سنّتي .

ص: 212

وَما لَم يَكُن فيه سُنّة مِني فَما قالَ أصحابي فَقولوا بهِ ، فانّما مَثَلُ أصحابي فيكُم كمَثَلِ النُجوم بأيّها اُخِذَ اهتُدي ، وبأيّ اقاويلَ أصحابي أخذتُم إهتديتُم ، واختلافُ أصحابي رحمةٌ لكم .

قيل : يا رسول اللّه ، ومَن أصحابُك ، قال : أهلُ بيتي ،

------------------

( وَما لَم يَكُن فيه سُنّة مِنّي ، فَما قالَ أَصحابي ، فَقولوا به ) أي : اعملوا على طبق مقالتهم ( فانّما مَثَلَ أصحابي فيكُم ) والمراد بهم : الائمة الطاهرون عليهم السلام ، فان مثلهم ( كَمَثلِ النُجوم ، بأيّها أُخِذَ اهتُدي ) و : أخذ ، و : اهتدي ، كلاهما على صيغة المجهول ( و ) في صورة التعارض بين أقوالهم ، ف( بأي أقاويل أصحابي أخذتُم ، إهتديتُم ) وهذا من قبيل ما روي : انه عند اختلاف الرّوايات يتخير الانسان ، بين أن يأخذ بهذه الرّواية ، أو بتلك الرّواية ، فقد قال عليه السلام : « بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) .

كما هو مذكور في الوسائل في كتاب القضاء ، وفي غيره أيضا .

( و ) قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( إختلافُ أصحابي رحمةٌ لَكُم ) حيث للانسان ، أن يأخذ بهذا القول ، فيعمل به ، او بذاك القول ، فيعمل طبقه .

وذلك فيما اذا كانت هناك أخبار متعارضة وردَت الينا ، ولم نعلم انّ أيها هو الواقع ؟ فلربّما كان كلاهما واقعا ، فيكون الحكم تخييريا ، وقد بيّن الامام عليه السلام ، مرّة : هذا الطرف من التخيير ، واخرى : الطرف الاخر منه .

ثم انه ( قيل يا رَسول اللّه : وَمَن أصحابُك ؟ قال : أهلُ بيتي ) (2) علي والائمة

ص: 213


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .
2- - بصائر الدرجات : ص11 ح2 ، معاني الاخبار : ص156 بالمعنى ، الاحتجاج : ص355 ، بحار الانوار : ج2 ص220 ب29 ح1 .

الخبر .

فانّه صريحٌ في انّه قد يرد من الأئمة عليه السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة .

------------------

الأحد عشر المعصومون من ذريته صلوات اللّه وسلامُه عليهم اجمعين ، الى آخر ( الخبر ) ، أما إحتمال ان يريد صلى اللّه عليه و آله وسلم بالأصحاب : كل من إحتف به في حياته ، فهو مخالف لمّا ورَد في القرآن الحكيم : من انّ جملة منهم كانوا منافقين ولما ورَد منه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كَثُرت عَليَّ الكَذابة » (1) ، الى غير ذلك .

ثمّ هل المنافق كمثل النجم يهتدى به ؟ .

وهل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، يأمرنا باتباع الصادقين والكاذبين على حد سواء ؟ .

ثم انّ المراد بالنجوم هي تلك التي يهتدى بها ، فان بيّن النجوم ما يهدي الى جهة خاصة في وقت مخصوص ، كما لا يخفى على من عرف حال السالكين في الصحاري والبراري والبحار والمحيطات ، بل في الفضاء أيضا ، حيث انهم يهتدون بتلك النجوم الى جهة الشمال ، أو الجنوب ، أو الشرق ، أو الغرب ، أو بين الجهتين ، لكن في وقت مخصوص أيضا .

مثلاً : بعضها يهدي في الشتاء ، وبعضها في الصيف ، وبعضها في الخريف وبعضها في الربيع ، وبعضها في أوّل الليل ، وبعضها في آخر الليل ، وبعضها في القطر العراقي ، وبعضها في القطر اليماني ، الى سائر ما ذكر في هذا الباب من علم النجوم .

وعلى أي حال : ( فانّه ) أي : هذا الخبر المرويّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( صريح في انّه: قد يرد من الائمة عليهم السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة) ممّا يدلّ

ص: 214


1- - الخصال : ص255 ح131 ، سليم بن القيس : ص103 ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .

ومنها : ما ورد في تعارض الرّوايتين من ردّ ما لايوجد في الكتاب والسنّة إلى الأئمة عليهم السلام ، مثل ما رواه في العيون عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد اللّه المسمعيّ ، عن الميثميّ ، وفيها : « ما وَرَدَ عليكُم من خَبرَين مُختَلِفَين فاعرِضوهُما على كِتابِ اللّه ِ - إلى أن قال : - وما لَم يكُن في الكتاب فاعرِضوهُما على سُنَن رَسولِ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم - إلى أن قال - وما لَم تجدوا في شيءٍ مِن هذِهِ فردّوا إلينا عِلمَه ، فَنَحنُ أولى بذلك»

------------------

على انّ الأحكام ، لا تستفاد كلها من ظاهر الكتاب والسنّة حتى يكون كل مخصّص ومقيّد لعموماتهما مخالفا للكتاب والسنّة .

( ومنها ما ورد في تعارض الرّوايتين : من ردّ ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ، الى الائمة عليهم السلام ) ممّا يدلّ على انّ بعض الأحكام ، لا يوجد في الكتاب ، ولا في السنّة .

( مثل ما رواه في العيون ، عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد اللّه المسمعيّ ، عن الميثميّ ) في رواية ( وفيها : ما وَرَدَ عَليكُم مِن خَبَرين مُختَلِفَينِ ، فاعرِضوهُما عَلى كِتابِ اللّه - الى ان قال عليه السلام - : وما لَم يكُن في الكِتابِ ، فاعرِضوهُما على سُنَنِ رَسولِ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) الثابتة .

( الى أن قال : وَمالَم تَجدوا في شيءٍ مِن هذِهِ ، فَردّوا إلَينا عِلمَه ) أي : اطلبوا منّا معرفة الحكم في ذلك .

واذا كانوا عليهم السلام في حال غيبة - كما في الحال الحاضر - فالردّ اليهم ، معناه : التوقف عن العمل ، أو الرد باحد المعاني المتقدمة في بعض الكلام السابق .

وعلى كلّ : ( فَنَحنُ أولى بذلِك ) (1) أي : بأن يرد الشيء المجهول الينا الى آخر

ص: 215


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص20 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص234 ب29 ح15 .

الخبر .

والحاصلُ : أنّ القرائن الدالّة على أنّ المراد بمخالفة الكتاب ليس مجرّد مخالفة عمومه او إطلاقه كثيرةٌ يظهر لمن له أدنى تتبّع .

------------------

(الخبر ) فان هذا مثل سابقه يدلّ أيضا على عدم وجود بعض الأحكام في ظاهر الكتاب والسنّة ، فاذا قيل : بان في عموم القرآن والسنّة يوجد كل حكم ، كان مناقضا هذا القول لهذا الخبر .

( والحاصل : انّ القرائن الدالة على انّ المراد بمخالفة الكتاب : ليس مجرّد مخالفة عمومه أو اطلاقه كثيرة ، يظهر لمن له أدنى تتبّع ) فالمراد بمخالف الكتاب : الأخبار المخالفة للكتاب بالتباين ، كما يرى الانسان ذلك في بعض أخبار العامة .

ثم انّ الأئمة عليهم السلام، انّما كانوا يفتون بالأخبار المختلفة لعدة اُمور :

الأول : كون الحكم تخييريا .

الثاني : كون الحكم تارة واقعيا ، وتارة للتقيّة على نفس الامام عليه السلام ، أو على السائل ، أو على من كان في المجلس ، أو من كان يبلغه الخبر ، فيعمل به ، فيؤخذ عليه - كما تقدّم الالماع الى هذين الأمرين - .

الثالث : ارادة الامام عليه السلام وقوع الاختلاف بذلك بين الشيعة حتى لا يعرفوا بطريقة واحدة فيؤخذوا ، كما دلّ على هذا الاخير ، جملة من الروايات .

مثلاً : روى الكافي عن زرارة ، عن الباقر عليه السلام ، قال: « سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاء رَجلٌ فَسأله عنها ، فاجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فاجابه بخلاف ما أجابني وأجابَ صاحبي ، فَلَمّا خَرجَ الرَجلان ، قُلتُ : يابنَ رَسولِ اللّه ِ رَجُلانِ مِن أهلِ العِراقِ مِن شيعَتِكُم يَسألان ، فأجِبتَ كُلّ واحد مِنهُما بغَيرِ ما أجبتَ بهِ

ص: 216

ومن هنا يظهر ضعفُ التأمّل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

------------------

صاحبه ، فقال : يا زرارَة إنّ هذا خير لَنا ، وأبقى لَنا وَلَكُم ، وَلو إجتَمَعتُم عَلى أمرٍ واحدٍ لصدَّقَكُم الناس عَلَينا ، وَلكان أقل لبَقائنا وَبَقائكُم .

ثم قال : قُلتُ لابي عبد اللّه عليه السلام : شيعتُكُم لو حَملتُموهم عَلى الأسنّة أو على النار لَمَضُوا ، وَهُم يَخرُجونَ مِن عندَكُم مختَلِفين ؟ قال : فاجابني بمثل جواب أبيه » (1) ، الى غيره من الأخبار الواردة بهذه المضامين .

ولهذا قال الصدوق رحمه اللّه ، في وجه إختلاف الأصحاب : انّ أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون ، ولكن يفتون الشيعة بمرّ الحق ، وربّما أفتوهم بالتقيّة ، فما يختلف من قولهم فهو للتقيّة ، والتقيّة رحمة للشيعة ، انتهى .

ولعله أشار بكلامه هذا الى القسمين من التقيّة : الثاني ، والثالث مما ذكرناه .

ثم انّه يدل على عدم وجود بعض الأحكام في الكتاب والسنّة : ما روي عن الصادق عليه السلام قال : « ما حَجَبَ اللّه عِلمَهُ عَن العِبادِ ، فَهُو مَوضوعٌ عَنهُم » (2) وفي رواية أخرى : « اسكتوا عَمّا سَكَتَ اللّه عنهُ » (3) .

( ومن هنا ) أي : مما تقدّم : من انّ المخالفة بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، ليست بمخالفة حتى يشملها الأخبار الدالّة على انّ مخالف القرآن لم يقولوه ( يظهر : ضعف التأمّل ) ممن تأمل ( في تخصيص الكتاب ) مثلاً او تقييده (بخبر الواحد ) معللاً ذلك بقوله :

ص: 217


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .

لتلك الأخبار ، بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدّة ، او لما ذكره المحقّق من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد الاجماعُ على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة ، ومع الدّلالة القرآنيّة يسقط وجوبُ العمل به .

وثانيا :

------------------

بانّ الكتاب انّما هو لأجل كافة البشر ، فلا يمكن تقييده ، أو تخصيصه بالخبر الواحد ، اطلاقا ، وذلك مضافا ( لتلك الأخبار ) المتقدمة الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة .

( بل منعه ) أي : منع تخصيص الكتاب وتقييده بالأخبار رأسا ( لأجلها ) أي : لأجل تلك الأخبار المتقدّمة ، الدّالة على انّه لا يجوز مخالفة الكتاب ( كما عن الشيخ : في العدّة ) التصريح بذلك .

( أو لما ذكره المحقّق : من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد ) انّما هو (الاجماع على استعماله ) أي : استعمال الخبر الواحد ( فيما لا يوجود فيه دلالة ) من القرآن على الحكم الذي يراد العمل به .

( ومع ) وجود ( الدلالة القرآنية ) على الحكم ، ولو بالعموم والاطلاق ( يسقط وجوب العمل به ) أي : بالخبر المخالف للكتاب من جهة العموم ، أو الاطلاق .

والحاصل : انه لا يخصّص عموم الكتاب بالخبر ، ولا يقيّد اطلاقه به ، وانّما ظهر ضعف هذا لمّا تقدّم : من انّ المراد بالمخالف : هو المخالف بالتباين ، لا بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه ، أو بالاطلاق والتقييد .

( وثانيا ) سلمنا : انّ الأحكام المستفادة من عمومات الكتاب والسنّة - ولو عمومات واسعة جدا - يصدق على تلك الأحكام : انها موجودة في الكتاب

ص: 218

أنّا نتكلّمُ في الأحكام التي لم يرد فيها عمومٌ من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات ، بل العبادات التي لم ترد فيها إلاّ آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب ،

------------------

والسنّة ، وسلّمنا : انّ الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد يصدق عليها : انها مخالفة لهما .

الاّ ( انّا نتكلّم في الاحكام التي ) لا تُستَفاد من عمومات الكتاب وان إستُفيدت من العمومات العامة الفوقية ، مثل قوله تعالى : « خَلَق لَكُم مافي الأرضِ جَميعا »(1) ، وقوله تعالى : « قُل لا أجِدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما ... » (2) .

وانّما نريد بالأحكام التي لا تستفاد من عمومات الكتاب ، العمومات التي هي قريبة الى تلك الأحكام الجزئية ، فانّه ( لم يرد فيها ) أي : في تلك الأحكام الجزئية (عموم من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات ) من الرَّهن ، والاجارَة ، والمُزارَعة ، والمُساقات ، والشِركة ، وغيرها .

( بل العبادات التي لم ترد فيها الاّ آيات مجملة ) مثل قوله سبحانه : « أقم الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ الّيلِ ... » (3) حيث انّ الغَسقِ هل هو أول الليل أو وسطه ؟ فقد اختلفوا في ذلك في التفاسير ، وغيرها ( أو مطلقة ) .

اذ بعض آيات الكتاب مطلقة وليست بمجملة ، وانّما تقيّد بسبب الرّوايات ، مثل قوله سبحانه : « أحلَّ اللّه ُ البَيعَ ... » (4) حيث انه يشمل كلّ أقسام البيع الأربعة : من بيع النَقد ، والنَسيئة ، والكالي بالكالي ، والسَلَف .

لكنَّ الرّوايات خصّصَت الآية باخراج الكالي بالكالي ( من الكتاب ) وكذلك

ص: 219


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - سورة الاسراء : الآية 78 .
4- - سورة البقرة : الآية 275 .

إذ لو سلّمنا أنّ تخصيص العموم يُعدُّ مخالفةً ، أمّا تقييد المطلق فلا يُعَدُّ في العرف مخالفةً ، بل هو مفسّرٌ خصوصا على المختار من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد .

------------------

في المُجملات ، أو المطلَقات من السنّة القطعيّة .

( اذ لو سلمنا ان تخصيص العموم يُعدّ ) في العرف ( مخالفة ، امّا تقييد المطلق ، فلا يعدّ في العرف : مخالفة ) فانهم اختلفوا في انّ تقييد المطلق هل هو : مخالفة عرفيّة حتى يكون مجازا ، أو لم يكن مخالفة حتى لا يكون مجازا ؟ بينما اتفقوا على انّ تخصيص العام : يوجب المجازيّة .

لكن الظاهر : انّه لا وجه لهذا التفصيل ، فكلاهما امّا يوجب المجازية ، واما لا يوجبها ، اذ أي فرق بين أن يقول : أحلّ البيع ، أو أحلّ البُيوع ، في تقييد أو تخصيص ذلك ، بغير الغرريّ ، وتفصيل الكلام في محله .

والحاصل : ان الأحكام التي تُستَفاد من إطلاقات الكِتاب والسُنّة ، لا يُصدق على الأخبار التي تقيّدها : انها مخالفة للاطلاقات .

مثلاً : يستفاد من إطلاق « أقيموا الصلاة » : عدم تقيدها بالساتر ، لكن لا يصدق انّ هذا الحكم موجود في القرآن الكريم ، كما لا يصدق على الخبر الدّال على تقييدها : بالساتر : انه مخالف للكتاب ، حتى يطرح هذا الخبر المقيد ، لاجل الأخبار الآمرة بطرح مخالف الكتاب .

( بل هو ) أي : هذا التقييد ( مفسّر ) للمطلق القرآني ( خصوصا على المختار : من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد ) فانّ جماعة ذهبوا : الى انّ المطلق اذا قيّد ، لم يسبّب ذلك مجازيته ، لأنّ للمطلق والمقيّد كلاهما لفظ واحد ، وانّما المطلق : فيما اذا لم يقيد من الخارج ، والمقيد : فيما اذا قيد من الخارج .

ص: 220

فان قلت : فعلى أيّ شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح مخالف الكتاب ؟ فانّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كليّةً حملٌ على فرد نادر بل معدوم ، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمامُ الذي عرفته في الأخبار .

------------------

وعلى أي حال : فالتقييد ليس يوجِب المجازية ، فاذا لم يوجب المجازية ، فالمطلق باقٍ على حقيقته ، واذا كان المطلق حقيقة،لم يكن دليل التقييد يعدّ مخالفا .

وهذا القول ، في قبال القول الآخر ، الذي يرى : مجازية المطلق اذا قيّد ، لانّ المطلق ظاهر في الاطلاق، فتقييده يسقط ظهوره ، واسقاط الظهور يوجب المجازية .

( فان قلت : ) اذا لم تكن الأخبار المقيّدة والمخصّصة لعمومات الكتاب والسُنّة ، مشمولة للروايات التي تدُل : على إنّ مخالف القرآن لا يعمل به ( فعلى أيّ شيء تُحمَل تلك الأخبار الكثيرة ، الآمرة بطرح مخالف الكتاب ) أو الآمرة بطرح مخالف السنّة ( فانّ ) تلك الأخبار ، لا يمكن حملها على المخالف للكتاب والسنّة ، بنحو التباين الكلي .

اذ ( حملها على طرح ما يباين الكتاب كلّية ، حمل على فردٍ نادرٍ ، بل معدوم ) رأسا ، فانه لم يكن في الأخبار ، روايات تناقض الكتاب ، أو السنّة المعلومة ، تناقضا صريحا .

وعليه : ( فلا ينبغي ) للأئمة عليهم السلام ( لأجله ) أي لاجل ذلك الأمر النادر ( هذا الاهتمام ، الذي عرفَتهُ في الأخبار ) الكثيرة القائلة : بأن الخبر المخالف للكتاب والسنّة لا يُعمَل به ، وانّه زخرف وباطل ، وما أشبه ذلك .

ص: 221

قلت : هذه الأخبار على قسمين :

منها ما يدلّ على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم السلام وإن المخالف لهما باطلٌ، وانّه ليس بحديثهم .

ومنها : ما يدلّ على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم السلام ، إذا خالف الكتاب والسنّة .

أمّا الطائفةُ الاولى ، فالأقرب حملُها على الاخبار الواردة

------------------

( قلت : هذه الأخبار ) الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب ، أو السنّة المعلومة (على قسمين ) :

القسم الاول ( منها : ما يدلّ : على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم السلام ) اطلاقا، فالخبر المخالف وإن نُسب إليهم، فليس منهم ، فلقد اعتاد بعض المخالفين من تلفيق الخبر ، ثم نسبته اليهم عليهم السلام .

( وانّ المخالف لهما ) أيّ : للكتاب ، والسنّة المعلومة ( باطل ، وانّه ليس بحديثهم ) ولا بحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، حيث قد أكثَروا مِن الكذب عليه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حياته ، حتى قال : « قَد كَثُرت عَليّ الكَذابَة ، فَمَن كَذَّبَ عَلَيّ مُتَعَمّدا ، فَلْيَتَبَوأ مَقعَدَهُ مِنَ النّارِ » (1) .

( و ) القسم الثاني : ( منها : ما يَدُلّ : على عدم جواز تصديق الخبر المحكي عنهم عليه السلام ، اذا خالف الكتاب ، والسنّة ) المعلومة .

( أمّا الطائفة الأولى : ) الدالّة على عدم صدور مثل هذه الأخبار عنهم عليهم السلام ( فالأقرب ) الى التأمّل ( : حملها على الأخبار ) المباينة للكِتاب والسنّة ( الواردة

ص: 222


1- - الخصال : ص255 ح131 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .

في اصول الدين ، مثل مسائل الغلوّ والجبر والتفويض التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ، وهذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع ، لأنّها اخذت عن الاصول

------------------

في اصول الدّين ، مثل : مسائل الغلوّ ، والجبر ، والتفويض ) والتجسيم والتشبيه ، وما الى ذلك ( التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ) الناهية عن ذلك .

فالآيات ، مثل قوله عزّ وجلّ : « تعالى اللّه ُ عَمّا يُشرِكون » (1) حيث انّه خلاف الغلوّ .

وقوله تعالى : « قائِمٌ عَلى كُلّ نَفس بِما كَسَبَت » (2) حيث انه خلاف التفويض .

وقوله سبحانه : « إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ ، إمّا شاكِرا وإمّا كَفورا » (3) فانه خلاف الجَبر .

وقَوله تَعالى : «لَيسَ كَمِثلِه شيء» (4) حيث انه خلاف التجسيم والتشبيه، الى غير ذلك .

إذن : فالروايات الواردة في اصول الدين الدالة على مثل الغلوّ وما أشبه تُخالف الكتاب ، ولهذا فهي : زخرف وباطل ، ويجب ان يضرب بها عرضَ الحائط ، وانهم لم يقولوها ، وانها ليست من كلامهم ، ولا من حديثهم ، والى غير ذلك .

( وهذه الأخبار ) التي ذكرناها : من إنها وردت في الغلوّ ، والجَبر ، والتفويض ، وما أشبه ذلك كثيرة إلاّ إنها ( غير موجودة في كتبنا الجوامع ) الأربعة وغيرها ( لأنّها ) أي : هذه الجوامع ، من الفقيه ، والاستبصار ، والتهذيب ، والكافي ( اُخذت عن الاصول ) الأربعمائة ، بل وغيرها أيضا ، ممّا ثبت إنتسابها إلى

ص: 223


1- - سورة النمل : الآية 63 .
2- - سورة الرعد : الآية 33 .
3- - سورة الانسان : الآية 3 .
4- - سورة الشورى : الآية 11 .

بعد تهذيبها من تلك الأخبار .

وأمّا الثانيةُ : فيمكنُ حملها على ما ذكر في الاولى ، ويمكن حملُها على صورة تعارض الخبرين كما يشهد به موردُ بعضها ،

------------------

أصحاب الأئمة عليهم السلام ( بعد تهذيبها من تلك الأخبار ) الباطلة .

فانّ الاصول الأربعمائة وغيرها ، قد هُذِّبَت من بين الأخبار ونُقّحت ، بحيث أصبحت اصولاً نظيفة ، فجُمِعَ منها المجاميع المعتمدة لدى الشيعة الى يومنا هذا .

بل يمكن أن يقال : انه كانت هناك أخبار اُخر ، في الاصول ، بل وفي الفروع أيضا، مخالفة للقرآن ، والسنّة المعلومة ، مثل : خبر « سيّدا كهولِ أهلِ الجَنة ، وسِراجا أهل الجَنة » مقابل : « الحَسَنِ والحُسَينِ سَيّدا شَباب أهلِ الجَنّة » (1) ، ومثل الطّلاق يجوز بدون شهود عدول ، وانه يقع ثلاثا في مجلس واحد ، وما أشبه ذلك .

ولا يخفى : ان السنّة المعلومة دلّت على ان الجنة لا تحتاج الى سراج ، وليس فيها الاّ الشباب ، كما ان القرآن يقول : بلزوم الشهود في الطّلاق ، وانّ اللاّزم ثلاث منفصلات ، الى غير ذلك (2) .

( وأمّا ) الطائفة ( الثانية : ) الدّالة على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم السلام اذا خالف الكتاب والسنّة ( فيمكن حملها على ماذكر في الاولى ) ايضا : من انها في الاخبار الواردة في اصول الدين ( ويمكن حملها على ) مطلق المخالفة في ( صورة تعارض الخبرين ، كما يشهد به مورد بعضها ) .

فانّ بعض الأخبار الدّالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، انّما وَرَدَ

ص: 224


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص179 ب2 ح5404 .
2- - للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الفقه : ج69 - 70 للشارح .

ويمكنُ حملُها على خبر غير الثقة ، لما سيجيء من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة .

هذا كلّه في الطائفة الدالّة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة .

وأمّا الطائفةُ الآمرةُ بطرح ما لا يوافق الكتابَ او لم يوجد عليه شاهدٌ من الكتاب والسنّة .

------------------

في باب المتعارضين ، كما في خبر عمر بن حَنظَلة ، حيث يقول الرّاوي : « فان كان الخَبران عَنكم مشهورَين ، قد رَواهُما الثقاة عَنكم ، قال : يُنظَرُ فَما وافَق حُكمَهُ حُكمَ الكِتاب والسنّة ، وخالف العامّةَ فَيُؤخَذُ بهِ ، ويُترَكُ ما خالف حكمَه حُكمَ الكِتابَ والسنّة ، ووافق العامّة » (1) .

( ويمكن حملها على ) مُطلق المخالفة ، كما في الحملين الاولين ، لكن في ( خبر غير الثقة ، لما سيجيء : من الأدلّة على إعتبار خبر الثقة ) فقط ، فيكون المراد من المخالفة على هذا : مطلق المخالفة سواء كان بالعموم المطلق ، أو من وجه ، أو الاطلاق والتقييد ، أو التباين ، لأنّ خبر غير الثقة ليس بحُجّة .

لكن ، لا يخفى بُعد هذا الحمل ، لأنّ ظاهر هذه الأخبار : عدمُ العمل بالمخالف بما هوَ مُخالف ، لا من جهة أخرى ( هذا كلّه في الطائفة ، الدّالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، وأمّا الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق الكتاب ، أو لم يوجد عليه شاهد من الكِتاب والسنّة ) مثل ما رواه الحُسين بن أبي العلاء : « انه حَضَر إبن أبي يعفور في هذا المجلس ، قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عَنِ إختلافِ الحَديث ، يَرويهِ مَن نَثِقُ بهِ ، ومِنهُم من لا نِثِقُ به ؟ .

ص: 225


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فالجوابُ عنها - بعد ما عرفتَ من القطع بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم السلام ، كما دلّ عليه روايتا الاحتجاج والعيون ، المتقدّمتان المعتضدتان بغيرهما من الأخبار - أنّها محمولة على ما تقدّم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ،

------------------

قال : إذا وَرَد عَليكُم حَديثٌ ، فوَجدتُم له شاهدا مِن كتاب اللّه ، أو من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فخذوا به ، وإلاّ فالذي جائكم به أولى به » (1) .

( فالجواب عنها - بعد ما عرفت : من القطع بصدور الأخبار غير الموافقة لِما يوجد في الكتاب منهم عليهم السلام ، كما دلّ عليه ) أي : على صدور الأخبار ، التي لا يوجد مضمونها في الكتاب والسنّة ( روايتا : الاحتجاج ، والعيون ، المتقدّمتان المعتضِدتان بغيرهما من الأخبار ) الدّالة على انّ بعض الأحكام الفرعيّة ليست موجودة في الكتاب والسنّة بصورة خاصة ، فيكون الجواب ( : انها محمولة على ما تقدّم في الطائفة) الأولى (الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة) المعلومة.

فانا نقطع بصدور أخبار كثيرة عنهم عليهم السلام ، غير موافقة للكتاب والسنّة ، بمعنى : انّها مخصّصَة أو مقيّدة لعمومات الكتاب والسنّة - على ما تقدّم الالماع الى ذلك - بحيث انّا لو لم نعمل بهذه الأخبار لزم إنحصار الحجّة في الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولَزِمَ من ذلك تعطيل كثير من الأحكام .

وعليه : فلابدَّ من حمل أمثال هذه الأخبار ، على بعض المحامل المتقدّم ة في الطائفة الاولى الآمرة بطرح ما يُخالف الكتاب والسنّة ، من : انّها واردة في اصول الدين ، أو في صورة التعارض ، أو في خبر غير الثقة ، أو حتى في فروع الدّين

ص: 226


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص110 ب9 ح33344 ، الكافي اصول : ج1 ص69 ح2 وليس فيه (فخذوا به) .

وانّ ما دلَّ منها على بطلانِ مالم يوافق وكونِه زخرفا محمولٌ على الأخبار الواردة في اصول الدين ، مع احتمال كون ذلك من أخبارهم الموافقة للكتاب والسنّة على الباطن الذي يعلمونه منها ،

------------------

أيضا - كما أشرنا إليه سابقا .

إذن : فالطائفة الثانية ، التي تدلّ على طَرحِ ما لا يُوافِق الكِتاب تكون أيضا عَلى قِسمين :

القسمُ الأوّل : ما يُحمَل على المحامل الثلاثة التي حملنا عليها الطائفة الأولى ، الدالّة على طرح مخالف الكتاب ، وهي : إنها في اصول الدين ، أو إذا كان الخبر غير ثقة ، أو في صورة التعارض .

القسم الثاني : من الطائفة الثانية ، ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وانّ ما دلّ منها على بطلان ما لم يُوافِق ، وكونه زُخرفا ، محمول ) على أحد أمرين :

الأول : ( على الأخبار الواردة في اصول الدين ) .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( مع إحتمال كون ذلك من أخبارهم ، الموافقة للكتاب والسنّة على ) حسب المعنى ( الباطن ، الذي يعلمونه ) أي : يعلمون ذلك الباطن (منها ) أي : من الآيات .

وهذا إحتمال رابع في الطائفة الثانية ، فنحن مأمورون أن نطرح هذه الطائفة ، لكن من المُحتمل أن يكون الأئمة عليهم السلام ، يَرَونَ هذه الطائفة موافقة للقرآن الكريم .

والحاصل : انّ الطائفة الثانية أيضا كالطائفة الاولى على قسمين ، ويُحمَل كلُّ قسم منهما ، على ما حُمِلَ عليه قِسما الطائفة الاولى ، مع زيادة محتمل آخر من الطائفة الثانية ، أشار إليها بقوله : « مع احتمال كون ذلك ... » .

ص: 227

ولهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها ؛ وما دلّ على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهدٌ من كتاب اللّه على خبر غير الثقة او

------------------

( ولهذا ) الذي ذكرناه : من إن الخبر ربّما يكون موافقا للقرآن بحسب الباطن ، الذي يعلمه المعصوم عليه السلام ، وان لم يكن موافقا للقرآن بحسب الظاهر في نظرنا ، إلاّ إننا مأمورون بطرح مثل هذا الخبر ، لئلا يتخذ الناسُ القرآنَ وسيلةً لمآرِبهم في

تأويل آياته كما يشاؤون .

ويؤيد هذا الاحتمال إن الائمة عليهم السلام ( كانوا يستَشهِدون ) على بعض الاحكام الشرعية ( كثيرا ، بآيات لا نفهم دلالتها ) بحسب الظاهر .

مثل استشهادهم عليه السلام بآية : « وانّ المَساجِدَ للّه ِ ... » (1) على : عدم قطع كَفّ السّارق ، وانّما الأصابع الأربعة فقط ، مع إنها لا دلالة فيها بحسب الظاهر في نظر البعض ، وانّما استشهَد بها الامام عليه السلام لعلمه بباطن الآية ، حيث كان يعلم ما أراد اللّه تعالى منها .

ومثل إستشهادِهم عليه السلام بآية النّور ، على انّ المراد بها : هم الائمة الطاهرون عليهم السلام .

ومثل استشهادهم بالآية « وَقالَ الانسانُ مالَها » (2) على ان المراد بالانسان : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، الى غير ذلك ممّا يجده الانسان بكثرة ، في تفسير الآيات وتأويلها (3) .

( و ) كذا يمكن حمل ( ما دلّ ) من الأخبار ( على عدم جواز تصديق الخبر ، الذي لا يوجد عليه شاهد من كتاب اللّه : على خبر غير الثقة ، أو

ص: 228


1- - سورة الجن : الآية 18 .
2- - سورة الزلزلة : الآية 3 .
3- - للمزيد راجع تقريب القرآن الى الأذهان للشارح .

صورة التعارض ، كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة .

ثمّ إن الأخبار المذكورة على فرض تسليم دلالتها وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ، فانّها موجبة للقطع بحجّية خبر الثقة ، فلابدّ من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار .

------------------

صورة التعارض كما هو ) أي : عدم جواز تصديق ما لا يوجد عليه شاهد في الكتاب ( ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة ) .

ولا يخفى وجود التشويش فيما ذكره المصنّف : من التقسيم ، وفي المحامل ، ولعلّ الأقرب من كلّ ذلك ، هو : انهم عليهم السلام قالوها في مورد الأخبار الدخيلة ، حيث أرادوا بها تنقيح أخبارهم عليهم السلام منها .

وأمّا ما وصل بأيدينا ، من المجاميع المؤلفَة من الأصول ، فلا يوجد فيها شيء من تلك الأخبار الدخيلة .

( ثم انّ الأخبار المذكورة ) الدالّة على عدم العمل بالخبر المخالف للكتاب ، أو غير الموافق له ، اذا قلنا بشمولِها لمثلِ العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، فانه ( على فرض تسليم دلالتها ) على المنع ، وتسليم سندها ، حيث انّ سند جملة منها غير نقيّ ، فانّها ( وان كانت كثيرة ، إلاّ انّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ) الدالّة على حجّية خبر الواحد مطلقا ، فيما اذا تم فيه السّند ، والدلالة ، وجهة الصدور .

( فانّها ) أي : تلك الأخبار الكثيرة ، الدالّة على العمل بالخبر الواحد ( موجِبَة للقطع بحجّية خبر الثقة ) مع إجتماع سائر الشرائط ( فلا بدّ من ) إرتكاب ( مخالفة الظاهر في هذه الأخبار ) ، الدالّة على المنع .

والحاصل : انّا ان تمكّنّا من حمل هذه الأخبار المانعة على ظاهرها ، بحيث لا تكون منافية للأدلّة المجَوزَة ، فهو ، وإلاّ إضطررنا الى التأويل في الأخبار المانعة

ص: 229

وأمّا الجوابُ عن الاجماع : الذي ادّعاه السيّد والطبرسيّ ، فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماعُ ، والاعتماد على نقله تعويلٌ على خبر الواحد مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الاجماعَ على حجّية خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة

------------------

لئلا نطرح الأدلة المجوزة ، التي هي مقطوعة سندا ودلالة ، وجهة في الجملة .

( وأمّا الجواب عن الاجماع الذي إدعاه السيّد والطبرسيّ ) على عدم العمل بالخبر الواحد ( فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماع ) ولم يكن محصّلاً بالنسبة الينا ، اذ لم نجد من العلماء من يقول : بعدم العمل بالخبر الواحد ، الاّ نادرا .

( و ) اما ( الاعتماد على نقله ) اي : نقل الاجماع بأن نقول : انّه اجماع منقول والاجماع المنقول حجّة ، فانه ( تعويل على خبر الواحد ) اذ السيّد والطبرسيّ يَخبِر ان بالاجماع ، وخبرهما خبر واحد ، ولا يجوز الاعتماد على خبر الواحد ، في إثبات حجّية خبر الواحد ، لأنّه من قبيل ما يستلزم من وجوده عدمه ، وذلك محال ، لأنّ الوجود والعدم متناقضان ، فلا يجتمعان في حال واحد .

( مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ ) فانّ دعوى السيّد والطبرسيّ : الاجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، معارض بدعوى شيخ الطائفة : الاجماع على حجّية الخبر الواحد .

( المعتضدة ) تلك الدعوى من الشيخ ( بدعوى جماعة اُخرى : الاجماع على حجّية خبر الواحد في الجملة ) .

وعلى تقدير حجّية الاجماعين المتعارضين يقع بينهما التعارض ويتساقطان ، فلا يكون إجماع في حجّية خبر الواحد ، كما لا يكون إجماع في عدم حجّيته .

( و ) كذا ( تحققِ الشهرة ) يعني : إنّ دعوى الشيخ : الاجماع على حجّية خبر

ص: 230

على خلافها بين القدماء والمتأخّرين .

وأمّا نسبةُ بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ ، عدم الحجّية الى الرافضة ، فمستندة إلى ما رأوا من السيّد من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة .

------------------

الواحد ، معتضدة أيضا بتحقق الشهرة على الحجّية ، وهذه الشهرة ( على خلافها ) أي : خلاف دعوى السيّد والطبرسيّ ، متحَقّقَة ( بين القدماء والمتأخرين ) ممّا تدلّ على حجّية خبر الواحد .

فان قلت : فكيف إذن ينسِب العامة الى الشيعة : عدم حجّية الخبر الواحد ؟

قلت : ( وأمّا نسبة بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ ) وهما من أعلام السنّة في الاصول ( عدم الحجّية الى الرّافضة ) - والمراد بالرافضة : الشيعة ، لأنهم رفضوا خِلافَة الّذين تقدّموا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولهذا يُعبّر العامة عنهم بالرّافضة ( فمستَنِدةٌ الى ما رأوا من السيّد ) المرتضى ( من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب : على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة ) في عدم العمل .

فنسبتهم ذلك الى الشيعة ، لا لانهم وجدوا مشهور الشيعة لا يعملون بالخبر الواحد ، وإنما لانهم وجدوا ذلك في كتاب السيّد المرتضى ، فلا يبقى بَعدَ ذلك دلالة في نسبتهم تلك الى الشيعة .

* * *

ص: 231

حجة المجوزين

اشارة

وأمّا المجوّزون ، فقد استدلّوا على حجّيّته بالأدلّة الأربعة .

أمّا الكتابُ :

فقد ذكروا منه آياتٍ ادّعوا دلالتها .

منها قوله تعالى في سورة الحجرات : « ياأيُّها الذّينَ آمَنوا إن جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيّنوُا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةٍ فتُصبِحُوا على مافَعَلتُمْ نادِمِينَ » .

والمحكيّ في وجه الاستدلال بها

------------------

حجة المجوزين

( وأمّا المجّوزون ) للعمل بالخبر الواحد ، وهم المشهور قديماً وحديثاً ( فقد استدلّوا على حجّيته ) أي : حجّية الخبر الواحد ( بالأَدلّة الأربعة ، أمّا الكتاب فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها ) وإِن كان في دلالة بعضها نظر .

( منها : قوله تعالى في سورة الحجرات « ياأَيُّها الّذِينَ آمَنوا إِن جَائَكُم فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَنوُا ، أَنْ تُصِيبوُا قَوماً بِجَهالَةٍ ، فتُصبِحوُا عَلى مافَعلتُم نادِمينَ») (1) .

وقد ذكر المؤرخون والمفسّرون في نزول هذه الآية : انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بعث الوليد بن عُتبَة ، الى قَبيلة بني المصطَلق لجمع الصدقات ، فلمّا رأُوهُ إِستقبلوه فظنّ إِنهم أَرادوا قتله ، فعاد الى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأخبر : إنهم إِرتدوّا عن دينهم ، فأراد النبي تجهيز الجيش وقِتال بني المصطلق ، فنَزَلت هذه الآية .

( والمحكي في وجه الاستدلال بها ) أي : بآية النبأ ، كما ذكره المصنّف

ص: 232


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وجهان : أحدُهما : أنّه سبحانه علّق وجوبَ التثبّت على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه عملاً بمفهوم الشرط ، وإذا لم يجب التثبّتُ عند مجيء غير الفاسق ، فامّا أن يجبَ القبول ، وهو المطلوب ، أو الردُّ وهو باطل ، لأنّه يقتضي كون العادل أسوء حالاً من الفاسق ، وفسادُه بيّنٌ .

------------------

(

وجهان ) : ( احدهما : ) مفهوم الشرط ، وبيانه : ( انه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجَيء الفاسق ) بمعنى : إِنَّه جَعل مَجيء الفاسِق شرطاً لوجوب التبيّن والتثبّت ( فينتفي ) وجوب التثبّت والتبيّن ( عند انتفائه ) أي : عند انتفاء مجيء الفاسق ، فاذا جاء الفاسق بالنبأ وَجَب التَبيّن ، واذا لم يجيء الفاسق بأن جاء العادل ، فلا تبيّن لخبره ، وذلك ( عملاً بمفهوم الشرط ) وقد ثبت في محله : ان مفهوم الشرط حجّة ( واذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق ) بأن جاء العادل بالخبر ( فامّا أن يجب القبول ) بلا تبيّن ، فانه اذا جاء الفاسق بالخبر نتبيّن ، فان كشف لنا صدقه عملنا به ، والاّ لَمْ نَعمل به .

وأَمّا اذا جاء العادل بالخبر ، فانه نقبل خبره ونعمل به بلا تبيّن ( وهو المطلوب ) لمن قال : بأنّ خبر الواحد حجّة ، وإِنّ حجّيته لمفهوم الشرط المستفاد من هذه الآية المباركة .

( أو الردّ ) بلا تبيّن ، فاذا جاء الفاسق ، تبيّنا عن خبره ، واذا جاء العادل ، رَدَدنا خَبره بلا تبيّن ( وهو ) أي الردّ بلا تبيّن ( باطل ) قطعاً ( لأنّه يقتضي كون العادل ، أَسوءُ حالاً من الفاسق ، وفسادُه بَيّن ) لأنه وجَبَ التّبيّن في خبر الفاسق ، بينما قد رددنا خبر العادل رأساً بلا تبيّن ومن دون عمل .

وحيث ان الأَسوئية في خبر العادل مقطوع العدم ، فاللاّزم أن نقول : بان مفهوم الآية هو : قبول خبر العادل بلا تبيّن .

ص: 233

الثاني : أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان ، ذاتيّ وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ وهو كونه فاسقاً .

ومقتضى التثبّت هو الثاني ، للمناسبة والاقتران ، فانّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل ، للعلّية ،

------------------

( الثاني : ) من وجهي الاستدلال بالآية لقبول خبر العادل ، مفهوم الوصف ، وبيانه : ( أنّه تعالى أَمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق وقد إِجتمع فيه ) أي : في إِخبار الفاسق ( وصفان : ذاتيّ : وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ : وهو كونه ) أي كون : هذا الواحد الذي جاء بالخبر ( فاسقاً ) .

لوضوح : انّ الوحدة وصف ذاتي ، لأنّه لايمكن تفكيك الموصوف عن هذا الوصف ، بينما الفسق وصف عرضيّ ، لأنّه يمكن إِنفكاكه عنه ، بأن يكون الواحد عادلاً ، لا فاسقاً ( ومقتضى التثبّت ، هو : الثاني ) أي : لأجل أنّه فاسق ، يجب التثبّت في خبره ، وذلك ( للمناسبة والإِقتران ) .

أمّا الاقتران : فلأن الفسق والتثبّت ذُكِرا معاً ، حيث قال تعالى : «إن جَائَكُم فاسِقٌ بنَبأ فَتَبيّنوا» (1) ولم يقل : إن جائكُم واحد ، فيظهر : ان التبيّن لكونه فاسقاً ، لا لكونه واحداً ، فهو مثل صلَّ خَلفَ العادل ، حيث يظهر منه : ان العدالة وجه الائتمام ، لا إنّه انسان ، وإلاّ لزم ان يقول : صلَّ خلف الانسان .

وأمّا المناسبة : فقد أشار إليه المصنّف بقوله : ( فانّ الفسق يناسب عدم القبول ) حيث ان العُرف يرى : الفسق ، هو : المناسب لعدم قبول الخبر ، لا الوحدة .

وعليه:( فلا يصلح الأوّل ) وهو الوحدة ( للعلّية ) أي : لعلّية التثبّت ، لأن التثبّت أمّا مرتبط بالوحدة ، وإمّا مرتَبط بالفِسق ، وحيث تبيّن : أنّ الوحدة لاتكون عِلّة ،

ص: 234


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وإلاّ لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليلُ بالذاتيّ الصالح للعلّية ، اولى من التعليل بالعرضيّ ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكمُ قد حصل قبل حصول العرضيّ .

------------------

كان الفِسق هو العلّة للتثبّت .

( وإلا لَوَجَب الإستناد إليه ) أي : إلى الأَول ، فانه إن كانت الوحدة صالحة للعلّية ، لكان الواجب أن يقول : إِن جائكم واحد فتبينوا ( اذ التعليل بالذاتي ) كالوحدة فيما نحن فيه ( الصّالح للعلّية ، أَولى من التعليل بالعرضيّ ) كالفِسق فيما نحن فيه ( لحصوله ) أي الذاتي وهو الوحدة ( قبل حصول العرضي ) وهو الفِسق ( فيكون الحكم ) بوجوب التَبيّن لو كان علّة التبيّن هو الذاتي ( قد حصل ، قبل حصول العرضي ) ، فيلزم تعليل وجوب التبيّن بالوحدة ، لا بالفسق .

وذلك لأنه إذا كان هناك علّتان : علّة ذاتيّة ، وعلّة عرضيّة ، نُسب المعلول الى العلّة الذاتية ، لا الى العلّة العرضيّة ، فاذا كان شخص يكره شخصاً - مثلاً - لأمرين :

الأول : كونه فلاناً .

الثاني : كونه سيء الأدب .

كان عليه ان يقول : اني اكرهه لكونه فلاناً لا أن يقول : اني أكرهه لأنه سيء الأدب ، اذ لو قال : أني أكرهه لسوء أَدبه ، قيل له : أنت تكرهه وان كان حسن الأدب ، فتعليلك الكراهة بسوء الأدب ، في غير موضعه .

وإن شئت قلت : أنّ النسبة تكون لسابق العلّتين ، لا للاحقهما ، ولذا ينسب الى عدم المقتضيّ دون المانع ، إذا إجتمع الأَنان في شيء .

مثلاً : اذا لم يحترق القطن لأنّه لا نار ، وكان القطن رطباً ، يقال : لم يحترق لأنّه

ص: 235

وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الرّد ، فيكون حاله أسوءَ من حال الفاسق ، وهو محال .

أقول : الظاهر أنّ أخذهُم للمقدّمة الأخيرة - وهي أنّه إذا لم يجب التثبّت وجب القبول ، لأنّ الرّد مستلزم لكون العادل أسوء حالاً من الفاسق - مبنيٌّ على مايُتَراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسيّ ، فيكون هنا اُمور ثلاثة ، الفحص عن الصدق والكذب ،

------------------

لا نار ، ولايقال : لم يحتَرِق لأنه رَطب .

( واذا لم يجب التثبّت عند إِخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول ) عند مجيء العادل بالخبر ، بدون تبيّن ( وهو المطلوب ) لأنه يدّل على إِن خبر العادل حجّة .

( أو الرّد ) بلا تبيّن ، بأن نرّد خبر العادل بدون فحص عن صدقه وكذبه ( فيكون حاله ) أي : حال العادل ( أَسوء من حال الفاسق وهو محال ) ولايراد به : الإِستحالة العقليّة ، وإِنّما الاستحالة عند العقلاء ، إِذ كيف يَحقُ للعاقل أن يفحص عن خبر الفاسق ، بينما خبر العادل يرده رأساً بلا فحص؟ .

( أقول : الظاهر : إِنَّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ) في كل من إِستدلالهم بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ( وهي : انّه اذا لم يجب التثبَّت ، وجب القبول ) بلا تثبّت ولاتبيّن ( لأنّ الرّد ) بدون التثبّت والتبيّن ( مستلزم لكون العادل ، أَسوء حالاً من الفاسق ) .

فان أَخذِهم هذه المقدمة ، تتمة للاستدلال بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ( مبني على مايترائى من ظهور الأَمر بالتبيّن : في الوجوب النفسي ) وإِذا كان الأمر بالتبيّن واجباً نفسياً( فيكون هنا أمور ثلاثة ) :

الأول : ( الفحص عن الصدق والكذب ) في خبر العادل ، وهو منفيّ بالآية .

ص: 236

والردّ من دون تبيّن ، والقبول كذلك .

لكنّك خبير بأنّ الأمر بالتبيّن مسوق لبيان الوجوب الشرطيّ وأنّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل ، فالعملُ بخبر العادل غيرُ مشروط بالتبيّن ، فيتمّ المطلوبُ من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة ، وهي كون العادل أسوء حالاً في الفاسق . و

------------------

( و ) الثاني : ( الرّد من دون تبيّن ) وهو منفي بالأَسوَئية .

( و ) الثالث : ( القبول كذلك ) أي : من دون تبيّن ، وهو المتعين .

( لكنَّك خبير : بأن الأَمر بالتبيّن ، مَسوق لبيان الوجوب الشرطي و ) معنى الوجوب الشرطي : ( انّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق ، دون العادل ، فالعمل بخبر ) الفاسق اِنما يكون بعد التبيّن ، أمّا العمل بخبر ( العادل ) فانه ( غير مشروط بالتبيّن ) .

فهنا شيئان فقط - لا ثلاثة أشياء - اذ وجوب التبيّن ليس نفسيّاً ليحتاج الى مقدمة خارجية ، بل هو مقدمة العمل مما يضطر اليه ، لأن الآية مسوقة لبيان العمل ، فخبر العادل إِمّا أن يُعمَل به بدون التبيّن ، أو لا يُعمل به اطلاقاً ، فيكون حاصله أَولاً منطوقاً :- ان العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن ، وثانياً مفهوماً : إِنّ العمل بخبر العادل لايشترط فيه التبيّن ، بل يعمل بخبره رأساً ، فلايكون هناك ثلاثة أُمور حتى يحتاج الى المقدمة الخارجية .

( فيتم المطلوب ) وهو وجوب العمل بخبر العادل ( من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة و ) المقدّمة الخارجيّة ( هي كون العادل أسوَء حالاً من الفاسق ) .

( و ) ان قلت : من أين استَظهَرتُم انّ المراد : الوجوب الشرطي - لا الوجوب النفسيّ - ليكون الأمر دائراً بين العَمل وترك العمل ، مما لايحتاج الى المقدمة

ص: 237

الدليل على كون الأمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطيّ لا النفسيّ- مضافاً إلى أنّه المتبادر عرفاً في أمثال المقام وإلى أنّ الاجماع قائمٌ على عدم ثبوت الوجوب النفسيّ للتبيّن في خبر الفاسق ، وإنّما أوجبه من أوجبه ، عند إرادة العمل به ، لا مطلقاً- هو أنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : « أن تصيبوا...الخ » ، لايصلحُ أن يكون تعليلاً للوجوب النفسيّ ، لأنّ حاصله يرجعُ إلى أنّه لئلاّ تصيبوا قوماً

------------------

الخارجيّة ؟ .

قلت : ( الدليل على كون الأَمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطي لا النفسي مضافاً الى أنّه ) أي : الوجوب المقدمي هو ( المتبادر عرفاً في أمثال المقام ) كما في مثل تبينوا ، أو إِعلموا ، أو تجسسوا ، أو تحسسوا ، أو ما أشبه ، فانها عُرفاً مقدمة للعمل .

نعم ، في الأمور الأعتقادية إذا قيل : تبيّنوا ، أو إعلموا ، أو ماأشبه ، كان المراد به : مجرد الأعتقاد بدون عمل خارجي .

( و ) كذا مضافاً ( إلى أنّ الاجماع ، قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق ) بل وجوب التبيّن مقدميّ لأجل العمل .

( وإنّما أوجبه ) أي : التبيّن ( من أوجبه ، عند إرادة العمل به ) أي : بالخبر ( لا مطلقاً ) .

فمضافاً الى هذين الأَمرين ، إِن عُمدَة الدليل على كون وجوب التبيّن مقدّمي ، لا نفسي ( هو : انّ التعليل في الآية بقوله تعالى : « أن تصيبوا » الخ لايصلح أن يكون تعليلاً للوجوب النفسي ) وانّما يصلح لان يكون تعليلاً للوجوب الشرطي ، الذي نحن نقول به ، ممّا يدور الأمر بين أمرين ، لابين ثلاثة أُمور .

وذلك ( لأنّ حاصله ) أي : حاصل التعلّيل ( يرجع الى انّه لئلا تُصيبوا قوماً ،

ص: 238

بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد تبيّن الخلاف . ومن المعلوم أنّ هذا لايصلحُ إلاّ علّة لحرمة العمل بدون التبيّن . فهذا هو المعلول ، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن .

مع أنّ في الأولوية المذكورة في كلام الجماعة ، بناءا على كون وجوب التبيّن نفسيّاً ، مما لا يخفى ،

------------------

بمقتضى العمل بخبر الفاسق ، فتندموا على فعلِكم بعد تبيّن الخلاف ) لأنهم بسبب خبر الوليد ، أَرادوا قِتال بني المصطلق ، كما سَبَق في وجه نُزول هذه الآية المباركة ، وقوله : « بَعدَ تبيّن » متعلق ، بقوله : « تندموا » لأنّ النَّدم إنَّما يكون بعد التبيّن .

( ومن المعلوم : إنّ هذا ) أي : النَّدم بعد التبيّن ( لايصلح إلاّ علّة لحرمة العمل بدون التبيّن ) فانّه اذا لم يكن عمل ، لم يكن ندم .

( فهذا ) أي : حرمة العمل بخبر الفاسق ، بلا تبين ولاتثبّت ( هو المعلول ) للتبيّن والتثبّت ، فالتبيّن علّة ، وعدم النَّدم معلول ( ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ) لأنّ الأمر دائر بين العمل بالمفهوم أو المنطوق ، فالعمل بالمنطوق يحتاج الى التبيّن ، والعمل بالمفهوم لايحتاج الى التبيّن .

( مع انّ في الأولوية ) أي : أَسوَئية خبر العادل من الفاسق ( المذكورة في كلام الجماعة - بناءاً على كون وجوب التبيّن نفسياً- مما لايخفى ) .

فانّه لايلزم أن يكون خبر العادل أَسوء من خبر الفاسق ، فاذا فرض انّ التبيّن عن خبر الفاسق واجب نفسي ، لامقدميّ لأجل العمل ، لم تدّل الآية على انّ العمل بخبر الفاسق يحتاج إلى التبيّن أم لا ، فيكون خبر العادل والفاسق متساويين من هذه الجهة لسكوت الآية عنهما في صورة إِرادة العمل بواحد منهما .

ص: 239

لأنّ الآية على هذا ساكتةٌ عن حكم العمل بالخبر قبل التبيّن أو بعده ، فيجوز اشتراكُ الفاسق والعادل في عدم جواز العمل قبل التبيّن ، كما انّهما يشتركان قطعاً في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ، لأنّ العملَ حينئذٍ بمقتضى التبيّن لا باعتبار الخبر .

------------------

إذن : فلا يكون العادل أَسوءُ حالا من الفاسق - على ماذكره المستدِل في تفسير الآية ، كما لايكون العمل بقول العادل ، أسوءُ حالاً من العمل بقول الفاسق ( لأنّ الآية على هذا ) أي : بناءاً على إن وجوب التبيّن نفسي في خبر الفاسق ( ساكتة عن حكم العمل بالخبر ) الصادر من العادل في إن العمل به هل هو ( قبل التبيّن أو بعده ) .

وعليه : ( فيجوز ) : أي : يحتمل في خبر العادل وخبر الفاسق ، تساويهما في مقام العمل ، ل- ( اشتراك الفاسق والعادل ، في عدم جواز العمل ) بخبرهما( قبل التبيّن ) فخبر العادل والفاسق متساويان قبل التبيّن في عدم جواز العمل .

( كما انهما يشتركان - قطعاً- في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ) لأنّ الانسان إِذا فحص عن الخبر - سواء كان المخبر عادلاً أو فاسقاً- وتبيّن صدق المخبر جاز العمل بذلك الخبر .

( لأنّ العمل حينئذٍ ) أي : حين العلم بالصدق يكون ( بمقتضى التبيّن ) والعلم ، فاذا علم الانسان بصدق خبر المخبر ، جاز العمل به ، من غير فرق بين أن يكون المخبر عادلاً ، أو فاسقاً ، أو مشكوك الحال .

( لا باعتبار الخبر ) فانّ الخبر بما هو خبر ، حيث كان محتملاً للصدق والكذب ، لايمكن الإعتماد عليه والعمل على طبقه ، وإِنّما باعتبار الصدق بعد التبيّن ، يجوز العمل بالخبر .

ص: 240

فاختصاصُ الفاسق بوجوب التعرّض بخبره والتفتيش عنه دون العادل لا يستلزمُ كون العادل أسوء حالاً ، بل مستلزمٌ لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ، فتأمّل .

------------------

( فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره ، والتفتيش عنه ) أي : عن خبره ( دون العادل لايستلزمُ كون العادل أسوءُ حالاً ) من الفاسق ، لأنه في غير مقام العمل يجب وجوباً نفسيّاً التبيّن عن خبر الفاسق ، ولايجب بالنسبة الى خبر العادل ، وفي مقام العمل هما متساويان ، حيث يحتاج الى التبيّن في خبر العادل وخبر الفاسق معاً .

وبهذا لم يكن مزيّة لخبر الفاسق على العادل ( بل ) العكس ( مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ) فانه إِذا لم يكن يريد العمل وَجَبَ عليه التبيّن في خبر الفاسق ، ولم يجب عليه التبيّن في خبر العادل ، وهذه مزية لخبر العادل ، اذ في التبيّن نوع إِستخفاف ، وربمّا كان مستلزماً لهتك المُخبِر ، فانه في الفاسق يكون التبيّن معرضاً له للهتك ، بينما في خبر العادل لم يجب نفسيّاً التبيّن ، فلايكون العادل معرضاً للهتك .

( فتأمّل ) لعله إِشارة الى إِنّه في غير مقام العمل ، يزداد الأَتناء بخبر الفاسق بسبب التبيّن ، دون خبر العادل الذي يترك بلا تبيّن ، فاذا تبيّن في خبر الفاسق وظَهَر صدقه ، صار ذلك موجباً لإِحترام الناس له ، بإعتبار إنه صادق بينما لايتبيّن عن خبر العادل ، فلايظهر صدقه في خبره ، ممّا يوجب مزيد إِحترام الناس له .

وعليه : فيكون خبر الفاسق ، أولى عند الناس من خبر العادل ، بسبب التبيّن النفسيّ في خبر الفاسق ، وليس هذا التبيّن النفسيّ موجوداً في خبر العادل ، بل وجوب التبيّن فيه شرطيٌّ ومقدمة للعمل .

ص: 241

وكيف كان ، فقد اُورِدَ على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف وعشرين ، إلاّ أنّ كثيراً منها قابلة للدّفع ، فلنذكر ، أوّلاً مالايمكن الذّبُّ عنه ، ثمّ نتبعه بذكر بعض ماأورد من الايرادات القابلة للدّفع .

أمّا ما لا يمكنُ الذبُّ عنه

فإيرادان : أحدُهما : أنّ الاستدلالَ إن كان راجعاً إلى اعتبار مفهوم الوصف أعني الفِسق ، ففيه : أنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف ،

------------------

( وكيف كان ، فقد أُورِدَ على الآية ) أي : على دلالة آية النبأ على حجّية خبر الواحد ( إِيرادات كثيرة ، ربما تبلغ إلى نيف وعشرين ) والنيف : على وزن : « سيّد » مازاد على العقد المذكور ، وهو هنا : عشرين ، حتى يبلغ العقد الآخر : ثلاثين ، فيمكن أن يكون تسع وعشرين ، أو ثمان وعشرين ، أو سبع وعشرين ، وهكذا ( إلاّ إنّ كثيراً منها ) أي : من هذه الايرادات ( قابلة للدّفع ، فلنذكر أولاً مالايمكن الذّب عنه ) ممّا يُوجب الخدشة في دلالة الآية على حجّية خبر الواحد ( ثم نتبعه بذكر بعض ماأُورد من الايرادات القابلة للدّفع ) .

وإنما نقدم الايرادات ، التي لايمكن الذبّ عنها فمن جهة ظهور عدم دلالة الآية على مقصود المجوزين .

مالايمكن الذبّ عنه

( أمّا مالايمكن الذبّ عنه ، فايرادان : أحدهما : إِنّ الاستدلال ، إن كان راجعاً الى إِعتبار مفهوم الوصف ، أعني : الفسق ) ليكون مفهوم «إِن جائكُم فاسِقٌ » : ان جائكم غير الفاسق .

( ففيه : انّ المحقّق في محلّه ، عدم إِعتبار المفهوم في الوصف ) خصوصاً اذا لم يعتمد على الموصوف - كما في الآية المباركة .

ص: 242

خصوصاً في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقّق ، كما فيما نحن فيه ، فانّه أشبهُ بمفهوم اللقب .

------------------

اذ قد يقول : إِن جائكم شخص فاسق ، وهذا مختلف فيه ، بأنه هل يدّل الوصف على المفهوم أم لا ؟ .

وقد يقول : إِن جائكم الفاسق ، فان المشهور عدم المفهوم لمثل هذا الوصف ، وإِنما ذكر الوصف من باب الموضوع ، ومن المعلوم : ان الموضوع لايدّل على طرد سائر المواضيع .

فاذا قال : أَكرم زيداً لم يدل على عدم إِكرام عمرو ، وكذا إِذا قال : أَكرم العادل ، لم يدّل على عدم إِكرام غير العادل ، والى هذا المعنى أَشار بقوله ب- ( خصوصاً في الوصف غير المعتمد على موصوف محقق - كما فيما نحن فيه - ) فانه وإِن كان للوصف موصوف مقدَّر ، لكن مادام لم يكن الموصوف محقّقاً في الكلام ، لم يكن للوصف الذي هو مناط الحكم إِيجاباً وسلباً ، دلالة على عدم الحكم في غير هذا الوصف .

ووجه الخصوصية التي ذكرها المصنّف : انّ الوصف إذا ذُكر مجرداً عن الموصوف ، لايكون قيداً زائداً إِحترازياً ، بل يكون لمجرد بيان الحكم ، فعدم المفهوم له أَظهر ممّا اذا كان الوصف معتمداً على موصوف مذكور .

( فانّه ) أي : الوصف غير المعتمد على الموصوف ( أشبهُ بمفهوم اللّقب ) .

والمراد باللقب : مايتعلق الحكم على الأسم ، كما إذا قال : زيداً أَكرمه ، وعمرواً أضفه ، وما أَشبه . فانه لامفهوم لها حتى يقال : إنّ زيداً أَكرمه ، يكون مفهومه : إن عمرواً لاتكرمه ، أو عمرواً أضفه ، يكون مفهومه : انّ زيداً لاتضفه .

إِذن : فتعليق الحكم على الوصف ، المجرد عن الاعتماد على الموصوف ، حاله

ص: 243

ولعل هذا مرادُ من أجاب عن الآية ، كالسيّدين وأمين الاسلام والمحقّق والعلاّمة وغيرهم ، بأنّ هذا الاستدلال مبنيّ على دليل الخطاب ولانقول به .

وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم والمحكي عن

------------------

حال اللّقب ، في أنه لامفهوم له .

وهذا بخلاف مااذا كان الوصف معتمداً على الموصوف مثل : أَكرم الرجل العالم ، حيث يُستَشَّم منه المفهوم ، ببيان : انه اذا لم يكن له مفهوم ، وانه لايكرم الرجل الجاهل ، لم يكن وجه لتقييد الرجل بالعالم ، فالتقييد يظهر منه : انه يريد إِكرام الرجل العالم فقط لا الرجال الجاهل .

( ولعلّ هذا ) أي : عدم إِعتبار مفهوم الوصف ، وإِن دلالة الآية على حجّية خبر الواحد مبنيّة على حجّية مفهوم الوصف ( مراد من أجاب عن ) دلالة ( الآية ) على حجّية خبر الواحد ( كالسيّدين ) المرتضى ، وإِبن زهرة ( وأمين الاسلام ) الطبرسيّ ، صاحب مجمع البيان ( والمحقّق ، والعلاّمة ، وغيرهم : بأنّ هذا الاستدلال ، مبنيّ على دليل الخطاب ) .

أي : الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر الواحد ، موقوف على إِعتبار مفهوم المخالف في الوصف ، ( ولانقول به ) أي : لانقول بأنّ للوصف مفهوماً ، فلايمكن الاستدلال بالآية ، على حجّية خبر الواحد العادل من جهة مفهوم الآية .

( وان كان ) الاستدلال بالآية المباركة على حجّية خبر الواحد ( باعتبار مفهوم الشرط ) بأن يكون مفهوم «إِن جَائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا» (1) إنّه ان لم يجيء الفاسق ، فلا تتبيّنوا كما إِذا قال : إن جائك زيد فاكرمه ، حيث انّ مفهومه : ان لم يجئك فلاتكرمه ( كما يظهر ) ذلك ( من المعالم ، والمحكي عن

ص: 244


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

جماعة ، ففيه : أنّ مفهومَ الشرط عدمُ مجيء الفاسق بالنبأ ، وعدمُ التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن . فالجملة الشرطيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ،

------------------

جماعة ) من الأصوليين حيث إستدلوا بالآية على مفهوم الشرط ، لامفهوم الوصف .

( ففيه : انّ ) الشرط قد يكون له مفهوم ، وقد لايكون له مفهوم ، فاذا كان للشيء حالتان ، يكون هناك المفهوم على خلاف المنطوق ، أمّا اذا لم يكن للشيء حالتان ، وإِنّما حالة وجود وعدم ، فلايكون له المفهوم .

مثلاً : اذا قال : « الماء إذا بلغ قدر كُرّ ، لم ينجّسه شيء » (1) كان مفهومه : انه اذا لم يبلغ قدر كُرّ ، ينجّسه بعض الأشياء ، لأن الماء موجود في كلا الحالتين : الكريّة ، وعدم الكريّة .

أما إذا كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلامفهوم له ، وكان من قبِيِل : إِذا رُزقت وَلداً فاختِنهُ ، فانه إِذا لم يُرزَق الولد ، فلا محل للاختتان أصلاً .

وما نحن فيه ، من هذا القبيل ، فانه إِذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، فلا خبر حتى يتبيّن عنه أو لايتبيّن ، فان ( مفهوم الشرط ) وهو هنا : عدم وجوب التبيّن ، عند ( عدمُ مجيء الفاسق بالنبأ و ) هو يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، فان ( عدم التبيّن هنا ، لأجل عدم مايتبيّن ) عنه ، لأنه اذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، لم يكن هناك خبر حتى يتبيّن عنه .

إِذن : (فالجملة الشرطيّة هنا) لم يؤت بها لأجل المفهوم ، بل هي ( مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ) أي : موضوع وجوب التبيّن ، فانه إِذا كان هناك خبر فاسق ،

ص: 245


1- - الكافي اصول : ج3 ص2 ح1 وح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

كما في قول القائل : إن رُزقتَ ولداً فاختنه ، وإن رَكِبَ زيدٌ فخُذ ركابه ، وإن قَدِمَ من السفر فاستقبله ، وإن تزوجتَ فلاتُضيّع حقّ زوجتك ، واذا قرأت الدّرسَ فاحفظه .

قال سبحانه : « وإذا قُرِى ء القُرآنُ فَاستَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا » ، و : « إذا حُييّتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحسَنِ منها أو رُدُّوهَا » ،

------------------

تحقق الموضوع للتبيّن ، أما اذا لم يكن خبر ، فلا موضوع حتى يتبين أو لا يتبيّن .

وعليه : فيكون الشرط في الآية المباركة ( كما في قول القائل : إن رُزقت ولداً فاختِنهُ ) فانّ موضوع وجوب الأختتان يتحقّق بالولد ، فاذا لم يكن ولد ، لم يكن موضوع للاختتان ، فليس مفهوم : إِن رزقت ولداً فاختنه ، ان لم ترزق ولداً فلا تختنه .

( و ) كذلك مثل( إن رَكِبَ زيدٌ فخُذ ركابه ) فان وجوب أخذ الركاب ، يتحقّق عند ركوب زيد ، وليس له مفهوم ، بأنّه : ان لم يركب فلا تأخذ ركابه ، لوضوح انّه إن لم يركب فلا ركاب له ، حتى يؤخذ أو لايؤخذ ، والمراد بالرّكاب : الرّكاب الذي يوضع فيه الرجل ، لا مجرد الحديد .

وهكذا قوله : ( وان قَدِمَ ) زيد ( مِن السفرِ فاستقبلهُ ، وإن تَزوجتَ فلا تضيّع حَقَ زَوجَتِك ، وإِذا قرأت الدّرس فاحفَظهُ ) فانّه اذا لم يقدم من السفر ، لا إستقبال له ، واذا لم يتزوج ، فلا زوجة له ، حتى يضيّع حقها أو لايضيعه ، واذا لم يقرأ الدرس ، فلا موضوع للحفظ وعدم الحفظ .

ومن هذا القبيل يكون ما ( قال سبحانه : «وَاذَا قُرى ءَ القُرآنُ فَاستَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُوا»(1) و «إذَا حُيِيّتُم بِتَحِيَّةٍ ، فَحَيُّوا بِأَحسَنَ مِنهَا أَو رُدُّوهَا»(2)) فاذا لم يقرأ القرآن ، لم يكن موضوع للأستماع والأنصات ، وإِذا لم تكن تحية ، فلا موضوع

ص: 246


1- - سورة الاعراف : الآية 204
2- - سورة النساء : الآية 86 .

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى .

ومما ذكرنا ظهر فسادُ مايقال : تارةً إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل مالو جاء العادل بنبأ فلايجب تبيّنه فيثبت المطلوب ، وأخرى إنّ جعلَ مدلول الآية هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل عدمه ، يوجبُ حمل السّالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو خلاف الظّاهر .

------------------

للرّد بأحسن منها ، أو مثلها ( الى غير ذلك ممّا لايحصى ) من الأمثلة .

( وممّا ذكرنا : ) من انّ الشرط إِذا كان مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع فهو يساق لبيان الموضوع ، لا لأخذ المفهوم منه ، لأنّه يكون من باب مفهوم اللّقب ، ولا مفهوم له ، تبيّن : انّه لامفهوم لآية النبأ ، حتى تدل الآية على قبول خبر العادل .

وبذلك ( ظهر فساد مايقال ) لأجل إِفادة الآية المفهوم ( تارة : إنّ عدم مجيء الفاسق ) له فردان :- فرد عدم مجيء فاسق بنبأ أَصلاً ، فيشمله ، وأَيضاً ( يشمل ) الفرد الآخر وهو : ( ما لوجاء العادل بنبأ ، فلايجب تبيّنه ) أي تبيّن خبر العادل( فيثبت المطلوب ) وهو : ان للآية مفهوماً ، والمصنّف بقوله : « تارة » يريد بيان : انّ مفهوم الآية له فردان ، أحد فرديه مستلزم لحجّية خبر العادل .

( و ) تارة ( أخرى : إنّ جعل مدلول الآية ، هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، لأجل عدمه ) أي : عدم الخبر ( يوجبُ حمل السالبة ، على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو : خلاف الظّاهر ) لأنّ السّالبة غالباً ، تكون بانتفاء المحمول ، لا بانتفاء الموضوع ، فان عدم مجيء الفاسق بالنبأ له إحتمالان :-

الأوّل : أن يكون المراد منها : عدم مجيء الفاسق بالنبأ ، مع السكوت عن مجيء العادل وعدمه ، وهذا لايكون له مفهوم .

ص: 247

وجه الفساد : أنّ الحكم إذا اثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به كان المفهومُ بحسب الدلالة العرفيّة ، أو العقليّة ، انتفاءَ الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه

------------------

الثاني : أن يكون المراد منه : مجيء العادل بالنبأ ، وحيث انّ الاحتمال الأوّل ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع - وهو مجاز- يحمل الآية المباركة على الثاني ، وهو : مجيء العادل بالنبأ ، فيتم المطلوب من دلالة الآية على حجّية خبر العادل .

وأَما ( وجه الفساد ) في التقرير الأول ، فهو : إِنّ المفهوم ، هو المنطوق مع سلب أو إِيجاب مخالف للمنطوق ، فاذا قال : إن جائك زيد فاكرمه ، كان مفهومه : إن لم يجئك زيد فلاتكرمه ، لا انّ المفهوم يكون حكماً على موضوع جديد ، غير مذكور في المنطوق ، فلايكون مفهوم إِن جائك زيد : ان لم يجئك عمرو .

وعليه : فكيف قلتم : ان المفهوم لقوله سبحانه : « إِن جَائَكُم فَاسِقٌ » هو : ان جائكم عادل؟ فمن أين يأتي العادل في المفهوم ، وهو ليس بمذكور في المنطوق ؟ .

ف- ( انّ الحكم ) أي : وجوب التبيّن المذكور في الآية المباركة ( اذا ثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به ) بأن كان معنى المنطوق : إن جائكم فاسق بنبأ ، فتبيّنوا في خبر الفاسق ( كان المفهوم بحسب الدّلالة العرفيّة ، أو العقليّة ) .

وإنّما قال : العرفيّة أو العقليّة ، لأن بعضهم ذهب الى أنّ دلالة اللّفظ على المفهوم ، من باب الدّلالة العرفيّة ، وبعضهم ذهب الى انّ الدلالة المفهوميّة هي دلالة عقلية ، أي : يراها العقل لا العرف .

فالمفهوم هو ( إنتفاء الحكم المذكور في المنطوق ) أي : إنتفاء وجوب التبيّن الذي ذكر في منطوق الآية المباركة ( عن الموضوع المذكور فيه ) أي : في نفس

ص: 248

عند انتفاء الشرط المذكور فيه ، ففرضُ مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - لا يوجبُ انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ، لأنّه لم يكن مثبتاً في المنطوق حتّى ينتفي في المفهوم .

فالمفهومُ في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع ،

------------------

المنطوق ، وهو : خبر الفاسق ، وله حالتان : حالة المنطوق وحالة المفهوم ، لا أن يكون هناك خبر الفاسق في المنطوق وخبر العادل في المفهوم ، فاِن حكم التبيّن ينتفي ( عند إنتفاء الشرط المذكور ) وهو : مجيء الفاسق بالخبر ( فيه ) أي : في المنطوق بمعنى : التبيّن لعدم مجيء الفاسق لا انّه لمجيء العادل ( ففرضُ مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط و ) الشرط ( هو : مجيء الفاسق بالنبأ ) فاذا لم يجيء الفاسق لم يكن تبيّن ، وهذا ( لايوجب إِنتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ) .

وذلك ( لأنه ) أي : لأَن مجيء العادل بالنبأ ( لم يكن مثبتاً في المنطوق ، حتى ينتفي في المفهوم ) فمجيء الفاسق وعدم مجيئه محوران في المنطوق ، والمفهوم ، لا أنّ المحور في المنطوق : مجيء الفاسق ، والمحور في المفهوم : مجيء العادل .

وعلى هذا : ( فالمفهومُ في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع ) وبذلك يتحقق إِنّه لا مفهوم للآية المباركة ، بل الآية من قبيل : ان رُزِقتَ ولداً فاختِنه ُ وغيره من الأَمثلة المتقدمة .

هذا تمام الكلام على الاشكال في التقرير الأول ، حيث قال المصنّف : « ظهر فساد مايقال تارة . . » .

ص: 249

و ليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمرُ بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أَو لانتفاء الموضوع .

الثاني : ما أورده ، في محكيّ العُدّة والذّريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من أنّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : إنّ مقتضى عموم التعليل وجوبُ التبيّن في كلّ خبر لايؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبرُ

------------------

( و ) أمّا وجه الفساد في التقرير الآخر الذي ذكره المصنّف بقوله : « واخرى ان جعل مدلول الآية » ، فهو انّه ( ليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة ، دار الأمرُ بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود ، أو لانتفاء الموضوع ) فانه لا وجه في المفهوم هنا ، الاّ السالبة بإِنتفاء الموضوع ، وليس يحتمل السالبة بانتفاء المحمول .

وذلك لأن الآية المباركة لم تكن من قبيل : ليس زيدٌ عالماً ، حيث يحتمل أن لايكون وجود لزيد أصلاً ، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع ، وأن يكون له وجود ، لكن ليس بعالم حتى يكون من السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّه اذا لم يأت الفاسق بالنبأ ، فلا نبأ أَصلاً ليرتبط بالفاسق ، الذي ذكر في المنطوق ، وهو سالبة بانتفاء الموضوع فقط .

( الثاني : ) من الايرادين ، الذّين اُوردا على دلالة آية النبأ لحجّية خبر الواحد ، ممّا لم يمكن - حسب قول المصنّف - الذبّ عنهما ( ماأورده في محكيّ العُدّة ) للشيخ ( والذّريعَة ) للسيّد المرتضى ( والغنية ) للسيّد ابن زُهره ( ومجمع البيان ) للطبرسيّ ( والمعارج ) للمحقّق ( وغيرها : من انّا لو سلّمنا ، دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن نقول : انّ مقتضى عموم التعليل : وجوبُ التبيّن في كلّ خبر ، لايؤمن الوقوع في الندم من العمل به ، وإن كان المخبر

ص: 250

عادلاً ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل .

لايقال : إنّ النسبة بينهما وإن كان عموماً من وجه ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي خبر العادل ، الغير المفيد للعلم ، لكن يجب تَقديمُ عُموم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه .

------------------

عادلاً ) .

فان عموم التعليل ، أقوى من خصوص المورد ، وكل ماكان عموم التعليل أقوى كان حكم التعليل جارياً في غير المورد ، فهو مثل أن يقول : لاتأكل الرّمان لأنه حامض ، حيث يدّل صدره على خصوص الرّمان ، وذيله وهو التعليل على إنّ كل حامض لايجوز أكله ، كذلك الآية ، فمقتضى الصدر فيها : حجّية خبر العادل ، ومقتضى التعليل فيها : عدم الحجّية مطلقاً ، لأن إحتمال وقوع الندم يعمّ خبر العادل والفاسق ، فاللازم أن لايؤخذ بخبره العادل أيضاً لهذا العموم .

وعليه : ( فيعارض ) عموم التعليل ( المفهوم ) لأن المفهوم يقول خُذ بخبر العادل ، وعموم التعليل يقول ، لاتأخذ بخبره ( والترجيح مع ظهور التعليل ) فان علّة الحكم ، توجب وجود الحكم في كل مورد وجدت العلّة ، سواء كان مورداً للتعليل ، أو لم يكن مورداً له .

( لايقال : انّ النسبة بينهما وإِن كان عموماً من وجه ) اذ مقتضى المفهوم : حجّية خبر العادل مطلقاً ، سواء أَورث العلم أو الظنّ ، ومقتضى التعليل : عدم حجّية الخبر الواحد مطلقاً ، عادلاً كان المخبر أو فاسقاً ( فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي

خبر العادل ، غير المفيد للعلم ) فهو لكونه عادلاً يؤخذ بخبره ، ولكونه غير مفيد للعلم لايؤخذ بخبره ، ومقتضى المفهوم : حجّيته ، ومقتضى التعليل : عدم حجّيته .

( لكن يجب تقديم عمُوم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه ) أي : في عموم

ص: 251

إذ لو خرج عنه وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم كان لغوا ، لأنّ خبرَ الفاسق المفيد للعلم أيضا واجبُ العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهومُ اخصّ مطلقا من عموم التعليل .

------------------

المفهوم ، حتى يؤخذ بخبر العادل ولو كان ظنّيا .

وإنّما يجب إدراج مادة الاجتماع في المفهوم ( اذ لو خرج ) مادة الاجتماع ( عنه ) أي : عن المفهوم ( وإنحصر مورده ) أي مورد المفهوم ( في خبر العادل المفيد للعلم ) فقط ( كان ) المفهوم ( لغوا ) فانّا لو أدرجنا خبر العادل الظنّي في التعليل ، بان لم يكن حجّة ، لزم لغوية المفهوم ( لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم ، أيضا واجب العمل ) .

وذلك لوضوح : انّ حجّية الخبر العلمي سواء كان المخبر عادلاً أو فاسقا ، من الامور القطعية ، ولا يحتاج حجّيته الى دلالة مفهوم الآية ، فيلغو المفهوم رأسا ، فاللازم - حذرا عن اللغوية - حمل التعليل على خبر الفاسق ، وادراج مادة الاجتماع وهو خبر العادل الظني ، في المفهوم ، مما يكون حجّة .

( بل ) يمكن أن يقال : انّه ليس التعارض بين المنطوق والمفهوم ، من التعارض في العموم من وجه ، بل من التعارض في العموم المطلق ، لأنّ ( الخبر المفيد للعلم ) سواء كان صادرا من الفاسق ، أو من العادل ( خارج عن المنطوق والمفهوم معا ) اذ الخبر العلمي لا يمكن إسقاطه ، كما لا يمكن إثباته بحجّية جعلية .

وعليه : ( فيكون المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ) فانّ التعليل : يدل على عدم حجّية الخبر الظنّي مطلقا ، والمفهوم : يدل على حجّية خبر العادل

ص: 252

لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم ، إلاّ أنّا ندّعي التعارضَ بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل الغير العلميّ وظهورِ الجملة الشرطيّة او الوصفيّة في ثبوت المفهوم .

فطرحُ المفهوم والحكم بخلوّ الجملة

------------------

الظنّي ، فيكون المفهوم مخصصا للتعليل .

وعلى هذا : فان قلنا انّ بين التعليل والمفهوم عموما من وجه ، أدرجنا مادة الاجتماع في المفهوم .

وإن قلنا : انّ بينهما عموما مطلقا ، يكون المفهوم أخص مطلقا .

وعلى كلا الحالين : يكون خبر العادل الظنّي حجّة ، وهو ما يراد إثباته بآية النبأ .

( لأنّا نقول : ما ذكره ) المستشكل ( أخيرا : من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ، مسلّم ) فهما متعارضان بالعموم والخصوص المطلق لا بالعموم والخصوص من وجه ، لِما تقدّم : من انّ الخبر العلمي خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، ومن الواضح : انّ الخاص مقدّم على العام ، الاّ انّ الأمر هنا بالعكس ، أي : عموم التعليل يقدّم على خصوص المفهوم ، لا أنّ المفهوم يقدم على عموم التعليل .

وإليه أشار بقوله : ( الاّ انّا ندّعي التعارض بين : ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل غير العلميّ ) كما لا يعمل بخبر الفاسق غير العلمي .

( و ) بين ( ظهور الجملة الشرطية ، أو الوصفيّة ) على ما تقدّم : من انّ المدعي لدلالة الآية يدعيها إما من جهة الجملة الشرطية ، أو من جهة الجملة الوصفية ، ويستدل بها ( في ثبوت المفهوم ) بمعنى : حجّية خبر العادل غير العلمي .

وحينئذٍ ( فطرحُ المفهوم ) والأخذ بعموم التعليل ( والحكم بخلوّ الجملة

ص: 253

الشرطيّة عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل .

وإليه أشار في محكيّ العُدّة بقوله : « لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليلُ دليلٌ » .

------------------

الشرطيّة ) أيضا كالحكم بخلوّ الجملة الوصفية ( عن المفهوم ، أولى من ) العكس .

والعكس هو عبارة عن : ( إرتكاب التخصيص في التعليل ) .

وإنّما كان اولى لما سيأتي : من قوة التعليل الشامل لخبر العادل الظنّي ، وخبر الفاسق الظنّي ، فلا يدع هذا التعليل مجالاً للمفهوم ، اذ إسقاط المفهوم ، أقرب الى الذهن العرفي من إسقاط عموم التعليل ، فاذا دار الأمر بينهما ، اخذ بعموم التعليل لا بالمفهوم ، فتكون الجملة الشرطية أو الوصفية خالية عن المفهوم .

( واليه ) أي الى ما ذكرنا : من أولوية طرح المفهوم بسبب التعليل ( أشار في محكيّ العُدّة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب ) أي : طرح مفهوم المخالفة ( لدليل ) يوجد هناك يوجب طرح مفهوم المخالفة ( والتعليل دليل ) (1) فنتمسك به لطرح المفهوم .

و إن قلت : التعليل في الآية المباركة عام يشمل للخبر الظنّي من العادل ، والخبر الظنّي من الفاسق ، والمفهوم خاص ، لأنّه يدل على حجّية الخبر الظني من العادل فقط ، فيخصّص التعليل به ، كما يخصّص قوله سبحانه : - « وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءا طَهُورا » (2) بمفهوم : « الماء إذا بَلَغَ قَدر كُرّ لم يُنجّسهُ شَيء » (3) .

ص: 254


1- - عدّة الاصول : ص176 .
2- - سورة الفرقان : الآية 48 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الكافي : فروع : ج3 ص2 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

وليس في ذلك منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر ، من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك اوّلاً بالمخصّص المنفصل .

------------------

فانّ مفهوم الحديث - وهو نجاسة الماء بسبب المنجسات اذا لم يبلغ قدر كرّ - مخصص للآية المتقدمة .

قلت : ( وليس في ذلك ) أي : في طرح المفهوم ، والأخذ بعموم التعليل (منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر : من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ) .

وانّما لم يكن في ذلك منافاة ( لاختصاص ذلك أوّلاً : بالمخصّص المنفصِل ) بمعنى : أن يكون العام والمفهوم ، في كلامين منفصلين ، كما تقدّم : من تخصيص عموم الآية المباركة بمفهوم : « الماءُ إذا بَلَغَ قَدر كُرّ » (1) .

دون ما اذا كان العام والمفهوم في كلام واحد ، كما في آية النبأ حيث عموم التعليل ، والمفهوم متصلان في كلام واحد .

فهو مثل : « أكرم كل عالم ، وأكرم هذا العالم إن جائك » فانّ مفهوم : إن جائك ، وهو : لا تكرمه إن لم يجئك ، لا يخصص : أكرم كل عالم ، حتى تكون النتيجة : عدم إكرام هذا العالم عند عدم المجيء ، بل اللازم إكرام هذا العالم ، سواء جاء أو لم يجيء ، فالعام يقدّم على المفهوم ، لا ان المفهوم يقدّم على العام .

ولعلّ الفرق بين المتصِل والمنفَصل هو : إنّ في المنفَصل : يكون عام وخاص ، فيخصص الخاص العام - كما هي القاعدة - .

ص: 255


1- - الكافي فروع : ج3 ص12 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

ولو سلّم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلّة والمعلول ، فانّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص .

فالعلّة تارةً تخصّصُ مورد المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ ، كما في قول القائل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدمُ التقييد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه .

------------------

أما في المتصِل : فلا ينعقد المفهوم لقوة العموم ، واذ لا مفهوم ، فلا يخصص العام بالمفهوم .

وحيث كان هذا الفرق ضعيفا ، قال المصنّف : ( ولو سلّم جريانه ) أي : تخصيص العام بالمفهوم ، حتى ( في الكلام الواحد ) بأن لم نفرّق بين المتصِل والمنفَصل ، وقلنا : بأنّ المفهوم يخصّص العام مطلقا ، سواء كان في كلامين منفصلين ، أو في كلام واحد متصل .

فانه وإن سلّمنا ذلك ، لكن ( منعناه ) أي : منعنا تخصيص العام بالمفهوم ( في العلّة والمعلول ) كما فيما نحن فيه من آية النبأ ( فانّ الظاهر عند العرف : انّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص ، فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان ) المورد ( عامّا بحسب اللّفظ كما في قول القائل « لا تأكل الرّمان لأنّه حامض » ) .

فانّ الرمّان الذي هو مورد النهي ، شامل للحلو والحامض إلاّ انّ التعليل يخصّص الرّمان بالحامض ( ف- ) التعليل ( يخصّصه ) أي : المورد ( بالأفراد الحامضة ، فيكون عدمُ التقيّيد في الرّمان ، لغلبة الحموضة فيه ) .

فانّه لمّا كان الرّمان في الاغلب حامضا ، نزّل الرّمان الحلو بمنزلة العدم فلم يقل

ص: 256

وقد توجبُ عموم المعلول وإن كان بحسب الدّلالة اللفظيّة خاصا ، كما في قول القائل : « لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النِسوان ، أو إذا وصفت لك إمرأة دواءا ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره » .

فيدلّ على أنّ الحكمَ عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضررُه ، من أيّ واصف كان ،

------------------

لا تأكل الرّمان الحامض ، بل قال : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، مع انه يريد في الكلامين معنى واحد ، وهو : الاجتناب عن الرّمان الحامض ، أمّا الرّمان الحلو فلا بأس بأكله .

( وقد توجب ) العلّة تارة اخرى ( عموم المعلول وإن كان ) المعلول ( بحسب الدّلالة اللّفظيّة خاصّا ، كما في ) نفس المثال ، فانّ عموم التعليل يعمم النهي للرّمان الحامض ، وغير الرّمان من سائر الحموضات ، كالاترج ونحوه .

وكما في ( قول القائل ) في جملة وصفيّة : ( لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النِسوان ، أو ) قول القائل في جملة شرطية ( إذا وصفت لك إمرأة دواءا ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره ) فانّ المورد وإن كان خصوص الأدوية التي تصفها النِسوان ، فيكون المفهوم : جواز شرب الأدوية التي يصفها الرجال ، إلاّ إنّ التعليل بعدم أمن الضرر ، يشمل الأدوية التي يصفها الرجال أيضا .

وإنّما خصص النِسوان بالذكر في النهي ، لأنّ الغالب هو : أنّ النسوان يصفن الدّواء ، دون الرّجال ( فيدلّ ) التعليل في الجملتين ( على انّ الحكمَ ) بعدم شرب الدواء ( عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره ، من أيّ واصف كان ) سواء كان الواصف رجلاً أو إمرأة .

ص: 257

ويكون تخصيصُ النّسوان بالذكر من بين الجّهال لنكتة خاصّة أو عامّة لاحظها المتكلّمُ .

وما نحنُ فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتةَ فيه التنبيهُ على فسق الوليد ، كما نبّه عليه في المعارج .

------------------

( و ) إن قلت : فلماذا خصص النهي ، بالأدوية التي يصفها النِسوان ؟ .

قلت : ( يكون تخصيصُ النِسوان بالذكر ، من بين الجهّال ) بعلم الطب بالأدوية والأمراض ( لنكتة خاصة ، أو عامة لاحظها المتكلّمُ ) فالنكتة الخاصة : لعلّة عاطفية المرأة ، حيث انها تغلب عليها العاطفة بخلاف الرجل الذي هو عقلائي .

والنكتة العامة : لعلّه غلبة توصيف النساء الأدوية ، دون الرجال ، فالغلبة عامة وفي أي مورد حصلت الغلبة ، أوجبت إلحاق غير الغالب بالغالب .

( وما نحن فيه ) من الآية المباركة ، حيث إشتملت على التعليل العام ، وعلى المورد الخاص ( من هذا القبيل ) .

فان قلت : إذن كان ينبغي أن يقال : إن جائكم خبر تبينوا ، لأنّ إحتمال الندم عام في خبر العادل والفاسق ، فلا وجه لذكر الفاسق ؟ .

قلت : ( فلعلّ النكتةَ فيه ) أي : في ذكر الفاسق بصورة خاصة ، مع أنّ التعليل عام شامل للعادل والفاسق معا ( التنبيهُ على فسق الوليد - كما نبّه عليه ) المحقّق ( في المعارج ) (1) فهو مثل : اطعم الجائع حيث يكون الاطعام لكل فقير ، وإنّما يذكر الجائع ، للتنبيه على أنّ هذا الفقير بالخصوص جائع ايضا .

أو لعل النكتة : إنّ الفاسق أولى بالتبيّن في خبره من غيره ، فيكون مثل قوله

ص: 258


1- - معارج الاصول : ص144 .

وهذا الايراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّنُ العلميّ

------------------

تعالى : « وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهنَّ » (1) حيث أنّ من في الحجور ، ومن في غير الحجور ، متساويان في حرمة الربيبة ، الاّ انّ من في الحجور ، أولى في الاجتناب .

الى غير ذلك من الاحتمالات ، التي تسبب ذكر صفة خاصة ، مع انّ الحكم للأعم من المتّصف وغير المتّصف .

ثمّ انه قد ذكرنا : التعارض بين المفهوم وهو : انّ خبر العادل حجّة ، وبين التعليل ، وهو أنّ كل خبر يحتمل الندم في اتباعه ولو كان خبر العادل ليس بحجّة ، فيرجّح التعليل على المفهوم ، ممّا يسبب عدم حجّية خبر العادل .

لكن في الآية إحتمال آخر ، وهو : إن المراد بالتبيّن : الظهور العرفي الأعم من العلم والاطمينان ، فكل خبر يطمأن إليه عرفا ، لا يحتاج الى التبيّن ، والعادل يُطمأن الى خبره ، بخلاف الفاسق ، فلا عموم للتعليل ، اذ العمل بعد الاطمينان الحاصل بسبب وجود خبر العادل ليس بجهالة ، فان الجهالة في قبال الاطمينان ولو لم يكن علم ، وحيث كان إطمينان فلا جهالة ، فلا عموم للتعليل يشمل خبر الفاسق .

( و ) بذلك تبين : انّ ( هذا الايراد ) أي تعارض التعليل والمفهوم ( مبنيّ على انّ المراد بالتبيّن هو : التبيّنُ العلميّ ) فيكون المعنى : إن جائكم فاسق بنبأ ، يجب عليكم تحصيل العلم لئلا تصيبوا قوما بجهالة .

ومعنى لا تصيبوا قوما بجهالة : أي لا تفعلوا فعلاً بدون العلم ، فيسبب ذلك

ص: 259


1- - سورة النساء : الآية 23 .

كما هو مقتضى إشتقاقه .

ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعم الظهور العرفيّ الحاصل من الاطمينان الذي هو في مقابلة الجهالة .

------------------

الفعل ندمكم .

فمقتضى المفهوم : عدم وجوب تحصيل العلم في خبر العادل ، ومقتضى التعليل : وجوب تحصيل العلم في كل خبر غير علمي ، سواء كان عادلاً او فاسقا ، فيتعارض عموم التعليل مع المفهوم .

لكن هذا التعارض فيما إذا فسّرنا التبيّن بمعنى العلم ( كما هو ) أي : ارادة العلم من التبيّن ( مقتضى إشتقاقه ) فان التبيّن مشتق من البيان ، والبيان بمعنى : الكشف والوضوح ، والكشف والوضوح انّما يكون مع العلم كما قال : بان الأمر إذا ظهر ، والظهور دائما يوجبُ العلم ، ومنه قوله سبحانه : « حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبيَضُ »(1) أي : يظهر لكم ظهورا علميا .

( ويمكن أن يقال : انّ المراد منه ) أي من التبيّن : ( ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمينان ، الذي هو في مقابلة الجهالة ) ، فان الجهالة قد تقابل العلم ، وقد تقابل الأعم من العلم ، والاطمينان .

والمراد بالتبيّن هنا : الأعم من تحصيل الظهور الحقيقي المسمّى بالعلم ، والظهور العلمي المسمّى بالاطمينان ، فان العلم والعلمي كلاهما تبيّن ويقابلان الجهل ، اذ المراد بالجهل حينئذ : عدم تحصيل شيء من العلم والاطمينان ، بل الاكتفاء بمجرد الاحتمال والظنّ .

ص: 260


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

وهذا ، وإن كان يدفع الايراد المذكور عن المفهوم - من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب التبيّن إلى أنّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمينان المذكور بخلاف الفاسق ، فلهذا وجب فيه تحصيلُ الاطمينان من الخارج - لكنّك خبيرٌ بأنّ الاستدلالَ بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد

------------------

( وهذا ) أي : المعنى الذي ذكرناه للتبيّن والجهالة ( وإن كان يدفع الايراد المذكور ) من التعارض بين العموم والمفهوم ( عن المفهوم ) وهو : عدم التبيّن لخبر العادل ، لأنّ التعليل يدلّ على حرمة العمل بغير الاطمينان ، الأعم من العلم ، والعلمي ، الذي هو مرتبة قوية من الظنّ المتاخم للعلم ، فلا يشمل المنع خبر العادل ، لأنّه بنفسه يوجب الاطمينان ، وإنما يشمل خبر الفاسق فقط ، لأنّه بنفسه لا يوجب الاطمينان .

وإنما يدفع الايراد المذكور ، إذا فسّرنا التبيّن : بالأعم من العلم والاطمينان ( من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب التبيّن ) في خبر الفاسق دون العادل ( الى انّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمينان المذكور ) الذي يتاخم العلم .

( بخلاف الفاسق ) فانّه لايحصل منه الاطمينان ، ولو فرض حصوله زال بالالتفات الى فسقه ، لاحتمال ان يكون كاذبا - كما هو مقتضى عدم العدالة - .

( فلهذا ) أي : لأنّ الفاسق لا يطمأن الى خبره بخلاف العادل ( وجب فيه ) اي في خبر الفاسق ( تحصيل الاطمينان من الخارج ) عن نفس الخبر بخلاف العادل ، فان الاطمينان يحصل من نفس الخبر لاستناده الى إنسان عادل لا يكذب متعمدا .

( لكنّك خبيرٌ بأنّ الاستدلالَ بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد

ص: 261

للاطمينان غير محتاج إليه ، إذ المنطوقُ على هذا التقرير يدلُّ على حجيّة كلّ ما يفيد الاطمينان ، كما لا يخفى ، فيثبت اعتبارُ مرتبة خاصّة من مطلق الظنّ .

------------------

للاطمينان ، غير محتاج إليه ) اي : الى الاستدلال بالمفهوم .

وذلك لانه اذا كان المراد بالتبيّن : تحصيل الاطمينان لا خصوص العلم ، فلا حاجة لاثبات حجّية خبر العادل الى التمسك بالمفهوم ( اذ المنطوقُ ، على هذا التقرير ) الذي يكون التبيّن فيه شاملاً للاطمينان ( يدلُّ على حجّية كلّ ما يفيد الاطمينان ) العرفي ، فيكون مناط حجّية الخبر ، هو : الاطمينان ، الظاهر من منطوق الآية المباركة .

ومن الواضح : ان من جملة ما يوجب الاطمينان ، هو خبر العادل ( كما لا يخفى ) ذلك ( فيثبت ) بالمنطوق ( إعتبارُ مرتبة خاصة من مطلق الظنّ ) وهو الظنّ الاطمئناني من أي سبب حصل ، سواء حصل من خبر العادل ، أو من القرائن الخارجية ، فلو لم يحصل الاطمئنان من خبر العادل في مورد فلابدّ من تحصيله من الخارج .

وعليه : فاذا كان المنطوق دالاً على حجّية خبر العادل ، يسقط استدلال الاصوليين بمفهوم الآية ولزم القول : بانّ منطوق الآية دال على حجّية خبر العادل ، وهذا ما لا يقولون به .

إذن : الأمر دائر بين عدم دلالة الآية على حجية خبر العادل إطلاقا ، وبين الدلالة على حجيته ، لكن الحجية ليست مستندة الى المفهوم - كما يقولون - وإنما كانت مستندة الى المنطوق ، لأن المنطوق قد جعل المعيار في قبول الخبر : التبيّن ، والتبيّن كما يشمل العلم ، يشمل الاطمئنان .

ص: 262

ثمّ إنّ المحكيّ عن بعضٍ منعُ دلالة التعليل على عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع بأنّ المراد بالجهالة السفاهةُ وفعلُ ما لا يجوز فعله ،

------------------

( ثمّ ) إنّه ربّما إستدل بعض بالآية على حجيّة خبر العادل لكن بتقريب آخر ، ليس فيه تعارض وهو : - ان ظاهر الآية هو النهي عن العمل السفهائي لا عن العمل المحتمل مخالفته للواقع ، والعمل بخبر الفاسق من العمل السفهائي ، وليس العمل بخبر العادل كذلك ، فيعمل بخبر العادل .

والدليل على انّ المراد من النهي : العمل السفهائي أمران : -

الأوّل : انّ الجهالة في الآية المباركة ظاهرة في السفاهة ، لا في الجهل مقابل العلم كما يقال : فلان يعمل أعمال الجهالة ، يراد بها : السفاهة ، لا أنّه يعمل أعمالاً عن جهل ، في قبال العلم .

الثاني : انّ العمل بموازين العقلاء - وان لم يكن العامل عالما بالواقع - لا يسمّى جهالة ، والا لمنع عن العمل بالفتوى ، وبالشهادة ، وبالاقرار ، وبما اشبه ذلك ، لأنّ العامل بهذه الامور على الأعم الأغلب ، لا يعلم مطابقتها للواقع ، فهو مع ان العمل بها جهل بالواقع ليس عملاً بجهالة .

وبهذا المعنى للجهالة تبيّن : انّ الآية تدلّ على جواز العمل بخبر العادل ، اذ ليس العمل بخبره من السفاهة في شيء .

والى هذا المعنى أشار بقوله : ( إنّ المحكي عن بعضٍ ) في دفع التعارض هو ( منعُ دلالة التعليل على عدم جواز الاقدام ) والعمل ( على ما هو مخالف للواقع ) فانه ليس المناط : الواقع وغير الواقع ، وإنما المناط : السفاهة وغير السفاهة .

وذلك ( ب- ) سبب : ( ان المراد بالجهالة : السّفاهةُ وفعلُ ما لا يجوز فعله ) عند

ص: 263

لا مقابلُ العلم ، بدليل قوله تعالى : « فتصبحوا على مافعلتم نادمين » . ولو كان المرادُ الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتمادُ على الشهادة والفتوى .

وفيه ، مضافا الى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة : انّ

------------------

العقلاء ممّا يعدونه عملاً سفهائيا ( لا مقابلُ العلم ) فانه ليس المناط : العلم وعدم العلم ، كما لم يكن المناط ، : الواقع وعدم الواقع ، وانّما المناط - كما قلنا - : السفاهة وعدم السفاهة ( بدليل قوله تعالى ) في التعليل في آخر الآية المباركة ( « فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » ) (1) .

فانّ الندامة مختصة بالعمل السفهائي ، والعمل بخبر الفاسق ، حيث كان من الاعمال السفهائية ، منع عنه الشارع .

هذا ( ولو كان المراد ) من الجهالة في الآية المباركة ( : الغلط في الاعتقاد ) اي : مخالفة الواقع ( لما جاز الاعتمادُ على الشهادة ، والفتوى ) والاقرار ، ونحوها .

وحيث انّ العمل بخبر العادل ليس سفاهة ، فالآية لا تمنع عنه ، وتكون الآية دليلاً على جواز العمل بخبر العادل بالمفهوم ، بلا تعارض بينه وبين التعليل ، فانّ الممنوع : العمل بالأخبار السفهائية ، والجائز : هو العمل بالأخبار العقلائية .

( وفيه ) أي في هذا الاستدلال لحجّية خبر العادل ( مضافا الى كونه ) أي كون حمل الجهالة على السفاهة ( خلاف ظاهر لفظ الجهالة ) لأنّ الظاهر من الجهالة : الجهل في مقابل العلم ، لا السفاهة في مقابل الرشد .

( انّ ) المورد للآية المباركة ، دليل على انّ المراد بالجهالة : الجهل بالواقع ،

ص: 264


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهةً قطعا ، إذ العاقلُ بل جماعةٌ من العقلاء لا يقدمون على الامور من دون وثوق بخبر المخبر بها فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم ، لعلّة هي كونه في معرض المخالفة للواقع .

------------------

لا السفهاهة في العمل .

وذلك ( الاقدام على مقتضى قول الوليد ، لم يكن سفاهة قطعا ، إذ العاقلُ ) كالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الذي هو سيّد العقلاء ( بل جماعةٌ من العقلاء ) المحتفين بالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث أراد هو ، وأراد أصحابه غزو بني المصطلق ، لقول الوليد ( لا يقدمون على الامور ، من دون وثوق بخبر المخبر بها ) أي : بتلك الامور ، فهل كان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأصحابه يريدون عملاً سفهائيا ؟ انّ هذا ما لا يصدر عن عاقل ، فكيف بسيّد العقلاء ، وأصحابه الكرام ؟ .

وعليه : فالعمل بخبر الفاسق قد يكون سفهيا ، كما اذا لم يحصل علم ، ولا ظنّ ولا اطمئنان عرفي به ، وقد لا يكون سفهيا ، كما اذا حصل أحد الامور المذكورة ، ومن الواضح انّ عمل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وإقدامه على حرب بني المصطلق لم يكن عملاً سفهيا ، بل كان عملاً بحسب الظاهر والموازين العرفية ، واقداما على عمل عقلائي متعارف ، لكن اللّه سبحانه وتعالى ، لما كان يعلم مخالفة خبر الوليد للواقع ، أراد تحريضهم على أن يعملوا بما هو الواقع فامرهم بالتبيّن .

وعلى هذا : ( فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم ) سواء كان ذلك الخبر الذي لم يوجب العلم مخبره عادلاً أو فاسقا ( لعلّة هي ) أي : تلك العلّة ( كونه ) اي : كون غير العلم ( في معرض المخالفة للواقع ) الموجبة للندامة فليست الجهالة في الآية بمعنى السفاهة ، بل بمعنى عدم العلم .

ص: 265

وأمّا جوازُ الاعتماد على الفتوى والشهادة ، فلا يجوز القياسُ بها ، لمّا تقدّم في توجيه كلام ابن قبة ، من أنّ الاقدامَ على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا : قد يحسنُ لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى الواقع منه ، كما في الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع ،

------------------

( وأمّا جوازُ الاعتماد على الفتوى ، والشهادة ) والاقرار ، ونحوها مع انّها لا تفيد العلم بالواقع ( فلا يجوز القياس بها ) أي : لا يجوز قياس العمل بخبر العادل على العمل بها ( لمّا تقدّم في توجيه كلام ابن قبة : من انّ الاقدامَ على ما فيه مخالفة الواقع ) للاقدام ( أحيانا ) كالفتوى والشهادة ( قد يحسنُ لأجل ) بعض الأمور ، كعدم وجود طريق أقرب من هذا الطريق الى الواقع ، كالفتوى والشهادة حين إنسداد باب العلم .

وكذلك بسبب ( الاضطرار إليه ) أي : الى ما فيه مخالفة الواقع ( وعدم وجود ) الطريق ( الأقرب الى الواقع منه ) أي : ممّا فيه مخالفة الواقع أحيانا .

( كما في الفتوى ) فانّ العاميّ مضطرٌ للرجوع الى الفتوى ، ولا طريق له أحسن من التقليد ، حيث انّ التقليد ، أقرب الى الواقع من سائر الطرق المحتملة ، كالجفر ، والرمل والإسطرلاب والعمل بظن نفسه ، او ما أشبه ذلك .

وحيث وجد الاضطرار ولم يكن طريق أقرب منه جعله الشارع .

والاحتياط وان كان ممكنا إلاّ انّه مستلزم للعسر والحرج .

كما أنّ البرائة توجب الخروج من الدّين .

( وقد يكون ) جائزا ذلك الطريق ، الذي لا طريق أقرب منه الى الواقع ، ( لأجل مصلحة ) سلوكية او نحوها ( تزيد على مصلحة إدراك الواقع ) اذ لعلّ الشارع انّما أذن في العمل بالشهادة - وان فتح باب العلم - من جهة المصلحة السلوكية - مثلاً -

ص: 266

فراجع .

فالأولى لمن يريد التفصّيَ عن هذا الايراد التشبّثُ بما ذكرنا ، من أنّ المراد بالتبيّن تحصيلُ الاطمينان ، وبالجهالة

------------------

( فراجع ) جوابنا السابق عن ابن قِبة .

وعلى أي حال : فمن الممكن انّ الآية الكريمة ، انّما منعت العمل بما لم يكن عقلائيا ، والعمل بخبر العادل وبالفتوى والشهادة عقلائي .

لا يقال : فهل كان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم يقدم على عمل غير عقلائي .

لأنّه يقال : من أين ثبت انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم اراد - واقعا - الاقدام على حرب بني المصطلق ؟ فانه لم يثبت ذلك ، بل الثابت عكسه ، لمكان العصمة .

وقول بعض المفسرين والمؤرخين ، ليس هو الاّ بحسب ظاهر الحال ، لا واقعه ، وانّما كانت الآية المباركة ، تنبيها على الذين أرادوا ذلك إعتمادا على قول الوليد .

ويؤيده : ان خطاب الآية موجّه اليهم ، حيث قال سبحانه : « يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ، إن جَائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ ، فَتَبَيّنُوا » (1) .

ولم يكن الخطاب موجها الى خصوص الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وعليه : ( فالأولى لمن يريد التفصّي عن هذا الايراد ) أي : إيراد تعارض المفهوم والتعليل ( التشبّث بما ذكرنا ) لا بحمل الجهالة على السفاهة ، فانّ الجواب عن الاشكال المذكور : يحصل بما ذكرناه ( : من انّ المراد بالتبيّن : تحصيل الاطمينان ) لا تحصيل العلم ( و ) المراد ( بالجهالة ) عدم الاطمينان ،

ص: 267


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

الشكّ أو الظنّ الابتدائي الزائل بعد الدقة والتأمّل ، فتأمّل .

وفيها إرشادٌ الى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل منها الاطمينانُ ، الاّ انّ الاطمينان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته

------------------

لا عدم العلم .

كما إذا عمل الانسان ب( الشّك أو الظنّ ) أو الاطمينان في أنزل درجاته ، وذلك بالنظر ( الابتدائي ، الزائل بعد الدقة والتأمّل ) .

إذن : فالتعليل على هذا لا يشمل خبر العادل إطلاقا لأنّ خبر العادل يوجب الاطمينان العقلائي ، الذي يتبعه العقلاء في أمورهم .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة الى ما تقدّم من المصنّف : من انه اذا كان المراد بالتبيّن هو : تحصيل الاطمينان ، فحجّية خبر العادل تستفاد من منطوق الآية ، لا من مفهومها ، والحال انّ المستدلين بالآية المباركة ، أنّما إستدلوا بالمفهوم لا بالمنطوق .

وعليه : فالآية امّا انها لا تدل على حجّية خبر العادل ، وامّا انها تدل على حجّية خبره ، لكن بسبب المنطوق ، لا المفهوم .

لا يقال : خبر الفاسق أيضا يوجب الاطمينان .

لأنّه يقال - كما أشار اليه المصنّف بقوله - : ( وفيها ) أي في الآية المباركة ( إرشاد الى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره ) وهو العادل ( وان حصل منها الاطمينان ) على حد سواء .

فان خبر الفاسق وان كان قد يحصل منه الاطمينان ، كخبر العادل ( الاّ أنّ الاطمينان الحاصل من الفاسق ، يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته

ص: 268

بالمعصية وإن كان متحرّزا عن الكذب .

ومنه : يظهر الجوابُ عمّا ربّما يقال من : أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون إطمينان بمضمونه ، عادلاً كان المخبر أو فاسقا ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمينان في الفاسق .

------------------

بالمعصية ، وان كان متحرّزا عن الكذب ) فانّ نفسية الفاسق غير المبالية ، توجب ان يكذب ، بينما العادل ليس كذلك ، لأنّ عدالته تمنعه عن الكذب ، اذ للوازع النفسيّ مدخلية كاملة في أعمال الانسان ، وجودا وعدما .

( ومنه ) اي ممّا ذكرناه : من الفرق بين الاطمينان عن خبر الفاسق ، والاطمينان عن خبر العادل ، حيث انّ الاطمئنان عن خبر الفاسق ابتدائي يزول بالالتفات ، بخلاف الاطمئنان عن خبر العادل فانه ثابت ومستقر ( يظهر الجواب عمّا ربّما يقال : من أنّ العاقل ، لا يقبل الخبر من دون إطمئنان بمضمونه ، عادلاً كان المخبر أو فاسقا ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق ) .

وعليه : فلابد أن يراد بالتبيّن والجهالة - في الآية المباركة - : تحصيل العلم وعدمه ، لئلا يكون الحكم لغوا .

وحاصل الاشكال : أنّه ان كان المراد بالتبيّن : العلم ، لم يكن الحكم لغوا ، بخلاف ما اذا أريد من التبيّن : الاطمينان .

وحاصل الجواب : انّه لا يلزم منه اللّغوية ، اذ في الآية ارشاد الى انّ الاطمينان الحاصل من خبر الفاسق ، لا ينبغي الاعتماد عليه ، لأنّه اطمينان ابتدائي ، يزول بأدنى التفات ، فلابد في خبر الفاسق من تحصيل الاطمينان من الخارج .

أما الاطمينان الحاصل من خبر العادل ، فانه ينبغي الاعتماد عليه ، لانه إطمئنان ثابت ومستقر ، معتمد على نفسية العادل وملكته الذاتية التي تبعثه على الصدق

ص: 269

وأمّا ما اُورد على الآية بما هو قابل للذبّ عنه

فكثيرٌ منها : معارضةُ مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنّسبة عموم من وجه ، فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّية .

------------------

وسائر الصفات الحميدة .

ولا يخفى : أنّ إشكاليّ المصنّف على دلالة آية النبأ قد ألمعنا الى جوابهما في «الاصول» (1) ، وذكرناهما مفصلاً في كتاب « التقريرات » (2) ممّا استفدناه من الأساتذة رحمهم اللّه تعالى .

( وأمّا ما اُورد على الآية ، بما هو قابل للذبّ عنه فكثير ، منها ) وهو الايراد الأول ( : معارضة مفهوم الآية ، بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنّسبة عموم من وجه ) لأنّ الآيات الناهية ، تنهى عن العمل بغير العلم سواء كان خبر العادل أو الفاسق ، فانّه اذا لم يوجب خبر العادل : العلم كان مشمولاً للآيات الناهية ، ومفهوم الآية : يدل على حجّية خبر العادل ، سواء أورث العلم او لم يورث العلم .

فمادة الافتراق من جهة الآيات : خبر الفاسق غير الموجب للعلم .

ومادة الافتراق في المفهوم : خبر العادل الموجب للعلم .

وإجتماعهما : في خبر العادل ، الذي لا يوجب العلم ، فالآيات الناهية تقول : بعدم العمل به ، والمفهوم يقول : بالعمل به ( فالمرجع ) حينئذٍ ( الى أصالة عدم الحجّية ) لأنّ الدليلين يتساقطان حيث يتعارضان ، فاللاّزم الرجوع الى الأصل

ص: 270


1- - راجع كتاب الاصول ، الجزء السادس ، الأدلة العقلية : ص29 للشارح .
2- - وهو كتاب خطي لم يطبع بعد .

وفيه : انّ المراد بالنبأ في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه . فالمفهوم اخصّ مطلقا من تلك الآيات ، فيتعيّن تخصيصُها ، بناءً على ما تقرّر ، من أنّ ظهورَ الجملة الشرطيّة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ في العموم .

------------------

الذي فوقهما ، وهو أصالة عدم الحجّية .

( وفيه ) اولاً : انه لو سلَّم التعارض ، فالمرجع : بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة ، وهو مقدّم على أصالة عدم الحجّية ، لان الشارع أقر هذا الأصل العقلائي ، فلا مجال لأصالة عدم الحجّية .

وثانيا : ( انّ ) الخبر الموجب للاطمينان خارج عن منطوق الآيات الناهية ومفهومها معا ، فلا يمكن إدخاله في الآيات الناهية ، ولا في منطوق آية النبأ ، فان ( المراد بالنبأ في المنطوق ) هو ( ما ) أي : النبأ والخبر الذي ( لايعلم صدقه ولا كذبه ) لانه اتى به فاسق .

وعليه : ( فالمفهوم ) لآية النبأ ، وهو : تصديق خبر العادل المورث للاطمينان يشمله ، لانه ( أخص مطلقا من تلك الآيات ) الناهية عن العمل بغير العلم لأنّ هذه الآيات تنهى عن مطلق خبر الواحد ، والمفهوم يثبت حجّية خبر العادل فقط ، فاللاّزم الأخذ بالمفهوم ( فيتعين تخصيصها ) اي : تخصيص الآيات الناهية بالمفهوم ( بناءا على ما تقرّر : من انّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ، أقوى من ظهور العام في العموم ) ولذا يلزم - كما تقدّم - تخصيص كل ماء طاهر بمفهوم : « الماء اذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) .

ص: 271


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

وأمّا منعُ ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم ، فلما عرفتَ من منع ظهور الجملة الشرطيّة المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وإنتفائه

------------------

هذا خلافا لبعض القدماء الذين كانوا يقولون : بأن العموم : ظهور لفظيّ ، والمفهوم أضعف من اللّفظ ، فالعام اللفظيّ مقدّم على الخاص المفهوميّ ، لا انّ المفهوم مقدّم على العام اللّفظيّ .

(و) ان قلت : انتم سابقا قدمتم عموم التعليل ، على صدر الآية ، الدال على المفهوم ، فكيف تقدّمون الآن مفهوم صدر الآية على الآيات الناهية ؟ .

قلت : ( أما منع ذلك فيما تقدّم : من التعارض بين عموم التعليل ، وظهور المفهوم ) حيث تقدّم : بأن مفهوم الآية ، لا يكون مخصصا لعموم التعليل بل التعليل يقدم على المفهوم ، لأنّ التعليل في مفاده ، أقوى من صدر الآية في المفهوم ( فلما عرفت : من منع ظهور الجملة الشرطية ) في قوله سبحانه : « إِن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا » .

( المعلّلة بالتعليل ) في قوله سبحانه : « أن تُصِيْبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين » (1) .

( الجاري ) ذاك التعليل ( في صورتي : وجود الشرط ، وانتفائه ) لما تقدّم : من ان احتمال الندم في كلا الصورتين : صورة وجود الشرط وهو : مجيء الفاسق ، وعدم وجود الشرط ، وهو : مجيء العادل .

ص: 272


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع .

وربما يتوهم : ان للآيات الناهية جهة خصوص ، اما من جهة اختصاصها بصورة التمكن من العلم ، واما من جهة اختصاصها بغير البينة العادلة وأمثالها مما خرج عن تلك الآيات قطعا .

------------------

ولذلك نمنع ظهور الجملة الشرطية (في) المفهوم وهو : ( افادة الانتفاء عند الانتفاء ).

أما اذا لم تكن هنالك علة ، فالجملة الشرطية دالة على الانتفاء عند الانتفاء .

وعليه : فلا تناقض بين ماذكرناه سابقا : من تقديم التعليل على المفهوم ، وما ذكرناه لاحقا : من تقديم المفهوم على الآيات الناهية ( فراجع ) ما ذكرناه ليتبين لك الفرق بين المقامين .

( وربما يتوهم ) ان الآيات الناهية ، أخص من المفهوم ، لان الآيات اما مختصة بصورة التمكن من العلم - اذ مع عدم التمكن من العلم يعمل بالظن من باب الانسداد ، واما انها مختصة بغير البينة وما شابهها - إذ البيّنة وما شابهها كالفتوى قطعي الخروج - بينما المفهوم عام يشمل صورتي التمكن من العلم ، وعدم التمكن منه ، وكذا يشمل البينة وما شابهها ، وغير البينة فالآيات أخص من المفهوم فتقدَّم عليه ، كما قال ( ان للآيات الناهية جهة خصوص ) وللمفهوم جهة عموم .

اما جهة الاختصاص في الآيات فهو أولا : ( اما من جهة اختصاصها ) اي : الآيات (بصورة التمكن من العلم ) وانفتاحه - كما عرفتَ - .

(و) ثانيا : ( اما من جهة اختصاصها بغير البينة العادلة ، وأمثالها ، مما خرج عن تلك الآيات قطعا ) اذ الآيات الناهية لا تشمل البينة ، ولا فتوى الفقيه ، بينما المفهوم يشمل كليهما ، إذن فالآيات أخص ، ولذا تقدّم الآيات على المفهوم ،

ص: 273

ويندفع : الاول ، بعد منع الاختصاص ، بأنه يكفي المستدل كون الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد .

------------------

وتكون النتيجة : عدم حجية خبر العادل الذي لا يفيد العلم ، لانه مشمول للآيات الناهية عن العمل بغير العلم .

( ويندفع ) الوجه ( الاول ) بأمرين :

أولا : ( بعد منع الاختصاص ) اي اختصاص الآيات الناهية بصورة انفتاح باب العلم ، فانا لا نسلم : ان الآيات الناهية مختصة بصورة التمكن من العلم ، بل الآيات تدل على المنع عن العمل بغير العلم ، تمكن الانسان من العلم أم لم يتمكن ؟ .

لا يقال : كيف هذا وأنتم تقولون : يعمل في حال الانسداد بالظن ؟ .

لانه يقال : ذلك ليس عملا بالظن ، بل هو عمل بالعلم ، لان في حال الانسداد ، يحكم الشرع أو العقل بالعمل بالظن ، فيكون الظن لاستناده الى العقل أو الشرع : علميا .

وثانيا : ( بأنه يكفي المستدل كون الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد ) فان كلا من المفهوم والآيات ، يتصادقان في صورة الانفتاح ، ويبقى الانسداد للمفهوم فقط ، حيث ان الآيات لا تشمل حال الانسداد .

والحاصل : انا سلمنا اختصاص الآيات بصورة الانفتاح ، فيتعارض المفهوم مع الآيات في مادة الاجتماع ، وهي : خبر العادل حال الانفتاح ، فيرجع في مادة الاجتماع الى الأصل ، وهو : عدم حجيّة خبر العادل في حال الانفتاح .

الا انّه يكفي المستدل بمفهوم الآية : مادة الافتراق ، وهي حجية خبر العادل في صورة الانسداد ، فلا يكون كلامكم بتقديم الآيات على المفهوم مطلقا ،بل انّما يكون خاصا بصورة الانفتاح وموجبة جزئية ، وهي : حالة الانسداد المشمولة للمفهوم دون الآيات كافية للمستدل لحجيّة خبر الواحد بالمفهوم .

ص: 274

والثاني : بأن خروج ما خرج من أدلة حرمة العمل بالظن لا يوجب جهة عموم في المفهوم ،

------------------

هذا ( و ) يندفع الوجه ( الثاني : بأن ) اللازم ، تخصيص الآيات الناهية بالبينة ، والفتوى وخبر العادل جميعا وبنسبة واحدة ، لان جميعها أخص من الآيات الناهية ، خصوصا مطلقا ، فلا يجوز ان نخصص الآيات الناهية أولاً بخاص منها ، ثم نقلب النسبة بين العام والخاص الآخر ، ونقول : بأن النسبة انقلبت بينهما الى عموم من وجه ، فلا يجوز بعد الانقلاب أن نخصص العام بالخاص الآخر .

مثلا اذا ورد أولا : اكرم العلماء ، وورد ثانيا : لا تكرم فساق النحاة ، وورد ثالثا : لا تكرم فساق العلماء ، فاللازم عدم اكرام كل الفساق من النحاة وغيرهم ، لا أن نخصص أولاً : العلماء بفساق النحاة ، ثم نقول : صارت النسبة بين « أكرم العلماء غير فساق النحاة » ، وبين « لا تكرم فساق العلماء » عموما من وجه .

فالعالم الفقيه داخل في الاول فقط ، والنحوي الفاسق داخل في الثاني فقط .

والفاسق اللغوي هو مادة الاجتماع بينهما ، فلانه عالم ، داخل في : اكرم العلماء ، ولانه فاسق ، داخل في : لا تكرم فساق العلماء ، فيتعارض العامّان ويتساقطان بالنسبة اليه ، ويكون الاصل جواز كل من الاكرام وعدم الاكرام ، بالنسبة الى العالم الفاسق اللغوي .

وذلك لان (خروج ما خرج) كالبينة والفتوى ، وأمثالها (من أدلة حرمة العمل بالظن ) حيث ان الفتوى والبينة ، ونحوهما ، يجوز العمل بها وان كان ظنا نوعيا لا يوجب العلم ، فان خروج مثل هذه الامور عن الآيات الناهية (لا يوجب جهة) خصوص في الآيات الناهية ، وجهه (عموم في المفهوم) حتى تنقلب النسبة بين هذا الخاص الثاني ، والعام الاول ، الى العموم من وجه ، بعد ان كانت النسبة

ص: 275

لان المفهوم أيضا دليل خاص ، مثل الخاص الذي خصّص أدلة حرمة العمل بالظن ، فلا يجوز تخصيص العام بأحدهما أولاً ، ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص وبين الخاص الاخير .

فاذا ورد : « أكرم العلماء » ، ثم قام الدليل على عدم وجوب اكرام جماعة من فساقهم ، ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب اكرام مطلق الفسّاق منهم ،

------------------

بينهما عموما مطلقا .

وذلك ( لان المفهوم أيضا دليل خاص ) دال على حجية خبر العادل ( مثل ) الدليل (الخاص ) الدال على حجية البينة ، والفتوى ، فهما خاصان بالنسبة الى عام الآيات الناهية .

فخاص حجّية خبر العادل ، كالخاص ( الذي خصص أدلة حرمة العمل بالظن ) فالايات الناهية أعم من هذا الخاص ، ومن ذلك الخاص ( فلا يجوز تخصيص العام ) أعني الآيات الناهية ( بأحدهما ) أي بأحد الخاصين بأن نخصص الآيات الناهية بأدلة حجية الفتوى والبينة ، ونحوهما( أولا ، ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص ) بأدلة حجية البينة والفتوى ( وبين الخاص الاخير ) الذي هو مفهوم الآية الدال على حجية خبر العادل .

( فاذا ورد « أكرم العلماء » ، ثم قام الدليل ) الخاص ( على عدم وجوب اكرام جماعة من فساقهم ) بان قال مثلا : لا تكرم فساق النحاة ( ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب اكرام مطلق الفساق منهم ) أي : من العلماء فان دليل وجوب اكرام

ص: 276

فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الاول أولا ، ثم جعل النسبة بينه وبين الخاص الثاني عموما من وجه ، وهذا أمر واضح نبهنا عليه في «باب التعارض » .

------------------

العلماء الاول ، عام بالنسبة الى كلا الخاصين : لا تكرم فساق النحاة ، ولا تكرم مطلق فساقهم ، فكما يخصص العام بالمخصص الاول ، كذلك يخصص بالمخصص الثاني .

وعليه : ( فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الاول أولا ، ثم جعل النسبة بينه ) أي بين العام المخصص ( وبين الخاص الثاني عموما من وجه ) حتى يرجع في مادة الاجتماع ، الى أصالة عدم وجوب الاكرام في المثال ، وأصالة عدم الحجيّة فيما نحن فيه ، بل يكون الخاصان معا مخصصين للعام المطلق .

(وهذا أمر واضح ، نبهنا عليه في «باب التعارض») كما سيأتي ، فان النسبة تبقى نفس النسبة بين العام والخاص الثاني ،كما كان نفس النسبة بين العام ، والخاص الاول .

وقد عرفت : ان النسبة فيما نحن فيه من الادلة الثلاثة :

من الآيات الناهية العامة .

ومن مفهوم آية النبأ الدال على قبول خبر العادل .

ومن الخاص الثاني ، الدال على حجية الفتوى ، والبينة ، ونحوهما باقية جميعا على نفس تلك النسبة السابقة .

وهكذا حال أشباهها من النسب الاخرى ، كما اذا كانت النسبة بين عامين : من وجه فخرج عن أحدهما بعض ، لا تنقلب النسبة بين ذينك العامين الى العموم المطلق .

ص: 277

ومنها : ان مفهوم الآية لو دل على حجية خبر العادل لدل على حجية الاجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدس سرهم ، من عدم حجية خبر العادل ، لانهم عدول أخبروا بحكم الامام عليه السلام ، بعدم حجية الخبر .

------------------

فاذا قال - مثلا : اكرم العلماء .

وقال ايضا : لا تكرم الفساق .

وكان الفساق بين علماء وجهال ، فاخرج بدليل ثالث ، الجهال من لا تكرم الفساق ، فانه لا تنقلب النسبة فيهما ، بان يكون أكرم العلماء ، أعم مطلقا من لا تكرم الفساق بحجة انّه لم يبق تحت لا تكرم الفساق الا فساق العلماء وتكون النسبة حينئذ مثل ما اذا قال : اكرم العلماء ولا تكرم فساق العلماء ، حيث يكون لا تكرم فساق العلماء ، أخص مطلقا من أكرم العلماء .

بل تبقى مادة الاجتماع فيها ، بحكم مادة الاجتماع بين العامين من وجه ، وذلك لوضوح ان النسبة بين الجميع تكون ثابتة وواحدة لا ان النسبة فيها انقلاب وتغيير .

( ومنها ) وهو الثاني من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ ، القابلة للذب عنها ، لانها غير تامة هو ( : ان مفهوم الآية ، لو دل على حجية خبر العادل لدل ) هذا المفهوم (على حجية الاجماع ، الذي اخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدس سرهم : من عدم حجية خبر العادل ) .

وانّما يشمل مفهوم آية النبأ أخبار هؤلاء العلماء ( لانهم ) أي : هؤلاء العلماء أيضا (عدول أخبروا ) في ضمن الاجماع المدعى ( بحكم الامام عليه السلام بعدم حجية الخبر ) الواحد فيلزم أن يشمل المفهوم : التناقض بحجية خبر العادل ، وعدم حجية خبر العادل فيتساقطان ، فلا يبقى مفهوم ، فلو كان للآية مفهوم لم يكن لها

ص: 278

وفساد هذا الايراد أوضح من أن يبين ، اذ بعض الغض عما ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ، وبعد الغض عن أن اخبار هؤلاء معارض باخبار الشيخ قدس سره ، نقول : انّه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية .

أما أولا ، فلان دخوله يستلزم خروجه ، لانه خبر عادل فيستحيل دخوله .

------------------

مفهوم ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، فلا مفهوم للآية المباركة .

( وفساد هذا الايراد أوضح من أن يبين ، اذ بعد الغض عما ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ) لان أدلة حجية خبر الواحد ، انّما تدل على حجية الاخبار عن حس ، أو عن حدس مستند الى مبادي حسية مفيدة للعلم عادة .

ومن الواضح : ان ناقل الاجماع انّما ينقل قول الامام عليه السلام عن حدس ، مستند الى مبادي حسية لا تفيد العلم عادة ، فان اتفاق المعروفين من أهل الفتوى على شيء ، لا يكون مفيدا للحس بقول الامام عليه السلام ، وانّما يكون مفيدا للحدس بقوله ، ومثل هذا لا يكون مشمولا لادلة حجية الخبر .

( وبعد الغض عن أن اخبار هؤلاء ) أي : السيّد واتباعه بعدم حجية خبر الواحد (معارض باخبار الشيخ قدس سره ) وآخرون ، حيث انهم أجمعوا على حجية خبر العادل ، فكلا الاجماعين المتعارضين يتساقطان ، فلا يدخل أحدهما تحت مفهوم آية النبأ .

( نقول انّه لا يمكن دخول هذا الخبر ) أي : اجماع السيّد واتباعه ( تحت الآية ) بأن يكون مفهوم الآية شاملا لاخبار السيّد عن قول الامام عليه السلام باجماعه على

ماادعاه من عدم حجية الخبر ، وذلك لامور : -

( اما أولاً : فلان دخوله يستلزم خروجه ، لانه خبر عادل ، فيستحيل دخوله )

ص: 279

ودعوى انّه لا يعم نفسه مدفوعة بأنه وان لا يعم نفسه ، لقصور دلالة اللفظ عليه ، الا أنه يعلم أن الحكم ثابت لهذا الفرد ، للعلم بعدم خصوصية مخرجة له

------------------

لان ما يستلزم من دخوله خروجه ، محال أن يكون مشمولا للادلة ، فلو دخل خبر السيد تحت مفهوم الآية وكان حجة ثبت به عدم حجية خبر العادل ، واذا ثبت بخبره عدم حجية خبر العادل ثبت به عدم حجية نفسه أيضا ، لانه من جملة خبر العادل ، واذا ثبت بخبره عدم حجيته ، خرج عن المفهوم .

والنتيجة : انّه لو دخل خبر السيّد في المفهوم ، لخرج عن المفهوم ، وما يستلزم من وجوده عدمه ، فهو محال ، كما ذكروا مثل ذلك في قول القائل : كل خبري كاذب ، فانه لو شمل كل اخباره ، لكان هذا الخبر أيضا كاذبا ، واذا كان هذا الخبر أيضا كاذبا لم يكن كل أخباره كاذبا ، فلا يصح قول القائل : كل أخباري كاذبة .

( ودعوى : انّه ) أي : خبر السيّد ( لا يعم نفسه ) بأن يقال : خبر السيّد دخل تحت المفهوم وصار حجة ، فيثبت به عدم حجية خبر العادل من اخبار العدول الاخرين ، وعليه : فلا يلزم من دخول خبر السيّد في المفهوم ، خروجه عن المفهوم .

( مدفوعة : بأنه ) اي : بان خبر السيّد ( وان ) كان ( لا يعم نفسه ، لقصور دلالة اللفظ عليه ) لان قول السيّد ،ظاهر في اخبار الاخرين ، ولا يشمل نفس خبره ( الا انّه يعلم ) عقلا وعرفا ( أن الحكم ) بعدم حجية الخبر ( ثابت لهذا الفرد ) من خبر السيّد ايضا بتنقيح المناط ، لان خبر السيّد بعدم حجية الخبر هو أيضا خبر عادل غير علمي ، فقوله هذا شامل لنفسه أيضا بتنقيح المناط .

وانّا نقول ذلك ( للعلم بعدم خصوصية مخرجة له ) اي : لهذا الفرد الذي هو

ص: 280

عن الحكم .

ولذا لو سألنا السيّد عن انّه اذا ثبت اجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتكال عليه ، فيقول : لا .

------------------

خبر السيد ( عن الحكم ) وهو : ان الخبر الواحد ليس بحجة ، فاذا قال السيّد : ان خبر الواحد ليس بحجة ، فهو شامل لخبره أيضا ، لانه خبر واحد .

( ولذا لو سألنا السيّد عن انّه : اذا ثبت اجماعك لنا بخبر واحد ، هل يجوز الاتكال عليه ؟ فيقول : لا ) وانّما يقول السيّد : لا ، لانه يعلم ان خبر الواحد ليس بحجة ، وان خبره أيضا مصداق لخبر الواحد ، فالمناط كما يكون في سائر أخبار العدول ، كذلك يكون في خبر نفسه أيضا .

وشبه هذا في تنقيح المناط ، ما ورد في بعض التواريخ : من ان خارجيا كان يقول : ان عليا عليه السلام كافر يجب قتله ، لانه حكم في دين اللّه ، وكل من حكم في دين اللّه فهو كافر .

فقال له أحد العلماء : من اين تقول : ان من حكم في دين اللّه كافر وواجب القتل ؟ والحال أنا أقول : ليس كذلك ، واذا اختلفنا أنا وانت ، فما هو الفاصل بأني صادق أو أنت ؟ .

قال الخارجي : الحكم لاصحابي ، فهم يفصلون بيننا ، وانه هل أنا الصادق أو أنت الصادق ؟ .

قال العالم له : إذن أنت قد حكمت في دين اللّه وكفرت .

فقام أصحاب ذلك الخارجي اليه وقالوا له : نعم أنت قد حكمت الرجال في دين اللّه فيجب قتلك ثم قتلوه .

وعليه : فان المطلق والعام اذا لم يشمل بنفسه بعض أفراده لمحذور لفظي ،

ص: 281

وأما ثانيا ، فلو سلمنا جواز دخوله ، لكن نقول انّه وقع الاجماع على خروجه من النافين لحجية الخبر ومن المثبتين ، فتأمل .

وأما ثالثا ، فلدوران الامر بين دخوله ، وخروج ما عداه وبين العكس ،

------------------

فانه يشمل ذلك الفرد بتنقيح المناط .

( وأما ثانيا : فلو سلمنا جواز دخوله ) أي : دخول اجماع السيّد تحت الآية ( لكن نقول انه وقع الاجماع على خروجه ) وعدم حجيته اجماعا ( من النافين لحجية الخبر ومن المثبتين ) له .

أما النافون : فلما تقدَّم : من انّه لو سألنا السيّد عن حجية خبره ؟ يقول : ليس بحجة ، لانه يعلم ان خبره أحد مصاديق الخبر الواحد .

وأما المثبتون : فلانهم اذا قالوا بحجية أخبار العدول ، فلابد انهم يقولون بعدم حجية هذا الخبر والالزم التناقض في قولهم ، فاجماع السيّد خارج مطلقا ، واذا كان اجماع السيّد خارجا لم يكن مانع من دخول سائر أخبار العدول في مفهوم الآية المباركة ، لان المحذور - وهو : اجماع السيّد على عدم حجية الخبر - قد ارتفع .

( فتأمل ) ، لعله اشارة الى ان السيّد لا يقول : لا تأخذوا باجماعي ، بل يقول : ان اجماعي ثابت بالقرائن القطعية ، وليس هو من الخبر الواحد العاري عن القرائن ، بل هو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعية مما يؤخذ به .

( وأما ثالثا : فلدوران الامر بين دخوله ) اي اجماع السيّد ( وخروج ما عداه ) من اخبار الاحاد على كثرتها ( وبين العكس ) بأن تدخل تلك الاخبار ويخرج خبر السيّد .

وانّما كان الامر دائرا بينهما ، لان بين خبر السيّد وبين تلك الاخبار تناقضا ،

ص: 282

ولا ريب أن العكس متعين ، لالمجرد قبح انتهاء التخصيص الى الواحد ، بل لان المقصود من الكلام ينحصر في بيان عدم حجية خبر العادل .

ولا ريب أن التعبير عن هذا المقصود بما يدّل على عموم حجية خبر العادل ، قبيح

------------------

فلا يمكن جمعهما كما لا يمكن رفعهما ، فالازم : اما دخول خبر السيّد وخروج تلك الاخبار ، أو دخول تلك الاخبار وخروج خبر السيّد من مفهوم آية النبأ .

( ولا ريب أن العكس ) وهو خروج خبر السيّد من مفهوم الآية ، ودخول سائر الاخبار ( متعين ) فانه لابد من حمل مفهوم الآية على سائر أخبار العدول .

وانّما قلنا : بأن العكس متعين ( لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص الى الواحد ) فانه يقبح على الحكيم ان يقول : ان جائكم عادل بنبأ ، فلا تتبينوا ، ثم يستثني من قوله هذا جميع أخبار العدول ، ليبقى تحت ما ذكره ، خبر السيّد فقط ، فان انتهاء التخصيص الى الواحد بل الى الاكثر منه كالاثنين والثلاثة والاربعة والخمسة ، وما اشبه ، قبيح عند العقلاء .

وعليه : فقولنا بتعين العكس ، ليس لقبح تخصيص الاكثر فقط .

( بل لان المقصود من الكلام ، ينحصر في بيان عدم حجية خبر العادل ) فانه لو كان المقصود : بيان حجية خبر السيّد فقط - حيث ان خبر السيّد يسقط سائر الاخبار - يكون مقصوده في الحقيقة : بيان عدم حجية خبر العادل مطلقا ، الاّ خبر عادل واحد وهو : خبر السيّد المرتضى .

( ولا ريب ان التعبير عن هذا المقصود ) وهو : عدم حجية خبر العادل مطلقا ، باستثناء خبر السيّد المرتضى ( بما يدّل على عموم حجية خبر العادل ، قبيح ) .

بل اللازم في منطق العقلاء أن يقال : ان جائكم عادل بنبأ فتبينوا الاّ خبر السيّد

ص: 283

في الغاية وفضيح الى النهاية .

كما يعلم من قول القائل : « صدق زيدا في جميع ما يخبرك » فأخبرك زيد بألف من الاخبار ، ثم أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله : « صدّق ، الخ » خصوص هذا الخبر .

وقد أجاب بعض من لا تحصيل له : بأن الاجماع المنقول مظنون الاعتبار

------------------

لا أن يقال : ان جائكم عادل بنبأ فلا تتبينوا ويريد به خبر السيّد فقط ، فان مثل هذا الكلام قبيح (في الغاية ، وفضيح الى النهاية) اي : مفضوح ، كقتيل بمعنى : مقتول .

( كما يعلم ) قبح أن يأتي بالكلي ويريد خبرا واحدا فقط ( من قول القائل : «صدق زيدا في جميع ما يخبرك » فأخبرك زيد بألف من الاخبار ، ثم أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله « صدّق الخ . » خصوص هذا الخبر ) فانه من القبح بمكان ، لانه أراد بجميع ما يخبر : خبرا واحدا فقط ، وانّما اللازم على هذا القائل أن يقول : لا تصدق زيدا في أي خبر من أخباره الا خبرا واحدا ، وهو : اخباره بكذب اخباره جميعها .

( وقد أجاب ) عن هذا الاشكال الذي ذكرناه : من ان مفهوم آية النبأ ، لو دل على حجيّة خبر العادل ، لدل على حجية اجماع السيّد المرتضى ، واجماع السيّد ، يوجب عدم حجية خبر العادل : - أجاب ( بعض من لا تحصيل له ) - والمراد : انّه لا تحصيل له يعتد به فهو من قبيل : « يا أشباه الرجال ولا رجال » (1) - وقال : ( بأن الاجماع المنقول مظنون الاعتبار

ص: 284


1- - معاني الاخبار : ص310 ، الارشاد : ج1 ص279 ، دعائم الاسلام : ج1 ص390 ، الاحتجاج : ص174 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص75 ب27 .

وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار .

ومنها : أن الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة لا نصراف النبأ الى الخبر بلا واسطة ، فلا يعم الروايات المأثورة عن الائمة عليهم السلام ، لاشتمالها على وسائط .

------------------

وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار ) فاجماع السيّد المرتضى الدال على منع حجية خبر الواحد ، لا يعارض مفهوم آية النبأ الدال على حجية خبر الواحد ، لان مفهوم الآية مقدّم على اجماع السيّد .

وانّما كان هذا الجواب بنظر المصنّف ممن لا تحصيل له ، لان الاشكال لم يكن في وقوع التعارض بين المفهوم واجماع السيّد حتى يكون هذا جوابه ، بل الاشكال : في شمول المفهوم لاجماع السيّد مما يوجب خروج سائر أخبار العدول ، وهذا الجواب - كما ترى لا يكفي لرد هذا الاشكال .

( ومنها ) وهو الثالث من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ القابلة للذب عنها لعدم تماميتها هو ( ان الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة ، لانصراف النبأ الى الخبر بلا واسطة ) .

مثلاً : لو سمعنا محمد بن مسلم يقول : قال الصادق عليه السلام : كذا ، شمله مفهوم آية النبأ ، أما لو سمعنا زرارة يقول : قال محمد بن مسلم ، قال الصادق عليه السلام كذا ، فان مفهوم الآية لا يشمل خبر زرارة - هذا للانصراف المذكور .

وعليه : ( فلا يعم ) مفهوم الآية ( الروايات المأثورة عن الائمة عليهم السلام ، لاشتمالها ) كلها ، وكذلك المأثور عن الرسول ، والزهراء ، صلوات اللّه عليهم أجمعين ( على وسائط ) متعددة .

ص: 285

وضعف هذا الايراد على ظاهره واضح ، لان كل واسطة من الوسائط انّما يخبر خبرا بلا واسطة ، فان الشيخ قدس سره ، اذا قال : « حدثني المفيد ، قال : حدثني الصدوق ، قال حدثني أبي ، قال : حدثني الصفار ، قال : كتب اليَّ العسكري عليه السلام » ، فان هناك بمقتضى الآية أخبارا متعددة بتعدد الوسائط . فخبر الشيخ قوله « حدثني المفيد ، الخ » ، وهذا خبر بلا واسطة يجب تصديقه .

------------------

( وضعف هذا الايراد - على ظاهره - واضح ) وان كان مراد المستشكل ايضا ظاهر الاشكال المذكور ، فهو ايضا ضعيف جدا ( لان كل واسطة من الوسائط انّما يخبر خبرا بلا واسطة ) .

فان المخبر الذي هو يعاصرنا ، لا يخبرنا عن الامام عليه السلام رأسا حتى يكون خبرا بالواسطة ولا يشمله مفهوم الآية بل المخبر المعاصر لنا يخبر خبرا واحدا ومن تقدمه ، يخبر خبرا واحدا عمن تقدَّم عليه ، وهكذا ، فيكون كل خبر خبر ، خبرا بلا واسطة .

( فان الشيخ قدس سره اذا قال « حدثني المفيد : قال حدثني الصدوق ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الصفار ، قال : كتب اليَّ العسكري عليه السلام » ) حيث ان الصفار كان معاصرا له عليه السلام ( فان هناك بمقتضى الآية ) ومفادها (أخبارا متعددة بتعدد الوسائط ) ففي مثل المقام خمسة أخبار بلا واسطة ، لكنها أخبار طويلة كل خبر في طول الخبر الاخر .

( فخبر الشيخ قوله « حدثني المفيد الخ » ) فقط يعني : انتهى خبر الشيخ الى هذا الحد ( وهذا خبر ) عادل ( بلا واسطة يجب تصديقه ) ويثبت المخبر به أعني: اخبار المفيد ، ويكون كما لو سمعنا من المفيد يحدث ويقول «أخبرني...» .

ص: 286

فاذا حكم بصدقه وثبت شرعا أن المفيد حدّث الشيخ بقوله : « حدثني الصدوق » ، فهذا الاخبار - أعني قول المفيد الثابت بخبر الشيخ : « حدثني الصدوق » - أيضا خبر عادل وهو المفيد ، فنحكم بصدقه وأن الصدوق حدثه . فيكون كما لو سمعنا من الصدوق اخباره بقوله « حدثني أبي » ، والصدوق عادل فيصدق في خبره . فيكون كما لو سمعنا اباه يحدث بقوله : « حدثني الصفار » ، فنصدقه لانه عادل ، فيثبت خبر الصفار انّه كتب اليه العسكري عليه السلام ،

------------------

( فاذا حكم بصدقه ) أي : بصدق خبر الشيخ ( وثبت شرعا ان المفيد حدث الشيخ بقوله « حدثني الصدوق » ) الخ ( فهذا الاخبار أعني : قول المفيد الثابت بخبر الشيخ « حدثني الصدوق » أيضا خبر عادل : وهو المفيد فنحكم بصدقه ) ويثبت المخبر به ( و ) هو : ( ان الصدوق حدثه ، فيكون كما لو سمعنا من الصدوق اخباره بقوله « حدثني أبي » ) .

والفرق بين اخبار الشيخ واخبار سائر الوسائط : ان اخبار الشيخ ثابت لنا بالوجدان ، لانه أخبرنا مباشرة ، بينما اخبار سائر الوسائط لم يثبت لنا بالوجدان ، وانّما ثبت لنا بسبب التعبد ، فان مقتضى صدق الشيخ الذي اخبرنا : بان المفيد أخبره وصدق المفيد الذي أخبر الشيخ : بأن الصدوق أخبره ، وهكذا هو قبول خبره .

( والصدوق ) أيضا ( عادل فيصدق في خبره ) ويثبت المخبر به ، وهو : اخبار أبيه له ( فيكون كما لو سمعنا أباه يحدث بقوله « حدثني الصفار » ، فنصدقه ) أي : نصدق أبا الصدوق ( لانه عادل فيثبت ) المخبر به ، وهو : ( خبر الصفار : انّه كتب اليه العسكري عليه السلام ) فيكون حالنا كما لو سمعنا الصفار يحدث بقوله . كتب اليَّ

ص: 287

واذا كان الصفار عادلا وجب تصديقه ، والحكم بأن العسكري عليه السلام ، كتب اليه ذلك القول ، كما لو شاهدنا الامام عليه السلام يكتب اليه ، فيكون المكتوب حجة ، فيثبت بخبر كل لاحق أخبار سابقه . ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ، لان كل واسطة مخبر بخبر مستقل .

هذا ، ولكن قد يشكل الامر بأن

------------------

العسكري عليه السلام .

( واذا كان الصفار عادلا ، وجب تصديقه والحكم : بأن العسكري عليه السلام كتب اليه ذلك القول ) الذي تضمنته الرواية فيكون الامر ( كما لو شاهدنا الامام عليه السلام يكتب اليه ) أي : الى الصفار ( فيكون المكتوب حجة ) علينا .

وبهذا ( فيثبت بخبر كل لاحق أخبار سابقه ، ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ، لان كل واسطة مخبر بخبر مستقل ) والمخبر انّما يقبل خبره اذا كان عادلا ، والمفروض عدالة كل واحد واحد من هؤلاء الوسائط حتى انّه لو لم يكن من اخبرنا عادلا لم يثبت شيء من اخباره ولو لم يكن الشخص الاخير عادلا ، لم يثبت قول الامام عليه السلام وان ثبت ما تقدّم على قول الامام ، ولو كان أحد الوسائط غير عادل ، ثبت خبر من قبله ، أما من بعده ، فلا يثبت خبره .

( هذا ، ولكن قد يشكل الامر ) فيما لو تعددت الوسائط ، وذلك ( ب- ) سبب ( أن ) الاية تشمل الاخبار التي هي ثابتة لنا ، مع قطع النظر عن هذه الآية كخبر الشيخ في المثال ، وهو الخبر المباشر لنا ، ولا تشمل الآية المباركة الاخبار التي يتوقف ثبوتها على هذه الآية كخبر المفيد وغيره من الوسائط .

وانّما لا تشمل الاخبار التي هي كذلك ، لان الحكم يشمل الموضوع الثابت ، مع قطع النظر عن الحكم ، ولا يشمل الموضوع الثابت بنفس الحكم ، فان مرتبة

ص: 288

ما يحكيه الشيخ عن المفيد صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق فكيف يصير موضوعا لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع الخبرية الا به ، ويشكل : بان الآية انّما تدل على وجوب تصديق كل مخبر ، ومعنى وجوب تصديقه ليس الا ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على صدقه عليه ،

------------------

الموضوع قبل الحكم ولا يعقل ان يكون الموضوع متوقفا على الحكم ، لانه يستلزم الدور من : توقف الحكم على الموضوع ، وتوقف الموضوع على الحكم .

فان ( ما يحكيه الشيخ عن المفيد ، صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق ) لانه لما كان خبر الشيخ ثابتا لنابالوجدان ، وجب تصديقه بحكم الآية ، فثبت ما أخبر به وهو : اخبار المفيد ، فبسبب وجوب تصديق الشيخ ثبت خبر المفيد ، فخبر المفيد متوقف على : صدّق العادل ، فكيف يكون صدّق العادل ، حكما لخبر المفيد وهو يستلزم أن يكون : صدّق العادل تارة قبل خبر المفيد ، وتارة بعد خبر المفيد ؟ .

والى هذا المعنى اشار بقوله : ( ف- ) انّه ( كيف يصير ) خبر المفيد ( موضوعا لوجوب التصديق ، الذي لم يثبت موضوع الخبرية الاّ به ؟ ) أي بوجوب التصديق .

والحاصل : ان شمول مفهوم الآية للاخبار مع الواسطة مستلزم للدور ، وحيث ان الدور محال ، كان شمول الآية للاخبار مع الواسطة محالا ، لان مستلزم المحال محال - كما لا يخفى - .

( ويشكل ) عليه اشكال ثان وهو : ( بأن الآية انّما تدل على وجوب تصديق كل مخبر ) عادل ( ومعنى وجوب تصديقه : ليس الاّ ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على صدقه ) أي : صدق الخبر ( عليه ) أي : على الخبر .

ص: 289

فاذا قال المخبر : ان زيدا عدل ، فمعنى وجوب تصديقه وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على عدالة زيد من جواز الاقتداء به وقبول شهادته واذا قال المخبر : أخبرني عمرو ان زيدا عادل ، فمعنى تصديق المخبر على ما عرفت وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على اخبار عمرو بعدالة زيد ومن الاثار الشرعية المترتّبة على اخبار عمرو بعدالة زيد اذا كان عادلا ،

------------------

( فاذا قال المخبر ) كالشيخ - مثلا - ( ان زيدا عدل ) وهو خبر بلا واسطة ( فمعنى وجوب تصديقه : وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على عدالة زيد ، من : جواز الاقتداء به ، وقبول شهادته ) وجواز تقليده ، وصحة الطلاق عنده ، الى غير ذلك .

( و ) لكن ( اذا قال المخبر ) وهو الشيخ مثلا ( : أخبرني عمرو : ان زيدا عادل ) فهو خبر مع الواسطة ، لان الشيخ لم يخبر بعدالة زيد ، وانّما أخبرنا ، بأن عمروا قال : ان زيدا عادل .

( فمعنى تصديق المخبر ) وهو الشيخ ( على ما عرفت ) هو : ( وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على ) محكي المخبر وهو ( اخبار عمرو بعدالة زيد ) فيكون المخبر به هنا ، ليس هو عدالة زيد ، لان الشيخ لم يقل : أن زيدا عادل ، ليترتب آثار العدالة على خبر الشيخ ، بل المخبر به : فرد من خبر العادل ، يعني : اخبار عمرو بعدالة زيد ، فيجب ترتيب آثاره .

والحاصل : ان الشيخ عادل فيجب تصديقه ، واذا وجب تصديقه ثبت المخبر به ، أعني : اخبار عمرو بعدالة زيد ، فيجب ترتيب آثار هذا المخبر به ، ( و) هو : وجوب التصديق فانه ( من الاثار الشرعية ) له ( المترتبة على ) هذا المخبر به أي : ( اخبار عمرو بعدالة زيد ، اذا كان ) عمرو ( عادلا ) ليجب تصديقه .

ص: 290

وان كان هو وجوب تصديقه في عدالة زيد الا أن هذا الحكم الشرعي لاخبار عمرو انّما ثبت بهذه الآية ، وليس من الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية حتى يحكم بمقتضى الآية بترتيبه على اخبار عمرو به .

والحاصل ان الآية تدل على ترتيب الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به الواقعي على اخبار العادل ،

------------------

ولكن هذا ( وان كان ) الاثر ( هو وجوب تصديقه في عدالة زيد ، الاّ ان هذا الحكم الشرعي ) المترتب ( لاخبار عمرو ، انّما ثبت بهذه الآية ) فان معنى صدّق العادل : أي رتب الاثار ، فلا يمكن ان يكون نفس صدّق العادل من تلك الاثار ، لانه يستلزم أن يكون : صدّق العادل ، في مرتبة الحكم ، ومرتبة الموضوع معا .

هذا ، وقد تقدّم : ان مثل ذلك محال ، فانه لولا هذه الآية المباركة ، الدالة على : صدق العادل مفهوما ، لم يجب تصديق الشيخ ، واذا لم يجب تصديق الشيخ لم يتحقق المخبر به ، أي : اخبار عمرو ، فأثر اخبار عمرو الشرعي ، وهو : وجوب التصديق يثبت بنفس هذه الآية أيضا ( وليس ) وجوب التصديق هذا ( من الاثار الشرعية ، الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية ، حتى يحكم بمقتضى الآية : بترتيبه على اخبار عمرو به ) أي : بعدالة زيد .

وهذا بخلاف مثل الصلاة خلفه ، واحضاره مجلس الطلاق ، وقبول شهادته ، وجعله قاضيا ، أو مرجع تقليد ، أو ما أشبه ، فان كل تلك الاثار لم تثبت من الاية المباركة ، وانّما هي آثار خارجة عن الآية دلت عليها الادلة الشرعية .

( والحاصل : ان الآية تدل على ترتيب الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به الواقعي على اخبار العادل ) مثل جواز الاقتداء به ، والطلاق عنده ، وما أشبه .

ص: 291

ومن المعلوم أن المراد من الاثار غير هذا الاثر الشرعي الثابت بنفس الاية ، فاللازم على هذا دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به على الخبر ، الا الاثر الشرعي الثابت بهذه الآية للمخبر به اذا كان خبرا .

وبعبارة اخرى : الآية لاتدلّ على وجوب قبول الخبر الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له إلا بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ،

------------------

( ومن المعلوم : ان المراد من الاثار : غير هذا الاثر الشرعي ) أي : غير وجوب التصديق ( الثابت بنفس الآية ) فان أثر المخبر به في الاخبار بوسائط هو : وجوب التصديق الثابت بنفس هذه الآية .

إذن : ( فاللازم على هذا ) التقرير الذي ذكرناه : من كون ( دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به ) الواقعي ( على الخبر ) الذي جاء به العادل لازم ( الا الاثر الشرعي ، الثابت بهذه الآية للمخبر به ) وهو : تصديق العادل ، فلا نرتبه عليه فيما ( اذا كان ) المخبر به بواسطة خبر الشيخ ( خبرا ) أيضا .

فاذا قال الشيخ : زيد عادل ، رتبّنا آثار العدالة على زيد ، أمّا اذا قال الشيخ : قال المفيد : زيد عادل ، فانّ الأَثر : وجوب تصديق المفيد الذي قال : بان زيداً عادل ، فوجوب التصديق أثبت خبر المفيد فكيف يكون حكماً لخبر المفيد؟ فانّ قول المفيد جاء من قبل « صدّق » فكيف يكون « صدّق » حكماً له ؟ .

( وبعبارة أخرى : الآية لا تدلّ ) - كما قلنا - ( على وجوب قبول الخبر ، الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له ، إلاّ بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ) فقد يكون هناك خبر لانعلم صدقه أو كذبه ، فصدّق العادل يقول : إِنه صادق ، وقد نريد أَن نُثبِت بصدّق العادل : كون شيء خبراً .

مثل : صدّق العادل التابع لقول الشيخ ، فانه يريد إثبات خبر للمفيد مع انّا

ص: 292

لأنّ الحكم لايشمل الفرد الذي يصير موضوعاً له بواسطة ثبوته لفرد آخر .

ومن هنا يتجه أن يقال إنّ أدلّة قبول الشهادة لاتشمل الشهادة على الشهادة ، لأنّ الأصل لايدخل في موضوع الشاهد إلاّ بعد قبول شهادة الفرع .

لكن يضعّفُ هذا الاشكالُ ،

------------------

لانعلم هل أخبر المفيد أم لا ، إلاّ بسبب : صدّق العادل ، التابع لقول الشيخ ؟ .

وذلك ( لأنّ الحكم ) وهو : وجوب التصديق ( لايشمل الفرد ) وهو اخبار المفيد( الذي يصير موضوعاً له ) أي : لذلك الحكم ( بواسطة ثبوته ) أي : ثبوت الحكم ( لفرد آخر ) وهو خبر الشيخ في المثال . ( ومن هنا ) أي : من انّ الحكم لايشمل الفرد ، الذي تولد من شمول الحكم لفرد آخر ، وإِنما الحكم يشمل للأفراد الخارجية ( يتّجه أن يقال : إِنّ أدلّة قبول الشهادة ، لاتشمل الشهادة على الشهادة ) .

مثلاً : إذا شَهِدَ زيد : بانّ هذه الدار وقف ، قُبِلَت شهادته ، لإطلاق أدلّة قبول الشهادة ، كقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إِنَّما أَقضيَ بَينَكُم بالبيّنات والأَيمانِ » (1) .

أمّا إذا شَهِدَ عمرو : بأنّ زيداً شهد : انّ الدار وقف فلا تقبل شهادة عمرو ( لأنّ الأصل ) وهي شهادة زيد : بأنّ الدار وقف( لايدخل في موضوع الشاهد ) ولايتحقق ( إلاّ بعد قبول شهادة الفرع ) أي : قبول شهادة عمرو : بأنّ زيداً شَهِدَ : بأنّ الدار وقف ، والدّليل انّما دَلّ على قبول مابنفسه شهادة خارجية نعلم بانها شهادة ، ولم يدل على قبول ماكونه شهادة بسبب شهادة أخرى .

( لكن يضعّف هذا الاشكال ) وهو : عدم شمول الحكم ، للفرد الذي يثبت فرديته بعد شمول الحكم لفرد آخر ، بأمور :

ص: 293


1- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

أوّلاً : بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالاجماع ، كالاقرار بالاقرار ، ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة لو سلّمت ليست من هذه الجهة .

------------------

( أوّلاً : بانتقاضه بورود مثله ) أي : مثل هذا الاشكال ( في نظيره ، الثابت بالاجماع : كالاقرار بالاقرار ) فانه اذا أقرّ الشخص بالسرقة ، يقبل منه اقراره أمّا اذا أقرّ يوم الجمعة : بانه قد أقرّ يوم الخميس بالسرقة ، فانه يقبل منه أيضاً ، مع أنّ إقراره يوم الجمعة ليس اقراراً بالسرقة ، بل إقراراً باقرار يوم الخميس ، فهو من الاقرار بالاقرار ، وقد قام الاجماع على قبول هذا الاقرار الثاني ، فيثبت الاقرار الأول أيضاً . وهو : الصادر يوم الخميس .

وعليه : فاذا ثبت الاقرار بالاقرار ، ثبتت الشهادة بالشهادة ، لوحدة الملاك فيهما ، اذ ليس لنا إلا : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (1) وإلا « بالبينات والأيمان » (2) . فكما انّ : « إقرار العقلاء » . يشمل : اقرار الأصل والفرع ، كذلك «البيّنات» يشمل : بينة الأصل والفرع .

( ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة - لو سلّمت - ليست من هذه الجهة ) وإنما من جهة اخرى وهي كما ذكره الأوثق وبحر الفوائد ، وغيرهما : إنّ المانع من القبول في المثال ، هو : إفادة أَدلة إعتبار الشهادة إقامة الشهادة على الحق عند الحاكم مباشرة في صورة الامكان ، والشهادة على الشهادة لايتحقق فيها ذلك ، إذ الشهادة الاولى لم تكن عند الحاكم .

لكن لايخفى : إن هذا الوجه ليس عاماً لكل أقسام الشهادة على الشهادة ، فانه

ص: 294


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

وثانياً ، بالحلّ : وهو أنّ الممتنع هو توقف فرديّة بعض أفراد العام على إثبات الحكم لبعضها الآخر ، كما في قول القائل : كل خبري صادق أو كاذب ، أمّا توقف العلم ببعض الافراد وإنكشاف فرديته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر كما فيما نحن فيه ، فلا مانع منه .

------------------

إذا شهد شاهدان عند الحاكم الثاني : بقيام شاهدين عند الحاكم الأوّل ، لم يكن في مثل هذه الشهادة على الشهادة هذا المحذور .

هذا بالاضافة الى انّ بنائهم على قبول الشهادة على الشهادة في الجملة ، كما إِذا لم يتمكن الأصل من الحضور عند الحاكم ، لمرض ، أو لمانع آخر ، ومحل المسألة كتب الفقه .

( وثانياً : بالحلّ ، وهو : انّ الممتنع هو توقف فرديّة بعض أفراد العام ، على اثبات الحكم لبعضها الآخر ) بأن يكون الحكم مولداً لفرد وأمّا ان يكون الحكم كاشفاً لفرد آخر ، فليس هذا بممتنع .

فالأوّل : ( كما في قول القائل : كلّ خبري صادق أو كاذب ) فانّه يتوقف كون هذا خبراً على « صادق » اذ بدون « صادق » لايكون كل خبري بخبر ، وإِنما « كل خبري » موضوع الخبر فقط ، وكذلك بالنسبة الى كل خبري كاذب .

و ( أما ) الثاني : وهو : ( توقف العلم ببعض الأفراد ، وإنكشاف فرديته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر - كما فيما نحن فيه - فلا مانع منه ) ففي المثال السابق : « قال الشيخ : قال المفيد : » لم يكن وجود خبر المفيد سبباً لوجوب تصديق الشيخ - فانّ خبر المفيد كائن ومتحقق في عالم الخارج - بل ثبوت خبر المفيد وتحققه لنا نحن ، إِنّما هو بسبب قول الشيخ .

وعليه : فلا مانع من ثبوت هذا الحكم لهذا الفرد أيضاً ، لأنّه كما يشمل الحكم

ص: 295

وأما ثالثاً : فلأن عدمَ قابليّة اللفظ العامّ لأن يدخل فيه الموضوعُ الذي لايتحقّق ولايوجد إلاّ بعد ثبوت حكم هذا العامّ لفرد آخر ، لايوجب التوقّف في الحكم إذا عُلِمَ المناط الملحوظ في الحكم العامّ وان المتكلم لم يلاحظ موضوعاً دون آخر ، فاخبار عمرو بعدالة زيد فيما لو قال المخبر :

------------------

وهو : صدّق العادل خبر الشيخ يشمل فرده الآخر وهو : خبر المفيد أَيضاً .

( وأمّا ثالثاً : ف- ) لأنّا نقول : سلّمنا إِن « صدّق العادل » لايشمل خبر المفيد ، للمحذور الذي ذكرتموه ، لكن مناطه يشمل قول المفيد ، فهو مثل : كل خبري صادق ، فانّ نفس هذا اللفظ وان كان لايشمل نفس هذا الخبر ، للمحذور المتقدّم ، الاّ انّ مناطه شامل لنفس هذا الخبر أيضاً .

وذلك كما قال ( لأنّ عدم قابليّة اللفظ العام ) مثل : صدّق العادل ( لأن يدخل فيه الموضوع ) كخبر المفيد - في المثال - ( الذي لايتحقق ولايوجد الاّ بعد ثبوت حكم هذا العام ) وهو : صدّق العادل ( لفرد آخر ) وهو : إخبار الشيخ في مثالنا : « قال الشيخ : قال المفيد » .

فان ذلك : ( لايوجب التوقف في الحكم ) بأن نتوقف في شمول « صدّق العادل » لقول المفيد : ( إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العام ) وهو : اخبار العادل ، فان اخبار العادل هو المناط ، وكما انّ اخبار العادل يكون في قول الشيخ ، كذلك يكون في قول المفيد ، فيشمل « صدّق العادل » كلا الأمرين ، أي : اخبار الشيخ ، واخبار المفيد .

( و ) ذلك ل ( انّ المتكلم لم يلاحظ موضوعاً دون آخر ) فاخبار المفيد موضوع واخبار الشيخ موضوع ايضاً ، وكلا الموضوعين مشمول لصدّق العادل .

وعليه : ( فاخبار عمرو ، بعدالة زيد فيما لو قال المخبر ) كالشيخ - مثلاً- بان قال

ص: 296

أخبرني عمرو بأنّ زيداً عادل ، وإن لم يكن داخلاً في موضوع ذلك الحكم العامّ وإلاّ لزم تأخُر الموضوع وجوداً عن الحكم إلا أنّه معلوم أن هذا الخروج مستند إلى قصور العبارة وعدم قابليّتها لشموله ، لا للفرق بينه وبين غيره في نظر المتكلّم حتّى يتأمّل في شمول الحكم العامّ له ، بل لاقصور في العبارة بعدما فهم منها أن هذا المحمول وصفٌ لازمٌ لطبيعة الموضوع

------------------

( أخبرني عمرو : بأنّ زيداً عادل ) فانه ( وان لم يكن داخلاً في موضوع ذلك الحكم العام ) أي : « صدّق العادل » ( والاّ لزم : تأخر الموضوع وجوداً عن الحكم ) وقد تقدّم : انّ فيه المحذور إذ الموضوع يجب أن يكون متقدّماً على الحكم رتبة ، فلايمكن ان يكون الموضوع والحكم في رتبة واحدة .

( الاّ انّه معلوم انّ هذا الخروج ) أي : خروج هذا الفرد عن حكم العام : بان لايشمل « صدّق العادل » إخبار عمرو : بان زيداً عادل ( مستند الى قصور العبارة وعدم قابليتها لشموله ) فانّ العبارة لاتشمل إِخبار عمرو : بأن زيداً عادل .

( لا للفرق بينه ) أي : بين هذا الفرد ( وبين غيره ) من الأفراد ( في نظر المتكلم ) اذ جميع أفراد خبر العادل متساوية مناطاً في نظر القائل : «صدق العادل» ( حتى يتأمّل في شمول الحكم العام له ) أي : لهذا الفرد .

( بل ) كما لاقصور في المناط كذلك ( لاقصور في العبارة ) ايضاً ( بعدما فهم منها ) أي : من العبارة ( انّ هذا المحمول وصف لازم لطبيعة الموضوع ) وهذا جواب ثان ، فقد كان الجواب الأوّل يقول : إن المناط شامل لهذا الفرد ، وهذا الجواب يقول انّ اللفظ شامل لهذا الفرد .

وذلك إنّه اذا قال « صدّق العادل » فانه لايلاحظ المتكلم ، الأخبار المحققة مع قطع النظر عن هذا الحكم ، بل يلاحظ طبيعة الخبر بما هي هي ، بمعنى : انّ

ص: 297

ولا ينفك عن مصاديقه ، فهو مثل مالو أخبر زيد بعضَ عبيد المولى بأنّه قال : لاتعمل باخبار زيد ، فانّه لايجوز له العمل به ولو اتكالاً على دليل عامّ يدل على الجواز ويقول إنّ هذا العامّ لايشمل نفسه ، لأنّ عدم شموله له ليس إلاّ لقصور اللفظ وعدم قابليته للشمول ،

------------------

المتبادر هو : انّ وجوب التصديق ، من لوازم طبيعة الخبر ، سواء كان محققاً بنفسه أو بسبب الحكم ، وإِذا كان الحكم : « صدّق » ثابتاً للطبيعة ، والطبيعة متحققة في كل أفراده ، بالواسطة وبغير الواسطة ، يكون : « صدّق » حكماً لكل أفراد الخبر ، سواء كان خبراً بالواسطة أو بدون الواسطة .

( و ) عليه : فاذا فهم من العبارة : انّ هذا المحمول وصف لازم لطبيعة الموضوع بما هي طبيعة ، لابخصوصيّة من الخصوصيات . فانه ( لاينفك عن مصاديقه ) أي : عن مصاديق الموضوع ( فهو ) موجب لشمول العبارة لهذا الفرد أيضاً .

( مثل ما لو أخبر زيد بعض عبيد المولى بأنّه ) أي : المولى ( قال : لاتعمل باخبار زيد ، فانّه لايجوز له العمل به ) أي : حتى بهذا الخبر ، لأنّ الموضوع : طبيعة الخبر ، فيشمل نفس هذا الخبر أيضاً فلا يجوز للعبد أن يعمل بأي خبر لزيد ( ولو اتّكالاً على دليل عام يدل على الجواز ) كقول المولى إِعمل باخبار الثقاة ، فانّ لاتعمل باخبار زيد ، أخص مطلقاً من ذلك الدليل العام .

( و ) عليه : فلايجوز لذلك العبد أن ( يقول : إنّ هذا العام ) وهو قول المولى : لاتعمل باخبار زيد ( لايشمل نفسه ) أي : نفس هذا الخبر ( لأنّ عدم شموله له ) لو سلّمنا انّ العام لا يشمل نفس هذا الخبر ( ليس إلاّ لقصور اللفظ ، وعدم قابليّته للشمول ) لِما تقدَّم : من إنّ الفرد لا يكون مشمولاً للعام ، لأنّه يستلزم جمع

ص: 298

لا للتفاوت بينه وبين غيره من أخبار زيد في نظر المولى .

وقد تقدّم في الايراد الثاني من هذه الايرادات ما يوضح ذلك

------------------

الرتبتين : الموضوع ، والحكم في مكان واحد ، وذلك محال .

( لا للتفاوت بينه ) أي : بين هذا الخبر ، وهو قول : لا تعمل باخبار زيد ( وبين غيره من أخبار زيد ، في نظر المولى ) فان نظر المولى ان لا يعمل باخبار زيد ، سواء كان هذا الخبر أو سائر الأخبار ، لأنّ الحكم وهو : عدم العمل ، طاريء على طبيعة خبر زيد ، وطبيعة خبر زيد سارية في هذا الخبر ، وفي سائر أخباره ، فيشمل الحكم هذا الخبر أيضا ، وإذا شمل هذا الخبر ، حرم العمل به .

وهذا يدل - أيضا - على وجوب ترتيب طبيعة الأثر على خبر العادل - في قولنا : « صدّق العادل » سواء تحقق الأثر مع قطع النظر عن الآية ، كسائر الأفراد ، أو تحقق بملاحظة الآية ، كوجوب التصديق ، فلا يرد شيء من الاشكالين المتقدمين على مفهوم الآية المباركة .

لكن لا يخفى : انّ المصنّف لو مثَّل لشمول الطبيعة ، بقول المولى لبعض عبيده : اعمل باخبار زيد ، لكان أولى من مثال : لا تعمل باخبار زيد ، لانّه لا مانع فيه من العمل ، بخلاف « لا تعمل » فانه لا يمكن أن يشمل « لا تعمل » كل الاخبار ، التي منها هذا الخبر ، فأما هذا الخبر خارج ، أو سائر الاخبار خارجة .

كما إن هذا هو الفرق بين : كل اخباري صادقة ، وبين : كل اخباري كاذبة ، فانّ الأوّل يشمل كل الأخبار حتى نفس هذا الخبر ، بخلاف الثاني ، فانه لايعقل شموله لكل الأخبار بما فيها هذا الخبر بنفسه .

( وقد تقدّم في الايراد الثاني من هذه الايرادات ) التي ذكرنا : إِنها قابلة للذّب عنها ( مايوضح ذلك ) حيث قال المصنّف : بأنّ خبر السيد يشمل نفسه أيضاً

ص: 299

فراجع .

ومنها : أنّ العملَ بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة غيرُ ممكن ، لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، فيجب تنزيلُ الآية على الاخبار في الموضوعات الخارجيّة ، فانّها هي التي لا يجب التفحّصُ فيها عن المعارض ،

------------------

بتنقيح المناط ، ولذا لو سألنا السيد الى آخر ماذكر هناك ( فراجع ) ذلك .

( ومنها ) وهو الرابع من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ القابلة للذّب عنها هو ( : انّ العملَ بالمفهوم في الاحكام الشرعيّة غيرُ ممكن ) وإذا كان مفهوم الآية المباركة : إن جائكُم عادِلٌ بنَبأ فلا تَتَبينوا ، لم يكن العمل بخبر العادل ممكناً في الأحكام الشرعيّة ( لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ) . فانّ العادل اذا أخبر بوجوب صلاة الجمعة - مثلاً - فمقتضى الآية : قبول خبره وعدم وجوب التبيّن عنه ، والحال انّ الفحص عن وجوب الجمعة واجب ، اذ لايعمل في الأحكام بخبر الاّ بعد الفحص والبحث عن المعارض ، والمخصص ، والمقيد ، وما أشبه ذلك .

وحيث لايمكن العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة ( فيجب تنزيلُ الآية على الأخبار في الموضوعات الخارجية فانّها هي التي لايجب التفحّصُ فيها عن المعارض ) فاذا أخبر عادل : بأنّ هذه الدار لزيد ، كان مقتضى مفهوم الآية المباركة : عدم وجوب التبيّن في ذلك ، فانه لادليل على وجوب الفحص عن أنه هل العادل صادق في كلامه، أم ليس بصادق ؟ فيعمل بالآية في الموضوعات فقط.

ان قلت : انّ في الموضوعات أيضاً لايقبل قول العادل الواحد ، لأنّه يحتاج الى إِنضمام عادل آخر إليه لتحصيل الشهادة .

ص: 300

ويجعل المرادُ من القبول فيها هو القبول في الجملة ، فلاينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه . فلايقال : إنّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقاً يستلزم قبوله في الأحكام بالاجماع المركّب والأولوية .

------------------

قلت : ( ويجعل المرادُ من القبول فيها ) أي في الموضوعات ( هو : القبول في الجملة ) فانّ المراد من العمل بالآية في الموضوعات ، هو : العمل بقول العادل إذا إِنضم إِليه عادل آخر ، بدون وجوب الفحص .

وعليه : ( فلاينافي ) العمل بقول العادل في الموضوعات في الجملة ( إعتبار إنضمام عدل آخر إليه ) في غالب الموضوعات وإن كان ربما يلزم إنضمام اكثر من عدل آخر ، كما في الشهادة على الزنا ، واللواط ، ونحوهما .

( فلا يقال ) إنه مع ماذكرتم : من أن الآية في الموضوعات لا في الأحكام ( انّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة ) لا الأحكام ( مطلقاً ) أي : سواء قلنا : باحتياج الموضوعات الى إنضمام عدد آخر الى الخبر الواحد ، أو لم نقل بذلك ( يستلزم قبوله ) أي : قبول خبر الواحد ( في الأحكام ) لأمرين .

أولاً : ( بالاجماع المركّب ) فانه قد ذهب بعض العلماء الى عدم حجّية خبر الواحد مطلقاً ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ، كالسيّد المرتضى .

وقد ذهب بعضهم الى حجّيته في الأحكام فقط ، كالمشهور ، ولم يذهب أحد الى حجّيته في الموضوعات فقط .

وعليه : فاذا دلّت الآية على حجّية خبر الواحد في الموضوعات - كما إعترفت أنت - فالعلماء مجمعون على حجّيته في الأحكام أيضاً .

( و ) ثانياً : ( الأَولويّة ) فانه إذا جعل الشارع خبر الواحد حجّة في الموضوعات، وهي أهم من الأحكام لزم ان يجعل خبر الواحد حجّة في الأحكام،

ص: 301

وفيه : انّ وجوبَ التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الاحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر ، فانّ الأوّل يؤكّد حجّية خبر العدل ولا ينافيها ،

------------------

لانها أقل أهمية من الموضوعات .

وإنما كانت الموضوعات أهم لتوفير الدواعي في إخفاء الموضوعات ، كما في باب الشهادة حيث انّ بعض الناس يريدون أكل أموال الناس بالباطل ، وغصب نسائهم ، وإراقة دمائهم ، وما الى ذلك .

ولهذا لم يقبل الشارع شهادة الواحد في الموضوعات وان قبلها في الاحكام ، فخبر زُرارَة - مثلاً - حجّة في نقله عن الامام الصادق عليه السلام انّ صلاة الجمعة واجبة وليس قول زُرارَة حجّة فيما إذا شهد : بأنّ الدار لزيد في مقام المنازعات .

والحاصل : انّ الموضوعات أهم ، فاذا قبل الواحد فيها بشرط عدد آخر ، أو بدون شرط الآخر ، كان جعل الشارع الواحد حجّة في الأحكام بطريق أولى .

إذن : فالآية لاتدل على حجّية خبر العدل ، اذ كما يجب التبيّن في خبر الفاسق ، كذلك يجب الفحص عن المعارض في خبر العادل ، فكل من خبر العادل والفاسق ، لايمكن العمل به بدون فحص أو تبيّن ، فالخبران سيّان من هذه الجهة .

( وفيه : انّ وجوبَ التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر ) الذي جاء به الفاسق ، فالفحص عن المعارض معناه : انّ الخبر حجّة في نفسه لكن لانعلم هل أسقط حجّيته معارض أم لا ؟ والتبيّن عن الحجّية في خبر الفاسق معناه : انّ الخبر ليس بحجّة في نفسه فيُستَبان عن حجّيته ، فهما أمران متقابلان .

( فانّ الأوّل : ) أي : وجوب التفحص ( يؤكد حجّية خبر العدل ولا ينافيها )

ص: 302

لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا . والتبيّن المنافي للحجّية هو التوقف عن العمل والتماس دليل آخر، فيكون ذلك الدّليل هو المتّبع ولو كان أصلاً من الاصول .

------------------

أي : لاينافي حجّية خبر العدل ( لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى ) انّ هذا الخبر الذي هو واجب العمل به - ممّا جاء به العادل حسب مفهوم الآية - هل له معارض واجب العمل أم لا؟ وإذا كان له معارض فهل يرجّح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، أو يتساويان ؟ .

فمرجعه الى ( الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا ) الخبر ، فانّ هذا الخبر واجب العمل به لولا المعارض ، فهل هناك معارض يرجّح عليه ، أو يساويه ؟ .

( و ) أمّا الثاني وهو وجوب التبيّن ، فمعناه : عدم الاعتناء بالخبر ، ووجوب تحصيل الثقة من الخارج ، فانّ ( التبيّن المنافي للحجّية ، هو : التوقف عن العمل ) بخبر الفاسق ، لأنّه قبل التبيّن لايجوز العمل بالخبر ، وليس الخبر بحجّة في نفسه ( و ) إنما يجب ( التماس دليل آخر فيكون ذلك الدّليل ) الآخر الخارجي ، الذي يسمّى الفحص عنه : بالتبيّن ( هو المتّبع ، ولو كان ) ذلك الدليل الخارجي ( أصلاً من الاصول ) كما اذا جاء الفاسق - مثلاً- : بعدم وجوب صلاة الجمعة ، فان الأصل يؤيد عدم الوجوب .

والحاصل : انّ وجوب التّفحص الذي هو في خبر العادل ، مؤكد للحجّية ، ووجوب التبيّن الذي هو في خبر الفاسق ، مناف للحجّية ، فلايمكن ان يقال : كما انّ الآية تدل على عدم حجّية خبر الفاسق ، كذلك تدل على عدم حجّية خبر العادل ، لأنّه كما يحتاج خبر الفاسق الى التبيّن ، كذلك يحتاج خبر العادل الى

ص: 303

فاذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر وإذا وجده أخذ بالأرجح منهما . وإذا يئس عن التبيّن توقف عن العمل ورجع إلى مايقتضيه الاصول العمليّة . فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل

------------------

التفحص ، فالتّفحص والتبين متقابلان على ماعرفت .

( فاذا ) فحص الانسان عن المعارض لخبر العادل ، و( يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر ) الذي جاء به العادل ( وإذا وجده ) أي وجد المعارض ( أخذ بالأرجح منهما ) اذا كان هناك ترجيح في البين وإِلاّ فهما متساويان في جواز العمل وعدم جوازه .

( و ) لكن ( إذا يئس عن التبيّن ) الخارجي بالنسبة الى خبر الفاسق ، بأن جاء فاسق بخبر ، فتبين عنه فلم يحصل على مايؤيده أو ينافيه ( توقف عن العمل ) بخبر الفاسق ( ورجع الى مايقتضيه الاصول العمليّة ) لأنّه اذا لم يكن دليل إجتهاديّ في البين لابّد وأن يكون هناك أصل عملي - على ماقرر في الاصول - .

مثلاً : إذا قام خبر الفاسق : بحرمة التبغ ، توقف ورجع الى الخارج ، فان كان مايدلّ على الحرمة التبغ ، وإلاّ أجرى البرائة ، وكذلك في مجاري سائر الأصول من : الاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير .

فخبر العادل قبل التفّحص حجّة ، وكذا بعد التفّحص ، وَصَلَ الفاحص الى الخبر أو الى معارضه ، ترجيحاً أو تساوياً أم لا ، بخلاف خبر الفاسق قبل التبيّن ، فانه ليس بحجّة وكذا بعد التبيّن ، وَصَلَ المُتَبيِّن الى الدليل الخارجي ، أو الأصل العملي أم لا ، فخبر العادل حجّة على كل حال ، وخبر الفاسق ليس بحجّة على كل حال .

إذن : ( فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل ) إبتداءاً

ص: 304

بمجرّد المجيء إلاّ أنّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون الأوّل . ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأوّل ويؤخذ بالأرجح في الثاني ، فتتبع الأدلّة في الأوّل لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبرُ الفاسق ، وفي الثاني لطلب المانع عمّا إقتضاه الدليلُ الموجود .

ومنها :

------------------

( بمجرّد المجيء ) لأنّ خبر العادل يحتاج الى التّفحص ، وخبر الفاسق يحتاج الى التبيّن .

( إلاّ ) انّ اللازم في الأوّل ، وهو خبر الفاسق التوقف والرجوع الى الغير ، وفي الثاني وهو خبر العادل : الفحص ثم الرجوع اليه ، أو الى الأرجح منه ، أو الى التخيير .

وذلك ( انّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني ) أي بخبر العادل ( دون الأوّل ) أي : خبر الفاسق . ( ومع وجدان المنافي يؤخذ به ) أي بالمنافي ( في الأوّل ) أيفي خبر الفاسق ( ويؤخذ بالأرجح في الثاني ) أي في خبر العادل .

( فتتبع الأدلة في الأوّل ) أي : في خبر الفاسق ( لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبرُ الفاسق ) فانه إذا دلّ خبر الفاسق - مثلاً - على حرمة التتن فهو بنفسه لايقتضي الحرمة ، بل لابد من تحصيل المقتضي للحرمة من الخارج ، وإلاّ فاللازم العمل بالأصل ، والأصل هو البرائة .

( وفي الثاني : ) وهو خبر العادل ، إنّما يكون الفحص ( لطلب المانع عمّا إقتضاه الدليلُ الموجود ) فان خبر العادل هو دليل موجود ، مقتضي للحكم الذي دلّ عليه ، وانّما نفحص عن المعارض لنرى : هل هناك مانع عن هذا المقتضي أم لا ؟ .

( ومنها ) وهو الخامس : من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ - على حجّية

ص: 305

انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة التي منها مورد الآية ، وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، و من المعلوم أنّه لايكفي فيه خبرُ العادل الواحد ، بل لا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلابّد من طرح المفهوم ، لعدم جواز اخراج المورد .

وفيه : انّ غاية الأمر لزوم تقييد

------------------

خبر العادل - ممّا يمكن الذّب عنه ، هو : ( انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة ، التي منها مورد الآية ، وهو ) أي : مورد الآية : ( إخبار الوليد بارتداد طائفة ) من بني المصطلق ، فانّ مورد الآية في الموضوعات ( و ) الموضوعات لا يعمل بها بخبر العدل الواحد لاحتياجها الى العدلين ، لأنّ البينة هي التي تكون حجّة في الموضوعات ، وليس خبر العدل الواحد بحجّة فيها .

والنتيجة : انّ المورد لايعمل فيه بالآية لوضوح : انّه ( من المعلوم : انّه لايكفي فيه ) أي في مورد الآية ، وهو من الموضوعات ( خبرُ العادل الواحد بل لا أقل من إعتبار العدلين ) حتى تتحقق البينة ، التي هي حجّة في الموضوعات .

إذن ( فلابدّ من طرح المفهوم ) وهو : حجّية خبر العادل ( لعدم جواز إخراج المورد ) فانه يستحيل أن يكون للآية مفهوم يعمل به في الأحكام ، ولا يعمل به في الموضوعات التي منها مورد الآية .

فان معنى الآية بناءاً على المفهوم : « إن جائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَنُوا ، وإن جائَكُم عادِلٌ فَلا تَتَبَيَنُوا » مع انّه اذا جاء العادل بارتداد بني المصطلق ، لايعمل بخبره ، بل إحتاج الأمر الى عادلٍ ثان ، فاذا كان للآية مفهوم ، لزم اخراج المورد ، وإخراج المورد قبيح .

( وفيه : إنّ غاية الأمر ) ونهاية مايجاب به الأشكال المذكور هو : ( لزوم تقييّد

ص: 306

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل . فكلّ واحد من خبري العدلين في البينة لايجب التبيّن فيه .

وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها ،

------------------

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات ، بما إذا تعدد المخبر العادل ) فانّ الآية معمول بها في الأحكام مطلقاً ، لأنّ خبر العادل في الأحكام حجّة وإن كان واحداً ، أمّا في الموضوعات ، فلايعمل بالمفهوم إلاّ مقيداً بقيد التعدد .

( فكلّ واحد من خبري العدلين في البيّنة ) حجّة ( لايجب التبيّن فيه ) وإن كان أحدهما مقيداً بالآخر .

هذا بالاضافة الى انه يمكن أن يقال : انّ الحالة الثورية لا تتقيد بقيود الحالة الطبيعية ، للضرورة في الثورة ، وليست الضرورة في الحالة العاديّة ، فلهما حكمان ، إذ الحالة الثورية من الاستثناء ، ولهذا يقبل في الحالة الثورية ، خبر الواحد العادل في الموضوعات ، بخلاف الحالة الطبيعية ، وقد ألمَعنا الى مثل هذا ، في كتاب : « الآداب والسنن » (1) حول إختلاف حال الرسول وعليّ عليهماالسلام في بعض الآداب ، عن حال الامام الباقر والصادق عليهماالسلام في مثل تلك الآداب .

( وأمّا لزوم إخراج المورد ) الذي ذكره المستشكل ( فممنوعُ ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها ) فانّ منطوق الآية يدلّ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق مطلقاً ، سواء كان في الاحكام أو في الموضوعات ، أو كان في الارتداد أو غير الارتداد ، الى غير ذلك ، ومن الواضح : انّه يعمل بهذا المنطوق في جميع موارده ، حيث لايعمل بخبر الفاسق إلاّ بعد التبيّن .

ص: 307


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

وجعلُ أصل خبر الارتداد مورداً للحكم بوجوب التبيّن إذا كان المخبرُ به فاسقاً ، ولعدمه إذا كان المخبر به عادلاً ، لايلزم منه إلاّ تقييد لحكمه في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء .

------------------

وعلى هذا : فالمورد ليس بخارج وإن قيدنا المفهوم في الموضوعات بقيود اخر ، مثل : قيد التعدد في الشهادات العادية الى الاثنين ، وفي غير العادية كالزنا ونحوه الى أربع ، وغير ذلك ، فانه لايلزم منه خروج المورد - على ماذكره المستشكل - ومن الواضح : انّه لايستشكل على المنطوق بأنّه قيّد أو خصص ، ولا على المفهوم بأنّه قيّد أو خصص حتى على فرض إختصاص العمل بالمفهوم في الاحكام دون الموضوعات بما فيها مورد الآية من الارتداد .

( و ) عليه : فان ( جعلُ أصل خبر الارتداد مورداً للحكم بوجوب التبيّن ، إذا كان المخبر به ) أي : بالارتداد ( فاسقاً ) كالوليد ( ولعدمه ) أي : لعدم الحكم بوجوب التبيّن ( إذا كان المخبر به عادلاً ) فالارتداد إذا جاء به الفاسق وجب التبيّن عن خبره ، وإن جاء به العادل ، لايجب التبيّن عن خبره ( لايلزم منه ) أي : من هذا الجعل ( إلاّ تقييد لحكمه ) أي : لحكم المورد ( في طرف المفهوم ) وهو : ان جائكم عادل فلا تتبينوا ( وإخراج بعض أفراده ) أي : بعض افراده المورد .

فانّ الفاسق إذا جاء بالارتداد ، وجب التبيّن عن خبره مطلقاً ، أما إذا جاء العادل بالارتداد ، فانّه يقيد بإنضمام عادل آخر في هذا المورد اليه ، فكل من المفهوم والمنطوق قد عمل به في مورده، إلاّ أنّ المفهوم قد قيد بقيد الانضمام الى عادل آخر.

( و ) من المعلوم : انّ ( هذا ) التقييد وإخراج بعض الأفراد ، وهو : ما اذا كان العادل واحداً ( ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء ) وإِنما هو من تقييد

ص: 308

ومنها : ماعن غاية المباديء ، من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لايستلزم العمل ، لجواز وجوب التوقف .

------------------

المطلق ، أو تخصيص العام .

وربمّا يقال في هذا المعنى : انّ طبيعة الفسق تستدعي التبيّن ، واحداً كان الفاسق أو أكثر ، وطبيعة العدالة تستدعي عدم التبيّن كذلك ، ففي بعض الموارد يكفي العادل الواحد ، كالفتوى ، وأهل الخبرة ، وفي بعض الموارد يكفي إِثنان ، كما في البينة ، وفي بعض الموارد يلزم الأربعة ، كما في الشهادة على الزنا ونحوه .

فالآية في مقام بيان الطبيعة لا الخصوصيات ، وليس في المقام تقييد أيضاً ، لأنّه من قبيل قول الطبيب للمريض : لابّد ان تشرب الدواء ، فاذا بيَّنَ خصوصيات الدواء لم يكن من التقييد ، وإنما كان من تبيين المحمل أو المهمل .

( ومنها ) وهو السادس من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ - على حجّية خبر العادل ممّا يمكن الذّب عنه وهو : ( ما عن غاية المباديء ) للشهيد الثاني (من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبين ، وهو ) أي : عدم وجوب التبيّن ( لا يستلزم العمل، لجواز وجوب التوقف)(1) اذ هناك ثلاثة اُمور على النحو التالي:

الأوّل : وجوب التبيّن في خبر الفاسق .

الثاني : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يرد بلا تبين .

الثالث : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يقبل بلا تبين .

والمفهوم ساكت عن المعنيين ، ولم يعلم بانّه هل خبر العادل يرد بلا تبيّن ، أو يقبل بلا تبين ؟ .

ص: 309


1- - غاية البادي : مخطوط .

وكأنّ هذا الايراد مبنيٌّ على ما تقدّم فساده من إرادة وجوب التبيّن نفسيّاً ، وقد عرفت ضعفه ، وأنّ المراد وجوب التبيّن لأجل العمل عند إرادته وليس التوقفُ حينئذٍ واسطةً .

ومنها : انّ المسألة اُصوليّة ، فلايكتفي فيها بالظنّ .

------------------

( وكأنّ هذا الإِيراد مبنيٌّ على - ما تقدّم فساده من - إرادة وجوب التبيّن نفسياً ) حيث قد تقدّم : انه لو رُدّ خبر العادل بلا تبيّن ، وقبل خبر الفاسق مع التبيّن ، لكان خبر العادل أسوء من خبر الفاسق ، وبضميمة هذه المقدّمة الخارجية أصلح وجوب القبول بلا تبيّن في خبر العادل .

( وقد عرفت ضعفه ) لأن وجوب التبيّن ليس نفسياً ، بل مقدميّاً للعمل ( و ) عرفت : ( انّ المراد : وجوب التبيّن ) شرطاً ( لأجل العمل عند إرادته ) أي عند ارادة العمل ، فليس التبيّن واجباً نفسياً أراد العمل أو لم يرد .

فيكون المعنى على مقدميّة وجوب التبيّن للعمل وشرطيته : إن جائكم فاسق بنبأ ، وجب التبيّن فيما يراد العمل بذلك النبأ ، وإن جائكم عادل بنبأ وأردتم العمل به فلايشترط فيه التبيّن ، وإلاّ فخبر الفاسق ، الذي لايراد العمل به ، أيضاً لايشترط فيه التبيّن - كما هو واضح - .

( وليس التوقف حينئذ واسطةً ) بين وجوب التبيّن ، والقبول بلا تبيّن ، بل هناك : التبيّن في مرحلة العمل ، إن جاء به الفاسق وعدم التبيّن ان جاء به العادل فلا تردد للمفهوم بين الاحتمالين المذكورين ، كما لاحاجة الى ضمّ المقدّمة الخارجية ، بل ظاهر الآية : تعيّن القبول بلا تبيّن .

( ومنها ) وهو السابع من تلك الايرادات القابلة للذّب عنها ، هو : ( إنّ المسألة ) أي : حجّية خبر الواحد مسألة ( اُصوليّة ، فلا يكتفي فيها بالظنّ ) الحاصل من

ص: 310

وفيه : أنّ الظّهور اللّفظي لابأس بالتمسك به في أصول الفقه ، والاصول التي لايتمسّك لها بالظّن مطلقاً هو اُصول الدّين لا أصول الفقه ، والظنّ الذي لايتمسك به في الاصول مطلقاً هو مطلق الظنّ ،

------------------

ظاهر الآية ، فان المسائل الفقهية هي التي يكون الظهور فيها حجّة ، أما المسائل الاُصولية - فلأنّها تشمل كثيراً من الفروع ، ولايكتفي فيها بالظن الحاصل من ظاهر آية أو رواية ، أو ماأشبه - فهي تحتاج الى القطع ، واليقين ، والأدلة العقلية القوية .

( وفيه : انّ الظهور اللّفظي ، لابأس بالتمسّك به في أُصول الفقه ) فيجوز إثبات حجّية خبر العادل بظاهر آية النبأ ، فان الظواهر توجب الظن الخاص ، الذي هو بمنزلة العلم ، لِما قد سَبق : من إجماع العلماء والعقلاء على العمل بالظواهر ، ومن أين انّ المسائل الاصولية لايكتفي فيها بالظن الخاص ؟ .

( والاصول التي لايتمسك لها بالظّن مطلقاً ) سواء كان ظناً خاصاً أو ظناً انسدادياً - اذا حصلت مقدّمات الانسداد- ( هو اصول الدّين لا اصول الفقه ) اذ لابد في الاول دون الثاني من العلم والاعتقاد والقطع واليقين ، ولايكفي فيها الظنّ خاصاً كان أو عاماً انسدادياً .

قال سبحانه : « فاعلَم أَنَّهُ لا إلهَ إلاّ هو » (1) ، وغير ذلك من الأدلّة التي أقاموها في مبحث الكلام على وجوب العلم والاعتقاد في أُصول الدّين .

( والظنّ الذّي لايتمسّك به في الاصول مطلقاً ) سواء كان أصل دين أو أصل فقه ، انّما ( هو مطلق الظنّ ) الذي لم يثبت حجّيته بدليل خاص ، كالشهرة الفتوائية والقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك من الظّنون التي

ص: 311


1- - سورة محمد : الآية 19 .

لا الظنّ الخاصّ .

ومنها : انّ المرادَ بالفاسق مطلقُ الخارج عن طاعة اللّه ولو بالصّغائر . فكلّ من كان كذلك أو إحتمل في حقّه ذلك وجبَ التبيّنُ في خبره

------------------

يعمل بها العامة ، ولايعمل بها الخاصة ، فانّ الظنّ المطلق لايكفي في اصول الدين ولا في اصول الفقه .

( لا الظنّ الخاصّ ) الثابت حجّيته بالكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، فانه يكفي ذلك في اصول الفقه - كما تقدّم تحقيقه مفصلاً- .

( ومنها ) وهو الثامن من الاشكالات الواردة على مفهوم آية النبأ - في حجّية خبر العادل - القابل للذّب عنه هو : ( انّ المرادَ بالفاسق ) هو الفاسق الواقعي ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمرية ، دون من علم فسقه أو لم يعلم فسقه .

والفاسق ، هو : ( مطلقُ الخارج عن طاعة اللّه ولو بالصّغائر ) لأنّ الفسق عبارة عن الخروج ، والخارج بالصغائر أيضاً خارج ( فكلّ من كان كذلك ) أي : كان مرتكباً للكبائر أو الصغائر ( أو إحتمل في حقّه ذلك ) وان كان في نظرنا عادلاً ، لكن لا بالقطع ، لأنّ القطع بالعدالة لايجتمع مع إحتمال الفسق ( وجب التبيّن في خبره ) .

فانّ المراد بالفسق - على ماعرفت - : الفسق الواقعي ، سواء علم به أم لا ، فكل من علمنا فسقه ، أو إحتملنا فسقه ، يكون داخلاً في المنطوق ، ولا يبقى داخلاً في المفهوم حينئذٍ ، إلاّ من علمنا عدم فسقه ، وينحصر من علم عدم فسقه في المعصوم عليه السلام ، اذ العادل أيضاً يمكن أن يكون فاسقاً واقعاً وإن كان في نظرنا عادلاً .

ص: 312

وغيره ممّن يفيد قوله العلم ، لانحصاره في المعصوم عليه السلام أو من هو دونه ، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارةٌ إلى أنّ مطلق خبرَ المخبر غير المعصوم ، لا عبرةَ به ، لاحتمال فسقه ، لأنّ المراد الفاسقُ الواقعيّ لا المعلوم ، فهذا وجه آخر لافادة الآية حرمةَ اتّباع غير العلم ،

------------------

( وغيره ) أي غير كل من كان كذلك ، يكون ( ممّن يفيد قوله العلم ) ولا يخفى : ان قوله : « وغيره » مبتدأ ، و « ممن يفيد » خبره ، وإنما يكون غير من ذكر من الفاسق المعلوم فسقه ، أو المحتمل فسقه ، يفيد قوله العلم ( لانحصاره في المعصوم عليه السلام أو من هو دونه ) كسلمان ، والمقدّاد ، والعباس بن علي عليهماالسلام ، ومن أشبههم .

ومن المعلوم : انّ حجّية الخبر العلمي ، لاتحتاج الى مفهوم الآية المباركة ، بل العلم حجّة بنفسه ( فيكون في تعليق الحكم بالفسق ) فيالآية المباركة ( إشارةٌ إلى انّ مطلق خبرَ المخبر غير المعصوم ، لاعبرة به ) وذلك ( ل- ) ما تقدّم : من ( إحتمال فسقه ) وان كان في الظاهر عادلاً .

( لأنّ المراد ) من ( الفاسقُ ) في الآية المباركة هو الفاسق ( الواقعيّ ، لا المعلوم) فسقه لما تقدّم : من إن الألفاظ إنما هي موضوعة للمعاني الواقعية ، لا للمعاني المستظهرة لدى العرف .

وعلى هذا : فالفاسق ولو محتمل الفسق ، داخل في منطوق الآية ، فلا يبقى في طرف مفهومها ، إلاّ من قطع بعدم فسقه ، كالمعصوم والذين هم دون المعصوم - ممّن تقدّم ذكرهم - .

( فهذا ) أي : تعليق الحكم بالفسق الواقعي الموجب لعدم العمل بالخبر حتى في محتمل الفسق ( وجه آخر لافادة الآية : حرمةَ إتّباع غير العلم ) مضافاً الى الأدلة

ص: 313

لايحتاجُ معه إلى التمسّك في ذلك بتعليل الآية ، كما تقدّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين .

وفيه : انّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه ، من إطلاق الفاسق ، خلافُ الظاهر عُرفاً ، فالمرادُ به إمّا الكافرُ ، كما هو

------------------

الاخر التي تدل على حرمة اتباع غير العلم مثل : قوله سبحانه : « وَلاتَقفُ مَالَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (1) وغيرها من الآيات والرّوايات .

فانه ممّا ( لايحتاجُ معه ) أي : مع هذا الوجه ( الى التمسّك في ذلك ) أي : في حرمة إتباع غير العلم ( بتعليل الآية ) الدال ذلك التعليل على حرمة إتباع غير العلم ، لأنّ فيه إحتمال الوقوع في الندم ( كما تقدَّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين ) .

فانّ الايراد الثاني ، كان مبنياً على تعليل الآية ، وقد قلنا هناك : بانّ التعليل يدل على المنع من كل خبر يحتمل فيه الوقوع في الندم ، وخبر العادل كذلك ، لأنّه لايورث العلم ، فيحتمل فيه الوقوع في الندم ، فلا يمكن الأخذ بخبر العادل أيضاً ، كما لايمكن الأخذ بخبر الفاسق .

( وفيه : إنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه ، من إطلاق الفاسق ، خلافُ الظاهر عُرفاً ) أي : في عرف المتشرعة ، فانّ المتشرعة لايرون مرتكب الصغيرة فاسقاً ، وذلك لتلقيهم معنى الفسق من الشرع ، وهو غير شامل لمرتكب الصغيرة ، فليس معنى الآية المباركة : لزوم كون ناقل الخبر معصوماً ، أو تالي تلوّ المعصوم .

إذن : ( فالمرادُ به ) أي بالفاسق في الآية المباركة ( إمّا الكافرُ ، كما هو ) المجاز

ص: 314


1- - سورة الإسراء : الآية 36 .

الشائع إطلاقه في الكتاب ، حيث انّه يطلق غالباً في مقابل الايمان . وإمّا الخارجُ عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية .

------------------

( الشائع ) في ( إطلاقه ) أي في اطلاق الفاسق ( في الكتاب ) العزيز ( حيث انّه ) أي : الفاسق ( يطلق غالباً في مقابل الايمان ) كما في قوله سبحانه : « أَفَمَن كانَ مُؤمِناً كَمَن كانَ فَاسِقاً لايَستَوُونَ » (1) .

حيث قابل بين الايمان والفسق فيكون المراد بالفسق : الكفر .

وقال سبحانه : « قُل يَا أَهلَ الكِتاب ، هَل تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاّ أَن آمَنَّا بِاللّه ِ ، وَمَا أُنزِلَ إِلينَا ، وَمَا أُنزِلَ مِن قَبل ، وَأَنَّ اَكثَرَكُم فَاسِقُونَ » (2) ، حيث انّ الفسّاق من أهل الكتاب قوبلوا بالمؤمنين بالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وقال سبحانه : « كَذلِكَ حَقَّت كَلِمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذينَ فَسَقُوا ، أََّهُم لا يُؤمِنون » (3) ، وغيرها من الآيات .

والسّر في ذلك هو : إن الفسق بمعنى الخروج ، فهو يطلق على الكافر ، لأنّه خارج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى في العقائد الصحيحة ، كما ان فاسق المسلمين خارج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى في الاعمال الحسنة وان كانت عقيدته صحيحة .

وإنما قلنا : انّ اطلاق الفسق على الكفر مجاز شائع ، لانصراف الفسق الى : الفسق العملي ، لا العقيدي .

وعليه : فالمراد بالفاسق : إما الكافر - وقد مرّ- ( وإمّا الخارجُ عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة ، الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية ) وقد حصر المصنّف

ص: 315


1- - سورة السجدة : الآية 18 .
2- - سورة المائدة : الآية 59 .
3- - سورة يونس : الآية 33 .

والمرتكب للصّغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السّابق ، مضافاً إلى قوله تعالى : « إن تجتَنِبُوا كَبائِر ماتُنهَونَ عَنهُ نُكفِّر عَنْكُم سَيّئاتِكُم » .

------------------

ثبوت الكبيرة في زمان نزول الآية ، لأنّ المعاصي التي شرعت حرمتها بعد نزول الآية لم تكن في وقت نزول الآية معصية ، بل كانت جائز الارتكاب .

فلو فرض - مثلاً - ان آية حرمة الخمر نزلت بعد هذه الآية ، لم يكن شارب الخمر في زمان نزول هذه الآية مرتكباً للعصيان ، حتى يسمى فاسقاً وإِنّما الفاسق هو الكافر أو مرتكب الكبائر المحرّمة زمن النزول .

( و ) أمّا ( المرتكب للصّغيرة ) فهو : ( غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا ) نحن المتشرعة ( المطابق ) عرفنا هذا بحسب اصالة عدم النقل ( للعرف السابق ) في زمان نزول الآية .

وبذلك ظهر : انّه سواء كان المراد بالفسق : الكفر ، أو المعاصي الكبيرة ، لم يكن مفهوم الآية خاصاً بالمعصوم ، وتالي تلوّ العصمة ، كسلمان وأبو ذر والعباس .

( مضافاً الى قوله تعالى : « إِن تَجتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم» (1) ) . فان هذه الآية المباركة ، تدلّ على ان مرتكب الصغيرة ، الذي لا يرتكب الكبيرة ، مكفِّراً عنه السيئات ، فليس بفاسق .

والحاصل : انّ الآية المباركة لاتشتمل مرتكب الصغيرة ، وذلك لتبادر الفسق الى غير مرتكب الصغيرة في عرف المتشرعة اليوم عرفاً مطابقاً لعرف المتشرعة في زمان نزول الآية بأصالة عدم النقل .

ص: 316


1- - سورة النساء : الآية 31 .

مع أنّه يمكن فرضُ الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة .

إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق . وبه يندفع الايراد المذكور ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة .

------------------

ولأنّه تعالى بشّر الفاسق بالعذاب ، وحَكَم بأن من إجتنب الكبائر يكفّر عنه سيئاته ، فيعلم منه : انّ الفاسق هو مرتكب الكبيرة ، ولايشمل مرتكب الصغيرة .

وعليه : فمن علم إجتنابه عن الكبائر ، وعلم إرتكابه للصغيرة بدون الاصرار ، أو إحتمل في حقّه ذلك ، يكون داخلاً في مفهوم الآية ، فاشكال : انّ الآية خاصة بالمعصومين ، ومن حذا حذوهم ، غير وارد .

( مع انّه يمكن فرضُ الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة ) معاً ، فانه ان سلّمنا : انّ المنطوق يدل على وجوب التبيّن ، في خبر من خرج عن الأطاعة بالكبيرة أو الصغيرة ، أو إحتمل في حقه ذلك إلاّ انّ المفهوم لاينحصر في المعصوم ومن تلا تلوه ، بل يدخل فيه غيرهم أيضاً .

كما ( إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق ) ولم يرتكب بعد صغيرة ولا كبيرة ، فانه ليس بمعصوم ولا تالياً تلوّ المعصوم ، ومع ذلك يقبل خبره ، لأنّه لايصدق عليه : الفاسق ، لفرض إنه تاب ولم يرتكب بعد كبيرة ولا صغيرة .

( وبه ) أي : بهذا الفرض الذي ذكرناه : من خلوّ الانسان بالتوبة ( يندفع الايراد المذكور ) الذي أورده المستشكل على مفهوم آية النبأ من إنحصار المفهوم في المعصوم ، ومن حذا حذوه .

فانه يندفع به ( حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة ) اذ الفقهاء اختلفوا في : ان كلّ ذنب كبيرة - كما ذهب إليه جمع - أو : انّه قد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة - كما ذهب إليه المشهور - .

ص: 317

وأمّا إحتمالُ فسقه بهذا الخبر للكذب به فهو غيرُ قادح ، لأنّ ظاهر قوله : « إن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » ، تحقّقُ الفسق قبل النبأ ، لا به ، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقاً

------------------

وعلى أي حال : فغير المعصوم ومن حذا حذوه ، أيضاً داخل في مفهوم الآية ، لأنّه يوجد من ليس بفاسق ، ولم يكن معصوماً ولا حاذياً حذو المعصوم .

فالتائب من الفسق سواء قلنا : بأنّ الفاسق عبارة عن مرتكب الكبائر دون الصغائر ، أو قلنا : بأنه مطلق الخارج عن الطاعة سواء كان قد إرتكب الكبيرة أو الصغيرة ، أو قلنا : بأن كل فاعل للعصيان مرتكب للكبيرة ، لأنّ كل ذنب كبيرة ، فانه على أي التقادير الثلاثة ، لايتم الاشكال المذكور .

( و ) ان قلت : الانسان الذي ليس بفاسق ، كالتائب عن الكبائر والصغائر لايمكن أن يؤخذ بخبره لعدم إِحراز عدالته الآن ، وذلك لاحتمال انّه قد فسق بسبب كذبه بهذا الخبر الذي جاء به .

قلت ( أمّا إحتمالُ فسقه بهذا الخبر للكذب به ) أي : لأنّه كذب بهذا الخبر ، وان لم يكن قبل إخباره بهذا الخبر فاسقاً ، لأنه تاب عن الصغائر والكبائر فرضاً ( فهو غير قادح ) في الأخذ بخبره .

( لأنّ ظاهر قوله : « إن جَائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » (1) تحقّقُ الفسق قبل النبأ ، لا به ) أي : لابسبب هذا النبأ ، فاذا قلنا : النبأ جاء به الفاسق ، كان ظاهره : تحقق الموضوع وهو : الفسق قبل كونه منبئاً ومخبراً ، فاذا اريد من الفسق ، تحققه بنفس هذا الخبر كان خلاف الظاهر .

إذن : ( فالمفهوم ) للآية المباركة ( يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقاً ) لأنّه

ص: 318


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

مع قطع النظر عن هذا النبأ وإِحتمال فسقه به .

هذه جملة ما أورد على ظاهر الآية ، وقد عرفت أنّ الوارد منها إيرادان ، والعمدةُ الايرادُ الأوّلُ الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين .

ثمّ إنّه كما إستدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل ، إذا حصل الظنّ بصدقه ، بناءً على أنّ المراد بالتبيّن مايعمّ تحصيل الظّنّ .

------------------

تاب من ذنبه السابق ، وذلك ( مع قطع النظر عن هذا النبأ و ) غض الطرف عن ( إحتمال فسقه به ) أي : بسبب هذا النبأ .

( هذه جملة ماأورد على ظاهر الآية ) في دلالتها على حجّية خبر العادل ( وقد عرفت : انّ الوارد منها : إيرادان ) وهما اللذان لايمكن الذّب عنهما عند المصنّف ( و ) إن كان ( العمدةُ ) عنده هو ( الايرادُ الأوّلُ ، الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين ) وقد أشرنا الى انّ الايرادين أيضاً ، يمكن دفعهما ، وقد ذكرنا الدفع في تقريراتنا المفصلة ، وفي الاصول .

( ثمّ إنّه كما إستدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل ) أو حجية خبر من ليس بفاسق وان لم يكن عادلاً ، بناءاً على وجود الواسطة بين العدالة والفسق ، كما ألمعنا اليه قبل أسطر .

( كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّية خبر غير العادل ) وهو الفاسق ( إذا حصل الظنّ بصدقه ) من الخارج ، أما لو حصل العلم به فالعلم هو المستند في الأخذ ، لاخبر الفاسق ، وذلك ( بناءاً على انّ المراد بالتبيّن ) الذي هو شرط للعمل بخبر الفاسق ( مايعمّ تحصيل الظّن ) .

ص: 319

فإذا حصل من الخارج ظنٌ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به .

ومن التبيّن الظنّيّ تحصيلُ شهرة العلماء على العمل بالخبر أَو على مضمونه أو روايته .

ومن هنا تمسّك بعضٌ بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، وفي حكم الشهرة أمارة اُخرى غير معتبرة .

------------------

وعليه : ( فاذا حصل من الخارج ظنٌ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به ) لأنّ التبيّن الظني من مصاديق التبيّن ، وإذا حصل الشرط حصل المشروط .

قال بعضهم : ( ومن التبيّن الظنّي : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر ) بأن تمسك المشهور ، وعملوا بهذا الخبر الذي جاء به الفاسق .

( أو على مضمونه ) بأن كان فتوى المشهور مطابقاً لمضمون خبر الفاسق وإن لم يتمسكوا بظاهر الخبر ، فانّ في كلا الحالين ، شهرة العلماء قائمة على مايوافق الخبر لفظاً أو مضموناً ، والشهرة من المبيّنات .

( أو روايته ) بان كان مشهوراً بين الرّواة وإن لم يتمسك به الفقهاء ، ولم يكن فتوى المشهور على طبقه ، فانّه من المبيّنات أيضاً .

( ومن هنا ) أي : من جهة انّ منطوق الآية المباركة ، دال على حجّية خبر الفاسق اذا حصل الظّن بصدقه من الخارج ( تمسّك بعض ، بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ) سواء كان شهرة عملية ، أو شهرة فتوائية ، أو شهرة روائية ، وإن كان ضعيفاً في السند من جهة عدم وثاقة رواته ، أو عدم معرفتنا بوثاقتهم ، أو ما أشبه ذلك .

( وفي حكم الشهرة أمارة اُخرى غير معتبرة ) كالاجماع المنقول - مثلاً- .

ص: 320

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ - وهو تحصيل الظّن بصدق مخبره - دخل خبرُ الفاسق المتحرّز عن الكذب ، فيدخل الموثّق وشبهه بل الحَسَن أيضاً .

وعلى ماذكرنا فيثبت من آية النبأ ، منطوقاً ومفهوماً ، حجّيّةُ الأقسام

------------------

هذا ( ولو عمّم التبيّن ، للتبيّن الاجماليّ ) بأن يكون المستفاد من منطوق الآية : اشتراط العمل - بخبر الفاسق - بتحصيل الظن بصدقه من الخارج ، أو بتحصيل الظن بصدق المخبر وانّه لايكذب مطلقاً ، أو لايكذب في هذا المورد الخاص ، أو ماأشبه ذلك .

( و ) التبيّن الاجمالي - كما قال المصنّف - ( هو : تحصيل الظنّ ) بسبب المعاشرة ، أو بسبب علم الرجال ، أو غير ذلك ( بصدق مخبره ) ، أي : مخبر هذا الخبر .

وانّما كان هذا تبيناً إجمالياً لأنّه اذا ظنّ الانسان بأنّ هذا المخبر صادق في كلامه، ظنّ إجمالاً بصدق اخباره - أيضاً- بالنسبة الى التشريعيات والأحكام ، فالظّن بصدق خبره هذا ، من صغريات ذلك الظن العام ، ولهذا سماه : بالاجمالي .

فاذا كان كذلك ( دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ) في منطوق الآية المباركة ( فيدخل الموثّق ) في منطوق الآية ( وشبهه ) أي : شبه الموثق .

أمّا الموثق فهو : خبر العامي ، أو شبه العامي ، كالفطحي والواقفي ، والطاطري والكيساني ، ونحوهم ، ممّن فسدت عقيدته ، لكنه صادق اللسان ، وأما شبه الموثق فهو : الامامي الفاسق ، المتحرز عن الكذب ( بل الحَسَن أيضاً ) وهو : كالامامي المجهول ، الذي لايعرف بفسق ولا عدالة .

( وعلى ماذكرنا ، فيثبت من آية النبأ منطوقاً ومفهوماً : حجّيّةُ الأقسام

ص: 321

الأربعة للخبر الصحيح والحسن والمُوثّق والضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية .

------------------

الأربعة للخبر ) المشهورة في علم الدراية :

الأوّل : ( الصحيح ، و ) هو : خبر العدل الأَامي الضابط ، فانّه مستفاد من المفهوم .

الثاني : ( الحَسَن ، و ) هو : خبر الامامي الممدوح من غير نص على عدالته ، فانّه مستفاد من منطوق الآية لحصول التبيّن الظني الاجمالي الخارجي من جهة ممدوحيته .

بل ربّما يطلق أيضاً على الامامي وإن لم يكن ممدوحاً ، لأنّ الأصل في الانسان : ان لايكون كاذباً ؛ وذلك حسب فطرة اللّه التي فطر الناس عليها .

الثالث : ( المُوثّق ، و ) هو : خبر غير الامامي المتحرّز عن الكذب ، لكن بشرط أن يكون مسلماً ، فلايشمل خبر الكافر .

وهذا أيضاً مستفاد من المنطوق ، لحصول التبيّن الظنّي الاجمالي الخارجي ، من جهة توثيقه في علم الرجال ، أو من جهة المعاشرة له ، كما لو عاشر الكليني ، أو المفيد ، أو المرتضى ، أو غيرهم ممّن عاصروا الغيبة الصغرى ، أو قريباً منها رواة فاسدي العقيدة ، وحصل لهم الظن بوثاقتهم .

الرابع : ( الضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية ) كخبر الفاسق المحفوف بالشهرة الفتوائية ، أو الشهرة العملية ، أو الاجماع المنقول بخبر الواحد - عند من لايرى الاجماع المنقول حجّة - أو ماأشبه ذلك ، فانه يستفاد حجّية مثل هذا الخبر - أيضاً- من المنطوق لحصول التبيّن الظنّي التفصيليّ الخارجي .

ص: 322

ولكن فيه من الاشكال ما لا يخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ .

كيف ولو كان المرادُ مجرّد الظنّ لكان الأمرُ به في خبر الفاسق لغواً ، إذ العاقل لايعمل بخبر إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه ، إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقاً ، من أنّ المقصود التنبيهُ والارشادُ على أنّ الفاسق لاينبغي أن يُعتَمَدَ عليه وأنّه لايُؤمَنُ من كذبه وإن كان المظنونُ صدقَهُ .

------------------

( ولكن فيه ) أي : في الاستدلال على حجّية كفاية العمل بالخبر ، اذا حصل للانسان التبيّن الظنّي ( من الاشكال مالايخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ ) بأن يحصل العلم بالخبر ، أو بما يصل الى العلم .

( كيف ولو كان المرادُ : مجرد الظنّ لكان الأمرُ به ) أي بالتبيّن الظني ( في خبر الفاسق لغواً؟ اذ العاقل لايعمل بخبر ) جاء به أيّ شخص ( إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه ) رجحاناً من الخارج ، كما لو اعتضد الخبر بما يوجب الرجحان ، أو اعتضاداً من الداخل بأن يكون المخبر صادق اللّهجة ، فيكون الأمر بالتبيّن على هذا لغواً ، لأنّه يكون حينئذٍ من قبيل تحصيل الحاصل .

( إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقاً : من أنّ المقصود ) من الأمر بالتبيّن الظنّي ( التنبيهُ والارشاد على أنّ الفاسق لاينبغي أن يعتمدَ عليه ، وانّه لايؤمنُ من كذبه ، وإن كان المظنونُ صدقَهُ ) .

فالأمر بالتبيّن لافادة انّ خبر الفاسق يحتاج الى تحصيل الظن بصدقه من الخارج ، ولايكفي الظنّ الحاصل من نفس خبره ، على تقدير حصول الظنّ من نفس الخبر ، بسبب أمور توجب مثل هذا الظن .

وعليه : فليس قيد التبيّن ، لأجل إخراج الخبر غير المظنون صدقه ، فانّ العاقل لايعمل بالخبر غير المظنون الصدق ، بل لبيان : انّ خبر الفاسق ، من قبيل

ص: 323

وكيف كان ، فمادّة التبيّن ولفظ الجهالة وظاهر التعليل

------------------

ما لا يعتمد عليه ، لمكان فسقه .

فاذا قال المولى - مثلاً- أكرم الانسان العالم ، فربّما يكون تقييده بالعالم لأجل إخراج الجاهل ، وربّما يكون لأجل بيان : إنّ العالم ينبغي أن يكرم ، فلا يكون القيد حينئذٍ إحترازياً ، بل يكون لبيان نكتة اخرى وهي : مافي إكرام العالم من مزية .

والفرق بين الأمرين : إنّ في الأوّل ، لايجوز أن يريد منه : إكرام الانسان مطلقاً ، لأنّ القيد يكون لغواً حينئذٍ ، بخلاف الثاني ، فان له ان يريد به : إكرام الانسان مطلقاً ، ولايكون قيد العالم حينئذٍ لغواً ، وانّما جيء به لأجل بيان النكتة التي ذكرناها .

وهذا هو المعروف عندهم : من إنّ القيد قد يكون إحترازياً ، وقد لايكون إحترازياً ، بل لبيان جهة اُخرى : كالقيد التوضيحي والقيد الغالبي والقيد لنكتة خارجية .

( وكيف كان ) الأمر في التبيّن ، وإنه للاحتراز ، أو لنكتة اُخرى ، ( فمادّة التبيّن ) الظاهرة في تحصيل العلم ، لما تقدّم : من أنّ الابانة عبارة : عن الظهور ، والظهور لايكون إلاّ مع العلم ولو في أنزل درجاته ، وهو : الاطمئنان .

( ولفظ الجهالة ) الظاهر في عدم العلم ، لا في السفاهة - على ماتقدّم أيضاً إحتماله - .

( وظاهر التعليل ) وهو : وجوب تحصيل العلم في خبر الفاسق ليؤمن من الوقوع في الندم ، حيث قال سبحانه : « فَتُصبِحُوا عَلَى مَافَعَلتُم نَادِمِينَ » (1) .

ص: 324


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

كلّها آبية من إرادة مجرّد الظنّ .

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لايعدّ في العرف العملُ به تعريضاً للوقوع في الندم . فحينئذٍ لايبعد انجبارُ خبر الفاسق به .

لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالاً على حجّيّة الظّن الاطمينانيّ المذكور

------------------

هذه ( كلها آبية من إرادة مجرد الظن ) لأن الظّن ليس تبيّناً ، بل هو جهالة لأنّه ليس بعلم ، ولأنّه لايؤمن مع الظّن من الوقوع في الندم .

( نعم ، يمكن دعوى صدقه ) أي : صدق التبيّن ( على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل ) في النفس ( بحيث لايعدّ في العرف العملُ به ) أي : بالاطميئنان ( تعريضاً للوقوع في الندم ) أي : انه لايلزم العلم بدرجته القوية ، وإنّما درجته النازلة التي تسمى بالاطمئنان أيضاً من التبيّن .

( فحينئذٍ : لايبعد إنجبارُ خبر الفاسق به ) أي بحصول الاطمئنان من الخارج أوالداخل ، بحيث لايبقى العامل بهذا الخبر متحيِّراً ومتزلزلاً ، بل مطمئن النفس .

لايقال : الظاهر من التبيّن : الفحص ، وذلك لايصدق مع الاطمئنان بخبر الفاسق لصدقه لساناً أو ما أشبه ، لأنّه لايحصل الفحص عندئذ .

لأنه يقال : مناط الفحص موجود وإن لم يحصل الفحص بنفسه ، فان من الواضح : انّ الفحص طريقي ، وليس موضوعياً ، فكل ماحصل مناطه ، كان كافياً حسب مايستفيده العرف من ظاهر الآية المباركة ، خصوصاً بمعونة التعليل .

( لكن ) قد سبق انّه ( لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك ) أي : في كفاية الاطمئنان ( كان ) المنطوق ( دالاً على حجّية الظنّ الاطمئناني المذكور ) ممّا

ص: 325

وإن لم يكن معه خبرُ فاسق نظراً إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لابدّ من تبيّن الأمر من الخارج والعمل على مايقتضيه التبيّنُ الخارجيُّ .

نعم ، ربّما يكون نفسُ الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن .

------------------

يوجب عدم التزلزل والتحيّر في النفس .

وبذلك يستفاد من المنطوق : حجّية الاطمئنان بما هو اطمئنان ( وان لم يكن معه خبر فاسق ) كما إذا حصل الاطمئنان من الشهرة الفتوائية أو الشهرة الرّوائية ، أو من نقل الاجماع ، أو غير ذلك ، فيكون خبر الفاسق بالنسبة الى المذكورات ، كالحجر في جنب الانسان .

وإنّما يستفاد من الآية ذلك ( نظراً الى انّ الظاهر من الآية : أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ) فلا يكون مناطاً للعمل ، وإنما مناط العمل هو : التبيّن والظهور من الخارج ، كما قال ( وانّه لابد من تبيّن الأمر ) عن خبر الفاسق ( من الخارج ، والعمل على مايقتضيه التبيّن الخارجي ) بالغض عن خبر الفاسق ، حتى كأنه لم يكن هناك خبر فاسق إطلاقاً ، وهذا ممّا يستبعد عن ظاهر الآية .

( نعم ، ربّما يكون ) لخبر الفاسق أيضاً مدخلية في الاطمئنان ، بأن يكون هو وشيء آخر ، جزئين يسببان معاً إطمئنان النفس ، فيكون ( نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها ) أي : من مجموع تلك الأمارات ( التبيّن ) .

مثلاً : إذا أخبر الفاسق بوجوب صلاة الجمعة ثم رجعنا الى الشهرة ، فأفادا معاً الوجوب ، بحيث لو كان خبر الفاسق وحده ، لم يفد ذلك ، وإذا كانت الشهرة وحدها ، لم تفد ذلك أيضاً ، وإنّما المجموع أفادا ذلك الحكم .

ص: 326

فالمقصودُ الحذرُ عن الوقوع في مخالفة الواقع . فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق حينئذٍ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمينان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمينان بصدق مضمونها .

والحاصلُ : أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ،

------------------

وعليه : ( فالمقصود ) من المنطوق للآية المباركة ، هو : ( الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ) الموجب للندم ( فكلّما حصل الأمن منه ) عرفاً ( جاز العمل ) بذلك الشيء المأمون العواقب خبراً كان ، أو غير خبر كالشهرة - مثلاً- .

إذن : ( فلا فرق حينئذٍ ) أي : حين كان الاطمئنان مناطاً ( بين خبر الفاسق ) الموجب بنفسه للاطمئنان ، بلا حاجة الى شيء خارجي ، لأنّ الفاسق - مثلاً- صادق اللّهجة أو انّ خبره محفوف بالقرائن ، وبين خبر الفاسق ( المعتضد بالشهرة ) الفتوائية - مثلاً ( إذا حصل ) من مجموع خبر الفاسق والشهرة ( الاطمئنان بصدقه ، وبين الشهرة المجردة ، إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها ) أي : مضمون تلك الشهرة .

وعلى هذا : فيكون لخبر الفاسق أحياناً مدخلية - تامة - في الاطمئنان ، وأحياناً يكون له جزء دخل في الاطمئنان .

( والحاصل : انّ الآية تدل على إنّ العمل ، يعتبر فيه التبيّن ) الموجب للاطمئنان - من أي طريق حصل - وذلك ( من دون مدخلية لوجود خبر الفاسق وعدمه ) .

كما انّه لا مدخلية للشهرة وعدمها .

ص: 327

سواء قلنا بأنّ المراد منه العلمُ أو الاطمينان أو مطلق الظنّ ، حتّى إن من قال أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه بحسن أو توثيق أو غيرهما من صفات الرّاوي . فلازمُه القولُ بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن لم

------------------

فكلما حصل الاطمئنان من شيء مفرد ، أو من أشياء متعددة ، جاز العمل به .

وذلك ( سواء قلنا : بأنّ المراد منه ) أي : من التبيّن ( العلم ) فيكون هو المناط وحده .

( أو الاطمئنان ) فهو المناط ، سواء وصل الى أعلى درجات العلم أو لم يصل .

( أو مطلق الظنّ ) حتى يكون الظن بنفسه مناطاً ، كما يقال عند الانسداد .

فعلى الأوّل : يكون حجّية خبر العادل من المفهوم .

وعلى الأخيرين : يكون من المنطوق .

( حتى إنّ من قال ) بأنّ المراد بالتبيّن : التبيّن الظنيّ تفصيلياً كان أو إجمالياً - لأنّ العقلاء يعتمدون على المظنونات - ذهب الى : ( أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ ) سواء كان ظناً إجمالياً أو ظناً تفصيلياً - على ماتقدّم - .

فاذا حصل الظنّ ( بمضمونه ) أي بمضمون الخبر ( ب- ) سبب ( حسن ) بأن كان المخبر إمامياً ممدوحاً ، أو إمامياً على ماتقدّم .

( أو توثيق ) بأن كان المخبر مسلماً غير اِمامي ، لكنّه متحرز عن الكذب ، كما علم عن حاله .

( أو غيرهما من صفات الرّاوي ) بأن يكون إمامياً فاسقاً بجوارحه ، لكنّه متحرز عن الكذب ، الى غير ذلك من أقسام الرّواة .

( فلازمه : القول : بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ ، وان لم

ص: 328

يكن معه خبرٌ أصلاً ، فافهم واغتنم واستقم .

هذا ، ولكن لايخفى أنّ حملَ التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمينان يوجبُ خروجَ مورد المنطوق وهو الاخبار بالارتداد .

------------------

يكن معه خبر أصلاً ) فانّ الآية عند مثل هذا الشخص ، دليل على كون مطلق الظنّ من الظّنون التي يعتمدها العقلاء ، فاذا أوجب شيء هذا الظنّ ، كان حجّة بين المولى والعبد ( فافهم وإغتنم وإستقم ) .

والحاصل : انّ الاحتمالات في الآية المباركة هي أحد أمور :

أولاً : أن يكون المناط هو العلم القوي .

ثانياً : ان يكون المناط : الاطمئنان وهو أنزل درجات العلم .

ثالثاً : ان يكون المناط هو : الظنّ العقلائي .

ومهما كان المحتمل ، فانه لايهم الخبر ، بل المهم الحالة النفسية الحاصلة .

نعم ، في الظنّ ، قد يراد به : الشخصي ، وقد يراد به : النوعي وإن لم يحصل ظنّ للشخص ، بل وان كان الظنّ على خلافه .

( هذا ، ولكن لايخفى : انّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ ) ولو كان ظناً عقلائياً ( أو الاطمئنان ) بالاضافة الى انّه خلاف ظاهر اللّفظ لما تقدّم : من انّ التبيّن بمعنى : الظهور ، والظهور إنّما يكون مع العلم ( يوجب خروج مورد المنطوق ، وهو : الاخبار بالارتداد ) عن الآية المباركة ، وخروج المورد مستهجن .

فانّه من الواضح : انّ في الاخبار بالارتداد ، لايكفي مطلق الظنّ ، ولا الاطمئنان ، بل لابّد فيه من العلم ، أو البيّنة العادلة .

وعليه : فاللازم أن يحمل التبيّن على العلم ، فان ذلك - أيضاً - ممّا يناسب التعليل الموجود في الآية .

ص: 329

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة البرائة : « فَلَولا نَفَرٌ مِن كُلِّ فِرقَةٍ » .

دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرِين من دون إعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ،

------------------

( ومن جملة الآيات ) التي إستدل بها لحجّية خبر الواحد ( قوله تعالى في سورة البرائة : ) « وَما كان المُؤمِنُونَ لِيَنفروُا كافَّةً ، ( فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ) مِنهُم طائفَةٌ ليتَفَقَهوا في الدِّينِ ، وَلِيُنذِرُوا قَومَهُمْ إذا رَجَعُوا إليهم لَعَلَهُمْ يَحذَرُونَ » (1) .

فانّ هذه الآية ( دلّت على وجوب ) النفر ، والتفقه ، والانذار ، و( الحذر عند إنذار المنذرين ) وذلك ( من دون إعتبار : إفادة خبرهم ) أي : المنذرين ( العلم ) للمنذَرين بالفتح ( لتواتر أو قرينة ) .

فانه سبحانه قال : « لعلهم يحذرون » مطلقاً ، ولم يقل : لعله يحصل لهم العلم من اخبار المنذرين فيحذروا .

ومن المعلوم : انّ الطائفة مؤنث الطائف ، وهو يشمل الواحد والأثنين والأكثر .

قال سبحانه : « إِنَّ الّذِينَ اتَّقَوا ، إذا مَسَّهُم طائِفٌ مِنَ الشّيطانِ تَذَكَّروُا ، فإذا هُم مُبصِرُونَ » (2) .

وقال سبحانه : « فَطافَ عَلَيها طائِفٌ مِن رَبِّكَ وَهُم نائِمُونَ » (3) .

فانّ الطائف بمعنى : من يطوف ، وإن كان واحداً أو أكثر .

ويؤيده : إنه لو كانت الجماعة عائلة واحدة - كما هو المتعارف عند سكان البوادي - فاللازم ان ينفي أحدهم حال كونه قادراً على ذلك .

ص: 330


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة الاعراف : الآية 201 .
3- - سورة القلم : الآية 19 .

فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد .

أمّا وجوبُ الحذر ، فمن وجهين :

أحدهما : أنّ لفظة « لعلّ » بعد انسلاخه عن معنى الترجيّ ظاهرة في كون مدخوله محبوباً للمتكلّم .

------------------

وعلى هذا : ( فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد ) بلا فرق بين أن يكون مخبره عادلاً أو غير عادل .

هذا ( أمّا ) دلالة الآية على وجوب النفر ، فلقوله تعالى « فلولا نفر » .

وعلى وجوب التفقه ، فللأمر بقوله : « ليتفقهوا » .

وعلى وجوب الانذار ، فلقوله : « ولينذروا » .

ولهذا ، فلا اشكال في دلالة الآية على وجوب هذه الثلاثة .

وأمّا دلالة الآية على ( وجوب الحذر ) وقبول الجماعة إنذار المنذرين ، لهم حتى تدل الآية على حجية خبر الواحد ( فمن وجهين ) على النحو الآتي :- ( أحدهما : انّ لفظة « لعل » بعد إنسلاخه ) وتجرده ( عن معنى الترجيّ ظاهرة : فيكون مدخوله محبوباً للمتكلم ) ، فانّ جماعة من الادباء قالوا : انّ معنى « لعلّ » ، هو : ترجي المحبوب ، فاذا إبتعد وتجرّد عن معنى الترجي ، لامتناعه منه سبحانه وتعالى ، يبقى دالاً على مجرد المحبوبية ، لكن هنا كلامان :-

الأوّل : انّ كون « لعل » للترجي مطلقاً ، غير معلوم ، بل قد يستعمل لاحتمال خير ، أو شر ، أو عمل عادي - فهو في العربية بمعنى : « شايد » في الفارسية - من غير فرق بين أن يكون الاحتمال في الماضي ، أو المستقبل ، أو الحال ، ولذا يقال : لعلّ زيداً جاء البارحة ، لأجل ارادة خير ، أو شر ، أو عمل ليس بخير ، ولا بشرّ .

الثاني : انّ الرجاء وإن كان عليه سبحانه محالاً ، إلاّ إنّه كسائر ماكان من هذا

ص: 331

وإذا تحقّق حسنُ الحذر ثبت وجوبهُ ، إِمّا لما ذكره في المعالم ، من أنّه لامعنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لايحسن ، وإمّا لأنّ رجحانَ العمل بخبر الواحد مستلزمٌ لوجوبه بالاجماع المركّب ،

------------------

القبيل بالنسبة اليه سبحانه ، مثل : غضب ، ورضى ، وأسف .

قال سبحانه : «فَلَما اسَفُونا إنتَقَمنا مِنهُم » (1) .

وقال سبحانه : «غَضِبَ اللّه ُ عَلَيهِم » (2) .

وقال سبحانه : «رَضِيَ اللّه ُ عَنهُم » (3) .

ولهذا قالوا فيه سبحانه وتعالى : خذ الغايات وإترك المبادئ.

( و ) على كل حال : فانه ( إذا تحقق حسن الحذر ) ومحبوبيته ( ثبت وجوبه ) للتلازم بين الأمرين في أمثال المقام ، وذلك ( امّا لما ذكره في المعالم : من أنه لامعنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لايحسن ) فانه إذا كان الأسد موجوداً وجب التحذر عنه ، وإذا لم يكن موجوداً ، لايحسن التحذر إطلاقاً .

وكذا في الآية الكريمة فانه عند إنذار المنذِرين ، إن كان مخالفة خبرهم حراماً موجباً لاستحقاق العقاب ، وجب الحذر ، وإن لم تكن مخالفتهم حراماً ولم يوجب عقاباً لم يكن مقتض للحذر ، فيلغو الحذر .

لكن حيث دلت الآية على محبوبية الحذر ، علم وجود المقتضي وهو : إستحقاق العقاب على المخالفة ، ومع وجود المقتضي ، وجب الحذر .

( وامّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالاجماع المركب ) وقد

ص: 332


1- - سورة الزخرف : الآية 55 .
2- - سورة الفتح : الآية 6 .
3- - سورة المائدة : الآية 119 .

لأنّ كلّ من أجازه فقد أوجبه .

الثاني : انّ ظاهر الآية وجوبُ الانذار ، لوقوعه غايةً للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لولا» ، فاذا وجب الانذار أفاد وجوبَ الحذر لوجهين .

أحدهما : وقوعُه غايةً للواجب ، فانّ الغاية المترتبّة على

------------------

تقدّم : معنى الاجماع المركب ، وإنه عبارة عن انّه : إذا كان في المسألة قولان ، أو ثلاثة أقوال ، لايجوز إحداث قول ثالث في القولين ، ولا قول رابع في الأقوال الثلاثة ، وهكذا .

والاجماع المركب في المقام ، إنّما هو ( لأنّ ) كل من لم يوجبه ، لم يجوّزه و( كلّ من أجازه فقد أوجبه ) فحصل هناك قولان : قول بوجوب الأخذ بالخبر الواحد ، وقول بعدم جواز الأخذ به .

وأما الوجه ( الثاني ) من وجهي وجوب الحذر فهو : ( انّ ظاهر الآية : وجوب الانذار لوقوعه ) أي : الانذار ( غاية للنفر الواجب ) وانّما كان النفر واجباً ( بمقتضى كلمة «لولا» ) فانّ هذه الكلمة للتحريض والتحضيض يستفاد منها الوجوب .

هذا بالاضافة الى السياق ولفظ الانذار ، حيث انّه ظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( فاذا وجب الانذار ، أفاد ) وجوب الانذار هذا ( وجوب الحذر ) .

وإِنّما يفيد وجوب الحذر ( لوجهين ) على النحو التالي :-

( أحدهما : وقوعه ) أي : الحذر ( غاية للواجب ) والواجب هو الانذار ، فيكون المعنى : إنّ الحذر واجب حيث انّه غاية للانذار الواجب ( فانّ الغاية المترّتبة على

ص: 333

فعل الواجب ممّا لايرضى الامرُ بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تُب لَعَلَّكَ تُفلِحُ ، وَأسلِم لَعَلَّكَ تَدخُلُ الجَنَّةَ ، وقوله تعالى : « فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذكَّرُ أو يَخْشى » .

------------------

فعل الواجب ) هو ( ممّا لايرضى الامر بانتفائه ) .

اذ لو كان غاية الواجب غير واجب لم يكن وجه لوجوب الواجب ، فاذا كان الحضور - مثلاً - في الحرم الحسيني غير واجب ، لايصح للآمر أن يقول : يجب عليك السفر الى كربلاء لحضور الحرم الشريف ، ثم يعقبه بقوله : حضور الحرم ليس بواجب ، فانه يشك عند العرف حينئذٍ : بأنه لماذا يجب السفر والحال انّ الحضور في الحرم ليس بواجب ؟ .

وهذا التلازم محقق ( سواء كان ) مايترتب على فعل الواجب ( من الأفعال المتعلّقة للتكليف ) بأن تكون الغاية أيضاً فعلاً للمكلف ( ام لا ) بأن لاتكون الغاية تحت قدرة المكلّف .

فالأوّل : ( كما في قولك : تب لعلّك تفلح ) فان الفلاح بيد الانسان ، والانسان مكلف به .

( و ) الثاني : كما في قولك : ( أسلم لعلّك تدخل الجنة ) فان دخول الجنة ليس بيد الانسان ( و ) كما في ( قوله تعالى : «فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخشى » (1) ) ، فانّ تذكر فرعون لم يكن بيد موسى وهارون عليهماالسلام ، والمراد : انه يخشى من النار ، أو يتذكّر اللّه وانّه المنعم الحقيقي ، فيرعوي عن إدعائه الالوهية ، فان الانسان أحياناً يفعل الشيء وجداناً وإنصافاً وأحياناً يفعله خوفاً

ص: 334


1- - سورة طه : الآية 44 .

الثاني : انّه إذا وجب إِلانذارُ ثبت وجوبُ القبول وإلاّ لغي الانذارُ .

ونظيرُ ذلك ماتمسّك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العِّدة ، من قوله تعالى : « ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ في أَرحامِهّنَّ » ، فإستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الاظهار عليهنَّ على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام .

------------------

من سوء تركه .

( الثاني ) من وجهي وجوب الحذر ( : انّه إذا وجب الانذار ثبت وجوب القبول ) على المنذَرين - بالفتح - ( وإلاّ ) بان لم يجب على المنذرين القبول ( لغى الانذار ) اذ أَيةِ فائدة في الانذار اذا لم يجب على المنذَرين القبول ، فهو كما لو أوجب الآمر على انسان شق نهر ، لكن لافائدة في النهر إطلاقاً ، ومن المعلوم : إنّ الشارع لايوجب ما لافائدة فيه .

( ونظير ذلك ) الذي ذكرناه : من إنه إذا وجب الانذار ، وجب القبول ( ماتمسّك به ) الشهيد الثاني ( في المسالك ، على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها ) بانّها ( في العِدّة ) فيترتب على ذلك أحكام العدّة ( من قوله تعالى : «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ فِي أَرحامِهِنَّ»(1) ) من الجنين ، فاذا كان في رحم المرأة المطلقة - مثلاً - جنين ، يجب عليها ان تخبر : بانّ في رحمها جنين ، ولا يحل لها أن تكتم ذلك .

( فاستدلّ ) الشهيد ( بتحريم الكتمان ، ووجوب الاظهار عليهنّ : على قبول قولهن بالنسبة الى ما في الأرحام ) (2) لأنّه لو حرم الكتمان ، ولم يجب القبول ،

ص: 335


1- - سورة البقرة : الآية 228 .
2- - مسالك الافهام : ج2 ص31 .

فان قلت : المرادُ بالنّفر ، النفرُ إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ، وهو قوله تعالى : « وَما كان المُؤمنُونَ لِيُنفِرُوا كافّة » ، ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ، ليس للتفقّه والإنذار .

نعم ، ربّما يترتّبان عليه ، بناءا على ما قيل ، من أنّ المراد حصول البصيرة في الدّين من مشاهدة آيات اللّه

------------------

كان التحريم بالنسبة اليهنّ لغواً .

( فان قلت : ) لا دلالة في الآية على وجوب قبول خبر الواحد ، لأنّ التفقه والانذار من قبيل الفائدة لا الغاية ، فما ذكرتم : من انّه غاية غير تام ، وذلك لأن ( المراد بالنّفر : النّفر الى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ) لا النّفر الى المدينة ، لتحصيل العلم من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والتفقه في الأحكام ( وهو ) كما أشار اليه (قوله تعالى : «وما كان المؤمنون لِيَنفِرُوا كافَّة» ) (1) أي : ليس على كل المؤمنين أن يذهبواالى الجهاد، حيث إن الجهاد واجب كفائي، وليس واجباًعينياً على كل أحد.

( ومن المعلوم : انّ النفر الى الجهاد ، ليس للتفقه والانذار ) بل لحفظ بيضة الاسلام ، ونشره بين الناس لانقاذهم من الخرافة في العقيدة ، ومن السفاهة في الاعمال ، ولقطع يد الظالمين عن المظلومين .

( نعم ، ربّما يترتبان ) التفقه والانذار ( عليه ) أي : على النّفر الى الجهاد ، فاللام في : «ليتفقهوا» للعاقبة لا للغاية .

وذلك ( بناءاً على ماقيل : من انّ المراد ) من التفقه : ( حصول البصيرة في الدّين ) والبصيرة لرؤية القلب ، كما انّ البصر لرؤية العين ( من مشاهدة آيات اللّه )

ص: 336


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وظهور أوليائه على أعدائه وسائر مايتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة اللّه وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم إلى الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها .

قلتُ : أوّلاً ، إنّه ليس في صدر الآية دلالةٌ على أنّ المراد النفرُ إلى الجهاد

------------------

التي يتفضل اللّه بها على المؤمنين في الحرب ، من المطر ، والريح ( و ) غيرهما ، ممّا يسبب ( ظهور أوليائه على أعدائه ) بغلبة المؤمنين مع قلّتهم على الكفّار مع كثرتهم ( وسائر مايتفق في حرب المسلمين مع الكفّار من آيات عظمة اللّه وحكمته ) فانّ المؤمن إذا واجه الكافر في اخلاقهما وسلوكهما ظهر له رفعة الايمان وضعة الكفر ، حيث إنّ الأشياء تعرف بأضدادها ،وذلك يدل على حكمة اللّه في تشريع الأحكام وتبييّن اصول الاسلام .

( فيخبروا بذلك ) الذي شاهدوه ورأوه ( عند رجوعهم الى الفرقة المتخلّفة ) عن ساحات الجهاد ( الباقية في المدينة ) المنورة عند الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عند من خلّفه الرسول إذا كان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم خرج بنفسه الى الجهاد .

إذن : ( فالتفقه والإنذار من قبيل الفائدة ) غير الكلية ( لا الغاية حتى يجب ) كل واحد منهما ( بوجوب ذيها ) أي : ذي الغاية .

إن قلت ذلك : ( قلت أوّلاً : انّه ليس في صدر الآية دلالة على انّ المراد : النفر الى الجهاد ) فان قوله سبحانه : «وَماكانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفةٌ» (1) وفيه احتمالات :-

ص: 337


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وذكر الآية في آيات الجهاد لايدلّ على ذلك .

------------------

الأوّلُ : ان يذهبوا الى الجهاد ويروا آيات اللّه هناك ثم إذا رجعوا الى المدينة أَنذروا قومهم بما رأوا .

الثاني : إن الباقين عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إذا رجع اليهم النافرون الى الجهاد ، بيّنوا لهم ماإستفادوه من الأحكام من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم فترة غياب المجاهدين .

الثالث : ان ينفر النّاس من البلاد الاخرى الى المدينة المنورة ، ليتفقهوا على يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاذا رجعوا الى بلادهم بيّنوا الأحكام التي إستفادوها من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لأقوامهم .

( و ) عليه : فانّ ( ذكر الآية في ) ضمن ( آيات الجهاد ، لايدلّ على ذلك ) بأن تكون هذه الآية أيضاً من آيات الجهاد ، فانّ من عادة القرآن الحكيم ، ذكر الأحكام المتفرقة في آيات متتالية ، فان الآيات هكذا :

«مَا كَانَ لأهِلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِنَ الأَعرابِ ، أَن يَتَخَلَفُوا عَن رَسُولِ اللّه ِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَفسِه ، ذَلِكَ بِأَنَّهُم لايُصِيبُهم ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخمَصَةٌ ، فِي سَبيل اللّه ِ ، وَلا يَطَئُونَ موَطِئاً يَغيظُ الكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِن عَدوٍ نيَّلاً ، إلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صالحٌ إنَّ اللّه َ لايُضِيعُ أَجرَ المُحسِنين » (1) .

«وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صِغِيرةً ولا كَبيرَةً ، وَلا يَقطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُم ، ليَجزِيهُمُ اللّه ُ أَحسَن ماكانُوا يَعمَلُونَ » (2) .

«وَما كَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفُروا كافَّةً ، فَلَولاَ نَفَر مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَهُوا فِي

ص: 338


1- - سورة التوبة : الآية 120 .
2- - سورة التوبة : الآية 121 .

وثانياً : لو سلّم أنّ المراد النّفرُ إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النفرُ من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ، بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن ان يَنْفِرَ من كلّ قوم طائفةٌ ،

------------------

الدِّين وَلِيُنذِروُا قَومَهُم إذا رَجَعوُا إليهِم لَعَلَهُم يَحذَروُنَ» (1) .

«ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ، قاتِلوُا الّذِينَ يَلُونَكُم مِن الكُفّارِ ، وَلَيَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً واِعلمُوا أَنّ اللّه ُ مَعَ المُتَقيِنَ » (2) .

( وثانياً : لو سلّم انّ المراد : النفر الى الجهاد ، لكن ) لانمنع أن يكون هناك غاية

أُخرى للنفر ، فتكون غايته أمران :-

الأوّل : الجهاد في سبيل اللّه .

الثاني : التفقّه في الدين .

فانّه ( لايتعيّن أن يكون النفر من كل قوم طائفة ، لأجل مجرّد الجهاد ، بل ) انّه ( لو كان ) المراد بالنفر ( لمحض الجهاد ، لم يتعيّن ان ينفر من كل قوم طائفة ) بل يكفي القدر اللازم ، سواء كان من قوم ، أو من قومين ، أو من جميع الاقوام ، فهو مثل أن يقال : ليذهب من كل بلد فرد الى الحج ، حتى لايخلو الموقف من الحاج ، فان ذهاب مليون إنسان من مليون بلدة له غايتان :-

الاولى : ملؤ الموقف بمليون إنسان ، وهذا يحصل ولو كان المليون من بلد واحد .

الثاني : أن يكون من كل بلد إنسان واحد لأجل إخبار أهل البلد بعد رجوعهم من الحجّ : بعظمة المواقف والمشاعر هناك .

ص: 339


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة التوبة : الآية 123 .

فيمكن أن يكون التفقّهُ غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا لايجاب أصل النفر .

وثالثاً : انّه قد فُسّر الآية بأنّ المرادَ نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، كما يظهر من قوله : «وما كان المُؤمنون لينفروا كافّة» ، وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبّي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولايخلوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم

------------------

وعليه : ( فيمكن أن يكون التفقه ، غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا ) أن يكون التفقه غاية ( لايجاب أصل النفر ) .

إذن : فهذه العدة النافرة بما إنهم عدة ، وجب عليهم النفر لأجل الجهاد ، حيث انّ الجهاد يحصل بقدر كفاية المجاهدين ، وبما إنهم طائفة من كل فرقة ، وجب عليهم النفر لأجل التفقه ، فهما غايتان لهذه الآية المباركة ، والظهور يعطي ذلك ، وإلاّ لم يكن وجه لتخصيص فرقة من كل طائفة .

( وثالثاً : انّه قد فسّر ) بعض ( الآية بأنّ المراد ) من قوله سبحانه : «فلولا نفر» ( نهي المؤمنين عن نفر جميعهم الى الجهاد ، كما يظهر من قوله ) سبحانه : ( « ومَا كَانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِرُوا كافة » ) (1) الى الجهاد ( و ) انّما ( أمر بعضهم بأن ) ينفروا الى الجهاد ، وبعضهم بأن ( يتخلفوا عند النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ولايخلوه وحده ) وذلك لأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذا بقي وحده في المدينة المنورة ، كان موضوع طمع الطامعين من الكفار والمنافقين ومن أشبه ، ويؤيده قصة إستخلافه صلى اللّه عليه و آله وسلم عليّاً عليه السلام على المدينة حين أراد الذهاب الى بعض غزواته .

( فيتعلّموا ) أي : هؤلاء الباقون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( مسائل حلالهم

ص: 340


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وحرامهم حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم .

والحاصل : أنّ ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار ممّا لاينكر ، فلا محيصَ عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض الفاظها .

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار إِستشهادُ الامام عليه السلام بها على وجوبه في أخبار كثيرة .

------------------

وحرامهم ، حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ) فقد عرفت : انّ المحتملات الأوليّة في الآية المباركة ثلاثة ، وكان هذا أحد المحتملات .

( والحاصل : انّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والانذار ممّا لاينكر ) لمكان الأمر في قوله سبحانه «ليتفقهوا . . ولينذروا» ( فلا محيصَ عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية ) عرفت : انّ السياق يدل على انّ الأمر في الجهاد ، لا في غيره ، لكن الظهور أقوى من السياق فيقدّم الظهور على السياق .

( أو ) مخالفة الظاهر ( بعض ألفاظها ) لأنّ ظاهر ألفاظ الآية نفر الطائفة للتفقّه ، فحمله على إرادة نفرهم الى الجهاد والتفقه معاً - كما ذكرناه - أو حمله على إِرادة :

نفرهم الى الجهاد ، وتخلف طائفة للتفقه على يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى ينذروا النافرين بعد رجوعهم الى المدينة ، خلاف الظاهر .

هذا ، ولكن الظاهر الذي ذكرناه ، أقوى من ذلك الظاهر ، وإذا تعارض الظاهران ، قُدِّم الأظهر على الظاهر .

( وممّا يدّل على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار : إِستشهاد الامام عليه السلام بها ) أي : بالآية ( على وجوبه ) أي : على وجوب التفقه ( في أخبار كثيرة ) نذكر بعضها :

ص: 341

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام ، في حديث ، قال : «إنّما أُمِرُوا بالحَجِ لِعلّة الوَفادَةِ إلى اللّه وطَلَبِ الزيادَةِ والخُروُج عَنْ كُلّ ما اقتَرَفَ العَبد - إلى ان قال - : ولأجلِ مافِيه مِن التفقُّه ونَقلِ أخبار الأَئمّة عليهم السلام ، إلى كلّ صَفح وناحِية . كما قال اللّه عزّ وجل : « فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة » ، الآية» .

------------------

( منها : ماعن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام في حديث ، قال عليه السلام : إنّما اُمِرُوا بالحَجّ لِعلّة الوَفادَةِ ) أي : أن يكونوا وفداً ذاهبين ( إلى اللّه ِ ) سبحانه ( وَطَلَب الزِيادَةِ ) في المال ، والعمر ، والصحة ، وماأشبه ، لأنّ الحجّ يوجب كل ذلك ( والخُروج عن كُلّ ما إقترف ) أي : إرتكبه ( العبدَ ) من ذنب ، فان الحجّ يوجب غفران الذنوب كما في النص .

( الى أن قال عليه السلام : وَلأجِلِ مافِيهِ مِنْ التَفقُهِ ) حيث يلتقي زوّار بيت اللّه الحرام بالائمة من أهل البيت عليهم السلام في المدينة ، أو في مكة المكرمة ، أو في الطريق ، فيتفقهون على أيديهم ( و ) اذا رجعوا قاموا ب- ( نقل أخبار الأئمة عليهم السلام الى كلّ صفح ) أي : منطقة ( وناحية ) ، والفرق بين الصفح والناحية : انّ الناحية تطلق على البلد ، والصفح يطلق على الصحراء التي فيها الخيام .

ومحل الشاهد في الرّواية : انّ الامام عليه السلام إستشهد بالآية على وجوب التفقه ، الذي هو من غايات الحجّ حيث قال : ( كما قال اللّه عزّ وجلّ : «فَلَولا نَفَر مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة » (1) ) (2) الى آخر ( الآية ) فانّ التفقه والانذار اذا لم يكونا

ص: 342


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - علل الشرائع : ج1 ص317 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص119 ، وسائل الشيعة : ج11 ص13 ب1 ح14121 .

ومنها : ماذكره في ديباجة المعالم ، من رواية عليّ بن حمزة ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : تَفَقَّهُوا فِي الدّينِ ، فإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَه مِنكُم في الدِّينِ فَهُو أعرابيٌّ ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : «لِيتَفَقّهُوا فِي الدِّين وَلِيُنذِرُوا» .

ومنها : مارواه في الكافي ، في باب مايجب على الناس عند مضيّ

------------------

واجبين ، لم يكن وجه لجعلهما غاية للحجّ الواجب ، لما عرفت سابقاً : من انّ غاية الواجب واجبة خصوصاً إذا كانت الغاية فعلاً للمكلف .

( ومنها : ماذكره في ديباجة المعالم ، من رواية علي بن حمزة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : تَفَقَهُوا فِي الدِّين ، فإنّ مَن لَم يَتَفَقَّه مِنكُم في الدِّين فَهُو أَعرابيّ ) كناية عن الجهل ، وإشارة الى قوله سبحانه : «الاعرابُ أشدُّ كفراً ونِفاقاً ، وأجدَر ألاّ يَعلموا حدود ما أنزل اللّه على رَسولِه » (1) .

والمراد بالأعرابي - وجمعه أعراب - : هم سكان البواديّ ، كما ان الظاهر : كونه أعم ممّن يتكلم بالعربية .

ثم إِستشهد عليه السلام بالآية قائلاً ( فانّ اللّه عزّ وجل يقول : «لِيَتَفَقّهُوا فِي الدِّين ولِيُنذِرُوا ) قَومَهُم إِذا رَجَعوُا إِليهِم لَعلَّهُم يَحذَرونَ» (2) ومن الواضح : انّ المراد بالتفقه : أعمّ من تفقه المجتهد أو المقلد ، ولو بالملاك أو القرينة القطعيّة ، الداخلية أو الخارجية .

( ومنها : مارواه في الكافي ، في باب مايجب على النّاس عند مضيّ ) أي : وفاة

ص: 343


1- - سورة التوبة : الآية 97 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص31 ح6 ، معالم الدين : ص32 .

الامام عليه السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب : «قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إذا حَدَثَ على الإمام حَدَثٌ كيف يَصنَعُ الناسُ ؟ .

قال عليه السلام : أينَ قَولُ اللّه عَزّ وَجَلّ : «فَلَولا نَفَر ...» الآية . قال : هُم في عُذُرٍ ما دامُوا فِي الطَلَبِ، وَهؤلاءِ الذَّينَ يَنَتَظِرونهمُ فِي عُذرٍ حتى يَرجعَ إليهم أصحابهم» .

------------------

( الامام عليه السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا حَدَثَ على الامام حَدَثٌ ) أي : توفي ، فان هذه العبارة إِشارة الى الوفاة ( كيفَ يَصنَعُ النّاسُ ) وهم لايعرفون الحجّة من بعد الامام المتوفى ؟ .

( قال عليه السلام : أَينَ قَولُ اللّه ِ عزّ وَجَلّ : « فلولا نفر ...» ) اِلى آخر (الآية) .

ثم ( قال : هُم في عُذرٍ ) أي : إِنّهم معذورون في عدم معرفة إِمامهم الذي هو بعد الامام المتوفى ( مادامُوا فِي الطَلَبِ ) حتى يصلوا الى المدينة - مثلاً- فيعرفوا إمامهم القائم مقام الامام - المتوفى .

( وَهَؤُلاءِ الذَّينَ يَنتَظِرُونَهُم ) أي : ينتظرون وصول الخبر ممّن ذهب في الطلب، فأهل الكوفة - مثلاً - حينما يبعثون جماعة الى المدينة المنورة في الطلب ، فالذّين بقوا في الكوفة (فِي عُذرٍ حَتى يَرجعَ إليهم أصحابهم) (1) النافرون بالخبر .

والظاهر : أنّ ذلك إذا لم يكن تقصير من النافرين ولا من الباقين ، في التحقيق قبل وفاة الامام السابق ، اذ الواجب : التحقيق قبل الوفاة وإلاّ ف- «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية » (2) ، ممّا قد ثبت في مكانه من اصول الدّين .

ص: 344


1- - الكافي اصول : ج1 ص378 ح2 .
2- - اشارة الى الحديث الوارد في الكافي اصول : ج2 ص21 ح9 والمحاسن : ص154 ح80 والصراط المستقيم : ج3 ص118 وقريب منه في متشابه القرآن : ج2 ص50 .

ومنها : صحيحة عبد الأعلى قال : «سَألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن قَولِ العَامّةِ إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : مَنْ ماتَ وَلَيسَ لَهُ إمام ماتَ مِيتَةَ جاهِليَّة . قال : حَقٌ وَاللّه ِ . قلت : فانّ إماماً هَلَكَ ،

------------------

( ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال : سَأَلتُ أَبا عبدِ اللّه ِ عليه السلام ، عن قولِ العَامّةِ انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : مَنْ ماتَ وَلَيسَ له إِمام ) أي : لم يعرف الامام الذي يجب عليه طاعته في زمانه ( مَاتَ مِيتَةَ جاهِليَّة ؟ ) أي : كما إنّ الجاهلين كانوا لايعرفون الأئمة وكان مصيرهم الى النّار - لمن كان منهم مقصراً - كذلك حال من مات في الاسلام وهو لايعرف إمامة الحق .

ومن الواضح : انّ قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مات ميتة جاهلية » يفيد الوجوب هنا بخلاف الحديث الشريف القائل :

«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» (1) فانّه هُناك على سبيل الاستحباب .

اللّهم الاّ اذا كانت الوصية واجبة ممّا ذكر تفصيله في كتاب الوصية (2) .

وعليه : فانّ موتة الجاهلية كما تكون بالنسبة الى الواجبات تكون بالنسبة الى المستحبات - أيضاً- وبالقرائن يعرف ماهو المراد من ميتة الجاهلية : هذا أو ذاك ؟ .

وعلى أي حال : فلمّا سئل من الامام عليه السلام ، عن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم هذا ( قال : حَقٌ وَاللّه ِ ) وصدق .

ف- ( قُلتُ : فَانّ إماماً هَلَك ) أي : مات بالمدينة أو في بغداد ، أو في سامراء - مثلاً- والهلاك أحياناً يطلق على المعنى السيء ، وأحياناً على المعنى الحسن ،

ص: 345


1- - وسائل الشيعة : ج19 ص259 ب1 ح24546 .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : كتاب الوصية : ج61 للشارح .

ورَجلٌ بخُراسان لايعلمُ مَنْ وَصيّه ، لَمْ يَسَعَهُ ذلِكَ ؟ قال : لايسعه ، إنّ الامامَ إذا ماتَ رُفعَت حُجّة وصيّه على مَنْ هُوَ مَعَهُ في البَلَدِ ، وحقّ النّفر على مَنْ لَيسَ بِحضرَتِهِ إذا بلغهم انّ اللّه عزّوجلّ

------------------

وهو : مطلقِ الموت ، كما ورد في قوله سبحانه بالنسبة الى يوسف : «حَتَّى إذا هَلَكَ » (1) .

وقال سبحانه : «كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجهُهُ » (2) .

فاذا توفي الامام بالمدينة - مثلاً- ( ورجلٌ بخُراسان لايَعلمُ مَنْ وَصيّه ) والامام بعده ، ( لَمْ يَسَعَهُ ذلِك ) والكلام على سبيل الاستفهام أي : ألم يكن معذوراً ؟ .

( قال عليه السلام : لايَسَعَهُ إنّ الأَامَ إذا ماتَ رُفِعت حُجّةٌ وَصَيّه ) أي : ظهر الدليل على الوصي والامام من بعده ، والرفع بمعنى الظهور ، لأنّ الشيء المرتفع يظهر للناس ، وكذلك الحجّة المرفوعة تظهر ( على مَن هُوَ مَعَهُ فِي البَلَدِ ) أي : من هو في بلد الامام ، فانه يظهر له ذلك بحيث يعرف الوصي والامام من بعده .

وعليه : فلاتبقى حجّة للذين هم في بلد الامام عليه السلام في عدم معرفتهم الوصي والامام اللاحق .

هذا بالنسبة الى من كان في بلد الامام ، وأما من كان في البلاد الاُخرى ، فانه قد وجبَ ( وَحَقُ النَفر عَلى مَن لَيسَ بحَضرَتِهِ ) أي : بحضرة الامام وفي بلده ، فانه ( إذا بَلَغَهُم ) مضي الامام السابق وموته وجب على جماعة منهم أن ينفروا الى بلد الامام الذي توفي فيه ليستظهروا من هو الامام والوصي من بعده .

ثم إِن الامام عليه السلام إستشهد لوجوب النفر بهذه الآية قائلاً : ( إنّ اللّه َ عَزّ وجَلّ

ص: 346


1- - سورة غافر : الآية 34 .
2- - سورة القصص : الآية 88 .

يقول : « فَلَولا نَفَر مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ...» الآية .

ومنها : صحيحةُ محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها : «قلتُ : افيَسَعُ الناسَ إذا ماتَ العالِم أن لايَعرِفُوا الذي بَعدَهُ ؟ فقال : عليه السلام أمّا أَهلُ هذِهِ البَلدَةِ فَلا - يعني أَهلُ المَدينَةِ - وأَمّا غَيرُها مِن البُلدانِ فَبِقَدرِ مَسيرهُم ،

------------------

يقولُ : «فَلَولا نَفَر مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ...» (1) ) (2) الى آخر (الآية) .

ومن المعلوم : انّ التفقه في الدين يشمل الاصول والفروع ، وشموله للاصول بطريق أولى ، وما نحن فيه من النفر إنما هو لأجل تحصيل أصل من اصول الدّين وهو : اصل الامامة ومعرفة الامام الذي يكون خلفاً للامام السابق .

( ومنها : صَحيحَةُ مُحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها : قُلتُ : أَفَيَسعُ النّاسَ إذا ماتَ العالِمُ ان لايَعرِفُوا الذَي بَعدَهُ ؟ ) أي هل انّهم معذورون في معرفة الامام اللاحق الذي يخلف الامام السابق . ؟

( فقال عليه السلام : أَمّا أَهلُ هذِهِ البَلدَةِ فَلا ) .

ثم انّ محمّد بن مسلم فسّر المراد بهذه البلدة بقوله : ( يعني : أَهلُ المَديِنَةِ ) وذلك لأنّ أهل المدينة يمكنهم الاستعلام عن وصي الامام وخلفه فوراً .

( وأمّا غَيرُها مِن البُلدانِ فَبِقَدرِ مَسيِرهُم ) أي أنهم معذورون الى أن يصلوا الى المدينة بأنفسهم ، أو يصل خبرهم بعد الاستعلام والرجوع الى الباقين منهم في بلدهم .

ص: 347


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص378 ح2 وهذا الحديث ذكره أحمد بن حنبل في مسنده : ج3 ص446 ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وورد في صحيح مسلم بلفظ ( من مات ولم تكن في عنقه بيعة ) .

إنَّ اللّه َ عَزّ وَجَلّ يقول : «فَلَولا نَفَر..» الى آخره » .

ومنها : صحيحةُ البزنطيّ المرويّة في قرب الاسناد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام .

ومنها : روايةٌ عبد المؤمن الأنصاريّ ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «إختِلافُ اُمَتِّي رَحمَةٌ . قال : إِذا كان إِختِلافُهُم رَحمةً فإِتفاقُهُم عَذابٌ !

------------------

ثم انّه عليه السلام إستشهد لذلك بالآية قائلاً : ( إنّ اللّه َ عزَ وجَلّ يقول : «فَلَولا نَفَر» الى آخره ) (1) .

ومن الواضح : انّ مهلة قدر المسير ، إنّما هو بحسب المتعارف من السير ، فلايلزم السرعة غير المتعارفة ، كما لايجوز البطؤ غير المتعارف ، لأنّ الألفاظ إنّما تصب على معانيها العرفية ، فانّ أهل العرف هم الذين يتلقون الكلام ، ففهمهم معيار إرادة المتكلمين .

( ومنها : صحيحة البزنطيّ المرويّة في ) كتاب ( قرب الاسناد (2) ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ) بنفس مضمون الرّواية المتقدّمة .

( ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاري ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : إختِلافُ أمتِّي رَحمَةٌ ؟ ) حيث إنّ هذا الحديث مرويّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فسأل الامام عن معنى ذلك ، ثم ( قال : ) أي : الرّاوي معقباً سؤاله بقوله : ( إذا كان إختلافُهُم رَحمةً فاتِفاقُهُم عَذابٌ ؟ ) لأنّه الظاهر من مقابلة شيئين .

ص: 348


1- - الكافي اصول : ج1 ص379 ح3 ، علل الشرائع : ج2 ص315 .
2- - قرب الاسناد : ص350 .

ليس هذا يُرادُ ، إنّما يُرادُ الاختِلافُ في طَلبِ العِلمِ ، عَلى ما قال اللّه عزّ وجلّ : «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة» ، الحديثُ منقولٌ بالمعنى ، ولايحضرني أَلفاظه .

------------------

فاذا قيل - مثلاً- النهار مضيء ، كان معناه : الليل مظلم ، وإذا قيل إنّ الماء سائل بالطبع ، كان معناه : إنّ التراب ليس كذلك ، وهكذا .

فاجاب عليه السلام : ( لَيس هذا ) المعنى هو الذي ( يُرادُ ، إنّما يُرادُ : الاختلاف ) إياباً وذهاباً ( فِي طَلَبِ العِلمِ ، عَلى ماقالَ اللّه عَزّ وَجَلّ ، «فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة» (1) ) (2) فان الاختلاف بمعنى الاياب والذهاب ، كما ورد عنهم عليهم السلام : إنهم مُختَلَف الملائكة ، وكما ورد : انّ اللّيل والنهار خلفة كما في القرآن الحكيم ، لأنّ أحدهما يذهب والآخر يخلفه .

ثم انّ هذا ( الحديث منقول بالمعنى ، ولايحضرني ألفاظه ) والفاظه كما في العلل عن الصادق عليه السلام : انه قيل له عليه السلام انّ قوماً يروون : انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إختِلافُ اُمتِّي رَحمَةٌ ؟ . فقال : صدقوا .

فقيل : إن كان إختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ .

قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول اللّه عز وجلّ : « فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَة » الى آخر الآية ، فامروا أن يتفرقوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ويختلفوا اليه ، فيتعلّموا ، ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم ، إنّما اراد اختلافهم من البلدان ، لا الاختلاف في دين اللّه إنما الدِّين واحد .

أقول : مع قطع النظر عن هذا التفسير يمكن أن يراد بالاختلاف : الأعم من

ص: 349


1- - سورة البقرة : الآية 122 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص141 ب11 ح33425 بالمعنى ، معاني الاخبار : ص157 .

وجميعُ هذا هو السّر في إستدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيّاً .

------------------

ذلك فانه قد يكون التفسير لبعض المصاديق التي تتضمنه رواية الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كما انّ مثل هذا التفسير المصداقي جاء في جملة من الآيات حيث انهم عليهم السلام كانوا يفسّرون بعض الآيات ببعض المصاديق ، وان كانت الآية ، أعم من ذلك المصداق .

وعلى أي حال : فمن الممكن أن يراد من الاختلاف : إختلافهم : في الاعمال ، حتى لايعرفوا فيؤخذوا كما في زمان التقيّة ، ولهذا قال عليه السلام : « أنا خالفت بينهم »(1) .

أو يراد به : انّه إذا كان هناك إختلاف في الفتوى ، مع توفر شروط الاجتهاد في جميع المفتين جاز للمقلد أن يأخذ بما هو أرفق بحاله ، الى غير ذلك .

وهذا لايتنافى مع وحدة الدِّين لانه من تعدد الاجتهادات في الاحكام الفرعية ، أو إنه من قبيل إختلاف داود مع سليمان ، كما في قوله تعالى :-

«وَدَاوُدَ وَسُلَيمانَ إذ يحكُمَانِ فِي الحَرثِ » (2) الى آخر الآية .

( وجميع هذا ) الّذي ذكر : من إستشهاده عليه السلام بالآية على وجوب الطلب

والبحث لمعرفة الامام عليه السلام ممّا هو أحد مصاديق آية النفر - كان ( هو السّر في إستدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم ، وكونه كفائيّاً ) لأنّ الواجب : النفر الى الامام أو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على سبيل الكفاية - كما عرفت - .

ص: 350


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .
2- - سورة الانبياء : الآية 78 .

هذا غايةُ ما قيل و يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة .

لكنّ الانصافَ : عدمُ جواز الاستدلال بها من وجوه :

الأوّلُ : انّه لايستفادُ من الكلام إلاّ مطلوبيّةُ الحَذَر عَقِيبَ الأَذار بما يَتَفَقّهُونَ فِي الجُملَةِ ، لكن ليس فيها إطلاقُ وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقف وجوبُه على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلمُ فيحذروا .

------------------

( هذا غاية ماقيل ويقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة ) على حجّية خبر الواحد .

( لكنّ الانصاف ) عندالمصنّف ( عدم جواز الاستدلال بها ) أي : بالآية على حجّية خبر الواحد لانها لاتدل على ذلك ( من وجوه ) متعددة :-

( الأول : انّه لايستفاد من الكلام ، الاّ مطلوبيّةُ الحَذَر عَقِيبَ الانذار بما يَتَفَقَهُون فِي الجُملَةِ ) فالآية من قبيل القضايا الطبيعية ، فاذا قيل - مثلاً- : الدواء الفلاني ينفع المرض الفلاني اُريد به الاقتضاء ، لا العلّية التامة .

ومن هنا : فالآية دالة على الطبيعة ، بمعنى : انّ طبيعة الانذار إيجابها الحذر ، لا أنّ كلّ إنذار يتعقبه الحذر ، وقول المصنّف : «في الجملة» متعلق بقوله : «مطلوبية الحذر» .

( لكن ليس فيها ) أي : في الآية المباركة ( إطلاق وجوب الحذر ) بأنّه كلما حصل الانذار ، لزم الحذر ووجب ( بل يمكن ان يتوقف وجوبه ) أي وجوب الحذر ( على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم ، فيحذروا ) .

وعليه : فان وجوب الحذر وإن كان مطلقاً في الآية المباركة ، غير مقيد بحصول العلم ، الاّ انّ التمسك بالاطلاق ، انّما يصح اذا كان المتكلم في مقام البيان من

ص: 351

فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون ومطلوبيّة العمل من المُنذرين بما اُنذِرُوا . وهذا لاينافي إِعتبار العلم في العمل .

------------------

جميع الخصوصيات والجهات .

بينما ظاهر الآية انه تعالى ليس في مقام بيان هذه الجهة : من ان الحذر واجب مطلقاً ، أو واجب في صورة حصول العلم ، أو غير ذلك من القيود والخصوصيات ، بل في مقام بيان وجوب الحذر إجمالاً ، غاية لايجاب النفر ، والتفقه ، والانذار ، فهو كما يقول الطبيب للمريض : يجب عليك ان تشرب الدواء .

وهكذا غالب آيات القرآن ، فانها في مقام أصل التشريع ، لا في مقام بيان الخصوصيات .

وعليه : ( فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الانذار ، بما يتفقهون ، ومطلوبيّة العمل من المنذَرين ) بالفتح ( بما أُنذروا ) بصيغة المجهول ( وهذا ) المقدار أي : مطلوبية الانذار والحذر في الجملة ( لاينافي إعتبار العلم في ) الحذر و ( العمل ) بما انذر المنذرون .

إذن : فالآية ساكتة عن هذه الجهة ، فهي مثل قوله سبحانه :- «فَكُلُوا مِمّا أَمسَكنَ عَليكُم . . .» (1) .

حيث ان الآية في صدد بيان جواز الأكل من الصيد ، وليست الآية المباركة في مقام بيان سائر الخصوصيات حتى يقال : بانّه يحل موضوع عض الكلب وسائر محرمات الذبيحة في الحيوان الذي اصطاده الكلب .

ص: 352


1- - سورة المائدة : الآية 4 .

ولهذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلمُ . فليس في هذه الآية تخصيصٌ للأدلّة الناهية عن العمل بما لم يعلم ولذا

------------------

( ولهذا ) أي : لعدم المنافات بين مطلوبية الانذار والحذر وبين إعتبار علم المنذَرين - بالفتح - ( صح ذلك ) أي : إستعمال هذه الآية المباركة ( فيما يطلب فيه ) عقلاً وشرعاً ( العلم ) كمعرفة الامام عليه السلام .

ولهذا إستدل الأئمة عليهم السلام بهذه الآية المباركة على معرفة الامام ، ومن الواضح : انّ معرفة الامام إنّما تكون بالعلم لا بالخبر الواحد - كما قرر في اصول الدين - لأنّها يجب ان تكون عن إعتقاد وعلم ، ولايكفي فيها مجرد الظنّ ، أو خبر الواحد ، أو الشهرة ، أو مااشبه ذلك .

إذن : ( فليس في هذه الآية ) المباركة ، بعد ان عرفت سكوتها عن إعتبار حصول العلم وعدمه ( تخصيص للأدلّة النّاهية عن العمل بما لم يعلم ) مثل :

قوله سبحانه :- «وَلا تَقفُ مَالَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ» (1) .

وقوله تعالى : «إِن يَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ» (2) .

وقوله عزّوجلّ «فاعلَم أَنَّهُ لا اِلَهَ إلاَّ اللّه» (3) .

ولو كانت هذه الآية ، دالة على حجّية خبر الواحد وان لم يحصل العلم بسببه ، كانت هذه الآية مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، أو الآمرة بالعمل بالعلم، مع إنها ليست مخصصة لها.

(ولذا) أي: لأجل إنّ مطلوبية الانذار والحذر في الآية المباركة، لاينافي إشتراط

ص: 353


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة النجم : الآية 28 .
3- - سورة محمد : الآية 19 .

إِستشهد الامامُ عليه السلام ، فيما سَمِعتَ من الأخبار المتقدّمة ، على وجوب النفر في معرفة الأَام عليه السلام ، وإنذار النافرين للمتخلّفين ، مع انّ الامامة لاتثبت إلاّ بالعلم .

الثاني : انّ التفقّهَ الواجبَ ليس إلاّ معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين ،

------------------

حصول العلم للمنذَرين - بالفتح - من اخبار المنذِرين - بالكسر- ( إستشهد الامام عليه السلام ) بهذه الآية المباركة ( فيما سَمِعتَ من الأخبار المتقدّمة ) التي مرّ ذكرها ( على وجوب النفر في معرفة الامام عليه السلام و ) وجوب ( إنذار النّافرين ) الى بلد الامام عليه السلام اذا رجعوا ( للمتخلّفين ) الذين بقوا في أوطانهم .

( مع ) وضوح : ( انّ الامامة لاتثبت الاّ بالعلم ) كما عرفت : من دلالة العقل والشرع : على انّ اصول الدين يجب فيها العلم ، والامامة من اصول الدين - كما هو واضح - .

لكن هذا الاشكال غير وارد بعد كون الآية مطلقة ، وإنما يقيد فرد من هذا المعلق ، وهو : مانحن فيه من الامامة وسائر اصول الدين ، بقيد من الخارج ، فيما إذا أفاد ذلك القيد إشتراط لزوم العلم فيه .

أمّا كون هذه الآية مخصصة لآيات لزوم العلم ، فبالاضافة الى إمكان كون تلك الآيات في اصول الدين - كما يظهر من سياق بعضها - انّ العلمي أيضاً ، يعد من العلم عرفاً ، فهل يقول أحد : بلزوم العلم في كل الأحكام؟ .

( الثاني ) من وجوه عدم جواز الاستدلال - عند المصنّف - بالآية على حجّية خبر الواحد ، هو ( : انّ التفقّه الواجبَ ، ليس إلاّ معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين ) فانّ معنى النفر من كل فرقة طائفة للتفقّه في الدين هو : ان يعرفوا أحكام اللّه الواقعية التابعة للمصالح والمفاسد ، لا الأحكام الخيالية ، فانّ الألفاظ موضوعة

ص: 354

فالانذارُ الواجبُ هو الانذارُ بهذه الاُمور المتفقّه فيها . فالحذرُ لايجبُ إلاّ عَقيبَ الانذار بها . فاذا لم يعرف المُنذَر - بالفتح - أنّ الانذار هل وقع بالأمور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطاءً أو تعمّداً من المنذِر - بالكسر- لم يجب الحذرُ حينئذٍ ؛

------------------

للمعاني الواقعية ، فكما انّ الماء اسم للماء الواقعي ، والخبز اسم للخبز الواقعي وهكذا ، كذلك الدّين يراد به : الدّين الواقعي ، لا الدّين الخيالي ، فاللازم التفقه في أحكام اللّه الواقعية .

( ف ) يكون ( الانذار الواجب ، هو : الإنذار بهذه الامور ) الواقعية : لأنّ الانذار إنّما يكون بعد التفقه في الدين الواقعي ، فالاحكام الواقعية ( المتفقه فيها ) يلزم انذارها .

وعليه : ( فالحذر لايجب ) بمقتضى ماذكرناه ( الاّ عَقيبَ الانذار بها ) أي : بالاحكام الواقعية المذكورة ، فاذا كان التفقه بالنسبة الى الاحكام الواقعية فالانذار يكون أيضاً بالنسبة الى الاحكام الواقعية ، وبعد ذلك يأتي دور العمل - وهو الحذر فيكون أيضاً بالأحكام الواقعية .

( فاذا لم يعرف المنذَر - بالفتح - انّ الانذار ، هل وقع بالامور الدينية الواقعيّة ، أو بغيرها؟ ) أي : بغير تلك الامور من الأحكام الخيالية ، سواء كان الانذار بغير الأحكام الواقعية ( خطأً أو تعمداً ) للخطأ ( من المنذِر - بالكسر- ) فانه ( لم يجب ) على المنذَر بالفتح - ( الحذر حينئذٍ ) .

وذلك لوضوح انّ الحكم إنما يتبع الموضوع الواقعي ، لا الموضوع الخيالي ، فاذا لم يحرز المنذَر - بالفتح - كون الانذار بالامور الواقعية ، لا يتنجز عليه وجوب الحذر .

ص: 355

فانحصر وجوبُ الحذر فيما إذا علم المنذَرُ صدق المنذِر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة ، فهو نظيرُ قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعلّه يمتثلها .

فهذه الآيةُ نظيرُ الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصودَ من هذا الكلام ليس إلاّ العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو لم يعلم مطابقته للواقع . ولا يُعدُّ هذا ضابطاً لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأَمر الكذائيّ .

------------------

( فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذَر ) - بالفتح - ( صدق المنذِرِ ) - بالكسر - ( في إنذاره بالأحكام الواقعيّة فهو ) أي : الأمر بالانذار في هذه الآية المباركة ( نظير قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعلّه يمتثلها ) فانّ الظاهر من هذا الأمر ، هو : ارادة الآمر : إمتثال فلان لأوامره الواقعية ، لا لأوامره الخيالية .

وايضاً ( فهذه الآية نظير الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصود من هذا الكلام ) أي : مقصود الرسول والائمة عليهم السلام من أمرهم بنشر الأحكام بين المسلمين ( ليس الاّ ) إيصال الواقعيات الى المسلمين و( العمل ) منهم ( بالأمور الواقعيّة لا وجوب تصديقه في مايحكي ) عن المعصوم تعبداً ( ولو لم يعلم مطابقته للواقع ) .

فان أمرهم عليهم السلام اصحابهم بنقل الروايات ، يقصدون به : وصول الأحكام الالهية الى الناس ، ليعملوا بالأحكام الواقعية ، فيفوزوا بالمصالح الخفية الكامنة في تلك الأحكام ، وليس المقصود من مثل هذه العبارة : جعل الحجّية وإيجاب العمل بخبر الواحد - كما إستدل به القائل بدلالة الآية على ذلك - .

( ولا يُعدُّ هذا ) أي : وصول الخبر الى الناس ووجوب تصديقهم له تعبداً بدون علمهم بأنّ الخبر مطابق للواقع ، أم لا ( ضابطاً لوجوب العمل بالخبر الظنّي ، الصادر من المخاطب في الأمر الكذائي ) .

ص: 356

ونظيرُه جميعُ ماورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ، فانّ المقصود منه إهتداء الناس إلى الحق الواقعيّ ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ مايُخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع .

------------------

والمراد بالمخاطب : هم نقلة الرّوايات الذين أمرهم المعصومون عليهم السلام بنقل رواياتهم الى الناس ، فانّ المتبادر منه : انهم عليهم السلام لم يقصّدوا بذلك وجوب العمل بالخبر الظنيّ الصادر من هؤلاء الرواة ليكون المناط وجوب العمل بمثل هذا الخبر الظنيّ تعبداً ، بل المتبارد عرفاً من أمرهم عليهم السلام بنقل الرّوايات للناس : وجوب العمل بالامور الواقعية .

( ونظيره ) أي : نظير مامرّ من الكلام بالنسبة الى الأمر بالتفقه والانذار ، في الآية المباركة ، ( جميع ماورد من ) وجوب ( بيان الحق للنّاس ووجوب تبليغه إليهم ) وحرمة كتمان الحق ، كقوله سبحانه : «إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ ما أَنزَلَنا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّناهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ ، أُولئِكَ يَلعَنُهمُ اللّه ُ ، وَيَلعَنُهُم الّلاعِنُونَ» (1) .

( فانّ المقصود منه ) أي : من بيان الحق ، ووجوب تبليغه ، وحرمة كتمانه ( إهتداء الناس الى الحقّ الواقعي ، لا ) المقصود : جعل الحجّية ، و ( إنشاء حكم ظاهري ، لهم بقبول كل مايُخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع ) .

وفيه : انّ ظاهر أخبر فلاناً لعلّه يحذر : طلب الأمر الحذر من فلان عقيب الاخبار ، فلو لم يحذر ، بأن لم يعمل بمقتضى خبر المنذِر - بالكسر- معتذراً : بانه لم يحصل له العلم بصدق المخبر ، رآه العقلاء آثماً بتركه العمل ، مستحقاً

ص: 357


1- - سورة البقرة : الآية 159 .

ثمّ الفرقُ بين هذا الايراد وسابقه : أنّ هذا الايرادَ مبنيٌّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الأَور الواقعيّة المستلزم لعدم وجوبه إلاّ بعد إحراز كون الانذار متعلّقاً

------------------

للعقاب ، وليس معنى ذلك : إنشاء الحكم الظاهري ، بل التنجيز والاعذار .

ومن ذلك يعرف : وجه الرد والقبول في قول الأوثق حيث قال :

فان هذا الايراد في غاية الضعف ، اذ بعد كون المراد بالحذر : وجوب العمل والقبول ، وبالانذار : إبلاغ الحكم مطلقاً- كما عليه مبنى هذا الايراد- لا : ابلاغه على وجه التخفيف - كما عليه مبنى الايراد الثالث - فلا ريب في ظهور الآية : في انشاء حكم ظاهري لوجوب التعبد بخبر المنذرين ، لأنها حينئذٍ نظير قولك لزيد : اذا أخبرك عمرو بأمري ، يجب عليك إمتثاله .

وأمّا تنظيره على قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعله يمتثلها ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ القياس أن يخاطب نفس فلان ، كما مثلنا به ، لعدم إختصاص الخطاب في الآية بالمنذرين .

وأما قياسه على جميع ماورد من بيان الحق للناس ، ففيه : انّ الأمر ببيان الحق للناس غير أمر الناس بالعمل بما يخبر به المخبر ، ومانحن فيه من قبيل الثاني ، دون الأول ، لسكوته عن كيفية العمل رأساً (1) .

( ثمّ الفرق بين هذا الايراد وسابقه : انّ هذا الايراد مبني على انّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم : بالحذر عن الامور الواقعيّة المستلزم ) ذلك الحذر عن الامور الواقعية ( لعدم وجوبه ) أي : الحذر ( إلاّ بعد إحراز كون الانذار متعلّقاً

ص: 358


1- - أوثق الوسائل : ص157 دلالة آية النفر على حجيّة خبر الواحد .

بالحكم الواقعيّ . وأمّا الايرادُ الأول فهو مبنيٌّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجباً على الاطلاق أو بشرط حصول العلم .

الثالثُ : لو سلّمنا دلالَة الآية على وجوب الحذر مطلقاً عند إنذار المُنذِرين ولو لم يفد العلم ، لكن لايدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث انّه خبر ،

------------------

بالحكم الواقعي ) ممّا يدل على وجوب حصول العلم للمنذَرين - بالفتح - حتى يعملوا بأخبار المنذِرين - بالكسر- .

( وأمّا الايراد الأوّل : فهو مبني على سكوت الآية عن التعرض ، لكون الحذر واجباً على الاطلاق ، أو بشرط حصول العلم ) فالآية لا إطلاق لها ، وتقيد بما دلّ على لزوم تحصيل العلم .

أمّا الايراد الثاني : فهو في انّ اللازم : العمل بالأحكام الواقعية ، فما لم يعلم المكلَّف بالحكم الواقعي ، لم تكن للآية دلالة على وجوب العمل عليه .

وإن شئت قلت : انّ الاشكال الأول : يقيّد العمل بالعلم ، والاشكال الثاني : يقيّد العمل بما كان الحكم واقعياً .

( الثالث ) من وجوه عدم جواز الاستدلال - عند المصنّف - بآية النفر على حجّية خبر الواحد ، هو ( : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقاً ، عند إنذار المُنذرين ولو لم يفد العلم ) وقوله : « ولو لم يفد » بيان قوله : « مطلقاً » أي : سواء أفاد العلم أو لم يفد العلم ، فانه يجب على السامعين الحذر عند إنذار المنذِرين .

( لكن لايدل على وجوب العمل بالخبر ، من حيث إنّه خبر ) اصطلاحي ، فان الآية أخص من المدّعى ، لأنّ المدعى : كل خبر واحد حجّة بينما الآية تدل على

ص: 359

لأن الانذار هو الابلاغُ مع التخويف . فانشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عَقيبَ هذا التخويف ، الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلاً ، ومن المعلوم أنّ التخويفَ لايجبُ الاّ على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يُوعَدُ على شرب الخمر وفعل الزنا وترك

------------------

حجّية الخبر المقرون بالانذار .

وذلك ( لأنّ الانذار هو : الابلاغ مع التخويف ، فانشاء التخويف مأخوذ فيه ) أي : في الانذار ، فاذا كان هناك خبر مع تخويف ، وجب قبوله - حسب الآية المباركه- أمّا اذا كان خبر بلا تخويف ، لم يكن الانذار شاملاً له ، فلا تدل الآية على حجّية هذا الخبر ، الخالي من الانذار .

( والحذر هو : التخوّف الحاصل عقيبَ هذا التخويف ) فاذا لم يكن انذار ، لم يكن حذر ، وإذا لم يكن حذر ، لم يكن الواجب : التحذر ، وهذا التخوف هو : ( الداعي الى العمل بمقتضاه ) أي : بمقتضى التخويف ( فعلاً ) وفي حال التخويف .

( ومن المعلوم : ان ) الابلاغ مع ( التخويف لايجب إلاّ على الوعّاظ في مقام ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و( الإيعاد ) بالعقاب والعذاب ( على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ) .

فاذا علم الناس الواجبات والمحرمات وعظهم الوعاظ : بأنّه يجب عليكم العمل بهذه الواجبات ، وترك هذه المحرمات ، وإلاّ كان ورائكم عقاب وعذاب ، وجهنم ونار .

فيكون المعنى على هذا : ليتعظ السامعون ويعملوا بما علموا من الأحكام الواجبة عند انذار المنذرين لهم ( كما يُوعَدُ عَلى شربِ الخمر ، وفعل الزّنا ، وترك

ص: 360

الصلاة ، وعلى المرشدين في مقام إرشاد الجهّال . فالتخوّف لايجبُ إلاّ على المُتّعظ أو المسترشد . ومن المعلوم أنّ تصديقَ الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارجٌ عن الأمرين .

توضيحُ ذلك

------------------

الصّلاة ) وغيرها من فعل المحرمات وترك الواجبات .

( و ) كذلك لايجب الابلاغ مع التخويف ، إلا ( على المرشدين ) الذين يبيّنون أحكام اللّه سبحانه وتعالى ( في مقام إرشاد الجّهال ) .

وعليه : فالعالم الذي ينذره الوعاظ بالعقاب ان لم يعمل بعلمه والجاهل الذي يرشده المرشد لأحكام اللّه سبحانه وتعالى المقترن بالعقاب ان لم يعمل بما ارشد اليه يجب عليهما الحذر .

إذن : ( فالتخوف لايجبُ إلاّ على المُتّعظ أو المسترشد ) كما انّ الانذار لا يجب إلا على الواعظ أو المرشد .

( ومن المعلوم : أنّ ) نقل قول المعصوم عليه السلام بما هو ، ليس بوعظ ولا ارشاد ، فاذا قال زُرارة - مثلاً- قال الصادق عليه السلام : صلاة الجمعة واجبة ، أو العصير العنبي محرم ف- ( تصديق ) السامع هذا ( الحاكي فيما يحكيه : من لفظ الخبر الذي هو محل الكلام ، خارج عن الأمرين ) لأنّه ليس باتعاظ ولا استرشاد .

هذا ، وقد عرفت : انّ الآية انّما تدل على القبول من الواعظ والمرشد لا مطلقاً ، فمن أين انّ الآية المباركة تدل على حجّية الخبر مطلقاً ، مع انه ليس الاستدلال بالآية الكريمة على حجّية الخبر مطلقاً ، إلاّ استدلالاً بالأخص للأعم .

( تَوضِيحُ ذلك ) انّ المنذِر ، ان كان مجتهداً كان كلامه حجّة على مقلديه فقط ، لا على سائر المجتهدين ، ولا على سائر المقلدين .

ص: 361

انّ المنذِر إمّا أن يُنذِرَ ويُخَوّفَ على وجه الافتاء ونقل ماهو مدلول الخبر باجتهاده ، وإمّا أن يُنذِر ويُخَوّف بلفظ الخبر حاكياً له عن الحجّة عليه السلام .

فالأوّل : كأن يقول : ياأيّها الناس! إتقوا اللّه في شرب العصير ، فانّ شربه يوجب المؤاخذة .

------------------

وان كان حاكياً لفظ الخبر مثل : الرّواة ، فاذا أنذر الرّاوي المقلدين ، لم يجب عليهم القبول ، لأنّ المقلد انّما يجب عليه إتباع مجتهده .

واذا أنذر الرّاوي المجتهدين وجب على المجتهد قبول إنّ الامام عليه السلام قال هذه الألفاظ .

أما وجوب تحذره فلا ، إذ تحذر المجتهد منوط بأن يكون إجتهاده فيما أخبره عن الامام عليه السلام دالاً على الوجوب أو الحرمة ، وربمّا لا يكون اجتهاده كذلك .

مثلاً : اذا قال الراوي : انّ الصادق عليه السلام قال : من صرف مريد الحجّ عن الحجّ ، كان له كذا من العقاب ، فالمجتهد يقبل ان الامام عليه السلام ، قال ذلك ، لكنّه ربّما كان إجتهاده : انّ الصرف مكروه ، لاحرام ، وذلك ، بسبب القرائن الداخلية أو الخارجية ، فلايجب على المجتهد ، أن يتحذر عن صرف الناس عن الحجّ اذا رأى الصرف مصلحة .

وبذلك ظهر : انّ آية النفر لاتدل على حجّية الخبر مطلقاً ، ف ( انّ المنذِر امّا أن يُنذِر ويُخَِوّف على وجه الافتاء ، ونقل ماهو مدلول الخبر باجتهاده ) لمقلديه .

( وأمّا انّ يُنذِر ويُخَوّف بلفظ الخبر حاكياً له عن الحجّة عليه السلام ) فهو على قسمين - كما تقدّم - :

( فالأوّل : كأن يقول ) الرّاوي - مثلاً - : ( ياأيّها النّاس إتقوا اللّه في شرب العصير ، فانّ شربه يوجب المؤاخذة ) والعقاب ، فانّ هذا ليس بنقل الخبر ، بل

ص: 362

والثاني : كأن يقول في مقام التخويف : قال الامام عليه السلام : من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر .

أمّا الانذارُ على الوجه الأوّل ، فلايجب الحَذَرُ عقيبَهُ إلاّ على المقلّدين لهذا

المفتي . وأمّا الثاني : فله جهتان : إحداهما جهةُ تخويف وإيعاد ، والثانية جهة لحكاية قول من الامام عليه السلام .

ومن المعلوم : أنّ الجهةَ الأولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلاّ على من هو مقلّد له ،

------------------

مجرد وعظ وإرشاد .

( والثاني : كأن يقول في مقام التخويف قال الامام عليه السلام من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر ) فان هذا حكاية للخبر من وجه ، وإنذار من وجه آخر .

( أمّا الانذار على الوجه الأوّل : ) وهو مااذا كان المفتي أفتى حسب مضمون الأخبار الواجبة والمحرمة ( فلا يجب الحَذَرُ عَقيبَهُ ) أي : عقيب الانذار ( إلاّ على المقلّدين لهذا المفتي ) فانّهم هم الذين يجب عليهم قبول فتواه ، ولا يجب القبول على سائر المجتهدين ، ولا على سائر المقلدين .

( وأمّا الثاني : ) وهو مااذا كان الرّاوي نقل قول الامام عليه السلام ، المشتمل على

الانذار والتخويف ، بأن بيّن الواجبات والمحرمات ( فله جهتان ) بَيَّنَهُما بقوله :-

( إحداهما : جهة تخويف وإيعاد ) وتهويل وإنذار .

( والثانية : جهة لحكاية قول من الامام عليه السلام ) .

هذا ( ومن المعلوم : انّ الجهة الاولى ) أي : جهة التخويف والانذار ( ترجع الى الاجتهاد في معنى الحكاية ) يعني: انّ الرّاوي الحاكي لكلام الامام الصادق إجتهد بأنّ معنى كلامه عليه السلام الحرمة (فهي ليست حجّة إلاّ على من هو مقلّد له) أي : للمنذِر .

ص: 363

إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه .

وأمّا الجهةُ الثانيةُ فهي التي ينفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية ، لكن وظيفته مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الامام عليه السلام ، وأمّا أنّ مدلوله متضمّنٌ لما يوجب التحريم الموجب للخوف أو الكراهة ، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة الى هذا المجتهد .

------------------

فاذا قال علي بن بابويه - مثلاً- وهو يفتي بعين الرّواية - كما كان متداولاً سابقاً- ان الامام الصادق عليه السلام ، قال : من صرف إنساناً عن الحجّ كان له كذا من الوزر ، كان كلامه هذا حُجّة على من يقلده فقط ( إذ ) مقلّد علي بن بابويه ( هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه ) لا على مجتهد آخر ، ولا على مقلد مجتهد آخر - كما عرفت - .

( وأمّا الجهة الثانية : ) في قول علي بن بابويه - مثلاً- وهي : جهة نقل ألفاظ الامام عليه السلام ( فهي الّتي ينفع المجتهد الآخر ، الذي يسمع منه ) أي : من هذا المنذر ( هذه الحكاية ) ويجب عليه : قبول انّ الامام عليه السلام قال هذه الألفاظ .

( لكن وظيفته ) أي : وظيفة المجتهد الآخر ( مجرّد تصديقه ) أي : تصديق الرّاوي ( في صدور هذا الكلام عن الامام عليه السلام و ) ليس وظيفته : الحذر ، والاسترشاد ، والاتعاظ بانذار الرّاوي وإرشاده ، لأنّه قد يكون إجتهاد السامع ، مخالفاً لاجتهاد الرّاوي .

ولهذا قال المصنّف ( أما أن مدلوله ) أي : مدلول كلام الامام عليه السلام ( متضمن لما يوجب : التحريم الموجب للخوف ، أو الكراهة ) التي لاخوف فيها ( فهو ) أي : إنذاره ( ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة الى هذا المجتهد ) فلايجب عليه الاتعاظ والاسترشاد .

ص: 364

فالآيةُ الدالّة على وجوب التخوف عند تخويف المنذرين مختصّةٌ بمن يجب عليهم اتّباع المنذِر في مضمون الحكاية وهو المقلّد له ، للاجماع على أنّه لايجب على المجتهد التخوّفُ عند إنذار غيره . إنّما الكلامُ في أنّه هل يجب عليه تصديقُ غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه السلام أم لا ، والآية لاتدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف .

------------------

وان شئت قلت : اذا أخبر إبن بابويه المفيد - مثلاً- : عن الامام عليه السلام : ففي خبره جهتان : -

جهة الانذار ، ولايجب على المفيد الحذر .

وجهة تصديق الخبر ، وتصديق الخبر ليس بحذر ، فلاتشمله الآية .

إذن : فما تشمله الآية من الحذر ، ليس بواجب على المجتهد السامع ، وماليس بحذر ، لاتشمله الآية ، فمن أين تدلّ الآية على حجّية الخبر ، كما أطلق القائلون بدلالة الآية على حجّية الخبر ؟ ( فالآية الدالة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين ، مختصّة بمن يجب عليهم إتّباع المنذِر ) - بالكسر- ( في مضمون الحكاية ، وهو : المقلد له ) أي : من يقلد المنذر ( للاجماع على انّه لايجب على المجتهد التخوّف عند إنذار غيره ) اذ المجتهد لايقلد الرّاوي في فهم الرّواية ، وان كان يجب عليه : قبول انّ الامام عليه السلام قال هذا الكلام .

( إنّما الكلام في انّه هل يجب عليه ) أي : على المجتهد السامع ( تصديق غيره ) الذي هو الرّاوي ( في الألفاظ والأصوات التي يحكيها ) الرّاوي ( عن المعصوم عليه السلام ، أم لا ؟ والآية لا تدل على وجوب ذلك ) التصديق ( على من ) أي : على المجتهد السامع الذي ( لا يجب عليه التخوّف عند التخويف ) فالآية

ص: 365

فالحقّ : إِنّ الاستدلالَ بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوبِ التقليد على العوامّ أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر .

وذكر شيخنا البهائيّ قدس سره ، في أوّل أربعينه : « أن الاستدلال بالنبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم المشهور : « مَنْ حَفِظَ عَلى أُمّتي أَربَعِينَ حَدِيثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالِماً » ، على حجّية الخبر ، لايَقصُرُ عن الاستدلال

------------------

تدل على الحذر لا على قبول الخبر- .

( فالحقّ : إنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ) لأنّه لايجب على الجميع أن يكونوا مجتهدين - نصاً وإجماعاً- ( ووجوب التقليد ) والحذر ( على العوام ) المقلدين للمجتهدين المفتين ( أولى من الاستدلال بها ) أي : بالآية ( على وجوب العمل بالخبر ) الواحد . ( و ) ممّا يؤيد ماذكرناه : انّه قد ( ذكر شيخنا البهائي قدس سره في أوّل أربعينه : انّ الاستدلال بالنبوي صلى اللّه عليه و آله وسلم المشهور : « مَنْ حَفِظَ عَلى اُمَتّي أَربَعِينَ حَدِيثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالِماً ») (1) .

وإنما جيء بكلمة « على » من جهة : انّ الخبر بسبب تلك الأخبار المحفوظة يغمر الامّة ، مثل : ما اذا صب الماء على انسان حتى غمره ، فانه قد يؤتى فيه بكلمة «على» لهذه الجهة ، ومنه : « سلام عليكم » .

نعم ، اذا كانت كلمة « على » في قبال اللام ، كان معناه الضرر ، مثل : عليه لعنة اللّه ، ولعلّه أيضاً من جهة ان اللعنة تغمر الملعون .

وعليه : فانّ الاستدلال بهذا الخبر ( على حُجّية الخبر ، لا يَقصُر عن الاستدلال

ص: 366


1- - الاربعون حديث : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 بالمعنى ، غوالي اللئالي : ج1 ص95 ، منية المريد ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .

عليها بهذه الآية » .

وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها ، لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدّاً ، كما سيجيء إن شاء اللّه عند ذكر الأخبار .

هذا ، ولكن ظاهر الرّواية المتقدّمة عن علل الفضل يدفع هذا الايراد ،

------------------

عليها ) أي : على حجّية الخبر ( بهذه الآية ) الكريمة : آية النفر .

( وكأَنّ فيه إشارة الى ضعف الاستدلال بها ) . أي بآية النفر لحجية الخبر ( لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جداً - كما سيجيء إنشاء اللّه عند ذكر الأخبار ) فكما انّ النبوي لا دلالة فيه على حجّية الخبر ، كذلك الآية المباركة ، لا دلالة فيها على حجّية الخبر .

( هذا ) تمام الكلام في الايراد الثالث على دلالة آية النفر على حجّية الخبر .

( ولكن ظاهر الرّواية المتقدّمة عن علل الفضل ) حيث قال عليه السلام في فلسفة وجوب الحجّ :- « ولأجل مافِيه مِن التَفقُه وَنَقل أخبار الأئمة إِلى كُلِ صَفح ...» (1) ( يدفع هذا الايراد ) .

اذ الايراد كان بأنّ الآية لاتدل على حجّية الخبر ، بينما ظاهر خبر العلل : انّ الخبر حجّة ، لأنّ الامام عليه السلام بعدما بيّن انّ من غايات وجوب الحجّ : التفقه ، ونقل الأخبار الى كل صفح ، إستشهد بهذه الآية .

فيعلم من إستشهاد الامام عليه السلام بها : انّ المراد من الانذار : أعم من نقل الخبر والوعظ والارشاد ، كما انّ المراد من الحذر ، أعم من مجرد تصديق الخبر ، والاتعاظ والاسترشاد ، لأنّ في نقل : انّ الشيء الفلاني واجب ، أو انّ الشيء

ص: 367


1- - علل الشرائع : ج1 ص317 .

لكنّها من الآحاد ، فلا ينفع في صرف الآية من ظاهرها في مسألة حجّية الآحاد مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ، لأنّ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ من كلّ صُقع ،

------------------

الفلاني حرام ، كفاية من جهة كونه : تحذيراً وإنذاراً ، فلا حاجة في الخبر الى ذكر الجنّة والنار ( لكنّها ) أي رواية الفضل المتقدّمة الدالة على عموم الآية وشمولها لنقل الخبر ، هي ( من ) الأخبار ( الآحاد ، فلاينفع في صرف الآية من ظاهرها ) وهو وجوب الوعظ والارشاد والتحذير ، الى معنى عام شامل لنقل الخبر - ايضاً- حتى يقال : بأن الآية دالة عليه ( في ) مقامنا هذا وهو ( مسألة حجّية الآحاد ) .

فان في الاستدلال بالخبر الواحد - وهو : خبر الفضل على معنى الآية الدالة على حجّية خبر الواحد - دَورٌ صريح ، وذلك لأنّ حجّية الخبر مطلقاً يتوقف على الآية ، وظهور الآية يتوقف على حجّية خبر الفضل ، وهو : خبر واحد ، فيكون معنى ذلك : توقف حجّية الخبر الواحد ، على الخبر الواحد .

هذا ( مع إمكان منع دلالتها ) ، أي رواية العلل ( على المدعى ) وهو : حجّية خبر الواحد ( لأنّ الغالب ، تعدد من يخرج الى الحجّ من كل صُقع ) وناحية من نواحي بلاد الاسلام ، فانّ في السابق كان الحجّ ممكناً لكلّ أحد حيث لا حدود جغرافية بين بلاد الاسلام ، ولا حاجة في السفر الى جواز ، أو هويّة ، أو جنسيّة ، أو خروجيّة أو ضريبة ، أو ماأشبه ذلك من القيود الاستعمارية ، التي جاء بها المستعمرون الى بلاد الاسلام منذ نصف قرن تقريباً (1) .

ص: 368


1- - وقد فصّل الامام الشارح هذا الحديث في كتاب الحج بين الأمس واليوم والغد ، وكتاب لكي يستوعب الحج عشرة ملايين ، وكتاب ليحج خمسون مليونا كل عام .

بحيث يكون الغالبُ حُصولَ القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعيّ ، عن الامام عليه السلام ، وحينئذ ، فيجب الحذر عَقيبَ إِنذارهم ، فاطلاقُ الرّواية مُنزّلٌ على الغالب .

------------------

ولذا ورد : انّ في زمان الامام السجاد عليه السلام وقف بعرفات ، أربعة ملايين ونصف مليون حاج .

ويؤيد ذلك تعدد أسئلة الرواة من الأئمة عليهم السلام ، عما اذا ضاقت المشاعر ولم تسع الحجّاج ؟ فأجابوهم عليهم السلام : بأنّ الحجّاج يقفون خارج هذه المشاعر ، كما لايخفى ذلك على من راجع الوسائل وغيره .

وعليه : فاذا كثر الحاج ( بحيث ) انهم اذا تعلموا من الأئمة عليهم السلام الأحكام والمسائل ، ثم بعد رجوعهم الى بلادهم أخبروا أهالي تلك البلاد ( يكون الغالبُ حُصولَ القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعي عن الامام عليه السلام ) بالنسبة الى أهل تلك البلاد .

( وحينئذٍ ) أي : اذا حصل العلم لأهل البلاد من الأخبار المتعددة ، والشهادات المعتمدة ( فيجب الحذر ) على أهل تلك البلاد ( عقيب إنذارهم ) لا من جهة : انّه خبر واحد ، بل من جهة : حصول العلم ، أو الشهادة بشرائطها المذكورة في كتاب الشهادة .

وعلى هذا : ( فاطلاق الرّواية ) أي : رواية الفضل ( منّزل على الغالب ) فانّه لمّا كان الغالب : حصول العلم ، لم تحتج الرّواية الى التقييد ، وانّما هي منصرفة الى الغالب .

ولايخفى وجه التّأمّل في الاشكال الثالث الذي ذكره المصنّف أيضاً ، اذ تخصيص الآية بالوعظ وتحذير المجتهد لمقلديه ، أو بما إذا علم المنذَر

ص: 369

ومن جملة الآيات التي إستدلّ بها جماعةٌ ، تبعاً للشيخ في العُدَّة على حجّية الخبر ، قوله تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمُونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ مابَيّناهُ لِلنّاسِ فِي الكِتاب اُولئكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ ويَلعَنُهُمُ اللاعِنُونَ » .

والتقريبُ فيه : نظيرُ ما بيّناه في آية النّفر ، من أنّ حُرمَةَ الكِتمانِ يستلزم وجوب القبول عند الاظهار .

------------------

------------------ بالفتح - ، خلاف ظاهر الآية .

( ومن جملة الآيات التي إستدلّ بها جماعة تبعاً للشيخ في العدّة على حجّية الخبر ) الواحد ( قوله تعالى : «إنَّ الّذِينَ يَكتُمُونَ ماأَنّزلنا مِن البَيّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ مابَيّناهُ لِلّناسِ فِي الكِتابِ ، اولِئكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ ويَلعَنُهُم الّلاعِنُون» (1) ) .

والظاهر : ان الفرق بين البيّنة والهدى هو : انّ الاولى في علائم الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وفي سائر اُصول الدين ، من بينات المعجزات والأدلة العقلية .

والثانية : في الأحكام ، ومن بعد البيان ، لأنّه بدون البيان لاتتم الحجّة ، كما قال سبحانه : - «وَمَا كُنّا مُعذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رسُولا» (2) .

والمراد بالكتاب : امّا التوراة ، والآية في قصة اليهود ، أو مطلق الكتب السماوية ، لأنّ أحكام اللّه وأدلة اصول الدين مذكورة فيها .

( والتقريب فيه ) أي في الاستدلال بهذه الآية المباركة على حجّية خبر الواحد ، هو ( نظير مابيّناه في آية النفر ) حيث قلنا : بان وجوب الانذار ، يستلزم وجوب الحذر ، وإلا كان لغواً ، وكذلك نقول هنا ( من انّ حُرمَةَ الكِتمانِ ، يستلزم وجوبَ القبول عند الاظهار ) وإلاّ كان تحريم الكتمان لغواً .

ص: 370


1- - سورة البقرة : الآية 159 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ويرد عليها : ماذكرنا من الايرادين الأوّلين في آية النفر ، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلمُ عَقيبَ الاظهار أو إختصاص وجوب القبول

------------------

وذلك لأنّ الآية المباركة تدل على حرمة كتمان البينات والهدى ، بعد المعرفة بهما ، ومن الواضح : انّ من جملة البينات والهدى : الأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السلام على الموضوعات وعلى الأحكام ، فيحرم على الرّاوي كتمانها بعد سماعها عنهم عليهم السلام ، وإِذا حرم الكتمان ، وجب الاظهار ، لأنّه لا واسطة بين الأمرين ، وقد قرر : انّ ترك الحرام واجب ، وانّ ترك الواجب حرام ، فاذا وجب إظهارها وجب قبولها ، لئلا يكون الاظهار لغواً .

( ويرد عليها ) أي : على دلالة الآية على حجّية خبر الواحد ( : ماذكرنا من الايرادين الأوّلين في آية النفر : من سكوتها ) أي : الآية ( وعدم التعرض فيها لوجوب القبول ، وإن لم يحصل العلمُ عَقيبَ الاظهار ) .

فالآية أولاً : مقيّدة بكون السّامع يعلم بالحق .

وثانياً : مقيّدة بكون العمل بما كان الحكم أو الموضوع واقعياً .

إذن : فلا اطلاق في الآية المباركة ، وإنّما المستفاد من الآية هو : وجوب الاظهار للرّاوي ، ووجوب القبول للسامع ، وليس أكثر .

أمّا انّ وجوب القبول مطلق ، أو مقيد بحصول العلم ، فالآية ساكتة عنه ، اذ الآية تدل على وجوب قبول الحق عند اظهاره ، أمّا أن السّامع يسمع من كل مظهر ولو لم يحصل له من كلام المظهر العلم ، فلا دلالة للآية بالنسبة الى ذلك ، هذا بالنسبة الى الايراد الأول .

وأشار المصنّف الى الايراد الثاني بقوله : ( أو : إختصاص وجوب القبول

ص: 371

المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره ، فانّ مَنْ أَمرَ غَيرَهُ باظهار الحقّ للناس ليس مقصودُه إلاّ عملَ الناس بالحقّ ، ولايريد بمثل هذا الخطاب تأسيسَ حجّية قول المظهر تعبدّاً ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحقّ .

ويشهد لما ذكرنا :

------------------

المستفاد منها ) أي من الآية ( بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره ) فانّ السّامع اذا علم انّ قول المتكلم ، هو فيما يجب عليه القبول ، وجب ان يقبل منه ، لا انّه يقبل منه وان لم يعلم بأنّه كذلك .

وقد تقدّم ، الفرق بين الجوابين في الآية السابقة : -

فانّ الآية على الدلالة الاولى : ساكتة عن اعتبار العلم .

وعلى الدلالة الثانية : ناطقة بهذا الاعتبار .

فليس كلمة : « أو » في كلام المصنّف للترديد ، وإنما للتقسيم ، مثل قولهم الكلمة : إسم أو فعل أو حرف .

وعليه : ( فانّ مَن أَمرَ غَيرهُ باظهار الحق للنّاس ، ليس مقصوده : إلاّ عمل النّاس بالحقّ ، ولايريد بمثل هذا الخطاب ) والأمر ( تأسيس ) الحكم الظاهري أعني : ( حجّية قول المظهر تعبداً ، ووجوب العمل بقوله وإِن لم يطابق ) قوله ( الحق ) .

وان شئت قلت : انّ الآية تدل على وجوب اظهار الحق ، أما وجوب القبول ، فالآية ليست بصدده ، وانّما يجب القبول إذا علم الانسان بانه حق وواقع ، فلا تدل الآية على قبول خبر الواحد اذا لم يعلم الانسان بانه حق مطابق للواقع .

( ويشهد لما ذكرنا ) من انّ المراد : وجوب قبول الحق والواقع لا قبول قول

ص: 372

أنّ موردَ الآية كتمانُ اليهود لعلامات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعدما بيّن اللّه لهم ذلك في التوراة ، ومعلومٌ أنّ آيات النبّوة لايكتفى فيها بالظّن .

------------------

القائل وان لم يعلم الانسان بانّه كذلك ، هو ( انّ مورد الآية : كتمان اليهود لعلامات النبي ) محمد ( صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعدما بيّن اللّه لهم ) أي : لليهود ( ذلك في التوراة ، ومعلوم : انّ آيات النبوة لايكتفى فيها بالظّن ) .

بضميمة : انّه اذا لم يكن خبر الواحد حجّة في مورد الآية ، فكيف يستفاد من الآية حجّية الخبر الواحد في سائر الموارد ، لأنّه - كما تقدّم - من تخصيص المورد وهو مستهجن ؟ .

لكن ربّما يقال : بأنّ كون مورد الآية : كتمان اليهود ، لايفهم من نفس القران ، لأنّ الآية ليست في سياق آيات اليهود ، فانّ الآيات هكذا :

«إِنَّ الصَّفا وَالمَروَةَ مِن شَعائِرِ اللّه ِ ، فَمَن حَجَّ البَيتَ أَو اعتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيراً فإِنَّ اللّه َ شاكِرٌ عَلِيمٌ» (1) .

«إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مابَيَّناهُ لِلنّاسِ فِي الكتاب اُولئِكَ يَلعَنَهُمُ اللّه ُ وَيَلعَنَهُمُ الّلاعِنُون» (2) .

«إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأَصلَحُوا وَبيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيهِم وأَنا التَّوّابُ الرَّحيِمُ» (3) .

«إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُم كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيهِم لَعنَةُ اللّه ِ والمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعيِنَ» (4) .

إذن : فلعل المراد بالكتاب : كتاب اليهود ، أو مطلق الكتب السماوية ، أو القران

ص: 373


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - سورة البقرة : الآية 159 .
3- - سورة البقرة : الآية 160 .
4- - سورة البقرة : الآية 161 .

نعم ، لو وجب الاظهارُ على من لايفيد قوله العلم غالباً أمكن جعلُ ذلك دليلاً على أنّ المقصودَ العملُ بقوله وإن لم يفد العلمَ ، لئلا يكون إلقاء هذا الكلام كالّلغو .

------------------

الحكيم .

( نعم ، لو وجب الاظهار على من لايفيد قوله العلم غالباً ، أمكن جعل ذلك دليلاً على أنّ المقصود : العمل بقوله وإن لم يفد العلم ) وهذا الكلام تمهيد لجواب إشكال - ربّما يورد على قولنا المتقدّم وهو :

أنّه لو كان الغرض من وجوب الاظهار وحرمة الكتمان ، حصول العلم ، ووجوب قبول الحق على السامع ، فيما عرف أنّه حق ، لا وجوب قبول قول المظهر تعبداً ، فكيف إِستدل الفقهاء بحرمة كتمان مافي الارحام ، على وجوب قبول قولهنّ تعبداً ؟ فان الآية المباركة تقول في حق النساء :-

«وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ فِي أَرحامِهِنَّ . . .» (1) .

فاذا قالت المرأة : بانّ في رحمها جنين قبل قولها لانهن مصدقات ، فآية الكتمان فيما نحن فيه مثل آية الكتمان في حق النساء فكما يقبل قولهن ولو لم يعلم السامع صدقهن ، كذلك في المقام يجب قبول خبر الواحد ولو لم يعلم السامع صدقه .

والجواب : انّه فرق بين المقامين ، لأنّ النساء غالباً لايفيد قولهنّ العلم ، فاذا وجب عليهن الاظهار وجب علينا القبول ( لئلاّ يكون القاء هذا الكلام كاللغو ) .

فانّه لو كان المقصود من وجوب إظهارهن هو : حصول العلم وقبول الحق

ص: 374


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

ومن هنا يمكنُ الاستدلالُ بما تقدّم - من آية تحريم كتمان مافي الأرحام على النساء - على وجوب تصديقهنّ ، وبآية وجوب إقامة الشهادة على وجوب قبولها بعد الاقامة ، مع إمكان كون وجوب الاظهار لأجل رجاء وضوح الحقّ من تعدّد

------------------

الواقعي ، كان الأمر بالاظهار لغواً ، لندرة حصول العلم من قولهن ، أو تساوي حصول العلم وعدم حصول العلم ، ففي آية كتمان النساء تلازم بين عدم الكتمان والقبول ، وليس المقام من هذا القبيل .

( ومن هنا ) الذي ذكرناه : بأنه لو وجب الاظهار فيمن لايفيد قوله العلم غالباً ، لزم القبول تعبداً ( يمكن الاستدلال بما تقدّم ، من آية تحريم كتمان مافي الأرحام على النّساء : على وجوب تصديقهنّ ) تعبداً .

( و ) كذلك يمكن الاستدلال ( بآية وجوب إقامة الشهادة ) حيث قال سبحانه : - «واستَشهِدُوا شَهيدينِ مِن رجالِكُم ، فَإِن لَم يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجلٌ وَامرَأَتانِ مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ . .» (1) .

( على وجوب قبولها ) أي : قبول الشهادة ( بعد الاقامة ) لها تعبداً فانّه لو وجبت الشهادة فيما إذا كان الشاهد جامعاً للشرائط يجب القبول ، وإلاّ بأَن توقف القبول على العلم ، لزم اللغوية في كثير من الشهادات ، حيث لايعلم القاضي بصدقها ، أو عدم صدقها .

فان قلت : فاذا وجب الاظهار ولم يجب القبول ، فما فائدة الاظهار ؟ .

قلت : ( مع إمكان كون وجوب الاظهار ، لأجل رجاء وضوح الحق من تعدّد

ص: 375


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

المُظهِرين .

ومن جملة الآيات التي إستدّل بها بعضُ المعاصرين قوله تعالى : «فاسأَلوُا أَهلَ الذّكرِ إِن كُنتُم لاتَعلَموُن» .

بناءا على أنّ وجوبَ السؤال ، يستلزمُ وجوب قبول

------------------

المُظهِرين )فايجاب الاظهار ، ليس من جهة : حجّية قول المظهر على السامع حتى اذا قال المظهر وجب القبول على السامع ، بل من جهة : انه اذا وجب الاظهار يكثر المظهرون ، فيحصل العلم العادي بالنسبة الى السامعين ، ففائدة الاظهار ليست في قبول المظهر مطلقاً .

لكنّك عرفت في آية النفر : الجواب عن هذه الاحتمالات ، وإن ماذكره المشهور : من التلازم بين وجوب الاظهار وحجّية الخبر على السامع ، هو المتفاهم عرفاً من الآية المباركة ، وإلاّ أمكن أن يقال ذلك في آية الشهادة بسبب كثرة الشهود ، وفي آية كتمان المرأة بسبب القرائن الداخلية والخارجيّة على صدقها أو عدم صدقها .

( ومن جملة الآيات التي إستدل بها بعض المعاصرين ) - وهو الشيخ محمد حسين الاصفهاني صاحب الفصول - على حجّية خبر الواحد ( قوله تعالى ) :

( «فَاسئَلُوا أَهلَ الذِّكِر» ) فانّ الرّاوي أيضاً من أهل الذكر ، والمراد بالذكر العلم الموجب لتذكر الانسان ، من اصول الدين أو فروعه ( «إن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» ) (1) . لأنّهم إذا علموا لم يحتاجوا الى السؤال .

وانّما يستدل بهذه الآية ( بناءاً على انّ وجوب السؤال ، يستلزم وجوب قبول

ص: 376


1- - سورة النمل : الآية 43 .

الجواب وإلاّ لغى وجوبُ السؤال ، وإذا وجب قبولُ الجواب وجب قبول كلّ مايصحّ أن يسأل عنه ويقع جواباً له ، لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لادخل فيه قطعاً . فاذا سُئل الرّاوي الذي هو من أهل العلم عمّا سمعه عن الامام عليه السلام ، في خصوص الواقعة ، فأجاب بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبولُ ، بحكم الآية .

------------------

الجواب وإلاّ لغى وجوب السؤال ) ومن المعلوم انّ الحكيم لايأتي بشيء لغو ( وإذا وجب قبول الجواب ، وجب قبول كلّ مايصح أن يسأل عنه ، و ) يصح ان ( يقع جواباً له ) لأنّه لاخصوصية في الخبر المسبوق بالسؤال .

وقد أشار المصنّف في كلامه هذا الى جواب اشكال وهو : انّ الآية لا تدلّ على حجّية الخبر الذي أخبر به الناقل بدون السؤال عنه ، وانّما يدلّ على حجّية الخبر الذي وقع جواباً عن سؤال الناقل فقط .

والجواب : انّ المناط واحد في الخبر ، سواء كان مسبوقاً بالسؤال ، أو لم يكن مسبوقاً بالسؤال ، للقطع : بأنّه لاخصوصية للسبق بالسؤال ، بل يشمل حتى الأمور التي من شأنها أن تقع جواباً عن السؤال .

ومن الواضح : انّ الأخبار التي وصلت الينا منهم عليهم السلام بهذه المثابة ( لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعاً ) لأنّه لا جهة للخصوصية .

( فاذا سئل الرّاوي الّذي هو من أهل العلم ) ويطلق عليه : انّه من أهل الذكر ، كزُرارَة ، أَو محمد بن مسلم ، أو الفضيل ، أو غيرهم ( عمّا سمعه عن الامام عليه السلام في خصوص الواقعة ) الخاصة من : عبادة ، أو معاملة ، أو غيرهما ( فأجاب : بأني سمعته ) أي الامام عليه السلام ( يقول : كذا وجب القبول بحكم الآية ) على ماعرفت : من التلازم بين السؤال والقبول .

ص: 377

فيجب قبول قوله إِبتداءً : «إنّي سَمعتُ الامام عليه السلام يقول كذا» ، لأنّ حجّية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ، كما لايخفى .

ويَردُ عليه ، أوّلاً : أنّ الاستدلالَ إن كان بظاهر الآية ، فظاهرُها بمقتضى السياق إرادةُ علماء أهل الكتاب ،

------------------

وعليه : ( فيجب قبول قوله ) أي : قول الرّاوي ايضاً ( إبتداءاً ) أي : من دون سبق السؤال ، فيما إذا قال الرّاوي إبتداءاً : ( إنّي سمعت الامام يقول : كذا ) لأنّ المناط في الأمرين واحد ، وذلك ( لأنّ حجّية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ) .

فانّا نعلم علماً وجدانياً : بأنّ حجّية الخبر ليست بسبب وجوب السؤال ، أو بفعلية السؤال في الخارج ، بل الأمر بالعكس ، فانّه لمّا كان الخبر حجّة ، أوجب الشارع السؤال عنه ، فيجب قبوله مطلقاً ، سواء كان مسبوقاً بالسؤال أو لم يكن مسبوقاً بالسؤال ( كما لايخفى ) ذلك على من تدبّر الأمر .

( ويرد عليه ، أولاً : انّ الاستدلال إن كان بظاهر الآية ، فظاهرها ) لايدل على المطلوب ، وذلك ( بمقتضى السياق ) للآية المباركة صدراً وذيلاً ، فان ظاهر الآية في المقام ، هو : ( إرادة علماء أهل الكتاب ) .

فالذين خوطبوا بهذه الآية المباركة ، هم الّذين استشكلوا على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه كيف يدعي الرسالة ونزول الوحي عليه من اللّه تعالى ، وهو ليس بملك ، وانّما هو انسان مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ .

فأجيبوا : بأنّ عليهم أن يسألوا العلماء من أهل الكتاب ، سواء كانوا علماء

ص: 378

كما عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحَسَن ، وقتادة . فانّ المذكور في سورة النَحل : «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجَالاً نُوحِيَ إِليهم فَاسألوا أهلَ الذِكر إنْ كُنتُم لاتَعلَمُون بالبيّناتِ والزُّبُر» ،

------------------

اليهود أو النصارى ، بل وحتى المجوس ، عن أنبيائهم بأنهم هل كانوا رجالاً أو كانوا ملائكة ؟ .

( كما عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ) من المفسرين الأوائل ( فانّ المذكور في سورة النَحِل ) مايدلّ على انّ المراد : هم علماء أهل الكتاب حيث قال سبحانه :

( «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ» ) أيها النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( «إلاّ رِجَالاً» ) كموسى ، وعيسى ، ونوح ، وابراهيم ، وغيرهم ( «نُوحِيَ إليهم» ) بالكتب السماوية : كصحف ابراهيم ، وتوراة موسى ، وانجيل عيسى .

( «فاسئلوا» ) أيها المستشكلون على الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه كيف يكون نبياً وهو مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ ( «أَهلَ الّذِكرِ» ) أي : علماؤكم

الّذين هم أهل الكتب المذكّرة للنّاس باللّه ، والرسول ، والشرائع ( «إن كُنتُم لاتَعلَمُون ، بالبَيّنات» ) أي : بالحجج الواضحة ( «والزُّبُر» ) (1) . وهي الكتب السماوية .

يعني : انّكم اذا كنتم جاهلين بكتبكم ، وكذلك جاهلين بالأدلة الواضحة على نبوة نبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاللازم عليكم مراجعة علمائكم ، كما هو عليه عرف العقلاء من مراجعة الجهال الى علمائهم .

ص: 379


1- - سورة النحل : الآية 43 .

وفي سورة الأنبياء : «وَما أرسَلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إليهم فاسأَلُوا أهلَ الذِكرِ إنْ كُنتُم لاتَعلَمون » .

وإن كان مع قطع النظر عن سياقها

------------------

( وفي سورة الأنبياء : «وَما أَرسلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِيَ إليهم فاسئَلُوا أَهلَ الذّكِرِ إن كُنتُم لاتَعلَمُون» ) (1) . فسياق الآيتين المباركتين يدلّ على ماذكرنا : من انّ المراد من أهل الذكر : هم أهل الكتاب .

( وان كان ) الاستدلال بالآية الكريمة على حجّية خبر الواحد ( مع قطع النظر عن سياقها ) أي : بملاحظة نفس قوله تعالى : «فاسئلوا أهل الذكر» فانّه قد يتعارض السياق مع الظهور ، فالظهور في نفسه يدلّ على شيء ، والسياق يدلّ على شيء آخر ، مثلاً : قال الامام الحسين عليه السلام ، في خطبته : « الحمد للّه ، وماشاء اللّه » فالحمد إنشاء ، وماشاء اللّه ، هل هو إخبار - كما هو ظاهره - أو إنشاء كما يقتضي سياق الحمد ذلك ؟ .

وكذا إذا قال أحد - مثلاً - سافرت البارحة ، وبعت داري ، فان ظاهر « بعت » : الانشاء ، وظاهر « سافرت » : الاخبار ، فهل يقدّم ظاهر بعت ليكون إنشاء بيع أو ظاهر السياق ليكون إخباراً عن بيع ؟ فان قدّم أحد الظهورين بأن كان أظهر فهو ، وإلاّ تساقط الظاهران وصار الكلام مجملاً .

وهكذا حال كل سياق وظاهر متخالفان ، كما في مثل الانشاء والاخبار ، إذا عطف أحدهما على الآخر .

وعلى أي حال : فان أراد المستدِّل بالآية نفس هذا الكلام من دون النظر الى

ص: 380


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .

ففيه : أوّلاً : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة إنّ أهل الذكر هُم الأئمة عليهم السلام ، وقد عقد في اصول الكافي باباً لذلك ، وقد أرسله في المجمع عن عليّ عليه السلام .

------------------

السياق ( ففيه : أوّلاً : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة : إنّ أهل الذّكر هم الأئمة عليهم السلام) من أهل البيت (1) .

( وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك ) الخبر المستفيض (2) ( وقد أرسله ) أي : هذا الخبر الطبرسي رحمه اللّه ( في المجمع ) وهو : تفسيره المشهور بمجمع البيان (3) ( عن علي عليه السلام ) خبراً بهذا المعنى .

فمن تلك الرّوايات مارواه محمد بن مسلم ، عن الباقر عليه السلام ، قال : « انَّ مَن عِندنا يَزعمُون : إنّ قول اللّه عزوجل : «فاسئلُوا أهلَ الذِكرِ إنّ كُنتُم لاتَعلَمُون» (4) إنهم اليَهُودَ وَالنَصارى ؟ .

قال : إذَنْ يَدعُونَكم إلى دِينِهِم ، قال : ثُم مال بيدِهِ اِلى صَدرِه وَقالَ : نَحنُ أَهلُ الذِكرِ ، ونَحنُ المسؤولُون » (5) .

وروى الوشاء عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : سمعته يقول : « قال علي بن الحسين عليه السلام : عَلى الأَئمةِ مِن الفَرضِ مالَيسَ عَلى شِيعَتِهِم ، وَعَلى شِيعتِنا

ص: 381


1- - راجع شواهد التنزيل للحاكم : ج1 ص334 ح459 ، ينابيع المودة : ص51 و ص140 ، روح المعاني : ج14 ص134 ، تفسير الطبري : ج14 ص809 ، عبقات الانوار : ج1 ص285 ، صحيح مسلم : ج2 ص368 ، صحيح الترمذي : ج5 ص30 ، مسند أحمد بن حنبل : ج1 ص330 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج1 ص185 ، المناقب للخوارزمي : ص23 و ص224 .
2- - للمزيد راجع الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 .
3- - انظر مجمع البيان : ج7 وج8 .
4- - سورة النحل : الآية 43 .
5- - الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص63 ب7 ح33205 .

...

------------------

مالَيسَ عَلينا ، أَمَرَهُم اللّه ُ عَزّ وَجَلّ أن يَسألُون قال : «فاسئلُوا أهلَ الذّكِرِ اِن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» (1) فَأَمَرهُمُ أَن يَسأَلُونا ، وَلَيسَ عَلينا الجَواب ، إِن شِئنا أَجَبنا وَإن شِئنا

أَمسَكنا » (2) .

وفي رواية أبي بكر الحضرمي ، قال : « كنت عند أبي جعفر عليه السلام ودخل عليه الورد أخو الكميت ، فقال : جعلني اللّه فِداك إخترتُ لَكَ سَبعيِنَ مَسألةً ، مايحضرنِي مِنها مَسألةً واحِدةً .

فَقالَ : وَلا واحِدَة ياوَرد ؟ .

قال : بَلى قَد حَضَرني مِنها واحِدَة .

قالَ : وَما هِيَ ؟ .

قَال : قُوُلُ اللّه ِ تعالى : «فاسئَلُوا أَهلَ الذّكر إِنْ كُنْتُم لاتَعلَمُونَ»(3) مَنْ هُم ؟ .

قالَ : نَحنُ . قُلتُ : عَلَينا أَن نَسألكم ؟ .

قالَ : نَعم .

قُلتُ : عَليكُم أَن تُجيبونا ؟ .

قالَ : ذاكَ إلينا (4) .

الى غيرها من الرّوايات الواردة بهذا الشأن .

لكن لايخفى : انّ الامام عليه السلام قد أجاب عن بعض مصاديق الآية المباركة ، وانّ ذلك المصداق هم أنفسهم عليهم السلام لاعن ظاهرها الأوّلي ، لوضوح : انّ كون

ص: 382


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص212 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ب7 ص65 ح33211 .
3- - سورة النحل : الآية 43 .
4- - وسائل الشيعة : ج27 ص64 ب7 ح33210 .

وَرَدَّ بعضُ مشايخنا هذه الأخبار لضعف السّند ، بناءا على إشتراك بعض الرّواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي .

وفيه نظر ؛ لأن روايتين منها

------------------

الأنبياء عليهم السلام كانوا رجالاً لا ملائكة ، هو شيء يجيب عليه أهل الكتاب بالايجاب ، فيندفع إشكال خصوم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم القائلين - كما حكى عنهم القرآن :

«مَالِ هَذَا الرَسُولِ يَأكلُ الَّطعامَ وَيَمشِي فِي الأسواقِ» (1) .

وليس ظاهر الآية السؤال من أهل الكتاب عن كل شيء ، حتى يدعوهم الى اليهودية والنصرانية ، فانّ الآية عامة تشمل ذلك ، كما تشمل كل أهل ذكر ، والأئمة عليهم السلام من أظهر المصاديق ، كما انّ مارود في القرآن الحكيم من قوله تعالى : «ياأيُها الّذينَ آمنوا» (2) في الأوامر المرغوبة يكون الأئمة عليهم السلام من أظهر مصاديقها - كما ورد في النص ، والى غير ذلك .

( وردّ بعض مشايخنا هذه الأخبار ، لضعف السّند ، بناءاً على إشتراك بعض الرّواة في بعضها ) أي : في بعض تلك الاخبار بين القوي والضعيف ( وضعف بعضها ) أي : في بعض الرواة ( في الباقي ) أي : باقي الأخبار ، فرواة تلك الاخبار : امّا مشترك بين الضعيف والقوي ، وامّا ضعيف محض ولايمكن العمل بمثل هذه الاخبار غير الحجّة سنداً .

( وفيه ) أي : في هذا الرّد الذي ذكره بعض مشايخنا ( نظر ، لأنّ روايتين منها )

ص: 383


1- - سورة الفرقان : الآية 7 .
2- - سورة آل عمران : الآية 102 ، سورة النساء : الآية 19 .

صحيحتان ، وهما روايتا محمّد بن مسلم والوشّاء ، فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ حَسَنَة أو مُوثَّقَة ، نعم ثلاثُ روايات اُخَر منها لايخلو من ضعف ، ولايقدح قطعا .

وثانياً : انّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم ، وجوبُ تحصيل العلم ، لا وجوبُ السؤال للعمل بالجواب تعبّداً ، كما يقال في العرف : سَلّ إن كنتَ جاهِلاً . ويؤيّده أنّ الآية واردة في اصول الدين

------------------

أي : من تلك الأخبار ( صحيحتان ، وهما روايتا محمد بن مسلم (1) والوشاء (2) فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ (3) حَسَنة أو مُوثَقَة ، نعم ثلاث روايات اخر منها ) سندها ( لايخلو من ضعف ، و ) لكن ( لايقدح ) ضعف بعض الأخبار في حجّية غير الضعيف منها ( قطعاً ) كما هو واضح .

( وثانياً : انّ الظاهر ) أي : المتبادر ( من وجوب السؤال عند عدم العلم ) حيث قال سبحانه : «فاسئَلُوا أَهلَ الذِكرِ إن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» (4) ( وجوب تحصيل العلم ، لاوجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّداً ) فهو ( كما يقال في العرف : سلّ إن كُنتَ جاهِلاً ) فانّ معناه : إذا جهلت شيئاً فاسئل عنه العلماء حتى تعلم به ، فاللازم : أن يحصل العلم بسؤال أهل الذّكر ، أما خبر الواحد ، فكثير ما لا يوجب العلم ، فلا تدلّ الآية على حجّية مثل هذا الخبر .

( ويؤيّده ) أي : الظاهر الذي ذكرناه ( : انّ الآية واردة في اصول الدين ،

ص: 384


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص63 ب7 ح33205 .
2- - انظر الكافي اصول : ج1 ص212 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص65 ب7 ح33211 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص64 ب7 ح33210 .
4- - سورة النحل : الآية 43 .

وعلامات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، التي لايوخَذُ فيها بالتعبّد إجماعاً .

وثالثاً : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لا لحصول العلم منه ، قلنا : إنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه السلام ، وإلاّ

------------------

وعلامات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، التي ) تحتاج الى العلم ، لما حقّق في محله : من انّ اصول الدين لايكتفى فيها بخبر الواحد ، وان كان الخبر صحيحاً و ( لايُؤخذ فيها ) أي : في اصول الدين ( بالتعبّد إجماعاً ) .

ومن المعلوم : انّ تخصيص المورد مستهجن ، بأن يقال : انّ اصول الدين وهي مورد الآية خارجة عنها .

لكن لا يخفى : عدم ورود هذا الاشكال ، لأنّ جواب أهل الذكر ، علم عرفي ، فاذا قيل : إذا لم تعرف الطريق ، فاسأل السُوّاق ، فلايراد الاّ أن يكون له حجّة على الطريق لا العلم الوجداني .

وكذلك اذا قال : ان كنت لاتعلم دواء مرض ولدك ، فاسأل الأطباء ، الى غير ذلك .

والآية مطلقة ، وفي مورد اُصول الدين بحاجة الى العلم بدليل خارج ، وذلك لايوجب تقييد الآية المباركة ، فهذا الايراد الثاني غير ظاهر الوجه .

( وثالثاً : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لالحصول العلم منه ) أي : من السؤال ( قلنا : انّ المراد من أهل العلم : ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه السلام ) فانّ سامع رواية أو روايتين أو مااشبه لايسمى من أهل الذكر .

( والاّ ) بأن كان المراد من أهل الذّكر : مطلق من علم شيئاً ولو رواية - مثلاً -

ص: 385

لدلّ على حجّية قول كلّ عالم بشيء ولو من طريق السمع والبصر ، مع أنه يصحّ سلبُ هذا العنوان من مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه أو بصره .

والمتبادرُ من وجوب سؤال أهل العلم بناءا على إرادة التعبّد بجوابهم هو سؤالهم عمّا هم عالمون به ويعدّون من أهل العلم في مثله . فينحصر مدلول الآية في التقليد ، ولذا

------------------

( لدلّ ) قوله تعالى في الآية المباركة ( على حجّية قول كلّ عالم بشيء ، ولو من طريق السّمع والبصر ) من دون أن يكون من المجتهدين ، الّذين يفهمون الأحاديث ، ويطبقون الكبريات الكليّة على الصغريات الجزئية ، وبذلك يلزم حجّية قول كل إنسان يعلم مسألة واحدة حتى على المجتهد .

( مع انّه يصحّ سلب هذا العنوان ) أي : عنوان أهل الذكر ( من مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه أو بصره ) أو سائر حواسه الخمس .

( و ) ذلك لأنّ ( المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم - بناءا على إرادة التعبّد بجوابهم - ) لا العمل بأخبارهم عند حصول العلم من كلامهم ( هو : سؤالهم عمّا هم عالمون به ، ويعدّون من أهل العلم في مثله ) مثل سؤال المقلِد عن فتوى مرجعه ، فانّ المرجع يُعدّ عرفاً : من أهل الذكر في مثل الفتوى .

أمّا مثل سؤال المجتهد عن الفاظ الامام عليه السلام التي سمعها زُرارَة ، أو محمد بن مسلم ، فلايسمّى زُرارَة - بالنسبة الى المجتهد الجامع - من أهل الذكر ، خصوصاً إذا كان الرّاوي لايفهم معاني كلام الامام عليه السلام ، وانّما حفظ الفاظه ، كالأعجمي الذي يحفظ زيارة الجامعة ، أو ما أشبه ، فهل يُعدّ مثله : من أهل الذكر ؟ .

وعلى هذا : ( فينحصر مدلول الآية في التقليد ) فانّ المقلِد هو الذي يسأل مجتهده عمّا يعلمه المجتهد ، فيكون المجتهد من أهل الذكر ( ولذا ) أي : لظهور

ص: 386

تمسّك به جماعةٌ على وجوب التقليد على العاميّ .

وبما ذكرنا يندفع ، مايتوهّمُ من «أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم . فاذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية مَن ليس من أهل العلم بالاجماع المركّب» .

------------------

الآية في سؤال المقلِد عن المجتهد ( تمسَّك به جماعة على وجوب التقليد على العاميّ ) .

لكن لا يخفى ، ضعف هذا الاشكال ، اذ المراد من الآية : سؤال أهل الذكر فيما هم فيه من أهل الذكر ، فيشمل ذلك حتى الرّواية الواحدة ولو من باب المناط ، ألا ترى : انّ المجتهد إذا لم يعلم حكم من أحرم من غير الميقات ، وعلم انّ راوياً ثقة ضابطاً ، عنده رواية واحدة عن الامام الصادق عليه السلام حول هذه المسألة ، يرى العرف : انه يلزم عليه السؤال عن هذا الرّاوي ، بمقتضى الآية المباركة ولو لم يكن الرّاوي من أهل الاستنباط ، بل ولو كان أعجمياً لا يفهم معاني الفاظ الامام عليه السلام .

وعلى أي حال : فقد قال المصنّف : ( وبما ذكرنا ) : من إنصراف أهل الذكر الى العلماء ، لامن حفظ رواية واحدة - مثلاً- ( يندفع مايتوهم : من أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم ) والاستنباط ، كالرواة الذين كانوا يعرفون الأحكام الشرعية من كلمات الائمة عليهم السلام ، كزُرارَة ومحمد بن مسلم والفضيل ، ومن أشبههم .

( فاذا وجب قبول روايته ) لأنه من أهل الذكر ، فهو من صغريات الآية المباركة ، كذلك ( وجب قبول رواية مَنْ ليس من أهل العلم ) من الرواة الذين رووا عن الائمة عليهم السلام ولو رواية واحدة ، أو ماأشبه ذلك .

وانّما نقول : بوجوب قبول قول مثل هذا الرّاوي ( بالاجماع المركّب ) اذ لم يفرق أحد بين الرّاوي العالم وغيره ، ولابين الرّاوي الذي أَخذ رواية واحدة عن

ص: 387

حاصلُ وجه الاندفاع : أنّ سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه السلام ، والتعبّدَ بقوله فيها ليس سؤالاً من أهل العلم من حيث انهم عالمون ، الا ترى انّه لو قال : سَل الفقهاء اذا لم تعلم ، أَو الأطبّاء ،

------------------

الامام عليه السلام ، أو أخذ روايات متعددة .

فانّ خبر الواحد ، إذا كان حجّة فهو حجّة في الجميع ، وإذا لم يكن حجّة فليس بحجّة في الجميع ، فليس هناك قول بالتفصيل ، وحيث كان خبر الواحد حجّة إذا كان صادراً من العالم ، كذلك هو حجّة إذا كان صادراً ممّن لا يعلم الاّ خبراً واحداً .

( حاصل وجه الاندفاع : أن ) هناك فرقاً بين سؤال المقلِد عن المجتهد الّذي هو من أهل الذكر وبين ( سؤال ) المجتهد من ( أهل العلم ) الذي حفظ رواية واحدة - مثلاً- بان يسأله المجتهد ( عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه السلام والتعبّد بقوله ) أي : بقول ذلك الرّاوي ( فيها ) أي في تلك الألفاظ .

فانّ سؤال المجتهد عن الرّاوي ، الذي حفظ رواية من الامام عليه السلام ( ليس سؤالاً من أهل العلم من حيث انّهم عالمون ) .

ومن المعلوم : انّ الآية تدل على وجوب السؤال من أهل العلم بما إنهم عالمون ، لا لأنّهم حفظوا رواية عن الامام ، وذلك لأنّ أهل الذكر لايطلق إلاّ على العالم بما انه عالم .

( الا ترى انّه لو قال : سَل الفقهاء إذا لم تعلم ، أو الأطباء ) إن كنت مريضاً ، أو المهندسين إذا كنت تريد بناء الدار ، تبادر الى الذهن ، انّ اللازم : سؤال الفقهاء من حيث هم فقهاء ، والأطباء من حيث هم أطباء ، والمهندسين من حيث هم مهندسين .

ص: 388

لايحتمل أن يكون قد أراد مايشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة من قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك .

ومن جملة الآيات ، قوله تعالى في

------------------

و ( لايحتمل أن يكون قد أراد مايشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة ) التي يحفظها الناس من الذين هم ليسوا بفقهاء ، ولا أطباء ، ولا مهندسين ( من ) مثل ( قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك ) ممّا يدرك بأحد الحواس الخمس .

وهكذا قوله تعالى : «فاسئلوا أهل الذكر» (1) فانه بمعنى : إسألوهم عمّا يعلمونه ويعدون من أهل العلم فيه ، فاللازم : سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر ، والرّاوي الذي حفظ رواية واحدة ، أو ما أشبه ، لايسمّى أهل الذكر .

ولايخفى : انّ هذا الجواب أيضاً محل تأمل ، اذ أيّ مانع من عقل ، أو شرع ، أو عرف ، أن يسأل الانسان عن طريق النجف ممّن يعرف هذا الطريق فقط ، وإن لم يكن من أهل العلم بالطرق .

وكذلك بالنسبة إلى السؤال الفقهي ، والطبي ، والهندسي ، وغير ذلك ، فانّ من يعرفها ، عالم بالنسبة الى من لايعرفها .

ولهذا لم يفرّق الفقهاء ، بين السؤال من الرّاوي الّذي حفظ رواية واحدة عن الامام عليه السلام ، أو حفظ جملة من روايات واستنبطها أيضاً ، فكل جاهل في مورد جهله ولو كان من العلماء الكبار ، يلزم عليه : أن يسأل من كل عالم في مورده ، وإن كان من غير العلماء ، إذا كان ثقة ضابطاً .

( ومن جملة الآيات ) التي إستدل بها لحجّية خبر الواحد ( قوله تعالى في

ص: 389


1- - سورة النحل : الآية 43 .

سورة البرائة : « وَمِنهُم الَّذينَ يُؤذُونَ الَّنبيَّ ويقُولُونَ هُوَ اُذُن قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم يُؤمِنُ بِاللّه ِ ويُؤمِنُ لِلمُؤمِنيِنَ » .

مدح اللّه - عزّ وجلّ - رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بتصديقه للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق باللّه جلّ ذكره فاذا كان التصديق حسناً يكون واجباً .

------------------

سورة البرائة : «وَمنهُم» ) أي : من المنافقين ، لأنّ السورة في عداد ذكر جملة من صفات المنافقين الذين كانوا يُنافقون في مختلف جوانب الاسلام ( «الّذَّين يُؤذوُنَ النَّبيَّ ويَقوُلوُنَ هُوَ اُذنُ» ) .

والمراد بالاُذُن : إنه يستمع الى كل أحد ، من غير أن يرد عليه ، سواء كان الكلام صحيحاً أو باطلاً ، كما هو شأن الرجال العظام ذووا الهمم الكبار ، فانّ العظيم لايرد من الكلام الاّ ماكان ضاراً بالدّين أو الدنيا أو كان مورد النهي عن المنكر ، وأمّا ماعدا ذلك ، فانه يغضي عنه ، ويمرّ عليه مرور الكرام .

قال تعالى : ( «قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم يُؤمِنُ بالِلّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمنيِن» ) (1) وتقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة لحجّية خبر الواحد ، هو : إنه ( مدح اللّه عزّ وجلّ رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم بتصديقه للمؤمنين ) ممّا يدل على انّ تصديق المؤمن من الصفات الحسنة ، فالرّاوي الذي يروي عن الامام عليه السلام بما انّه مؤمن ، تصديقه حسن ، ومعنى حُسنَه : قبوله .

( بل قرنه ) أي جعل اللّه سبحانه وتعالى تصديق الرّسول للمؤمنين مقارناً ( بالتصديق باللّه جلّ ذكره ) حيث قال : «يؤمنُ باللّه وَيُؤمن للمؤمنين» (2) ( فاذا كان التصديق حسناً يكون واجباً ) إذ لم يقل أحد : بانّه يجوز التصديق وليس

ص: 390


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

ويزيد في تقريب الاستدلال وضوحاً مارواه في فروع الكافي ، في الحسن بابن هاشم ، أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير ، وأراد رجلٌ من قريش أن يَخرُجَ إلى اليمن . فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام : « يابُنَيَّ ! أما بلغك أنهَ يشرَبُ الخَمرَ ؟ قال : سَمِعتُ الناسَ يقولون . فقال : يابنّي! إنّ اللّه - عزّ

وجلّ - يَقُولُ :

------------------

بواجب .

( ويزيد في تقريب الاستدلال ) بالآية المباركة ( وضوحاً ، مارواه في فروع الكافي في ) الخبر ( الحسن ) ووجه كونه حسناً وليس بصحيح ، هو ( ب ) سبب وجود ( ابن هاشم ) في السنّد ، فانّ جماعة من الرجال قالوا : انّ ابن هاشم امامي ممدوح ، والمدح لايثبت عدالته حتى نلحقه بالصحاح .

لكن لايخفى : ان جماعة آخرين ذكروا عدالته ، فالخبر من الصحاح وليس من الحسان .

وهو : ( أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد اللّه ) الصادق عليه السلام ( دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يُخرُج ) في تجارة ( إلى اليمن ) فأعطاه إسماعيل دنانيره ليبتاع بها بضاعة ، فأكلها ذلك التاجر ولم يأت منها بشيء ، لا الدنانير ولا البضاعة .

( فقال له ابو عبداللّه عليه السلام : يابني أما بلغك انّه ) أي : انّ هذا الرّجل التاجر الذي أعطيته دنانيرك ( يَشرَبُ الخَمرَ ) فلماذا سلّمته دنانيرك ؟ .

( قال ) إسماعيل : يا أبة ( سَمِعتُ الناسَ يَقُولُون ) عنه انّه يشرب الخمر ، ولم أتحقق ذلك بنفسي ، ولذا سلّمته الدنانير .

( فَقالَ ) له أبو عبداللّه عليه السلام : ( يابُنَّيَ ، إنَّ اللّه َ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ ) في مدح

ص: 391

يُؤمِنُ باللّهِ ويُؤمِنُ للمؤمِنين . يقول : يصدّق اللّه ، ويصدّق المؤمنين ، فاذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» .

------------------

نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( «يُؤمنُ باللّه ِ ويؤمِنُ لِلمؤمِنين» (1) يقول : يصدّق اللّه ، ويصدّق المؤمنين ) فلما قال لك المؤمنون : انّه يشرب الخمر ، لزم عليك تصديقهم في : عدم ترتيب الأَثر على فعل ذلك التاجر ، وأن لاتسلمه دنانيرك ( ف ) انه ( إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ) (2) .

ولا يخفى : ان إستدلال الامام عليه السلام بالآية المباركة ، دليل على لزوم تصديق المؤمنين ، حيث ان الرواة الثقاة لاشك في انهم من المؤمنين ، فاللازم : تصديقهم .

أمّا نص الخبرين : خبر المنافق في شأن نزول آية الاُذُن ، وخبر الصادق عليه السلام في قصة إسماعيل ، فقد روى القمي : « انّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقاً ، وكان يقعد الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم ، فيسمع كلامه وينقله الى المنافقين ينمّ عليه ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقال :

يامُحمّد إنَّ رَجُلاً مِنَ المُنافِقين ، ينمّ عَلَيكَ ، وَيَنقُلُ حَديثَكَ إلى المُنافِقين .

فقالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم : مَنْ هُوَ ؟ .

فَقالَ : الرَجُل الأَسودُ ، كَثيرُ الشَعَرِ ، يَنظُرُ بِعَينَيِنِ كَأَنَهُما قَدرانِ ، وَيَنطِقُ بِلِسانِه شَيطان .

فَدعاهُ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فَاخبَرَهُ ، فَحَلَفَ إنّه لَمْ يَفعل ، فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم قَد قَبِلتَ مِنكَ فَلاتَقَع .

ص: 392


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 (بالمعنى) .

...

------------------

فَرَجعَ إلى أصحابه فقال : إنّ مُحمَداً اُذُنُ أَخبرَهُ اللّه ُ : إنّي أَنّم وَأَنقُل أخبارَه فَقَبِل ، فَاخبَرتُه : إنّي لَمْ أَفعَلَ فَقَبِل .

فَأنزَلَ اللّه ُ عَلى نَبيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم : «ومِنهُم الّذِينَ يُؤذُونَ النَبيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنُ» (1) الى آخر الآية » .

وأما خبر إسماعيل ففي الرّواية : « إنه كانَتْ لأَماعيلَ بن أبي عبد اللّه عليه السلام دَنانيرَ ، وَأَرادَ رَجُلٌ مِن قُريش أَن يَخرُج إلى اليَمَنِ ، فَقال إسماعيل : ياأَبةَ إنّ فُلاناً يُريدُ الخُروجَ إلى اليَمَن ، وَعِندي كَذا وَكذا دَيناراً فَتَرى أن أَدفَعها يَبتاعَ لي بِضاعَةً مِن اليَمن ؟ فَقال أبو عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : يابُنيَّ أما بَلَغَكَ أنّه يَشرب الخَمر ؟ .

فَقالَ إسماعيل : هَكذا يَقوُلُ الناس .

فَقالَ : يابُنيّ لاتَفعَل .

فَعَصى أباه ، فَدفَعَ إِليه دَنانِيرهُ فاستَهلَكَها وَلَمْ يَأتِ بِشيءٍ مِنها ، فَخَرجَ إسماعيل وَقَضى إنّ أبا عَبداللّه ِ عليه الصلاةِ وَالسلامِ حَجّ ، وَحَجّ إسماعيل تِلكَ السَّنةِ ، فَجَعَل يَطوفُ البَيتَ وَهُو يَقولُ : اللّهُم اجرني وَأخلِف عَليَّ .

فَلَحِقَهُ أبو عبد اللّه عليه السلام فَهَمَزَهُ بيدهِ مِن خَلفِهِ وَقالَ لَهُ : مَه يابُنيَّ ، فَلا وَاللّه ِ مَالَكَ عَلى اللّه ِ هذا ، وَلاَ لَكَ أَن يُؤجِركَ ، وَلا يَخلُف عَليكَ ، وَقَد بَلَغكَ أنه يَشرَبُ الخَمر فائتمنته .

فَقال إسماعيل : ياأَبةِ إِني لَمْ أَرَهُ يَشرَبُ الخَمرَ ، وإنّما سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولون .

ص: 393


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ المرادَ بالاُذُن السريعُ التصديق والاعتقاد بكلّ مايسمع ، لامن يعمل تعبّداً بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه . فمدحه عليه السلام ، بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم إتّهامهم .

------------------

فَقالَ أَبو عبد اللّه ِ عليه السلام : يابُنيَّ إنَّ اللّه َ عزّ وَجلّ يَقُولَ فِي كِتابه : «يؤُمنُ باللّه وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنين» (1) يقول : « يصدّق اللّه ويصدّق للمؤمنين » ، فاذا شَهِدَ عِندَك المُسلِمون فَصدِقهم » (2) .

( ويرد عليه أولاً : انّ المراد بالاذن : السريع التصديق والاعتقاد بكل مايسمع ) فاذا أخبر بشيء حصل له العلم من الخبر ( لامن يعمل تعبداً بما يسمع ، من دون حصول الاعتقاد بصدقه ) .

فان قلت : سرعة الاعتقاد لايُعدّ مدحاً ، لأنّ سريع الاعتقاد على خلاف المتعارف ، كسريع القطع ونحوه .

قلت : ( فمدحه عليه السلام بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم إتّهامهم ) وحسن الظنّ صفة حسنة في الانسان ، فلاتدل الآية على حجّية خبر الواحد .

لكن يرد عليه : انّ حسن الظّن ، الموجب لحسن الاعتقاد - ايضاً - أمر غير حسن ، لأنّ الحسن الاعتدال ، لا حسن الظّن ، أو سوء الظّن .

لايقال : فكيف قالوا : حسن الظّن من الصفات الحسنة ؟ .

لأنّه يقال : انّما الحسن حسن الظّن الذي يوجب إستقامة أمر المعاش والمعاد ،

ص: 394


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 (بالمعنى) .

وثانياً : انّ المرادَ من التصديق في الآية ليس جعلَ المخبر به واقعاً وترتيب جميع آثاره عليه ، إذ لو كان المرادُ به ذلك لم يكن اُذُن خير لجميع الناس . إذ لو أخبره أحدٌ بزنا أحد أو شربه أو قذفه

------------------

وهو في قِبال سوء الظنّ ، لا في قِبال الاعتدال .

لكن يشكل على إيراد الشيخ : بأنّ تصديق المؤمنين حسن ، وهو محل الشاهد في الآية المباركة ، لا انّ محل الشاهد : « اُذُن » وإنما ذكر اُذُن من باب المصداق ، فانّ من مصاديق التصديق للمؤمنين كون المصدّق اُذُناً .

هذا ، والكلام في الآية طويل ، نكتفي منه بهذا القدر ، وإنما كان القصد الالماع الى عدم ورود إيراد المصنّف رحمه اللّه على دلالة الآية على حجّية خبر الواحد .

( وثانياً : انّ المراد من التصديق في الآية ) في قوله سبحانه : « يؤمن للمؤمنين » (1) هو : ترتيب بعض الآثار كعدم عقاب المخبر ، ولو كان عالماً بكذبه أيضاً .

لا انّ المراد : ترتيب جميع آثار الواقع ، الذي هو معنى الحجّية ، أي : ( ليس جعل المخبر به واقعاً وترتيب جميع آثاره ) أي : آثار المخبر به ( عليه ) أي : على المخبر به ، بأن يرتّب جميع آثارالخبر عليه .

( اذ لو كان المراد به ) أي : بالتصديق ( ذلك ) أي : ترتيب جميع آثار الواقع على الخبر ( لم يكن « اُذُن » خير لجميع الناس ) المؤمنين .

( اذ لو أخبره أحد : بزنا أحد ، أو شربه ، أو قذفه ) لمؤمن أو مؤمنة ، والمراد

ص: 395


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

أو إرتداده ، فقتله النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو جلده ، لم يكن في سماعه ذلك الخبر خيرٌ للمخبر عنه ، بل كان محض الشرّ له ، خصوصاً مع عدم صدور الفعل منه في الواقع .

نعم ، يكون خيراً للمخبر من حيث متابعة قوله وإن كان منافقاً مؤذياً للنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

------------------

بالقذف : عبارة عن رمي إنسان بالزنا ، أو اللواط ، أو السحق ، أو ماأشبه ذلك ( أو إرتداده ) بأن أخبر إنسان : بارتداد إنسان آخر .

( فقتله النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فيما لو إستحق القتل ( أو جلده ) فيما لو إستحق الجلد ، أو ماأشبه ذلك من العقوبات ( لم يكن في سماعه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم وتصديقه ( ذلك الخبر ، خير للمخبر عنه ) وهو المقتول ، أو المجلود ، أو مردود الشهادة - حسب قوله سبحانه : «وَلاَ تَقبَلوُا لَهُم شَهادَةً أَبَداً» (1) - أو المغرَّب في بعض أقسام الزنا ، حيث التغريب وحلق الرأس ، أو ماأشبه ذلك .

( بل كان محض الشرّ له ، خصوصاً مع ) كذب الخبر و( عدم صدور الفعل منه في الواقع ) فانّه إذا صدّق المخبِر ، ورتب على خبره آثار الواقع ، ولم يكن الخبر مطابقاً للواقع ، كان ترتيب الأثر على الخبر شراً محضاً بالنسبة الى المخبرَ عنه .

( نعم ، يكون ) التصديق ( خيراً للمخبر ، من حيث متابعة ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( قوله ) فلم يردّه ( وإن كان ) المخبر ( منافقاً مؤذياً للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) كما تقول الآية :- «وَمِنهُمُ الذّيِنَ يُؤذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ اُذُنٌ» (2) .

ص: 396


1- - سورة النور : الآية 4 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

على مايقتضيه الخطابُ في « لكم » .

فثبوتُ الخير لكلّ من المخبر والمخبر عنه لايكونُ الاّ إذا صدّق المُخبِر بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأساً مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة الى المخبر عنه .

فان كان المخبر به ممّا يتعلّق بسوء حاله لايؤذيه في الظاهر ، لكن

------------------

فانه لو صدَّق النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قول المنافق بترتيب جميع آثاره ، فأجرى الحد ونحوه على المخبر عنه ، لم يكن الاّ خيرا للمخبر فقط ، لا لجميع المؤمنين بينما ظاهر الآية ( على مايقتضيه الخطاب في « لكم » ) : ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم خير لجميع المؤمنين الذين آمنوا به ، سواء آمنوا واقعاً كالمؤمنين الحقيقيين أو لم يؤمنوا واقعاً ، وانّما ظاهراً فقط كالمنافقين .

إذن : ( فثبوت الخير لكل من المخبِر والمخبر عنه ) سواء كان المخبِر مؤمناً ، أو منافقاً، والمخبَر عنه مؤمناً أو منافقاً ( لايكون إلاّ إذا صدّق ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( المُخبِر، بمعنى : إظهار القبول عنه ، وعدم تكذيبه ، و ) عدم ( طرح قوله رأساً ) من ناحية .

( مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التام ) في الدّماء ، والفروج ، والأموال ، ووجاهات الناس ، وغير ذلك ، وهو لايكون إلاّ بأن يقبل الخبر ، الذي جاء به المنافق بحسب الظاهر ، ولكن لايرتب الآثار على المخبر عنه ، بل يكون صلى اللّه عليه و آله وسلم في علمه محتاطاً ( بالنّسبة الى المخبر عنه ) .

من ناحية اخرى ( فان كان المخبر به ) أي : الخبر ( ممّا يتعلّق بسوء حاله ) أي : حال المخبَر عنه ، بأن يقول المخبِر - مثلاً : فلان شارب الخمر ، أو لائط ، أو زانٍ ، أو سارق ، أو ما أشبه ذلك ( لايؤذيه ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في الظاهر ) بالضرب ، والحدّ ، والتغريب ، وحلق الرأس ، وعدم قبول الشهادة ، ونحو ذلك ( لكن

ص: 397

يكون على حذر منه في الباطن ، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدّمة .

ويؤيّد هذا المعنى :

------------------

يكون ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على حذر منه ) أي : من المخبر عنه ( في الباطن ) وواقع الأمر .

( كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدِّمة ) فانّه كان من المصلحة اظهار قبول الخبر من النّاس في انه يشرب الخمر ، فلايتعمد على المخبر عنه في إعطائه مال التجارة ، لكن مع عدم ايذاء المخبر عنه ، وعدم الاعتماد عليه في الباطن ، فلا يستأمنه في إعطائه دنانيره للتجارة .

والحاصل : انّ الأمر دائر بين ثلاثة اُمور :-

الأوّل : الاعتماد على خبر المخبِر في كل الآثار حتى في إجراء الحدّ على المخبرَ عنه .

الثاني : عدم الاعتماد على خبر المخبِر وتكذيبه .

والثالث : الاعتماد على خبره بعدم تكذيبه ، مع عدم الاعتماد عليه في إجراء الآثار على المخبرَ عنه .

ومقتضى كونه صلى اللّه عليه و آله وسلم خيراً للكُلّ ، - حسب قول اللّه تعالى : - «اُذُنُ خَيرٍ لَكُم » (1) - هو : المعنى الثالث ، لأنّ في كلا المعنيين الأوّلين ، لا يكون خيراً للكُلّ ، وانّما يكون خيراً للمخبَر عنه فقط أو خيراً للمخبِر فقط .

( ويؤيد هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من انّ المراد من التصديق : إظهار القبول

ص: 398


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ما عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام ، من أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين .

فانّ تعليل التصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم على الآخر بحيث يترتّب عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه وقوعه ، إذ مع الانكار لابّد عن تكذيب أحدهما ، وهو مناف لكونه اُذُنَ خير ورؤوفاً ورحيماً بالجميع

------------------

من المخبِر فقط ، من دون ترتيب الآثار على المخبرَ عنه ( ماعن تفسير العياشي ، عن الصادق عليه السلام : من انّه يصدّق المؤمنين ، لأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان رؤفاً رحيما بالمؤمنين ) (1) .

والفرق بين الرأفة والرّحمة إذا ذكرا معاً : ان الرأفة قلبي ، والرحمة عملي .

وإنما كان هذا الخبر مؤيداً لما ذكرناه من المعنى فلمّا ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ تعليل التّصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين ) انّما يناسب ارادة التصديق بمعنى : إظهار القبول ظاهراً ، وعدم ترتيب الآثار واقعاً على المخبَر عنه :

وهذا ( ينافي إرادة ) التصديق بمعنى : ( قبول قول أحدهم ) وهو المخبر ( على ) ضرر ( الآخر ) وهو المخبر عنه ( بحيث يترتب عليه ) أي : على وقوع المخبر ( آثاره ) أي : آثار الخبر ( وإن أنكر المخبَر عنهُ : وقوعه ) اي : وقوع المخبَر به ، (إذ مع الإنكار ، لابدّ عن تكذيب أحدهما وهو مناف لكونه اُذُن خير ورؤوفاً ورحيماً بالجميع ) فاذا أخبر زيد - مثلاً - النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بأنّ عمرواً زنا ، فاذا رَتبّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم آثار الزنا على عمرو ، لم يكن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم خيراً بالنسبة الى عمرو ،

ص: 399


1- - مصباح المتهجد : ص495 ، تفسير العياشي : ج2 ص101 ح83 ، تفسير الصافي : ص 710 .

فتعيّن إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا .

ويؤيدّه أيضاً : ما عن القميّ رحمه اللّه في سبب نزول الآية : « أنّه نَمَّ منافقٌ على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فأخبره اللّه ذلك ، فأحضره النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وسأله ، فحلف : أنه لم يكن شيء ممّا ينّم عليه ، فقبل منه النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم فأخذ هذا الرجلُ بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ويقول : إنه يقبلُ كلَّ مايسمعُ . أخبره اللّه أني أنّم عليه وأنقل أخباره ، فقبل ، وأخبرته أنّي لم أفعل ، فقبل .

------------------

وانما يكون خيراً بالنسبة الى زيد فقط ، كما إنه اذا كذب زيداً ، يكون خيراً بالنسبة الى عمرو فقط ، لا بالنسبة الى زيد ، فلا يكون رؤوفاً رحيماً بالنسبة الى جميع المؤمنين ، إذن ( فتعين إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا ) آنفاً .

( ويؤيده أيضاً ما عن القميّ رحمه اللّه في سبب نزول الآية ، انّه نَمَّ منافقٌ ) من النميمة ، بمعنى : انه نقل الأخبار السيئة الى هذا وذاك ( على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) كذباً ( فأخبره اللّه ذلك ) أي : انّ اللّه اخبر نبيه عن فعل النّمام ( فاحضره ) أي : احضر النمّام ( النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وسأله ) لماذا ينم عليه ؟ .

( فحلف ) ذلك النّمام على ( أنه لم يكن شيء ممّا ينم عليه ) وانه لم يكن نمّاماً .

( فقبل منه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ولم يترتب الأثر على نميمته ، بان يعاقبه ، او يطرده ، أو ما أشبه .

( فأخذ ) أي : بدأ ( هذا الرّجل ) النمّام ( بعد ذلك ، يطعن على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ويقول : إنه يقبلُ كلّ ما يسمعُ ، أخبره اللّه : أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل ) من اللّه ما اوحى اليه ، فأحضرني ( وأخبرته : أني لم أفعل ، فقبل ) قولي ايضاً ، فهو اُذُن

ص: 400

فرّده اللّه - تعالى - بقوله لنبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم » .

ومن المعلوم : انّ تصديقه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، للمنافق ، لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقاً .

وهذا التفسيرُ صريح في أنّ المراد من المؤمنين المقرّون بالايمان من غير إعتقاد ، فيكون الايمانُ لهم على حسب إيمانهم ،

------------------

يقبل من الجميع ( فردّه اللّه تعالى بقوله لنبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم : «قُل اُذُنُ خيرٍ لكم (1) » ) (2) .

هذا ( ومن المعلوم : انّ تصديقه صلى اللّه عليه و آله وسلم للمنافق ، لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه ) ، أي على خبره ( مطلقاً ) .

فانه لم يرتب الآثار ، بأن يجعل المنافق في مكانته السابقة ، من كونه انساناً مؤمناً واقعياً ، كما إنه لم يطرده من عنده ، بأن لا يصدقه حتى ظاهرياً ، فانّه لو صدّق المنافق واقعاً كان معناه : عدم تصديق اللّه سبحانه وتعالى ولو إنه طرد المنافق لم يكن اذنُ خير بالنسبه إليه وإنما فعل شيئاً متوسطاً ، وهو : المعنى الثالث الذي ذكرناه .

( وهذا التفسير صريح في أنّ المراد من المؤمنين ) هنا : المنافقون ، خصوصاً بقرينة صدر الآية ، حيث قال سبحانه : « ومِنهُم الذَّينَ يؤُذوُنَ النَّبيَّ » ( المقرون بالايمان ) ظاهراً ( من غير إعتقاد ) كما هو شأن المنافق .

( فيكون الايمان لهم ) من النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم حسب قوله سبحانه : « يؤمن للمؤمنين » ( على حسب إيمانهم ) أي : حسب إيمان اولئك المنافقين .

فكما إن ايمانهم ليس الاّ مجرد إظهار القبول ، بدون ترتيب الآثار على قول

ص: 401


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - تفسير القميّ : ج1 ص300 .

ويشهدُ بتغاير معنى الايمان في الموضعين ، مضافاً إلى تكرار لفظه ، تعديتُه في الأوّل بالباء وفي الثاني باللام ، فافهم .

------------------

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم - كما هو شأن المنافق - كذلك إيمانه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالمنافقين لا يكون الاّ بمجرد إظهار القبول ، بدون ترتيب آثار الواقع .

لكن لا يخفى : ان المعنى الذي ذكره المصنّف ، غير ظاهر من الآية المباركة ، فانّ الظاهر : انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم يؤمن لنفع من أظهر الايمان ، فان كان مؤمناً واقعياً رتَّبَ الآثار أيضاً ، وإن كان مؤمناً ظاهرياً لا يرتّب الآثار ، لمحذور في ترتيب الآثار ، لا انّ الآية في صدد عمله صلى اللّه عليه و آله وسلم مع المنافق فقط ، لأنّ قوله تعالى : « ويؤمن للمؤمنين» (1) كالكبرى الكلية لقوله تعالى : «خيرٌ لكم » (2) .

وبذلك ظهر ان ما يأتي من إستشهاد المصنّف رحمه اللّه لما ذكره من المعنى ، محل تأملّ حيث قال : ( ويشهد بتغاير معنى الايمان في الموضعين ) أي : في قوله سبحانه : «يؤمن باللّه» ، وقوله سبحانه : «ويؤمن للمؤمنين» امران :

الاول : ( مضافاً الى تكرار لفظه ) فانّه لو كان المراد من الايمان : معنى واحداً ، لكان مقتضى البلاغة أن يقول - مثلاً - : يؤمن باللّه وبالمؤمنين ، أو يقول يؤمن باللّه وللمؤمنين ، بلا تكرار « ويؤمن » ( تعديته ) أي : الايمان ( في الأوّل : بالباء ) الذي هو للالصاق ( وفي الثاني : باللام ) الذي هو للانتفاع .

( فافهم ) فانّ الظاهر من الفرق ، هو : انّ الايمان باللّه يكون بذات اللّه سبحانه ،

ص: 402


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

وأما توجيهُ الرواية فيحتاجُ إلى بيان معنى التصديق ، فنقول : إنّ المسلم إذا أخبر بشيء فلتصديقه معنيان .

------------------

أمّا الايمان بالمؤمنين فلا يكون بذواتهم ، بل يكون الايمان في نفعهم . فانه يقال : آمنت باللّه ، ولا يقال : آمنت بزيد . ( وأما توجيه الرواية ) أي : رواية إسماعيل (1) ( فيحتاج الى بيان معنى التصديق ) فانّ التصديق له معنيان : -

الاول : انه اذا لم تعلم بانّ شخصاً أحسن أو اساء ، فاحمله على أحسنه .

الثاني : قل : انّه مطابق للواقع ، فرتب آثار الواقع عليه .

مثلاً : اذا لم يعلم بانّ المقبل إليه سبّه أو سلّم عليه ، قال : إنه سلم عليه .

لكن ليس معنى ذلك : إنه يجب ترتيب آثار الواقع عليه ، كوجوب جوابه ، خصوصاً إذا كان في الصلاة - مثلاً - .

ورواية إسماعيل أيضاً كذلك ، فانها تقول : إحمل قول المؤمنين في فلان بانّه شارب الخمر ، على أحسنه ، أي : إنهم صادقون ، ولكنها لا تقول : رتب آثار الواقع ، بأن تضربه حدّ شرب الخمر ، بينما حجّية خبر العادل معناه : إجلده حدّ الخمر .

إذن : فرواية إسماعيل لا تدلّ على حجّية خبر العادل ، وإنّما تدل على المعنى الأول .

والى ما ذكرناه أشار المصنّف بقوله ( فنقول : انّ المسلم إذا أخبر بشيء ، فلتصديقه معنيان ) على النحو التالي :

ص: 403


1- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

أحدهما : ما يقتضيه أدلةُ تنزيل فعل المسلم على الصحيح والأَحسن ،

فانّ الاخبار ، من حيث أنّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه ما كان مباحاً وفاسده ما كان نقيضه ، كالكذب والغيبة ونحوهما ، فحملُ الاخبار على الصادق حملٌ على أحسنه .

------------------

( أحدهما : ما ) أي : المعنى الذي ( يقتضيه أدلة تنزيل فعل المسلم على الصّحيح والأحسن ) مثل : قوله عليه السلام : « ضَع أمرَ أَخِيكَ على أحسَنِهِ » (1) .

والمراد بالأحسن : الحسن ، كما هو واضح ، مثل قوله سبحانه :

«وَلاَ تَقرَبوُا مَالَ اليَتِيم إلاّ بالَتِي هِيَ أَحسَنُ» (2) .

( فانّ الاخبار من حيث انّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه : ما كان مباحاً ) كالخبر الصادق ، والعمل الصحيح ، والقول الجميل ، مثل : انه سلّم ، لا انه سبّ .

( وفاسده ما كان نقيضه ) اي : نقيض المباح ( كالكذب ، والغيبة ونحوهما ) من السبّ ، والبُهتان ، وما أشبه ذلك .

فاذا رأينا مسلماً يقول كلاماً لم نعلم إنه سبّ أو دعاء ، لا نحمله على السبّ ، وإذا رأينا مسلماً يشرب مايعاً لا نعلم انه خمر أو ماء ، لا نقول : انّه خمر ، وهكذا .

( فحمل الأخبار على الصّادق ، حمل على أحسنه ، ) وصحيحه .

ص: 404


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .
2- - سورة الانعام : الآية 152 .

والثاني : هو حملُ اخباره ، من حيث انّه لفظ دالّ على معنى ، يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ، على كونه مطابقاً للواقع بترتيب آثار الواقع عليه .

والمعنى الثاني هو الذي يراد من العمل بخبر العادل .

وأمّا المعنى الأوّل ، فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن .

وهو ظاهر الأخبار الواردة في : أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن يصدّقه

------------------

( والثاني : هو حمل اخباره ، من حيث انه لفظ دال على معنى ، يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ) أي : عدم مطابقتها للواقع ، نحمله ( على كونه مطابقاً للواقع ) وذلك ( بترتيب آثار الواقع عليه ) فاذا أخبرنا عادل عن أحد المعصومين عليه السلام حكماً ، أخذنا به ، وعملنا عليه ، وقبلنا مطابقته للواقع بترتيبنا آثار الواقع عليه .

( والمعنى الثاني : هو الذي يراد من العمل بخبر العادل ) لأنّ معنى حجّية خبر العادل : حمله على الصدق ومطابقته للواقع بترتيب آثار الواقع عليه ، فاذا قال : انّ الامام الصادق عليه السلام قال : صلاة الجمعة واجبة ، نصليها ، وإذا قال : قال الامام الصادق عليه السلام : العصير العنبي حرام ، نترك شربه .

( وأمّا المعنى الأول : فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن ) وهو المراد من التصديق في رواية إسماعيل ، حيث قال الامام عليه السلام : بأنه على إسماعيل تصديق المسلمين فيما يقولون من انّ فلاناً يشرب الخمر ، فيكون معناه : انّه يلزم على إسماعيل ان يقول : إن المسلمين صادقون في قولهم لا انهم كاذبون .

( وهو ظاهر الأخبار الواردة في : انّ من حق المؤمن على المؤمن ، أن يصدّقه

ص: 405

ولا يتّهمه ، خصوصاً مثل قوله عليه السلام : « يا أَبا مُحَمّد كَذِّب سَمعَكَ و بَصَرِكَ عَن أخيك ، فإن شَهِدَ عِندَك خَمسُونَ قَسامَة أنّه قالَ قَولاً ، وَقَالَ : لَم أَقُلهُ ، فَصَدِّقه وكَذبهُم ، الخبر » .

------------------

ولا يتّهمه ) فانّه وردت جملة من الرّوايات بهذا المعنى كما ذكرنا جملة منها في الفقه ، « الآداب والسنن » (1) .

( خصوصاً مثل : قوله عليه السلام ) لأحد الرواة وهو : أبو محمد : ( يَا أبا مُحَمّد ، كَذِب سَمعَكَ وبَصَرِكَ عَن أخِيكَ ، فإن شَهِدَ عِندَكَ خَمسُونَ قسامَة : أنّه قَالَ قَولاً ، وَقالَ : لَم أقُلهُ ، فَصدِقهُ وَكَذِبهُم ) الى آخر ( الخبر ) (2) .

ومن أمثلة القسامة : ان إنساناً لو ادّعى إنّ شخصاً قتل أباه - مثلاً - فانه لوث بالنسبة الى ذلك الشخص ، فاللازم على المدعي : أن يأتي هو وأقربؤه ومن أشبه بخمسين قسماً على صدق قوله : انّ فلاناً قاتل ، فان لم يأت المدعي بذلك ، حلف المتهم وأقرباؤه خمسين قسماً بأنه بريء من القتل ، فعلى الأول : يثبت القتل ، وعلى الثاني : يسقط الاتهام .

وفي هذه الرواية يقول - الامام عليه السلام : اذا قال لك خمسون قسامة : ان فلاناً سبّك - مثلاً - وقال هو : اني لم أسبّك ، فخذ بكلامه لا بكلامهم ، بمعنى : انّه لا يرتب أثر السبّ على كلام القسامة ، لا إنه يكذبهم ويقول لهم : أنتم كاذبون وهو صادق .

ص: 406


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .
2- - ثواب الاعمال : ص295 ح1 ، الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، اعلام الدين : ص405 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 .

فانّ تكذيب القسامة ، مع كونهم أيضاً مؤمنين ، لا يراد منه إلاّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم . لا ما يقابل تصديق المشهود عليه ، فانّه ترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح . نعم ، خرج من ذلك مواضع وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه .

وأنت إذا تأمّلتَ هذه الرّواية ولا حظتها

------------------

( فانّ تكذيب القسامة مع كونهم أيضاً مؤمنين ، لا يراد منه إلاّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم ) بأن لا يقول : انّه سبّ ، فيجري عليه الحد - مثلاً - كما إذا لم يجتمع في القسامة شروط الشهادة ، اذ لا يلزم ان يكون القسامة عدولاً .

( لا ما يقابل ) أي : ليس المراد : تكذيبهم في الظاهر ، في مقابل ( تصديق المشهود عليه ، فانّه ) أي : تصديق المشهود عليه وتكذيبهم ( ترجيح بلا مرجّح ) فانه لماذا يكذب القسامة ، ويصدق الانسان الواحد .

( بل ) هو ( ترجيح المرجوح ) على الراجح ، اذ من الواضح : ان القبول من الخمسين ، أرجح من قبول الواحد .

لا يقال : فاذا كان الميزان ذلك ، فلماذا يقبل من الشاهدين في مثل القتل وما أشبه ؟ . ويقبل من الشهود الأربعة في مثل الزنا وما أشبه ؟ .

فانه يقال - كما أجاب المصنّف - : ( نعم ، خرج من ذلك مواضع وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه ) سواء كانت الشهادة في الماليات بواحد ويمين ، أو في غير الماليات بشاهدين ، أو في مثل الزنا ونحوه بأربعة شهود .

( وأنت إذا تأمّلت هذه الرّواية ولاحظتها ) وهي : قوله عليه السلام : يا أبا محمد ،

ص: 407

مع الرواية المتقدّمة في حكاية إسماعيل ، لم يكن لك بدّ من حمل التصديق على ما ذكرنا .

وإن أَبيتَ إلاّ عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق بمعنى ترتيب آثار الواقع ،

------------------

كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ( مع الرّواية المتقدّمة في حكاية إسماعيل ) حيث قال عليه السلام : اذا شهد عندك المسلمون فصدقهم (1) ( لم يكن لك بُدّ ) أي : علاج ( من حمل التصديق ) في هذه الرّواية ( على ما ذكرنا ) .

فانّ قوله عليه السلام في رواية إسماعيل : « صدِّقهم » ، وفي هذه الرواية : « صدِّقه » ، متحدان من حيث اللّسان والمؤدى ، فالمراد بالتصديق فيهما : الحمل على الصحة ، لا انّ المراد : ترتيب الآثار ، فهذين الخبرين لا يدلان على حجّية خبر العادل وإنما يدلان على حمل قوله على الصحيح ، من دون ترتيب الأثر .

( وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق ) الذي يترتب عليه الآثار ، كما نقول ذلك في خبر العادل ، وقلت : انّ خبر إسماعيل ليس معناه : حمل فعل الغير على الصحة بتصديق المسلمين الذين قالوا : بأنّ فلاناً يشرب الخمر ظاهراً فحسب ، وإنما خبر إسماعيل ( بمعنى ترتيب آثار الواقع ) على ما يذكره المسلمون .

وإنما يكون الإباء ، لأن ظاهر خبر اسماعيل : ترتيب الاثار على قول المؤمنين ، باسترجاع الدنانير من التاجر ، الذي كان متهماً عند المؤمنين ، فليس معنى تصديق

ص: 408


1- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

فنقول : إنّ الاستعانة بها على دلالة الآية خروجٌ عن الاستدلال بالكتاب إلى السنّة ، والمقصود هو الأوّل . غاية الأمر كَونُ هذه الرّواية في عداد الرّوايات الآتية إن شاء اللّه تعالى .

ثمّ إنّ هذه الآيات على تقدير تسليم دلالة كلّ واحد منها على حجّية الخبر إنّما تدلّ ، بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل

------------------

المؤمنين في خبر إسماعيل : مجرد الاستماع من المؤمنين وعدم الرد عليهم ، وإنما هو بمعنى ترتيب الآثار .

( فنقول : إنّ الاستعانةَ بها ) أي : برواية اسماعيل - حسب هذا الظاهر المدعى - ( على دلالة الآية خروج عن الاستدلال بالكتاب ، الى السنة ، و ) الحال انّ ( المقصود هو : الاوّل ) أي : انّ المقصود في الحال الحاضر ، هو الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالآيات ، كقوله تعالى : « ويؤمن للمؤمنين » (1) لا بالسنّة كقوله عليه السلام في خبر إسماعيل : « إذا شهد عنك المسلمون فصدّقهم » (2) .

نعم ( غاية الأمر كَون هذه الرواية ) المروية في قصة اسماعيل جعلها ( في عِداد الروايات الآتية إنشاء اللّه تعالى ) .

لكنّكَ قد عرفت : ان نفس الآية دليل على الحجّية بدون الاحتياج الى الاستعانة بخبر إسماعيل ، وإن كان خبر اسماعيل - أيضاً - دليلاً بنفسه .

( ثم انّ هذه الآيات ، على تقدير تسليم دلالة كلّ واحد منها على حجّية الخبر ، إنّما تدلّ بعد تقييد المطلق منها ) أي ، من هذه الآيات ( الشامل لخبر العادل

ص: 409


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

وغيره بمنطوق آية النبأ ، على حجّية خبر العادل الواقعيّ أو من أخبر عدل واقعي بعدالته .

بل يمكن انصراف المفهوم

------------------

وغيره ) من خبر الفاسق ، فانّه يجب أن يقيِّد المطلق منها ( بمنطوق آية النبأ ) التي تدل ( على حجّية خبر العادل الواقعي ، أو من أخبر عدل واقعي بعدالته ) .

فانّه بعد تقييد المطلق بالمقيد ، يستفاد من مجموع الآيات : حجّية خبر العادل الواقعي ، الذي احرزنا عدالته بالوجدان ، أو أحرزنا عدالته باخبار عادل آخر ، يكون منزلاً خبره منزلة القطع .

فالعدالة شرط ، ونتيجته : إنّه اذا أخبر إنسان نقطع بعدالته ، أو أخبر عادل آخر ، أو عادلان : بعدالته ، وعملنا بذلك الخبر ، ثم ظهر الاشتباه وتبين انّ الخبر لم يكن خبر عادل ، وجب علينا ترتيب آثار غير العادل عليه .

فاذا كان الرّاوي قد أخبر - مثلاً - : بأنّ الامام عليه السلام قال : عشر رضعات ليست محرَّمة ، واتخذ السامع الخبر ، زوجة هي اخته من الرّضاعة بعشر رضعات ، ثم ظهر عدم عدالة الرّاوي ، ممّا يوجب شمول دليل الرّضاع المحرم لعشر رضعات أيضاً ، لزم على الزوج مفارقة الزوجة فوراً ، وعليها عدة وطيء الشبهة من الرجل ، ولا يرث أحدهما الآخر ، الى آخر الاحكام المرتبة على الوطي ، الذي ليس بنكاح صحيح ، ممّا ليس بزنا عمدي أيضاً .

( بل ) يلزم في الآيات المطلقة ، بالاضافة الى تقييدها بالعدالة تقييدها باطمئنان السامع بقول العادل .

اذ ( يمكن إنصراف المفهوم ) أي : مفهوم آية النبأ الدال على حجّية خبر العادل

ص: 410

بحكم الغلبة وشهادة التعليل بمخافة الوقوع في الندم إلى صورة إفادة خبر العادل الظنّ الاطميناني بالصدق ، كما هو الغالب مع القطع بالعدالة .

فيصير حاصل مدلول الآيات

------------------

إنصرافاً ( بحكم الغلبة ) حيث إنّ الغالب انّ السامع يطمئن بخبر العادل ( و ) بحكم ( شهادة التعليل بمخافة الوقوع في الندم ) فهما دليلان على ما نريد ذكره من الانصراف .

فان خبر العادل في مفهوم الآية ، منصرف ( إلى صورة إفادة خبر العادل : الظّن الاطمئناني ) الذي هو أول مراتب العلم ، بأن يكون الانسان مطمئناً ( بالصدق ) أي : بصدق الراوي بالاضافة الى كونه عادلاً .

فمثل هذا الخبر يعمل به ( كما هو الغالب ) حيث إن الغالب ان الانسان يطمئن بخبر العادل ( مع القطع بالعدالة ) أو ما يقوم مقام القطع من : شهادة عادلين بعدالته ، أو شهادة عادل واحد - فرضاً - .

وعليه : فالحجّة هو خبر العادل المطمئن إليه ، فقيد «العادل» يفهم من مفهوم آية النبأ ، وقيد «الاطمئنان» يفهم من مطلبين :

أحدهما : انّ خبر العادل يحصل منه الاطمئنان غالباً ، والانصراف يقضي بانّ الآيات منصرفة الى الغالب .

ثانيهما : انّه سبحانه وتعالى ، عللّ وجوب التبيّن في خبر الفاسق بخوف الندم ، من الواضح : انّ خبر العادل غير المطمئن إليه ، فيه خوف الندم ، فاللازم : ان لا يكون هناك خوف الندم ، وعدم خوف الندم إنما يحصل بسبب الاطمئنان .

( فيصير حاصل مدلول الآيات ) بعد تقييد مطلقها بمقيدها ، وتقييدها أيضاً

ص: 411

إعتبار خبر العادل الواقعي بشرط إفادة الظنّ الاطميناني وهو المعبر عنه بالوثوق .

نعم ، لو لم نقل بدلالة آية النبأ من جهة عدم المفهوم لها ، إقتصر على منصرف سائر الأيات وهو الخبر المفيد للوثوق وان لم يكن المخبر عادلاً .

------------------

بالمطلبين المذكورين ، لزوم إطمئنان السامع من الخبر وكون ( إعتبار خبر العادل الواقعي بشرط إفادة الظن الاطمئناني ، وهو ) أي : الظنّ الاطمئناني ( المعبر عنه : بالوثوق ) .

فالعادل الموثوق بخبره ، يمكن الاعتماد على خبره ، أمّا الفاسق ، والمجهول الحال ، والعادل الذي لا يوثق بخبره ، فلا حجّية في خبره .

( نعم ، لو لم نقل بدلالة آية النبأ ) على حجّية خبر العادل ، وانّما لم نقل بدلالتها على الحجية ( من جهة عدم المفهوم لها ) لما تقدّم : من انّ المفهوم هنا ، هو مفهوم الوصف ، ولا اعتبار به ، أو مفهوم الشرط ، وهو هنا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مفهوم لآية النبأ حتى يكون حجّة ويكون مقيّداً للمطلقات .

ولهذا عرفت : انّها خلاف الأصل - ( إقتصر ) في حجية الخبر - التي قد عرفت : انها خلاف الأصل - ( على منصرف سائر الآيات ) فانّها وان كانت مطلقة ، لكن المطلق ينصرف غالباً الى الفرد الأكمل .

مثلاً : اذا قال إنسان : أكرم علماء البلد ، إنصرف الى الفرد الأكمل ، وهم علماء الفقه ، والاصول ، ونحوهما ، لا مثل علماء الطب والرياضيات ، ومن أشبههما .

( و ) كذلك هنا في حجّية الخبر ، كان المنصرف ( هو الخبر المفيد للوثوق ، وإن لم يكن المخبر عادلاً ) .

هذا ، ولكن الظاهر من الأدلة : كفاية العدالة ، ولا إعتبار بالوثوق بعد توفر

ص: 412

...

------------------

العدالة ، والانصراف ممنوع ، اذ لو فتح هذا الباب ، لزم مجيئه في الشهادة أيضاً ، وكذلك في فتوى المفتي ، وحكم القاضي ، وغير ذلك .

ومعنى ذلك : انّ الشاهدين على القضية لا يمكن الاعتماد عليهما اذا لم يثق القاضي من خبرهما - ولا يخفى : ان هذا البحث يرجع الى الأمر الذي إختلفوا فيه خصوصاً في العصر الحاضر ، من : إنّ المقدّم هل هو جسم القانون أو روحه ؟ . كما ألمعنا اليه في «فقه الحقوق» (1) - وكذلك يلزم ان لا يكون فتوى المفتي حجّة إذا لم يطمئن المقلد اليه ، وهكذا بالنسبة الى حكم الحاكم، وغير ذلك .

* * *

هذا تمام

الكلام في الاستدلال بالآيات

على حجيّة الخبر الواحد ويليه

الاستدلال بالسّنة المطهّرة

ونسأله التوفيق

والسداد

ص: 413


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .

ص: 414

المحتويات

مستند الاجماع هو اللطف ... 7

مستند الاجماع هو الحدس ... 14

الاشكال على الاجماع الحدسي ... 20

كلام شارح الوافية ... 23

وجوه ادعاء الاجماع ... 33

الاجماعات المتعارضة ... 42

ارادة الشهرة من الاجماع ... 60

كلام المحقق المجلسي ... 61

كلام المحقق السبزواري... 67

الحاق الاجماع المنقول بالخبر الواحد... 69

خبر الناقل يثبت اقوال العلماء ... 74

المخالف لا يقدح بدعوى الناقل ... 76

كلام المحقق التستري في الاجماع ... 89

اتفاق من يمكن تحصيل فتاواه لا يستلزم موافقة الامام ... 134

الخبر المتواتر المنقول ... 139

صور قبول نقل التواتر ... 144

نقل الشهيد تواتر القراءات ... 148

الشهرة الفتوائية ... 153

ادلة حجيّة الشهرة الفتوائية ... 155

الدليل الاول والجواب عنه :... 155

الدليل الثاني والجواب عنه : ... 158

الخبر الواحد... 174

ص: 415

مقدمات حجية الخبر الواحد ... 174

اصولية المسألة ... 178

عدم مقطوعية صدور الاخبار... 181

القول بعدم جواز التعبد بالخبر الواحد... 183

أدلة المانعين عن الحجية... 187

الاول : الكتاب... 188

الثاني : السنة... 189

الثالث : الاجماع... 201

الجواب عن الادلة ... 203

أدلة جواز العمل بالخبر الواحد

الدليل الأوّل : الكتاب... 232

1 - آية النبأ ... 232

الايرادات على الاستدلال بآية النبأ ... 242

دفع بعض الاشكالات على الاستدلال بآية النبأ ... 270

الاستدلال بآية النبأ على حجيّة خبر غير العادل اذا ظنّ بصدقه ... 319

2 - آية النفر... 330

ظهور آية النفر في وجوب التفقه والاستدلال بها في الروايات ... 341

الاشكال على الاستدلال بآية النفر ... 351

3 - آية الكتمان... 370

الاشكال على الاستدلال بآية الكتمان ... 371

4 - آية السؤال عن أهل الذكر...

376

الاشكال على الاستدلال بآية السؤال ... 378

5 - آية الاُذن... 389

الاشكال على الاستدلال بآية الاُذن ... 394

تقييد اطلاق الآيات بآية النبأ ... 403

المحتويات... 415

ص: 416

المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

وأمّا السنّة

فطوائف من الأخبار : منها : ماورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التساوي .

مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، فإنها وإن

-------------------

( وأمّا السنة ) فقد إستدل بها لحجّية خبر الواحد وذلك ، بتقريب : انا نعلم بحجّية هذه السنّة ، الدالة على حجّية خبر الواحد ، وعلمنا بذلك ، امّا بسبب التواتر في السنّة أو بسبب القرائن الخارجية أو ما أشبه ذلك ، فلا يقال : ان الاستدلال بحجّية خبر الواحد على حجية خبر الواحد مستلزم للدور .

وعلى أي حال : ( ف- ) الدال من السنة على حجّية خبر الواحد ( طوائف من الأخبار ) والاحاديث الشريفة ( منها : ماورد في ) علاج ( الخبرين المتعارضين من ) لزوم ( الأخذ بالأعدل ، والأصدق ، والمشهور ) ونحو ذلك من المرجّحات ، إذا كان في بعض الخبرين على بعضهما الآخر ترجيح .

( والتخيير عند التساوي ) للخبرين حيث كونهما عادلين ، صادقين ، مشهورين ، موافقين للكتاب ، مخالفين للعامة ، وما أشبه ذلك .

ومن الواضح : انه لو لم يكن الخبر حجّة ، لم يحتاج الى علاج المتعارضين ، لأنّ الأخذ بأحد المتساويين في صورة التساوي ، معناه : حجّية كل منهما ، كما إنّ الأخذ بالأرجح عند وجود الرجحان ، معناه : حجية الراجح .

( مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، فانّها وإن ) لم ترد في مسألة ترجيح خبر على

ص: 7

وَردَت في الحكم .

-------------------

خبر ، بالأصالة ، بل ( وردت في ) ترجيح ( الحكم ) وذلك لأنّ ابن حنظلة سأل أبا عبداللّه عليه السلام ، عن رَجُلين بَيِنَهُما مُنازَعَة فِي دَينِ أو ميِراثٍ ، فَتَحاكَما إلى أن قال : فإن كان كُلّ واحِدٍ إختَارَ رَجُلاً مِن أصحَابِنا ، فَرَضِيا أن يَكُوُنا الناظِرينَ في حَقِهِما ، وَإختَلَفَ فِيما حَكما ، وَكِلاهما إختَلَفا في حَديِثكُم ؟ .

فقالَ : الحُكُم ما حَكَمَ بهِ أَعَلَمهُما وَأفَقَههُما وأصدقهُما في الحَدِيث وأورعَهُما، ولا يَلتَفِت إلى ما يَحكُم بهِ الاخر .

قالَ : فَقُلتُ : فانهُما عَدلانِ مَرضيّانِ عِندَ أصحابِنا لا يفضل واحد مِنهما عَلى صاحِبهِ .

قالَ : فقال عليه السلام : يَنظُر إلى ما كانَ مِن رِوايتِهما عنا ، في ذلك الذي حَكَما بهِ ، المُجمَع علَيهِ عِندَ أصحابِكَ ، فيؤخذُ بهِ من حُكمنا ، وَيَترك الشّاذ الذي ليس بِمشهور عندَ أصحابِك ، فإن المُجمَع عليه لا رَيبَ فيه .

إلى ان قال : فان كان الخبرانِ عَنكُم مشهورين ، قد رواهُما الثُقاة عَنكُم .

قال : ينظُر فَما وافق حكمهُ حُكمَ الكِتاب والسُنّةِ وَخالفَ العامّة ، فَيؤخذ بهِ ، وَيترك ما خالَفَ حُكمَهُ حُكمُ الكِتاب وَالسُنّة ووافق العامّة .

قلتُ : جعلتُ فِداكَ ، إن رأيت إن كان الفقيهانِ عَرفا حُكمه مِن الكِتابِ وَالسُنّة ، ووجدنا أحد الخَبرين موافِقاً لِلعامّة ، والاخرَ مخالِفاً لَهم ، بأيّ الخَبرينِ يؤخَذ ؟ .

فقال : ما خالفَ العامة ، ففيه الرشاد .

فقلتُ : جُعلتُ فِداكَ ، فان وافقَهُما الخبران جميعاً ؟ .

قال : ينظر إلى ما هُم أميَل اليه حُكامهُم وَقضاتُهم ، فَيترك ويؤخذ بالآخر .

قلت : فان وافق حُكامَهُم الخَبرين جَميعاً ؟ .

ص: 8

حيث يقول : « الحُكمُ ما حَكَمَ بهِ أعدَلَهُما وأفقههُما وأصدقهُما في الحديث » .

وموردها وإن كان في الحاكمين ، الاّ أن ملاحظة جميع الرواية تشهدُ بأنّ المرادَ بيانُ المرجّح للروايتين اللتين إستند إليهما الحاكمان .

ومثلُ رواية غوالي اللئالي المروية عن العلاّمة المرفوعة إلى زُرارَة :

-------------------

قالَ : إذا كان ذلِكَ فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عِندَ الشّبهات خَيرٌ من الاقتِحام في الهَلكات (1) ، فانه ( حيث يقول عليه السلام : الحُكْمُ ما حَكَمَ بهِ اعدَلَهُما وأَفقَهَهُما وأصدَقَهُما في الحَديث ) دال على ما ذكرنا : من حجية الخبر .

( وموردها وإن ) لم يكن في تعارض الراويين والروايتين ، بل ( كان في ) تعارض ( الحاكمين ) لكن بفرض ان نفرين تعارضا ، ثم رجعا الى روايتين ، كما قال : ( الاّ انّ ملاحظة جميع الرّواية ) من أولها الى آخرها - كما ذكرناها - ( تشهد بان المراد : بيان المرجح للروايتين اللتين إستند إليهما الحاكمان ) .

وفي هذه الرواية وان لم يذكر التساوي ، لكنّه مذكور في بعض الرّوايات الأُخر.

وعلى أيّ حال : فكل من التخيير بين أحد المتساويين والأخذ بالأرجح أو الأرجح من الخبرين ، دليل على الحجّية ، لأنّه بدون الحجّية لا يكون المتساويان أو الأرجح منهما مورد العمل .

( ومثل رواية غوالي اللئالي المرويّة عن العلاّمة المرفوعة الى زُرارَة ) ومعنى الرفع الى زُرارَة : ان العلامة رحمه اللّه لم يذكر الوسائط بينه وبين زُرارَة ، وهذا اصطلاح في باب الروايات - كما لا يخفى - .

ص: 9


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

« قال : يَأتيّ عَنكُم الخَبران أو الحديثانِ المُتَعارِضانِ ، فبأيّهِما نأخُذُ؟ قال : خُذ بما إشتَهَر بَينَ أصحابكَ ودع الشاذّ النادِر . قُلتُ : فإنّهُما مَعاً مَشهّوران ، قال : خُذ بأعدَلِهما عِندَكَ ، وأوثقهما في نفسِك » .

-------------------

( قال : يَأتي عَنكُم الخَبرانِ أو الحَديثانِ المُتعارِضانِ ، فَبأيّهما نَأخُذُ؟ ) وقد تقدّم الفرق بين الخبر والحديث ، بانّ أحدهما في قِبال الآخر إذا ذكرا معاً ، وإذا اطلق أحدهما شمل الآخر .

( قالَ ) عليه السلام : ( خُذ بِما إشتَهَرَ بينَ أَصحابِك ، ودَع الشَاذَّ النّادِرَ ) منهما .

( قُلتُ : فانَّهُما مَعاً مشهوُران؟ ) ومعنى الشهرة : انّ جملة من الأصحاب عملوا بهذا الخبر ، وجملة من الأصحاب عملوا بالخبر الآخر ، أو المراد : الشهرة الرّوائية: بأن ذكرا معاً في كتب المشهور من الأصحاب .

( قال : خُذ بِأعدَلِهما عِندَك ، وأَوثَقِهما فِي نَفسِك ) (1) ولفظ الحديث هكذا :

قال زُرارة : سألتُ الباقِر عليه السلام فَقُلتُ : جُعِلتُ : فِداكَ ، يَأتِيَ عَنكُمُ الخَبرانِ أَو الحَديثانِ المتعارضان فَبأيّهِما آخُذ ؟ .

قَالَ : يازُرارَة ، خُذ بما إشتَهَرَ بينَ أَصحابِكَ ، وَدَع الشاذَّ النّادِرَ .

فَقُلتُ : ياسيدي ، إنَّهُما مَعاً مَشهُوران مَرويان مَأثُوران عَنكُم ؟ .

فَقالَ عليه السلام : خُذ بِقولِ أَعدلَهُما عِندَك ، وَأَوثَقَهُما فِي نَفسِك .

فَقُلتُ : إنّهُما مَعاً عَدلانِ مَرضيانِ مَوثقان ؟ .

فَقال عليه السلام : إنظُر ما وافَقَ مِنهُما مَذهب العامّة فاترُكهُ وَخُذ بِما خالَفَهُم .

ص: 10


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص136 ح229 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

ومثلُ رواية ابن أبي الجهم عن الرضا عليه السلام ، قُلتُ : يَجيئُنا الرَّجُلانِ ، وكِلاهُما ثِقَةٌ ، بحَديثَين مُختَلِفين ، فلا نَعلمُ أيّهُما الحَقُّ . قال : إذا لَمْ تَعلم، فمُوَسّعٌ عَلَيك بأَيّهما أَخَذتَ » .

ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا سَمِعَتَ مِن

-------------------

قُلتُ : ربّما كانا معاً موافقين لَهُم ، أَو مُخالفين ، فَكَيفَ أَصنَع ؟ .

فَقالَ : إذاً ، فَخُذ بِما فيه الحائط لِدينك ، وإترُك ماخالفَ الاحتياط .

فَقُلتُ : إنَهُما مَعاً موافِقان للاحتياط ، أَو مُخالِفانِ لَه ، فَكيفَ أَصنَع ؟ .

فَقالَ ، عليه السلام : إذن فَتَخيّر أَحدهما فَتأخُذ بهِ ، وَتدع الآخرَ .

( ومثل رواية ابن أبي الجهم ، عن الرضا عليه السلام ، قُلتُ : يَجيئُنا الرَّجُلانِ - وَكِلاهُما ثِقةٌ - بِحديثين مُختلِفين ، فَلا نَعلمُ أَيّهما الحَقُّ ؟ ) يعني : اذا كانا متعارضين .

( قالَ : اِذا لَمْ تعلَم ، فَمُوسَّعٌ عَلَيكَ بأَيّهما أَخَذت ) (1) والحديث هكذا :

ان الحسن بن الجهم روى عن الرضا عليه السلام وقال : قلت له تجيؤنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟ .

فقال : ماجائك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فان كان يشبههما ، فهو منّا ، وان لم يكن يشبههما فليس منا .

قلت : يجيؤنا الرّجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق ؟ . قال : فاذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيِّهما أخذت .

( ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام قال : إذا سَمِعتَ مِن

ص: 11


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .

أَصحابِك الحَدِيثَ وكُلُّهم ثِقَةٌ ، فمُوَسَّعٌ عَلَيكَ حَتى تَرى القائِمَ » عليه السلام وغيرها من الأَخبار .

والظاهرُ : أنّ دلالتَها على إِعتبار الخبر الغير المقطوع الصّدور واضحةٌ .

-------------------

أَصحابكَ الحَديثَ وَكُلُّهم ثِقةٌ ، فَمُوسَّعٌ عَليكَ ) أي : أنت مخير بين الأحاديث المختلفة إذا كان رواتها ثقاة ( حَتى تَرى القائِم عليه السلام ) (1) والمراد بالقائم هنا : كل إمام في زمان إمامته ، هو قائم زمانه ، والمهدي عجّل اللّه تعالى فرجه قائم زماننا ، لأنه القائم بالإمامة بعد أبيه الامام الحسن العسكري عليه السلام الى اليوم ، والى يوم ظهوره ، ثم هو القائم أيضاً الى يوم مماته .

( وغيرها من الأخبار ) الكثيرة ، التي جمعها الوسائل والمستدرك في كتاب القضاء .

( والظاهر : انّ دلالتَها عَلى إعتبار الخبر غير المقطوع الصّدور واضحة ) وذلك لأن الرّواة ، سألوا الأئمة عليهم السلام ، عن علاج الخبرين الظنّي الصدور ، لوضوح ان تعارض القطعيين في غاية الندرة ، فلاينبغي لأجله هذا الاهتمام من الرّواة ، وإجابة الأئمة عليهم السلام بتك الأجوبة الكثيرة ، فيعلم من هذا كله : انّ حجّية الخبر ، كان عند كل من الأئمة والرّواة من الواضحات سواء كان الخبران المتعارضان متساويين حيث يؤخذ بأحديهما ، أو كان لأحدهما ترجيح على الآخر حيث يؤخذ بالأرجح منهما .

لكن المصنّف ناقش في إطلاق هذه الرّوايات ودلالتها على حجّية كل خبر ثقة محتجاً بأنها ليست في مقام بيان شرائط حجية الخبر ، بل في صدد علاج

ص: 12


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33374 ، الاحتجاج : ص357 .

إِلاّ أنّها لا إطلاق لها ، لأنّ السؤال عن الخبرين الّلذين فرض السائل كلاًّ مِنهُما حجّة ، يتعيّن العملُ بها لولا المعارضُ ، كما يشهد به السؤال بلفظ « أيّ » الدالّة على السؤال عن التعيين مع العلم بالمبهم . فهو كما إذا سئل عن تعارض الشهود أو أئمّة الصلاة ، فأجاب ببيان المرجّح ،

-------------------

المتعارضين من الأخبار ، ولذا قال : - ( إلاّ أنّها لا إطلاق لها ) من حيث آحاد تلك الأخبار ، وإنه هل هي حجّة بالنسبة الى خبر العادل ، أو بالنسبة الى خبر الثقة ، أو غير ذلك؟ ( لأنّ السّؤال ) في تلك الاخبار إنّما كان ( عن الخبرين اللّذين فرض السّائل ) حسب تصوره ، انّ ( كلاً منهما حجّة ، يتعيّن العمل بها لولا المعارض ) أمّا انّه أيّ قسم من الخبر حجّة ، وأي قسم ليس بحجّة ؟ فليست هذه الأخبار في صدد التعرض لها .

( كما يشهد به ) أي بكون السؤال كان عن الحكم عن التعارض ، لا عن مطلق حجّية الخبر ( السؤال بلفظ : « أيّ » ، الدّالة على السؤال عن التعيين مع العلم بالمبهم ) .

يعني : انّ هذا الراوي كان يعلم : حجّية أحد الخبرين ، أو كلا الخبرين ، لكنه كان لايعلم : انّ الخبر حجّة او ذاك أو انهما متساويان معا في الحجّية من باب الواجب التخييري ؟ .

( فهو ) أي السؤال في هذه الأخبار ( كما إذا سئل عن تعارض الشهود ) فانّ مثل هذا السؤال ، دليل على إن حجّية الشهادة مسلّمة عند السائل والمسؤول ، لكنها لا تدل على انّ كل شهادة حجّة ، وإنما تدل على حجّية الشهادة في الجملة ، فلا يعرف من مثل هذه الأخبار شروط الشهادة .

( أو ) كما اذا سئل عن ( أئمة الصلاة ) حين تعارضهم ( فاجاب ببيان المرجّح )

ص: 13

فانّه لايدلّ إلاّ على أنّ المفروض تعارضُ من كان منهم مفروضَ القبول لولا المعارضُ .

نعم ، رواية إبن المغيرة تدلّ على إعتبار خبر كلّ ثقة .

-------------------

فان هذا السؤال والجواب ، يدل على تسالم السائل والمسؤول على جواز الامامة في الجملة إما شروط الامام ، فلا دليل في مثل هذه الأخبار عليها ، كما قال : ( فانه ) أي : السؤال عن الائمة في الصلاة ( لا يدلّ الاّ على انّ المفروض ) عند السائل والمسؤول ( تعارض من كان منهم ) أي من الائمة ( مفروض القبول لولا المعارض ) امّا ان أيا من الشهود أو أيا من الأئمة مقبول شهادته وامامته ، فاللازم ان يعلم من الخارج .

( نعم ، رواية ابن المغيرة تدل على إعتبار خبر كل ثقة ) ومن المعلوم : انّ الثقة أعم من العادل ، فانّه قال في ذلك الخبر :-

« إذا سَمِعتَ مِن أَصَحابِكَ الحَدِيثَ وَكُلُّهُم ثِقةٌ ، فَمُوسَّعٌ عَلَيكَ » (1) .

وكذلك جاءت بعض الأحاديث الاُخر بهذا المضمون ، مثل مارواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه السلام قال : قلت له : تجيؤنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟ .

فقال : ماجائك عنّا ، فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فان كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منا .

قلت : يجيؤنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين ولانعلم أيّهما الحق؟

قال : فاذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيّهما أخذت (2) .

ص: 14


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33374 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .

وبعد ملاحظة ذكر الأوثقيّة والأعدليّة في المقبولة والمرفوعة ، يصير الحاصلُ من المجموع إعتبار خبر الثقة ، بل العادل .

لكنّ الانصافَ : أنّ ظاهر مساق الرّواية أنّ الغرض من العدالة حصول الوثاقة ، فيكون العبرةُ بها .

ومنها : ما دلّ على إرجاع آحاد الرّواة إلى آحاد أصحابهم عليهم السلام ،

-------------------

( وبعد ملاحظة ذكر الأوثقية والأعدلية في المقبولة والمرفوعة ، يصير الحاصل من المجموع ) الموجود في الأخبار العلاجيّة التي هي بصدد علاج تعارض الأخبار ( إعتبار خبر الثقة ، بل العادل ) لأنّ العادل أخص مطلقاً ، ومقتضى القاعدة في الجمع بين العام والخاص : أن نحمل العام على الخاص .

( لكن الانصاف : انّ ظاهر مساق الرّواية ، انّ الغرض من ) اعتبار ( العدالة : حصول الوثاقة ، فيكون العبرة بها ) أي : بالوثاقة ، فليس المكان من حمل العام على الخاص ، بل من الأخذ بالعموم ، وان المراد بالخاص أيضاً العام ، خصوصاً بعد ورود الرّوايات بحجّية خبر الثقة مثل : قوله عليه السلام : - « لاعُذرَ لأحدٍ مِن مَوالِينا ، فِي التَشكِيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثُقاتنا » (1) الى غير ذلك .

( ومنها ) أي : من الطوائف الدالّة على حجّية خبر الواحد من الأخبار ( : ما دلّ على إرجاع آحاد الرّواة ) وأفرادهم الذين كانوا يسألون الأئمة عليهم السلام عمن يعتمدون في الدّين ؟ فكانوا يرجعونهم ( الى آحاد أصحابهم ) المتلّمذين على أيديهم عليهم السلام .

ص: 15


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 وفيه يؤديه ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

بحيث يظهر منه عدمُ الفرق بين الفتوى والرّواية .

مثل إرجاعه عليه السلام ، إلى زُرارَة ، بقوله عليه السلام : « إذا أَردتَ حَديثاً ، فَعلَيكَ بهذا الجالِسِ . مُشيراً إلى زُرارَة » .

وقوله عليه السلام ، في رواية اُخرى : « وأمّا ما رَواهُ زُرارَة عَن أَبي عليه السلام ، فَلا يَجُوزُ رَدُّهُ » .

وقوله عليه السلام ، لابن أبي يعفور - بعد السؤال عَمّن يرجع إِليه إذا إِحتاج أو سئل عن مسألة : « فَما يمنعك عَن الثَقَفيّ ؟ - يعني مُحَمّد بن مُسلِّم - فإنَّهُ

-------------------

فانّ الارجاع هذا ، كان ( بحيث يظهر منه : عدم الفرق بين الفتوى ) من الرّاوي لمن يقلده ويتبعه ( والرّواية ) منه للذي يريد الاجتهاد والاستنباط ، وذلك لاطلاق هذه الرّوايات . ( مثل إرجاعه عليه السلام ) الشخص السائل ( الى زُرارَة ، بقوله عليه السلام : إذا أَردتَ حَديثاً ، فَعَلَيكَ بِهذا الجالِس . مُشيراً إلى زُرارَة ) (1) فانّ الامام عليه السلام ، أرجع السائل الى تلميذه زُرارة ، ممّا يدل على حجّية الخبر الواحد الصادر عن زرارة .

( وقوله عليه السلام في روايةٍ اخرى : وَأَما ما رَواهُ زُرارَة عَن أَبِي عليه السلام فَلا يَجُوزُ رَدُّهُ )(2) لأحد .

( وقوله عليه السلام لابن أبي يعفور ، بعد السؤال عَمّن يرجع إليه إِذا إِحتاج ) الى معرفة الحكم ليعمل به ( أو ) إحتاج الى معرفة الجواب فيما إذا ( سئل عن مسألة ؟ ) فأرجعه الامام عليه السلام الى أحد تلاميذه بقوله : ( فَما يَمنَعكَ عَن الثَقَفيّ ) المنتسب الى قبيلة ثقيف ( يعني : مُحمَّد بن مُسلِّم ، فَانَّه

ص: 16


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص143 ب11 ح33434 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 ، رجال الكشي : ص136 .
2- - رجال الكشي : ص134 ، وسائل الشيعة : ج27 ص143 ب11 ح33432 وفيه عن «أبي جعفر» .

سَمِعَ مِن أَبي أَحادِيثَ ، وَكانَ عِندَهُ وَجيِهاً » .

وقوله عليه السلام ، فيما عن الكشّيّ لِسلَمة بن أَبي حَبيبَة : « ائتِ أَبانَ بِن تَغلِب ، فإِنّهُ قدَ سَمِعَ مِنّي حَديثاً كثيراً . فَما رَوى لَكَ عَنّي فاروه عَنّي » .

وقَوله عليه السلام ، لِشُعيَب العَقرقُوفيّ بَعدَ السُّؤال عَمَّن يرجع إليه : « عَليكَ بِالأسَدي ، يعني أبا بصير » .

وقوله عليه السلام ، لِعليّ بن المسيّب ، بعد السّؤال عَمَّن يأخذ عنه معالم الدّين :

-------------------

سَمِعَ مِن أَبي أحادِيث ، وَكانَ عِندَهُ وَجيهاً ) (1) ، اي : حجّة .

( وقوله عليه السلام : فيما ) كان ( عن الكشيّ ) وهو من العلماء الذين كتبوا كِتاباً في الرّجال ( لِسَلَمة بن أبي حَبيبَة ، ائتِ ) أي : إذهب إذا أردت المسألة الى ( أَبان بِن تَغلِب ، فَانّهُ قد سَمِعَ مِنّي حَديثاً كَثيراً ، فَما روى لَكَ عَنّي فاروه عَنّي ) (2) وظاهر هذه الرّواية : أنّه يجوز الرّواية عنه عليه السلام بدون ذكر الرّاوي .

( وقوله عليه السلام لشعيب العَقرقُوفيّ بعد السُّؤال عَمّن يرجع اليه ؟ ) في مسائله ، فاجابه عليه السلام ( : عَلَيكَ بالأسَدِي يعني : أَبا بَصير ) (3) فانّه كان من قبيلة بني أسد .

( وقوله عليه السلام لِعليّ بن المسيّب ، بعد السّؤال عَمَّن يأخذ عنه معالم الدّين ؟ ) أي : أحكامه وسمي : معالم وهو جمع معلم لأنّه كما لايضل سالك الصحراء

ص: 17


1- - رجال الكشي : ص162 ، وسائل الشيعة : ج27 ص144 ب11 ح33438 .
2- - رجال الكشي : ص331 وفيه «عن مسلم بن أبي حيّة» ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33445 .
3- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح61 ، رجال الكشي : ص171 ، وسائل الشيعة : ج27 ص142 ب17 ح33430 .

« عَلَيكَ بزَكريا بن آدَمَ المَأمُونِ عَلى الدّينِ وَالدُّنيا » .

وقوله عليه السلام : لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : « رُبّما أَحتَاجُ وَلَستُ أَلقاكَ في كُلِّ وَقتٍ ، أفيُونسُ بنُ عَبدِ الرَحمنِ ثِقَةٌ اخُذُ عَنهُ مَعالِمَ دِينيِ قال : نَعَم » .

وظاهر هذه الرّواية أنّ قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الرّاوي .

-------------------

ولا سالك البحر ، أو الفضاء ، إذا كان في كل منها معالم للطريق ، كذلك لايضل السالك في طريق الحياة إذا سار بارشاد من كان قوله حجّة ، فانّ الامام عليه السلام قال له : ( عَلَيكَ بِزَكَريا بن آدَمَ ، المَأمون عَلى الدِّينِ والدُّنيا ) (1) فما يروي في الامور الدينية ، وكذا مايروي في الامور الدنيوية كلاهما حجّة .

والامور الدينية : كوجوب صلاة الجمعة ، أو حرمة النبيذ ، أو إستحباب السواك ، أو كراهة الأكل على الشبع ، أو ماأشبهها .

والامور الدنيوية : كذكر خواصّ المآكل والمشارب ، والملابس والمناكح ، والمساكن ، والمراكب ، وغير ذلك ممّا كثير في الرّوايات .

( وقوله عليه السلام لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : ربّما أَحتَاجُ ) الى معرفة حكم من الأحكام الشرعيّة ، ( وَلَستُ أَلقاكَ فِي كُلِّ وَقتٍ أفيونسُ بنُ عَبدِ الرَّحمان ثِقةٌ آخُذُ عَنهُ مَعالِمَ دِينيِ ؟ قال : نَعم ) (2) ممّا يدل على حجّية قول الثقة .

( وظاهر هذه الرّواية : انّ ) الكبرى الكلية أي : ( قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الرّاوي ) وهو عبد العزيز ، كما كان مفروغاً عنه عند الامام عليه السلام

ص: 18


1- - رجال الكشي : ص595 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح68 ، وسائل الشيعة : ج27 ص146 ب11 ح33442 ، الاختصاص : ص87 ..
2- - بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 ، رجال الكشّي : ص490 ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 .

فسأل عن وَثاقَة يُونس ، ليترتّب عليه أخذ المعالم منه .

ويؤيّدُهُ في إِناطة وجوب القبول بالوثاقة ماوَرَدَ في العَمريّ وإبنه اللّذين هما من النوّاب والسُفراء . ففي الكافي في باب النهي عن التسمية : « عن الحميريّ عَن أحمد بن إسحاق . قال : سَأَلتُ أَبا الحَسَنِ عليه السلام ، وَقُلتُ لَهُ : مَن أُعامِلُ وَعَمَّن آخُذُ وَقَولُ مَن أقبَلُ ؟ فقال عليه السلام له : العُمريُّ ثِقةٌ ، فَما أَدّى

-------------------

( فسأل عن ) الصغرى ، وهي : ( وثاقة يُونُس ، ليترتب عليه ) أي : على كون عبد الرحمن من صغريات تلك الكبرى الكلية ( أخذ المعالم منه ) والمراد بمعالم الدّين : أحكامه .

( ويؤيده في إناطة وجوب القبول بالوثاقة ) بدون الاحتياج الى العدالة ( ما ورد في ) حق ( العَمري ) بفتح العين نسبة الى عمرو ( وإبنه اللذين هما من النواب والسُفراء ) الأربعة الخاصين للامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

( ففي الكافي في باب النهي عن التسمية ) أي : عن التصريح باسم الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، المضاهي لاسم جدّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والمشهور بين العلماء حمل مثل هذه الرّواية على الكراهة ، لوجوب الاسم في بعض الأدعية والزيارات ، كالجامعة الصغيرة ، وغيرها .

( عن الحميريّ ، عن أحمد بن إسحاق ، قال : سَألتُ أَبا الحَسن ) الثالث : علي بن محمد النقي ( عليه السلام ، وَقُلتُ لَهُ : مَن اعامِلُ وَعَمّن آخُذُ وَقَولُ مَن أقبَلُ ؟ ) والمراد من التعامل هنا في اُمور الدين .

( فقال له : ) أي : قال الامام عليه السلام ، لأحمد بن إسحاق : ( العَمريُّ ثِقةٌ ، فَما أدّى

ص: 19

إليكَ عنّي ، فَعَنّي يُؤديّ ، وما قالَ لَكَ عَنّي ، فَعَنّي يَقُوُلُ ، فَاسمع لَهُ وَأَطِع ، فَانَّهُ الثِقةُ المُأموُن » .

وأخبرنا أحمدُ بنُ إسحاق إنّه سأل أبا محمّد عليه السلام ، عن مثل ذلك ، فقال له : « العمريُّ وَابنُهُ ثِقَتانِ ، فَما أدّيا إليكَ عَنّي فَعَنّي يُؤَدِيانِ ، وَما قَالا لَكَ فَعَنِي يَقُولانِ ، فَاسمَع لَهُما وَأطِعهُما ، فَإنَهُما الثقتانِ المأمونانِ ، الخبر » .

وهذه الطائفة أيضاً مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إعتبار خبر الثقة المأمون .

-------------------

إِليكَ عنيّ ، فَعَنّي يُؤدّي ، وَمَا قالَ لَكَ عَنّي ، فعنّي يَقُولُ ، فاسمَعْ لَهَ وأطِع ، فأنّهُ الثِقةُ المَأموُن ) (1) .

والظاهر : أنّ قوله عليه السلام : « وَما قَالَ لَكَ عَنّي » عطف تفسير لقوله : « فَما أدى إليكَ عَنِّي » وإن كان يمكن بيان بعض الفروق بينهما ، كما انّ « المأمون » عطف بيان لقوله : « الثقة » .

( وأخبرنا أحمدُ بن إسحاق : إنّه سأل أبا محمد ) الحسن بن علي العسكري عليه السلام ( عن مثل ذلك ) الذي سأل عن أبي الحسن الثالث عليه السلام .

( فقال له : العمريُّ وإبنُهُ ثِقَتان ، فَما أدّيا إليكَ عَني ، فَعَنِي يُؤدِيانِ ، وَما قَالا لكَ ، فَعَنِي يقولان ، فاسمَع لَهُما وأطِعهُما فإنَهُما الثَقّتانِ المأمونانِ ) الى آخر ( الخبر ) (2) الشريف .

( وهذه الطائفة أيضاً مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إعتبار خبر الثقة المأمون ) لانّ بعض هذه الطائفة من الأخبار ، وإن لم يبيّن المناط فيها باعتبار

ص: 20


1- - الكافي اصول : ج1 ص330 ح1 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص329 ح1 .

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرّواة والثقات والعلماء على وجه يظهر منه عدمُ الفرق بين فتواهم بالنسبة إلى أهل الإستفتاء وروايتهم بالنسبة إلى أهل العمل بالرّواية .

مثلُ قول الحجّة - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - لا سحاق بن يعقوب ، على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي : « وأمّا الحَوادِثُ الواقِعَةُ فارجعُوا فِيها إلى رُواة حديثنا ، فَإنّهُم حُجّتِيِ عَلَيكُم ، وَأنا حُجّةُ اللّه عَلَيهُم » .

-------------------

الثقة ، إلاّ انّ في بعضها الآخر كفاية في الدلالة على ذلك .

( ومنها ) أي : من الطوائف الدالة على حجية خبر الواحد ( ما دلّ على وجوب الرجوع الى الرّواة والثقاة والعلماء ) والأخيار دلالة ( على وجه يظهر منه : عدم الفرق بين فتواهم بالنسبة الى أهل الاستفتاء ، وروايتهم بالنسبة الى أهل العمل بالرّواية ) وهم المجتهدون .

( مثل قول الحجّة - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - لاسحاق بن يعقوب على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي : وَأَمّا الحَوادِثُ الواقِعَةُ ) ، والحوادث باعتبارها جمعاً محلّى باللام ، تفيد العموم ، فتشمل العبادات ، والمعاملات ، وسائر الأمور المرتبطة بالشريعة ، التي تقع صغرياتها بالنسبة الى الناس في كل زمان ومكان .

(فَارجِعُوا فِيها إلى رُواةِ حَديثنا ، فَإنَّهُم حُجَتِي عَلَيكمُ ، وَأنا حُجَةُ اللّه عَلَيهُم)(1)

ص: 21


1- - كمال الدين : ص440 ب45 ح4 ، الغيبة : ص177 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 منتخب الانوار المضيئة ص122 .

فانه لو سُلِمَ أنّ ظاهرَ الصدر الاختصاصُ بالرجوع في الحكم الوقائع إلى الرواة ، أعني الاستفتاء منهم ، الاّ أنّ التعليل بانّهم حجّته عليه السلام ، يدل على وجوب قبول خبرهم .

ومثلُ الرّواية المحكية عن العُدة من قوله عليه السلام : « إذا نَزَلَت بِكُمْ حادِثَةٌ لاتَجِدُونَ حُكمَها فِيما رُوي عَنّا ، فَانظُرُوا إلى ما رَوَوَهُ عن عَليّ عليه السلام » ، دلّ على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة

-------------------

بدلالة : إنّه كما يلزم إتباع أقوالهم عليهم السلام ، يلزم إتباع رواة أحاديثهم .

لا يقال : ان صدر الحديث دال على إنّ أجوبة الرّواة حجّة فقط ، دون فتاواهم إبتداءاً .

لأنّه يقال : ( فانه لو سُلِّمَ : انّ ظاهر الصدر ) وهو قوله « وأَما الحَوادِثُ الواقِعَةُ ، فارجعوا فيها الى رُواةِ حَديثنا » ( الاختصاص بالرجوع في الحكم الوقائع إلى الرّواة ، أعني : الاستفتاء منهم ، الاّ انّ التعليل ) في أخير الرّواية ( : بأنهم حجّته عليه السلام) على الناس ( يدلّ على وجوب قبول خبرهم ) أيضا ، بل لو لم يكن هذا الذيل ، لكان المناط دالاً على استواء الأمرين .

( ومثل الرّواية المحكية عن العُدة ) لشيخ الطائفة ( من قوله عليه السلام : إذا نَزَلَتْ بِكُمْ حادِثَةٌ لا تَجِدون حُكمَها فِيما رُويَ عنّا ) معاشر الأئمة من الحسن الى الامام المرّوي عنه ( فانظُروا إلى ما رَوَوهُ ) أي : روته العامة ( عن علي عليه السلام ) (1) .

فان هذا الحديث ( دل على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة

ص: 22


1- - عدة الاصول : ص61 ، وسائل الشيعة ج27 ص91 ب8 ح33294 .

مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة .

ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكريّ ، عليه السلام ، - في قوله تعالى :

«ومنهُم أُمِّيُّونَ لا يَعلَمُون الكِتابَ» الآية - من أنه قال رجلٌ للصادق عليه السلام :

« فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟

-------------------

مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة ) فاذا وجد المعارض ، لم يؤخذ برواية العامة ، بل وكذا فيما إذا كان هناك حديث عامي وحديث خاصي ولم يكن تعارض ، فإنّه يؤخذ بحديث الخاصي لا العامي .

( ومثل ما ) دل ( في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السلام في قوله تعالى : « ومِنهُم » ) أي : من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ونحوهما ( « أميونَ » ) نسبة الى الأم ، أي : لم يُحصِّلوا العلم بعد ، ولا يعرفون القراءة ، والكتابة ، والأحكام ، فهم ( « لا يَعلَمون الكِتابَ » ) (1) المنزل على أنبيائهم كالتوراة والانجيل ونحوهما الى آخر ( الآية ) المباركة .

( من أنّه قال رجلٌ للصادق عليه السلام : فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى ، لا يعرفون الكتاب الاّ بما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره ) أي : غير طريق السماع من علمائهم لأنهم جاهلون لا يتمكنون من الرجوع الى كتبهم ( فكيف ذمّهم اللّه بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ ) حيث قال سبحانه :« وَمِنهُم أُمِيّونَ لا يَعلَمُونَ الكِتَابَ » (2) ؟ .

ص: 23


1- - سورة البقرة : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 78 .

وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم فان لم يجز لاؤلئك القبولُ من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبولُ من علمائهم ؟ » .

فقال عليه السلام : « بَين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرقٌ بيّن من جهة وتسويةٌ من جهة .

-------------------

وذلك لوضوح : انّ الطريق الى معرفة الاحكام طريقان :

الاول : ان يعلم الانسان نفسه بالاجتهاد .

الثاني : ان يتبع العلماء بالتقليد .

وهؤلاء حيث لم يكونوا من القسم الأول ، كانوا مضطرين الى القسم الثاني وهو التقليد والرجوع الى علمائهم ، فلماذا ذمهم اللّه سبحانه وتعالى ؟ .

( وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا ) الذين ( يقلّدون علمائهم ، فان لم يجز لاؤلئك ) اليهود والنصارى ( القبولُ ) للأحكام ( من علمائهم ، لم يجز لهؤلاء ) أي : عوامنا ايضاً . ( القبولُ من علمائهم ؟ ) أي : علماء المسلمين .

والحاصل : أنّ عوام اليهود وعوام المسلمين ، على حد سواء في جواز الرجوع الى علمائهم ، وعدم الجواز ، فاذا جاز لعوامنا الرجوع الى علمائنا جاز لعوام اليهود الرجوع الى علمائهم ، فلماذا ذمهم اللّه سبحانه وتعالى؟ . ( فقال عليه السلام ) : ( بَينَ عَوامنا وعلمائنا ، وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة ) :

فالفارق هو : عدالة جملة من علمائنا ، والعوام الذين يتبعون هؤلاء العلماء ، إنما يتبعونهم على حق ، وليس في علماء اليهود عدول ، وعوامهم الذين يقلدونهم مع علمهم بفسقهم يكونون على باطل .

والتساوي هو : بالنسبة الى علمائنا الفسّاق ، والعوام الذين يتبعونهم مع علمهم بفسقهم ، وهؤلاء العلماء كعلماء اليهود ، وهؤلاء العوام الذين يتبعونهم كعوام

ص: 24

أمّا من حيث إستووا ، فانّ اللّه تعالى ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث إفترقوا فلا .

قال : بيّن لي يابنَ رسول اللّه!

قال : إنّ عوامّ اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّريح وبأكل الحرام والرّشاء وتغيير الأحكام عن وجهها بالشّفاعات والنّسابات والمصانعات ،

-------------------

اليهود ، كما قال : ( أمّا من حيث إستووا : فان اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علمائهم ) الفساق ( كما ذم عوامهم بتقليدهم علمائهم ) الفساق ، فلا فرق بين عوامنا وعوامهم في ذلك لأنّ التقليد للفاسق مذموم .

ولعلّ المراد بذم اللّه لعوامنا : ما ورد من المطلقات في الكتاب مثل قوله تعالى .

« وَلا تَقفُ ما لَيسَ لُكَ به عِلمٌ » (1) وقوله تعالى:« وَمِنَ الناسِ مَن يُجادِلُ في اللّه بِغَيِرِ عِلمٍ وَلا هُدى وَلا كِتَابِ مُنيرٍ » (2) .

الى غيرهما من الآيات الدالة على عدم جواز إتباع غير العلم والهداية ونحوهما ، وما ورد من السنّة في روايات مستفيضة تدل على عدم جواز اتباع غير العادل . ( وأمّا من حيث إفترقوا فلا ) ذمّ للّه سبحانه وتعالى لعوامنا الذين يتبعون علمائنا العدول .

( قال ) الرّاوي ( بيّن لي يابن رسول اللّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم فرقهما ؟ .

( قال : انّ عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح ) في امور دينهم ودنياهم ( وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الأحكام عن وجهها ) لأنهم يحلّون الحرام ويحرّمون الحلال ( بالشفاعات والنّسابات والمصانعات ) .

ص: 25


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الحج : الآية 8 .

وعرفوهم بالتعصب الشديد ، الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوقَ من تعصّبُوا عليه ، وأعطوا مالايستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعلموهم يتعارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ مَن فَعَلَ ما يفعلونه فهو فاسق ، لايجوز أن يصدّق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى .

-------------------

فالشفاعات تسبب انّ علمائهم يغيرون الأحكام ، وكذلك القرابات يقدّمونها على أحكام اللّه سبحانه وتعالى ، كما إن المصانعات وهي من الصنع مثل الرشوة والمداهنة وما أشبه ، تسبب لهم ذلك أيضاً .

كما ( وعرفوهم بالتعصّب الشديد ، الذي يفارقون به أديانهم ) فانهم بسبب التعصب ، يخرجون عن دينهم ، ويدخلون في المحرمات حتى درجة الإلحاد بالنسبة الى عقائدهم وكتبهم .

( و ) كذا قد عرفوهم ( انّهم إذا تعصّبوا ) أي : إذا تمايلوا الى أحد ، وأعرضوا عن أحد ( أزالوا حقوق مَن تعصّبُوا عليه ) أي : حق من نفروا عنه ، سواء كان حقه في المال ، أو في الزوجة ، أو في غير ذلك ( وأعطوا مالايستحقّه من تعصّبوا له ) ومالوا إليه في الحكم ( من أموال غيرهم ) ومن حقوقهم وما يرتبط بهم ( وظلموهم ) أي : ظلموا من تعصبوا عليه ( من أجلهم ) أي : من أجل من تعصبوا له .

( و ) كذا قد ( علموهم ) أي : علم العوام بأنّ علمائهم ( يتعارفون المحرمات ) أي : انّ إرتكاب المحرمات أمر متعارف عند علمائهم ، وليس شيئاً منكراً لديهم .

( و ) هؤلاء العوام قد ( إضطروا بمعارف قلوبهم ) يعني : إنهم كانوا حسب فطرتهم مضطرين ( الى ) معرفة ( إنّ من فعل مايفعلونه ) أي : مايفعله علمائهم ( فهو فاسق لا يجوز ان يصدّق على اللّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى )

ص: 26

فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لايجوز قبول خبره ، ولاتصديقه ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لايشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لاتظهر لهم .

وكذلك عوامُّ اُمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسقَ الظاهر ، والعصبيّة الشديدة والتّكالب

-------------------

فلا يجوز كلامهم على اللّه فيما ينقلونه من كتبهم المقدسة ، وكذلك لايجوز كلامهم على أنبياء اللّه الذين هم وسائط بين الخلق وبين اللّه سبحانه وتعالى .

( فلذلك ذمّهم ) اللّه تعالى ( لما قلّدوا ) أي : لتقليد هؤلاء العوام ( من عرفوا ومن علموا : انّه لايجوز قبول خبره ، ولاتصديقه ولا العمل بما يؤديه اليهم ) من الاخبار ( عمّن لايشاهدوه ) أي : الاخبار التي يؤدونها الى عوامهم عن لسان أنبيائهم لم يكن العوام يشاهدونها ولا يسمعونها من أنبيائهم .

( و ) لذلك ( وجب عليهم النظر ) والتأمل في تحصيل الدليل ( بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وانّه رسول حق ، لا أن يأخذوا عن علمائهم الّذين علموا انّهم يتعصبون ضد رسول اللّه ( اذ كانت دلائله ) ومعجزاته التي تدلّ على نبوته صلى اللّه عليه و آله وسلم ( أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لاتظهر لهم ) أي : لاولئك العوام .

فاذا علم العوام : انّ عالمهم فاسق ، وتمكن هو بنفسه من معرفة الحق ، فلايجوز له إتباع العالم الفاسق ، وإنّما يجب عليه النظر بنفسه حتى يعرف الحق من الباطل .

( وكذلك عوام أُمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة والتكالب ) .

ص: 27

على حُطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لاصلاح أمره مستحقّاً ، وبالترفرف بالبرّ والاحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً . فمن قلّد من عوامنا مثلَ هؤلاء الفقهاء ، فهم مثلُ اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لِفَسَقَةِ فقهائهم .

-------------------

وإنّما قيَّد الفسق بالظاهر : لأنّ الانسان ليس مكلَّفاً بباطن الآخرين ، ولا بما يفعلونه في خلواتهم ممّا لم يطّلع عليه .

والمراد بالتكالب : التنازع على اُمور الدنيا ، وهو مأخوذ من عمل الكلب الذي يتنازع على الجيف ، و ( على حطام الدنيا وحرامها ) .

وحطام الدنيا : زينتها التي تتحطم بعد قليل ، من قبيل حطام السنبل والشجر ، حيث له ظاهر جميل في وقتٍ ما ، ثم يتحول الى نفايات صالحة للحرق فقط .

( و ) كذا إذا عرفوا منهم ( إهلاك من يتعصبون عليه ) أي : على ضرره وظلمه ( وان كان لاصلاح أمره مستحقاً ) أي : انهم يظلمون من يتعصبون ضده وان كان من الناس المستحقين للإحسان والخدمة .

( و ) كذا إذا عرفوهم ( بالترفرف بالبرّ والاحسان على من تعصّبوا له ) والترفرف عبارة عن : تحريك الطائر أجنحته لأجل الوصول الى طعام ونحوه ، فهؤلاء العلماء الفسقة ، كالطائر بالنسبة الى من يوالونه ، حيث يغدقون عليه بالبرّ والاحسان وان لم يكن مستحقاً لذلك ، بل حتى ( وان كان للاذلال والاهانة مستحقاً ) .

وعليه : ( فمن قلّد من عوامنا ) نحن المسلمين ( مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ) لأنّ عوامنا وعوامهم في هذه

الجهة على حد سواء .

ص: 28

فأمّا مَن كَانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لدِينهِ ، مُخالِفاً عَلى هَواه ، مُطيعاً لأمرِ مَولاه ، فَلِلعَوامِ أَنْ يُقَلِّدوُهُ . وذلك لايكونُ إلاّ بعضَ فقهاء الشيعة ، لا جَميعَهُم .

-------------------

ثم ذكر عليه السلام مواصفات من يجوز من الفقهاء تقليده بقوله : ( فَامّا مَن كَانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لِدِينهِ ، مُخالِفاً عَلى هَواه ، مُطيِعاً لأمِرِ مَولاه ، فَلِلعوامِ أَنْ يُقلِّدوُه ) .

فهذه أربعة امور : إثنان للباطن ، وإثنان للظاهر ، إذ الشيء : إمّا اطاعة أو عصيان ،

وكلٌّ منهما : إمّا في الظاهر ، أو في الباطن ، فهي امور أربعة : - فصيانة النفس هو : حفظها عن المحرمات .

وحفظ الدّين في الظاهر هو : عدم العمل بالمحرمات .

وخلاف الهوى هو : أن يعمل في الباطن خلاف مايأمره به الهوى : من حب الدنيا ، والحسد ، والطمع ، ونحو ذلك .

وإطاعة أمر المولى هو : أن يؤدّي ماعليه من الواجبات .

فالنفس إما أن تترك المحرم وهو الصيانة ، وإما أن تفعل الواجب وهو خلاف الهوى .

وفي الظاهر : إمّا أن يترك المحرّم وهو حفظ الدّين ، وإمّا ان يفعل الواجب وهو إطاعة أمر المولى .

هذا ، ويمكن أن يقال في معنى الجمل الأربع غير ذلك .

وإنما قال : « مخالفاً على هواه » بلفظ على ، لأنّه يضر هواه بمخالفته له ، والمراد بالهوى : مايهويه الانسان ويميل اليه طبعه .

( وذلك لايكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ) لوضوح : إنّ بعض فقهاء

ص: 29

فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فَسَقَةِ فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ، ولا كرامة . وإنّما كثر التخليطُ فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها

-------------------

الشيعة أيضاً غير عدول .

( فأمّا من ركب ) أي : إرتكب ، من التشبيه بركوب الفرس ، لأنّه يركب هواه ويمشي كما يريد ( من القبائح والفواحش ، مراكب فسقة فقهاء العامة ) حيث إنّ العامة كانوا يميلون مع السلاطين ، ويفعلون المحرّمات لأجل إرضائهم وإتباع هوى أنفسهم ، كما يحكى ذلك عن أمثال أبي يوسف ، ويحيى بن أكثم ، وإبن أبي داود ، ومن أشبههم ممّن سودوا التاريخ بقبائحهم .

( فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ) فيما نقلوا عنّا من خبر ، أو نسبوا إلينا من أمر ، فانّ على العوام ان لايقلدوهم في شيء من هذه الاُمور ( ولا كرامة ) .

هذا ( وانّما كثر التخليط ) بين الصدق والكذب ، والحق والباطل ، والصحيح والسقيم ( فيما ) أي : في الأخبار والآثار التي ( يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ) التي ذكرت : من ركوب بعض الرّواة والفقهاء من الشيعة مراكب الانحراف ، كزعماء الواقفية ومَن أَشبههم ، ولذلك يقع الشيعة إلاّ الخُلّص منهم في الاشتباهات .

( لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا ) الأحاديث والرّوايات والتواريخ ونحوها ( فيحرّفونه بأسره ) أي : بجميعه ، ومعنى التحريف إرتكاب : الزيادة والنقيصة فيه ، كما فعلت الكيسانية والفطحية والواقفية ومن إليهم ، وذلك ( لجهلهم ) وعدم تعقلهم .

( ويضعون الاشياء على غير وجوهها ) فيغيّرون ويبدّلون من جهة الجهل ،

ص: 30

لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ماهو زادُهم إلى نار جهنّم .

ومنهم : قومٌ نُصّابٌ لايقدرون على القدح فينا ، فيتعلمون بعضَ علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وينتقصون بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه

-------------------

فيجعلون الأوامر الواجبة مستحبة وبالعكس ، والنواهي المحرمة مكروهة وبالعكس وما الى ذلك ( لقلّة معرفتهم ) بموازين الفقه والدّين .

( وآخرون ) من اولئك العلماء الفسقة ( يتعمدون الكذب علينا ) فينقلون الأخبار الكاذبة ( ليجرّوا ) الى أنفسهم ( من عرض ) أي : متاع ( الدّنيا ، ماهو زادهم الى نار جهنم ) .

وانّما سمي : عرضاً لأنه عارض يزول بسرعة ، بخلاف الآخرة فإنها الباقية ، وهذا العرض يكون مع اولئك كأنّه زادهم ، تشبيهاً بزاد المسافر الذي يستصحبه الى مقصده ، وهذا الزاد يكون مع هؤلاء الفسقة الى أن يدخلوا نار جهنم .

( ومنهم ) أي : من اولئك الرّواة والعلماء ، الذين يحرّفون أخبار الأئمة عليهم السلام ليسوا بشيعة ( قوم نصّاب ) ينصبون العداوة للأئمة عليهم السلام في بواطنهم ، و ( لايقدرون على القدح فينا ) علانية خوفاً من شيعتنا وموالينا ( فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون عند شيعتنا ) بذلك ويكونون وجهاء بها عندهم ( وينتقصون بنا عند أعدائنا ) أي : إنهم إذا كانوا عند الشيعة مدحونا ، لينالوا من دنيا اولئك الشيعة ، وإذا كانوا عند أعدائنا ، انتقصونا ، وذكروا أشياء كاذبة علينا ليحطّوا من قدرنا .

وهؤلاء النصّاب يتعلمون بعض الشيء من علومنا ( ثم يضعون اليه أضعافه

ص: 31

وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا ، التي نحن بُراءُ منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اُولئكَ أضَرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ، لعنه اللّه ، على الحسين بن عليّ عليه السلام » ، انتهى .

دلّ هذا الخبرُ الشريفُ اللائحُ منه آثارُ الصدق على جواز قبول قول من

-------------------

وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا ، التي نحن بُراء منها ) أي : من تلك الأكاذيب ( فيقبله ) أي : يقبل الكذب الذي يلفّقه اولئك ( المستسلمون من شيعتنا ) أي : المستضعفون منهم ، الذين لايعرفون الحق من الباطل ، ولا يميزون الصواب من الخطأ فيقبلونه ( على انّه من علومنا ) الذي أفضناه على اولئك الرّواة الفسقة .

( فَضَلّوا ) أي : هؤلاء الفسّاق النصّاب ( وأَضَلّوا ) أي : المستسلمين المستضعفين من الشيعة الّذين يظنّون بأولئك الفساق خيراً .

ثم قال عليه السلام : ( اولئك ) الفسّاق النصّاب ( أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه اللّه على الحسين بن علي عليه السلام ، انتهى ) (1) .

وإنّما كانوا أضرّ ، لأنّ يزيد ذهب بدنيا الحسين عليه السلام فقط ، وذلك مؤقتاً ، حيث إعتلى بعدها شأن الحسين عليه السلام الى يومنا هذا ، أمّا هؤلاء فيذهبون بدنيا شيعتنا وآخرتهم .

( دلّ هذا الخبر الشريف اللائح ) أي : الظاهر ( منه آثار الصدق ) للبيان الوافي الشافي ، والاستدلال المقنع الكافي ( على جواز قبول قول من

ص: 32


1- - الاحتجاج : ص458 ، تفسير الامام عليه السلام : ص301 ، وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 بالمعنى .

عُرِفَ بالتحرّز عن الكذب وإن كان ظاهره إِعتبار العدالة بل مافوقها . لكنّ المستفاد من مجموعه أنّ المناط في التصديق هو التحرّزُ عن الكذب ، فافهم.

-------------------

عُرِفَ بالتحرّز عن الكذب ) لأنّه ذم بعض العلماء الذين يتعمدون الكذب من الشيعة ، وذم النصّاب من غير الشيعة الذين تعلّموا بعض علومهم عليهم السلام وأضافوا اليها الأكاذيب .

هذا ( وان كان ظاهره : إعتبار العدالة ، بل مافوقها ) فلايكفي على ذلك خبر الثقة .

وإنّما كان ظاهر الخبر : إعتبار العدالة بل مافوقها ، لأنه عليه السلام قال : « مَن كانَ مِن الفُقَهاءِ ، صائِناً لِنفسهِ» الى آخر الصفات الأربع .

وإنّما اعتبرت الرّواية ، الصفات النفسية سلباً وإيجاباً ، لأنّ العدالة ملكة .

( لكن المستفاد من مجموعه ) أي : مجموع هذا الخبر ( انّ المناط في التصديق هو : التحّرز عن الكذب ) بأن يكون الرّاوي ثقة ، وذلك لأنّ قوله : « من كان من الفقهاء » الى آخره ، ذكر قبال الشيعة الذين هم كالعامة والنصّاب .

ومن المعلوم : انّ الثقة ليس من أحدهما ، فيدلّ الذيل على حجّية خبر الثقة ، والصدر كأنه سيق مقدمة للذيل ، فالذيل قرينة للمراد من الصدر ، حاله حال : «أسد يرمي» ، حيث انّ « يرمي» يكون قرينة للمراد من « الأسد» .

( فافهم ) لعله إشارة الى انّه لو كان المراد منه : الثقة فقط ، لم يكن وجه لاستدلال العلماء - على وجوب عدالة المفتي والقاضي - بهذا الخبر ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ العدالة فهمت من الأدلة الخارجية .

ص: 33

ومثل ما عن أبي الحسن عليه السلام ، فيما كتبه جواباً عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدّين ، قال عليه السلام : « إِعتَمِدا فِي دينِكُما عَلى كُلّ مُسِنٍّ في حُبِّنا ، كَثيرُ القِدمِ فِي أَمرِنا» .

وقوله عليه السلام في رواية اُخرى : « لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دِينكَ مِن غير شيعَتِنا ، فانّك إن تَعَدّيتَهُم أَخذتَ دِينَكَ مِنَ الخائِنيِنَ الّذينَ خانُوا اللّه َ ورَسُولَهُ وخانُوا أماناتِهِم .

-------------------

( ومثل ما عن أبي الحسن ) علي بن محمد النقيّ ( عليه السلام فيما كتبه جواباً عن السؤال ) حيث سأل أحمد بن حاتم وأخوه عنه عليه السلام ( عمّن يعتمد عليه في الدّين ؟ ) .

ف ( قال عليه السلام : إعتَمِدا فِي دينِكُما عَلى كُلِّ مُسِنٍّ فِي حُبِنا ، كَثيرُ القِدمِ فِي أَمِرِنا ) (1) .

وإنّما إشترط المسنّ في حبهم ، لأنّه لايتزلزل كما يتزلزل غير المسنّ في ذلك أحياناً ، بسبب مال ، أو جاه ، أو ما أشبه .

وكثرة القِدَم عبارة عن كثرة الرّواية عنهم عليهم السلام وكثرة التحرك في جهتهم وموالاتهم ، فانّ مثل هذا الشخص يكون مأموناً ومعتمداً عليه في اُمور الدين والدنيا .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام ، في رواية اُخرى : لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دِينِكَ مِن غَير شِيعَتنا ، فانّك إن تَعَدّيتَهُم ) أي تجاوزت عنهم الى غيرهم ( أَخذتَ ديِنَكَ مِنَ ) الكذّابين ( الخائِنيِنَ الّذينَ خانُوا اللّه َ ورسوله ، وخانُوا أَماناتِهم ) .

ص: 34


1- - بحار الانوار ج2 ص82 ب14 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص151 ب11 ح33460 مع تفاوت .

إنَّهمُ ائتُمِنوا عَلى كِتاب اللّه ِ فَحَرّفُوهُ وبَدَّلُوهُ» الحديث .

وظاهرهما وإن كان الفتوى ، إلاّ إنّ الإنصاف شمولُهما للرّواية بعد التأمّل ، كما تقدّم في سابقتهما .

-------------------

ثم بيّن عليه السلام بأنهم كيف كانوا خائنين ؟ بقوله : ( إنَّهُم ائتُمِنوا عَلى كِتاب اللّه ) أي : جعل كتاب اللّه أمانة عندهم ، حيث قال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : - « اني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ..» (1) .

( فَحَرّفُوهُ ) أي : حرفوا أحكامه ، وفسّروه بتفاسير غير صحيحة ( وبَدَّلُوهُ ) (2) أي : زادوا ونقصوا فيه ، فانّ الشخص المنحرف قد يحرّف الحكم بأن يجعل مكان الامام غير الامام فيروي - مثلاً- عن الامام الصادق عليه السلام ، لكن باسم إسماعيل بن الامام الصادق عليه السلام وقد يحرّف الحكم بأن يجعل الحرام حلالاً ، كأن يجعل لحم الكلب حلالاً ، الى آخر ( الحديث ) الشريف .

( وظاهرهما : ) أي : ظاهر هذين الخبرين الأخيرين المرويين عن أبي الحسن الثالث عليه السلام ( وان كان الفتوى ) أي انّهما بصدد تعيين المفتي .

( إلاّ إنّ الانصاف شمولهما للرّاوية بعد التّأمل ) فانّ المناط في المفتي آت في الرّاوي أيضاً ، فكما انّ الانسان يعتمد على المفتي ، كذلك يعتمد على الرّاوي ، بل مناطهما يشمل القاضي أيضاً (كما تقدّم في سابقتهما)من الرّوايات المفصلة في ذلك.

ص: 35


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص45 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون اخبار الرضا : ص62 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص82 ب14 ح2 ، رجال الكشّي : ص4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33457 .

ومثلُ مافي كتاب الغيبة ، بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفيّ خادم الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح رحمه اللّه ، حيث سأله أصحابه عن كُتُب الشلمغانيّ .

فقال الشيخ : « أقولُ فيها ما قاله العسكريّ عليه السلام ، في كتب بني فضّال ، حيث قالوا له : مانصنعُ بكُتُبِهِم وبُيُوتُنا مِنها مِلاء ؟ قال : خُذُوا مارَوَوا ، وَذَرُوا ما رَأوا» .

-------------------

( ومثل ما في كتاب الغيبة ، بسنده الصّحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبو القاسم : الحسين بن روح - رحمه اللّه - حيث ) قال : ( سأله ) أي : سأل الشيخ أبا القاسم : الحسين بن روح ، بعض ( أصحابه عن ) إعتبار ( كتب ) محمد بن علي ( الشلمغاني ) . والشلمغاني هذا ، كان من فقهاء الشيعة ، وكتب كتباً على مذهبهم ، ثم إِتخذ مذهباً فاسداً حسداً على مقام الشيخ أبي القاسم رحمه اللّه ، فقد حسده لأنّ الحجّة عجل اللّه تعالى فرجه ، جعل الحسين بن روح نائباً له دون الشلمغاني .

( ف ) لما سئل الحسين بن روح عن كتب الشلمغاني التي كتبها في زمان إستقامته ( قال الشيخ : أقول فيها ماقاله العسكري عليه السلام ، في كتب بني فضّال ) . فانّهم كانوا إماميين ثقاة وقد كتبوا كتباً ، ثم إنحرفوا ، وبقيت كتبهم في أيدي الشيعة ، فانهم ( حيث قالوا له ) أي : قال الرّواة للامام العسكري عليه السلام : ( مانَصنَعُ بِكُتُبِهِم وَبُيُوُتُنا مِنها مِلاء ؟ ) أي : بيوتنا ممتلئة من كتب بني فضال .

( قال عليه السلام : خُذُوا مارَوَوا ، وَذَرُوا مارَأوا ) (1) أي : خذوا رواياتهم لأنّهم ثقاة وإتركوا أفكارهم وآرائهم لانّها منحرفة .

ص: 36


1- - بحار الانوار : ج2 ص252 ب29 ح72 ، الغيبة للطوسي : ص390 .

فانّه دلّ بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضّال وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم .

ولهذا إنّ الشيخ الجليل المذكور الذي لايظنّ به القولُ في الدّين بغير السماع من الامام عليه السلام ، قال : « أقول في كتب الشلمغانيّ ما قاله العسكريّ عليه السلام ، في كتب بني فضّال» . مع أنّ هذا الكلام بظاهره قياسٌ باطل .

-------------------

( فانّه ) أي : جواب الامام العسكري عليه السلام هذا ( دلّ بمورده ) أي : بسبب مورده المذكور في الرّواية ( على جواز الأخذ بكتب بني فضّال وبعدم الفصل : على كتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم ) فانّ الأُمة لم تُفرّق بين كتب بني فضّال ومارووا فيها وكتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم فيها .

( ولهذا ) أي : لأجل دلالة خبر الامام العسكري عليه السلام على اعتبار روايات سائر الثقاة ، لما عرفت : من عدم القول بالفصل نرى ( انّ الشيخ الجليل ) الحسين بن روح ( المذكور الذي لايظن به القول في الدّين بغير السّماع من الامام عليه السلام ) فانّه من وثاقته ، وعدالته ، وجلالة قدره ، لايحتمل في حقه : أن يحكم بحكم من طريق العقل غير المدعوم من الشرع .

( قال : أقول في كتب الشلمغاني ماقاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال ) فانّ هذا من المناط القطعي لا القياس .

( مع انّ هذا الكلام بظاهره قياسٌ باطلٌ ) لو لم يكن هناك مناط ، فانّه في الحقيقة قد تمسك بقول الامام العسكري عليه السلام ، لأنّ مناطه آت في كتب سائر من كتب كتباً صحيحة ، ولو إنحرف بعد ذلك ، فانّ إنحرافه المتأخر ، لايؤثر في رواياته المتقدِّمة ، التي رواها في حال وثاقته .

ص: 37

ومثلُ ماورد مستفيضاً في المحاسن وغيره : « حَديثٌ واحِدٌ في حَلالٍ وَحَرام ، تَأخُذُه مِن صادِقٍ ، خَيرٌ لك مِن الدُّنيا وَما فيها مِن ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ .

وفي بعضها : يأخُذُه صادِقٌ عَن صادِق» .

ومثلُ ما في الوسائل عن الكشّيّ ، من أنّه ورد توقيعٌ على القاسم بن العلي ، وفيه : « إنّهُ لاعُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالينا فِي التَشكِيكِ فِيما يروِيهِ عَنّا ثِقاتُنا

-------------------

( ومثل ماورد مستفيضاً في ) كتاب ( المحاسن وغيره : حَديثٌ واحِدٌ في حَلالِ وَحَرامِ ، تأخُذُهُ مِن ) شخص ( صادِقٍ ، خَيرٌ لَكَ مِن الدُّنيا وَمَا فيها مِن ذَهبٍ وَفِضَةٍ ) (1) وذلك لأنّ الدنيا مهما كانت ثمينة ، فانها زائلة بينما الآخرة باقية ، والباقي أثمن من الزائل بلا اشكال .

( وفي بعضها ) أي : في بعض تلك الاخبار المستفيضة ماهذا لفظة ( : يأخُذُهُ صادِقٌ عَن صادِق ) (2) والمراد : صدق الواسطة أيضاً ، لئلا يكون السند غير صحيح .

( ومثل ما في الوسائل عن الكشّيّ : من انّه ورد ) عن صاحب الأمر صلوات اللّه عليه ( توقيع ) والمراد بالتوقيع : الإمضاء ، وكان يطلق أحياناً على الإمضاء وعلى مايتقدمه من كلمة قصيرة أو نحوها ، حول موضوع مرتبط بأمر مهم ، كما كان عادة الخلفاء ، والامراء ، ومن أشبههم ذلك .

( على القاسم بن العلي ، وفيه : إنَّهُ لا عُذرَ لأَحَدٍ مِن مَوالِينا فِي التَشكيك ) أي : لا يجوز لشيعتنا أن يترددوا ( فيما يَرويِه عَنّا ثِقاتُنا ) وإنّما لا يجوز لأحد

ص: 38


1- - المحاسن : ص227 ح156 ، وسائل الشيعة : ج27 ص98 ب8 ح33313 مع تفاوت يسير .
2- - الاختصاص : ص61 ، بحار الانوار : ج2 ص150 ب19 ح26 .

قَد عَلِمُوا أنّا نُفاوضُهُم سِرَّنا وَنَحمِلهُ إليهم» .

ومثلُ مرفوعة الكناني عن الصادق عليه السلام ، في تفسير قوله تعالى : «وَمَن يَتّقِ اللّه يَجعَلُ لَهُ مَخرَجاً وَيَرزُقُهُ مِن حَيثُ لايَحتَسِبُ» . قال : « هولاءِ قَومٌ مِن شِيعَتِنا ضُعَفاء ، وَلَيسَ عِندَهُم مايَحتَمِلُونَ بهِ إلَينا فَيَستَمِعُونَ حَدِيثَنا وَيُفتّشُون مِن عِلمِنا ، فَيَرحَلُ قَومٌ فَوقَهُمْ ويُنفِقُونَ أَموالَهُمْ ويتُعِبونَ أَبدانَهُم ، حَتّى يَدخُلوا عَلينا

-------------------

منهم التشكيك لأنّ شيعتنا ( قَد عَلِمُوا : أنّا نُفاوِضهُم سِرّنا ) أي : نلقي الى الثقاة الامور المحكية المرتبطة بنا ، ممّا لايتحمله العامة ( ونَحمِلُهُ ) أي : السّر ( إليهم ) (1) أي الى الثقاة .

( ومثل مرفوعة الكناني عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : « وَمَن يَتَّقِ اللّه َ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً * ويَرزُقُهُ مِن حَيثُ لايَحتَسبُ» (2) أي : انّ فائدة التقوى هو : انّ اللّه سبحانه وتعالى يجعل للمتقي مخرجاً من مشكلاته ، كالمرض ، والعدو ، والفقر ، وما أشبه ، ويرزقه من حيث لايظن إنه يرتزق من تلك الجهة .

( قال : هؤلاء ) أي : المتقون ( قَومٌ مِن شِيعَتِنا ضُعفاءَ ) من حيث المال ( وَلَيسَ عِندَهُم مايَحتَمِلوُنَ بهِ إلينا ) أي : ليس لهم إمكان الوصول الينا بسبب فقرهم ( فَيَسمَعُون حَدِيثنا ، وَيُفَتِشُونَ مِن عِلمِنا ) فهم يبقون في بلادهم لعجزهم .

( فَيَرحَلُ قَومٌ فَوقَهُم ) في المال والوسيلة ( وَيُنفِقُون أَموالَهم ، ويُتعِبونَ أبدانَهُم ، حَتى يَدخلوا عَلينا ) في بلادنا ، كما إذا كنا في المدينة المنورة ،

ص: 39


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 مع تفاوت ، رجال الكشّي : ص536 وفيه يؤديه ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .
2- - سورة الطلاق : الآيات 2 - 3 .

ويَستَمِعوا حَديثَنا فَيَنقلبوا إِلَيهِم فَيَعيه اولئك ويُضيّعُهُ هؤلاء . فاولئك الّذينَ يَجعَل اللّه ُ لَهُم مَخرَجاً وَيَرزُقُهُم مِن حَيثُ لايَحتَسِبُونَ» .

دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يُضيّعُهُ ولايعمل به .

ومنها : الأخبارُ

-------------------

أو في مكة المكرمة أو في بغداد ، أو في خراسان - مثلاً- ( وَيَستَمعوا حَديثَنا فَيَنقَلِبوا إليهم ) : الى ضعفاء شيعتنا وينقلون إليهم أحاديثنا .

( فَيَعيه ) أي : يأخذه ويعمل به ( اولئك ) الضعفاء ( وَيُضيّعُهُ ) أي : يترك العمل بالاحاديث ( هؤلاء ) المرتحلون ، لأنّ المرتحلين أحياناً يكونون من المسرفين الذين لايهمهم الأمر .

( فاولئك ) الواعين لاحاديثنا ، هم الضعفاء ، ( الذّينَ يَجعَل اللّه لَهُم مَخرَجاً ) من مشكلاتهم ( وَيَرزُقُهُم مِن حَيثُ لايَحتَسِبون ) (1) من علومنا بسبب هؤلاء الوسائط .

إذن : فالوسائط ربّما كانوا هم من العاملين أيضاً ، وربّما كانوا من غير العاملين كما إذا كانوا من المترفين الذين يهوون الأسفار وجمع الأحاديث لكنهم ثقاة في نقلهم وإن كانوا مضيعين في عملهم ، فانّ هذا الخبر ( دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يضيّعه ولايعمل به ) لأنّ المعيار الوثاقة في اللّسان ، لا العمل بالأركان ، لما عرفت : من انّه لايجب أن يكون ناقل الخبر عادلاً .

( ومنها ) أي : من الطوائف التي تدل على حجّية خبر العادل أو الثقة ( الأخبار

ص: 40


1- - الكافي روضة : ج8 ص178 ح1 وفيه عن محمد الكناسي ، وسائل الشيعة : ج27 ص90 ب8 ح33290 ، تفسير الصافي : ص712 .

الكثيرةُ التي يظهر من مجموعها جوازُ العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كلّ واحد على ذلك نظرٌ .

مثل النبويّ المستفيض بل المتواتر : « إنّهُ مَن حَفِظَ عَلى اُمَتي أَربَعيِنَ حديثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالماً يومَ القيامة» . قال شيخنا البهائيّ قدس سره ، في أوّل أربعينه : « إنّ دلالة هذا الخبر على حجّية خبر الواحد لايَقصُرُ عن دلالة آية النّفر» .

-------------------

الكثيرة ، التي يظهر من مجموعها : جواز العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كل واحد ) واحد ( على ذلك ) الجواز ( نظر ) وإنّما يجوز العمل لحصول التواتر فيها ، والتواتر يعمل به وإن كان كل فرد فرد من أفراده لايعمل به وحده .

لايقال : كيف يسبب غير الحجّة بسبب الاجتماع الحجّة ؟ .

لأنّه يقال : انّه يوجب تراكم الظّنون ، كما يسبب قطرات السيل الهادم للأبنية بسبب التجمع ، وإن لم يكن في كل قطرة منها هذه النتيجة .

( مثل النبوي المستفيض بل المتواتر : إنّهُ مَن حَفِظَ عَلى أُمتي أَربَعِينَ حديثاً

بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عَالِماً يَومَ القِيامةِ ) (1) والفرق بين الفقه والعلم إذا تقابلا ، انّ العلم هو : ما إستوعبه الانسان والفقه هو الفهم والدراية والتحقيق والتدقيق في الأخبار .

( قال شيخنا البهائي قدس سره في أوّل أربعينه : انّ دلالة هذا الخبر على حجّية خبر الواحد ، لايقصر عن دلالة آية النفر ) (2) فكما انّ آية النفر تدل على حجيّة خبر الواحد ، يدل هذا الخبر على حجيّته أيضاً وإلاّ ماالفائدة في الحفظ على الاُمة

ص: 41


1- - الاربعون حديثا : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 ، بحار الانوار : ج2 ص156 ب20 ، غوالي اللئالي : ج1 ص95 ، منية المريد : ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .
2- - الاربعون حديثا : ص306 ، وسائل الشيعة : ج27 ص99 ب8 ح33317 مع تفاوت .

ومثلُ الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرّواية والحَثّ عليها وإبلاغ مافي كتب الشيعة ، مثل ماورد في شأن الكتب التي دفنوها لشدّة التقيّة . فقال عليه السلام : « حَدِّثُوا بِها فَانّها حَقٌ» .

ومثل ماورد في مذاكرة الحديث والأمر بكتابته .

مثل قوله للرّاوي : « اُكتب وَبُثَّ عِلمَك فِي بَني عَمِّكَ ، فإنَّهُ

-------------------

بالنسبة الى أخبار لايتمكنون من العمل بها لعدم حجّية خبر الواحد ؟ .

( ومثل الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرّواية والحَث عليها ، وإبلاغ مافي كتب الشيعة ) الثقاة الى الذين يريدون العمل بها .

( مثل ماورد في شأن الكتب التي دفنوها لشدة التقية ) فانّ جلاوزة السلطان كانوا يأتون الى البيوت لالقاء القبض على أصحابها الشيعة وحيث إن الكتب كانت وثيقة لمكاتبتهم وموالاتهم للأئمة الطاهرين ، كان أصحاب البيوت يدفنونها حذراً من العثور عليها ، فتتلف تحت الأرض .

( فقال عليه السلام : حَدّثُوا بِها فَانَّها حَقّ ) (1) يعني : إنّ تلك الكتب إذا دفنت ، فانّ أصحابها يتمكنون أن يتحدثوا بما فيها ، لأنهم كانوا في كثير من الأحيان يحفظون الرّوايات ولو بالمعنى .

( ومثل ما ورد في ) مدح وثواب ( مذاكرة الحديث ، والأمر بكتابته ) أي : كتابة الحديث ، فانهم كانوا يجتمعون ، ويتحدث بعضهم الى بعضه بالأحاديث التي سمعها وتعلمها ، وكذلك كانوا يكتبون الأحاديث لحفظها من الضياع .

( مثل قوله عليه السلام للرّاوي : أُكتب وَبُثَّ ) أي : إنشر ( عِلمَك فِي بَني عَمِّك ، فإنَّهُ

ص: 42


1- - الكافي اصول : ج1 ص53 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص84 ب8 ح33272 .

يأتي زَمان هَرجٌ ، لايأنسُون إلاّ بكُتُبِهِم» .

وما ورد في ترخيص النقل بالمعنى .

وماورد مستفيضاً ، بل متواتراً ، من قولهم عليهم السلام : « إعرِفُوا مَنازِلَ الرِّجالِ مِنّا بِقَدَرِ روايَتِهِم عَنّا» .

وما ورد من قولهم عليهم السلام : « لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا مَن يَكذِبُ عَلَيهِ» .

-------------------

يأتِي زَمانُ هَرجٌ ) يكون أمر الناس فيه فوضى ، فلا يتمكنون من الوثوق بأحد ، ولا يستطيعون من الخروج والاستئناس بأصدقائهم ، ف( لايأنسُون ) اولئك الذين وقعوا في ذلك الزمان ( إلاّ بكُتُبِهم ) (1) التي يتوارثونها منكم ، فانّ الكتاب أحد الأنيسين . ( و ) مثل ( ما ورد في ترخيص النقل بالمعنى ، و ) كذلك ( ماورد مستفيضاً بل متواتراً من قولهم عليهم السلام : إعرِفُوا مَنازِل الرِّجالِ مِنّا بَقَدَرِ رِوايَتِهِم عنّا ) (2) ممّا يدل كل ذلك على حجّية الخبر ، إذ لولا حجّيته لم يكن في نقله بالمعنى من جدوى ، ولا في تقدير رواته من فائدة .

( و ) مثل ( ما ورد من قولهم عليهم السلام لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا ) أهل البيت عليهم السلام ( مَن يَكذِبُ عَلَيه ) (3) أي : يسند إليه الأخبار الكاذبة ، واسناد الأخبار الكاذبة اليهم امّا لأنّ يسندوا بها رأيهم ، أو لأن يستأكلوا بتلك الأخبار المكذوبة ، أو لأن يشوّهوا بها على أهل البيت عليهم السلام .

وعليه : فلو لم تكن الأخبار الآحاد حجّة ، لم يكن في الكذب عليهم فائدة ،

ص: 43


1- - الكافي : ج1 ص52 ح11 مع تفاوت ، وسائل الشيعة : ج27 ص81 ب8 ح33263 .
2- - رجال الكشي، ص3 ، وفيه (اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا) .
3- - المعتبر : ص6 .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتَكثُرُ بَعدِي القالة ، وَإنّ مَن كَذَبَ عَليَّ فَليَتَبَّوء مَقعَدَهُ مِنَ النّار» . وقول أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّا أهلُ البيت صِدّيقُون ، لانخلوا من كَذّاب يَكذِبُ عَلينا » . وقوله عليه السلام : « إِنّ الناسَ اُولِعُوا بالكذب عَلينا ، كَأنّ اللّه إِفترَضَ عَلَيهم وَ لا يُريدُ مِنهُم غَيره » .

-------------------

لأنّ الناس ماكانوا يقبلونها ، فهو إذن يدلّ على قبول الناس للاخبار في زمانهم عليهم السلام .

( و ) مثل ( قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : سَتَكثُرُ بَعدِي القالَة ) جمع : قائل ، على وزن باعة جمع بائع ، معنى : من يتقوّل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وينسب الأخبار الكاذبة اليه .

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( وَإنّ مَن كَذَبَ عَلَيَّ فَليَتَبَّوء مَقعَدَهُ مِنَ النّار ) (1) أي : يحجز له محل قعود في نار جهنم ، بمعنى انّ الكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يسبب للكاذب دخول النار . ( وقول أبي عبد اللّه عليه السلام : إنّا أَهلُ البيت صِديقُون لا نَخلُوا مِن كَذّاب يَكذِبُ عَلَينا ) (2) فانّ الكذّابين - كما عرفت - إنّما كانوا يكذبون عليهم للاستفادة من شيعتهم ، أو للتشويه على الأئمة الطاهرين عليهم السلام أو لتقوية ماكانوا يقولون به من الفتوى والحكم ليقبل الناس منهم .

( وقوله عليه السلام إنَّ النّاسَ اولِعُوا ) أي : صار لهم حرص شديد ( بالكذبَ عَلَينا ، كَأنّ اللّه إفترضَ عَلَيهم ) أي : أوجب عليهم أن يكذبوا علينا ( و ) اللّه كأنّه ( لايُريدُ مِنهم ) أي : من الناس ( غَيرَه ) (3) أي : غير الكذب علينا .

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص62 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص264 ب2 ح5762 (مع تفاوت) ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 و ص258 .
2- - رجال الكشي : ص108 ، بحار الانوار : ج2 ص217 ب28 ح12 وفيه صادقون .
3- - رجال الكشي : ص136 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 (بالمعنى) .

وقوله عليه السلام : « لِكُلّ مِنّا مَن يَكذِب عَليه» .

فانّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذابة ، والاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة .

-------------------

( وقوله عليه السلام : لِكُلٍّ مِنّا مَن يَكذِبُ عَلَيه ) (1) أي : إن بازاء كل واحد من الرسول وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين كان كذاباً معاصراً لهم ، يفتري الأَخبار الكاذبة عليهم ، وهذا الالفات منهم عليهم السلام الى وجود الكذابين ، وإفترائهم الأخبار الكاذبة عليهم ، لو لم يكن الخبر الواحد حجّة عند المسلمين لم يكن له وجه .

وعليه : فقد دلّت هذه الأخبار على حجّية خبر الواحد ، الذي هو المقصود في هذا البحث ، وقد ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات ، لم يكثر القالة والكذابة ) على الرسول وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ولكان إختراع الأخبار الكاذبة المنسوبة اليهم لغواً لأنّ المسلمين لم يعملوا بأخبار الآحاد .

( و ) إن قلت : إنّ بناء المسلمين لم يكن على العمل بالخبر المجرد بل المحفوف بالقرائن القطعية فليستعينوا بها للوصول الى مآربهم .

قلت : هذا الإحتمال مردود لأنّ ( الاحتفاف بالقرينة القطعية في غاية القلة ) عندنا والأخبار المكذوبة لم تكن محفوفة بالقرائن القطعية حتى يأخذها المسلمون ، فلم يكن إذن وضعهم للأخبار إلاّ لأنّ عموم الخبر الواحد كان حجّة عند المسلمين .

ص: 45


1- - المعتبر : ص6 .

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمة عليهم السلام ، بالعمل بالخبر وإن لم يُفد القطع .

وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدرَ المتيقّنَ منها هو خبرُ الثقة الذي يَضعُفُ فيه إحتمالُ الكذب ، على وجه لايعتني به العقلاء ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال ، كما دلّ عليه أَلفاظ الثقة والمأمون والصادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة ،

-------------------

( إلى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد من مجموعها : رضى الائمة عليهم السلام بالعمل بالخبر وان لم يفد القطع ) وكذلك رضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإن أمثال هذه الأخبار ، كما وردت عنه وردت عنهم صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين .

( وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدر المتيقن منها) أي : من تلك الأخبار الدالة على حجّية خبر الثقة ليس كل ثقة ، وانّما ( هو خبر الثقة التي يضعف فيه إحتمال الكذب ، على وجه لايعتني به ) أي : باحتمال الكذب فيه ( العقلاء و ) ممّا يوجب الاطمئنان به .

بل ( يقبّحون التوقف فيه ) أي : في ذلك الخبر ( لأجل ذلك الاحتمال ) أي : إحتمال الكذب ، فانّ إحتمال الكذب كان ضعيفاً في غاية الضعف .

( كما دلّ عليه ) أي : على انّ الخبر الذي هو ثقة وفي منتهى الوثاقة حجّة ، لا كل خبر ثقة وإن كان فيه إحتمال الكذب قوياً .

(الفاظ: الثقة ، والمأمون ، والصادق ، وغيرها الواردة) من العناوين ( في الأخبار المتقدّمة ) الواردة مثل قوله عليه السلام : « خذ بأوثقهما في نفسك» (1) وقوله : « المأمون

ص: 46


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وهي أيضاً مُنصَرَفُ إطلاق غيرها .

وأمّا العدالةُ ، فأكثر الأخبار المتقدّمة خاليةٌ عنها ، بل وفي كثير منها التصريحُ بخلافه ، مثل رواية العُدّة الآمِرَة بالأخذ بما رووه عن عليّ عليه السلام ، والواردة في كُتب بني فضّال ،

-------------------

على الدين والدنيا» (1) ، وما أشبه ذلك .

( وهي أيضاً مُنصَرَف إطلاق غيرها ) أي : غير هذه الأخبار من الأخبار التي ليس فيها أحد هذه العناوين ، وانّما هي تدل على حجّية الخبر مطلقاً فانّها محمولة على هذه الأخبار بسبب حمل المطلق على المقيد ، أو إنّها منصرفة الى مافي هذه الاخبار من العناوين الخاصة على ماعرفت .

هذا بالنسبة الى إعتبار الوثاقة في الرّاوي .

( وأمّا العدالة : فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه ) ممّا يدل على عدم اشتراط العدالة ( مثل رواية العُدّة (2) الآمرة بالأخذ بما رووه ) أي العامة ( عن عليّ عليه السلام ) فانهم ليسوا من العدول - كما هو واضح - إلاّ على ما ذكره المسالك : « من أنّ عدالة كل قوم بحسبهم» .

( و ) مثل الأخبار ( الواردة في ) إعتبار ( كتب بني فضّال ) (3) فانّهم لم يكونوا عدولاً . لكن ربّما يقال : انّ بني فضّال كتبوا كتبهم في زمان عدالتهم ولايضّر

ص: 47


1- - رجال الكشّي : ص595 ، وسائل الشيعة : ج27 ص146 ب11 ح33442 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح68 ، الاختصاص : ص87 .
2- - عدة الاصول : ص61 ، وسائل الشيعة : ج27 ص91 ب8 .
3- - الغيبة : ص240 .

ومرفوعة الكناني ، وتاليها .

نعم ، في غير واحد منها حصرُ المعتمد في أخذ معالم الدّين في الشيعة ، لكنّه محمول على غير الثقة

-------------------

إنحراف الرّاوي بالرّوايات التي رواها حال الاستقامة ، فانّ الاعتبار هو حين الرّواية ، لا قبل ذلك أو بعده . ( و ) مثل ( مرفوعة الكناني ) (1) المتقدِّمة في تفسير قوله تعالى : « وَمَنْ يتقِ اللّه يَجعَل لهُ مَخرَجا» (2) فانّها تدلّ على جواز العمل بأخبار من يروي ماسمعه من الأخبار وهو لا يعمل بها .

( و ) مثل ( تاليها ) أي تالي رواية الكناني ، ولعل مراد المصنّف من التالي هو الحديث المتواتر : - « مَن حَفِظَ عَلى اُمتي أَربَعينَ حَديثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقيِهاً عالِماً يومَ القيامةِ» (3) الى غير ذلك ممّا ظاهرهُ عدم التقييد بالعدالة .

( نعم ، في غير واحد منها ) أي : من الأخبار ( حصر المعتمد في أخذ معالم الدّين ) منه ( في الشيعة ) كما تقدّم من قوله عليه السلام : « لاتأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا» (4) .

( لكنّه محمول على غير الثقة ) إذ يجوز أخذ الخبر من الثقة ، وان كان فطحياً ، أو كيسانياً ، أو ما أشبه - كما هو محقق في كتب الرّجال وغيرها .

ص: 48


1- - الكافي روضة : ج8 ص178 ح210 وفيه عن محمد الكناسي ، وسائل الشيعة : ج27 ص90 ب8 ح33290 ، تفسير الصافي : ص712 .
2- - سورة الطلاق : الآية 2 .
3- - الاربعون حديثا : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص156 ب20 ح8 ، منية المريد : ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .
4- - رجال الكشّي : ص4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33457 ، بحار الانوار : ج2 ص82 ب14 ح2 بالمعنى .

أو على أخذ الفتوى ، جمعاً بينها وبين ما هو أكثر منها .

وفي رواية بني فضّال شهادةٌ على هذا الجمع ، مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرّواية بأنّهم ممّن خانوا اللّه ورسوله يدلّ على إنتفاء النهي عند إنتفاء الخيانة

-------------------

( أو ) محمول ( على أخذ الفتوى ) فانّه لايجوز الرّجوع الى غير الشيعي المجتهد في باب التقليد ، وإن جاز في باب أخذ الرّواية .

وانّما حملنا الأخبار الدالة على عدم جواز أخذ معالم الدّين من غير الشيعة على الذين ليسوا بثقة ، أو على الفتوى ( جمعاً بينها ) أي : بين هذه الأخبار المانعة ( وبين ما ) أي : الأخبار المجوزة الدالة على جواز أخذ الرّواية من الثقاة وان لم يكونوا شيعة و ( هو أكثر منها ) أي : هذه الأخبار المجوزة أكثر من الأخبار المانعة.

( و ) ان قلت : الجمع بين الرّوايات يحتاج الى شاهد الجمع .

قلت : ( في رواية بني فضّال شهادة على هذا الجمع ) من حمل الأخبار المانعة على باب التقليد ، والمجوزة على باب الرّواية ، حيث قال عليه السلام : « خُذُوا مارَوَوا وذَرُوا مارأوا» (1) ، ممّا يدل على أنّ رأيهم ليس بحجّة ، امّا رواياتهم التي رووها في حال الوثاقة فهي حجّة .

هذا ( مع انّ التعليل للنّهي في ذيل الرّواية : بأنهم ممّن خانوا اللّه ورسوله يدلّ على إنتفاء النهي عند انتفاء الخيانة ) فانّ الامام عليه السلام في هذه الرّواية ، بعدما نهى عن الرّجوع الى المخالف ، علّله : بانه خائن ، وظاهر هذه العلّة : إنه إذا لم يكن خائناً جاز الأخذ منه ، لأنّ التعليل يعمّم ويخصص - كما بحث سابقاً - .

ص: 49


1- - الغيبة للطوسي : ص390 ، بحار الانوار : ج2 ص252 ب29 ح72 وفيه بما رووا .

المكشوف عنه بالوثاقة ، فانّ الغير الاماميّ الثقة ، مثل إِبن فضّال وإِبن بكير ، ليسوا خائنين في نقل الرّواية . وسيأتي توضيحهُ عند ذكر الاجماع إنشاء اللّه تعالى .

وأمّا الاجماع

اشارة

فتقريره من وجوه :

أحدها :

الاجماع على حجّية خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ، وطريق تحصيله أحدُ وجهين ،

-------------------

ومن المعلوم : إنتفاء الخيانة ( المكشوف عنه بالوثاقة ، فانّ غير الامامي الثقة ، مثل ابن فضّال ، وابن بكير ، ليسوا خائنين في نقل الرّواية ) فاذا قال : لا تؤمن مالَكَ عِندَ زيد لأنّه خائن دلّ على جواز الائتمان عند عمرو الذي ليس بخائن ( وسيأتي توضيحه عند ذكر الاجماع إنشاء اللّه تعالى ) .

هذا ، ولكن العمدة في جواز الأخذ باخبار الثقاة من غير الشيعة : السيرة القطعية المستمرة الى زمانهم عليهم السلام وإلاّ فلربّما يقال : انّ الخيانة تسبب سقوط حجّية خبره كما تسبّب سقوط فتواه وقضائه وشهادته .

( وأمّا الاجماع ) وهو الدليل الرابع على حجّية خبر الواحد ( فتقريره من وجوه : أحدها : الاجماع على حجّية خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ) الذين قالوا بعدم حجّية الاجماع ، فالخارج من الاجماع هو السيّد وأتباعه ، ولأنهم معلوموا النسب لايضرّ مخالفتهم للاجماع ، ( وطريق تحصيله ) أي : تحصيل الاجماع المذكور ( أحدُ وجهين ) : الأوّل : إستقراء الفتاوى ، فانّا إذا استقرينا فتاوى العلماء واحداً واحداً ، حصل لنا العلم باجماعهم على حجّية خبر الواحد .

ص: 50

على سبيل منع الخلوّ .

أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين ، فيحصل من ذلك القطعُ بالاتفاق الكاشف عن رضى الامام عليه السلام ، بالحكم أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة . ولايعتنى بخلاف السيّد وأتباعه ، إمّا لكونهم معلومي النَسب ، كما ذكر الشيخ في العدّة ،

-------------------

الثاني : استقراء الاجماعات المنقولة ، فانّا إذا إستقرينا الاجماعات كذلك حصل لنا العلم - أيضا - باجماعهم على حجيّة خبر الواحد .

وذلك ( على سبيل منع الخلوّ ) لا على سبيل القضيّة الحقيقية الذي يمنع كلّ طرف الطرف الآخر ، مثل العدد إما زوج أو فرد ، ولا على سبيل منع الجمع ، لأنّه يمكن تحصيل الاجماع بكلا الوجهين المذكورين ، وإنّما على سبيل منع الخلوّ ، يعني : إنّ أحد الاستقرائين : من إستقراء الفتاوى ، أو استقراء الاجماعات يدل على ذلك ، ولا مانع من جمعهما .

( أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا الى زمان الشيخين ) : المفيد والطوسيّ رحمهم اللّه ( فيحصل من ذلك ) التتبع التام في فتاواهم المندرجة في كتبهم : ( القطعُ بالاتفاق ، الكاشف عن رضى الامام عليه السلام بالحكم ) المذكور وهو العمل بالخبر الواحد . ( أو ) يكشف هذا التتبع ( عن وجود نصّ معتبر في المسألة ) وذلك النصّ المعتبر هو مستند هؤلاء العلماء الذين قالوا بحجّية خبر الواحد .

( ولا يعتنى بخلاف ) أي بمخالفة ( السيّد واتباعه ) الذين قالوا بعدم حجّية الخبر الواحد وذلك ( إما لكونهم معلومي النَسب ) فانّ مخالفة إنسان معلوم النسب من العلماء ، لايضر في تحقق الاجماع المبني على الدخول ( كما ذكر الشيخ ) ذلك ( في العدّة ) ومضى الكلام فيه سابقاً .

ص: 51

وإمّا للاطّلاع على أنّ ذلك لشبهة حصلت لهم ، كما ذكره العلاّمة في النهاية ، ويمكن أن يستفاد من العُدّة أيضاً ، وإمّا لعدم إعتبار إتّفاق الكلّ في الاجماع على طريق المتأخرّين المبنيّ على الحدس .

-------------------

( وإمّا للاطّلاع على انّ ذلك ) أي : مخالفة السيّد وأتباعه ، للذين قالوا بحجّية خبر الواحد انّما هي ( لشبهة حصلت لهم ) فانّ الامامية في بحثهم مع العامة ، إذا أرادوا ردّ بعض الأخبار المكذوبة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ولم يتمكنوا من التصريح بكذبها - كأخبار بني اُمية ومن أشبههم - التجئوا الى القول : بأنّ خبر الواحد ليس بحجّة ، حتى يكون في ذلك جمعاً بين تكذيب تلك الاخبار ، وعدم التصريح بأنّ أخبار العامة ليست بحجّة ، فتصور السيّد وأتباعه من ذلك انه مذهب لهؤلاء الفقهاء مع انه ليس كذلك .

ومن الواضح : انّ المخالف إذا علم ضعف مدركه في الخلاف لم يضر خلافه ذلك بالاجماع ( كما ذكره العلاّمة في النهاية ) فانّ العلاّمة علل عدم ضرر خلاف السيّد وأتباعه بهذه العلّة ، وهي : كونه لشبهة حصلت لهم .

( ويمكن ان يستفاد ) هذا التوجية ، الذي ذكرناه عن نهاية العلاّمة ( من العُدّة ) لشيخ الطائفة ( أيضاً ) وعليه فشيخ الطائفة قد علل عدم ضرر خلاف السيّد للاجماع ، بوجهين لا بوجه واحد .

( وإمّا لعدم إعتبار إتّفاق الكلّ في الاجماع على طريق المتأخرّين المبنيّ على الحدس ) فانّه قد سبق انّ الاجماع المعتبر عند المتأخرين ، هو : الحدس بقول الامام عليه السلام من أقوال الفقهاء إذا كان الحدس ضرورياً ، كالحدس في باب الأهِلّة - على ما ذكروا في المنطق - ومن المعلوم : انّ الحدس يحصل من اتفاق من عدا السيد وأتباعه .

ص: 52

والثاني : تتبّع الاجماعات المنقولة في ذلك :

فمنها : ما حكي عن الشيخ قدس سره ، في العُدّة في هذا المقام حيث قال :

« وامّا ما إخترتُهُ من المذهب ، فهو أنّ الخبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة - وكان ذلك مرويّاً عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عن أحد الأئمة عليهم السلام ، وكان ممّن لا يُطعَنُ في روايته ويكون سديداً في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ،

-------------------

( والثاني : تتبّع الاجماعات المنقولة في ذلك ) أي : في حجّية الخبر - كما ذكرناه - فانّا إذا تتبعنا الاجماعات المنقولة ، حصل لنا العلم بحجّية الخبر .

( فمنها ) أي : من تلك الاجماعات المنقولة : ( ما حكي عن الشيخ قدس سره في العدّة في هذا المقام ) أي : في باب البحث عن حجية الخبر ( حيث قال : وأمّا ما اخترتُهُ من المذهب فهو : أنّ الخبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالامامة وكان ذلك ) الخبر ( مروياً عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عن أحد

الأئمة عليهم السلام ) لما تعرف : من إنّ أقوال المعصومين حجّة فقط بالنسبة الى أمتنا ، وإن كان بالنسبة الى الامم السابقة أقوال الأنبياء والأوصياء السابقون أيضاً حجّة إذا لم ينسخ ، ( وكان ) الرّاوي ( ممّن لا يُطعَنُ في روايته ) بأن لم يكن متهماً بالكذب ، أو بالجهالة في حاله ، بل عرفناه بالعدالة ، أو بالوثاقة على الاختلاف .

( ويكون سديداً في نقله ) بأن يكون ضابطاً لا كثير السهو والنسيان ، والغلط والاضطراب ، كما يتفق ذلك أحياناً في بعض الرّواة .

( ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبرُ ) بأن لم يكن الخبر محفوفاً بالقرائن الدالة على صحة مضمونه من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل .

ص: 53

لانّه إذا كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك ، كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجوباً للعلم ، كما تقدّمت القرائن - جاز العملُ به .

والذي يدلّ على ذلك إجماعُ الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتُها مُجمِعَةٌ على العمل بهذه الاخبار التي رَوَوهَا في تصانيفهم ، ودوّنوها في أُصولهم ، لايتناكرون ذلك ولا يتدافعون ، حتى انّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه

-------------------

وإنّما شرطنا هذا الشرط ( لأنّه إذا كان هناك قرينةٌ تدلّ على صحّة ذلك ) الخبر ( كان الاعتبار ) والعمل ( بالقرينة ) لا بنفس الخبر ، وكلامنا نحن الآن في حجيّة الخبر بنفسه ، والآ فالقرينة الدالة على الحجّية توجب الاعتماد حتى على خبر الفاسق ونحوه ( وكان ذلك ) الاحتفاف بالقرينة هو بنفسه ( موجباً للعلم ، كما تقدّمت القرائن ) في كتاب العدة .

وعلى أي حال : فاذا إجتمع الخبر على هذه الشرائط ( جاز العمل به ، والذي يدلّ على ذلك ) أي : على جواز العمل بمثل هذا الخبر الجامع للشرائط ( إجماع الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتُها ) أي : الفرقة ( مُجمِعةٌ على العمل بهذه الأخبار التي رَوَوهَا في تصانيفهم ، ودوّنوها في أُصولهم ) الأربعمائة ، أو المراد بالأصول : كل الاصول وهي أكثر من ذلك ، فانهم ( لايتناكرون ذلك ) أي : لاينكر أحد من الأُمة جواز العمل بمثل هذا الخبر ( ولايتدافعون ) أي : انّ أحدهم لايدفع مثل هذا الخبر .

والتناكر والتدافع ، من باب التفاعل ، كأنه ينكر هذا وينكر ذاك عليه ، أو يدفع هذا ويدفع ذاك الى جانبه .

( حتى إنّ واحداً منهم ) أي : من فقهاء الأُمة ( إذا أفتى بشيء لايعرفونه ) أي :

ص: 54

سألوه من أين قلت هذا ؟ .

فاذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لاينكرُ حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله .

هذه عادتُهم وسجيّتُهم من عهد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومَن بعده مِن الأئمة عليهم السلام ، إلى زمان جعفر بن محمّد عليهم السلام ، الذي إنتشر منه العلم وكثرت الرّواية من جهته .

-------------------

لايعلمون وجه فتياه ( سألوه ) أي : سألوا ذلك العالم المفتي ( من أين قلت هذا ) الحكم ؟ .

( فاذا أحالهم على كتاب معروف ) من الكتب الجامعة ( أو أصل مشهور ) من الاصول الأربعمائة وغيرها .

وربّما يفرق بين الكتاب والأصل ، بانّه لو كان فتاوى الرّاوي موجوداً في الكتاب بالاضافة الى الرّوايات ، سميّ كتاباً وإلاّ سمي أصلاً .

( وكان راويه ) أي : راوي ذلك الخبر ( ثقة لاينكُر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله ) بلا إشكال ولا مناقشة ، ممّا يدل على انّ الخبر الواحد حجّة عندهم حتى إذا إستدل أحد المفتين بخبر واحد سكت طرفه ، لأنّه رأى إنّ فتواه المستندة الى الرّواية على طبق الدليل .

وكانت ( هذه عادتُهم ) أي : عادة الفرقة المحقة ( وسجيّتُهم ) ولعل الفرق بين العادة والسجيّة : إنّ العادة ماجرت عليه ظواهرهم ، والسجية ماجرت عليه بواطن أَمرهم وقناعاتهم النفسيّة .

وذلك ( من عهد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ومَن بعدهِ من الأئمة عليهم السلام ، إلى زمان جعفر بن محمّد عليهم السلام ، الذي إنتشر منه العلم ، وكثرت الرّواية من جهته ) أي : من ناحية

ص: 55

فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً ، لما أجمعُوا على ذلك ، لأنّ إجماعهم فيه معصومٌ لا يجوز عليه الغلطُ والسهوُ .

والذي يكشف عن ذلك : أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظوراً عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلاً وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل واستعمله

-------------------

الامام الصادق عليه السلام ، فانّ الامام كان في عهد تنازع الخلفاء الأمويين والعباسيين ولهذا تمكن من نشر العلم ، حيث كان الخلفاء قد إشتغل بعضهم ببعض ، فلم يبق لهم مجال التعرض للامام الصادق عليه السلام .

وعليه : ( فلولا انّ العمل بهذه الأخبار ) الواردة عن المعصومين عليهم السلام الجامعة للشرائط المذكورة ( كان جائزاً ، لما أجمعُوا على ذلك ) أي : على حجّيتها ( لأنّ إجماعهم فيه معصومٌ ) فانّ الفرقة المحقة من زمان النبي الى زمان الامام المهدي صلوات اللّه عليهم أجمعين كان فيهم المعصوم ، فاذا أجمعوا فالمعصوم داخل فيهم ، والاجماع الدخولي حجّة قطعاً ، لأنه ( لايجوز عليه ) أي : على المعصوم ( الغلطُ والسّهُو ) والنسيان والاشتباه ، وما أشبه ذلك .

( والذي يكشفُ عن ذلك ) أي : عن اجماع الفرقة على العمل بالخبر الجامع للشرائط (انّه لما كان العملُ بالقياس محظوراً ) ومحرماً(عندهم ) أي : عند الفرقة (في الشريعة لم يعملوا به أصلاً ) ولم يأخذوه مستنداً في الأحكام إطلاقاً .

( وإذا شذّ ) أي :ندر بمعنى :الندرة الخارجة عن الموازين ، وقد تقدّم الفرق بين الشذوذ والندرة ( منهم ) أي : من الفرقة المحقة ( واحد ) كابن الجنيد - مثلاً - حيث إنّه كان يعمل بالقياس ، لاسكات خصمه والتغلب عليه .

فاذا رأوه قد ( عمل به ) أي : بالقياس ( في بعض المسائل واستعمله ) أي

ص: 56

على وجه المحاجة لخصمه وان لم يكن إعتقاده ، ردّوا قوله ، وأنكروا عليه ، وتبرؤا من قوله ، حتى انّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملاً بالقياس . فلوكان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضاً مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه .

فان قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة

-------------------

القياس ( على وجه المحاجّة لخصمه ) بأن إستدل بالقياس لتأييد فتواه ضد خصمه ( وإن لم يكن إعتقاده ) على حجّية القياس وإنما إستدل به إحتجاجاً ، لا إستناداً ( ردّوا قوله ، وأنكروا عليه ، وتبرّؤا من قوله ) وإجتنبوه .

( حتى إنهم يتركون تصانيف ) وكتب ( من وصفناه ) يعمل بالقياس حتى على وجه المحاجّة والمخاصمة ، فكيف اذا كان على وجه الاستناد والاستدلال؟ ( و ) تركوا ( رواياته لما كان ) مثل ابن الجُنيد - مثلاً - ( عاملاً بالقياس ) حتى إحتجاجاً.

وعليه : ( فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى )أي : بأن كان العمل بالخبر الواحد عند الطائفة المحقة ممنوعاً ، كما إن العمل بالقياس ممنوع عندهم( لوجب فيه أيضاً مثل ذلك )الإنكار الذي أنكروه على من عمل بالخبر الواحد وللزم عليهم ترك كتبه وروايته .

( و ) لكن ( قد علمنا خلافه ) أي : علمنا بأن الخبرالواحد ليس كالقياس في ترك العمل به عندهم ، بل قد تقدّم : انه اذا سئل أحدهم عن مصدر فتواه ، فأجاب بأنّه موجود في رواية كذا ، قبلوا منه وسكتوا عليه ، فهذا دليل على حجيّة الخبر عندهم دون القياس ، وانّ بين القياس والخبر بَونٌ شاسع .

ثم قال الشيخ في العدة : ( فان قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة

ص: 57

على العمل بخبر الواحد ، والمعلومُ من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فان جاز إدّعاء احدهما ، جاز ادعاءٌ الآخر .

قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر أنّهم لا يَرَونَ العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفوهُم في الاعتقاد ويختصون بطريقه ، فأمّا ما كان رُواتُه منهم

-------------------

على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها ) أي : حال الفرقة المحقّة ( أنّها لا ترى ) ولا تجيز ( العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم : انّها لا ترى العمل بالقياس ، فان جاز ادّعاء احدهما ، جاز إدّعاء الآخر؟ ) أيضاً .

ولعل هذا المستشكل رأى كلام السيّد المرتضى في عدم حجيّة خبر الواحد ، ورأى إن السيّد المرتضى متقدّم على شيخ الطائفة ، فقدّم قول السيّد على قول الشيخ وقاس الخبر بالقياس ، وقال : كما انّ الفرقة لا تعمل بالقياس ، كذلك لا تعمل بالخبر ، فهما سيان من جهة عدم جواز الاستناد اليهما .

( قيل له : المعلومُ من حالها ) أي حال الفرقة ( الذي ) ذلك المعلوم ( لاينكر ) عند أحد( أنّهم لا يَرَونَ العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفوهمُ ) أي مخالفوا الفرقة المحقّة( في الاعتقاد ) فانّهم لا يعملون بخبر الذي يخالف إعتقاده عقائد الشيعة ( و ) لا يعملون بالخبر الذي ( يختصّون ) أي يختص المخالفون ( بطريقه ) أي : بطريق ذلك الخبر ، فانّ الخبر قد يرويه الشيعي وقد يرويه المخالف ، وقد يرويه كلاهما ، فاذا رواه الشيعي ، أو رواه كلاهما ، عملوا به ، أما اذا رواه المخالف فقط ، لا يعملون به .

( فأما ما كان ) من ( رواتُه منهم ) أي : من نفس الفرقة المحقة

ص: 58

وطريقةُ اصحابهم ، فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنا الفرق بين ذلك وبين القياس ، وأنّه لو كان معلوماً حظرُ العمل بالخبر الواحد ، لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد عُلِمَ خلافُ ذلك .

فان قيل : أَليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يُعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتى انّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلاً، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعاً، لان الشرع لم يرد به.

-------------------

( و ) كان ( طريقة ) أي طريق ذلك الخبر ( أصحابَهُم ) الاماميون ( فقد بيّنا : انّ المعلوم خلاف ذلك ) فانّهم مجمعون على العمل به دون القياس فانهم مجمعون على عدم العمل به .

( وبيّنا : الفرق بين ذلك )الخبر( وبين القياس ، و ) بيّنا : ( انه لو كان معلوماً ) أي: لو علم( حظرُ )أي : منع ( العمل بالخبر الواحد ، لجرى )حظرالعمل بالخبر الواحد ( مجرى العلم بحظر القياس ، و )الحال( قد عُلِمَ خلافُ ذلك ) فحرمة القياس عندهم بديهي ، بينما العمل بالخبر الجامع للشرائط عندهم اجماعي - كما تقدّم - .

( فان قيل : أليس شيوخكم ) وعلماؤكم ، وكبار أساتذتكم ( لا يزالون ) حتى هذا اليوم ( يناظرون ) ويجادلون ( خصومهم ) من العامة ( في أنّ خبر الواحد لا يُعملُ به ، ويدفعونهم ) أي : يدفعون الخصوم ( عن صحّة ذلك ، حتى انّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلاً ) لأنّه يلزم منه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وتفويت المصلحة وجلب المفسدة ، وما أشبه ذلك .

( ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعاً ، لانّ الشرع لم يرد به ) أي : بخصوصه شيء ، وكلّما لم يرد من الشرع بخصوصه شيء ، فالاصل عدم حجيّته .

ص: 59

وما رأينا أحداً تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتاباً ، ولا أملى فيه مسألة، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك ؟ .

قيل له : من أشرتَ إليهم من المنكرين للأخبار الآحاد ، إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون خلافَها .

-------------------

( وما رأينا أحداً تكلّم في جواز ذلك ) أي جواز العمل بالخبر الواحد ( ولاصنّف فيه كتاباً ، ولا أملى فيه مسألة ) فانّ من عادتهم كان القاء المسائل على التلاميذ ، ثم إنّ التلاميذ - أو هم بأنفسهم - كانوا يكتبون تلك المسائل المتفرّقة في كتاب يسمونه : بالأمالي .

( فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك ؟ ) وتقولون : بأن الأصحاب أجمعوا على العمل بالخبر الواحد ؟ .

( قيل له ) إنّ ( من أشرتَ إليهم من )العلماء ( المنكرين للأخبار الآحاد ) أي : لحجيتها إنّما أنكروا ذلك لأجل ردّ أخبار الخصوم التي عملوا بجعليتها - كما تقدّم - لا أنهم أنكروا ذلك حقيقة ، فانّهم ( إنما تكلّموا مع من خالفهم في الاعتقاد ) فانّ العامة بأقسامهم المختلفة كانوا مخالفين للامامية في العقيدة ، وكان عند اولئك أخبار مجعولة أراد الامامية رفضها .

( ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه ) أي : العامة ( من الاخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون ) أي : الخاصة ( خلافَها ) فالشيعة لم يقصدوا بالمنع ، منع حجّية الخبر الواحد مطلقاً ، وإنما منع حجية أخبار العامة المعارضة بأخبار الخاصة ، أو الاخبار التي انفردوا بها ممّا لا دليل على صحتها وحجيّتها - لما عرفت - سابقاً : من ان الشيعة يرون حجيّة أخبار الثقاة .

ص: 60

وذلك صحيحٌ على ما قدّمناه ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العملَ بما يروونه ، إلاّ في مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحتها .

فاذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم ، لمكان الادلة الموجبة للعلم ، والأخبار المتواترة بخلافه .

-------------------

( وذلك )الدفع من الشيعة لاخبار العامة بهذا الاسلوب ( صحيحٌ على ما قدمنّاه ) : من إنّ شرط العمل هو : ورود الخبر من طريق الثقاة ولو كان الثقة فطحياً ، أو طاطرياً ،أو كيسانياً ، أو ما أشبه ذلك .

( ولم نجدهم ) أي اولئك العلماء الشيعة ، المنكرين لحجيّة الخبر الواحد - في قبال العامة - ( إختلفوا فيما بينهم ) في الحجية واللاحجية ( و ) لا ( أنكر بعضهم على بعض العملَ بما يروونه ، إلاّ في مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحتّها ) أي : صحة تلك المسائل ، بمعنى : انّه إذا تعارض الخبر بدليل آخر علمي ، ردّوا الخبر ، وإلاّ لم يردّوا الخبر الواصل من طريقهم .

وعليه : ( فاذا خالفوهم ) أي : خالف بعض الامامية بعضاً ( فيها ) أي : في مسائل قام العلم عليها ( أنكروا عليهم ) أي : أنكر بعضهم على بعض : العمل بالخبر الواحد ، الذي قام الدليل العلمي على خلافه ، وذلك ( لمكان ) أي : لاجل قيام ( الأدلة الموجبة للعلم ، والأخبار المتواترة بخلافه ) أي : بخلاف ذلك الخبر الذي تمسك به بعض ، ورأى البعض الآخر انّ العلم أو العلمي على خلافه ، فرّده .

والحاصل :انّهم إنما يردون من الاخبار مطلقاً :أخبار العامة ، وأما أخبار الخاصة ، فانما يردّون منها ما إذا قام علم أو علمي على خلافها ، هذا أولاً .

ص: 61

على أنّ الذين اُشير إليهم في السّؤال أقوالُهم متميزة بين أقوال الطّائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمة معصومين وكلُّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يُعتَّد بذلك القول ؟ .

لأنّ قولَ الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيهم معصومٌ ، فاذا كان القولُ من غير معصوم عُلِمَ أنّ قولَ المعصوم داخلٌ في باقي الأقوال وَوَجبَ المَصِيرُ إليه

-------------------

وثانياً :ما أشار اليه الشيخ بقوله :( على أنّ الذين اُشير إليهم ) من المنكرين لحجية خبر الواحد ، كما ذكر ( في السّؤال ) المتقدّم ، الذي أشرنا اليه بقولنا :« فان قيل : أليس شيوخكم الخ ؟ » ( أقوالُهم متميزة ) لقلة عددهم وواضحة ( بين أقوال الطّائفة المحقّة ) الذين قالوا بحجيّة خبر الواحد .

هذا ( وقد علِمنا : أنّهم لم يكونوا أئمة معصومين ) لوضوح : انَّ منكري حجّية الخبر الواحد اناس معلوموا النسب ، وليس بينهم المعصوم ( وكلُّ قول قد علم قائله ، وعرف نسبه ، وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يُعتَدّ بذلك القول ) فان معلوم النسب ، لا يضر خلافه بالاجماع الدخولي - على ما عرفت - ، بل ولا بالاجماع الحدسي ، إذ الحدس لا يتوقف على إتفاق الكل .

وذلك ( لأنّ قولَ الطائفة إنما كان حجةً من حيث كان فيهم معصومٌ ، فاذا كان القولُ )المخالف لحجيّة خبر الواحد ( من غير معصوم ) - على ما عرفت - ( عُلِمَ : أنّ قَول المعصوم ، داخلٌ في باقي الاقوال ) القائلة لحجية خبر الواحد ( وَوَجبَ المَصِيرُ إليه )أي : الى قول المعصوم الداخل في قول المشهور

ص: 62

على ما بيّنته في الاجماع » انتهى موضوع الحاجة من كلامه .

ثم أورد على نفسه : بأنّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد والشرع ورد به ، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفةُ المحقّة وبين ما يرويه أصحابُ الحديث من العامّة .

ثم أجاب عن ذلك : بأنّ خبرَ الواحد إذا كان دليلاً شرعيّاً

-------------------

( على ما بينّته في )بحث حجيّة ( الاجماع ) مفصلاً (1) .

( انتهى موضوع الحاجة من كلامه ) أي من كلام شيخ الطائفة رفع مقامه ، فانه صريح : في إنّ الاجماع قام على حجّية خبر الواحد ، وإنما المخالف جماعة معدودون، لا يضرّون بالاجماع الدخولي، ولا بالاجماع الحدسي - على ما عرفت - .

( ثمّ أورد ) شيخ الطائفة ( على نفسه : بانّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد ) لما تقدّم : من انّه لا يسبب مفسدة ، ولا تفويت مصلحة ( والشرع ورد به ) وأمضاه بسبب الآيات ، والأخبار ، والاجماع على حجّيته - كما تقدّم - .

وعليه : ( فما الذي يحملكم ) ويسبب لكم ( على الفرق بين ما يرويه الطائفةُ المحقّة ) حيث ترون حجّيته ( وبين ما يرويه أصحابُ الحديث من العامة ؟ ) حيث ترون عدم حجّيته ، فان الخبر الواحد لو كان حجّة ، كان حجّة من كل أحد ، وإذا لم يكن حجّة لم يكن حجّة من كلّ أحد ، فما هو الفارق بين الخبرين : الخاصي والعامي ؟ .

( ثم أجاب ) الشيخ ( عن ذلك : بأن خبرَ الواحد إذا كان دليلاً شرعيّاً ) لما تقدّم

ص: 63


1- - عدّة الأصول : ص51 .

فينبغي أن يستعمل بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارعُ يرى العَملَ بخبر طائفة خاصة فليس لنا التعدّي إلى غيرها . على انّ العدالة شرطٌ في الخبر بلا خلاف ، ومن خالف الحقّ ، لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه .

ثم أورد على نفسه : بأنّ العمل بخبر الواحد ، يوجبُ كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين .

ثم أجاب : أوّلاً : بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر الواحد إذا كان

-------------------

من انّه شرعي وعقلي ( فينبغي ان يستعمل ) الخبر ( بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارعُ يرى العمل بخبر الطائفة خاصّة ) هم الثقاة من الامامية ونحوهم ، من الطاطريين ، والفطحيين ، والكيسانيين ،وما إلى ذلك .

وعليه : ( فليس لنا التعدّي الى غيرها ) أي : الى غير ما قررته الشريعة ( على انّ العدالة شرطٌ في الخبر بلا خلاف، ومن خالف الحقّ، لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه).

هذا ، ولكنك قد عرفت : إن الميزان في حجّية الخبر ، الوثاقة لا العدالة .

( ثمّ أورد ) الشيخ ( على نفسه : بأنّ العملَ بخبر الواحد ، يوجبُ كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين ) ممّا يوجب إجتماع النقيضين ، وقد أراد الشيخ أن يشير بهذا الى الاستحالة التي ادّعاها بعض في حجّية خبر الواحد ، وذلك بتقريب : انّه إذا دلّ خبر على وجوب السورة ، ودل خبر آخر على عدم وجوبها لزم كون السورة في الصلاة : واجبة ، وغير واجبة ، وذلك محال - كما تقدّم في كلام إبن قِبة .

(ثمّ أجاب : أوّلاً : بالنقض ، بلزوم ذلك ) التناقض أيضاً ( عند من منع العمل بخبر الواحد ) فانّ من لا يرى خبر الوحد حجّة ، يلزم عنده التناقض أيضاً ( إذا كان

ص: 64

هناك خبران متعارضان ، فانّه يقول مع عدم الترجيح بالتخيير ، فاذا إختار كُلاً منهما إنسانٌ لزم كونٌ الحقّ في جهتين .

وأيّد ذلك : بأنّه قد سُئِلَ الصادقُ عليه السلام ، عن إختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ،

-------------------

هناك خبران متعارضان ) قطعيّا الصدور - فانّ القطع بالصدور يوجب الحجّية قطعاً - فاذا كان أحد الخبرين القطعيين يقول - مثلاً - بوجوب السورة ، والآخر بعدم وجوب السورة ولم يكن مرجح لاحدهما ، فالذي تفعلوه في هذا المقام ، إفعلوه في الخبر الظنّي الصدور الذي هو حجّة أيضاً ؟ .

( فانّه ) أي : إن من ( يقول مع عدم الترجيح ) لا حد المتعارضين القطعيين ، ( بالتخيير ) فليقل بالتخيير في المتعارضين الظنيين أيضاً ، فانه كما لا يوجب القول بالتخيير في القطعيين التناقض ، كذلك لا يوجبه في الظنيين الذين كلاهما حجّة ، - كما قال : ( فاذا إختار كُلاً منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( إنسانٌ ، لزم كونُ الحقّ في جهتين ) وهو تناقض فما تقولون في جواب قطعي الصدور ، قولوا في جواب ظنيّ الصدور .

والجواب : هو للمصلحة السلوكية التي ذكرها المصنّف في أول الكتاب ، أو إنّه من باب التسهيل على العباد ، الذي هو أهم عند الشارع ، حتى وإن فات المكلّف المصلحة الملزمة ، أو وقع في مفسدة ملزمة .

( وأيّد ) شيخ الطائفة جوابه النقضي ( ذلك ) وأنه قد وقع التعارض ظاهراً بين مقطوعي الصدور ، فليكن مظنوني الصدور الذين كلاهما حجّة أيضاً كذلك ( بأنّه قد سُئِلَ الصادقُ عليه السلام عن إختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ) أي : غير مواقيت الحجّ ، كأوقات الصلاة - مثلاً - وتعارض الاخبار الواصلة عنهم عليهم السلام

ص: 65

فقال عليه السلام : « أَنا خالَفتُ بَينَهٌم » ثم قال بعد ذلك : فان قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أنّ رواتها ، كما رووها ، رووا أيضاً أخبار الجبر ، والتَفويض وغير ذلك منِ الغلوّ والتناسخ

-------------------

فيها مع القطع بصدورها ؟ .

( فقال ) الصادق عليه السلام : ( أَنا خَالَفتُ بَينَهُم ) (1) أي : أوقعت الاختلاف بينهم ، حتى لا يعرفوا فيؤخذوا ، وهذا يؤيد وقوع التعارض في الأخبار القطعية الصدور ، كما إن هذا الجواب النقضي من شيخ الطائفة يكفي في رد من أشكل : بأنّ التعبد بالخبر الواحد يوجب التناقض .

وحاصله : انّه لا يوجب التناقض ، لانّ شرط التناقض : وحدة الموضوع ، وليس في المقام ذلك .

( ثم قال ) الشيخ ( بعد ذلك ) الكلام المتقدّم في رفع الاشكال عن الخبر الواحد : ( فان قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ) التي رواها الاماميّون في كتبهم؟ ( و ) الحال ( نحن نعلم : أنّ رواتها كما رووها ) أي : رووا هذه الاخبار المرتبطة بالفروع ، كذلك ( رووا أيضاً أخبار الجبر والتَفويض وغير ذلك مِن ) الاعتقادات الباطلة .

مثلاً : نقلوا أخبار ( الغلوّ ) في حق الأئمة الطاهرين عليهم السلام ( والتناسخ ) في حق الارواح .

ولا يخفى : ان التناسخ باطل ، وهو عبارة عن : إنّ الأرواح لقلتها - كما يدعون - إذا خرجت من بدن دخلت في بدن آخر ، فهناك - على رأيهم - أربعة أمور :

ص: 66


1- - عدة الاصول : 52 .

وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتمادُ على ما يرويه أمثالُ هؤلاء .

قلنا لهم : ليس كلّ الثقاة نَقَلَ حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ أنّه نقل لم يدلّ على أنّه كان معتقداً لما تضمّنه الخبر . ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه لِيُعلَم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الرّوايات ، لا لأنّه معتقد ذلك .

-------------------

النسخ : وهو ما ذكرناه .

الرسخ : وهو دخول الروح ، اذا خرج بدن الانسان في جسم حجر ونحوه من الجمادات .

الفسخ : وهو دخوله في جسم شجرة .

المسخ : وهو دخوله في جسم حيوان .

وهذه العقائد الأربع لطوائف أربع ، وقد ذكر بعضها في بعض أخبارنا .

( وغير ذلك من المناكير ) أي : المنكرات التي نحن الشيعة براء منها .

( فكيف يجوز ) مع ذلك ( الاعتمادُ على ما يرويه أمثالُ هؤلاء؟ ) فانّ نقلهم الأخبار الفاسدة دليل على فساد مذهبهم ، والفاسد المذهب لا يمكن العمل بخبره ، لأنّه خارج عن العدالة .

( قلنا لهم : ليس كلّ الثقاة نَقَلَ حديث الجبر ، والتشبيه ) وغيرهما ، من الامور الفاسدة ( ولو صحّ أنّه ) أي : بعض الثقاة ( نقل ) بعض هذه المنكرات ( لم يدلّ ) مجرد النقل ( على أنّه ) أي : الناقل ( كان معتقداً لما تضمّنه الخبر ) الذي نقله حتى يلزم منه فساد عقيدته ، فلا يعتمد عليه .

( ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه لِيُعلَم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الرّوايات ) فانّ بعضهم كان قصده جمع ما ورد ، من غير ناظر الى إنّ رواية ثقة أو غير ثقة ، أو إنّه مطابق لاصولنا أو ليس مطابقاً لاصولنا ( لا لأنّه معتقد ذلك ) .

ص: 67

ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل إعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم وإرتفاع النزاع فيما بينهم . وأمّا مجرد الرّواية فلا حجّية فيه على حال . فان قيل : كيف تعوّلون على هذه الرّوايات ، وأكثر رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغُلاة والواقفيّة

-------------------

هذا ( و ) من الواضح أنّا ( نحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ) الرّوايات ( بل إعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم ) فانّ مناط حجّية الخبر عندنا ، ليس هو نقل الرّواة بما هو نقلهم ، وإن كان الرواة ثقاة ، وإنّما المناط هو إتفاقهم عليه ( وإرتفاع النزاع فيما بينهم ) في العمل بهذه الرّوايات .

والحاصل : انّ إعتمادنا على عمل الطائفة ، وعلى ما ليس بينهم فيه خلاف ( وأمّا مجرّد ) النقل و( الرّواية ) بدون دليل من الخارج من عمل الطائفة ( فلا حجّية فيه على حال ) من الأحوال ، فسواء كان الناقل ناقلاً للمناكير أو لم يكن ، فاسد المذهب أو غير ذلك ، فانه إذا كانت روايته مطابقة لعمل الطائفه عملنا بها ، وإلاّ فلا .

( فان قيل : كيف تعوّلون على هذه الرّوايات ) التي يروونها في الفروع ( و ) الحال انّ ( أكثر رواتها المجبّرة والمشبهة ) والمجبرة : هم الذين يقولون : بأن اللّه سبحانه وتعالى يجبر العباد على المعاصي ثم يعاقبهم عليها ، والمشبهة : هم الذين يشبهون اللّه بالخلق .

( والمقلّدة ) وهم الأخباريون الذين قلّدوا في اصول دينهم بما تقوله الرّوايات ، مع وضوح : إنّ اصول الدين لا يؤخذ فيها بالرّوايات .

( والغُلاة ) الذين غلوا في حق الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين .

( والواقفيّة ) وهم الذين توقّفوا بعد الامام موسى بن جعفر عليه السلام في إمامة الامام

ص: 68

والفطحيّة ، وغير هؤلاء ، من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون روايه عدلاً عند من أوجب العمل به وإن عوّلتَ على عملهم دون روايتهم ، فقد وجدنا عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم . وذلك يدل على

--------------------

الرضا عليه السلام حيث قالوا : إن الامام موسى بن جعفر عليه السلام غاب عن الأبصار كما يعتقده الشيعة بالنسبة الى الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه .

( والفطحيّة ) وهم القائلون بامامة عبداللّه الأفطح بن الأمام الصادق عليه السلام ، وقيل : سمّي بالافطح ، لأنّه كان عريض الرأس .

( وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ) كالكيسانية الذين قالوا بإمامة محمد بن الحنفية إبن الامام أمير المؤمنين عليه السلام بعد أخيه الامام الحسين ، والطاطرية والزيدية ، والاسماعيلية ، ومن أشبههم .

وبالجملة : فانّ هناك فِرَقاً مختلفة وأكثرها باطلة ، ومعتنقها غير عادل ، ( و ) من المعلوم : انّ ( من شرط ) حجّية ( خبر الواحد : أن يكون روايه عدلاً عند من أوجب العمل به ) أي : بالخبر الواحد .

( وان عَوَلتَ ) بفتح التاء بصيغة الخطاب ، أي إعتمدت في الخبر ( على عملهم ) أي : عمل الأصحاب ( دون روايتهم ، فقد وجدنا ) إن الطائفة قد ( عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم ) من فاسدي العقيدة والمذهب .

والحاصل : إنّكم ان تشترطوا العدالة في الرّواية ، فهؤلاء ليسوا بعدول ، لأنهم مُجبّرة ، ومشبهة ، ومفوضه ، وما أشبه ذلك .

( و ) ان تشترطوا عمل الطائفة ، بدون لزوم العدالة ، جاز لكم العمل بخبر الكفار والفساق ، فان ( ذلك ) التعويل على عمل الطائفة بأخبار هؤلاء ( يدّل على

ص: 69

جواز العمل بأخبار الكُفّار والفُسَّاق .

قيل لهم : لسنا نقول إنّ جميعَ أخبار الآحاد يجوز العملُ بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هيهنا إلى جملة من القول فيه .

-------------------

جواز العمل بأخبار الكُفّار والفُسَّاق ) في العقيدة ، كالناصبي والخارجي أيضاً ، والحال انكم لا يقولون بجوازه ؟ .

( قيل لهم ) انّ الشرط عندنا في جواز العمل بخبر الواحد شرطان :

اولاً : ان يكون الراوي من الفرقة ولو توقف على بعض الأئمة عليهم السلام .

ثانياً : ان يكون قد تحقق عمل الطائفة بأخباره .

وانّما نشترط أن يكون من الفرقة ، لانّا نعلم انّهم إذا كانوا ثقاة لا يقولون الباطل

في فروع الدين ، وليس كذلك العامة لأنا نعلم إنهم يقولون الباطل .

وإنما نشترط عمل الطائفة بها ، لأنّهم اذا لم يعملوا بالخبر ، كشف عدم عملهم ذلك ، عن وجود خلل في الخبر .

وعليه : فانّا ( لسنا نقول إنّ جميعَ أخبار الآحاد يجوز العملُ بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هيهنا الى جملة من القول فيه ) أي في شرط العمل بأخبار الآحاد .

أقول : حاصل ما ذكره فيما تقدّم وما يأتي : إنّ الرواة على أربعة أقسام :

الأوّل : أهل الحق الكامل ، ولا اشكال في حجّية رواياتهم .

الثاني : أهل الحقَ ، الذين وصلوا الى الحق ، لكن لا بالدليل التفصيلي - كما في القسم الأول الذين كان دليلهم على اصول الدين تفصيلياً- بل بالدليل الاجمالي ، وهؤلاء أيضاً تصح رواياتهم ، لأن الوصول الى الحق كافٍ ، سواء وصل إليه بالدليل الاجمالي او التفصيلي ، والمقلّدة يعدّون من هذا القسم فأنّهم وإن تمسكوا

ص: 70

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك به ، وأمّا ما يرويه قومٌ من المقلّدة ، فالصحيحُ الذي اعتقِدُه أنّ المقَلّدة للحقّ وإن كان مخطئاً في الأصل معفوٌ عنه ، ولا أحكم فيهم بحكم الفسّاق ،

-------------------

بالرّوايات مدركاً لهم في اصول الدين ولم يجعلوا مدركهم العقل ، إلاّ انّهم من أهل الحق ، وممّن يسمى أهل الحق في الجملة إصطلاحاً .

الثالث : أهل العقائد المنحرفة من الفرقة ، كالفطحيّة ، والواقفيّة ، فهم يعدّون من أقسام الشيعة ، وهم ثقاة ، وهؤلاء أيضاً يعمل بأخبراهم ، وذلك لثقتهم وكونهم من الطائفة التي يشملهم قولهم عليه السلام : « ثقاتنا » وما أشبه ، ولكن بشرط عمل الطائفة بأخبارهم .

الرابع : أهل الباطل من الكفار والفساق ونحوهم ، وهؤلاء لا يعمل بخبرهم ، والى هذا الاقسام أشارة بقوله : -

( فأما ما يرويه العلماء ) الاماميّون العدول ، والثقاة ( المعتقدون للحق ) عن دليل تفصيلي ( فلا طعن على ذلك به ) أي : أنّه لا طعن على خبرهم بسبب انه خبر واحد بلا اشكال .

( وأمّا ما يرويه قومٌ من المقلّدة ) الأخباريين الذين يعتمدون في اُصول الدين على ما ورد من الأخبار ( فالصحيحُ الذي أعتِقدُه : أنّ المقلّدة للحق وإن كان مخطئاً في الأصل ) لوجوب الاجتهاد والنظر في الاعتقاديات على المشهور ، بل ادعى العلاّمة : الاجماع ، على أنّه لا يكفي التعبدّ بالدليل الشرعي في اصول الدين ، إلاّ انّه في المقلّدة للحق ( معفوٌ عنه ، ولا أحكم فيهم بحكم الفسّاق ) .

وذلك لوضوح : أنّ أكثرية المسلمين من زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم الى هذا اليوم ، هم من هذا القسم ، أي : من الذين لا يعرفون الأدلة القطعية والبراهين المنطقية لاثبات

ص: 71

ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه . على أنّ من أشاروا اليه لا نسلّم أنّهم كلّهُم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمينَ بالدليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة . وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحُجّج ، ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأن إيراد الحجّج والمناظرة صناعةٌ

-------------------

اصول الدين ( ولا يلزم على هذا ) أي على انهم لا يعرفون الأدلة القطعية لاصول الدين ( ترك ما نقلوه ) من الأخبار إذا كانوا ثقاة .

( على انّ ) هناك جواباً آخر ، وهو : ان ( من أشاروا إليه ) من الأخباريين الذين أشير اليهم بكلمة المقلّدة ( لا نسلّم أنّهم كلّهُم مقلّدة ) في اصول الدين ( بل لا يمتنع أن يكونوا عالمينَ بالدليل على سبيل الجملة ) أي : لهم أدلّة اجمالية على اصول الدين ، فجملة من الأخباريين عالمون باصول الدين عن الأدلة المفصلة والبراهين المنطقية .

فقولنا في الاخباريين هو ( كما يقوله جماعة أهل العدل في ) حق ( كثير من أهل الأسواق والعامّة ) من الناس ، فكما إنّ العلماء لا يحكمون : بأنّ أهل الأسواق والعامّة مقلّدة ، بل يقولون : بأنّهم عالمون بالدليل الاجمالي ، ولذا فليسوا مؤاخذين ، كذلك نقول نحن في هؤلاء .

لا يقال : الأخباريون مقلّدون في اصول الدين ، ولهذا لا يتمسكون بالبرهان ، بل لا يقدرون على ذلك .

لأنّه يقال : (وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحُجّج ، ينبغي أن يكونوا غير عالمين ) فانّ العلم شيء ، والقدرة شيء آخر ، وكثيراً ما يكون الانسان عالماً بشيء لكنّه لا يتمكن من إقامة الحجّة عليه ( لأنّ إيراد الحجّج والمناظرة صناعةٌ )

ص: 72

ليس يقف حصول المعرفة على حصولها . كما قلنا في أصحاب الجملة .

وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ، لأنهم اذا سئلوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الأئمة عليهم السلام أو صحّة النبوّة قالوا رَوينا كذا، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريق أصحاب الجملة . وذلك أنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحابَ

-------------------

خاصة وفن مخصوص ( ليس يقف حصول المعرفة على حصولها ) .

فان المعرفة باصول الدين ، لا يتوقف على التمكن من البحث والجدل والمناظرة وإقامة البرهان ( كما قلنا في أصحاب الجملة ) فانّ كثيراً من أصحاب الجملة ، لهم العلم والمعرفة عن الأدلّة الاجمالية ، ولا يتمكنون من إقامة أدلة تفصيلية عليها .

( وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ) المقلّدة المرتبطون بالأخبار ( ليسوا من أصحاب الجملة ) الذين يعرفون الأدلة الاجمالية على اصول الدين ( لأنّهم إذا سئلوا عن التوحيد ، أو العدل ، أو صفات الأئمة عليهم السلام أو صحّة النبوة ) أو خصوصيات المعاد ( قالوا : رَوينا كذا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ) الواردة عن المعصومين عليهم السلام ، ولا يتمكنون من التمسك بالبراهين العقلية والأدلة المنطقية .

( وليس هذا ) الاستناد الى الأخبار بدون التمسك بالطرق المنطقية ( طريق أصحاب الجملة ) فأنّ أصحاب الجملة يتمسكون بالدليل في الجملة ، مثل من يرفع يده عن العجلة ، دلالة على انّ الحركة بحاجة الى محرّك ، ومن يرى البعرة فيقول : البعرة تدلّ على البعير ، وما أشبه ذلك من الأدلة الاجمالية على اصول الدّين .

( وذلك ) أي : الوجه في انّه ليس لأحد أن يفرز الاخباريين عن أصحاب الجملة هو : ( إنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء ) المقلّدة الأخباريون من ( أصحابَ

ص: 73

الجملة ، وقد حصل لهم المعارفُ باللّه ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيرادُ الحجّج في ذلك ، أحالو على ما كان سهلاً عليهم . وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصح أن يكون دليلاً إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفةُ باللّه ، وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين . وهم عالمون على الجملة ،

-------------------

الجملة ، وقد حصل لهم المعارفُ باللّه ) وسائر اصول الدين ، عن الأدلّة الاجماليّة ( غير أنّهم لما تعذّر عليهم إيرادُ الحجج في ذلك ) أي : في كل واحد واحد من العقائد الحقة ، لأنّهم لم يدرسوا المنطق والأدلة العقلية ( أحالوا ) أي : فوّضوا الاستدلال على تلك المعارف ( على ما كان سهلاً عليهم ) من الأخبار الواردة في كل واحد واحد من اصول الدين .

( وليس يلزمهم أن يعلموا : انّ ذلك لا يصحّ ان يكون دليلاً ، إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفةُ باللّه ) أي : لا يلزم على المقلّدة أن يعرفوا : انّ التمسك بالأخبار في اصول الدين يستلزم الدور ، لأنّ معرفة اللّه لو توقف على الدليل الشرعي ، كأنَّ معناه : انّ الشارع يقول : أنا الشارع ، وهو دور صريح .

وإن شئت بيان الدور قلت : انّ التمسك بالدليل الشرعي ، موقوف على معرفة الشارع ، فلو كان معرفة الشارع موقوفة على التمسك بالدليل الشرعي ، لزم الدور .

نعم ، إذا عرف الانسان اصول دينه بالدليل العقلي ، يتمكن انّ يستدل بكلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم على صفات اللّه ، وعلى معرفة الأئمة ، وعلى معرفة المعاد ، إذ كل ذلك لا يلزم منه الدور - كما هو واضح - .

( وإنما الواجب عليهم ان يكونوا عالمين ) بالاصول الاعتقادية ( و ) الحال ( هم عالمون ) بتلك الاصول ( على الجملة ) أي : في الجملة يعلمون أصول

ص: 74

كما قرّرنا فما يتفرّعُ عليه من الخطأ لا يوجبُ التكفير ولا التضليل .

وأمّا الفِرقُ الذين أشار إليهم ، من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان » .

ثم ذكر الجوابين - وحاصلُ أحدهما كفاية الوثاقة في العمل بالخبر . ولهذا قُبِلَ خَبرُ ابن بكير وبني فضّال وبني سماعة ،

-------------------

دينهم بالأدلة البدائية ، التي يعرفها حتى أهل السوق ( كما قرّرنا ) فيما سبق بيانه .

( فما يتفرعُ عليه ) أي : على التمسك بالرّوايات عند المقلّدة ( من الخطأ ) وهو إنّهم يتمسكون بما يستلزم الدور - مثلاً - فهو ( لا يوجبُ التكفير ) لهم ( ولا التضليل ) بأن يكونوا ضالين عن الطريق السوي ، ممّا يوجب الفسق لهم .

والحاصل : ان طريق المقلّدة وان كان خطأً ، إلاّ انّ النتيجة صحيحة ، وإذا كانت النتيجة صحيحة ، لا يضر خطأ طريقهم بدينهم ولا بعدالتهم ، فهو كما اذا اعتمد شخص على عامي ، في كون الدواء للمرض الفلاني : العقار الفلاني فشربه وطاب ، فانه لا يضره خطأ الطريق لأنّ ما وصفه العاميّ من الدواء كان صحيحاً .

( وأمّا ) سائر ( الفِرَقُ الذين أشار إليهم : من الواقفية ، والفطحيّة ، وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان ، ثمّ ذكر ) الشيخ ( الجوابين ) بتفصيل .

( وحاصلُ أحدهما : كفاية الوثاقة في العمل بالخبر ) فلا يحتاج أن يكون الرّاوي عادلاً ، وهؤلاء وإن لم يكونوا عدولاً - لفساد عقيدتهم - لكنهم ثقاة .

( ولهذا ) الذي ذكرناه : من كفاية الوثاقة ، وعدم الاحتياج إلى العدالة ، قد (قُبِلَ) الأصحاب ( خَبرُ إبن بكير ، وبني فضّال ، وبني سماعة ) ومن أشبههم من الذين قالوا بالأئمة عليهم السلام وإن توقفوا على بعض الأئمة ، فانّ التاريخ يدل على إنّ في الرّواة من الفِرق الذين توقفوا على إمام دون إمام جماعة أجلاّء قد قبل الاصحاب

ص: 75

وحاصل الثاني أنّا لا نعملُ برواياتهم إلاّ إذا إنضمّ إليها روايةُ غيرهم ، ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغُلاة ومن هو مُتَّهَمٌ في نقله .

وذكر الجوابين أيضاً في روايات المجبّرة والمشبّهة ، بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ،

-------------------

روايتهم .

( وحاصل الثاني : أنّا لا نعملُ برواياتهم ، إلاّ إذا إنضمّ إليها روايةُ غيرهم ) من العدول .

لا يقال : أولاً : ما هو الفارق بين روايات هؤلاء وروايات العامّة ؟ .

ثانياً :ما فائدة روايات هؤلاء ، إذا إحتاجت إلى إنضمام روايات العدول ؟ .

لانه يقال عن الأول : إنّ الفارق هو : إنّ هؤلاء كانوا في طريق الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وإن لم يقبلوا بعضهم ، وليسوا كالعامّة الذين أنكروهم إطلاقاً حتى بالنسبة الى الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث جعلوه الخليفة الرابع ، ولذا عدّ هؤلاء من طوائف الشيعة بخلاف العامّة .

وعن الثاني : إنّ الانضمام يوجب كثرة الوثاقة والتأييد ، وأحيانا يحصل بذلك الاستفاضة والتواتر ، فانه وإن لم يكن حينئذ من الخبر الواحد ، لكنّا ذكرنا ذلك إنه من جملة فوائد الانضمام .

( ومثل الجواب الأخير ) وهو : عمد العمل إلاّ إذا إنضم إلى روايات هؤلاء روايات غيرهم من العدول ( ذكر ) شيخ الطائفة ( في رواية الغُلاة ومن هو مُتَّهَمٌ ) بالكذب والوضع ( في نقله ) فانه حينئذٍ يكون من التأييد والتأكيد ، إلى آخر ما ذكرناه.

( وذكر ) الشيخ ( الجوابين أيضاً في روايات المجبّرة والمشبهة ) الذين هم من القائلين بالأئمة عليهم السلام ( بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ) فيكون حاصل جوابه

ص: 76

لأنّ روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه ، لا يدلّ على ذهابهم إليه . ثمّ قال : فان قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم على صحّتها ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن الاعتمادُ على

-------------------

ما يلي :

أولاً : إنّا لا نسلّم أنهم مجَبّرة وَمُشَبّهة .

( لأن روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه ، لا يدلّ على ذهابهم إليه ) وإعتقادهم به .

ثانياً : إنه لو ثبت كونهم مجبّرة أو مشبهة نقول : بأنّ رواياتهم إنما تقبل إذا أيدّتها روايات العدول .

( ثم قال ) الشيخ - مستشكلاً على ما ذكره من الكلام المتقدم بقوله : ( فان قيل : ما أنكرتم ) أي : لا تنكرون ( ان يكون الذين اشرتم إليهم ) من الطوائف المنحرفة وما يروونه من الأخبار ، ان الفرقة ( لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ) فانكم إحتملتم إنّ الفرقة إنما عملوا بأخبار هؤلاء المنحرفين لا لمجرد هذه الأخبار ( بل إنّما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم ) اي : دلّت تلك القرائن ، الفرقة المحقة ( على صحّتها ) أي : على صحة أخبار الطوائف المنحرفة .

( ولأجلها ) أي : لأجل تلك القرائن ( عملوا بها ) أي : بأخبار هذه الطوائف ( ولو تجرّدت ) أخبار هؤلاء عن تلك القرائن ( لما عملوا بها ) أي : ما عملت الفرقة المحقة بهذه الأخبار التي وردت عن هؤلاء المنحرفين في العقيدة .

( وإذا جاز ذلك ) أي : احتمل أن عمل الفرقة بأخبار المنحرفين ، إنّما كان بسبب القرائن وأخبار العدول ، لا لمجردها ، فحينئذٍ ( لم يكن الاعتماد على

ص: 77

عملهم بها .

قيل لهم : القرائنُ التي تقترنُ بالخبر وتدلَ على صحّتِه أشياء مخصوصة ، نذكرها فيما بَعدُ من الكتاب والسنّة والاجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل ، التي إستعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنّها أكثر من أن تحصى ، موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لانه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه ،

-------------------

عملهم بها ) أي : إنّ الفرقة إذا لم يعملوا بأخبار المنحرفن مجردة عن القرائن الدالة على صحتها ، فما فائدة أخبار المنحرفين حين كان الاعتماد على أخبار العدول التي هي قرائن على صحة أخبار المنحرفين ؟ .

( قيل لهم : القرائنُ التي تقترنُ بالخبر ، وتدلّ على صحّتِه ، أشياء مخصوصة ، نذكرها فيما بَعدُ من الكتاب والسنّة والاجماع ) والعقل ( والتواتر ، ونحن نعلم : أنّه ليس في جميع المسائل ، التي إستعملوا فيها ، أخبار الآحاد ذلك ) فانّ أخبار الآحاد الواردة عن المنحرفين ، لم تكن كلها مقترنة بأحد القرائن المذكورة ( لأنّها ) أي : المسائل التي عملوا فيها بأخبار هؤلاء المنحرفين ( أكثر من أن تحصى ) وهي (موجودة في كتبهم ، وتصانيفهم ، وفتاواهم ) .

ووجه علمنا بعدم وجود القرينة في جميع هذه المسائل ، هو : ( لانّه ليس في جميعها ) أي : في جميع المسائل التي إستندوا فيها الى اخبار المنحرفين ( يمكن الاستدلال ) على صحتها ( بالقرآن ) حتى يكون القرآن قرينة على صحة خبر المنحرف ( لعدم ذكر ذلك ) أي : جميع المسائل ( في صريحه ) أي : في صريح القرآن ( وفحواه ، ودليله ، ومعناه ) .

ص: 78

ولا في السنّة المتواترة ، لعدم ذكر ذلك في أكثر الأحكام ، بل وجودها في مسائل معدودة ، ولا في إجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة ، و من ادّعى القرائن في

-------------------

ولعل المراد بالفحوى : المناط الواقعي .

وبالدليل : المفهوم الموافق والمخالف .

وبالمعنى : الدلالة الالتزامية .

أو يقال : مراده : انّه لا يدلّ القرآن بالمطابقة ، ولا بالتضمن ، ولا بالالتزام ، ولا بدلالة الاقتضاءٌ ، على كل تلك المسائل ، فالمطابقة : الصريح ، والتضمن : الفحوى ، والالتزام : الدليل ، ودلالة الاقتضاء : المعنى .

( ولا ) يمكن الاستدلال بالسنّة المتواترة ، لعدم ذكر جميع المسائل التي استندوا فيها الى روايات المنحرفين ( في السنّة المتواترة ، لعدم ذكر ذلك ) أي السنة المتواترة ( في أكثر الأحكام ، بل وجودها ) أي : السنة المتواترة ( في مسائل معدودة ) ، معروفة ، فان التواتر نادر في المسائل الشرعية .

( ولا ) يمكن الاستدلال بالاجماع لعدم ذكر جميع تلك المسائل التي رووا فيها روايات عن المنحرفين ( في اجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ) حيث ان كثيراً من الأحكام مختلف فيها عند الفقهاء ، فلا إجماع يعضد كل تلك المسائل التي إستند الأصحاب فيها الى روايات المنحرفين .

ومن الواضح : أنّه ليس في كل مسألة حكم عقل مطابق للخبر ، كما انّه ليس في كل مسألة شهرة محققة حتى يقال : بأنّ الشهرة هي المستند والقرينة .

( فعلم : أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك ) الذي إستندوا فيه الى أخبار المنحرفين ( دعوى محالة ) أي : غير محققة ( ومن إدّعى القرائن في

ص: 79

جميع ما ذكرنا ، كان السبرُ بيننا وبينه ، بل كان معوّلاً على ما يعلم ضرورةً خلافه ومدّعياً لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إنّي متى عَدِمتُ شيئاً من القرائن حكمتُ بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به .

-------------------

جميع ما ذكرنا ، كان السبّرُ ) أي : الاستقراء والتحقيق ( بيننا وبينه ) فانّ بالفحص والاستقراء ينكشف عدم صحة دعواه .

( بل كان ) هذا المدعي ( معوّلاً على ما يعلم ضرورةً خلافه ) حيث انّه إعتمد في دعواه على مجرد كلام فارغ ، لا شاهد له من الخارج ( و ) كان ( مدّعياً لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه ) أما نقيضه : فحيث يعلم انه لا قرينة له ، وهو يدعي القرينة ، وأما ضده : فلوجود بعض الشواهد على عدم القرينة .

مثلاً : لو قالت الرّواية التي يرويها الفطحي : صلاة الجمعة في عصر الغيبة محرمة ، فقد يكون قرينة ، وقد لا يكون لها قرينة ، وقد تكون القرينة على خلاف الحرمة ، فهو مثل أن يقول : أسدٌ يرمي ، أو أسد ، أو أسد يفترس .

ففي الأول : قرينة المجاز .

وفي الثاني : خلو عن القرينة .

وفي الثالث : قرينة على انّ المراد بالأسد : الحقيقة .

( ومن قال عند ذلك ) أي : عند عدم وجود القرينة ، على أخبار المنحرفين ( : إنّي متى عَدِمتُ شيئاً من القرائن ، حكمتُ بما كان يقتضيه العقل ) ممّا معناه : انّه يلزم ان يكون لخبر الفطحي - مثلاً- قرينة شرعية ، أو عقلية ، والحال انه ليس كذلك ، ف ( يلزمه : أن يترك أكثر الأخبار ، وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها ) أي في الأحكام ( بشيء ورد الشرع به ) لأنّه لايوجد لكثير من الأحكام التي رواها

ص: 80

وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافُه » انتهى .

ثمّ أخذ في الاستدلال ثانياً على جواز العمل بهذه الأخبار : بأنّا وجدنا أصحابنا مختلفين

-------------------

المنحرفون ، القرائن العقلية ولا الشرعية .

( وهذا ) أي : ترك أكثر الأحكام لعدم وجود القرائن ( حدّ ) أي طرف ( يرغب ) أي : يعرض ( أهل العلم عنه ) أي : عن ذلك الحد ، فلايصلون الى مثل ذلك الحد أبداً .

( ومن صار إليه ) أي : الى هذا الحد ( لايحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلاً على مايعلم ضرورة من الشرع خلافُه ) (1) لأنّا نعلم بالضرورة إنّ الشارع لايرضى بترك أكثر الأحكام ، لمجرد انّ الرواة الثقاة كانوا منحرفين في بعض عقائدهم .

( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة ممّا خلاصته : انه استدل بحجّية أخبار الثقاة - وان كانوا منحرفين في بعض عقائدهم - بأمور :

أولاً : بعمل الطائفة بها .

ثانياً : بأنّ بعضهم لم يرد على بعض حين يعتمد طرفه على الخبر الواحد .

ثالثاً : بأنّ وضعهم لكتب الرجال ، دليل على حجّية خبر الواحد عندهم ، وإلاّ فما هي الفائدة من وضع هذه الكتب ؟ .

( ثمّ أخذ ) شيخ الطائفة ( في الاستدلال ثانياً : على جواز العمل بهذه الأخبار ) التي رواها الثقاة من أصحابنا ، وقال : ( بأنّا وجدنا أصحابَنا مختلفين

ص: 81


1- - عدّة الاصول : ص51 - 58 .

في المسائل الكثيرة ، في جميع أبواب الفقه ، وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ، ولم يُعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ، فدلّ ذلك على جوازه عندهم .

ثمّ إستدلّ ثالثاً على ذلك : بأنّ الطائفة وضعت الكتب لتمييز الرّجال الناقلين لهذه الاخبار وبيان أحوالهم من حيث العدالة ، والفسق ، والموافقة في المذهب ، والمخالفة ، وبيان من يعتمد على حديثه ومن لايعتمد ، وإستثنوا الرّجال من جملة مارَوَوه في التصانيف ،

-------------------

في المسائل الكثيرة ، في جميع أبواب الفقه ) من الطهارة الى الدّيات ( وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ) الواردة في الاصول الأربعمائة وغيرها ( ولم يُعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ) لأجل عمله بهذه الأخبار .

ومن الواضح : انّ سبب إختلافهم في الأحكام ، مع إستنادهم جميعاً الى هذه الأخبار ، إنّما هو بسبب فهم كل واحد منهم من هذه الأخبار شيئاً غير الذي فهم الآخر منها ، وهذا الاختلاف في الفهم منشئاً لاختلافهم في الاحكام .

( فدلّ ذلك على جوازه ) أي جواز العمل بالأخبار المذكورة ( عندهم ) وإنهم يَرَون حجّية الخبر الواحد ، إذا كان رواية ثقة ، سواء كان عدلاً أم لا ؟ .

( ثم إستدلّ ) الشيخ ( ثالثاً : على ذلك ) أي : على حجّية خبر الواحد إذا كان راوية ثقة ، وقال : ( بأنّ الطائفة وضعت الكتبَ ) في علم الرّجال ( لتمييز الرّجال الناقلين لهذه الأخبار ، وبيان أحوالهم من حيث : العدالة ، والفسق ، والموافقة ) لنا ( في المذهب ، والمخالفة ) لنا في العقيدة ( وبيان من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، وإستثنوا ) بعض ( الرّجال ) من الرّواة ( من جملة ما رَوَوه في التصانيف ) بأن قالوا : انّ فلاناً وفلاناً لايصح العمل بأخبارهم إطلاقاً ، ممّا يدل

ص: 82

وهذه عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه ، فلولا جواز العمل برواية من سَلِمَ عن الطعن لم يكن فائدةٌ لذلك كلّه » ، انتهى المقصود من كلامه ، زاد اللّه في علوّ مقامه .

وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه ، حتى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ، وأنّه لو اقتصر على الأدلّة العلميّة ، وعُمِلَ بأصل البراءة

-------------------

على انّ غيرهم يصح العمل بأخبارهم .

( وهذه عادتهم ) أي : عادة أصحابنا ( من قديم الوقت الى حديثه ، فلولا جواز العمل برواية من سَلِمَ عن الطعن ، لم يكن فائدةٌ لذلك كلّه ) (1) فلماذا علم الرّجال ؟ ولماذا الجرح والتعديل ؟ ولماذا بيان الموافقة والمخالفة ؟ وما إلى ذلك ؟ .

( إنتهى المقصود من كلامه ) أي : كلام شيخ الطائفة رحمه اللّه وما يدّعيه ( زاد اللّه في علوّ مقامه ) من الاجماع على العمل بالخبر الواحد ، وبوجوه متعددة ، تقدّم ذكرها فيما سبق .

هذا ( وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب ) وهو حجّية خبر الواحد ( بما لامزيد عليه ، حتى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ) من انّه لو إنسد باب العلم بالأحكام - لقلة المتواتر ، والمحفوف بالقرائن القطعية ، والاجماع ، والعقل القطعي - لزم مع ذلك أن نعمل بالأخبار ، حتى لانخرج عن الدّين .

( و ) ذلك من المعلوم ( أنّه لو إقتصر على الأدلّة العلميّة ، وعُمِلَ بأصل البرائة

ص: 83


1- - عدّة الاصول : ص58 .

في غيرها ، لزم ماعلم ضرورة من الشرع خلافُهُ . فشكر اللّه سعيه .

ثمّ إنّ من العجب أن غير واحد من المتأخرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة ، قال في المعالم ، على ماحكي عنه : « والانصافُ أنّه لم يتضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس سره ، إذ كانت أخبار الأصحاب

-------------------

في غيرها ، لزم ماعلم ضرورة من الشرع خلافُهُ ) اذ يلزم من اجراء أصالة البرائة طرح أكثر الأحكام الشرعية ، وهو غير جائز ، فيفيد : انّه حتى لو لم يكن الخبر الواحد حجّة بنفسه ، لكنّه يلزم علينا أن نعمل به من باب الظّن المطلق ، فانّه لاطريق أقرب منه .

إذن : فالشيخ رحمه اللّه ، وإن لم يذكر دليل الانسداد كله، لكنّه أَلمع إِليه في عبارته المتقدّمة ، كما هو واضح ( فشكر اللّه سعيه ) وعليه أجره ، فيما أفاد من هذا البحث الشريف .

( ثمّ إنّ من العجب أنّ غير واحد من المتأخرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى : عدم دلالة كلام الشيخ على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة ) مع إنّك قد عرفت : انّ في مواضع من كلام الشيخ تصريح واضح بحجّية الخبر المجرد .

( قال في المعالم على ماحكي عنه ) - حيث إنّ المعالم لم يكن حاضراً عند المصنّف ليرى العبارة بنفسه - مالفظه ( : والانصافُ إنّه لم يتضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس سره ) فانّ السيّد ذهب الى عدم حجّية الخبر ، والشيخ ذهب الى حجيته .

وإنّما لم يتضح من حال الشيخ مخالفة السيّد ( إذ كانت أخبار الأصحاب

ص: 84

يومئذٍ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه السلام ، وإستفادة الأحكام منهم عليهم السلام ، وكانت القرائن المعاضدةُ لها متيسّرةً ، كما أشار إليه السيّد قدس سره، ولم يعلم أنّهم إعتمدوا على الخبر المجرّد ، ليظهر مخالفتهُم لرأيه فيه. وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه حيث قال في المعارج : « ذهب شيخنا أبو جعفر قدس سره ، الى العمل بخبر االواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقاً

-------------------

يومئذ ) أي في زمان الشيخ والسيّد ( قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه السلام ) لأنّهم كانوا في عصر الغيبة الصغرى ، أو حواليها ( و ) كان بامكانهم ( إستفادة الأحكام منهم عليهم السلام ) شفاها ، أو بوسائط قليلة .

( وكانت القرائنُ ) التي تقدّمت من الكتاب ، والسّنة المتواترة ، والاجماع ، والعقل ، والشهرة ونحوها ( المعاضدةُ لها ) أي : لتلك الأخبار ( متيسّرةً ، كما أشار إِليه ) أي : الى ما ذكرناه : من قرب عهدهم ، وتيسّر القرائن بالنسبة إليهم ( السيّد قدس سره ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا معلومة مقطوع على صحتها ، إما بالتواتر ، وإما بأمارة وعلامة دلت على صحتها .

قال صاحب المعالم : ( ولم يعلم أنّهم ) أي : الشيخ وأتباعه الذين قالوا بحجّية خبر الواحد ( إعتمدوا على الخبر المجرّد ، ليظهر مخالفتهم ) أي : الشيخ وأتباعه ( لرأيه فيه ) أي : لرأى السيّد في الخبر .

هذا ( وتفطّن ) من الفطنة أي : توجه والتفت ( المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه ) : من إنّ حجّية الأخبار ، إنّما هي لاحتفافها بالقرائن من الأدلة الأربعة وغيرها ( حيث قال في المعارج : ذهب شيخنا أبو جعفر قدس سره إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وان كان مطلقاً ) حيث ان الشيخ

ص: 85

فعند التحقيق يتبيّن أنه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الأخبار التي روِيت عن الأئمة عليهم السلام ، ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الذي تَبيّنَ لي من كلامه . ويدّعى إجماع الاصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الاماميّ ، وكان الخبر سليماً عن المعارض وإشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به » ، انتهى .

قال بعد نقل هذا عن المحقّق : « وما فهمه المحقّقُ من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد

-------------------

لم يقيِّد الخبر بأن يكون محفوفاً بالقرائن ( فعند التحقيق يتبيّن أنّه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الأخبار التي رُويَت عَن الأئمة عليهم السلام ودوّنها الأصحاب ) في كتبهم الموثوقة ، من الاصول الأربعمائة وغيرها .

( لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ) وإن لم يكن محفوفاً بالقرائن .

ثم قال المحقق : ( هذا هو الّذي تَبيّنَ لي من كلامه ) أي : من كلام الشيخ ( و ) إنه ( يدّعي ) بحسبه ( : إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار ) المحفوفة بالقرائن ( حتى لو رواها غير الاماميّ ، وكان الخبر سليماً عن المعارض ، وإشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به ) مما يظهر منه : إنّ الخبر إنّما يعمل به للاشتهار ، وغيره من القرائن ، ولو كان الرّاوي عامياً ، ( إنتهى ) كلام المحقّق .

( قال ) صاحب المعالم : ( بعد نقل هذا عن المحقّق : ومافهمه المحقّقُ من كلام الشيخ ) من إشتراط حجّية الخبر باحتفافه بالقرينة ( هو الذي ينبغي ان يعتمد

ص: 86

عليه ، لا ما نسبه العلاّمة إليه » ، انتهى كلام صاحب المعالم .

وأنت خبيرٌ بأنّ ماذكره في وجه الجمع ، من تيسّر القرائن وعدم إعتمادهم على الخبر المجرّد ، قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه ، حيث قال : « إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى مُحالة ، وانّ المدّعي لها معوّلٌ على مايَعلَمُ ضرورةً خلافَه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه » .

-------------------

عليه ) في فهم مذهب الشيخ ( لا مانسبه العلاّمة إليه ) (1) أي : إلى الشيخ من حجّية الخبر مطلقاً ( إنتهى كلام صاحب المعالم ) .

لكنَّ كلام العلاّمة في النسبة إلى الشيخ ، هو الذي ينبغي ان يفهم من عبارات الشيخ المتقدّمة ، لا مانسبه صاحب المعالم اليه .

( وأنت خبيرٌ بأنّ ماذكره ) صاحب المعالم ( في وجه الجمع ) بين كلام السيّد القائل : بعدم حجّية الخبر المجرّد ، وكلام الشيخ القائل بحجّية هذه الأخبار ( من تيسّر القرائن ، وعدم إعتمادهم على الخبر المجرّد ) وإن الشيخ كالسيّد في العمل بالخبر المحفوف بالقرائن ، لا انّ الخبر بنفسه حجّة وإن كان طريقه عدلاً ضابطاً إمامياً ، غير تام .

وذلك لأنه ( قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه حيث قال : إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك ) الذي إستند إليه الفقهاء من الاخبار في فتاواهم ( دعوى مُحالة ، وإنّ المدّعي لها ) أي : لهذه الدعوى ( معوّلٌ ) أي : مستند - بالكسر - على صيغة الفاعل ( على مايَعلَمُ ضرورة خلافه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه ) .

ص: 87


1- - معالم الدين : ص197 .

والظاهر بل المعلوم أنّه قدس سره ، لم يكن عنده كتاب العُدّة .

وقال المحدّث الاستراباديّ في محكيّ الفوائد المدنيّة : « إنّ الشيخ قدس سره ، لايجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم عليهم السلام ، وذلك هو مراد المرتضى قدس سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه » . انتهى كلامه .

-------------------

وقد تقدمت هذه العبارة من الشيخ ، وبيّنا معناها .

( والظاهر ، بل المعلوم : أنّه ) أي : صاحب المعالم ( قدس سره ، لم يكن عنده كتاب العُدّة ) للشيخ ، حتى يراجعه فيرى إنّ الشيخ يحكم فيه صراحة : بحجّية الخبر الواحد المجرد إذا رواه أصحابنا .

( وقال المحدّث الاستراباديّ في محكيّ الفوائد المدنيّة : إنّ الشيخ قدس سره لايجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم عليهم السلام ، وذلك هو مراد ) السيد ( المرتضى قدس سره ، فصارت المناقشة ) بين السيّد والشيخ ( لفظيّة ) لأنّ مرادهما واحد ، وهو العمل بالخبر المحفوف بالقرينة .

فالسيّد النافي للعمل بالخبر يريد : غير المحفوف ، والشيخ المثبت له ، يريد : الخبر المحفوف بالقرينة .

ثم أضاف المحدِث المذكور قائلاً ( لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه ) (1) من إن النزاع بين السيّد والشيخ معنوي ، وان الشيخ يجيز العمل بالخبر الواحد ولو كان بلا قرينة ، والسيّد المرتضى لايجيز العمل به إلاّ بالقرينة فيكون النزاع بينهما - على ذلك - معنوياً ( إنتهى كلامه ) أي : الامين الاسترابادي .

ص: 88


1- - الفوائد المدنية : ص67 .

وقال بعضُ من تأخّر عنه من الأخباريين في رسالته ، بعدما استحسن ما ذكره صاحبُ المعالم : « ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد ، من كلام المحقّق قدس سره ، كما هو حقّه . والذي يظهر منه أنّه لم يرَ عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحقّق قدس سره ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا . وكم له من تحقيق ، أبان به من غفلات المتأخرين ، كوالده وغيره . وفيما ذكره كفايةٌ لمن طلب الحقّ أو عرفه .

-------------------

( وقال بعضُ من تأخّر عنه من الأخباريين ) وهو السيّد الصدر ( في رسالته بعدما إستحسن ماذكره صاحبُ المعالم ) من إنّ النزاع بين السيّد والشيخ لفظي ، فقال : ( ولقد أحسن النظر ، وفهم طريقة الشيخ والسيّد - من كلام المحقّق قدس سره - كما هو حقّه ) أي : فهمه منه حق الفهم .

ثم قال السيد الصدر : ( والذي يظهر منه ) أي : من صاحب المعالم ( أنّه لم ير عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ) الذي إدعاه من مراد الشيخ : بانّ الخبر يحتاج في جواز العمل به الى القرينة ، وإلاّ لم يكن حجّة ( ممّا نقله المحقّق قدس سره ولو رأها ) أي : رأى صاحب المعالم عدّة الشيخ ( لصدع ) وقضى ( بالحقّ أكثر من هذا ) الذي ذكره .

( وكم له ) أي : لصاحب المعالم ( من تحقيق ، أبان به ) أي : بتحقيقه ذلك كثيراً ( من غفلات المتأخّرين كوالده ) الشهيد الثاني ( وغيره ) من العلماء بتحقيقاتهم العلمية الصائبة .

( وفيما ذكره ) صاحب المعالم جمعاً بين كلامي السيّد والشيخ ، حيث يرجع الأمر بذلك الى النزاع اللّفظي بينهما ( كفايةٌ لمن طلب الحق أو عرفه ) فانّ من يعرف الحق يعرفه ، وإنّ من يطلب الحق يصل اليه .

ص: 89

وقد تقدّم كلامُ الشيخ ، وهو صريحٌ فيما فهمه المحقّق قدس سره ، وموافق لما يقوله السيّد قدس سره ، فليراجع .

والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم ماذكره الشيخ في العُدّة ، من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الاماميّ ، ولم يتأمّل بقيّة الكلام ، كما تأملّه المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يُجوّزُ العملَ بهذه الأخبار التي دونها الأصحابُ وإجتمعوا على جواز العمل بها . وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها ،

-------------------

ثم قال السيّد الصدر : ( وقد تقدّم ) فيما كتبته من رسالتي ( كلامُ الشيخ ، وهو صريحٌ فيما فهمه المحقّق قدس سره ) من انه يرى حجّية الخبر المحفوف بالقرينة ( وموافق لما يقوله السيّد قدس سره ) من عدم حجّية الخبر المجرد عن القرينة ( فليراجع ) هناك ليرى كلام الشيخ ، فيعرف إنّ النزاع بينه وبين السيّد لفظي .

ثم قال السيّد الصدر : ( والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم ) حتى إدعى ان النزاع بين السيّد والشيخ معنوي ، وإنّ الشيخ يجيز العمل بالخبر المجرد ، بخلاف السيّد الذي لايجوّز العمل إلاّ بالخبر المحفوف بالقرينة ( ماذكره الشيخ في العُدّة : من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الاماميّ ) حيث إن هذا الكلام يدل على ما إستفاده العلاّمة من الشيخ .

( و ) لكن ( لم يتأمّل ) العلاّمة ( بقيّة الكلام ، كما تأمّله المحقّق ، ليعلم انّه ) أي : الشيخ ( إنّما يجوّز العملَ ) لا بكل خبر ، وإنّما ( بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ) في اصولهم وكتبهم ( وإجتمعوا على جواز العمل بها ) أي : بتلك الأخبار .

( وذلك ) أي : تدوين الأصحاب لهذه الأخبار ، وإجتماعهم على العمل بها ( ممّا ) يكون قرينة عامة ( يوجب العلم بصحتها ) أي : بصحة هذه الأخبار ، فهذه

ص: 90

لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ، وإلاّ فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمة عليهم السلام - مع قدرتهم على أخذ اصول الدّين وفروعه منهم عليهم السلام بطريق اليقين : أن يُعوّلوا فيها على أخبار الآحاد المجرّدة . مع أنّ مذهب العلاّمة وغيره أنّه لابدّ في اُصول الدّين من الدليل القطعيّ وأنّ المقلّد في ذلك خارجٌ عن ربقَة الاسلام .

-------------------

الأخبار المدونة ، فيها قرائن عامة على صحتها ، والشيخ إنما يعمل بهذه الأخبار ، لا بالخبر المجرد عن القرائن فهو ( لا ) يرى ( انّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ) وان كان مجرداً عن القرينة .

( وإلاّ ) بان لم تكن هذه الأخبار المدونة في الاصول ، وكتب الأصحاب ، معلومة الصحة عندهم بالقرائن العامة ( فكيف يظنّ بأكابر الفرقة النّاجية وأصحاب الائمة عليهم السلام ، مع قدرتهم على أخذ اصول الدّين وفروعه منهم عليهم السلام بطريق اليقين ) وذلك بالسؤال عن الائمة عليهم السلام مباشرة حيث كان يمكن لهم الرجوع إليهم ، فكيف يظّن بهؤلاء ( ان يُعوّلوا فيها ) أي : في اصول الدّين وفروعه ( على أخبار الآحاد المجرّدة ) عن القرائن ؟ .

هذا ( مع إنّ مذهَبَ العلاّمة وغيره ) من الذين يقولون بحجّية الخبر الواحد في فروع الدين ( إنّه لابدّ في أصول الدّين من الدّليل القطعي ) والبرهان المنطقي ( وإنّ المقلّد في ذلك ) - أي في اصول الدين ( خارج عن رِبقَة الاسلام ) كما صرح به العلاّمة في كتابه « شرح الباب الحادي عشر » فكيف يحتمل في مثل هؤلاء الأعاظم ان يرجعوا في اصول الدين الى الأخبار المجردة عن القرائن القطعية ؟ .

ص: 91

وللعلاّمة وغيره كثيرٌ من هذه الغفلات ، لأُلفَةِ أذهانهم باصول العامّة .

ومن تتبّع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن ، المفيدة للعلم . وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء وإلافتاء ، واللّه الهادي » ، انتهى كلامه .

-------------------

( وللعلاّمة وغيره كثيرٌ من هذه الغفلات ، لأُلفَةِ أذهانهم باصول العامّة ) حيث انّ العامّة يرجعون الى الخبر المجرد عن القرائن القطعية ، في فروع الدين واصوله .

( ومن تتبع كتب القدماء ) من علمائنا رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ( وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريين من أصحابنا ) الذين عملوا في الاصول والفروع بالخبر الواحد ( لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم ، إلاّ على الأخبار المتواترة ، أو الآحاد المحفوفة بالقرائن ، المفيدة للعلم ) المورثة للقطع واليقين ، ومن الواضح : إنّ القطع واليقين حجّة بنفسه من المولى على العبد ، ومن العبد على المولى .

( وأمّا الخبر الواحد ) المجرّد عن القرائن القطعية ، الداخلية أو الخارجية ( فيوجب عندهم الاحتياط ) فيما ورد فيه الخبر الواحد ( دون القضاء والافتاء ) فانّ المفتي منهم لايفتي بمجرد الخبر الواحد ، كما إنّ القاضي منهم لايقضي بمجرد الخبر الواحد .

وذلك ظهر : انّهم انّما عملوا بأخبار الآحاد لاحتفافها بالقرينة القطعية ( واللّه الهادي ، إنتهى كلامه ) أي : كلام السيّد الصدر .

ص: 92

أقول : أمّا دعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها ، وأنّه ليس مخالفاً للسيّد ، هو كمصادمة الضرورة ، فانّ في العبارة المتقدّمة من العُدّة ، وغيرها ممّا لم نذكرها ، مواضع تدلّ على مخالفة السيّد ، نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدونّة إلاّ أنّ السيّد يدّعي تواترها له أو إحتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ، كما صرّح به

-------------------

( أقول ) في كلام السيّد الصدر مواقع للنظر :

الأوّل : ماأشار اليه المصنّف بقوله : ( أمّا دعوى : دلالة كلام الشيخ في العُدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلمية ، دون المجرّدة عنها ، وأنّه ) أي : شيخ الطائفة ( ليس مخالفاً للسيّد ، فهو كمصادفة ) وانكار ( الضرورة ) والبديهة .

( فانّ في العبارة المتقدّمة من العُدّة ، وغيرها ) أي : غير تلك العبارة ( ممّا لم نذكرها ، مواضع تدلّ على مخالفة ) الشيخ لما عليه ( السيّد ) حيث يقول الشيخ فيها بحجّية خبر الواحد حتى غير المحفوف بالقرينة ، بينما السيّد يقول بحجّية المحفوف بالقرينة فقط .

( نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار ) فالسيّد والشيخ يتوافقان في العمل بالأخبار ( المدوّنة ) في الأصول الأربعمائة وغيرها ( إلاّ انّ ) المناط في عملهما مختلف ، فانّ ( السيّد يدّعي تواترها له ) أي : تواتر تلك الأخبار لأجل ماتقدّم : من وجودها في الاصول المعتبرة والكتب المدونة .

( أو إحتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ) من القرائن الداخلية أو الخارجية .

( كما صرّح به ) أي بما ذكرناه : من تواترها ، أو إحتفافها بالقرائن القطعية

ص: 93

في محكيّ كلامه ، في جواب المسائل التبّانيّات ، من : « انّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا ، معلومة مقطوعٌ على صحتها ، إمّا بالتواتر أو بأمارة وعلامة تدلّ على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن وجدناها في الكتب مودعة بسند مخصوص من طريق الآحاد » ، انتهى .

-------------------

( في محكيّ كلامه في جواب المسائل التبّانيّات من ) المسائل المنسوبة الى « تبّان » وهي قرية من قرى أطراف « حران » في العراق .

وإنما نسبت هذه المسائل الى « تبان » لأن أهل هذه القرية سألوا السيّد المرتضى عنها ، فأجابهم ، فسميت بها ، أو إن السيّد بنفسه كان في هذه القرية ، فكتب هذه المسائل وسماها : بالمسائل التبانيّة ، وكان هذا متعارفاً عند قدماء الاصحاب ، فانهم إذا وجهت إليهم مسائل من مكان غير بلدهم ، أو كانوا هم في مكان غير بلدهم ، فكتبوا المسائل وأجابوا عليها ، نسبوها الى ذلك المكان وقالوا : المسائل الفلانية ، كالمسائل التبانيّات - مثلاً- .

فان السيّد المرتضى قال في جوابها كما حكي عنه ( : ان اكثر أخبارنا المروية في كتبنا ، معلومة مقطوعٌ على صحتها ) ومعلوميتها ( إما بالتواتر ، أو بأمارة وعلامة تدل على صحتها وصدق رواتها ،فهي ) أي تلك الأمارة والعلامة ( موجبة للعلم مفيدة للقطع ، وان وجدناها ) أي : تلك الاخبار ( في الكتب مودعة ) أي : مذكورة ( بسند مخصوص من طريق الآحاد ، إنتهى ) (1) فانّ إيداعها في الكتب بطريق الآحاد ، لا يوجب عدم إحتفافها بالقرائن القطعية أو بالتواتر من جهة خارجية .

ص: 94


1- - معالم الدين : ص197 .

والشيخ يأبى عن إحتفافها بها ، كما عرفت من كلامه السابق في جواب ما أورده على نفسه ، بقوله : « فان قيل : ماأنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائنٍ اقترنت بها دلّتهم على صحتّها » ، إلى آخر ماذكره .

ومجرد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ - لدعوى الاوّل تواتره ، والثاني كون الخبر الواحد حجّة - لا يلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ،

-------------------

هذا ( والشيخ يأبى عن احتفافها ) أي : تلك الاخبار ( بها ) أي : بالقرائن ( كما عرفت من كلامه السابق في جواب ما أورده )الشيخ ( على نفسه ، بقوله : فان قيل : ما أنكرتم ) و « ما » : نافية أي لا تنكرون ( أن يكون الذين اشرتم إليهم ، لم يعملوا بهذه الاخبار بمجردّها ، بل إنما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم على صحتها ، الى آخر ما ذكره ) فانّ الشيخ رحمه اللّه انكر إحتفاف الأخبار - الواردة في الكتب ، المودعة بطريق الآحاد - بالقرائن الموجبة للقطع ، بل قال : إنّ مثل هذه الدعوى ، دعوى محالة .

( و ) من المعلوم : انّ ( مجرد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ ) كالاخبر المدونة في الكتب المشهورة ، والمودعة في الاصول الأربعمائة ( لدعوى الاوّل ) وهو السيد ( تواتره ، والثاني ) وهو الشيخ ( كون الخبر الواحد ) بشرط إجتماعه للشرئط ( حجّة ، لايلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ) حتى يقال ان السيّد والشيخ متوافقان في حجية خبر الواحد والنزاع بينهما لفظي - كما ذكره من تقدّم - لوضوح : أنّ النتيجة الواحدة ، لا يستلزم ان يكون الطريق اليها واحداً .

مثلاً : كل من المسيحي والمسلم يقول : ان عيسى عليه السلام منزه ، لكن المسيحي

ص: 95

فانّ الخلاف فيها يثمِر في خبر يدعي السيّد تواتره ولا يراه الشيخ جامعاً لشرائط الخبر المعتبر وفي خبر يراه الشيخُ جامعاً ولم يحصل تواتره للسيّد ، إذ ليس جميعُ ما دوّن في الكتب متواتراً عند السيّد ولا جامعاً لشرائط الحجيّة عند الشيخ .

ثمّ إنّ اجماعَ الاصحاب الذي إدعاه الشيخ على العمل بهذه الأخبار

-------------------

يقول : لانّه إله ، والمسلم يقول :لأنّه نبي ، فالاتحاد في النتيجة لا يستلزم الاتحاد في الطريق ، ( ف- ) ان قلت : فما هي الثمرة في هذا الخلاف ، والحال أنّ كلاً من السيّد والشيخ يرى حجية هذه الاخبار المودعة في كتبنا ؟ .

قلت : ( انّ الخلاف فيها ) أي : في مسألة حجّية خبر الواحد ( يثمر في خبر يدّعي السيّد : تواتره ، ولا يراه الشيخ جامعاً لشرائط الخبر المعتبر ) من العدالة ، أو الوثاقة ، أو الضبط ، أو ما اشبه ، فان السيّد يعمل به لادعائه تواتره ، بينما الشيخ لا يعمل به لرؤيته عدم إجتماعه لشرائط الحجّية .

( و ) هكذا ( في خبر يراه الشيخ جامعاً ) للشرائط فيعمل به ( ولم يحصل تواتره للسيّد ) فلا يعمل به( اذ ليس جميعُ ما دوّن في الكتب متواتراً عند السيّد ، ولا جامعاً لشرائط الحجية عند الشيخ ) فبينهما عموم من وجه ، ولكلّ مورد افتراق عن الآخر .

ثم انّه قد تقدَّم منّا : انّ الشيخ المصنفّ رحمه اللّه ، تنظّر في كلام السيّد الصدر في مواقع منه ، وذكرنا أوّل المواقع ممّا أشار إليه المصنّف بقوله :« أما دعوى دلالة كلام الشيخ » الى آخره .

الثاني - ممّا تنظَّره الشيخ المصنّف رحمه اللّه على كلام السيّد الصدر - ما أشار إليه بقوله : ( ثم ان إجماع الاصحاب الذي ادّعاه الشيخ على العمل بهذه الاخبار ،

ص: 96

لايصير قرينةً لصحتّها ، بحيث تفيد العلم حتى يكون حصولُ الاجماع للشيخ قرينة عامّة لجميع هذه الأخبار . كيف وقد عرفت إنكاره للقرائن حتى لنفس المجمعين ولو فُرضَ كون الاجماع على العمل قرينة ، لكنّه غير حاصل في كلّ خبر

-------------------

لا يصير قرينة ) عامة ( لصحتّها ، بحيث تفيد ) هذه القرينة العامة ( العلم ، حتى يكون حصول الاجماع للشيخ ، قرينة عامّة لجميع هذه الاخبار ) المدونّة في الكتب ، فانّ الشيخ إنّما ادعى : الاجماع العملي على اصل جواز العمل بالخبر الواحد وان لم تكن له قرينة : من تواتر ، أو غيره انه إدعى : صحة هذه الأخبار المدونة في الكتب جميعاً بسبب هذا الاجماع .

( كيف وقد عرفت : انكاره ) أي الشيخ ( للقرائن ، حتى لنفس المجمعين ؟ ) فقد تقدمت عبارة شيخ الطائفة في ذلك ، حين قال :« ونحن نعلم : أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد إحتفاف بالقرينة » الى آخر كلامه .

والحاصل : انّ السيّد يرى إحتفاف كل الأخبار بالقرائن القطعية ، بينما الشيخ لا يرى ذلك ، فان الاجماع الذي يدعيه الشيخ على العمل بهذه الاخبار ، لا يريد به : الاجماع على كل الاخبار فرداً فرداً ، وإنما يريد به : الاجماع في الجملة ، فالاجماع إذن ليس قرينة عامة لجميع هذه الاخبار .

( ولو ) اغمض النظر عن هذا الايراد الذّي ذكرناه ، و( فُرِضَ كون الاجماع على العمل قرينة ) على كون الخبر صادراً عن المعصومين صلوات اللّه عليهم اجمعين .

( لكنه )أي : الاجماع العملي من العلماء على هذه الاخبار ، إنّما هو في الجملة ، و ( غير حاصل في كلّ خبر ) خبر ، حتى يكون كل خبر خبر حجة - كما

ص: 97

بحيث يُعلم أو يظن أنّ هذا الخبر بالخصوص ، وكذا ذاك وذاك مما اجمع على العمل به ، كما لا يخفى ، بل المراد الاجماع على الرجوع إليها والعمل بها بعد حصول الوثوق

-------------------

يرى السيّد ذلك ، لأنّه يرى ان كل خبر خبر ، محفوف بالقرينة القطعية مما يوجب حجيته - ( بحيث يُعلم أو يظنّ : ان هذا الخبر بالخصوص وكذا ذاك وذاك ، ممّا اجمع على العمل به ) .

وعليه : فانّ الاجماع العملي لا يكون قرينة على صحة كل خبر ، خبر ، لأنّ نفس المجمعين لم يعملوا بكل خبر خبر ، ممّا يدل على إن الاجماع ليس عندهم قرينة عامّة على كل خبر خبر وإنما هو على فرض قرينيته ، قرينة في الجملة .

والحاصل : أنّ الشيخ المصنّف قد أشار في تنظّره الثاني على كلام السيّد الصدر الى أمرين :

الأوّل : إنّ الاجماع ليس قرينة على حجيّة أي خبر من هذه الاخبار - رأساً - .

الثاني : انّه على فرض إن الاجماع قرينة فهو قرينة في الجملة ، لا أنّه قرينة على كل خبر خبر .

( كما لا يخفى ) ذلك على من لاحظ كلام الشيخ في الاجماع على حجية هذه الاخبار .

( بل المراد : الاجماع على الرجوع اليها )أي : الى هذه الاخبار ( والعمل بها بعد حصول الوثوق ) والاطمئنان بها ، وعليه : فاجماع الاصحاب انّما هو على انّ هذه الاخبار ، لا مانع من العمل بها من حيث كونها أخباراً آحاداً مجردة عن القرائن ، اما

انه ما هي شروط حجيّتها ؟ فليس الكلام بصدده .

أما الشيخ نفسه ، فهو كبقية الاصحاب ، لا يرى مانعاً من العمل بخبر الواحد

ص: 98

من الرّاوي أو من القرائن .

ولذا استثنى القُميون كثيراً من رجال نوادر الحكمة ، مع كونه من الكتب المشهورة المجمع على الرجوع اليها ، واستثنى ابن الوليد من روايات العبيدي ما يرويها عن يُونُس ، مع كونها في الكتب المشهورة .

-------------------

من حيث كونه خبراً واحداً مجرداً ، لكن لا يكتفي بذلك ، بل يشترط حصول الوثوق ، وما اشبه ، بكل خبر خبر ، ولا يرى ان الاجماع قرينة عامة على حجية كل الاخبار ، وعلى فرض رؤيته ذلك لا يرى انّه قرينة على كل خبر خبر ، وإنما يراه قرينة في الجملة .

إذن : فالشيخ يرى الاجماع ممّا يوجب العمل بالخبر ، اذا حصل للسامع الوثوق به ( من )جهة ( الرّاوي ، أو من القرائن ) الخارجية الموجبة للوثوق وإن لم يعرف الانسان الرّاوي ، أو عرفه بعدم الوثوق .

( ولذا ) أي : لأجل إنهم أجمعوا على ان وحدة الخبر لا تمنع عن العمل به لا أنّهم اجمعوا على حجيّة كل خبر خبر ( إستثنى القُميون كثيراً من رجال نوادر الحكمة ) أي : لم يعملوا باخبارهم .

ولا يخفى : انّ كتاب نوادر الحكمة هو تأليف : محمد بن ابي عُمير ، الذي اشتهر بين العلماء انّ مراسيله حجّة كالمسانيد ، ( مع كونه ) أي : كتاب نوادر الحكمة ( من الكتب المشهورة ، المجمع على الرّجوع اليها ، و ) الاعتماد عليها .

و( استثنى ابن الوليد ) وهو من أجلّة علمائنا ( من روايات العبيدي ) وهو : محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين ( ما يرويها عن يُونُس ، مع كونها ) أي : الرّواية التي يرويها العبيدي عن يُونُس مدوّنة ( في الكتب المشهورة ) .

ص: 99

والحاصلُ انّ معنى الاجماع على العمل بها عدمُ ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الاجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها .

ثمّ إنّ ما ذكره - من تمكُّن أصحاب الائمة عليهم السلام ، من أخذ الاُصول والفروع بطريق اليقين - دعوى ممنوعة واضحة المنع ، وأقلُ ما يشهد عليها

-------------------

( والحاصل ) من التنظّر الثاني على كلام السيّد الصدر ، هو : ( انّ معنى الاجماع على العمل بها ) الذي يراه الشيخ ( : عدم ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الاجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها ) وهذا المعنى واضح في ان السيد والشيخ غير متوافقين على العمل بالاخبار الآحاد .

الثالث : ممّا تنظرّه المصنّف على السيد الصدر ، هو ما اشار إليه بقوله : ( ثمّ انّ ما ذكره ) السيّد الصدر ( من تَمَكُّن اصحاب الائمة عليهم السلام ، من أخذ الاصول والفروع بطريق اليقين ) من الائمة عليهم السلام ، ممّا نتيجته : انهم ما كانوا يعملون بالخبر ، ما لم يحصل لهم علم بصحته ( دعوى ممنوعة ، واضحة المنع ) .

وذلك لأنهم عليهم السلام كثيبراً ما كانوا يقولون أحكاماً مختلفة ظاهرها متضاد حقناً لدماء الشيعة ، والشيعة كانوا يعرفون ذلك ويعملون بهذه الاخبار الملقاة إليهم ، من دون أن يعلمون : انّ أياً من الأخبار يطابق الواقع ، وأنّ أياً منها يطابق التقية ، أو ما أشبه ذلك .

هذا ، بالاضافة الى انّ اصحاب الائمة عليهم السلام كانوا في البلاد المتباعدة ، والمناطق النائية ، بحيث كان لا يتمكن كل واحد منهم من الوصول الى الائمة عليهم السلام في جميع الأحكام التي يحتاج إليها من أوّل الطهارة الى آخر الديات .

( وأقلّ ما يشهد عليها ) أي : على ممنوعية هذه الدعوى التي ذكرها السيد

ص: 100

ما عُلم بالعين والاثر من إختلاف أصحابهم - صلوات اللّه عليهم - في الاصول والفروع ، ولذا شكى غيرُ واحد من أصحاب الائمة عليهم السلام ، إليهم اختلاف أصحابهم ، فأجابوهم تارة بأنهم عليهم السلام ، قد ألقوا الاختلاف بينهم ، حقناً لدمائهم ، كما في رواية حَريز وزُرارَة ، وأبي أيوب الجزّار ،

-------------------

الصدر ( ما عُلم بالعين والاثر : من إختلاف أصحابهم صلوات اللّه عليهم في الاصول والفروع ) فانّه لو كان شرط العمل عندهم ، حصول العلم بصحة الخبر ، لاتفقوا ولم يكن يقع بينهم هذا الاختلاف في الاصول والفروع ، ومن الواضح : ان المراد بالاصول ، ليس هو اصل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والامامة ، والمعاد بذاته ، وإنما بعض الخصوصيات في هذه الاُمور .

( ولذا ) أي : لاجل هذا الاختلاف ( شكى غيرُ واحد من اصحاب الائمة عليهم السلام إليهم ) أي : الى الائمة عليهم السلام ( : اختلاف اصحابهم ) بما سبب التشويش عليهم .

( فأجابوهم تارة : بأنّهم عليهم السلام قد ألقوا الاختلاف بينهم حقناً لدمائهم ، كما في رواية حَريز ، وزُرارة ، وأبي أيوب الجزار ) (1) وغيرهم ، ففي الكافي عن زرارة عن الباقر عليه السلام قال :

« سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني واجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول اللّه : رجلان من أهل العراق من شيعتكم يسألان فأحببت كل و احد منهما بغير ما أجَبتَ بهِ صاحبه ؟ .

فقال : يا زُرارَة ، هذا خَيرٌ وأَبقى لَنا ولَكم ، وَلَو إجتَمعتمُ عَلَى أمرٍ واحِدٍ

ص: 101


1- - للمزيد راجع علل الشرائع : ج2 ص97 - 98 .

وأُخرى أجابوهم بأنّ ذلك من جهة الكذّابين ، كما في رواية الفيض بن المختار :

« قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جَعَلَني اللّه ُ فِداكَ ، ماهَذا الاختلافُ الّذي بَينَ شِيعَتكُم؟ قالَ: «وَأَيُّ الاختِلافِ يافَيض» فَقُلتُ لَهُ عليه السلام: إنّي أَجلُسُ فِي حَلْقَتِهم

-------------------

لَصدّقَكم النَاس علينا ، ولكان أقلَ بقائِنا وَبقائِكمُ .

ثم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شيعَتكمُ لو حَملتُموهمُ على الأَسنِّةِ وَعلى النارِ لمضوا وَهُم يَخرُجُونَ من عِندكمُ مُختلِفين ؟ .

قَال : فَأجابني عليه السلام بِمثلِ جَوابِ أبيه صلوات اللّه عليه (1) والى غيرها من الاخبار .

ولعلّ المراد من قوله :« لَصدقكمُ النَّاسُ » تصديق مخالفيهم بأنهم من أصحاب الائمة عليهم السلام لوحدة طريقتهم - فيأخذونهم ويقتلونهم ، كما كانت هي العادة المطّردة في تلك الايام ، فانهم اذا عرفوا أحداً بانّه من اصحاب الائمة عليهم السلام اخذوه وعذبوه وسجنوه وربّما قتلوه وصادرو امواله .

( واخرى أجابوهم : بأنّ ذلك ) الاختلاف ، اِنّما هو ( من جهة الكذّابين ) الذين يكذبون على الأئمة عليهم السلام ، فيختلط أخبار الكذّابين بالأخبار الواقعية ، ممّا يوجب الاشتباه على الناس .

( كما في رواية الفيض بن المختار قال : قلت لأبي عبد اللّه ) الصادق ( عليه السلام : جَعَلَني اللّه ُ فِداكَ ، مَاهَذا الإختِلافُ الّذي بَينَ شِيعَتكُم؟ قَالَ : وَأَيُّ الإختلافِ يَافَيض ، فَقُلتُ لَهُ عليه السلام : إني أَجلسُ فِي حَلَقَتِهم ) أي : في مجلس

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 .

بالكُوفَةِ وَأَكادُ أَشُكُ فِي إختِلافِهِم في حديثهم ، حَتَّى أَرجِعَ إلى المُفَضَّل بِن عَمر ، فَيُوقِفَني مِن ذَلِكَ عَلى مَا تَستَريحُ بِهِ نَفسي ، فَقالَ عليه السلام : أَجَل ، كَما ذَكَرتَ يافَيض ، إنّ النَاسَ قَد اُولِعُوا بالكذِب عَلَينا ، كَأَنَّ اللّه َ إفتَرضَ عَليهِم وَلاَ يُريدُ مِنهُم غَيرَهُ . إنّي اُحدِّثُ أَحَدَهُم بحَدِيثٍ ، فَلا يَخرُجُ مِنْ عِندي حَتّى يَتَأَوّلَه عَلى غَيرِ تَأويِلهِ . وَذَلكَ لأنَّهُ لايَطلبُونَ بحَديثنا وبحُبّنا مَا عِندَ اللّه ِ تَعالى ،

-------------------

بحث الشيعة الّذين كانوا يجلسون حلقاً حلقاً ( بالكُوفَةِ ) أي في مسجد الكوفة ، لأنّ المساجد في تلك الأزمان ، كانت مراكز للبحث والدرس ، والاستفادة والافادة .

( وأَكادُ أَشُكُّ فِي ) الحكم بسبب ( إختلافِهم فِي حَديِثِهم ) عنكم ( حَتَّى أَرجِعَ إلى المُفَضَّل بِن عَمر ، فيوقِفَني ) وينبِّهني ( مِن ذلِكَ ) الاختلاف ( عَلى مَا ) أي : على الحق الّذي ( تَستَريحُ بِه نَفسِي فَقالَ عليه السلام : أَجل ، كَما ذَكَرتَ يافَيض ، إنّ النَاسَ قَد اُولِعُوا ) والولع بالشيء : الحرص عليه حرصاً شديداً ( بالكذِبِ عَلَينا ) فهذا الاختلاف بسبب كِذب الكذّابين المختلط برواياتنا .

ثم قال عليه السلام ( كَأَنَّ اللّه َ إفتَرضَ ) الكذب ( عَلَيهِم وَلاَ يُريدُ مِنهُم غَيرَهُ ) أي : غير الكذب ، وذلك ( إنّي اُحدِّثُ أَحَدُهُم بحَدِيثٍ ، فَلا يَخرُجُ مِن عِندي حَتى يَتَأَوَّلَهُ عَلى غَيرِ تَأوِيلهِ ) أي : يحمله على خلاف ماقلت له بحسب ما يتحمله ظاهر الحديث ، فاذا أمرته بأمر - مثلاً- حمل ذلك الأمر على الندب ، أو نهيته عن أمر حمل النهي على الكراهة ، أو العكس من ذلك ، وإلى غيرها من التأويلات .

( وَذلكَ لأنّه ) الضمير للشأن ( لا يَطلبوُن بحَديثِنا وَبحبّنَا مَا عِندَ اللّه ِ تَعالى )

ص: 103

وَكُلٌّ يحبُّ أَن يُدَعى رَأساً » .

وقريب منها : رواية داود بن سرحان ، وإستثناء القمييّن كثيراً من رجال نوادر الحكمة معروف ، وقصةُ ابن أبي العَوجَاء

-------------------

أي : ثواب اللّه والدار الاخرة ( وَكُلٌّ يُحِبُّ أن يُدعى رَأساً ) (1) بأن يكون رئيساً ، فاذا سئل عن مسألة ولايعلم جواب تلك المسألة ، أجاب بجواب من نفسه .

إذن : فالكذب ربّما كان كذب تأويل ، وربّما كان كذب إختلاف .

ولايخفى : انّ هذا الحديث لاينافي الحديث السابق ، إذ كلا الأمرين : من جعل الأئمة الاختلاف بين الشيعة حقناً لدمائهم .

ومن الخلط بين الصدق والكذب ، الذي يفتريه طامعوا الرئاسة كان سبب إختلاف الأحاديث ممّا يؤدّي إلى عدم علم الشيعة : بأنّ مايعملون به ، هل هو المطابِق للواقع ، أو من جهة الضرورة ، أو التقية ، أو الكذب ، أو ما أشبه ذلك ؟ .

( وقريب منها ) أي : من رواية الفيض بن المختار التي ذكرناها ( رواية داود بن سرحان ) (2) الدالة على وجود الأحاديث المكذوبة في أحاديث الشيعة أَيّام الأئمة عليهم السلام .

هذا ( وإستثناء القمييّن كثيراً من رجال نوادر الحكمة ، معروف ) وقد تقدّم الالماع إليه ، وإنّما إستثنوا هؤلاء الرجال لأنهم كانوا متّهمين بالكذب .

( وقصّة ابن أبي العَوجاء ) وهو من تلاميذ الحَسن البَصري ، وكان من الزَنادِقَة والملحدين ، وقد قتله محمد بن سليمان والي الكوفة في عهد المنصور ، لأنّه كان

ص: 104


1- - رجال الكشّي : ص136 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 (بالمعنى) .
2- - رجال الكشّي : ص170 و ص239 .

أنّه قال عند قتله : « قد دسستُ في كتبكم أربعة آلاف حديث » مذكورة في الرّجال .

وكذا ماذكره يُونُس بن عبد الرّحمن ، من أنّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصادقَين عليهماالسلام ، ثم عرضها على أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فانكر منها أحاديث كثيرة ،

-------------------

يفسد بين الناس ، وقد سُئِلَ ذاتَ مرةٍ : انّه لماذا تزندقت؟ قال : لأنّ أُستاذي الحسن البصري كان يذهب يوماً الى هذا المذهب ، ويوماً الى مذهب آخر ، فتحيرت في الأمر ، وأخيراً تزندقت .

فلما قبض عليه الوالي ليقتله قيل : ( انه قال عند قتله : قد دَسستُ ) أي : أدخلتُ إدخالاً خفياً ( في كتبكم ) معاشر الشيعة ( أربعة آلاف حديث ) (1) مكذوب ، فانّ هذه القصة ( مذكورةٌ في الرّجال ) .

لكن لايخفى : إنا ذكرنا سابقاً : إن قول إبن أبي العوجاء باطل ، لأنه زنديق فهل يقبل قول مثله ، مع إنّ العادةُ تُكذّب مثل هذا الكلام ؟ فهل يمكن لانسان إدخال حديث في كتاب إنسان آخر خصوصاً بمثل هذا العدد الكبير ؟ .

( وكذا ) منقول في كتب الرّجال ( ماذكره يُونُس بن عبد الرّحمان : من انّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصّادِقَين ) : الامام الباقر والامام الصادق ( عليهماالسلام ، ثمّ عرضها على أبي الحسن الرّضا عليه السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة )

ص: 105


1- - عدة الاصول : ص40 ، الكامل في التاريخ : ج6ص7 ، البداية والنهاية : ج1 ص121 ، لسان الميزان : ج4 ص431 ، تاريخ الطبري : ج4 ص508 ، ميزان الاعتدال : ج4 ص388 .

إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ما ذكره .

وأمّا ما ذكره - من عدم عمل الأخبارييّن في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة - ففيه : انّ الأظهر في مذهب الأخباريين ماذكره العلاّمة ، بأنّ الأخبارييّن لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على الآحاد . ولعلّهم المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السّابق في المقلّدة ، انّهم إذا سُئِلوُا عن التوحيد وصفات الأئمة عليهم السلام أو النبوّة ، قالوا : روينا كذا ، وإنّهم يروون في ذلك الأخبار .

-------------------

ممّا يدل على وجود الخلط في الأحاديث في تلك الأزمنة ، فيكون دليلاً على إنّ الأصحاب ، لم يكونوا - لما إدعاه السيّد الصدر - قاطعين بهذه الأخبار الآحاد .

( إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ماذكره ) السيّد الصدر من : انّ الأصحاب كانوا يعملون بالخبر العلمي المقطوع به .

الرابع : ممّا تنظّره المصنّف على السيّد الصدر ، هو ما أشار إليه بقوله : ( وأمّا ماذكره : من عدم عمل الأخبارييّن في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة ) أي : المنتهية الى العلم ، وإن لم تكن بنفسها علماً ومتواتراً .

( ففيه : انّ الأظهر في مذهب الأخباريين ماذكره العلاّمة : بأن الأخبارييّن لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على الآحاد ) من الأخبار .

( ولعلّهم ) أي : لعل الاخباريين هم ( المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السّابق في ) باب ( المقلّدة ) فانه ذكر : ( انّهم إذا سُئِلُوا عن التوحيد وصفات الأئمة عليهم السلام أو النبوّة قالوا : روينا كذا ، وإنّهم يَروون في ذلك الأخبار ) وإلاّ فالمقلّدة ليسوا إلاّ الأخباريين ، فأين دعوى السيّد الصدر : انّهم يعتمدون الأخبار المتواترة ونحوها ؟ .

ص: 106

وكيف كان ، فدعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على موافقة السيّد ، في غاية الفساد . لكنّها غيرُ بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ، لأنّه إذا إدّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار التي أودعها الشيخ في كتابيه ، فكيف يرضى للشيخ ومن تقدّم عليه من المحدّثين أن يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة .

-------------------

( وكيف كان ، فدعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على موافقة السيّد ) في حجّية خبر الواحد الّذي يحتّف به القرائن القطعية ( في غاية الفساد ) لما عرفت : من انّ ذلك هو قول السيّد ، وأمّا الشيخ فانه يقول : بحجّية الخبر المجرد إذا كان جامعاً للشرائط .

( لكنّها ) أي : لكن هذه الدعوى مع كونها في غاية الفساد ( غيرُ بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ) فانّ الأخباريين إذا ذهبوا إلى قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ، لابدّ لهم أن يقولوا : بأنّ الشيخ أيضاً يقول : بأن الخبر القطعي ، حجّة ، لأنهم يَرَونَ إنّ الشيخ أيضاً إعتمد على الكتب الأربعة ، فاذا كانت الكُتب الأربعة قطعيّة كان معناه انّ الشيخ أيضاً يقول : بقطعية الأخبار .

( لأنّه ) أي : لأنّ الأخباري ( إذا إدّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار الّتي أودعها الشيخ ) - مثلاً- ( في كتابيه ) المعروفين في الحديث ، وهما التهذيب والاستبصار ( فيكف يرضى للشيخ ) أو يحتمل في حق الشيخ ( ومن تقدّم عليه ، من المحدّثين : ان يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة ؟ ) .

وعلى أي حال : فكلام الشيخ دال على حجّية الخبر بما هو خبر ، وإن لم يكن محفوفاً بالقرينة .

ص: 107

وأمّا صاحب المعالم قدس سره ، فعُذرُه أنّه لم يحضره عُدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع ، كما حكي عن بعض حواشيه واعترف به هذا الرّجل .

-------------------

( وأمّا صاحب المعالم قدس سره ) الّذي إدّعى موافقة الشيخ للسيّد في العمل بالخبر القطعي ( فعُذرُه : أنّه لم يحضره عُدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع - كما حكي عن بعض حواشيه - ) أي : حواشي صاحب المعالم ( وإعترف به هذا الرّجل ) أيضاً وهو السيّد الصدر .

وقال الأوثق : « الحاكي هو الفاضل الصالح المازندراني في حواشيه على المعالم حيث قال : وهذا الذي ذكره المصنّف في هذا المقام ، كان قبل وقوفه على كلام الشيخ في العُدّة ، لأنّه قدس سره ذكر في الحاشية : انّ الشيخ صرح بموافقته للمرتضى وبأنّ الامامية قاطبة يعملون بخبر الواحد وإن كان مجرداً عن القرائن ، وانّ مراده بخبر الواحد حيث نفوا العمل به ، هو : خبر المخالفين حيث قال : إعلم انّ الذي إتّضح لي من حال الشيخ في هذا المقام - بعد ان تيسر لي الوقوف على كتابه المُسمى بالعدّة - انّ أخبار الآحاد التي دوّنها الأصحاب في كتبهم وتناقلوا بينهم يعمل بها ، وغيرها من الأخبار الّتي دوّنها المخالفون في كتبهم ليس بحجّة ولا يعوّل عليه ، وقد صرّح بالموافقة على ماسبقت حكايته عن المرتضى وغيره من الانكار لعمل الامامية بخبر الواحد ، وإنّ ذلك شعارهم وطريقتهم التي لاسبيل إلى إدعاء خلافها » .

« ثم انّه خص ذلك بما ذكرناه من روايات مخالفيهم ، دون رواياتهم ، وإحتجّ لما صار إليه : باجماع الطائفة على الأخبار التي دوّنها ، وبالغ في نفي إحتمال كون عملهم بها إنّما حصل بسبب إنضمام القرائن إليها ، إنتهى » .

قال الأوثق بعد نقله هذه العبارة : « وهو صريح في العدول عمّا ذكره في

ص: 108

وأمّا المحقّق قدس سره ، فليس في كلامه المتقدّم منعُ دلالة كلام الشيخ على حجّية خبر الواحد المجرّد مطلقاً ، وإنّما منع من دلالته على الايجاب الكلّيّ ، وهو انّ كلّ خبر يرويه عدلٌ إماميٌ يُعمَلُ به ، وخصّ مدلوله

-------------------

المعالم ، إلاّ انّ حاصل ماذكره : هو الجمع بين كلامي السيّد والشيخ بوجه آخر ، وهو تخصيص معقد إجماع السيّد بأخبار المخالفين ، وتخصيص معقَد إجماع الشيخ بأخبار الاماميّة » (1) .

( وأمّا المحقّق قدس سره ، فليس في كلامه المتقدّم منعُ دلالة كلام الشيخ على حجّية خبر الواحد المجرّد ) فقد ذكر المحقّق في المعارج : « ذهب شيخنا أبو جعفر الى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقاً ، فعند التحقيق يتبيّن إنه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الاخبار التي رويت عن الأئمة عليهم السلام ودوّنها الأصحاب » الى آخر كلامه ممّا يدل على انّ مراده ليس هو : ان الشيخ لايعمل بالخبر المجرد ( مطلقاً ) أي : سواء كان في الكتب المشهورة أم لم يكن ( وإنّما منع دلالته على الايجاب الكلّي ، وهو ) العمل بكل خبر مطلقاً .

وعليه : فليس مراد المحقّق : إنّ الشيخ لايعمل بالخبر الواحد مطلقاً ، إلاّ إذا كان محفوفاً بالقرينة القطعية - كما يراه السيّد - بل مراده : إنّ الشيخ يعمل بالخبر الواحد ، لكن لا مطلقاً وبكل خبر واحد ، وهو واضح ، فانّ العاملين بالخبر الواحد لايعملون بكل خبر واحد مطلقاً ، ولا يقولون : ( انّ كلّ خبر يرويه عدلٌ إماميٌ يُعمَلُ به ) ، هذا ( وخصّ ) المحقّق في المعارج ( مدلوله ) أي : مدلول كلام الشيخ

ص: 109


1- - أوثق الوسائل : ص168 تقرير الاجماع على حجيّة خبر الواحد .

بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب وجعله موافقاً لما إختاره في المعتبر من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة بعد ذكر الأقوال فيها ، وهو : « أنّ ماقَبِلَهُ الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عُمِلَ به ، وما أعرض الأصحابُ عنه أو شذَّ يجبُ طَرحُه » انتهى .

والانصافُ : أنّ مافهمه العلاّمةُ من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الاماميّ أظهرُ ممّا فهمه المحقّقُ من التقييد ،

-------------------

الذي إدّعى إنّه مطلق ( بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ) في الكتب المشهورة ، وبهذا أصبح للمحقّق رأي ، وللشيخ رأي ، وللسيد رأي .

وعليه : فان المحقق وإن لم يجعل الشيخ موافقاً للسيّد - كما قاله صاحب المعالم وغيره - ( و ) لكن ( جعله موافقاً لما إختاره ) هو ( في المعتبر : من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة ) عن القرائن القطعية ( بعد ذكر الأقوال فيها ) أي : في تلك الاخبار .

( وهو ) أي : مختار المحقّق في المعتبر ( : انّ ما ) أي : كل خبر واحد ( قَبِلَهُ الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عُمِلَ به ، وما أعرض الأصحابُ عنه أو شَذَّ ) العامل به - وقد تقدّم الفرق بين الشذوذ والندور -( يجبُ طرحُه ، إنتهى ) كلام المحقّق .

وبهذا تبيّن : إنّ الشيخ يقول بحجّية الأخبار مطلقاً .

والسيّد يقول بعدم حجّيتها مطلقاً إلاّ بالقرائن القطعية .

والمحقّق : يقول بهذا التفصيل الذي قد عرفته .

( والانصاف : أنّ مافهمه العلاّمةُ من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الاماميّ ، أظهرُ ممّا فهمه المحقّق من التقييد ) لما عَرِفتُ من انّ الشيخ يطلق حجّية

ص: 110

لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع على العمل بالرّوايات المدوّنة في كتب الأصحاب على حجّية مطلق خبر العدل الاماميّ ، بناءاً منه على أنّ الوجه في عملهم بها كونُها أخبارَ عدول .

وكذا ما إدّعاه من الاجماع على العمل بروايات الطوائف الخاصّة من غير الاماميّة ، وإلاّ فَلِمَ لم يأخُذهُ في عنوان مختاره

-------------------

الخبر ، بخلاف المحقّق الذي يقيده .

وإنّما كان مافهمه العلاّمة أظهر ممّا فهمه المحقّق ( لأنّ الظاهر : أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع على العمل بالرّوايات المدوّنة في كتب الأصحاب ) فانّ الاجماع الّذي إدّعاه الشيخ إنّما أقامه ( على حجّية مطلق خبر العدل الاماميّ ) وذلك ( بناءاً منه ) أي : من الشيخ ( على أنّ الوجه ) والمناط ( في عملهم بها ) أي : بالأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة ، كالاصول الأربعمائة وغيرها ( كونُها أخبارَ عدول ) .

ومن الواضح : انّ هذا المناط جار أيضاً ، في غير الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة إذا كان راويها عدلاً ، فقول الشيخ في حجّية الخبر مناطه : كونه خبر عدل .

( وكذا ما إدّعاه من الاجماع ) فانّ تمسكه بالاجماع إنّما هو ( على العمل بروايات الطوائف الخاصّة ) كبني فضّال ، والواقفية ، وسائر فرق الشيعة ( من غير الامامية ) فانّه يتمسك به على حجّية مطلق خبر الثقة .

( وإلاّ ) بأن أراد الشيخ : حجّية الأخبار المدونة فقط ، من دون كون المناط : إنها أخبار عدول ، أو أخبار ثقاة ( فلم لم يأخذه في عنوان مختاره ؟ ) فانّ عدم أخذه في العنوان ، شاهد على إنّه أراد الاستدلال بهذا الاجماع : على حجّية مطلق خبر العدل والثقة .

ص: 111

ولم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ، فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، واللّه العالم ، وهو الهادي إلى الصواب .

ثمّ إنّه لايبعدُ وقوعُ مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ، مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب في

-------------------

وذلك لأنّه ذكر في عنوان المبحث : وأمّا ما إخترته من المذهب : فهو انّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالامامة ، جاز العمل به ، ولم يأخذ في هذا العنوان أزيد من ذلك .

( و ) لِمَ ( لم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ؟ ) فانّه لو كان هذا الشرط لازماً عنده - كما قاله المحقّق - لزم أن يذكره في العنوان ( فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، واللّه العالم ، وهو الهادي إلى الصّواب ) .

والحاصل : ان المصنّف يريد بيان مايلي :

اولاً : إنّ شيخ الطائفة يقول : بحجّية خبر العادل وخبر الثقة مطلقاً ، من دون إشتراط أن يكون محفوفاً بالقرينة القطعيّة .

ثانياً : إنه لايقول : بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة كلّها مقطوعة .

ثالثاً : إنه لايقول : بانحصار الأخبار التي هي حجّة بما في الكتب المشهورة .

( ثمّ إنّه ) لما كان هنا مورد سؤال ، وهو : انّه كيف يمكن وقوع التدافع بين كلام السيّد والشيخ في حجّية خبر الواحد وهما معاصران فقد إدعى أحدهما الاجماع على حجّية الخبر وإن لم يكن محفوفاً بالقرينة ، وإدعى الآخر الاجماع على عدم حجّيته ؟ .

أجاب المصنّف : بانه ( لايبعدُ وقوعُ مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ، مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب في )

ص: 112

العمل بخبر الواحد ، فكم من مسألة فرعيّة وقع الاختلاف بينهما في دعوى الاجماع فيها ، مع أنّ المسألة الفرعيّة اولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ، لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب مفتى بها غالباً بالخصوص .

نعم ، قد يتفق دعوى الاجماع بملاحظة قواعد الأصحاب ، والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كُتُبِهِم .

-------------------

باب ( العمل بخبر الواحد ، فكم من مسألة فرعية وقع الاختلاف بينهما في دعوى الاجماع فيها ، مع انّ المسألة الفرعيّة أولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ) أي : على السيّد والشيخ .

وإنّما كانت المسألة الفرعيّة أولى بعدم الخفاء من الاصولية ( لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب ، مفتى بها غالباً بالخصوص ) والعنوان ، فيلزم عدم إختلافهما فيها .

لكن إنّما يختلفان في المسألة الفرعيّة ، ويدعي كل منهما : الاجماع على أحد طرفي المسألة ، بما أشار إليه المصنّف بقوله :

( نعم ، قد يتّفق دعوى الاجماع ) في المسألة الفرعيّة ( بملاحظة قواعد الأصحاب ) فيكون إدعاء أحدهما الاجماع غير مستند إلى تتبع أقوال الأصحاب ، بل مستند إلى بعض القواعد والاصول - كما تقدّم الالماع الى ذلك في بحث الاجماع - .

كيف ( والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كتُبِهم ) حتى لايقع التدافع فيها بين الاجماعين لمتعاصرين من مثل السيّد والشيخ ؟ .

ولا يخفى : ان قوله : « والمسائل الاصولية . . » هو بيان لوجه أولوية المسائل

ص: 113

...

-------------------

الفرعية - بعدم الاختلاف فيها- من المسائل الاصولية حيث الاُولى معنونة بخصوصها ، بينما الثانية لم تكن كذلك ، فاذا وقع التدافع بين إجماعهما في المسائل الفرعيّة وقع التدافع بين إجماعهما في المسائل الاصولية بطريق أَولى ، فانّه قد يتفق إدعاء الاجماع على القواعد الكلّية ، مثل الاجماع على قاعدة : « مَن مَلَكَ شَيئاً مَلَكَ الاقرارَ بِهِ » (1) وقاعدة : « مايُضمنُ بصَحيِحِهِ يُضمَنُ بفاسِدِهِ » (2) .

وقد يتفق - وهو الغالب - إدعائهم الاجماع على المسائل الجزئية الفرعية ، مثل : « إنّ الشك بين الثلاث والأربع يبني فيه على الأربع » (3) ، وهكذا .

وكيف كان : فلا إستبعاد في تخالف الشيخ والسيّد في مسألة حجّية خبر الواحد ، التي هي من المسائل الاصولية ، بعد تخالفهما كثيراً في المسائل الفرعية - على ماعرفت - .

ونحن حيث نرى : انّ الأصحاب لم يعملوا ببعض الرّوايات وعملوا ببعضها الآخر ، ولم نعلم وجه هذا الأخذ والترك ، نحتمل أن يكون الوجه هو ماذكره السيّد : من انّ الرّوايات المتروكة لا قرائن قطعية لها ، بخلاف الرّوايات المعمول بها .

ونحتمل أن يكون الوجه هو ماذكره الشيخ : من انّ الرّوايات المعمول بها إنما هي لأجل إنّ رواتها حجّة ، والمتروكة إنّما هي لأنّ رواتها غير حجة .

إذن : فالأصحاب لم يعلم من حالهم قاعدة كلّية في انّه هل يعملون بالخبر

ص: 114


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .
2- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .
3- - انظر وسائل الشيعة : ج8 ص216 ب10 ح10461 .

إنما المعلوم من حالهم أَنَّهم عملوا بأخبار ، وطرحوا أخباراً .

فلعلّ وجه عملهم بما عملوا ، كونُه متواتراً أو محفوفاً عندهم ، بخلاف ما طرحوا ، على مايدّعيه السيّد قدس سره ، على ماصرّح به في كلامه المتقدم : من أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة . ونصّ في مقام آخر على أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة .

-------------------

الواحد - كما يقوله الشيخ - أو لا يعملون به إلاّ إذا كان محفوفاً بالقرائن القطعيّة - كما يقوله السيّد - ؟ .

و ( إنّما المعلوم من حالهم ) هو أمر مجمل ، يحتمل الانطباق على رأي السيّد ، ويحتمل الانطباق على رأي الشيخ ، وهو : ( أنّهم عملوا بأخبار ، وطرحوا أخباراً ) فيحتمل في وجه أخذهم وطرحهم أحد أمرين - كما بيناه - :

الاوّل : ما أشار اليه بقوله ( فلعلّ وجه عملهم ) أي : الاصحاب ( بما عملوا ، كونهُ متواتراً ، أو محفوفاً عندهم ، بخلاف ماطرحوا ) وذلك ( على مايدّعيه السيّد قدس سره ) : من إنّ الأخبار المتواترة ، والمحتفة بالقرائن القطعيّة ، يعمل بها ، بخلاف الأخبار التي ليست كذلك ، فانها ( على ماصرّح به ) السيّد المرتضى رحمه اللّه ( في كلامه المتقدّم : من ) انه لايعمل بها ، كما قال : ( أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة ) بالقرائن القطعية ، وإن كان الأصحاب لم ينقلوها بطريق التواتر أو الاحتفاف بالقرائن ، وإنّما نقلوها بحذف القرائن وبنحو الخبر المجرد .

( ونصّ في مقام آخر : على أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة ) هذا هو الاحتمال الأول في وجه أخذ الأصحاب ببعض الأخبار وتركهم لبعض .

ص: 115

ويحتمل كونُ الفارق بين ماعملوا وَما طرحوا مع إشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ، فَقد شرط العمل في أحدهما دون الآخر على مايدّعيه الشيخ قدس سره ، على ماصرّح به في كلامه المتقدّم ، من الجواب عن إحتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن . نعم لايناسب ماذكرناه من الوجه تصريحُ السيّد بأنهم شدّدوا

-------------------

الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( ويحتمل كونُ الفارق بين ماعملوا وما طرحوا ، مع إشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ، فقد شرط العمل في أحدهما ) وهو المتروك ( دون الآخر ) وهو المأخوذ .

وذلك ( على مايدّعيه الشيخ قدس سره ) حيث إنّ المناط عند الشيخ في الأخذ هو : جمع الخبر لشرائط الصحة : من وثاقة الرّاوي وضبطه ، والردّ هو : عدم جمعه لشرائط الخبر ، فهذا هو مناط الأخذ والرد عند الشيخ ( على ماصرّح به في كلامه المتقدّم ، من الجواب عن إحتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن ) حيث أجاب عن هذا السؤال : بأنّا نعلم : إنّه ليس في جميع المسائل التي إستعملوا فيها الآحاد ، إحتفاف بالقرينة .

( نعم ، لايناسب ماذكرناه من الوجه ) في رفع التدافع بين كلامي السيّد والشيخ حيث قلنا : انّ الاصحاب لمّا لم يتعرّضوا لحجّية الخبر وعدمها ، ولم يشاهد منهم إلاّ مجرد العمل ببعض الأخبار ، وترك بعض الأخبار ، إحتملنا أن يكون ذلك لأجل الاختلاف في المناط ، وإنّ السيّد يرى مناطاً غير مناط الشيخ ، فيحتمل أن يكون وجه العمل وعدم العمل هو مناط السيّد ، ويحتمل أن يكون هو مناط الشيخ .

فانّ هذا الوجه لايناسب ( تصريحُ السيّد : بأنهم ) أي : الأصحاب ( شدّدوا

ص: 116

الإنكار على العامل بخبر الواحد .

ولعلّ الوجه فيه : ما أشار إليه الشيخُ في كلامه المتقدّم بقوله : « إنّهم منعوا من الأخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابُنا خلافه » . وإستبعَدَ هذا صاحبُ المعالم في حاشيةٍ منه على هامش المعالم ، بعدما حكاه عن الشيخ : « بأنّ الاعتراف بانكار عمل الاماميّة بأخبار الآحاد لايعقل صرفُه إلى روايات مخالفيهم ، لأنّ إشتراط العدالة عندهم ،

-------------------

الإنكار على العامل بخبر الواحد ) لأنّ هذا الوجه يظهر منه : انّ مذهب السيّد مستند الى تصريحات الأصحاب ، لا إلى ما ذكرناه من الوجه .

( ولعلّ الوجه فيه ) أي : في تشديد إنكار السيّد ( ما أشار اليه الشيخ في كلامه المتقدّم بقوله : إنّهم ) أي : الأصحاب ( منعوا من الاخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابنا خلافه ) فالمناط ماذكرناه : من رأي السيّد ، وإنّما تشديد اِنكاره في مقام آخر ، وهو أخبار المخالفين .

( و ) لكن ( إستَبعَدَ هذا ) الوجه الذي ذكره الشيخ : من انّ مراد الاصحاب : هو المنع من أخبار المخالفين ، لا مطلق خبر الثقة أو العدل الامامي ( صاحبُ المعالم في حاشيةٍ منه على هامش المعالم ، بعدما حكاه ) أي : الكلام المذكور ( عن الشيخ ) .

وإنّما إستبعد المعالم ذلك ( ب ) سبب ( أنّ الاعتراف بانكار عمل الاماميّة بأخبار الآحاد لايعقل صرفُه إلى روايات مخالفيهم ) فانّ الشيخ إعترف : إنّ الاماميّة ينكرون العمل بأخبار الآحاد ، وظاهر ذلك ، هو إنكارهم أخبار الآحاد المروية عن طُرقِنا ، لا عن طُرق المُخالِفين ( لأنّ إشتراط العدالة عندهم ) أي ، عند الشيعة

ص: 117

وإنتفائها في غيرهم كافٍ في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه » انتهى .

وفيه : أنّه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب والتجنّن به في مقام لايمكنهم التصريحُ بفسق الرّاوي ، فاحتالوا

-------------------

( وإنتفائها في غيرهم ، كافٍ في الإِضراب عنها ) أي : عن روايات المخالفين .

فانّ الاماميّة يشترطون في الخبر العدالة ، ومن المعلوم : ان هذا الشرط يخرج أخبار المخالفين ( فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه ) (1) أي : لا حاجة الى ان يمنع الاماميّة أخبار المخالفين بصورة التورية ، بأن يقولوا : لا يجوز العمل بأخبار الآحاد ، وهم يريدون أخبار الآحاد الواردة من طريق المخالفين ، فانّ إشتراط الأصحاب العدالة في الرّاوي ، يخرج أخبار المخالفين .

( إنتهى ) كلام صاحب المعالم في هامشه .

( وفيه : ) انّ ماذكره الشيخ : من انّهم إنّما إشترطوا العلم لاسقاط روايات المخالفين ، لابعد فيه ، ل- ( أنّه يمكن ان يكون إظهار هذا المذهب ) أي : عدم حجّية الخبر الواحد ( والتجنّن به ) أي : جعل هذا الكلام جُنَّة ، يستترون به لردّ أخبار المخالفين ، وحفظ الحجّية لانفهسم ، وذلك ( في مقام لايمكنهم التّصريح بفسق الرّاوي ) .

فانّ الأصحاب لما لم يتمكنوا من أن يصرّحوا بفسق رواة السوء من المخالفين ، وأن يرّدوا أخبارهم علناً لشدة التقية بالنسبة اليهم ( فاحتالوا ) من الحيلة ، بمعنى : معالجة الأمر ، كما قال عليه السلام : « وَلا تَمكُر بِيِ في حِيلَتِك » (2) ،

ص: 118


1- - معالم الدين : حاشية المصنّف .
2- - مفاتيح الجنان : ص 249 .

في ذلك بأنّا لانعمل إلاّ بما حصل لنا القطعُ بصدقه بالتواتر أو بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون .

وفي عبارة الشيخ المتقدّمة إشارةٌ إلى ذلك حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد ، بصورة المناظرة مع خصومهم .

والحاصلُ : انّ الاجماعَ الذي ادّعاه السيّد قدس سره ، قوليٌّ ، وما إدّعاه الشيخ قدس سره ، إجماع عمليٌّ ،

-------------------

وقالوا ( في ذلك : بأنّا لانعمل إلاّ بما حصل لنا القطعُ بصدقه بالتواتر أو بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون ) ولا مشكوك في عدالته .

وعلى أي حال : فالاعتبار إنّما هو بعمل الأصحاب ، لابقولهم هذا الذي هو مشكوك لماذا قالوه ؟ هل لأجل الواقع ، أو لأجل إقناع خصومهم ؟ .

( وفي عبارة الشيخ المتقدّمة إشارة إلى ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ كلامهم هذا كان لأجل العلاج وردّ المخالفين لا لأجل انّ عملهم في الواقع على ذلك ( حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد ، بصورة المناظرة مع خصومهم ) وذلك في جوابه عمّا أورده على نفسه من الاشكال بقوله : فما الذي يحملكم على الفرق بين مايرويه الطائفة المحقة ، وبين مايرويه أصحاب الحديث من العامّة الى آخر الكلام ممّا تقدّم .

( والحاصلُ : انّ الاجماعَ الّذي إدّعاه السيّد قدس سره : قوليٌّ ) فانهم بأجمعهم يقولون : بانّ الخبر غير العلمي ليس بحجّة .

( وما إدّعاه الشيخ قدس سره : إجماعٌ عمليٌّ ) أي : انّ الشيخ يدعي : إنّهم بأجمعهم يعملون بخبر الواحد .

ص: 119

والجمع بينهما يمكنُ بحمل عملهم على ما إحتفّ بالقرينة عندهم ، وبحمل قولهم على ماذكرنا من الإحتمال في دفع الرّوايات الواردة فيما لايرضونه من المطالب . والحمل الثاني مخالف لظاهر القول ،

-------------------

( والجمعُ بينهما ) أي : بين الاجماعين المذكورين ( يمكنُ ) بوجوه ثلاثة :-

الأول : ان يكون إجماع العلماء على العمل بخبر الواحد فيما كانت هناك قرينة - كما إدّعاه السيّد - فيثبت على ذلك قول السيّد .

الثاني : ان يكون إجماعهم على عدم العمل بالخبر ، فيما كان من أخبار المخالفين ، فيثبت على ذلك قول الشيخ .

الثالث : ان يكون مراد السيّد من القرائن : مايوجب وثوق النفس ، ومراد الشيخ من عدم الاحتياج الى القرائن : القرائن الأربع : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل .

وهذا الوجه الأخير عند المصنّف أحسن الوجوه الثلاثة ، لأنّ الوجهين الأولين : إمّا تصرّف في إجماع الشيخ ، أو تصرّف في إجماع السيّد ، أما الوجه الثالث : فهو تصرّف في كلا الاجماعين ، فلا يلزم سقوط هذا الاجماع ولا ذاك الاجماع .

وأشار المصنّف إلى الوجهين الأولين بقوله : ( بحمل عملهم على ما إحتفّ بالقرينة عندهم ) فيكون موافقاً لقول السيّد ومسقطاً لكلام الشيخ .

( وبحمل قولهم على ماذكرنا : من الإحتمال في دفع الرّوايات الواردة ) عن طريق المخالفين ( فيما لايرضونه من المطالب ) فيثبت إجماع الشيخ ويسقط إجماع السيّد .

( والحمل الثاني ) أي : التصرّف في القول - كما إختاره الشيخ - ممّا يسقط إجماع السيّد ( مخالف لظاهر القول ) فإنّ حمل قولهم : لانعمل بخبر الواحد ،

ص: 120

والحمل الأوّل ليس مخالفاً لظاهر العمل ، لأنّ العمل مجمل من أجل الجهة التي وقع عليها .

إلاّ إنّ الانصافَ : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل ، كما سيأتي . فلابدّ من حمل قول مَن حكى عنهم السيّدُ المنعَ ، إمّا على ماذكرنا ، من إرادة دفع أخبار المخالفين ، التي لايمكنهم

-------------------

على أخبار المخالفين ، خلاف ظاهر اللفظ ، لأنهم أطلقوا في أنّهم لايعملون بأخبار الآحاد ، وهو يشمل أخبار المخالفين وأخبار الاماميّة ، فمثل هذا الحمل يوجب حمل المطلق على المقيد بلا قرينة .

( والحمل الأوّل : ) أي : التصرف في العمل ، كما إختاره السيّد ( ليس مخالفاً لظاهر العمل ، لأنّ العمل مجمل ) اذ ليس للعمل ظهور أصلاً حتى يكون التصرف فيه خلاف الظاهر ، فان العمل مجمل ( من أجل الجهة التي وقع عليها ) فلا يعلم إنهم عملوا بهذه الأخبار لإحتفافها بالقرائن - كما يقول السيّد- أو لأجل حجّية خبر الواحد - كما يقول الشيخ - .

وعليه : فلامانع من حمله على الأوّل ( إلاّ إنّ الانصاف : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل ) من التصرّف في العمل وانهم عملوا بالأخبار لاحتفافها بالقرائن ( كما سيأتي ) جملة من القرائن الدالة على انّهم قد عملوا بأخبار الآحاد لا من حيث إحتفافها بالقرائن بل لحجّيتها بنفسها مجردة .

إذن : ( فلابدّ من ) التصرّف في القول على كلام السيّد المرتضى ، وذلك ب( حمل قول مَن ) أي : العلماء الذين ( حكى عنهم السيّد المنعَ ) عن العمل بخبر الواحد على أحد امرين :

الأوّل : ( إمّا على ماذكرنا : من إرادة دفع أخبار المخالفين ، التي لايمكنهم )

ص: 121

ردّها بفسق الرّاوي ، وإمّا على ماذكره الشيخ ، من كونهم جماعةً معلوميّ النسب لايقدحُ مخالفتهم بالاجماع .

ويمكن الجمعُ بينهما بوجه أحسن : وهو أنّ مرادَ السيّد قدس سره ، من العلم الذي إدّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمينان ، فانّ المحكيّ عنه قدس سره ، في تعريف العلم انّه ما اقتضى سكونَ النفس .

-------------------

التصريح بعدم حجّيتها و( ردّها بفسق الرّاوي ) حيث إنهم لم يستطيعوا أن يقولوا : انّا لانقبل هذا الخبر لأنّ راويه فاسق ، فتوصلوا الى مقصدهم عن هذا الطريق وبهذه الصورة .

الثاني : ( وإمّا على ماذكره الشيخ : من كونهم ) أي : كون المانعين عن العمل بخبر الواحد ( جماعةً معلوميّ النسب ، لايقدحُ مخالفتهم بالاجماع ) كما ألمعنا الى ذلك سابقاً ، وهو على قول من يرى حجّية الاجماع الدخولي .

( ويمكن الجمعُ بينهما ) أي : بين إجماعي السيّد والشيخ ( بوجه ) ثالث ( أحسن ) من الوجهين السابقين - وقد عرفت وجه الأحسنية في كلامنا - ( وهو : أنّ مرادَ السيّد قدس سره من العلم الذي إدّعاه ) شرطاً ( في صدق الأخبار ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا ، معلومة مقطوع على صحتها ( : هو مجرّد الاطمئنان ) والوثوق ، لا العلم الذي هو أرفع درجات الاطمئنان والوثوق .

( فانّ المحكيّ عنه قدس سره ) أي : عن السيّد ( في تعريف العلم : انه ) أي العلم ( ماإقتضى سكونَ النفس ) فيشمل الاطمئنان والوثوق ، لأنّ الانسان إذا سكن إلى شيء ، كان معناه : إنه إطمأن إليه وَوَثِقَ بِهِ ، أما العلم ، فهو الدرجة الرفيعة من سكون النفس .

ص: 122

وهو الذي إدّعى بعض الأخبارييّن أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقينُ الّذي لايقبل الاحتمال رأساً .

فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدُها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلاً ، وهي موافقة الكتاب أو السنّة أو الاجماع أو دليل العقل . ومرادُ السيّد من القرائن ، التي إدّعى في عبارته المتقدّمة إحتفافَ أكثر الأخبار بها هي الأمور الموجبة للوثوق بالرّاوي أو بالرّواية

-------------------

( و ) هذا العلم بمعنى : الوثوق وسكون النفس ، لا بمعنى : القطع المانع عن النقيض ( هو الذي إدّعى بعض الأخبارييّن ) ذلك حيث قال ( :أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار : هو هذا المعنى ) أي : الوثوق وإطمئنان النفس ( لا اليقينُ الّذي لايقبل الاحتمال ) والترديد ( رأساً ) أي : أبداً ، بأن يكون مائة في مائة ، فانّ الاطمئنان يشمل حتى الخمس والتسعين ، والست والتسعين ، والسبع والتسعين ، ومافوقها دون المائة .

وعليه : فاذا كان هذا مراد السيّد ( فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلاً ، وهي : موافقة الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو دليل العقل ) وليس مراده تجردها عن سائر القرائن الموجبة لوثوق النفس وسكونها وإطمئنانها .

( و ) كذلك يكون ( مرادُ السيّد من القرائن ، التي إدّعى في عبارته المتقدّمة إحتفافَ أكثر الأخبار بها ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا مقطوع على صحتها بالتواتر ، أو بأمارات تدل على صحتها ( هي الأمور الموجبة للوثوق ) والإطمئنان ( بالرّاوي ، أو بالرّواية ) بان نطمئن إلى انّ الرّاوي صادق ، أو نطمئن بانّ الرّواية

ص: 123

بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما . وحينئذٍ فيحمل إنكارُ الاماميّة للعمل بخبر الواحد ، على إنكارهم للعمل به تعبّداً ، أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه على ما يقوله المخالفون .

والانصافُ : انّه لم يتضح من كلام الشيخ دعوى الاجماع على أزيدَ من الخبر الموجِب لسكون النفس ولو بمجرّد وثاقة الرّاوي وكونه

-------------------

صحيحة وإن لم نثق براويها ، وذلك الوثوق ( بمعنى : سكون النفس بهما ) أي : بالرّاوي أو بالرّواية ( وركونها ) أي : إعتماد النفس ( إليهما ) من الرّواية أو الرّاوي .

( وحينئذٍ ) أي : حين تم هذا الجمع بين إجماعي السيّد والشيخ ، وذلك بأن قلنا : انّ مراد السيّد من العلم بالصدق : هو الاطمئنان ، ومن القرائن : هي الموجبة للسكون والوثوق في النفس ، وقلنا : بأنّ مراد الشيخ من إنكار القرائن : هو إنكار القرائن الأربع ، دون سائر القرائن الموجبة للوثوق ، يحصل الوفاق بين الاجماعين المذكورين من السيّد والشيخ .

وعليه : ( فيحمل إنكارُ الاماميّة للعمل بخبر الواحد ، على إنكارهم للعمل به تعبّداً ، أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه ) فانّ مرادهم حين يقولون : انّا لانعمل بخبر الواحد : انّهم لايعملون بخبر الواحد تعبداً من دون وثوق وإطمئنان ، أو انّهم لايعملون بخبر الواحد بمجرد حصول الظّن منه ( على ما يقوله المخالفون ) .

فانّ المخالفين يقولون : انّ الخبر يعمل به تعبداً ، أو يعمل به إذا حصل الظنّ منه ، حتى وإن لم يحصل إطمئنان ووثوق بالرّاوي ولا بالرّواية .

( والانصاف : انّه لم يتضح من كلام الشيخ دعوى الاجماع على أزيدَ من ) العمل على ( الخبر الموجِب لسكون النّفس ، ولو بمجرّد وثاقة الرّاوي وكونه )

ص: 124

سديداً في نقله لم يُطعن في روايته .

ولعلّ هذا الوجه أحسنُ وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ، خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد قدس سره ، في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة ، وتصريح الشيخ قدس سره ، في كلامه المتقدّم بانكار ذلك .

-------------------

أي : الرّاوي ( سديداً في نقله ) ضابطاً يعتمد عليه و ( لم يُطعن في روايته ) من جهة العلماء الأجلاء .

( ولعلّ هذا الوجه ) الأخير الذي ذكرناه هو ( أحسنُ وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ) كما تقدّم ، وإنه ليس كالجمعين السابقين حيث كان أحدهما : تصرف في القول فقط ، فيوجب فساد دعوى السيّد وثانيهما : تصرف في العمل فقط ، فيوجب فساد دعوى الشيخ ، إذ لا موجب لاسقاط أحد الكلامين فيما لو أمكن الجمع بينهما .

هذا هو وجه الأحسنية - كما ذكرناه - ( خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد قدس سره في كلامه : بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة ، وتصريح الشيخ قدس سره في كلامه المتقدم : بانكار ذلك ) الذي ادّعاه السيّد .

إذن : فأحسن وجه للجمع بين كلاميهما أن يقال : انّ مراد السيّد من إثبات القرائن : هي القرائن الموجِبة للوثوق والاطمئنان امّا بالرّاوي أو بالرّواية ، ومراد الشيخ من إنكار القرائن : إنّما هو إنكار القرائن الأربع فقط .

وعلى هذا : يكون النزاع بين السيّد والشيخ لفظياً ، ولا يكون تهافت بين إجماعيهما حتى يقال : كيف يدّعيان إجماعين متدافعين ، وهما متعاصران ؟ هذا تمام الكلام في دعوى الشيخ : الاجماع على حجّية خبر الواحد .

ص: 125

وممّن نقل الاجماعَ على حجّية أخبار الآحاد : السَيّدُ الجليلُ رضيّ الدّين بن طاووس رحمه اللّه ، حيث قال في جملة كلام له ، يَطعَنُ فِيهِ على السيّد رحمه اللّه :

« ولايكاد تعجّبي ينقضي كيف إشتبه عليه أنّ الشيعة لاتعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة ، ومن اطّلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين ، عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العُدّة ، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة

-------------------

( وممّن نقل الاجماعَ على حجّية أخبار الآحاد : السيّدُ الجليل رضيّ الدّين بن طاووس رحمه اللّه ) وهو من أكابر الفقهاء ، والزهاد في عصره ( حيث قال في جملة كلام له ، يُطعَنُ فيه على السيّد رحمه اللّه ) مالفظه : ( ولايكاد تعجّبي ينقضي ) أي : انّي متعجب دائماً من انه ( كيف إشتبه عليه ) أي : على السيّد المرتضى ( أنّ الشيعة لاتعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة ؟ ) مع وضوح : انهم يعملون بها ، فكيف إدعى السيّد عدم عملهم بها ؟ .

( ومن اطّلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد ) بعين البصيرة ( عمل ذوي الاعتبار ) من الفقهاء الاعلام الذين هم مناط الأخذ والرد والقضاء والفتوى ( وجد ) كل ( المسلمين و ) نفس السيّد ( المرتضى و ) جميع ( علماء الشيعة الماضين ، عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ) بكيفية عمل المسلمين ، وعمل نفس السيّد المرتضى وعمل سائر علماء الشيعة الأجلاء .

فعملهم بأخبار الآحاد يكون ( كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العُدّة ، وغيره ) أي : غير الشيخ الطوسي ( من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة

ص: 126

وغيرهم من المصنّفِين » انتهى .

وفيه دلالةٌ على أنّ غير الشيخ من العلماء أيضاً إدّعى الاجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد .

وممّن نقل الاجماع أيضاً العلاّمةُ رحمه اللّه ، في النهاية حيث قال : « إنّ الاخباريّين منهم لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصولييّن منهم ، كأبي جعفر الطوسيّ عمل بها ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ، لشبهة حصلت لهم » ،

-------------------

وغيرهم ) أي : غير الشيعة ( من المصنّفِين ، إنتهى ) كلام السيّد ابن طاووس .

قال المصنّف : ( وفيه ) أي : في كلام السيّد ابن طاووس ( دلالةٌ على أنّ غير الشيخ من العلماء أيضاً إدّعى الاجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد ) لأنّه قال في عبارته المتقدّمة « كما ذكر - أي : الاجماع - محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدّة وغيره » .

فانّ هذه العبارة وإن لم يذكر فيها لفظ الاجماع ، إلاّ انّ الكلام المتقدّم دال على انّ الشيخ الطوسي إدعى الاجماع ، ولما عطف « غيره » على الشيخ ، دلّ على انّ غيره أيضاً يدعي الاجماع على ذلك .

( وممّن نقل الاجماع أيضاً : العلاّمةُ - رحمه اللّه في النهاية حيث قال : انّ الأخبارييّن منهم ) أي : من الشيعة ( لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد والاصولييّن منهم ) أي : من الشيعة ( كأبي جعفر الطوسي عمل بها ) أي : بأخبار الآحاد في فروع الدّين ( ولم ينكره سوى المرتضى واتباعه ، لشبهة حصلت لهم

ص: 127

انتهى .

وممّن إدعاه أيضاً المحدّث المجلسيّ قدس سره ، في بعض رسائله ، حيث إدّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد .

ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس سره ، من الأخبارييّن يمكنُ أن يكونَ مثل الصَدوق وشيخه ، حيث أثبتا السهو للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمّة عليهم السلام ، لبعض أخبار الآحاد ، وزعما أنّ نفيه عنهم عليهم السلام ، أوّلُ درجة في الغلوّ ،

-------------------

إنتهى ) (1) كلام العلاّمة .

وسيأتي حول هذه الشبهة كلام المصنّف حيث يقول : ثمّ انّه يمكن ان تكون الشبهة التي ادعى العلامة حصولهاللسيّد وأتباعه ، الى آخر ما سيأتي قريباً إنشاء اللّه تعالى .

( وممّن إدعاه ) أي الاجماع ( ايضاً : المحدّث المجلسي قدس سره ، في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد ) ومن المعلوم : إنّ مراده من الخبر الواحد : خبر الثقة لا مطلقاً .

( ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس سره من ) كلامه المتقدّم : بان ( الأخباريّين ) العاملين بخبر الواحد في اصول الدين وفروعه ( يمكنُ ان يكونَ مثل الصّدوق وشيخه ) ابن الوليد ( حيث أثبتا السّهو للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمة عليهم السلام ) بمعنى الاسهاء ، أي : ان اللّه سبب سهوهم ، وذلك ( لبعض أخبار الآحاد ) المروية في أخبارنا .

( وزعما أنّ نفيه ) أي : نفي السهو ( عنهم عليهم السلام ، أولُ درجة في الغلوّ ) مع إنّ تلك الأخبار بعد التسليم بصحة سندها محمولة على التقية ونحوها ، لأنّ العامّة

ص: 128


1- - النهاية : ص200 مع تفاوت - معالم الدين : ص191 .

ويكون ما تقدّم في كلام الشيخ من المقلّدة الذين إذا سُئلوا عن التوحيد وصفات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام قالوا :روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار .

وقد نسب الشيخ قدس سره في هذا المقام من العُدّة ، العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غَفَلةِ أصحاب الحديث .

ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشبّهة التي إدّعى العلاّمة رحمه اللّه ، حصولها للسيّد وأتباعه ،

-------------------

قائلون بذلك .

ومن المعلوم : انّ صفات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من اصول الدين ، بالاضافة الى انّ هذه الرّوايات معارضة بروايات أقوى منها من حيث الدلالة ومن جهة الصدور .

( و ) يمكن أن ( يكون ) مراد العلامة من الأخباريين : ( ما تقدّم في كلام الشيخ : من المقلّدة ، الذين إذا سُئلوا عن التوحيد ، وصفات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمة عليهم السلام ، قالوا : روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار ) وقد تقدّم منا : انّ فيما عدا أصل ذات التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد ، من شؤونها الاُخرى يمكن الاستدلال لها بصحاح الأحاديث .

( وقد نسب الشيخ قدس سره في هذا المقام من العُدّة ) وهو مقام البحث عن حجّية خبر الواحد ( العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غَفَلةِ أصحاب الحديث ) من الأخباريين ، الذين هم غافلون عن انّه لا يمكن الاستدلال في بعض اصول الدين بالأخبار ، لأنّ ذلك مستلزم للدور .

بالاضافة الى انّه يستلزم : نقض سائر اصحاب الأديان والمذاهب بأخبارهم على اصول دينهم .

( ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشّبهة التي ادّعى العلاّمة رحمه اللّه حصولها للسيد وأتباعه )

ص: 129

هو زعم الأخبار التي عمل بها الأصحابُ ودوّنوها في كُتبهم محفوفة عندهم بالقرائن ، أو انّ من قال من شيوخهم بعدم حجّية أخبار الآحاد ، أراد بها مطلق الأخبار ، حتى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثاقة الرّاوي ، أو أنّ مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة لأجل شبهة حصلت له ، فخالف المُتَفقَ عليهِ بين الأصحاب .

ثمّ إنّ دعوى الاجماع على العمل بأخبار الآحاد ، و إن لم نطلّع عليها

-------------------

حيث قال : ولم ينكر العمل بالخبر ، سوى المرتضى وأتباعه ، لشبهة حصلت لهم ( هو ) ان يكون مراد العلاّمة من الشبهة ( : زعم الأخبار التي عمل بها الأصحابُ ودوّنوها في كُتبهم : محفوفة عندهم ) أي : عند اولئك الأصحاب ( بالقرائن ) القطعية المفيدة للعلم .

( أو ) زعم ( انّ من قال من شيوخهم : بعدم حجيّة أخبار الآحاد ، أراد بها ) أي : بالأخبار التي ذكر انّها ليست بحجّة ( مطلق الأخبار ، حتى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثقاقة الرّاوي ) فيكون زعم السيّد واتباعه من نفي شيوخهم العمل بالخبر الواحد : هو نفي مطلق الخبر ، حتى خبر الامامي الذي يرويه الثقة .

( أو ) المراد من الشبهة : ( انّ مخالفته ) أي : مخالفة السيّد ( لأصحابنا في هذه المسألة ) أي : مسألة حجيّة خبر الواحد ( لأجل شبهة حصلت له ) أي : للسيد ( فخالف المُتَفقَ عليهِ بين الأصحاب ) فانّه وإن علم أنّه متفق عليه بين الأصحاب ، لكنّه لشبهة حصلت له - مثل : إستحالة التعبّد بالعمل بالظنّ ، أو ما أشبه ذلك - خالف المجمع عليه .

( ثمّ إنّ دعوى الاجماع على العمل بأخبار الآحاد وإن لم نطّلع عليها ) أي : على

ص: 130

صريحةٌ في كلام غير الشيخ ، وابن طاووس ، والعلاّمة ، والمجلسي قدس سرهم ، إلاّ أنّ هذه الدعوى منهم مقرونةٌ بقرائن تدلّ على صحتها وصدقها ، فيخرج عن الاجماع المنقول بخبر الواحد ، المجرّد عن القرينة ويدخل في المحفوف بالقرينة ، وبهذا الاعتبار يتمسّكُ بها على حجيّة الأخبار .

بل السيّد قدس سره إعترف في بعض كلامه المحكيّ ، كما يظهر منه ، بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، الاّ أنّه يدّعى انّه لما كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجردّة ،

-------------------

هذه الدعوى( صريحةٌ في كلام غير الشيخ ، وابن طاووس ، والعلاّمة ، والمجلسيّ قدس سرهم ، الاّ أن هذه الدعوى منهم مقرونةٌ بقرائن ) سنذكرها( تدل ) تلك القرائن ( على صحّتها ) أي : صحة هذه الدعوى( وصدقها ) .

وهذا الاجماع المنقول بخبر الواحد يتحف بالقرائن ( فيخرج عن الاجماع المنقول بخبر الواحد ، المجرد عن القرينة ، ويدخل في المحفوف بالقرينة ) فلا يشكل بأنّ الاجماع المنقول دليل ظنّي ولا يجوز اثبات المسألة الاصولية بالدليل الظنّي ؟ لأنّ الاجماع المنقول اذا لم يكن مقروناً بالقرائن المتظافرة المتواترة ، كان كذلك ،اما هذا الاجماع فهو مقرون بتلك القرائن الموجبة لقطع الانسان بصحته ومطابقته لقول المعصوم عليه السلام .

( وبهذا الاعتبار يتمسّك بها ) أي : بهذه الدعوى ( على حجيّة الأخبار ، بل ) الاجماع هنا ممّا يطمئن اليه ، فانّ ( السيد قدس سره ) أيضاً( إعترف في بعض كلامه المحكيّ كما يظهر منه ) أي : من ذلك الكلام ( بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ انّه ) أي : السيّد ( يدّعي : أنّه لما كان من المعلوم : عدم عملهم بالأخبار المجردة ،

ص: 131

كعدم عملهم بالقياس ، فلابّد من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة .

قال في الموصليات على ما حكي عنه في محكّي السرائر : « إن قيل : أليس شيوخُ هذه الطائفة تولوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار التي رووها عن ثِقاتهم وجعلوها العُمدة والحُجّة في الاحكام ، حتى رووا عن أئمتهم ، فيما يجيء مختلفاً من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤذ منه ما هو أبعدُ من قول العامّة ، وهذا يناقضُ ما قدّمتموه .

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع

-------------------

كعدم عملهم بالقياس ، فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة ) بالقرائن الخارجية أو الداخلية .

( قال ) السيّد ( في ) رسالة ( الموصليات على ما حكي عنه في محكّي السرائر : إن قيل : أليس شيوخُ هذه الطائفة عوّلوا ) وإعتمدوا ( في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار ( التي رووها عن ثِقاتهم ، وجعلوها ) أي : أخبار الآحاد ( العُمدةَ والحجّة في الأحكام ، حتى رووا عن ائمتهم فيما يجيء ) عنهم عليهم السلام متعارضاً و( مختلفاً من الأخبار ) وكيفية علاجها انه يلزم الأخذ بالراجح ، و( عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ) أي : من الخبر ( ما هو أبعدُ من قول العامّة ) الى سائر المرجحات .

( وهذا ) الاعتماد من الطائفة على الأخبار في الأحكام ،ونقلهم لروايات علاج المتعارضين ترجيحاً أو تساوياً ( يناقضُ ما قدّمتموه ) أنتم : من عدم حجيّة أخبار الآحاد عند الطائفة ، اذ لو لم تكن أخبار الآحاد حجّة عندهم لم يكن وجه لاعتمادهم على الأخبار مطلقاً ؟ .

( قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الاُمور المعلومة المشهورة المقطوع

ص: 132

عليها الى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد علم كل موافق ومخالف أنّ الشيعة الاماميّة تبطل القياسَ في الشرعية حيث لا يؤدّي الى العلم ، وكذلك تقول في أخبار الآحاد » ، انتهى المحكي عنه .

وهذا الكلامُ ، كما ترى ، يظهر منه عملُ الشيوخ بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه قدس سره ، ادّعى معلومية خلافه من مذهب الاماميّة ، فترك هذا الظهور أخذاً بالمقطوع ،

-------------------

عليها ، الى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ) فانّ الانسان الحصين لا يترك المعلوم ويأخذ المشتبه .

( وقد علم كلّ موافق ) للاماميّة ( ومخالف ) لهم ( أنّ الشيعة الامامية تبطل القياسَ في الشريعة ، حيث لا يؤدّي الى العلم ) فانّ القياس لا يوجب العلم إطلاقاً ولو علم الانسان بسبب قياس ، فانّما هو لمناسبات خارجيّة ، لا من محض القياس .

( وكذلك تقول ) الامامية ( في أخبار الآحاد ) اي : كما إنهم يبطلون القياس ، كذلك يبطلون الخبر الواحد .

أما ما نجد أحياناً من عملهم بأخبار الآحاد ، فهو مجمل ، حيث لا نعلم : انّهم عملوا بأخبار الآحاد بما هي أخبار ، أو بما هي محفوفة بالقرائن القطعيّة ، فلا ينبغي لنا ترك المعلوم : من عدم عملهم ، الى المشتبه : من عملهم .

( إنتهى المحكي عنه ) أي : عن السيّد المرتضى رحمه اللّه .

( وهذا الكلامُ - كما ترى - يظهر منه : عملُ الشيوخ باخبار الآحاد ، إلاّ أنّه ) أي : السيّد ( قدس سره إدّعى معلوميّة خلافه ) أي : خلاف عملهم بأخبار الآحاد ( من مذهب الاماميّة ، فترك هذا الظهور ) العملي في كونهم عاملين بأخبار الآحاد الى عدم عملهم بها ، وذلك ( أخذا بالمقطوع ) لأنّ عدم عملهم عند السيّد مقطوع ،

ص: 133

ونحن نأخذ بما ذكره أولاً ، لاعتضاده بما يوجب الصدق ، دون ما ذكره أخيراً ، لعدم ثبوته إلاّ من قِبلِهِ ، وكفى بذلك مُوهِناً ، بخلاف الاجماع المدّعى من الشيخ والعلاّمة ، فانّه معتضدٌ بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه وانّ الأصحاب عملوا بالخبر الغير العلمّي في الجملة .

-------------------

وأما عملهم بأخبار الآحاد فمحتمل الأمرين : فقد يكون لأنّه خبر واحد ، وقد يكون لأنّه محفوف بالقرينة القطعية .

( ونحن نأخذ بما ذكره أولاً ) وهو : عمل الطائفة بأخبار الآحاد ، لا ما ذكره ثانياً ، وذلك ( لاعتضاده ) أي : ما ذكره اولاً ( بما يوجب الصدق ) من وجود قرائن كثيرة ، تدل على انّهم عملوا بأخبار الآحاد بما هي أخبار آحاد لا بما هي مقطوع بها من جهة القرائن الخارجية والداخلية .

( دون ما ذكره ) السيّد ( أخيراً ) : من بطلان العمل بخبر الواحد ، وانّه عند الامامية كالقياس ، فلا نأخذ به ( لعدم ثبوته ) أي : عدم ثبوت هذا الثاني من السيّد ( إلاّ من قِبلِهِ ) فانّه لم يثبت بطلان العمل بالخبر الواحد ، الاّ من ناحية السيّد ، مثل هذا لا يمكن الاعتماد عليه ، بل ( وكفى بذلك مُوهِناً ) فانه يكفي في وهن الاجماع الذي إدعاه السيّد : إنّه لم يثبت الاّ من قبله ، ومن المعلوم : انّ الاجماع لا يقوم بشخص واحد ( بخلاف الاجماع المدّعى من الشيخ ، والعلاّمة ) وغيرهما ، ممّن تقدّم اسمائهم ( فانّه معتضد بقرائن كثيرة ، تدل على صدق مضمونه ) أي : صدق مضمون ذلك الاجماع المدعى على العمل بخبر الواحد ( وإنّ الاصحاب عملوا بالخبر غير العملي في الجملة ) أي : على اختلافهم في اشتراط العدالة ، أو كفاية الوثاقة ، أو الاحتياج الى أن يكون الرّاوي ضابطاً ، أو غير ذلك .

ص: 134

فمن تلك القرائن : ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ،

-------------------

أمّا القرائن التي تدل على صدق إجماع الشيخ ، والعلاّمة ، وغيرهما ، فقد أشار اليها المصنّف بقوله :

( فمن تلك القرائن ما إدّعاه الكشّي من إجماع العصابة ) أي : الشيعة ، والعصابة عبارة عن جماعة يلتف بعضهم حول بعض ، تشبيهاً بالعصابة التي يلفها الانسان حول رأسه( على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ) من الرواة وهم ثمانية عشر رجلاً ، أشار اليهم العلامة الطباطبائي رحمه اللّه في ارجوزته حيث يقول :

قَد أَجمَع الكُلّ عَلى تَصحيحُ ما *** يَصُح عَن جَماعةٍ فَليَعلَما

وَهُم اولوُا نجابَةٍ وَرِفَعة *** أربَعة وَخَمسة وتِسعة

زُرارَة كذا بريد قَد أتى *** ثُمَ مُحمد وَلَيثُ يافتى

كذا الفُضيلُ بَعدَهُ معروفُ *** وَهُوَ الّذي ما بَينَنا مَعرُوف

والسِتَّة الوسطى أُولوُا الفضائِل *** رَتبتُهُم أَدنى مِنَ الأوائِل

جَميلة الجَميل معَ أبان *** وَالعبَدلان ثمّ حَمّادانِ

والسَّتةُ الاُخرى وَهُم صَفوانِ *** وُيُونس عَليِهم الرُّضوانِ

ثُمّ ابن محبوب كذا مُحمدٍ *** كذاك عبداللّهِ ثُمّ اَحمدِ

وَما ذكرَناهُ الاصحُ عِندنا *** وَشذّ قولُ مَنْ بهِ خالفنا

وأسماؤهم كالتالي :-

1 - زُرارة بن اعين

ص: 135

فانّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحاً ،

-------------------

2 - مَعروف بن خرّبوذ

3 - بريد

4 - أبو بصير الأسدي

5 - الفُضيل بن يسار

6 - محمد بن مسلم الثقفي

7 - جَميل بن درّاج

8 - عبداللّه بن مسكان

9 - عبداللّه بن بكير

10 - محمد بن عيسى

11 - أبّان بن عثمان

12 - حماد بن عثمان

13 - يُونُس بن عبدالرحمان

14 - صَفوان بن يحيى

15 - محمّد بن أبي عُمير

16 - عبداللّه بن المغيرة

17 - الحسن بن محبوب

18 - أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي

هذا ، وتفصيل الكلام موكول الى كُتب الرّجال .

( فانّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه : هو عدّ خبره صحيحاً ) فيكون معنى قولهم :« أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة » :

ص: 136

بمعنى عملهم به ، لا القطعُ بصدوره ، اذ الاجماعُ وقع على التصحيح ، لا على الصحّة ، مع أنّ الصحة عندهم على ما صرّح به غير واحد ، عبارة عن الوثوق والرّكون ، لا القطع واليقين .

ومنها : دعوى النجاشيّ أن مراسيل ابن أبي عمير مَقبولةٌ عند الأصحاب ، وهذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عُمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم بأنّه لا يروي أو لا يرسل ، إلاّ عن ثِقة ،

-------------------

إنّ الاماميّة أجمعوا على عدّ خبر هؤلاء صحيحاً مأخوذاً به .

وعليه : فالتصحيح اولاً : ( بمعنى : عملهم به ) أي : بالخبر المروي عن هؤلاء ( لا القطعُ بصدوره ، اذ الاجماعُ وقع على التصحيح )أي : العمل ( لا على الصّحة ) أي : الصدور القطعي .

وثانياً : ( مع ) أي : مضافاً الى انّهم أجمعوا على التصحيح - لا على الصحة - ( أنّ الصحّة عندهم )أي : عند علمائنا ( على ما صرّح به غير واحد ، عبارة عن : الوثوق والرّكون ، لا القطع واليقين ) فيستفاد من ذلك عملهم على الخبر غير المقطوع به .

( ومنها : دعوى النجاشيّ : أنّ مراسيل ابن أبي عُمير مَقبولةٌ عند الأصحاب ، و ) من المعلوم : انّ ( هذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل : ابن أبي عُمير ، لا من أجل القطع بالصّدور ، بل لعلمهم بانّه لا يروي ، أو لا يرسل ، إلاّ عن ثِقة ) وإنّما عدّوا مراسيل بن أبي عُمير كالمسانيد ، لما ذكره الكشي : من انه حبس بعد الامام الرضا عليه السلام فذهب ماله وذهبت كتبه ، وكان يحفظ أربعين ألف حديثاً ،

ص: 137

فلولا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن وجهٌ لقبول مراسيل ابن أبي عمير ، الذي لا يروي الاّ عن الثقة والاتفاق المذكور قد ادّعاه الشهيد في الذكرى ايضاً .

-------------------

فلذلك أرسل احاديثه .

وعن النجاشي « انّه قيل إنّ أخته دفنت كُتبه في حال استتارته وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، فحدّث بما كان في حفظه ، وبما بقي له في أيد الناس ، فلذلك أصحابنا يسكنون الى مراسيله » .

إذن : فمراسيله في الحقيقة ، مسانيد معلومة الاتصال والاسناد إجمالاً ، وان فاتته طرق الاسناد على التفصيل ، لا انهما مراسيل على المعنى المصطلح حقيقة ، ومن المعلوم : إنّ الأصحاب انّما يحكمون بأنّ مراسيله في حكم المسانيد ، لجلالة قدر ابن أبي عُمير .

وعليه : ( فلولا قبولهم ) أي : الاصحاب ( لما يسنده الثقة الى الثقة ) أي : لو لم يكن خبر الثقة عن الثقة الى أن يتصل بالامام عليه السلام حجّة عند الأصحاب ( لم يكن وجهٌ لقبول مراسيل ابن أبي عُمير ، الذي لا يروي الاّ عن الثقة ) وهذا هو قرينة على اعتماد الأصحاب على أخبار الثقاة .

( والاتفاق المذكور ) في اعتماد الأصحاب على مراسيل ابن أبي عُمير ( قد ادّعاه الشهيد في الذكرى ايضاً ) فقد قال في محكي الذكرى : انّ الأصحاب اجمعوا على قبول مراسيل البزنطي ، وابن أبي عُمير ، وصَفوان بن يحيى .

ص: 138

وعن كاشف الرموز تلميذ المحقق : إن الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطيّ .

ومنها : ما ذكره ابنُ ادريس في رسالة خلاصة الإستدلال التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ، في مقام دعوى الاجماع على المضايقة وأنها ممّا اطبقت عليه الاماميّة ، الاّ نفر يسير من الخراسانيّين ، قال في مقام تقريب الإجماع : « إنّ ابني بابويه ، والأشعريين ، كسعد بن عبداللّه وسعيد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ، والقميّين أجمع ، كعليّ بن ابراهيم ومحمّد

-------------------

( و ) نقل أيضاً ( عن كاشف الرموز ، تلميذ المحقّق ) صاحب الشرائع : ( إنّ الأصحاب عملوا بمرسيل البزنطي ) وهذا ا يضاً دلالة على حجيّة خبر الثقة عندهم ، وإن لم تكن محفوفة بالقرينة القطعيّة .

( ومنها : ما ذكره ابن ادريس في رسالة خلاصة الإستدلال ، التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ) حيث اختلف الفقهاء في ان الانسان اذا فاتته صلاة ، هل يجب عليه قضاؤها فوراً أو متراخياً ؟ .

وقد صنَّف إبن ادريس في هذه المسألة هذه الرّسالة ، وقال ( في مقام دعوى الاجماع على المضايقة ) أي : وجوب الفور في قضاء الفوائت ( وانها ) أي : المضايقة ( ممّا أطبقت عليه الامامية ، إلاّ نفر يسير من الخراسانييّن ) أي : فقهاء خراسان قدس سرهم .

( قال في مقام تقريب الاجماع : إن ابني بابويه ) وهما : علي بن بابويه ، وابنه محمد بن علي بن بابويه ( والاشعريّين : كسعد بن عبد اللّه ، وسعيد بن سعد ، ومحمد بن علي بن محبوب ، والقميين أجمع : كعلي بن ابراهيم ، ومحمد

ص: 139

بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم ذكروا أنه لا يحل ردُّ الخبر الموثوق برواته » انتهى .

فقدإستدل على مذهب الاماميّة بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم الى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ذهابهم الى المضايقة .

وليت شعري اذا علم ابنُ إدريس أنّ مذهب هؤلاء - الذين هم أصحاب

-------------------

بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالاخبار المتضمنّة للمضايقة ) فيكون الاجماع منعقد على المضايقة .

لا يقال : انّ هؤلاء إنّما نقلوا أخبار المضايقة في كتبهم ، امّا إنهم عملوا بهذه الأخبار فذلك غير معلوم .

لانه يقال : بل نعلم بانّهم عملوا بهذه الأخبار( لأنّهم ذكروا : أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق بروايته ، إنتهى )كلام ابن إدريس .

وعليه : ( فقد إستدلّ على ) انّ ( مذهب الاماميّة ) هو وجوب الفور ( بذكرهم لأخبار المضايقة ، وذهابهم الى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ) : ذكرهم ، وعملهم ( ذهابهم الى المضايقة ) في باب قضاء الصلوات الفائتة .

ثمّ انّ المصنّف تعجب من ابن ادريس ، حيث ذكر إنّ الامامية لا يُجوّزون رد خبر الثقة ، فانّ هذا الكلام منه كيف يجتمع مع قوله بعدم حجيّة خبر الثقة قائلاً :

( وليت شعري ) والشعر من الشعور ، بمعنى : ليتني كنت أعلم ، وهذا الكلام يقال : في مقام السؤال والاستفهام ، بانّه ( إذا علم ابن ادريس أنّ مذهب هؤلاء ) أي : أمثال ابن بابويه ، والاشعريين ، والقميين ، ومن أشبههم ( الذين هم أصحاب

ص: 140

الائمة عليهم السلام ، ويحصل العلم بقول الامام عليه السلام عن اتفاقهم - وجوبُ العمل برواية الثقة وأنّه لا يحل ترك العمل بها ، فكيف تَبعَ السيّد في مسألة خبر الواحد ، الاّ أن يدّعي أنّ المراد بالثقة ، من يفيد قوله القطع - وفيه مالايخفى -

-------------------

الائمة عليهم السلام ، ويحصل العلم بقول الامام عليه السلام عن إتفاقهم ) على ( وجوبُ العمل برواية الثقة وأنّه لا يحل ترك العمل بها )أي : برواية الثقة ، لعلمنا بأنهم لا يتفقون على حكم لم يسمعوه عن الامام عليه السلام ، أو لم يحصل لهم العلم بالحدس ، وما اشبه ، عن قوله عليه السلام .

وعليه : ( فكيف تَبَعَ السيّد في مسألة خبر الواحد ) وقال : انّه ليس بحجّة؟ فمن ناحية قال : انّه لايجوز العمل بخبر الواحد ، ومن ناحية قال : انّ خبر الثقة حجّة ، وهذا تدافع في الكلام .

( إلاّ أن يدّعي : أنّ المراد بالثقة ، من يفيد قوله القطع ) فيكون مراد ابن إدريس من الخبر الموثوق ، الذي لايحل ردّه عند الاماميّة هو الخبر المقطوع به ، وأخبار المضايقة مقطوعة الصدور ، وما ذكره : من انّه لايجوز العمل بخبر الواحد ، أراد به : الخبر غير المقطوع به .

( و ) لكن ( فيه ما لايخفى ) لوضوح : انّ إطلاق الثقة على من يفيد قوله القطع خلاف الظاهر .

هذا بالاضافة إلى انّه لو أراد بخبر الثقة : الخبر المقطوع به ، لم يكن بحاجة للاستشهاد بذكر الاجماع ، لأنّ القطع كاف في وجوب العمل ، سواء كان هناك إجماع أو لم يكن ، فذكره إجماع الاماميّة على العمل بأخبار المضايقة ، دليل على انّه أراد بالثقة : الخبر الذي لم يكن مقطوعاً به .

ص: 141

أو يكون مرادُه ومراد السيد ، من الخبر العلميّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان ، لا ما يفيد اليقين ، على ما ذكرنا سابقاً في الجمع بين كلامي السيّد والشيخ .

ومنها : ماذكره المحقّق في المعتبر ، في مسألة خبر الواحد ، حيث قال : « أفرط الحشَويّة في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا

-------------------

( أو يكون مرادهُ ومراد السيّد ، من الخبر العلميّ : مايفيد الوثوق والاطمئنان ، لا مايفيد اليقين ) فلا السيّد يقول بعدم حجّية خبر الثقة ، ولا ابن ادريس ، وانّما كان مرادهما من القطع ، والعلم ، وما أشبه : الاطمئنان ، لا أكثر من ذلك ( على ماذكرنا سابقاً في الجمع بين كلامي السيّد والشيخ ) مفصلاً .

( ومنها : ) أي : من القرائن على صحة الاجماع ، الّذي إدعاه الشيخ وغيره على حجّية خبر الواحد ( ماذكره المحقّق في المعتبر ، في مسألة خبر الواحد حيث قال : أفرط الحشَويّة ) وفي الأوثق : الحشَوية - بفتح الشين وسكونها - أصحاب أبي الحسن البصري ، وإنّما سموا بها لأنّ الحشو بمعنى : الطرف والهجر ، وقد أمرهم بالهجر عنه لمقالاتهم الفاسدة ، أو لأنّهم كانوا يجلسون أمامه فقال لردائة كلماتهم :

ردوهم الى حشيء الحلقة ، أي : جانبها (1) .

وقيل : نسبة الى حشوية كفعولة ، قرية من قرى خوزستان .

وعن كتاب كشف الغُمّة : إنّ هذه الطائفة كانوا يقولون بامامة بني أمية ، ولم يجعلوا لأولاد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم أية إمامة .

فهؤلاء قد اُفرطوا ( في العمل بخبر الواحد ، حتى إنقادوا ) أي : إنساقوا

ص: 142


1- - أوثق الوسائل : ص173 القرائن الدالّة على عمل الاصحاب بأخبار الآحاد .

لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فانّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتَكثُرُ بَعدِي القَالّةُ » ، وقول الصادق عليه السلام : « إنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا من يَكذِبُ عَلَيهِ » .

وإقتصر بعضهم من هذا الافراط فقال : « كلّ سليم السّند يعمل به » . وما عُلِمَ أنّ الكاذب قد يصدق ،

-------------------

بالاطاعة ( لكلّ خبر ) مهما كان طريقه ودلالته ( وما فطنوا لما تحته من التناقض ) فانّ تحت هذه المعنى من الافراط ، مفسدة التناقض ، حيث إنّ في الأخبار الضعاف ، كثيرا ما يوجد التناقض ، سواء بينهما في نفسها ، أو بينها وبين الأخبار الصحيحة .

( فانّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتكثُرُ بَعدِي القَالّةُ » ) (1) والقالة : جمع قائل ، والمراد به هنا : الكذاب ، مثل باعة جمع بائع .

( وقول الصادق عليه السلام : « لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا ، مَنْ يَكذِبُ عَلَيهِ » ) (2) .

فانّ هذين الخبرين يدلان على كثرة الأخبار المكذوبة على النبي وآله عليهم السلام ، فكيف يمكن مع ذلك أن يعمل الانسان بكل خبر ورد عنهم صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ .

( وإقتصر بعضهم من هذا الافراط ) أي : بعض علماء الحشوية ، على اقل من ذلك الافراط المشين ( فقال : كلّ سليم السّند يعمل به ) أي : كلّما كان الخبر سليم السند عمل به ، لا إنه يعمل بكل خبر حتى المتهم بالكذب وما أشبه .

نعم ( وما عُلِمَ ) بسبب القرائن ( انّ الكاذب قد يصدق ) يعمل به أيضا ،

ص: 143


1- - الكافي اصول : ج1 ص62 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص264 ب2 ح5762 ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 و ص258 (بالمعنى) .
2- - المعتبر : ص6 .

ولم يَتَنَبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدحٌ في المذهب ، إذ ما من مصنِّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل .

وأفرط آخرون في طريق ردّ الخبر ، حتّى أحالوا استعماله عقلاً .

واقتصر آخرون ، فلم يَرَوا العقل مانعا ، لكنَّ الشَرعَ لَم يأذَنْ في العمل به .

-------------------

فلا ينبغي الاقتصار على خبر السليم .

والحاصل : انّه يلزم علينا أن نعمل بكل خبر كان على صحة مضمونة قرينة ، سواء كان سنده حجّة ، أو لم يكن سنده حجّةٌ ، فلا نأخذ بكل خبر مهما كان سنده، ولا نترك الخبر الذي سنده غير نقي إذا كان على مضمونه قرينة معتبرة .

هذا ، والظاهر من قول المحقّق : « واقتصر بعضهم من هذا الافراط » الخ ، انّه أراد به : بعض محدثي الشيعة ، لا الحشوية من العامّة ، بقرينة قوله بعد ذلك : ( ولم يَتَنَبّه ) هذا القائل المقتصر ( على أنّ ذلك ) الاقتصار ( طعن في علماء الشيعة ، وقدحٌ في المذهب ، إذ ما من مصنِّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح ) رواية إذا كانت هناك قرائن على صحته ، ولذا يجبرون الخبر المجروح بالشهرة العملية ، فيعملون به ( كما يعمل بخبر العدل ) .

وكما إنّ هناك إفراطا في العمل بالخبر هناك تفريط فيه أيضا ، وقد أشار إليه بقوله : ( وأفرط آخرون في طريق ردّ الخبر ، حتى أحالوا إستعماله عقلاً ) لأنّه يلزم الجمع بين المصلحة والمفسدة ، وتفويت المصلحة وجلب المفسدة والتناقض ، وغير ذلك - ممّا تقدَّم في كلام ابن قبة - .

( وإقتصر آخرون ) من هذا الافراط ( فلم يَرَوا العقل مانعا ، لكنَّ الشَرعَ لَم يأذَنْ في العمل به ) كما تقدّم عن السيّد وأتباعه ، حيث منعوا عن العمل بالخبر من جهة

ص: 144

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السُّنَن . والتوسطُ أقرب ، فما قَبِلَهُ الأصحابُ أو دلّت القرائنُ على صحّتهِ عُمِلَ بهِ ، وما أعرض عنه الأصحابُ أو شَذَّ يَجِبُ إطراحَهُ » انتهى .

وهو - كما ترى - ينادي بأنّ علماء الشيعة ، قد يعملون بخبر المجروح ، كما يعملون بخبر العدل . وليس المرادُ عملَهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ، لأنّ كلامه في الخبر الغير العلميّ ، وهو الذي أحال قومٌ إستعماله عقلاً ومنعه آخرون شرعا .

-------------------

الشرع لا من جهة العقل .

( و ) لكن ( كلّ هذه الأقوال ) المتقدّمة ، إفراطا وتفريطا ( منحرفة عن السُنَن ) الصحيحة ( والتوسطُ أقرب ) .

ثم فسّر التوسط بقوله : ( فما قَبِلَهُ الأصحاب ) وان كان السّند ضعيفا ( أو دلّت القرائن على صحّته ) ممّا أوجب الوثوق والاطمئنان ( عُمِلَ بِهِ ، وما أعرض عنه الأصحابُ ) بأن أسقطوه ( أو شَذَّ ) العامل به ، بأن عمل به بعض دون المشهور ( يَجبُ إطراحَهُ ، إنتهى ) كلام المحقّق رحمه اللّه ( وهو كما ترى ينادي : بأنّ علماء الشيعة ، قد يعملون بخبر المجروح ، كما يعملون بخبر العدل ) .

لا يقال : لعل مراد المحقّق : عملهم بالخبر فيما أورث العلم .

لأنّه يقال : ( وليس المراد ) للمحقّق ( عملهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ، لأنّ كلامه ) أي : المحقّق ( في الخبر غير العلميّ ، و ) القرينة على إرادة المحقّق : الخبر غير العلمي ، قوله : ( هو الذي أحال قومٌ إستعماله عقلاً ، ومنعه آخرون شرعا ) وأفرط فيه الحشوية ولو أفاد الخبر العلم ، لم يكن فيه كل هذا الكلام .

ص: 145

ومنها : ما ذكره الشهيد في الذكرى ، والمفيد الثاني ولد شيخنا الطوسي ، من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص ، تنزيلاً لفتواه منزلة رواياته ، ولولا عمل الاصحاب برواياته الغير العلمية لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته .

ومنها : ما ذكره المجلسيّ في البحار ، في تأويل بعض الاخبار ، الّتي تقدّم ذكرها في دليل السّيد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل

-------------------

( ومنها ) أي : ومن القرائن الدالة على صحة اجماع الشيخ على حجيّة خبر الواحد ( ما ذكره الشهيد في الذكرى ، والمفيد الثاني - ولد شيخَنا الطّوسي - ) وكان يلقّب بالمفيد الثاني لكثرة افاداته ( : من أنّ الأصحاب قد عَمِلوا بشرائع ) أي : بفتاوى ( الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز ) أي فقد ( النصوص ، تنزيلاً لفتاواه منزلة رواياته ) لأنّه رحمه اللّه كان يفتي بعين الرّواية ، وذلك بحذف الأسانيد ، وحذف بعض الزوائد ممّا يراه لا يرتبط بأصل المسألة . ( ولولا عمل الأصحاب برواياته ) أي : بروايات إبن بابويه التي ذكرها بالاسانيد في مثل الفقيه وغيره ( غير العلمية ) أي : التي لا توجب العلم ( لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته ) لأنّ الخبر الواحد لو كان حجّة ، كان حجّة في الفتاوى وفي الرّوايات ، ولو لم يكن حجّة ، لم يكن حجّة في الفتاوى والرّوايات معا ، ولكن لمّا عملوا بالفتاوى دَلّ ذلك على حجّيّة الخبر الواحد في الرّوايات أيضا .

( ومنها ) أي : من القرائن الدّالّة على صحّة الاجماع ، الذي ادعاه الشيخ على حجّيّة خبر الواحد ( ما ذكره ) العلاّمة ( المجلسي في البحار ، في تأويل بعض الاخبار ، الّتي تقدّم ذكرها في دليل السّيد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل

ص: 146

بالخبر الغير المعلوم الصّدور ، من : « أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر الغير العلميّ متواترٌ بالمعنى » .

ولا يخفى : انّ شهادة مثل المحدّث الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر الغير العلميّ ، ودعواه حصول القطع له بذلك من جهة التواتر ، لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الاجماع على العمل بأخبار الآحاد .

وسيأتي أنّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول

-------------------

بالخبر غير المعلوم الصّدور ) حيث إنّ العلاّمة المجلسي رحمه اللّه ، أوّل بعض الاخبار المانعة عن العمل بالخبر - كما تقدّم بعض التأويلات من المصنّف - وذكر لمثل هذه الاخبار تأويلات متعدّدة .

( من « انّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بالخبر غير العلميّ متواتر بالمعنى » ) وقوله : « من » بيان لمّا ذكره العلاّمة المجلسي ، فانّه رحمه اللّه قال :« من راجع التواريخ ، يعلم بالتواتر المعنوي : إنّ الاصحاب كانوا عاملين بأخبار الآحاد » .

وقد تقدّم معنى التواتر المعنوي .

( ولا يخفى : إنّ شهادة مثل هذا المحدّث ) الجليل ( الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار عليه السلام ، بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر غير العلميّ ) و «بعمل» متعلق ب- « شهادة » ( ودعواه ) أي : دعوى المحدّث المذكور ( حصول القطع له بذلك ) أي : بعمل أصحاب الأئمّة بالاخبار وذلك ( من جهة التواتر ) المعنوي .

فانّ هذه الشهادة ( لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة : الاجماع ) من الإماميّة ( على العمل بأخبار الآحاد ، وسيأتي انّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول

ص: 147

المهمة ، إدّعى أيضا تواتر الاخبار بذلك .

ومنها : ما ذكره شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين من : « أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجبُ ركونَ النفس اليه » .

وذكر فيما يوجب الوثوق أمورا لا تفيد الاّ الظّنّ ، ومعلوم انّ الصحيح هو المعمول به ، وليس هذا مثل الصحيح عند المتأخّرين

-------------------

المهمة ، إدّعى أيضا ) كدعوى المجلسي ( تواتر الاخبار بذلك ) أي : بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بالخبر الواحد .

( ومنها ) أي : من تلك القرائن أيضا ( ما ذكره شيخنا البهائي في مشرق الشمسين من : إنّ ) الخبر ( الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما ) أي : بالقرائن الّتي ( يوجب ركون النفس اليه ) (1) أي : إلى ذلك الخبر ، بمعنى : انّه يجعل الانسان يثق بأنّ الخبر وارد عنهم عليهم السلام .

( وذكر فيما يوجب الوثوق ) أي : ذكر في القرائن الموجبة لركون النفس واطمئنانها ( امورا لا تفيد الاّ الظّنّ ) لا العلم ، مثل : إستقامة المذهب ، والعدالة ، والتورع في النقل ، وما أشبه ذلك ، ممّا يدلّ على كفاية حجّيّة الخبر بأمثال هذه الامور ، وكلها لا تورث العلم .

( ومعلوم : إنّ الصحيح ) في اصطلاح قدماء الشيعة ( هو ) عبارة عن الخبر ( المعمول به ) عندهم ( وليس هذا ) أي : الصحيح في اصطلاح القدماء ( مثل الصحيح عند المتأخّرين ) الذين ضيقوا دائرة الصحة ، وقالوا : انّه خبر العدل

ص: 148


1- - مشرق الشمسين : ص 269 .

في انه قد لا يعلم به ، لاعراض الاصحاب عنه أو لخلل آخر . فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن اليه النفسُ وتثِقُ به .

هذا ما حضرني من كلمات الاصحاب ، الظاهرة في دعوى الاتفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلميّ في الجملة ، المؤيدة لمّا ادعاه الشيخ ، والعلاّمة .

-------------------

الضابط الامامي ( في أنه قد لا يعمل به ، لاعراض الاصحاب عنه ، أو لخلل آخر ) فيه ، كالابتلاء بمُعارض ، أو نحو ذلك ، فالقدماء يعملون بكل خبر يركن النفس اليه ، ولا يشترطون شروط المتأخّرين ، لا من حيث السّند ، ولا من حيث عدم الاعراض ، وما أشبه ذلك .

وعليه : ( فالمراد ) أي : مراد الشيخ البهائي ( : إنّ المقبول ) وهو الخبر المعمول به ( عندهم ) أي : عند القدماء ( ما تركن اليه النفس وتثق به ) (1) من دون ملاحظة أمر آخر ، فكلامه مؤيّد لمّا ادعاه الشيخ : من الاجماع على العمل بخبر الواحد .

( هذا ما حضرني من كلمات الاصحاب ، الظاهرة في دعوى الإتفاق على العمل بخبر الواحد غير العلميّ في الجملة ) على اختلافهم في مناط الحجّية بالنسبة الى الخبر الواحد ، فانّهم وان اختلفوا في مناطه ، لكنهم اتفقوا جميعا على العمل به ، سواء قلنا : بأنه يشترط أنّ يكون عدلاً ، أو ثقة ، أو قلنا : بأنه يسقط بإلاعراض أو لا يسقط .

وعليه : فانّ المُهم هو الجامع بين هذه الكلمات ( المؤيدة ) أي : هذه الكلمات ( لِما إدعاه الشيخ ، والعلاّمة ) الحليّ ، والسّيد ابن طاووس ، والعلاّمة المجلسي ،

ص: 149


1- - مشرق الشمسين : ص 269 .

واذا ضممت إلى ذلك كله ، ذهاب معظم الأصحاب ، بل كلّهم ، عدا السّيد وأتباعه ، من زمان الصدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر الغير العلميّ ، حتى أنّ الصدوق تابعٌ في التصحيح والردّ ، لشيخه ابن الوليد ، وإنّ ما صحّحه فهو صحيحٌ ، وان ما رده فهو مردودٌ ، كما صرح به في صلاة الغدير وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب الرّحمة ،

-------------------

وغيرهم ، ممن تقدّم نقل الاجماع أو التواتر عنهم .

( واذا ضممت إلى ذلك كله ، ذهاب معظم الاصحاب ، بل كلّهم ، عدا السّيد وأتباعه ) أي بأن نضم إلى الاجماعات ومؤيداتها ، الّتي نقلناها عن العلماء المتقدمين ، ما رأيناه من ذهاب الفقهاء ( من زمان الصّدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر غير العلميّ ) وسيأتي جواب « اذا » عند قول المصنّف : « يعلم علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخ » الخ .

( حتى إنّ الصدوق تابعٌ في التصحيح ) للخبر ( والرد ، لشيخه ابن الوليد ، وان ما صحّحه ) استاذه ابن الوليد ( فهو صحيح ، وإنّ ما ردّه فهو مردود ، كما صرّح به في صلاة الغدير ) حيث قال فيما حكي عنه ، في آخر صوم التطوّع من الفقيه : وأما خبر صلاة غدير خُم ، والثواب المذكور لمن صامه ، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن رضي اللّه عنه ، كان لا يصححه ، ويقول : انّه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان غير ثقة ، وكل ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الاخبار ، فهو عندنا متروك غير صحيح .

فان هذا الكلام من الصّدوق والشّيخين يدلّ على اعتمادهم على خبر الثّقة .

وعلى هذا : فلا يُشترط العلم في الاخذ بالخبر .

( و ) كذا ( في الخبر الذي رواه ) الصّدوق ( في العُيون عن كتاب الرحمة )

ص: 150

ثمّ ضممت إلى ذلك ، ظهور عبارة أهل الرّجال في تراجم كثير من الرّواة في كون العمل بالخبر الغير العلميّ مسلّما عندهم ، مثل قولهم : فلان لا يعتمد على ما ينفرد به ، وفلانٌ مسكون في روايته ،

-------------------

الدال على كفاية الاطمئنان في الاخذ بالخبر الواحد .

ولعلّ هذا الخبر هو ما نقله الاشتياني في حاشيته على الرّسائل : من رواية ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الرضا عليه السلام ، انّه قال : إنّ اللّهَ تَعالى كان أوحى الى إبراهيمَ عَلَيه السّلام : إنّي مُتخِذٌ مِنْ عِبَاديَ خَلِيلاً ، إن سأَلَنِي إحياءَ المَوتى أَجبتُهُ فَوقَعَ فِي نفسِ إبراهيمَ إنّهُ ذلِكَ الخَليل ، فَقال : رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحيي المَوتَى ؟ .

قَالَ : أَوَ لَمْ تُؤمِن ؟ .

قال : بَلى ، ولكِن لِيَطمئِنّ قَلبي ، على الخلّةِ (1) ، الحديث .

( ثمّ ضممت إلى ذلك ، ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم كثير من الرّواة ) أي : ظهور كلماتهم ( في كون العمل بالخبر غير العلميّ ) كان ( مسلَّما عندهم ، مثل قولهم : ) أي : قول الرجاليين :

( فلان لا يُعتمَد ) عليه ، بصيغة المجهول أي : لا يكون الاعتماد على رواياته ( على ما ينفرد به ) أي : في نقل الخبر ، بأن يكون ناقل الخبر هو وحده ، أما اذا نقل الخبر غيره أيضا ، فانّه يمكن الاعتماد عليه .

( وفلان مسكونٌ في روايته ) أي : توقف الأصحاب وسكنوا في روايته ، فلا يردّونه ولا يقبلونه .

ص: 151


1- - حاشية الاشتياني على الرسائل ولعله ما نقله عن عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 - 22 .

وفلانٌ صحيح الحديث ، والطعن في بعض بأنّه يعتمد الضعفاء والمراسيل ، إلى غير ذلك ، وضممت إلى ذلك ، ما يظهر من بعض أسئلة الرّوايات السّابقة ، من انّ العمل بالخبر الغير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرّواة - تعلمُ علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخُ من اجماع الطائفة .

-------------------

( وفلان صحيح الحديث ) فيعمل بخبره ، وهكذا .

( و ) مثل ( الطعن في بعض ) الرّواة ( بانه يعتمد الضّعفاء والمراسيل ) أي : انّه ينقل الاخبار عن الضعفاء ، وينقل الرّوايات المرسلة ، ممّا يسبب ضعف روايات مثل هذا الشخص . و ( إلى غير ذلك ) من عبارات الرجاليين .

( وضممت إلى ذلك ، ما يظهر من بعض أسئلة الرّوايات السّابقة : من إنّ العمل بالخبر غير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرّواة ) مثل ما قاله عبد العزيز للامام عليه السلام : « رُبَّمَا أحتاجُ وَلستُ ألقاكَ فِي كُلّ وِقتٍ ، أَفيُونُس بن عَبدِ الرّحمان ثِقَةٌ آخُذُ عَنهُ مَعَالِمَ دِيني ؟ » (1) الحديث .

والى ما أشبه ذلك ممّا تقدّم جملة منها .

والحاصل : انّه اذا ضممت هذه الضمائم إلى ما نقلناه سابقا : من الاجماعات والمؤيّدات ( تعلم علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخ من اجماع الطائفة ) على حجّيّة خبر الواحد .

والفرق بين العلم واليقين اذا اجتمعا :إنّ العلم يمكن أنّ يطابق الواقع أو لا يطابقه ، فيطلق على الجهل المركب أيضا ، بخلاف اليقين ، وربّما يقال : في

ص: 152


1- - بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 مع تفاوت ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 ، رجال الكشي : ص490 .

وحكى السّيد المحدّث الجزائري عمّن يثق به انّه قد زار السّيد صاحب المدارك المشهد الغروي فزاره العلماء وزارهم ، الاّ المولى عبد اللّه التُستري ، فقيل للسيّد في ذلك ، فاعتذر بانّه لا يرى العمل باخبار الآحاد ، فهو مُبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها :إنّ من زار مبدعا فقد خرب الدّين .

-------------------

الفرق بينهما أمرٌ آخر .

( وحكى السّيد المحدّث الجزائري عمّن يثقُ به : انّه قد زار السّيد صاحب المدارك المشهد الغروي ) أي : مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

ويقال للنّجف الاشرف ، الغري باعتبار العمودين ، على ما في كتاب لطف التدبير للخطيب الاسكافي ، قال : كنت مع بعض الملوك ، فقال لرجل من جلسائه : ياأبا المثنى ، أي شيء الغري في كلام العرب ؟ .

قلتُ : الغريّ : الحسن ، تقول العرب : هذا رجلٌ غريّ ، أي : حسنٌ .

وانّما سمّي الغريين ، لما ذكره في الهامش : انّه كان المنذر الثالث أحد ملوك الحيرة أقام بنائين حسنين ، وجعل في كلّ سنةٍ يومين ، يوم نعيم ، ويوم بؤس ، وكان أول من يطلع عليه في يوم النعيم يعطيه مائة من الابل ، وأول من يطلع عليه في يوم البؤس ، يأمر بقتله ويُطلي بدمه الغريّين ، والغريّان بنائان بناهما هذا الملك وجعل عليهما حرسا ، إلى آخر القصة .

( فزاره ) أي : السّيد صاحب المدارك ( العلماء وزارهم ، الاّ المولى عبد اللّه التستري ) فانّ السّيد لم يرد عليه الزيارة ( فقيل للسيّد في ذلك ؟ ) أي سئل عن سبب عدم رده على التستري زيارته ؟ ( فاعتذر ) السّيد ( بأنّه ) أي : التستري ( لا يرى العمل بأخبار الآحاد ، فهو مبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها :إنّ من زار مبدعا فقد خرب الدّين ) وهدمه .

ص: 153

وهذه حكاية عجيبة لابد من توجيهها كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى المشار اليه ، ومسلكه في الفقه ، فراجع .

والانصاف : أنه لم يحصل في المسألة يدعي فيها الاجماع من الاجماعات المنقولة والشهرة القطعية والأمارات الكثيرة الدّالّة على العمل ما حصل في هذه المسألة ، فالشاك في تحقق الاجماع في هذه المسألة ، لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهية ،

-------------------

( وهذه ) أي : هذه النسبة من السّيد إلى التستري : بأنه لا يعمل بالاخبار ( حكاية عجيبة ) لوضوح :إنّ التستري كان يعمل في الفقه ، بأخبار الآحاد ف- ( لابد من توجيهها ) بأن يقال : انّه لم يعمل بكل الاخبار ، الّتي يعمل بها المشهور من الفقهاء ، وانّما كان يعمل ببعضها - مثلا - أو كان اجتهاده سابقا هو : عدم العمل كالسيد المرتضى ، ثم رجع إلى العمل ، أو غير ذلك .

( كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى ) التستري ( المشار اليه ومسلكه ) في العمل بالاخبار ( في الفقه ، فراجع ) حال الشيخ التستري حتى تعرف صحّة ما ذكرناه : من أنه كان يعمل بأخبار الآحاد .

( والانصاف : انّه لم يحصل في المسألة ) من المسائل الّتي ( يدعي فيها الاجماع ) ولم يتفق ( من الاجماعات المنقولة ، والشهرة القطعية ، والأمارات ) المؤيدة ( الكثيرة ، الدّالّة على العمل ) بمثل ( ما حصل في هذه المسألة ) أي : في مسألة حجّيّة الخبر الواحد .

وعليه : ( فالشاك في تحقق الاجماع في هذه المسألة ، لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهية ) لأنّ كلّ مسألة ادعي فيها الاجماع ، كان الاجماع في تلك المسألة أضعف من الاجماع في هذه المسألة الّتي نحن بصددها.

ص: 154

اللّهم الاّ في ضروريات المذهب .

لكن الانصاف : أنّ المتيقن من هذا كله ، الخبر المفيد للاطمينان ، لا مطلق الظّنّ ، ولعله مراد السّيد من العلم ، كما أشرنا اليه آنفا ، بل ظاهر كلام بعض احتمال أنّ يكون أن يكون مراد السّيد ، من خبر الواحد ، غير مراد الشيخ .

قال الفاضل القزويني في لسان الخواص ، على ما حكي عنه « إنّ هذه الكلمة ، أعني خبر الواحد ، على ما يستفاد من تتبع كلماتهم ، يستعمل في ثلاثة معان : أحدها الشاذ النادر

-------------------

( اللّهم الاّ في ضروريات المذهب ) مثل : وجوب الصلاة والزكاة ، وحرمة الزنا وشرب الخمر ، وما أشبه .

( ولكن الانصاف :إنّ المتيقن من هذا كله ، الخبر المفيد للاطمينان ، لا مطلق الظن ) فان الظّنّ وحده لا يكفي ( ولعله ) أي : الاطمئنان هو ( مراد السّيد ) المرتضى وأتباعه ( من العلم - كما أشرنا اليه آنفا - ) أي : سابقا .

( بل ظاهر كلام بعض : احتمال أنّ يكون مراد السيّد ، من خبر الواحد ، غير مراد الشيخ ) فان الخبر الواحد له عدة اصطلاحات ، فمراد النافي : اصطلاح ، ومراد المثبت : اصطلاح آخر ، والمتفق عليه بين الجميع : اصطلاح ثالث ، وهذا وجه آخر للجمع بين كلامي السّيد والشيخ .

واستشهد المصنّف لذلك بما ( قال الفاضل القزويني في ) كتاب ( لسان الخواص - على ما حكي عنه - :إنّ هذه الكلمة ، أعني : خبر الواحد على ما يستفاد من تتبع كلماتهم ) أي : كلمات العلماء ( تستعمل في ثلاثة معان ) على النحو التالي : ( أحدهما : الشاذ النادر ) الذي شذ وجوده في كتب الحديث وندر ، فقد

ص: 155

الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ، ويقابله ما عمل به كثيرون .

الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الاصول المعمولة عند جميع خواص الطائفة ، فيشمل الاول ومقابله .

الثالث : ما يقابل المتواتر القطعي الصّدور ، وهذا يشمل الاولين

-------------------

تقدّم : ان الشاذ والنادر اذا اجتمعا ، كان لهما معنيان ، واذا افترقا كان لكل واحد يطلق على الاخر .

وهنا يراد بالشاذ ما ذكره بقوله : ( الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ) وهو المراد بالنادر في هذه العبارة ( ويقابله ) أي : يقابل خبر الواحد بهذا المعنى ( ما ) أي : الخبر الذي ( عمل به كثيرون ) فليس ذلك الخبر شاذا ، ولا نادرا .

( الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثقات ) أي : يطلق خبر الواحد على خبر غير الثّقة ، ومقابل هذا المعنى هو خبر الثّقة ، وخبر الثّقة هو ( المحفوظ في الاصول ) الّتي ذكرنا : انها أربعمائة أو أكثر ( المعمولة عند جميع خواص الطائفة ) من العلماء الذين لا يعملون الاّ بخبر الثّقة .

( فيشمل ) خبر الواحد بهذا المعنى : المعنى ( الاول ) وهو الشاذ النادر ( و ) يشمل أيضا ( مقابله ) أي : مقابل الاول وهو المشهور ، لوضوح :إنّ خبر غير الثّقة ، قد يكون شاذا ، وقد يكون مشهورا منجبرا ضعفه بالشهرة المحققة ، أو بالقرائن الداخلية أو الخارجية .

( الثالث : ما يقابل المتواتر ) أي : يطلق خبر الواحد على غير المتواتر ، فيكون مقابل خبر الواحد ، الخبر المتواتر ( القطعي الصّدور ) لتواتره .

( وهذا ) أي : خبر الواحد بالمعنى الثالث ( يشمل الاولين ) : الشاذ النادر ،

ص: 156

وما يقابلهما » .

ثم ذكر ما حاصله : « إنّ ما نقل اجماع الشيعة على انكاره هو الاول ، وما انفرد السّيد قدس سره ، برده هو الثاني .

وأما الثالث : فلم يتحقق من أحد نفيه على الاطلاق » انتهى .

وهو كلام حسن ،

-------------------

وغير الثقة ، ( و ) يشمل أيضا ( ما يقابلهما ) أي ، ما يقابل الاولين من : المشهور ، والثقة لوضوح : إنّ غير المتواتر أعم من أنّ يكون شاذا ، أو مشهورا ، ثقة أو غير ثقة .

( ثمّ ذكر ) الفاضل القزويني ( ما حاصله :إنّ ما نقل اجماع الشيعة على انكاره ) أي : نقل في كلمات العلماء :إنّ الشيعة لا يعملون بمثل هذا الخبر ( هو ) المعنى ( الاول ) أي : الشاذ النادر .

( وما انفرد السّيد قدس سره ، برده ) وقال :إنّ الشيعة لا يعملون بخبر الواحد ( هو ) المعنى غير الثّقة ، ( الثاني ) أي : خبر غير الثّقة .

( وأما الثالث : ) أي : الخبر غير المتواتر ( فلم يتحقق من أحد نفيه على الاطلاق ) (1) بأن يقولوا : انّه لم يعمل به ، لكنهم اختلفوا في أنّ المناط ، هل هو : الظّنّ ، أو الاطمئنان ، أو كون الراوي ثقة ، أو عدلا أماميا ضابطا ، أو غير ذلك ؟ .

( انتهى ) كلام الفاضل القزويني ( وهو كلام حسن ) لانه جمع بين اجماع السّيد واجماع الشيخ .

ص: 157


1- - لسان الخواص : مخطوط .

وأحسن منه ما قدمناه ، من أنّ مراد السّيد من العلم ما يشمل الظن الاطمئناني ، كما يشهد به التفسير المحكي عنه للعلم : بأنه ما اقتضى سكون النفس .

الثاني : من وجوه تقرير الاجماع

أن يدعي الاجماع ، حتى من السّيد وأتباعه ، على وجوب العمل بالخبر الغير العلميّ ، في زماننا هذا وشبهه ، ممّا انسد فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، فان الظاهر أنّ السّيد انّما منع من ذلك لعدم الحاجة إلى خبر

-------------------

( وأحسن منه ، ما قدمناه : من إنّ مراد السّيد من العلم : ما يشمل الظّنّ الاطمئناني ، كما يشهد به ) أي : بأن مراده ذلك ( التفسير المحكي عنه ) أي : عن السّيد ( للعلم ) فقد فسر العلم ( : بانه ما اقتضى سكون النفس ) وانّما كان تفسيرنا أحسن ، لأنه كان أقرب إلى كلاميّ السّيد والشيخ - على ما عرفت سابقا - .

ثم إنّ المصنِّف لمّا فرغ من التقريب الاول للاجماع ، الذي ادعاه على حجّيّة خبر الواحد مطلقا ، وهو : اجماع العلماء بعد السّيد وأتباعه ، شرع في التقريب الثاني للاجماع فقال : ( الثاني من وجوه تقرير الاجماع : ان يدعى الاجماع ، حتى من السّيد وأتباعه ، على وجوب العمل بالخبر غير العلميّ في زماننا هذا وشبهه ، ممّا انسد فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ) للفرق بين زمان السّيد وزماننا ، فان زمان السّيد كان قريب العهد بالائمة عليهم السلام ، ولذا كانت القرائن للأخبار متوفرة ، بينما زماننا بعيد عنهم ، فلم تتوفر تلك القرائن عندنا .

( فان الظاهر :إنّ السّيد ) ومن تبعه من العلماء ، الذين لا يعملون بالخبر الواحد غير العلميّ ( انّما منع من ذلك ) العمل بالخبر الواحد ( لعدم الحاجة إلى خبر

ص: 158

الواحد المجرد ، كما يظهر من كلامه المتضمن للاعتراض على نفسه ، بقوله : « فان قلت : اذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعوّلون في الفقه كله ؟ » .

فأجاب بما حاصله : إنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والاجماع والاخبار العلمية . وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى التخيير » .

-------------------

الواحد المجرد ) عن القرائن في زمان الانفتاح .

( كما يظهر ) ذلك الذي ذكرناه : من انّ سبب منعهم عن العمل بخبر الواحد هو انفتاح باب العلم المستند إلى الاخبار والقرائن الحافة بها ( من كلامه المتضمن للاعتراض على نفسه بقوله : فان قلت : اذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعوّلون في الفقه كلّه ؟ ) لانه ليس لنا من الادلة ما يكفي لكل الأحكام لولا الخبر الواحد .

( فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم : بالضرورة ، والاجماع ، والاخبار العلمية ) فلا ينسد علينا الطريق إلى الاحكام ، حتى نحتاج إلى الاخبار غير العلمية .

( وما يبقى من المسائل الخلافية ) القليلة ، الّتي لا يدلّ عليها : الضرورة ، والاجماع ، والاخبار العلمية ( يرجع فيها إلى التخيير ) (1) فنتخير بين أن نعمل ، أو ان نترك ، وذلك لأصالة البرائة .

ص: 159


1- - رسائل الشريف المرتضى : ج3 ص312 .

وقد اعترف السّيد قدس سره ، في بعض كلامه على ما في المعالم ، بل وكذا الحلي في بعض كلامه ، على ما هو ببالي : بأن العمل بالظن متعيّن فيما لا سبيل فيه الى العلم .

الثالث : من وجوه تقرير الاجماع

استقرار سيرة المسلمين طرا على استفادة الاحكام الشرعية من أخبار الثقاة ، المتوسطة بينهم وبين الامام عليه السلام أو المجتهد .

-------------------

( وقد اعترف السّيد قدس سره في بعض كلامه - على ما في المعالم - بل وكذا ) اعترف ابن ادريس ( الحلي في بعض كلامه - على ما هو ببالي : - بأن العمل بالظن متعيّن فيما لا سبيل فيه إلى العلم ) فهذه الكبرى الكلية منطبقة على صغرى زماننا ، حيث لا سبيل في زماننا إلى العلم ، فيكون المعتبر هو الظّنّ ، والظن يحصل بخبر الواحد غير المحفوف بالقرائن القطعية .

( الثالث من وجوه تقرير الإجماع : إستقرار سيرة المسلمين ) من زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى يومنا هذا ( طرّا ) أي : جميعا من الأصحاب وغيرهم ، ومن الفقهاء غيرهم ( على إستفادة الأحكام الشّرعيّة من أخبار الثقاة ، المتوسطة بينهم ) أي : بين المسلمين ( وبين ) الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم و ( الإمام عليه السلام ) .

فإنّ سيرة المسلمين في زمان الحضور ، وكذلك في زمان الغيبة ، قد جرت على إستفادة أحكامهم من أخبارالثّقاة المتوسطين بين المسلمين وبين المعصومين عليهم السلام .

( أو المجتهد ) ، فإنّه لا يزال المقلدون يستفيدون أحكامهم من الثّقاة ، الَّذين يتوسطون بينهم وبين المجتهدين ، لوضوح : إنّ المقلّدين ليسوا جميعا عند المجتهدين ، وإنّما أكثرهم في البلاد المتباعدة ، والمجتهد في النجف الاشرف ،

ص: 160

أترى إنّ المقلدين يتوقّفون في العمل بما يخبرهم الثّقة عن المجتهد ، أو الزوجة تتوقّف فيما يحكيها زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما يتعلق بها إلى أن يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلميّ ؟ وهذا مما لا شكّ فيه .

-------------------

أو في كربلاء المقدسة ، أو في قم المشرفة ، أو في خراسان المعظمة ، أو ما أشبه ذلك .

وهذه السّيرة حجّة لاتصالها بزمان المعصوم عليه السلام ، وقد قرّر في موضعه : إنّ السّيرة المتّصلة بزمان المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجمعين » حجّة في مختلف الأبواب .

( أترى : إنّ المقلّدين يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة ) من الَّذين ينقلون مسائل الفقهاء إليهم ، أم انّه اذا أخبرهم الثّقاة ( عن المجتهد ) عملوا بما أخبروا به ؟ .

( أو ) ترى : إنّ ( الزوجة تتوقّف فيما يحكيها زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما يتعلق بها ) من سائر الأحكام الشّرعيّة الّتي تحتاج إليها من المسائل في الصّوم ، والصّلاة ، والحجّ ، وغير ذلك ؟ .

فهل تتوقّف الزوجة عن العمل بأخبار زوجها ، أو هؤلاء المقلدون يتوقفون عن العمل بأخبار الثّقاة ( إلى أن يعلموا من المجتهد : تجويز العمل بالخبر غير العلميّ ؟ ) أم إنّهم يعملون بأخبارهم حسب السّيرة المستمرة بينهم ؟ .

لا شك إنّهم لا يتوقفون في العمل بالمسائل الّتي نقلها الثّقاة حتى يتعلموا ذلك من المجتهد بنفسه ، أو يحصل لهم العلم بها من القرائن أو يعلموا إجماع العلماء ، أو فتوى المفتي بها ، إنّمايعملون بخبر الثقة فحسب ( وهذا ممّا لا شكّ فيه )

ص: 161

ودعوى حصول القطع لهم في جميع الموارد بعيدة عن الانصاف .

نعم ، المتيقن من ذلك صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يُعتنى باحتمال الخلاف .

وقد حكى اعتراض السيّد قدس سره ، على نفسه : ب- « أنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّ من وكل وكيلا أو استناب صديقا في ابتياع أمة أو عقد على أمرأة في بلدته أو في بلاد نائية - فحمل إليه الجارية وزف إليه المرأة ، وأخبره أنّه أزاح العلة في ثمن الجارية ، ومهر المرأة وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك -

-------------------

عند الجميع . ( ودعوى حصول القطع لهم في جميع الموارد ) المذكورة ، وإنّ السّيرة قد جرت بذلك عند حصول القطع لهم من أقوال الثّقاة لا مطلقا ( بعيدة عن الانصاف ) فإنّ المدعي نفسه ، يعلم خلاف هذه الدعوى .

( نعم ، المتيقن من ذلك ) أي : من إستقرار السّيرة هو ( صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال الخلاف ) لما يقوله الثقة مخافة أنّ الثقة قد اشتبه فيما نقله عن المجتهد - مثلا - ( وقد حكى اعتراض السيّد قدس سره ، على نفسه : بانّه لا خلاف بين الأمّة ) ولا اشكال بين جميع علماء المسلمين ( في أنّ من وكّل وكيلا ، أو استناب صديقا ) لا بعنوان الوكالة ، بل بعنوان الإلتماس - مثلا - ( في ابتياع أمة ، أو عقد على امرأة في بلدته ، أو في بلاد نائية ) وبعيدة عن بلده .

( فحمل ) الوكيل أو النائب ( إليه ) أي : إلى الموكل ( الجارية ) الّتي اشتراها الوكيل أو النائب ( وزف ) أي : سيقت ( اليه المرأة ) الّتي أراد الزّواج منها ( وأخبره ) على ( أنّه أزاح العلة ) وأزال المانع ( في ثمن الجارية ، ومهر المرأة ) بان دفع الثّمن إلى مولى الأمّة ، والمهر إلى المرأة المعقودة ( وأنّه اشترى هذه ) الجارية من مولاها ( وعقد على تلك ) المرأة الّتي أراد من الموكّل عقدها له .

ص: 162

إنّ له وطئها ، والانتفاع بها في كل ما يسوغ للمالك والزوج .

وهذه سبيله مع زوجته وأمته اذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرّجل بموت امرأته ، فيتزوّج أختها .

وكذا لا خلاف بين الأمّة في أنّ للعالم أنّ يفتي ، وللعامي إنّ يأخذ منه ، مع

-------------------

فانّه لايشك إنسان في ( إنّ له ) أي : للموكّل ( وطيها ، والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك ) من جهة الأمّة ( والزّوج ) من جهة الزّوجة .

( وهذه ) الطريقة الّتي ذكرناها في الاعتماد على قول الطرف ( سبيله ) أي : طريق الموكّل الزوج ، والسيّد لِلأَمَة ( مع زوجته وأمته اذا أخبرته بطهرها وحيضها ) وحملها ، وما أشبه ذلك .

فإنّ أخبار الوكيل فيما وكل فيه ، وأخبار المرأة بطهرها وحيضها ، وما أشبه ذلك ، حجّة بالاجماع ، بل الأمر عام بالنّسبة إلى غيرهما أيضا ، لقاعدة : « من ملك شيئا ملك الإقرار به » (1) .

( و ) كذا ( يرد الكتاب ) أي : تصل الرّسالة المكتوبة الموجّهة إلى الطّرف ( على المرأة بطلاق زوجها ) لها ( أو بموته ) فتكون بذلك خليّة عن الزّوج ( فتتزوّج ) بعد عدّتها استنادا إلى الكتاب اذا كان الكاتب ثقة .

( و ) كذا يرد الكتاب ( على الرجل بموت امرأته ، فيتزوّج أختها ) أو الخامسة ، أو ما أشبه ذلك .

( وكذا لا خلاف بين الأمة في ان للعالم أنّ يفتي ، وللعامي أنّ يأخذ منه ، مع

ص: 163


1- - راجع القواعد الفقهيّة للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .

عدم علم أن ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه » .

فأجاب بما حاصله : « انّه إنّ كان الغرض من هذا الرّد على من أحال التعبّد بخبر الواحد فمتوجه ، فلا محيص ، وإنّ كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتّحريم ، فهذه مقامات

-------------------

عدم علم إنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه ) لأنّ الإنسان لا يعلم بذلك علما قطعيا ، وإنّما هو بحسب الاطمئنان العرفي المستند إلى خبر الثّقة فإنّه يأخذ به مع ان الواسطة رسالة كانت ، أو إنسانا أخبره شفاها ، يحتمل في حقّه الاشتباه والخطأ ، والغفلة والنسيان ، ونحو ذلك .

( فأجاب ) السيّد : أنّه إنّ كان غرض المستشكل : انّه لا استحالة - عقلا - في التعبد بالخبر الواحد في قِبال قول ابن قِبَة القائل بالاستحالة عقلاً ، فقول المستشكل تام ، لأنّه لا استحالة في حجّيّة الخبر عقلاً .

وإنّ كان غرضه : انّه واقع شرعا ، بدليل حجّيّة قول المرأة ، وقول الشهود ، وما أشبه ذلك ؛ فجوابه : إنّ ما ثبت شرعا هو الحجّيّة في الموضوعات ، كما في الامثلة المتقدّمة ، لا الأحكام ومن الممكن إنّ يكون خبر الواحد حجّة في الموضوعات ، لا في الأحكام .

وهذا هو المراد من قول المصنّف ( بما حاصله : انّه إنّ كان الغرض من هذا ) الكلام هو : ( الرد على من أحال التعبد بخبر الواحد ) كابن قِبَة ( فمتوجه ) وصحيح ( فلا محيص ) من الالتزام بامكان التعبّد بخبر الواحد .

( وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ) وسائر الأحكام التكليفية والوضعية ( فهذه مقامات ) وموضوعات

ص: 164

ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علمية من إجماع وغيره على أنحاء مختلفة ، في بعضها لا يقبل إلاّ أخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل الاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمي ، كما في الوكيل ، والأمة والزّوجة ، في الحيض والطهر .

وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام ؟ » .

-------------------

(

ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علمية : من إجماع ، وغيره ) فإنّ الإجماع وغيره من الأدلة العلمية قامت على حجّيّة أخبار الآحاد في الموضوعات .

وهي ( على أنحاء مختلفة ، في بعضها ) أي : في بعض تلك الموضوعات ( لا يقبل الاّ أخبار أربعة ) كالزنا واللواط .

( وفي بعضها لا يقبل الاّ عدلان ) كما في أكثر الموضوعات ، مثل : السرقة ، وشرب الخمر ، والشّهادة على الفروج والاموال ، وغير ذلك ، فإذا شهد اثنان ، على إنّ هذه زوجة فلان ، وهي من باب الفروج قبل ، وكذلك اذا شهد اثنان على إنّ هذا ملك فلان ، وهو من باب الاموال ، قبل أيضا ، إلى غير ذلك .

( وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد ) منضما إلى اليمين - كما في الاموال - .

( وفي بعضها يكفي خبرالفاسق والذمي ، كما في الوكيل ، والأمّة والزوجة ، في الحيض والطّهر ) والحمل ونحو ذلك .

( وكيف يقاس على ذلك ) أي : الأخبار في الموضوعات ، الّتي تثبت بسبب خبر العادل ونحوه ( رواية الأخبار في الأحكام ؟ ) (1) أي : أخبار الرّواة الَّذين يخبرون عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى في الأمور التكليفية ، أو الوضعية ، مثل

ص: 165


1- - جواب المسائل القبانيات ، مع اختلاف ، رسائل الشريف المرتضى : ج1 ص37 .

أقول : المعترض ، حيث إدّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ، فقد لقّن الخصم طريق الزامه والرّد عليه بأن هذه الموارد للاجماع ولو إدّعى إستقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة وإن لم يطلعوا على كون ذلك اجماعيا عند العلماء ، كان أبعد عن الرّدّ ،

---------------------

وجوب صلاة الجمعة ، وكون الشيء الفلاني جزءا ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو قاطعا ، أو نحو ذلك .

قال المصنّف : ( أقول : المعترض ) المستشكل على السيّد ( حيث إدّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ) بخبر الواحد ، والموارد المذكورة هي موضوعات ( فقد لقن الخصم ) وهو السيّد ( طريق الزامه والرّدّ عليه ) حيث إنّ السيّد ردّه ( : بان هذه الموارد ) إنّما جاز العمل فيها بأخبار الآحاد ( للاجماع ) على ذلك . ( و ) لكن ( لو إدّعى ) المعترض المستشكل على السيّد ( : إستقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة ، وإن لم يطلعوا على كون ذلك اجماعيا عند العلماء ، كان ) اعتراض المعترض ( أبعد عن الرّدّ ) ولم يتمكن السيّد من ردّه ، لأنّ حجّيّة خبر الواحد ثابتة بالاجماع وبالسيرة أيضا .

لكن المستشكل لما تمسّك باجماع العلماء فقط ، أجاب عنه السيّد : بأن إجماع العلماء على حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات ، لا يدلّ على حجّيته في الأحكام .

أما لو كان المستشكل المعترض على السيّد تمسّك بالسّيرة ، لم يتمكن السيّد في الرّدّ عليه وتمّ حجّته على السيّد ، لأنّ المسلمين عملوا بالخبر في هذه الموارد بمناط وثاقة الراوي ، وهذا المناط موجود في الأحكام أيضا ، لا بملاحظة إجماع العلماء في الموضوعات حتى لا يمكن التعدي عن الموضوعات إلى الأحكام .

ص: 166

فتأمل .

الرابع :

إستقرار طريقة العقلاء طرا على الرجوع إلى خبر الثّقة في الأمور المهمة عندهم ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد .

فنقول : إن الشارع إنّ اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشّرعيّة ، فهو ، والاّ وجب عليه

-------------------

( فتأمل ) ولعلّه إشارة إلى إنّ السّيرة غير ثابتة ، ولهذا اختلف العلماء فيها ، وكيف تكون السّيرة ثابتة ، والسيّد وأتباعه ينكرون حجّيّة خبر الواحد في الأحكام ؟ وهناك احتمال آخر في قصد المصنّف من قوله : « فتأمل » لا يهم ذكره .

( الرابع ) من وجوه الإجماع ، على حجّيّة خبر الواحد ، هو ( إستقرار طريقة العقلاء طرا ) أي : كلاً ، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، علماء أو جهّال ، ( على الرجوع إلى خبر الثّقة في الأمور المهمّة عندهم ) ، كالرّجوع إلى الطّبيب ونحوه .

( ومنها ) أي : من تلك الأمور الّتي استقر طريقة العقلاء على الرّجوع فيها إلى خبر الثّقة ( : الاوامر الجارية من الموالي إلى العبيد ) فإنّ الثّقة اذا أخبر واحدا من عبيد المولى بأن المولى أمره بكذا ، قبل العبد منه ذلك ، ولو لم يقبله العبد ، إستحق العقوبة عند العقلاء .

( فنقول : إنّ الشّارع إن اكتفى بذلك ) المتعارف عند العقلاء ( منهم ) بأن أمضى سيرتهم وقرّرها ، جاز للمسلمين الرجوع إلى الثّقة في تحصيل أوامره ( في الأحكام الشّرعيّة ، فهو ) المطلوب ، لأنّه ثبت إنّ الشّارع أيضا صحح العمل بالخبر الواحد . ( والاّ ) أي : إن لم يكتف الشّارع بذلك ( وجب عليه ) أي : على الشّارع

ص: 167

ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشّرعيّة ، كما ردع في مواضع خاصة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ، لأنّ اللازم في باب الاطاعة والمعصية الأخذ بما يعد طاعة في العرف ، وترك ما يعد معصية كذلك .

فإن قلت :

-------------------

( ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشّرعيّة ) لأنّه لو لم ينبه على بطلانه ، وسلك عبيده طريقة العقلاء هذه في الطّاعة وعدمها من الرّجوع إلى الثّقة لم يكن له حجّة على العبيد في ذلك .

إذن : فالازم على الشّارع أن يردع عن العمل بخبر الثّقة ( كما ردع ) عن الرّجوع الى الثّقة ( في مواضع خاصّة ) كالزّنا واللواط والمساحقة ، وما أشبه ذلك ، فإنّه لايكتفي فيها بخبر الثّقة ، بل يريد شهودا أربعة ، وكذلك في جملة من الأحكام يريد فيها شاهدين اثنين ، وغير ذلك .

هذا ، ( وحيث لم يردع ) الشارع عنه ( علم منه رضاه بذلك ) .

لايقال : كيف يكون عدم الرّدع دليلاً على الرضا ؟ .

فانّه يقال : ( لأنّ اللاّزم ) بحكم العقل والعقلاء ( في باب الاطاعة والمعصية : الأخذ بما يعد طاعة في العرف ، وترك ما يعد معصية كذلك ) فوظيفة المكلّف بمقتضى هذا الحكم العقلي المستقل : أنّ يأخذ بخبر الثّقة في اطاعة الأحكام الشّرعيّة في الأوامر والنّواهي ،لأنّه طاعة عرفا ، فاذا رضي الشّارع بذلك فهو ، والاّ وجب عليه : أن يردعه لئلا يلزم منه الاغراء بالجهل ، وحيث نرى في المقام ان الشارع لم يردع عنه كما ردع عن القياس ، تبين انّه يرى حجّيّة خبر الثّقة .

( فإنّ قلت : ) إنّ الشّارع قد ردع المسلمين عن الأخذ بالخبر الواحد في

ص: 168

يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة بل المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم .

قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين ، وإنّ الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما .

الاول : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به ، من دون توقيف من الشّارع ،

-------------------

الأحكام الشّرعيّة ، و ( يكفي في ردعهم : الآيات المتكاثرة ، والأخبار المتظافرة ، بل المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم ) مثل قول سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1) ، وقوله تعالى : « إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ » (2) .

وغير ذلك من الآيات والرّوايات الّتي تقدّم ذكر جملة منها .

( قلت : ) هذه الآيات والأخبار لا تردعهم عن الاخذ بخبر الثّقة ، وانّك ( قد عرفت ) في بحث أصالة حرمة العمل بالظّنّ ( : انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم ) فيما اذا لم يكن إذن من الشّارع أو كان الشّارع قال شيئا ، وغير العلم يريد ابطال ذلك الشيء ، مثل : أنّ يعلم بخبر الفاسق في قبال الدليل الشرعي الَّذي قام على حكم من الأحكام ، سواء كان ذلك الدليل الشرعي أصلا لفظيا ، أو أصلاً عمليا .

هذا ، والاخذ بخبر الثّقة ليس من قبيل هذين الامرين ، فلم يردع عنه الشّارع ، فإنّ ردع الشّارع إنّمايكون ( في أمرين ، وإنّ الآيات والأخبار ) النّاهية عن العمل بغير العلم ( راجعة إلى أحدهما ) أي : أحد الأمرين الآتيين :

( الاول: إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به ، من دون توقيف ) وترخيص ( من الشّارع ،

ص: 169


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الانعام : الآية 116 .

تشريع محرم بالأدلّة الاربعة .

والثاني : إنّ فيه طرحا لادلّة الاصول العمليّة واللفظية الّتي اعتبرها الشّارع عند عدم العلم بخلافها . وشيء من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل ، لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء ، لأنّ حرمة التّشريع ثابت عندهم ، والأصول العمليّة

-------------------

تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، و ) قد سبق الكلام في ذلك والاستدلال عليه .

( الثاني : إنّ فيه ) أي : إنّ في العمل بما عدا العلم ( طرحا لادلة الاصول العمليّة واللفظية : ) بأن كان الاصل العملي أو اللفظي دالاً على شيء ، وخبر الفاسق دالاً على خلافه ، بما يسبب الأخذ به طرح ذلك الأصل العملي أو اللفظي .

كما اذا اقتضى الأصل العملي ، كأصل الاحتياط - مثلاً - : حرمة التتن ، وخبر الفاسق يريد تحليله ، أو اقتضى أصل لفظي - مثلا - : حرمة التتن ، وخبر الفاسق يريد ابطال ذلك التّحريم ، فاذا دلّت الاصول العمليّة أو الأصول اللفظيّة - ( الّتي اعتبرها الشّارع عند عدم العلم بخلافها ) - على شيء ، أراد خبر الفاسق إبطال ذلك الاصل ، كان هذا من العمل بما عدا العلم المحرّم شرعا وعقلاً .

( وشيء من هذين الوجهين ) التشريع ، والطرح ( لا يوجب ردعهم ) أي : ردع العقلاء ( عن العمل ) بخبر الثّقة ، فلا التّشريع ، ولا طرح الأصول اللفظيّة أو العمليّة ، موجب لردع العقلاء عن العمل بخبر الثّقة ، لانّهم يرون ان العمل بخبر الثّقة ليس تشريعا ، ولا مخالفا للاصول اللفظيّة والعمليّة .

وذلك ( لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما ) أي : من أجل أنّ يكون تشريعا ، أو طرحا للاصول العمليّة واللفظيّة ( مركوزا في ذهن العقلاء ) كافّة من جميع الأديان والمبادى ء ( لأنّ حرمة التّشريع ثابت عندهم ، والاصول العمليّة

ص: 170

واللفظيّة معتبرة عندهم ، مع عدم الدليل على الخلاف .

ومع ذلك نجد بناءهم على العمل بالخبر الموجب للاطمينان .

والسرّ في ذلك ، عدم جريان الوجهين المذكورين ، بعد إستقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ، لانتفاء تحقق التّشريع ، مع بناءهم على سلوكه في مقام الاطاعة والمعصية ، فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر

-------------------

واللفظيّة معتبرة عندهم ، مع عدم الدّليل ) المعتبر ( على الخلاف ) أي : على خلاف الأصول العمليّة واللفظيّة .

والحاصل : إنّ العقلاء عالمون بأن العمل بالظنّ من دون دليل على حجّيته ، حرام من جهة التّشريع تارة ، ومن جهة طرح الأصل العملي أو اللفظي تارة أخرى ( ومع ذلك ) أي : مع علمهم بالحرمة في الجهتين المذكورتين ( نجد بنائهم ) وإستقرار سيرتهم ، من زمان الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا ( على العمل بالخبر الموجب للاطمئنان ) والوثوق .

( والسرّ في ذلك ) أي : سرّ عملهم بخبر الثّقة ، مع أنّ بنائهم على حرمة العمل بالظن لأنّه يستلزم التّشريع ، أو طرح الاصول اللفظيّة والعمليّة الواردة من الشّارع هو : ( عدم جريان الوجهين المذكورين ، بعد إستقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ) أي : بخبر الثّقة .

أما عدم كونه تشريعا ، فذلك ( لانتفاء تحقق التشريع ، مع بناءهم ) أي : مع بناء العقلاء ( على سلوكه ) أي : على سلوك خبر الثّقة والعمل به ( في مقام الاطاعة والمعصية ) .

فانّهم إذا عملوا على خبر الثّقة في الاوامر ، وعلى خبر الثّقة في النّواهي ، بأن فعلوا الأول وتركوا الثاني ، لم يكن هذا عندهم تشريعا ( فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر

ص: 171

الثّقة بوجوبه ، وترك ما أخبر بحرمته ، لا يعد مشرعا ، بل لا يشكّون في كونه مطيعا ، ولذا يعولون به في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع أن قبح التّشريع عند العقلاء ، لا يختص بالاحكام الشّرعيّة .

وأما الاصول المقابلة للخبر ، فلا دليل على جريانها في مقابل خبر الثّقة ، لأنّ الأصول الّتي مدركها حكم العقل ،

-------------------

الثّقة بوجوبه ، وترك ما أخبر بحرمته ، لايعدّ مشرعا ) عند العقلاء ( بل لايشكّون في كونه مطيعا ) إذا اتّبع خبر الثّقة ، فكيف يكون مشرّعا ؟ .

( ولذا يعوّلون به ) أي : بخبر الثّقة ( في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع ) وضوح ( إنّ قبح التّشريع عند العقلاء ، لا يختص بالاحكام الشّرعيّة ) بل يعمّ العرفيّة أيضا ، فإنّ العقلاء يعلمون : إنّ كلّ عبد لا يجوز له أنّ يشرّع في قِبال مولاه ، سواء كان من أصحاب الأديان أو لم يكن ، ومع ذلك يعتمدون على خبر الثّقة لبنائهم على حجّيّته .

وبذلك ظهر : إنّ الآيات والأخبار النّاهية ، ليست رادعة من جهة التشريع ، لأنّه لا تشريع .

( وأمّا الاصول المقابلة للخبر ) بأن كان الخبر دالاً - مثلا - على الجواز ، والأصل يدلّ على الحرمة ، سواء كان أصلاً لفظيا أو عمليا ، فعملنا بالخبر ( فلا دليل على جريانها ) أي : جريان الاصول اللفظيّة والعمليّة ( في مقابل خبر الثّقة ) اذ لا دليل على حجّيّة الاصول عند تعارضها مع خبر الثّقة ، بل اللازم عند العقلاء أن يعمل الانسان بخبر الثّقة ، ويطرح الأصل لفظيا كان أو عمليا .

وذلك ( لأنّ الأصول الّتي مدركها حكم العقل ) كالبرائة : حيث قبح العقاب بلا بيان .

ص: 172

لا الأخبار لقصورها عن إفادة إعتبارها ، كالبراءة والاحتياط والتخيير ، لا اشكال في عدم جريانها في مقابل خبر الثّقة ، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به

----------------------

والاحتياط : حيث العلم الاجمالي .

والتخيير : حيث لا يمكن الجمع بين طرفي العلم الاجمالي .

( لا الأخبار ) أي : لا الاصول الّتي مدركها الأخبار مثل :

« رُفِعَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ » (1) و « احتَطْ لِديْنِكَ » (2) .

و « إِذن فَتَخَيَّر » (3) وما أشبه ذلك . وانّما قلنا : لا الأخبار : ( لقصورها ) أي : لقصور الأخبار المذكورة ( عن إفادة إعتبارها ) أي : إعتبار الأصول .

لكن لا يخفى : إنّ هذا الكلام محل تأمّل ، اذ الأخبار لا قصور فيها - كما سيأتي في مباحثها انشاء اللّه تعالى - ( كالبرائة ، والاحتياط ، والتخيير ) ، فإنّ هذه الأصول الثلاثة معتبرة عند المصنّف عقلاً فقط ، لا شرعا ، لعدم تماميّة أدلّة اعتبارها شرعا عنده ، لكنّا ذكرنا : انّها معتبرة شرعا أيضا .

وعلى أي حال : فإنّه ( لا اشكال في عدم جريانها ) أي : الاصول الذكورة ( في مقابل خبر الثّقة ، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به ) أي : بخبر الثّقة

ص: 173


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 الخصال : ص417 .
2- - وسائل الشيعة : ج 27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .
3- - غوالي اللئالي : ج 4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

في أحكامهم العرفيّة ، لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة الى الأحكام الشّرعيّة والعرفيّة سواء .

وأما الاستصحاب ، فإن أخذ من العقل ، فلا إشكال في أنّه لا يفيد الظّنّ في المقام ،

-------------------

( في أحكامهم العرفيّة ) وإذا استقرّت سيرة العقلاء على العمل بخبر الثّقة في قِبال الاصول العقليّة في أمورهم العرفيّة ، كان الأمر كذلك بالنّسبة إلى الاصول العقليّة

وخبر الثّقة الوارد عن الشّرع في الأمور الشّرعيّة .

وعليه : فتطرح الأصول الثلاثة العقليّة في قِبال خبر الثّقة ، سواء كان خبر الثّقة في الأمور العرفيّة ، أو في الأمور الشّرعيّة .

وانّما نقارن الشّرع بالعرف في هذه الجهة ( لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة إلى الأحكام الشّرعيّة والعرفية سواء ) فإنّ حكم العقل بوجوب الاخذ بخبر الثّقة ، وطرح الاصول الثلاثة عند تعارضها مع خبر الثّقة ليس مختصا بالامور العرفيّة ، وإنّما جارٍ في الأحكام الشّرعيّة أيضا إذ العقل لا يفرّق في حكمه بحجيّة الاصول بين العرفيّات والشرعيّات ، فإذا لم يكن فرق في الاصول بينهما ، لم يكن فرق في سقوط الأصول بسبب خبر الثّقة .

إذن : فكما تسقط البرائة - مثلاً - بسبب خبر الثّقة في الموالى العرفيّة ، كذلك تسقط البرائة العقليّة بسبب خبر الثّقة في الأمور الشّرعيّة .

( وأمّا الاستصحاب ) وهو الأصل الرّابع من الأصول العملية ( فإن أُخِذَ من العقل ) بأن قلنا : أنّ الاستصحاب حجّة ، عند العقلاء ، لانّهم يرون : «ابقاء ما كان على ما كان» ( فلا إشكال في انّه لا يفيد الظّنّ في المقام ) أي مقام تعارض الاستصحاب مع خبر الثّقة ، فإنّ في مثله لا يحكم العقل بحجيّة الاستصحاب ،

ص: 174

وإن أخذ من الأخبار فغاية الأمر حصول الوثوق بصدورها دون اليقين .

وأما الأصول اللفظيّة كالإطلاق ، والعموم ،

-------------------

وإنّما يحكم بحجّيّته عند انتفاء خبر الثّقة .

( وإن ) قلنا : بأنّه من الأصول الشّرعيّة ، بمعنى : إنّ الشّرع دلّ على الإستصحاب بمقتضى قوله عليه السلام : « لاَ تَنْقُض اليَقِيْنَ بِالشَّكّ » (1) وغيره من الرّوايات المذكورة في باب الإستصحاب ،فيكون قد ( أخذ ) الإستصحاب ( من الأخبار ) الآتية انشاء اللّه تعالى في بابه ( فغاية الأمر : حصول الوثوق بصدورها دون اليقين ) .

وذلك لأنّ مصدر حجّيّة الإستصحاب خبر الثّقة ، فإذا عارض الإستصحاب خبر الثّقة ، كان من تعارض الخبرين الخبر الدّال على الإستصحاب ، والخبر الدّال على الحكم المخالف للإستصحاب ولا دليل على تقديم الإستصحاب على خبر الثّقة الذي هو مقابل للإستصحاب .

بل يمكن إنّ يقال : إنّ خبر الثّقة خاصّ ، ودليل الإستصحاب عامّ ، فيخصّص بخبر الثّقة .

مثلاً : « لاَ تَنْقُض اليَقِينَ بِالشَّكِّ » يقول : كلّ شيء له حالة سابقة استصحب تلك الحالة ، وخبر الثّقة القائل : « ابن على الأربع » يقول : لا تستصحب في الشّكّ في الرّكعات ، وهو أخصّ من دليل الإستصحاب فيقدّم على الإستصحاب

(وأمّا الأصول اللفظية كالإطلاق ، والعموم ) حيث قرّروا في بحثهما : انّه

ص: 175


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق في مقابلها ، فتأمّل .

الخامس :

ما ذكره العلاّمة في النّهاية من إجماع الصّحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ،

-------------------

لو شكّ في الإطلاق ، كان الأصل الإطلاق ، ولو شكّ في العموم ، كان الأصل العموم ( فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها ) أي : على اعتبار هذه الأصول ( حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق في مقابلها ) .

فإنّ سيرة العقلاء وأهل اللسان على الأخذ بالظّواهر ، ومن الظّواهر : خبر الثّقة ، فإذا كان خبر الثّقة في مقام ، لم يأخذ العقلاء بأصل الإطلاق ، وأصل العموم في ذلك المقام ، وإنّما يأخذ العقلاء بأصل الإطلاق وأصل العموم ، فيما إذا لم يكن هناك خبر ثقة مخصّص أو مقيّد للأصلين ، فالأصول اللفظيّة لا يمكنها إسقاط الخبر الموثوق به .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة الى ما ذكرناه : من تقديم دليل الخبر على دليل الإستصحاب ، لا كما ذكره المصنّف ممّا ظاهره التعارض بينهما ، ولعلّه إشارة الى غير ذلك ممّا ذكره الأوثق وغيره من المحشّين .

( الخامس ) من وجوه تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ( : ما ذكره العلاّمة في النّهاية : من إجماع الصّحابة ) الّذين صحبوا المعصومين عليهم السلام ، من الرّسول الى الإمام المهدي ( على العمل بخبر الواحد من غير نكير ) فإنّه لم ينكر على هؤلاء العلماء الذين أخذوا بأخبار الآحاد ، لا أحد من المعصومين عليهم السلام ولا أحد من العلماء .

ص: 176

وقد ذكر في النّهاية ، مواضع كثيرة عمل فيها الصّحابة بخبر الواحد .

وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّه إن أُريد من الصّحابة العاملين بالخبر مَنْ كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجّة عليه السلام فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلاً عن ثبوت تقرير الإمام عليه السلام له ، وان أُريد به الهمج

-------------------

هذا ( وقد ذكر في النّهاية ، مواضع كثيرة عمل فيها الصّحابة بخبر الواحد ) . قال الآشتياني في حاشيته : « يُستفاد الإشارة الى هذا الوجه من كلام الشيخ في العدّة والسيّد ، وغيرهما قدس سرهم ، وقد ذكروا في باب الإجماع : إجماع الصّحابة ، وإجماع أهل المدينة ، عنوانا مستقلاً .

وكان من دأب الخلفاء والصّحابة التّابعين إذا أشكل الأمر عليهم في آية أو مسألة ، السؤال ممّن سمع النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم فيهما شيئا ، فإذانقل وروى منه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حكم ، ما استشكلوا آية أو رواية ، وأخذوا بقوله من دون تأمّل ، فيكشف ذلك ، إمّا عن تقرير المعصوم ، أو متابعة ما وصل إليهم منه من وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام الشّرعيّة » .

( وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّه إن اريد من الصّحابة العاملين بالخبر ) الواحد ( : من كان في ذلك الزمان لا يصدر ) أي : لا ينطلق في أعماله وأقواله وأفعاله ( إلاّ عن رأي الحجّة عليه السلام ) أمثال سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، من صحابة الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه السلام له ) لأنّ مثل أبي ذر ، وسلمان ، والمقداد ، كانوا يأخذون رأي الحجّة عليه السلام بلا واسطة ، ولم يحتاجوا في عملهم الى خبر الواحد .

( وإن أريد به ) أي : بالصحابة الّذين كانوا يعملون بالخبر الواحد ( الهمج

ص: 177

الرّعاع الّذين يصغون الى كلّ ناعق ، فمن المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه السلام لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم .

ولعل هذا مراد السّيد رحمه اللّه حيث أجاب عن هذا الوجه بأنّه انّما عمل بخبر الواحد ، المتآمرون الّذين يُتجشم التصريح بخلافهم ، وإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم .

إلاّ أن يقال : انّه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام عليه السلام ، بل ولا أتباعه من الصّحابة النكير على العاملين ، اظهارا للحقّ ، وان لم يظنوا

-------------------

الرّعاع ) من عامّة النّاس ( الّذين يصغون ) ويستمعون ( الى كلّ ناعق ) وصائح ، فيتّبعونه من دون علم بصحّة كلامه ( فمن المقطوع عدم كشف عملهم ) بالخبر الواحد ( عن رضا الإمام عليه السلام لعدم ارتداعهم ) وكفّهم عن عملهم ( بردعه ) عليه السلام ( في ذلك اليوم ) الذي كان الإمام عليه السلام مغلوبا على أمره ، وكانت السّلطة بيد غيره ممّن يضاده .

( ولعلّ هذا ) الوجه الّذي ذكرناه في ردّ عمل الصّحابة بخبر الواحد ( مراد السيّد رحمه اللّه حيث أجاب عن هذا الوجه ) من وجوه الإجماع ( : بأنّه انّما عمل بخبر

الواحد ، المتآمرون الّذين ) أزاحوا أهل البيت عليهم السلام عن مناصبهم فكان الإمام عليه السلام (يتجشّم) أي: يمتنع عن (التصريح بخلافهم) ويحترز عن معارضتهم.

( و ) على هذا : فإنّ ( امساك النكير ) من المعصومين عليهم السلام ( عليهم ) أي : على أولئك الصّحابة ( لا يدلّ على الرّضا ) منهم عليهم السلام ( بعملهم ) بالخبر الواحد .

(إلاّ أن يقال) في ردّ هذا الإشكال ( : انّه لو كان عملهم ) أي : عمل الصّحابة ( منكرا ، لم يترك الإمام عليه السلام ، بل ولا أتباعه من الصّحابة ) الّذين استقاموا على الطّريقة ( النكير على العاملين ) بالخبر الواحد وذلك ( اظهارا للحقّ ، وإن لم يظنوا

ص: 178

الإرتداع ، إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة ، الّتي أنكرها عليهم من أنكر ، لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السّكوت على الرّضا .

السادس :

دعوى الإجماع من الإمامية ، حتّى السيّد وأتباعه ، على وجوب الرجوع الى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا ، المودعة في أصول الشّيعة وكتبهم .

-------------------

الإرتداع ) منهم ( إذ ليست ) التقيّة في ( هذه المسألة ) وهي مسألة إنكارهم العمل بخبر الواحد - على فرض عدم شرعيّته - ( بأعظم من ) التقيّة في ( مسألة الخلافة ، التي أنكرها ) أي : الخلافة ( عليهم ) أي : على الّذين تصدّوا للخلافة وغصبوها ( من أنكر ) من المعصومين وأتباعهم المخلصين ، وذلك ( لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السكوت على الرّضا ) فانّهم لاجل أن يستدلّ أحد بسكوتهم على رضاهم ، كانوا ينكرون على الغاصبين فلمّا رأينا انّهم لم ينكروا فيما نحن فيه ، دلّ عدم إنكارهم هنا على رضاهم بالعمل بالخبر الواحد .

ولا يخفى ما في تأمّل المصنّف قدس سره على الوجه الخامس فإنّه قد تقدّم منه رحمه اللّه : إنّ المجلسي قد ادّعى: تواترالأخبار بعمل الشّيعة في جميع الاعصار بخبر الواحد.

وكذا تقدّمت دعوى النّجاشي والشّهيد اتفاقهم على العمل بمراسيل ابن أبي عُمير ، الى غير ذلك من الشّواهد ، فالتّمسك باجماع صحابة الرّسول والائمة عليهم السلام بالعمل بخبر الواحد تمسّك لا بأس به في الدلالة على حجّيّة خبر الواحد .

( السادس : ) من وجه تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ( دعوى الإجماع من الامامية ) كافة ( حتّى السّيد وأتباعه ، على وجوب الرجوع الى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا ، المودعة في أصول الشّيعة وكتبهم ) فإنّ كثيرا

ص: 179

ولعلّ هذا هو الّذي فهمه بعض من عبارة الشّيخ المتقدّمة عن العدّة ، فحكم بعدم مخالفة الشّيخ السّيد .

وفيه : أولا : أنّه إنّ أريد ثبوت الإتفاق على العمل بكلّ واحد من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا عُلم خلافه بالعيان ،

-------------------

من الأخبار لم تكن في الأصول الاربعمائة ،وإنّما وجدت في الكتب الّتي ألفت لا بعنوان الأصل ، كالخلاف ، والمختلف ، والمعتبر ، وغيرها ، فإنّ العمل بهذه الأخبار ممّا اتفق عليها الكلّ ، وهذا هو الإجماع بعينه .

غاية الأمر : إنّ السّيد وأتباعه يعملون بها بادعائهم : احتفافها بالقرائن القطعيّة ، وغيرهم يعملون بها لحجيّة خبر الواحد عندهم ، وبالنتيجة : فالكلّ متفقون على هذه الأخبار .

( ولعلّ هذا ) أي : الإجماع على العمل بهذه الأخبار المودعة في الأصول والكتب ( هو الذي فهمه بعض ، من عبارة الشّيخ المتقدّمة عن العدّة ) فقد تقدّمت عبارته بما لفظها :

« فانّي وجدت الفرقة مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصانيفهم ، ودونوها في أصولهم » فإنّه يفهم من هذه العبارة إنّ الشّيخ يدعي : الإجماع على خصوص هذه الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة ( فحكم ) من أجل ذلك ( بعدم مخالفة الشّيخ للسّيد ) لانّهما معا يعملان بهذه الأخبار ، سواء بادعاء انّها محفوفة بالقرائن القطعيّة ، أو بادّعاء : انّها من الأخبار الّتي طرقها حجّة لوثاقة رواتها .

( وفيه أولاً : انّه إنّ أُريد : ثبوت الإتفاق على العمل بكلّ واحد من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا عُلم خلافه بالعيان ) إذ من الواضح : إنّ العلماء لا يعملون بكلّ

ص: 180

وإن أُريد ثبوت الاتفاق على العمل بها في الجملة على اختلاف العاملين في شروط العمل حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم ، مطروحا عند الآخر ، فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ،

-------------------

واحد من هذه الأخبار ، ويدلّ على عدم عملهم بكلّ واحد واحد ، ما تقدّم : من إنّ القمّيّين استثنوا كثيرا من أخبار نوادر الحكمة ، مع كونه من الكتب المشهورة .

وكذلك تقدّم : إنّ ابن الوليد استثنى من روايات العبيدي ما يرويها عن يونس ، مع انّها منقولة في الكتب المشهورة ، وإن الصّدوق تبع شيخه ابن الوليد في ذلك ، والى آخره .

والحاصل : إنّ العلماء لا يعملون بكلّ واحد واحد من هذه الأخبار المودعة في الكتب .

( وإن أريد : ثبوت الإتّفاق على العمل بها في الجملة ) أي : انّهم مجمعون على الرجوع الى الكتب المشهورة في الفروع الفقهية ونحوها ( على اختلاف العاملين في شروط العمل ) .

فإنّ بعضهم يشترط في العمل : الاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، وبعضهم : يكتفي بالوثاقة ، وبعضهم : لا يكتفي بالوثاقة ، بل يعتمد على الصحّة ، بمعنى : أن يكون الراوي إماميا عدلاً ضابطا، وهكذا ( حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم، مطروحا عند الآخر ) كما هو المتعارف لديهم في الفقه عند عملهم بالأخبار ، فبعض يعمل بهذا الخبر ، وبعض يتركه ، وبعض يجعله مؤيدا ، والى غير ذلك .

( فهذا ) الإجماع بهذا المعنى ( لا ينفعنا إلاّ في في حجّيّة ما علم : إتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ) فإنّه هو الّذي يكون مجمع عليه بين الأصحاب ،

ص: 181

وليس يوجد ذلك في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من رد بعض المشايخ ، كالصّدوق والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة ، بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما .

وأما ثانيا ، فلان ما ذُكر من الإتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الذي عُلم إتفاق الفرقة على قبوله والعمل به ،

-------------------

لا كلّ خبر خبر .

وعليه : فإنّ بين الأصحاب من حيث العمل بالأخبار ، عموم من وجه فبعض يعمل بهذا ، وبعض يعمل بذاك ، وكلّهم يجتمع في العمل ببعضها الآخر ( وليس يوجد ذلك ) أي : المجمع عليه ( في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من ردّ بعض المشايخ : كالصّدوق ، والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة ) فانّهم يردونها ( بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما ) كمخالفة المشهور ، أو انّه يوجب الغلو ، أو ما أشبه ذلك .

وحينئذ : يكون المجمع عليه من الأخبار نادرا ، ولعلّه أقل من ثلث الأخبار .

لكن لا يخفى ما في هذا الوجه ، إذ الكلّ يعملون بغالب الأحاديث المرويّة في هذه الكتب المعتبرة ، ولذا ترى إنّ المتَّفق عليه بين الكلّ - في غالب أصول المسائل - المستند الى الرّوايات كثير جدا .

( وأما ثانيا : فلان ما ذكر من الإتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الّذي علم إتفاق الفرقة على قبوله والعمل به ) أي : إنّ الإجماع العملي لا ينفع حتّى في حجّيّة الخبر المجمع عليه ، إذ العمل لا يجوِّز عمل الغير ، مادام لم يَرَ ذلك الغير مستند العمل صحيحا ، فإذا عمل الكلّ ، أو عرف اختلاف وجه العمل ، ولم يَرَ هذا

ص: 182

لأنّ الشّرط في الإتفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما .

ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة يعلم برضاء الإمام عليه السلام بعملهم على النظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم ، وأمّا لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة لخامس ، وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة إتّفاق الجماعة ، الكاشف عن رضا

-------------------

الانسان صحّة أحد الوجوه ، لم يجز له العمل مستندا الى اجماعهم العملي على ذلك الخبر المختلف وجه عملهم به .

مثلا : إذا رأى زيد إجماع كلّ الفقهاء على إنّ قتل رجل جائز واختلفوا في وجهه ، فبعضهم لأنّه يراه مرتدا ، وبعضهم لأنّه يراه زانيا زنا محصنا ، وبعضهم لأنّه يراه منجِّس الكعبة عمدا ، فهل يجوز لزيد الّذي لا يرى صحّة شيء من هذه الوجوه ان يقتل الرجل الذي رأوه مهدور الدم ؟ .

وذلك ( لأنّ الشرط في ) كون ( الاتفاق العملي ) مثبتا بحجيّة الخبر ( أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما ) كما إذا علمنا : انّهم أجمعوا على العمل بهذا الخبر لكونه خبر ثقة - مثلاً بالاضافة الى انّه يلزم أن نرى نحن أيضا : صحّة الاستناد الى الخبر الموثوق به .

( ألا ترى : انّه لو اتّفق جماعة - يعلم برضا الإمام عليه السلام بعملهم - على النّظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم : كونها زوجة لبعضهم ، وأما لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة ) أي : ربيبة ( لخامس ) وعمّة لسادس ، وخالة لسابع ( وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة إتفاق الجماعة ، الكاشف ) ذاك الإتفاق ( عن رضا

ص: 183

الإمام عليه السلام بل لو رأى شخص الإمام عليه السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به ؟ . وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أن الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه ، فلابدّ في الإتّفاق العملي من العلم بالجهة والحيثيّة الّتي إتفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة .

ومرجع هذا الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

-------------------

الإمام عليه السلام ؟ ) أي : رضاه بنظر أولئك المجمعين الى هذه المرأة ؟ .

( بل لو رأى شخص : الإمام عليه السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به ؟ ) أي : في جواز النّظر إليها مع انّه لا يعلم وجه نظر الإمام ، هل هو لانّها محرم للجميع - مثلاً - أو لانّها محرم للامام عليه السلام فقط ؟ .

( وليس هذا كلّه ) أي : عدم جواز النظر الى المرأة ، سواء في الصّورة الأولى أو في الصّورة الثّانية ( إلاّ من جهة : إنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه ) فإنّ مجرّد نظر الجماعة مع رضا الإمام ، أو نظر الإمام عليه السلام مع انّه لا يخطأ ، ولا يسهو ، ولا ينسى قطعا ، لا يدلّ على انّه من جهة المحرمية للجميع ، حتّى يجوز النّظر إليها لهذا الانسان أيضا ، أو من جهة خاصّة ، حتّى لا يجوز إلاّ لمن توفّرت فيه تلك الجهة الخاصّة .

إذن ( فلابدّ في ) حجّيّة ( الإتفاق العملي من ) أمرين : أولا : ( العلم : بالجهة والحيثيّة الّتي إتّفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة ) ، ثانيا : توفر تلك الجهة عند الآخرين .

فإذا لم يحصل أي من الأمرين ، أو لم يحصل كلاهما ، لم يجز للشخص الآخر الاستناد الى إتفاقهم في جواز ما رأوه جائزا .

( ومرجع هذا ) الشرط الذي ذكرناه ( الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

ص: 184

الشّرعي المستفاد من الفعل .

ففيما نحن فيه إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطأ من يعمل به لأجل مطلق الظّنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين .

-------------------

الشّرعي المستفاد من الفعل ) فإنّ الفعل لا دلالة فيه بذاته ، فلا يمكن الإقتداء به إلاّ بعد معرفة وجهه ، ومعرفة إنّ تلك الجهة منطبقة على هذا الانسان الّذي يريد الاقتداء بهم في ذلك الفعل .

( ففيما نحن فيه ) من الإجماع على العمل بالاخبار المودعة في الكتب المعتبرة ( إذا علم : بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر ، أو بالقرينة ) أو من حيث كونه موافقا للقرآن ، أو مخالفا للعامّة ، أو ما أشبه ذلك . ( وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره ) و ( قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ ) إمّا من باب انّه ظن خاصّ ، أو انّه ظنّ مطلق ، حيث يرى الانسداد ، فيعمل بالظنّ المطلق .

( فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه ) أي : من الخبر ، لا ظنا خاصّا حيث لا نقول : بحجيّة الخبر ، ولا ظنا مطلقا ، حيث لا نقول بالانسداد .

( أو علمنا بخطأ من ) يقول : بالانسداد ، لأنا لا نرى تماميّة مقدمات الإنسداد ولا صحّة من ( يعمل به ) أي : بالخبر ( لاجل ) حجّيّة ( مطلق الظّنّ ) الانسدادي عنده ( أو احتملنا خطأه ) في عمله بالخبر ، لأجل مطلق الظّنّ ( فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين ) فكيف يكون مثل هذا الاجماع حجّة ؟ .

ص: 185

الرابع دليل العقل

وهو من وجوه ، بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد ، وبعضها يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر .

أما الأوّل فتقريره من وجوه

-------------------

لكن ربّما يقال : إنّ ما دلّ على حجّيّة الإجماع ، يكون لنا حجّة إلاّ إذا علمنا خطأه ، لا ما إذا احتملنا خطأه ، فعطف المصنّف الاحتمال على العلم بالخطأ ، ليس على ما ينبغي .

( الرابع ) من أدلّة حجّيّة خبر الواحد ( : دليل العقل ) فانّا قد ذكرنا : الكتاب ، والسُّنَّة ، والإجماع ، واستدللنا بها على حجّيّة خبر الواحد ، فلم يبق إلاّ دليل العقل.

( وهو من وجوه : بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد ) بما هو خبر واحد .

( وبعضها : يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا ) من أي سبب حصل ، كما يقال في الانسداد بذلك .

( أو ) يثبت حجّيّة الظّنّ ( في الجملة ) كالظن الاطمئناني أو الظّنّ الذي يكون مبعثه الأخبار ، لا الظنون الّتي تحصل من أي سبب ، ولو من جريان الميزاب ، أو طيران الغراب ، أو القياس ، أو الاستحسان ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( فيدخل فيه ) أي : في مطلق الظّنّ ، أو الظّنّ في الجملة - على ما ذكرناه - ( الخبر ) لأنّه القدر المتيقن من الظّنّ ، سواء كان حجّة من أي سبب ، أو من بعض الأسباب الخاصّة .

( أما الأوّل : ) أي : الوجه العقلي الدّال على حجّيّة الخبر بما هو خبر ( فتقريره من وجوه ) حسب مايلي :

ص: 186

أوّلها : ما اعتمدته سابقا ، وهو أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرّواة المذكورة في تراجمهم في كون أكثر الأخبار بل جلّها ، إلاّ ما شذّ وندر ، صادرة عن الأئمة عليهم السلام ، وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية ورودها إلينا وكيفيّة إهتمام أرباب الكتب

-------------------

( أوّلها : ما اعتمدته سابقا ) وكنت أرى : انّه كافٍ لاثبات حجّيّة الخبر ، لكني عدلت عنه في الزّمن المتأخر ( وهو : ) إنّا نعلم إجمالا بصدور أكثر هذه الأخبار عن المعصومين عليهم السلام ومن الواضح : إنّ الأخبار الصّادرة عنهم ، يجب العمل بها فعلا في الواجبات ، وتركا في المحرّمات ، وحيث لا سبيل الى العلم بها تفصيلاً ، فلابدّ من العمل بكلّ خبر ظنّ بصدوره إن كان العمل بالكلّ متعسرا ، أو متعذرا ، والاّ فالازم العمل بالكلّ حسب العلم الاجمالي .

وبيان هذا الدليل هو : ( انّه لا شكّ للمتتبع في أحوال الرّواة ) ان يطمئن الى انّهم : أجلاء ، ثقاة معتمدون ، وجماعة منهم عدول ، فإنّ الملاحظ لهذه الأحوال ( المذكورة فى تراجمهم ) وتوضيح حالاتهم في كتب الرجال وغيرها ، لا يشكّ ( في كون أكثر الأخبار ، بل جلّها ، إلاّ ما شذّ وندر ، صادرة عن الائمة عليهم السلام ) .

فإنّ تنقيح الرّوايات ، وشدّة الاعتناء بها من العلماء الأجلاء ، متنا وسندا ، وجهة توجب هذا العلم ، خصوصا إنّه لم يكن للأئمة عليهم السلام مال ، أو سلطة ، أو سلاح ، ممّا تجمع غالبا طلاب الدّنيا وأصحاب الهوى .

( وهذا ) أي عدم الشّكّ في صدور أكثر الأخبار حتّى إنّ الخلاف نادر ( يظهر بعد التأمّل في ) حالات الرّواة و ( كيفية ورودها ) أي : ورود الأخبار ( إلينا ) كابرا عن كابر ، وعالما عن عالم ( وكيفيّة إهتمام أرباب الكتب ) المصنّفة في الحديث من زمان الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى زمان شيخ الطّائفة .

ص: 187

من المشايخ الثّلاثة ومن تقدّمهم ، في تنقيح ما أودعوه من كتبهم ، وعدم الإكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم حذرا من كون ذلك مدسوسا فيه من بعض الكذّابين .

فقد حُكي عن أحمد بن محمّد بن عيسى إنّه : « جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا لابان بن عثمان الاحمر ، فلمّا أخرجهما ، قال : أحبّ أنّ أسمعهما .

-------------------

والمقصود ( من ) أرباب الكتب هم ( المشايخ الثّلاثة ) الصّدوق ، والكليني ، والطّوسي ، أرباب الكتب الأربعة المشهورة ، وقد كانت الكتب في السّابق خمسة ، باضافة « مدينة العلم » للصّدوق ، لكن هذا الكتاب فقد منذ خمسمائة سنة - كما يقولون - ( ومن تقدّمهم ) أيضا من العلماء ، الّذين دوّنوا الأصول الأربعمائة ، وغيرها .

فإنّه يظهر بعد التأمّل في كيفيّة إهتمام هؤلاء العلماء ( في تنقيح ما أودعوه ) ودوّنوا ( في كتبهم ، و ) أصولهم ، من ( عدم الإكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم ) ما لم يسمعوها من مؤلف الكتاب أو يقرأوها عليه .

ولذا كثرت فيهم الإجازة ، وقرائة الحديث عند الأستاذ ( حذرا من كون ذلك ) الخبر ( مدسوسا ) ومدخولاً ( فيه ) أي : في ضمن ذلك الكتاب ( من بعض الكذّابين ) والدسّاسين .

( فقد حُكي عن أحمد بن محمد بن عيسى أنّه ) أي : أحمد ( جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه ) أي : من الحسن ( أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين ، وكتابا لابان بن عثمان الأحمر ، فلمّا أخرجهما ) الحسن إليه ( قال : ) أحمد : اقرأهما فإنّي ( أحبّ أن أسمعهما ) منك ، ليطمئن قلبي ، بأنّ هذه الرّوايات

ص: 188

قال : ما أعجلك إذهب ، فاكتبهما واسمع من بعده .

فقال له : لا آمن الحدثان .

فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطّلب لاستكثرت منه ، فأنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ، كلّ يقول : حدثني جعفر بن محمّد عليهماالسلام ».

-------------------

هي روايات الكتابين من غير زيادة أو نقيصة .

( قال ) الحسن : ( ما أعجلك ؟ ) أي : ما الّذي سبّب لك العجلة في القرائة الآن ؟ ( إذهب ، فاكتبهما ) واستنسخهما ( واسمع من بعده ) أي : من بعد أنّ تستنسخ الكتاب ، فإنّي أقرأهما عليك .

( فقال له ) الحسن : ( لا آمن الحدثان ) أي : أخاف أنّ أكتب ثمّ أموت ، ولا أوفّق للمقابلة والإستماع منك ، والحدثان عبارة عن الليل والنّهار ، فإنّ كلّ واحد منهما حدث جديد ويكون فيه أحداث جديدة .

( فقال ) الحسن : ( لو علمت انّ الحديث يكون له هذا ) الإقبال و ( الطّلب ، لاستكثرت منه ) أي : جمعت خبرا أكثر من هذا الّذي جمعت ( فإنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ ، كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليهماالسلام ) (1) .

ولعلّ الأحاديث الّتي لم يجمعها ، كانت في باب المستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، أو كانت مكرّرات مع الأحاديث الّتي جمعها ، أو كان في جمعها عسر وحرج ، والانسان مأمور بالجمع من الطرق المتعارفة ، وبالطرق المتعارفة ، كما هو كذلك بالنّسبة إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لا انّ على الانسان أن يطرق كلّ صباح باب النّاس ليسألهم عن أعمالهم ويعلّمهم الأحكام ، فكذلك

ص: 189


1- - رجال النجاشي : ص 28 .

وعن حمدويه ، عن أيوب بن نوح : « أنّه دُفع إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا ، فانّيكتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ، فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدثتكم به فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته » .

-------------------

جمع الأحاديث ، فلا يستشكل عليه : بانّ عدم استكثاره من الحديث وهو في متناوله ، يوجب سقوط عدالته ، فلا يُؤبه بأخباره وأقواله .

( وعن حمدويه ، عن أيّوب بن نوح أنّه ) أي : نوح ( دفع إليه ) أي : إلى أيوب ولده ( دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال ) نوح لابنه أيّوب ( : إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا ) أي : إذا أحببتم أنّ تستنسخوا هذه الأحاديث في كتاب آخر لنفسكم فافعلوا ذلك ( فإنّي كتبت ) هذه الأحاديث سماعا ( عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه ) أي : عن ابن سنان ( شيئا ) مما سمعت منه ، بمعنى : إنّه لا تذكروا في كتابكم : أنّه روى نوح عن ابن سنان عن الإمام عليه السلام الرّواية الفلانيّة ، بل اذكروا إنّا وجدناها في دفتر نوح .

ثم علّل ذلك بقوله : ( فإنّه ) أي : ابن سنان ( قال قبل موته : كلّما حدثتكم به فليس بسماع ) عن الإمام عليه السلام ( ولا برواية ) عمّن سمع من الإمام عليه السلام ( وإنّما وجدته ) (1) في الكتب فرويته ، ومعنى ذلك : إن ابن سنان حيث لم يسمع عن الإمام عليه السلام ، ولم يسمع عمّن سمع عن الإمام ، إحتاط في الأمر وذكر أن مصدر أخباره الوجادة لا الرّواية ، وهو مثلما إذا رأى أحدنا كتاب الكافي حيث لم يسمع الرّوايات عن الكليني ولا عن الإمام عليه السلام .

ص: 190


1- - رجال الكشي : 507 .

فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يَسمع من الثّقاة وانّما وَجَدَ في الكتب ، وكفاك شاهدا أنّ عليّ بن فضّال لم يَرو كُتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وانّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد عن أبيه .

واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها على أخويه ثانيا .

-------------------

( فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يسمع ) كما إحتاط نوح في الرّواية عن ابن سنان الّذي لم يكن يسمع ما نقله لنوح عن الإمام ، ولا عمّن روى عن الإمام ( من الثقاة وانّما وجد ) ابن سنان مانقله لنوح ( في الكتب ، وكفاك شاهدا ) في ذلك على شدّة احتياطهم في الرّواية .

وممّا يدلّ على وثاقة رواياتنا ( أن عليّ بن فضّال ، لم يَرو كتب أبيه الحسن عنه ) أي : عن أبيه فإنّه لم يقل : روى أبي كذا ( مع مقابلتها عليه ) أي : والحال إنّه قرء كتب أبيه عند أبيه ( وانّما يرويها ) أي : تلك الكتب ( عن أخويه : أحمد ومحمّد عن أبيه ) فيقول : روى أخي أحمد ، عن أبي هذه الرّواية .

( و ) لما قيل له : لم لا تروي عن أبيك مع إنّك قابلت الكتب على أبيك ؟ .

( اعتذر عن ذلك : بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها ) أي : قرء تلك الكتب ( على أخويه ثانيا ) (1) ولهذا يرويها عنهما لا عن أبيه .

بل إن بعضهم ترك الرّواية عن راوٍ لانّه رآه ، قد غرّ حمارهُ في قصة مشهورة .

ص: 191


1- - رجال النجاشي : ص 181 .

والحاصل : إنّ الظّاهر انحصارُ مدارِهم على إيداع ما سَمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه ، فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط من صاحب الكتاب ، ولو كان معلوم الإنتساب مع إطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم ، حتى انّهم ربّما كانوا يتّبعونهم في تصحيح الحديث وردّه ، كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد .

وربّما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدحٌ بعيدُ المدخليّة في الصّدق .

ولذا حُكي عن جماعة منهم التّحرز عن الرّواية

-------------------

( والحاصل : إنّ الظّاهر انحصار مدارهم ) وقاعدتهم في نقل الأحاديث ( على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه ) في كتبهم ( فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط ) سماعا ( من صاحب الكتاب ، ولو كان ) الكتاب ( معلوم الإنتساب ) إلى مؤلّفه ( مع إطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم ) فإنّهم ولو كانوا مطمئنين واثقين بالكتاب وبمؤلفه ، لم يكونوا يودعون رواياته ، ما لم يسمعوا منه أو عن الواسطة الّتي سمع عن صاحب الكتاب .

( حتى إنّهم ) أي : الرّواة ( ربما كانوا يتّبعونهم ) أي : يتّبعون الوسائط ( في تصحيح الحديث وردّه ) فإن صحّح الرّاوي الحديث ، رووه عنه وعملوا به ، وإلاّ تركوه ( كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد ) فإنّه قال : ما صحّحه شيخي فهو صحيح ، وما ردّه فهو مردود - على ما تقّدم نصّ لفظه - .

( وربّما كانوا ) أي : الرّواة ( لا يثقون بمن يوجد فيه قدح ) أي : عيب ( بعيد المدخليّة في الصّدق ) فإنّ ذلك العيب ، وإن لم يكن ضارا بالصّدق ، لكنّهم كانوا يتركون خبر المعيب لمكان ذلك العيب .

( ولذا حكي عن جماعة منهم ) أي : من الرّواة ( التّحرز عن الرّواية ) أي : إنّهم:

ص: 192

عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وان كان ثقة في نفسه ، كما اتفق بالنّسبة إلى البرقي .

بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع أنّ عمله لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي ، حيث ذكر في ترجمته إنّه كان يرى القياس ، فتُرك رواياته لاجل ذلك ، وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ فعدل عنه ، وإن كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة ،

-------------------

لا يروون ( عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وإن كان ثقة في نفسه ) فكانوا لا يعتمدن بما يرويه عن الثّقاة ، بسبب إنّه قد يروي عن الضّعفاء ويعتمد المراسيل ، مع وضوح : إن الرّواية عن الضّعفاء واعتماد المراسيل لا يوجب كون الرّاوي كاذبا لا يعتنى برواياته حتّى فيما يرويه عن الثّقاة ، لكنهم تورّعا ما كانوا

يروون عن مثله ( كما اتّفق بالنّسبة إلى البرقي ) فإنّ البرقي وإن كان من الأجلّة ، لكنّه حيث كان يعتمد المراسيل ويروي عن الضّعفاء تركوا رواياته ، بل بعض أعاظم قم أخرجه منها لهذه الجهة .

( بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع إن عمله ) بالقياس ( لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي ) : ابن الجنيد ، فقد كان من العامّة ، ثمّ صار من فقهاء الشّيعة ، لكنّه حيث بقي على اعتقاده بالقياس لم يروِ القوم عنه ، مع ما كان عليه من كمال الوثاقة ( حيث ذكر في ترجمته ) في كتب الرّجال ( إنّه كان يرى القياس ، فتُرك رواياته لاجل ذلك ) الّذي كان يعتقده من القياس .

( وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ ، فعدل عنه ) إلى مذهب فاسد في أصول الدّين ( وإن كانت كتبه ورواياته ) قد كتبها ورواها ( حال الاستقامة ،

ص: 193

حتى أذن لهم الإمام عليه السلام ، أو نائبه ، كما سألوا العسكري عليه السلام عن كتب بني فضّال ، وقالوا إن بيوتنا منها مِلاء ، فأذن لهم عليه السلام .

وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر الّتي صنّفها قبل الإرتداد عن مذهب الشّيعة ، حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها .

-------------------

حتّى أذن لهم الإمام عليه السلام أو نائبه ) في الأخذ برواياته ( كما سألوا العسكري عليه السلام عن كتب بني فضّال وقالوا : إن بيوتنا منها ملاء ، فأذن لهم عليه السلام ) أنّ يأخذوا بها .

هذا بالنّسبة إلى إذن الإمام عليه السلام في الأخذ بكتب بني فضّال ، حيث إن بني فضّال كانوا مستقيمين ثمّ انحرفوا في العقيدة .

( وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر ) محمّد بن عليّ الشلمغاني ( الّتي صنفها قبل الإرتداد عن مذهب الشّيعة ) ، حيث كان أول أمره من فقهاء الشّيعة وألف بعض الكتب ، ثمّ انحرف عن هذا المذهب ( حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها ) .

وفي الرّجال : إن الشّلمغاني كان متقدّما في أصحابنا ، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب ، والدخول في المذاهب الرّديئة ، حتّى خرجت فيه توقيعات (1) ، وأخذه السّلطان وقتله وصلبه ببغداد ، وله من الكتب الّتي صنّفها في حال الإستقامة : « كتاب التّكليف » رواه المفيد إلاّ حديثا منه في باب الشّهادات، وهو إنّه يجوز للرجل إن يشهد لاخيه - إذا كان له شاهد واحد - من غير علم الشّاهد ، وانّما يعتمد على أيمان المشهود له في اقامة الشّهادة له .

لا يقال : فكيف عملوا بروايات الفطحيين ، والكيسانيين ، والواقفيّة ، ومن

ص: 194


1- - للمزيد راجع كتاب كلمة الامام المهدي عليه السلام للشهيد آية اللّه السيد حسن الشيرازي قدس سره .

والحاصل : أنّ الأمارات الكاشفة عن إهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرّضا عليه السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع .

والدّاعي إلى شدّة الإهتمام - مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قوام شريعة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولذا قال الإمام عليه السلام ، في شأن جماعة من الرّواة : « لولا هؤلاء لاندرست

-------------------

إليهم من المنحرفين ؟ .

لأنّه يقال أوّلاً : كان العمل بروايات أولئك من جهة إن الأئمّة عليهم السلام أجازوا للاخذ برواياتهم ، كما أجازوا الأخذ بروايات بني الفضّال .

ثانيا : إن العمل كان حيث كانوا يقطعون بعدم تدخل إنحرافهم في رواياتهم ، بخلاف أمثال الشّلمغاني حيث لم يطمئنوا بوثاقتهم بعد ظهور الإنحراف منهم ولم يقطعوا بعده بعدم تدخّل إنحرافهم في رواياتهم .

( والحاصل : إن الأمارات الكاشفة عن إهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخرة عن زمن الرّضا عليه السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع ) في كتب الدّراية والرّجال ذلك بوضوح .

( والدّاعي إلى شدّة الإهتمام ) من قبل أصحابنا بالرّوايات سندا ، ودلالة ، ومضمونا ، أمور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : ( مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قِوام شريعة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله وسلم ) في الفروع ، وجزئيّات الأصول ، مثل أحوال الجنّة والنّار ، والقبر والقيامة ، وما أشبه ذلك ( ولذا ) أي : لكونها أساسا للدّين ، وقواما للشّريعة ( قال الإمام عليه السلام ، في شأن جماعة من الرّواة لولا هؤلاء لاندرست

ص: 195

آثار النبوّة » ، وإنّ النّاس لا يرضون بنقل مالا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ الّتي لا يترتّب على وقوع الكذب فيها أثر ديني ، بل ولا دنيوي ، فكيف في كتبهم المؤلفة ، لرجوع من يأتي إليها في أمور الدّين ، على ما أخبرهم الإمام عليه السلام ، بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم ،

-------------------

آثار النبوّة ) وانمحت من الوجود معالمها .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( و ) مضافا إلى ( انّ النّاس ) أي : عامّة النّاس من المؤرّخين ومن أشبههم ( لا يرضون بنقل مالا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ ) عن عاد ، وشدّاد ، ونمرود ، وفرعون ، ومن أشبههم ، وغير ذلك من المطالب التاريخيّة ( الّتي ) لا تحتاج إلى هذه الدّقّة لانّه ( لا يترتب على وقوع الكذب فيها أثر ) أي : فساد ( ديني ، بل ولا دنيوي ) .

فانّ الانسان إذا اشتبه - مثلاً - في إن نمرود كان في أي : قرن ، أو أنّ شدّاد بَنَا جنَّتَه أو لم يبنها لم يكن له أثر في دينه ودنياه .

( فكيف ) لا يهتمّ المحدّثون والفقهاء ( في كتبهم المؤلفة ، لرجوع ) كلّ ( من يأتي ) من بعدهم إلى يوم القيامة ( إليها ) أي إلى تلك الكتب ( في أمور الدّين ؟ ) .

والشّاهد ( على ) انّهم كتبوا الكتب لأجل إستفادة النّاس منها في أمور دينهم ودنياهم ( ما أخبرهم الإمام عليه السلام : بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج ) يكثر فيه الفتن والإضطرابات ويقلّ فيه الصّدق والأمانة ، فلا يتمكّن النّاس من الخروج عن دورهم ، ولا يوثق بكلّ أحد لاجل أخذ الأحكام ، ولذا ( لا يأنسون إلاّ بكتبهم ) (1) المدوّنة في الحديث والأخبار ، فيستفيدون منها ويأنسون بها .

ص: 196


1- - الكافي اصول : ج1 ص52 ح11 ، وسائل الشيعة : ج27 ص81 ب8 ح33263 .

وعلى ما ذكره الكليني قدس سره ، في ديباجة الكافي من كون كتابه مرجعا لجميع

من يأتي بعد ذلك ما تنبّهوا له ونبّههم عليه الأئمّة عليهم السلام من أنّ الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة .

منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمن على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه السلام ، كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهم السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام .

وقال عليه السلام : « إن أبا الخطّاب

-------------------

( و ) يشهد ( على ) ذلك أيضا ( ما ذكره الكليني قدس سره في ديباجة الكافي : من ) انّ مقصوده في تأليفه الكتاب ( كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك ).

الثّالث : ما أشار إليه بقوله : ( ما تنبّهوا له ) وهذا خبر بقوله : «والدّاعي» وقول المصنّف « مضافا » « ومضافا » كانا جوابين آخرين ، فانّ داعي النّاس إلى الإهتمام بالأخبار ما التفتوا إليه ( ونبّههم عليه الأئمّة عليهم السلام : من إن الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة ) ذلك .

( منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمان على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهماالسلام ، فانكر منها أحاديث كثيرة ) أي : لم يقبلها وأنكرها ( أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقال عليه السلام : إن أبا الخطّاب ) وكان من الرّواة ، ثمّ اعتقد إن الصّادق عليه السلام نبيّ يوحى إليه ، وانّه أي : أبا الخطّاب ، هو رسول هذا النّبيّ إلى النّاس .

ص: 197

كذّب على أبي عبد اللّه عليه السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام.

ومنها : ما عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « كان المغيرة بن سعد ، لعنه اللّه ، يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتستّرون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها

-------------------

وأبو الخطّاب هذا قد ( كذّب على أبي عبد اللّه عليه السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ) (1) .

لكن لا يخفى : إن الدّسّ الّذي كشف عنه الإمام وأزاحه ؛ أمر شاذّ لا يقدر عليه كلّ أحد ولا يتّفق في كلّ عصر وزمان ، إذ كيف يمكن الدّسّ إلاّ إذا كان الكتاب مضطربا في كيفيّة خطوطه وصفحاته ، أو كان الّذي يدّسّ متقنا ومتفننا جدا ، حتّى يتمكّن أن يكتب مثل خطّ الكاتب ، وكلاهما أمر شاذّ كما هو واضح .

( ومنها : ما عن هشام بن الحكم : أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كان المغيرة بن سعد لعنه اللّه يتعمّد الكذب على أبي ) أي : على الإمام الباقر عليه السلام ( و ) كان ( يأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه ) أي : أصحاب المغيرة (المتستّرون بأصحاب أبي ) حيث انّهم لم يكونوا من الأصحاب حقيقة وانّما كانوا يظهرون ذلك تجسّسا ودسّا ، كما هي عادة الجواسيس إلى يومنا هذا ، فيظنّ النّاس بهم خيرا ، والحال انّهم في الواقع مندسون ، و ( يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها ) أي :

ص: 198


1- - رجال الكشّي : ص 224 ، تحف العقول : ص307 .

الى المغيرة ، لعنه اللّه ، فكان يدسّ فيها الكفر والزّندقة ويسندها إلى أبي ، الحديث .

ورواية الفيض بن المختار المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ ،

-------------------

تلك الكتب ( إلى المغيرة لعنه اللّه ، فكان يدسّ فيها ) ، عقائد وأباطيل أهل ( الكفر والزّندقة ) .

أصل « الزّندقة » - مشتق من كتاب المجوس الّذي يسمى : « زند وبازند » - وهي كلمة معرَّبة تقال لأتباع المجوسيّة ، ثمّ قيل لكلّ من كان يقول الكفريّات أو يسلك ذلك السّلوك .

ولا يخفى : إنّه يلزم التحقيق حول كلّ من رمي في التّاريخ - بالزّندقة ، لانّ عادة الحكّام ومن أشبههم اتّهام النّاس ، لأجل إنزال العقاب بهم ، وتنفير النّاس منهم ، وكثير ممّن أتّهمهم حكام بني أميّة ، وبني العبّاس ، وبني عثمان ، ومن إليهم بالزّندقة ، بريئون من هذا الإتّهام ، ألم يرم يزيد الإمام الحسين « عليه السلام » : بأنّه خارجي ؟ ورمى هارون العبّاسي الامام موسى بن جعفر عليه السلام بأنّه يريد شقّ عصى المسلمين ، والى غير ذلك من الاتّهامات الكاذبة ؟ . ( و ) كان المغيرة ( يسندها ) أي : تلك المجعولات الّتي يدسّها في الكتب ( إلى أبي ) أي إلى الإمام الباقر عليه السلام ، الى آخر ( الحديث ) ، وفي بعض النسخ : يسندها إليه ، يعني : إلى الإمام الصادق عليه السلام ، لا إلى الإمام الباقر عليه السلام .

وفي بعض الكتب : يدفعها إلى أصحابه ، ثمّ يأمرهم أن ينشروها في الشّيعة ، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ ، فذلك ما دسّه المغيرة بن سعيد .

( و ) منها : ( رواية الفيض بن المختار ، المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ ) حيث

ص: 199

الى غير ذلك من الرّوايات . وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة من وجود الكذّابين ، ووضع الأحاديث ، فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين الحديث والرّجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ،

-------------------

قال عليه السلام : « إن النّاس قد أولعوا بالكذب علينا » (1) إلى آخر الحديث ، وقد ذكرنا هناك : إنّ الكذّابين منذ زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كانوا يكذّبون على الرّسول كما كانوا يكذّبون على الأئمّة عليهم السلام لأمور : أولاً : لتمشية أمورهم ، ثانيا : لتشويه معالم الدّين ، ثالثا : للتشويش على الرّسول والأئمّة الطّاهرين عليهم السلام .

( إلى غير ذلك من الرّوايات ) في هذا المجال الداعية لشدّة الإهتمام بالأخبار .

لا يقال : فكيف ادّعى المصنّف - مع وجود هذه الرّوايات - : العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار ، بل جلّها إلاّ ما شذّ - كما تقدّم في كلامه - ؟ .

لانّه يقال : ( وظهر ممّا ذكرنا : إن ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة ) المماثلة للثّلاثة الّتي ذكرناها ( من وجود الكذّابين ، و ) ما علم إجمالاً من : ( وضع الأحاديث ) المكذوبة على المعصومين عليهم السلام في الأصول والفروع ( فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث ، وتدوين الحديث ) حيث قد اشتد الإهتمام بهما في زمان الإمام الرّضا عليه السلام وإن كان قبله - أيضا - يدوّن الحديث ويقابل .

( و ) كذلك كان ما علم إجمالاً من الدّسّ والوضع وجودا قبل زمان تدوين علم ( الرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ) ، امّا بعدها فلا .

وبذلك يندفع إشكال من يقول : بأنّا كما نعلم إجمالاً بصدور أكثر هذه الأخبار - الّتي بأيدينا - عن الأئمّة عليه السلام ، كذلك نعلم بأنّ جملة منها موضوعة ومدسوسة

ص: 200


1- - رجال الكشّي : ص136 ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 بالمعنى .

مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ الّتي تنسب إلى بعض الأخباريين أو دعوى الظّنّ بصدور جميعها ، ولا ينافي ذلك ما نحن بصدده ، من دعوى العلم الاجمالي بصدور أكثرها أو كثير منها ، بل هذه دعوى بديهيّة .

والمقصود ممّا ذكرنا :

-------------------

في كتب أصحابنا ، وحينئذٍ : يدور الأمر بين الواجب والحرام ، لانّ الأخذ بالخبر المدسوس حرام ، والأخذ بالخبر الوارد واجب .

والجواب أوّلاً : ما ذكرنا : من إن الأصول قد نُقحت وانتُخبت بالتّدوين والمقابلة وعلم الرّجال والأخبار الموضوعة - على فرض وجودها - في كتب الأصحاب اليوم فهي نادرة ندرة كبيرة ، حتّى إن الشّبهة من قبيل الشّبهة غير المحصورة ، فلا يكون الأمر من الدوران بين الواجب والحرام ، وانّما يجب الأخذ بكلّ الأخبار إلاّ ما علم استثناؤه .

ثانيا ( مع إنّ العلم ) الاجمالي ( بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ ) وهذا ما لا ندّعيه نحن ، وإنّما هذه دعوى هي ( الّتي تُنسب إلى بعض الأخباريين ) فقط .

( أو ) ينافي ( دعوى الظّنّ بصدور جميعها ، و ) لكن ( لا ينافي ذلك ) أي : وجود الأخبار المدسوسة والمكذوبة ( ما نحن بصدده من دعوى : العلم الاجمالي بصدور أكثرها ، أو كثير منها ) إلاّ ما شذّ .

( بل هذه ) الدعوى بصدور أكثر الأخبار عنهم عليهم السلام ( دعوى بديهيّة ) لا تحتاج إلى برهان ، لأنّ كلّ من له مزاولة بالأخبار يعرف ذلك بالوجدان .

( والمقصود ممّا ذكرنا : ) من شدّة إهتمام الرّواة في نقل الحديث وإحتياطهم

ص: 201

دفع ما ربّما يكابره المتعسّف الخالي عن التّتبّع من منع هذا العلم الاجمالي ؛ إنّما هو متعلّق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ،

-------------------

في الأخذ من مشايخهم الثّقاة ، هو ( دفع ما ربّما يكابره المتعسّف الخالي عن التّتبّع ) والمكابرة : إدّعاء شيء بلا دليل ، والتّعسّف : هو قول الباطل ( من منع هذا العلم الاجمالي ) بصدور الأكثر أو الجلّ .

وحيث أثبت المصنّف العلم الاجمالي بوجود كثير من الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام في ضمن الأخبار المنقولة في الكتب الأربعة وغيرها ، شرع في بيان أمر آخر مرتبط بالدّليل العقلي المثبت لحجيّة خبر الواحد بقوله : ثم إنّ هذا العلم الاجمالي ( إنّما هو متعلق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ) فإنّ هناك ثلاثة أقسام من الأخبار :

الأوّل : ما يوافق الأصل ، مثل : خبر يدل على جواز شرب التّتن ، حيث إنّ الأصل هو البرائة عن الحرمة أيضا ، فالأصل يدّل على ذلك من غير حاجة إلى الخبر الموافق للأصل .

الثّاني : الأخبار المخالفة للأصل ، لكنها محفوفة بالقرائن الموجبة للعلم ، مثل : الخبر الدّال على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، حيث إنّ الأصل عدم الوجوب ، لكنّ الخبر المحفوف بالقرينة ورد على خلاف الأصل ، وهذا القسم أيضا لا تحتاج فيه إلى الخبر لوجود القرينة - فرضا - .

الثّالث : الأخبار الّتي لا توافق الأصل ، ولا فيها قرينة ، مثل : الخبر الدّال على وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، حيث لا قرينة قطعيّة فيها ، ولا يوافق الأصل .

والكلام في الدّليل العقلي - وهو العلم الاجمالي - الموجب للعمل بالخبر الواحد هو في القسم الثّالث فقط ، إذ القسمان الأوّلان لا حاجة إلى العلم الاجمالي

ص: 202

وإلاّ فالعلم بوجود مطلق الصّادر لا ينفع .

فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصّادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصّدور ، لأنّ تحصيل الواقع الّذي يجب العمل به إذا لم يكن على وجه العلم تعين المصير إلى الظّنّ في تعيينه ، توصلاً إلى العمل بالأخبار الصّادرة .

-------------------

في وجوب العمل بها ، بهما عرفت من أنّ القسم الأوّل يلزم العمل به للأصل ولو لم يكن خبر ، والقسم الثّاني يلزم العمل به للقرينة ولو لم يكن خبر .

( وإلاّ ) أي : إنّ لم يكن الكلام في الأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ( فالعلم بوجود مطلق ) الخبر ( الصّادر ) ولو في الصنفين الأوّلين ( لا ينفع ) لما ذكرناه ، وحينئذٍ : ( فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصّادرة ) من القسم الثّالث ( فيجب بحكم العقل : العمل بكلّ خبر مظنون الصّدور ) لا مشكوك الصّدور ، أو موهم الصّدور .

وذلك ( لأنّ تحصيل الواقع ) من الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام حسب علمنا بصدور أخبار كثيرة إجمالاً ( الّذي يجب العمل به ، إذا لم يكن على وجه العلم ) التفصيلي - لأنّ الفرض إنّا لا نعلم تفصيلاً كلّ خبر خبر صادر عنهم عليهم السلام ، وإنّما نعلم بذلك إجمالاً - ( تعين المصير إلى الظّنّ في تعيينه ) أي : في تعيين الواقع ( توصلاً إلى العمل بالأخبار الصّادرة ) .

فإنّ الأخبار الصّادرة حيث لا يعلمها الانسان علما تفصيليّا قام الظّنّ بالواقع مقامه ، كما هو بناء العقلاء من انّه كلّما تعذر العلم على شيء أقاموا الظّنّ مقامه ، فإنّ من يريد السّفر - مثلاً - إلى ناحية وهو مضطر إلى هذا السّفر ، ولا يعلم علما تفصيليا إنّ الطّريق من الجنوب أو الشّمال ، أو الشّرق ، أو الغرب ، فإنّ العقلاء

ص: 203

بل ربّما يُدعى وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصدور ، أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين .

والجواب عنه : أولا : إنّ وجوب العمل بالأخبار الصّادرة إنّما هو لاجل وجوب إمتثال أحكام اللّه الواقعيّة ، المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصّادر

-------------------

يلزمونه بالعمل بظنّه .

( بل ربّما يُدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها ) أي : من الأخبار ولو بدون وجود الظّنّ بمطابقة كلّ منها للواقع للعلم الاجمالي ، فإنّ اللاّزم بدليل الإشتغال العمل بكلّ الأطراف المحتملة ، سواء كان مظنونا أو مشكوكا أو موهوما ( مع عدم المعارض ) لذلك الخبر الّذي هو مظنون أو مشكوك أو موهوم .

( و ) مع وجود المعارض يجب ( العمل بمظنون الصّدور ، أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين ) .

مثلاً : إذا كان هناك خبران متعارضان ، أحدهما يدلّ على وجوب الجمعة ، والآخر يدلّ على حرمة الجمعة ، ولا نعلم أيّهما الصّادر عن الإمام عليه السلام ؟ عملنا بمنطوق الصدوق بحسب المرجحات الّتي أوجبت لنا الظّنّ ، ولو فرض انّ كليهما متساويان فلا ظنّ بمطابقة أحدهما للواقع ، أخذنا بالمرجح من مخالفة العامّة - مثلاً - أو موافقة محتملات القرآن الحكيم ، أو نحو ذلك .

( والجواب عنه ) أي : عن هذا التقرير للدّليل العقلي ، الدّال على وجوب العمل بالخبر الواحد تمسّكا بالعلم الاجمالي بما يلي :

( أوّلاً : إنّ وجوب العمل بالأخبار الصّادرة ، إنّما هو لأجل وجوب إمتثال أحكام اللّه الواقعيّة ، المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصّادر

ص: 204

عن الإمام عليه السلام ، إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اللّه الواقعي ، وحينئذٍ نقول : انّ العلم الاجمالي ليس مختصّا بهذه الأخبار ، بل نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام ، لوجود تكاليف كثيرة ، وحينئذٍ ، فاللاّزم ، أوّلاً : الاحتياط ومع تعذّره أو تعسّره

-------------------

عن الإمام عليه السلام ، إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اللّه الواقعي ) أي : انّه إنّما يجب العمل بالأخبار الصّادرة لا لانها أخبار ، بل لانّها أحكام اللّه الواقعيّة ، ونحن مأمورون بإمتثال أحكام اللّه الواقعيّة .

( وحينئذٍ ) أي : إذا كان الواجب في الحقيقة : إمتثال الأحكام الصّادرة عنهم المطابقة للواقع ، بما انّها أحكام اللّه الواقعيّة لا بما انّها أخبار ( نقول : انّ العلم الاجمالي ليس مختصا بهذه الأخبار ) حتّى يكون الدّليل العقلي على وجوب العمل بهذه الأخبار فقط ، وذلك لأنّ أحكام اللّه الّتي نعلم إجمالاً بصدورها عنهم عليهم السلام ويجب إمتثالها ، ليس مختصة بمضامين الأخبار الّتي بأيدينا ، ( بل نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام ) بعضها موجود في هذه الكتب المعتبرة وبعضها لم يصل إلينا ( لوجود تكاليف كثيرة ) في الواقع ومتن الأمر .

( وحينئذٍ ، ف- ) ليس الواجب هو العمل بهذه الأخبار فقط ، بل ( اللاّزم أوّلاً : الاحتياط ) التّامّ ، بأن نعمل بكلّ شيء نحتمله حكما واقعيّا ، سواء كان في خبر ، أو بشهرة ، أو إجماع منقول ، أو إستحسان ، أو ما أشبه ذلك ، وسواء كان الخبر مظنونا ، أو موهوما ، أو مشكوكا ، فدليلكم العقلي لم يدلّ على الأخذ بالأخبار الواردة ، بل يقتضي الأوسع من ذلك .

ثانيا : ( ومع تعذره ) أي : تعذر الاحتياط التّامّ .

( أو تعسره ) لأنّ الاحتياط إذا كان متعذرا ، فالعمل به غير معقول ، وإذا كان

ص: 205

أو قيام الدّليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظّنّ بصدور الحكم الشّرعي التّكليفي عن الحجّة عليه السلام ، سواء كان المفيد للظّنّ خبرا أو شهرة أو غيرهما ، فهذا الدّليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة كلّ ما ظّنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وانّ لم يكن خبرا .

-------------------

متعسّرا ، فالعمل به مرفوع ، لقوله سبحانه «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ...» (1) .

ونحو ذلك من الأدلة الرّافعة لحكم التعسّر .

( أو قيام الدّليل ) من إجماع أو غيره ( على عدم وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( يرجع إلى ما ) أي : كلّ أمارة ( أفاد الظّنّ بصدور الحكم الشّرعي التّكليفي ) الإقتضائي ، والإقتضائي حكمان : الوجوب والحرمة ، وإلاّ فإنّ الإباحة ، والاستحباب ، والكراهة ، أحكام لا إقتضائيّة ، ليس الانسان ملزما باتيانها أو تركها .

وعليه : فإذا ظّنّ الانسان بصدور حكم شرعي ( عن الحجّة عليه السلام ) لزم عليه العمل بذلك المظنون ( سواء كان المفيد للظّنّ خبرا ، أو شهرة ، أو غيرهما ) كالإجماع ، والإستحسان ، ونحوهما ، بل يتعدّى إلى القياس ، والمصالح المرسلة ، ونحوهما - كما سيأتي الكلام عنها في بحث الإنسداد إنشاء اللّه تعالى .

وعلى أي حال : ( فهذا الدّليل ) أي : العلم الاجمالي بصدور أحكام كثيرة عنهم الّذي جعله المستدلّ دليلاً عقليّا لوجوب العمل بهذه الأخبار ، دليل أعمّ من المدّعى ، لانّه ( لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة كلّ ما ظّنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن خبرا ) .

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

فإن قلت : المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار الّتي بأيدينا ، وأما صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار ، فهو غير معلوم لنا ولا مظنون .

قلت : العلم الاجمالي وان كان حاصلاً

-------------------

بل قد عرفت : إنّه إذا لم يكن تعذّر ، أو تعسّر ، أو دليل على عدم الاحتياط ، وجب الاحتياط بالنّسبة إلى غير المظنون ، من الموهوم ، والمشكوك ، فمن أين إستدللتم بهذا الدّليل لحجيّة خصوص الخبر ؟ ولخصوص المظنون من الخبر ؟ .

فهذان تخصيصان لا يدلّ عليه هذا الدّليل العقلي .

وحيث قال المصنّف : إنّ هذا الدّليل العقلي ، يدلّ على لزوم رعاية العلم الاجمالي في الأخبار ، وفي سائر الأمارات ، لا في خصوص الأخبار فقط ، أشكل عليه المستشكل بقوله :

( فإن قلت : المعلوم ) بالإجمال ، ليس إلاّ ( صدور كثير من هذه الأخبار الّتي بأيدينا ، وأما صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار ) من الأمارات الّتي يجب العمل بها فعلاً أو تركا ، ( فهو غير معلوم لنا ولا مظنون ) فانّه ليس لنا علم إجمالي كبير يشمل الأخبار وغير الأخبار ، بل علم إجمالي صغير يشمل الأخبار فقط .

إذن : فليس لنا علم إجمالي بأحكام واقعيّة صادرة عنهم عليهم السلام في الأخبار وفي غير الأخبار ، حتّى يجب علينا العمل بهذه الأخبار ، وبغير هذه الأخبار : من الشّهرة ، الإجماع المنقول ، والإستحسان ، وما أشبه ذلك ، فالدّليل العقلي دالّ على وجوب العمل بالأخبار فقط .

( قلت : العلم الاجمالي ) بصدور الأحكام عنهم عليهم السلام ( وإن كان حاصلاً

ص: 207

في خصوص هذه الرّوايات الّتي بأيدينا ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ، ومن الأمارات الاُخر المجرّدة عن الخبر الّتي بأيدينا المفيدة للظّنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ، وليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الاجمالي الحاصل في المجموع بحيث يكون العلم الاجمالي في المجموع مستندا إلى بعضها وهي الأخبار ،

-------------------

في خصوص هذه الرّوايات الّتي بأيدينا ، إلاّ ) إنّ هذا علم إجمالي صغير ، وفوقه علم إجمالي كبير ، وكما إنّه يجب العمل بالعلم الاجمالي الصغير ، كذلك يجب العمل بالعلم الاجمالي الكبير .

وذلك ( إنّ العلم الاجمالي حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ، ومن الأمارات الاُخر المجرّدة عن الخبر ) أما الأمارة المقترنة بالخبر ، فليس الكلام فيها ، وإنّما الكلام في العلم الاجمالي الكبير الشامل للخبر ، وللأمارات الاُخر الّتي ليس على طبقها الخبر ، مثل : الشّهرة ، والإجماع المنقول ، وغيرهما من سائر الأمارات ( الّتي بأيدينا المفيدة للظّنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ) .

وإذا كان المعيار في العمل بالخبر هو : العلم الاجمالي ، كان هذا هو المعيار أيضا في العمل بسائر الأمارات الموجبة للظّنّ .

( و ) ذلك لأنّه ( ليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الاجمالي ) الكبير ، ( الحاصل في المجموع ) من الخبر ومن الأمارة ( بحيث يكون ) حصول ( العلم الاجمالي في المجموع مستندا إلى بعضها ) أي : بعض أفراد هذا المجموع ( وهي الأخبار ) فقط ، فإنّه قد يكون العلم الاجمالي الكبير منحلاً إلى علم إجمالي صغير ، وقد لا يكون منحلاً .

مثلاً : من علم بانّ بعض هذه الأواني العشرة سمّ ، كان علمه الاجمالي الكبير

ص: 208

ولذا لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع الأمارات الاُخر كان العلم الاجمالي بحاله .

فهنا علم إجمالي حاصل في الأخبار

-------------------

موجبا لاجتناب جميعها ، أما إذا كان علمه الكبير منحلاً إلى علم إجمالي آخر : بانّ السمّ في الأواني البيض فقط دون الحمر ، فقد انحلّ علمه الكبير إلى علم صغير ، ووجب عليه الاجتناب عن البيض فقط ، دون الحمر ، لانحلال علمه بالنّسبة إلى الحمر ، فيجوز له شربها وإنّما المحرم شرب البيض فقط ، أما إذا كان علمه الاجمالي الكبير في أعمّ من البيض والحمر لم ينحل علمه الاجمالي الكبير بالنّسبة إلى الحمر أيضا .

( ولذا ) أي : للإستشهاد على كون العلم الاجمالي في المجموع ، لا في الأخبار فقط ، هو إنّه ( لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار ) بأن علمنا علما تفصيليّا : بانّ الأحكام الواقعيّة الّتي في هذه الأخبار ، هي فقط في الكافي والتّهذيب ، - مثلاً - فلا يزول العلم الاجمالي الكبير ، لانّا نعلم بأنّ هناك في سائر الأمارات أحكاما واقعيّة أيضا .

( و ) لذا لو ( ضممنا إلى الباقي ) من كتب الأخبار ، كالفقيه والإستبصار ( مجموع الأمارات الاُخر ) من الشّهرة والإجماع المنقول ، ونحوهما ( كان العلم الاجمالي ) بوجود أحكام للّه سبحانه وتعالى في المجموع باقيا ( بحاله ) لانّا نعلم : إنّ هناك أحكاما أُخر موجودة في مجموع هذه الأخبار وهذه الأمارات الباقية .

وعليه : ( فهنا ) فيما نحن فيه من الأخبار والأمارات ( علم اجمالي ) صغير ، ( حاصل في الأخبار ) فقط ، حيث نعلم إنّ في الأخبار طائفة من أحكام

ص: 209

وعلم إجمالي حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ، فالواجب مراعاة العلم الإجماليّ الثّاني وعدم الإقصار على مراعاة الأوّل .

نظير ذلك : ما إذا علمنا إجمالاً بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون

-------------------

اللّه سبحانه وتعالى لا نعرفها بخصوصها .

( وعلم اجمالي ) كبير ( حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ) .

وبذلك يلزم علينا مراعات المجموع من حيث المجموع ، بأن نعمل بكلّ الأخبار ، وبكلّ الأمارات الّتي لا توافق الأخبار ، تحصيلاً للاحكام الواقعيّة الموجودة في هذا المجموع بما هو المجموع ، لعلمنا إجمالاً بأنّ بعض تلك الأحكام الواقعيّة في الأخبار ، بعض تلك الأحكام الواقعيّة في سائر الأمارات ، ولا ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير .

إذن : ( فالواجب مراعاة العلم الاجمالي الثّاني ) الكبير في مجموع الأخبار والأمارات ( وعدم الإقتصار على مراعاة ) العلم الاجمالي ( الأوّل ) الصغير المنحصر في الأخبار فقط .

وعليه : فدليلكم العقلي هنا ، لا يدلّ على حجّيّة الأخبار ووجوب العمل بها فقط ، وإنّما يدلّ على حجّيّة كلّ أمارة في الجملة ، خبرا كان أو غير خبر ، وعلى وجوب العمل بها جميعا .

و ( نظير ذلك ) الّذي مرّ من العلمين الإجماليّين : الكبير والصّغير ( ما إذا علمنا إجمالاً ) أي : علما إجماليا كبيرا ( بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون

ص: 210

نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته إلى البعض الاُخر وعلمنا أيضا بوجود شياة محرّمة في خصوص طائفة من تلك الغنم ، بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه عُلم إجمالاً بوجود الحرام فيها أيضا .

والكاشف عن ثبوت العلم الاجمالي في المجموع ما أشرنا إليه سابقا ،

-------------------

نسبته ) أي : نسبة ذلك العلم الاجمالي الكبير ( إلى كلّ بعض منها ) أي : من تلك الشّياه ( كنسبته إلى البعض الآخر ) بأن يكون علمنا الاجمالي بالتّحريم في البيض والسّود منها معا ، لا في البيض فقط .

هذا ( وعلمنا أيضا ) علما إجماليا صغيرا . ( بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم ) مثل البيض فقط ، كما إذا رأى صاحب الشّياه ، إنّ الرّاعي إجتمع مرّة بشاة بيضاء ، ومرّة بما لم يعرف انّها بيضاء كانت أو سوداء ، فَلَهُ علمان إجماليان :

الأوّل : علم إجمالي كبير في جميع الغنم .

الثّاني : علم إجمالي صغير في البيض فقط ( بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه ) الخاصّة وهي البيض فقط ، لكان قد ( علم إجمالاً بوجود الحرام فيها ) أي : في هذه الطائفة الخاصّة ( أيضا ) ، فهنا يجب عليه الإجتناب عن الجميع بيضا أو غير بيض .

وما نحن فيه أيضا كذلك ، لأنّ لنا فيه - كما مرّ توضيحه - علمين إجماليين : كبير وصغير .

( والكاشف عن ثبوت العلم الاجمالي ) الكبير هنا ( في المجموع ) من البيض والسّود هو : وإن إنحلّ العلم الاجمالي الصغير ( ما أشرنا إليه سابقا :

ص: 211

من أنّه لو عزلنا من هذه الطّائفة الخاصّة الّتي عُلم بوجود الحرام فيها قطعة توجب إنتفاء العلم الاجمالي فيها وضممنا إليها مكانها باقي الغنم حصل العلم الاجمالي بوجود الحرام فيها أيضا .

وحينئذٍ : فلابدّ من أن يجري حكم العلم الاجمالي في تمام الغنم ، إما بالإحتياط أو العمل بالمظنّة

-------------------

من انّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة ) وهي البيض ( الّتي علم بوجود الحرام فيها قطعة ) بأن عزلنا من البيض الّتي هي خمسمائة - مثلاً - أربعمائة ، بحيث ( توجب ) تلك القطعة ( إنتفاء ) أي : إنحلال ( العلم الاجمالي ) الصّغير ( فيها ) أي : في هذه الطّائفة الخاصّة .

فإذا عزلنا من البيض أربعمائة ، لم نتيقّن بأنّ في المائة الباقية موطوئة - وإن احتملنا ذلك - ( و ) إذا ( ضممنا إليها مكانها ) أي : ضممنا إلى الأغنام البيض الباقية - الّتي هي مائة فرضا - مكان المعزولة الّتي هي الأربعمائة في المثال ( باقي الغنم ) من القطيع وهي سود مثلاً ( حصل العلم الاجمالي بوجود الحرام فيها ) أي : في المجموع من حيث المجموع ( أيضا ) لأنّ المفروض إنّ علمنا الاجمالي كان في البيض والسّود معا ، فإذا عزلنا من البيض أربعمائة ، وضممنا إلى المائة الباقية بقايا القطيع وهي السّود - مثلاً - حصل لنا العلم إجمالاً بوجود المحرّم في مجموع هذه السّتمائة أيضا - في فرض كون كلّ القطيع ألفا - وعليه ، فلم ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بانحلال العلم الاجمالي الصّغير في خصوص البيض .

( وحينئذٍ : فلابد من أنّ يجري حكم العلم الاجمالي في تمام الغنم ، إما بالاحتياط ) التّامّ إذا لم يكن هناك في الإجتناب عن الجميع تعذّر ، أو تعسّر ، أو إجماع على عدم وجوب الاحتياط ( أو العمل بالمظنّة ) في الإجتناب عن بعض

ص: 212

لو بطل وجوب الاحتياط .

وما نحن فيه من هذا القبيل .

ودعوى أنّ سائر الأمارات المجرّدة لا مدخل لها في العلم الاجمالي وأن هنا علما إجماليا واحدا بثبوت الواقع بين الأخبار ، خلاف الإنصاف .

-------------------

الغنم ( لو بطل وجوب الاحتياط ) التّامّ .

( وما نحن فيه ) من العلم الاجمالي بكون الأحكام الواقعيّة في الأخبار وفي الأمارات ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل العلم الاجمالي الكبير والعلم الاجمالي الصغير .

وحيث لم ينحلّ العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصّغير ، وجب الاحتياط في الكلّ ؛ لأنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام في الأخبار والأمارات ، يوجب العمل بالكلّ من باب الاحتياط ، فإذا لم نتمكّن من الاحتياط التّامّ ، لزم العمل بالظّنّ ، فنأخذ بالمظنون ونترك المشكوك والموهوم من غير فرق بين أنّ يكون المظنون في الأخبار ، أو أنّ يكون في الأمارات .

( ودعوى : إنّ سائر الأمارات المجرّدة ) عن الخبر ، كالإجماعات المنقولة على كثرتها ، والشّهرة على كثرتها ، من أوّل الفقه إلى آخر الفقه ( لا مدخل لها في العلم الاجمالي ) بوجود الاحكام ( وإنّ هنا علما إجماليا واحدا ) صغيرا فقط ( بثبوت الواقع بين الأخبار ) . ولا علم إجمالي بثبوت الواقع في الأمارات أصلاً ( خلاف الانصاف ) .

فمن أين إنحصر العلم بثبوت الواقع في الأخبار الموجودة بأيدينا ، مع إنّا نعلم بفقد كثير من الأخبار ، ممّا نحتمل إحتمالاً عقلائيا - يوجب العلم الاجمالي - بانّ جملة من تلك الأحكام مدلول تلك الاجماعات والشّهرة الموجودة ؟ .

ص: 213

وثانيا : إنّ اللاّزم من ذلك العلم الاجمالي هو العمل بالظّنّ في مضمون تلك الأخبار ، لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصّادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللّه الّذي يجب العمل به .

وحينئذٍ :

-------------------

( و ) الجواب عن إستدلال هذا المستدلّ بالدّليل العقلي المذكور (ثانيا :) إنّ قوله : يجب بحكم العقل ، العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ، غير تامّ ، ف- ( إنّ اللاّزم من ذلك العلم الاجمالي ) في الأخبار ( هو العمل بالظّنّ في مضمون تلك الأخبار ) لأنّ الظّنّ بالصّدور ليس بمهمّ ، وإنّما الظّنّ بأنّ مضمون الخبر هو حكم اللّه الواقعي هو الّذي يوجب العمل به .

فانّ مقتضى العلم الاجمالي بصدور كثير من هذه الأخبار عنهم عليهم السلام يوجب العمل بكلّ خبر ظنّ كون مضمونه حكم اللّه ، لا بكلّ خبر ظنّ صدوره مع إحتمال أن يكون مضمونه من جهة التّقيّة ، أو نحوها ، فانّنا مكلّفون بالعمل بأحكام اللّه الواقعيّة ، لا بالأحكام الوقتيّة الإضطرارية إذا مضت أوقاتها ( لما عرفت : من أنّ العمل بالخبر الصّادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللّه الّذي يجب العمل به ) .

فقد تقدّم في الجواب الأوّل : إنّ العمل بالأخبار ليس من جهة أنّها صدرت عنهم عليهم السلام ، بل من جهة أنّها أحكام اللّه الواقعيّة ، وانّما الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام طريق إلى تلك الأحكام الواقعيّة ، ونحن مأمورون بإتّباع أحكام اللّه ، لا بما صدر عنهم عليهم السلام ، ولو للتّقيّة .

وعليه : فإذا علمنا إنّ الحكم تقيّة ، لا يجب العمل به في غير حال التّقيّة ، كذلك إذا احتملنا كونه تقيّة ، فإنّه لا يجب العمل به أيضا .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان مناط وجوب العمل بالخبر ، إمتثال حكم اللّه سبحانه

ص: 214

فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ولو من جهة الشّهرة يؤخذ به ، وكل خبر لم يحصل الظّنّ بكون مضمونه حُكم اللّه لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصّدور .

فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصّدور .

وثالثا : إنّ مقتضى هذا الدّليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتّكليف ، لأنّه الّذي يجب العمل به .

وأما الأخبار الصّادرة النّافية للتّكليف ، فلا يجب العمل بها .

-------------------

وتعالى الواقعي ، لا الخبر بما هو خبر ( فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ) أي : من تلك الأخبار إنّه حكم اللّه الواقعي ( ولو من جهة ) وجود ( الشّهرة ) بين الفقهاء ، أو الإجماع المنقول ، أو ما أشبه ذلك ( يؤخذ به ) في العمل .

( وكلّ خبر لم يحصل الظّنّ بكون مضمونه حكم اللّه ) وإن كان ثابت الصّدور ، وإنّما يظنّ بأنّ مضمونه ليس حكم اللّه لموافقته للتّقيّة أو ما أشبه ( لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصّدور ) لأنّ الصّدور ليس بمهم .

( فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ) وإنّه حكم اللّه سبحانه وتعالى ( لا بظنّ الصّدور ) كما ذكره المتمسّك بالدّليل العقلي على حجّيّة الخبر ، فإنّ بين دليله هذا ، وبين حجّيّة خبر الواحد عموم من وجه .

( وثالثا : إنّ ) هذا الدّليل العقلي لا يثبت المطلوب : هو حجّيّة خبر الواحد مطلقا لأنّ ( مقتضى هذا الدّليل : وجوب العمل بالخبر المقتضي للتّكليف ) فقط ( لأنّه الّذي يجب العمل به ) حسب إستدلالكم ( وأما الأخبار الصّادرة النّافية للتّكليف ، فلا يجب العمل بها ) عندكم بينما من يقول بحجّيّة الخبر الواحد يريد : أن يكون خبر الواحد حجّة ، سواء كان نافيا للتّكليف مثل : عدم حرمة شرب

ص: 215

نعم ، يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها .

-------------------

التّتن ، أو مثبتا للتّكليف ، مثل : وجوب الدعاء عند رؤية الهلال .

حتى إذا دلّ دليل على حرمة كلّ شيء مشكوك ، يُخصّص ذلك بدليل عدم حرمة شرب التّتن ، وإذا دلّ دليل على عدم وجوب كلّ مشكوك ، يخصّص بما دلّ على وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، والحال إنّ هذا الدّليل العقلي إنّما يثبت حجّيّة ما يثبت التّكليف لا ما ينفي التّكليف .

وإنّما لا يثبت حجّيّة ما ينفي التّكليف ، لأنّ هذا الدّليل العقلي يقول : بأنا نعلم

إجمالاً بوجود تكاليف لنا ، ولذا يلزم علينا الإحتياط بكلّ مظنون الصّدور ، والحال إنّ ما ينفي التّكليف ليس من أطراف العلم الاجمالي ، فإنّه لا معنى لوجوب العمل بعدم التّكليف إحتياطا .

( نعم ، يجب الإذعان بمضمونها ) أي : بمضمون الأخبار النّافية للتّكليف والالتزام بها قلبا .

لا يقال : إنّ كلّ مظنون الصّدور النّافي للتّكليف أيضا يجب العمل به إحتياطا ، بمعنى : وجوب تصديقه وطرح الأصل المخالف له ، فيثبت حجّيّة كلّ مظنون الصّدور إحتياطا ، أما عملاً ، وامّا تصديقا .

لأنّه يقال : إنّ مقتضى كلّ خبر ظنّ صدوره بطرح الأصل المخالف له ، بل مقتضاه : التّصديق العملي .

أمّا التّصديق بالقلب لها ( وإن لم تُعرف بعينها ) فذلك شأن كلّ شيء ورد عنهم عليهم السلام ، فإنّ الانسان يجب عليه تصديق الواقع بما هو واقع ، وهذا حاصل من دون حاجة إلى الاحتياط بتصديق كلّ مظنون الصّدور .

فتحصَّل : إنّ هذا الدّليل العقلي لا يدل على حجّيّة الخبر النّافي ، بحيث

ص: 216

وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسُنَّة القطعيّة .

والحاصل : إنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلاً متبعا في مخالفة الأصول العمليّة والأصول اللفظيّة مطلقا .

-------------------

يخصّص الأصل العملي الدّال على الاشتغال ، كما لا يدل هذا الدّليل العقلي على حجّيّة الخبر النّافي للتّكليف ، بحيث يخصّص الظواهر اللفظيّة الدالة على التّكليف .

والى هذا أشار المصنّف بقوله : ( وكذلك لا يثبت به ) أي : بهذا الدّليل العقلي ( حجّيّة الأخبار على وجه ينهض ) هذا الدّليل العقلي ( لصرف ظواهر الكتاب والسُّنَّة القطعيّة ) .

مثلاً : الخبر الدّال على عدم وجوب الإستعاذة في الصّلاة ، لا يتمكن أن يطرح ظاهر قوله تعالى : « فإذا قرأتَ القُرْآنُ فَاسْتَعِذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ » (1) .

فلا يستطيع هذا الخبر أن يطرح أصالة العموم ، لأنّ الأصول اللفظيّة من الأدلّة الظّنيّة ، فلا يقدّم عليها الأصل ، أي : وجوب العمل بالخبر إحتياطا الّذي يستفاد من الدّليل العقلي المذكور .

( والحاصل : إنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلاً متبعا ) يجب على الانسان اتباعه ( في ) مقام ( مخالفة الأصول العمليّة ، والأصول اللفظيّة مطلقا ) سواء كان ذلك الخبر للتّكليف أو نافيا له .

ص: 217


1- - سورة النّحل : الآية 98 .

وهذا المعنى لا يثبت بالدّليل المذكور ، كما لا يثبت بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة بل كلّها ، فانتظر .

الثّاني : ما ذكره في الوافية ، مستدلاً على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشّيعة ، كالكتب الأربعة ، مع عمل جمع به ، من غير ردّ ظاهر ،

-------------------

( وهذا المعنى ) المطلوب من حجّيّة الخبر ( لا يثبت بالدّليل ) العقلي (المذكور) الّذي إستدل به المستدلّ وهو عبارة عن وجوب الإحتياط لأجل العلم الاجمالي . ( كما لا يثبت ) الحجّيّة المطلوبة للخبر ( بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة ، بل كلّها ، فانتظر ) فإنّ الأدلّة العقليّة الآتية لا تثبت حجّيّة الخبر مطلقا ، بل بين هذه الأدلّة وبين حجّيّة الخبر مطلقا عموم من وجه .

اللّهم إلاّ إنّ يقال : إنّه إذا ثبت حجّيّة الخبر في الجملة ، يثبت حجّيّة الخبر مطلقا - للإجماع المركّب - لأنّه أمّا أن يكون الخبر حجّة مطلقا ، وأما إنّ لا يكون حجّة مطلقا ، أمّا أن يكون الخبر المثبت للتّكليف حجّة دون الخبر النّافي للتّكليف ، فهو ممّا أجمع العلماء على خلافه .

( الثاني : ) من الأدلّة العقليّة التي ذكرت لحجّيّة خبر الواحد ( ما ذكره ) الفاضل التّوني ( في الوافية ، مستدلاً على حجّيّة ) قسم خاصّ من ( الخبر ) الواحد وهو الخبر ( الموجود في الكتب المعتمدة للشّيعة ، كالكتب الأربعة ) : الكافي ، والتّهذيب ، والإستبصار ، ومن لا يحضره الفقيه ، وما أشبه هذه الكتب ( مع عمل جمع به ، من غير ردّ ظاهر ) لذلك الخبر ، إذ لو لم يعملوا به ، أو ردوه ردا ظاهرا ، سقط عن الحجّيّة .

فإنّ صاحب الوافية إستدلّ على حجّيّة مثل هذا الخبر الجامع لما ذكره من

ص: 218

بوجوه ، قال : « الأوّل : أنّا نقطع ببقاء التّكليف إلى يوم القيامة ، سيّما بالأصول الضّروريّة ، كالصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ، ونحوها ، مع أن جُلّ أجزائها ، وشرائطها ، وموانعها ، إنّما يثبت بالخبر الواحد الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد .

-------------------

الشرائط ( بوجوه : قال ) في بيانها .

( الأوّل : انّا نقطع ببقاء التّكليف ) إلى زمان ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، حيث تظهر الحقائق في ذلك الوقت ، والتّكليف بالعبادات والمعاملات والقضاء ، والدّيّات وغيرها ، باقية على البشر ( إلى يوم القيامة ) وإن كان فرق بين بقائها إلى زمان الإمام المهدي عليه السلام ، وبين بقائها من زمان الإمام المهدي عليه السلام إلى القيامة ، حيث قد عرفت : إنّ البقاء إلى زمانه إنّما يكون عملاً بالظنون ، وما أشبه ، بينما بقائها من زمانه إلى يوم القيامة يكون عملاً بالقطعيّات .

وعلى أي حال : فالقطع بالتّكليف مسلَّم ( سيما بالأصول الضّروريّة ) حيث إنّها معلومة لكافّة المسلمين . ( كالصّلاة والزّكاة ، والصّوم ، والحجّ ، والمتاجر ، والأنكحة ، ونحوها ) من سائر الأحكام المذكورة في الكتب الفقهيّة ( مع انّ جلّ أجزائها ، وشرائطها ، وموانعها ) وقواطعها ( إنّما يثبت بالخبر الواحد غير القطعي ) فلا نقطع بهذه الخصوصيّات غالبا ، بل نظنّ بها بين الأخبار الآحاد ( بحيث يقطع : بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد ) .

فإنّا نقطع : بأنّه لو لم يؤخذ بالأخبار الدّالة على الأجزاء ، والشّرائط ، والموانع ، وسائر الخصوصيّات لخرجت الصّلاة عن حقيقة كونها صلاة ، وخرج الصّوم عن حقيقة كونه صوما ، وخرج الحجّ والزّكاة وغيرها عن هذه الحقائق ، سواء في

ص: 219

ومن أنكر فانّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان » ، انتهى .

ويرد عليه :

أوّلاً : أن العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط ، بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الاجمالي في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الاجمالي ،

-------------------

العبادات أو في المعاملات ، وهذا أمر واضح لا شك فيه ( ومن أنكر فانّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، إنتهى ) (1) .

وبهذا يستدّل على إنّه يلزم علينا : أن نعمل بالخبر الواحد ، لكن على تلك الشروط الّتي ذكرناها : بأنّ تكون في الكتب المعتبرة ، وأن لا تكون مردودة ، أو متروكة العمل .

( ويرد عليه ) :

( أولاً : إنّ العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء ، والشّرائط ) والموانع والقواطع ( بين جميع الأخبار ) الّتي نجدها في الكتب ، سواء كانت في الكتب المعتمدة : كالكتب الأربعة ، أو غيرها : كالخصال ، والأمالي ، وعيون الأخبار ، ونحوها ( لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ) بأنّ تكون موجودة في الكتب المعتمدة فقط .

( ومجرد وجود العلم الاجمالي في تلك الطائفة الخاصّة ) من الكتب ( لا يوجب خروج غيرها ) أي : سائر الكتب ( من أطراف العلم الاجمالي ) فإنّ

ص: 220


1- - الوافية : مخطوط .

كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل ، وإلاّ لما أمكن إخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلاً .

فاللاّزم حينئذٍ إمّا الإحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ،

-------------------

هناك علما إجمالي صغيرا وعلما إجماليا كبيرا والعلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصّغير ، على ما تقدّم مثله في مسألة قطيع الشّاة . ( كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه ) العقلي ( الأوّل ) فلا حاجة لتفصيل الجواب هنا .

( وإلاّ ) بان لم يكن علم إجمالي كبير في الكتب المعتمدة ، وغير الكتب المعتمدة ، غير العلم الاجمالي الصغير الّذي ادّعاه الفاضل التّوني ( لما أمكن اخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة ) من الكتب المعتمدة ( ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلاً ) - كما تقدّم سابقا - .

والحاصل : إنّ الشّاهد على إنّ العلم الاجمالي بوجود الأجزاء والشّرائط ونحوها ، غير مختص بالطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، هو إنّا لو عزلنا من الطّائفة الخاصّة بمقدار يوجب انحلال العلم الاجمالي الصّغير ، ثم ضممنا باقي هذه الطّائفة إلى أخبار سائر الكتب ، كان العلم الاجمالي بحاله باقيا ، فيدلّ ذلك على إنّ العلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصغير .

إذن : ( فاللازم حينئذٍ ) أي : حين وجود العلم الاجمالي الكبير بالنّسبة إلى الأجزاء والشّرائط في كلّ الكتب ، سواء معتمدها أو غير معتمدها ، فإنّه يجب علينا أحد أمرين :

أوّلاً : ( إمّا الإحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته )

ص: 221

وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة ، إلاّ أن يقال : إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشّروط .

وثانيا : ان مقتضى هذا الدّليل وجوب العمل بالأخبار الدّالة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما ،

-------------------

أو مانعيّته ، أو قاطعيّته ، إذا تمكّنّا من الإحتياط حسب العلم الاجمالي .

ثانيا : ( وأمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة ) أو المانعيّة ، أو القاطعيّة ، حيث إنّ الانسان إذا لم يتمكن من العمل بالعلم التّفصيلي وجب عليه العمل حسب العلم الاجمالي وإذا لم يتمكّن من العمل حسب العلم الاجمالي ، وجب عليه العمل على الظّنّ .

( إلاّ أن يقال ) في تأييد الفاضل التّوني : إنّه إنّما إدّعى حجّيّة الطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، لا من باب العلم الاجمالي ، بل من جهة ( إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو ) منحصر في الخبر ( الجامع لما ذكر من الشّروط ) من : كونه في الكتب المتعمدة مع عمل جمع به من دون ردّ ظاهر .

وذلك حين لم يمكن العمل حسب العلم الاجمالي لأنّه - مثلاً - يوجب العسر ، أو الحرج ، أو إنّه متعذّر ، أو إنّه دلّ الدّليل من الإجماع وغيره على عدم وجوبه ، وعلى هذا فلا يرد عليه النّقض بالعلم الاجمالي الكبير الّذي ذكرناه .

( وثانيا : إنّ مقتضى هذا الدّليل : وجوب العمل بالأخبار الدّالّة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما ) اذ لا معنى لوجوب العمل بالأخبار الدّالّة على عدم الشّرط وعدم الجزء ، بينما المطلوب في حجّيّة خبر الواحد :

ص: 222

خصوصا إذا اقتضى الأصل الشّرطيّة والجزئيّة .

الثّالث : ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا مطلقا ، وقد لخّصناه لطوله .

وملخصه : « أن وجوب العمل بالكتاب والسُّنَّة ثابت

-------------------

وجوب الأخذ به وطرح الأصل المخالف له ، سواء كان مثبتا للجزء والشّرط ، أو نافيا لهما . ( خصوصا إذا اقتضى الأصل : الشّرطيّة والجزئيّة ) كما إذا كان الإستصحاب يقتضي الشرطيّة والجزئيّة ، والخبر الواحد يريد نفيهما ، فإنّ العمل بالخبر النّافي ينافي الاحتياط ، إذ الاحتياط إنّما هو باتيان الشّرط ، والجزء ، لا بالعمل بالخبر الّذي يريد نفيهما .

مثلاً : إذا شكّ الانسان في حال القنوت : بانّه قرء السّورة أم لا ، فالخبر يقول : بأنه لا يلزم الاتيان بالسّورة ، والإستصحاب يقول : بلزوم الاتيان به ، فهل الإحتياط بالاتيان - كما هو مقتضى الإستصحاب - أو بعدم الاتيان - كما هو مقتضى الخبر - ؟ .

( الثّالث : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين ) للمصنّف ، وهو الشّيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم أخو صاحب الفصول ( في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا ) الظّنّ ( مطلقا ) مع إنّ دليله الّذي ذكره راجع الى دليل الانسداد المعروف ، الّذي يوجب حجّيّة الظّنّ مطلقا ، ( وقد لخصناه لطوله ) أي : لكون ما استدلّ به طويلاً لما فيه من النّقص والابرام ، لخصناه .

( وملخصه : إنّ وجوب العمل بالكتاب والسُّنَّة ثابت ) بالنسبة إلى اللّذين كانوا

ص: 223

بالإجماع ، بل الضّرورة والأخبار المتواترة ، وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة إلينا ثابت بالأدلّة المذكورة .

وحينئذٍ : فإنّ أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظّنّ الخاصّ به ، فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرّجوع

-------------------

في صدر الإسلام قطعا ( بالإجماع ، بل الضّرورة ) من الدّين ، بلا إشكال ولا خلاف من أحد من المسلمين ، بل ( والأخبار المتواترة ) لأنّ المسلمين الّذين عاصروا المعصومين عليهم السلام ، كان عليهم إنّ يأتوا بما في الكتاب والسُّنَّة من الواجبات ، ويتركوا المحرمات .

( وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة الينا ثابت بالأدلّة المذكورة ) من الإجماع والضّرورة والتّواتر ، فلم يكن الوجوب بالنّسبة إلى المعاصرين للمعصومين عليهم السلام فقط ، بل التّكليف ممتد إلينا وإلى يوم القيامة .

( وحينئذٍ : فإنّ أمكن الرّجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم ) فاللاّزم العمل بذلك الحكم الحاصل منهما على وجه العلم ( أو ) يحصل منهما ( الظّنّ الخاص به ) أي : بالحكم ، بأنّ قام الدّليل الخاصّ على اعتبار الظّنّ الحاصل من القرآن ، والأخبار ، مثل حجّيّة خبر الواحد ، وقد قرِّر - في محله - : إنّ العلمي كالعلم في وجوب الأخذ بأحدهما ، لا إنّه مادام يمكن العلم لا يجوز الأخذ بالعلمي .

وعلى أي حال : فإنّ تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالحكم من الكتاب والسّنّة ، أو الظّنّ الخاصّ بالحكم منها ( فهو ، وإلاّ ) بأنّ لم يتمكن من تحصيل العلم ، ولا من تحصيل الظّنّ الخاصّ بالحكم منهما ( فالمتبّع ) عقلاً ( هو الرّجوع

ص: 224

إليهما على وجه يحصل الظّنّ منهما » هذا حاصله .

وقد أطال قدس سره ، في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب .

ويردُ عليه : أن هذا الدّليل بظاهره عبارة أُخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا .

-------------------

إليهما على وجه يحصل الظّنّ ) المطلق ( منهما ) (1) بالحكم سواء كان الظّنّ من الخبر الواحد ، أو من الشّهرة ، أو من الإجماع المنقول ، أو غير ذلك ، باستثناء الظنون الخارجة بالنصّ والإجماع ، كالقياس - على ما سيأتي تفصيله في دليل الانسداد انشاء اللّه تعالى - .

وإنّما نرجع إلى العقل في وجوب تحصيل الظّنّ ، لأنّ صدق الإطاعة والمعصية مرتبط بالعقل ، كما حُقق في محله .

( هذا حاصله ، وقد أطال قدس سره في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب ) ممّا نحن في غنى عن ذكرها .

( ويرد عليه : إنّ هذا الدّليل بظاهره عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا ) حيث قال بعضهم : بأن نتيجة دليل الانسداد : حجّيّة الظّنّ مطلقا من أي سبب حصل ، وبأي شيء تعلق ، وقال بعضهم : بأنّ النّتيجة : هي حجّيّة الظّنّ في الجملة لا مطلقا .

وعليه : فليس هذا الدّليل دالاً على حجّيّة الخبر فقط ، بل يدل على حجّيّة الظّنّ مطلقا ، سواء حصل من الخبر أو من غير الخبر ، كالإجماع ، والشّهرة ، ونحوهما .

ص: 225


1- - هداية المسترشدين : ص 391 .

وذلك لأنّ المراد بالسُّنَّة هي قول الحجّة أو فعله أو تقريره .

فإذا وجب علينا الرّجوع إلى مدلول الكتاب والسُّنَّة ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السُّنَّة تعيّن الرّجوع بإعتراف المستدلّ إلى ما ظنّ كونه مدلولاً لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشّهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره وجب الأخذ به ،

-------------------

( وذلك ) أي : بيان إنّ هذا الدّليل عين دليل الإنسداد هو ( لأنّ المراد بالسُّنَّة هي : قول الحجّة أو فعله ، أو تقريره ) لا مجرّد الخبر ، ومن المعلوم : إنّ قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، قد يظنّ بها بسبب الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في الكتب ، وقد يظنّ بها بسبب إجماع ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك ، فمن أين تخصيص هذا الدّليل بالظّنّ الحاصل من الأخبار الواردة ، مع إنّ هذا الدّليل يقتضي حجّيّة الظّنّ بفعل المعصوم ، أو قوله ، أو تقريره ، من أي سبب كان ، بسبب الخبر أو غير الخبر ؟.

( فإذا وجب علينا الرّجوع إلى ) الحكم الّذي هو ( مدلول الكتاب والسُّنَّة ، ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما ) أي : إلى الحكم الّذي ( علم إنّه مدلول الكتاب أو السُّنَّة ) بأن لم نعلم إنّ هذا مدلول الكتاب لعدم قطعيّة دلالته ، أو لم نعلم إنّ هذا مدلول الخبر لعدم قطعيّة صدوره ، أو إنّه صدر ولم نعلم إنّه للتقيّة أو لبيان الحكم الواقعي ( تعيّن الرّجوع بإعتراف المستدلّ ) وهو صاحب الحاشية ( إلى ما ) أي : إلى الحكم الّذي ( ظنّ كونه مدلولاً لأحدهما ) سواء كان هذا الظّنّ - الحاصل - بحكم الكتاب أو من الأخبار ، أو غيرهما .

( فإذا ظننّا إنّ مؤدّى الشّهرة ، أو معقد الإجماع المنقول ) - مثلا - ( مدلول للكتاب ، أو لقول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، وجب الأخذ به ) أي : بذاك

ص: 226

ولا اختصاص للحجّيّة بما يظنّ كونه مدلولاً لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها الّتي تسمى خبرا وحديثا في الإصطلاح .

نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل الظّنّ الحاصل بحكم اللّه من أمارة لا يظنّ كونه مدلولاً لأحد الثّلاثة .

-------------------

المؤدّى ( ولا اختصاص للحجّيّة بما ) أي : بحكم ( يظنّ كونه مدلولاً لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها ) أي : أحد الثّلاثة من قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره .

والحاصل : إنّه لا يختص وجوب العمل بالأحكام الموجودة في الكتاب والسُّنَّة ، بصورة حصول الظّنّ بها من طريق نفس الكتاب ، أو من طريق الأخبار الّتي تحكي السُّنَّة ، بل إذا حصلنا على مدلول الكتاب ، أو على قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، من طريق الإجماع ، أو من طريق الشّهرة ، أو غيرهما ممّا يوجب الظّنّ ، وجب علينا العمل بذلك أيضا ، فلا اختصاص لهذا الدّليل بحكاية أحدها ( الّتي تسمى خبرا وحديثا في الإصطلاح ) الفقهي ، وبذلك يثبت حجيّة مطلق الظّنّ ، لا الظّنّ الحاصل من الخبر .

( نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل ) أى : دليل الانسداد الدّال على وجوب العمل بأحكام الكتاب والسُّنَّة ( الظّنّ الحاصل بحكم اللّه من أمارة لا يظنّ كونه مدلولاً لأحد الثّلاثة ) من قول المعصوم أو تقريره أو فعله .

وإن شئت قلت : يخرج عن دليل الانسداد أمران :

الأوّل : الظّنّ بحكم اللّه الّذي نعلم إنّه لم يرد فى الكتاب ، ولا عن طريق الأئمّة عليهم السلام .

الثّاني : الظّنّ بحكم اللّه الّذي لا نعلم هل ورد في الكتاب ، أو عن

ص: 227

كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الإستقراء أنّ الحكم كذا عند اللّه ولم يظنّ بصدوره عن الحجّة أو قطعنا بعدم صدوره عنه عليه السلام ، إذ رُبّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح .

-------------------

طريقهم عليهم السلام أم لا ؟ .

وإنّما يختصّ هذا الدّليل بما إذا ظننّا بالحكم الّذي ورد في الكتاب أو عن طريقهم ، فإنّ الواجب هو العمل بالكتاب والسُّنَّة فقط ، فإذا علمنا بذلك فهو ، وإلاّ قام الظّنّ المطلق مقام العلم .

( كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الإستقراء : إنّ الحكم كذا عند اللّه ) سبحانه وتعالى ( و ) لكن ( لم يظنّ ) بوجود هذا الحكم المستفاد من الأولويّة أو الإستقراء في الكتاب ، ولا ( بصدوره عن الحجّة ) عليه السلام ، ( أو قطعنا بعدم ) وجوده في الكتاب ، وبعدم ( صدوره عنه عليه السلام ) .

أمّا مثال الأولويّة العقليّة : فهو إنّه إذا كان قطع الثّلاثة من أصابع المرأة يوجب ثلاثين من الإبل ، لكان الأولى في الأربعة من أصابعها ثلاثين أو أكثر .

وأمّا مثال الإستقراء : فهو كما إذا قلنا بأنّ مقدمة الحرام حرام ، لأنّه استقرأنا فرأينا إنّه يحرم بيع السّلاح لأعداء الدّين ، وبيع العنب لمن يعمله خمرا ، وسوء الظّنّ بالمؤمن ، لأنّه يودي إلى القطيعة ، وهكذا .

وعلى أي حال : فإنّ الدّليل المذكور لا يدلّ على حجيّة أمثال هذه الظّنون ، وإنّما يدلّ على حجيّة الظّنّ المستفاد من الكتاب ، أو من السُّنَّة ( إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح ) ويكون ممّا سكت اللّه عنه ، كما ورد في الحديث : « اسكُتُوا عَمَّا سَكَتَ اللّهُ

ص: 228

لكن هذا نادر جدا ، للعلم العادي بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو بيان الحجّة قولاً أو فعلاً أو تقريرا .

فكلّما ظنّ من أمارة بحكم اللّه تعالى ، فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم .

والحاصل : انّ مطلق الظّنّ بحكم اللّه ظنّ بالكتاب أو السُّنَّة ،

-------------------

عَنْهُ » (1) وكما جاء في بعض الأخبار : من إنّ الإمام المهدي « عجل اللّه تعالى فرجه » عندما يظهر ، يظهر بعض الأحكام .

( لكن هذا ) الحكم الواقعي المسكوت عنه ، الّذي لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة ( نادر جدا ، للعلم العادي بأن هذه المسائل العامّة البلوى ) الّتي يكثر الإبتلاء بها ( قد صدر حكمها في الكتاب ، أو بيان الحجّة ) بيانا ( قولاً ، أو فعلاً ، أو تقريرا ) .

ومن أمثلة ذلك النّادر : إنّ الإمام المهدي « عجل اللّه تعالى فرجه » ، يحكم بين النّاس بعلمه الواقعي كحكم داود ، وإنّه يقتل مانع الزّكاة ، وما إلى ذلك .

وعليه : ( فكلّما ) حصل للفقيه ( ظنّ من أمارة ) كتابا كان أو خبرا أو إجماعا أو غير ذلك ( بحكم اللّه تعالى ) الواقعي ( فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم ) في الكتاب أو السُّنَّة ، وإن كان لا يفهم ذلك من الكتاب ، لأنّه يحتاج إلى بيان المعصومين ، أو لم تصل السُّنَّة به ، لأنّ كثيرا من السُّنَّة لم تصلنا بسبب أعداء الدّين والجهّال .

( والحاصل : إنّ مطلق الظّنّ بحكم اللّه ) من أي طريق حصل ولو من الإستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو ما أشبه ذلك ، فهو ( ظنّ بالكتاب أو السُّنَّة ،

ص: 229


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .

ويدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبار الكتاب والسُّنَّة الظّنيّة .

فإنّ قلت :

-------------------

ويدلّ على اعتباره ) أي : اعتبار مطلق الظّنّ بحكم اللّه سبحانه ( ما دلّ على اعتبار ) الظّنّ الحاصل من نفس ( الكتاب والسُّنَّة الظّنيّة ) .

فإنّ انسداد باب العلم - على تفصيل يأتي انشاء اللّه تعالى - يدلّ على إنّ مطلق الظنون حجّة ، حتّى أنّ بعضهم قال : إنّ الظّنّ القياسي في حال الانسداد أيضا حجّة .

( فإنّ قلت : ) لا يخفى : إنّ صاحب الحاشية قال : الأحكام ثابتة لنا ، ومصدر الأحكام : الكتاب والسُّنَّة ، فإنّ أمكن العلم أو العلمي بالحكم منهما وجب تحصيله منهما بالعلم أو العلمي ، وإلاّ وجب تحصيله منهما بالظّنّ ، فالخبر الواحد المظنون صدوره أو دلالته ، أو مضمونه ، حجّة .

وأشكل عليه المصنّف : بأن هذا الدّليل يدلّ على حجيّة مطلق الظّنّ بأحكام اللّه ، لا الظّنّ الحاصل بالحكم من خصوص الكتاب والسُّنَّة فقط ، بل الظّنّ بحكم اللّه الحاصل من الشّهرة ، أو الإجماع المنقول ، أيضا حجّة في حال الانسداد .

ثمّ إنّ المصنّف بقوله : « فإنّ قلت » أشكل على جوابه بما حاصله : إنّ صاحب الحاشية يريد إنّ الواجب علينا بالضّرورة والإجماع : هو الرّجوع إلى الأخبار فإذا حصل لنا العلم بتلك الأخبار سندا ودلالة ومضمونا ، فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليها رجوعا ظنّيا ، فليس مقتضى دليله : إنّ مطلق الظّنّ حجّة حتّى تقولون إنّه ليس خاصّا بالأخبار .

ثمّ أجاب المصنّف عن هذا الإشكال بجوابين :

ص: 230

المراد بالسُّنَّة الأخبار والأحاديث .

والمراد إنّه يجب الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة عنهم ، فإنّ تمكّن من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم .

قلت :

-------------------

أوّلاً : السُّنَّة نفس قول المعصوم ، أو تقريره ، لا الخبر الحاكي للثّلاثة ، فليس الخبر سنّة ، فلماذا جعل صاحب الحاشية الخبر سنّة ؟ .

ثانيا : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ليس عليها ضرورة أو اجماع ، وإنّما الضّرورة والإجماع في الرّجوع إلى قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره ، فكيف قال صاحب الحاشية : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ضروري وإجماعي ؟ .

إذا ظهر ذلك رجعنا إلى توضيح المتن حيث يقول « فإنّ قلت » : ( المراد ) لصاحب الحاشية ( بالسُّنَّة ) الّتي ادّعى وجوب العمل بها للإجماع والضرورة والتّواتر هي ( : الأخبار والأحاديث ) المصطلحة الواصلة إلينا ، فيكون الظّنّ بها قائما مقام العلم والعلمي ، عند فقد العلم والعلمي .

( و ) كذا ( المراد ) لصاحب الحاشية من كلامه ذلك ( : إنّه يجب الرّجوع إلى ) الكتاب و ( الأخبار المحكية عنهم ) عليهم السلام ( فإنّ تمكّن ) المكلّف ( من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم ) بأن علم بمراد القرآن وعلم بالصّدور ، والدّلالة ، والمضمون الواقعي للأخبار لا إنّه لتقيّة ( فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم ) لانّ الظّنّ قائم مقام العلم والعلمي عند تعذّرهما .

( قلت : ) إنّه كما مرّ قد أجاب بجوابين :

ص: 231

مع انّ السُّنَّة في الإصطلاح عبارة عن نفس قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، لا حكاية أحدها ، يرد عليه : انّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكية ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضّرورة الثّابتة من الدّين أو المذهب .

وأمّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين الّتي إدّعاها المستدلّ ،

-------------------

أوّلاً : ( مع إنّ السُّنَّة في الإصطلاح ) الفقهائي ( عبارة عن نفس قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكاية أحدها ) فليست الرواية سنّة ، وإنّما السُّنَّة هو المحكي ، لا الحاكي .

ثانيا : إنّه ( يرد عليه : ) أي : على مراد صاحب الحاشية : بأنّا نسلّم ( إنّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكيّة ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على ) وجوب ( الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع ) والتواتر ( والضّرورة الثابتة من الدّين ) عند عامّة المسلمين فقد قامت عندهم الضّرورة على الرّجوع إلى قول الحجّة ( أو المذهب ) فإنّ الخاصّة أيضا مجمعون على هذا الأمر ( وامّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين ) أو المذهب ( الّتي إدّعاها المستدلّ ) .

وعليه : فالأخبار الحاكية ، ما كان منهما متواترا ، أو محفوفا بقرائن قطعيّة ، دخلت في السُّنَّة ، ودلّ على وجوب العمل بها ما دلّ على وجوب العمل بالسُّنَّة ، إذ الإجماع والضّرورة والتّواتر كما دلّت على وجوب العمل بقول المعصوم ،

ص: 232

فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلاّمة في مقابل السّيد وأتباعه قدس سرهم .

وأمّا دعوى الضّرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما إدّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها ؟ ولعلّ هذه الدّعوى قرينة على أنّ مراده من السُّنَّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا حكايتها الّتي لا توصل

-------------------

أو فعله أو تقريره ، كذلك دلّت على وجوب العمل بالأخبار الحاكية القطعيّة ، وامّا ما كان من الأخبار ظنّيّا ، فلا يدخل في السُّنَّة ، ولا يجب العمل بها ، ولم يقم على وجوب العمل بها إجماع ولا ضرورة ولا تواتر .

( فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلاّمة في مقابل السيد وأتباعه قدس سرهم ) فقد ادّعى الشّيخ والعلاّمة - كما مرّ - الإجماع على العمل بالأخبار الخاصّة ، وهذا إجماع من الإماميّة فقط ، لا إجماع من المسلمين كافّة .

( واما دعوى الضرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما ادّعاها المستدلّ ) وهو الشّيخ محمّد تقي ( فليست في محلّها ) فإنّ المستدلّ إدّعى الإجماع والضّرورة والتّواتر على وجوب العمل بالسُّنَّة ، والحال إنّه لا ضرورة ولا تواتر .

نعم ، الإجماع ، إمّا ادعاؤه الضّرورة والتّواتر ، فليس في محله .

( ولعلّ هذه الدّعوى ) الّتي إدّعاها المستدلّ من الضّرورة والأخبار المتواترة ( قرينة على انّ مراده ) أي : مراد المستدلّ وهو صاحب الحاشية ( من السُّنَّة : ) معناها المصطلح ، أي : ( نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكايتها ) أي : لا الأخبار الّتي هي حكاية للسُّنَّة الواقعيّة ( الّتي لا توصل ) تلك الأخبار

ص: 233

إليها على وجه العلم .

نعم ، لو إدّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات الغير العلميّة لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة .

يرد عليه :

-------------------

المكلّف ( إليها ) أي : إلى السُّنَّة الواقعيّة ( على وجه العلم ) وإنّما الأخبار تكون طريقا ظنّيّا إلى قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره .

( نعم ) لا بأس بكلامه ( لو إدّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات غير العلميّة ) وهي الأخبار ( لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة ) فانّه لا شكّ في وجوب الرّجوع إلى الأخبار ، من جهة إنّ في طرحها يلزم الخروج من الدّين ، فيكون في ادّعاء الضّرورة عليه لأجل الانسداد وجه .

أمّا الرّجوع إلى الأخبار من حيث انّها أخبار ظنّيّة ، فلا إشكال في إنّه لا يصحّ دعوى الضّرورة عليه لأجل الانسداد .

لكن ( يرد عليه : ) إنّ دعواه هذه بقوله : « نعم » عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، وليس دليلاً جديدا ، فانّه فرق بين أنّ يكون هذا الدّليل العقلي الّذي ذكره لأجل حجيّة الخبر بما هو خبر ، أو لأجل حجيّة الظّنّ بما هو ظنّ ممّا هو أعمّ من الخبر .

فإنّ كان مراد المستدلّ الانسداد الكبير ، وهو : أنّ نعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في الواقع ثابتة علينا ، ولا طريق لنا إلى العلم بها تفصيلاً ، ولا إلى العلمي القائم مقام العلم ، والاحتياط في الكلّ حرج أو متعذّر ، والرّجوع إلى البرائة وطرح هذه الأخبار موجب للخروج من الدّين ، فيجب الأخذ بها بالضّرورة ، حذرا من المحذور ، وتقديما للظّنّ على الشّكّ والوهم ، وهذا دليل الانسداد بعينه ، وليس

ص: 234

أنّه إنّ أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم ، بمطابقة كثير منها للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ؛ فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الّذي ذكروه لحجيّة الظّنّ ، ومفاده ليس إلاّ حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي .

وان أراد لزومه من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار

-------------------

دليلاً عقليّا في قِبال دليل الانسداد .

وذلك ( إنّه ) أي : المستدلّ ( إن أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم بمطابقة كثير منها ) أي : من هذه الأخبار ( للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد ) المعروف الّذي يأتي الكلام فيه .

ودليل الانسداد هو ( الّذي ذكروه لحجية الظّنّ ) مطلقا ، سواء كان في الأخبار أو في غير الأخبار ، بل قد عرفت : إنّ بعضهم قال بحجية الظّنّ عند الانسداد ، حتى إذا كان مستفادا من القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو غيرها .

( ومفاده ) أي : مفاد دليل الانسداد الكبير ، الدّال على حجيّة مطلق الظّنّ - لا الانسداد الصغير الدّال على حجيّة خبر الواحد فقط - ( ليس إلاّ حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التّكليف الواقعي ) سواء كان خبرا أو غير خبر .

( وإن أراد لزومه ) أي : لزوم الخروج من الدّين ، لأجل الانسداد الصّغير الدّال على حجيّة الخبر فقط ، وذلك ( من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار ) الّتي بأيدينا ، وحيث لا طريق عقلاً للعلم بها تفصيلاً ، فالأخذ

ص: 235

حتى لا يثبت بها غير الخبر الظّنّي من الظنون ليصير دليلاً عقليّا على حجيّة الخبر ، فهذا الوجه يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ، فراجع .

هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر ، وقد علمت دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر .

-------------------

بمظنون الصّدور جميعا للضّرورة ( حتّى لا يثبت بها ) أي : بجهة العلم الاجمالي هذا ، حجيّة ( غير الخبر الظّنّي من الظنون ) الّتي مبعثها مثل الشّهرة ، والإجماع ، وغير ذلك ( ليصير ) العلم الاجمالي المذكور ( دليلاً عقليا على حجيّة الخبر ) بخصوصية فقط ، وهذا هو ما سميناه بالانسداد الصّغير .

وعليه : ( فهذا الوجه ) العقلي الّذي ذكره صاحب الحاشية لحجّيّة الخبر ( يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ) من إنّ وجوب العمل بالأخبار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ، إنّما هو من جهة وجوب العمل بأحكام اللّه سبحانه ، لا بما انّها أخبار ، فإنّ الواجب على الانسان العمل بأحكام اللّه ، فإنّ إستطاع تحصيل العلم بها فهو ، وإلاّ فعند إنتفاء العلم يجب العمل بكلّ أمارة يظنّ كون مضمونها الحكم الصّادر عنهم .

وعلى أي حال : فهذا الدّليل إمّا راجع إلى دليل الانسداد الآتي ، وأمّا راجع الى الدّليل الأوّل المتّقدم ، وليس دليلاً جديدا ( فراجع ) ما ذكرناه في الدّليل الأوّل ، وكذا ما سنذكره في دليل الانسداد لترى صحّة ذلك انشاء اللّه تعالى .

( هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر ) بما هو خبر ، من الكتاب ، والسُّنَّة ، والإجماع ، والعقل ( وقد علمت : دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر ) ممّا تقدّم تفصيل الكلام فيه ، وذكرنا : إنّ جملة ممّا قال المصنّف

ص: 236

والإنصاف : أنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والإطمئنان بمؤدّاه ، وهو الّذي فُسّر به الصّحيح في مصطلح القدماء .

والمعيار فيه أنّ يكون إحتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد الّذي لا ينافي حصول مسمّى الرّجحان ،

-------------------

بعدم دلالته ، له دلالة .

هذا ( والإنصاف : إنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والإطمئنان بمؤدّاه ) أي : مضمونه ، سواء من جهة السّند ، أو من جهة المضمون ، وإن لم يكن الرّاوي عدلاً ضابطا إماميّا ( وهو الّذي فسّر به الصّحيح ) من الخبر ( في مصطلح القدماء ) فإنّ الصّحيح في مصطلح القدماء هو ما يوجب الوثوق ، وأمّا الصّحيح في مصطلح المتأخّرين فهو ما كان سنده عدلاً ضابطا إماميّا فقط .

إذن : فالصّحيح في مصطلح المتأخّرين ، أخصّ من الصّحيح في مصطلح القدماء ، وربّما يقال : بأنّ بينهما عموم من وجه - كما ألمعنا إلى ذلك سابقا - .

( والمعيار فيه ) أي : فيما يفيد الوثوق والإطمئنان ممّا هو حجّة ( : أنّ يكون احتمال مخالفته ) أي : مخالفة الخبر ( للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به ) أي : بذلك الإحتمال ( العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد ) في الأمر .

وذلك هو ( الّذي لا ينافي حصول مسمى الرّجحان ) فإنّ الوثوق هو عبارة : عمّا يعمل به العقلاء في كافة أمورهم وإن احتملوا خلافه إحتمالاً بعيدا ، فإنّ من يراجع الطّبيب ، يثق به وإن احتمل اشتباهه في تشخيص المرض ، أو الدّواء ، ومن يسافر بالباخرة أو الطّائرة أو السّيّارة ، يثق بها وبمن يسوقها وان احتمل اشتباه

ص: 237

كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي في شكوك الصّلاة ، فافهم .

وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد .

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

اشارة

فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدّليل وإن اقتضاها دليل آخر ،

-------------------

السّائق أو عطب الآلة في أثناء الطّريق ، وهكذا .

وهذا المعيار هو جار لمن يعمل بالخبر الواحد الّذي يثق به ، فإنّ بعض الوثوق المذكور لا يبقي للانسان تحيّر وتردد ( كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي ) والتّفكّر ( في شكوك الصّلاة ) فانّه حيث يثق بأحد الطّرفين بعد التّروي يمضي عليه ، وإن كان يحتمل الطّرف الآخر أيضا إحتمالاً ضعيفا ، لكن مثل هذا الاحتمال الضّعيف ليس مورد إتّباع العقلاء .

( فافهم ) ذلك الّذي ذكرناه من مسألة كفاية الوثوق .

( وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد ) عند بيان دليل الانسداد ، كي ترى ؛ هل إنّ الظّنون الخاصّة كافية لسدّ هذا الإحتياج أم لا ؟ والحمد للّه ربِّ العالمين

وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين .

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

هذا ، وقد عرفت تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر بما هو خبر ، ( فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر ) أي سواء كان الظّنّ حاصلاً من الخبر أو من غير الخبر ، وذلك بصورة ( يقتضيها ) أي : يقتضي تلك الحجّيّة ( نفس الدّليل ) فإنّ نفس هذه الأدلّة الّتي نذكرها لا تقتضي حجيّة الخبر بخصوصه ( وإن اقتضاها ) من الخارج ( دليل آخر ) ،

ص: 238

وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل إذا فرض إنّه لا يثبت إلاّ الظّنّ في الجملة ولا يثبته كليّة ، و هي أربعة :

الاوّل :

إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ،

-------------------

فيكون هناك دليلان : أوّلاً : دليل يدلّ على حجيّة الظّنّ مطلقا .

ثانيا : دليل يدلّ على حجيّة الخبر بصورة خاصّة .

وبإنضمام أحد الدّليلين إلى الآخر تكون النّتيجة حجيّة الخبر .

( وهو ) أي : الدّليل الآخر ( كون الخبر مطلقا ) بكلّ أفراده ( أو خصوص قسم منه ) أي : من الخبر ، كخبر الثّقة ، أو كخبر العدل الضّابط الإمامي ، أو ما أشبه ذلك ( متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل ) أي : الدّليل الآخر .

لكن انّما نذهب إلى قسم ما تيقّن ثبوته ( إذا فرض إنّه ) أي : إذا فرض إنّ الدّليل على حجيّة الظّنّ ( لا يثبت إلاّ الظّنّ في الجملة و ) إنّه ( لا يثبته ) أي : الظّنّ ( كلّيّة ، و ) عموما .

والحاصل : إنّ الدّليل الدّال على حجيّة الظّنّ مطلقا ، شمل الخبر وغير الخبر ، فلا يكون ذلك الدّليل دليلاً على حجيّة الخبر فقط ، وإن أفاد ذلك الدّليل حجيّة الظّنّ في الجملة ، أخذنا منه القدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن هو الخبر أمّا مطلقا بكلّ أفراد الخبر ، أو بعض أقسام الخبر - على ما قد عرفت - .

ثمّ إنّ الأدلّة الّتي أقاموها على حجّيّة الظّنّ مطلقا ( هي أربعة ) أدلّة :

( الأوّل : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ، مظنّة للضّرر ) فإذا ظنّ المجتهد وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، كان معناه : إنّه إذا ترك الدّعاء وقع في العقاب ، وإذا ظنّ حرمة شرب التّتن ، ثمّ خالف وشربه ظنّ

ص: 239

ودفع الضّرر المظنون لازم .

أمّا الصّغرى ، فلأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بإستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ظنّ بإستحقاق العقاب على الفعل ؛ أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل ، بناءا على قول « العدليّة » بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد . وقد جعل في النّهاية كلاً من الضّررين

-------------------

بالعقاب ، وهو ضرر ( ودفع الضّرر المظنون لازم ) بحكم العقل .

( أمّا الصّغرى ) وهي ما ذكره بقوله : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه ( فلأنَّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بإستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بإستحقاق العقاب على الفعل ) لأنّ الوجوب ما في تركه العقاب ، والحرمة ما في فعلها العقاب ( أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل ) لأنّ الواجبات إنّما تكون واجبات لما فيها من المصالح الممنوعة التّرك ، والمحرّمات إنّما تكون محرّمات لما فيها من المفسدة الممنوعة الإتيان .

وذلك ( بناءا على قول العدليّة بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ) دون الأشاعرة ، إذ الأشاعرة يرون الدّليل الأوّل وهو : إنّ في ترك الواجب وفعل الحرام العقاب ، ولا يرون الدّليل الثّاني وهو : إنّ في الواجب مصلحة ملزمة ، وفي الحرام مفسدة ملزمة .

وإنّما يرى الدّليل الثّاني - إضافة إلى الدّليل الأوّل - العدليّة فقط ، وهم الشّيعة والمعتزلة ، القائلون بعدالة اللّه سبحانه وتعالى ، ولهذا سموا بالعدليّة .

( وقد جعل في النّهاية كلاً من الضّررين ) : إستحقاق العقاب ، ووجود

ص: 240

دليلاً مستقلاً على المطلب .

وأجيب عنه بوجوه :

أحدهما : ما عن الحاجبي ، وتبعه غيره ، من منع الكبرى ، وإن دفع الضّرر المظنون

-------------------

المفسدة ( دليلاً مستقلاً على المطلب ) وهو لزوم عمل المجتهد بما ظنّه واجبا ، وتركه لما ظنه حراما .

ولا يخفى : إنّه حيث كان اثبات الكبرى وهو : لزوم دفع الضّرر المحتمل ودفع المفسدة المحتملة واضحا ، لم يتعرّض المصنّف للكلام فيهما ، لوضوح : إنّ العقلاء يفرّون من مظانّ الضّرر الكثير ، سواء كان ضررا دنيويا أو ضررا أخرويا ، وعليه بنى العقلاء إثبات وجوب معرفة الصّانع المتوقف على شكر المنعم ، وكذا وجوب النّظر إلى المعجزة - ممّا سيأتي في كلام المصنّف - .

( وأجيب عنه ) أي : عن هذا الدّليل ( بوجوه ) متعدّدة :

( أحدهما : ما عن الحاجبي ) وهو من أعاظم علماء العامّة في الأصول ( وتبعه غيره ، من منع الكبرى ) الّتي كانت تقول : بأن دفع الضّرر المظنون بحكم العقل واجب ، وإنّما منع الكبرى لأمرين :

الأوّل : إنّ الأشعري لا يقبل الحُسن والقبح العقليين ، وإذا لم يكن حسن وقبح عقلي ، فلا وجوب ولا حرمة ، وعليه : فلا لزوم في دفع الضّرر المحتمل ، لأنّ دليل الوجوب هو الحسن العقلي .

الثّاني : إنّه على فرض حسن دفع الضّرر المحتمل ، وقبح عدم الدّفع ، فهو أمر مستحسن لا واجب .

وقد أشار المصنّف إلى الدّليل الأوّل بقول : ( وإنّ دفع الضّرر المظنون ) إنّما

ص: 241

إذا قلنا بالتّحسين والتّقبيح العقليين إحتياط مستحسن ، لا واجب .

وهو فاسدٌ ، لأنّ الحكم المذكور حكم إلزامي أطبق العقلاء على الإلتزام به في جميع أمورهم وذمّ من يخالفه .

ولذا إستدل به المتكلّمون في وجوب شكر المنعم ، الّذي هو مبنى وجوب معرفة اللّه تعالى ،

-------------------

هو ( إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين ) .

كما وأشار إلى الدّليل الثّاني بقوله : إنّ الدفع هذا ( إحتياط مستحسن ، لا واجب ) ومعنى الاحتياط : إنّ الانسان يحوط نفسه عن أن يصيبه المكروه .

( وهو ) أي : منع الحاجبي الكبرى ( فاسد ) قطعا ( لأنّ الحكم المذكور ) أي : لزوم دفع الضّرر المحتمل ( حكم إلزامي ) لا إستحساني - كما قاله الحاجبي - وقد ( أطبق العقلاء على الإلتزام به في جميع أمورهم ) المرتبطة بدينهم أو دنياهم عند المتديّنين منهم .

أمّا غير المتديّنين فانّهم يعتمدونه في جميع أمور دنياهم الفردية ، والإجتماعية ، وغيرها .

( و ) كذا أطبقوا على ( ذمّ من يخالفه ) أي : من يخالف لزوم دفع الضّرر المحتمل .

( ولذا إستدل به ) أي : بوجوب دفع الضّرر المحتمل ( المتكلّمون في وجوب شكر المنعم ، الّذي هو مبنى وجوب معرفة اللّه تعالى ) فإنّهم قالوا بتوضيح منّا وتلخيص :

يجب معرفة اللّه تعالى ، لأنّه لولا المعرفة لم يؤد حقّ شكره تعالى ، وإذا لم يؤدّ

ص: 242

ولولاه لم يثبت وجوب النّظر في المعجزة

-------------------

شكره ، إحتمل قطع النّعم في الدّنيا أو في الآخرة ، وقطع النّعم ضرر عظيم ، ودفع الضّرر المحتمل واجب بحكم العقل .

فاللاّزم : المعرفة حتى يؤدي شكره ، فإذا شكر لم تنقطع النّعمة إنقطاعا قطعا ، أو إنقطاعا إحتمالاً .

لا يقال : إنّا نرى المنكرين للّه تعالى لا تنقطع عنهم نعمهم .

لأنّه يقال : ولهذا ذكرنا : إحتمال قطع النّعم في الدّنيا أو في الآخرة .

لا يقال : المنكر للآخرة لا مجال لمثل هذا الاستدلال بالنّسبة إليه .

لانّه يقال : مجرد إحتماله للآخرة وإحتماله قطع النّعم فيها بسبب عدم شكره كافٍ لوجوب شكره ، ولا شكّ إنّ المنكرين للآخرة - إلاّ ما شذّ منهم - يحتملون صدق الآخرة ، ولذا قال الإمام عليه السلام في شعره منسوب إليه :

قَالَ المُنجِّم والطَّبيبُ كِلاَهُمَا *** لَنْ يُحْشَرَ الأَمْوَات قُلتُ إليكُما

إن كان قولُكُما فَلَسْتُ بخاسرٍ *** أَوْ كانَ قولي بالخَسارةِ عَليكَما.

( ولولاه ) أي : لولا وجوب دفع الضّرر المحتمل ( لم يثبت وجوب النّظر في المعجزة ) فإنّ الّذين يعاصرون رسالة الأنبياء ، إمّا يظنون صدق الأنبياء في دعواهم ، أو يحتملون فيهم ذلك ، فترك النّظر في معاجزهم يستلزم الضرر على سبيل الظّنّ على الأوّل ، وعلى سبيل الاحتمال المظنون ودفع الضّرر المحتمل ، لزم إفحام الأنبياء ، فإنّ سلاح الأنبياء هو التخويف بالعقاب ، أمّا الثّواب ، فنادرا ما يحرّك الانسان ، بدليل إنّ الغالب من المتدينين لا يصلّون صلاة الليل ،

ص: 243

ولم يكن للّه على غير النّاظر حجّة .

ولذا خصّوا النّزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلات العقليّة بما كان مشتملاً على منفعة ، وخاليا عن أمارة المفسدة ، فانّ هذا التقييد يكشف عن أنّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه .

-------------------

ولا يصومون الأيّام المستحبّة ، مع كثرة الثّواب عليهما ، مع إنّهم لا يتركون الفرائض ويصومون شهر رمضان ، لأنّ في تركهما العقاب .

( ولم يكن للّه على غير الناظر حجّة ) لأنّ اللّه تعالى إذا قال للنّاس : لماذا لم تصدّقوا الأنبياء ؟ قال النّاس : لأنّا كنّا نشكّ في صدقهم ، فيقول اللّه لهم ، ألا أنّكم كنتم تحتملون الضّرر في ترك تصديقهم والنّظر في معجزتهم ، ودفع الضّرر المحتمل بحكم عقولكم واجب ، فإذا لم يكن دفع الضّرر المحتمل بحكم العقل واجبا ، لم يكن للّه أن يحتج عليهم .

( ولذا ) أي : لأجل هذا الّذي ذكرناه : من وجوب دفع الضّرر المحتمل عقلاً ( خصّوا ) أي : العلماء ( النّزاع في الحظر والإباحة : في غير المستقلات العقليّة ) فان هناك نزاعا بين العلماء في انّ الأصل في الأشياء : هل هو لمنع من إستعماله وتناوله ، أو : الإباحة ؟ .

لكن هذا النّزاع في غير المستقلات العقليّة أمّا في المستقلاّت العقليّة ، فلا نزاع ، إذ العقل مستقل بانّ إحراق الغابات ، وقتل الحيوانات المفيدة اعتباطا محظور ، كما إنّه مستقل بأنّ سدّ الرّمق من الطعام والماء مباح .

فإنّهم خصّوا هذا النّزاع ( بما كان مشتملاً على منفعة ، وخاليا عن أمارة المفسدة ، فإنّ هذا التّقييد ) بكونه خاليا عن أمارة المفسدة ( يكشف عن انّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه ) بينهم ، فإنّ إرتكابه قبيح .

ص: 244

بل الأقوى كما صرّح به الشّيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر ، والسّيد في الغنية ، وجوب دفع الضّرر المحتمل . وببالي انّه تمسّك في العدّة بعد العقل بقوله تعالى : « وَلاَ تُلْقُوا بأيديكم الى التهلكة » .

ثمّ إنّ ما ذكره من إبتناء الكبرى على التّحسين والتّقبيح العقليّين

-------------------

لكن لا يخفى : إنّ مرادهم بالمضرّة : الضّرر المتزايد ، وإلاّ فالضّرر القليل لا يلزم دفعه بحكم العقل ، بل يكون دفعه أفضل ، مثل : تضرّر الانسان من المشي في الشّمس أو المشي بقدر متعب ، أو ما أشبه ذلك ، ولذا لم يتجنّب العقلاء عن مثل هذا الضّرر .

( بل الأقوى كما صرّح به الشّيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر ، والسّيد ) ابن زهرة ( في الغنية : وجوب دفع الضّرر المحتمل ) أي : ولو لم يكن الضّرر مظنونا .

وإنّما قال المصنّف ذلك ، لأنّ في عنوان المسألة كان دفع الضّرر المظنون لازم ( وببالي : إنّه تمسّك في العدّة بعد العقل ) الدّال على وجوب دفع الضّرر المحتمل والمظنون ( بقوله تعالى : « وَلاَ تُلقُوا بِأيدِيكُم إلى التَّهلُكَة » ) (1) .

بتقريب إنّ العقل لا يرى فرقا بين الإلقاء في التّهلكة القطعيّة ، أو في التّهلكة الظّنيّة ، أو في التهلكة المحتملة ، كما قالوا : بأن خوف الضّرر في الصّوم ، والوقوف في الصّلاة ، وما أشبه أيضا مسقط لها .

( ثمّ إنّ ما ذكره ) الحاجبي ( من إبتناء الكبرى ) وهو : إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ( على التحسين والتقبيح العقليين ) حيث قال : وإنّ دفع الضّرر المظنون إذا

ص: 245


1- - سورة البقرة : الآية 195 .

غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النّفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة ، مثل التعليل في آية النّبأ ، وقوله تعالى : « وَلاَ تُلْقُوا بِأَيديكُم إلى التَّهلُكَة » ، وقوله تعالى : « فَليَحذَر الَّذِينَ يُخَالِفُون عَن أَمرهِ أن تُصِيْبَهُم فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ ألِيم » ،

-------------------

قلنا بالتّحسين والتّقبيح العقليّين إحتياط مستحسن لا واجب ( غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدّنيويّة والاخرويّة ) الكثيرة ، سواء كانت المهالك مظنونة أو محتملة ( ممّا دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة ) فلا مجال للعقل في ذلك ، وإن كان العقل أيضا مؤيّدا .

( مثل التعليل في آية النّبأ ) حيث قال سبحانه : «أن تُصِيبُوا قَوما بِجَهَالَةٍ فَتُصبِحُوا عَلى مَا فَعَلتُم نادِمِينَ» (1) وذلك لأنّ في ارتكاب الضّرر المظنون أو المحتمل ، مخافة الوقوع في النّدم لا محالة .

( وقوله تعالى : «وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلى التَّهلُكَة» ) (2) على التّقريب المتقّدم .

وربّما يقال : إنّ الاستدلال بالآية المباركة مبنيّ على كون ظاهره : المنع عن إلقاء النّفس في معرض الهلكة ، الصّادق مع الظّنّ بها أيضا لا الهلكة الواقعيّة ، ولذا يكون الاحتمال أيضا كالقطع والظّنّ في المقام .

( وقوله تعالى : « فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ أن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ » (3) ) فانّ بعض المفسّرين قال : « الفتنة » هي الحروب ، والمشكلات ، والعذاب الأليم هو الأسر على يد الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأصحابه ، والقتل أشبه ذلك .

ص: 246


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .
3- - سورة النور : الآية 63 .

بناءا على إنّ المراد العذاب والفتنة الدنيويّان .

وقوله تعالى : « واتَّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً » ،

-------------------

ولذا قال المصنّف : ( بناءا على إنّ المراد : العذاب والفتنة الدنيويّان ) فإنّ مقتضى الآية : عليه كلّ من إحتمال إصابة الفتنة والعذاب الأليم ، لوجوب الحذر ، ومن المعلوم : إذا ثبت وجوب الحذر بمجرد إحتمال إصابة الفتنة أو العذاب الأليم ، فمَع ظنّهما يجب بطريق أولى .

وإنّما قيّدهما المصنّف بالدنيويّين ، لأنّه إذا فُسرت الفتنة والعذاب الأليم بالأخرويّين ، كان المراد بالفتنة حينئذٍ : عذاب القبر ، كما ورد في بعض الرّوايات : إرادة عذاب القبر من الفتنة ، فلا ترتبط الآية المباركة بما نحن فيه ، إذ إصابة أحد الأمرين في الآخرة ، قبرا وقيامة لأجل مخالفة أمره سبحانه وتعالى معلومة لا مظنونة .

والحاصل : إنّ المراد بالفتنة والعذاب في الآية محتمل لثلاثة أمور :

الأوّل : أن يكون المراد بهما الدنيويّين كما يظهر من بعض المفسّرين ، فقد قال الطبرسي في قوله تعالى « أَن تُصيبَهم فِتنَةٌ » (1) أي : بليّة تظهر ما في قلوبهم من النّفاق ، وقيل عقوبة في الدّنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الدّنيا .

الثّاني : أن يكونا الاخرويّين كما ذكرناه .

الثالث : أن يكون المراد بالفتنة : الدنيويّة ، وبالعذاب : الاخروي .

( وقوله تعالى : « وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً . . . » ) (2) .

ص: 247


1- - سورة النور : الآية 63 .
2- - سورة الأنفال : الآية 25 .

وقوله تعالى : « ويُحذِّركُم اللّهُ نَفسَهُ » ، وقوله تعالى : « أفأمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ » ، إلى غير ذلك .

-------------------

فإنّ أثر بعض المحرّمات يصيب الفاعل فقط ، مثل ترك الصّلاة والصّوم وما أشبه .

وأثر بعضها يصيب الفاعل وغيره ، كما إذا شرب الأب الخمر أو زنا ، فإنّه يؤثر في نسله ، وقد مثل الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بالسّفينة ومن يريد خرقها ، فإنّه إذا أخذوا بيده نجا ونجوا ، وإذا لم يأخذوا بيده غرق وغرقوا ، فالمراد : إتّقاء الفتنة بإنكار المنكر .

ومن المعلوم : إنّ إصابة الانسان بسبب عمل غيره ، ليس بمقطوع به في كثير من الأحيان ، بل إما مظنون أو محتمل .

( وقوله تعالى : « وَيُحَذِّرُكُم اللّهُ نَفسَهُ » ) (1) أي : يخوّفكم من أن يغضب عليكم بسبب عصيانكم له ، فيجب الإحتراز عن كلّ ما يوجب غضبه ، أو يظنّ إنّ غضبه فيه ، أو يحتمل ذلك ، فهو مثل قولنا : إحذر الأسد ، فإنّ السّامع يفهم منه : إنّه يجب عليه أن لا يذهب إلى مكان يقطع أو يظنّ أو يحتمل إنّ فيه أسد .

( وقوله سبحانه : « أفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ) أن يَخسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرضَ ، أَو يَأتِيَهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لاَ يَشعُرُونَ * أَو يأخُذهُم فِي تَقَلُّبَهُم فَمَا هُم بِمُعجِزِينَ * أو يأخُذَهُم عَلى تَخَوّفٍ » (2) .

فانّ من يقدم على مقطوع الضّرر ، أو محتمل الضّرر ، أو مظنون الضّرر لا أن له، فاللازم إنّه إذا أراد أن يكون آمنا أن يجتنبها جميعا . ( إلى غير ذلك ) من الآيات والرّوايات ، الّتي تدلّ على لزوم اجتناب الضّرر مقطوعا أو مظنونا أو محتملاً .

ص: 248


1- - سورة آل عمران : الآية 28 .
2- - سورة النّحل : الآيات 45 - 47 .

نعم ، التّمسّك في سند الكبرى بالأدلّة الشّرعيّة يخرج الدّليل المذكور عن الأدلّة العقليّة .

لكنّ الظّاهر إنّ مراد الحاجبي منع أصل الكبرى ، لا مجرّد منع إستقلال العقل بلزومه . ولا يبعد عن الحاجبي ان يشتبه عليه حكم العقل الإلزاميّ بغيره ، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح . والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثّاني .

-------------------

( نعم ، التّمسّك في سند الكبرى ) والكبرى هي : إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ( بالأدلّة الشّرعيّة ) كالآيات ، والرّوايات ، والإجماع ، والشّهرة ، ونحوهما ( يخرج الدّليل المذكور عن الأدلّة العقليّة ) لأنّه إذا كان أحد أجزاء القياس مستندا إلى الشرع ، يكون الدّليل أقرب إلى الشّرع من العقل ، فانّ الدّليل العقلي هو الّذي كبراه وصغراه عقليّان ، أمّا إذا كان أحدهما شرعيّا فانّ النّتيجة تكون شرعيّة .

هذا ( لكن الظّاهر : إنّ مراد الحاجبي : منع أصل الكبرى ) وإنّه لا دليل على لزوم دفع الضّرر المظنون ( لا مجرد منع إستقلال العقل بلزومه ) أي : بلزوم دفع الضّرر المظنون .

( ولا يبعد عن الجاجبي أن يشتبه عليه حكم العقل الإلزامي بغيره ) فإنّه كما تقدّم لم يجعل دفع الضّرر المظنون لازما ، بل قال إنّه إحتياط مستحسن ( بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح ) إذ الأشاعرة لا يقبلون الحسن والقبح العقليّين على ما تقدّم ، وإنّما يقولون : إنّ الحسن والقبح هما شرعيّان فقط .

( والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثّاني ) بمعنى : إنّ إنكار الحاجبي حكم العقل الإلزامي ، ليس بأعظم من إنكاره الحسن والقبح العقليّين ، فمن أنكر الثّاني لا يبعد منه إنكار الأوّل .

ص: 249

ثانيها : ما يظهر من العدّة والغنية وغيرهما ، من أنّ الحكم المذكور مختص بالأمور الدنيويّة ، فلا يجري في الاخروية مثل العقاب .

وهذا كسابقه في الضّعف ، فانّ المعيار هو التّضرر ، مع إنّ المضار الاخروية أعظم ، اللّهم إلاّ أن يريد المجيب كما سيجيء ، من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف به ،

-------------------

( ثانيهما : ) أي : ثاني الاجوبة عن الدّليل الأوّل لحجيّة مطلق الظّنّ ( ما يظهر من العدّة ) للشّيخ ( والغنية ) لابن زهرة ، ( وغيرهما : من انّ الحكم المذكور ) وهو : وجوب دفع الضّرر المحتمل ( مختص بالأمور الدّنيويّة ) فانّ الانسان يجب عليه أن يدفع عن نفسه الأضرار الدّنيويّة ، سواء كانت مقطوعا بها ، أو مظنونا أو محتملاً ( فلا يجري في الاخرويّة مثل العقاب ) .

فإنّ دفع الضّرر المظنون الاخروي ليس بواجب ، لأنّ البرائة العقليّة والشّرعيّة تؤمّنان الانسان عن العقاب الاخروي ما لم يعلم بالعقاب أو لم يقم دليل عليه ممّا يسمّى بالعلمي .

( وهذا كسابقه ) أي : الجواب الأوّل الّذي ذكروه ( في الضعف ) وإنّما كان هذا الجواب ضعيفا لأنّه كما قال : ( فانّ المعيار هو التّضرّر ) فكلّما إحتمل الانسان الضّرر ، أو الظّنّ به ، لزم اجتنابه أخرويّا كان أو دنيويّا ، هذا ( مع إنّ المضارّ الاخروية أعظم ) .

وعلى أي حال : فانّ الكبرى مسلَّمةٌ في نفسها ( اللّهم إلاّ أن يريد المجيب ) بهذا الجواب ( كما سيجيء ) انشاء اللّه تعالى : ( من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف به ) أي : إنّه لا ينكر كلّيّة الكبرى ، وإنّما ينكر أن يكون صغرى العقاب الاخروي من صغريات هذه الكبرى فيما إذا لم

ص: 250

بخلاف المضارّ الدّنيويّة التّابعة لنفس الفعل أو التّرك ، علم حرمته أو لم يعلم ، أو يريد أنّ المضارّ الغير الدّنيويّة ، وان لم يكن خصوص العقاب ، ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ، وهو الباعث له على

-------------------

ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف ، فقد قال سبحانه: « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً »(1) .

إلى غير ذلك ممّايدلّ على أن اللّه تعالى لا يعاقب أحدا إلاّ بعد نصب الدّليل له.

وهذا ( بخلاف المضارّ الدّنيويّة التّابعة لنفس الفعل أو التّرك ، علم حرمته أم لم يعلم ) فانّ الانسان إذا إرتكب المضارّ الدّنيويّة المقطوعة أو المظنونة أو المحتملة ، فانّه يصيبه الضّرر من غير مدخليّة للعلم والجهل في ذلك ، بخلاف المضارّ الاخرويّة حيث انّها لا تترتب إلاّ على من علمها ولم يتجنّبها ، أعمّ من العلم الوجداني ، أو العلم التّنزيلي ممّايسمّى في الإصطلاح بالعلمي .

( أو يريد ) المجيب ( انّ المضارّ غير الدّنيويّة ، وإن لم يكن خصوص العقاب ) بينما في الوجه الأوّل قلنا : خصوص العقاب فانّه ( ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ) من باب اللّطف فيكون الفرق حينئذٍ بين هذا الجواب والجواب الأوّل : إنّ الجواب الأوّل : مبنيّ على « قبح العقاب بلا بيان » ، وهذا الجواب مبنيّ على « وجوب اللّطف » .

( وهو ) أي : ما دلّ العقل والنّقل على وجوب إعلامها على الحكيم - ممّا ينطبق على قاعدة اللّطف - يكون ( الباعث له ) أي : للحكيم تعالى ( على

ص: 251


1- - سورة الإسراء : الآية 15 .

التّكليف والبعثة .

لكن هذا الجواب راجعٌ إلى منع الصّغرى لا الكبرى .

ثالثها : النقضُ بالأمارات الّتي قام الدّليل القطعي على عدم إعتبارها ، كخبر الفاسق ، والقياس ، على مذهب الإماميّة .

-------------------

التّكليف والبعثة ) أي : بعثة الأنبياء وتكليف النّاس بالتّكاليف الشّرعيّة .

فتحصَّل : إنّ الدّليل لحجّيّة الظّنّ هو دفع الضّرر الاخروي المحتمل .

والجواب عنه : إنّ دفع الضّرر الاخروي المحتمل ليس بواجب ، وذلك لقبح العقاب بلا بيان ، فانّه إذا لم يكن بيان لم يكن ضرر قطعا ، أو لأنّ اللّطف يقتضي أن لا يعاقب اللّه سبحانه أحدا ولا يمنع الدّرجات الرّفيعة ما لم يبيّن له فانّ المنع من الدّرجات الرّفيعة كالعقاب ، خلاف الحكمة إذا لم يكن مع البيان .

إذن : فهناك مُؤمّن بالنّسبة إلى الضّرر الاخروي ، أمّا من جهة قبح العقاب بلا بيان ، أو من جهة وجوب اللّطف .

( لكنّ هذا الجواب ) كما قلنا - ( راجع إلى منع الصّغرى لا الكبرى ) فانّ المجيب يسلِّم إنّ دفع الضّرر المحتمل واجب ، لكنّه يقول : ليس في المقام ضرر محتمل ، بل الضّرر مقطوع العدم .

( ثالثها : ) أي : ثالث الاجوبة عن الدّليل الأوّل لحجيّة مطلق الظّنّ : ما حكي عن المحقق في المعارج ، مع اختلاف لما ذكره المصنّف هنا : من ( النقض بالأمارات ، الّتي قام الدّليل القطعي على عدم إعتبارها ) وإن إتخذها العقلاء غالبا أمارة ( كخبر الفاسق ، والقياس ، على مذهب الإماميّة ) حيث إنّ الإماميّة لا يجوّزون العمل بخبر الفاسق ، كما لا يجوّزون العمل بالقياس .

فكما إنّ الانسان الّذي قام عنده خبر فاسق ، أو خبر كافر ، أو قياس ،

ص: 252

وأجيب عنه تارة بعدم إلتزام حرمة العمل بالظّنّ عند إنسداد باب العلم ، وأخرى بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا

-------------------

أو إستحسان ، أو ما أشبه ذلك ، يظنّ بالضّرر في تركه ، ومع ذلك يتركه على مذهب الإماميّة ، لذلك إذا قام عند الانسان ظنّ من سائر الأسباب ، فانّه يتركه ، وإنّ ظنّ بالضّرر .

وعليه : فما يقال في مثل خبر الفاسق ، يقال في سائر الظّنون الّتي لا تحصل من الأسباب الشّرعيّة .

ولا يخفى : إنّ هذا النّقض كما هو صالح لأن يرجع إلى منع الصّغرى بأن يكون مقصوده : إنّه بعد منع الشّارع من العمل بالظّنّ مطلقا لا يبقى ظنّ بالعقاب ، كما في مورد خبر الفاسق ، والقياس ، وغيرها ، ممّا نهى عنه الشّارع بالخصوص ، كذلك هو صالح لأنّ يرجع إلى منع كلّيّة الكبرى وإنّه ليس كل مظنون الضّرر يجب الإجتناب عنه بدليل ما نشاهد في خبر الفاسق ، والقياس ، ونحوهما .

( وأجيب عنه : ) والمجيب هو المحقّق القمّيّ على ما نُسب إليه : ( تارة بعدم إلتزام حرمة العمل بالظّنّ عند إنسداد باب العلم ) فإنّه عند إنسداد باب العلم ، يلزم العمل بخبر الفاسق ، والقياس ، ونحوهما ، فلا نقض في المقام ، فقد قال رحمه اللّه في محكي كلامه :

إنّ إشتراط العدالة معركة للآراء ، والاستدلال بالآية - أي : آية النّبأ - غايته الظّنّ ، ولم يحصل العلم بحجّيّة هذا الظّنّ - كما مرّ - مع إنّ الشّيخ صرح بجواز العمل بخبر المحترز عن الكذب ، ، مع إنّ المشهور : جواز العمل بالخبر الضّعيف المعتضد بعمل الأصحاب ، ولا ريب إنّ ذلك لا يفيد إلاّ الظّنّ .

( وأخرى ) أجيب عن النّقض بما يرفع النّقض : ( بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا

ص: 253

تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به .

ويضعف الأوّل : بأنّ دعوى : « وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة إنسدّ فيها باب العلم ، وإن لم ينسدّ في غيرها » ، الظّاهر أنّه خلاف مذهب الشّيعة ،

-------------------

كالظّنّ القياسي ، أو الظّنّ المستند إلى خبر الفاسق ( تبيّن أنّ في العمل به ) أي : بذلك الشيء الّذي ألغاه الشّارع ( ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ) فخروج القياس ونحوه ، إنّما هو من باب التّخصّص دون التّخصيص ، لأنّ الأحكام الواقعيّة - على مذهب العدليّة - ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنتين في الأشياء .

فحينئذٍ : يجوز أنّ يكون بعض الطّرق : كالقياس ، وخبر الكافر والفاسق ، وما أشبه ، مشتمل على مفسدة ، أعظم من مصلحة الواقع ، ولذا يلغي الشّارع مثل القياس ، وخبر الفاسق ، والكافر ، تحفّظا عن وقوع الأمّة في تلك الأضرار العظيمة ، فيكون تجويز الشّارع ترك العمل بالقياس ونحوه ، أو منعه عن العمل بهذه الأمور مع إفادتها الظّنّ بالواقع من قبيل دفع الأفسد بالفاسد .

( ويضعف ) الجواب ( الأوّل : ) الّذي ذكره القمّيّ : ( بأنّ دعوى « وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة إنسدّ فيها باب العلم ، وإن لم ينسدّ في غيرها » ، الظّاهر : إنّه خلاف مذهب الشّيعة ) فإنّ المصنّف قد أشكل على المحقّق القمّيّ باشكالين :

الأوّل : إنّ العمل بالظّنّ الخاص في حال الإنسداد بما إذا كان الانسداد في معظم المسائل والاّ بأنّ إنسدّ باب العلم في كتاب الطّهارة - مثلا - فقط ولم ينسدّ في سائر

الكتب ، وأمكن الاحتياط بدون عسر ، ولا حرج ، ولا اجماع على خلاف الاحتياط في كتاب الطّهارة ، لم يجز العمل بالظّنّ الانسدادي في كتاب الطّهارة ،

ص: 254

لا أقل من كونه مخالفا لاجماعاتهم المستفيضة بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس .

والثّاني : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتب الضّرر على تركه ، أو تركه حذرا من التّضرر بفعله ، لا يتصور فيه ضرر أصلاً ، لانّه من الاحتياط الّذي إستقل العقل بحسنه

-------------------

بل وجب الإحتياط بينما يرى المحقّق القمّي جواز العمل بالظّنّ في كتاب الطّهارة ، وهذا خلاف مذهب الشّيعة .

الثّاني : إنّه إذا حصل الانسداد الكامل يعمل بالظّنون الّتي لم يمنع عنها الشّارع دون الّتي ردع عنها ، ففي حال الانسداد لا يعمل بخبر الفاسق ، وخبر الكافر ، والمصالح المرسلة ، والإستحسان ، والقياس ، ونحوها .

وعليه : فقول المحقّق القمّيّ ونحوه حال الانسداد محل إشكال ( لا أقلّ من كونه مخالفا لاجماعاتهم المستفيضة ، بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس ) فانّهم أجمعوا على عدم العمل بالقياس مطلقا ، ممّا كلامهم يشمل حال الانسداد أيضا ، وسيأتي تفصيل الكلام في الظّنّ القياسي في باب الانسداد انشاء اللّه تعالى .

( و ) يضعف الجواب ( الثّاني ) الّذي قال : بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من تركه ، وذلك ( : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتب الضّرر على تركه ) كما إذا كان الظّنّ القياسي على وجوب جلسة الإستراحة ، فنأتي بها (أو تركه) أي : ترك الفعل ( حذرا من التّضرر بفعله ) كما إذا كان الظّنّ القياسي على حرمة التّبغ فنترك التّبغ لاحتمال الضّرر في شربه ، فإنّه ( لا يتصوّر فيه ضررا أصلاً ، لانّه من الاحتياط الّذي إستقل العقل بحسنه ) .

ص: 255

وإن كانت الأمارة ممّا ورد النّهي عن اعتباره .

نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظّنّ بذلك الضّرر وجعل مؤدّاها حكم الشّارع والإلتزام والتّديّن به ، ربّما كان ضرره أعظم من الضّرر المظنون ، فإنّ العقل مستقل بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق العقاب عليه ، لانّه تشريع .

لكن هذا لا يختصّ بما علم إلغائه ، بل هو جار في كلّ ما لم يعلم إعتباره .

-------------------

وعليه : فقول المجيب : بأنّ العمل بالقياس فيه ضرر أعظم من الضّرر في ترك القياس ، غير تامّ حتى ( وإن كانت الأمارة ممّا ورد النّهي عن إعتباره ) بأنّ كان كالقياس ، والإستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، ممّا دلّت الأدلة الخاصّة أو العامّة على المنع من إتّباعها .

( نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظّنّ بذلك الضّرر ) أي : بسبب ذلك الضّرر المحتمل أو المظنون ( وجعل مؤدّاها ) أي : مؤدّى الأمارة المذكورة كالقياس - مثلاً - بانّه ( حكم الشّارع والإلتزام والتّدين به ) بمعنى : نسبته إلى الشّارع والإلتزام بانّه منه ( ربّما كان ضرره أعظم من الضّرر المظنون ) في ذلك العمل (فإنّ العقل مستقل بقبحه ) أي : بقبح جعل مؤدّى الأمارة حكم الشّارع ( و ) مستقل ب- ( وجود المفسدة فيه وإستحقاق العقاب عليه ) .

وإنّما كان قبيحا وفيه المفسدة وإستحقاق العقاب ( لانّه تشريع ) محرّم ، فإنّ نسبة ما لم يقله الشّارع إلى الشّارع - فضلاً عمّا قال بعدمه - خلاف رسم الطّاعة والعبوديّة ، ويرى العقلاء إستحقاق العقاب لمن فعل ذلك .

( لكن هذا ) أي : القبح والعقاب والمفسدة ( لا يختصّ بما علم إلغائه ) من الشّارع كالقياس ( بل هو جار في كلّ ما لم يعلم إعتباره ) مثل أنّ يعمل بالرّمل ،

ص: 256

توضيحه : أنّا قدمّنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة : أنّ كلّ ظنّ لم يقم على إعتباره دليل قطعي ، سواء قام دليل على عدم إعتباره أم لا ، فالعمل به ، بمعنى التّديّن بمؤدّاه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة .

وأمّا العمل به - بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه مثلاً أو ترك ما ظنّ حرمته من دون أن يتشرّع بذلك -

-------------------

والجفر والإصطرلاب ، وما أشبه ، وينسب الأحكام المستفادة منها إلى الشّارع ، فإنّ الشّارع وان لم يَنْهَ عنها صريحا ، كما نهى عن القياس لكنّه لا علم بإعتباره لهذه الأمور أيضا .

( توضيحه ) أي : توضيح ما ذكرناه : من إنّ هذا القبح لا يختصّ بالمعلوم إلغاؤه هو : ( انّا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة ) أي : عمل الانسان بمطلق الظنّ أينما وجد ( إنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قطعي ، سواء قام دليل على عدم اعتباره ) كالقياس ( أم لا ) بأن لم يقم دليل على عدم إعتباره : كالجفر والرّمل ، وما أشبه ( فالعمل به بمعنى : التّديّن بمؤداه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم ) لانّه نسبة إلى الشّارع ما لم يقله الشّارع .

وقد ( دلّ على حرمته : الأدلّة الأربعة ) من الكتاب ، السُّنَّة ، والإجماع ، والعقل ، فانّها جميعا تدلّ على حرمة التّشريع ، كما ذكرناه سابقا في تأسيس الأصل .

( وأمّا العمل به ) أي : بما لم يدلّ دليل على المنع عنه ( بمعنى : إتيان ما ظنّ وجوبه - مثلاً ) مثل أنّ يظنّ إنّ الزّوجة يجب وطيها دون الأربعة أشهر مع رغبتها ( أو ترك ما ظنّ حرمته ) مثل أنّ يظنّ حرمة شرب التّتن فيترك شربه ( من دون أنّ يتشرّع بذلك - ) أي : بأنّ لا ينسبه إلى الشّارع ، وإنّما يعمل فعلاً أو يترك ما ظنّ

ص: 257

فلا قبح فيه ، إذا لم يدلّ دليل من الأصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظّنّ بأنّ يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه أو وجوب ما ظنّ تحريمه .

فان أراد أنّ الأمارات الّتي يقطع بعدم حجّيّتها ، كالقياس وشبهه ، يكون في العمل بها ، بمعنى التّدين بمؤدّاها وجعله حكما شرعيّا ، ضرر أعظم من الضّرر المظنون ، فلا اختصاص لهّذا الضّرر بتلك الظّنون ، لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قاطع يكون في العمل به بذلك المعنى

-------------------

حرمته من باب الاحتياط ( فلا قبح فيه ، إذا لم يدلّ دليل من الأصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظّنّ ) .

أمّا إذا كان كذلك ( بأنّ يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه ، أو وجوب ما ظنّ تحريمه ) فلا يجوز له الإرتكاب ، مثل أنّ يظنّ حرمة وطي الزّوجة الّتي ذكرناها بظنّه انّها في حالة الحيض ، ولا إستصحاب لطهارتها ، أو يظنّ وجوب شرب التّتن بظنّه إنّه ينقذه من مرض مهلك ، فلا يجوز له تركه .

( فإنّ أراد ) من قال : بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا ، تبيّن إنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ( : انّ الأمارات الّتي يقطع بعدم حجّيتها ، كالقياس وشبهه ، يكون في العمل بها ، بمعنى التّديّن بمؤدّاها ، وجعله ) أي : جعل المؤدى ( حكما شرعيا ) بأنّ ينسبه إلى الشّارع ( ضرر أعظم من الضّرر المظنون ) الّذي يترتب على ترك القياس ( فلا إختصاص لهذا الضّرر بتلك الظنون ) الّتي ألغاها الشّارع .

وإنّما لم يكن إختصاص ( لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على إعتباره دليل قاطع ) أو دليل قطعي ( يكون في العمل به ) أي : بذلك الظّنّ عملاً ( بذلك المعنى ) أي : بمعنى

ص: 258

هذا الضّرر العظيم ، أعني التّشريع .

وإن أراد ثبوت الضّرر في العمل بها ، بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ، وترك ما ظنّ حرمته لذلك ، كما يقتضيه قاعدة دفع الضّرر ، فلا ريب في إستقلال العقل وبداهة حكمه بعدم الضّرر في ذلك أصلاً وإن كان ذلك

---------------------

التّديّن به ونسبته إلى الشّارع ، فيه ( هذا الضّرر العظيم ، أعني : التّشريع ) إذ أي فرق في التّشريع بين : أنّ يعلم الانسان إنّ الشّارع نفاه ، أو أنّ لا يعلم إنّ الشّارع أثبته أو نفاه ؟ فإنّ كليهما تشريع محرّم .

نعم ، لا إشكال في إنّ النّسبة إلى الشّارع بما نفاه صريحا ، تشريع أعظم وعقوبته أشدّ ، فإنّه إذا قال المولى : لا تفعل كذا ، ففعله ناسبا ذلك إلى المولى وإنّه هو الّذي أمره به ، كان هذا العبد أشدّ عقوبة ممّن إذا لم يعلم إنّ المولى قال : لا تفعل كذا ، أو لم يقل شيئا ، ففعله ناسبا فعله ذلك إلى المولى .

( وإن أراد ) هذا القائل ( ثبوت الضّرر في العمل بها ) أي : بالظنون الّتي نفاها المولى ، كالظنون القياسيّة ( بمعنى : إتيان ) العبد ( ما ظنّ وجوبه حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ) إذا تركه ( وترك ما ظنّ حرمته لذلك ) أي : حذرا من الوقوع في مضرّة ذلك الحرام إذا فعله ( كما يقتضيه قاعدة دفع الضّرر ) .

فانّ هذه القاعدة تقول : إنّ كلّ شيء يحتمل الانسان وجود الضّرر فيه فعلاً أو تركا ، فعليه أنّ يأتي به لو إحتمل الضّرر في تركه ، وإن يتركه لو إحتمل الضّرر في فعله .

( فلا ريب في إستقلال العقل وبداهة حكمه ) أي : حكم العقل ( بعدم الضّرر في ذلك ) من الإتيان بمحتمل اللزوم ، والتّرك لمحتمل المنع ( أصلاً وإن كان ذلك

ص: 259

في الظّنّ القياسي .

وحينئذٍ : فالأولى لهذا المجيب أنّ يبدّل دعوى الضّرر في العمل بتلك الأمارات المنهي عنها بالخصوص : بدعوى أنّ في نهي الشّارع عن الإعتناء بها وترخيصه في مخالفتها ، مع علمه بأنّ تركها ربّما يقضي إلى ترك الواجب ، وفعل الحرام مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون على تقدير

-------------------

في الظنّ القياسي ) « إنّ » وصليّة ، أي : حتّى وإن اقتضى القياس وجوب وطي الزّوجة دون أربعة أشهر ، أو إقتضى حرمة شرب التّتن ، فلا مانع من الوطي وترك الشّرب .

( وحينئذٍ : فالأولى لهذا المجيب ) الّذي أجاب عن النّقض بقوله : إنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا ، تبيّن إنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ( أنّ يبدّل دعوى الضّرر في العمل بتلك الأمارات المنهي عنها بالخصوص ) كالظّنّ القياسي ، والظنّ من خبر الفاسق والكافر ، وما أشبه ذلك ، فيبدّل هذه الدّعوى ( بدعوى ) أخرى وهي : ( أنّ في نهي الشّارع عن الإعتناء بها ) أي : بتلك الأمارات ( وترخيصه ) أي : ترخيص الشّارع ( في مخالفتها ) أي : في مخالفة تلك الأمارات بان يخالف الانسان القياس ، وخبر الفاسق ، وخبر الكافر ، ونحوها ( مع علمه ) أي : مع علم الشّارع ( بأنّ تركها ) أي : ترك تلك الأمارات ( ربّما يقضي إلى ترك الواجب ، وفعل الحرام ) إذ القياس قد يطابق الواقع في وجوب ما أوجب ، وحرمة ما حرم ، فإذا خالف الانسان القياس ، أدّت مخالفته إلى ترك الواجب الواقعي ، وفعل الحرام الواقعي .

لكنّ فيه ( مصلحة ) وهو خبر قوله : « أنّ في نهي الشّارع » ، أي : إنّ نهي الشّارع فيه مصلحة ( يتدارك بها ) أي : بتلك المصلحة ( الضّرر المظنون على تقدير

ص: 260

ثبوته في الواقع ، فتأمّل .

وسيجيء تمام الكلام عند التّكلم في الظنون المنهي عنها بالخصوص وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجّيّة الظّنّ لها إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

ثبوته ) أي : على تقدير ثبوت ذلك الضّرر المظنون ( في الواقع ) على ما ذكرناه في المصلحة السلوكيّة ، فإنّ القياس - مثلاً - لو دلّ على وجوب وطي الزّوجة ، والشّارع أجاز ترك القياس ، فلم يطأ المكلّف الزّوجة ، وفاتته المصلحة الواقعيّة الّتي كانت في وطيها ، فانّ الشّارع يتدارك تلك المصلحة الفائتة بإعطاء المكلّف قدر تلك المصلحة ، أو أكثر من قدر تلك المصلحة .

( فتأمل ) لعلّه إشارة إلى إنّ التّدارك لا يختصّ بمثل النّهي عن العمل بالقياس ونحوه ، بل اللاّزم التّدارك حتّى فيما إذا سكت الشّارع عن شيء وكان فيه مصلحة، ممّا سبب سكوته فوتها على المكلّف ، فإذا سكت الشّارع ولم يقل - مثلاً - إعمل بالشّهرة ، وكانت الشّهرة تطابق الواقع ، كان معنى ذلك : تفويت المصلحة على المكلّف ، فيجب عليه تداركها .

ويحتمل في « فتأمل » وجوه أخر نتركها خوف التّطويل .

( وسيجيء تمام الكلام ) في كيفية خروج الظّنّ القياسي ، ونحوه ( عند التّكلّم في الظّنون المنهي عنها بالخصوص ) في بحث الانسداد ( وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجيّة الظّنّ ) المطلق ( لها ) أي : لهذه الظنون ( انشاء اللّه تعالى ) .

ثمّ لا يخفى : إنّ الدّليل الأوّل الّذي ذكره المصنّف لحجّيّة الظّنّ مطلقا كان نصّه : « انّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ، ودفع الضّرر المظنون لازم » وهذا الدّليل أجيب عنه بأجوبة أشكل المصنّف في جميعها ، ولهذا قال هنا :

ص: 261

فالأولى انّ يجاب عن هذا الدّليل :

بأنّه إنّ أريد من الضّرر المظنون العقاب ، فالصّغرى ممنوعة ، لأنّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك ، كاستحقاق الثّواب عليهما ليس ملازما للوجوب والتّحريم الواقعيين ، كيف وقد يتحقق التّحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلاً بسيطا أو مركّبا ، بل استحقاق الثّواب والعقاب إنّما هو على تحقق

-------------------

( فالأولى أن يجاب عن هذا الدّليل : بأنّه إنّ أريد من الضّرر المظنون ) في قوله : مظنّة للضرر ( العقاب ) حتّى يكون الدّليل هكذا : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ظنّ بالعقاب الأخروي ( فالصّغرى ممنوعة ) والصّغرى عبارة عن قوله : أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر .

وإنّما كانت الصّغرى ممنوعة لما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّ استحقاق العقاب على الفعل أو التّرك ، كاستحقاق الثّواب عليهما ) إذ الثّواب للإطاعة ، والعقاب للمعصية ، وهو ( ليس ملازما للوجوب والتّحريم الواقعيّين ) لأنّ العقاب تابع للعصيان ، والعصيان لا يكون إلاّ مع العلم والعمد .

( كيف ) يكون استحقاق العقاب على الفعل والتّرك ملازما مع الوجوب والتّحريم الواقعيّين ( و ) الحال ( قد يتحقّق التّحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلاً بسيطا ) فإنّ الجاهل القاصر غير معاقب ( أو مركّبا ) فانّ الجاهل الّذي يجهل بجهله - عن قصور - هو أيضا ليس بمعاقب .

( بل لاستحقاق الثواب والعقاب إنّما هو ) أي : الاستحقاق ( على تحقق

ص: 262

الإطاعة والمعصية اللتين لا يتحققان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظّنّ المعتبر بهما .

وأما الظّنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشّكّ ، بل هو هو ، بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشّارع بالغائه ، ويحتمل أنّ يكون المفروض

-------------------

الاطاعة والمعصية ) للمولى ( اللتين لا يتحققان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة ) والتّمكن من الإتيان بالواجب والتّرك للحرام ، لتقيّة أو ما أشبه ذلك .

( أو الظّنّ المعتبر بهما ) «أو» عطف على «العلم» بمعنى : إنّه امّا يعلم بالوجوب والحرمة ، وامّا يظنّ بالوجوب والحرمة ظنّا معتبرا ، كالظّنّ من الخبر الواحد ، أو ما أشبه ، (واما الظّنّ ) بالحكم ( المشكوك الاعتبار ) يعني نشكّ في اعتبار هذا الظّنّ ، مثل الظنّ عن الشّهرة وعن الإجماع - فرضا - ( فهو كالشّكّ ) أي : كالشّكّ بالحكم ، لا يوجب مخالفة هذا الظّنّ ، ولا هذا الشّكّ عقابا .

( بل هو هو ) أي : الظّنّ المشكوك الإعتبار هو الشّكّ بنفسه ، لأنّ الشّارع إذا لم يعتبر ظنّا كان هو والشّكّ سواء ، ذلك ( بعد ملاحظة : إنّ من المظنون ما أمر الشّارع بالغائه ) كما أمر الشّارع بالغاء المشكوكات ، فإنّ الظّنّ القياسي ، ممّا أمر الشّارع بالغائه كما أمر بالغاء الأحكام المشكوكة حيث قال سبحانه : « ولاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِه عِلمٌ » (1) .

الى غير ذلك من الآيات الدّالة على اعتبار العلم ، وكذا الرّوايات الدّالة على اعتباره ، أو على اعتبار الظّنّ المعتبرة ، كالظّنّ الخبري ونحوه .

( ويحتمل أنّ يكون المفروض ) أي : إنّ الظّنّ الّذي خالفه المجتهد ، في

ص: 263


1- - سورة الإسراء : الآية 36 .

منها .

اللّهم إلاّ أنّ يقال : إنّ الحكم بعدم العقاب والثّواب ، فيما فرض من صورتي الجهل البسيط أو المركّب بالوجوب والحرمة ، إنّما هو لحكم العقل بقبح التّكليف مع الشّكّ ، أو القطع بالعدم .

وأما مع الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ، ولا اجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النّزاع .

-------------------

الدليل الأوّل : القائل إنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ، أنّ يكون ( منها ) أي : من الظّنون المشكوكة الإعتبار .

وعليه : فتحصّل إنّ جواب المصنّف عن الدّليل الأوّل هو : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ليس ظنّا بضرر العقاب وإن كان ظنّا بالحكم ، إذ لا تلازم بين الظّنّ بالحكم الّذي هو غير معتبر ، والظّنّ بالعقاب ، المترتّب على العلم أو العلمي .

( اللّهم إلاّ أنّ يقال ) في تصحيح الصّغرى ( انّ الحكم بعدم العقاب والثّواب ، فيما فرض من صورتي الجهل البسيط أو المركّب ) جهلاً ( بالوجوب والحرمة ، إنّما هو ) الحكم بعدم العقاب والثّواب ( لحكم العقل بقبح التّكليف مع الشّكّ ، أو القطع بالعدم ) أي : بعدم التّكليف .

والمراد من القطع بالعدم هو : الجهل المركّب ، بأنّ يكون جاهلاً بالواقع ، وجاهلاً بأنّه جاهل به .

( وأمّا مع الظّنّ بالواجب أو التّحريم ، فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ) لمن خالف ظنّه ( ولا اجماع أيضا على أصالة البرائة في موضوع النّزاع ) الّذي هو ظنّ المجتهد بحكم لم يعمل بظنّه ، فإنّه لا يجري فيه أصل البرائة عن الحكم حتّى

ص: 264

ويرده : انّه لا يكفي المستدلّ منع إستقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع ، بل لابدّ له من إثبات انّ مجرّد الوجوب والتّحريم الواقعيّين مستلزمان للعقاب ، حتّى يكون الظنّ بهما ظنّا به . فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا ، فالصّغرى غير ثابتة .

-------------------

يكون سندا لعدم العقاب .

إذن : فلا إجماع لعدم العقاب ولا برائة لعدم العقاب ، فلا يصحّ ما ذكره المستدل : من إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي للضّرر .

( ويرده ) أي : ما ذكرناه من قولنا : اللّهم إلاّ أنّ يقال : ( إنّه لا يكفي المستدلّ ) الّذي استدلّ بالضّرر ( منع إستقلال العقل ) حيث قال : فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ( وعدم ثبوت الإجماع ) حيث قال : ولا إجماع أيضا على أصالة البرائة في موضع النّزاع ( بل لابدّ له ) أي : للمستدلّ ( من إثبات إنّ مجرّد الوجوب والتّحريم الواقعيّين ) وان لم يعلم بهما المكلّف ( مستلزمان للعقاب ، حتّى يكون الظّنّ بهما ) أي : بالوجوب والتّحريم ( ظنّا به ) أي : ظنّا بالعقاب .

وعليه : ( فإذا لم يثبت ذلك ) أي : التلازم بين الوجوب والتّحريم الواقعيّين والعقاب ( بشرع ولا عقل ) و «الشّرع » : متعلّق ب- : « لم يثبت » أي : لم يثبت ذلك بدليل شرعي ولا بدليل عقلي ( لم يكن العقاب مظنونا ) إذ هناك ظنّ بالحكم وليس ظنّا بالعقاب ( فالصّغرى ) الّتي ذكرها المستدلّ بقوله : في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّه للضّرر ( غير ثابتة ) لأنّ المخالفة للظّن ، ليس مظنّة للعقوبة الأخروية .

ص: 265

ومنهُ يُعلَمُ فسادُ ما ربّما يتوهّم أنّ قاعدةَ دفع الضّرر يكفي للدّليل على ثبوت الاستحقاق ، وجه الفساد أنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصّغرى ، وهي الظّنّ بالعقاب .

نعم ، لو ادّعى انّ دفع الضّرر المشكوك لازم ، توجه فيما نحن فيه ، الحكم بلزوم الإحتراز في صورة

-------------------

( ومنه ) أي ممّا تقدّم : من عدم التّلازم بين الوجوب والتّحريم الواقعيّين وبين العقاب ( يعلم فساد ما ربّما يتوهّم إنّ قاعدة دفع الضّرر ) أي : إستقلال العقل بلزوم دفع الضّرر المظنون ( يكفي للدّليل على ثبوت الاستحقاق ) وتقريب التّوهم : هو بأنّ هناك تلازم بين الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، والظّن بالعقاب على مخالفتها ، والظّن بالعقاب يجب دفعه ، فيلزم الاتيان بالمظنون وجوبه ، والتّرك للمظنون حرمته .

والجواب : إنّ هذه القاعدة إنّ كانت صحيحة في نفسها ، إلاّ إنّه لا ظنّ بالعقاب في المخالفة ، ، بعد أدلّة البرائة العقليّة والشّرعيّة .

وإليه أشار المصنّف بقوله : ( وجه الفساد : إنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصّغرى ) أي : إنّ هذه القاعدة وإن كانت صحيحة ، لكن صغرى هذه القاعدة المنطبقة على ما نحن فيه ليست تامّة ، إذ ليس هناك بالعقاب بعد أدلّة البرائة ( وهي ) أي : الصّغرى ( الظّنّ بالعقاب ) ، وعلى أي حال : فالضّرر ليس مظنونا حتّى يكون صغرى القاعدة دفع الضّرر المظنون .

( نعم ، لو ادّعى إنّ دفع الضّرر المشكوك لازم ) وهذه القاعدة أعمّ من قاعدة : دفع الضّرر المظنون ، لانّه إذا وجب دفع الضّرر المشكوك وجب دفع الضّرر المظنون بطريق أولى (توجه فيما نحن فيه، الحكم بلزوم الإحتراز في صورة

ص: 266

الظّنّ بناءا على ثبوت الدّليل على نفي العقاب عند الظّنّ ، فيصير وجوده محتملاً ، فيجب دفعه . لكنّه رجوعٌ عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتّحريم المشكوكين .

وإن أُريد من الضّرر المفسدة المظنونة ، ففيه : أيضا منعُ الصّغرى ،

-------------------

الظّنّ ) أي : الظّنّ بالتّكليف ، لانّه إذا ظنّ بالتّكليف فلا ريب في إنّه يشكّ في الضّرر ، فيلزم دفع الضّرر المشكوك .

وذلك ( بناءا على عدم ثبوت الدّليل على نفي العقاب عند الظّنّ ، فيصير وجوده ) أي : وجود العقاب ( محتملاً ، فيجب دفعه ) لقاعدة دفع الضّرر المشكوك ، فإنّه مع الظّنّ بالحكم الإلزامي فعلاً ، أو تركا وعدم جريان أصالة البرائة النّافية لإحتمال العقاب ، يتحقّق إحتمال العقاب لا محالة ويجب دفعه لقاعدة وجوب دفع الضّرر المشكوك ( لكنّه ) أي هذا الإدّعاء في قوله : نعم لو إدّعى ( رجوع عن الاعتراف : باستقلال العقل ، وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتّحريم المشكوكين ) .

وإن شئت قلت : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، الّتي دلّ عليها الأدلّة الأربعة ، حاكمة على وجوب دفع الضّرر المظنون ، وعلى وجوب دفع الضّرر المشكوك ، فبدون الدّليل لا ظنّ بالضّرر ولا شكّ بالضّرر أيضا .

هذا كلّه إنّ أريد بالضّرر : العقاب ( وإن أريد من الضّرر : المفسدة المظنونة ) في أمر الشّارع بالواجبات ونهيه عن المحرّمات ، لأنّ في ترك الواجبات مفسدة خارجيّة ، وكذلك في فعل المحرّمات ، ولا شكّ إنّ الانسان إذا ظنّ بالوجوب أو بالحرمة ، كان معناه : إنّه ظنّ بالمفسدة في ترك الواجب وفعل المحرّم .

( ففيه أيضا : منع الصّغرى ) فإنّ المصالح والمفاسد الكامنتين في الأحكام

ص: 267

فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ، إلاّ إنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد إرتكاب ما ظنّ حرمته لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة ، حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ، لإحتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف ، أو يعلمه بإعلام الشّارع ،

-------------------

الشّرعيّة - حيث إنّ شرب الخمر فيه مفسدة ، وصلة الرّحم فيه مصلحة - إنّما هي من قبيل المقتضيات دون العِلل التّامّة ، فالظّنّ بالحكم لا يستلزم الظّنّ بالمفسدة في المحرّم ولا المصلحة في الواجب .

( فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ) فإنّ الخمر فيها مفسدة ، سواء علم الانسان بالحكم أو لم يعلم ؟ وسواء علم بالموضوع وإنّه خمر أو لم يعلم ؟ فالظّنّ والشّكّ والجهل لا مدخليّة لها في المفاسد ، كما لا مدخليّة لها في المصالح أيضا ، فإنّ من شرب الدّواء المفيد لمرضه ، يطيب وإن كان لا يعلم ذلك ، بل وإن كان يعلم - بالجهل المركّب - إنّه يضرّه .

( إلاّ إنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد إرتكاب ما ظنّ حرمته ) .

وانّما لا نظنّ بذلك ( لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة ، حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ) كما إنّه لا يكون الفعل الواجب علّة تامّة لترتّب المصلحة حتّى مع القطع بثبوت الوجوب ( لإحتمال تداركها ) أي : تدارك تلك المفسدة المنبعثة عن الحرام ( بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف ، أو يعلمه بإعلام الشّارع ) .

فإنّه يمكن أن تكون مضرّة الخمر لمن شربها متداركة بمصلحة أهم من تلك المفسدة أو مساوية لتلك المفسدة ، كمصلحة بقاء الانسان حيّا فيما إذا توقفت حياته على شرب الخمر ، أو يكون هناك دواء يشربه مع شرب الخمر ، يتدارك

ص: 268

نظير الكفّارة والتّوبة وغيرهما من الحسنات اللاّتي يُذْهِبْنَ السّيّئات .

ويرد عليه : أن الظّنّ بثبوت مقتضى المفسدة مع الشّكّ في وجود المانع كافٍ في وجوب الدّفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشّكّ في وجود المانع ، فإنّ إحتمال وجود المانع للضّرر ، أو وجود ما يتدارك الضّرر

-------------------

ذلك الدّواء مفسدة الخمر ( نظير الكفّارة والتّوبة وغيرهما من الحسنات الّتي يذهبن السّيّئات ) فإنّ الكفّارة والتّوبة وغيرهما قد أخبرنا الشّارع بأنّها ترفع المضرّات المسبّبة من فعل المحرّمات .

( ويرد عليه ) أي : ما ذكروه من منع الصّغرى في قولنا : وإن أريد من الضّرر : المفسدة المظنونة ، ففيه أيضا منع الصّغرى ( إنّ الظّنّ بثبوت مقتضى المفسدة مع الشّكّ في وجود المانع ) عن تلك المفسدة ( كافٍ ) ذلك الظّنّ ( في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشّكّ في وجود المانع ) أي : كما إنّ العقل مستقل بوجوب اجتناب معلوم المفسدة ، وإن إحتمل وجود مانع عن تأثير المفسدة ، كذلك العقل مستقل بوجوب إجتناب محتمل المفسدة وإن إحتمل وجود مانع عن تأثير تلك المفسدة .

مثلاً : إذا علم الانسان بوجود الأسد المفترس في مكان كذا ، وإحتمل وجود انسان لا يمنع عن إفتراسه ، فإنّ العقل يستقل بعدم الذّهاب إلى ذلك المكان ، وكذا إذا إحتمل الانسان وجود الأسد ، وإحتمل وجود انسان يمنع عن إفتراسه ، فإنّ العقل مستقل أيضا بعدم الذّهاب إلى ذلك المكان ، لأنّ إحتمال المانع لا يكون مبررا للذّهاب ، فإذا ذهب متعمّدا على إحتمال المانع من صورتي العلم والشّكّ وإفترسه الأسد ، لاَمَهُ العقلاء ، ولم يقبلوا عذره بإحتماله المانع .

( فإنّ إحتمال وجود المانع للضّرر ، أو وجود ما يتدارك الضّرر ) به ،

ص: 269

لا يعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع الظّنّ بوجود مقتضي الضّرر ، أم القطع به ، بل أكثرُ موارد إلتزام العقلاء التّحرز عن المضار المظنونة ، كسلوك الطّرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو ذلك من موارد الظّنّ بمقتضى الضّرر دون العلّة التّامّة له . بل المدار - في جميع غايات حركات الانسان من المنافع المقصود جلبُها والمضارّ المقصود دفعها - على المقتضيات دون العلل التّامّة ،

-------------------

بأن يكون هناك شجاع يمنعه منه ، أو طبيب يداوي جرحه ( لا يُعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع ) إحتمال المانع أو التّدارك ( الظّنّ بوجود مقتضي الضّرر ، أم القطع به ) بل أو الشّكّ به ، بل وحتّى مع الظّنّ بعدمه ، لأنّ إحتمال الضّرر إنّ كان كثيرا ، فإنّه ممّا يلزم العقلاء تركه وإن كان موهوما .

فإذا كان هناك - مثلاً - مائة آنية واحدة منها فيها سمّ ، فإنّ في شرب آنية من تلك الأواني وَهْمُ الضّرر ، لا شكّه ولا ظنّه ، ومع ذلك يحكم العقلاء بعدم شرب أي آنية منها .

( بل أكثر موارد إلتزام العقلاء ) هو ( التّحرز عن المضارّ المظنونة ) فإنّ العقلاء يلزمون الانسان بأن يتحرّز عن تلك المضارّ الّتي ظنّها ( كسلوك الطّرق المخوفة ، وشرب الأدوية المخوفة ) وأكل المطاعم الّتي يظنّ ضررها ، والسّلوك في الشّمس حيث يظنّ الضّرر ( ونحو ذلك من موارد الظّنّ بمقتضى الضّرر دون العلّة التّامّة له ) أي : للضّرر وإن ّ أسباب الإضرار غالبا مقتضيات وليست عللاً تامّة .

( بل ) الأمر أعمّ من المضارّ ، إذ الحال كذلك في المنافع أيضا فإنّ ( المدار في جميع غايات حركات الانسان من المنافع المقصودة جلبها ) كالسّفر للتجارة مثلاً ( والمضار المقصودة دفعها ) إنّما هو ( على المقتضيات دون العلل التّامّة ) فمن

ص: 270

لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها .

وأضعف من هذا الجواب ما يقال : إنّ في نهي الشّارع عن العمل بالظّنّ كلّيّة

-------------------

أين هذا السّفر التّجاري يوجب الرّبح ؟ أو ذلك العلم المخوف يوجب الضّرر ؟ ( لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها ) ولا يقدر الانسان إنّ يحيط بها على إنّ المصالح والمفاسد لو كانت عللاً لا مقتضيات ، لزم تعطيل الانسان عن كثير من الحركات الإصلاحيّة ، أو التجنب عن كثير من الاُمور الّتي يظنّ الفساد فيها .

والفرق بين المانع والمزاحم هو :

إنّ الأوّل : مانع عن تأثير المقتضي في رتبة المعلول ، كالرّطوبة المانعة عن تأثير النّار في الخشبة في رتبة الإحراق .

والثّاني : مانع عن نفس المقتضي في رتبة العلّة ، كالمانع عن حرارة النّار كما في منع اللّه سبحانه وتعالى حرارة النّار على إبراهيم ، وإن كان في المثال نوع مسامحة .

وحيث كان دليل العمل بمطلق الظّنّ ، مركّبا عن صغرى هي أنّ في مخالفة المجتهد ظنا بالضّرر ، وكبرى : هي إنّ دفع الضّرر المظنون واجب ، وفرغ المصنّف عن الكلام في الصّغرى ، شرع في الكبرى فقال : ( وأضعف من هذا الجواب ) الّذي كان جوابا عن الصّغرى ( ما يقال ) في بيان منع الكبرى : من ( إنّ في نهي الشّارع عن العمل بالظن كلّيّة ) حيث قال سبحانه : «وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيئا » (1) وقال تعالى : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (2) وغير ذلك

ص: 271


1- - سورة النّجم : الآية 28 .
2- - سورة الإسراء : الآية 36 .

إلاّ ما خرج ، ترخيصا في ترك مراعاة الضّرر المظنون ، ولذا ، لا يجب مراعاته إجماعا في القياس .

ووجهُ الضّعف ما ثبت سابقا من انّ عمومات حرمة العمل بالظّنّ أو بما عدا العلم إنّما يدلّ على حرمته ، من حيث أنّه لا يغني عن الواقع

-------------------

( إلاّ ما خرج ) بالدّليل مثل العمل بالخبر الواحد ، أو العمل بالشّاهدين ، أو بسوق المسلمين ، أو ما أشبه ، فإنّ فيه ( ترخيصا ) من الشّارع ( في ترك مراعاة الضّرر المظنون ) .

وإذا أجاز الشّارع أن يعمل الانسان بما يظنّ فيه الضّرر ، فلا تتمّ الكبرى الّتي كانت تقول دفع الضّرر المظنون لازم .

( ولذا ، لا يجب مراعاته ) أي : مراعاة الظّنّ ( إجماعا في القياس ) وفي خبر الفاسق ، والكافر ، وما أشبه ، فإنّ الانسان إذا ظنّ منها لا يجوز له أن يعمل على ظنّه ، لأنّ الشّارع منع الكبرى .

( ووجه الضّعف ما ثبت سابقا : من إنّ عمومات حرمة العمل بالظّنّ ) مثل قوله سبحانه : « إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئا » (1).

( أو بما عدا العلم ) مثل قوله تعالى : « وَلاَ تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (2) ( إنّما يدلّ على حرمته ) أي : حرمة العمل بالظّنّ ( من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ) كما في الآية المباركة .

ص: 272


1- - سورة النجم : الآية 28 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .

ولا يدلّ على حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله ، والحذر عن مخالفته .

فالأولى أن يقال :

-------------------

( ولا يدلّ على حرمة العمل به ) أي : بالظّنّ ( في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله ، والحذر عن مخالفته ) أي : إنّ حرمة العمل بالظّنّ لعدم إغنائه عن الواقع ، أو لكون التّدين به والإلتزام به تشريعا محرّما - كما سبق الإلماع إلى ذلك - لا ينافيان العمل بالظّنّ لأجل دفع الضّرر المظنون الّذي مرجعه إلى الاحتياط .

مثلاً : قال الشّارع : لا تعمل بالقياس ، لانّه يوصل إلى الواقع ، وقال : لا تنسب القياس إلى الشّارع لانّه تشريع محرّم ، فإذا قاس الانسان ، الحيوان المتولّد من الكلب والشّاة - فرضا - بالمخلوط من الماء والخمر ، فلم يأكل من لحم ذلك الحيوان إحتياطا لا تشريعا ، مع فرض إنّ الأكل من لحمه حلال لقاعدة : « كُلُّ شَيءٍ فِيْهِ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ ، فَهُوَ لَكَ حَلاَلٌ » (1) وقاعدة : « كُلُوا ممَّا فِي الأَرض » (2) وما أشبه ، فهل يكون في هذا الاحتياط محذور ؟ وقد قال الشّارع : « إحتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ» (3) فالاحتياط كما لاينافي كلّ شيء لك حلال، كذلك لا ينافي حرمة القياس .

وعليه : ( فالأولى أن يقال ) دفع الضّرر المظنون لازم ، مكان قول المجيب : بأنّ دفع الضّرر المظنون ليس بلازم ، لأنّه قال : ترخيصا في ترك مراعاة الضّرر

ص: 273


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - سورة البقرة : الآية 168 .
3- - وسائل الشّيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 .

إنّ الضّرر وإن كان مظنونا ، إلاّ أنّ حكم الشّارع قطعا أو ظنّا بالرّجوع في مورد الظّنّ إلى البراءة والإستصحاب ، وترخيصه لتّرك مراعاة الظنّ ، أوجب القطع أو الظّنّ بتدارك ذلك الضّرر المظنون ، وإلاّ كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظنّ إلقاء المفسدة .

-------------------

المظنون - ما قاله المصنّف حيث أشكل على هذا الجواب بما حاصله :

إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ، لكن لا في مقامنا هذا ، حيث إنّ الشّارع يتدارك الضّرر إنّ كان في الواقع ضرر ، وذلك ( إنّ الضّرر وإن كان مظنونا ، إلاّ إنّ حكم الشّارع قطعا أو ظنا ) حيث إنّا نقطع بحكم الشّارع ، أو يظّنّ بحكم الشّارع ظنا هو حجّة ، لأنّه بسبب خبر الواحد أو ما أشبه ( بالرّجوع ) والظرف : متعلق «بحكم الشّارع» ، أي : بأن نرجع ( في مورد الظّنّ ، إلى البرائة ، والإستصحاب ، وترخيصه لترك مراعاة الظّنّ ، أوجب القطع أو الظّنّ بتدارك ذلك الضّرر المظنون ) .

إذن : فالمفسدة المظنونة ، متداركة بالمصلحة المقطوع بها ، أو المظنونة في العمل بالأصول ، ظنّا هو حجّة .

وعليه : فنحن لا نقول بمنع الكبرى كلّيّة - كما قاله المجيب - وإنّما نقول : بانّه لا كلّيّة في الكبرى ، وذلك لترخيص الشّارع بسبب البرائة أو الإستصحاب .

( وإلاّ ) أي : وإن لم يتدارك الشّارع الضّرر إذا كان في الواقع ضرر وقد رخّص البرائة أو الإستصحاب ( كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظّنّ ) من البرائة أو الإستصحاب . ( إلقاءا ) من الشّارع للمكلّف في ( المفسدة ) لفرض إنّ في الواقع مفسدة خالفها البرائة أو الإستصحاب .

مثلاً : إذا قال الشّارع : « كُلُ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ، وشكّ الانسان في إنّ هذا المايع خمر أم لا ، فأجرى البرائة ، أو إستصحب الحلّيّة ، حيث كان سابقا خلاً ، فشرب

ص: 274

توضيحُ ذلك : أنّه لا إشكال في أنّه متى ظنّ بوجوب شيء ، وانّ الشّارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا لا يرضى بتركه إلاّ أنّه اختفى علينا ذلك الطّلب ، أو حرّم علينا فعلاً كذلك ، فالعقلُ مستقل بوجوب فعل الأوّل وترك الثّاني ، لأنّه يظنّ في ترك الأوّل الوقوعُ في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ والمحبوب المنجّز النّفس الأمري .

-------------------

المايع ، وكان في الواقع خمرا فتضرّر المكلّف بسببها ، فإنّ الشّارع إذا لم يتدارك الضّرر كان إلقاءا منه للمكلّف في المفسدة ، ومن الواضح : إنّ الإلقاء في المفسدة لا يأتي من الحكيم .

( توضيح ذلك ) أي : التّرخيص من الشّارع على العمل بالأصل المخالف للظّنّ يوجب عدم تأثير الظّنّ بالواجب أو الحرام ، هو ( : إنّه لا اشكال في إنّه متى ظنّ بوجوب شيء ، وإن ّ الشّارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا ) فلم يكن الطلب على نحو الإستحباب ، بل على نحو الحتميّة ، كما لم يكن على نحو التّعليق على شيء بل على نحو التّنجيز ، بحيث إنّ الحكيم سبحانه ( لا يرضى بتركه ) أي : بترك الطّلب ( إلاّ انّه اختفى علينا ذلك الطلب ) فلم يصل إلينا طلبه وأمره ( أو حرّم علينا فعلاً كذلك ) أي : تحريما حتميّا منجّزا لا يرضى بفعله ، إلاّ إنّه اختفى علينا ذلك التّحريم .

( فالعقل مستقل بوجوب فعل الأوّل ) الّذي هو واجب ( وترك الثّاني ) الّذي هو حرام .

وإنّما يستقل العقل بوجوب ذلك وتحريم هذا ، ( لانّه يظّنّ في ترك الأوّل ) وهو الواجب ( الوقوع في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ ) فلم يكن الواجب مقيَّدا ولا ظاهريّا ( والمحبوب المنجّز النّفس الأمري ) فإنّ الواجب

ص: 275

ويظنّ في فعل الثّاني الوقوعُ في مفسدة الحرام الواقعي والمبغوض النّفس الأمري ، إلاّ انّه لو صرّح الشّارع بالرّخصة في ترك العمل في هذه الصّورة كشفَ ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون .

ولذا وقع الإجماع على عدم وجوب مراعاة الظّنّ بالوجوب أو الحرمة إذا حصل الظّنّ من القياس ،

-------------------

محبوب عند الشّارع ، والمفروض إنّه منجّز وليس معلّقا ، كما إنّ المفروض إنّه نفس أمري واقعي وليس ظاهريّا .

كما ( ويظنّ في فعل الثّاني ) وهو الحرام ( الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي والمبغوض النّفس الأمري ) للشّارع لأنّ المفروض : انّ الواجبات محبوبات للشّارع لما فيها من المصالح ، والمحرّمات مبغوضات للشّارع لما فيها من المفاسد ( إلاّ إنّه لو صرّح الشّارع بالرّخصة في ترك العمل ) بالواجب والإتيان بالمحرّم ( في هذه الصّورة ) أي : صورة عدم وصول الواجب والحرام إلينا (كشف ذلك ) أي : ترخيص الشّارع في ترك الأوّل وفعل الثّاني ( عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون ) .

فإذا تركنا الواجب ووقعنا في ضرر ، أو فعلنا الحرام ووقعنا في ضرر ، فإنّ الشّارع يتدارك ذلك الضّرر بمصلحة أخرى ، لأنّ الحكيم لا يوقع الانسان في مفسدة بدون التّدارك .

( ولذا ) : لما ذكرناه : من إنّ للشّارع التّرخيص في مظنون الوجوب ومظنون الحرمة ( وقع الإجماع ) من العلماء كافة ( على عدم وجوب مراعاة الظّنّ بالوجوب أو الحرمة إذا حصل الظّنّ من القياس ) أو حصل من الإستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو الإصطرلاب ، أو من قول الكافر ،

ص: 276

وعلى جواز مخالفة الظّنّ في الشّبهات الموضوعيّة ، حتّى يستبيّن التّحريم ، أو تقوم به البيّنة .

ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشّارع ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ، كما عرفت من الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ومن حكم الشّارع بجواز الإرتكاب في الشّبهة الموضوعيّة .

-------------------

أو الفاسق ، أو ما اشبه ذلك ، ممّا لم يكن الظّنّ من الطّرق المجعولة شرعا .

( و ) كذلك وقع الإجماع ( على جواز مخالفة الظّنّ في الشّبهات الموضوعيّة ، حتّى يستبين التّحريم ، أو تقوم به البيّنة ) حيث قال الإمام عليه السلام في رواية مسعدة بن صدقة : « وَالأَشْيَاءُ كُلّها عَلى هذا ، حَتَّى يَسْتَبِينَ لك غير ذلك ، أَوْ تَقُوْمَ بِهِ البَيِّنَة »(1) . والمراد بالإستبانة : هو العلم العادي الشّامل للإطمئنان ، والبيّنة عبارة عن البيّنة الشّرعيّة ، فإذا شكّ الانسان في شيء إنّه حلال أو حرام ، أو إنّه طاهر أو نجس بنى على إنّه حلال وإنّه طاهر ، وجاز له إستعماله .

( ثم إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشّارع ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ) بأن يقطع إنّ الشّارع رخّص في ترك مراعاة الظّنّ ( كما عرفت من الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ) فإنّا نقطع بانّ الشّارع يقول : إترك الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ، وليس عليك أن تعمل بالشيء الّذي ظننت من القياس إنّه واجب ، أو ظننت منه بانّه حرام ( و ) كما عرفت ذلك ( من حكم الشّارع : بجواز الإرتكاب في الشّبهة الموضوعيّة ) سواء كانت شبهة تحريميّة أو شبهة وجوبية

ص: 277


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشّيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .

وبين أن يحصل الظّنّ بترخيص الشّارع في ترك مراعاة ذلك الظّنّ ، كما في الظّنّ الّذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشّارع ، فإنّه يجوز ترك مراعاته ، لأنّ المظنون تداركُ ضرر مخالفته لأجل ترك مظنون الوجوب ، أو فعل مظنون الحرمة ، فافهم .

-------------------

مالم تكن مقترنة بالعلم الإجمالي .

( وبين أن يحصل الظن بترخيص الشّارع في ترك مراعاة ذلك الظّنّ ) كما إذا ظننّا بأنّ الشّيء الفلاني ، واجب أو حرام ، لكن الإستصحاب أو البرائة - وهما دليلان ظنّيّان ظنّا معتبرا - قاما على عدم الوجوب أو على عدم الحرمة ، فإنّ هذا الظّنّ القائم على عدم الوجوب ، أو على عدم الحرمة يرفع ذلك الظّنّ بالوجوب وبالحرمة .

وذلك ( كما في الظّنّ الّذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشّارع ) فإذا ظننّا بأنّ شيئا منهيّا عنه عند الشّارع ، لكنّ الظّنّ الإستصحابي - مثلاً - قام على عدم كونه منهيّا عنه عند الشّارع عملنا بالإستصحاب وتركنا الظّنّ الأوّل ( فإنّه يجوز ترك مراعاته ) أي : مراعاة ذلك الظّنّ بالتّحريم .

وإنّما نترك المظنون التّحريم ( لأنّ المظنون ) عند قيام الإستصحاب ( تدارك ضرر مخالفته ) أي : مخالفة مظنون التّحريم .

وانّما نظنّ بالتّدارك ( لأجل ترك مظنون الوجوب ، أو فعل مظنون الحرمة ) لأنّ هذا الظّنّ بالتّدارك حاكما على الظّنّ بالضّرر .

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى إنّ المعيار : هو وجود الحجّة على خلاف الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، فلا فرق بين القطع على خلاف الظّنّ ، أو الأمارة أو الأصل المعتبرين على خلافه .

ص: 278

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ أصل البراءة والاستصحاب إنّ قام عليهما الدّليل القطعيّ ، بحيث يدلّ على وجوب الرّجوع إليهما في صورة عدم العلم ولو مع وجود الظّنّ الغير المعتبر ؛ فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضّرر ، وفي انّه لا يجب التّرك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ، لما عرفت من أن ترخيص الشّارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضّرر لا يكون إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون ، على تقدير الثّبوت واقعا .

-------------------

( إذا عرفت ذلك ) الّذي قلناه : من أنّ الظّنّ إذا قام على خلاف الظّنّ بالوجوب أو الظّنّ بالحرمة ، كان هذا الظّنّ القائم على خلاف حاكما على مظنون الوجوب أو مظنون الحرمة ( فنقول : إنّ أصل البرائة والاستصحاب إنّ قام عليهما الدّليل القطعي،

بحيث يدلّ ) ذلك الدّليل القطعي ( على وجوب الرّجوع إليهما ) أي : إلى البرائة والإستصحاب ( في صورة عدم العلم ) بالوجوب أو التّحريم ، بأن كان الاستصحاب على خلاف الوجوب والتّحريم ( ولو مع وجود الظّنّ غير المعتبر ) على ذلك الواجب أو على ذلك الحرام ، ( فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضّرر ) .

فانّ من يظنّ بالوجوب يظنّ بالضّرر في تركه ، ومن يظنّ بالحرمة يظنّ بالضّرر في فعله ( و ) كذا لا اشكال ( في إنّه لا يجب التّرك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ) بعد إنّ قام أصل البرائة أو الاستصحاب على عدمهما .

وذلك ( لما عرفت : من أن ترخيص الشّارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضّرر) كالإقدام على ترك الواجب المظنون أو فعل الحرام المظنون، فإنّه (لا يكون) ذلك التّرخيص ( إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون ، على تقدير الثّبوت واقعا) بأن كان الظّنّ بالضّرر مطابقا للواقع ، كما إذا كان هناك ضرر واقعا

ص: 279

وإن منعنا عن قيام الدّليل القطعي على الاُصول ، وقلنا : إنّ الدّليل القطعيّ لم يثبت على إعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشّرعيّة ، وخصوصا مع الظّنّ بالخلاف .

وكذلك الدّليل لم يثبت على الرجوع إلى البراءة حتّى مع الظّنّ بالتّكليف ، لأنّ العمدة في دليل البراءة الاجماعُ والعقلُ المختصّان بصورة عدم الظّنّ بالتّكليف ؛ فنقولُ : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظّنّيّة على الاستصحاب والبراءة

-------------------

في فعل ذلك الحرام المظنون ، أو في ترك ذلك الواجب المظنون .

( وإن منعنا عن قيام الدّليل القطعيّ على الاُصول ) من البرائة والاستصحاب ( وقلنا : إنّ الدّليل القطعيّ لم يثبت على إعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشّرعيّة ) وإنّما الاستصحاب خاصّ بالموضوعات ( و خصوصا مع الظّنّ بالخلاف ) بأن يكون الاستصحاب حجّة فيما إذا لم يظن بخلافه .

( وكذلك ) قلنا : بانّ ( الدّليل لم يثبت على الرجوع إلى البرائة حتّى مع الظّنّ بالتّكليف ) فإذا كان هناك ظنّ بالتّكليف وجوبا أو حرمة ، فلا دليل على البرائة حينئذٍ ( لأنّ العمدة في دليل البرائة : الاجماع والعقل ، المختصان بصورة عدم الظّنّ بالتّكليف ) فإذا ظنّ بالتّكليف ، فلا إجماع ولا عقل على البرائة .

والحاصل : إنّا إذا قلنا : بأنّه لا قطع بالبرائة والاستصحاب ( فنقول : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظّنّيّة على الاستصحاب والبرائة ) مثل : « لاَ تَنْقُضِ اليَقِيْنَ بِالشَّكِّ » (1) بالنّسبة إلى الاستصحاب ، ومثل : « كُلُّ شَيءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيْهِ

ص: 280


1- - الكافي اصول : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : = = ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

عند عدم العلم الشّامل لصورة الظّنّ . فيحصل الظّنّ بترخيص الشّارع لنا في ترك مراعاة الظنّ بالضّرر ، وهذا القدر يكفي في عدم الظّنّ بالضّرر .

وتوهم : « أنّ تلك الأخبار الظّنّيّة لا تعارض العقلَ المستقلَّ بدفع الضّرر المظنون » ،

-------------------

نَهْيٌ » (1) بالنّسبة إلى البرائة ، وذلك ( عند عدم العلم ) بالحكم ( الشّامل لصورة الظّنّ ) .

فإنّه إذا لم يكن علم بالحكم فسواء كان غير العلم بالحكم ، أو شكّا بالحكم أو وهما بالحكم ، يكون المرجع الاستصحاب والبرائة ، لشمول أخبارهما لصورة عدم العلم : من الظّنّ بالحكم ، أو الشّكّ بالحكم ، أو الوهم بالحكم ( فيحصل الظّنّ بترخيص الشّارع لنا في ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ) فإنّ أخبار الاستصحاب والبرائة توجب الظّنّ المعتبر الّذي هو حجّة : بأنّ الشّارع رخّص لنا في ترك الواجب وفعل الحرام .

( وهذا القدر ) من ترخيص الشّارع ( يكفي في عدم الظّنّ بالضّرر ) أي : الظّنّ بالبرائة إذ الظّنّ بالبرائة ، والظّنّ بالإستصحاب حجّة ، فلا يقاومه الظّنّ بالضّرر في ترك الواجب المظنون ، أو فعل الحرام المظنون .

( وتوهم إنّ تلك الأخبار ) الدّالّة على البرائة والاستصحاب ( الظنّيّة ) لأنّ الفرض إنّا لا نقطع بذلك قطعا وجدانيّا ، والأخبار الظّنّيّة ( لا تعارض العقل المستقل بدفع الضّرر المظنون ) فإذا وقع التّعارض بين الأخبار وبين العقل ، قدّم

ص: 281


1- - وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 .

مدفوعٌ بأنّ الفرض أنّ الشّارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضّرر ، إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون على تقدير ثبوته ، فحكمُ الشّارع ليس مخالفا للعقل ، فلا وجهَ لإطراح الأخبار الظّنّيّة الدّالّة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل .

ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل

-------------------

العقل على الأخبار ( مدفوعٌ : بأنّ الفرض : أنّ الشّارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضّرر ، إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون - على تقدير ثبوته ) أي : ثبوت الضّرر المظنون فتكون الأخبار حاكمة على العقل ، إذ العقل يدلّ على إنّ الضرر المظنون لا يجوز إقتحامه والأخبار تقول : إنّه لا ضرر في المقام ، فيرفع موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب .

وعليه : ( فحكم الشّارع ) بجواز الاقتحام ( ليس مخالفا للعقل ، فلا وجه لإطراح الأخبار الظّنّيّة الدّالّة على هذا الحكم ) أي : الاستصحاب والبرائة ، فإنّ كلاً منهما وإن كان منافيا لدفع الضّرر المظنون ، لكن ( غير المنافي لحكم العقل ) بل الشّارع قد أضاف بذلك علما جديدا إلى معلومات العقل ، وهو أنّه لا ضرر غير متدارك في المقام ، بحيث إنّه لو لم يكن حكم الشّارع هذا ، لكان العقل يرى إنّه ضرر غير متدارك .

وبذلك ظهر : إنّه لا مجال لأن يقال : إنّ الحكم العقلي قطعيٌّ والتّدارك ظنّيّ ، ولا يرفع اليد عن القطعي بالظّنّ .

لانّه يقال : إنّ التّدارك قطعي أيضا ، لأنّ الظّنّ ينتهي إلى القطع .

( ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل ) الأوّل الّذي ذكروه للإنسداد : - من انّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من لحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضّرر ، ودفع الضّرر

ص: 282

هو وجوب العمل بالظّنّ إذا طابق الاحتياط لا من حيث هو .

وحينئذٍ : فإذا كان الظّنّ مخالفا للاحتياط الواجب ، كما في صورة الشّكّ في المكلّف به ، فلا وجه للعمل بالظّنّ حينئذٍ .

ودعوى الاجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل ، واضحةُ الفسادِ ،

-------------------

المظنون لازم - ( هو وجوب العمل بالظّنّ إذا طابق ) الظّنّ ( الاحتياط ) من حيث العمل ( لا من حيث هو ) ظنّ وإن لم يطابق .

وإنّما كان مفاد الدّليل : العمل بالظّنّ إذا طابق الاحتياط ، هو لأنّ في مخالفة الواجب والحرام مظنّة العقاب ، أمّا مخالفة الظّنّ الدّال على النّدب أو الكراهة أو الاباحة ، فليست المخالفة فيها مظنّة للعقاب .

ومن المعلوم : إنّ الظّنّ بالوجوب ، أو الظنّ بالتّحريم ، يطابق الاحتياط ، فإنّ الاحتياط هو : أنّ يأتي الانسان بمظنون الوجوب ويترك مظنون الحرمة .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان وجوب العمل بالظّنّ فيما إذا طابق الاحتياط ( فإذا كان الظّنّ مخالفا للاحتياط الواجب ) لا الاحتياط المندوب ، إذ الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي واجب ، بينما الاحتياط في أماكن أخر ، غير واجب ( كما في صورة الشّكّ في المكلّف به ) بأن علم التّكليف لكن تردّد بين أن يكون التّكليف متعلّقا بهذا الشّيء ، أو بذاك الشّيء ( فلا وجه للعمل بالظّنّ حينئذٍ ) لأنّ البرائة والاستصحاب وما أشبه لا يتمكن من أن يقاوم العلم الاجمالي .

( ودعوى الاجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل ) أي : إنّ كلّ من يُقدّم الظّنّ في غير مخالف الاحتياط ، يقدّم الظّنّ مطلقا حتّى في مخالف الاحتياط ، فالبرائة والاستصحاب محكمان ، سواء كان في طرفهما الاحتياط أم لا ، فهي دعوى ( واضحة الفساد ) .

ص: 283

ضرورة انّ العمل في الصّورة الأولى لم يكن بالظّنّ من حيث هو ، بل من حيث كونه إحتياطا .

وهذه الحيثيّة نافية للعمل بالظّنّ في الصّورة الثّانية .

فحاصل ذلك العمل بالاحتياط كلّيّة وعدم العمل بالظّنّ رأسا .

-------------------

وذلك لأنّه لا إجماع مركّب في المقام ، ولا عدم القول بالفصل ( ضرورة إنّ العمل في الصّورة الأولى ) وهي صورة مطابقة الظّنّ للإحتياط ( لم يكن ) ذلك العمل ( بالظّنّ من حيث هو ) ظنّ ( بل من حيث كونه إحتياطا ) فيكون الاعتماد هنا على الاحتياط لا على الظّنّ بما هو ظنّ .

( وهذه الحيثيّة ) أي : حيثيّة كون الظّنّ مطابقا للإحتياط ( نافية للعلم بالظّنّ في الصّورة الثّانية ) وهي فيما إذا كان الاحتياط مخالفا للظّنّ .

( فحاصل ذلك ) الّذي ذكرنا : من العمل بالظّنّ الاستصحابي ونحوه ، هو عبارة عن ( : العمل بالإحتياط كلّيّة ) أي : في كِلاَ المقامين ، ( وعدم العمل بالظّنّ رأسا ) لانه حتّى في مورد العمل بالظّنّ ، لم يكن العمل بالظّنّ بما هو ظنّ ، بل هو عمل الاحتياط على ما عرفت .

لكن لا يخفى : إنّه يرد على ما ذكره المصنّف ما أورد عليه المحقّق الاشتياني بقوله : « لا يخفى عليك : إنّ المدّعى : هو حجّيّة الظّنّ ، بحيث يكون مثبتا لمدلوله وطريقا إليه شرعا - مطلقا - سواء قام على الحكم الالزامي أو غيره ، وسواء وافق الاحتياط ، كما إذا كان مفاده إثبات جزئيّة ما شكّ في جزئيّته ، أو شرطيّته ، أو خالفه ، كما إذا كان مفاده تعيين الواجب المردد بين المتباينين في الشّكّ في المكلّف به ».

ومن المعلوم : عدم وفاء الوجه المذكور - على تقدير تماميّته - بإثبات هذا

ص: 284

ويُمكن أنّ يُراد أيضا بأنّها قاعدة عمليّة لا تنهض دليلاً ، حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدّالّة على الحكم غير الضّرري ، وقد يشكل بأنّ المعارضة

-------------------

المدّعى ، فإنّ مرجعه إلى الاحتياط في مورد قيام الظّنّ على الحكم الالزامي ، فلا يشمل فيما لو قام على غيره من الأحكام الثّلاثة ، كما إنّه لا يشمل فيما لو قام على تعيين المكلّف به ، فيما يقتضي الاحتياط في المسألة الفرعيّة : الجمع بين المحتملين.

وإثبات المدّعى وتماميّته من الجهتين : بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل كما ترى ، إذ من قال بحجّيّة الظّنّ لا يفرّق بين ما أُريد قيامه ومفاده ، لا من يعمل به من باب الاحتياط ، فانّه لا معنى لعدم تفصيله ، بل لابدّ له من القول بالتّفصيل ، فإنّ الحيثيّة الموجبة للعمل به نافية له فيما خالف الاحتياط .

( ويمكن إنّ يُراد أيضا ) بقاعدة دفع الضّرر المظنون ، الّذي إستدلّ به جماعة لأجل حجّيّة الظّنّ مطلقا ( : بأنّها قاعدة عمليّة ) شرّعت في مقام العمل ، لا أنّها قاعدة أوّليّة فهي مثل الاستصحاب ، ، والبرائة ، وما أشبه ، ممّا هي محكومة بالأدلّة اللفظيّة كما قالوا : إنّ الاُصول الأربعة ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل ، ف- (لا تنهض ) هذه القاعدة ( دليلاً ، حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدّالّة على الحكم غير الضّرري ) أي : الأحكام الثّلاثة : من النّدب والكراهة والاباحة .

فالأدلة الدّالّة على هذه الأحكام الثّلاثة ، لا تدع مجالاً لقاعدة دفع الضّرر المظنون ، وإن ظننا في مورد هذه الأحكام الثّلاثة ظنّا بالضّرر ، فإذا كان هناك دليل على إستحباب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وظننّا الوجوب ممّا معناه : الظّنّ بالعقاب في ترك الدّعاء ، قدّم الدّليل على هذه القاعدة .

( وقد يشكل ) ما ذكره بقوله : ويمكن أن يراد أيضا الخ ( بأنّ المعارضة

ص: 285

حينئذٍ يقع بين هذه القاعدة وبين الاُصول اللفظية ، فإن نهضت للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك أيضا في البرائة والاستصحاب النّافيين للتّكليف ، المرخّصين للفعل والتّرك ، المُؤَمِنَيْنِ من الضّرر ، فتأمّل .

الثّاني :

أنّه لو لم يوخذ بالظّنّ لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ،

-------------------

حينئذٍ ) أي : حين كانت القاعدة في مورد الدّليل غير الضّرري ( يقع بين هذه القاعدة وبين الاُصول اللفظيّة ) وهي الأخبار الّتي تدلّ على الأحكام الثّلاثة المذكورة ( فإن نهضت ) الاُصول اللفظيّة ( للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك ) أي : جرت الحكومة على القاعدة ( أيضا في البرائة والاستصحاب النّافيين للتّكليف ، المرخّصين للفعل والتّرك ، المُؤَمِنَيْنِ من الضّرر ) فكما إنّ الأدلّة اللفظيّة حاكمة على هذه القاعدة ، كذلك الأدلّة العمليّة الّتي تدلّ على البرائة والاستصحاب حاكمة عليها .

( فتأمّل ) ولعلّ وجه الفرق بين الاُصول اللفظيّة والاُصول العمليّة : هو إنّ كون الاُصول اللفظيّة حاكمة على قاعدة دفع الضّرر المظنون ، لا يُلازم كون الاُصول العمليّة أيضا حاكمة عليها ، إذ الاُصول اللفظيّة تبيّن الحكم الواقعي ، بينما الاُصول العمليّة تبيّن وجه العمل في مقام عدم وجود دليل .

ومن الواضح : إنّ القاعدة العقليّة بدفع الضّرر المظنون دليل ، فلا مجال للأصول العمليّة مع القاعدة ، فتقدّم القاعدة عليها ، بينما لا مجال للقاعدة مع الاُصول اللفظيّة ، فتقدّم الاُصول اللفظيّة عليها .

( الثّاني ) من الأدلّة الأربعة الّتي ذكروها لحجّيّة الظّنّ مطلقا هو : ( إنّه لو لم يؤخذ بالظّنّ ، لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ) لأنّه كلّما كان هناك ظنّ ، كان

ص: 286

وهو قبيح .

وربّما يجاب عنه : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأخذ به حسنٌ عقلاً .

وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ، ليس العملُ به ترجيحا للمرجوح ، بل هو جمعٌ في العمل بين الراجح والمرجوح . مثلاً ، إذا ظُنَّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا ، فحينئذٍ الاتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للرّاجح في العمل ، لأنّ الاتيان لا ينافي عدم الوجوب .

-------------------

في مقابله وَهمٌ ، والانسان مخيّر بين أن يأخذ بالوهم أو يأخذ بالظّنّ ، فإذا أخذ بالوهم لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح (وهو قبيح) عقلاً ، فلا يجوز ترك الظّنّ إلى الوهم .

( وربّما يجاب عنه : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ) وإنّما الممنوع عقلاً : هو ترجّح المرجوح على الرّاجح ، كما إنّه يمنع عقلاً : ترجح أحد المتساويين على الآخر (إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأَخذُ به حسنٌ عقلاً ) فإذا قام الظّنّ - مثلاً - على : أنّ الدّعاء عند رؤية الهلال مستحبّ ، والوهم : على وجوبه ، فإذا قرأه المكلّف بإعتبار الوهم بالوجوب فهل أتى بالقبيح ؟ .

( وفيه ) أي : في هذا الجواب . ( : أنّ المرجوح المطابق للإحتياط ، ليس العمل به ) أي : بذلك المرجوح ( ترجيحا للمرجوح ) على الرّاجح ( بل هو ) أي : العمل بالمرجوح المطابق للإختيار ( جمع في العمل بين الرّاجح والمرجوح ) فهو راجح من جهة الاحتياط ، ومرجوح من جهة الظّنّ المخالف له .

( مثلاً : إذا ظنّ عدم وجوب شيء ) كما ذكرنا في الدّعاء عند رؤية الهلال ( وكان وجوبه مرجوحا ) لانّه وهم في قِبال الظّنّ ( فحينئذٍ : الاتيان به من باب الاحتياط ، ليس طرحا للرّاجح في العمل ، لأنّ الاتيان لا ينافي عدم الوجوب ) لأنّ

ص: 287

وإن أريد الاتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ، ففيه : إنّ الاتيان على هذا الوجه مخالف للإحتياط ، فإنّ الاحتياط هو الاتيان لا حتمال الوجوب ، لا بقصده .

وقد يجابُ أيضا : بأنّ ذلك فرع وجوب التّرجيح ، بمعنى أنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح الرّاجح ، كان الأوّل قبيحا .

وأمّا إذا لم يثبت وجوب التّرجيح ، فلا يرجح المرجوح ولا الرّاجح .

-------------------

معنى عدم الوجوب : جواز الاتيان ، لا إنّ معناه : عدم جواز الاتيان ، حتّى ينافي الوهم بالوجوب .

( وإن أُريد ) أي : أراد المستدّل بهذا الدّليل ( : الاتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ) الّذي هو مظنون ( ففيه : إنّ الاتيان على هذا الوجه ) أي : بقصد الوجوب ( مخالف للإحتياط ، فإنّ الاحتياط هو : الاتيان لاحتمال الوجوب ، لا بقصده ) أي : لا بقصد الوجوب .

( وقد يجاب أيضا ) أي : عن إشكاله : إنّه لو لم نأخذ بالظّنّ لزم الأخذ بالوهم والأخذ بالوهم في مقابل الأخذ بالظّنّ ترجيح للمرجوح على الرّاجح ، وترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح ( : بأنّ ذلك فرع وجوب التّرجيح ) أي : إنّه فيما إذا دار الأمر بين الظّنّ والوهم ، قلنا : بلزوم تقديم الظّنّ على الوهم ( بمعنى : إنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الرّاجح ، كان الأوّل قبيحا ) عند العقلاء .

( وأمّا إذا لم يثبت وجوب التّرجيح ، فلا يرجّح المرجوح ولا الرّاجح ) وإنّما يعمل بمقتضى الاُصول - فيما إذا لم يكن هناك علمٌ - سواء طابق الرّاجح أو المرجوح ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّا إذا علمنا بالأحكام علمنا بعلمنا ، وإذا لم نعلم بالأحكام أخذنا بمقتضى الاُصول الأربعة : من البرائة ، والاحتياط ،

ص: 288

وفيه : إنّ التوّقّف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح ، فتأمّل جدا.

-------------------

والتّخيير ، والاستصحاب ، فلا يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وحتّى إذا طابق الاستصحاب - مثلاً - الوهم ، لم يكن من ترجيح المرجوح على الرّاجح - الّذي هو الظّنّ ، بل هو من تحكيم الاستصحاب الّذي هو دليل في المقام .

هذا حسب ما فهمناه من قول المجيب ، الّذي ذكره المصنّف بقوله : « وقد يجاب أيضا » الخ . لكنّ المصنّف فَهِمَ من قد يجاب أمرا آخر - وهو : إنّ المجيب يريد أنّ يقول : قد يرجِّح الانسان المرجوح على الرّاجح ، وقد يرجّح الرّاجح على المرجوح ، وقد يتوقّف في إنّه هل يجب ترجيح الرّاجح أو لا يجب ؟ فأشكل عليه بقوله : ( وفيه : إنّ التّوقف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح ) فكما إنّ الانسان يقبح عليه أنّ يرجح المرجوح على الرّاجح ، كذلك يقبح عليه أن يتوقّف ، فلا يدري : هل يلزم ترجيح الرّاجح ، أو لا يلزم ترجيح الرّاجح ، بأن يرى التّساوي في إنّه أيّهما رجح ، فلا بأس عليه ؟ .

( فتأمّل جدا ) قال المصنّف في الحاشية وجه التأمّل : إنّ مراد المستدلّ من الرّاجح والمرجوح ما هو الأقرب إلى الغرض والأبعد عنه في النّظر ، ولا شكّ في وجوب التّرجيح بمعنى : العمل بالأقرب وقبح تركه مطلقا ، فلا فرض لعدم وجوب التّرجيح يرد به هذا الدّليل ، فلا فائدة في الردّ .

إنتهى كلام المصنّف رحمه اللّه في حاشية الكتاب في وجه التأمّل ، وهو أعلم بمراده ، ولو لم يبيّن وجه التأمّل في الحاشية ، كان الأولى أنّ نقول : إنّ تأمّله فيما إستفاده من كلام المجيب ، وإنّه أمرَ بالتّأمّل لإحتمال أن يكون كلام المجيب هو ما ذكرناه في الشّرح ، لا ما ذكره المصنّف ، ممّا يظهر من إيراده عليه .

ص: 289

فالأولى : الجواب ، أولاً ، بالنّقص بكثير من الظنون المحرّمة العمل بالإجماع أو الضّرورة .

وثانيا بالحلّ : وتوضيحهُ : تسليمُ القبح إذا كان التّكليف وغرض الشّارع متعلّقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط ، فإنّ العقل قاطع بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذّهاب إلى بغداد وتردّد الأمرُ بين طريقين ، أحدهما مظنون الايصال ، والآخر موهومه ، فترجيح الموهم قبيح ،

-------------------

وحيث قد عرفت الاشكال فيما أجابوا به عن ثاني الأدلّة الأربعة القائل : « إنّه لو لم يؤخذ بالظّنّ ، لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو قبيح » أجاب المصنّف عنه بقوله : ( فالأولى الجواب ، أولاً : بالنّقض بكثير من الظنون المحرّمة العمل ، بالإجماع أو الضّرورة ) كالظّنّ القياسي ، والظّنّ الحاصل من خبر الفاسق أو الكافر ، والظّنّ الحاصل من الأسباب غير العاديّة : كالجفر والرّمل ، وما أشبه ، والظّنّ الحاصل من مناسبات خارجية : كالإستحسان ، والمصالح المرسلة ، وطيران الغُراب ، وجَريان المِيزاب ، فلو لزم الأخذ بالظّنّ في مقابل الوهم ، لزم الأخذ بهذه الظنون أيضا ، والحال إنّه لا يؤخذ بهذه الظّنون ، فلا دليل على الأخذ بالظّنّ في مقابل الوهم في الأحكام الشّرعيّة .

( وثانيا : بالحَلّ ، وتوضيحه : تسليم القبح إذا كان التّكليف وغرض الشّارع متعلّقا بالواقع ) بما هو واقع ( ولم يمكن الاحتياط ) فإنّه في هذه الصّورة يكون ترجيح غير الظّنّ على الظّنّ قبيحا ( فإنّ العقل قاطع : بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذّهاب إلى بغداد وتردّد الأمر بين طريقين : أحدهما : مظنون الايصال ، والآخر : موهومه ، فترجيح الموهوم ) على المظنون ( قبيح ) كما أنّ التّوقّف عن التّرجيح مع وجوب الذّهاب قبيح أيضا .

ص: 290

لانّه نقض للغرض .

وأمّا إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع أو تعلق به مع إمكان الاحتياط ، فلا يجب الأخذُ بالرّاجح ، بل اللاّزم في الأوّل هو الأخذ بمقتضى البراءة ، وفي الثّاني الأخذ بمقتضى الاحتياط ، فإثباتُ القبح موقوف على إبطال الرّجوع إلى البراءة في موارد الظّنّ وعدم وجوب

-------------------

وانّما كان الأمران قبيحين : ( لانّه نقض للغرض ) الّذي هو الذّهاب إلى بغداد .

( وأمّا إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع ) بل تعلق بالواقع المعلوم ، أو المظنون بالظّنّ الخاصّ ( أو تعلق به ) أي : بالواقع ( مع إمكان الاحتياط ) كما إذا تعلّق التّكليف بالصّلاة في الثّوب الطّاهر ، وأمكن الاحتياط بالصّلاة في الثوبين المحتمل كون أحدهما طاهرا ( فلا يجب الأخذ بالرّاجح ) منهما .

( بل اللاّزم في الأوّل : ) وهو ما إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع بما هو واقع ، بل بالواقع المعلوم ، أو المظنون بالظّنّ المعتبر - مثلاً - فإذا لم يعلم بالواقع ، كان المرجع البرائة ، لأنّ الشّارع قال : « رفع ما لايعلمون » (1) .

وعليه : فالتكليف ( هو الأخذ بمقتضى البرائة ) لأدلتها .

( وفي الثّاني : ) وهو ما إذا تعلّق التّكليف بالواقع مع إمكان الاحتياط ، لَزِمَ ( الأخذ بمقتضى الاحتياط ) حسب العلم الاجمالي .

وعليه : ( ف- ) قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ليس مطلقا ، وانّما ( إثبات القبح موقوف على إبطال الرّجوع إلى البرائة في موارد الظّنّ ، وعدم وجوب

ص: 291


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الاختصاص : ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

الاحتياط فيها .

ومعلومٌ انّ العقل قاض حينئذٍ بقبح ترجيح المرجوح ، بل ترك ترجيح الرّاجح ، فلابدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد الآتي المركّب من بقاء التّكليف وعدم جواز الرّجوع إلى البراءة وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات الّتي لا يتردّد الأمر بين الأخذ بالرّاجح والأخذ بالمرجوح إلاّ بَعدَ إبطالها .

-------------------

الاحتياط فيها ) أي : في موارد الظّنّ ، فقبح ترجيح الوهم على الظّنّ أو التّساوي بينهما ليس مطلقا ، بل في موارد عدم البرائة ، وعدم الاحتياط ، فاطلاق الدّليل على لزوم الأخذ بالظّنّ غير تامّ .

( ومعلوم : إنّ العقل قاض حينئذٍ ) أي : حين عدم لزوم الرّجوع إلى البرائة ، وعدم لزوم الرّجوع إلى الاحتياط ( بقبح ترجيح المرجوح ) على الرّاجح ( بل ) قبح ( ترك ترجيح الرّاجح ) بأنّ يرى الأمرين متساويين فيختار الرّاجح أو المرجوح .

وعليه : ( فلابدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد الآتي ) تفصيله ، فانّه ليس دليلاً مستقلاً .

ومن المعلوم : إنّ دليل الانسداد هو الدّليل ( المركّب من : بقاء التّكليف ، وعدم جواز الرّجوع إلى البرائة ، وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات ) الآتية، والّتي منها : قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، أو قبح التّساوي بين الرّاجح والمرجوح ، فاللاّزم أنّ تتحقّق المقدّمات بالإنسداد ( الّتي لايتردّد الأمر بين : الأخذ بالرّاجح ، والأخذ بالمرجوح ، إلاّ بعد إبطالها ) وإثبات تلك المقدّمات .

ص: 292

الثّالث :

ما حكاه الأستاذ عن أستاذه عن السّيّد الطّباطبائي ، من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك .

-------------------

وحينئذٍ : فليس هذا الدّليل الثّاني لحجّيّة مطلق الظّنّ ، دليلاً في قِبال الانسداد .

وإن شئت قلت : إن تمّت مقدّمات الانسداد في هذا الدّليل الثّاني - لانّ هذا الدّليل الثّاني ذكر بعض مقدّمات الانسداد لا كلّها - فإذا إنضم إلى هذا البعض سائر المقدّمات ، فليس هذا الدّليل الثّاني دليلاً جديدا في قِبال دليل الانسداد ، وإن لم تتمّ مقدّمات الانسداد ، فهذا الدّليل باطل في نفسه .

( الثّالث ) من أدلّة حجّيّة الظّنّ مطلقا ، ( ما حكاه الاُستاذ ) وهو شريف العلماء قدس سره ( عن أستاذه : السّيّد الطّباطبائي ) بحر العلوم ( من : انّه لا ريب في وجوب واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ) فإنّ جملة من الأحكام نعلمها واجبات أو محرّمات ، وجملة من الأحكام لا نعلمها ، فهي مشتبهات كالدّعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - وجوبا ، وشرب التّتن - مثلاً - تحريما .

( ومقتضى ذلك ) العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ( وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ) أي : ولو موهوما ، وذلك لأنّ العلم الاجمالي يقتضي الاتيان بجميع الأطراف ، سواء كانت الأطراف متساوية ، أو الأطراف بين راجح ومرجوح ، فإذا علم الانسان بوجود إناء محرّم بين عشرة أواني ، فاللاّزم أنّ يجتنب عن الكلّ ، سواء الكُلّ في شكّه متساويا ، أو كان الحرام في الأحمر - مثلاً -

ص: 293

ولكن مقتضى قاعدة نفي العُسر والحَرج عدم وجوب ذلك كلّه ، لانّه عسر أكيد وحرج شديد .

فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط ، وإنتفاء الحرج ، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لانّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات

-------------------

من تلك الأواني أرجح من كونه في الأبيض - مثلاً - :

( ولكن مقتضى قاعدة نفي العُسر والحَرج ) حيث إنّ الانسان إذا أراد أن يأتي بكلّ المشتبهات في أطراف الواجب ، ويترك كلّ المشتبهات في أطراف الحرام ، لزم منه العُسر والحَرج ، فيكون مقتضى هذه القاعدة ( : عدم وجوب ذلك كلّه ، لانّه عُسر أكيد وحَرجٌ شديد ) ودليل العسر والحرج وارد على الأدلّة الأوليّة كما إنّها واردة على الأدلّة الثّانويّة أيضا ، مثل لزوم الاتيان بأطراف العلم الاجمالي .

وعليه : ( فمقتضى الجمع بين قاعدتي : الاحتياط ، وإنتفاء الحرج ) لورود قاعدة إنتفاء الحرج على قاعدة الاحتياط ، هو ( : العمل بالاحتياط في المظنونات ، دون المشكوكات والموهومات ) .

أمّا إذا كان الحرج بمقدار الثّلث فقط ، فيعمل بالمظنونات والمشكوكات دون الموهومات ، لانّ المشكوكات أولى بالعمل من الموهومات . لا يقال : إذا كان في البعض عسر وحرج ، عملنا بالبعض الّذي لا عسر فيه في كلّ من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وتركنا البعض الآخر الّذي فيه عسر في كلّ من الثّلاثة .

لانّه يقال : ليس من الصّحيح أن نترك المظنون ونأخذ بالمشكوك والموهوم .

وذلك ( لأنّ الجمع على غير هذا الوجه ) الّذي ذكرناه : من الأخذ بالمظنونات ، دون المشكوكات والموهومات أي : بأن كان الجمع ( بإخراج بعض المظنونات ،

ص: 294

وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطلٌ إجماعا .

وفيه انّه راجعٌ إلى دليل الانسداد الآتي ، إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك الدّليل إلاّ ويُحتاجُ إليها في إتمام هذا الدّليل ، فراجع وتأمّل ، حتّى يظهر لك حقيقةُ الحال .

مع انّ العمل بالإحتياط في المشكوكات أيضا كالمظنونات ، لا يلزم منه حرج قطعا ، لقلّة موارد الشّكّ المتساوي الطّرفين ، كما لا يخفى ،

-------------------

وإدخال بعض المشكوكات والموهومات ) فانّه ( باطل إجماعا ) .

فانّ العقلاء كافّة متّفقون على أنّ المظنون ، أولى من المشكوك والموهوم ، فإذا إضطر الانسان إلى شرب ثلاث أوان من تسع أوان وكان بينها سمّ ، فظنّ بعدم السّمّ في الأواني البيض ، ووهم بالسّمّ في الأواني الحمر ، وشكّ بالسّمّ في الأواني الصفر ، فانّ العقلاء كافة يلزمونه بشرب الأواني البيض ، لا أن يشرب ثلاثا : واحدا من البيض ، وواحدا من الحمر ، وواحدا من الصّفر .

( وفيه ) أي في هذا الدّليل الثّالث ( إنّه راجع إلى دليل الانسداد الآتي إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك الدّليل ) الانسدادي ( إلاّ ويحتاج إليها ) أي : إلى تلك المقدّمة ( في إتمام هذا الدّليل ) الثّالث .

(فراجع ، وتأمّل ، حتّى يظهر لك حقيقة الحال ) وتعلم بأنّ هذا الدّليل هو دليل الانسداد وليس دليلاً جديدا .

( مع إنّ ) هذا الدّليل الثّالث يرد عليه إشكال آخر وهو : إنّ ( العمل بالإحتياط في المشكوكات أيضا كالمظنونات ، لا يلزم منه حرج قطعا ) فالّلازم حسب هذا الدّليل أن يعمل بالمشكوكات والمظنونات ، لا ان يعمل بالمظنونات فقط ( لقلّة موارد الشّكّ المتساوي الطرفين ، كما لا يخفى ) على من راجع الفقه ، فإنّ الغالب

ص: 295

فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهمات فقط .

ودعوى : « إنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات ، قال بعدمه أيضا في المشكوكات » ، في غاية الضّعف والسّقوط .

-------------------

هو الظّنّ ، وفي قِباله الوهم ( فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط ) لا كما ذكره الدّليل الثّالث : من إنّه يقتصر على المظنونات فقط .

( ودعوى : إنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات ، قال بعدمه أيضا في المشكوكات ) فهناك إجماع مركّب على إنّ المشكوكات لا يعمل بها ، فهذه الدّعوى ( في غاية الضّعف والسّقوط ) لانّ القائلين بالإنسداد قليلون جدا ، ولا يتحقّق الاجماع المركّب بسبب قلّة القائلين .

وصلى اللّه على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين .

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون

وسلامٌ على المرسلين والحمد للّه ربِّ العالمين

* * *

ص: 296

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة بحث الظن: « دليل الانسداد »

اشارة

ص: 297

ص: 298

الدّليل الرابع :

هو الدّليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركَّب من مقدّمات :

الاُولى : انسدادُ باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة .

الثانية : أنّه لايجوز لنا إهمالُ الأحكام المشتبهة وترك التَعرّض لامتثالها ، بنحو من أنحاء إِمتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ ، بأن نقتصر في الاطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلاً ، أو بالظنّ الخاص القائم مقامَ العلم بنصّ الشارع ،

-------------------

( الدّليل الرابع : هو الدّليل المعروف بدليل الانسداد ) وقد أشار إليه شيخُ الطائفةِ في العُدّة ، وذكره صاحب المعالم دليلاً رابعاً للمقام ( وهو مركَب من مقدّمات ) إختلفوا في عددها ، ونحن نتبّع المصنّف في العدد وكيفية الترتيب .

( الأولى : إنسداد باب العلم والظنّ الخاصّ ) الذي يسمى بالعلميّ ( في معظم المسائل الفقهيّة ) فانّنا لانعلم بالأحكام في تلك المسائل ، كما لم يرد فيها أخبار صحيحة صريحة غير صادرة للتقية بمعنى : صحة السّند ، ووجود الظهور ، وصحة المضمون .

( الثانية : أنّه لايجوز لنا إهمال الأحكام المشتبهة ، وترك التعرّض لامتثالها ) إمتثالاً ( بنحو من أنحاء إمتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ ) فانّ الجاهل بالأحكام ، العاجز عن إمتثالها تفصيلاً ، لايجوز له ترك تلك الأحكام الّتي لايعلمها، وترك التعرّض لامتثالها ، وذلك ( بأن نقتصر في الاطاعةَ على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلاً ، أو ) المظنونة ( بالظّن الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع ) .

كما إذا نصّ الشارع على إنّ خبر الواحد - مثلاً - قائم مقام العلم ، فنقتصر في

ص: 299

ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ممّن لاحكمَ عليه فيها كالأطفال والبهائم ، أو ممّن حكمه فيها الرّجوع إلى أصالة العدم .

الثالثة : أنّه إذا وجب التعرّضُ لامتثالها فليس امتثالها بالطرق الشرعيّة المقرّرة للجاهل ، من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الاجماليّ بالامتثال أو الأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتبّع شرعاً في نفس تلك المسألة

-------------------

أعمالنا على المعلومات والمظنونات على هذا النحو من الظنّ ( ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ) أي : في الموارد المشتبه حكمها ( ممّن لا حكم عليه فيها ) فيجوز للانسان أن يعمل بمشتبه التحريم وأنّ يترك مشتبه الوجوب ( كالأطفال والبهائم ) الذين لاتكليف لهم .

( أو ) بجعل أنفسنا في الموارد المشتبهة ( ممّن حكمه فيها الرجوع الى أصالة العدم ) أي : إنّه محكوم بحكم من الشرع ، وليس كالأطفال والبهائم ممّن رُفع عنهم قلم التكليف ، وإنّما يكون حكمه أصالة العدم ، فإذا شك في وجوب شيء أجرى أصالة عدم الوجوب ، وإذا شك في حرمة شيء أجرى أصالة عدم الحرمة .

( الثالثة ) من المقدمات ( : إنّه إذا وجَبَ التَعرّض لامتثالها ) أي : لامتثال تلك الأحكام الكثيرة المشتبهة عندنا ( فليس إمتثالها بالطرق الشرعيّة المقررة للجاهل ) بالمكلّف به مع علمه بالتكليف ( : من الأخذ بالاحتياط الموجِب للعلم الاجمالي بالامتثال ) ، فانّ من يحتاط - عند إشتباه القبلة - بإتيان أربع صلوات إلى أربع جهات ، فاتيانه بالصلوات الأربع يوجب أن يعلم إجمالاً بأنّه إمتثل الصلاة الى القبلة ، وكذا من إشتبه في انّ هذا الاناء خمر ، أو ذاك الاناء ، فيتركّهما معاً ، فانّه يوجب العلم الاجماليّ بأنّه ترك الحرام الموجود في البيّن .

( أو الأَخذ في كل مسألة بالأصل المتّبع شرعاً في نفس تلك المسألة ،

ص: 300

مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمّة إلى غيرها من المجهولات ، أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها .

الرّابعة : انّه إذا بطل الرّجوعُ في الامتثال إلى الطرق الشرعيّة المذكورة ، لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الآخر ،

-------------------

مع قطع النظر عن ملاحظتها ) أي : ملاحظة تلك المسألة ( منضمّة الى غيرها ) أي : الى غير تلك المسألة ( من المجهولات ) بأنّ يلاحظ في كل مسألة مسألة ، هل لها حالة سابقة فيستصحب ، أو لا ؟ وإذا لم يكن له حالة سابقة ، فهل هو شك في التكليف فيجري البرائة ، أو شك في المكلّف به مع إمكان الاحتياط فيحتاط ، أو شك في المكلّف به بدون إمكان الاحتياط فيتخير ؟ .

وإنما لايأخذ المكلّف في كل مسألة مسألة بالأصل المتبّع شرعاً في تلك المسألة ، لأنّه مع هذه الملاحظة يحصل العلم بالمخالفة الكثيرة - كما سيأتي إنشاء اللّه تفصيل الكلام في ذلك - .

( أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها ) بأن يكون المجتهد الانسدادي مقلِّداً لمجتهد إنفتاحي - مثلاً - وذلك لفرض : إنّه مجتهد ، فلايجوز له التقليد ، بل هو يرى خطأ الانفتاحي ، لأنّه قام لديه الدّليل على الانسداد ، فكيف يقلد من يعرف خطأه ؟ .

( الرابعة ) من المقدمات ( : إنّه إذا بطل الرّجوع في الامتثال الى الطرق الشرعيّة المذكورة ) وهي : الاحتياط والعمل بالأصول ، والتقليد ( لعدم الوجوب في بعضها ) وهو العمل بالاحتياط ، بل ربّما لايتمكن من العمل بالاحتياط في الجميع ، إذ قد يكون الاحتياط متعذراً وقد يكون الاحتياط متعسراً مرفوعاً ( وعدم الجواز في الآخر ) وهو العمل بالأصول في مسألة مسألة ، أو التقليد لمجتهد

ص: 301

والمفروضُ عدمُ سقوط الامتثال بمقتضى المقدّمة الثانية ، تعيّن بحكم العقل المستقل الرجوع الى الامتثال الظنّيّ والموافقة الظنيّة للواقع ولايجوز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة ، بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا إلى الامتثال الاحتماليّ والموافقة الشكيّة ،

-------------------

إنفتاحي - مثلاً- .

( والمفروض : عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدمة الثانية ) لأنّه يلزم الخروج عن الدّين ( تعيّن بحكم العقل المستقلّ ) أي : إنّه من المستقلات العقليّة وليس من قبيل مايضّم مقدمة عقليّة الى مقدمة شرعيّة حتى يكون القياسي عقلياً شرعياً ، ( الرجوع الى الامتثال الظّنّي والموافقة الظنّية للواقع ) .

« والموافقة الظنيّة » عطف بيان لقوله « الامتثال الظنّي » فان الانسان إذا إمتثل ظنّاً ، فقد ظنّ بموافقة ما أتى به للواقع .

( ولايجوز العدول عنه ) أي : عن الامتثال الظّني ( الى الموافقة الوهميّة ، بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ) في المسائل الفرعية وفي الطرق ، والفرق بينهما : إنّ الطرق : تقوم على الموضوعات ، والمسائل الفرعيّة : يراد بها الأحكام .

( ولا إلى الامتثال الاحتمالي والموافقة الشّكيّة ) فيما اذا لم يكن هناك ظّن وَوَهمٌ في طرفيّ المسألة ، بلّ كان هناك شك في طرفيّ المسألة ، فيكون مخيّراً بين أن يأتي بهذا الطرف من الشك ، أو ذاك الطرف ، كما إذا شك في انّ يوم الجُمعة صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة ، أو شك في الموضوعات إنّ هذه المرأة واجبة الوطي أو واجبة الترك ، حيث إنّه نَذَرَ أن يطّأها أو يتركها ، ثم إشتبه إنّ نذره كان في أي الطرفين .

ص: 302

بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظّن فيها أو يعتمد على مايحتمل كونه طريقاً شرعيّاً للامتثال ، من دون إفادته للظنّ أصلاً.

فيحصل من جميع هذه المقدّمات وجوب الامتثال الظنّي والرّجوع إلى الظنّ .

-------------------

وذلك ( بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظّن فيها ) فانّه إذا شك في انّ صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة ، يجب عليه الفحص والبحث حتى يظنّ بأحد الطرفين ، ويوهم بالطرف الآخر ، فيعمل بالظّن لا أن يعمل بالوهم ، ولا أن يعمل بأحد طرفي الشّك بدون الفحص والبحث والوصول الى الظنّ والوَهم في المسألة .

( أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقاً شرعيّاً للامتثال ، من دون إفادته للظّن أصلاً ) كالاعتماد على القرعة - مثلاً - بدون أن تفيده القرعة : الظنّ .

( فيحصل من جميع هذه المقدمات ) الأربع ( : وجوب الامتثال الظّني والرّجوع الى الظنّ ) وذلك لأنّه إذا تمّت المقدمات الثلاث الأول ، التي هي صغرى القياس ، جاء دور الكبرى ، وهي : دوران الأمر بين الظّن ، والشك والوهم ، من هذا القياس المركب من الصغرى والكبرى ، يثبت العلم بالنتيجة وهي : وجوب الامتثال الظنّي ، لأنّ العقل مستقل بأنّه كلّما دار الأمر بين الظّن وبين الشك والوهم ، يجب تقديم الظّن عليهما .

هذا هو موجز الكلام في المقدَّمات الأربع ، ثم نفصّل الكلام لنرى : هل إن كلّ مقدمة مقدمة ثابتة أم لا ؟ .

ص: 303

وأمّا المقدّمة الأُولى :

فهي بالنسبة إلى إنسداد باب العلم في الأغلب غيرُ محتاجة إلى الاثبات ، ضرورةَ قلّة مايوُجب العلم التفصيليّ بالمسألة على وجه لايحتاج العملُ فيها إلى إعمال أمارة غير علمية .

وأمّا بالنسبة إلى إنسداد باب الظنّ الخاصّ ، فهي مبنيّة على أن لايثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية الخبر الواحد

-------------------

( وأمّا المقدّمة الاُولى ) القائلة بإنسداد باب العلم والعلمي بالنسبة الى الأحكام ( فهي ) غير تامّة ، إذ باب العلم منسدّ ، أما باب العلمي كالخبر الواحد فغير منسد .

وعليه : فهذه المقدمة ( بالنسبة الى إنسداد باب العلم في الأغلب ) من الأحكام ( غير محتاجة الى الاثبات ، ضرورة قلّة مايوجب العلم التفصيلي بالمسألة ) بأن يعلم الانسان إنّ الحكم كذا - ممّا يستنبطه من الأدلة الأربعة - تفصيلاً ( على وجه لايحتاج العمل فيها الى إعمال أمارة غير علمية ) .

والأمارات غير العلمية : كالخبر الواحد والاجماع المنقول ، والشهرة المحققة ، والمِلاك ، والسيرة ، وما أشبه ذلك ، فأن هذه على الأغلب لاتوجب العلم ، وانّما توجب الطريق العقلائي الى الواقع .

( وأما بالنسبة الى إنسداد باب الظّن الخاص ) كالظن الحاصل من الخبر الواحد الجامع للشرائط : ( فهي ) أي : هذه المقدمة ( مبنيّة على أن لايثبت من الأدلة المتقدمة لحجّية الخبر الواحد ) .

فانّا قدّمنا الأدلة الأربعة على حجّية خبر الواحد ، وقد أضاف بعضهم دليلاً خامساً وهو السيرة ، على إشكال في كونه دليلاً خامساً ، ونفس الخبر ، حيث إنّه تقرير المعصوم عليه السلام ، فانّه بناءاً على أن كل هذه الأدلة لحجّية الخبر لاتثبت

ص: 304

حجّيةُ مقدار منه يفي - بضميمة الأدلّة العلميّة وباقي الظنون الخاصّة - باثبات معظم الأحكام الشرعيّة بحيث لايبقى مانعٌ من الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصّة إلى مايقتضيه الأصلُ في تلك الواقعة من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير .

-------------------

( حجّية مقدار منه ) أي : من الخبر و« الحجّية » . فاعل قوله : « ان لايثبت » أي : بأن لايثبت حجّية مقدار من الخبر ( يفي ) هذا المقدار ( بضميمة الأدلّة العلميّة ) كالضروريات ، والبديهيات ، وما أشبه ( وباقي الظنون الخاصّة ) كالظنون الحاصلة من الشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه فانّها منظمّة لاتفي - فرضاً - ( باثبات معظم الأحكام الشّرعية ) و « باثبات » : متعلق ب- : « يفي » .

فهناك ثلاثة أُمور تتظافر بعضها مع بعض فتفي بمعظم الأحكام ، وهي عبارة عن : الضروريات والبديهيات ، والخبر الواحد الذي هو حجّة ، وباقي الظنون الخاصة .

واذا كفّت هذه الامور الثلاثة بمعظم الأحكام ( بحيث لايبقى مانع من الرّجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته ) أي : أخوات الخبر ( من الظنون الخاصة ) و«من» : بيان ل «أخواته» التي هي عبارة عن : الاجماع المنقول ، والشهرة ، والسيرة - فرضاً- ( الى مايقتضيه الأصل في تلك الواقعة ) .

فانّا إذا تمكنّا من معظم الأحكام فلا بأس بالرّجوع في الأحكام القليلة الباقية - التي لايفي الاجماع والشهرة والخبر بها - الى الاُصول العملية ( من : البرائة ، أو الاستصحاب ، أو الاحتياط ، أو التخيير ) فاذا كان شكاً في التكليف أجرينا البرائة ،

وإذا كان له حالة سابقة أجرينا الاستصحاب ، واذا كان شكاً في المكلّف به مع التمكن من الاحتياط ، أجرينا الاحتياط ، وإذا كان شكاً في المكلّف به مع عدم التمكن من الاحتياط - لدوران الأمر بين المحذورين - أجرينا التخيير .

ص: 305

فتسليمُ هذه المقدمّة ومنعُها لا يظهُر إلاّ بعد التأمّل ، وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلّة حجيّة الخبر وإنّه هل يثبت بها حُجّية مقدار وافٍ من الخبر أم لا ؟ وهذه هي عمدة مقدّمات دليل الانسداد ، بل الظاهر المصرّح به في كلمات بعض أنّ ثبوتَ هذه المقدّمة يكفي في حجّية الظنّ المطلق ، ولذا لم يذكر صاحب المعالم وصاحب الوافية ، في إثبات حجّية الظّنّ الخبرّي غير انسداد باب العلم .

وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن المقدّمات الآتية ،

-------------------

وعليه : ( فتسليمُ هذه المقدّمة ) الاُولى ( ومنعها ) بأن نعرف : إنّ هذه المقدّمة تامة أو ليست تامة ( لا يظهر إلاّ بعد التأمل ، وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلة حجّية الخبر ) الواحد ( وإنّه هل يثبت بها ) أي : بهذه المقدّمة ( حجّية مقدار وافٍ من الخبر ) بضميمة باقي الظّنون الخاصة والأدلة العلمّية ( أم لا ؟ ) .

فاذا ثبت حجّية مقدار وافٍ من الخبر بضميمة باقي الظنون بمعظم الأحكام ، لم يكن مجال لدليل الانسداد ، وإلاّ كان المجال لدليل الانسداد واسعاً .

( وهذه ) المقدّمة الاُولى ( هي عُمدة مقدّمات دليل الانسداد ) إثباتاً أو نفياً .

( بل الظاهر المصرّح به في كلمات بعض : إنّ ثبوت هذه المقدّمة ) الاُولى ( يكفي في حجّية الظّنّ المطلق ) ولهذا يسمى هذا الدليل بدليل الانسداد ، لأنّ المعيار في الحكم : هو إنسداد باب العلم والعلمّي ، وعدم إنسداد بابهما بالقَدر الكافي بمعظم الأحكام ( ولذا لم يذكر صاحب المعالم ، وصاحب الوافية ، في إثبات حجّية الظّن الخبري غير إنسداد باب العلم ) أي : لأجل أنّ باب العلم منسدّ يكون الظنّ المستفاد من الخبر حجّة .

( وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن ) سائر ( المقدّمات الآتية ) أي المقدّمات

ص: 306

من الرّجوع بعد إنسداد باب العلم والظّنّ الخاص إلى شيء آخر غير الظنّ ، فانّما هي اُمور إحتملها بعضُ المدقّقين من متأخرّي المتأخرين ، أوّلهم ، فيما أعلم ، المحقّقُ جمال الدّين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال الرّجوع إلى البراءة وإحتمال الرّجوع إلى الاحتياط .

وزاد عليها بعضُ من تأخّر إحتمالاتٍ اُخر .

وأمّا المقدّمة الثانية :

وهي عدمُ جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها

-------------------

الثلاث ( من الرّجوع بعد إنسداد باب العلم والظّنّ الخاص ) المستفاد من الخبر ونحوه ( إلى شيء آخر غير الظن ) كالأصل في كل مسألة مسألة ، والتقليد ، والقرعة ، وما أشبه ( فانّما هي اُمور إحتملها بعض المدقّقين من متأخّري المتأخرين ) ويعبَّر بالمتأخرين ابتداءاً من المحقّق ، أو ابن ادريس ، وأما من تأخر عن هؤلاء ، كالمقدّس الاردبيلي ، ومن اشبه ، فيعبّر عنهم بمتأخري المتأخرين! والذي ( أولّهم فيما أعلم المحقّق جمال الدّين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد ) بأن هذا الدليل غير تام ( :ب- ) سبب ( إحتمال الرجوع الى البرائة ، وإحتمال الرجوع الى الاحتياط ) فلا تتم مقدّمات الانسداد حتى يكون الظنّ حجّة ، لأنّ الشارع جعل الطريق للمتحيِّر بإجراء البرائة أو باجراء الاحتياط .

( وزاد عليها ) أي على تلك الاحتمالات ( بعض من تأخر : إحتمالات اُخر ) كإحتمال الرجوع الى التقليد ، أو إحتمال الرّجوع الى القرعة .

( وأمّا المقدّمة الثانية : وهي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ) فانّ من أول الفقه الى آخر الفقه - غير القطيعات - وقائع كثيرة تعدّ بالآلاف ،

ص: 307

وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء فيدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعيّ على أن المرجع على تقدير إنسداد باب العلم وعدم ثبوت الدّليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ليس هي البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم . بل لابّد من التعرّض لامتثال الاحكام المجهولة بوجهٍ ما .

وهذا الحكم وإن لم يصرّح به أحدٌ من قدمائنا ، بل المتأخرين في هذا

-------------------

فلا يجوز إهمالها ( وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء ) بالتقليد ، أو القرعة ، أو الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مورد الى الأصل في ذلك المورد ، حتى يكون الانسان بلا تكليف ، كالأطفال والبهائم ، أو يكون مكلّفاً ، لكن حكمه الرجوع الى أصالة العدم ( ف- ) يكون مفاد المقدّمة الثانية مسلّم ، و ( يدلّ عليه وجوه ) ثلاثة :

( الأول : الاجماع القطعيّ ) بل هذا الأمر من البديهيات ( على أنّ المرجع على تقدير إنسداد باب العلم ، وعدم ثبوت الدّليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ) في مقابل حجّية أخبار الآحاد من باب الظّن المطلق ( ليس هي البرائة ، واجراء اصالة العدم في كل حكم ) ولعل الفرق بينهما : ان البرائة في قِبال أصالة العدم التي هي عبارة عن إستصحاب عدم التكليف .

( بل لابّد من التّعرض لامتثال الاحكام المجهولة بوجه مّا ) كالعمل بالظنّ ، أو القرعة ، أو التقليد ، أو الاحتياط ، أو ما اشبه ذلك .

( وهذا الحكم ) أي : الاجماع القطعي على إنّه لابدّ من التعرّض لامتثال الأحكام المجهولة ( وإنّ لم يصرّح به أحدٌ من قدمائنا ، بل المتأخرين في هذا

ص: 308

المقام ، إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الاصحاب ، بل علماء الاسلام طُرّاً ، فرُبّ مسألة غير مُعنونة يعلم إتّفاقهُم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها .

أترى أنّ علماءنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا ، لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على اعتبارها كانوا يطرحونها

-------------------

المقام ) أي : مقام الانسداد ( إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الأصحاب ، بل علماء الاسلام طُرّاً ) فهو إجماع تقديري لا إجماع لفظي ، إذ رُبَّ مسألة يعلم الانسان إتفاق العلماء فيها وإن لم يصرّح حتى واحد منهم بها .

مثلاً : إنّا نعلم إجماع العلماء التقديري على إنّه لا يجوز للمرأة أن تلبس الملابس الضيقّة ، التي يظهر منها كل تقاطيع جسمها أما الرّجال الأجانب ، مع إنّه لم يصرّح بذلك أحد فيما نعلم .

وفي اُصول الدّين نعلم : إجماع العلماء التقديري على إنّه لايجوز لأحد أن يعتقد انّ علياً عليه السلام أفضل من رسول الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم كما هو أفضل من سائر الأنبياء ، والى غير ذلك .

( فربّ مسألة غير معنونة ) في كلماتهم ( يعلم إتفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها ) أو يعلم إتفاقهم فيها من الكلّيات التي ذكروها ، ويؤيد ذلك إنّهم يرون ترك المسائل التي لم يقم عليها دليل ، من أظهر المنكرات ، واليه اشار المصنّف بقوله : ( أترى انّ علمائنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا ، لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على إعتبارها ) أي : اعتبار هذه الأخبار بأن لم يكن هناك من الكتاب ولا السنّة ولا الاجماع ولا العقل ما يدلّ على إعتبار الأخبار ( كانوا يطرحونها ) أي يطرحون هذه الأخبار ؟ .

ص: 309

ويستريحون في مواردها الى أصالة العدم ، حاشا ثم حاشا .

مع انهم كثيراً ما يذكرون انّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم .

وقد حُكي عن السيّد في بعض كلماته الاعترافُ بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم ، بل قد إدّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت الاجماع على ذلك .

-------------------

( ويستريحون في مواردها الى اصالة العدم؟ حاشا ثم حاشا ) أن يكونوا كذلك ، فانَّ ذلك يوجب الخروج عن الدّين .

( مع إنّهم كثيراً ما يذكرون : إنّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم ) فان هذا الكلام يدلّ على أنهم لا يستريحون الى أصالة العدم ، بل يعملون بالظنّ عند فقد العلم .

( وقد حُكي عن السيّد ) المرتضى رحمه اللّه ( في بعض كلماته : الاعتراف بالعمل بالظن عند تعذّر العلم ) مما يدلّ على ان حتى مثل السيّد الذي يقول بإنفتاح باب العلم ، يقول بالعمل بالظنّ عند تعذر العلم ، وقد تقدّم : إنّه أراد بالعلم : الوثوق ، لا العلم القطعي الوجداني المانع من النقيض .

( بل قد إدّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت : الاجماع على ذلك ) أي العمل بالظّن عند تعذر العلم بعدد الفوائت .

وفي حاشية الآشتياني : « بل إدعى غير واحد في هذا الباب أي : باب الفوائت : الاجماع على تضيق الواجبات الموسَّعة بظن الضيق » ، بل إدعى بعض المحققين : الاجماع على حجّية الظنّ بالنسبة الى الاُمور المستقبليّة نظراً الى إنسداد باب العلم بها غالباً .

ص: 310

الثاني : إنّ الرجوعَ في جميع تلك الوقائع الى نفي الحكم مستلزمٌ للمخالفة القطعيّة ، المعبّر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدّين ، بمعنى انّ المقتصر على التديّن بالمعلومات التارك للاحكام المجهولة جاعلاً لها كالمعدومة يكادُ يُعدُّ خارجاً من الدّين ، لقلّة المعلومات التي أخذها وكثرة المجهولات التي أعَرضَ عنها .

-------------------

( الثاني ) من الاُمور التي تدلّ على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها وترك التعرّض لامتثالها( إنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع ) المشتبه حكمها ( الى نفي الحكم ) وعدم العمل على شيء ( مستلزم للمخالفة القطعيّة ، المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا : بالخروج عن الدّين ) .

ومن المعلوم : إنّ الخروج عن الدّين قامت الضرورة على خلافه ، فهذا مانع مستقل عقلي غير الاجماع المتقدّم .

( بمعنى : إنّ المقتصر على التّديّن بالمعلومات ) وما في حكمها ، كالظنّون المعتبرة ، من الخبر الواحد ، ونحوه ( التارك للاحكام المجهولة ) التي لم يتعلق بتلك الأحكام علم ولا علمي ( جاعلاً لها ) أي لتلك الاحكام المجهولة ( كالمعدومة ) وأنها كأن لم تكن في الشريعة أحكام إطلاقاً لا واجبات ولا محرمات ، فان هذا ( يكاد يُعدُّ خارجاً من الدّين ) .

وإنّما قال يكاد ، لأن الخارج عن الدّين حقيقة هو الذي لا يعمل بشيء من الأحكام اطلاقاً ، اما هذا فيكاد يعدّ خارجاً ، وذلك ( لقلّة المعلومات التي اخذها ) وعمل بها ( وكثرة المجهولات التي أعرض عنها ) ولم يعمل بها ، فاذا كانت الأحكام مثلاً ألف ، فانَّ المجهول أكثر من تسعمائة بالنسبة الى الألف .

ص: 311

وهذا أمرٌ يقطع ببطلانه كلُّ أحد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات ، كما يقطع ببطلان الرجوع إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلاً لو فرض - والعياذ باللّه - إنسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في جميع الأحكام وإنطماسُ هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة .

فيكشف بطلان الرجوع الى البراءة عن وجوب التعرضّ لامتثال تلك المجهولات ولو على غير

-------------------

( وهذا ) أي : ترك الاحكام المجهولة ( أمر يقطع ببطلانه كل أحد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات ) بل هو من ضروريات الدّين .

( كما يقطع ببطلان الرجوع الى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلاً ) سواء إستند في نفي الحكم الى البرائة ، أو إستند الى اصالة العدم ( لو فرض والعياذ باللّه : إنسداد باب العلم ، والظنّ الخاصّ ، في جميع الأحكام ) « ولو : » وصلية أي : بأن ينسدّ باب العلم والظّن الخاص - كالخبر - فيجري أصالة العدم والبرائة في الأحكام المجهولة .

بل ( و ) لو فرض والعياذ باللّه ( إنطماس هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة ) بأن فرضنا إنّ الأحكام المعلومة إنطمست ، فصارت الأحكام كلّها مجهولة ، فكما إنّه لو أجرى اصالة البرائة ، وأصالة العدم ، كان هذا خارجاً عن الديّن قطعاً ، كذلك خرج من الدّين من يعمل بالأحكام المعلومة القليلة فقط وأجرى في سائر الأحكام أصل العدم والبرائة .

وعليه : ( فيكشف بطلان الرّجوع الى البرائة ) لما عرفت : من إنّه مستلزم للخروج من الدّين ( عن وجوب التعرضّ لامتثال تلك المجهولات ، ولو على غير

ص: 312

وجه العلم والظنّ الخاصّ ، لا أن يكون تعذّر العلم أو الظنّ الخاصّ منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ، كما توهمه بعضُ من تصدّى للايراد على كلّ واحدة واحدة ، من مقدّمات الانسداد .

نعم ، هذا إنّما يستقيمُ في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علميّ أو ظنّي معتبر ، كما هو دأبُ المجتهدين بعد تحصيل الأدّلة والأمارات في أغلب الأحكام .

-------------------

وجه العلم والظنّ الخاص ) وذلك بأن يعمل الانسان بالظنّ المطلق ، الذي لَم ينه عنه الشارع قطعاً كما نهى عن الظنّ القياسي ، فانّه سيأتي أنّ الظنّ القياسي ليس بحجّة لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

( لا أن يكون تعذر العلم أو الظنّ الخاص ) الذي يعبّر عنه بالعلمي ( منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ) اطلاقاً ( كما توهّمه بعضُ من تصدى للايراد على كلّ واحدة واحدة من مقدمات الانسداد ) فانّه لاوجه لصحة هذا التصدي مع صحة هذه المقدّمة التي تقول بأنّه لا وجه لإهمال الأحكام المشتبهة على كثرتها .

( نعم ، هذا ) أي : الرّجوع الى أصل البرائة ، أو أصالة العدم ( إنّما يستقيم في حكم واحد ، أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علمي ، أو ظني معتبر ) كالخبر الواحد ، فانّ المنصرف من أدلة البرائة وأصالة العدم هو : الرجوع اليها : في الأحكام القليلة جداً بعد وجود الأدلة على أكثر الأحكام ( كما هو ) أي الرجوع الى البرائة وأصل العدم في الأحكام القليلة ( دأبُ المُجتهدين بعد تحصيل الأدلة والأمارات في أغلب الأحكام ) .

فالفقيه نراه من أوّل الفقه الى آخر الفقه لا يرجع الى البرائة أو أصل العدم ،

ص: 313

أما إذا صار معظم الفقه أو كلّه مجهولاً ، فلا يجوز أن يُسلَكَ فيه هذا المنهجُ .

والحاصل : أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعية بنفسه محذورٌ مفروغ من بطلانه ، كطرح جميع الأحكام ، لو فرضت مجهولة .

وقد وقع ذلك تصريحاً أو تلويحاً في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين ، منهم الصّدوق في الفقيه ، في باب الخلل الواقع في الصلاة ، في ذيل أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم :

-------------------

إلاّ في أحكام قليلة معدودة لا يوجد عليها دليل علماً أو علمياً .

( أمّا إذا صار معظم الفقه أو كله ) فرضاً ( مجهولاً ، فلا يجوز أن يسلك فيه ) أي : في المعظم أو الكل ( هذا المنهج ) بالرجوع الى البرائة ، أو الرجوع الى أصالة العدم .

( والحاصل أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعية بنفسه محذور مفروغ من بطلانه ) عند المتشرعة كافة ، فهو ( كطرح جميع الاحكام ، لو فرضت ) كون جميع الاحكام ( مجهولة ) فانّ من ضروريات المتشرعة : إنّ الاسلام له أحكام من الطهارة الى الدّيات بكثرة كبيرة .

( وقد وقع ذلك ) أي : إنّ ما يوجب إبطال الدّين باطل قطعاً ( تصريحاً أو تلويحاً في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين ) ممّا يدلّ على إنّه من المسلّمات ( منهم : الصّدوق في الفقيه ، في باب الخلَلَ الواقع في الصلاة ، في ذَيل أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فانّه بعد أن أورد خبر الحَسن بن مَحبوب ، المتضمِّن لسهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم في الصلاة قال : قال مصنِّف هذا الكتاب رحمه اللّه : إنّ الغلاة والمفوضة لعنهم اللّه ، ينكرون سهو

ص: 314

« فلو جاز ردُّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه إبطالٌ للدّين والشريعة » .

-------------------

النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ثم أخذ في بيان إحتجاجهم ، وردّ عليهم ، الى أن قال : وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه اللّه يقول : أول درجة في الغلو : نفي السهو عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه ) أي : في ردّها ( إبطال للدّين والشريعة ) (1) وأنا أحتسب الأجر في تصنيف منفرد ، في إثبات سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والردّ على منكريه « انشاء اللّه تعالى » ، إنتهى كلام الصدوق الذي نقل بعضه المصنّف .

ولا يخفى : إن أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم صدرت عن الائمة عليهم السلام تقية ، لأن العامّة كانوا يقولون بذلك بكل إصرار ، كما فصّل الكلام جماعة من العلماء في هذا المبحث .

وعن الشيخ البهائي رحمه اللّه : إنّ نسبة السّهو الى الصدوق أولى من نسبة السهو الى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم .

كما وقد ظهر من هذا : إنّ نسبة الصدوق رحمه اللّه الشهادة الثالثة في الأذان الى المفوضة ، أيضاً مثل كلامه في سهو النبي محل تأمّل ، فانّ مذهبه في الغُلاة والمفوضة مخدوش فيه .

هذا ، وقد وردت روايات - أشرنا اليها في الفقه في بحث الأذان من الصلاة - في الشهادة الثالثة ، ولذا فانا نرى إنّها كسائر أجزاء الأذان (2) .

ص: 315


1- - مَن لا يحضره الفقيه : ج1 ص360 ح1031 بالمعنى .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه ، كتاب الصلاة : ج17 - 28 للشارح .

ومنهم السيّد قدس سره حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد وقال : « فان قلت : إذا سددتم طَريقَ العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعُوّلون في الفقه كلّه ؟ فأجاب بما حاصله : دعوى إنفتاح باب العلم في الأحكام » .

ولا يخفى : انّه لو جاز طرحُ الأحكام المجهولة ، ولم يكن شيئاً منكراً ، لم يكن وجهَ للايراد المذكور ، اذ الفقه حينئذٍ ليس إلا عبارة عن الاحكام التي قام عليها الدليل والمرجح وكان فيه معوّلٌ ، ولم يكن وقعٌ ايضاً للجواب

-------------------

( ومنهم : السيد ) المرتضى ( قدس سره ، حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد ) لأنّ السيّد المرتضى لا يعمل بالخبر الواحد ( وقال : فان قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ) حيث لم تروها حجّة ( فعلى أيّ شيء تُعولون ) وتعتمدون ( في الفقه كلّه ) من أوله الى آخره ؟ .

( فاجاب بما حاصله : دعوى : إنفتاح باب العلم في الأحكام ) (1) وعليه : فلا حاجة الى الخبر الواحد .

( ولا يخفى : إنّه لو جاز طرح الأحكام المجهولة ، ولم يكن ) الطرح ( شيئاً منكراً ) بديهي العدم ( لم يكن وجه للايراد المذكور ) من السيّد على نفسه ( اذ ) للسيّد أن يجيب عن هذا الايراد : بأنّ ( الفقه حينئذٍ ) أي : حين الجهل بكثير من الاحكام ( ليس الاّ عبارة عن الأحكام التي قام عليها الدّليل والمرجح ، وكان فيه معوّل ) وهو ما قام عليه الدّليل المذكور . ( و ) كذا ( لم يكن وقع أيضاً للجواب )

ص: 316


1- - رسائل الشريف المرتضى : ج3 ص312 إبطال العمل بأخبار الآحاد .

بدعوى الانفتاح ، الراجعة الى دعوى عدم الحاجة الى أخبار الآحاد .

بل المناسبُ حينئذٍ الجوابُ : بأنّ عدمَ المعوّل في اكثر المسائل ، لا يوجب فتح باب العمل بخبر الواحد .

-------------------

عن السيد ( بدعوى : الانفتاح ، الرّاجعة ) هذه الدعوى ( الى دعوى : عدم الحاجة الى أخبار الآحاد ) .

فانّ السيّد إدعى : عدم الاحتياج الى أخبار الآحاد ، للعلم بكل المسائل ، فانّه لو لم يلزم الخروج عن الدّين بسبب اهمال الأحكام المجهولة ، كان للسيد أن يقول : إنّ الذي ثبت بالعلم نعمل به ، أما ما لم يثبت بالعلم فلا نعمل به .

( بل المناسب حينئذٍ ) أي : حين لم يلزم الخروج عن الدّين بترك الأحكام المجهولة ، ان يكون ( الجواب : بانّ عدم المعوّل ) أي : عدم وجود المعتمد ( في أكثر المسائل ، لا يوجب فتح باب العمل بخبر الواحد ) .

قال في الأوثق: حاصله: إستشهاد كل من السؤال والجواب على مراد المصنّف .

أمّا الأول : فان العمل بأصالة البرائة في مواردها مركوز في العقول ، فلو لم يكن الرّجوع إليها في الأحكام المجهولة في المقام أمراً منكراً ، لم يكن وقع للسؤال اصلاً لتعيّن الرجوع إليها فيها حينئذٍ ، وكون الفقه عبارة عمّا قام عليه دليل قاطع .

وأمّا الثاني : فانّه على تقدير جواز العمل بأصالة البرائة في الأحكام المجهولة ، فالأنسب في الجواب : أنّ يمنع الملازمة بين سدّ طريق العمل بأخبار الآحاد ، وبين جواز العمل بها لفرض وجود الواسطة ، وهي : جواز العمل بأصالة البرائة في موارد فقد الأخبار القطعية ، فالعدول عنه الى دعوى الانفتاح ، ظاهر في كون بطلان جواز العمل بها مفروغاً عنها فيما بينهم .

ص: 317

والحاصلٌ : أنّ ظاهرَ السؤال والجواب المذكورين التسالمُ والتصالحُ على أنّه لو فرض الحاجةُ الى أخبار الآحاد ، لعدم المعول في أكثر الفقه ، لزم العملُ عليها وإن لم يقم عليه دليلٌ بالخصوص ، فانّ نفس الحاجة اليها هي اعظمُ دليل ؛ بناءا على عدم جواز طرح الأحكام .

ومن هنا ذكر السيّد الصدر في شرح الوافية أنّ السيّد قد إصطلح بهذا الكلام مع المتأخرين .

-------------------

وهذا هو ما ذكره المصنّف بقوله : ( والحاصل : انّ ظاهر السؤال والجواب المذكورين ) في كلام السيّد ( التسالم والتصالح على انّه لو فرض الحاجة الى أخبار الآحاد ، لعدم المعوّل ) والدليل ( في أكثر الفقه ، لزم العمل عليها ) اي : على هذه الأخبار الآحاد التي ليست علماً ولا علمياً ( وان لم يقم عليه ) اي : على حجّية خبر الواحد ( دليل بالخصوص ) حتى يدخل الخبر الواحد في ضمن العلميات ، وإن لم يكن علماً .

( فانّ نفس الحاجة اليها ) أي : الى الأخبار ( هي أعظم دليل ) ، على الرجوع اليها ( بناءاً على عدم جواز طرح الأحكام ) ضرورة واجماع .

( ومن هنا ) أي :لأجل ما ذكرناه من الاحتياج الى الاخبار ، والاّ لزم الخروج عن الدّين و( ذكر السيّد الصدر في شرح الوافية : إنّ السيد ) المرتضى قدس سره ( قد إصطلح بهذا الكلام ) الذي تقدّم عنه ، حيث ذكرنا : إنّه أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد الى آخره ، وتوافق فيه ( مع المتأخرين ) (1) الذين يرون العمل بالخبر الواحد ويعملون به .

ص: 318


1- - شرح الوافية : مخطوط .

ومنهم الشيخ قدس سره في العدّة ، حيث إنّه بعد دعوى الاجماع على حجّية أخبار الآحاد ، قال ما حاصله :

لو ادّعى أحدٌ أنّ دعوى عمل الامامية بهذه الأخبار كان لأجل قرائن إنضمت إليها ، كان مُعّولاً على ما يُعلمُ من الضرورة خلافهُ .

ثم قال : ومن قال إنّي متى عدمُت شيئاً من القرائن ، حكمتُ بما كان يقتضيه العقلُ ، يلزمُه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرعُ به ، وهذا حدّ يرغب أهلُ العلم عنه ،

-------------------

( ومنهم : الشيخ قدس سره في العُدّة ، حيث إنّه بعد دعوى الاجماع على حجّية أخبار الآحاد ) مطلقاً ولو لم تكن قرائن داخلية أو خارجية توجب القطع بها( قال ما حاصله : لو إدّعى أحد : انّ دعوى عمل الامامية بهذه الأخبار كان لأجل قرائن إنضمت إليها ) أي : الى هذه الاخبار ممّا أوجب العلم بها ، لا إنّ خبر الواحد حجّة بما هو .

فان هذا المدّعى ( كان مُعوّلاً على ما يعلم من الضرورة خلافه ) لأنا نعلم : إنّ الامامية انّما عملوا بأخبار الآحاد بما هو خبر ، لا بما إنّه مقطوع به لمكان القرائن الداخلية والخارجية .

( ثمّ قال : ومن قال : إنّي متى عدمت شيئاً من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ) من البرائة ونحوها( يلزمه أن يترك أكثر الاخبار وأكثر الاحكام ) لأنّ الأحكام مترتبة على الاخبار ، فاذا لم يعمل بالاخبار ، لم يتمكن من العمل بتلك الاحكام ( ولا ) أن ( يحكم فيها ) أي : في تلك الاحكام التي هي محل الابتلاء ( بشيء ورد الشرع به ) أي : بذلك الشيء .

( وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ) أي : ينفرون عن أنّ لا يحكموا بشيء في

ص: 319

ومن صار اليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكن معولا على مايُعلم ضرورةً من الشرع خلافُه ، إنتهى .

ولعمري ، إنّه يكفي مثلُ هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرّجوع الى البرائة عند فرض فقد العلم ، والظنّ الخاصّ في أكثر الأحكام .

ومنهم العلاّمّة في نهج المسترشدين ، في مسألة إثبات عصمة الامام ،

-------------------

اُمورهم الكثيرة ( ومن صار اليه ) أي : الى هذا الحدّ ( لايحسن مكالمته ) يعني إنّه يحب أن يترك ( لأنّه يكون معوّلاً ) ومعتمداً ( على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه (1) ، انتهى ) .

فان من ضرورة الشرع : إنّ الانسان يحتاج الى العمل بالأحكام الكثيرة ، المستندة الى الأخبار التي لا قرائن للقطع بها ، وانّما حجّية هذه الأخبار الآحاد من جهة سندها ، وجهة دلالتها ، وجهة صدورها .

( ولعمري ) أي : قسماً بنفسي ، فانّ العمر بمعنى : النفس ، مأخوذ من العمر ، قال سبحانه : « لَعَمرُكَ إنّهمُ لَفِي سَكَرتِهمِ يَعَمهُونَ » (2) ( إنّه يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرّجوع الى البرائة عند فرض فقد العلم ، والظنّ الخاص ) كالخبر الواحد ، والشهرة المحققّة ، والاجماع المنقول ، ونحوها ( في اكثر الاحكام ) الشرعيّة ، فلا يكون أصل البرائة ، ولا أصالة العدم محكماً في الاحكام .

( ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين في مسألة إثبات عصمة الامام ،

ص: 320


1- - عدّة الاُصول : ص56 .
2- - سورة الحجر : الآية 72 .

حيث ذكر أنّه عليه السلام ، لابّد أن يكون حافظاً للأحكام .

وإستدل بأنّ الكتاب والسنّة لا يدلاّن على التفاصيل - إلى أنّ قال : والبرائة الأصلية ترفع جميع الأحكام .

-------------------

حيث ذكر ) العلاّمة أعلى اللّه مقامه ( إنّه عليه السلام لابّد أن يكون ) أي : الامام ( حافظاً للأحكام ) التي تصل الى الأنام ، لا يقال : كيف والامام عليه السلام غائب ؟ .

لانّه يقال : غاب بعد بيان الأحكام ، امّا بجزئياتها ، واما بقوانينها الكلّية المنطبقة على الصغريات ، التي يبتلى بها على طول الزمان .

ولهذا ورد عنهم عليهم السلام : «ان عليهم الاُصول وعلينا الفروع» (1) .

وقال عليه السلام : « أمّا الحَوادث الواقِعَة فإرجِعُوا فِيها الى رواةِ أَحاديثنا ، فانَّهمُ حُجَتي عَليكمُ ، وَاَنا حُجَّة اللّهِ عَليهم » (2) .

( وإستدل ) العلامّة ( :بأنّ الكتاب والسنة لا يدلاّن على التفاصيل ) وان كان فيهما اُصول الأحكام وقواعدها الكلّية ( إلى انّ قال : والبرائة الأصلية ترفع جميع الأحكام ) (3) اي : إنّ أحداً لو قال : إنّا نتمكن من العمل بالبراءة الأصلية في مورد الشّك في الأحكام ، فنستغني بذلك عن الامام ، فيقال له : انّ الاعتماد على البرائة الأصلية في الأحكام الكثيرة التّي نحتاج فيها الى الرّوايات ، يوجب رفع أكثر

ص: 321


1- - فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام : «علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا» . وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 وورد عن الامام الرضا عليه السلام : « علينا القاء الاصول وعليكم التفريع » . وسائل الشيعة : ج27 ص62 ب6 ح33202 .
2- - منتخب الانوار المضيئة : ص122 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 ، كمال الدين: ص440 ب45 ح4 وفيه ( حديثنا ) ، الغيبة : ص177 .
3- - نهج المسترشدين : ص63 .

ومنهم بعضُ أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة بعصرة المنجود ، حيث إستدلّ على عصمة الامام عليه السلام بأنّه حافظٌ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به - الى أن قال - : « والقياس باطل ، والبرائة الأصليّة ترفع جميع الاحكام » ، انتهى .

ومنهم الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر ، الاّ أنّه قال :« إنّ الرّجوع الى البرائة الأصليّة ترفع أكثر الاحكام » .

والظاهر أنّ مراد

-------------------

الأحكام ، وقول العلاّمة : « جميع الأحكام » ، من باب المسامحة .

( ومنهم : بعض أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة ) تلك الرسالة ( بعصرة المنجود ، حيث إستدل على عصمة الامام عليه السلام بانّه حافظ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به ) أي : بكل حكم حكم يبتلى به الانسان .

( الى أن قال : والقياس باطل ) فلا يمكن أن يقال : لا حاجة الى الامام ، لأنّا نقيس الأحكام غير الموجودة بالأحكام الموجودة ، وذلك للنص على بطلان العمل بالقياس في الشريعة ( والبرائة الأصليّة ترفع جميع الأحكام ) (1) فلا يمكن العمل بالبرائة الأصليّة - ايضاً - عوضاً عن الامام عليه السلام ( انتهى ) كلام هذا المستدَّل .

( ومنهم : الفاض المقداد في شرح الباب الحادي عشر : إلاّ إنّه قال : انّ الرّجوع الى البرائة الأصلية ترفع أكثر الأحكام ) (2) وهذا لم يأت بالمجاز الذي أتى به العلاّمة وصاحب رسالة : عصرة المنجود ، ولذا قال الشيخ : ( والظاهر :أنّ مراد

ص: 322


1- - عصرة المنجود مخطوط .
2- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص47 .

العلاّمة وصاحب الرسالة ، من جميع الأحكام ما عدا المستنبط من الأدلة العلميّة ، لأنّ كثيراً من الأحكام ضروريّة لا ترتفع بالأصل ولا يشكّ فيها ، حتى يحتاج الى الامام عليه السلام .

ومنهم المحقق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية ، من انّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ، مستدّلاً بعد مفهوم آية النبأ ، بانّ إعتبار التعدّد يوجب خلوّ اكثر الأحكام عن الدّليل .

-------------------

العلاّمة وصاحب الرسالة من جميع الأحكام : ما عدا المستنبط من الأدلّة العلميّة ) وانّما كان مرادهما ما عدا المستنبط ( لانّ كثيراً من الأحكام ضروريّة ) عند المسلمين من أوّل الصلاة الى آخر الدّيات ( لا ترتفع بالأصل ، ولا يشك فيها، حتى يحتاج الى الامام عليه السلام ) في تلك الأحكام .

وعلى أي حال : فمرادهما من جميع الأحكام : أمّا حقيقة وهو : المستنبط ، وإمّا مجازاً وهو : من باب ذكر الكلّ وارادة البعض ، لأنّ البعض كثير جداً .

( ومنهم : المحقّق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصدّر في شرح الوافية : من إنّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ) واحد ، فلا احتياج الى شهادة عدلين في تعديل الرّاوي ، فاذا قال شيخ الطائفة وحده : انّ محمد بن مسلم - مثلاً - عادل ، كفى ذلك في عدالته ، وإن كان هذا من الشهادة ، والشهادة تحتاج الى نفرين .

قال هذا ( مستدلاًّ بعد مفهوم آية النبأ ) الظاهر في انّ العادل إذا اُخبر يؤخذ بخبره بدون فحص ( :بانّ إعتبار التعدّد يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدّليل ) (1) وذلك لأنّ أكثر الأحكام مستندة الى راوٍ واحد عدل بسبب عادل واحد ، لا بسبب عادلين .

ص: 323


1- - شرح الوافية مخطوط.

ومنهم صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلالُ على حجّية أخبار الآحاد ، بانّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد - في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحّج والمتاجر والانكحة - وغيرها - بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور .

وهذه عبارةٌ اُخرى عن الخروج عن الدّين الذي عبّر به جماعة من مشايخنا .

-------------------

والحاصل : إنّ قلّة وجود الأخبار المُزكى رُواةُ سندِها بتزكية عدلين ، جعلَ الأمر دائراً بين الاخذ بالمزكى بعادل واحد ، أو الترك ، والترك ضروري العلم ، فاللازم الأخذ بمن زكّي بعادل واحد .

( ومنهم : صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد : بأنّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصّلاة ، والصوم ، والزكّاة ، والحجّ ، والمتاجر ، والأنكحة ، وغيرها ) بأنّ لا نعمل بالأخبار الآحاد الواردة في هذه الابواب من العبادات والمعاملات ، فانّه اذا تركنا ذلك نقطع ( بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور ) فلا تكون الصلاة صلاة ، ولا الزّكاة زكاة ، ولا الحجّ حجّاً ، ولا الصوم صوماً ، ولا المتاجر والأنكحة والمواريث وغيرها على وضعها المألوف عند المسلمين .

( و )إنّ شئت قلت : إنّ كلام صاحب الوافية انّما يدل على مراد الشيخ ، لانّه لو لم يكن العمل بأصالة البرائة في المشتبهات الكثيرة محظوراً في الشرع ، لم يلزم خروج ( هذه ) الاُمور التي ذكرناها ، عن حقيقة كونها صلاة ، وصوماً ، وما اشبه ذلك ، فكلام صاحب الوافية ( عبارة اُخرى عن الخروج عن الدّين ، الذي عَبَّر به جماعة من مشايخنا ) ممّا تقدَّمت كلماتهم .

ص: 324

ومنهم بعض شُرّاح الوسائل حيث إستدل على حجيّة أخبار الآحاد بأنّه لو لم يعمل بها بطل التكليف وبطلانه ظاهر .

ومنهم المحدّث البحراني صاحب الحدائق - حيث ذكر في مسألة ثبوت الرّبا في الحنطة بالشعير خلافَ الحلّي في ذلك وقوله بكونهما جنسين وأنّ الأخبار الواردة في إتحادهما آحاد لايوجب علماً ولا عملاً -

-------------------

( ومنهم بعض شُرّاح الوسائل حيث إستدلّ على حجّية أخبار الآحاد : بأنّه لو لم يعمل بها ) أي : بأخبار الآحاد ( بطل التكليف ) حيث إنّ الانسان المكلّف لا يتمكن أن يعمل بالأحكام الشرعيّة - غالباً - إذا أراد العمل بما قام عليه دليل قطعي فقط ( وبطلانه ) أي : بطلان أن يبطل التكليف ( ظاهر ) لوضوح : إنّ الشريعة الاسلامية شريعة البشريه الى يوم القيامة ، فكيف يبطل التكليف ؟ .

(ومنهم : المحدّث البحراني صاحب الحدائق) رحمه اللّه (حيث ذكر في مسألة ثبوت الربّا في الحنطة بالشعير ) وذلك بأن يأخذ الانسان - مثلاً - الحنطة اقل ، ويعطي الشعير أكثر ، أوبالعكس ، حيث إنّهما جنس واحد شرعاً ولا يجوز الزيادة في الجنس الواحد ، فانّ صاحب الحدائق ذكر( خلاف ) إبن ادريس ( الحلّي في ذلك و ) ذكر ( قوله ) أي : قول ابن ادريس ( بكونهما جنسين ) والزيادة في الجنسين لا بأس به ، فكما يجوز أن يعطي السُكَّر أكثر من الشاي ، كذلك يجوز أنّ يعطي الحنطة أكثر من الشعير أو بالعكس .

قال الحلي : ( وانّ الأخبار الواردة في إتحادهما ) القائلة بانّ الحنطة والشعير جنس واحد في باب الرّبا ( آحاد لا يوجب علماً ولا عملاً ) فانّا لا نعلم بهذا الحكم من الشريعة ، ولا نعمل به في أعمالنا الخارجية .

ص: 325

قال في ردّه : « إنّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين إلى دين آخر » ، انتهى .

ومنهم العضدي ، تبعاً للحاجبيّ ، حيث حكي عن بعضهم الاستدلالُ على حجّية خبر الواحد بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك .

ثمّ إنّه وان ذكر في الجواب عنه أنّا نمنع الخلوّ عن المدرك ، لأنّ الأصل من المدارك .

-------------------

( قال ) صاحب الحدائق ( في ردّه ) أي : في ردّ ابن ادريس ( :انّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين الى دين آخر (1) ، انتهى ) كلام الحدائق ، لأنه إذا لم يعمل بأخبار الآحاد في هذه المسائل لايبقى دينٌ كافياً ، فيلزم أن يتخذ ديناً آخر ، ولايخفى : إن هذه العبارة عبارة غير مناسبة .

( ومنهم ) أي : ممّن صرّح بأنّ عدم العمل بالأخبار يوجب الخروج عن الدّين من علماء العامّة ( العضدي تبعاً للحاجبيّ ) وهو عالم آخر من علماء العامّة ، وهما مشهوران في الاُصول ( حيث حكي عن بعضهم الاستدلال على حجيّة خبر الواحد : بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك ) . إذ الغالب إن مدرك الأحكام هو أخبار الآحاد .

( ثمّ إنّه ) أي : العضدي ( وإن ذكر في الجواب عنه ) أي : عن هذا الدليل ( انّا نمنع الخلو عن المدرك ) لأنا نعمل بأصل البرائة مثلاً ( لأن الأصل من المدارك ) أيضاً ، فلا يلزم قول القائل بأنه لو لم نعمل بخبر الواحد لزم خلو أكثر الوقائع

ص: 326


1- - الحدائق : ج19 ص231 .

لكنّ هذا الجواب من العامّة القائلين بعدم إتيان النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بأحكام جميع الوقائع .

-------------------

عن المدرك .

( لكنّ هذا الجواب ) إنّما يكون تاماً ( من العامّة القائلين بعدم إتيان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بأحكام جميع الوقائع ) فان العامّة لايلتزمون بوجوب وقائع كثيرة ، حتى يلزم من إجراء البرائة الخروج عن الديّن ، بل إنّهم يقولون : إن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم جاء بأحكام قليلة ، فأجراء البرائة في غير تلك الأحكام لايوجب خروجاً عن الدّين ، وأما نحن الامامية ، فحيث نقول : بأن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم جاء بكل الأحكام جزئياً أو كلياً .

فقد قال سبحانه : « اليوَمَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم . . . » (1) .

وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مامِن شَيءٍ يُقرِّبكُم من الجنّةِ ويُباعدكُم من النّار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيءٍ يقربكم من النّارِ ويباعدكم من الجنّةِ إلاّ وَقَد نَهيتُكُم عنه » (2) . وفي الحديث ، « إنّ في الشريعة بيان كل شيء حتى أرش الخدش » (3) ، وفي آخر : « حتى أرش الغمز » - فلانتمكن من التمسك بالبرائة في كثير من الأحكام ، لأن التمسك بها يوجب الخروج عن الدّين .

وعبارة المصنّف : « هذا الجواب » : مبتدء ، و « من العامّة » : خبر .

ص: 327


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح2139 ، بحار الأنوار : ج70 ص96 ب47 ح3 وورد نظيره في المستدرك : ج13 ص27 ب10 ح14643 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص9 ح3 و ج7 ص157 ح9 ، الاحتجاج : ص153 ، بصائر الدرجات : ص142 ح3 ، المحاسن : ص273 ، نوادر القمي : ص161 .

ولو كان المجيبُ من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك .

وبالجملة : فالظاهر انّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في مُعظم الفقه بحكم تكليفيّ ، كأنّه أمر مفروغ البطلان .

والغرضُ من جميع ذلك الردُّ على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدّمة ، ولم يأت بشيء عدا ما قرع سمعَ كلّ أحد من أدلّة

-------------------

هذا ( ولو كان المجيب ) عن الاشكال المذكور الذي هو خلو أكثر الوقائع عن المدرك ( من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام ، لم يجب بذلك ) الجواب الّذي ذكره العضدي عن الاشكال المتقدّم .

( وبالجملة : فالظاهر : إنّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها ) . أي : في تلك الأحكام ( الى نفي الحكم ) وجوباً أو تحريماً ، فاذا شك في الواجب أجرى أصالة عدم الوجوب ، وإذا شك في الحرمة أجرى أصالة عدم الحرمة ( وعدم الالتزام في معظم الفقه ) حيث لا أدلة قطعية لها ، فلايلتزم المكلّف ( بحكم تكليفي ، كأنّه أمرٌ مفروغ البطلان ) لوضوح : أنّه لايمكن أن يكون المكلّف في أكثر الفقه لا حكم تكليفي له .

( والغرض من جميع ذلك ) الكلام الطويل الذي ذكرنا فيه : إنّه لايمكن أن يرجع في أكثر الفقه الى البرائة ، لأنّه يلزم الخروج عن الدّين ، وأنّه ضروري البطلان ، هو ( : الرّد على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدمة ) الثانية القائلة بعدم جواز إهمال الأحكام .

( و ) لكن هذا الرادّ ( لم يأت بشيء ) مفيد ( عدا ما قرع سمع كلّ أحد من أدلّة

ص: 328

البرائة وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ، ولم يتفطن لأنّ مجراها في غير مانحن فيه ، فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا ، والعياذ باللّه ، إرتفاعِ العلم بجميع الأحكام ؟ .

بل نقول : لو فرضنا أنّ مقلّداً دخل عليه وقتُ الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما يعلّم من أبويه بظنّ الصحّة مع إحتمال الفساد عنده إحتمالاً ضعيفاً

-------------------

البرائة ) فانّه إستدل بأدلة البرائة ، على إنّه إذا شككنا في الأحكام ولم نعمل بخبر الواحد - لأنّا لانراه حجّة - يجري أصل البرائة ولا محذور ، ( وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ) . فانّ خبر الواحد إذا سقط ، فلا بيان فلا تكليف .

هذا ما استدلّ به هذا المتصدي لرد هذه المقدمة ( ولم يتفطن لأنّ مجراها ) أي مجرى البرائة ( في غير ما نحن فيه ) من الموارد القليلة ، لا في معظم الفقه الذي قام العلم الاجمالي بوجود تكاليف كثيرة فيه إيجابياً أو سلبياً .

( فهل يرى ) هذا المتصدي ( من نفسه إجرائها ) أي : إجراء البرائة ( لو فرضنا والعياذ باللّه ، إرتفاع العلم بجميع الأحكام ؟ ) وبقاء الظن ، فانّه كما لايجري البرائة مع إرتفاع كل الأحكام ، كذلك لايتمكن من إجراء البرائة مع إرتفاع أكثر الأحكام ، وما يقول في البرائة في كل الأحكام ، نقول في البرائة في معظم الأحكام .

( بل نقول ) بلزوم العمل بالظنّ إذا لم يحصل للانسان العلم ، ف- ( لو فرضنا انّ مقلداً دخل عليه ) أي : على هذا الذي يجري البرائة فيما إذا لم يعلم بالحكم في ( وقت الصلاة ، ولم يعلم ) ذلك المقلد ( من الصلاة عدا مايعلم من أبويه بظنّ الصحة ) أي : إنّ ماتعلّمه من أبويه يظنّ صحته ، لا إنّه يقطع بذلك ( مع إحتمال الفساد عنده ) أي : عند ذلك المقلِّد ( إحتمالاً ضعيفاً ) بأن كان المقلِّد يظن

ص: 329

ولم يتمكّن من أزيد من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة ، أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ، والمفروض أن قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ .

فاذا لم تجد من نفسك الرخصّة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ، فكيف ترخصّ الجاهلَ بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها ، عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظنّ الخاصّ

-------------------

بالصحة ويحتمل الفساد ، لوضوح : انّ الظنّ دائماً يقابله الوهم ، وهو عبارة عن الاحتمال ( ولم يتمكّن ) المقلِّد ( من أزيد من ذلك ) الّذي تعلمه من أبويه وظنّ بصحته ، بأن لم يتمكن من تحصيل العلم بخصوصيات الصلاة : اجزاءاً ، وشرائطا ، وموانعا .

( فهل يلتزم ) هذا القائل بالبرائة ( بسقوط التكليف عنه ) أي : عن ذلك المقلد ( بالصّلاة في هذه الحالة ) فيقول له : حيث إنّه لا علم لك أيّها المقلِّد بالصلاة فأجر أصل البرائة ولا تصلي ؟ .

( أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ) الذي يظنّ بصحة ماقاله أبواه ( والمفروض : إنّ قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعي ) فانّه مجرد ظنّ عام ، وليس بظن خاص قرره الشارع .

( فاذا لم تجد ) أيّها القائل ( من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ) وهي مسألة شخصية منفردة ( فكيف ترخص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها ) أي من تلك الأحكام ( عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظّن الخاصّ ؟ ) أي : كيف تقول : أترك الأحكام المشكوكة والمظنونة بالظّن العام ، وإعمل فقط بالأحكام ، المعلومة لديك أو المظنونة بالظن الخاص ،

ص: 330

وترك ماعداه ولو كان مظنوناً بظنّ لم يقم على إعتباره دليل خاصّ .

بل الانصاف : أنّه لو فُرض ، والعياذ باللّه ، فقد الظنّ المطلق في معظم الأحكام ، كان الواجبُ الرجوعَ إلى الامتثال الاحتماليّ بالتزام ما لايقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة .

-------------------

الذي قرره الشارع ؟ .

( و ) كيف تأذن في ( ترك ماعداه ) أي : ماعدا القليل من الأحكام ، الذي يعلمه علماً أو يظنّه بالظّن الخاص ظنّاً ، حتى ( ولو كان ) معظّم الأحكام المجهولة لديه ( مظنوناً بظن لم يقم على إعتباره دليل خاصّ ) ؟ .

ومن المعلوم : إنّ هذا المثال الذي ذكره المصنّف هو من باب تقريب الذهن ، والارجاع الى الفطرة ، لا إنّه من الأدلة الشرعية ، فلايستشكل عليه : بأنّ هذا المثال لا دليل شرعي فيه .

( بل الانصاف انّه لو فرض « والعياذ باللّه » فقد الظّن المطلق في معظم الأحكام ) بأن لم يكن هناك علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق فرضاً ، كما إذا ذهب إنسان الى جزيرة فانقطع فيها ، ثم توجه الى التكليف ولم يكن له علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق بمعظم الأحكام ( كان الواجب الرّجوع الى الامتثال الاحتمالي ) .

مثلاً إذا إحتمل شيئاً واجباً أتى به ، وإذا إحتمل شيئاً محرّماً لم يأت به ، وذلك ( بالتزام مالايقطع معه بطرح الأحكام الواقعية ) فانّه إذا أتى بالامتثال الاحتمالي ، لايقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة ، بينما إذا لم يمتثل إمتثالاً إحتمالياً ، لزم منه طرح الأحكام الواقعية .

وهذا أيضاً فطري ، فانّ الانسان إذا إنقطع به السبيل عن مقصده ، وأصبح

ص: 331

الثالث : إنّه لو سلّمنا أنّ الرجوع إلى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهيّ ، وهو الخروج من الدّين ، فنقول : إنّه لا دليل على الرجوع إلى البرائة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ، فانّ أدلّتها مختصّة بغير هذه الصورة ، ونحن نعلمُ إِجمالاً أنّ في المظنونات واجبات كثيرة

-------------------

في مكان في طرف منه جبل مرتفع ، وفي طرف منه بحر ، وفي طرف منه نفاد من الرّمل بحيث لايمكن سلوك أي : منها ، وفي الطرف الرابع طريق صحراوي يتمكن سلوكه ، لكنّ ظنّه القوي انّ هذه الصحراء لاتوصله الى مقصده ، فهل يحكم عقله بسلوك الصحراء لاحتماله الوصول أو أن يَبقَ هناك حتى يموت ؟ .

( الثالث ) من أدلّة عدم الرجوع الى البرائة في المشتبهات الكثيرة حيث لاحجّية لخبر الواحد ، ( : إنّه لو سلّمنا إنّ الرّجوع الى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهي ) أي : البديهي الورود والبطلان ( وهو : الخروج من الدّين ) أو ان يكون الانسان كالأطفال والبهائم ، الى غير ذلك ممّا تقدّم في الدليلين الأولين ( فنقول : انّه لادليل على الرّجوع الى البرائة ) فيما شك فيه من المسائل المختلفة التّي لم يقم عليها دليل بعد عدم حجّية خبر الواحد .

وانّما لادليل على الرجوع الى البرائة ( من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ) الكثيرة بين هذه المشتبهات ، التي هي محل إبتلاء المكلّف ( فانّ أدلتها ) أي الأدلة الدالة على البرائة من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ( مختصةٌ بغير هذه الصورة ) أي : بغير صورة العلم الاجمالي الكبير بين الواجبات والمحرمات الكثيرة المتشتتة من أول الفقه الى آخر الفقه .

كيف ( و ) الحال ( نحن نعلم إجمالاً : إنّ في المظنونات واجبات كثيرة ،

ص: 332

ومحرّمات كثيرة .

والفرقُ بين هذا الوجه وسابقه : أنّ الوجهَ السابقَ كان مبنيّاً على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها بالخروج عن الدّين وهو محذور مستقلّ ، وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة .

-------------------

ومحرّمات كثيرة ) فكيف نرفع اليَد عن العلم الاجمالي بذلك ، الى البرائة ، فانّ البرائة في أطراف العلم الاجمالي غير جارية ؟ .

( والفرق بين هذا الوجه وسابقه ) من الوجه الثاني ( انّ الوجه السابق : كان مبنياً على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها : بالخروج عن الدّين ، وهو محذور مستقل ) غير هذا المحذور الذي ذكرناه الآن في الثالث ، فانّ الخروج عن الدّين لايجوز ، ( وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة ) .

فانّ بعض العلماء قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الاجمالي ، وبعض العلماء قالوا بجواز المخالفة القطعيّة في أطرافه لقوله : عليه السلام « كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (1) .

فان قوله عليه السلام : « بعينه » على قولهم : يفيد إنّ الانسان إذا لم يعرف الحرام بعينه يجوز له الارتكاب وان علم بانّ الحرام بين أمرين ، أو ما أشبه ذلك - على ما سيأتي الكلام فيه مفصلاً .

ص: 333


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، المحاسن : ص495 ح596 .

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ، وأصل البرائة في مقابلها غير جارٍ مالم يصل المعلوم الاجماليّ إلى حدّ الشبهة الغير المحصورة ، وقد ثبت في مسألة البرائة أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف ، لا الشكّ في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما في مانحن فيه .

--------------------

( وهذا الوجه ) الثالث : ( مبني على انّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ) وان لم يستلزم الخروج عن الديّن ( وأصل البرائة في مقابلها ) أي : في مقابل الاطراف الّتي يعلم علماً إجمالياً بينها ( غير جارٍ مالم يصل المعلوم الاجمالي إلى حدّ الشبّهة غير المحصورة ) أمّا اذا وصل إلى حدّ الشبهة غير المحصورة ، فانّه يجوز إرتكاب بعض الاطراف أو كل الاطراف على الخلاف الّذي يأتي فيما نذكره من مباحث العلّم الاجمالي ( وقد ثبت في مسألة البرائة إنّ مجراها ) أي مجرى البرائة ( الشكّ في أصل التكليف ) كما إذا لم يعلم الانسان إنّ شيئاً واجب عليه أو لا ، أو إنّ شيئاً حرام عليه أو لا ؟ ( لا الشك في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما فيما نحن فيه ) . حيث يعلم بأنّه تجب عليه صلاة في يوم الجمعة ، لكنّه يشكّ في انّ الصلاة الواجبة هل هي صلاة الجمعة أو الظهر ؟ أو يعلم بأن شيئاً مُحرّماً بين هذين الحيوانين ، لكن لايعلم هل هو هذا الحيوان أو ذاك الحيوان ؟ فانّه يجب عليه أن يحتاط في الأوّل بفعلهما ، وفي الثاني بتركهما .

وكذلك إذا شك بين حرام وواجب ، كما إذا علم إنّه إمّا يجب عليه الدّعاء عند رؤية الهلال ، أو يحرم عليه شرب التتن ، فانّه يجب عليه إمتثال التكليف الواقعي بينهما بفعل الأول وترك الثاني .

ومن الواضح : إنّ ما نحن فيه حيث نعلم بوجوب واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة بين الاُمور المشتبهة ، يلزم علينا الاتيان بكل محتمل الوجوب ، والترك لكل

ص: 334

فان قلت : إذا فرضنا أنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع إلى مايوافق البرائة ، فما تصنع ؟ .

قلت : أوّلاً ، إنّه مستحيل ، لأنّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمُحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظنّ بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم ،

-------------------

محتمل الحرمة ، فاذا تمكنا من ذلك فهو ، وإلاّ عملنا بالظنّ لمكان التعذر أو التَعسر عن جميع الاطراف .

( فان قلت : ) إنّكم تقولون : بأنّه يجب أن يعمل بالظنّ بهذه الامور المحتملة الكثيرة ، ف- ( إذا فرضنا إنّ ظَنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع الى ما يوافق البرائة فما تصنع ؟ ) فأنّ ذلك أيضاً خلاف العلم الاجماليّ ، وخلاف التدّين ، لأنّه يستلزم الخروج عن الدّين ، إذ النتيجة لا فرق فيها بين أن يكون من باب الظنّ ، أو من باب إجراء أصل البرائة ، أو أصل العدم .

( قلت : أولاً : إنّه مستحيل ) ان يظنّ المجتهد بالبرائة في جميع الوقائع المحتملة ، لأنّه مستلزم للتناقض بين علمه وظنه ، وغير معقول أن يظنّ الانسان بطرف ويعلم بطرف آخر ( لأن العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظّن بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم ) .

وإنّما قلنا محتملة أي : محتملة في نفسها ، وإلاّ فان الانسان إذا قطع بشيء

ص: 335

لأنّ الظنّ بالسالبة الكليّة يناقضُ العلم بالموجبة الجزئية ، فالظنّ بأنّه لاشخصَ من العلماء بفاسق ، يناقض العلمَ إجمالاً بأنّ بعض العلماء فاسقٌ .

وثانياً : إنّه على تقدير الامكان غير واقع ، لأنّ الأمارات التي

-------------------

لايعقل أن يحتمل خلافه أيضاً ، فكيف بالوهم ؟ وكيف بالظن ؟ ( لأنّ الظّن بالسالبة الكلّية ) أي الظّن بأنّه لا حكم حسب مقتضى البرائة ( يناقض العلم بالموجبة الجزئية ) لأنه يعلم انّ في جملة من هذه الأحكام واجبات ومحرمات حسب ماذكرناه .

( فالظّنّ بأنه لاشخص من العلماء بفاسق ، يناقض العلم إجمالاً بأن بعض العلماء فاسق ) لأن معنى لاشخص من العلماء بفاسق : القطع بعدم فسق أحد من العلماء ، فكيف يتمكن أن يعلم إجمالاً بأن بعض العلماء فاسق ؟ والتناقض كما يأتي من العلْمَين في الطرفين ، وفي الظنّين من الطرفين ، كذلك يأتي في ظنّ من طرف وعلم من طرف آخر .

نعم ، إذا كان كِلا الطرفين جزئياً فلا بأس ، كما إذا ظنّ بأن بعض من في الدار رجل ، وظنّ بانّ بعض من في الدار ليس برجل ، وكذلك بين العِلْمَين الجزئيين وبين علم وظنّ جزئيين ، أمّا أن يظنّ بأنّ كل مَنْ في الدّار رجل ، ويعلم بأنّ بعض من في الدار ليس برجل ، فهو التناقض بعينه .

( وثانياً : إنّه على تقدير الامكان ) وعدم إستحالة أن يظنّ المجتهد بالبرائة في جميع الوقائع المحتملة مع علمه الاجمالي بالأحكام الكثيرة ، فانه ( غير واقع ) مثل هذا الظّن والعلم ، في طرفي الأمر بالنسبة الى المجتهد ( لأن الأمارات الّتي

ص: 336

يُحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لاتخلو عن الأخبار ، المتضمّن كثيرٌ منها لاثبات التكليف وجوباً وتحريماً .

فحصولُ الظنّ بعدم التكليف في جميع الوقائع أمرٌ يُعلَمُ عادةً بعدم وقوعه .

وثالثاً : ولو سلّمنا وقوعه ، لكن لايجوز حينئذٍ العملُ بعدم التكليف في جميع الوقائع ؛ لأجل العلم الاجماليّ المفروض ، فلابدّ حينئذٍ

-------------------

يحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لاتخلو عن الأخبار ، المتضّمن كثير منها لاثبات التكليف وجوباً وتحريماً ) فكيف يظن المجتهد بالبرائة في جميع الأحكام والحال إنّ مستند ظنّه نفس الأخبار المثبتة للتكاليف الوجوبية والتحريمية ؟ .

إذن : ( فحصول الظّن ) للمجتهد ( بعدم التكليف في جميع الوقائع ، أمر يعلم عادة بعد وقوعه ) وإنّما قال عادة : للامكان العقلي في أن يكون ظنّه غير مستند الى الأخبار بل الى القياس ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو الاصطرلاب ، أو ما أشبه ذلك .

( وثالثاً : ولو سلمّنا ) إمكانه و ( وقوعه ) بأن أمكن الظّن مع العلم الاجمالي ووقع في الخارج ( لكن لايجوز حينئذٍ ) أي : حين يظّن بعدم التكليف إطلاقاً ( العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ) .

وإنّما لايجوز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ( لأجل العلم الاجمالي المفروض ) فان الفرض إنّه يعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة بين واجب ومحرم من أول الفقه الى آخر الفقه .

( فلابدّ حينئذ ) أي : حين عدم جواز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع

ص: 337

من التبعيض بين مراتب الظنّ بالقوّة والضعف ، فيعمل في موارد الظنّ الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط وفي موارد الظنّ القويّ بنفي التكليف بمقتضى البرائة .

ولو فُرض التسوية في القوّة والضعف كان الحكمُ كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع من التخيير إن لم يتيسّر لهذا الشخص الاحتياطُ ، وإن تيسّر الاحتياطُ تعيّن الاحتياطُ في حقّ نفسه

-------------------

( من التبعيض بين مراتب الظّن بالقوّة والضّعف ، فيعمل في موارد الظّن الضعيف ) ظناً ( بنفي التكليف ) حيث فرضنا انّه ظّن « بنفي التكليف » في جميع الأحكام ، ففي الظنون الضعيفة يعمل ( بمقتضى الاحتياط ) للعلم الاجمالي بوجوب التكاليف ( وفي موارد الظّن القوي ) ظنّاً ( بنفي التكليف ) يعمل ( بمقتضى البرائة ) حتى يكون جمعاً بين البرائة وبين الاحتياط ، فالاحتياط : في الظنون الضعيفة ، والبرائة في الظنون القوية .

( ولو فرض التسوية في القوة والضعف ) بأن كانت كُلّ الظنون في مرتبة واحدة ، لا إنّ بعضها قوي وبعضها ضعيف ( كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع ) بأن كانت كل تلك الأحكام مشكوكة ( من التخيير ) فيتخير بالعمل ببعض الظنون وعدم العمل ببعض الظنون .

لكنّ التخيير بترك بعض الظنون والعمل ببعض الظنون إنّما هو ( ان لم يتيسر لهذا الشخص الاحتياط ) وإلاّ عمل بالاحتياط في الكُلّ حسب العلم الاجمالي إن لم يتيسّر له الاحتياط التام ، بإتيان جميع محتملات الوجوب وترك جميع محتملات التحريم من المظنونات .

( وإن تيسّر الاحتياط ) التام ( تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه ) لمقتضى العلم

ص: 338

وإن لم يجز لغيره تقليدُه ، ولكنّ الظاهر انّ ذلك مجرّدُ فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مُثبتة للتكليف ، فراجع كُتُب الأخبار .

-------------------

الاجمالي ( وإن لم يجز لغيره تقليده ) لأن التقليد إنّما يجوز للعالم ، والمفروض انّ هذا الشخص جاهل بالأحكام ، وإنّما يعمل فيها بالظنّ ، والظنّ لايورث العلم بالواقع .

نعم ، لو لم يتمكن المقلِّد إلاّ منه ، وجب عليه إتباعه بحكم العقل ، لأنّه أعلم منه بموارد الظّن بالأحكام .

( ولكنّ الظّاهر : إنّ ذلك ) الّذي ذكرناه بقولنا : ولو فرض التسوية في القوة والضعف ( مجّرد فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مثبتة للتكليف ) ومثل تلك الأمارات توجب الظّن على الأقل ( فراجع كُتب الأخبار ) حتى تطِّلع على إن كثيراً من الأخبار والأمارات توجب ظنّ الانسان ظنّاً قويّاً ، فليست الظّنون الحاصلة للانسان متساوية - على ما ذكره الفرض - .

ثم إنّ الأوثق قال بعد الوجوه الثلاثة للمصنّف مالفظه : هنا وجه رابع لعدم جواز العمل بأصالة البرائة ، وهو : لزوم إختلال النظام ، وضياع النفوس ، والأموال ، والأعراض ، لو كان العمل باصالة البرائة في أكثر الأحكام المشتبهة مرخّصاً فيه شرعاً ، إذ يلزم حينئذ أن يبني على البرائة كل من شك في جواز إتلاف صنف من النفوس ، وفي جواز التصرّف في نوع من أموال الناس ، أو في نكاح طائفة من النساء ، أو في أداء قسم من الحقوق ، وبذلك تختل الانساب ، وتُستباح النفوس والأموال ، وهذا حدّ يقطع كل أحد بفساده .

مع إنّه ربّما لايمكن العمل بأصالة البرائة ، كما في صورة التَّداعي ودوران مالٍ بين شخصين ، لأجل الشبهة في حكمه ، كما في منجزات المريض الدائرة

ص: 339

ثمّ إنّه قد يُرَدُّ الرجوع إلى أصالة البراءة تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائيّ في الزُّبدة ، بأنّ إعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتفٍ في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظنّ .

-------------------

بين كونها من الأصل أو الثلث ، وكذلك الحَبْوَة تختلف في كونها للولد الأكبر بلا عوض أو معه (1) ، انتهى .

لكن يمكن أن يقال : إن الاشكال غير وارد ، وذلك لحكم العقل بعدم ما يلزم الاختلال ، وبالتقسيم حسب قاعدة العدل العقليّة ، في الاموال ، فهو تخصيص للبرائة ، كما إنّ العقلاء غير المتشرعة الذّين يَرون الاباحة المطلقة ، لايقولون بها في مثل هذه الموارد .

( ثمّ إنّه قد يردُّ الرجّوع الى أصالة البرائة ) عند من لايرى العمل بالخبر الواحد ( تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزُّبدة ) بما حاصل الرّد ( بان إعتبارها ) أي : اعتبار البرائة ( من باب الظّنّ ، والظّنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه ) أي : نحو الخبر ( من أمارات الظّن ) أي : من الأمارات التي تُوجب الظّن ، فان الظّن الخَبري أقوى من ظنّ البرائة .

وإنّما كان الظن الخبري مُقدَّم على الظّن الناشئمن البرائة ، لأنّ الخبر ونحوه من الأمارات التنجيزية ، والبرائة من الأمارات التعليقية ، والتعليقية دائماً لاتطاول التنجيزية ، كما إنّ الخبر الذي يَدُلُّ على حجيّة خبر الواحد مثل : « لاعُذرَ لأحدٍ مِن موالينا فِي التَّشكيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثقاتُنا » (2) مقدّم على الخبر الذي يدل

ص: 340


1- - أوثق الوسائل : ص197 - 198 مقدمات دليل الانسداد .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشّي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وفيه : منعُ كون البراءة من باب الظنّ ، كيف ؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليلٌ على إعتبارها ، بل هو من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف من دون بيان .

وذكر المحقق القميّ رحمه اللّه ، في منع حكم العقل

---------------------

على البرائة مثل : « كُلُّ شيء مُطلقٌ » (1) وذلك لنَفس هذه العِلّة .

( وفيه ) أي : في كلام من رد الرجوع الى أصالة البرائة تبعاً لصاحبي المعالم والزُبدة ( : منع كون البرائة من باب الظّن ، كيف ولو كانت ) البرائة ( كذلك ) أي : حجّيتها من باب الظّن ( لم يكن دليل على إعتبارها ) لأنّ إعتبارها من باب الظّن يتوقف على تمامية دليل الانسداد ، فاذا أخذنا إعتبارها من باب الظن في مقدمات دليل الانسداد لزم الدَّور .

( بل هو ) أي : إعتبار البرائة ( من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف ) من الحكيم ( من دون بيان ) .

ولا يخفى : إنّ الحكم العقلي هو الأصل في البرائة ، ثم ان الشرع أيضاً ذكر البرائة في الآيات والروّايات ، كما هو مذكور في محله مفصلاً .

ثم إنّ المصنّف لمّا منع كون البرائة من باب الظنّ وقال : بل هو من باب حكم العقل القطعي ، ذكر إشكال المحقّق القمي على إنّ البرائة ليست من باب الحكم القطعي فقال :

( وذكر المحقّق القمي رحمه اللّه ) صاحب القوانين ( في منع حكم العقل

ص: 341


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح23530 .

المذكور : « أنّ حكمَ العقل إمّاأن يريد به الحكم القطعيّ أو الظنّي .

فان كان الأوّل ، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّاً أوّلُ الكلام ، كما لايخفى على من لاحظ أدلّة المُثبتين والنافين من العقل والنقل .

سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع .

وأمّا بعد ورود الشرع ، فالعلمُ بأنّ فيه أحكاماً إجماليّة على سبيل اليقين يُثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعاً ، كما لا يخفى .

-------------------

المذكور ) وإنّ البرائة ليست من باب حكم العقل ( : انّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ ، أو الظّني ؟ ) أي : هل إنّ العقل يحكم قطعاً بالبرائة أو يحكم ظناً بالبرائة ؟ .

( فان كان الأوّل ) أي : الحكم العقلي القطعي ( فدعوى كون مقتضى أصل البرائة قطعيّاً ، أول الكلام ) فانّا لانسلم القطع بعدم الحرمة ، الذي هو مقتضى البرائة ( كما لايخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل والنقل ) حيث إنّ بعضهم أثبتوا حكم العقل والنقل بالبرائة ، وبعض نفوها ، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بالبرائة قطعي ؟ .

( سلّمنا كونه ) أي : كون حكم العقل بالبرائة ( قطعيّاً في الجملة ) ومعنى « في الجملة » : مافسّره بقوله بعد ذلك : ( لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشّرع ) فانّه قبل ورود الشرع البرائة قطعية .

( وأمّا بعد ورود الشّرع ، فالعلم بأنّ فيه ) أي : في الشرع ( أحكاماً إجماليّة على سبيل اليقين ) لأنّه بعد ورود الشّرع نعلم إنّ لنا أحكاماً في الجملة ، فان هذا العلم الاجمالي ( يثبّطنا ) أي يمنعنا ( عن الحكم بالعدم ) أي : الحكم بعدم الحرمة ( قطعاً ، كما لايخفى ) فانّه كيف نتمكن أن نحكم بالبرائة بصورة قطعيّة ، بعد أن

ص: 342

سلّمنا ذلك ، ولكن لانسلّمُ حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه .

وإن أرادَ الحُكمَ الظنّيّ ، سواء كان بسبب كونه بذاته مفيداً للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السّابقة ، فهو أيضاً ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار

-------------------

علمنا بورود أحكام في الجملة في الشريعة ، بعضها واجبات ، وبعضها محرمات ، فانّ العلم الاجماليّ ينافي العلم التفصيليّ ، فهل يمكن أن يقال : إنّا نعلم إجمالاً بوجود حرام ، ونقول : نعلم علماً قطعياً بعدم وجود الحرام ، وهل هذا إلاّ تناقض ؟ .

( سلّمنا ذلك ) العلم القطعي بعدم الحكم ولو بعد الشرع ( ولكن لانسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه ) فانّا نقطع بعدم الحرمة قبل الشرع ، ونقطع بعدم الحرمة بعد الشرع ، لكن هل نقطع بعدم الحرمة بعد ورود الخبر الصحيح على الحرمة ؟ .

هذا كلّه إن أراد المستدِّل القطع بالبرائة ( وإن أراد الحكم الظني ) بالبرائة ( سواء كان بسبب كونه بذاته مفيداً للظّن ) أي : حكم العقل بأنّ التكليف من دون بيان قبيح ( أو من جهة إستصحاب الحالة السابقة ) فانّه في السابق لم يكن حرام ، فنستصحب ذلك الى الحال ، وذلك يوجب الظّن بعدم الحكم بالحرمة ، أي : بمقتضى البرائة ( فهو أيضاً ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار) لأنّ حكم العقل الظّني هو كظاهر الكتاب والسنّة ، الدال على عدم المؤاخذة بدون البيان .

ومن المعلوم : إنّ ظاهر الكتاب والسنّة ، لايوجبان قطعاً ، بل إنّما يوجبان الظّن

ص: 343

التي لم يثبت حجّيتهما بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح ، إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

-------------------

( الّتي لم يثبت حجيتّهما بالخصوص ) « التي » صفة ل- « ظاهر الكتاب والأخبار » .

وإنّما ذكر إنه لم يثبت حجّيتهما بالخصوص بناءاً على مذهبه قدس سره من كون حجية الظواهر بالنسبة الى المشافهين من باب الظّن الخاص ، أمّا بالنسبة الى المعدومين في وقت الخطاب فهو من باب الظنّ المطلق - كما سبق الالماع الى ذلك .

( مع إنّه ) أي : الحالة السابقة ( ممنوع بعد ورود الشّرع ) لأنّ الشارع قطع الحالة السابقة ، فكيف تُستَصحب تلك الحالة ؟ .

( ثمّ ) إن المنع يكون بصورة أشدّ ( بعد ورود الخبر الصحيح ) بالحرمة ( إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه ) (1) أي : من الظن الاستصحابي ، فإذا كان هناك إستصحاب على العدم ، وخبر صحيح على الحرمة ، قدّم الخبر الصحيح على الاستصحاب ، لأنّ الظّن الحاصل من الخبر الصحيح ، أقوى من الظّن الحاصل من الاستصحاب .

وقوله : « ثم » هو عبارة عن تسليم ماذكره سابقاً ، يعني : حتى لو فرض إنّه يستصحب بعد ورود الشرع ، لكن لايستصحب إذا حصل خبر واحد صحيح ( إنتهى كلامه ، رفع مقامه ) .

ص: 344


1- - القوانين المحكمة : ص213 .

وفيه : انّ حكمَ العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكمٌ قطعيّ ، لا إختصاص له بحال دون حال .

فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع فيه خلافٌ بين العقلاء ، وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والأخبار التي ذكروها .

-------------------

هذا ( وفيه ) إنّ ماذكره : من الترديد بين كون حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، قطعي أو ظني غير تام ، وذلك ( إنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكم قطعي ، لا إختصاص له بحال دون حال ) سواء كان في حال الشرع ، أو في حال عدم الشرع ، فانّ العقلاء متفقون بما حكم به عقلهم : من إنّه لايمكن للحكيم أن يعاقب الانسان من دون أن يسبق البيان .

وعليه : ( فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ) كما ذكره المحقّق القميّ .

كما ( ولم يقع فيه ) أي : في قبح المؤاخذة من دون البيان ( خلاف بين العقلاء ) إطلاقاً ، فانهم جميعاً متفقون على القبح المذكور .

( وإنّما ذهب من ذهب بوجوب الاحتياط ) بعد ورود الشرع ( لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والاخبار التي ذكروها ) مثل قوله تعالى : « ولا تَقفُ مَالَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (1) حيث دلّ على إنّ اللازم العلم بالجواز ، فإذا لم يعلم بالجواز وإحتمل الوجوب أو الحرمة وجب عليه الاحتياط .

وقوله : « أَخُوكَ دِينُكَ فَإحتَط لِدينِكَ بِما شِئتَ » (2) الى غير ذلك ممّا يذكرونه

ص: 345


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 .

وأمّا الخبر الصحيح ، فهو كغيرهِ من الظنون إن قام دليل قطعيّ على إعتباره كان داخلاً في البيان ، ولا كلامَ في عدم جريان البراءةِ معه ، وإلاّ فوجودُه كعدمه غيرُ مؤثّر في الحكم العقليّ .

والحاصلُ : أنّه لاريبَ لأحد ، فضلاً عن إنّه لاخلافَ ، في أنّه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ

-------------------

في باب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ، فالآيات والأخبار التّي ذكروها في باب الاحتياط بيان ، فلايكون هناك قبح العقاب بلا بيان .

أمّا ما ذكره المحقّق القميّ : من انّ الخبر الصحيح يقوم في قبال البرائة والاستصحاب ، ففيه ماذكره المصنّف بقوله : ( وأما الخبر الصحيح ، فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على إعتباره ) ممّا يسمّى بالعلمي حينئذ ، فانّه ( كان داخلاً في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البرائة معه ) لأنّ البرائة إنّما تكون جارية إذا لم يكن بيان ، والمفروض : إن الخبر الصحيح الّذي قام الدليل القطعيّ على إعتباره بيان .

( وإلاّ ) أي : وان لم يكن دليل على حجّية الخبر الصحيح ( فوجوده كعدمه ) لأنّ الخبر الصحيح لا حجّية فيه لذاته ، وإنّما حجّيته مستندة الى دليل قطعي ، فالخبر الصحيح ( غير مؤثّر في الحكم العقلي ) وإنّما الحكم العقلي جارٍ مطلقاً ، إلاّ إذا كان بيان ، والبيان هو الخبر الصحيح المستند الى دليل قطعي على إعتباره .

( والحاصل : إنّه لاريبَ لأحد ، فضلاً عن إنّه لاخلاف في أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ ) كقوله : « إحتط لدينك » ، فانّه دليل عام شامل لكل

ص: 346

أو الخاصّ ، فالأصل البراءة .

وحينئذٍ : فاللازم إقامة الدليل على كون الظنّ المقابل بياناً .

وممّا ذكرنا ظهر صحّةُ دعوى الاجماع على أصالة البراءة في المقام ، لأنّه إذا فُرض عدم الدّليل على إعتبار الظنّ المقابل صدق قطعاً عدم البيان ، فتجري البراءة .

وظهر فسادُ دفع أصل البراءة بأنّ المستند فيها إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث ،

-------------------

مكان يشتبه فيه الحكم ( أو ) لا بالدليل ( الخاصّ ) كما إذا قال : الشيء الفلاني حرام ، بأن قام عليه خبر صحيح مقطوع الاعتبار ( فالأصل البرائة ) عن ذلك الحكم المشكوك فيه .

( وحينئذ ) أي : حين لم يكن هناك دليل عام أو خاص على الحرمة ( فاللازم إقامة الدّليل ) منكم أيها المحققّ القميّ ( على كون الظنّ المقابل ) لأصالة البرائة ( بياناً ) والحال إنّه ليس لكم دليل على إنّ الظّن المقابل لأصالة البرائة بيان ، وعليه : فاللازم العمل بأصل البرائة .

( وممّا ذكرنا : ) من انّه لاريب لأحد فضلاً عن إنّه لا خلاف ( ظهر : صحة دعوى الاجماع على أصالة البرائة في المقام ) لعدم البيان ، وإذا لم يكن بيان ، فالعقل قاطع بأنّه يقبح العقاب ( لأنّه إذا فرض عدم الدّليل على إعتبار الظّنّ المقابل ) لأصالة البرائة ( صدق قطعاً عدم البيان ) ، وإذا تحققّ الموضوع وهو : عدم البيان ( فتجري البرائة ) لأنّه كلمّا تحقق الموضوع تحقق الحكم .

( و ) بهذا ( ظهر فساد دفع أصل البرائة : بأنّ المستند فيها ) أي : في البرائة ( إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث ) لكنّك قد عرفت : وجود الاجماع

ص: 347

وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدليل ولا نسلّم عدم الدليل مع وجود الخبر .

وهذا الكلام ، خصوصاً الفَقرة الأخيرة منه ، ممّا يُضحِكُ الثكلى ، فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلاً يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة .

وإعلم : أنّ الاعتراضَ على مقدّمات دليل الانسداد بعدم إستلزامها العمل

-------------------

القطعي على البرائة في محل البحث .

( وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدّليل ) أي : عدم البيان ( ولانسلّم عدم الدّليل مع وجود الخبر ) الصحيح ، لأنّه كما عرفت : الخبر الصحيح إن كان مستنداً إلى دليل قطعي فهو بيان ، وإن لم يكن مستنداً الى دليل قطعي فهو ليس ببيان .

( وهذا الكلام ) من المحقّق القمي الّذي تقدّم نقله والايراد عليه ( خصوصاً الفقرة الأخيرة منه ) وهي قوله : « ثم بعد ورود الخبر الصحيح . . » الخ ( ممّا يضحك الثكلى ) لأنّ هذه الفقرة الأخيرة دالة على إننا نحتاج في قبال قُبح العقاب الى ثبوت كون الخبر دليلاً ، وهو كلام غير تام .

( فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلاً يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدّليل الّذي هو مجرى البرائة ) لأنّ عدم البيان يتحقق بأمرين : ثبوت كون الخبر ليس بدليل ، وعدم ثبوت كون الخبر دليلاً ، ومن باب اللّطيفة إنّ الثكلى إنّما تضحك من هذا الكلام إذا كانت عالمة فاضلة تفهم هذا الكلام من القوانين والرّسائل فهماً جيداً .

( وإعلم : إنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد : بعدم ) تماميتها حتى تنتج حجّية الظّن المطلق لعدم ( إستلزامها ) أي : هذه المقدّمات ( العمل

ص: 348

بالظنّ ، لجواز الرّجوع إلى البراءة ، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجابا عنه بما تقدّم مع ردّه ، من أنّ أصالة البراءة لايُقاوم الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ إنّ أوّلَ من شَيّد الاعتراضَ به وحرّره ، لا من باب الظنّ ، هو المحققّ المدقّق جمال الدين قدس سره في حاشيته ، حيث قال : « يرد على الدّليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالباً لايوُجب جواز العمل بالظنّ حتى يتجّه ماذكروه ، لجواز أنّ لايجوز العمل بالظنّ .

-------------------

بالظّن ، لجواز الرّجوع إلى البرائة ) أو أصل العدم فانّه ( وإن كان قد أشار اليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجاب عنه بما تقدّم ) من قولنا : ثم إنّه قد يُردُّ الرجوع إلى أصالة البرائة تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزبدة الى آخره ، وذكرنا ردّه ، حيث قلنا : « وفيه منع كون البرائة من باب الظن . . . » الخ ، ( مع رده ) أي : ردّ هذا الرد ( من أنّ أصالة البرائة لايقاوم الظّن الحاصل من خبر الواحد ) لِما تقدّم من إنّ خبر الواحد مقدّم على أصالة البرائة ، لأنّ أصالة البرائة مستند الى قبح العقاب بلا بيان ونحوه ، وخبر الواحد بيانٌ .

( إلاّ إنّ أوّل من شَيّد الاعتراض به ) أي : بالرجوع إلى أصالة البرائة ، ( وحرّره ) أي : حرّر وجه عدم الرجوع إلى أصالة البرائة ( لامن باب الظّنّ ) ، أي : لا أنّ البرائة تفيد الظّن فيزول مع الخبر ، بل قال : بأنّ البرائة لا تفيد الظّن ( هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس سره في حاشيته ) على شرح المختصر ( حيث قال : يرد على الدّليل المذكور : أنّ إنسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالباً لايوجب جواز العمل بالظّن حتى يتّجه ما ذكروه ) من حجّية الظّن بعد إنسداد باب العلم ( لجواز أن لايجوز العمل بالظّنّ ) حتى بعد الانسداد ، وذلك للرجوع الى البرائة ، كما سيأتي

ص: 349

فكلّ حكم حصل العلمُ به من ضرورةٍ أو أجماعٍ نحكمُ به ، وما لم يحصل العلمُ به نحكمُ فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للاجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكمُ بأنّه لايثبت تكليفٌ علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليلٌ يفيد العلم .

ففيما إنتفى الأمران فيه يحكم العقلُ ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّاً بمقتضاها

-------------------

بيان المحقّق المذكور له .

قال : ( فكلّ حكم حصل العلم به ) أي : بذلك الحكم حصولاً ( من ضرورة ، أو إجماع ، نحكم به ) أي : بذلك الحكم ( وما لم يحصل العلم به ، نحكم فيه بأصالة البرائة ) وإنّما نحكم بأصالة البرائة ( لا لكونها مفيدة للظّنّ ) فانّ حجيّتها ليست من باب الظن ( ولا للاجماع على وجوب التمسك بها ) أي : بالبرائة حتى يقال : إنّ الظّن ليس بحجّة ، والاجماع غير ثابت ( بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد ) ذلك الدليل ( العلم ) أي : يكون علمياً .

والحاصل : إنّه لايثبت التكليف علينا إلاّ بالعلم أو بالعلمي ( ففيما إنتفى الأمران ) لا علم ولا علمي ( فيه ) أي : في ذلك الحكم ، والضمير عائد الى «ما» في قوله «ففيما» ( يحكم العقل ببرائة الذّمة عنه ) أي : عن ذلك الحكم ( وعدم جواز العقاب على تركه ) .

يعني : إنّ الحكم إن كان واقعياً ولم يصل إلينا بعلم أو علمي ، فالعقل يحكم بان المولى ، لايتمكن أن يعاقب على ذلك الحكم المجهول عندنا ( لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّاً بمقتضاها ) أي : بمقتضى البرائة ، وذلك لأنّا لا نعمل بالبرائة

ص: 350

حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ، بل لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا مالم يحصل العلمُ لنا ولا يكفي الظنُّ به .

ويؤكّده ما ورد من النهي عن إتّباع الظنّ .

وعلى هذا ففي مالم يحصل العلمُ به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحةٌ عنه كغُسل الجمعة ، فالخطبُ

-------------------

فيما فقد فيه العلم والعلمي من باب انّ البرائة توجب الظن ( حتّى يعارض بالظّنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ) أي : بخلاف البرائة بأن يقال : الظنّ بالبرائة ، يعارضه ظنّ حاصل من أخبار الآحاد ، والظن الحاصل من أخبار الآحاد مقدّم على البرائة .

( بل لِما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا مالم يحصل العلم لنا ) سواء كان علماً بالحكم ، أو علماً بالخبر الذي أثبت الحكم ممّا يصطلح عليه بالعلمي ( ولايكفي الظّن به ) أي : بالتكليف .

( ويؤكّده ) أي : يؤكد ماذكرنا : من أنّ البرائة ليست حجيّتها من باب الظن ( ماورد من النهي عن إتباع الظّنّ ) فانّه شامل للظّنّ الحاصل بالحكم ، أو الظّنّ الحاصل بالبرائة ، كما إنّه شامل للظّن في وقت الانفتاح ، والظن في وقت الانسداد .

( وعلى هذا ) الّذي ذكرنا : من إنّه لانعتمد على الظّن في البرائة ( ففي مالم يحصل العلم به ) أي : بالحكم بأن لم نعلم بالحكم ولم يقم عليه دليل علمي ( على أحد الوجهين ) . المذكورين سابقاً حيث قال : لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم ( وكان لنا مندوحة عنه ) ، لأن أمره ليس دائراً بين الواجب والحرام ( كغُسل الجمعة ، فالخَطبُ ) أي : الأمر

ص: 351

سهلٌ ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور .

وأمّا فيما لم يكن مندوحةٌ عنه ، كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كلّ منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيصَ لنا عن الاتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما ، وعلى هذا فلا يتمّ الدّليل المذكور ، لأنّا لا نعمل

-------------------

( سهلٌ إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور ) وهو أصل البرائة .

( وأما فيما لم يكن مندوحة عنه ) لدورانه بين المحذورين ( كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كل منهما قوم ) ، حيث إنّ بعض الفقهاء قال بوجوب الجهر بالبسملة ، وبعض الفقهاء قال بوجوب الاخفات بها ( ولايمكن لنا ترك التسمية ) لوجوب البسملة بالاجماع ( فلا مَحيص لنا عن الاتيان بأحدهما ) أي : نأتي بالبسملة إما جهراً وإما إخفاتاً .

وعليه : ( فنحكم بالتخيير فيها ) أي : في البسملة ( لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات ) معيّناً ، لأنه لايعلم هل التكليف : الجهر أو التكليف : الاخفات ، ويحتمل إحتمالاً أن يكون الانسان مخيّراً بينهما أيضاً ، حالها حال الصلوات المندوبات ( فلا حَرَج لنا في شيء منهما ) بأن يصلي جهراً ، أو أن يصلي إخفاتاً ، أو أن يصلّي تارة جهراً وأُخرى إخفاتاً .

( وعلى هذا : فلا يتمّ الدّليل المذكور ) أي : دليل الانسداد ( لأنّا لانعمل

ص: 352

بالظنّ أصلاً » . انتهى كلامه ، رفع مقامه .

وقد عرفت أنّ المحقّق القميّ قدس سره أجاب عنه بما لايسلم عن الفساد ، فالحقُّ ردُّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة .

ثمّ إنّ ما ذكره من التخلّص عن العمل بالظنّ بالرجوع إلى البراءة لايجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمرُ

-------------------

بالظّنّ أصلاً ) (1) . بل كلما علمنا بالحكم عملنا به ، وإذا لم نعلم بالحكم أجرينا أصالة البرائة ( إنتهى كلامه ، رفع مقامه ) .

( وقد عرفت : إنّ المحقّق القميّ قدس سره أجاب عنه بما لايَسلم عن الفساد ) وهو ماتقدّم من نقل المصنّف عنه بقوله : وذكر المحقّق القمي .

( فالحقُّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة ) أي : ردّ ما إستدّل به لبطلان المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد ، والمقدمة هي : عدم جواز إهمال الوقائع الكثيرة المشتبهة ، فان المصنّف إرتضى هذه المقدّمة ، وردّ من قال بأنّ هذه المقدّمة باطلة ، والوجوه الثلاثة التي ذكرها المصنّف هي كالتالي :

الأول : الاجماع القطعيّ ... الخ .

الثاني : إنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع ... الخ .

الثالث : إنه لو سلمنا إنّ الرجوع ... الخ .

وبهذه الأجوبة تبيّن صحة المقدمة الثانية .

( ثمّ انّ ماذكره ) المحقّق جمال الدّين . ( من التخلّص عن العمل بالظّنّ ) تخلصاً ( بالرّجوع الى البرائة ، لايجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمر )

ص: 353


1- - حاشية شرح مختصر الاصول : مخطوط .

بين كون المال لأحد شخصين ،كما إذا شك في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها إثنان ، فانّه لامجرى هنا للبراءة ، لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه ، وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضاً ، لأنّ كلاً منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه ، مع أنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة ،

-------------------

في مسألة فرعية ( بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة ) وهل إنّها صحيحة أو لا ؟ ( فَتَبايَع بها ) أي بالمعاطاة ( إثنان ، فانّه لامجرى هنا للبرائة ) لأنه لامعنى لها ( لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه ) فلا يعلم هل إنّ المبيع للبائع أو المشتري ؟ ( وكذا في الثمن ) لأنّه لايعلم هل الثمن إنتقل إلى البائع أو لم ينتقل اليه ؟ .

( ولا معنى للتخيير أيضاً ، لأنّ كلاً منهما يختار مصلحته ) فلا مكان للبرائة ولا مكان للتخيير .

( و ) إن قلت : إنّ الحاكم يتخيّر بين أنّ يعطي المثمن لهذا أو لذاك ، فاذا أعطى المثمن لهذا أعطى الثمن لغيره .

قلت : ( تخيير الحاكم هنا لا دليل عليه ) إذ لاربط للحاكم بملك هذا أو ملك ذاك ( مع إنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة ) فهنا أمران :

الأمر الأول : إن أيّاً من المثمن أو الثمن يكون لأيّ من البائع والمشتري ؟ .

الأمر الثاني : إنّه إذا وقعت خصومة بين هذين الاثنين ، كيف تحلّ الخصومة بينهما ؟ والكلام في الأمر الأول لا في الأمر الثاني .

ومثله مالو إدعى إثنان زوجية إمرأة خاصة ، فهنا كلامان :

الأول : إنّ الشارع يجعل الزوجة لأيهما ؟ هل لِمَن توافقه الزوجة ، أو مَنْ

ص: 354

اللّهم إلاّ أن يتمسّك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناءا على أنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة .

فلو أُبدِلَ في الايراد ، أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل .

ويمكن أن يكون هذا الأصلُ - يعني أصل الفساد وعدم التملّك وأمثاله - داخلاً في المستثنى ، في قوله : « لايثبت تكليفٌ علينا إلاّ بالعلم أو بالظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم » ،

------------------

تخالفه الزوجة ، فيما لو فُرِضَ إنّ الزوجة قالت : إنّي زوجةُ زيد لا عمر ومثلاً ؟ .

الثاني : أنه لو لم يعلم الحكم الشرعي في المسألة ، فالعلاج لدفع الخصومة يكون بماذا ؟ هل بالقرعة ، أو إجبار الحاكم لهما بالطلاق ، أو طلاق الحاكم لها ، أو إبطال الحاكم للنكاح ، إلى غير ذلك من المحتملات ؟ .

( اللّهم إلاّ ) أن يقال : بجريان البرائة فيما ذكر أيضاً من مسألة الاختلاف في المعاطاة وذلك ب- ( أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ) فلا أثر بالنسبة إلى هذه المعاملة ، وبذلك يرجع كل شيء إلى صاحبه الأصلي ( بناءاً على إنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ) لكن المحقّق جمال الدّين سمّاه بالبرائة .

وعليه : ( فلو أُبدل ) جمال الدّين ( في الايراد ، أصالة البرائة بأصالة العدم ، كان أشمل ) لأنه يشمل البرائة وأصل العدم كليهما .

هذا ( ويمكن أن يكون هذا الأصل يعني : أصل الفساد وعدم التملك ) في مورد الاختلاف في المعطاة ( وأمثاله ) كما إذا إختلف في الرّهن ، أو الاجارة ، أو المزارعة ، أو المساقاة ، أو المضاربة ، أو ما أشبه ، بأن أُجريت هذه المعاملات بالمعاطاة ، فإختلفوا في أنها هل إنعقدت أم لا ؟ ( داخلاً في المستثنى في قوله : لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم ، أو بالظّن يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم ) .

ص: 355

بناءا على أنّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على إعتبارها الاجماعُ والسيرةُ ، إلاّ أن يمنع قيامُهما على_'feإعتباره عند إشتباه الحكم الشرعيّ مع وجود الظنّ على خلافه .

وإعتبارُه من باب الاستصحاب مع إبتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعيّ رجوعٌ إلى الظنّ العقليّ أو الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد الدالّة على الاستصحاب .

-------------------

وإنّما كان داخلاً في المستثنى ( بناءاً على انّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على إعتبارها الاجماع والسيرة ) فالمحقّق الخوانساري يقول : لايثبت علينا تكليف إلاّ بالعلم أو بالظّن ، وأصل العدم من الظّنون ، فهو يثبت التكليف .

( إلاّ أن يمنع قيامهما ) أي : قيام الاجماع والسيرة ( على إعتباره ) أي : إعتبار أصل العدم ( عند إشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظّنّ على خلافه ) فلا إجماع ولاسيرة على إعتبار أصل العدم ، فيما إذا كان هناك ظنّ على خلاف هذا الأصل العدمي ، وإنّما الاجماع والسيّرة فيما إذا لم يكن ظنّ .

( و ) إن قلت : ( إعتباره ) أي : إعتبار أصل العدم ( من باب الاستصحاب ) لا من باب الاجماع أو السيرة .

قلت أولاً : ( مع إبتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعي ) وقد أشكلنا نحن في باب الاستصحاب على حجيّة الاستصحاب في الحكم الشرعي ، وإنّما نقول : بحجّية الاستصحاب في الموضوعات فقط .

ثانياً : إنّه ( رجوع الى الظّن العقلي ، أو الظّن الحاصل من أخبار الآحاد الدّالة على الاستصحاب ) ولم يثبت إعتبار أيّ الظّنين : لا الظّن العقلي ولا الظّن المستند

ص: 356

اللّهم إلاّ أن يدّعي تواترها ولو إجمالاً ، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالاً ، فيخرج عن خبر الآحاد ، ولايخلو عن تأمّل .

-------------------

الى الأخبار ، لأنّ الكلام الآن في مقدمات دليل الانسداد ، فلايمكن أن يبنى شيء على دليل الانسداد ، والحال إنّ مقدماته لم تتم بعد .

( اللّهم إلاّ أن ) يقال : بأنّه لا بأس باجراء إستصحاب العدم ، والاستصحاب ليس مبنياً على الظّن العقلي أو الظّن الحاصل من الأخبار لأنّه ( يدّعي تواترها ) أي : تواتر الأخبار الدّالة على الاستصحاب ( ولو ) تواتراً ( إجمالاً بمعنى : حصول العلم بصدور بعضها إجمالاً ، فيخرج ) مادلّ على إستصحاب العدم ( عن خبر الآحاد ) ويكون من المقطوعات .

إذن : فتمسكنا بأصل العدم لا لأنه ظنّي ، بل لأنّه علم من جهة تواتر الأخبار ولو تواتراً إجمالياً : وقد أشرنا إلى معنى التواتر الاجمالي : بأنّه عبارة عن وجود جملة من الأخبار نعلم إنّ بعضها صادرٌ قطعاً ، وحينئذ يكون أخص كل تلك الأخبار مقطوع الصدور .

هذا ( و ) لكن ( لايخلو ) تواتر أخبار الاستصحاب ( عن تأمل ) .

والحاصل : إنّ في موارد المشكوكات لانتمكن من إجراء أصالة العدم من باب الاستصحاب ، إذ الدلّيل على الاستصحاب إمّا الاجماع ، أو العقل ، أو الأخبار .

والأوّل : مفقود لوجود الخلاف في الاستصحاب في الأحكام .

والثاني : مبني على إعتبار مطلق الظّن ، وهو غير ثابت بعد .

والثالث : مبني على إعتبارها ، لكون أخبار الاستصحاب من الآحاد ، ودعوى تواترها - ولو إجمالاً - لايخلو عن تأمل .

وعليه : فاستصحاب العدم لايمكن أن يكون مستنداً في موارد الشك

ص: 357

وكيف كان ففي الأجوبة المتقدّمة ولا أقل من الوجه الأخير غنىً وكفايةٌ إن شاء اللّه تعالى .

المقدّمة الثالثة :

في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطُرقُ المقرّرة للجاهل من الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مسألة إلى مايقتضيه الأصل في تلك المسألة أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها

-------------------

في الوجوب أو في الحرمة .

( وكيف كان : ففي الأجوبة المتقدّمة ) الّتي ذكرناها : من إنّه لا رجوع إلى البرائة فيما ظنّ بخلاف البرائة ، بل ( ولا أقلّ من الوجه الأخير ) وهو : ماذكره المصنّف بقوله : الثالث : إنّه لو سلّمنا إنّ الرجوع إلى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهي وهو : الخروج عن الدّين ، فانّه لا دليل على الرجوع الى البرائة من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ، ففي تلك الأجوبة ( غنى وكفاية إن شاء اللّه تعالى ) .

وعليه : فالمقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد تامة .

( المقدمة الثالثة ) من مقدمات الانسداد : ( في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل ) وتلك الطرق بيّنَها المصنّف بقوله : ( من الاحتياط ) في جميع أطراف الاحتمال .

( أو الرّجوع في كلّ مسألة الى مايقتضيه الأصل في تلك المسألة ) من الاستصحاب ، أو البرائة ، أو التخيير ، أو الاحتياط .

( أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها ) وذلك بأن يقلِّد المجتهد الانسدادي المجتهد الانفتاحي .

ص: 358

فنقول : إنّ كلاً من هذه الأُمور الثلاثة وإن كان طريقاً شرعيّاً في الجملة لامتثال الحكم المجهول ، إلاّ أنّ منها ما لايجب في المقام ومنها ما لايجري .

أمّا الاحتياط ، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ،

-------------------

( فنقول : إنّ كُلاً من هذه الأمور الثلاثة : وإن كان طريقاً شرعيّاً - في الجملة - لامتثال الحكم المجهول ) لأنّ بعض المسائل يحتاط فيها ، وبعض المسائل يرجع فيها الى ما يقتضيه الأصل ، وبعض المسائل يرجع فيها الى فتوى العالم فيما إذا كان السائل جاهلاً .

( إلاّ إنّ منها ) أي : من هذه الطرق الثلاثة ( ما لايجب في المقام ) كالاحتياط - على ما يأتي - ( ومنها ما لايجري ) في كل مسألة مسألة كالرجوع الى مايقتضيه الأصل ، والرجوع إلى فتوى العالم .

ثمّ بيّن تفصيل ذلك بقوله : ( أمّا الاحتياط ) بأن يحتاط المجتهد بإتيان جميع محتملات المسألة من أول الفقه الى آخر الفقه ( فهو وإن كان مقتضى الأصل ) أي : أصل الاشتغال ( و ) مقتضى ( القاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ) فانّ العقل والنقل متّفقان على لزوم اطاعة المولى .

فإذا علم العبد الحكم بعينه أتى به ، وإن تردد الحكم بين متعدد أتى بكل ذلك في الواجب ، وترك كل ذلك في المحرّم ، وأتى بالواجب وترك المحرم فيما إذا دار الأمر بين حكم وجوبي وحكم تحريمي ، كما إذا علم بأنّ المولى قال شيئاً ، لكنّه لم يعلم هل إنّه قال بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو قال بحرمة شرب التتن ؟ .

ص: 359

إلاّ أنّه في المقام - أعني انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية - غيرُ واجب الاشتغال لوجهين :

أحدهما : الاجماع القطعيّ على عدم وجوبه في المقام ، لا بمعنى أنّ أحداً من العلماء لم يلتزم بالإحتياط في كلّ الفقه أو جلّه ، حتى يرد عليه : أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركاً في المسألة ، بل بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرجوع الى البراءة .

-------------------

( إلاّ انّه ) أي : الاحتياط ( في المقام أعني : إنسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية غير واجب الاشتغال ) فانّه لايجب الاحتياط في المسائل إذا كان الانسداد محققاً ، وإنّما قلنا : إنّه غير واجب ( لوجهين : ) على النحو التالي :

( أحدهما : الاجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام ) فلا يجب الاحتياط في كافة الفقه بالنسبة الى المسائل غير الضرورية والبديهية والمجمع عليها .

وأمّا الاجماع هذا فهو ( لابمعنى : انّ احداً من العلماء لم يتلزم بالإحتياط في كل الفقه ، أو جُلّه ) : إنّه لم يحتط في كل الفقه ، ولا في أكثر مسائل الفقه ( حتى يرد عليه : انّ عدم التزامهم به ) أي : بالإحتياط ( إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ) فيكون العدم من باب السالبة بانتفاء الموضوع .

إذن : ( فلا يقاس عليهم ) أي : على اُولئك الفقهاء ( من لا يجد مدركاً في المسألة ) أي : إنهم لم يحتاطوا لأنه كانت الأحكام لديهم واضحة ، أمّا من لم تكن الأحكام عنده واضحة ، فلا إجماع على عدم وجوب الاحتياط عليه .

( بل ) الاجماع ( بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرّجوع الى البرائة ) فانّ العلماء لا يرجعون الى البرائة في كل الأحكام ، أو جُلّها ، اذا لم تكن

ص: 360

وحاصله : دعوى الاجماع القطعّي على أنّ المرجعّ في الشريعة - على تقدير إنسداد باب العلم في معظم الأحكام ، وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأساً أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم . - ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك .

وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصفُ من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات ،

-------------------

واضحة عندهم ، لأنّه يستلزم الخروج عن الدين .

( وحاصله : ) أي : حاصل هذا المعنى :( دعوى الاجماع القطعيّ على أن المرجع في الشريعة على تقدير إنسداد باب العلم في معظم الأحكام ، وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأساً ) بأن لا يكون خبر الواحد حجّة أصلاً ( أو بإستنثاء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ) أي : إنّ بعض الأخبار حجّة ، لكنّ هذا البعض ليس بقدر يُعتدّ به .

فالمرجع حينئذٍ( ليس هو الاحتياط في الدّين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً ) هذا في الوجوب ( و ) لا ( ترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ) أي : ولو موهوماً ، وهذا في التحريم .

والحاصل : إنّ الاجماع في المقام تقديري وليس بإجماع تحقيقي ، والاجماع التقديري حجّة كالاجماع التحقيقي ، لأنّه اذا فرض تحقّق موضوعه يكون الاجماع عليه .

( وصدق في هذه الدعوى ) أي : الاجماع القطعي التقديري ( ممّا يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات ) في قبال كثرة المشكوكات

ص: 361

مضافاً الى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء المتقدّمة في بطلان الرّجوع الى البراءة وعدم التكليف في المجهولات ، فانّها واضحةُ الدلالة في أنّ بطلان الاحتياط كالبراءة مفروغٌ عنه ، فراجع .

الثاني : لزومُ العُسر الشديد والحَرج الأكيد في إلتزامه ،

-------------------

من أول الفقه الى آخر الفقه .

وبذلك ظهر : إنّه لا مجال للاشكال على هذا الاجماع : بعدم وجود عنوان لهذه المسألة في كتب القدماء ، ولا إعتداد بدعوى الاجماع في المسائل المستحدثة ، فانّ قول المعصوم عليه السلام يستكشف من هذا الاجماع الحدسي ، كما يستكشف من الاجماع الحسّي ، وهذا الاجماع الحدسي التقديري ( مضافاً الى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء المتقدّمة في بطلان الرّجوع الى البرائة وعدم التكليف في المجهولات ) و« عدم التكليف عطف على «البرائة» .

( فانّها ) أي : كلمات العلماء( واضحةُ الدلاّلة في أنّ بطلان الاحتياط كالبرائة مفروغٌ عنه ، فراجع ) كلماتهم ، فانّه لو لم يكن وجوب الاحتياط أمراً مفروغاً عن بطلانه عندهم ، لم ينحصر المناط بعد طرح أخبار الآحاد في الرّجوع الى البرائة حتى يلزم منه الرجوع من الدّين ، بل كان بالامكان أن يقال بالإحتياط ، كما ويستفاد من عدم تعرضهم لوجوب الاحتياط بعد طرح الأخبار - وتعرضهم لذكرإنّ الرجوع الى البرائة مستلزم للمحذور - إنّ وجوبه كان امراً مفروغاً عن بطلانه والاّ لتعرضوا له ، ولم يلزم محذور الرّجوع الى البرائة .

( الثاني : لزوم العُسر الشديد والحَرج الأكيد ) وقد تقدّم الفرق بين العُسر والحَرج إذا إجتمعا معاً ، بخلاف ما إذا ذُكر أحدهما فانّه يشمل الآخر ( في التزامه )

ص: 362

لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبهُ ، خصوصاً في أبواب الطّهارة والصّلاة ، فمراعاتهُ ممايوجب الحرجَ ، والمثال لا يحتاج اليه ، فلو بنى العالمُ الخبيرُ بموارد الاحتياط - فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ أو خبر متواتر - على الالتزام بالاحتياط في جميع اُموره يوماً وليلة ، لوجَدَ صدقَ ما إدّعيناه ، هذا كلّه بالنسبة الى نفس العمل بالإحتياط .

وامّا تعليمُ المجتهد مواردَ الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد مواردَ الاحتياط الشخصيّة وعلاج تعارض الاحتياطات وترجيح الاحتياط الناشيء عن الاحتمال القويّ على الاحتياط

-------------------

أي : في التزام الاحتياط ( لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبه ، خصوصاً في أبواب الطّهارة والصّلاة ) بل وغيرهما أيضاً ، كالحج ونحوه .

( فمراعاتهُ ) أي : الاحتياط ( مما يوجب الحرَج ، والمثال لا يحتاج إليه ) أي : لا حاجة الى ذكر مثال لبيان إنّ الاحتياط يوجب العُسر والحَرج ( فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ ، أو خبر متواتر ) أو ظنّ معتبر ( على الالتزام بالاحتياط في جميع اُموره ) « على » متعلق بقوله « بنى العالم الخبير » ، بأن يحتاط ( يوماً وليلة ، لوجَد صدق ما إدّعيناه ) من العُسر والحَرج .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من العُسر والحَرج إنّما هو( بالنسبة الى نفس العمل بالإحتياط ) بأنّ أراد المكلّف أن يحتاط في اُموره بالإتيان بالمشكوكات والموهومات .

( وأمّا تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد موارد الاحتياط الشخصيّة ) ، ولو من الذين يعرفون مسائل المجتهدين ( وعلاج تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشيء عن الاحتمال القوي على الاحتياط

ص: 363

الناشيء عن الاحتمال الضعيف ، فهو امرٌ مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يُخلُّ بنظام معاشهم ومعادهم .

توضيحُ ذلك : إنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر تركُ التطهير ،

-------------------

الناشيء عن الاحتمال الضعيف ) فان الترجّيح قد يكون بترجيح الاحتمال القويّ على الاحتمال الضعيف ، وقد يكون بأهمية المحتمل وعدمه ، فاذا قامت الشهرة على الجهر بالبسملة في الصلاة الاخفاتية - مثلاً - كان إحتمال الجهر أقوى من الاخفات ، واذا كان الاحتياط من جهة أهمية المحتمل ، كما اذا دار الأمر بين كون هِند ليست زوجة زيد ، بل خليّة ، وبين كونها زوجته ، فان كونها ليست زوجته أقرب الى الاحتياط لأنّها مسألة فرج .

( فهو ) خبر لقوله « وأما تعليم المجتهد »الخ ( أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع النّاس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يَخِلُّ بنظام معاشهم ومعادهم ) .

أمّا إختلال المعاش : فلأنهم يتركون أمر المعاش ، لاستغراق وقتهم في التعليم والتعلم .

وأمّا إختلال المَعاد ، فلأنهم يشتغلون بالتعلم عن إقامة الصلاة والحجّ ، وعن سائر المستحبات : كالزّيارات والأدعية والصلوات المندوبة ونحوها .

( توضيح ذلك ) بمثال :( إنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المسَتعملَ في رفع الحَدث الأكبر : ترك التطهير ) لأنّ جماعة من الفقهاء قالوا : بانّ الماء المستَعمل في رفع الحدث الأكبر، كالجنّابة والحَيض، وما أشبه، لايصح التطهير به،

ص: 364

لكن قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات اُخر ، بعضها أقوى منه ، وبعضها أضعفُ ، وبعضها مساوٍ ، فانّه قد يُوجَدُ ماءٌ آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه الاّ التُراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيرُه .

فانّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اُخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته ؛ وفي الثاني هو

-------------------

وإن كان - لعدم وجود النجاسة على البدن - طاهراً في نفسه .

( لكن قد يعارضه ) أي : الاحتياط في الترك ( في الموارد الشخصية احتياطات اُخر ، بعضها أقوى منه ، وبعضها أضعف ، وبعضها مساوٍ ) فالأقسام ثلاثة : ( فانّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ) يتمكن الانسان من التطهير بذلك الماء الآخر وترك الماء المستَعمَل .

( وقد لا يوجد معه الاّ التراب ) بالنسبة الى من يريد الغُسل أو الوضوء .

( وقد لايوجد من مطلق الطهور غيره ) فلا ماء ولا تراب الاّ هذا الماء المستَعمل .

( فانَّ الاحتياط في الأوّل ) وهو ما إذا وجد ماء آخر غير مستعمل ( هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه ) أي : لم يزاحم الاحتياط باستِعمال الماء الآخر ( الاحتياط من جهة اُخرى ) والجهة الاُخرى قدّ مثّلَ لَهُ بقوله : ( كما اذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته ) كعرق الجنب من الحرام ، فانّه يلزم عليه أن يزيل عرق الجنب من الحرام بذلك الماء الطاهر الآخر ، وهو مزاحم للإحتياط باستِعمال هذا الماء غير المستعمل ،في غسله أو وضوئه .

( وفي الثاني : ) وهو صورة وجوب التراب مع هذا الماء المستَعمل ( هو

ص: 365

الجمع بين الطهارة المائية والترابية إن لم يزاحمه ضيق الوقت ؛ وفي الثالث الطهارة من ذلك المستَعمَل والصلاة إن لم يزاحمه امر آخر واجب أو محتمل الوجوب .

فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقي إلى مقلّده إنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستَعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد إستعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره .

-------------------

الجمع بين الطهارة المائية والتُرابية إنّ لم يزاحمه ضيق الوقت ) وإلاّ فيدور الأمر بين إستعمال احدهما ، وبين إستعمال كليهما ، فاذا إستعمل أحدهما أَدرك الوقت ، أمّا إذا إستعمل كليهما فاتَهُ الوقت كُلاً ، أو بعض الوقت .

( وفي الثالث : ) وهو ما لايوجد ماء آخر ولا تراب ، الاحتياط ب- ( الطهارة من ذلك المستَعمل ، والصلاة ) بتلك الطهارة ( إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ) كما إذا كان هناك نفس محترمة أو محتملة الاحترام ، مشرفةٌ على التلف من شدة العطش ، ولم يكن ماء غير هذا المستَعمَل ، فدار أمرُ الماء المستَعمل بين إعطائه لذي النفس المحترمة أو المحتملة الاحترام ، وبين إستعماله في الصّلاة ، فانّ إستعماله في الصلاة إحتياطاً ، يعارض ذلك الواجب أو المحتمل الوجوب .

إذن : ( فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقي الى مقلّده : إنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستَعمل ) إلقاءاً مطلقاً بدون هذه التقييدات الكثيرة ( مع كون الاحتياط في كثير من الموارد إستعماله ) أي : استِعماله هذا الماء ( فقط ، أو الجمَع بينه وبين غيره ؟ ) كالتُراب - مثلاً - .

كما إنّ اللازم أن يبيّن المجتهد للمقلِّد : إنّه اذا لم يعلم إنّ الماء إستَعمِلَ

ص: 366

وبالجملة ، فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها ، فضلاً عن العمل بها ، أمرٌ يكاد يلحقُ بالمتعذّر ، يظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقيّة .

فان قلت : لا يجب على المقلَّد متابعةُ هذا الشخص الذي أدّى نظره إلى إنسداد باب العلم في مُعظم المسائل ووجوب الاحتياط ، بل يقلّد غيره .

-------------------

في الحدث الاكبر أم لا ، مع إستصحاب الحدث الأكبر أو عدم استصحابه ، أو إستعمل هذا الماء ، احد نفرين محتمل الحدث الأكبر ، أو كان هذا الماء هو ماء آخر إستعَملَ في الحدث الأكبر ، والى غير ذلك من الصور التي يختلف الاحتياط فيها .

( وبالجملة : فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة ) من المجتهد لمقلده( وتعلّمها - فضلاً عن العمل بها - أمرٌ يكاد يحلق بالمتعذِّر ) وإنّ لم يكن متعذّراً ، كان فيه عُسر شديد وحَرج أكيد ( يظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقيّة ) التي تتفق لافراد المكلفين ، ومثل حال الطهارة حال خصوصيات الصلاة ، وخصوصيات الصيام ، وغير ذلك .

( فان قلت : ) لاحرج للمقلَّد ولا للمجتهد ، لانّ الحَرج إنّما يكون اذا كان الواجب على المقلّدين متابعة مثل هذا الشخص الانسدادي ، والحال أنّ هناك مجتهدين آخرين ليس نظرهم الانسداد ، فالمجتهد الانفتاحي والمقلّد للمجتهد الانفتاحي في مندوحة عن هذه الاحتياطات المتعسّرة أو المتعذّرة ، إذ ( لا يجب على المقلّد متابعة هذا الشخص ) المجتهد ( الذي ادّى نظره الى إنسداد باب العلم في مُعظم المسائل ، و ) تبعاً لنظره الانسدادي رأى ( وجوب الاحتياط ) في كل المسائل ( بل يقلّد ) هذا المقلد ( غيره ) أي : غير المجتهد الانسدادي .

ص: 367

قلت : مع أنّ لنا أن نفرض إنحصار المجتهد في هذاالشخص : إنّ كلاَمنا في حكم اللّه سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد الذي إعتقد إنسداد باب العلم ، وعدم الدّليل على ظنّ خاصّ يكتفي به في تحصيل غالب الأحكام ، وإنّ من يدعي وجود الدّليل على ذلك فانّما نشأ اعتقاده ممّا لا ينبغي الرّكون اليه ، ويكون الرّكون إليه جزماً في غير محله .

فالكلام في أنّ حكم اللّه تعالى على تقدير انسداد باب العلم ، وعدم نصب الطريق الخاصّ لا يمكن أن يكون هو الاحتياط

-------------------

( قلت : مع إنّ لنا أن نفرض إنحصار المجتهد في هذا الشخص ) الانسدادي حيث لا مناص من تعليمه المقلِّدين ، ولا مناص للمقلّدين من تعلمهم منه ، فماذا يقول القائل بالإنسداد في هذه الصورة ؟ .

هذا أولاً ، وثانياً : ( إنّ كلامنا في حكم اللّه سبحانه بحسب إعتقاد هذا المجتهد ، الذي إعتقد إنسداد باب العلم ، و) إعتقد ( عدم الدليل على ظنّ خاص ) كالخبر الواحد ( يكتفي به ) أي : بذلك الظن الخاص ( في تحصيل غالب الأحكام ) فانّ هذا المجتهد كيف يرى انّ اللّه تعالى شرَّع لهُ الاحتياط ، بما يقع هو ومقلّدوه في اشد العُسر والحَرج ، وأحياناً في التعذّر ؟ .

هذا ( وإنّ من يدّعي وجود الدّليل على ذلك : ) أي : على لزوم الاحتياط حال الانسداد ( فإنّما نشأ إعتقاده ممّا لا ينبغي الرّكون إليه ) اذ لا ينبغي الرّكون الى وجوب الاحتياط الذي يلقي المجتهد والمقلّد في اشد أنحاء العُسر والحَرج ، بل ( ويكون الرّكون اليه جَزماً في غير محله ) فانّ مثل هذا الاعتقاد خطأً قطعاً .

والحاصل : ( فالكلام في أنّ حكم اللّه تعالى على تقدير إنسداد باب العلم ، وعدم نصب الطريق الخاص ، لا يمكن أن يكون هو الاحتياط ) التام في كُلِّ أبواب

ص: 368

بالنسبة الى العباد ، للزوم الحرج البالغ حدّ إختلال النظام .

ولا يخفى : أنّه لا وجه لدفع هذا الكلام بأنّ العوامّ يقلّدون مجتهداً غير هذا ، قائلاً بعدم إنسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنّيّة الوافية بإغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرجٌ وضيقٌ .

ثمّ إنّ هذا كلّه ، مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكنُ فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات .

-------------------

الفقه ( بالنسبة الى العباد ) كافة ( للزوم الحَرج البالغ حدّ إختلال النظام ) ومن الواضح : إنّ إختلال النظام ممّا لا يريده اللّه سبحانه وتعالى ، فلا يجعل حكماً ينتهي اليه ، فانّ إختلال النظام من أشد أقسام العُسر والحَرج والضَرر على الناس كافة ، ولذا فهي مرفوعة نصّاً وإجماعاً .

( ولا يخفى : إنّه لا وجه لدفع هذا الكلام ) الذي ذكرناه ، من لزوم الاحتياط ( : بأن العوام يقلَّدون مجتهداً غير هذا ، قائلاً ) ذلك المجتهد ( بعدم إنسداد باب العلم ، أو ) قائلاً ( بنصب الطرق الظنيّة الوافية بأغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرجٌ وضيق ) وإنّماقلنا : لا يخفى لما ذكرناه من الجوابين السابقين بقولنا :« قلت : مع أنّ لنا » الخ ، وقولنا :« انّ كلامنا في حكم اللّه سبحانه حسب إعتقاد هذا المجتهد »الخ.

( ثمّ إنّ هذا كلّه ) ممّا ذكرناه : من لزوم العسر والحَرج في الاحتياط ، إنّما هو ( مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكن فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات ) أو في المعاملات ، كما اذا فُرضَ إنّ أحد المجتهدين يقول : بتقديم الايجاب على القبول، والآخر يقول: بتقديم القَبول على الايجاب في عقد الزوجين، بانّ يقدّم الزوج نفسه للزوجة ، أو تُقدّم الزّوجة نفسها للزّوج ، أو ما اشبه ذلك .

ص: 369

أمّا مع عدم إمكان الاحتياط - كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منهما الى صرفه عليه في الحال ، وكما في المرافعات - فلا مناصَ عن العمل بالظنّ .

وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس بالاشارة إلى بعضها :

منها : النقضُ بما لو أدّى إجتهاد المجتهد ، وعمله بالظنّ الى فتوى يوجبُ الحَرجَ ،

-------------------

( أمّا مع عدم إمكان الاحتياط ، كما لو دار المال ) الواحد ( بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منها الى صرفه عليه في الحال ) كما اذاكان هناك درهم لا نعلم إنّه لهذا الصغير ، أو لذاك الصغير ، وهناك قَيّمان لهما ، والصغير يحتاج الى درهم من الطعام ، حيث إنّه يموت إن لم يأكل مقدار درهم من الطعام ، فانّه لا يمكن تصور الاحتياط هاهنا .

( وكما في المرافعات ) بان كانت هناك زوجة لهذا أو لذاك ، أو زوج لهذه أو لتلك ، وهما اُختان ، أو ما اشبه ذلك ( فلا مناص عن العمل بالظنّ ) إذا لم يكن هنالك قطع ، أو ما يقوم مقام القطع ، من العلمي كالخبر الواحد المعتبر .

( وقد يورد على إبطال الاحتياط ب- ) سبب ( لزوم الحرج ) أي : ما ذكرناه : من أنّ الاحتياط يوُجب الحَرج ، وما يستلزم الحَرج مرفوعٌ نصاً واجماعاً فالاحتياط باطل عند الانسداد ، فانّه يورد على هذا ( بوجوه لا بأس بالاشارة الى بعضها ) على النحو التالي :

( منها : النقض بما لو أدّى إحتهاد المجتهد ، و ) أدّى ( عمله بالظنّ ) أي : لزم من عمله بالظنّ ( الى فتوى يوجب الحَرج ) فماذا يعمل هو في هذه المسألة

ص: 370

كوجوبَ الترتيب بين الحاضِرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، أو وجوب الغُسل على مريض أجنبَ متعمداً وإن أصابه من المرض ما أصابه ، كما هو قول بعض أصحابنا .

وكذا لو فرضنا إداء ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسرُ بمراعاتها .

وبالجملة : فلزوم الحَرج من العمل بالقواعد ، لا يوجب الاعراضَ عنها .

-------------------

الحرجية ؟ وماذا يعمل مقلِّده بالنسبة الى هذه المسألة ؟ فما يُقال في هذا النَقض ، يُقال في الأصل ، وهو : كون الاحتياط حَرجاً عند الانسداد .

مثلاً ( كوجوب الترتيب بين الحاضِرةَ والفائِتة لمن عليه فوائت كثيرة ) فانّ بعض الفقهاء قالوا : بانّ الحاضِرة توخّر عن الفائتة ، فإذا كان على الشخص فوائت كثيرة تستغرق كل الوقت من أوله الى آخره ، قالوا : يلزم عليه أن يصلّي طول اللّيل الى الصباح ، وأن يصلي من أول الظهر الى المغرب .

( أو وجوب الغُسل على مريض أجنبَ مُتعمّداً وإن أصابه من المرض ما أصابه ، كما هو قول بعض أصحابنا ) تبعاً لبعض الرّوايات الظاهرة في ذلك ، ومن الواضح : انّ الغُسل لمثل هذا المريض حَرج شديد وعُسر أكيد .

( وكما لو فرضنا : إداء ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسر بمراعاتها ) كما اذا نذر أن يذبح بيده شاة عند مرقد أحد المعصومين عليهم السلام ، ثم نسى إنّه نذر للمعصوم الذي فيالمدينة ، أو النجف ، او كربلاء ، أو الكاظمية ، أو خراسان ، أو سامراء ، فانّه مع ما فيه من الحرج قد أوجب المجتهد عليه أن يذبح الذبائح في كلّ تلك الاماكن مع سفره اليها بنفسه .

( وبالجملة : فلزوم الحَرجَ من العمل بالقواعد ، لا يوجب الاعراض عنها ) أي :

ص: 371

وفيما نحن فيه إذا اقتضت القاعدةُ رعاية الاحتياط لم يُرفع اليدُ عنها ، للزوم العسر .

والجواب : أنّ ما ذكره في غاية الفساد ، لانّ مرجعهُ إنْ كانَ الى منع نهوض أدّلّة نفي الحَرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات وتخصيصهابغير صورة لزوم الحرج ، فينبغي أن يُنقل الكلامُ في منع ثبوت قاعدة الحَرج .

ولا يخفى أنّ منعه في غاية السقوط ، لدلالة الأخبار المتواترة معنى عليه ،

-------------------

عن تلك القواعد ، فما يقال في هذه الموارد للنقض ، يقال في مورد الانسداد اذا قلنا بوجوب الاحتياط بين المظنونات والمشكوكات والموهومات .

( وفيما نحن فيه ) من الانسداد ( اذا اقتضت القاعدة : رعاية الاحتياط ، لم يرفع اليد عنها ) أي : عن الاحتياط ( للزوم العُسر ) منتهى الأمر نقول : إنّه يأتي بالاحتياط الى حد العُسر ، لا أن يترك الاحتياط رأساً .

( والجواب ) عن هذا النقض ( :انّ ما ذكره في غاية الفساد ، لأن مرجعه ) أي : مرجع ما ذكره( إن كان الى منع نهوض أدلة نفي الحَرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات و ) منع ( تخصيصها ) أي : تخصيص القواعد والعمومات ( بغير صورة لزوم الحَرج ، فينبغي أن ينقلَ الكلام في منع ثبوت قاعدة الحَرج ) لأنّ معنى ذلك : إنّ قاعده الحَرج ليست حاكمة على القواعد والعمومات .

هذا( ولا يخفى : إنّ منعه ) أي : منع ثبوت قاعدة الحرج ( في غاية السقوط ) ولا يقول به احد ، وذلك ( لدلالة الأخبار المتواترة معنى ) وإن لم تكن متواترة لفظاً ( عليه ) أي : إنّ قاعدة الحرج حاكمة على القواعد والعمومات الأولية .

ص: 372

مضافاً الى دلالة ظاهر الكتاب .

والحاصلُ : أنّ قاعدةَ نفي الحرج ممّا ثبتت بالأدلّة الثلاثة بل الأربعة في مثل المقام ، لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب إختلال نظام أمر المكلّف ، نعم ، هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدةٌ ظنّية تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصّة المُحكمةِ وإن لم تكن

-------------------

( مضافاً الى دلالة ظاهر الكتاب ) على الحكومة حيث قال سبحانه : « يُريُد اللّهُ بِكمُ اليُسَر ولا يُريُد بِكمُ العُسَر »(1) .

وقال سبحانه :« ما جَعَل عَليكمُ في الدّينِ من حَرجٍ »(2) .

وقال سبحانه :« ما يُريُد اللّهُ لِيَجعَل عَلَيكمُ من حَرجٍ »(3) .

( والحاصل : إنّ قاعدة نفي الحَرج ممّا ثبتت بالأدلة الثلاثة ) الكتاب ، والسُّنة ، والاجماع ، ( بل الأربعة ) بإضافة العقل الى الثلاث المذكورة ( في مثل المقام ) الذي يوجب اختلال النظام .

وإنّما كان هناك قاعدة عقلّية ايضاً ( لاستقلال العقل بقبح التكليف بمّا يوجب إختلال نظام أمر المكلّف ) فانّ ذلك من البديهيات عند العقل والعقلاء .

( نعم ، هي ) أي :قاعدة نفي العُسر ( في غير ما يوجب الاختلال ) بان كان يوجب العُسر والحَرج فقط ( قاعدة ظنّية ) لأنّ دلالة الرّوايات والآيات ظنّية - وإن كان القرآن قطعي السّند ، والرّوايات متواترة لفظاً فرضاً أو معنى - وهذه القاعدة الحرجية الظّنية ( تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصة المحكمةِ وان لم تكن ) تلك

ص: 373


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة المائدة : الآية 6 .

قطعيّة .

وأمّا القواعد والعمومات المُثبتة للتكليف فلا إشكال بل لا خلاف في حكومة أدّلة نفي الحرج عليها ، لا لأنّ كونَ النسبة بينهما عموماً من وجه ، فيرجع الى أصالة البراءة - كما قيل -

-------------------

الأدلة الخاصة ( قطعيّة ) فان الشارع قد أمرَ بما فيه الحَرج كما أمر بالجهاد الحَرجي ، وما اشبه .

والحاصل : إنّ عمومات الحرج واردة على الأدلة الأوّلية الاّ اذا وضع الحكم في مورد الحَرج ، مثل : الخمس ، والجهاد ، وما أشبه ذلك .

هذا ، ولا يخفى : ان المصنّف ذكر أوّلاً : ان الدّليل مخصِّص لقاعدة الحرج ، بمعنى : إنّ اللازم على الانسان أن يأتي بالشيء الحرجي كما مثلنا له بالجهاد ، والخمس ، ونحوهما ، وذلك حيث قال «نعم» الخ .

ثم ذكر ثانياً : إنّ دليل الحَرج حاكم على الأدلة الأوليّة فيقدَّم دليل الحرج على تلك الادلة الأوليّة ، وذلك بقوله : ( وأمّا القواعد والعمومات المُثبتة للتكليف ) مثل عمومات الصلاة ، والطهارة ، والصيام ، ونحوها ، ( فلا اشكال ) حسب الدّليل ( بل لا خلاف ) لأحد من الفقهاء ( في حكومة أدلّة نفي الحَرج عليها ) أي : على تلك القواعد والعمومات .

ثم إنّ الحكومة ( لا لأنّ كون النّسبة بينهما ) أي : بين أدلة الحَرج ، والقواعد والعمومات ( عموم من وجه ، فيرجع الى أصالة البرائة - كما قيل - ) .

فان قوله تعالى : « كُتِبَ عَليكمُ الصِّيام »(1) يشمل الحَرجي وغير الحَرجي .

ص: 374


1- - سورة البقرة : الآية 183 .

أو الى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحرج ، كما زُعِمَ ؛ بل لأنّ ادلّة نفي العُسر بمدلولها اللفظي حاكمة على العمومات المثبة للتكليف ، فهي بالذات مقدّمة عليها .

وهذا هو السّر في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجي ،

-------------------

وقوله تعالى : « ما جَعَل عَلَيكمُ في الدِّينِ من حَرجٍ »(1) يشمل الصيام وغير الصيام.

فمورد الاجتماع : وهو الصيام الحرجي ،يتساقط فيه الدّليلان ويكون المرجع : البرائة من الصيام .

( أو ) يرجع في مادة الاجتماع : كالصيام الحرجي ( الى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحَرج - كما زعم - ) مثل قوله تعالى : « يُريُد اللّهُ بِكمُ اليُسر ولا يُريِدُ بِكمُ العُسر»(2) وغيره من المعاضدات لدليل الحَرج ، فان كُلاً من ال «قيل» وال «زعم» باطل ( بل ) : إنّما نقدِّم دليل الحَرج على العمومات والقواعد الأوليّة ( لأنّ أدلّة نفي العُسر بمدلولها اللّفظي ) حسب متفاهم العُرف ( حاكمة على العمومات المثبتة للتكليف ) فاذا ألقي الكلامان الى العرف ، رأى العرف : إنّ دليل الحَرج مُقدَّم على دليل أصل التكليف .

إذن : ( فهي ) أي : أدلة نفي العُسر ( بالذات ) لا بمعونة دليل خارجي - كما قاله الزاعم - ( مقدّمة عليها ) أي : على الأدّلة الأوليّة من القواعد والعمومات .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من إنّ العُرف يرى دليل الحرج مقدِّماً على الأدلّة الأوليّة بمجرد سماعهما ( هو السّر في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجي ) لدليل

ص: 375


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

بل يقدّمونها من غير مرجّح خارجي .

نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخرين عملَ الفقهاء بها في الموارد من المرجّحات لتلك القاعدة ، زعماً منه إنّ عملهم لمرجّح توقيفي إطّلعوا عليه وإختفى عنا ، ولم يشعر أنّ وجهَ التقديم كونُها حاكمة على العمومات .

-------------------

الحرج حتى يحكمونه على الأدّلة الأوليّة ، ( بل يقدّمونها ) أي : أدلّة نفي الحرج على الأدلة الأوليّة ( من غير مرجّح خارجي ) إطلاقاً .

وذلك لأنّ عمومات العُسر ، كعمومات الحَرج ، والضرر ، وما أشبه ، مفسرَّة بمدلولها اللفظي لسائر العمومات الأولية المثبتة للتكاليف وكاشفة عن المراد بتلك العمومات المثبتة للتكاليف ، ومُبيّنة لموارد تلك العمومات الاوّليّة ، حتى يكون معنى العُمومات الاوّليّة : إنّها واجبة ما لم يلزم من الالتزام بالتكليف عُسر ومشقة وحَرج على المكلّف .

هذا ، وقد ذكرنا : إن الكاشف هو فَهم العرف ، بالاضافة الى أنّه يدل على هذه الحكومة - أيضاً - بعض الرّوايات ، مثل رواية عبد الأعلى وغيره .

( نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخّرين عمل الفقهاء بها ) أي : بأدلة نفي العُسر ( في الموارد ) والأحكام الأوليّة ( من المرجّحات لتلك القاعدة ) أي : قاعدة نفي العُسر ، فعمل الفقهاء اذا انضمّ الى نفي العُسر سَبّبَ تقديم نفي العُسر على العمومات الأوليّة ، ( زعماً منه : إنّ عملهم ) بقاعدة نفي العُسر إنّما هو ( لمرجّح توقيفي ) أي تعبّدي ورد عنهم عليهم السلام ، قد ( إطّلعوا ) هم ( عليه ، وإختفى عنّا ، و ) الحال إنّ بعض متأخري المتأخّرين ، ( لم يشعر إنّ وجه التقديم كونها ) أي : كون أدلة نفي العُسر ( حاكمة على العمومات ) الأوليّة .

ص: 376

وممّا يوضح ما ذكرنا - ويدعو الى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ، ويوجب الاعراض عمّا زعمه غير واحد من وقوع التعارض بينها وبين سائر العمومات ، فيجب الرجوع الى الاُصول او المرجحات - ما رواه عبد الأعلى ، مولى آل سام ، في : مَن عَثرَ فانقطع ظفرهُ ، فَجَعلَ عليه مرارَةً ، فَكَيف يَصنعُ بالوضوء ؟ فقال عليه السلام :« يُعرفُ هذا واشباهه من كِتاب

-------------------

( وممّا يوضّح ما ذكرنا ) من الحكومة ( ويدعو الى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ) أي : في محل فيه العُسر والحَرج ، فانّه يقدَم دليل العُسر على الأدلّة الاوليّة ، فتسقط تلك العمومات والقواعد الأولّية بسبب حكومة دليل العُسر عليها .

( و ) على الحكومة ( يوجب الاعراض عمّا زعمه غير واحد : من وقوع التعارض بينها ) أي : بين أدلة نفي العُسر ( وبين سائر العمومات ، فيجب ) على زَعمِ هؤلاء : إنّه اذا تعارضا بالعموم من وجه ( الرّجوع الى الاُصول ) العمليّة مثل البرائة التي ذكرناها ( أو المرجحات ) الخارجية : كعمل الفقهاء ، وما أشبه ذلك .

ثمّ إنّه يوضحّ ما ذكرناه ( ما رواه عبد الأعلى ، مولى آل سام في مَن عَثَر ) برجِلهِ وَسقَط على الأرض ( فانقَطعَ ظفره ) اي ظِفر رجله ( فجعلَ عليه مَرارة ) والمَرارة من أدوية الجِراحات ، فسأل الإمام عليه السلام قائلاً : ( فكيف يَصنَعُ بالوضوء ؟ ) وكيف يَمسح ؟ فهل يَمسح على المَرارة ، أو يمسح على ظاهر الرجل ، وفي ذلك حَرجٌ وَعُسرٌ عليه ؟ .

( فقال عليه السلام : يُعَرفُ هذا وأشباهه ) ممّاكان هناك حَرجٌ وحكمٌ أوّلي ( من كتاب

ص: 377

اللّهِ : « ما جَعلَ عَليكمُ في الدّين مِن حَرجٍ » إمسحُ عليهِ » .

فانّ في إحالة الامام عليه السلام لحكم هذه الواقعة الى عموم نفي الحَرج - وبيان أنّه ينبغي أنّ يعلم منه أنّ الحكم في هذه الواقعة المسحُ فوق المَرارة ، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة - دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحَرج بأنفسها

-------------------

اللّه ) حيث قال سبحانه : ( « ما جَعلَ عَليكمُ في الدِّين من حَرجٍ» (1) ) فانّ الحَرج لما كان في رفع المرارة ، والمسح على الجرح ، رفع الحرج ذلك ، ولذا قال له عليه السلام : ( إمسح عَليهِ ) (2) أي : على الدواء الموضوع على الظفر .

( فانّ في إحالة الإمام عليه السلام لحكم هذه الواقعة ) وكيفية المسح على الرجل ( الى عموم نفي الحَرج ) المذكور في الآية المباركة ( وبيان : انّه ينبغي أن يعلم منه ) أي : من نفي الحرج ( انّ الحكم في هذه الواقعة : المسحُ فوق المَرارة ) لا إزاحة المَرارة والمَسح على الجُرح .

هذا ( مع معارضة العُموم المذكور ) في قوله تعالى : « ما جَعَل عَليكمُ في الدِّينِ من حَرجٍ»(3) ( بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة ) في قوله سبحانه : « وإمسَحُوا برءوسِكُم وأرجُلَكُم الى الكَعبَينِ»(4) الظاهر في انّ المسَح يجب أن يكون على ظاهر الرجل . ففي هذه ( دلالة ) « ودلالة » خبر قوله : « فان في احالة الإمام » ( واضحة على حكومة عمومات نفي الحَرج بأنفسها ) أي : هي بنَفسها

ص: 378


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، بحار الأنوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .
3- - سورة الحج : الآية 78 .
4- - سورة المائدة : الآية 6 .

على العمومات المثبتة للتكاليف ، من غير حاجة الى ملاحظة تعارض وترجيح في البين ، فافهم .

وإنّ كانَ مَرجعُ ما ذكرهُ الى أنّ التزام العُسر اذا دلّ عليه الدليلُ لا بأس به ، كما في ما ذكر من المثال والفرض .

-------------------

حاكمة ( على العمومات المثبتة للتكاليف ، من غير حاجة الى ملاحظة تعارض وترجيح في البيّن ) حتى يكون عموم نفي الحَرج لأجل المرجّح قد تقدّم على عموم المسح على الرجل .

( فافهم ) كي لا يقال : إنّ المسَح على المرارة لا يفهمَ من الآية ، لأنّ نفي الحرج يمكن ان يكون بعدم المسح على الرَّجل رأساً ، ويمكن أن يكون بالمسح على مكان من الرّجل خالٍ من المَرارة ، ويمكن أن يكون بالمسح على المَرارة ، فمن أين يفهم إنّ المسح على المرارة ؟ ؛ لأنّه يقال : إنّ المسح على الرَّجل كان واجباً في هذا المكان العاري عن المرارة ، فاذا تعذَّر كونه عارياً لمكان الجُرح كان المسح على المَرارة أقرب بفهم العرف من عدم المسح إطلاقاً ، ومن المسح على مكان آخر .

ثم يمكن أن يكون في« فافهم » ، أشارة الى شيء آخر لا نُطيل المقام البحث عنه .

هذا هو الشّق الأوّل من الجواب ، وأمّا الشقّ الثاني فقد أشار اليه بقوله : ( وإنّ كان مَرجِعُ ما ذكرهُ ) وهو عطف على قوله - قبل صفحة تقريباً - : « لأنّ مرجعه إن كان الى منع نهوض أدلة نفي الحرج للحكومة » الخ ، وإن كان مرجعه ( الى إنّ التزام العُسر اذا دلّ عليه الدّليل لا بأس به ، كما فيما ذكر من المثال والفرض ) وهو : فرض تأدية ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسر بمراعاتها، كما مثلنا له بمثال النذر ونحوه.

والحاصل : إنّ الناقضّ هذا ، هل يريد عدم حكومة أدلة العُسر ؟ أو يريد إنّه قد يتقَدّم دليل الحُكم على دليل العُسر ؟ .

ص: 379

ففيه : ما عَرَفتَ ، من انّه لا يخصّص تلك العمومات ، إلاّ ما يكون أخصَ منها معاضداً بما يوجب قوّتها على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه ليس في المقام الاّ قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد عنها لأجل العُسر في موارد كثيرة :

-------------------

فانّ أراد الأوّل : فقد تقدّم جوابه .

وإن أراد الثاني : ( ففيه ما عَرَفت : من أنّه لا يخصّص تلك العمومات ) أي : عمومات نفي العُسر والحَرج ( الاّ ما يكون أخصَ منها ) كأدلة الخُمس ، والجِهاد ، وما أشبه ( معاضداً ) أي : ذلك الأخص ( بما يوجب قوتها على تلك العمومات الكثيرة ) النافية للعُسر والحَرج وما أشبه ( الواردة في الكتاب والسّنة ) .

إذن : فاللازم اذا أردنا أن نخصّص عمومات أدلة العُسر أن يكون هناك شيئان :

الأوّل : أن يكون ما يخصصها أخصّ منها .

الثاني : أن يكون ذلك الأخصّ معتضداً بما يوجب قوته ، ليتمكن من تخصيص عمومات نفي العُسر والحَرج التي هي كثيرة جداً ، وواردة في الكتاب والسنّة بكلّ قوة .

( والمفروض انّه ليس في المقام ) أي : في مقام الانسداد مايخصِّص عمومات نفي العُسر والحَرج ( إلاّ ) مايستلزمه العلم الاجمالي من العمل حسب ( قاعدة الاحتياط ) الّتي تقتضي الجمع بين الأطراف المحتملة مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً ، لكنّ هذه القاعدة هي ( الّتي قد رفع اليد عنها لأجل العُسر في موارد كثيرة ) في الفقه ، فقاعدة الاحتياط يرفع اليد عنها ، لأنّ دليل نفي العُسر أقوى من قاعدة الاحتياط ، وفي الفقه نجدُ مواردَ كثيرة ، رُفِعَ اليدّ عن قاعدة الاحتياط لمكان العُسر ، فليست قاعدة الاحتياط مخصِّصة للعُسر ، بل العُسر يرفع قاعدة الاحتياط

ص: 380

مثل الشبهة الغير المحصورة ، ومالو علم إن عليه فوائت لايحصي عددها ، وغير ذلك ،

-------------------

( مثل الشبهة غير المحصورة ) فانّ قاعدة الاحتياط جارية فيها لكن يرفع اليد عنها بسبب دليل العُسر .

( وما لو علم إنّ عليه فوائت لا يحصي عددها ) فانّ قاعدة الاحتياط تقتضي أن يصلي حتى يعلم بالبرائة منها ، لكن دليل العُسر يرفع هذا العلم الاجمالي ، فانّ بناء بعض الفقهاء أن يصلّي مالايحصي عددها ، وبناء بعض الفقهاء أن يصلي حتى يحصل له الظّن بأنّه صلى ماعليه ، وبناء بعض الفقهاء أن يصلي بالقدر المتيقن ، وفي جميع ذلك لم يعمل بقاعدة الاحتياط الّتي تقتضي أن يصلّي حتى يحصل له العلم ببرائته من الفوائت .

( وغير ذلك ) من الأمثلة ، مثل : ما إذا علم إنّه مديون لأحد جماعةٍ ديناراً ، فانّ قاعدة الاحتياط تفرض عليه أن يعطي لكلّ واحد منهم ديناراً ، لكنّ الضرّر وهو في عداد العُسر والحَرج يرفع هذا الاحتياط ، فيقسِّم الدِّينار بينهم .

وكذلك إذا نذر أن يذبح شاة في إحدى المدن المقدسة ثم نسي تلك المدينةِ التيّ تعلقَ نذره بها فانّه يكفيه أن يذبح في أحدها فقط .

وهكذا إذا كانت له عشرة ثياب إحديها طاهرة ، فانّه لايصلي عشر صلوات لما فيه من العُسر ، بل يصلي صلاة واحدة .

وكذا لو نذر أن يصوم يوم الجمعة ، لكنّه شك بأن متعلق نذره أيّ جمعة في السنة ؟ فانّه يصوم جمعة واحدة ، وإلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، التي ذكرها الفقهاء في مواردها في الفقه وإن كان في بعضها مناقشة .

ص: 381

بل أدلّة نفي العُسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدّليل بالنسبة إلى الأصل .

فتقديمُها عليها أوضحُ من تقديمها على العمومات الاجتهادية .

-------------------

( بل أدلّة نفي العُسر بالنّسبة الى قاعدة الاحتياط من قبيل الدّليل بالنسبة إلى الأصل ) فكما يُقدِّم الدّليل على الأصل ، كذلك يُقدِّم دليل نفي العُسر على قاعدة الاحتياط ، فانّ قاعدة الاحتياط أصلٌ عملي موضوع في حال الجهل ، ودليل نفي العُسر يرفع الجهل .

وعليه : ( فتقديمُهما ) أي : أدلة نفي العَسر ( عليها ) أي : على قاعدة الاحتياط ( أوضح من تقديمها ) أي : من تقديم أدلّة العُسر ( على العمومات الاجتهاديّة ) فانّه كما تُقَّدم قاعدة العُسر على الصلاة قياماً ، أو الصوم ، أو الحجّ ، أو ما أشبه ذلك ، وهي عمومات إجتهادية ، فكذلك تُقدَّم على قاعدة الاحتياط .

بل تقديم قاعدة العُسر على قاعدة الاحتياط أوضح من تقديم قاعدة العُسر على العمومات الاجتهادية ، لوضوح : إنّ أدلة نفي العُسر واردة على قاعدة الاحتياط ، وحاكمة على العمومات الاجتهادية ، وتقديم الوارد على المورود أوضح من تَقديم الحاكم على المحكوم .

بل التعبير بالتقديم في باب الورود ليس على نحو الحقيقة ، لأنّه لا إجتماع للدليلين حتى يقال : انّ هذا يُقدَّم على ذاك ، وإنّما إذا تحقّق موضوع الوارد ، إنتفى موضوع المورود كما هو واضح .

ثم إنّ المورد قال : إنّ الاحتياط لايُبطل بلزوم الحَرج ، ونقض بما لو أدى إجتهاد المجتهد بالظّن الى فتوى توجب الحَرج ، فكما إنّ الحرَج لايوجِب إبطال فتوى المجتهد ، بل اللازم أن يأتي الانسان بفتوى المجتهد وإن لزم عليه الحَرج ،

ص: 382

وأمّا ماذكره من فرض إداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أُمور يلزم من فعلها الحرجُ .

فيرد عليه :

أوّلاً : منع إمكانه ، لأنّا علمنا بأدلّة نفي الحرج أنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجب العُسر على المكلّف .

ومع هذا العلم الاجماليّ يمتنع الظنّ التفصيلّي بوجوب أُمور في الشريعة يوجب إرتكابها العُسر ، على ما مرّ نظيره في الايراد على دفع الرجوع الى البراءة .

-------------------

كذلك الاحتياط في أطراف الانسداد يلزم الاتيان به وإن لزم الحرَج .

فأجاب عنه المصنّف بقوله : ( وأمّا ما ذكره : من فرض إداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أُمور يلزم من فعلها الحرَج ، فيرد عليه ) مايلي :

( أولاً : ) إنّه كيف يَفتي المُجتهد بما يوجِب الحَرج والحال إنّا نعلم إنّه لا حَرج في الديّن ؟ ولذا نحن نقول : ب- ( منع إمكانه ) أي : إمكان مايوجب الحَرج من أداء ظنّ المجتهد ( لأنّا علمنا بأدلة نفي الحَرج : إنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجِب العُسر على المكلّف ) وعَلِمنا بذلك من الأدلة المتواترة لِنفي الحَرج .

( ومع هذا العلم الاجمالي ) بانّه لاحَرج في الديّن ( يمتنع الظنّ التفصيلي ) أي : ظنّ المجتهد بمّا يوجِب الحَرج ( بوجوب أمور في الشريعة ، يوجب إرتكابها العُسر ، على ما مَرَّ نظيره في الايراد على دفع الرّجوع الى البرائة ) حيث تَقدّم عن المصنّف في الوجه الثالث قوله : فان قلت : إذا فرضنا انّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع الى مايُوافق البرائة ، فما تصنع ؟ إنتهى .

ص: 383

وثانياً : سلّمنا إمكان ذلك ، إمّا لكون الظنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنوناً نوعيّة لاينافيالعلم الاجماليّ بمخالفة البعض للواقع ، أو بناءا على إنّ المستفاد من أدلّة نفي العُسر ، ليس هو القطع ، ولا الظنّ الشخصيّ بانتفاء العُسر ،

-------------------

ومن المعلوم : إنّ ظنّ الحَرج ، والعِلم بعدم الحَرج ، لايمكن جمعهما ، لأنّ في مقابل العلم لايعقل الوهَم والشّك ، فكيف يعقل الظنّ ؟ .

( وثانياً : سلّمنا إمكان ذلك ) أي : الجَمع بين العِلم الاجمالي والظنّ بالخلاف ، لكن إنّما يُمكن الجمع بالوجوه التالية :

أولاً : ( إمّا لكون الظّنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنوناً نوعية لاينافي العلم الاجمالي بمخالفة البعض للواقع ) فاذا علم زيد - مثلاً- عِلماً إجمالياً بانّه لاعُسر في الشريعة ، ونوع المتشرعة يظنون بأنّ الواجب عشر صلوات في الثياب المشتبهة ، لكن زيداً لايظنّ بالعُسر في عشر صلوات ، فقد إجتمع عند زيد : علمه الاجمالي بأنّه لاعُسر ، وظنّه التفصيلي بلزوم عشر صلوات .

وإنّما قلنا بهذا التوجيه لانّه لايمكن للأنسان الواحد أن يجتمع عنده العِلم بشئ والظّن بخلافه ، أما إنسانان يعلم أحدهما شيئاً ، ويظنّ الآخر شيئاً خلاف ذلك الشئ، فليس ذلك بتناقض .

والحاصل : إنّ الظنّ النوعيّ لاينافي العلم الاجمالي الشخصيّ .

ثانياً : أن عدم العُسر ظنٌّ نوعيّ ، والعُسر ظنّ شخصيّ ، فلا يتنافيان ، وإليه أشار المصنّف بقوله : ( أو بناءاً على إنّ المستفاد من أدلّة نفي العُسر ، ليس هو القَطع ، ولا الظّنّ الشخصي بانتفاء العُسر ) فانّ الشخص لايقطع بانتفاء العُسر ولايظنّ

ص: 384

بل غايته الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات بذلك ، فلا ينافي الظنّ الشخصّي التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ، وإمّا بناءا على ما ربّما يدّعى من عدم التنافي بين الظنون التفصيليّة الشخصيّة والعلم الاجماليّ بخلافها ، كما في الظنّ

-------------------

بانتفائه لأنّ الدلّيل لايفيده هذا القطع أو الظّنّ .

( بل غايته ) أي غاية المستفاد من أدلة نفي العُسر ( الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات ) أى : عمومات أدلّةِ نفي العُسر والحَرج ( بذلك ) أي : بانتفاء العُسر ( فلا ينافي الظّنّ الشخصي ) على نحو الموجبة الجُزئية ، الظنّ ( التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ) أي : على خلاف ذلك الظنّ النوعيّ .

ومن الواضح : انّ الجواب الثاني هذا ، الّذي ذكره بقوله «أو بناءاً على انّ المستفاد» الخ ، حاصله : التصرف في العلم الاجمالي وتحويله الى ظنّ نوعيّ .

وثالثاً : إنّه لامنافاة بين الظنون التفصيلية الشخصية والعلم الاجمالي على الخلاف ، فاذا عَلِمَ الانسان عِلماً إجمالياً بلزوم إهانة الفُسّاق من العلماء ، لم يُنافِ علمه الاجمالي ذلك بأن يظنّ بلزوم إحترام زيد ، ويظنّ بلزوم إحترام عمرو ، ويظنّ بلزوم إحترام بكر ، فيما لم تجتمع تلك الظّنون عنده ، فانّ إجتماع تلك الظّنون ينافي العلم الاجمالي بالخلاف ، أما تفرق تلك الظّنون فكل ظنّ لاينافي العلم الاجمالي بالخلاف .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( وأمّا بناءاً على ما ربمّا يدّعى : من عدم التنافي بين الظنون التفصيلية الشخصيّة ) إذا كانت ظنوناً متفرقة لامجتمعة - كما أشرنا إليه - ( والعلم الاجمالي بخلافها ) أي : بخلاف تلك الظّنون ( كما في الظّن

ص: 385

الحاصل من الغلبة ، مع العلم الاجماليّ بوجود الفرد النادر على الخلاف . ولكن نمنع وقوع ذلك ، لأنّ الظّنون الحاصلة للمجتهد ، بناءا على مذهب الاماميّة من عدم إعتبار الظنّ القياسيّ وأشباهه ، ظنون

-------------------

الحاصل من الغلبة ، مع العلم الاجمالي بوجود الفرد النادر على الخلاف ) فانّ غلبة وجوب إهانة الفُساق لاينافي الظّن بأنّ هذا الفاسق لايُهان ، وهذا الفاسق الثاني أيضاً لايُهان ، إلى غير ذلك ممّا بيناه .

وقد ذكر بعض المحشين في توضيح ذلك : بأنّه إذا دلّ الدلّيل على وجوب إهانة الفُساق ، وعِلمنا إجمالاً بأنّ فيهم قليلاً نادراً لم يجز إهانته ، فهذا العلم الاجمالي غير مانع من حصول الظّن التفصيليّ الحاصل من غلبة هذا الحكم في الأفراد ، أو غلبة وجود الأفراد التي حكمها ذلك بوجود هذا الحكم في كلِ فردٍ فردٍ من الأفراد ، والانصاف : إنّ الظّن التفصيلي في كل فردٍ إنْ لوحِظَ معه حكم سائر الأفراد ، فالظّن التفصيلي بأنّ حكم كلّ فردٍ شخصي حكمه كذا ممتنعٌ في المفروض ، وإن لم يلاحظ معه غيره ، فالظّن التفصيلي من أوّل الأفراد الى آخرها مع العلم الاجمالي جائز غير ممتنع إنتهى .

( ولكن نمنع وقوع ذلك ) وهذا متعلّق بقوله : « وثانياً : سلمنا امكان ذلك » أي : إنّه وإن كان ممكناً أن يفتي المجتهد فتوىً حَرجياً ، لكن نمنع إنّه وقع من المجتهد فتوىً حَرجياً .

وعليه : فالجواب الأول من المصنّف حيث قال : أولاً : هو منع الامكان .

والجواب الثاني هو : تسليم الامكان ، لكن أجاب عنه المصنّف : بانّه نمنع وقوعه ( لأنّ الظنون الحاصلة للمجتهد - بناءاً على مذهب الاماميّة : من عدم إعتبار الظّنّ القياسي وأشباهه ) كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، وما أشبه ( ظنون

ص: 386

حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والاجماع المنقول والأولويّة الاعتباريّة ونظائرها .

ومن المعلوم للمتتبّع فيها أنّ مؤدّياتها لاتفضي الى الحرج ، لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ، كما لايخفى على من لاحظها وسَبرَها سَبراً إجماليّاً .

وثالثاً : سلّمنا إمكانه ووقوعه ، لكنّ العمل بتلك الظنون لايؤدّي

-------------------

حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ) في الفقه ( كأقسام الخبر ، والشهرة ، والاستقراء ، والاجماع المنقول ، والأولويّة الاعتبارية ) التي تسمّى بالِملاك القطعي ( ونظائرها ) كالسيّرة ، والاجماعات التقديرية ، كما تقدّم بعض أمثلتها .

( ومن المعلوم للمتتبّع فيها ) أي : في هذه الأمارات ( أنّ مؤديّاتها ) أي : مؤديّات هذه الأمارات ( لاتفضي ) أي : لاتنتهي ( إلى الحرج ) وإنّما لاتنتهي الى الحَرج ( لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ) أي : في هذه الأمارات ( كما لا يخفى على من لاحظها وسَبرَها ) والسَبر بالموحدة : أخذ مقدار الشئ( سَبراً إجماليّاً ) وإن لم يلاحظها ملاحظة تفصيلية .

وإنّما أخرج القياس وإخوته : لوضوح : إنّ القياس وما أشبهه لاملاك لها ، بل إنّ الفقهاء من العامّة مختلفون في القياسات ، والمصالح المرسلة والاستحسانات ، وما أشبه ، لانّه لاضابط لهم فيها ، ولهذا فَمِنَ المُمكن أن يستلزمهم الحَرج ، بخلاف الأدلّة عند الامامية ، فلاتوجب لهم الحَرج .

( وثالثاً : سلّمنا إمكانه ووقوعه ) أي : إمكان فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أمور يلزم فعلها الحَرج ووقوع ذلك ( لكنّ العمل بتلك الظّنون ) التي تجب على المقلّد لأنّ مجتهده يقول بها ، وإن كان العمل بها عُسراً ، لكنّه ( لايؤدّي

ص: 387

إلى اختلال النظام ، حتّى لايمكن إخراجها عن عمومات نفي العُسر ، فنعمل بها في مقابلة عمومات نفي العُسر ونخصّصها بها ، لما عرفت من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال .

وليس في هذا كَرّاً على ما فرّ منه ، حيث إنّا عملنا بالظنّ فراراً عن لزوم العُسر ، فاذا أدّى إليه فلا وجه للعمل به ،

-------------------

إلى اختلال النظام ) .

بينما العمل بالاحتياط المطلق من أوّل الفقه الى آخر الفقه في باب الانسداد يؤدّي الى إختلال النظام ، وإختلال النظام قطعاً لايجوز ، بخلاف موارد العُسر التي أدى اليها إجتهاد المجتهد ، فان العمل بها لايخلّ بالنظام ( حتى لايمكن إخراجها ) أي : إخراج تلك الظنون الاجتهادية ( عن عمومات نفي العُسر ) .

فانّ عمومات نفي العُسر تُخصَّص بهذه الظنون ( فنعمل بها ) أي : بتلك الظنون الاجتهادية ( في مقابلة عمومات نفي العُسر ) فانّه لابأس من العُسر بالعمل بهذه الظنون الاجتهادية ( و ) ذلك لانّا ( نخصّصها ) أي : نخصّص عمومات نفي العُسر ( بها ) أي : بتلك الظّنون ( لما عرفت من قبولها ) أي : قبول عمومات نفي العُسر ( التخصيص في غير مورد الاختلال ) فانّ الاختلال لايمكن أن يخصِّص عموم نفي العُسر ، أما غير الاختلال فعموم العُسر أحياناً يخصَّص به ، كموارد الجهاد ، والخُمس ، وما أشبه ذلك .

( وليس في هذا ) الذي ذكرناه : من العمل بالظنون الاجتهادية الموجبة للعُسر والحَرج ( كَرّاً على ما فرّ منه ) وقد بيّن إنّه كيف كان هذا كَرّاً على مافر منه بقوله : ( حيث إنّا عملنا بالظّن فَراراً عن لزوم العُسر ) بعد انسداد باب العلم ( فاذا أدّى اليه ) أي : أدّى العمل بالظنون الاجتهادية الى العُسر ( فلاوجه للعمل به ) أي :

ص: 388

لأن العُسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظنّ كان بالغاً حدّ إختلال النظام من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة .

وأمّا الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط ، فلابُدّ من العمل عليها ، سواء عملنا بالظنّ ام عملنا بالاحتياط . وحينئذ ليس العُسرُ اللازمُ من العمل بالظنون الاجتهاديّة في فرض المعترض من جهة العمل بالظنّ ، بل من جهة المطابقة لمقتضى الاحتياط ،

-------------------

بالظنون الاجتهادية .

وانّما لم يكن ذلك كَرّاً على ما فر ( لأنّ العُسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظّن كان بالغاً حدّ إختلال النظام ) وإنّما يبلغ حدّ إختلال النظام ( من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة ) بالاضافة الى المظنونة .

ومن الواضح : انّ الانسان الذي يُراعي كُلّ الاحتمالات : موهوماً ، ومشكوكاً ، ومظنوناً ، يقع في اختلال نظام المعاش والمعاد ، كما سبق بيانه .

( وأمّا الظّنون المطابقة لمقتضى الاحتياط ) التي أفتى بها المجتهد ( فلا بُدّ من العَمل عليها ) أي : على تلك الظنون ( سواء عملنا بالظّنّ ، أم عملنا بالاحتياط ) فان العمل بالظنّ ليس عملاً بالشّك والوّهم .

( وحينئذ ) أي : حين عمل بالظنون الاحتياطية الّتي افتى بها المجتهد ، ( ليس العُسرُ اللازم من العمل بالظنون الاجتهادية في فرض المعترض ) أي : فرض المستشكل الذي قال : فرض أداء ظن المجتهد الى وجوب أمور يلزم من فعلها الحَرج ( من جهة العمل بالظّنّ ، بل من جهة المطابقة لمقتضى الاحتياط ) .

إذن : فالاحتياط إنّما هو في العمل بالظّنون لابالأعمّ من الظنون وغير الظّنون ، والعمل بالظّنون فقط يوجب العُسر لا الاختلال ، بينما العمل بالّظنون وغير الظّنون

ص: 389

فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إالى تلك الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط .

ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة

-------------------

يوجب الاختلال ( فلو عمل بالاحتياط ) مطلقاً لافي دائرة الظنون فقط ( وجَب عليه أن يضيف الى تلك الّظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط ) .

فتحصّلَ : إنّ الناقص قال : إنّه كما يلزم العمل بظنون المجتهد المؤدي الى العُسر ، كذلك يلزم العمل بالظنون الانسدادية ، المؤديّ الى العُسر أيضاً ، فانّ هذا العُسر خارج عن أدلة نفي العُسر ، كخروج الجهاد ونحوه ، فانّه وان كان عسراً ، لكنّه يلزم العمل به .

أجاب المصنّف بالفرق بين العُسرين ، إذ العُسر في الظنون الانسدادية ، عُسرٌ يُخلِّ بالنظام ، فدليل نفي العُسر مُحكّمّ فيه ، بخلاف الظنون الاجتهادية ، حيث إنّها عُسر فقط بدون أن يكون مُخلاًّ بالنظام .

وإنّما كان فرقاً بين العُسرين ، لأنّ الّظنون الاجتهادية لاتشمل الوهم والشّك ، بخلاف الّظنون الانسدادية ، فانّ الّظنون على الانسداد يلزم الاحتياط فيها وفي الوهم والشك أيضاً .

ثم انّ المصنّف ذكر قبل صفحتين : بانّه قد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحَرج بوجوه ذكر منها : النقض بما لو أدّى إجتهاد المجتهد وعمله بالّظن الى فتوى يوجب الحرج الى آخره ، فانّه كان ذلك هو الايراد الأول على إبطال الاحتياط .

ثم إنّه ذكر الايراد الثاني هنا بقوله : ( ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة ) التي

ص: 390

الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، والعمومات النّافية للحَرج .

والأوّل أكثر ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الاجماليّ بالتكاليف الكثيرة ، سليمة عن المزاحم .

وفيه : ما لا يخفى ، لما عرفت في تأسيس الأصل ، من أنّ العملَ بالظنّ ليس فيه إذا لم يكن بقصد التشريع

-------------------

مقتضاها العمل بالاحتياط ، وهي الأدلة ( الدّالّة على حرمة العمل بالّظنّ ، و ) بين ( العمومات النّافية للحَرج ) والّتي مقتضاها العمل بالّظن دون الاحتياط .

وعليه : فإنّ من الأدلة ما يقول : لاتعمل بالّظنّ ، ومقتضى ذلك : أن يعمل بالاحتياط التام في المظنّونات والمشكوكات والموهومات .

ومنها ما يقول : لاحَرج عليك ، ومقتضاها : أن يعمل بالّظن فقط دون الاحتياط ، لأن الاحتياط مستلزمٌ للحَرج .

( والأوّل ) أي : الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالّظن ( أكثر ) فانّ بعض العلماء جمع مائتي آية وخمسمائة رواية في حرمة العمل بالّظن ، وحيث يتعارض الدّليلان ( فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الاجمالي بالتكاليف الكثيرة ، سليمة عن المزاحم ) .

وإنّما كان الأصل : الاحتياط ، للعلم الاجمالي بوجود الأحكام الوجوبية والتحريمية في سلسلة الموهومات والمشكوكات والمظنونات جميعاً ، فيجب العمل بما يرتفع به العلم الاجمالي على ماهي القاعدة في سائر العلوم الاجمالية التي تقتضي العمل بجميع أطراف العلم ، لأنه يكون من الشك في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف .

( وفيه مالايخفى : لما عرفت في تأسيس الأصل ) في أوائل الكتاب ( :من أنّ العمل بالّظن ليس فيه ) أي : في ذلك العمل بالظن ( إذا لم يكن بقصد التشريع

ص: 391

والالتزام شرعاً بمؤدّاه ، حرمةٌ ذاتيّةٌ . وإنّما يحرم إذا أدّى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم : فالنّافي للعمل بالظنّ فيما نحن فيه ، ليس إلاّ قاعدةَ الاحتياط الآمرة باحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك الاحتمالات ،

-------------------

والالتزام شرعاً بمؤداه ، حرمةٌ ذاتيّةٌ ) فانّ العامل بالظنّ إذا نسب مؤدّاه الى الشرع كان له حرمة تشريعية ، وهذا ما عبّر عنه المصنّف : بالحرمة الذاتية ، بخلاف مإاذا لم ينسب مؤدّاه الى الشارع ، بل أتى به من باب الاحتياط ، فان الاحتياط مقابل للتشريع .

( وإنّما يحرم ) أي : العمل بالّظن من دون الالتزام بمؤادّه شرعاً ( اذا أدّى الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ) فالعمل بالظنّ يحرم في صورتين :

الأولى : ما إذا نسبه الى الشارع حيث إنّه تشريع .

الثانية : اذا كان مؤدّى ظنّه مخالفاً للواقع ، كما إذا ظنّ بالوجوب فعمل به بينما كان يحَرُم واقعاً ، أو ظنّ بالحرمة فتركه بينما كان يجب واقعاً ، مثل إنّه يشرب التتن للظنّ بوجوبه والحال إنّه كان حراماً واقعاً ، أو يترك الدّعاء عند رؤية الهلال بظن حرمته وكان في الواقع واجباً .

والحاصل : إنّه اذا عمل بالظنّ دون ان ينسبه الى الشارع لم يكن له حرمة ، إلاّ إذا أدى الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم .

وعليه : ( فالنّافي للعمل بالّظنّ فيما نحن فيه ، ليس ) هو التشريع ، أو الأداء الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، بل انّ النافي ماهو ( إلاّ قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة ) والمشكوكة والمظنونة ( وترك العمل بالظّنون المقابلة لتلك الاحتمالات ) فالتقابل بين قاعدة الاحتياط وبين العمل

ص: 392

وقد فرضنا أنّ قاعدة الاحتياط ساقطةٌ بأدلّة نفي العُسر .

ثمّ لو فرضنا ثبوتَ الحرمة الذاتيّة للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ، لكن عَرِفتَ سابقاً عدمَ معارضة عمومات نفي العُسر بشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر .

ومنها : إنّ الأدلّة النافية للعُسر

-------------------

بالظنّ ( وقد فرضنا : إن قاعدة الاحتياط ساقطةٌ بأدلّة نفي العُسر ) فلا يبقى مانع عن العمل بالظن .

( ثمّ لو فرضنا ) انّ العمل بالظنّ محّرم ذاتاً لم تصل النوبة الى الاحتياط أيضاً ، إذ هذا الحرام الذاتي رَفَعَه دليل العُسر ، فانّه حيث كان في الاحتياط عُسر ، ولم يكن طريق للامتثال الاّ الظنّ جاز العمل بالظنّ المحرّم في نفسه ، لأنّ دليل العُسر حاكم على كل محرّم في نفسه ، كما إنّه حاكم على واجب في نفسه .

فلو فرض ( ثبوتَ الحرمة الذاتّية للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ) بان كان العمل بالظن محرّماً بسبب تلك الآيات والرّوايات ، لا أن الحرمة تشريعية بسبب نسبته الى الشارع بل كان العمل بالظنّ من المحرّمات الذاتية ، كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ( لكن عِرفتَ سابقاً : عدم معارضة عمومات نفي العُسر بشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر ) لحكومة أدلّة العُسر على تلك العمومات الأوليّة ، فاذا لم يجب الاحتياط لأنّه عُسر ، لم يكن طريق الاّ الى العمل بالظنّ .

( ومنها : ) أي : ممّا أورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحَرج ما معناه : لزوم الاحتياط في حال الانسداد وإن لزم الحَرج كما قال : ( إنّ الأدلّة النّافية للعُسر ) مثل

ص: 393

إنّما تنفي وجود : في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلاً وبالذات ، فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند الى الشارع ، ولذا لو نذر المكّلف اُموراً عَسيرَة ، كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر أو إحياء بعض الليالي

-------------------

قوله تعالى :«يُريد اللّهُ بِكمُ اليُسرَ ولا يُريد بِكمُ العُسرَ» (1) ( إنّما تنفي وجوده ) أي : وجود العُسر ( فيالشريعة بحسب اصل الشّرع أوّلاً وبالذات ) بمعنى : إنّ الشارع لم يجعل حكماً ضَررّياً أو حرجيّاً أو عُسريّاً بنفسه ، فاذا كان كذلك ( فلا تنافي وقوعه ) أي : وقوع الحكم العُسري ( بسبب عارض ) مثل إختفاء الأحكام الواقعية التي جعلها الشارع غير عسيرة ، فانّ هذا الاختفاء المسبّب للعُسر ( لا يسنَد الى الشارع ) .

وعليه : فالعُسر المسنَد الى الشارع منفي ، أما العُسر الذي لا يُسنَد الى الشارع فليس بمنفي .

( ولذا ) أي : لاجل ما ذكرناه : من إنّ العُسر بسبب العارض ليس بمنفي ، نرى ( لو نذر المكلّف اُموراً عسيرة ، كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام غير المعلومة ) له ، فهو وإن كان مجتهداً ، فانّه لا يعلم بالأحكام علماً قطعيّاً ، وإنّما يستظهرها من ظاهر الأدلة ، فان نذر أن يأخذ بالاحتياط في كلِ حكم غير ضروري كان عُسراً عليه .

( وكصوم الدّهر ) حيث أنّه عُسرٌ شديد لغالب الناس .

( أو إحياء بعض اللّيالي ) بالعبادة مما يكون في إحيائه عُسر وحَرج على

ص: 394


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

أو المشي الى الحجّ أو الزيارات ، لم يمنع تعسّرها عن إنعقاد نذرها ، لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قِبَل المكلّف وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ لم يمنع مشقّتهُ من صحّة الاجارة ووجوب الوفاء بها .

وحينئذٍ فنقول : لا ريبَ أنّ وجوبَ الاحتياط باتيانِ كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ،

-------------------

الناذر ، لطول الليل ، وشدة النعاس .

( أو المشي الى الحجّ أو الزّيارات ) راجلاً ، بل وحافياً ، خصوصاً بالنسبة الى من إبتعد منزله عن الحجّ ، وعن المراقد الطاهرة ، مما يوجب عُسراً وحَرجاً وإرهاقاً على الناذر .

فان ذلك ( لم يمنع تعسّرها ) أي : تعسر هذه الاُمور المتعلقة للنذر ( عن إنعقاد نذرها ) فانّ الفقهاء يقولون : إنّ متعلق النذر لوكان راجحاً إنعقد وان كان في المتعلق عُسراً ، وذلك ( لأنّ الالتزام بها ) أي بهذه الاُمور العسيرة ( إنّما جاء من قبل المكلّف ) لم يجعلها الشرع عليه أولاً وبالذات بحسب اصل الشرع ، وانّما أمضى الشارع ما ألزمه المكلَّف على نفسه فمثل هذه الاُمور لا تشملها أدلة نفي العُسر والحَرج .

( وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ ) مثل : حَفر البئر وما أشبه ذلك ،خصوصاً في الأعماق البعيدة من الأرض فانّه ( لم يمنع مشقتّه ) أي : مشقة العمل ( من صحّة الاجارة ووجوب الوفاء بها ) أي : بتلك الاجارة ، وهكذا إذاكانت هناك مصالحة على مثل هذا الأمر ، أو نحو ذلك .

( وحينئذٍ ) أي : حين لم يكن العُسر من الشارع ابتداءاً ، وقلنا بعلم البأس بالحكم العُسري الناشيء من قبل المكلَّف ( فنقول : لا ريبَ إنّ وجوب الاحتياط بإتيان كُلّ ما يحتمل الوجوب وترك كُلّ ما يحتمل الحرمة ) في حال إنسداد باب

ص: 395

إنّما هو من جهة إختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع ، المبيّنة للأحكام والممّيزة للحلال عن الحرام .

وهذا السببُ وإن لم يكن عن فعل كلّ مكلّف لعدم مدخلّية أكثر المكلّفين في ذلك ، إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحاً عقلياً حتى يقبح أن يكلّف به من لم يكن سبباً له ويختصّ عدمُ قبحه بمن صار التعسّر من سوء اختياره ،

-------------------

العلم والعلميّ ( إنّما هو من جهة إختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب ) ذلك الاختفاء ( عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع ، المبيّنة ) تلك الآثار ( للأحكام ) الشرعيّة ( والمميزة للحلال عن الحرام ) كالاخبار الواردة عن المعصومين من النبيّ الى الإمام المهدي عليهم السلام .

( وهذا السبب ) أي : إختفاء الأحكام ( وإن لم يكن عن فعل كلّ مكلّفَ لعدم مدخلّية أكثر المكلّفين في ذلك ) فانّ المقصّرين هم الذين عاصروا المعصومين عليهم السلام ، أما الأجيال المتأخرة فليس لهم تقصير في ذلك ( إلاّ انّ التكليف بالعُسر ) بالنسبة الى من لم يكونوا سبباً لاختفاء الأحكام ( ليس قبيحاً عقليّاً حتى يقبح أن يكلف به من لم يكن سبباً له ) .

إذنّ : فالقبيح العقلي لا يمكن للحكيم التكليف به ، أما غير القبيح العقلي كالعُسر ، فرفعه إمتنان لا انّه واجب عقلاً حتى يقال : انّ التكليف العسر على من لم يسبّب إختفاء الأحكام لا يجوز .

( و ) حتى ( يختص عدمُ قبحه بمن صار التعسرّ من سوء اختياره ) كالذّين عاصروا الائمة عليهم السلام .

ص: 396

بل هو أمر منفيّ بالأدلّة الشرعيّة .

وظاهرها أنّ المنفيّ هو جعل الأحكام الشرعيّة أولاً وبالذات على وجه يوجب العسر على المكلّف ، فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذٍ أكثر بمراتب ؛ ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ، ولو كفايةً ،

-------------------

( بل هو ) أي : العُسر ( أمرٌ منفي بالأدلّة الشرعية ) الامتنانية .

( وظاهرها ) أي : ظاهر تلك الأدلّة الشرعيّة ( : إنّ المنفي هو جعل الأحكام الشرعيّة أوّلاً وبالذّات على وجه يوجب العُسر على المكلّف ) فالشارع لا يجعل الأحكام العُسرة على المكلّف - حسب إمتنانه على المكلفين - فلا يجعل عليهم صلاة عسرة ، أو صوماً عسراً ، أو حَجاً عُسراً ، أو ما اشبه ذلك ( فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها ) أي : امتثال الأحكام ( من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء ) حى ضاعت وإختفت .

هذا ( مع كون ثواب الامتثال حينئذٍ ) أي : حين لم يكن المكلّف هو سبباً للإختفاء ، كما في الأجيال المتأخرة عن زمان الائمة الطاهرين عليهم السلام فيكون ثوابهم ( أكثر بمراتب ) لأنهم يؤدّون تكليفاً عسراً ، والأجر على قدر المشقّة .

والحاصل : إنّه يكون هنا أمران وهما :

أولاً : لا قبح في تكليف عَسير .

ثانياَ : إنّ المولى يتداركه بثواب أكثر مما إذا كان التكليف غير عَسير .

ولنمثل للتكليف العَسير الموجِب للثواب الأكثر ، الذي لم يكن المكلَّف هو سبباً للعسر ، وإنّما كان غيره سبباً للعسر ، بما نذكره : ( ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ولو كفاية ) فيما اذا كان هناك من يقوم بأعباء الاجتهاد

ص: 397

من الاُمور الشاقّة جدّاً ، خصوصاً في هذه الأزمنة . فهل السّببُ فيه الاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة ، وهل يفرّق في نفي العسر بين الوجوب الكفائي والعينيّ .

-------------------

( من الاُمور الشاقة جداً ، خصوصاً في هذه الأزمنة ) المتأخرة عن زمان المعصومين عليهم السلام ( فهل السبب فيه ) أي : في عُسر الاجتهاد ( إلاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعّة ؟ ) كخلفاء الجور والغاصبين ، وليس مثل شيخ الطائفة ، والمحقّق ، والشهيدين ، والعلاّمة ، ومن اشبههم فانّهم هم الذين وقع عليهم العبأ الثقيل وأجهدوا أنفسهم الشريفة بسب إختفاء الأحكام .

( وهل يفرّق في نفي العُسر بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ ؟ ) فانّه لا فرق بين وجوب : الاجتهاد الكفائي ، وبين وجوب : الاحتياط العيني ، فكما يمكن العُسر في الوجوب الكفائي يمكن ذلك في الوجوب العيني ايضاً ، فاذا كان الاجتهاد العُسر واجباً كفائياً بالنسبة الى المجتهدين الذّين يخوضون هذا المِضمار كذلك يكون الاحتياط العسر واجباً عينياً على كافة المكلفين الذين إختفت عليهم الأحكام بسبب إنسداد باب العلم والعلمي على حدّ سواء .

انتهى

الجزء الرابع ويليه

الجزء الخامس في تتمّة

المقدّمة الثّالثة للإنسداد

وله الشُّكر

ص: 398

المحتويات

الدليل الثاني : السنّة... 7

الدليل الثالث : الاجماع وتقريره من وجوه... 50

1 - ادعاء الاجماع على حجيّة الخبر الواحد... 50

حجيّة الاخبار مطلقة لا تختص بالمحفوف بالقرينة... 84

تأويل تنافي اجماعيّ الشيخ والسيد ... 112

القرائن الدالة على صحة الاجماع بحجيّة الخبر الواحد ... 135

المتيقن من دلالة الاجماع ... 154

2 - الاجماع على وجوب العمل بالخبر عند انسداد باب القرائن... 158

3 - استقرار سيرة المسلمين على العمل بالخبر الواحد... 160

4 - استقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر الواحد... 167

5 - اجماع الصحابة على العمل بالخبر الواحد... 176

الاشكال على هذا الوجه... 177

6 - الاجماع على جواز الرجوع الى الاخبار الموجودة في اُصول الشيعة... 179

الاشكال على هذا الوجه... 180

الدليل الرابع : العقل وتقريره من وجهين... 186

اثبات حجيّة الخبر الواحد بدليل العقل من وجوه :... 186

الوجه الأوّل : الاستدلال بالعلم الاجمالي... 187

الجواب عن الوجه الأوّل ... 204

الوجه الثاني : ثبوت التكاليف بالخبر الواحد فقط ... 218

الجواب عن الوجه الثاني ... 220

ص: 399

الوجه الثالث : دليل صاحب الحاشية ومرجعه الى دليل الانسداد... 223

الجواب عن الوجه الثالث ... 225

ملخص الكلام : في أدلة حجيّة الخبر الواحد... 237

اثبات حجيّة الخبر الواحد لحجيّة مطلق الظنّ وتقريره من وجوه... 238

الوجه الأوّل :... 239

الوجه الثاني :... 286

الوجه الثالث :... 293

دليل الإنسداد ... 297

المقدمة الاُولى : انسداد باب العلم والعلمي... 304

المقدمة الثانية : عدم جواز إهمال الوقائع... 307

الاجماع على عدم اجراء البرائة... 308

استلزام نفي الحكم للمخالفة القطعيّة... 311

عدم الدليل على الرجوع الى البرائة... 332

المقدمة الثالثة : بطلان الإحتياط... 358

الإجماع على عدم وجوب الإحتياط... 360

لزوم العُسر والحَرج في التزام الاحتياط... 362

الاشكال على ابطال الاحتياط والجواب عنه... 370

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثاني: «تتمّة بحث الانسداد»

اشارة

ص: 5

ص: 6

والجواب : عن هذا الوجه أنّ أدلّة نفي العسر ، سيّما البالغ منه حدّ إختلال النظام ، والاضرار باُمور المعاش والمعاد ، لا فرقَ فيها بينَ ما يكون بسبب يسند عرفاً الى الشارع ، وهو

-------------------

ثم لا يخفى : إنّ عسر الاجتهاد في زماننا - هذا - بخلاف الأزمنة السابقة كزمان شيخ الطائفة وابن ادريس ومن أشبههما - نشأ بسببّ كثرة الاحتمالات التي أبداها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه ، فهو مثل ما اذا كان كتاب الطب منحصراً في قانون ابن سينا فانّ الشخص كان يصير طبيباً بقرائته ، أما اذا جاء بعده مائة طبيب ، وكتب كلّ منهم كتاباً فهل يعذر الطبيب في جهله اذا لم يقرأ الاّ كتاب ابن سينا ؟ .

لا يقال : يكفينا الكتاب والسنّة ، فنرجع إليهما كما رجع شيخ الطائفة اليهما .

لأنّه يقال : لا حقّ لنا في الاكتفاء بالرجوع اليهما دون الرجوع الى إجتهادات أعاظم الفقهاء حولهما ، اذ لو فرض عدم توصل شيخ الطائفة الى الحكم بعد رجوعه اليهما ، كان معذوراً عند العقل والعقلاء ، لأنّه لم يملك أكثر من ذلك ، بخلاف ما اذا جهلنا الحكم ، فالشارع الحكيم يقول لنا : أنتَ كُنتَ تملك التوَصل الى الحكم فلماذا تركته ؟ .

وعليه : فمثل الاجتهاد اليوم مثل كلّ علم ينمو ، حيث المتأخر يملك أكثر ممّا يملك المتقدّم ، فلا يُعذَر المتأخر في جهله وتخطبه ، وإن كان المتقدَّم يُعذر في ذلك .

( والجواب عن هذا الوجه : إنّ أدلّة نفي العُسر سيّما البالغ منه ) أي : من العُسر ( حدّ إختلال النظام ، والاضرار باُمور المعاش والمعاد ) بأنّ يكون العُسر والحَرج شديدين ، فانّه ( لافرق فيها ) أي : في أدلة نفي العسر ( بين ما يكون بسبّب يسند عرفاً الى الشارع ، وهو ) أن يكون الشارع بنفسه قد سبّب ذلك ، كما إذا جعل

ص: 7

الذي اُريد بقولهم عليهم السلام : « ما غَلَبَ اللّهُ علَيهِ فاللّه أولى بالعُذرِ » ، وبينَ ما يكون مسنداً الى غيره .

ووجوبُ صوم الدّهر على ناذرة اذا كان فيه مشقّة لا يتحملّ عادةً ممنوعٌ.

وكذا أمثالها من المشي الى بيت اللّه جلّ ذكره ، وإحياء

-------------------

صلاة حرجيّة ، أو صوماً حرجيّاً ، وهكذا ، فان هذا والعُسر المسند الى الشارع ، هو ( الذّي اُريد بقولهم عليهم السلام :« ما غَلبَ اللّهُ عَليهِ فاللّه أولى بالعُذر » ) (1) .

وعليه : فان معنى هذاالحديث : هو إن ما سبّب اللّه عُسره أو استحالته ، فانّ اللّه يَعذر الانسان في تركه ، كما اذا جاءت صاعقة فجففت المياه ، فاللّه لا يريد من الانسان الطهارة المائية ، أو جاء مرض فتمرض الانسان بحيث لا يتمكن من القيام في الصلاة أو الصيام ، فاللّه لا يريد القيام في الصلاة أو الصيام منه ، وفي هذا الحديث دلالة على سقوط العُسر الذي لم يكن الانسان هو السبب فيه .

وعليه : فلا فرق بين ذلك ( وبين ما يكون ) العُسر ( مسنداً الى غيره ) لأنّ كليهما عُسر ، واطلاق أدلة نفي العُسر يرفع كليهما .

( و ) أما ما قيل : من إنّ الناذر اذا أوجب على نفسه شيء ، وجب عليه مع إنّه عُسر ، ممّا يدل على أنّ العسر المرفوع هو العسر الآتي من قبل الشارع ، لا من قبل العبد نفسه ، فنقول في جوابه : ( وجوب صوم الدّهر على ناذره ، اذا كان فيه مشقّة لا يتحملّ عادة ممنوعٌ ) فلا نقول : بوجوب صوم الدهر وإن أوجب الناذر ذلك الصوم على نفسه ، فان أدلة النذر منصرفة على مثل ذلك ، أو أنّ أدلة العُسر مخصّصة لمثل ذلك ( وكذا أمثالها من المشي الى بيت اللّه جلّ ذكره ، وإحياء

ص: 8


1- - الكافي فروع : ج3 ص412 ح1 وقريب منه في علل الشرائع : ص271 والمناقب : ج2 ص36 .

الليالي ، وغيرهما ، مع إمكان أن يقال بانّ ما ألزمه المكلّف على نفسه من المشاقَ خارج من العمومات ، لا ما كان السببُ فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمداً فلا يجب الغُسلُ مع المشقّة ، وبين اجازة النفس للمشاق ،

-------------------

اللّيالي وغيرهما ) فانّ دليل نفي العُسر يرفع كل ذلك .

هذا ( مع إمكان أن يقال ) بجواب آخر غير الجواب الأوّل ، فان في كلام المصنّف الأول الذي بينّه بقوله : والجواب عن هذا الوجه ، أراد بيان أنّ العُسر مطلقاً مرفوع ، سواء كان من قبل الشارع ، أم من قبل المكلَّف ، وفي هذا الجواب يريد بيان إنّ العُسر الآتي من قبل المكلّف قسمان : قسمٌ منه مرفوع ، كما اذا أجنب وكان الغُسل مشقةً عليه حيث هذا الغُسل مرفوع ، ويبدّله بالتيمم ، لانّ الشارع أوجب الغُسل بعد الجنابة ، لا إن العقلاء فعلوا ذلك .

وقسمٌ ليس بمرفوع ، كالإجارة الشاقة حيث إنّ العقلاء أوجبوا العمل عليه والشارع أمضاه ، لا انّ الشارع جعله كما جعل غُسل الجنابة .

وعليه : فالجواب هنا بالتفصيل : ( بأنّ ما الزمه المكلّف على نفسه من المشاق ، خارج من العمومات ) أي : من عمومات أدلة نفي العُسر ( لا ما كان السبّب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمّداً فلا يجب الغُسل مع المشقة ) لأنّ المكلّف لم يلزم وجوب الغُسل على نفسه ، بل اجنبَ وإنّما الشارع هو الذي أوجبَ الغُسل اذا تحقق هذا الموضوع ، وحيث إنّ الشارع لا يوجب الحكم الشاق ، لا يوجب عليه الغُسل بل يبدّله بالتيمم .

( وبين إجازة النفس للمشاق ) فانّ المكلَّف - هو الذي ألزم الأمر الشاق على نفسه ، من دون مدخلية للشارع ، والعقلاء هم الذين يوجبون العمل بالاجازة على

ص: 9

فإنّ الحكمَ في الأوّل تأسيسٌ من الشارع وفي الثاني إمضاءٌ لما ألزمه المكلّفُ على نفسه ، فتأمل .

وأمّا الاجتهادُ الواجبُ كفايةً عن إنسدادا باب العلم ، فمع أنّه شيء يقضي بوجوبه الأدّلة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره .

فهو ليس أمراً حرجاً خصوصاً بالنسبة الى أهله ، فانّ مزاولة العُلوم لأهلها ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصّعبة التي يتحملّها النّاسُ لمعاشهم .

-------------------

هذا الشخص والشارع أمضاه .

وعليه : ( فانّ الحكم في الأوّل : ) أي : الغُسل ( تأسيس من الشارع ، وفي الثاني : ) أي الاجارة ( إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه ) فينهما فرق في أنّ احدهما مرفوع ، والآخر غير مرفوع .

( فتأملّ ) ولعله إشارة الى أنّه لا يفرق بين القسمين بعد أن الشارع أوجب الغُسل وأمضى الاجارة ، فالشارع بالتالي هو السبب في المشقة .

( وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عند إنسدادا باب العلم ،فمع انّه ) أوّلاً : ( شيء يقضي بوجوبه الأدلّة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره ) كما لا ينظر الى ما يكون عُسراً وهو واجب شرعاً ، كالجهاد ونحوه .

وثانياً : ( فهو ليس أمراً حَرجاً ، خصوصاً بالنّسبة الى أهله ) من طلبة العلم الذّين يُحبون الاجتهاد قربةً الى اللّه سبحانه وتعالى تحصيلاً لرضاه وثوابه ( فانَّ مزاولة العلوم لأهلها ، ليس بأشق من أكثر المشاغل الصعّبة التي يتحمّلها الناس لمعاشهم ) إذ الاجتهاد أسهل من عمل البنّاء والنجّار والحدّاد ، وما اشبه ذلك .

نعم ، في الاجتهاد جُهدٌ فكري ، وفي تلك الاُمور جهد بدني ، وحيث أنّ الفكر

ص: 10

وكيف كان فلا يقاسُ عليه .

وأمّا عملُ العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو الاُمور في الوقائع الشخصيّة اذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات المتعارضة ،فانّ هذا دُونَهُ خَرطُ القَتاد ، إذ أوقات المجتهد لا تفي بتمييز موارد الاحتياطات ، ثمّ إرشاد المقلَّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتّفِق للمقلّدين .

-------------------

وراء الاجتهاد ، والفكر افضل من العمل البدني ، كان الاجتهاد أفضل ، كما ان الأمر كذلك بالنسبة الى الطب ، والهندسة ، ونحوهما ، فانّها افضل من الأعمال البدنية ، وقد ذكرنا في كتاب : « الفقه الاقتصاد » (1) تفصيل هذا الامر .

( وكيف كان : فلا يقاس ) الاحتياط عند الانسداد ( عليه ) أي : على الاجتهاد ، حتى يقال : انّه كما يجب الاجتهاد ، مع عسره يجب الاحتياط مع عسره .

( وأمّا عمل العباد بالاحتياط ) عند الانسداد ( ومراقبة ما هو أحوط الأمرين ، أو الاُمور في الوقائع الشخصيّة ) لكلّ مكلّف مكلّف ، ( اذا دار الأمر فيها ) أي : في الوقائع الشخصيّة ( بين الاحتياطات المتعارضة ، فانّ هذا ) الاحتياط ( دونَه ) وأسهل منه ( خرط القتاد ) فلا ينبغي أن يقاس على الاجتهاد ويقال : كما انّ الاجتهاد عُسرٌ ومع ذلك واجب كذلك الاحتياط عند الانسداد عسر لكنّه واجب .

( إذ أوقات المجتهد لاتفي بتمييز موارد الاحتياطات ) من أول الفقه الى آخر الفقه ( ثمّ إرشاد المقلَّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض عندتعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتفق للمقلدين ) كما اذا كان آخر الوقت ، ودار أمر

ص: 11


1- - موسوعة الفقه : ج107 - 108 للشارح .

كما مثّلنا لك سابقاً بالماء المستَعمل في رفع الحَدث الأكبر .

وقد يرد الاحتياط بوجوه اُخر غير ما ذكرنا من الاجماع والحَرج .

منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط وأنّ الاحتياط أمرٌ مستحبّ اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة .

وفيه :

-------------------

الصلاة بين قرائة السورة فيها ، فيقع بعض الصلاة خارج الوقت ، فهما احتياطان متعارضان يحتاج الفقيه الى ترجيح هذا على ذاك أو بالعكس .

و ( كما مثّلنا لك سابقا ) في الاحتياطات المتعارضة ( بالماء المستَعمل في رفع الحدث الأكبر ) ممّا لا داعي الى تكراره .

هذا ( وقد يردّ ) لزوم ( الاحتياط ) عند الانسداد ( بوجوه اُخر غير ما ذكرنا من الاجماع ، والحرج ) ممّا تقدّم ، وقد اشار اليها المصنّف بقوله : ( منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وإنّ الاحتياط أمرٌ مستحب اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة ) كما إذا علم بانّه مديون لأحد شخصين من دون تعيين فالغاء الاحتياط ، والاستناد الى أصالة البرائة بالنسبة الىّ كلّ واحد منهما يوجب الغاء حق واجب عليه ، وكذا إذا أوجب الاحتياط في الصلاة تكرارها في ثياب متعدة بعضها نجس ممّا يوجب عدم تمكنه من تحصيل المعاش الواجب لزوجته وسائر واجبي النفقة عليه .

( وفيه : ) إذا لوحظ الاحتياط في كلّ واقعة واقعة وحدها وفي نفسها بدون إرتباطها بسائر الوقائع فلا بأس بالقول بعدم وجوب الاحتياط فيها ، لجريان البرائة في كل واقعة واقعة ، أما اذا لوحظ كل الوقائع معاً فمقتضى العلم الاجمالي الناشيء من الانسداد - لأن الكلام على فرض الانسداد - هو لزوم الاحتياط في الجميع .

ص: 12

إن أُريد أنّه لا دليل على وجوبه في كلّ واقعة اذا لوحطت مع قطع النظر عن العلم الاجمالي بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الاُخر فهو مسلّمٌ بمعنى أنّ كلّ واقعة ليست ممّا يقتضي الجهلُ فيها بنفسها للاحتياط بل الشّكّ فيها إن رجع الى التكليف ، - كما في شرب التتن ووجوب الدّعاء عند رؤة الهلال - لم يجب فيها الاحتياط ، وإن رجع الى تعيين المكلّف به ، كالشّك فيالقصر والإتمام والظهر والجمعة ، وكالشك في مدخليّة شيء في العبادات ،

-------------------

إذن : ( إن اُريد ) باستحباب الاحتياط : ( انّه لا دليل على وجوبه ) أي : الاحتياط ( في كلّ واقعة اذا لوحظت ) وحدها ، اي : ( مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ) الناشيء من الانسداد ( بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الاُخر ، فهو ) اي :عدم وجوب الاحتياط فيها ( مسلّم بمعنى : إن كل واقعة ) بوحدها ( ليست ممّا يقتضي الجَهل فيها بنفسها ) مستقلاً ( للاحتياط ) الجار والمجرور متعلق ب«يقتضي» .

( بل الشك فيها ) أي : في الواقعة ( إنّ رجع الى التكليف ، كما في شرب التتن) في الشك التحريمي ( ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال ) في الشك الوجوبي ( لم يجب فيها ) أي : في كل واقعة ( الاحتياط ) لأنّه من الشك في التكليف ، والشّك في التكليف مجرى البرائة .

( وإن رجع الى تعيين المكلّف به ) مع العلم بالتكليف ( كالشك في القصر والاتمام ، والظّهر والجمعة ) حيث يعلم الانسان بوجوب صلاة عليه لكنّه لا يعلم هل انّها قصر أو تمام ، أو انّها ظهر أو جمعة ؟ .

( وكالشّك في مدخلّية شيء في العبادات ) جزءاً أو شرطاً ، بأن شّك مثلاً - في انّه هل يجب جلسة الاستراحة في الصلاة ؟ أو انّه هل يجب عدم نية القطع

ص: 13

بناءا على وجوب الاحتياط فيما شّك في مدخليّته وجب فيها الاحتياط ، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات فيها ، وإن كان الشكّ في نفس الواقعة ، شكّاً في التكليف .

ولذا ذكرنا سابقاً أنّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوّلية عند إنسداد باب العلم .

-------------------

والقاطع في الصوم ، وهكذا .

وذلك ( بناءاً على وجوب الاحتياط فيما شك في مدخليّته ) أي : بأن لا نقول بالبرائة في الشك في الجزء والشرط في المركّب الارتباطي ، فعند ذلك ( وجب فيها الاحتياط ) لأنّه مقتضى العلم الاجمالي .

( لكن وجوب الاحتياط فيما نحن فيه في الوقائع المجهولة ) حيث إنسدّ باب العلم ، ونحن نعلم بوجود أحكام كثيرة في المشكوكات والمظنونات والموهومات ( من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات فيها ) أي : في الوقائع المجهولة ، فانّه ( وإن كان الشكّ في نفس الواقعة ) الشخصّية مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، أو شرب التتن ، ( شكاً في التكليف ) لكنّه لا يلاحظ كل واقعة واقعة حتى يكون المجرى : البرائة ، بل إنّما يلاحظ الاحكام مجموعة - كما سبق الاشارة اليه - .

( ولذا ذكرنا سابقاً : انّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوليّة عند إنسداد باب العلم ) فلا يقال : إنّ كل واقعةٍ واقعة مشكوك ، فاللازم جريان البرائة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط في كل إطراف العلم ، وإن قال بعض : بإنّه لا يلزم الاّ الموافقة الاحتمالية بالعمل ببعض إطراف العلم لا كل الأطراف ، وبعض : بأنّه

ص: 14

نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط .

ومنها : إنّ العملَ بالاحتياط مخالفٌ للإحتياط ، لانّ مذهبّ جماعة من العلماء بل المشهور بينهم إعتبارٌ معرفة الوجه بمعنى تمييز الواجب عن المستحبّ إجتهاداً أو تقليداً .

قال في الارشاد ، في أوائل الصلاة : « يجب معرفةُ واجب أفعال الصلاة من

-------------------

لا يلزم شيء اطلاقاً ، فالعلم الاجمالي لا يلزم موافقته القطعيّة ولا موافقته الاحتمالية .

( نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف ، فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط ) لأنّه يقول : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات ، الاّ إنّ علم اجمالي في أطراف الظنون والشكوك والأوهام ، والعلم الاجمالي لا يلزم موافقته اطلاقاً .

( ومنها ) أي : من الايرادات على الاحتياط عند الانسداد ( :إنّ العمل بالاحتياط مخالفٌ للإحتياط ) وإذا كان العمل بالاحتياط مخالفاً للاحتياط ، فاللازم تركه لا فعله ( لأنّ مذهبَ جماعة من العلماء بل المشهور بينهم ) خصوصاً القدماء (إعتبارُ معرفِة الوجه) عند إتيان الانسان بالعبادة والوجه ( بمعنى تمييز الواجب عن المستحب اجتهاداً أو تقليداً ) فالذي يشرع فيالصلاة يلزم عليه أن يعرف إنّ الحَمد واجبٌ والقنوت مستحب وهكذا ، ويدلّ على ذلك تصريحاتهم في الكتب الفقهية في باب العبادات .

مثلاً : ( قال في الارشاد في أوائل الصلاة : يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من

ص: 15

مندوبها وإيقاع كلّ منهما على وجهه » .

وحينئذٍ : ففي الاحتياط إخلالٌ بمعرفة الوجه التي أفتى جماعةٌ بوجوبها وباطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد .

وفيه : أوّلاً : أنّ معرفةَ الوجه ممّا يمكنُ ، للمتأملّ في الادلّة وفي إطلاقات العبادة

-------------------

مندوبها ، وإيقاع كلّ منهما على وجهه ) فإذا أراد قراءة الحمَد يجب عليه أن ينوي الوجوب ، وإذا أراد القنوت يجب عليه نيّة النّدب ، وهكذا .

( وحينئذٍ ) أ¨ : حين كان معرفة الوجه واجبة في العبادات ( ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه التي افتى جماعةٌ : بوجوبها ، وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد ) وإن كان آتياً بالاحتياط ، فانّه اذا لم يعلم - مثلاً - ان جلسة الاستراحة واجبة أو مستحبة ، لا يجوز أن يأتي بها ، لانّه لا يتمكن أن ينوي بها الوجوب ولا الاستحباب ، لانّه لا يعلم هذا أو ذاك ، وهكذا في سائر أبواب الاحتياطات ، فالاحتياط بإتيان جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات عند إنسداد باب العلم خلاف الاحتياط فلا يجوز .

( وفيه أولاً : ان معرفة الوجه ) أي : لزوم أن يعرف المكلّف الوجه فيما يأتي به من العبادات وأن أي شيء منها واجب وأيّ شيء منها مستحب ( ممّا يمكنُ للمتأمّل في الأدلّة ) نفيها فان سكوت الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل عنها ، يدلّ على العدم ، وإنّه لو وجَب الوجه لزم التنبيه عليه ، فعدم التنبيه دليل العدم .

( وفي اطلاقات العبادة ) مثل قوله تعالى :«أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ الى غَسَقِ

ص: 16

وفي سيرة المُسلمين وفي سيرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمّة عليهم السلام مع الناس ، الجزمُ بعدم اعتبارها حتى مع التمكّن من المعرفة العلميّة .

ولذا ذكر المحقّق قدس سره كما في المدارك في باب الوضوء : « إنّ ما حقّقه المتكلّمون من وجوب ايقاع الفعل لوجهه

-------------------

اللّيل»(1) وقوله تعالى :«كُتبَ عَليكمُ الصَّيام كَمَا كُتِبَ على الَّذينَ مِنَ قَبلِكمُ» (2) وقوله سبحانه :«وَللّهِ على النّاسِ حجُّ البيتِ مَنْ إستَطاع إليهِ سَبِيلاً» (3) الى غير ذلك .

( وفي سيرة المُسلمين ) حيث جَرت سيرتهم على عدم قصد الوجه في الصلاة وغيرها .

( وفي سيرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمة عليهم السلام مع الناس ) فانّهم بيّنوا للناس الأجزاء ، والشرائط ، والموانع ، والقواطع ، ولم يذكروا الوجه .

وعليه : فالمتأمّل يحصل له ( الجزم بعدم إعتبارها ) أي : عدم إعتبار معرفة الوجه ( حتى مع التمكن من المعرفة العلمّية ) فانّ الانسان الذي يعلم انّ الحمد واجبٌ والقنوت مستحبٌ ، لا يلزم أن ينوي الوجوب عند قراءة الحمَد ، ولا الندّب عند القنوت .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم اعتبار قصد الوجه حتى مع التمكن من المعرفة العلميّة ( ذكر المحققّ قدس سره كما ) نقل عنه ( في المدارك في باب الوضوء ) من ( انّ ما حققّه المتكلّمون : من وجوب إيقاع الفعل لوجهه ) يعني : إنّه يقصد

ص: 17


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - سورة البقرة: الآية 183 .
3- - سورة آل عمران : الآية 97 .

أو وجه وجوبه كلام شعريّ » وتمامُ الكلام في غير هذا المقام .

وثانياً : لو سلّمنا وجوبَ المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للإحتياط ، فانّما هو مع التمكّن من المعرفة العلميّة .

أما مع عدم التمكّن فلا دليل عليه

-------------------

الوجوب اذا كان واجباً ، او الندّب اذا كان ندباً .

( أو وجه وجوبه ) بمعنى : الاتيان بالفعل الواجب أو المندوب بقصد كون وجوبه أو إستحبابه لطفاً ، أو الاتيان بقصد الشكر ، أو لأجل أمر اللّه سبحانه وتعالى ، أو جميع ذلك - على ما ذكره الشهيد الثاني ، وغيره - فان كلّ ذلك ( كلام شعريّ ) تخيلي ، وليس كلاماً برهانياً ، والمراد بالشعر : ما ذكره المنطقيون في الصناعات الخمس .

وعليه : فلا يجب أن يأتي الانسان بالحَمد في الصلاة بقصد إنّه واجب ، ولا بقصد إنّه شكر للّه سبحانه وتعالى ، ولا بقصد إنّه واجب شكراً للّه تعالى بالجَمع بين الأمرين ، وهكذا .

( وتمام الكلام ) في عدم لزوم الوجه ياتي إنشاء اللّه ( في غير هذا المقام ) من الاُصول ، اذ ليس مقامه هنا - كما هو واضح - .

( وثانياً : لو سلّمنا وجوب المعرفة ، أو احتمال وجوبها ) بأن كانت الأدلة الدالة على وجوب المعرفة غير كافية لافادة الوجوب ، بل تكفي لاحتمال الوجوب ( الموجب ) ذلك لاحتمال ( للاحتياط ، فانّما هو مع التمكن من المعرفة العلميّة ) بانّ يتمكن الانسان من تحصيل العلم بأنّ الحَمد - مثلاً - واجب ، وإنّ القنوت مستحب .

( أما مع عدم التمكّن ) من المعرفة العلميّة ( فلا دليل عليه ) أي : على وجوب

ص: 18

قطعاً ، لأنّ إعتبار معرفة الوجهِ إن كان لتوقّف نيّة الوجه عليها ، فلا يخفى أنه لا يجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه ، فانّ مجرّد الظنّ بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه ، اذ لابدّ من الجزم بالنيّة ، ولو اكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقةً فهو ممّا لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نيّة الوجه .

-------------------

المعرفة ( قطعاً ، لأنّ إعتبار معرفة الوجه إن كان ،لتوقفّ نيّة الوجه عليها ) اي : على المعرفة العلمية بمعنى : إنّ الانسان يجب عليه أن يعرف الوجه ، حتى يتمكن من أن ينوي الوجه عند إرادة الصلاة وسائر العبادات .

وعليه : ( فلا يخفى : إنّه لا يُجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه ) فانّ الانسان اذا ظنّ الوجوب ، أو ظنّ الاستحباب ، لم يكف هذا الظنّ في أن ينوي الوجه ، فاذا ظنّ - مثلاً - بانّ جلسة الاستراحة واجبة ، فهل يتمكن أن يقول في قلبه : انّي آتي بجلسة الاستراحة التي هي واجبة ؟ .

( فانّ مجرد الظّن بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه ) فانّ الانسان اذا لم يعرف الوجوب ، كيف ينوي الوجوب ؟ ولو نواه فرضاً كانت نيته اعتباطاً ( اذ لابدّ من الجزم بالنيّة ) اذ بدون الجزم بالنيّة لا تصدق العبادة فكما يحتاج الى الجزم بالنسبة الى ذات العبادة كذلك يحتاج الى الجزم بسائر خصوصياتها ، والتي من تلك الخصوصيات الوجه .

( ولو ) قلت : ( إكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقةً ) بان يقول المصلّي : آتي بجلسة الاستراحة بظنّ الوجوب .

قلت : هذا غير كاف ( فهو ممّا لا يفي بوجوبه ) اي : بوجوب الوجه ، ويدلّ عليه ( ما ذكروه في اشتراط نية الوجه ) فانّ دليلهم على لزوم نيّة الوجه ، يدلّ على

ص: 19

نعم ، لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوبُ العمل به ، تحقق معه نيّة الوجه الظاهريّ على سبيل الجزم ، لكنّ الكلام بعدُ في وجوب العمل بالظنّ ، فالتحقيقُ إنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجّيته فهو كالشكّ فيه لا وجهَ لمراعاة نيّة الوجه معه أصلاً .

-------------------

لزوم أن يأتي بالوجه قاطعاً لا ظانا .

( نعم ) لو قيل : بأنّه كلّما لزم علماً قام مقامه بالظنّ ، فنية الوجوب كانت لازمة علماً بأن يعلم المصلّي انها واجبة ، والحال حيث لا يعلم بالوجوب يكفي ظنّاً بأن ينوي المصلّي - مثلاً - أجلس جلسة الاستراحة لظنّ وجوبها ، فانّه ( لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به ) أي : بهذا الظن ( تحقق معه نيّة الوجه الظاهري على سبيل الجزم ) .

قلنا : ( لكن الكلام بعدُ في وجوب العمل بالظنّ ) فان ثبت العمل بالظنّ وإنّه يقوم مقام العلم ، تمكن أن يأتي بالوجه الظنّي ، لكن ذلك لم يثبت بعدُ ، ولذا قال بعض المحشّين : فوجوب العمل بالظنّ يتوقف على بطلان الاحتياط ، فلو توقف بطلان الاحتياط على وجوب العمل بالظنّ لزم الدّور المصرَّح .

ثم إنّ الدّليل على ما ذكره من قوله : « لا يفي بوجوبه ما ذكروه » الخ ، هو ما ذكره كاشف اللّثام ، حيث قال : الوجوب والنّدب ، والأداء والقضاء إنّما يجبان يعني : يجب قصدهما في الصلاة لأنّها إنّما تتعين بهما .

وحاصله : إنّ إعتبار قصد الوجه ، إنّما هو لتمييز المأتي به عن غيره حيث يكون مشتركاً ، ومن الواضح : انّ الظنّ لا يكفي في ذلك التمييز ( فالتحقيق أنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجيته ) أي : حجيّة هذا الظنّ ( فهو كالشّك فيه ) أي : في الوجه ، و ( لا وجه لمراعاة نيّة الوجه معه ) أي : مع الظنّ ( اصلاً ) فانّ الظنّ

ص: 20

وإن كانَ إعتبارُها لأجل توقّف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلاً وشرعاً عليه - ولذا اجمعوا ظاهراً على عدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن عن التفصيلي بأن يتمكنّ من الصلاة الى القبلة في مكان ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة الى أربع جهات أو يصلي في ثوبين مشتبهين أو أكثر ، مرّتين أو اكثر ، مع امكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطّهارة ،

-------------------

والشكّ سيّان في إنّه لا يعمل بأي منهما .

(وإنّ كان إعتبارها) أي: إعتبار معرفة الوجه - وهذا عطف على قوله : « لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقف نية الوجه عليها » الخ - ( لأجل توقّف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلاً وشرعاً عليه ) أي : أن يعرف ذلك ، فانّ الانسان اذا لم يعرف شيئاً لم يتمكن من الامتثال التفصيلي لذلك الشيء ، والامتثال التفصيلي مطلوب عقلاً ، لأنّ العقل يلزم العَبد بان يمتثل إمتثالاً تفصيلياً ما أمره المولى مع تمكنه ، كما أن الشرع إتَّبع العقل في ذلك من باب الارشاد ، لا من باب انّه امرٌ مولوي .

( ولذا ) أي : لاجل ما ذكرناه : من لزوم الامتثال التفصيلي عقلاً وشرعاً ( أجمعوا ظاهراً ) أي : على الظاهر أنهم اجمعوا ( :على عدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن عن التفصيلي ، بانّ ) يقدّم التفصيلي على الاجمالي ، وإنّما يلتجأ الى الاجمالي اذا لم يتمكّن من التفصيلي ، فلو كان ( يتمكن من الصلاة الى القبلة في مكان ، ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة الى أربع جهات ) فانّه لا يجوز الثاني مع التمكن من الأول .

وكذلك فيما ذكره من المثال الآخر بقول : ( أو يصلّي في ثوبين مشتبهين أو أكثر ، مرّتين أو أكثر ، مع امكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطّهارة ) فانّه يلزم عليه أن يصليّ في الثوب الطاهر المعلوم الطهارة ، دون أن يأتي بصلاتين في

ص: 21

الى غير ذلك - .

ففيه : إنّ ذلك انّما هو مع التمكّن من العلم التفصيليّ .

وأمّا مع عدم التمكّن منه ، كما فيما نحن فيه ، فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيلي الظنّي على الامتثال الاجمالي العلمي ، اذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان الى جهة مظنونة على الصلاة المكرّرة في مكان مشتبه الجهة ،

-------------------

ثوبين مشتبهين احدهما طاهر .

( الى غير ذلك ) من الامثلة ، كما اذا كان هناك مائان أحدهما مضاف ، وماء مقطوع الاطلاق ، فانّه لا يجوز للانسان الغُسل أو الوضوء بذينك المائين وهو قادر على انّ يغتسل أو يتوضأ بالماء المعلوم الاطلاق .

لكن لا يخفى : إن هذا لو قلنا به فانّما هو في العبادات المحتاجة الى قصد القربة ، والاّ فتطهير يده بمائين احدهما مضاد مع تمكنه من الماء المطلق لا بأس به .

( ففيه : ) هذا جواب قوله : وإن كان إعتبارها لأجل توقف الامتثال التفصيلي ( إنّ ذلك ) أي : تقدّم الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي ( إنّما هو مع التمكّن من العلم التفصيلي ) كما ذكره في الامثلة المتقدّمة .

( وأمّا مع عدم التمكّن منه ) أي : من العلم التفصيلي ( كما فيما نحن فيه ) حيث المفروض انسداد باب العلم ( فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيلي الظني على الامتثال الاجمالي العلمي ) .

فلو دار العلم بين إمتثال تفصيلي ظنّي ، أو امتثال اجمالي علمي ، فلا دليل على تقدّم الظنّي على العلمي ( اذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان الى جهة مظنونة ، على الصلاة المكّررة في مكان مشتبه الجهة ) فاذا ظنّ - مثلاً - بأنّ جهة

ص: 22

بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفيّة على ترجيح العلم الاجمالي على الظنّ التفصيليّ .

وبالجملة ، فعدمُ جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ممّا لم يقم له وجهٌ ؛ فان كان ولابدّ من اثبات العمل بالظنّ فهو بعد تجويز الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحباً ، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظن الخاصّ الذي قام الدليلُ عليه بالخصوص ،

-------------------

الجنوب القبلة ، وعلم أنّه اذا صلى الى اربع جهات أدرك القبلة قطعاً ، فلا دليل على تقدّم الصلاة الى جهة الجنوب من الصلاة الى أربع جهات ، وهكذا في سائر موارد الدّوران بين الظنّ وبين العلم الاجمالي .

( بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفية على ترجيح العلم الاجمالي على الظنّ التفصيلي ) ولا دليل على انّ الشارع قد غيّر هذه الطريقة ، فاللازم أن تكون الطريقة الشرعيّة في الامتثال الشرعي ، كالطريقة العرفيّة في الامتثال العرفي .

( وبالجملة : فعدمُ جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ، ممّا لم يَقُم له وجه ) عقليّ ولا شرعيّ .

وعليه : ( فانّ كان ولابدّ من إثبات العمل بالظنّ ) وإنّه بعد إنسداد باب العلم يعمل بالظن ( فهو ) أي : اثبات العمل بالظنّ ، يكون ( بعد تجويز الاحتياط ، والاعتراف برجحانه ) أي : رُجحان الاحتياط ( وكونه مستحباً ) أي : محبوباً .

( بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظنّ الخاص الذّي قام الدّليل عليه بالخصوص ) كما اذا كان في الصحراء ولم يعلم جهة القبلة ، فقام شاهدان على إنّ جهة القبلة : الجنوب ، فانّه يرجّح الصلاة الى أربع جهات على الصلاة الى الجهة التي قامت عليها البيّنة .

ص: 23

فتأمّل .

نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي في العبادات ممّا انعقد الاجماع ظاهراً على عدم جوازه ، كما أشرنا اليه في أول الرّسالة ، في مسألة إعتبار العلم الاجمالي وأنّه كالتفصيليّ من جميع الجهات أم لا ، فراجع .

ومما ذكرنا ظهرَ أنّ القائل بانسداد باب العلم وانحصار المناط في مطلق الظنّ ليس له أنّ يتأملّ في صحّة عبادة تارك طريقيّ

-------------------

( فتأمل ) ولعلّ وجهه : انّ الظنّ الخاص كالعلم ، وكما لا يجوز تقديم الاحتياط على العلم ، كذلك لا يجوز تقديم الاحتياط على الظنّ الخاص ، ففَرقَ بين الظنّ الخاص والظنّ الانسدادي ، فلا يتم ما ذكره المصنّف بقوله : ب«لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظنّ الخاص » .

وعلى أي حال : فالاحتياط ليس ممنوعاً مع وجود الظنّ العام أو الظنّ الخاص .

( نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي في العبادات ، ممّا انعقد الاجماع ) إنعقاداً ( ظاهراً ) لأنّا لا نقطع بوجود هذا الاجماع أيضاً ( على عدم جوازه ) أي : الاحتياط ( كما أشرنا اليه في أوّل الرّسالة في مسألة إعتبار العلم الاجمالي ، وانّه كالتفصيلي مع جميع الجهات أم لا ؟ ) فقد سَبق : إنّ العلم الاجمالي ليس كالعلم التفصيليّ من جميع الجهات ، بل العلم التفصيلي يُقدَّم على الاحتياط بخلاف العلم الاجمالي ( فراجع ) ما اشرنا اليه هناك .

( وممّا ذكرنا : ظهر أنّ القائل بإنسداد باب العلم ) بالإحكام وإنّه ليس هناك علمٌ ولا علمي بغالب الاحكام الشرعيّة ( وانحصار المناط في مطلق الظنّ ) وإنّه يلزم أن نعمل بالظنّ العام في الأحكام ( ليس له أن يتأمل في صحّة عبادة تارك طريقّي

ص: 24

الاجتهاد والتقليد اذا أخذ بالاحتياط ، لانّه لم يبطل عند إنسداد باب العلم الاّ وجوبُ الاحتياط ، لا جوازه أو رجحانه .

فالأخذُ بالظنّ عنده وترك الاحتياط عنده من باب الترخيص ورفع العُسر والحَرج ، لا من باب العزيمة .

-------------------

الاجتهاد والتقليد اذا أخذ بالاحتياط ) فانّ لازم قوله هذا ، إنّه يجوز للإنسان أن يحتاط بين فتاوى الفقهاء ، فلا يأخذ طريق الاجتهاد حتى يجتهد ، فيكون ظاناً بالأحكام ولا طريق التقليد فيقلّد بما يوجب ظنّه بالأحكام .

وإنّما له أن يأخذ بالاحتياط ( لأنّه لم يبطل ) فاعله ما يأتي من قوله : الاّ وجوب الاحتياط ( - عند إنسداد باب العلم - الاّ وجوب الاحتياط لا جوازه أو رجحانه ) والضمير« أن »يعودان الى الاحتياط .

( فالأخذ بالظنّ عنده وترك الاحتياط عنده ) أي : عند الانسدادي ( من باب الترخيص ورفع العُسر والحَرج ، لا من باب العزيمة ) كما هو الشأن في جميع أقسام العُسر والحَرج ، حيث يجوز للإنسان أن يترك الحكم الحَرجي ، لا أنّه يجب عليه .

نعم ، فيما اذا كان الحَرج والعُسر بحيث لا يرضى به الشارع اطلاقاً ، يكون الأمر من باب العزيمة لا الرّخصة ، كما اذا كان الصوم عليه عُسراً شديداً بحيث يوّدّي الى فقدِ بصره أو ما اشبه ذلك ، فانّه لا يجوز له الصوم ، ولذا قَسَّمَ الفُقهاء الصوم الى : واجب ، وحرام ، وجائز ، لانّه قد يكون ترك الصوم رخصة وقد يكون ترك الصوم عَزيمة .

ثم حيث أشكل المستشكل على الاحتياط بأنّه ينافي قصد الوجه ردَّه المصّنف بما يلي :

أوّلاً : إنّه لا دليل على لزوم الوجه .

ص: 25

وثالثا : سلّمنا تقديم الامتثال التفصيليّ ولو كان ظنيّاً على الاجماليّ ، ولو كان علميّاً ، لكنّ الجمعَ ممكنٌ بين تحصيل الظّن ، في المسألة ومعرفة الوجه ظنّاً والقصد على وجه الاعتقاد الظنيّ والعمل على الاحتياط .

مثلاً ، اذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ، فيأتي بالقصر بالنيّة الظنيّة الوجوبية ويأتي بالاتمام بقصد القربة إحتياطا .

وكذلك اذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في الصلاة ، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ،

-------------------

ثانياً : إنّه على تقدير لزومه ، إنّما فيما اذا علم الوجه ، لا ما اذا جهله كحالة الانسداد .

( وثالثاً : ) إنّه يمكن للمكلّف أن يجمع بين الاحتياط وبين قصد الوجه ، فيجمع بين الاحتياط في العمل وبين العمل بالظن ، كما قال : ( سلّمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنيّاً ، على الاجمالي ولو كان علميّاً لكن الجمع ممكنٌ بين تحصيل الظنّ في المسألة ) حسب الانسداد ( ومعرفة الوجه ظنّاً والقصد ) اليه ، أي : الى ذلك الوجه ( على وجه الاعتقاد الظني و ) بين ( العمل على الاحتياط ) فالعمل بالظنّ الانسدادي لا ينافي الاحتياط عملاً .

( مثلاً : اذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ) ورجوع أربعة فراسخ ، وانّه لا يحتاج القصر الى ذهاب ثمانية فراسخ امتداداً ( فيأتي بالقصر بالنيّة الظنّية الوجوبيّة ) حسب الظنّ الانسدادي ( ويأتي بالاتمام بقصد القربة احتياطاً ) وبذلك يجمع بين الظنّ والاحتياط .

( وكذلك اذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في الصلاة ، فينوي الصّلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ) أي : إنّ الصلاة الخالية عن السورة واجبة

ص: 26

ثم يأتي بالسورة قربة الى اللّه للاحتياط .

ورابعاً : لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا فنقول : إنّ الظنّ إذا لم يثبت حجّيته فقد كان اللازمُ بمقتضى العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط ، كما عرفت سابقاً . فاذا وجب الاحتياط حصل معرفةُ وجه العبادة وهو الوجوبُ ، وتأتي نيّة الوجه الظاهريّ كما تأتي في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من

-------------------

( ثم يأتي بالسورة قربة الى اللّه تعالى للإحتياط ) فانّه جمع بين العمل بالظنّ ، وبين العمل بالاحتياط .

( ورابعاً : لو أغمضنا عن جيع ما ذكرنا ) من الوجوه الثلاث في رد إشكال لمستشكل على الاحتياط بأنّه ينافي الوجه .

( فنقول : ) إنّكم قلتم : لا تأتي الانسدادي بالاحتياط لأنّه ينافي الوجه ، فيعمل بالعمل الظنيّ ليحرز الوجه ، ونحن نقول : إذا أتى الانسدادي بالظّن فالوجه ظاهري لا واقعي ، ومع الاحتياط أيضاً يكون الوجه ظاهرياً لا واقعياً ، فأي فرق بين العمل بالظّن أو بالاحتياط من جهة الوجه ؟ .

وذلك ( إنّ الظّن إذا لم يثبت حجّيته ، فقد كان اللازم بمقتضى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة : هو الاحتياط - كما عرفت سابقاً - ) لأنّ الانسان إذا لم يتمكن من الامتثال التفصيلي ، وجَب عليه الامتثال الاجمالي بالاحتياط في أطرافه ( فاذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة : وهو الوجوب ) لأنّه وجب عليه الاحتياط حينئذ .

( و ) بذلك ( تأتي نيّة الوجه الظّاهري ) حينما علم بالوجوب ( كما تأتي في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من

ص: 27

باب الاحتياط وإستصحاب الاشتغال ، فتأمّل .

فتحصّل ممّا ذكرنا أن العمدةَ في ردّ الاحتياط هو ماتقدّم من الاجماع ولزوم العُسر دون غيرهما ، إلاّ أنّ هناك شيئاً ينبغي أن ينبّه عليه ، وهو

-------------------

باب الاحتياط واستصحاب الاشتغال ) فانّه كما يأتي الوجه في الاحتياط وفي الاستصحاب الفقهائي ، كذلك يأتي في الاحتياط الانسدادي .

والحاصل : إنّه يمكن قصد الوجه مع الاحتياط ، وإن كان هو الوجه الظاهري لا الواقعي ، كما يمكن مع العمل بالظّن ذلك ، إذ مع وجوب الاحتياط يجب الفعل أو الترك فيأتي بالفعل أو يتركه بهذا الوجه الظاهري ، وفي باب الظن الانسدادي لا يتمكن أن يحصل الانسان أكثر من الوجه الظاهري ، فكما يكفي في باب الظّن الوجه الظاهري ، كذلك يكفي في باب الاحتياط الوجه الظاهري .

( فتأمّل ) قال الآشتياني في وجه التأمل : قد يناقش في هذا الوجه الرابع : بأن وجوب كل من المحتملين أو المحتملات في موارد العلم الاجمالي وجوب عقلي ارشادي محض ، لا دخل له بوجوب المعلوم بالاجمال في حكم الشارع ، فقصد هذا الوجوب كمعرفته ليس قصداً للوجوب الواقعي يقيناً ، كما إن معرفته ليست معرفة له ، فلا يجُدي على القول بوجوب معرفة الوجه أو قصد الوجه جداً.

( فتحصّل ممّا ذكرنا : انّ العمدة في ردّ الاحتياط ) وإنّه لا يجب الاحتياط عند إنسداد باب العلم والعلميّ بإتيان جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ( هو ما تقدّم : من الاجماع ولزوم العُسر ، دون غيرهما ) ممّا ذكروه لردّ الاحتياط .

( إلاّ أنّ هناك شيئاً ينبغي أن ينبّه عليه ، وهو ) ما حاصله : إن القائلين بالانسداد يقولون بحجّية الظّن المطلق كالعلم ، وبترك المشكوكات والموهومات رأساً ، والحال إنّ ما إستدلّوا به من الاجماع والعُسر على عدم الاحتياط التام في جميع

ص: 28

أنّ نفي الاحتياط بالاجماع والعسر لا يُثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها .

ويندفع العُسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاً أو بعضاً بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة ،

-------------------

المظنونات والمشكوكات والموهومات ، لا يدل إلاّ على ترك الاحتياط بقدر العُسر ، فإذا كان هناك الف مسألة - مثلاً - ثلثها مظنونات ، وثلثها موهومات ، وثلثها

مشكوكات ، وكان العُسر في الثلث فقط ، ترَكَ الموهومات وأتى بالمظنونات والمشكوكات ، أو في السُدس فقط ، ترك نصف الموهومات وأتى بالمظنونات والمشكوكات ، ونصف الموهومات ، أو في الثلثان فقط ، ترك الموهومات والمشكوكات معاً ، وهكذا .

إذن : فلا يكون نتيجة دليل الانسداد العمل بالظّن ، بل ترك العُسر من العمل بالاحتياط المطلق ، ويعمل بما بقي ، سواء كان ما بقي مظنوناً فقط أو مع المشكوكات أو مع بعض الموهومات أيضاً .

هذا بعض ما ذكره المصنّف ، ويأتي بعضه الآخر فيما بعد إنشاء اللّه تعالى ، أما ما ذكره الآن فهو : ( انّ نفي الاحتياط بالاجماع والعُسر لا يثبت ) هذا الظن ( إلاّ انّه لايجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها ) .

( ويندفع العُسر ) عن المكلّف ( بترخيص ) المكلَّف ( موافقة الظّنون المخالفة للاحتياط كلاً أو بعضاً ) فاذا لم يكن عُسر في كل الظّنون عمل بكل الظنون ، وإذا كان في كل الظنون عُسر عمل ببعض الظّنون القوية وترك الظّنون الضعيفة .

وعليه : فليس رفع العُسر دليلاً لحجية الظنّ مطلقاً ، بل هو ( بمعنى : عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة ) التي هي تقابل الظّنون ، فإذا ظن - مثلاً -

ص: 29

لأنّها الأولى بالاهمال .

إذا ساغ لدفع الحرج تركُ الاحتياط في مقدار مّا من المحتملات يندفع به العُسر ، ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار . لما تقرّر في مسألة الاحتياط ، من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الاتيان بمحتملات وقام الدّليل الشرعيّ على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر ،

-------------------

بألف حكم وجوبي ، فإن في طرف هذه الظّنون ألف وهم وجوبي أيضاً ، مثل إنّه ظنّ بوجوب الجمعة ووهم وجوب الظهر ، فانّه يأتي بالجمعة لمكان الظّنّ ويترك الظهر لمكان الوهم ، لأن إتيانه بألفي حكم عُسر ، فإن لم يكن عُسر في الألفين الزم الاتيان بالجميع .

وإنّما يترك الوجوبات الموهومة ويأتي بالوجوبات المظنونة فقط ( لأنّها ) أي : الاحتمالات الموهومة هي ( الأولى بالاهمال ، إذا ساغ - لدفع الحرج - ترك الاحتياط ) « وترك الاحتياط » : فاعل « ساغ » أي : إذا جاز ترك الاحتياط ( في مقدار مّا من المحتملات ، يندفع به ) أي : بترك الاحتياط في ذلك المقدار ( العُسر ) فاعل « يندفع » ( ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ).

وإنّما نقول : بأنّ دليل الاحتياط لا يثبت الظنّ وإنّما يسقط العُسر فقط ، ولذا يسقط بعض الظنّ أيضاً ، وقد يثبت بعض الشك أيضاً ( لِما تقرر في مسألة الاحتياط : من انّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الاتيان بمحتملات ) عدة ( وقام الدّليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظّاهر ) أي لا واقعاً .

وإنّما قال في الظاهر : لأنه من المحتمل الوجوب في الواقع بالنسبة الى هذا

ص: 30

تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم يسقط وجوب الاحتياط رأساً.

توضيحُ ما ذكرنا : إنّا نفرض المشتبهات التي علم إجمالاً بوجود الواجبات الكثيرة فيها بين مظنونات الوجوب ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب ، وكان الاتيانُ بالكلّ عسراً أو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع تعيّن تركُ الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب ،

-------------------

الذي يريد تركه ، كما إذا كان له عشرة ثياب أحدها طاهر ، لكنّه لا يتمكن من عشر صلوات في كل الثياب لمكان العُسر ، وإنّما يتمكن من تسع صلوات ، فاذا أتى بتسع صلوات كانت العاشرة لا جل العسر غير واجبة في الظاهر ، لكن من المحتمل وجوبها في الواقع ، بأن كان الثوب العاشر هو الطاهر ، والذي كان يكلّف بالصلاة فيه لو كان عالماً بالواقع .

إذن : ففي صورة عُسر بعض المحتملات ( تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ، ولم يسقط وجوب الاحتياط رأساً ) فان العُسر بقدره يسقط من الموهومات والمشكوكات وحتى من المظنونات ، لا إنّه يجعل الظنّ حجّة مطلقاً ، كما يدعيه من يقول بحجّية الظّن الانسدادي .

( توضيح ما ذكرنا : إنّا نفرض المشتبهات الّتي علم إجمالاً بوجود الواجبات ) والمحرمات ( الكثيرة فيها ، بين مظنونات الوجوب ، ومشكوكات الوجوب ، وموهومات الوجوب ) وكذلك بالنسبة إلى مظنونات التحريم ومشكوكاته وموهوماته ( وكان الاتيان بالكلّ عَسِراً ، أو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع ) بأن قام الاجماع على نفي الاحتياط لا على حجّية الظّن مطلقاً ( تعّين ترك الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب ) فقط إذا كان ترك

ص: 31

بمعنى أنّه اذا تعلّق ظنّ بعدم الوجوب لم يجب الاتيان .

وليس هذا معنى حجّية الظنّ ، لأنّ الفرق - بين المعنى المذكور ، وهو أنّ مظنون عدم الوجوب لا يجب الاتيان به ، وبين حجّية الظنّ بمعنى كونه في الشريعة معياراً لامتثال التكاليف الواقعية نفياً وإثباتاً .

وبعبارة اخرى : الفرقُ بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة وبين جعل الظن فيها حجّة - هُو أنّ الظنّ إذا كان حجّة في الشرع ، كان الحكمُ في الواقعة الخالية عنه الرجوع إلى ما يقتضيه الأصلُ في تلك الواقعة

-------------------

الموهومات ينفي العسر ، أما المشكوكات والمظنونات فيأتي بهما لعدم العسر فيهما .

وإنّما قلنا : يتعين ترك الاحتياط في الموهومات ( بمعنى : انّه إذا تعلّق ظنّ بعدم الوجوب ، لم يجب الاتيان ) كما مثلنا له بالظنّ بوجوب الجمعة ، والوهم بوجوب الظهر ، فانّه يأتي بمظنون الوجوب ويترك موهوم الوجوب .

( وليس هذا ) الترك للعُسر ، هو ( معنى حجّية الظنّ ) كما عرفت ( لأنّ الفرق بين المعنى المذكور وهو : إنّ مظنون عدم الوجوب لا يجب الاتيان به ، وبين حجّية الظّن بمعنى : كونه في الشريعة معياراً لامتثال التكاليف الواقعية نفياً واثباتاً ) فيكون الظّنّ قائماً مقام العلم فإنّ الفَرقَ بينهما واضح .

( وبعبارة أخرى : الفرق بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة ، وبين جعل الظّن فيها حجّةً ) حيث إنّ الأول ، ملازم لترك العُسر ، والثاني ، لا يلازم ترك العُسر ( هو : إنّ الظّن إذا كان حجّة في الشرع ، كان الحكم في الواقعة الخالية عنه : الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ) فكما إنّه في حال الانفتاح يرجع

ص: 32

من دون التفات إلى العلم الاجماليّ بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات إذ حال الظنّ حينئذ كحال العلم التفصيليّ والظن الخاصّ بالوقائع ، فيكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلاً أو ما هو بمنزلة المعلوم وبين مشكوكة الوجوب رأساً .

-------------------

الى الأصل فيما لم يكن علم ، كذلك إذا كان الظّن حجّة في حال الانسداد يلزم الرجوع الى الأصل إذا لم يكن ظنّ .

هذا هو معنى حجّية الظّنّ بقول مطلق في حال الانسداد ، ولكن ليس الأمر كذلك وإنّما يلزم نفي الأحكام بقدر العُسر فقط ، فاذا لم يكن ظنّ لكل كان العمل بالشك أو الوهم غير عسير ، لزم العمل بهما لا العمل بالأصل .

والحاصل : إنّا نعمل بالظنّ ونترك ما سواه ( من دون التفات إلى العلم الاجمالي بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات ) وإن لم يكن عسر في غير المظنونات أيضاً ( إذ حال الظّن حينئذ ) أي : إذا كان الظنّ حجة في الشرع ( كحال العلم التفصيليّ و ) كحال ( الظّن الخاص بالوقائع ) كالخبر الواحد عند من يراه حجة ، فكما نأخذ بالخبر ونترك ما سواه للاصول ، ونأخذ بالعلم ونعمل فيما سواه بالاصول ، كذلك إذا كان الظّنّ حجّة نأخذ بالظّن ونعمل بالاصول فيما سوى المظنونات .

وعليه : ( ف ) كما انّه ( يكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلاً ، أو ما هو بمنزلة المعلوم ) فيما إذا كان خبر الواحد حجّة ( وبين مشكوكة الوجوب رأساً ) ويرجع في مشكوك الوجوب إلى البرائة في موردي : العلم ، وما كان بمنزلة العلم ، يكون الظنّ حينئذ كذلك ، بأن يكون المظنون حجّة ، وفيما عدا المظنون يرجع

ص: 33

وأمّا إذا لم يكن الظنُّ حجّةً - بل كان غاية الأمر ، بعد قيام الاجماع ونفي الحَرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة التي عُلِمَ إجمالاً بوجود التكاليف بينها ، عدم وجوب الاحتياط بالاتيان بما ظُنَ عدمُ وجوبه ، لأنّ ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلافُ الاجماع وموجبٌ للعسر - كان اللازمُ في الواقعة الخالية عن الظنّ الرجوعَ الى ما يقتضيه العلم الاجمالي -

-------------------

الى البرائة .

( وأما إذا لم يكن الظّن حجّة ) لأنّه لا دليل على حجّية الظّن ( بل كان غاية الأمر - بعد قيام الاجماع ، ونفي الحَرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة ) من الوقائع ( التي علم إجمالاً بوجود التكاليف بينها - عدم وجوب الاحتياط ) و« عدم » خبر قوله : « بلّ كان غاية الأمر » أي : غاية الأمر : عدم وجود الاحتياط ( بالاتيان بما ظنّ عدم وجوبه ) أي : بالموهومات ، كما مثّلنا له سابقاً بالظّن بعدم وجوب الظهر في يوم الجمعة .

وعليه : فمعنى عدم وجوب الاحتياط : انّه لا يأتي بالظهر الموهوم وجوبه ( لأن ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلاف الاجماع ، وموجب للعُسر ) فالاجماع والعسر يرفعان الاحتياط في الموهومات ، فإذا كانت المظنونات يجب العمل بها فالموهومات لا يجب العمل بها .

ثم يبقى العمل بالمشكوكات لأنّ المشكوكات طرف للاحتياط والعلم الاجمالي أيضاً ، وهو ما أشار اليه بقوله : ( كان اللازم في الواقعة الخالية عن الظّن ) أي : الظن بعدم التكليف ، سواء ظنّ بالتكليف أو شك فيه ، والمراد هنا : الشك في التكليف ، فاللازم حينئذ في المشكوكات ( الرّجوع الى ما يقتضيه العلم الاجمالي

ص: 34

المذكور من الاحتياط ، لأنّ سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات لا يقتضي سقوطه في المشكوكات ، لاندفاع الحرج بذلك .

وحاصلُ ذلك : انّ مقتضى القاعدة العقلّية والنقليّة لزومُ الامتثال العلميّ التفصيليّ للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالاً .

ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو الاحتياط المطلق .

ومع تعذّره لو دار الأمرُ بين الامتثال الظنّيّ في الكلّ وبين

-------------------

المذكور : من الاحتياط ) .

إذن : فليس كما قلتم أنتم الانسداديون : بأنّ اللازم : الظّن فقط ، بلّ اللازم : الظن والشك معاً لأنَّ كُلاً من الظنّ والشك طرف للعلم الاجمالي ، وذلك ( لأنّ سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات ) للاجماع والعسر ( لا يقتضي سقوطه ) أي سقوط الاحتياط ( في المشكوكات ) وإنّما لا يسقط في المشكوكات ( لاندفاع الحرَج بذلك ) أي : بسقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات .

( وحاصل ذلك : ) أي الدّليل العقلي في كيفية الامتثال ( إنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة : لزوم الامتثال العلميّ التفصيليّ للأحكام ، و ) لزوم إتيان ( التكاليف المعلومة إجمالاً ) لأنّا نعلم إجمالاً بأحكام كثيرة ، ثم نرجع إلى الامتثال العلمي التفصيلي فنجده بقدر الكفاية ، وهذا أول المراحل .

( ومع تعذره ) أي : تعذر الامتثال العلمي التفصيلي بأن لم يكن بقدر الكفاية ( يتعيّن الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو الاحتياط المطلق ) في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وهذا ثاني المراحل .

( ومع تعذّره ) لأنّ الانسان لايتمكن من الاحتياط المطلَق ( لو دار الأمر بين الامتثال الظّني في الكل ) بأن يعمل بالظنّ فقط ويترك المشكوك والموهوم ( وبين

ص: 35

الامتثال العلميّ الاجماليّ في البعض ، والظنّيّ في الباقي كان الثاني هو المتعيّن عقلاً ونقلاً .

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّيّ ودار الأمرُ بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالاطاعة الظنيّة وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعيّن .

ودعوى لزوم الحرج أيضاً من الاحتياط في المشكوكات ، خلافُ الانصاف ،

-------------------

الامتثال العلمي الاجمالي في البعض ، والظّنّي في الباقي ) بأن يعمل بالظّنّ والشك ، ويترك الوهم فقط ( كان الثاني هو المتعيّن عقلاً ونقلاً ) وذلك لأنّ العلم الاجمالي يلزمه بالاحتياط مادام لم يكن عُسراً ، والاحتياط ممكن في المظنونات والمشكوكات ، فلماذا يُترَك في المشكوكات ؟ .

وعليه : فليس مقتضى دليل الانسداد : حجّية الظّنّ فقط ، بلّ حجّية المظنونات والمشكوكات وترك الموهومات فقط .

إذن : ( ففيما نحن فيه ) حيث إنسد باب العلم والعلمي ( إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ) في جميع الموهومات والمشكوكات والمظنونات (ودار الامر بين إلغائه) أي : الاحتياط ( بالمرّة ، والاكتفاء بالاطاعة الظّنية ) فقط ( وبين إعماله ) أي : الاحتياط ( في المشكوكات والمظنونات ، وإلغائه ) أي : الاحتياط ( في الموهومات ، كان الثاني ) وهو : إعمال الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ( هو المتعّين ) لِما عرفت : من إنّه مقتضى الاحتياط .

( ودعوى لزوم الحرَج أيضاً من الاحتياط في المشكوكات ) فاللازم الاحتياط في المظنونات فقط وترك الموهومات والمشكوكات ( خلاف الانصاف ) .

ص: 36

لقّلة المشكوكات ، لأنّ الغالبَ حصول الظنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم .

اللّهم إلاّ أن يدّعى قيامُ الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضاً .

وحاصله : دعوى أنّ الشارع لا يريد الامتثال العلميّ الاجماليّ في التكاليف الواقعّية المشتبهة بين الوقائع .

فيكون حاصل الاجماع دعوى إنعقاده على أنّه لا يجب شرعاً إلا طاعة العلميّة الاجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقاً ، لا في الكلّ ولا في البعض .

-------------------

وإنّما كان خلاف الانصاف ( لقلة المشكوكات ) .

وإنّماكانت المشكوكات قليلة ( لأن الغالب حصول الظّنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم ) وهكذا حصول الظّنّ إمّا بالحرمة ، وإمّا بعدم الحرمة .

( اللّهم إلاّ أن يدّعى قيام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضاً ) وحينئذ يكون دليل الانسداديين بضميمة الاجماع دالاً عليب حجّية الظّن فقط ، من دون أن يكون الواجب على الانسان العمل بالمشكوكات أيضاً .

( وحاصله : ) أي : حاصل الاجماع المذكور ( دعوى انّ الشارع لا يريد الامتثال العلمي الاجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقائع ) وإنّما يريد الشارع الامتثال العلمي الاجمالي في التكاليف التي هي مشتبهة بين المشكوكات أو بين الموهومات فلا يريدها الشارع .

وعليه : ( فيكون حاصل الاجماع : دعوى انعقاده ) أي : إنعقاد الاجماع ( على انّه لا يجب شرعاً ) الاحتياط التام وهو : ( الاطاعة العلميّة الاجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقاً ) فلا يريد الشارع كل الوقائع المشكوكة ( لا في الكل ) الشامل للموهومات والمشكوكات والمظنونات ( ولا في البعض ) الشامل للمشكوكات

ص: 37

وحينئذٍ : تعّين الانتقال إلى الاطاعة الظنيّة .

لكن الانصافَ : أنّ دعواه مشكلة جدّاً وإن كان تحققه مظنوناً بالظنّ القويّ ، لكن لا ينفع مالم ينته إلى حدّ العلم .

فان قلت :

-------------------

والموهومات ، فكأنّ الشارع قال : لا أُريدُ منكَ كُلّ التكاليف الواقعية حتى تحتاط في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولا أريد منك التكاليف الواقعية التي هي مشتبهة في المشكوكات والموهومات .

( وحينئذ ) أي : حين بطل الاحتياط المطلَق ، وبطل الاحتياط في المشكوكات والموهومات ( تَعيّن الانتقال إلى الاطاعة الظنيّة ) فما ظنّ وجوبه فعله ، وما ظنّ حرمته تركه ، أما ما شك في وجوبه أو حرمته ، أو توهم وجوبه أو حرمته ، فلا يعمل به .

هذا ( لكنّ الانصاف إنّ دعواه ) للاجماع هذه ( مشكلة جداً وإن كان تحقّقه ) أي : تحقق مثل هذا الاجماع ( مظنونا بالظّنّ القوي ، لكن لا ينفع ) مثل هذا الظن القوي ( مالم ينته الى حدّ العلم ) لأنّه إثبات لحجّية الظّنّ بالظّنّ ، وهو مصادرة - كما لا يخفى - إذ معناه : إنّ اللازم هو العمل بالظّنّ فقط لأناّ نظن بوجود الاجماع، ومن المعلوم : إنّ الدليل إذا كان عين المدعى كان مصادرة .

( فان قلت : ) إذا قام الاجماع على بطلان وجوب الاحتياط في المشكوكات والموهومات ، فاللازم الظنّ ببطلان الاحتياط فيهما ويكون المرجع في المشكوكات والموهومات : الاُصول الجارية في مورد الموهومات والمشكوكات ، لأنّ العلم الاجمالي سقط بواسطة الاجماع ، فتكون الاصول العمليّة مظنونة الاعتبار في المشكوكات والموهومات ، إذ لا فرق في نتيجة

ص: 38

إذا ظُنَّ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فقد ظُنّ بأنّ المرجعَ في كلّ مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فتصير الاُصول مظنونّة الاعتبار في المسائل المشكوكة .

فالمظنون في تلك المسائل عدمُ وجوب الواقع فيها على المكلّف وكفاية الرّجوع إلى الاُصول .

وسيجيء أنّه لا فرق في الظنّ الثابت حجّيتّه بدليل الانسداد بين الظنّ المتعلّق بالواقع وبين الظن ّ المتعلّق بكون شيء طريقاً إلى الواقع

-------------------

الانسداد - كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى - بين الظّنّ بالحكم أو الظّنّ بالطريق .

ومن المعلوم : إنّ الظّنّ بالاُصول العمليّة ظنّ بالطرّيق ، فأنّه قد يظنّ انّ اللازم - مثلاً - صلاة الجمعة، وقد يظنّ إنّ الاستصحاب حجّة ، والاستصحاب يقول ببقاء وجوب الجمعة منذ زمان الرسول الى هذا اليوم ، فالنتيجة : وجوب الجمعة أيضاً .

وعليه : فانّه ( إذا ظُنَ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فقد ظنّ بانّ المرجع في كل مورد منها ) أي : من المشكوكات ( إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ) من البرائة ، أو الاحتياط ، أو الاستصحاب ، أو التخيير ( فتصير الاُصول ) الأربعة هذه ( مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ) التي قد شك في حكمها بانّها واجبة أو ليست بواجبة ، أو إنّها محرمة أو ليست بمحرمة ؟ .

إذن : ( فالمظنون في تلك المسائل ) المشكوكة ، هو : ( عدم وجوب الواقع فيها على المكلّف ) فلا يريد الشارع الواقع منه ( وكفاية الرّجوع الى الاُصول ) العملية فيها .

هذا ( وسيجيء : انّه لا فرق في الظن الثابت حجّيته بدليل الانسداد ، بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظنّ المتعلّق بكون شيء طريقاً الى الواقع ) كالظّن بأنّ خبر

ص: 39

وكون العمل به مُجزياً عن الواقع وبدلاً عنه ولو تخلّف عن الواقع .

قلت :

-------------------

الواحد حجّة ، أو الشهرة ، أو الاجماع حجّة ، أو إنّ الاُصول يلزم العمل بها ( و ) بين الظنّ المتعلق ب- ( كون العمل به مجزياً عن الواقع وبدلاً عنه ) كالظنّ - مثلاً - بوجوب الجمعة ، حتى ( ولو تخلّف عن الواقع ) هذا الظنّ .

والحاصل لان قلت هو : إنّه لو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط لزم منه الرّجوع في المشكوكات والموهومات الى الاُصول ، والاُصول في المشكوكات والموهومات مظنونة الاعتبار ، فيكون الظنّ حجّة مطلقاً : في المظنونات للانسداد ، وفي المشكوكات والموهومات لجريان الأصل المستند ذلك الأصل الى الاجماع ، ومن المعلوم : إن الاجماع ظني الاعتبار ، ففي الكل يكون المرجع : الظنّ .

( قلت : ) هذا الكلام منكم يبطل كون حجّية الظن من باب الانسداد لأنه صار الظّن حجّة من جهة الاجماع المذكور ، إذ العمل بالاصول في المسائل المشكوكة والموهومة فرع عدم العلم الاجمالي فيها ، فانّه لو كان في المسائل المشكوكة والموهومة علم إجمالي ، لم يرجع فيها الى الاصول ، بلّ كان اللازم فيها : الاحتياط.

والعلم الاجمالي إنّما يرتفع إذا وجدت الحجّة في جملة من المسائل ، وذلك بان يكون هناك في بعض المسائل حجّة كافية ، دون بعضها الآخر ، فتكون تلك المسائل التي لا حجّة فيها مسرحاً للأصول ، ومن المعلوم : إنّ الحجّة الكافية - بحسب الفرض - ليست إلاّ الظّنّ الانسدادي .

والحاصل : إن الاجماع على الاُصول في المشكوكات والموهومات معناه :

ص: 40

مرجع الاجماع ، قطعيّاً أو ظنيّاً ، على الرجوع في المشكوكات الى الاصول هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي إنسدّ فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد للاُصول .

ومرجع هذا إلى دعوى الاجماع على حجّية الظنّ بعد الانسداد .

-------------------

الاجماع على حجّية الظّن في غير المشكوكات ، فان ( مرجع الاجماع ) سواء كان ( قطعيّاً أو ظنيّاً على الرّجوع في المشكوكات الى الاُصول : هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي إنسدّ فيها باب العلم ، حتّى تكون المسائل الخالية عنها ) أي : عن الحجّة الكافية ( موارد للأصول ) فانّ الاُصول إنّما تجري فيما لا حجّة ، ولازمه : أن توجد الحجّة في بعض المسائل دون البعض الآخر .

( ومرجع هذا ) أي : مرجع وجود الحجّة الكافية في غير المشكوكات والموهومات ( إلى دعوى الاجماع على حجّية الظن بعد الانسداد ) لا بسبب الانسداد .

والحاصل إنّ الظنّ يكون حجّة لكن لا بالاستناد الى الدّليل الانسدادي ، بل بالاستناد الى الاجماع المذكور ، ولهذا قال الآخوند رحمه اللّه في حاشيته على الرّسائل : « انّه إثبات حجّية الظّن بغير دليل الانسداد ، وهو ليس بالمراد ، وإن شئت قلت : ان حاصل كلام الشيخ في قوله « قلت » : إنّكم إذا إدّعيتم الاجماع على الرجوع الى الاصول في المشكوكات والموهومات كان إجماعكم هذا مبطلاً لدليل الانسداد ، لأنّ الاجماع المذكور يدلّ على حجّية الظّن في المظنونات ، لا انّ الظّن يكون حجّة حينئذ بدليل الانسداد » .

هذا ولا يخفى : انّ الكلامَ في المقام طويل - كما يظهر من حواشي الآخوند ، والآشتياني ، والأوثق ، وغيرهم - وانّما اكتفينا بهذا القدر لعدم التشويش

ص: 41

فان قلت : إذا لم يقم في موارد الشك ما ظنّ طريقيّته ، لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات أو المحرّمات الواقعية وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة إقتضاء القاعدة في نفس المسألة ؛ كما لو كان الشكّ فيه في المكلّف به .

-------------------

على ذهن الطالب .

( فان قلت ) في موارد الشكّ - بالمعنى المصطلح - بالحكم ، لا احتياط قطعا من جهة العلم الاجمالي العام ، وذلك للاجماع على عدم الاحتياط في موارد الشك ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم الاحتياط ، لانّ الظنّ حجّة في حال الانسداد .

بالاضافة الى انّه لو كان شك إصطلاحي فلا حكم للمشكوك ، لاجل الاجماع ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم لزوم الاحتياط ، فانّه ( إذا لم يقم في موارد الشك ) الاصطلاحي ( ما ظنّ طريقيّته ) الى الواقع ( لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه : أحد محتملات الواجبات أو المحرمات الواقعية ) فانّ الاحتياط إنّما يكون من جهة العلم الاجمالي العام ، وإنّما لا يجب الاحتياط للاجماع الذي سيأتي نقله .

وعليه : فالإحتياط لا يجب من تلك الجهة ( وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة إقتضاء القاعدة في نفس المسألة ، كما لو كان الشّك فيه ) أي : في ذلك المورد ( في المكلّف به ) فاذا شك في وجوب الجمعة ، لم يكن مقتضى العلم الاجمالي العام - بوجود أحكام في الفقه من أوله الى آخره - هو الاحتياط وإن لزم الاحتياط بالاتيان بالجمعة والظهر معاً ، من جهة انّه يعلم وجوب صلاة عليه في يوم الجمعة ويشك في إنّ المكلّف به هل هو الظهر أو الجمعة ؟ .

ص: 42

وهذا إجماعٌ من العلماء ، حيث لم يحتط أحدٌ منهم في مورد الشكّ من جهة إحتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ، وإن إحتاط الاخباريّون في الشبهة التحريميّة من جهة مجرّد إحتمال التحريم ، فاذا كان عدمُ وجوب الاحتياط إجماعيّاً مع عدم قيام ما يظنّ طريقيتّه على عدم الوجوب ، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة .

-------------------

( وهذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا يجب الاحتياط في موارد الشك ( إجماع من العلماء ، حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشّك ) إحتياطاً ( من جهة إحتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ) بل انّهم يَجرُون البرائة ( وإن إحتاط الاخباريون في الشّبهة التّحريميّة ) لا في الشبهة الوجوبيّة .

مثلاً : إذا شك في انّ التبغ حرام أم لا ؟ الاخباريون يحتاطون بالترك ، أمّا إذا شك في انّ الدّعاء عند رؤية الهلال واجب أم لا ؟ فالاخباريون لا يحتاطون بالاتيان .

وأما الاصوليون فمجمعون على انّه لا إحتياط إطلاقاً ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبيّة .

والحاصل : انّ الاخباريين يحتاطون في الشبهة التحريميّة ( من جهة مجرّد إحتمال التحّريم ) وإن لم يكن علم إجمالي ، وإنّما يحتاطون بجهة بعض الأخبار التي ذكروا إنّهم إستظهروا منها الاحتياط في الشبهات التحريمية .

وعليه : ( فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّاً مع عدم قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب ) أي : في مورد الشك الاصطلاحي ( فمع قيامه ) أي : قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب ( لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة ) فانّه إذا ظنّ بعدم الحكم ، فهو أولى بعدم الاحتياط ممّا إذا شك في الحكم .

ص: 43

قلتُ : العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشك ، لعدم العلم الاجماليّ لهم بالتكاليف ، بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلاً أو مظنون لهم بالظنّ الخاصّ وبين مشكوك التكليف رأساً؛ ولا يجب الاحتياطُ في ذلك عند المجتهدين بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبيّة .

والحاصلُ : أنّ موضوعَ عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظنّ

-------------------

( قلت : ) الاجماع الذي إدعيتموه ، ليس مورده ما نحن فيه - وهو حال الانسداد - بل مورده حال الانفتاح ، فسحبه الى مورد الانسداد يكون بلا مجوّز ، فان ( العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشكّ ، لعدم العلم الاجمالي لهم بالتّكاليف ) فانّ العلم الاجمالي العام منحل عندهم الى أطراف معلومة الحكم وأطراف مشكوكة ، ففي معلومة الحكم يعملون حسب ذلك الحكم ، وفي الأطراف المشكوكة يعملون بالبرائة ، كما قال : ( بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلاً أو مظنون لهم بالظّن الخاص ) كالخبر الواحد ، والاجماع ، وما أشبه ذلك ممّا هو حجّة ( وبين مشكوك التكليف رأساً ) ومشكوك التكليف في هذه الحالة هو مجرى البرائة ( ولا يجب الاحتياط في ذلك ) أي : في مشكوك التكليف ( عند المجتهدين ) مطلقاً ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبية .

( بل عند غيرهم ) من الاخباريين أيضاً ( في الشبّهة الوجوبيّة ) فانّ الاخباريين وإن قالوا بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، لكنهّم متفقون مع المجتهدين في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية .

( والحاصل : انّ موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظّن

ص: 44

الخاصّ مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد؛ وقد نبّهنا على ذلك غير مرّة في بطلان التمسّك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لِعمَل العلماء ، فراجع .

ويحصل ممّا ذكر إشكالٌ آخرٌ أيضاً من جهة أنّ نفي الاحتياط بلزوم العُسر لا يوجب كون الظنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة

-------------------

الخاص ، مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد ) فلا يمكن سحب إجماعهم الذي هو في حال الانفتاح الى حال الانسداد ( وقد نبّهنا على ذلك ) التغاير وعدم الانسحاب ( غير مرّة في بطلان التمسك على بطلان البرائة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء ) وقلنا : بانّ عمل العلماء إنّما هو في حال الانفتاح ، فلا ينسحب الى حال الانسداد ( فراجع ) ما ذكرناه غير مرة مفصلاً .

والحاصل من الاشكال بأن قلت : انّ الظّنّ حجّة ، كما انّ الخبر الواحد حجّة على مدعى الانسدادي ، وحاصل جواب الشيخ ب« قلت » : انّه لم يثبت بذلك كون الظّنّ حجّة .

( ويحصل ممّا ذكر ) آنفاً : من انّه لا دليل على كون الظّن حجّة شرعاً حتى يكون كالخبر الواحد ( إشكالٌ آخرٌ أيضاً ) وهو : انّ معنى حجّية الظّنّ الّذي يدّعيه الانسدادي : إنّ الظّن في حال الانسدادي يكون - كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته - مخصصاً ومقيّداً ومبيّناً للعام والمطلق والمجمل وما أشبه ، والحال إن ذلك لا يثبت بدليل الانسداد .

وعليه : فهذا الاشكال هو ( من جهة انّ نفي الاحتياط ب- ) سبب ( لزوم العُسر لا يوجب كون الظّنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثّابتة بالظنون الخاصّة )

ص: 45

ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها .

ودعوى : « أنّ بابَ العلم والظنّ الخاصّ إذا فرض إنسداده سقط عموماتُ الكتاب والسنّة المتواترة وخبر الواحد الثابت حُجّيتّه بالخصوص عن الاعتبار للعلم الاجماليّ بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم ، فلا يبقى ظاهرٌ منها على حاله حتى يكون الظنّ الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد » ،

-------------------

أي : الاصول اللفظية : كالعام والمطلق والمُجمل ، وما أشبه ( و ) ل- ( مخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها ) أي في الظّنون الخاصة .

مثلاً : لا يكون الظّن سبباً لحمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب ، والنهي الظاهر في التحريم على الكراهة ، الى غير ذلك ممّا إذا كان الخبر حجّة عمل بكل ذلك .

( ودعوى ) إنّا لا نحتاج الى جعل الظّن بمنزلة الخبر الواحد في الامور المذكورة ، لأنه إذا حصل الانسداد لم تكن هناك ظواهر حجّة حتى تحتاج الى التخصيص والتقليد والصرف عن الظاهر الى غير الظاهر ، وذلك كما قال : ( انّ باب العلم والظّنّ الخاص إذا فرض إنسداده ، سقط عمومات الكتاب ، والسّنة المتواترة ، وخبر الواحد الثابت حجّيته بالخصوص ) سقوطاً ( عن الاعتبار ) .

وإنّما تسقط هذه الظواهر ( للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم ) فانّ ذلك السقوط هو مقتضى العلم الاجمالي المخالف لهذه الظواهر (فلا يبقى ظاهر منها) أي : من عمومات الكتاب والسنّة وما أشبه ( على حاله ) في الظهور ( حتى يكون الظّن الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد ) ومن باب صرف الظاهر عن ظاهره الى غير ظاهر ، مثل : صرف الأمر الى

ص: 46

مجازفةٌ ، إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص . مثل : « وأقيموا الصلاة » ، « وللّه على الناس حِجُّ البيت » ، وشبههما .

-------------------

الاستحباب و النهي الى الكراهة .

لكن هذه الدعوى ( مجازفة ) غير صحيحة ، اذ الخطابات الشرعيّة في الكتاب والسنّة على قسمين : الأول : ما صار مجملاً بسبب وجود تخصيص أو تقييد ، أو خلاف ظاهر يرجع الى بعضها ولا نعلم الى أيّ منها ؟ فيصير الجميع مجملاً .

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثم قال : أكرم الزّهاد ، ثم قال : لا تكرم الفُساق ، فاشتبه الأمر بانّه هل إستثنى الفسّاق من العلماء ، أو من الزّهاد ؟ فيكون وجوب الاكرام مجملاً بالنسبة الى أفراد كل من العنوانين ، وفي هذا القسم يكون كلام المدعي تاماً لانّه لا ظاهر حتى يستشكل الشيخ عليه : بأن الظن الانسدادي لا يتمكن من تخصيص أو تقييد أو صرف العمومات والمطلقات والظواهر عن ظواهرها .

القسم الثاني : مالم يصر مجملاً ، وهذا القسم لا يتمكن الظنّ الانسدادي من تقييده وتخصيصه ، وفي هذا القسم يرد إشكال الشيخ على القائل : بانّ الظّنّ الانسدادي يقوم مقام العلم والعلمي في حال الانسداد ( إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص مثل : « وأَقيمُوا الصَلاة » (1) « وَلِلهِ عَلى النَاسِ حِجُّ البَيتِ » (2) وشبههما ) فانّ مثل هاتين الآيتين قد علم إجمالهما ، لكثرة التخصيصات والتقييدات بالنسبة الى الصلاة والحجّ ونحوهما .

ص: 47


1- - سورة النور : الآية 56 0
2- - سورة آل عمران : الآية 97 0

وأمّا كثيرٌ من العمومات التي لا نعلم باجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنُّ بثبوت المجمل بينها ، لأجل طروّ التخصيص في بعضها . وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء اللّه تعالى ؛ هذا كلّه حال الاحتياط في جميع الوقائع .

وأمّا الرجوعُ في كل واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ، من غير التفات الى العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ

-------------------

( وأمّا كثير من العمومات التي لا نعلم بإجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنّ بثبوت المجمل بينها لأجل طروّ التخصيص في بعضها ) وحيث لم تكن هذه العمومات مجملة فهي باقية على إطلاقاتها وعموماتها ، فلا يتمكن الظّن الانسدادي من تخصيصها أو تقييدها أو صرف ظواهرها ، مثل صرف ظواهر الأمر من الوجوب الى الاستحباب .

هذا ، وقد أشار المصنّف الى القسم الأوّل من القسمين بقوله : « في غير الخطابات التي علم إجمالها » ، وأشار الى القسم الثاني بقوله : « وأمّا كثير من العمومات » .

( وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء اللّه تعالى ، هذا كله حال الاحتياط في جميع الوقائع ) وقد عرفت : إنّه غير واجب ، أو غير جائز إذا إستلزم إختلال النظام بعد أن سدّ باب العلم والعلمي بالأحكام .

(وأمّا الرّجوع في كل واقعة) واقعة (الى ما يقتضيه الأصل) العملي (في تلك الواقعة) من الاُصول الأربعة (من غير التفات الى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن) لا يلاحظ العلم الاجمالي العام ، وإنما (يلاحظ

ص: 48

نفسُ الواقعة : فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه إستصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر . وإلاّ فان كان الشكّ في أصل التكليف ، كشرب التتن ، أجرى البراءة ، وإن كان الشك في تعيين المكلّف به ، مثل القصر والاتمام : فان أمكن الاحتياط وجب ، والاّ تخيّر ، كما إذا كان الشكّ في تعيين التكليف الالزاميّ ، كما إذا دار الأمرُ بين الوجوب والتحريم .

-------------------

نفس الواقعة ) منفردة عن سائر الوقائع .

( فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه ) بأن كَمَّلَ أركان الاستصحاب ( إستصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ) حيث نجري إستصحاب النجاسة .

( وإلاّ ) يكن له حالة سابقة بأن لم تتم أركان الاستصحاب ( فان كان الشّك في أصل التكليف كشرب التتن أجرى البرائة ) وكذلك بالنسبة الى الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فانّه يجري البرائة عن الوجوب أيضاً .

( وإن كان الشّك في تعيين المكلّف به ) بعد العلم بأصل التكليف ( مثل القصر والاتمام ) بأن شك المكلّف هل إنّ تكليفه القصر أو التمام ؟ ( فان أمكن الاحتياط ، وجَب ) مقدّمة لأداء التكليف المعلوم إجمالاً .

( وإلاّ ) بأن لم يمكن الاحتياط ( تخيّر ، كما إذا كان الشّك في تعيين التكليف الالزامي ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم ) حيث لايتمكن من الجمع بينهما ، فيتخير أحدهما من الاتيان وعدمه .

وكذا يتخيّر أحدهما إذا كان شكه بين أمرين ، من دون أن يكون أحدهما واجباً والآخر حراماً ، بل كانا واجبين أو محرّمين ، لكنّه لايتمكن من الجمع بينهما ، كما لو شك في وجوب كونه في كربلاء يوم عرفة أو كونه في عرفات ؟ .

ص: 49

ويردّ هذا الوجهَ انّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المخالف للإحتياط ، بل وكذا العلم الاجماليّ بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للإحتياط يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها إستصحابات ، وإن كان لايمنع من العمل بها من حيث الاحتياط ،

-------------------

( ويردّ هذا الوجه : إنّ العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ، يمنع عن اجراء البرائة ، والاستصحاب المخالف للاحتياط ) إذ لايجوز إجراء البرائة في أطراف العلم الاجمالي ، كما إنّه لايجوز إجراء الاستصحاب المخالف للاحتياط في أطرافه ، لأنّ العلم الاجمالي يقتضي الاشتغال لا البرائة والاحتياط لا خلاف الاحتياط .

( بل وكذا العلم الاجمالي بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط ، يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث أنّها إستصحابات وان كان لايمنع من العمل بها من حيث الاحتياط ) وانّما يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها إستصحابات ، لأنّ اليقين الّذي ينقض به اليقين أعم من الاجمالي والتفصيلي ، كما قرر ذلك في باب الاستصحاب .

مثلاً : إذا علم بعدم وجوب أحد أمرين : إمّا عدم وجوب صلاة الجمعة ، وإما عدم وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فكيف يتمكن من إستصحاب وجوب هذه ووجوب هذا ؟ فان الاستصحاب لايجري في أطراف العلم الاجمالي لاسلباً ولا إيجاباً .

إن قلت : لانقول : بالإستصحاب ، وإنّما نقول : بالاحتياط ، فيحتاط في إتيان صلاة الجمعة ، وفي إتيان الدّعاء عند رؤية الهلال ، وكذا في غير ذلك

ص: 50

لكنّ الاحتياط في جميع ذلك يوجب العُسر .

وبالجملة ، فالعملُ بالاُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزمٌ للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، وبالاُصول المُثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزمٌ للحرج .

وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين ، كما لا يخفى على المتأمّل .

وأمّا رجوعُ هذا الجاهل الذي إنسد عليه بابُ العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى

-------------------

من الأحكام الكثيرة .

قلت : ( لكن الاحتياط في جميع ذلك يُوجب العُسر ) والحَرج - كما قُرّر سابقاً - .

( وبالجملة : فالعمل بالاُصول النافية للتكليف في مواردها ) أي : في موارد الاُصول مثل : البرائة وإستصحاب العدم ( مستلزم للمخالفة القطعيّة الكثيرة ) وذلك ممّا لا يجوز .

( و ) العمل ( بالاُصول المثبتة للتكليف : من الاحتياط والاستصحاب ) المثبت للتكليف ( مستلزم للحَرج ) والعُسر - كما عرفت - .

( و ) عليه : فان ( هذا ) الذي ذكرناه : من المخالفة القطعيّة والحَرج ، إنّما هو ( لكثرة المشتبهات في المقامين ) في مقام الاُصول النافية ومقام الاُصول المثبتة ( كما لايخفى على المتأمّل ) لسِعة دائرة الابتلاء بالمسائل الفقهية من أوّل الفقه الى آخره .

( وأمّا رجوع هذا الجاهل ) الذي هو عالم في الحقيقة ، وإنّما يجهل بالأحكام لأنّه ( الّذي إنسدّ عليه باب العلم في المسائل المشتبهة ) بأن يرجع ( إلى فتوى

ص: 51

العالم بها وتقليده فيها ، فهو باطلٌ لوجهين : أحدُهما الاجماعُ القطعيُّ .

والثاني : أنّ الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص ، وأمّا الجاهل الذي يبذل الجهدَ وشاهَدَ مستَندَ العالم وغلّطه في إستناده إليه وإعتقاده عنه ، فلا دليلَ على حجّية فتواه بالنسبة إليه ، وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل .

فان من يخطئالقائل بحجيّة الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها ، كيف يجوز له متابعتهُ ؟ وأيّ مزيّة له عليه ؟

-------------------

العالم بها ) أي : بتلك المسائل ، وهو المجتهد الانفتاحي ( وتقليده : فيها ، فهو باطل لوجهين ) كما يلي : ( أحدهما : الاجماع القطعيّ ) فانّ أحد المجتهدين لا يجوز له الرجوع الى المجتهد الآخر قطعاً .

( والثاني : انّ الجاهل الّذي وظيفته الرّجوع الى العالم ، هو الجاهل العاجز عن الفحص ) عن الأدلة ( وأمّا الجاهل الّذي يبذل الجهد ، وشاهد مستَنَدَ العالم ، وغلّطه ) أي : غلّط العالم في إستناده الى هذا المستند ، فهو يغلّطه ( في إستناده إليه ) أي : إلى هذا المستند ( و ) في ( إعتقاده عنه ) أي : عن هذا المستند (فلا دليل على حجّية فتواه بالنسبة اليه ) أي : فتوى الانفتاحي بالنسبة الى الانسدادي ( وليست فتواه من الطرق المقررّة لهذا الجاهل ) الذي هو إنسدادي وإن كان عالماً.

( فإنّ من يخطّئالقائل بحجّية الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها ) ويقول بأنَّ آية النبأ لا دلالة لها على حجّية خبر الثقة أو خبر العادل ( كيف يجوز له ) أي : لهذا المخطّئ( متابعته ؟ ) أي : متابعة من يرى دلالة الآية ؟ .

ثم ( وأي مزيّة له ) أي : للانفتاحي ( عليه ؟ ) أي : على الانسدادي ، فان

ص: 52

حتّى يجب رجوُعه إليه ولا يجب العكس .

وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء ، من أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلاً في المسألة على التكليف كان حكمه الرّجوع إلى البراءة ، لا إلى مَنْ يعتقد وجود الدّليل على التكليف .

والحاصلُ : أنّ إعتقادَ المجتهد ليس حجةً على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد ، وأدلّةُ وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يُرادُ بها غير ذلك ،

-------------------

كُلاًّ منهما مجتهد كامل الاجتهاد ، فلا مزيّة للانفتاحي على الانسدادي ( حتى يجب رجوعه ) أي : الانسدادي ( إليه ) أي : الانفتاحي ( ولايجب العكس ) بأن يقال : إنّه يلزم على الانفتاحي أن يرجع الى الانسدادي .

( وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء : من انّ المجتهد إذا لم يجد دليلاً في المسألة على التكليف ، كان حكمه الرّجوع الى البرائة ، لا إلى من يعتقد وجود الدّليل على التكليف ) في تلك المسألة .

مثلاً : إذا فحص المجتهد ولم يجد دليلاً على وجوب صلاة الجمعة ، وكان هناك مجتهد آخر يستفاد وجوب صلاة الجمعة من الآية والرواية ، فانّه يرجع إلى البرائة ، لا إلى هذا المجتهد الذي يرى الوجوب .

( والحاصل : إنّ إعتقاد المجتهد ليس حجّة على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد ) المذكور ، ولو كان هذا المجتهد المعتقد أعلم ، لأنّ غير الأعلم يرى خطأه فكيف يتبعه ؟ .

( و ) أما ( أدلة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ) فانّه ( يراد بها ) أي : بتلك الأدلة ( غير ذلك ) . الذي نحن بصدده ، فان تلك الأدلّة لاتشمل رجوع المجتهد

ص: 53

لا مجرّد غير المعتقد ولو كان أعلم بالحكم .

ولا فرق بين المجتهدَين المختلفين في الاعتقاد وبين المجتهدَين اللّذين أحدهما إعتقد الحكمَ عن دلالة والآخر إعتقد فساد الدّلالة ، فلا يحصل له إعتقاد .

وهذا شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهداً كان أو مفتياً أو غيرهما .

-------------------

الى المجتهد ، بلّ هي تخص الجاهل ( لا مجرّد غير المعتقد ) فانّ الأدلّة لا تدل على رجوع غير المعتقد إلى المعتقد (ولو كان) ذلك المعتقد ( أعلم بالحكم ) منه.

( ولا فرق بين المجتهدَين المختلفين في الاعتقاد ، وبين المجتهدَين اللّذين أحدهما ، إعتقد الحكم عن دلالة ، والآخر إعتقد فساد تلك الدّلالة ) وخطأه فيها ( فلا يحصل له إعتقاد ) بها ، فانّه كما لايجوز رجوع المجتهد الّذي يرى وجوب الجمعة ، الى المجتهد الذي يرى حرمة الجمعة ، كذلك لايجوز رجوع المجتهد الذي يرى وجوب الجمعة لدلالة الآية المباركة عليها ، الى الآخر الذي يعتقد فساد تلك الدلالة .

وإن شئت قلت : إنّ المجتهد لايرجع أحدهما إلى الآخر ، سواء تطابقا في الايجاب أو في السلب ، أو أحدهما موجب والآخر سالب ، لأنّ أدلّة رجوع الجاهل الى العالم لاتشمل أمثال ذلك ، لأنّه ليس أحدهما بجاهل ، وإن إختلفا في الرأي والاعتقاد .

( وهذا ) الذي قلناه : من عدم الرجوع ، ليس خاصاً بالمجتهدين ، بل هو ( شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهداً كان أو مفتياً ، أو غيرهما ) كالمقوّم في باب التقويمات ، فانّه لايرجع العالم إلى العالم على ما عرفت .

ص: 54

المقدّمة الرابعة

في أنّه إذا وجب التعرضُ لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرّة كما هو مقتضي المقدّمة الثانية ، وثبت عدمُ وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه الى الاصول الشرعيّة ، كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة : تعيّن بحكم العقل التعرّضُ لامتثالها على وجه الظنّ بالواقع فيها ، إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظنّي بالظنّ الخاصّ المعتبر في الشريعة إمتثالٌ مقدمٌ على الامتثال الظنّي .

-------------------

( المقدّمة الرّابعة : في انّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة ، ولم يجز إهمالها بالمرّة ) لأنّه يوجب الخروج عن الدّين ( كما هو مقتضى المقدّمة الثانية ) وقد تقدّم بيانها .

( وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط ) لأنّه يوجب العُسر والحَرج ، أو إختلال النظام .

( و ) ثبت أيضاً ( عدم جواز الرجوع فيه ) أي : في الامتثال ( إلى الاُصول الشرعيّة ) أو فتوى الفقيه الانفتاحي ( كما هو مقتضى المقدمة الثالثة ) على ما تقدّم.

إذن : ( تعيّن بحكم العقل التّعرض لامتثالها على وجه الظّن بالواقع فيها ) أي : في تلك الأحكام ، وسيأتي إنشاء اللّه الكلام فيما إذا كان الظنّ بالطريق لا ظنّاً بالواقع ( إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظّنّي بالظّن الخاص المعتبر في الشريعة ) كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته ( إمتثال ) وهو : إسم ليس ( مقدمٌ على الامتثال الظّني ) كالقرعة ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك ، فلم يَبق إلاّ الامتثال الظّني .

ص: 55

توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلاً أو شرعاً التعرّضُ لإمتثال الحكم الشرعي فله مراتبُ أربع .

الأولى : الامتثال العلميُّ التفصيليّ ، وهو أنّ يأتي بما يعلم تفصيلاً أنّه هو المكلّفُ به ، وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطريق الشرعيّ وإن لم يُفِدْ العلم ولا الظنّ ، كالأصول الجارية في مواردها وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد .

-------------------

( توضيح ذلك : انّه إذا وجب عقلاً أو شرعاً التعرّض لامتثال الحكم الشرعيّ ، فله مراتب أربع ) بحسب مايراه العقل الحاكم في باب الاطاعة ؛ والشرع لو قال بذلك فانّما هو من باب الارشاد .

( الأولى : الامتثال العلميّ التفصيليّ ) بأن يعلم انّه حكم المولى فيتبعه ( وهو : أن يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به ) فيأتي به عن علم ، ( وفي معناه ) أي : في معنى الامتثال العلميّ التفصيلي ( ما إذا ثبت كونه هو المكلَّف به بالطّريق الشرعيّ ) الذي يعبّر عنه بالظنون الخاصّة ، كالظّنّ بحجّية خبر الواحد ، وما أشبه .

( وإن لم يُفِد العلم ولا الظّنّ ) أي : ظنّاً شخصياً ( كالأصول الجارية في مواردها ) فانّ الانسان المجتهد يجب عليه أن يتّبع الأخبار ، ويتّبع الاُصول في الموارد التي ليست فيها خبر ( و ) كذلك يجب على الانسان الجاهل إتّباع ( فتوى المجتهد بالنّسبة الى الجاهل العاجز عن الاجتهاد ) فان العقلاء يُلزمون الجاهل على أن يَرجِعَ إلى العالم ، والشارع لم يحدث طريقاً جديداً ، بل قرّر الطريق العقلائي .

نعم ، أضاف شروطاً الى شروط العقلاء كأن يكون العالم رجلاً ، عادلاً ، طاهر المولد ، إلى غير ذلك ممّا ذكروه في باب التقليد .

ص: 56

الثانية : الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو يحصل بالاحتياط .

الثالثة : الامتثال الظنيّ ، هو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به .

الرابعة : الامتثال الاحتماليّ ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه .

-------------------

( الثانية : الامتثال العلميّ الاجمالي ، وهو يحصل بالاحتياط ) لكن لاينبغيالاشكال في انّه في غير العبادات يجوز الاحتياط إذا لم يكن محذور خارجي ، فإذا قال المولى : إئت بكتاب الكفاية وهو يتمكن من معرفته تفصيلاً ، جاز له أن يأتي بكتابين يعلم بأنّ أحدهما كفاية .

نعم ، فيما إذا قال : أسقِ الحديقة ، لم يجز له أن يسقيها بمائين يعلم إنّ أحدهما حلوّ إذا كانت الحديقة تتضرّر بكثرة الماء ، أو بالماء المالح ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي فيها محذور خارجي .

( الثالثة : الامتثال الظّني ، وهو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلَّف به ) أو بما يظنّ أنّه التكليف ، فإذا ظنّ بأنّ الجمعة واجبة أتى بها دون الظهر ، وإذا ظنّ بأنّ التكليف الحرمة والوجوب لم يأت بالشيء .

( الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم ) مع عدم كون أحد الطرفين مظنوناً - كما هو المفروض - وعدم وجوب الاحتياط ، أو عدم جوازه ( أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط ، أو عدم إمكانه ) أي : إمكان الاحتياط ، أو إيجابه إختلال النظام ونحوه .

ومثال التعبّد ببعض محتملات المكلّف به : هو كما إذا كان له خمسون ثوباً

ص: 57

وهذه المراتب مترتّبة لايجوز بحكم العقل العدولُ عن سابقتها إلى لاحقتها إلاّ مع تعذّرها ، على إشكال في الأوّلين تقدّم في أوّل الكتاب .

وحينئذٍ : فاذا تعذّرت المرتبة الأُولى ولم تجب الثانيةُ تعيّنت الثالثةُ ، ولا يجوز الاكتفاء بالرّابعة .

فاندفع بذلك : ما زعمه بعضُ من تصدّى لردّ دليل الانسداد بأنّه

-------------------

أحدها طاهر فقط ، حيث لايتمكن من الاتيان بخمسين صلاة ، فيأتي بالميسور من تلك الصلوات .

( وهذه المراتب ) الأربع ( مترتّبة ) بمعنى : انّه ( لايجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها الى لاحقتها ، إلاّ مع تعذرها ) أي : مع تعذر السابقة ، وذلك ( على إشكال في الأوّلين ، تقدَّم في أوّل الكتاب ) وقد ألمعنا إليه هاهنا : بأنّه يجوز الاتيان بالإجمالي مع الامكان من التفصيليّ فيى غير العبادات قطعاً ، وفي العبادات أيضاً على التفصيل المتقدّم .

( وحينئذ : فإذا تعذّرت المرتبة الأولى ولم تجب الثّانية تعيّنت الثالثة ) وهي : الاتيان بالتكليف الظّني ، أو المكلّف به الظّنيّ ( ولايجوز الاكتفاء بالرّابعة ) من الامتثال الاحتمالي مع وجود الظّنّ ، كما إنّه لايجوز الاتيان بالموهوم مع وجود المظنون ، فإذا ظنّ بوجوب الجمعة لم يأت بالظهر وهو موهوم .

وكذا إذا كان المولى يريد إشتراء دار ، وهناك ثلاثة دور ، فالدّار الواسعة مظنون إرادة المولى لها ، والدار الضيّقة موهوم إرادة المولى لها ، أمّا الدار المتوسطة فمشكوك انّه يريدها أو لايريدها ، فانّه لايشتريها والحال إنّ الظّن موجودٌ .

( فاندفع بذلك مازعمه بعضُ من تصدّى لردّ دليل الانسداد ) فردّه ( :بأنّه

ص: 58

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالإحتياط وجوبُ العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع شيئاً آخر لانعلمه ، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لانعلمه .

فعلى المستدلّ سدُّ هذه الاحتمالات ، والمانع يكفيه الاحتمال .

توضيحُ الاندفاع - بعد الاغماض عن الاجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها - أنّ مجرّدَ إحتمال كون شيء غير الظّنّ طريقاً شرعيّاً لايوجب العدول عن الظنّ إليه ، لأنّ الأخذَ بمقابل المظنون قبيحٌ في مقام

-------------------

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البرائة ، و ) إبطال ( وجوب العمل بالإحتياط ) لا يلزم منه ( وجوب العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع ) في الاطاعة ( شيئاً آخر لانعلمه ) نحن بعينه ، وإن كنّا نحتمله إحتمالاً ( مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه ) كالإستحسانات ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك .

قال : ( فعلى المستدِّل ، سَدُّ هذه الاحتمالات ، و ) ذلك لأن ( المانع يكفيه الاحتمال ) فانّا نحتمل كون اللازم العمل بشيء آخر ، كالقرعة ونحوها ، لا العمل بالظّن ، فمن يريد إثبات العمل بالظّن فعليه الاثبات ، أما نحن المانعين ، فيكفينا الاحتمال .

( توضيح الاندفاع ) - إنّا - نحن المدّعين للزوم الأخذ بالظّن ، لنا دليل وهو العقل بحسب المراتب التي ذكرناها ، فالمانع الذي يقول بغير الظّن عليه الاثبات ، فإنّه ( بعد الأَماض عن الاجماع على عدم الرجوع الى القرعة وما بعدها ) من التقليد ، والمصالح المرسلة ، ونحوها ، نقول : ( إنّ مجرّد إحتمال كون شيء غير الظّنّ طريقاً شرعياً لايوجب العدول عن الظّن اليه ) .

وإنّما لايوجب العدول عن الظّنّ اليه ( لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام

ص: 59

إمتثال الواقع وإن قام عليه مايحتمل أن يكون طريقاً شرعيّاً ، إذ مجرّد الاحتمال لايجدي في طرح الطّرف المظنون ، فانّ العدولَ عن الظنّ إلى الوهم والشكّ قبيحٌ .

-------------------

إمتثال الواقع ) حيث الأمر دائر بين الشّك والظّن والوَهم ، والعقل والعقلاء يقدِّمون الظنّ عليهما - كما عرفت - ( وإن قام عليه ) أي : على غير المظنون ( مايحتمل أن يكون طريقاً شرعيّاً ) مثل : « القُرعَةُ لِكُلِّ أَمرٍ مُشكِل » (1) وقوله سبحانه : « يَأخُذُوا بِأحْسَنِها » (2) في مقام الاستحسان ، إلى غير ذلك من الأدلة التي ذكروها لغير الظّن ( إذ مجرّد الاحتمال ) غير المدعوم بالدلّيل القطعي ( لايجدي في طرح الطّرف المظنون ) .

وإنّما لايجدي لأنّه قال : ( فانّ العدول عن الظّنّ الى الوهم والشّك قبيح ) عقلاً وعقلائياً .

والفرق بين العقليّ والعقلائي : إنّ مايراه العقل لايجوز خلافه ، أمّا مايراه العقلاء فيجوز خلافه .

مثلاً : العقل يرى إستحالة إجتماع النقيضين أو عدم جواز كفران النعم ، والعقلاء يَرَوْنَ - مثلاً - السَير عن طرف اليمين في الشوارع ، فلهم أن يبدّلوا ذلك إلى السير من طرف اليسار ، فكُلّ عقلٍ عقلائيّ ، أمّا ليس كُلّ عقلائي بعقليّ ، فانّ العقلاء لايجوّزون خلاف العقل ، لكنّ العقل يجوّز خلاف العقلاء ، فبينهما عموم مُطلَق .

ص: 60


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3389 ، بحار الأنوار : ج91 ص234 ب2 ح7 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 .
2- - سورة الاعراف : الآية 145 .

والحاصلُ : أنّه كما لايحتاج الامتثال العلميّ إلى جعل جاعل ، فكذلك الامتثال الظنّي بعد تعذّر الامتثال العلميّ وفرض عدم سقوط الامتثال .

وإندفع بما ذكرنا أيضاً ما ربّما يتوهّمُ من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم إرتفاعه بالجهل وبين التزام العمل بالظنّ نظراً إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يُجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في إمتثاله .

توضيحُ الاندفاع :

-------------------

( والحاصل : إنّه كما لايحتاج الامتثال العلميّ إلى جعل جاعل ) ولو جعله كان إرشاداً محضاً ( فكذلك الامتثال الظّني بعد تعذر الامتثال العلميّ وفرض عدم سقوط الامتثال ) بأنّ كان الامتثال واجباً ولم يكن طريق علمي ، فانّ العقل والعقلاء يرجعون فيه إلى الظّنّ بلا جعل جاعل .

كما ( وإندفع بما ذكرنا أيضاً ) من كون الظّنّ طريقاً عقلياً بعد تعذّر الامتثال العلمي وفرض عدم سقوط الامتثال ( ما ربّما يتوهم من التّنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم ) « والحكم » فاعل « المجهولة » ( وعدم إرتفاعه ) أي : التكليف ( بالجهل ) فانّ الجهل لايرفع التكليف ( وبين إلتزام العمل بالظّن ) .

وإنّما زعم التنافي بين الأَمرين ( نظراً إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه ، فلايُجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في إمتثاله ) فيكون الاحتياط لازماً لا الرجوع الى الظنّ ، وذلك بحسب ماتقدّم من المراتب ، حيث إنّه إذا تَعذَّر العلم ، وهي المرتبة الأولى صارت المرحلة للمرتبة الثانية ، وهي الامتثال الاجمالي بالإحتياط .

( توضيح الاندفاع ) وخلاصته : بانّه لاينافي بقاء التكليف مع عدم وجوب

ص: 61

إنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمرُ بين محذورين من حيث الحكم أو من حيث الموضوع بحيث لايمكن الاحتياط ، فانّ الحكم بالتخيير لاينافي التزام بقاء التكليف ، فيقال : إنّ الأخذَ بأحدهما لايُجدي في إمتثال الواقع ،

-------------------

الاحتياط ، وذلك كما قال : ( إنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع ) هو ( : نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمر بين محذورين ) فإنّه لايراد به لزوم إحراز الواقع بما هو واقع ، بل اللازم أن يأتي بشيء ، بمعنى أنّه لم يسقط الحكم إطلاقاً .

فإنّه إذا تردد الأمر بين محذورين ( من حيث الحكم ) بأن لم يعلم إنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة ؟ ( أو من حيث الموضوع ) كما إذا تردّدت المرأة بين محلوفة الوطي ، أو محلوفة عدم الوطي ( بحيث لايمكن الاحتياط ) بالجمع بين الأمرين لأنّهما في طرفي نقيض ( فانّ الحكم بالتخيير لاينافي إلتزام بقاء التكليف ) إذ لو لم يكن تكليف جاز أن يترك في جمعة : الظهر ، ويأتي في جمعة ثانية بها ، كما إنّه جاز أن يترك الوطي ليلة ويطأ ليلة .

هذا لو لم يبق تكليف ، أمّا إذا قلنا ببقاء التكليف مع التخيير ( فيقال : ) أي : حتى يقال : ( إنّ الأخذ بأحدهما لايُجدي في إمتثال الواقع ) وذلك لأنّ المقصود من بقاء التكليف : انّه باق في الجملة ، لا أنّه يجب أن يأتي الانسان بما يطابقه قطعاً .

إذن : فالإلتزام ببقاء التكليف بالواقع مع كفاية الامتثال الظّني ، يكون نظير الالتزام ببقاء التكليف في جميع موارد الامارات المعتبرة الشرعيّة ، والظّنون الخاصة ، وموارد الاُصول ، الّتي لايقطع المكلّف مع الأخذ بها بأنّه أتى بالواقع

ص: 62

لأنّ المراد ببقاء التكليف عدمُ السقوط رأساً بحيث لايعاقب عند ترك المحتملات ، كُلاّ ، بل العقل يستقلّ بإستحقاق العقاب عند الترك رأساً ، نظير جميع الوقائع المشتبهة فيما نحن فيه نظيرُ إشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معاً مع عدم إمكان الاحتياط أو كونه عُسراً قد نصّ الشارع على نفيه مع وجود الظن بأحدهما ، فإنّه

-------------------

الأوّلي ( لأنّ المراد ببقاء التكليف : عدم السقوط رأساً ، بحيث لايعاقب عند ترك المحتملات كُلاً ) لو فرض إمكان ترك المحتملات كُلاً ، أو كما ذكرناه في المثال : بأن يطأ ليلة ويترك ليلة ، ويصلي الظهر يوماً والجمعة يوماً .

وقوله : « لأنّ المراد » علّة ودليل لقوله : « لا ينافي التزام بقاء التكليف » .

( بل العقل يستقل بإستحقاق العقاب عند التّرك رأساً ) فيما يمكن الجمع والمخالفة القطعية في ليلةٍ وليلة ويوم جمعة ويوم جمعة ف- ( نظير جميع الوقائع المشتبهة فيما نحن فيه ، نظير إشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معاً مع عدم إمكان الاحتياط ) لأنّه لا قدرة له - مثلاً -

على الاحتياط ( أو كونه عُسراً قد نصّ الشارع على نفيه ) .

مثل قوله تعالى : « ماجَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (1) .

وقوله تعالى : « يُرِيدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ » (2) .

( مع وجود الظّنّ بأحدهما ) أي : بأحد من الجمعة والظهر ( فانّه ) حينئذ

ص: 63


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

يدور الأمرُ بين العمل بالظّنّ والتخيير والعمل بالموهوم .

فإنّ إيجابَ العمل بكلّ من الثلاثة وإن لم يُحرَز به الواقعُ ، إلاّ أنّ العمل بالظنّ أَقربُ إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخييّر فيجب عقلاً ، فافهم .

ولا فرقَ في قبح طرح الطرف الراجح والأخذ بالمرجوح بين أن يقوم على المرجوح مايحتمل أن يكون طريقاً معتبراً شرعاً وبين أن لا يقوم ،

-------------------

(

يدور الأمر بين العمل بالظّنّ ) بأن يأتي بالمظنون .

( والتخيير ) بأن يتخير بين أن يأتي بهذا أو بذاك .

( والعمل بالموهوم ) بأنّ يأتي بالذي هو في قِبال المظنون .

( فانّ إيجاب العمل بكلّ من الثلاثة ) ظنّاً أو تخييراً ، أو وَهماً ( وإن لم يُحرزَ به الواقع ، إلاّ إنّ العمل بالظّنّ أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخّيير ) عند العقلاء .

وعليه : ( فيجب ) العمل بالمظنون ( عقلاً ) وعقلائياً .

( فافهم ) لعله إشارة إلى إنّ التخييّر عبارة أخرى عن جواز العمل بالموهوم ، فليس الأمر دائراً بين ثلاثة أشياء ، بل بين إثنين ، إذ لايقول أحد بأنّه يعمل بالموهوم ولا يعمل بالمظنون .

هذا ( ولا فرق في قُبح طرح الطّرف الرّاجح والأخذ بالمرجوح ، بين أن يقوم على المرجوح مايحتمل أن يكون طريقاً معتبراً شرعاً ، وبين أن لا يقوم ) عليه ذلك ، كما إذا كان الظّن على وجوب الجمعة ، والوهم على عدم وجوبها ، لكن كان يؤيد الوهم الشهرة الّتي يحتمل إنّها طريق معتبر شرعاً ، فانّ إحتمال طريقيّة الشهرة لايسبّب تساوي الموهوم مع المظنون ، فضلاً عن أن يسبّب ترجيح الموهوم على المظنون .

ص: 64

لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيح ، ولو باحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعاً ، حيث قام عليه مايحتمل كونه طريقاً .

نعم ، لو قام على الطرف الموهوم ما يظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعيّاً ودار الأمرُ بين تحصيل الظنّ بالواقع وبين تحصيل الظّنّ بالطريق المعتبر الشرعيّ ، ففيه كلامٌ سيأتي إنشاء اللّه تعالى .

والحاصل : أنّه - بعد ما ثبت بحكم المقدّمة الثانية

-------------------

وذلك : لأنّ إحتمال الطريقيّة ممّا لم يجعله العقلاء دليلاً ولا مؤيداً ( لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيحٌ ولو ) كان العدول ( بإحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعاً ) وإنّما يحتمل كونه واجب الأخذ شرعاً ( حيث قام عليه ) أي : على الموهوم ( مايحتمل كونه طريقاً ) كالشهرة في المثال الذي ذكرناه .

( نعم ، لو قام على الطّرف الموهوم مايظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعيّاً ) كما إذا ظنّ وجوب الجمعة وقام الاجماع على حرمة الجمعة ، والاجماع ممّا يظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعاً ( ودار الأمر بين تحصيل الظّنّ بالواقع ) كوجوب الجمعة ( وبين تحصيل الظّن بالطريق المعتبر الشرعيّ ) كالظنّ بحجّية الاجماع ، والمفروض انّ الاجماع قام على حرمةِ الجمعة حتى وقع التعارض بين الظّنين : الظّنّ بالحكم والظّنّ بالطريق .

( ففيه كلام سيأتي إنشاء اللّه تعالى ) وانّه هل يقدّم الظنّ بالواقع ، أو الظنّ بالطّريق عند التعارض ، أو يتساويان ؟ .

( والحاصل : انّه بعد ماثبت بحكم المقدّمة الثانية ) وهي : عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء ، فيحكم

ص: 65

وجوبُ التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الانحاء وحرمةُ إهمالها وفرضها كالمعدوم ، وثبت بحكم المقدّمة الثالثة عدمُ وجوب إمتثال المجهولات بالاحتياط وعدمُ جواز الرّجوع في إمتثالها إلى الاُصول الجارية في نفس تلك المسائل ولا إلى فتوى من يدّعي إنفتاح باب العلم بها - تعيّن وجوبُ تحصيل الظنّ بالواقع فيها وموافقته ، ولايجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفيّ المسألة ،

-------------------

العقل ب( وجوب التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الأنحاء وحرمة إهمالها وفرضها ) أي : الأحكام المجهولة ( كالمعدوم ) وانّه لا حكم على المكلّف .

( وثبت بحكم المقدّمة الثّالثة : عدم وجوب إمتثال المجهولات بالإحتياط ) لأنّه عُسرٌ وحَرجٌ ، بل بعض أقسام الاحتياط متعذّر ، كالذي يسبّب إختلال النظام ونحوه .

( وعدم جواز الرجوع في إمتثالها الى الاصول الجارية في نفس تلك المسائل ) من الاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط .

( ولا إلى فتوى من يدّعي إنفتاح باب العلم بها ) أي : بتلك المجهولات .

وعليه : فان بعد هذه المقدمات ، قد ( تعيّن وجوب تحصيل الظنّ بالواقع فيها ) أي : في المجهولات ( وموافقته ) أي : موافقة الظنّ .

( ولا يجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفيّ المسألة ) من دون الفحص والبحث بما يوجب تحصيل الظنّ بأحد طرفي المسألة .

ص: 66

ولا بعدَ تحصيل الظنّ الأخذُ بالطرف الموهوم ، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشكّ والوهم مع التمكّن من الظنّ ،كما يقبح الاكتفاء بالظنّ مع التمكّن من العلم ، ولايجوز أيضاً الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقاً معتبراً مع عدم إفادته للظنّ ، لعدم خروجه عن الامتثال الشكّيّ أو الوهميّ .

هذا خلاصةُ الكلام في مقدّمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظّنّ في الجملة .

-------------------

( ولا ) يجوز ( بعد تحصيل الظّنّ ، الأخذ بالطّرف الموهوم ، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشّك والوهم مع التمكن من الظّنّ ) لِما تَقَدَم : من إنّ العقلاء يقدّمون الظّنّ على الشك والوهم ( كما يقبح الاكتفاء بالظّنّ مع التمكن من العلم ) والعلميّ لِما قد عرفت : من إنّ العلمي يقوم مقام العلم أيضاً .

( ولا يجوز أيضاً الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقاً معتبراً مع عدم إفادته للظّنّ ) كالشهرة في المثال المتقدّم ( لعدم خروجه ) أي : الحكم الّذي قام عليه محتمل الّطريق ، كحرمة صلاة الجمعة في المثال المتقدّم ، فإنّه لايخرج بقيام الّطريق المحتمل عليه ( عن الامتثال الشّكي أو الوهمي ) إذ الاحتمال لايخرج عن كونه شكّاً أو وهماً .

( هذا خلاصة الكلام في مقدمات دليل الانسداد ، المنتجة لوجوب العمل بالظّنّ في الجملة ) وسيأتي إنشاء اللّه تعالى في التنبيهات : إنّ مقدمات دليل الانسداد هل تنتج الكلّية أو الاهمال ؟ وإذا أنتجت الاهمال ، فانّا نحتاج الى مقدمات أُخر لإفادة النتيجة المعيَّنة .

ص: 67

وينبغي التنبيه على أُمور

الأوّل :

إنّك قد عرفتَ أنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوبُ الامتثال الظنّيّ للأحكام المجهولة ، فاعلم أنّه لافرق في الامتثال الظنيّ بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، كأنّ يحصل من شهرة القدماء الظنُّ بنجاسة العصير العنبيّ ، وبين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ ، كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّية أمر لايفيد الظنّ ، كالقرعة مثلاً .

-------------------

ثم أشار إلى التنبيهات بقوله : ( وينبغي التنبيه على أُمور ) مرتبطة ببحث الانسداد :

( الأوّل : إنّك قد عرفتَ : إنّ قضية المقدّمات المذكورة : وجوب الامتثال الظّني للأحكام المجهولة ، فاعلم ) إنّهم إختلفوا في إنّ مقدمات دليل الانسداد هل تُفيد حجّية الظّنّ بالحكم فقط، أو حجّية الظّنّ بالطّريق فقط، أو حجّية الظّنّ بأيهما حصل؟.

فالأول : مختار الشيخ البهائي والمحقّق القميّ وصاحب الرياض ، والثاني : مختار الشيخ أسدُ اللّه التُستري ، وتلميذيه : الأخوين صاحب هداية المُسترشدين والفُصول ، والثالث : مختار المصنّف وجملة من المحقّقين .

ولهذا قال المصنّف : ( انّه لافرق في الامتثال الظّني ) الّذي يراه العقلاء عند الانسداد ( بين تحصيل الظّن بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، كأن يحصل من شهرة القدماء : الظنّ بنجاسة العصير العنبي ) فانّ الظّن وصل الى الحكم ، ( وبين تحصيل الظّن بالحكم الفرعيّ الظاهريّ كأن يحصل من أمارة : الظّنّ بحجيّة أمرٍ لايفيد الظنّ ) بالحكم الواقعي ( كالقرعة مثلاً ) كأن يظّن المجتهد بحجّية القرعة ، ثم أقرع بالنسبة الى العصير العنبي، والقُرعة أفادت نجاسة العصير العنبي

ص: 68

فاذا ظنّ حجيّة القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة ، وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعيّ ، إلاّ أنّه حصل ظنّ ببراءة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصّة ، وليس الواقع بما هو واقع مقصوداً للمكلّف إلاّ من حيث كون تحقّقه مبرءاً للذّمّة .

فكما أنّه لا فرق في مقام التمكّن من العِلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلِمَ كونُ سلوكه مبرءاً للذمّة في نظر الشارع ،

-------------------

بدون أن يظنّ المقترع بنجاسته .

( فاذا ظنّ ) المجتهد ( حجّية القرعة ) وهي طريق الى الحكم ( حصل الامتثال الظّني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظّن بالحكم الواقعي ) أي : لم يظنّ بنجاسة العصير العنبي ( إلاّ أنّه حصل ظنّ ببرائة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصة ) وهي العصير العنبي .

وإنّما سماه ظاهرياً : لأنّه لم يظنّ بالنّجاسة ، لكن حيث أدّت القرعة الى النّجاسة ، يتمكن المجتهد أن يقول : الّظاهر إنّه نجس .

وإستدَّل المصنّف لاثبات عدم الفرق في الّظنّ ، بين الّظنّ بالواقع أو الّظنّ بالطريق بقوله : ( وليس الواقع - بما هو واقع - مقصوداً للمكلَّف إلاّ من حيث كون تحققّه مُبرئاً للذمة ) فان مقصود المكلَّف أولاً وبالذات برائة الذمة ، لا الواقع بما هو واقع ، فانّه يريد المؤمِّن من العقاب ، والمؤمِّن هو برائة ذمته .

( فكما انّه لافرق في مقام التمكّن من العلم ) بأن لم يكن إنسداد ( بين تحصيل العلم بنفس الواقع ، وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلِمَ كون سلوكه مبرءاً للذّمة في نظر الشّارع ) كما إذا كان - مثلاً في حال الانفتاح - خبر الواحد حجّة ،

ص: 69

فكذا لا فرقُ عند تعذّر العلم بين الظنّ بتحقّق الواقع وبين الظنّ ببراءة الذمّة في نظر الشارع .

وقد خالف في هذا التعميم فريقان : أحدهما : من يرى أنّ مقدّمات دليل الانسداد لا تُثبِتُ إلاّ إعتبار الظنّ وحجّيّته في كون الشيء طريقاً مبرءاً للذمّة في نظر الشارع ولا يثبت إعتباره في نفس الحكم الفرعيّ ، زعماً منهم عدمَ نهوض المقدّمات المذكورة لاثبات حجّية الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ،

-------------------

فلا فرق عند المكلَّف بين أن يعلم بوجوب الجمعة ، أو يقوم الخبر الواحد بوجوبها ، فانّه في الحالين إذا أتى بالجمعة برئت ذمته عن التكلّيف عند العقلاء .

( فكذا لا فرق عند تعذّر العلم ) للإنسداد ، حيث يقوم الظّنّ مقام العلم ( بين الظّنّ بتحقق الواقع وبين الظّنّ ببرائة الذمّة في نظر الشّارع ) بسبب وصول الطريق المظنون الى ذلك الحكم كما مثلنا في القرعة .

( وقد خالف في هذا التعميم ) بين الظّنّ بالطّريق ، والظّنّ بالواقع ( فريقان ) من الأصحاب :

( أحدهما : من يرى : إنّ مقدّمات دليل الانسداد لا تُثبِتُ إلاّ إعتبار الظّنّ وحجّيته) أي : حجّية الظّنّ ( في كون الشيء طريقاً ) شرعياً ( مبرئاً للذّمّة في نظر الشّارع ) أي : الظّنّ بالطّريق ( ولا يثبت إعتباره ) أي : الظّنّ ( في نفس الحكم الفرعي ) فإذا ظنّ بنجاسة العصير العنبي لاينفع هذا الظنّ ، أمّا إذا ظنّ بحجّية القرعة ، فأقرع ، وخرجت القرعة على نجاسة العصير العنبي ، وجب عليه الاجتناب عنه .

( زعماً منهم ) أي : من هذا الفريق ( عدم نهوض المقدّمات المذكورة ) للإنسداد ( لاثبات حجّية الظّنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ) .

ص: 70

إمّا مطلقاً أو بعد العلم الاجماليّ بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعيّة .

الثاني : مقابلُ هذا ، وهو من يرى انّ المقدّمات المذكورة ، لا تثبتُ إلاّ إعتبارَ الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة .

وأمّا الظنّ بكون الشيء طريقاً مُبرءاً للذمّة فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة لم يثبت إعتباره فيها من دليل الانسداد ، لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة .

وأمّا الطائفة الاُولى فقد ذكروا لذلك وجهين :

-------------------

والحاصل : إن الظنّ بالأصول حجّة ، وليس الظن بالفروع حجّة ( إمّا مطلقاً ) سواء علم إجمالاً بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعية ، أم لا ( أو بعد العلم الاجمالي بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعيّة ) وقد عرفت : إنّ هذا القول هو قول التُستري وتلميذيّه .

الفريق ( الثّاني : مقابل هذا ) الفريق الأول ( وهو من يرى : إنّ المقدّمات المذكورة ) للانسداد ( لاتُثبت إلاّ اعتبار الظّنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ) كالظّنّ بنجاسة العصير العنبي .

( وأما الظّنّ بكون الشيء طريقاً مبرءاً للذّمة ) كالظّنّ بحجّية القرعة ( فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة ) والظّنّ في المسألة الاصولية ( لم يثبت إعتباره فيها ) أي : في المسألة الاصولية ( من دليل الانسداد لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة ) وهذا مختار الشيخ البهائي ، والمحقّق القمّي، وصاحب الرياض - كما مر - .

هذا ، وقد عرفت : إنّ مقتضى دليل الانسداد حجّية الظنّ الأعم من الظنّ بالحكم الفرعي أو بالمسألة الاصوليّة ، أي : الطّريق المؤدّي الى الأحكام الفرعيّة .

( وأمّا الطائفة الاُولى ) وهم التُستري وتلميذاه : ( فقد ذكروا لذلك وجهين )

ص: 71

أحدهما :

وهو الذي اقتصر عليه بعضهم - مالفظه : « إنّا كما نقطعُ بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة ، لاسبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقامَ القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطعُ بأنّ الشارعَ قد جعل لنا إلى تلك الأحكام

-------------------

كما يلي : ( أحدهما : وهو الذي إقتصر عليه بعضهم ) وهو صاحب الفصول ( ما لفظه ) كالتالي : ( إنّا كما نقطع بأنّا مكلَّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة ) لأن من ضروريّات الدّين : إنّ المسلمين مكلّفون الى يوم القيامة بأحكام فرعيّة من الصّلاة الى الديّات ، و ( لاسبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان الى تحصيل كثير منها بالقطع ) لوضوح : إنّا لانقطع بكثير من الأحكام (ولا بطريق معيّن يقطع من السّمع بحكم الشارع بقيامه ) أي : قيام ذلك الطّريق .

(أو قيام طريقه) أي طريق الطريق ( مقام القطع ولو عند تعذّره ) أي : تعذر القطع .

مثلاً : لاقطع لنا بوجوب صلاة الجمعة ، كما لاقطع لنا بحجيّة الخبر الواحد الّذي يدلّ على وجوب صلاة الجمعة ، لأنا لم نسمع من الإمام الصادق عليه السلام انّه يقول : إن خبر الواحد قائم مقام القطع .

وكذا لاقطع لنا بحجّية الشهرة الّتي قالت بحجّية خبر الواحد الّدال ذلك الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة .

وقوله : « ولو عند تعذّره » ،يرد بذلك : انّ ذلك الطريق في طول القطع ، يعني : إذا تعذّر القطع قام ذلك الّطريق مقامه ، وليس في عرضه .

( كذلك نقطعُ بأنّ الشارعَ قد جعل لنا إلى تلك الأحكام ) التي يريدها منّا

ص: 72

طُرُقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالرجّوع إليها في معرفتها .

ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طُرقُ مخصوصة .

وحيث انّه لاسبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق نقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه ، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ،

-------------------

من أوّل الفقه الى آخر الفقه ( طُرقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعلياً بالرّجوع إليها ) أي : الى تلك الطرق ( في معرفتها ) أي : في معرفة تلك الاحكام .

( ومرجع هذين القطعين ) أي : القطع بأنّا مكلّفون ، والقطع بأنّ الشّارع قد جعل الى تلك الأحكام طرقا ( عند التحقيق ) أي : في المآل ( إلى أمر واحد ، وهو : القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ) .

فكأن الشارع قال : إني إريد منكم الأحكام ، وأريد منكم تلك الأحكام من هذه الطرق المخصوصة ، كما لو قال المولى : أريد منك أيّها العبد حوائج وأريد أن تعلم بتلك الحوائج من طريق خادمي فلان .

( وحيث إنّه لاسبيل غالباً الى تعيينها ) أي : تعيين تلك الطرق ( بالقطع ) فانّا لانقطع بأنّ خبر الواحد حجّة .

( ولا بطريق نقطع عن السّمع بقيامه بالخصوص ) مقام القطع .

( أو قيام طريقه كذلك ) أي : بالخصوص ( مقام القطع ولو بعد تعذّره ) أي : تعذر القطع بتعيين تلك الطرق المخصوصة .

والحاصل : فإنّا لانقطع بأنّ الطريق إلى الأحكام هو الخبر الواحد ، ولم نسمع من الامام الصادق عليه السلام : إنّ خبر الواحد حجّة ، ولانقطع بحجّية الشهرة الّتي تقول

ص: 73

فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرّجوعُ في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعليّ الذي لا دليل على عدم حجّيّته ، لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه » .

وفيه ، أوّلاً :

-------------------

بحجّية خبر الواحد .

وعليه : فإذا إنتفت قطعيّة هذه الأمور الثلاثة ( فلاريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو : الرّجوع في تعيين تلك الطرق ) لمعرفة الأحكام ( إلى الظّنّ الفعليّ ) وقوله : « الى » ، متعلق بقوله : « الرجوع » .

ثم الرجوع الى الظنّ ( الذي لادليل على عدم حجّيّته ) وذلك بأن لايكون كالظّن القياسي ، والاستحساني ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ممّا لم يكن طريقاً ، لأنّه نَصَّ الدليل على عدمه .

وإنّما كان الظّنّ الفعلي طريقاً الى تلك الأحكام ( لأنّه أقرب الى العلم ، والى إصابة الواقع ممّا عداه ) (1) أي : ممّا عدا الظّنّ من الشّك ، والوهم ، والقرعة ، وغير ذلك ممّا تقدّم ذكرها في قبال الظّنّ .

وحاصل هذا الدليل الّذي ذكره الفصول : إنّ الشارع يريد الأحكام ، ويريد أن نصل إليها بطرق مخصوصة ، وحيث لانعلم بتلك الطرق يجب علينا أن نتبّع الظّن بتلك الّطرق ، لأن الظّنّ يقوم مقام العلم .

( وفيه ، أوّلاً : ) إنّه لادليل لنا على انّ الشارع يريد الوصول الى أحكامه بطرق مخصوصة نصب الشارع تلك الّطرق ، وإنّما الشارع يريد الوصول الى تلك

ص: 74


1- - الفصول الغَرويّة : ص 275 .

إمكانُ منع نصب الشارع طُرُقاً خاصّةً للأحكام الواقعيّة وافية بها ، كيف وإلاّ لكان وضوحُ تلك الطرق كالشمس في رابعة النّهار ، لتوفّر الدّواعي بين المسلمين على ضبطها ، لاحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من حاجتهِ إلى مسئلة صلواته الخَمس ، وإحتمالُ اختفائها مع ذلك - لعروض دواعي الاختفاء ، اذ ليس الحاجةُ إلى معرفة الطريق أكثر

-------------------

الأحكام بالطّرق العقلائية ، لأنّه لادليل على إنّ الشّارع أحدث طرقاً جديدة ل- ( إمكان منع نصب الشّارع طُرُقاً خاصة للأحكام الواقعيّة ) التي يريدها منّا ، تكون تلك الطّرق ( وافية بها ) أي : بأحكامه الواقعية .

( كيف وإلاّ ) أي : بان كان الشّارع نصب طرقاً خاصّة ( لكان وضوح تلك الطّرق كالشمس في رابعة النّهار ) أي : الشمس في الساعة الرابعة من النهار بعد طلوعها من المشرق ، فان ذلك وقت جلائها من جهة عدم إختفائها بغبار الافق عند الطلوع ، وعدم وصولها الى الظهيرة وبعدها حيث تحول الأشعة بينها وبين الانسان ، وبعض يقرأه : رائعة النهار - بالهمزة قبل العين - أي : في حال الريعان وغاية الظّهور .

وإنّما نقول : إنّ الشارع إذا نصب الطرق كانت تلك الطرق واضحة جداً ( لتوفّر الدّواعي بين المسلمين على ضبطها ) أي : ضبط تلك الطرق ( لاحتياج كلّ مكلّف الى معرفتها ) أي : معرفة تلك الطرق ( أكثر من حاجته الى مسألة صلواته الخمس ) لاحتياج كل مكلّف الى تلك الّطرق في الصّلاة وفي غير الصّلاة ، فالاحتياج الى تلك الطّرق يكون أكثر من الاحتياج الى الصّلوات الخمس .

( وإحتمال إختفائها ) أي : تلك الطّرق ( مع ذلك ) أي : مع كثرة الاحتياج إليها انّما هو ( لعروض دواعي الاختفاء ، اذ ليس الحاجة الى معرفة الطريق أكثر

ص: 75

من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، - مدفوعٌ بالفرق بينهما ، كما لايخفى .

وكيف كان : فيكفي في ردّ الاستدلال إحتمالُ عدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام وإرجاع إمتثالها إلى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه ديدنهم في إمتثال أحكام الملوك والموالي

-------------------

من الحاجة الى معرفة المرجع بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ومع ذلك إختفى المرجع بعد النبي ، بما إنقسم المسلمون فيه الى يومنا هذا الى أقسام .

هذا الاحتمال ( مدفوع بالفرق بينهما كما لايخفى ) فانّ إختفاء المرجع كان لشهوة الحكم والرئاسة ، بخلاف اختفاء الّطريق فانّه لاداعي لهذا الاختفاء .

إن قلت : فكيف إختفى علينا وضوء الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في انّه هل كان يتوضأ منكوساً أو مستوياً ، مع انّه توضأ بين المسلمين مدة ثلاث وعشرين سنة ، وليس في الاختفاء هذا جهة رئاسة وشهوة ؟ .

قلت : سبب الاختفاء هو : انّ ،« الى » في قوله تعالى : « الى المرافق » (1) آية الغسل أو المغسول ؟ وليس في مسألة طريق الأحكام هذا السبب حتى يختفي كما إختفى الوضوء بالنّسبة الى اليدين .

( وكيف كان : فيكفي في ردّ الاستدلال ، إحتمال عدم نصب الطريق الخاص للأحكام ) من قبل الشارع ( وإرجاع إمتثالها ) أي : الأحكام ( الى ما يحكم به العقلاء ) في كل الأعصار والأمصار ( وجرى عليه ديدنهم ) ودأبهم ( في إمتثال أحكام الملوك والموالي ) فانّ الأمم والعبيد يتّبعون أوامر حكامهم والموالي

ص: 76


1- - سورة المائدة : الآية 6 .

مع العلم بعدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام ، من الرّجوع إلى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم أو باجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاصّ أو بالرجوع الى الظنّ الاطمئناني الذي يسكن إليه النفسُ ويطلق عليه العلمُ عُرفاَ ، ولو تسامُحاً ، في إلغاء إحتمال الخلاف .

وهو الذي يحتمل حملُ كلام السيّد عليه ، حيث إدّعى إنفتاح باب العلم ،

-------------------

حسب الميزان العقلائي ( مع العلم ) أي : مع علم هؤلاء الأمم والعبيد ( بعدم نصب الطريق الخاص للأحكام ) الصادرة من الملوك والموالي .

بل يتّبعون الطُرق المتعارفة ( من الرّجوع الى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم ) « من » : متعلق بقوله : « جرى عليه ديدنهم » .

( أو بإجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص ) يكشف ذلك عن رِضا أولئك الملوك والموالي بهذا العمل الخاص .

( أو بالرّجوع إلى الظّنّ الاطمئنانيالّذي يسكن إليه النفس ) فيما إذا لم يكن علم ولا إجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص .

( و ) الظن الاطمئناني هو الّذي ( يطلق عليه العلم عرفاً ولو تسامحاً في إلغاء إحتمال الخلاف ) فانّه بالنسبة الى الظنّ الاطمئناني وإن إحتمل الخلاف ، إلاّ انّ العقلاء يلغون هذا الاحتمال ويسمون الظنّ علماً من باب التسامح .

( و ) هذا الذي قلناه : من إطلاق العلم على الظّنّ تسامحاً ( هو الذي يحتمل حمل كلام السيّد عليه ، حيث إدّعى إنفتاح باب العلم ) بأن يحمل العلم في كلامه على مايشمل الظّنّ الاطمئناني لأنَّ العقلاء يسمون الظنّ الاطمئناني ، علماً ، وهذا ماتقدَّم ذكره عن السيّد في باب حجّية خبر الواحد .

ص: 77

هذا حال المجتهد .

وأمّا المقلّد ، فلا كلامَ في نصب الطريق الخاصّ له ، وهو فتوى مجتهده ، مع إحتمال عدم النصّب في حقّه أيضاً ، فيكون رجوعُه الى المجتهد من باب الرّجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء ، ويكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريراً لهم ، لا تأسيساً .

-------------------

و ( هذا حال المجتهد ) في كيفية وصوله الى أحكام الّشارع .

( وأمّا المقلّد ) الذي لانصيب له من العلم ، ولايكلّف بتحصيل العلم بالأحكام الشّرعية وإنّما أجاز له الشّارع تقليد العالم ( فلا كلام في نصب الطريق الخاص له ) أي : لهذا المقلِّد ( وهو فتوى مجتهده ) حيث قال عليه السلام : « فَللعَوام أن يُقلّدوه » (1).

( مع إحتمال عدم النّصب في حقه ) أي : في حقّ المقلّد ( أيضاً ) كالمجتهد ( فيكون رجوعه الى المجتهد من باب الرّجوع الى أهل الخبرة ، المركوز في أذهان جميع العقلاء ) فانّ العقلاء يرون في كل الأبواب ، رجوع غير أهل الخبرة الى أهل الخبرة في مختلف شئونهم من الّطب ، والهِندسة ، والتقويم ، وغير ذلك .

( ويكون بعض ما ورد من الشّارع في هذا الباب ) أي : في باب التّقليد ، كالرّواية المتقدمة ( تقريراً لهم ) أي : للعقلاء ، بمعنى : انّ الشّارع لم يحدث طريقاً جديداً بالنسبة الى الجهال في رجوعهم الى أهل الخبرة ، وإنّما قرر الطّريق العقلائي ، ف- ( لا ) يكون رجوع المقلّد الى المجتهد ( تأسيساً ) بل تقريراً وتأكيداً .

ص: 78


1- - الاحتجاج : ص458 ، وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 .

وبالجملة : فمن المُحتمل قريباً إحالةُ الشارع للعباد في طريق إمتثال الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في إمتثال أحكامهم العرفيّة من الرّجوع إلى العلم أو الظنّ الاطمئناني .

فاذا فُقِد تَعيّن الرّجوعُ أيضا بحكم العقلاء إلى الظنّ الاطمئنانيّ ، كما أنّه لو فُقِدَ - والعياذ باللّه - الأماراتُ المفيدة لمطلق الظنّ ، تَعيّن الامتثالُ بأخذ أحد طرفيّ الاحتمال فراراً عن المخالفة القطعيّة والاعراض عن التكاليف الالهيّة .

-------------------

( وبالجملة : فمن المحتمل قريباً : إحالةُ الشّارع للعباد في طريق إمتثال الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في إمتثال أحكامهم العرفيّة من الرّجوع ) «من»: متعلق بقوله : « المتعارف » فانّهم يرجعون ( إلى العلم ) أوّلاً وبالذّات ( أو الظّنّ الاطمئناني ) ثانياً إذا لم يكن علم .

( فاذا فُقِدَ ) العلم والظّنّ الاطمئناني ( تعيّن الرجوع أيضاً بحكم العقلاء إلى الظّنّ غير الاطمئناني ) بالنسبة الى المجتهد ، وبالنسبة الى المقلِّد الرجوع الى أهل الخبرة ، سواء كان أهل الخبرة يدّعون إنفتاح باب العلم أم إنسداده .

( كما انّه لو فُقِدَ - والعياذُ باللّه - الأمارات المفيدة لمطلق الظّنّ ) أيضاً بأن وقع المكلَّف في مكان لايصل الى العلم ، ولا الى كتاب فيه أحكام المسائل الشرعية ، وإتفقت له مسألة لايعلم ماذا حكم له الشارع فيها ، كما إذا احتلم ولم يكن له ماء ولاتراب في السفينة ، فشك في انّه هل يتيممّ على الخشب ، أو يصلي فاقد الطهورين ، أو لايصلي أصلاً ؟ .

( تعيّن ) عند العقل والعقلاء ( الامتثال بأخذ أحد طرفيّ الاحتمال فراراً عن المخالفة القطعيّة و ) فراراً عن ( الاعراض عن التكاليف الالهية ) بأنّ العقل يلزم

ص: 79

فظهر ممّا ذكرنا إندفاعُ ما يقال من أنّ منعَ نصب الطّريق لايُجامِعُ القولَ ببقاء الأحكام الواقعيّة ، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان .

توضيحُ الاندفاع : أنّ التكليفَ إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأساً ، ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظنّ ، مع عدم الطريق الخاصّ أو مع ثبوته وعدم رضى الشارع بسلوكه ، وإلاّ فلا يقبح التكليفُ مع عدم الطّريق الخاصّ وحكم القعل بمطلق الظنّ ورضى الشارع به .

-------------------

الانسان بأخذ أحد الاحتمالات إذا لم يكن ظنّ .

( فظهر ممّا ذكرنا : إندفاع ما يقال : من ) إنّه كيف يكلّفنا الشّارع أحكامه ، والحال انّه لاينصب لتلك الأحكام طريقاً ؟ .

وجه الاشكال : ( انّ منع نصب الطّريق ) من الشارع لأحكامه ( لايجامِعُ القولَ ببقاء الأحكام الواقعيّة ) وإنّما لايجامع مع ذلك ( إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق اليها ظاهر البطلان ) فكذا يقول المستشكل .

لكن هذا الاشكال غير وارد بل مندفع ، و( توضيح الاندفاع : انّ التكليف إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأساً ولو بحكم العقل ) بأنّ لايكون هناك طريق لا عقلي ولا شرعي ، والحال إنّ العقل في المقام هو ( الحاكم بالعمل بالظّنّ مع عدم الطّريق الخاصّ ) من قبل الشارع ( أو مع ثبوته ) أي : ثبوت الطريق الخاص كالقياس ، ( وعدم رضى الشّارع بسلوكه ) لما دلّ على عدم جواز العمل بالقياس .

( وإلاّ ) بأن كان هناك طريق عقلي لم يمنع الشّارع عن سلوكه ( فلا يقبح التّكليف مع عدم الطريق الخاصّ وحكم العقل بمطلق الظّنّ ورضى الشّارع به ) أي : حكم العقل برضى الشّارع ، وإنّما يحكم العقل برضى الشّارع بمطلق الظنّ ،

ص: 80

ولذا إعترف هذا المستدِّل على أنّ الشارع لم ينصب طريقاً خاصّاً يرُجَع اليه عند إنسداد باب العلم في تعيين الطرق الشرعيّة مع بقاء التكليف بها.

وربّما يُستشهد للعلم الاجماليّ بنصب الطريق بأنّ المعلوم من سيرة العُلماء في إستنباطهم هو إتفاقهم على طريق خاصّ وإن اختلفوا

-------------------

لِما تقدّم من مقدمات الانسداد .

( ولذا ) الّذي ذكرناه : من إمكان بقاء الأحكام مع عدم نصب الشّارع طريقاً اليها اذا كان هناك طريق عقلي لم يمنع الشّارع عنه ( إعترف هذا المستدِّل ) وهو صاحب الفصول ( على ان الشّارع لم ينصب طريقاً خاصّاً يرجع إليه عند إنسداد باب العلم في تعيين الطرق الشّرعيّة ) « في » :متعلق بقوله : « طريقاً » ، أي : لم يقل الشارع : انّ الطريق الى الطريق ماهو ؟ مثل أن يقول : إذا إنسدّ عليك باب العلم فعليك بعدول المسلمين فاسألهم : ماهو الطريق الى الأحكام ؟ ( مع بقاء التكليف بها ) أي : بتلك الطرق الشرعية ، فانّ صاحب الفصول يقول : إنّ الانسان ليس مكلَّفاً بالأحكام ، وإنّما هو مكلَّف بالّطرق إلى تلك الأحكام .

( و ) حيث منع المصنّف جعل الشّارع طريقاً خاصاً الى أحكامه ، أُشكِلَ عليه : بأنّا نعلم عِلماً إجمالياً بأن الشّارع نصب الطريق وإن نعرف ذلك الطريق بعينه فقال : ( ربّما يستشهد للعلم الاجمالي بنصب الطريق ) من قبل الشارع ( بإنّ المعلوم من سيرة العلماء في إستنباطهم ) أي : سيرة كل واحد منهم في إستنباطهم الأحكام الشّرعية من طرق خاصة ( هو إتفاقهم على طريق خاصّ ) فانّه يظهر منه إن الشارع قد جعل الطريق الخاص .

وإنّما إختلفوا في الصغرى لافي أصل إنّ الشارع جعل الطريق( وان إختلفوا

ص: 81

في تعيينه .

وهو ممنوعُ ، أوّلاً ،بأنّ جماعة من أصحابنا ، كالسيّد رحمه اللّه وبعض من تقدّم عليه وتأخّر عنه ، منعوا نصبَ الطّريق الخاصّ رأساً بل احاله بعضهم .

وثانياً ، لو أغمضنا من مخالفة السيّد وأتباعه ، لكن مجرّدُ قول كلّ من العلماء بحجّية طريق خاصّ أدّى إليه نظره لا يوجب العلم الاجمالي بأنّ بعضَ هذه الطرق منصوبة ، لجواز خطأ كلّ واحد فيما أدى اليه نظره .

-------------------

في تعيينه ) أي : في تعيين ذلك الطّريق ، فبعضهم جعل الطريق : الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، وبعضهم جعل الطّريق : الكتاب والسنّة فقط ، وبعضهم جعل الطّريق : الخبر فقط .

( وهو ) أي : إتفاق العلماء على إنّ الشارع نصب طريقاً خاصاً( ممنوع ) فليس لهم مثل هذا الاتفاق وذلك لامور :

( أولاّ : بأنّ جماعة من أصحابنا كالسيّد ) المرتضى ( رحمه اللّه ، وبعض من تقدّم عليه وتأخر عنه ، منعوا نصب الطريق الخاص رأساً ) وقالوا : بأنّ العلم هو الطريق الى الأحكام كما هو طريق سائر العبيد بالنّسبة الى سائر الموالي .

( بل أحاله بعضهم ) وقال بانّ نصب الشّارع طريقاً خاصاً محال ، وهذا البعض هو إبن قِبة ، فانّه يظهر من دليله : منع إمكان نصب الطّريق من الشارع ، لأنّه يستلزم تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، الى غير ذلك ممّا تقدّم في أوّل الكتاب .

( وثانياً : لو أغمضنا عن مخالفة السّيد وأتباعه ) عن نصب الشارع لأي طريق إطلاقاً( لكن مجرد قول كلّ من العلماء بحجّية طريق خاصّ أدّى اليه نظره ، لا يوجب العلم الاجمالي بأنّ بعض هذه الطرق منصوبة )من الشارع ( لجواز خطأ كل واحد ) من العلماء ( فيما أدّى اليه نظره ) فمن أين يقولون بالقدر المشترك ؟ .

ص: 82

وإختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ، إلاّ اذا كان اختلافهم راجعاً الى التعيين على وجه ينبيء عن اتفاقهم على قدر مشترك ، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ، فانّها لا توجب تواتر القدر المشترك الاّ اذا علم من أخبارهم كونُ الاختلاف راجعاً الى التعيين وقد تحقّق ذلك في باب التواتر الاجمالي والاجماع المركّب ،

-------------------

مثلاً : اذا قال عبدٌ : أنّ مولاي يريد كتاب الكفاية ، وقال عبدٌ آخر : انّه يريد كتاب الرّسائل ، وقال عبدٌ ثالث : انّه يريد كتاب المَكاسب ، فان هذا يتصور على قسمين : القسم الأوّل : انّ كلّهم يقولون : بأنّ المولى أراد كتاباً ، لكنّهم اختلفوا في المصداق .

القسم الثاني : إنّ العبد الأوّل يقول : انّ المولى اذا لم يرد الكفاية لا يريد كتاباً آخر ، وهكذا يقول كلّ واحد من العبدين الآخرين ، فانّ الاتفاق على القَدر المشترك انّما يصح على التقدير الأوّل دون التقدير الثاني .

( و ) عليه : ف- ( إختلاف الفتاوى في الخصوصيّات ، لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ) بين الجميع بأن يريد كلّهم القدر المشترك وإنّما اختلفوا في المصداق ( إلاّ اذا كان اختلافهم راجعاً الى التعيين ) للمصداق ( على وجه ينبيء عن اتفاقهم على قدر مشترك ) فهو ( نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ، فانّها لا توجب تواتر القدر المشترك ) بين الجميع( إلاّ اذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعاً الى التعيين ) للمصداق .

( وقد تحققّ ذلك ) أي : اذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعاً الى التعيين للمصداق ( في باب التواتر الاجمالي والاجماع المركب ) فالتواتر الاجمالي إنّما

ص: 83

...

-------------------

يتحقق اذا كان الجميع يريدون القدر المشترك مع انّ كل واحد يقول : انّ القدر المشترك كان في ضمن خصوصيّة .

مثلاً : جماعة كلهم يريدون بيان شجاعة علي عليه السلام ، لكن أحدهم يقول : إنّ الشجاعة تحققت في ضمن غزوة بدر ، والثاني يقول : إنّ الشّجاعة تحقّقت ضمن حرب اُحد ، والثالث يقول : إنّ الشجاعة تحقّقت في ضمن فتح خيبر ، فانّه يحصل تواتر إجمالي بأنّه عليه السلام شجاع .

أمّا اذا قال أحدهم : إنّ زيداً قتل إنساناً وانّه لم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، وقال الثاني : إنّ زيداً قتل سبعاً ولم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، وقال الثالث : إنّه قتل حيّة ولم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، فاذا سئلوا : هل أنّ زيداً شجاع ؟ أجابوا : بانّه لا نعلم لاحتمال انّه جبان لكن قتل شيئاً من باب القضية الاتفاقية ، فان هذه الأخبار لا توجب التواتر الاجمالي على شجاعة زيد .

وكذلك الحال في الاجماع المركب ، فانّهم قد يتفقون على الجامع ، لكن كلٌّ في ضمن خصوصيّة ، وهذا يوجب الاجماع المركّب الذي لا يجوز مخالفته .

وقد لا يتفقون على الجامع ، وإنّما كل واحد يفتي بشيء ويقول : انّه لولا فتواى لم يكن حكم اصلاً ، كما اذا قال أحدهم - مثلاً - : لولا وجوب الجمعة لاحكم للجمعة إقتضائياً ، وقال الآخر : لولا فتوى بوجوب الجمعة لم يكن للجمعة حكم اقتضائي ، فانّ بمثل هذه الفتاوى ، لا يثبت الاجماع المركب على حكم اقتضائي للجمعة حتى لا يجوز للعالم الثالث أن يقول بالتخيير مثلاً .

ص: 84

وربما يُجعل تحقّق الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع إنسداد باب العلم كاشفاً عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاصّ .

ويُنتقَض : - أوّلاً : بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضاً طريقاً خاصاً للاجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس .

-------------------

( وربّما ) يستدلّ من قال : بأنّ الشارع جعل طريقاً خاصاً الى أحكامه : بمنع الشارع عن العمل بالقياس ، فان هذا المنع يدلّ على إنّه جعل طريقاً خاصاً الى أحكامه ، مثل من يقول لولده : لا تسلك طريق الشّرق ، فان كلامه هذا ظاهر : في انّه قد جعل له طريقاً خاصاً : من الغرب ، أو الشّمال ، أو الجنوب - مثلاً - ف( يجعل تحقّق الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ) كالإستحسان ، والمصالح المرسلة ( ولو مع إنسدادا باب العلم ) حيث لا يجوز سلوك هذه الطرق مطلقاً ( كاشفاً عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاص )نَصَبه الشارع طريقاً الى إحكامه .

( ويُنتقض أوّلاً : بانّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق ايضاً طريقاً خاصا ) فيكون الشارع جعل الطريق وطريق الطريق أيضاً ( للاجماع على المنع عن العمل فيه ) أي : في طريق الطريق ( بالقياس ) أيضاً : فانّ القياس لا يجوز العمل به لا في تعيين الطريق الى الحكم ، ولا في تعيين طريق الطّريق ، مثل أنّ يقوم القياس على وجوب الجمعة ، أو أن يقوم القياس على حجّية خبر الواحد الذي هو طريق الى وجوب الجمعة .

والحاصل : إنكم تقولون : إنّ الشارع جعل طريقاً الى الحكم بدليل نفي القياس ، ونحن ننقضه : بأنّ لازم ذلك أن يجعل الشارع طريق الطريق أيضاً ، بدليل انّه نفى العمل بالقياس في تعيين الطريق ، ممّا لازمه ، إن جعل الشارع طريق الطريق ايضاً ، والحال إنّكم لا تقولون بجعل الشارع طريق الطريق .

ص: 85

ويُحَلُّ ثانياً : بانّ مرجع هذا الى الاشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بأحد الوجوه الآتية .

فان قلت : ثبوتُ الطّريق اجمالاً مما لا مجال لانكاره ، حتى على مذهب من يقول بالظنّ المطلق فانّ غايةَ الأمر أنّه يجعل مطلقُ الظنّ طريقا

-------------------

( ويُحَل ثانياً : بانّ مرجعَ هذا )أي : هذا الاشكال ( الى الاشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد )فانّه يأتي : إنّه اذا كان الظّن حجّة ، فكيف لا يجوز العمل بالقياس ، والحال أنّ القياس أيضاً يوجب الظنّ ؟ .

( فيدفع ) هذا الاشكال( بأحد الوجوه الآتية )هناك ، ويمكن أن نقول : انّ خلاصة حلّ المصنّف هو : إنّ السلب لا يستلزم الايجاب ، فانّ الشارع سلب العمل بالقياس ، وسلب العمل بالقياس ليس معناه : إنّه جعل طريقاً خاصاً بنفسه ، اذ لعلّه وكلَّ الأمر الى العقل والعقلاء في كيفية إطاعة الموالي والسّادة ، فليس منع الشارع من العمل بالقياس كاشفاً عن إنّ المرجع إنّما هو طريق خاص جعله الشارع .

( فان قلت : ) أنتم تعترفون في جوابكم الحلّي : بانّ الشارع قرّر الطريق الخاص وهو : طريق العقلاء ، وهذا ما نقوله نحن حيث نقول : إنّ نفي الشارع العمل بالقياس دليل على جعله طريقاً خاصاً ، لكن بمعنى : انّه قرّر طريق العقلاء لا انّه جعل طريقاً بنفسه غير طريق العقلاء .

وعليه : فانّ ( ثبوت الطريق إجمالاً ) من قبل الشارع ( ممّا لا مجال لانكاره حتى على مذهب من يقول بالظنّ المطلق ) اذ الظنّ المطلق مجعول للشارع إمّا جعلاً ابتدائياً ، وإمّا جعلاً تقريرياً ، لانّ الظنّ هو الطريق العقلائي والشارع قرره( فانّ غاية الأمر أنّه يجعل) الشارع ( مطلق الظّن ) في حال الانسداد ( طريقاً

ص: 86

عقليّاً رضي به الشارع ، فنصبُ الشارع للطرّيق بالمعنى الأعم من الجعل والتقرير معلومٌ .

قلت : هذه مغالطة ،

-------------------

عقليّاً رضي به الشارع ) .

وعليه : ( فنصب الشارع للطرّيق بالمعنى الأعمّ من الجعل والتقّرير معلوم ) ونفي القياس يدل على إنّ الشارع جعل طريقاً ، لكن هل إنّ المجعول طريق مستقل عن الطرق العقلائية ، أو أنّ المجعول هو تقرير لطريق العقلاء ؟ .

وبذلك يصح ما ذكرناه من الاشكال حيث قلنا : ربما يجعل تحققّ الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه - ولو مع إنسداد باب العلم - كاشفاً عن إنّ المرجع إنّما هو طريق خاص ، اذ القياس لا يجوز العمل به ، لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

( قلت : )إنّكم قلتم : إنّ الشارع عينّ طريقاً قطعاً بدليل نفي القياس ، وقلتم : إنّ الطريق المعيّن هو طريق خاص كالخبر ، أو طريق عام كالظنّ المطلق ، وهذا الكلام منكم غير تام ، إذ القياس الذي منعه الشارع إنّ كان لمنعه معنى ، فالمعنى : هو إنّ الطريق الخاص جعله الشارع في مكان القياس الممنوع ، لا إنّ الشارع جعل الطريق الخاص ، أو الطّريق العام ، لأنّ رفع كل شيء يلازم - على فرضكم - جعل ما يقابله .

مثلاً : إذا قال : لازيد في الدار ، كان لازمه : عمرو في الدار ، لا إنّ لازمه أمّا عمر في الدار أو دابة، لأنّ الدّابة ليست قسيماً لزيد حتى اذا رفع زيد يوضع مكانّه الدابة، فرفع القياس الذي هو طريق خاص ، يلزمه جعل الخبر الذي هو طريق خاص ، إذن (هذه مغالطة) منكم حيث أخذتم العام مكان الخاص، وهو غلط بعينه ،

ص: 87

فانّ مطلقّ الظنّ ليس طريقاً في عرض الطّرق المجعولة حتى يتردّد الأمر بين كون الطّريق هو مطلق الظنّ أو طريقاً آخر مجعولاً ، بل الطّريق العقلي بالنسبة الى الطريق الجعلي كالأصل بالنسبة الى الدليل . إن وُجَد الطّريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقاً ، لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذّمة ، وان لم يُوجد كان طريقاً ، لأنّ احتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل لا يُلتَفتُ اليه مع الظنّ بالواقع .

-------------------

( فان مطلق الظّن ليس طريقاً في عرض الطّرق المجعولة ) كالخبر ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( حتى يتردّد الأمر بين كون الطريق هو مطلق الظنّ أو طريقا آخر مجعولاً ) على ما ذكرتم في «إنّ قلت» .

( بل الطّريق العقلي ) الذي هو الظنّ المطلق ( بالنسبة الى الطريق الجعليّ ) الذي هو الخبر الواحد ونحوه ( كالاصل بالنسبة الى الدّليل ) فكما أنه ما دام الدليل موجودا لا تصل النوبة الى الاصل ،كالبرائة ونحوها ، كذلك ما دام الطّريق الجعليّ موجودا لا تصل النوبة الى الطريق العقلي .

فانّه ( إن وجد الطّريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقاً ) وإنّما لا يحكم ( لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببرائة الذمة ) الذي حصل هذا القطع بسبّب العمل بالطريق المجعول ، فانّ الانسان اذا عمل بالطريق المجعول قطع ببرائة الذمة ، أمّا اذا عمل بالظنّ بالواقع فانّه لا يقطع ببرائة الذمّة ، بل يظن ببرائة الذمة ، لأنّ الظنّ لا يولّد الاّ الظنّ .

هذا ( وإنّ لم يوجد ) الطريق الجعلي ( كان ) الظنّ بالواقع ( طريقاً ) عاماً ( لأنّ إحتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل ) الذي هو مشكوك الطريقية ، كالقرعة ونحوها ( لا يُلتفت اليه مع الظنّ بالواقع ) .

ص: 88

فمجرّد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ، كما في ما نحن فيه ، كافٍ في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقاً وعلى كلّ حال : فتردّدُ الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ممّا لا معنى له .

وثانياً : سلّمنا نصبَ الطّريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم .

-------------------

والحاصل : انّه اذا ظنّ بالواقع لزم سلوكه ، ولا تصل النوبة الى إحتمال الواقع بالطريق المشكوك كالقرعة ونحوها ، اذ المرتب : هو الطريق الخاص أولاً ، ثم الطريق العام وهو الظنّ المطلق ثانياً ، ثم تصل النوبة الى المشكوك الطريقية .

إذن : ( فمجرد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ) الخاص ( كما فيما نحن فيه ) حيث الانسداد ( كافٍ في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقاً ) ولا يكون حنيئذٍ الظنّ المطلق في عرض الطّريق الخاص الجعلي .

( وعلى كلّ حال : فتردّد الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ، ممّا لا معنى له ) فانّه لا معنى لما ذكرته في قولك : «فان قلت» .

وإنّما لا معنى له ، لأنّ مطلق الظنّ ليس في عرض الطرق الخاصة ، كي يتردّد الأمر بين الطرق الخاصة وبين الظنّ المطلق ، بل الظنّ المطلق في طول الطّريق الخاص .

ثم إنّ المصنّف قال قبل أكثر من صفحة في رد صاحب الفصول ما لفظه :

وفيه ، أوّلاً : إن كان منع نصب الشارع طرقاً خاصة للأحكام الواقعيّة وافية بها ، وحيث أتم الاشكال الأوّل أجاب هنا جواباً ثانياً على الفصول بقوله :

( وثانياً : سلّمنا نصب الطريق ) من قبل الشارع ( لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ) إذ من الممكن إنّ الشارع يجعل الطريق ، لكن الطريق يختفي علينا .

ص: 89

بيان ذلك : إنّ ما حكم بطريقيّته لعلّهُ قسمٌ من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم الاّ قليلٌ كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعليّ بالصدور الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن ، ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع ، مع إفادته الظنّ الفعليّ بالحكم .

ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ،

-------------------

( بيان ذلك ) أي : بيان إنّ الطريق المجعول من الشارع غير معلوم لنا ، بل مُختفٍ علينا هو : ( إنّ ما حكم ) الشارع ( بطريقيّته ، لعَلّهُ قُسمٌ من الأخبار ، ليس منه بأيدينا اليوم الاّ قليل ) لا يكفي لأغلب الفقه .

وذلك ( كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي بالصّدور ) لا الاطمئنان النوعي ، ومثل هذا الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي ( الذي كان كثيراً في الزّمان السّابق ) المعاصر لزمان الأئمة الطّاهرين ، وزمان الغيبة الصغرى - مثلاً - وكان ( لكثرة القرائن ) يوجب اطمئنان الفقهاء بصحة الخبر .

( ولا ريب فيندرة هذا القسم في هذا الزمان ) الذي إبتعدنا فيه عن تلك القرائن الحالية والمقالية ، وما أشبه .

( أو خبر العادل ، أو الثّقة الثّابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع ، مع إفادته ) أي خبر العادل أو الثقة أو الشياع ( الظنّ الفعلي بالحكم ) للمجتهد ، فانّ المجتهد اذا رأى خبر العادل أو الثقة أو الشياع على ما وصفناه ، ظنّ ظنّاً فعليّاً بالحكم الواقعي .

( ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ) ايضاً ،كما قلنا بندرة القسم

ص: 90

إذ غاية الأمر أن نجد الرّاوي في الكتب الرجاليّة محكيَّ التعديل بوسائط عديدة ، من مثل الكشيّ والنجاشيّ وغيرهما .

ومن المعلوم أنّ مثل هذا لا تُعدُّ بيّنة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق .

ودعوى حجّية مثل ذلك بالإجماع ممنوعةً ، بل المسلّم إنّ الخبر المعدلّ بمثل هذا حجّة بالاتفاق العملي .

-------------------

الأوّل ، وإنّما كان هذا القسم نادراً ايضاً ( اذ غاية الأمر ، أن نجد الرّاوي في الكتب الرجالية ، محكيّ التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشيّ ، والنَجاشيّ ، وغيرهما ) فانّ الكشي والنَجاشي إنّما كان بعد غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، فمن أين لأمثالهما إن يعدل أو يوثق من روى عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر أو الإمام الرّضا ، او غيرهم من المعصومين عليهم السلام فان تعديلهم وتوثيقهم ليس الاّ بوسائط، ومثل ذلك لا يوجب القطع للمجتهد ، ولا حصول البيّنة الشرعيّة له بعدالة أولئك الرواة أو وثاقتهم .

( ومن المعلوم : إنّ مثل هذا ) الذي يذكره الكشي والنَجاشي بعد مائتي سنة أو ما أشبه ( لا تُعَدُّ بينّة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق . ) فاذا كان - مثلاً - تنازع بين زيد وعمرو في دار قديمة فأتى زيد ببينّة تقول : إنّا سمعنا عن آبائنا جيلاً بعد جيل : أنّ الدار لزيد : وكان بين هذه البيّنة وبين بناء الدار فاصلة مائتي سنة - مثلاً - فانّ الحاكم لا يقبل مثل هذه الشهادة ، لانصراف أدلة الشهادة الشرعيّة عن مثل هذه الشهادة التي يفصلها زمان بعيد عن الملكية لأجداد زيد .

( ودعوى حجّية مثل ذلك ) أي : الخبر المعدّل ، أو المزكّى ، أو الموثَّق بوسائط ( بالاجماع ، ممنوعة ) فانّه لا إجماع في المقام ( بل المسلّم : إنّ خبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتفاق العملي ) أي إنّهم جميعاً عملوا بهذه الأخبار

ص: 91

لكن قد عرفت سابقاً عند تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد إنّ مثل هذا الاتفاق العملي لا يُجدي في الكشف عن قول الحجّة ، مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة ، خصوصاً إذا إنضّم اليه إفادة الظنّ الفعليّ .

-------------------

لكن وجه عملهم غير معلوم ، اذ المسلّم هو عمل الفقهاء بالخبر المعدّل ، أمّا ما هو حجّية التعديل المحكي ولو بوسائط ، فذلك غير معلوم ؟ .

والفرق بين هذين الأمرين : إنّ الاوّل وهو الاتفاق العملي ، لا يدلّ على الثاني وهو : وجه العمل ، لاحتمال أن يكون اجماعهم من جهة وجود قرائن في الأخبار المعدّلة ، أو إنّهم يقولون بحجّية مطلق الظنّ وحيث ظنوا بالأخبار المعدّلة .

قالوا بحجّيتها ، فانّ الأوّل عام ، والثاني خاصٌ ، ولا يدل العام على الخاص .

وذلك لأنّ الاتفاق على العمل لا دلالة له على جهة العمل ، فان من يقول بجواز الصلاة خلف زيد - مثلاً - كان كلامه هذا لا يدلّ على إنّ الجواز من جهة الوثاقة أو العدالة ، أو خوف سيفه وسوطه ، أو غير ذلك .

( لكن قد عَرِفت سابقاً عند تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد : إنّ مثل هذا الاتفاق العملي ) دون القولي ، فانّ إتفاقهم هذا ليس قولياً بل هو عملي ، حيث نراهم يعملون بالخبر الواحد ، فانّه ( لا يجدي ) هذا الاجماع ( في الكشف عن قول الحجّة ) وانّ الإمام عليه السلام أجاز العمل بالخبر الواحد ، وذلك لإحتمال أن يكون عمل بعضهم به من جهة الظنّ ، أو من جهة القرائن ، أو ما أشبه ذلك .

( مع انّ مثل هذا الخبر ) المعدّل بالوسائط ( في غاية القلّة ) والقليل لاينفعنا ، لأننا نريد كثرة من الأحكام من أول الفقه الى آخر الفقه ، فوجود هذا الخبر القليل غير مُغنِ لنا ممّا يسبب الاحتياج الى طريق آخر ( خصوصاً اذا إنضمّ اليه ) أي الى التعديل بوسائط ، شرط ( إفادة الظنّ الفعليّ ) بأن قلنا : بأنّ الخبر يجب أن يكون

ص: 92

وثالثاً : سلّمنا نصبَ الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة ، من أقسام الخبر والاجماع المنقول والشهرة ، وظهور الاجماع والاستقراء والأولويّة الظنيّة ، الاّ أنّ اللازم من ذلك هو الأخذُ بما هو المتيقن من هذه .

-------------------

معدَّلاً ولو بوسائط وأن يفيد ظناً فعليّاً ، فانّه كلّما كثرت القيود قلّ الوجود .

ثم انّ الفصول حيث قال بنصب الشّارع للطريق ، أشكل عليه المصنّف باُمور :

أوّلاً : انه لا دليل على نصبه .

وثانياً : انّه لو فرض نصبه ، فلا دليل على انّه وصل الينا .

( وثالثاً : سلمنا نصب الطريق ) لكل الأحكام من قبل الشارع ( ووجوده ) أي : وجود ذلك الطّريق ( في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنيّة ) وأنّ الطريق وصل الينا أيضاً ولم يختفِ علينا ، ثم فسّر المصنّف الطرق الظنيّة بقوله :

( من أقسام الخبر ) المتواتر ، والخبر الواحد الصحيح ، والحسن والضعيف ، وما اشبه ( والاجماع المنقول ، والشهرة ، وظهور الاجماع ) .

والفرق بين الاجماع وظهور الاجماع : إنّ الاجماع يقيني ، أمّا ظهور الاجماع فهو مستظهر أي : أنّا نستظهر وجود الاجماع ولا نقطع بوجوده .

( والاستقراء ، والأولويّة الظنيّة ، الاّ انّ اللازم من ذلك : هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ) الطرق ، لا بجميع هذه الطرق ، كما هو ظاهر كلام صاحب الفصول .

وإنّما يلزم الأخذ بالمتيقن فقط ، لأنّ غير المتيقن مورد أصالة حرمة العمل بما لم يعلم أنّه من المولى .

ص: 93

فان وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلاّ فالميتقنُ من الباقي .

مثلاً ، الخبرُ الصحيح والاجماعُ المنقول ميتقنٌ بالنسبة الى الشهرة وما بعدها من الأمارات إذ لم يقل أحدٌ بحجّية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والاجماع المنقول ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرّجوع في المشكوك الى اصالة حرمة العمل .

نعم ، لو احتيج الى العمل باحدى إمارتين وإحتمل نصبُ كلّ منهما ،

-------------------

( فان وفى ) المتيقن ( بغالب الأحكام ) التي نحتاج اليها لنعمل في غير الغالب بالاُصول ( إقتصر عليه ) أي على ذلك المتيقن ( وإلاّ ) بأن لم يف المتيقن بغالب الأحكام ( فالمتيقن من الباقي ) لأنّنا يلزم علينا التدرج ، فبالأول ، المتيقن من الجميع ، وبالثاني ، المتيقن من الباقي ، وهكذا .

( مثلاً : الخبر الصحيح ، والاجماع المنقول متيقن ) كونهما طريقاً ( بالنسبة الى الشهرة وما بعدها من الأمارات ) أي ظهور الاجماع ، والاستقراء ، والأولويّة الظنيّة ، وما أشبهها ( اذ لم يقل أحد بحجّية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والاجماع المنقول ) بينما عكسه ثابت ، فانّ جماعة قالوا : بأنّ الخبر الصحيح والاجماع المنقول حجّة ، ولم يقولوا بحجّية الشهرة وما بعدها من الأمارات .

وعليه : ( فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرّجوع في المشكوك الى اصالة حرمة العمل ) فما ذكره الفصول من إن الظنّ بالطريق كافٍ غير تامٍ ، بل اللازم عليه أن يقول : إنّ المتيقن من الطرق كافٍ في العمل ، لا أنّ المظنون من الطرق يلزم العمل به .

( نعم ، لو احتيج الى العمل بإحدى إمارتين ) متكافئتين من حيث القوة والضعف ( وإحتمل نصب كل منهما ) بأن لم يكن أحدهما متيقناً بالنسبة

ص: 94

صحّ تعيينه بالظنّ بعد الاغماض عمّا سيجيء من الجواب .

ورابعاً : سلّمنا عدمّ وجود القدر المتيقن ، لكنّ اللازمَ من ذلك وجوب الاحتياط ، لأنّه مقدمٌ على العمل بالظنّ ، لما عرفتَ من تقديم الامتثال العلميّ على الظنّ ، اللّهم إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ، وهو في المقام مفقود .

-------------------

الى الآخر ، وكان أحدهما في عرض الآخر لا في طوله ( صحّ تعيينه ) أي : تعيين احدهما على الآخر ( بالظنّ ، بعد الاغماض عمّا سيجيء من الجواب ) عليه ضمن قوله : ورابعاً إنشاء اللّه تعالى .

( ورابعاً : سلّمنا عدم وجود القدر المتيقن ) بين الطرق الواصلة إلينا ( لكن اللازم من ذلك : وجوب الاحتياط ) بالعمل بالجميع ( لأنّه ) أي : العمل بالإحتياط ( مقدّم على العمل بالظنّ ، لما عرفت : من تقديم الامتثال العلمي ) ولو اجمالاً ( على الظنّ ) وهذا الجواب : من تَقدَّم الاحتياط على العمل بالظنّ ، هو الذي أشار اليه المصنّف حين قال قبل قليل : بعد الاغماض عمّا سيجى ء من الجواب .

( اللّهم إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الاحتياط ( وهو ) أي الدّليل على عدم وجوب الاحتياط ، ( في المقام مفقود ) اذ الاحتياط إنّما لا يلزم اذا كان عُسراً وحَرجاً .

ومن المعلوم : إن الطرق المذكورة الى الأحكام : من الخبر ، والاجماع ، والشهرة ، وما أشبهها لا يوجب العمل بها عُسراً ولا حَرجاً ، لانّها محدودة بما ذكرها الفقهاء في الفقه ولا يستلزم من العمل بها عُسراً ، كما هو واضح .

ص: 95

ودعوى : « إنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ، لأنّ العمل بما ليس طريقاً حرام » ، مدفوعةٌ : بانّ حرمة العمل بما ليس طريقاً اذا لم يكن على وجه التشريع غيرُ محرّم ، والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع .

نعم ،

-------------------

( و ) حيث إنّ المصنّف ادّعى الاحتياط بين الطرق يكون مقدّماً على العمل بالطرق المظنونة ، في مقابل الطرق المشكوكة أو الموهومة .

أشكل عليه : ب- ( دعوى إنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ، لأنّ العمل بما ليس طريقاً حرام ) فلا يمكن الاحتياط بجميع الطرق ، لأنّ المكلّف يعلم إنّ بعض الطرق يحرم العمل بها ، وإنّما يجوز العمل ببعض الطرق الاُخر ، وحيث سقط الاحتياط ، صارت النوبة للعمل بالظنّ .

قال هذه الدعوى ( مدفوعة بأنّ حرمة العمل بما ليس طريقاً اذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم ) فانّ التشريع محرم ، أمّا الاحتياط فهو في قبال التشريع ( والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق ، لا حرمة فيه من جهة التشريع ) فليس أمر الاحتياط دائراً بين الواجب والحرام وانّما الاحتياط حسنٌ على كل حال ، مثلاً : اذا نقل أحد الرّاويين عن الصادق عليه السلام : إنّ صلاة الجمعة واجبة ، وروى الآخر : إن صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة ، والمكلّف يعلم خطأ أحدهما ، فانّه اذا أتى بالصلاتين برجاء المطلوبيّة؛ لم يكن فاعلاً للحرام ، لكن لو قصد التشريع ونسب الصلاتين الى المولى ، كان فاعلاً للحرام من جهة التشريع - كما ذكرناه في المباحث السابقة - .

( نعم ) اذا لم يكن بقصد التشريع لم يكن حراماً ، لكن يحتمل الحرمة أيضاً

ص: 96

قد عرفت إنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنّما هي من جهة أنّ فيه طرحاً للاُصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة .

وهذا ايضاً غيرُ لازم في المقام ، لأنّ موردّ العمل بالطريق المحتمل إن كان الاُصول على طبقه

-------------------

في الاحتياط من جهة اُخرى ، حيث ( قد عرفت : إنّ حرمته ) أي : الاحتياط ( مع عدم قصد التشريع إنّما هي ) أي : الحرمة ( من جهة إنّ فيه ) أي : في الاحتياط ، ( طرحاً للاُصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة ) وطرح الاُصول المعتبرة أيضاً لا يجوز .

( وهذا ) أي : طرح الاُصول المعتبرة ( أيضاً غير لازم في المقام ) إلاّ نادراً لأنّ الأصل إن كان موافقاً للاحتياط كما اذا كان الأصل يقتضي استصحاب الحكم كاستصحاب صلاة الجمعة ، والاحتياط يقتضي الفعل كإتيان الجمعة والظهر معاً ، فانّ الأصل هذا لا ينافي الاحتياط .

وإن كان الأصل مخالفاً للاحتياط ، فان كان مثل : أصل البرائة أو أصل التخيير ، حيث الاحتياط يقول بالاتيان والبرائة تقول بعدم الاتيان ، أو التخيير يقول بانّه مخيّر ، فذلك ايضاً غير ضار ، اذ البرائة لا تحتمّ عدم الاتيان بل تقول بانّه لايلزم عليك الاتيان كما إنّ التخيير يقول بمثل ذلك .

وإن كان الأصل المخالف للاحتياط مثل الاستصحاب المخالف ، كما اذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بصلاة الجمعة ، ومقتضى الاستصحاب حرمة صلاة الجمعة ، فهنا لا يمكن الاحتياط ، فلا يعمل فيه بالطريق وانّما يعمل بالأصل المعتبر الذي هو الاستصحاب ، وهذا ما ذكرناه بقولنا : إلاّ نادراً ويشير اليه المصنّف في آخر هذا المبحث حيث يقول اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية وانّما يكون كذلك ( لأنّ مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الاصول

ص: 97

فلا مخالفة ، وإنّ كان مخالفا للاُصول : فان كان مخالفاً للاستصحاب النافي للتكليف فلا إشكال ، لعدم حجّية الاستصحاب بعد العلم بأنّ بعضً الأمارات الموجودة على خلافه معتبرةٌ عند الشارع ، وإن كان مخالفاً للإحتياط ، فحيئذٍ يُعملُ بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، وكذا لو كان مخالفاً للاستصحاب المثبتِ للتكليف .

فحاصلُ الأمر يرجعُ الى العمل بالإحتياط في المسألة الاُصوليّة ، أعني

-------------------

على طبقه ، فلا مخالفة ) كما عرفت .

( وإنّ كان مخالفاً للاُصول ، فان كان ) مورد العمل ( مخالفاً للاستصحاب النافي للتكليف ) بانّ اقتضى الاستصحاب العدم ، واقتضى الاحتياط الوجود ( فلا اشكال ) في هذا المقام ( لعدم حجّية الاستصحاب ، بعد العلم بأنّ بعض الأمارات الموجودة على خلافه ) أي على خلاف الاستصحاب ، تكون ( معتبرة عند الشّارع ) كاستصحاب الطهارة في الانائين الذين كانا طاهرين فتنجّس أحدهما ، فانّه لا يجوز الاستصحاب في اي من الانائين ، لانّ الاستصحاب لا يجري في اطراف العلم الاجمالي .

( وإن كان ) مورد العمل بالطريق ( مخالفاً للاحتياط ، فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ) فالمسألة الفرعيّة مثل : وجوب الجمعة ، والمسألة الاُصولية مثل : حجّية الاستصحاب .

( وكذا لو كان ) الطريق ( مخالفاً للإستصحاب المثبت للتكليف ) كما اذا كان الاستصحاب على وجوب الجمعة ، ولكن قام الطريق على عدم وجوبها .

( فحاصل الأمر : يرجع الى العمل بالاحتياط في المسألة الاُصولية ، اعني :

ص: 98

نصبُ الطريق اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فالعمل مطلقاً على الاحتياط .

اللّهم إلاّ أن يقال إنّه يلزم الحرجُ من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كالشكّ في الجزئيّة وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الاجماليّ بوجوب العمل في بعضها على

-------------------

نصب الطريق اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ) فاذا عارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، قدَّم الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، على الاحتياط في المسألة الاُصولية .

وعلى هذا : ( فالعمل مطلقاً ) أي : سواء في مسألة نصب الطريق ، أو المسألة الفرعية ( على الاحتياط ) فثبت ما ذكرناه : من وجوب العمل بالاحتياط ، لكن ربمّا يكون الاحتياط بالعمل بالمسألة الاُصولية ، وربّما يكون الاحتياط في العمل بالمسألة الفرعيّة .

( اللّهم إلاّ أن يقال : انّه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ) الفرعيّة ( كالشك في الجزئية ) حيث إنّ الاحتياط يقتضي الاتيان بذلك الجزء المشكوك مع أنّ الاستصحاب يقتضي عدم الجزئية .

( وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف ) مثل الاستصحاب لوجوب الجمعة حيث كانت واجبة سابقاً ، سواء وافق هذا الاستصحاب المثبت ، الطريق أو خالفه .

( و ) كذا في موارد الاستصحابات ( النّافية له ) أي للتكليف ، فانّ الاستصحاب وإن نفى التكليف إلاّ أنّه يلزم الاتيان به من جهة الاحتياط .

ولذا قال المصنّف : ( بعد العلم الاجماليّ بوجوب العمل في بعضها على

ص: 99

خلاف الحالة السابقة ، اذ يصير حينئذٍ كالشبهة المحصورة ، فتأمل .

وخامساً : سلمّنا العلم الاجمالي بوجوب الطريق المجعول وعدم المتيقنّ وعدم وجوب الاحتياط .

-------------------

خلاف الحالة السابقة ) بمعنى : أنّه يلزم حسب العلم الاجمالي الاتيان بالتكليف وإن كان الاستصحاب في بعض الاطراف على عدم التكليف .

وانّما يلزم الاحتياط ( اذ يصير حينئذ كالشبهة المحصورة ) فانّه يلزم الاحتياط في جميع الأطراف ، وان كان علم بأنّ بعض الاطراف ليس له حكم .

وإنّما قال : كالشبهة المحصورة ، لأنّ المورد من الشبهة غير المحصورة ، لكثرة الأحكام الثابتة على المكلّف من أول الفقه الى آخره ، لكن مع ذلك يلزم عليه الاحتياط ايضاً من جهة علمه بكثرة التكاليف الثابتة عليه في ضمن الطرق والأمارات والاُصول .

( فتأمّل ) ولعل وجهه : منع لزوم الحَرج هنا ، لأنّ المسلّم من لزوم الحَرج العمل بالاحتياط الكلي ، باتيان كل محتمل الوجوب ، وترك كلّ محتمل الحرمة ، سواء كان من جهة الظنّ او الشك أو الوهم ، بينما ليس الأمر هنا كذلك ، لانّه إنّما يكون دائرة الاحتياط في الطرق والاُصول والأمارات فقط لا مطلقاً .

( وخامساً : سلّمنا العلم الاجماليّ بوجوب الطريق المجعول ) من قبل الشارع ، وان الشّارع جعل لأحكامه طريقاً ، ولم يكتف بالطرق العقلائية .

( و ) سلّمنا ( عدم المتيقّن ) من بين الطرق المحتملة الجعل ، مثل الخبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، والأولويّة ، وما اشبه؛ وقلنا : بأنّ جميعها متساوية وليس بعضها متيقناً .

( و ) سلّمنا ( عدم وجوب الاحتياط ) وذلك بالعمل بجميع الطرق التي

ص: 100

لكن نقول : إنّ ذلك لايوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوز له كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة .

وذلك ، لأن الطريق المعلوم نصبهُ إجمالاً ، إن كان منصوباً حتى حال إنفتاح باب العلم ، فيكون هو في عرض الواقع مبرءاً للذّمة ،

-------------------

هي اطراف العلم الاجماليّ .

( لكن نقول : إنّ ذلك ) أي : جعل الطريق ( لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط ) الذي ذكره الفصول ، حيث قال : بان اللازم علينا أن نعمل بالظنّ بالطريق ، لا أن نعمل بالظّن بالواقع .

( بل هو ) أي : جعل الشارع الطريق ( مجوز له ) أي للمكلف؛ بمعنى : انّه يجوز له أن يعمل بالظنّ في مسألة الطريق ( كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ) أي بالحكم ، فإذا ظن بوجوب صلاة الجمعة عمل بهذا الظّن كما إنّه اذا ظنّ بأنّ الشهرة حجّة ، وقد أدت الشهرة الى صلاة الجمعة أخذ بمقتضى الشهر ، فصلى الجمعة وإن لم يظنّ بوجوب صلاة الجمعة .

( وذلك ) الذي ذكرناه : من أنّه يجوز العمل بالظنّ بالطّريق ، وبالظنّ بالمسألة الفرعيّة ، انّما هو ( لأنّ الطريق المعلوم نصبه اجمالاً ) كالشهرة مثلاً ( إن كان منصوباً حتى حال إنفتاح باب العلم ) بأنّ قال الشارع : يجوز لك تحصيل العلم على الواقع . كما يجوز لك أن تعمل حسب الشهرة - مثلاً - .

( فيكون هو ) أي : الطريق المجعول ( في عرض الواقع ، مبرءاً للذمة ) فسواء علم الانسان بوجوب صلاة الجمعة ، أو قامت الشهرة على وجوبها وإن لم يعلم بالوجوب ، فصلاها كفاه ذلك في برائة ذمته .

ص: 101

بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم .

مثلاً ، اذا فرضنا حجّية الخبر مع الانفتاح ، تخيّر المكلَّفُ بين امتثال ما علم كونُه حكماً واقعياً بتحصيل العلم به وبين إمتثال مؤدّى الطريق المجعول الذي علم جعله بمنزلة الواقع ، فكلّ من الواقع ومُؤدى الطريق مُبرء مع العلم به ، فاذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بأحدهما تعيّن الآخر ،

-------------------

لكن ( بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم ) أي : بشرط أن يعلم المكلَّف بأنّ الشهرة مجعولة للشّارع ، لانّ معنى جعل الشارع الشّهرة حجّة حتى في حال التمكّن من العلم : إنّه يجوز له الأخذ بالشهرة في عرض العلم .

( مثلاً : اذا فرضنا حجيّة الخبر مع الانفتاح ، تخيّر المكلّف بين إمتثال ما علم كونه حكماً واقعيّاً ) بأن يمتثله ( بتحصيل العلم به ) أي : بذلك الواقع ( وبين إمتثال مؤدى الطريق المجعول ) أي : مؤدّى الذي قام على الواقع ( الذي علم جعله ) اي جعل الشارع هذا الخبر ( بمنزلة الواقع ) لأنّ معنى إنّ الخبر حجّة : إنّه اذا قام الخبر على شيء ، كان ذلك الشيء بمنزلة الواقع .

وعليه : ( فكل من الواقع ومؤدّى الطريق مبرءٌ مع العلم به ) أي بجعل ذلك الطريق فانّه سواء علم بالواقع ، أو علم بانّه مؤدّى الطريق وإن لم يعلم بانّه الواقع - كما اذا قام الخبر على وجوب الجمعة - كفاه ذلك في الامتثال وإن لم يعلم بانّ الجمعة واجبة واقعاً .

( فاذا إنسدّ باب العلم التفصيلي بأحدهما ) أي : بالواقع أو بالخبر ( تعيّن الآخر ) فاذا لم يعلم الانسان - مثلاً - الواقع ، تعيّن الخبر ، واذا لم يعلم الانسان الخبر ، تعيّن الواقع وذلك هو مقتضى الأمر التخييري فإنّه اذا تمكن منهما كفى كل واحد منهما ، واذا لم يتمكن من أحدهما لزم أنّ يأتي بالآخر .

ص: 102

وإذا إنسدّ بابُ العلم التفصيليّ بهما تعيّن العملُ فيهما بالظنّ ، فلا فرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق في كون كلّ واحد إمتثالاً ظنيّاً .

وإن كان ذلك الطريقُ منصوباً عند إنسداد باب العلم بالواقع ، فنقول : إنّ تقديمه حينئذٍ على العمل بالظنّ إنّما هو مع العلم به وتمييزه عن غيره ،

-------------------

( واذا إنسدّ باب العلم التفصيليّ بهما ) بان لم يعلم بالواقع ، ولم يعلم بالخبر المؤدّي الى الواقع ( تعيّن العمل فيهما بالظنّ ) فانّه حينئذٍ لا فرق بين أن يظنّ بالواقع فيأتي به ، أو يظنّ بحجّية الخبر فيأتي بمؤدّى الخبر ، وذلك لِما عرفت : من الاجماع على عدم وجوب الاحتياط حسب العلم الاجمالي بأن يأتي بكلا الأمرين : الواقع المظنون ، ومؤدّى الخبر المظنون .

وعليه : فاذا إنسدّ باب العلم ( فلا فرق بين الظنّ بالواقع و ) بين ( الظنّ بمؤدّى الطريق ) أي : لا فرق ( في كون كل واحد إمتثالاً ظنيّاً ) على حد سواء .

(وإن كان ذلك الطّريق منصوباً عند إنسداد باب العلم بالواقع ) وهذا عطف على قوله : « ان كان منصوباً حتى حال إنفتاح العلم » وذلك بأن قال الشارع : اعمل حسب علمك بالواقع فقط ، فاذا إنسدّ عليك باب العلم فاعمل بالخبر ، فجعل الخبر في طول الواقع لا في عرضه ( فنقول : إنّ تقديمه ) أي : تقديم هذا الخبر الذي جعله الشارع في حال الانسداد ( حينئذٍ ) أي : حينَ إنسداد باب العلم ، فانّه مقدّم ( على العمل بالظنّ ) المطلق ، فاذا كان هناك خبر مجعول فيحال الانسداد ، وظنّ بالواقع ، كان اللازم أن يعمل بالخبر لا بالظنّ .

و ( إنّما هو ) أي : إنّما يلزم العمل بالخبر لا بالظنّ ( مع العلم به ) أي : بالخبر المجعول ( وتمييزه عن غيره ) تفصيلاً ، بأن لم يحصل لنا علم اجمالي بانّ الشارع جعل لنا طريقاً مجعولاً حال الانسداد ، ولكن لا نعلم هل إن الطريق المجعول

ص: 103

إذ حينئذٍ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ، اذ فيه عدول عن الامتثال القطعي الى الظنّي وكذا مع العلم الاجماليّ ، بناءا على أن الامتثال التفصيلي مقدّم على الاجماليّ أو لأنّ الاحتياط يُوجب الحَرج المؤدّي الى الاختلال . أما مع إنسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميّزه عن غيره

-------------------

هو الخبر ، أو الشهرة ، أو الاجماع المنقول ؟ .

وإنّما نقول بتقديم الخبر على الظنّ في هذه الصورة ( اذ حينئذٍ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ) لأنّ الظنّ مرتبته متأخرة عن العلم ، فيقدَّم العلم بالطريق على الظنّ به .

( اذ ) لو لم يعمل بالطريق المعلوم وعمل بالظنّ ، كان ( فيه عدول عن الامتثال القطعي الى الظنيّ ) وقد عرفت تقدّم الامتثال العلمي على الامتثال الظنّي بالظنّ المطلق .

( وكذا مع العلم الاجمالي ) يعني : كما لا يجوز العمل بالظنّ بالواقع مع العلم التفصيلي بالطريق المجعول ، كذلك لا يجوز الاكتفاء بالعلم الاجمالي بتحصيل الواقع بالعمل بالإحتياط مع الطريق المعلوم وذلك ( بناءاً على أن الامتثال التفصيلي ) وإنّ كان ظنيا ( مقدّم على الاجمالي ) وإن كان علميّاً .

( أو ) وهذا عطف على قوله : « بناءاً » ( لأنّ الاحتياط يوجب الحَرج المؤدّي الى الاختلال ) والاحتياط المؤدّي الى الاختلال ساقط قطعاً .

( أما مع إنسداد باب العلم بهذا الطّريق ، وعدم تميّزه عن غيره ) بأن كان الطريق المجعل مجهولاً لنا تفصيلاً واجمالاً بحيث لا نعلمه تفصيلاً ولا اجمالاً

ص: 104

إلاّ باعمال مطلق الظنّ ، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظنّ على احراز الواقع بمطلق الظنّ .

وكأنّ المستدلٌ توهم إنّ مجرّد نصبَ الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجبٌ لصرف التكليف عن الواقع الى العمل بمُؤدّى الطريق كما ينبى ء عنه قوله . وحاصل القطعين الى أمر واحد ، وهو التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّى الطرق ، وسيأتي مزيد توضيح لإندفاع هذا التوهم إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

( إلاّ باعمال مطلق الظنّ ) الانسدادي ( فالعقل لا يحكم بتقديم احراز الطّريق بمطلق الظنّ على احراز الواقع بمطلق الظّن ) بل العقل يرى : إنّ الظنّ بالطّريق كالظنّ بالواقع ، والظنّ بالواقع كالظنّ بالطريق وبأيهما عمل كان مجزياً .

هذا ( وكأنّ المستدِّل ) وهو صاحب الفصول القائل : بأنّه يلزم العلم بالظنّ بالطّريق لا الظّن بالواقع ( توهمّ إنّ مجرّد نصبَ الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه ) أي : في ذلك الطّريق ( موجب لصرف التكليف عن الواقع الى العمل بمؤدّى الطريق ) بمعنى إنّه اذا جعل الشارع حكماً وجعل له طريقاً ، فانّ اللازم على المكلّف أن يعمل بذلك الطريق فقط .

( كما ينبى ء عنه ) أي : عن هذا التوهم ( قوله : وحاصل القطعين الى أمر واحد ، وهو : التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّى الطرق ) بينما هذا الشيء غير صحيح ، لأنّ العقل يرى : عدم الفرق عند الانسداد بين أن يعمل بالظنّ بالطّريق ، أو أن يعمل بالظنّ بالواقع ، ( وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التّوهم إنشاء اللّه تعالى ) بعد صفحتين تقريباً حيث يشير المصنّف اليه بقوله : والحاصل : « انّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق الى قول الشارع » الى آخر كلامه .

ص: 105

فان قلت : نحن نرى أنّه اذا عيّن الشارع طريقاً للواقع عندإنسداد باب العلم به ،ثم انسدّ بابُ العلم بذلك الطريق كان البناء على العمل بالظنّ في الطريق ، دون نفس الواقع . الاّ ترى أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعيّ ، والقاضي يعملُ بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ، لا في تحصيل الحقّ الواقعي بين المتخاصمين .

قلت : فرقٌ بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فانّ الظنون الحاصلة للمقلد والقاضي في المثالين بالنسبة الى

-------------------

( فان قلت ) تأييداً لكلام الفصول القائل : بأنّ اللازم حال الانسداد العمل بالظنّ بالطّريق ، لا الظنّ بالواقع ( نحن نرى انّه اذا عينّ الشارع طريقاً للواقع عند إنسداد باب العلم به ) أي : بالواقع ( ثمّ إنسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء ) من العقلاء ( على العمل بالظنّ في الطريق ، دون ) العمل بالظنّ في ( نفس الواقع ) لأنّ الواقع عندهم قد إنحصر في الطريق المعين .

( ألا ترى ) شاهداً لذلك ( انّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد ) والحال إنّ المجتهد طريق ، و ( لا ) يعمل بالظنّ ( في نفس الحكم الواقعي ) الذي هو عليه .

( والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ) مثل الصلح ، أو القرعة ، أو قاعدة العدل ، أو ما أشبه ، وهذه كلّها طرق الى الواقع ( لا في تحصيل الحقّ الواقعيّ بين المتخاصمين ) وانّه هل الحقّ لهذا أو لذاك في كلّ المخاصمات الماليّة ، وغير المالية ؟ .

( قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ) المذكورين من المقلد والقاضي ( فانّ الظنّون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين ) المذكورين ( بالنسبة الى

ص: 106

الواقع اُمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة للواقع مع قيام الاجماع على عدم جواز العمل بها ، كالقياس ،

-------------------

الواقع اُمور غير مضبوطة ، كثيرة المخالفة للواقع ) فكيف يتمكن المقلد من الظنّون بالاحكام الواقعيّة من أول الطهارة الى آخر الديّات ؟ أم كيف يتمكن القاضي من الظنّ بمعرفة واقع المتخاصمين ، وإن الحق في الواقع لأيهما ؟ .

هذا ( مع قيام الاجماع على عدم جواز العمل بها ) أي بالظنّون الحاصلة للمقلّد والقاضي ( كالقياس ) فكما أنّ الاجماع قام على عدم جواز العمل بالقياس ، كذلك قام الاجماع على عدم جواز عمل العامي بالظنّون ، المرتبطة بالأحكام الشرعيّة ، فلا يصح قياس ما نحن فيه على ظنّ القاضي والمقلّد للفرق من وجوه :

الاوّل : قيام الاجماع على عدم الاعتداد بظنّ القاضي في تعيين الواقع بين المتخاصمين ، وكذا ظنّ المقلّد في تعيين الأحكام الواقعيّة ، بخلاف ظنّ المجتهد فيما نحن فيه .

الثّاني : إنّ ظنّ القاضي والمقلّد بالنسبة الى تعيين الواقع وتعيين الطريق مختلف ، لأن الظن بتعيين الواقع بين المتخاصمين ، وتعيين الأحكام الواقعية ، حاصل من اُمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة ، وإتباعها للقاضي يستلزم اضطراب القضاء اذ كثيراً ما يظنّ القاضي بانّ الحق مع احدهما مع إنّ الأمارات الشرعيّة على خلاف ظنّه ، عمل بظنّه لزم اضطراب القضاء في القضايا الشخصيّة ، فتارة يحكم على حسب البيّنة ، وتارة على خلاف البيّنة .

وكذا بالنسبة الى اليمين ، وسائر الأمارات كاليد ، ونحوها ، وهذا خلاف دَيدَن العقلاء في الزوم التنسيق في الاُمور الحيوية العامة .

وكذا يلزم اضطراب الأحكام بالنسبة الى المقلّد فمرة يظنّ بأنّ الواجب صلاة

ص: 107

بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فانّها حاصلة من أمارات مُنضبطة غالبة المطابقة لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به .

-------------------

الجمعة ، ومرّة إنّه الظهر ، وثالثة إنّه مخيّر بينهما ، وهكذا بين المقلّدين المختلفين من أول الفقه الى آخره .

الثالث : إنّ الشارع في نصب الطرق للقاضي في القضاء ، والحاكم في الحكومة لم يلاحظ الواقع بما هو واقع ، بل جعل المناط هو مؤديات الطرق المخصوصة حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنَما أَقضِي بَينَكُم بالبيّناتِ والأيمان » (1) ، الى غير ذلك ، ومقتضى ما جعله الشارع عند إنسداد باب العلم بالطّرق : هو إعمال الظّنّ بالطرق دون الواقع ، بخلاف ما نحن فيه من أمر المجتهد .

ولا يخفى : إنّا ذكرنا في كتاب : « الفقه الحقوق » انّه هل العبرة بروح القانون أو جسم القانون إذا تخالفا ؟ وانّه هل يلزم العمل حسب علم القاضي أو حسب الدليل إذا تخالفا ؟ .

وعليه : فظنون المقلّد والقاضي بالواقع ساقطة ( بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فانّها حاصلة من أمارات منضبطة غالبة المطابقة ) و ( لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به ) أي : بتلك الظّنون ، وإنما جاء بضمير المفرد في : « به » باعتبار كل ظنّ ظنّ ، مثل قوله سبحانه : « والمَلائِكَةُ بَعدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ » (2) وقوله سبحانه : « لَم يَتَسَنّه ... » (3) .

ص: 108


1- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .
2- - سورة التحريم : الآية 4 .
3- - سورة البقرة : الآية 259 .

فالمثال المطابق لما نحن فيه أن تكون الظنون المعمولة في تعيين الطّريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع ، لا يُوجد بينهما فرقٌ من جهة العلم الاجماليّ بكثرة مخالفة احداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص .

كما إنّا لو فرضنا إنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعيّنُ العملَ بالظنّ في نفس الواقع دون الطريق .

فما ذكرنا من العمل على الظنّ ، سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ،

-------------------

إذن : ( فالمثال المطابق لما نحن فيه ) من ظنّ المجتهد ( أن تكون الظّنون المعمولة في تعيين الطّريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع ، لا يوجد بينهما فرق ) يعني : انّ الظّنّ بالطّريق يكون مثل الظّنّ بالواقع في مقدار إحتمال الموافقة والمخالفة فيهما للواقع ، حيث لا فرق بين الظّنين ، لا ( من جهة العلم الاجمالي بكثرة مخالفة احداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشّارع عن احداهما بالخصوص ) .

فانّ الشارع - كما فرضنا - منع المقلّد والقاضي من العمل بظنونهما المرتبطة بالواقع وأمرهما بالعمل بظنونهما في تعيين الطريق الذي هو المجتهد ، والتي هي الطرق المنصوبة لقطع المرافعات .

هذا ( كما إنّا لو فرضنا انّ الظّنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين ) بأن كان الظّنّ بالطّريق أكثر مخالفة من الظنّ بالواقع وكان الظنّ بالطريقين منهيّاً عنه من الشارع ، فانّه حينئذ ( كان المتعيّن العمل بالظّنّ في نفس الواقع دون الطريق ) لعدم تكافؤ الظّنين في هذه الصورة .

( فما ذكرنا : من العمل على الظّنّ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ) في باب

ص: 109

فانّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ، فانّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظنّ ، لم يجب عليه العملُ بالظنّ في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العملُ بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ .

وكذا القاضي إذا شَهِدَ عنده عادل واحد بالحقّ لا يعمل به ،

-------------------

المجتهد الذي إنسدّ عليه باب العلم والعلميّ ( فانّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ) بأن تساوى العمل على الظّن بالواقع ، والعمل على الظّنّ بالطريق ، فلا فرق في وجوب إتيانه بصلاة الجمعة بين أن يظنّ بأنّ الجمعة واجبة ، أو يظنّ بأنّ خبر الواحد حجّة وقد قام الخبر الواحد على وجوب الجمعة .

( فانّا لو فرضنا : انّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظّنون التي يعملها لتعيين المجتهد ) أي : يقدر عليها ( في الأحكام الشّرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها ) أي : يعارض هذه الظّنون ( على الوجه المعتبر في العمل بالظّن ) لأنّ العمل بالظّنّ يحتاج الى الفحص حتى يظنّ بالواقع ، ثم الفحص عمّا يعارض هذا الظّنّ .

فان مثل هذا المقلّد ( لم يجب عليه العمل بالظنّ في تعيين المجتهد ) فقط ( بل وجب عليه ) وجوبا تخييريا ( العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ ) فيكون مخيّراً بين أن يعمل بالظّنّ بالمجتهد ، أو بالظّنّ بالواقع .

( وكذا القاضي إذا اشَهِدَ عنده عادل واحد بالحقّ ، لا يعمل به ) لأنّ العادل الواحد لا يثبت به الحق ، قال سبحانه : « واستَشهِدُوا شَهِيدَينِ مِن رِجالِكُم » (1) .

ص: 110


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به . فانّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسائل الطريق بإعمال الظنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ، بخلاف الظنّ ، بحقيّة أحد المتخاصمين ، فانّه ممّا يَصعُبُ الاجتهادُ وبذلُ الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ، لعدم إنضباط الأمارات في الوقائع الشخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الاحاطة بها حتّى يأخذ بالاُخرى .

-------------------

( وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة ) كما إذا أخبره عن الامام عليه السلام بأنه يقضي بالنِّكول فقط من دون أن يردّ اليمين على المدّعي ، ( يأخذبه ) .

وإنّما لا يعمل بشهادة العادل الواحد القائل بالحق ، ويعمل بخبر القائل بطريق قطع المخاصمة ( فانّما هو لأجل قدرته ) أي : القاضي ( على الاجتهاد في مسائل الطريق ، بإعمال الظّنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ) أي : دفع تلك المعارضات بالنسبة الى انّه هل يقضي بالنّكول ، أو يحتاج مع النَكول الى ردّ اليمين على المدعي ، أو غير ذلك ؟ .

( بخلاف الظّنّ بحقيّة أحد المتخاصمين ) وانّ هذه الدّار المتنازع عليها لزيد أو لبكر وإن شهد عادل واحد بأنّها لزيد ( فانّه ممّا يصعبُ الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ) في انّ الحقّ مع أيهما ؟ .

وإنّما يصعب الاجتهاد ( لعدم إنضباط الأمارات في الوقائع الشّخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الاحاطة بها ) أي : بتلك الأمارات ، ( حتّى يأخذ بالاُخرى ) والأوفق منها .

فالأمارة في كون الدّار - مثلاً - لهذا أو لذاك في مائة قضية متماثلة ترفع

ص: 111

وكما ان المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّيّة ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصيّة ، فتأمّل .

هذا ، مع إمكان أنّ يقال :

-------------------

الى الحاكم ، وليست بأمارة واحدة ، فقد تكون الأمارة الشياع ، وقد تكون بظهور علائم الحق على وجه أحد الطرفين ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « ما نوى إمرء شيئا إلاّ وَظَهَر عَلى صَفحاتِ وَجهِهِ وَفَلَتاتِ لَسانِه » (1) .

وقد تكون لأجل إن أحدهما مبطل واضح ، لانّه لا يبالي - مثلاً - بأكل أموال النّاس بالباطل .

وقد تكون لأجل إن أحد المدّعين - مثلاً - جديد في البلد لم يعرف بعد ، والآخر قديم يُعرف بالأمانة ، الى غير ذلك من القرائن المكتنفة بالقضايا الشخصية .

( وكما إنّ المقلد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ) من أول الطهارة الى آخر الديّات ( كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية ) من مئات القضايات التي ترفع اليه .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة الى أنّ دليل الانسداد لا يدل على حجّية الظّن في الموضوعات الخارجيّة كما سيأتي - إنشاء اللّه - بعض الكلام في ذلك ، فيكون عدم تمكن القاضي من إعمال الظّنّ بالنسبة الى القضايا الشخصية من هذه الجهة ، لا من جهة إنّ الوقائع الشخصيّة غير منضبطة القرائن .

( هذا مع إمكان أن يقال : ) إن ما ذكرناه في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين

ص: 112


1- - بحار الانوار : ج68 ص316 ب25 ح4 ، نهج البلاغة : قصار الحكم : ص26 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص137 ب26 .

إن مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغايرةٌ لمسألتنا ، من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرضَ عنه ، وجَعَلَ مَدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة ، مثل الاقرار والبينّة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ، فانّ الظاهر إن مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها

-------------------

المفتي والقاضي وهو ( إنّ مسألة عمل القاضي بالظّن في الطريق ، مغايرة لمسألتنا) من إعمال المجتهد الظّنّ في الطريق ، وهذه المغايرة ( من جهة انّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرض عنه ) أي : عن الواقع ( وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبديّة ) .

وإنّما أعرض الشّارع عن الواقع - مع انّ الواقع هو المناط - لجهة مسألة الأهم والمهم ، فقد عرفت : إنّه إذا وكلّ الشّارع الأمر الى الواقع إضطرب القضاء ، لاختلاف آراء القضاة المتعددين ، بل القاضي الواحد في قضايا متعددة ، فتارة يحكم هكذا ، وأخرى يحكم ضده ، بخلاف ما إذا عبَّد الشارع القاضي بالطرق الخاصة ( مثل الاقرار ، والبيّنة ، واليمين ، والنّكول ، والقرعة ، وشبهها ) كالقَسامة في باب القتل ، وكذلك في كون الاعتبار بتعدد الجُنّاة لا بتعدد الجنيات وهكذا .

وهذا ( بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ) فالشارع جعل المعيار في هذا المقام الواقع ( فانّ الظّاهر : إنّ مبناها ) أي : مبنى الطرق المنصوب للمجتهد ( على الكشف الغالبيّ عن الواقع ) فلم يقدّم الشّارع الطّريق على الواقع بالنسبة الى المجتهد .

( ووجه تخصيصها ) أي : الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة

ص: 113

من بين سائر الأمارات كونها أغلبَ مطابقةً ، وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة . كما ينبى ء عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين اللّه : « وإنّه لَيسَ شَيءٌ أبعدَ عَن دِينِ اللّه ِ مِنْ عُقولِ الرّجالِ ، وإنّ ما يُفسِده أكثرُ مِمّا يُصلِحه ، وانّ الدّين يُمحَقُ بالقياس ، ونحو ذلك » .

ولا ريبَ أنّ المقصودَ من نصب الطريق إذا كان غلبةَ الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ،

-------------------

( من بين سائر الأمارات ) حيث الاعتبار في سائر الأمارات بالطريق ، والاعتبار في المجتهد على الواقع ، ( كونها ) أي : الطرق المنصوبة للمجتهد ( أغلب مطابقة ) للواقع ( وكون غيرها ) أي : سائر الأمارات ( غير غالب المطابقة ) للواقع ( بل غالب المخالفة ) للواقع .

( كما ينبى ء عنه ) أي : عن لزوم إتباع الطريق بالنسبة الى سائر الأمارات ( ما ورد في العمل بالعقول في دين اللّه ، وإنّه لَيسَ شَيءٌ أَبعَدَ عَن دِينِ اللّه ِ مِن عُقولِ الرِّجالِ ، وإنّ ما يُفسده ) العامل بعقله لا بالطرق المقررة شرعاً ، ( أَكثَر مِمّا يُصلِحُه ) الدّال على غلبة عدم المطابقة ( وإنّ الدِّينَ يُمحَقُ بالقياس) (1) لأنّ القياس لا يصيب الواقع على الأغلب ( ونحو ذلك ) من الرّوايات في هذا الباب .

( ولا ريب إنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول الى الواقع لخصوصيّة فيها ) أي : في ذلك الطريق المنصوب ( من بين سائر الأمارات ) حيث إن هناك أمارات على الواقع لكن هذا الطريق المنصوب يغلب سائر الأمارات

ص: 114


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 .

ثمّ إنسدّ بابُ العلم بذلك الطريق المنصوب والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارعُ في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرقَ بين إعمال هذه الأمارات في تعين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي .

-------------------

في الوصول الى الواقع كالخبر ، فانّه غالب الوصول من بين الأمارات الأُخر ، من الشهرة ، والاجماع المنقول ، والأولويّة ، وما أشبه ذلك .

( ثمّ ) انّه إذا ( إنسد باب العلم بذلك الطّريق المنصوب ) بأن لم يتمكن من العلم بالخبر الذي نصبه الشارع طريقاً الى إحكامه ( والتجأ ) أي : المكلّف ( الى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع ) لأن هناك ما هو أقرب في الوصول الى الواقع منها ، كما لو إلتجأ بعد الخبر الى العمل بالشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة ( في نفس الحكم ) « في » : متعلق ب- : « اعمال » ، أي : إنّ المكلّف أعمل هذه الأمارات للوصول الى الحكم .

وإنما لم يعتبرها الشارع ( لوجود الأوفق منها بالواقع ) فانّ المفروض إن الخبر أوفق من سائر الأمارات في الوصول الى الواقع ، ولذا إعتبر الشارع الخبر ولم يعتبر سائر الأمارات .

وحينئذ : لمّا إنسدّ الطريق الى الخبر ( فلا فرق بين إعمال هذه الامارات ) التي لم يعتبرها الشّارع ( في تعيين ذلك الطريق ) « في » : متعلق ب- : « اعمال » أي : إنّ الأمارات التي تدل على الخبر ( وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ) .

فاذا قامت الشّهرة - مثلاً - على إنّ الاستحسان طريق ، والاستحسان قال بوجوب صلاة الجمعة ، كان كما إذا قامت الشّهرة على وجوب الجمعة ، وهذا هو معنى تساوي الظّنّ الانسدادي على الطريق أو على الواقع .

ص: 115

بل الظاهر إن إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوليّة التي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ، فانّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يُتَدارك المفسدة المُترتّبة على مخالفة الواقع اللاّزمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة . ولهذا إتفق العقلُ والنقلُ على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق

-------------------

( بل الظاهر ) لدى العقل والعقلاء ( إنّ إعمالها ) أي : الأمارات غير المنصوبة شرعاً التي إضطّر المكلَّف إليها ( في نفس الواقع ، أولى لاحراز المصلحة الأولية ، التي هي أحق بالمراعاة عن مصلحة نصب الطّريق ) فاذا حصلنا على الشهرة الّتي تدلّ على وجوب الجمعة ، كان أولى من أن نحصل على الشّهرة التي تدلّ على إنّ الاستحسان طريق .

( فانّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ، ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللاّزمة ) تلك المخالفة ( من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ) فانا إذا حصلنا على الشّهرة بوجوب الجمعة وعملنا بالشهرة أحرزنا مصلحة صلاة الجمعة ، بينما إذا حصلنا على الشهرة القائلة بأنّ الاستحسان طريق، فانّه إذا لم يكن الاستحسان طريقاً ووقعنا بسبب الشّهرة في مفسدة ترك الواقع ، كانت المصلحة التي أحرزناها بسبب عملنا بالشّهرة هو : تدارك المفسدة بمصلحة سلوك الطريق ، وذلك للمصلحة السلوكيّة التي قال بها الشيخ في أول الكتاب .

وإنّما قال : فان غاية ما في نصب الطريق . . . لأنه ربّما لا تكون مصلحة سلوكيّة أيضاً ، فانّ المشهور لا يقولون بالمصلحة السلوكيّة إطلاقاً .

( ولهذا ) الّذي ذكرناه من قولنا : الظّاهر إنّ إعمال الأمارة في نفس الواقع أولى الى آخره ( إتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطّريق

ص: 116

المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نية الوجه إتفاقاً ، بل الحقّ ذلك فيها أيضاً ، كما مرّت الاشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط .

-------------------

المنصوب ) ولو معلوماً .

فانّه إذا دار الامر بين الأخذ بقول الشاهد على انّ ماء الاناء الأبيض مطلق ، بعد العلم بأن أحد المائين في الاناء الابيض أو الأحمر مضاف ، فإن الاحتياط بغسل الشيء النجس بكليهما أولى عند العقل والعقلاء وعند الشرع - الّذي قال : « احتَط لدِيِنكَ بما شِئت » (1) - من غسله بالماء الّذي قام الشاهد على إنّه مطلق فقط ، وليست هذه الأولويّة إلاّ لأنّ تحرّي الواقع أولى من تحرّي الطّريق .

لكن ترجيح الاحتياط إنّما هو ( في غير العبادات ، ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه إتّفاقاً ) بين العلماء على انّ الاحتياط أولى من سلوك الطريق .

( بل الحقّ ذلك ) أي : تقدّم الاحتياط على سلوك الطريق المنصوب ( فيها ) أي : في العبادات ( أيضاً ، كما مرّت الاشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط ) فراجع .

وعليه : فاذا دار الأمر بين صلاتين في ثوبين أحدهما طاهر والأخر نجس حتى يحرز الواقع قطعاً ، وبين صلاة واحدة في ثوب قام الشاهد على إنّه طاهر ، كان الاحتياط بالصّلاة في ثوبين أولى من الصّلاة في ثوب واحد قام الشاهد على طهارته ، لأنّ الاحتياط معلوم الوصول إلى الواقع بينما ما قام عليه الطّريق لا يعلم وصوله الى الواقع ، فلربّما لم يصب الواقع وإنّما يكون المكلَّف معذوراً إذا سلك

ص: 117


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .

فان قلت : العملُ بالظّنّ في الطريق عملٌ بالظنّ في الامتثال الظاهريّ والواقعيّ ، لأنّ الفرضَ إفادةُ الطريق للظنّ بالواقع ، بخلاف غير ما ظُنّ طريقيّته ، فانّه ظنّ بالواقع وليس ظنّاً بتحقق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهريّ مشكوكٌ أو موهومٌ بحسب إحتمال إعتبار ذلك الظنّ .

-------------------

هذا الطّريق .

إذن : فنقول للفصول : انّ اللاّزم تحصيل الظّن بالطريق ، لا الظّنّ بالواقع ، هو خلاف العقل والعقلاء والشرع .

( فان قلت : ) اللازم العمل بالظّن بالطريق - كما يقوله الفصول - لا العمل بالظّنّ بالواقع ، لأنّ ( العمل بالظّنّ في الطّريق ، عمل بالظّن في الامتثال الظّاهري والواقعيّ ) .

أمّا الظاهري : فلأنه ظنّ بالطريق .

وأما الواقعي : ف- ( لأنّ الفرض إفادةُ الطريق للظّن بالواقع ) فاذا طننّا بأنّ الخبر

طريق وعملنا بالخبر ، فانّا نظنّ بالواقع أيضاً .

( بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ، فانّه ظنّ بالواقع ) فقط ( وليس ظنّاً بتحقّق الامتثال في الظّاهر ) فانّه إذا ظنّ بوجوب صلاة الجمعة وأتى بها ، فانّه ظنّ بالواقع وبالامتثال الواقعي ، وليس ظنّاً بالامتثال الظاهري لعدم تحقق الامتثال بسبّب الطريق ( بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب إحتمال إعتبار ذلك الظنّ ) .

مثلاً : إذا ظنّ في حال الانسداد بأنّ الخبر فقط طريق ، كان معناه : الوهم بأنّ الشهرة طريق ، أو معناه : الشك في انّ الشهّرة طريق أم لا ؟ فاذا عمل بالشهرة التي قامت على وجوب الظهر كان تاركاً للعمل بالظّنّ وآخذاً بالعمل بالوهم أو الشك

ص: 118

قلت : أوّلاً : إنّ هذا خروجٌ عن الفرض ، لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ في الطريق وإن لم يكن الطريقُ مفيداً للظنّ به أصلاً .

نعم ، قد إتفق في الخارج أنّ الأمور التي يُعلَم بوجود الطريق فيها إجمالاً مفيدةٌ للظنّ شخصاً أو نوعاً ، لا انّ مناط الاستدلال إتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع .

-------------------

فيما إذا قام الخبر على وجوب الجمعة .

ومن المعلوم : إنّ العمل بالظّنّ بالطريق ، أولى من العمل بالوهم أو بالشك بالطريق ، فكيف تقولون - أنتم أيّها الشيخ - بتقديم الظّنّ بالواقع على الظّنّ بالطريق ؟ أو تقولون بتساويهما ؟ .

( قلت : أولاً : إنّ هذا ) الّذي ذكرتموه : من إنّ الظّنّ بالطّريق ظنّ بالواقع أيضاً ، بخلاف الظنّ بالواقع ، فانّه ليس ظناً بالطّريق ( خروج عن الفرض ) الذي فيه كلامنا الآن .

وذلك ( لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم ) - إنّما هو ( على وجوب العمل بالظّنّ في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيداً للظّنّ به ) أي : بالواقع ( أصلاً ) فانّ صاحب الفصول يقول : إنّه إذا كان هناك ظنّان : ظنّ بالطريق ، وظنّ بالواقع ، فاللازم الأخذ بالظّنّ بالطريق ، سواء ظنّ بالواقع أم لا .

( نعم ، قد إتفق في الخارج ) أي : في القضيّة الخارجيّة ( إنّ الأمور التي يُعلَم بوجود الطريق فيها إجمالاً ، مفيدة للظّن شخصاً أو نوعاً ) بالظّنّ بالواقع ( لا انّ مناط الاستدلال ) الذي هو إتباع الظّنّ بالطريق ( اتباع الظن بالطريق المفيد للظّنّ بالواقع ) .

والحاصل : انّ الفصول يقول : إذا ظننّت بالطريق إتبعه سواء ظننّت بالواقع ،

ص: 119

وثانياً : إنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنّية على بعض بإعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعاً دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق .

وسيجئ الكلامُ في أنّ نتيجةَ دليل

-------------------

أم لا ، والمستشكل ب- : « ان قلت » يقول : إذا ظننّت بالطريق ظننّت بالواقع ، ومن المعلوم : إنّه ليس كل ما ظنّ الانسان بالطريق ظنّ بالواقع .

( وثانياً : ) إنّ الظّنّ بالواقع إن لم يكن معتبراً كان وجوده كعدمه ، إذ المعيار الوحيد - بنظر هذا القائل - هو الظّنّ بالطّريق فقط ، وعليه : فلماذا رجّح الظّنّ بالطّريق لأنّه ظنّ بالواقع حيث قال : العمل بالظّن في الطريق عمل بالظّن في الامتثال الظاهري والواقعي ؟ ف- ( انّ هذا ) الكلام منه ( يرجع الى ترجيح بعض الأمارات الظّنية ) التي هي الظّن بالطريق ( على بعض ) وهو الظّنّ بالواقع .

وإنّما يرجّح الظّنّ بالطريق على الظّنّ بالواقع ( بإعتبار الظّنّ باعتبار بعضها شرعاً دون الآخر ) يعني : أنّ القائل قال : إنّا نظنّ بإعتبار الظّنّ بالطريق شرعاً ، ولا نظنّ بإعتبار الظّنّ بالواقع شرعاً ( بعد الاعتراف ) منه ( بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظّنّ بالواقع لا بالطريق ) .

ثم إنّ الفصول الذي يقول بحجّية الظّنّ بالطريق لا الظّنّ بالواقع يترتب على كلامه هذا : إلغاء بحث جارٍ بين الانسداديين يأتي عن قريب إنشاء اللّه في إنّ نتيجة دليل الانسداد مطلقة أو مهملة .

وإنّما يلزم إلغاء هذا البحث لأن الاطلاق والاهمال يأتيان في الظّنّ بالواقع ، لا الظّنّ بالطريق ، فان الظّنّ بالطريق ليس فيه إطلاق أو إهمال .

والى هذا المعنى : أشار المصنّف بقوله : ( وسيجئالكلام في انّ نتيجة دليل

ص: 120

الانسداد على تقدير إفادته إعتبارَ الظنّ بنفس الحكم كلّيةٌ بحيث لا يرجّح بعضُ الظنون على بعض أو مهملةٌ بحيث يجب الترجيحُ بين الظنون ، ثمّ التعميمُ مع فقد المرجّح ؟ .

والاستدلالُ المذكور مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليلَ الانسداد جارٍ في مسألة تعيين الطّريق وهي المسئلة الأصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعيّة ، بناءا منه على أنّ الأحكام الواقعّية بعد نصب الطّريق ليست مكلّفاً بها تكليفاً فعلياً إلاّ بشرط قيام الطرق عليها ،

-------------------

الانسداد على تقدير إفادته إعتبار الظّنّ بنفس الحكم ، كليّة ، بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ) وإنّما الاعتبار بما أدّى اليه الظنّ قويّاً كان أو ضعيفاً ( أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ) إذا كان هناك مرجّح ( ثم التعميم ) لكل الظّنّون ( مع فقد المرّجح ) ؟ .

فانّه سيأتي - إنشاء اللّه تعالى - بعد أربع صفحات تقريباً ، قول المصنّف : فهنا مقامات .

الأوّل : في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معينة ، ومراده بالمعينة : الكليّة ،

كما سيظهر إنشاء اللّه تعالى .

( والاستدلال المذكور ) لصاحب الفصول ( مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ) أي : كون النتيجة مهملة أو مطلقة ( وأنّ دليل الانسداد جارٍ في مسألة تعيين الطريق ، وهي المسألة الاُصولية ، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعيّة ) .

هذا هو كلام الفصول ( بناءاً منه على إنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطّريق ليست مكلّفاً بها تكليفاً فعليّاً إلاّ بشرط قيام الطّرق عليها ) كما إذا قال المولى لعَبدِه: إني أريد مِنكَ أموراً ، لكن أريدها منك عن طريق خادمي هذا ، حيث قيّدَ

ص: 121

فالمكلّفُ به في الحقيقة مؤدّياتُ تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي .

وقد عرفتَ ممّا ذكرناه أنّ نصبَ هذه الطرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له : فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع ولم يكن رجحانْ للأول .

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبَها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحةُ الواقع ،

-------------------

أحكامه بالطريق الذي هو خادمه ، فلا يريد أحكامه عن غير هذا الطريق .

وعليه : ( فالمكلّف به في الحقيقة ) - على قول الفصول - هو ( مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي ) أحكام واقعية .

هذا ( وقد عرفت ممّا ذكرناه ) قبل صفحة تقريباً : عدم تماميّة كلام الفصول ، وذلك ( انّ نصب هذه الطّرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغلبيّ عن الواقع ، ومطابقتها له ) لا إنّ الطرق تقيد الأحكام الواقعيّة ، ( فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها) أي : في تعيين الطرق ( أو في تعيين الواقع ، ولم يكن رجحان للأوّل ) أي : الظّنّ في تعيين الطرق ، على الثاني ، أي الظّنّ في تعيين الواقع .

ولهذا نرى : إنّه لا فرق بين الظّنّ بالطّرق أو الظّنّ بالواقع ، وإن أشرنا قبل نصف صفحة تقريباً الى انّ الظّاهر : انّ إعمالها في نفس الواقع أولى ، لاحراز المصلحة الأوليّة الّتي هي أحق بالمراعاة من مصلحة نصب الطّريق .

وعلى أي : حال : فان نصب الطرق إنّما هو لأجل الكشف الغالبي عن الواقع .

( ثم إذا فرضنا : إنّ نصبَها ليس لمجرّد الكشف ) عن الواقع ( بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ) كالتسهيل في أصالة الطّهارة ، وما أشبه ذلك

ص: 122

لكن ليس مفادُ نصبها تقييدَ الواقع بها وإعتبارَ مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلُها عينَ الواقع ولو بحُكم الشارع ، لا قيداً له .

والحاصلُ : أنّه فرقٌ بَيْنَ أنْ يَكون مَرجِعُ نَصْب هذه الطُرق إلى قَوْل الشارِع : « لا أريدُ مِنْ الواقع إلاّ ما ساعَدَ عليه ذلك الطريقُ » ،

-------------------

( لكن ليس مفاد نصبها ) أي : نصب الطرق ( تقييد الواقع بها ) أي : بهذه الطرق ( وإعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ) .

وقوله : « واعتبار » عطفٌ على قوله « تقييد » أي : ليس مفاد نصبها : ان الشارع اعتبر مساعدة الطرق في إرادة الواقع ، بحيث إذا لم تكن تلك الطرق لا يريد الشارع الواقع ( بل مؤدّى وجوب العمل بها ) أي : بالطرق ( جعلها عَينَ الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيداً له ) أي : لا قيداً للواقع .

وذلك لأن مجرّد ملاحظة الشّارع المصلحة في أمره بسلوك الامار الكاشفة عن الواقع - مضافاً إلى كشفها - لا يقتضي رفع اليد عن الواقع ، بلّ غاية ما يلزمه : تدارك ما فات من مصلحة الواقع من جهة سلوكها ، فانّه ربّما كان العبد يدرك الواقع إذا لم ينصب الشارع هذا الطريق ، فنصب الطريق فوّت عليه الواقع ، فيلزم على الشارع أن يتدارك مصلحة الواقع ، وذلك في كلام طويل ذكرناه في أوّل الكتاب في باب المصلحة السلوكية .

وعلى أي حال : فأين هذا من إعراض الشارع عن الواقع رأساً ، وإرادته الطريق فقط .

( والحاصل : انّه فرق بين أن يكون مرجِعُ نصب هذه الطّرق ) من قبل الشارع ( الى قول الشارع : لا أريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق ) فيكون

ص: 123

فَينْحَصِر التكليفُ الفعليّ حينئذٍ في مؤدّيات الطريق ، ولا زمُه إهمالُ ما لم يؤدّ اليه الطريقُ مِنَ الواقع ، سَواءْ إنفَتحَ بابُ العِلمِ بالطريق أَمْ إنسدّ ، وَبينَ أَنْ يَكون التكليفُ الفعليّ بالواقع باقياً على حاله ، إلاّ أنّ الشارع حَكَمَ بِوجوبِ البناء على كَونْ مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع فمُؤدّى هذه الطُرق واقعٌ جَعليّ ؛ فاذا إنسدّ طريقُ العِلم إليه ودار الأمرُ بَيْنَ الظنّ بالواقع الحقيقيّ وبَيْنَ الظنّ بما جَعَلَهُ الشارع واقعاً ، فلا ترجيحَ ، إذ الترجيح

-------------------

الطريق مقيّداً بالواقع ، والواقع مقيّداً بالطريق ( فينحصر التكليف الفعلي ) للمكلّف ( حينئذ ) أي : حين قول الشارع ذلك ( في مؤدّيات الطريق ) فقط .

( ولازمه ) أي : لازم هذا القول من الشارع : ( إهمال ما لم يؤدّ اليه الطريق من الواقع ، سواء إنفتح باب العلم بالطريق أم إنسدّ ) فاذا قال الشّارع : أريد أحكامي من طريق الخبر الواحد فقط ، كان معناه : انّه لا يريد حكماً لم يأت من طريق الخبر الواحد ، سواء كان في حال الانفتاح أو حال الانسداد .

( وبين أن يكون التكليف الفعلي ) على المكلّف ( بالواقع باقياً على حاله ) وأنّ الشّارع يريد الواقع ( إلاّ انّ الشّارع حكم : بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ) بأن كان الشارع يريد الواقع ، ومع ذلك ويريد انّه إذا أدّى الخبر الى خلاف الواقع أن يكون ذلك واقعاً تنزيليا .

وعليه : ( فمؤدى هذه الطرق واقع جعلي ) تنزيلي ( فاذا إنسدّ طريق العلم اليه) أي : الى الواقعي ( ودار الأمر بين الظّن بالواقع الحقيقي ، وبين الظّنّ بما جعله الشّارع واقعاً ، فلا ترجيح ) بين الواقع الحقيقي وبين الواقع التنزيلي لأن المفروض : انّ الشارع جعل الواقع التنزيلي ، نازلاً منزلة الواقع الحقيقي .

وإنّما لا يكون ترجيح ( إذ الترجيح ) الذي قال به صاحب الفصول

ص: 124

مبنيّ على إغماضِ الشارع عَن الواقع ، وبذلك ظَهَرَ ما في قَول هذا المستدّل : من « أنّ التَسويةَ بَيْنَ الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق إنّما يَحسُنُ لو كان أداءُ التكليف المتعلّق بكلّ مِنَ الفعلِ والطريق المقرّر مستقلاً ، لقيام الظّن في كُلّ مِن التَكْليفَين حينئذٍ مقامَ العلم به مَعَ قَطْعِ النظر عن الآخر .

وأما لو كان أحدُ التكليفَين مَنوطاً بالآخر مقيّداً له ، فمجرّدُ حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له

-------------------

( مبنيّ على إغماض الشّارع عن الواقع ، وبذلك ) الذي قلنا : من عدم تقييد الواقع بالطريق وعدم الاغماض عن الواقع المجرد عن الطريق ( ظهر ما في قول هذا المستدّل ) وهو صاحب الفصول ( من ) نظر ، وهو :

( انّ التسوية بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطّريق ) بأن يكون كل واحد منهما كافياً في أداء التكليف ( انّما يحسنُ لو كان ، أداء التكليف المتعلق بكلّ من الفعل ) يعني : الواقع ( والطريق المقرّر ) الى الواقع ( مستقلاً ) بأن لا يفرّق عند الشّارع ظنّ المكلّف بالواقع ، أو الظنّ بالطّريق ( لقيام الظّن في كلّ من التكليفين حينئذٍ ) أي حين إستقلال كل واحد من الظّنّ بالطريق ، أو الظنّ بالواقع ( مقام العلم به ، مع قطع النّظر عن الآخر ) فاذا ظنّ بالطريق كفى ، وإذا ظنّ بالواقع كفى .

( وأمّا لو كان أحد التكليفين ) من الواقع والطريق ( منوطاً بالآخر ) كما يرى صاحب الفصول الواقع منوطاً بالطريق ، والطريق ( مقيّداً له ) أي : للواقع ، فان بنظر صاحب الفصول : انّ الشّارع لا يريد الواقع بما هو واقع ، وإنّما يريد الواقع الذي هو مؤدّى الطريق .

وعليه : ( فمجرد حصول الظّنّ بأحدهما ) وهو الواقع ( دون حصول الظنّ بالآخر ) وهو الطريق ( المقيّد له ) أي : الطريق الذي هو مقيد للواقع ، فانّه

ص: 125

لا يقتضي الحكمّ بالبراءة . وحصولُ البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنّما هو لِحُصول الأمرين به ، نظراً إلى أداء الواقع وكونه مِن الوجه المقرر لِكَوْن العلم طريقاً إلى الواقع في العقل والشرع؛ فلو كا الظنّ بالواقع ظنّاً بالطريق جرى ذلك فيه أيضاً، لكنّه ليس كذلك ، ولذا لا يَحْكُم بالبراءة معه »،

-------------------

( لا يقتضي الحكم بالبرائة ) إذا جاء به المكلّف ، لأنه ظنّ بالواقع من دون أنّ يقوم عليه طريق ، بينما كان يلزم عليه أن يأتي بالواقع الذي قام الطريق عليه .

( و ) إن قلت : كما انّ الواقع إذا حصل العلم به كفى في البرائة بلا إحتياج الى العلم بالطريق كذلك الظنّ فانّه إذا حصل الظّنّ بالواقع ، كفى في البرائة بلا إحتياج الى الظّنّ بالطريق أيضاً .

قلت : ( حصول البرائة في حصول العلم بأداء الواقع ، إنّما هو لحصول الأمرين ) من الواقع والطريق ( به ) أي : بسبب العلم بالواقع .

وإنّما يحصل الامران بسبب العلم بالواقع ( نظراً الى أداء الواقع ، وكونه ) أي : إداء الواقع ( من الوجه المقرر ) .

وإنّما كان بالوجه المقرر ( لكون العلم طريقاً الى الواقع في العقل والشرع ) فانّ العلم طريق عقلي وطريق شرعي .

وعليه : ( فلو كان الظّنّ بالواقع ، ظنّاً بالطريق ) أيضاً ( جرى ذلك ) أي : حصول البرائة ( فيه ) أي : في الظّنّ بالواقع ( أيضاً ) أي : كالعلم .

( لكنه ليس كذلك ) فان الظّنّ بالواقع ليس ظنّاً بالطريق ( ولذا لا يحكم بالبرائة معه ) (1) أي : مع الظّنّ بالواقع .

ص: 126


1- - هداية المسترشدين : ص393 .

انتهى .

الوجه الثاني :

ما ذَكَرَهُ بعضُ المحققين مِن المُعاصرين مع الوجه الأوّل وَبعْض الوجوه الأخر ،

-------------------

والحاصل : إنّ العلم بالواقع علم بالطريق ، لفرض إنّ الشارع جعله طريقاً الى الواقع ، بينما ليس الظّنّ بالواقع ظنّاً بالطريق ، فاذا ظنّ بالواقع وعمل به لم يكن هناك ظنّ بالطريق ، بخلاف الظنّ بالطريق ، فانّه ظنّ بالواقع .

هذا ، وقد عرفت الاشكال فيما ذكره صاحب الفصول وانّه يتساوى الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، بل الظّنّ بالواقع أولى من الظّنّ بالطريق ( إنتهى ) كلام الفصول .

( الوجه الثاني ) من وجهي لزوم الظّنّ بالطريق وانّه لا يكفي الظّنّ بالواقع : ( ما ذكره بعض المحققّين من المعاصرين ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، فانّه ذكر هذا الوجه الثاني ( مع الوجه الأول ) الذي إستفاده منه صاحب الفصول ونقلناه نحن عن الفصول ( وبعض الوجوه الاخر ) .

ويمكن أن يلّخص هذا الوجه : بانّا نحتاج الى الظّنّ ببرائة الذمة ، لا الظّنّ بأداء الواقع ، لأنّ المطلوب منّا : برائة الذمة ، أمّا الظّنّ بأداء الواقع فلا يكفي ، إذ من الممكن أن يأتي الانسان بما يظنّ إنّه واقع ولا يّظنّ ببرائة ذمته ، لاحتمال انّ الشّارع يريد منه شيئاً فوق أداء الواقع .

ويمكن تأييده بما ورد في باب القضاء : من « رَجُلٌ قَضى بالحَقِ وَهو لا يَعلم » (1) حيث إنّ القاضي أدّى الواقع ، لكن الشارع لا يكتفي بذلك الواقع

ص: 127


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

قال : « لا ريبَ في كوننا مكَلَّفين بالأَحكام الشرعية ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجبَ علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّةِ في حُكْمِ المكلّفِ بأن يُقطَعَ مَعهُ بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كُلِفنا به وسقوط التكليفِ عَنّا سَواء حَصَلَ العِلمُ منه بأداء الواقع

-------------------

في برائة ذمته ، كما يمكن تأييد ذلك أيضاً بما ورد : من إنّ « مَن فَسَّرَ القُران بِرَأيِهِ فَأصابَ فَقَد أخطَأ » (1) .

وحيث إنّ المطلوب : برائة الذّمة ، فان تمكن من البرائة بالعلم فهو ، والاّ بأن إنسدّ باب العلم ، فاللازم الظّنّ ببرائة الذّمة ، فاذا سلك الطريق المظنون إكتفى العقل بالبرائة ، أمّا اذا ظنّ بالواقع فلا يكتفي العقل ببرائته عن التكليف .

ولهذا ( قال ) صاحب الحاشية أوّلاً : ( لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ) والمراد من قوله: « في الجملة » انّه يجب علينا : إما الواقع وإمّا مؤديات الطرق بحسب القدرة .

( و ) ثانياً : ( إنّ الواجب علينا أوّلاً : هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلِّف ) - بالكسر - أي : المولى ، فإنّه يجب على المكلَّف - بالفتح - العلم بأنّ ذمته فرغت من حكم الشّارع ، وذلك ( بأن يقطع معه ) أي : مع العلم ( بحكمه ) أي : بحكم المولى قطعاً ( بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ) من الأحكام .

( و ) ثالثاً : ( سقوط التكليف عنّا ) مع القطع بتفريغ الذمة مسلَّم ( سواء حصل العلم منه ) أي : من القطع بتفريغ الذمة ( بأداء الواقع ) أي : نعلم بأداء الواقع

ص: 128


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص205 ب13 ح33610 وفيه « فاصاب الحق » ، تفسيرالصافي : ج1 ص21 .

أو لا ، حَسبَ ما مرّ تفصيلُ القول فيه .

وحينئذٍ ، فنقول : إنْ صحّ لنا تحصيلُ العلم بتفريغ الذمّة في حُكْمِ الشارع فلا اشكال في وجوبه وحصول البراءة ، وإنْ إنسدّ علينا سَبيلُ العلم به كان الواجبُ علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقربُ إلى العلم به فتعين الأخذ به عند التنزّل مِن العلم في حُكْمِ العقل بعد إنسداد سبيل العلم به والقطع ببقاء التكليف ،

-------------------

( أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ) وسيأتي من المصنّف - إنشاء اللّه - بيانه مجدداً .

( وحينئذ ) أي : حين تمت الأُمور الثلاثة المذكورة( فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذّمّة في حكم الشّارع ) « في » : متعلق بقوله : « تحصيل » وذلك بأن نحصِّل العلم بحكم الشّارع فنعمل به ، فنقطع بفراغ ذمتنا .

وإنّما نحصّل العلم إذا كانت الطرق المقررة معلومة لنا ( فلا إشكال في وجوبه ) أي : وجوب تحصيل العلم بتفريغ الذّمة ( وحصول البرائة ) أي : وجوب تحصيل البرائة .

( وإن إنسدّ علينا سبيل العلم به ) أي : بتفريغ الذّمة ( كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبرائة في حكمه ) أي : في حكم المكلِّف - بالكسر - وهو الشارع ( إذ ) الظّنّ ( هو الأقرب الى العلم به ) أي : بتفريغ الذمة .

إذن : ( فتعيّن الأخذ به ) أي : بالظّنّ ( عند التنزّل من العلم في حكم العقل ) وقوله : «في حكم العقل» ، متعلق بقوله : «فتعين» ، أي : تعين بحكم العقل الأخذ بالظنّ إذا لم يكن لنا علم ، وذلك ( بعد إنسداد سبيل العلم به ، والقطع ببقاء التكليف ) فانّه إذا إنسدّ باب العلم أوّلاً ، وعلمنا ببقاء التكليف ثانياً ، وجب علينا

ص: 129

دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع ، كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ .

وبينهما بَونٌ بَعيدٌ ، إذ المعتبرُ في الوجه الأوّل هو الأخذُ بما يُظَنُّ كونهُ حجةً بقيام دليل ظنّيّ على حجّيته ، سواء حَصَلَ منه الظنّ بالواقع أو لا .

وفي الوجه الثاني لا يلزم حصولُ الظنّ بالبراءة في حُكْمِ الشارع ، إذ لا يَستلزم مجرّدُ الظنّ بالواقع الظنَّ باكتفاء المكلِّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن إتّباع الظنّ .

-------------------

تحصيل الظّنّ بفراغ الذمة .

( دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع ) يعني : لا يكتفي أن نظنّ بأداء الواقع ( كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظّنّ ) من مشهور الانسداديين الذين يقولون بأنّه يكفي الظّنّ بأداء الواقع .

( وبينهما ) أي : بين تحصيل الظّنّ بأداء الواقع وتحصيل الظّنّ ببرائة الذّمة ( بَونٌ بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل ) وهو الظّنّ بالبرائة ( هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة بقيام دليل ظنّي على حجّيته ) كالأخذ - مثلاً - بالخبر الّذي يظنّ كونه حجّة ، لأنّه قام الدّليل الظني - كالشهرة مثلاً - على حجّيته فان الأخذ به ، مظنَّة للبرائة ( سواء حصل منه الظّنّ بالواقع أو لا ) لأنّا مكلَّفون أوّلاً بالعلم ببرائة الذّمة ، فاذا لم يكن علم ، فإنّا مكلّفون بالظنّ ببرائة الذمة .

( وفي الوجه الثاني : ) وهو ما ذكره بقوله : دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع ( لا يلزم حصول الظنّ بالبرائة في حكم الشّارع ) لأنّ الظّنّ بالواقع لا يلازم الظنّ بالبرائة ( إذ لا يستلزم مجّرد الظّنّ بالواقع الظّنّ باكتفاء المكلِّف ) - بالكسر - أي : المولى ( بذلك الظّنّ ) بالواقع ( في العمل ، سيّما بعد النّهي عن إتّباع الظّنّ )

ص: 130

فاذا تعيّن تحصيلُ ذلك بمقتضى العقل ، يلزمُ إعتبارُ أمر آخر يظنّ معه رضى المكلِفِ بالعمل به . وليس ذلك إلاّ الدّليل الظنّي الدال على حجّيته؛ فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشارع ، يكون حجّةً دون ما لم يقم عليه ذلك انتهى بألفاظه .

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذَكَرَه سابقاً في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال - في المقدّمة الرابعة من تلك

-------------------

وقد سَبقَ مِنّا مثالين ، لأنّ الظّنّ بالواقع لا يكفي ، بل يلزم الظّنّ بالطريق .

( فاذا تعيّن تحصيل ذلك ) أي : الطريق المجعول ( بمقتضى العقل ، يلزم إعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلِّف بالعمل به ) وهو الظّنّ بالطّريق إذا لا يكفي الشك والوهم ( وليس ذلك ) أي : الأمر الآخر ، الذي يظنّ معه رضى المكلَّف بالعمل به ( إلا الدّليل الظّنّي الدّال على حجّيته ) كما مثّلنا له بالشّهرة التي هي دليل ظنّي تقوم على حجّية خبر الواحد .

وعلى هذا : ( فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشّارع ، يكون حجّة ) ويلزم علينا العمل به ( دون ما لم يقم عليه ذلك ) (1) ظنّ بالحجّية ( إنتهى ) كلام صاحب الحاشية ( بألفاظه ) ممّا حصله : إنّه لدى الانسداد يجب الظّنّ بالطريق ، ولا يكفي الظّنّ بالواقع .

هذا ( وأشار بقوله : حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، الى ما ذكره سابقاً في مقدّمات هذا المطلب ) ببيان ما ذكرناه نحن بقولنا : وثالثاً : سقوط التكليف عنّا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أم لا ( حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك

ص: 131


1- - هداية المسترشدين : ص391 .

المقدّمات - :

«انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل : هل هو اليقينُ بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة إلاّ أن يَقُوم دليل على الاكتفاء بغيره ؟ .

أو أنّ الواجبَ أوّلاً هو تحصيلُ اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجهٍ أراده الشارعُ في الظاهر ، وحَكَمَ معه قطعاً بتفريغ ذمتّنا ، بملاحظة الطُرق المقرّرة لِمعرفتها بمّا جَعَلَها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أوْ لَمْ يَحْصَل شيء منهما ؟

-------------------

المقدّمات ) الانسدادية ( : انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل ، هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة ؟ ) بأن يكون الواجب علينا العلم بالأحكام ( إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره ) فيكون قيام الدليل على الاكتفاء بغيره إستثناءا عن الواجب الأوّلي .

( أو أنّ الواجب ، أوّلاً : هو : تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه إرادة الشّارع في الظاهر ؟ ) من دون أن نكون نحن مكلّفين بالواقع ، وإنّما نكون مكلّفين بمؤديات الطرق ، ( و ) تحصيل ( حكم ) الشارع ( معه ) أي : مع هذا اليقين ( قطعاً بتفريغ ذمّتنا ) وذلك العلم والحكم انّما يحصل لنا ( بملاحظة الطرق المقررّة لمعرفتها ) أي : لمعرفة الأحكام ( بما جعلها ) اي : جعل الشّارع الطرق وسيلة للوصول الى أحكامه ، فالطرق هي ( وسيلة للوصول اليها ) أي : الى تلك الأحكام .

وحينئذ : فاللازم عليه سلوك الطريق ( سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل شيء منهما ) أي : شيء من العلم والظّنّ ، حيث إنّا مكلّفون بسلوك

ص: 132

وجهان .

الذي يقتضيه التحقيقُ الثاني ، فانّه القدرُ الذي يَحْكُم العقلُ بوجوبه ودّلت الأدّلةُ المتقدّمةُ على إعتباره .

ولو حَصَل العلمُ بها على الوجه المذكور ، لَمْ يَحكم العقلُ بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يَقْض شيء مِن الأدّلة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بَلْ الادلّة الشرعيّة قائمة على

-------------------

الطريق ولا شأن لنا بالواقع .

( وجهان ) جواب قوله : هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الى آخره ؟ .

أما ( الذي يقتضيه التحقيق ) عند صاحب الحاشية ، فهو ( الثاني : ) أي : انّا مكلفون بسلوك الطريق ، سواء طابق الواقع أم لم يطابق ، ولسنا مكلفين بالعلم بتحصيل الواقع ، وإذا إنسدّ العلم فلسنا مكلّفين بتحصيل الظّنّ بالواقع ( فانّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ، ودلّت الأدلّة المتقدّمة ) من العقل والشرع ( على إعتباره ) أي : إعتبار الطريق دون الواقع .

( ولو حصل العلم بها ) أي : ببرائة الذمة ( على الوجه المذكور ) أي : بسلوك الطريق ( لم يحكم العقل ) بعد ذلك ( بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ) لأنّ الواقع ليس مكلّفاً به ( ولم يقض شيء من الأدلة الشّرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ) أي : وراء سلوك الطريق .

أقول : وهنا سؤال عن المصنّف وهو : انّه إن أراد نفي الدلالة على الوجوب التعييني فهو مسلم ، أما إذا أراد نفي الوجوب التخييري ، فقد عرفت : انّه كما يصح العلم بالطريق أو بالواقع كذلك يصح الظّنّ بالطريق أو بالواقع .

وعلى أي حال : فقد قال صاحب الحاشية : ( بل الأدلة الشّرعية قائمة على

ص: 133

خلاف ذلك إذ لَمْ يُبينَ الشريعةُ من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولَم يَقع التكليفُ به حينَ إنفتاح سبيل العلم بالواقع .

وفي ملاحظة طريقة السلف مَنْ زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام كفايةٌ في ذلك ، اذ لم يوجب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على جميع مَنْ في بلده مِنَ الرّجال والنِسوان السماعَ منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد

-------------------

خلاف ذلك ) أي : الأدلة ليست ساكتة ، وانّما هي قائمة على عدم وجوب تحصيل شيء آخر وراء تحصيل البرائة ( إذ لم يبين الشّريعة من أوّل الأمر ) منذ زمان الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ) وإنّما أراد الشّارع : العلم بفراغ الذّمة .

( ولم يقع التّكليف به ) أي : بالأحكام الواقعية من الشارع ( حين إنفتاح سبيل العلم بالواقع ) فكيف عند الانسداد ؟ فانّه مع إنفتاح سبيل العلم - كما في زمان المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين - لم يرد الشّارع من المكلفين العلم بالواقع، وإنّما أراد العلم بفراغ الذّمة فقط .

هذا ( وفي ملاحظة طريق السلف ) من المسلمين ( من زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام كفاية في ذلك ) وتأييد لما ذكرناه : من انّه لم يقع التكليف حال إنفتاح سبيل العلم بالواقع .

وانّما يدّل طريقة السّلف على الاكتفاء بالطريق لا بالواقع ( إذ لم يوجب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على جميع من في بلده من الرّجال والنِسوان السّماعَ منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم ) أي : لآحاد المسلمين ( بالنسبة إلى آحاد

ص: 134

الأحكام ، أو قيامَ القرينة القاطعة على عَدَم تَعمّد الكَذِب أو الغَلط في الفهم أو في سماع اللفظ ، بَلْ لو سَمعوه مِن الثقة إكتفوا به» ، انتهى .

ثم شَرَع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثّقة مطلقاً - إلى أن قال : «فتحصّل

-------------------

الأحكام ) بأن يلزم النبي عليهم أن يسمعوا منه ، أو أن يحصلوا على التواتر .

( أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب ، أو الغلط في الفهم ) من السائل ( أو في سماع اللّفظ ) من الناقل ، وذلك بأن يقطعوا أنّهم سمعوا اللّفظ صحيحاً ويقطعوا بأنّهم فهموا من اللّفظ معناه الّذي أراده الرسول والأئمة عليهم السلام ( بل لو سمعوه من الثقة ، إكتفوا به ) (1) وهذا يدلّ على جواز الاعتماد على الطّريق دون الواقع .

لكن فيه ما ذكرناه سابقاً : من ان هذا يدل على الجواز ، لا على انّ الامر منحصر بالطريق حتّى إذا حصل العلم بالواقع لم يكتف به ، وإذا سقط العلم بالواقع قام الظّنّ مقامه ، فكما انّه كان يصح لهم أن يعتمدوا على العلم بالطريق أو العلم بالواقع ، كذلك يصح للانسداديين أن يظنّوا بالطريق ، أو يظنوا بالواقع - كما - سيأتي الاشارة اليه من المصنّف إنشاء اللّه تعالى - ( إنتهى ) كلام صاحب الحاشية .

( ثمّ شرع ) صاحب الحاشية ( في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقاً) أي : ولو بدون القرينة ، لوضوح انّ الانسان لا يحصل له العلم بقول الثقة ، وإنّما يحصل له الحجّة من قول الثقة ( الى ان قال ) صاحب الحاشية : ( فتحصل

ص: 135


1- - هداية المسترشدين : ص384 .

ممّا قرّرناه أنّ العلم الذي هو مناط التكليف أوّلاً هو العلمُ بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو إدائه على وجه يُقطعُ معه بتفريغ الذمّة في حُكْم الشرع ، سواء حَصَل العلمُ بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع ، وإن لم يُعلَمَ أو لَمْ يظنّ بمطابقتها للواقع .

وبعبارة اُخرى ، لا بدّ مِن معرفة أداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجهٍ منتهٍ إلى اليقين ،

-------------------

ممّا قررناه : انّ العلم الذي هو مناط ) تحصيل ( التكليف أوّلاً هو : العلم بالأحكام من الوجه المقرر لمعرفتها ) اي : معرفة تلك الأحكام ( والوصول اليها ) من ذلك الوجه المقرر .

( و ) أيضاً ( الواجب بالنسبة الى العمل هو : إدائه ) أي : أداء العمل ( على وجه يقطع معه بتفريغ الذّمة في حكم الشرع ) بأن يعلم الحكم ، ثم يعلم بتفريغ ذمته ( سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع ، أو على طبق الطريق المقرّر من الشّارع وإن لم يعلم أو لم يظنّ بمطابقتها ) أي : الأعمال الّتي جاء بها على طبق المقرر ، بانّها مطابقة ( للواقع ) فانّه ليس مكلَّفاً بالواقع ، وانّما هو مكلَّف على أن يأتي بالأعمال على طبق الطريق .

( وبعبارة أخرى : لابدّ من معرفة ) المكلّف ( أداء المكلّف به ) أي : الحكم ( على وجه اليقين ) بأن يتيقن بأنّه أتى بالمكلّف به ( أو على وجه منتهٍ الى اليقين ) كأن يأتي به حسب خبر زرارة وهو متيقن إنّ خبر زرارة حجّة .

وبعبارة أخرى : إن الانسان يجب عليه الاتيان بما يبرى ء ذمته علماً أو علميّاً

ص: 136

مِن غَيْر فَرْق بَيْنَ الوجهين ولا ترتيب بينهما ، ولو لَم يَظْهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذُ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل مِنْ غَيْر تَوقف لإيصاله إلى الواقع الى بيان الشرع ، بخلاف غَيْره مِن الطّرق المقرّرة» ، إنتهى كَلامُه ، رُفِعَ مَقامُه .

أقول : ما ذَكَرَهُ في مقدّمات مَطْلَبه مِن عَدَمْ الفَرق بَيْنَ عِلْم المكلّف بأداء

-------------------

(

من غير فرق بين الوجهين ، ولا ترتيب بينهما ) أي : بين العلم والعلمي - على ما ذكرناه - ( ولو لم يظهر طريق مقرّر من الشّارع لمعرفتها ) أي : لمعرفة الأحكام ( تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو ) اي : العلم ( طريق الى الواقع بحكم العقل ) .

والحاصل : إن ظهر من الشّارع انّه جعل طريقاً ، سلك المكلّف ذلك الطريق ، وان لم يظهر من الشّارع جعل طريق ، لزم على المكلّف الأخذ بالعلم بالحكم حسب ما يقرره العقل ، فانّ العقل يرى إنّ العلم طريق الى الواقع ( من غير توقف لا يصاله ) أي : إيصال العلم ( الى الواقع الى بيان الشّرع ) لأنّ العلم طريق ذاتي لا يحتاج الى جعل من الشّارع ( بخلاف غيره ) أي : غير العلم ( من الطُرق المقرّرة ) (1) فان تلك الطرق المقرّرة تحتاج الى جعل الشّارع ، سواء تأسيساً أو إمضاءاً للّطرق العقلائية .

( إنتهى كلامه رفع مقامه ) ممّا حاصله : إنّ الظّنّ الانسدادي إنما كان حجّة إذا كان ظنّاً بالطريق ، وليس بحجّة إذا كان ظنّاً بالواقع .

( أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء

ص: 137


1- - هداية المسترشدين : ص384 .

الواقع على ما هو عليه وبَيْنَ العِلْم بأدائه مِن الطَريق المقرّر ممّا لا اشكال فيه .

نعم ، ما جَزَمَ به - من أنّ المناطّ في تحصيل العلم أوّلاً هو العلمً بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه - فيه : انّ تفريغَ الذمّة عمّا إشتَغَلَت به إمّا بفعل نَفْس ما أراده الشارع في ضِمْن الأوامر الواقعيّة وإمّا بفعل ما حَكَم حكماً جَعْليّاً بأنّه نفسُ المراد ، وهو مضمون الطُرق المجعولة ،

-------------------

الواقع على ما هو عليه ، وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ) شرعاً ( ممّا لا اشكال فيه ) فانّ الانسان سواء سأل الامام الصّادق عليه السلام ، العالم بالحكم الواقعي ، أو سأل زُرارة الذي جعله الشّارع طريقاً الى احكامه ، يكون قد حصل على برائة الذمة .

( نعم ، ما جزم به ) صاحب الحاشية ( من انّ المناط في تحصيل العلم أوّلاً هو : العلم بتفريغ الذّمة ، دون أداء الواقع على ما هو عليه ) أي : ما هو عليه الواقع .

ف- ( فيه : ) انّه غير تام ، إذ اللاّزم أن يأتي الانسان بالواقع المعلوم علماً وجدانياً ، أو بالواقع المعلوم علماً تنزيليّاً جعليّاً ، وذلك لأنّ الشّارع جعل مفاد كلام زُرارة واقعاً جعليّاً تنزيلياً ، فالمكلَّف مخير بين أن يعمل بهذا أو بذاك ، ف- ( انّ تفريغ الذمة عمّا إشتغلت به ) من الاحكام ، يمكن على وجهين :

الأول : ( إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ) بأن يعلم بالحكم الواقعي فيعمل به ، فتفرغ ذمته .

الثاني : ( وامّا بفعل ما حكم حكماً جعلياً : بانّه نفس المراد وهو : ) أي : ما حكم حكماً جعلياً ( مضمون الطرق المجعولة ) .

ص: 138

فتفريغُ الذمّة بهذا على مذهب المُخَطِئة مِن حيث إنّه نَفس المراد الواقعيّ بجعل الشارع ، لا مِن حيث انّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعيّ ، فضلاً عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين .

والحاصل : أنّ مضمونَ الأوامر الواقعيّة المتعلقة بأفعال المكلفيّن مرادٌ واقعيّ حقيقي .

ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطُرق المقرّرة ذلك

-------------------

وعليه : ( فتفريغ الذّمة بهذا ) النحو الثاني ( على مذهب المخّطئة ) ومذهب من لا يرى التصويب ، انّما هو ( من حيث انّه ) أي : مضمون الطرق ، هو ( نفس المراد الواقعي ) لكن تنزيلاً ، و ( بجعل الشارع ) فانّ الشّارع قد نزَّل مضمون الطرق منزلة الواقع جعلاً .

( لا من حيث انّه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي ) حتى يكون الأمر واقعاً مخيراً بين الواقع ومضمون الطرق ، بل إنّ مضمون الطرق عبارة أُخرى عن الواقع التنزيلي ( فضلاً عن أن يكون هو ) أي : مضمون الطرق ( المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين ) فانّ مضمون الطرق ليس في عرض الواقع ، فضلاً عن أن يكون أفضل من الواقع .

( والحاصل : انّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلفين ، مراد واقعي حقيقي ) للمولى ، لأنّ مضمون الأوامر هي التي فيها المصالح ، ومضمون النواهي هي التي فيها المفاسد ، والمولى إنّما يريد الاتيان بالمصالح والترك للمفاسد .

هذا ( ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقررة ) هو ( ذلك

ص: 139

المراد الواقعيّ ، لكنْ على سبيل الجَعْل ، لا الحقيقة .

وقد اعترف المحقق المذكور ، حيث عبّر عنه بأداء الواقع مِن الطريق المجعول ، فأداءُ كلّ مِن الواقع الحقيقيّ والواقع الجعليّ ، لا يكون بِنَفْسِه إمتثالاً وإطاعة للأمر المتعلّق به مالم يَحْصَل العلم به .

نعم ، لو كان كلّ مِن الأمرين المتعلّقين بالادائين ممّا لا يُعْتَبَر في سقوطه قصدُ الاطاعة والامتثال ، كان مجرّدُ كلّ منهما مسقطاً للأمرين مِن دون إمتثال .

-------------------

المراد الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ) فان المولى أوّلاً وبالذات يريد الواقع ، كصلاة الجمعة ، فلما وصل الطريق الى وجوب الظهر ، نزّل المولى الظهر منزلة الجمعة ، لا انّ الظّهر حينئذ يكون في عرض الجمعة ، فضلاً عن أن يكون الظهر هو المراد دون الجمعة .

( وقد إعترف المحقّق المذكور ) وهو صاحب الحاشية ( حيث عبّر عنه ) أي : عن مضمون الطرق ( بأداء الواقع من الطريق المجعول ) وانّ المولى يريد أداء العبد الواقع الذي هو متعلق إرادة المولى ( فأداء كلّ من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي ، لا يكون بنفسه إمتثالاً وإطاعة للأمر المتعلّق به ) أي : بذلك الواقع ( مالم يحصل العلم به ) أي : بذلك الواقع ، فانّ العبد إذا لم يقصد الاطاعة لم يكن ممتثلاً لأمر المولى ، سواء أدّى الواقع الحقيقي أو أدّى الواقع الجعلي التنزيلي .

( نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالادائين ) حيث قال المولى : أدّوا الواقع الحقيقي ، وقال : أدّوا الواقع الجعلي ( ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال ) بل كان من التوصليّات الذي يراد وقوعه في الخارج فقط ( كان مجرّد كلّ منهما مسقطاً للأمرين من دون إمتثال ) .

ص: 140

وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يَحْصَلُ إلاّ مع العلم .

ثم إنّ هذين الأمرين مع التمكّن مِن إمتثالهما يكون المكلّف مخيّراً في إمتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيرٌ بينَ تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه وينتفي موضع الأمر الآخر ، إذ المفروض كونُه ظاهريّاً قد اُخذ في موضوعهِ عَدمُ العلم بالواقع ،

-------------------

فاذا طَهّر الانسان يده بالماء المطلق - وهو واقع حقيقي - طهرت يده وإن لم يقصد الامتثال ، وكذلك إذا كان الماء مستصحب الاطلاق وطهّر يده به - وهو واقع تنزيلي - طهرت يده في الظاهر وإن كان مضافاً في الواقع ، فان الطهارة تحصل لليد واقعاً أو ظاهراً وإن لم يقصد الاطاعة والامتثال .

( وأمّا الامتثال للأَمر بهما ) أي : بالواقع الحقيقي ، والواقع الجعلي ( فلا يحصل إلاّ مع العلم ) إذ بدون العلم لا يقصد الامتثال حتى يحصل الامتثال .

( ثم إنّ هذين الأمرين ) الأمر بالواقع الحقيقي ، والأمر بالواقع الجعلي ( مع التمكن من إمتثالهما ) بامكان تحصيل العلم بمتعلقهما ( يكون المكلّف مخيّراً في إمتثال أيّهما ) شاء .

( بمعنى : انّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع ) كأن يسأل الامام الصادق عليه السلام بنفسه ( فيتعيّن عليه ، وينتفي موضع الأمر الآخر ) .

مثلاً : إذا سأل من الامام الصّادق عليه السلام عن الواجب يوم الجمعة ؟ فقال له الامام انّ الواجب هو الجمعة فأدّى الجمعة ، لم يكن مجال للسؤال عن زرارة وهو الطريق الجعلي ( إذ المفروض كونه ) أي : الامر الآخر ، أمراً ( ظاهرياً ، قد أخذ في موضعه عدم العلم بالواقع ) وقد حصل له العلم بالواقع بسبب سؤاله من الإمام الصّادق

عليه السلام .

ص: 141

وبينَ ترك تحصيل الواقع وإمتثال الأمرالظاهريّ هذا مع التمكّن من إمتثالهما .

وأمّا لو تَعذّر عليه إمتثالُ أحدهما تعيّن إمتثالُ الآخر ، كما لو عَجزَ عَنْ تحصيل العلم بالواقع وتمكّن مِنْ سلوك الطريق المقرّر لكونه معلوماً له ، أو إنعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وإنسدّ عليه بابُ سلوك الطريق المقرّر لعدم العلم به ،

-------------------

( وبين ترك تحصيل الواقع وإمتثال الأمر الظاهري ) بأن يسأل زرارة ويعمل على قول زرارة ، وإن كان قول زرارة في بعض الأحيان يخالف الواقع فيؤدي - مثلاً - الى وجوب الظّهر دون الجمعة .

وإنّما يكون المكلّف مخيّراً بينهما ، لأنّ الواقع : هو المكلّف به أوّلاً وبالذات ، والطريق الظاهري : هو الذي قرره الشارع وجعله له بمنزلة الواقع ، ( هذا مع التمكن من إمتثالهما ) بأن تمكّن من السؤال عن الإمام الصّادق عليه السلام أو عن زُرارة .

( وأما لو تعذّر عليه إمتثال أحدهما ، تعيّن ) عليه ( إمتثال الآخر ، كما ) إذا لم يتمكن أن يسأل الامام ، فانّه يتعين عليه السؤال من زرارة ، أو إذا لم يتمكن من السؤال من زرارة ، تعيّن عليه ان يسأل من الإمام ، وذلك فيما ( لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع ، وتمكّن من سلوك الطّريق المقرّر ، لكونه ) أي : الطريق المقرر ( معلوماً له ) فيعمل بالطريق منحصراً .

( أو إنعكس الأمر، بأن تمكّن من العلم وإنسّد عليه باب - سلوك الطريق المقرّر ) كما إذا تمكن من السؤال عن الامام ، ولم يتمكن من سؤال زرارة ( لعدم العلم به ) أي : لأنّه لا يعلم بالطريق المقرّر، فاللاّزم عليه أن يسأل الإمام الصّادق عليه السلام .

ص: 142

ولو عَجَز عنهما معاً قام الظنُّ بهما مقامَ العلم بهما بحكم العقل .

فترجيحُ الظنّ بسلوك الطريق على الظنّ بسلوك الواقع لم يُعلم وجهُه بَلْ الظنّ بالواقع أولى في مَقام الامتثال ، لِما أشرنا إليه سابقاً مِن حُكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع .

هذا في الطريق المجعول في عَرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكّن من العلم .

-------------------

( ولو عجز عنهما ) أي : عن العلم بالواقع ، والعلم بالطريق المقرر ( معاً ، قام الظّن بهما ، مقام العلم بهما ، بحكم العقل ) فهو مخيّر بين الظّنّ بقول الامام الصّادق ، أو الظّنّ بقول زرارة .

وعليه : ( فترجيح الظّنّ بسلوك الطريق ) الذي قاله صاحب الحاشية ( على الظّن بسلوك الواقع ) بأن يلزم عليه الظّنّ بقول زُرارة ، ولا يكفيه الظّنّ بقول الامام الصّادق عليه السلام ( لم يعلم وجهه ، بل الظّنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ) .

فإنّه إذا دار الأمر بين ان يظنّ بقول الامام ، أو أن يظّن بقول زُرارة ، كان الأولى أن يظنّ بقول الإمام ( لِما أشرنا اليه سابقاً : من حكم العقل والنقل بأولوّية إحراز الواقع ) لأنّ الواقع هو الأصل ، امّا إحراز البدل ، فهو بدل عن الواقع ، فيكون إحراز الأصل أولى من إحراز البدل ، ولو كانا في عرض واحد - على ما عرفت - .

( هذا ) الذي : ذكرناه : من كفاية الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، وانّ أحدهما في عرض الآخر انّما هو ( في الطريق المجعول في عرض العلم ، بأن أذن ) الشارع ( في سلوكه ) أي : سلوك الطريق المجعول ( مع التمكن من العلم ) بأن قال له الامام الصادق عليه السلام : لك أن تراجعني بنفسي ، أو أن تراجع زُرارة .

ص: 143

وأمّا إذا نَصبه بشرط العَجز عن تحصيل العلم فهو أيضاً كذلك ، ضرورةَ أنّ القائم مقامَ تحصيل العلم الموجب للأطاعة الواقعيّة عند تَعذّره هي الاطاعة الظاهريّة المتوقفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه .

والحاصلُ : أنّ سلوك الطريق المجعول مطلقاً أو عند تَعذّر العلم

-------------------

( وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم ) بالواقع ( فهو أيضاً كذلك ) أي : يعتبر في سقوط أمره : حصول الامتثال المتوقف على العلم ، الاّ فيما لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال - على ما مرّ قبل سطور - وذلك ( ضرورة انّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للاطاعة الواقعيّة عند تعذّره ) أي : عند تعذر العلم ( هي الاطاعة الظّاهريّة ، المتوقفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه ) إلاّ فيما لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة - على ما سبق - .

( والحاصل ) من كل ما مضى أمران : - .

الاوّل : انّ سلوك الطريق المجعول في عرض الواقع ، فللمكلّف أن يعمل بالواقع ، أو بالطريق المجعول .

الثاني : انّ برائة الذمة لو إحتاجت الى قصد الطاعة لم تتحقق إلاّ بعد العلم ، فاذا لم يكن علم فالظّنّ يقوم مقام العلّم ، وإذا لم تحتج البرائة الى قصد الطاعة ، كان مجرد الاتيان بالواقع الحقيقي أو الواقع التنزيلي موجباً للبرائة وإن لم يعلم به المكلّف ، كمن يغسل يده بالماء وهو لا يعلم انّه تكليفه ، فان يده تطهر بذلك .

وإن شئت قلت : انّ فراغ الذمّة تابع للاتيان وان لم يعلم ، امّا العلم بفراغ الذمة فهو تابع للعلم بالشيء ، إذ بدون العلم بالشيء كيف يعلم بالفراغ من ذلك الشيء ؟ ف- ( إنّ سلوك الطّريق المجعول مطلقاً ، او عند تعذّر العلم ) إنّما هو

ص: 144

في مقابل العمل بالواقع ؛ فكما أنّ العملَ بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجبُ إمتثالاً وإنّما يوجبُ فَراغَ الذمّة من المأمور به واقعاً لو لم يؤخذ فيه تحقّقُه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول .

فكلٌ منهما موجبٌ لبراءة الذمّة واقعاً وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو إعتقد عدم حصوله .

وأمّا العلمٌ بالفراغ المعتبر في الاطاعة ، فلا يتحقق في شيء منهما

-------------------

( في مقابل العمل بالواقع ) فانّه قد يكون العمل بالواقع ، وقد يكون العمل بالطريق ، سواء تعذّر العلم أم لا ، أو عند تعذر العلم فقط .

وعليه : فقد يقول المولى : إعمل بالواقع ، وقد يقول : إعمل بالطريق إذا تعذر العلم بالواقع ، وقد يقول : إعمل بالطريق ولو قدرت على العلم بالواقع .

إذن : ( فكما انّ العمل بالواقع - مع قطع النّظر عن العلم - لا يوجب إمتثالاً ، وإنّما يوجب فراغ الذّمّة من المأمور به واقعاً ) كما ذكرنا في مثال تطهير اليد ( لو لم يؤخذ فيه ) أي : في المأمور به ( تحققّه على وجه الامتثال ) لا ما إذا أخذ في المأمور به الامتثال ، فانّه لا يتحقق الاّ مع العلم ( فكذلك سلوك الطريق المجعول ) يوجب فراغ الذّمة بدون العلم ، ولكنّه لا يوجب الامتثال فاذا اريد الامتثال ، فاللازم أن يعلم بذلك .

وعليه : ( فكلّ منهما ) أي : من الواقع ومن الطريق المجعول ( موُجب لبرائة الذّمة واقعاً ) إذا أتى بهما ( وإن لم يعلم بحصوله ) أي : بحصول الامتثال ( بل ولو إعتقد عدم حصوله ) فانّ الانسان الذي يغسل يده بالماء ، تطهر يده وإن تصور أنه لم تطهر ، معتقداً بعدم الطهارة من باب الجهل المركب .

( وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الاطاعة ، فلا يتحقّق في شيء منهما ) أي :

ص: 145

إلاّ بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه .

فالحكمُ - بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعولُ يوُجِبَ الظنّ بفراغ الذِمَّة ، بخلاف الظنّ بأداء الواقع ، فانّه لا يوجب الظنّ بفراغ الذمة ، إلاّ إذا ثَبَتَ حُجّية ذلك الظنّ ، وإلاّ فربما يُظنّ بأداء الواقع من طريق يُعلَمُ بعدم حجّيّته - تَحَكُّمٌ صِرفٌ .

-------------------

من العلم بالواقع ، أو سلوك الطريق المجعول ( إلاّ بعد العلم ، أو الظّنّ القائم مقامه ) أي : مقام العلم .

إذن : ( فالحكم ) الذي ذكره المحشّي ( بأنّ الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذّمة ، بخلاف الظّن بأداء الواقع فانّه لا يوجب الظّنّ بفراغ الذّمة ) مثلاً : إذا ظنّ المكلّف بأنّ خبر الواحد طريق ، وقام الخبر الواحد على وجوب الجمعة فصلاها ، فانّه يظّن بفراغ الذّمة ، أمّا إذا ظنّ المكلّف بأن صلاة الجمعة واجبة فصلاها ، فانّه لم يظنّ بفراغ الذّمة ( إلاّ إذا ثبت حجّية ذلك الظّنّ ) بالواقع ، وإذا ثبت حجّية هذا الظنّ كان الظّنّ طريقاً ، فيكون قد عمل على الطريق لا على الواقع المجرد عن الطّريق .

( وإلاّ فربّما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ) كما إذا ظنّ بأداء الواقع من طريق القياس ، بان قام القياس - مثلاً - على وجوب الجمعة فأدّى الجمعة ، فانّه أداء للواقع من طريق القياس الّذي يعلم عدم حجّيته .

وعليه : فالحكم الذي ذكره المحشي ( تحكمٌ صِرف ) هذا خبر قوله : فالحكم بأنّ الظّنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ الى آخره .

وإنّما كان تحكماً لما عرفت : من تساوي سلوك الطريق ، والعمل بالواقع ، فانّ كل واحد منهما موجب لبرائة الذّمة .

ص: 146

ومنشأ ما ذكره قدس سره

-------------------

والمتحصّل : انّ كلام المحشي في الموردين ، كلاهما لا يخلوان من نظر :

الأوّل قوله : اللاّزم الظنّ بالفراغ ، بينما اللاّزم الظّنّ بإتيان الواقع .

الثاني : الظّنّ بالطّريق ظنّ بالفراغ ، دون الظنّ بالواقع فانّه ليس ظنّاً بالفراغ ، بينما الظنّ بالواقع أيضاً ظنّ بالفراغ .

وإن شئت قلت : انّ كلام المحشي - ثانياً - : بالفرق بين الظّنّ بالواقع ، والظّنّ بالطريق ، بأنّ الأول : لا يستلزم الظّنّ بالفراغ ، بخلاف الثاني : فانّه يستلزم الظّنّ

بالفراغ ، غير ظاهر الوجه ، لِما عرفت : من كون مؤدّى الطّريق بمنزلة الواقع ، والعلم به بمنزلة العلم بالواقع ، فلو كان الظّنّ بالطريق مستلزماً للظنّ بالفراغ ،

فالظّنّ بالواقع أولى بذلك ، فانّه لا فرق بينهما من جهة الامتثال في مقام الامتثال ، ومن جهة الظّنّ بالفراغ مقام الظنّ بالفراغ .

( ومنشأ ما ذكره ) صاحب الحاشية ( قدّس سرّه ) من لزوم الظنّ بالطريق بعد الانسداد ، وعدم كفاية الظّنّ بالواقع ، وهو إنّ هناك ثلاثة أمور :

1 - العلم بوجوب صلاة الجمعة ، والعلم طريق عقلي .

2 - قيام الخبر على وجوب صلاة الجمعة ، والخبر طريق شرعي .

3 - كون الخبر في عرض العلم .

وبعد الانسداد يمكن ثلاثة ظنون :

الأوّل : الظّنّ بالعلم ، ولا معنى له .

الثاني : الظّنّ بالواقع ، ولا يوجب الظنّ بالفراغ ، إذ سلوك الواقع ليس علّة تامة للفراغ .

الثّالث : الظّنّ بالطّريق المجعول ، فيلزم إتباعه لفرض كونه ظنّاً بالعلّة التامة

ص: 147

تَخيّل أنّ نفسَ سلوك الطريق الشرعيّ المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقلّي الغير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبراءة الذمّة ، فيكون هو أيضاً كذلك ، فيكون الظّنّ بالسلوك ظنّاً بالبراءة ، بخلاف الظنّ بالواقع ، لأنّ نفسَ أداء الواقع ليس سبباً تامّاً للبراءة ، حتىّ يَحْصَل من الظنّ به الظنُّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعيّ بالطريق العقليّ .

-------------------

للفراغ .

وإنّما لا يوجب الظنّ بالواقع : الفراغ ، لأنّ العلم هو الطريق الى الواقع ، لا الظّنّ ، ف- ( تخيّل انّ نفس سلوك الطّريق الشّرعي المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقلي الغير المجعول ، وهو ) أي : الطّريق العقلي ( : العلم بالواقع الذي هو ) أي : العلم ( سبب تام لبرائة الذّمة ، فيكون هو ) أي : الخبر المجعول الذي هو في عرض العلم ( أيضاً كذلك ) أي : سبب تام للبرائة .

وعليه : ( فيكون الظّنّ بالسّلوك ظنّاً بالبرائة ، بخلاف الظّنّ بالواقع ) فانّه ليس ظنّاً بالبرائة ( لأنّ نفس أداء الواقع ليس سبباً تاماً للبرائة ) لما عرفت : من إنّ العلم بالواقع سبب تام للبرائة ، لا نفس أداء الواقع ( حتى يحصل من الظن به ) أي : بالواقع ( الظّنّ بالبرائة ) .

وعلى هذا : ( فقد قاس ) صاحب الحاشية ( الطريق الشرعي بالطريق العقلي ) في كونه سبباً تاماً لبرائة الذمة .

قال : الأوثق في تقريب زعم صاحب الحاشية : « وكأن المستدِّل قد زعم انّ نفس سلوك الطريق المجعول ، في عرض سلوك الطريق العقلي غير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تام للعلم بالفراغ ، فيكون نفس سلوك الطريق الشرعي أيضاً كذلك .

ص: 148

وأنت خبيرٌ بأنّ الطريق الشرعيّ لا يتّصف بالطريقيّة فعلاً ، إلاّ بعد العلم تفصيلاً ، وإلاّ فسلوكه ، أعني مجرّد تطيبق الأعمال عليه مع قطع النظر عن حكم الشارع لغوّ صرفٌ ، ولذلك أطلنا الكلامَ في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ،

-------------------

وبعد إنسداد باب العلم بالواقع والطريق ، لا معنى لتعلق الظّنّ بالعلم ، وأمّا تعلقه ، بالواقع فهو لا يستلزم الظّن بالفراغ ، لفرض عدم كون محض سلوك الواقع علّة تامة للفراغ ، حتى يستلزم الظّنّ به للظّن به ، بخلاف الظّنّ بالطّريق المجعول ، لفرض كونه ظنّاً بالعلة التامة للفراغ » (1) .

هذا ، ( وأنت خبير بأنّ ) الطريق الشرعي ، وهو الخبر ليس في عرض العلم بالواقع ، وانّما الخبر في عرض نفس الواقع ، لأنّ الخبر واقع تنزيلي .

وعليه : فكما انّ العلم بالواقع موجب للفراغ ، كذلك العلم بالخبر ، فاذا سقط العلم قام الظّنّ مقامه ، سواء الظّنّ بالواقع أو الظّنّ بالخبر ، ف- ( الطريق الشرعي لا يتّصف بالطريقيّة فعلاً ، إلاّ بعد العلم تفصيلاً ) بأن يعلم المكلّف الخبر .

( وإلاّ فسلوكه ) أي : سلوك الطريق الشرعي ( أعني مجرد تطبيق الأعمال عليه ) أي : على الخبر الذي هو طريق شرعي ( مع قطع النظر عن حكم الشّارع ) بتنزيله منزلة العلم ( لغوٌ صرف ) إذ لا يكون واقع تنزيلي الاّ بعد حكم الشارع بأنّ الخبر طريق .

( ولذلك اطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول ، في مقابل العمل بالواقع ) يعني : هناك واقع وخبر وهما متقابلان ، والواقع واقع ، والخبر واقع

ص: 149


1- - أوثق الوسائل : ص217 نقد كلام بعض المحققين في لزوم تحصيل العلم بتفريغ الذمة .

لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع ، ويلزم من ذلك كونُ كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر .

فدعوى : «انّ الظّن بسلوك الطريق يستلزمُ الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ باتيان الواقع» ، فاسدةٌ .

هذا كلّه ، مع

-------------------

تنزيلي ( لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع ) فانّه ليس الخبر في مقابل العلم وعرضه ، بل في مقابل الواقع وعرضه .

( ويلزم من ذلك ، كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما ) أي : بالواقع أو بالخبر ( في مقابل المتعلّق بالآخر ) فالعلم بالخبر كالعلم بالواقع ، والظنّ بالخبر كالظنّ بالواقع .

وعليه : ( فدعوى انّ الظّن بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ باتيان الواقع ، فاسدةٌ ) لما عرفت : من انّه كما يكون الظنّ بالخبر كافياً ، كذلك الظنّ بالواقع .

وتوضيح جواب المصنّف بلفظ الأوثق : انّه لا ريب أنّ نفس سلوك الطريق المجعول من دون علم به ، لا يترتب عليه تحقق الامتثال أصلاً ، حتى يكون في عرض العلم بالواقع .

نعم ، يترتّب عليه سقوط الأمر في التوصليّات ، كما يترتّب ذلك على سلوك نفس الواقع من دون علم به حين سلوكه ، فمؤدّى الطريق في عرض الواقع ، والعلم به في عرض العلم بالواقع ، والامتثال إنّما يترتب على العلمين ، والظنّ ايضاً إنّما يقوم مقامهما عند تعذرهما دون المعلومين .

( هذا كلّه ، مع ) فرض أنّ الشارع جعل الخبر ، فيكون الخبر في عرض الواقع ،

ص: 150

ما عَلِمتَ سابقاً في ردّ الوجه الأوّل من إمكان منَعُ جَعل الشارع طريقاً الى الأحكام ، وانّما اقتصر على الطرق المُنجعِلة عند العقلاء وهو العلم ثمّ على الظنّ الاطمئناني .

ثمّ إنّك حيث عرفتَ أنّ مآل هذا القول الى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة الى المسائل الاُصولية وهي حجّية الأمارات المحتملة للحجّية ، لا بالنسبة الى نَفس الفروع .

فاعلم أنّ في مقابله قول آخر لِغَير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، وهو عدمُ جريان دليل الانسداد على وجه يَشمل مثل هذه المسألة الاُصولية ، اعني حجّية الأمارات المحتملة ،

-------------------

مع ( ما علمت سابقاً في ردّ الوجه الأوّل : من إمكان منع جعل الشارع طريقاً الى الأحكام ) إطلاقاً ( وإنّما إقتصر ) الشارع ( على الطرق المنجعلة عند العقلاء ، وهو : العلم ، ثم على الظنّ الاطمئناني ) فيكون العلم بالواقع ، وكذلك الظنّ بالواقع ، عند فقد العلم موجباً للبرائة .

( ثمّ إنّك حيث عرفت : انّ مآل هذا القول ) اي : قول صاحب الحاشية : بانّ الظنّ بالطريق حجة ، لا الظنّ بالواقع ( الى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة الى المسائل الاُصولية ، وهي : حجّية الأمارات المحتملة للحجّية ) من باب الظنّ ، أو الوهم ، أو الشكّ ( لا بالنسبة الى نفس الفروع ) فاذا ظنّ بأن خبر الواحد حجّة عمل به ، أما اذا ظنّ بأنّ صلاة الجمعة واجبة لا يصليها .

هذا ( فاعلم : انّ في مقابله قول آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، وهو : عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل هذه المسألة الاُصولية ، اعني :حجّية الأمارات المحتملة ) فالظنّ إنّما هو حجّة فيما اذا تعلّق بالفروع ،

ص: 151

وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبيه : انّه ذهب اليه فريقٌ ، وسيأتي الكلامُ فيه عند التكلّم في حجيّة الظنّ المتعلّق بالمسائل الاُصولية إن شاء اللّه تعالى .

ثمّ إعلم : انّ بعضً مَنْ لاخِبْرَةَ له ، لمّا لمْ يفهم من دليل الانسداد الاّ ما تلقنَ من لسان بعض مشايخه وظاهر عبارة كِتاب القوانين ، رَدّ القولَ الذي ذكرناه أوّلاً عن بعض المعاصرين ، مِن حجّية الظنّ في الطريق ، لا في نَفس الأحكام بمخالفته لإجماع العلماء

-------------------

لا ما اذا تعلّق بالاُصول ( وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبّيه : انّة ذهب اليه فريق ، وسيأتي الكلام فيه عند التكلّم في حجّية الظنّ المتعلّق بالمسائل الاُصولية إنشاء اللّه تعالى ) .

فتحقق من ذلك انّ هناك قولين متقابلين :

الأوّل : أنّ نتيجة الانسداد : حجّية الظنّ المتعلّق بالفروع .

الثانيّ : أن نتيجة دليل الانسداد : حجّية الظنّ الذي تعلّق بالاُصول .

هذا ، ولكن قول المصنّف هو :حجّية الظنّ ، سواء كان بالنسبة الى المسائل الاُصولية ، أو المسائل الفرعيّة .

( ثمّ إعلم أنّ بعض من لا خبرة له ) بدقائق الاُصول ( لمّا لم يفهم من دليل الانسداد الاّ ما تلّقنَ من لسان بعض مشايخه ، وظاهر عبارة كتاب القوانين ) تصوّر : إنّ في المسألة قولين فقط ، لا ثلاثة أقوال ، ولذلك ( ردّ القول الذي ذكرناه أولاً عن بعض المعاصرين : من حجّية الظنّ في الطريق ، لا في نفس الأحكام ) وهو ما ذكره التُستري ، وصاحب الفصول ، وصاحب الحاشية .

قال هذا الذي هو قليل الخبرة : إنّ هذا القول مردود ( بمخالفته لاجماع العلماء

ص: 152

حيث زَعم أنّهم بينَ من يُعمم دليل الانسداد لجميع المسائل العلميّة اُصولية أو فقهية كصاحب القوانين ، وبينَ من يَخصصه بالمسائل الفرعيّة ، فالقولُ بعكس هذا خرق للاجماع المركّب .

ويدفعه : انّ المسألة لَيست من التوقيفيّات التي يَدخلها الاجماع المركّب ، مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشِعةٌ جداً ، بل المسألة عقليّة ، فاذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطُرق ، فلا معنى لردّه بالاجماع المركب .

-------------------

حيث زعم أنهم ) أي : العلماء ( بين مَن يعمّم دليل الانسداد لجميع المسائل العلمية اُصولية أو فقهية كصاحب القوانين ) حيث يرى : أنّ دليل الانسداد يفيد حجّية الظنّ ، سواء تعلّق بالمسائل الاُصولية ، أو بالمسائل الفقهية ( وبين من يخصّصه بالمسائل الفرعيّة ) فقط ، فليس الظنّ حجّة في المسائل الاُصولية .

وعليه : ( فالقول بعكس هذا ) وهو حجّية الظنّ في المسائل الاُصولية فقط ( خرق للاجماع المركّب ) وهو ممّا لا يجوز .

( ويدفعه ) أي : يدفع قول هذا الذي لا خبرة له ( : انّ المسألة ليست من التّوقيفيات التي يدخلها الاجماع المركّب ) فانّ الاجماع المركّب إنّما هو حجّة في المسائل الفرعيّة ، لا في مثل هذه المسائل الاُصولية المرتبطة بالعقل والعقلاء .

( مع انّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشعة جداً ) اذ المسائل المستحدثة إتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن قول المعصوم ، أو عن دليل معتبر لم يصل الينا .

( بل المسألة عقليّة ، فاذا فرض إستقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطرق ، فلا معنى لردّه بالاجماع المركّب ) كما إنّه لا معنى لردّه بالاجماع

ص: 153

فلا سبيل الى ردّه الاّ بمنع جريان حكم العقل وجريان مقدمات الانسداد في خصوصها ، كما عرفته منّا ، أو فيها أو في ضمن مطلق الأحكام الشرعيّة، كما فعَله غيرُ واحد من مشايخنا .

الأمر الثاني :
اشارة

وَهو أهمّ الاُمور في هذا الباب ، أنّ نتيجة دليل الانسداد :

-------------------

البسيط أو بالشهرة المحققة ، أو بالسيرة ، أو ما أشبه ذلك .

( فلا سبيل الى ردّه ) أي : رد هذا القول الذي يخصص حجّية الظنّ بما اذا كان متعلقاً بالاُصول ( الاّ بمنع جريان حكم العقل ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوصها ) أي : في خصوص المسائل الاُصولية . ( كما عرفته منّا ) حيث ذكرنا : أنّ مقدّمات الانسداد إنّما يدل على حجية الظنّ في مطلق المسائل اُصولية كانت أو فرعية ( أو ) منع جريان مقدمات الانسداد ( فيها ) أي : في الاصول ، لأنّ المقدّمات خاصّة بالفروع .

( أو ) منع جريان المقدّمات إطلاقاً ( في ضمن مطلق الأحكام الشّرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا ) حيث قال : بانّ مقدّمات الانسداد لا تجري أصلاً للقول بالانفتاح ، فقد منع جريانها في الاصول من جهة منع أصل دليل الانسداد .

والحاصل : انّ منع كلام التُستري ، وصاحبي الحاشية الفصول ، انّما يكون بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، لا بما ذكره بعض من لا خبرة له من المنع بسبب الاجماع المركّب .

( الأمر الثاني ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها بعد بحث اصل الانسداد : ( وهو أهمّ الاُمور في هذا الباب ) اي : باب الانسداد ( إنّ نتيجة دليل الانسداد ،

ص: 154

هل هي قضيةٌ مهُملةٌ من حيث أساب الظنّ ، فلا يَعمّ الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظنّ إلاّ بعد ثبوت معمّمٍ من لزوم ترجيح بلا مرجحّ ، أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ، أو قضيّة كلّيةٌ لا تحتاجُ في التعميم الى شيء ؟ وعلى التقدير الأوّل ، فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض ، أم لم يثبت وعلى التقدير الثاني ؟ أعني كون القضيّة كليّة ،

-------------------

هل هي قضيّة مُهملة من حيث أسباب الظنّ ؟ ) أم لا ؟ .

ثم بينّ أسباب الظنّ بقوله ( فلا يعمّ الحكم ) الذي هو حجّية الظنّ بعد الانسداد ( لجميع الأمارات الموجبة للظنّ ، الاّ بعد ثبوت معمّم ) فانّ الانسداد انّما يدلّ على حجّية الظنّ في الجملة ، فيلزم لتعميم الظنّ الى كلّ اسبابه ، أن يكون هناك معمم : ( من لزوم ترجيح بلا مرجحّ ، ) فانا اذا قلنا : بانّ بعض الظنّ حجّة دون بعض ، لزم الترجيح بلا مرجحّ ، اذ الظنون مطلقاً حجّة بعد الانسداد .

( أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ) ولا يخفى : انّ الاجماع المركّب إنّما يكون على تقدير صحة المقدمات فهو اجماع تقديري ، لا اجماع فعلي ، كما ذكرنا مثل ذلك في بحث الاجماع ، كما لا يخفى .

( أو قضيّة كليّة ) بمعنى : أن مقدّمات الانسداد تفيد حجّية الظنّ من أيّ سبب حصل ، ف- ( لا تحتاج في التعميمّ الى شيء ) آخر .

( وعلى التقدير الأول ) وهو إهمال النتيجة ( فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض ، أم لم يثبت ؟ ) مثل إنّه هل ثبت ترجيح الظنّ الحاصل من الخبر على الظنّ الحاصل من الشهرة أم لم يثبت مثل هذا الترجيح ؟ .

( وعلى التقدير الثاني ) وهو اطلاق النتيجة ( أعني : كون القضية كلّية ) تشمل

ص: 155

فكيف توجيهُ خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص .

فهنا مقامات :

الأوّل :

في كَون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة .

-------------------

كل الظنّون ( فكيف ) يتم ( توجيه خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقلي لايقبل التخصيص ؟ ) فالعقل يرى حجيّة الظنّ عند الانسداد ، والظنّ يشمل الظنّ القياسي وغير القياسي - معاً - فكيف يخرج الانسداديون الظنّ القياسي ويقولون : بانّه لا يعمل به في حال الانسداد ؟ .

وإنّما نقول بان الدليل العقلي لا يقبل التخصيص ، لأنّ العقل يعيّن موضوع حكمه ، ثم يحكم على ذلك الموضوع ، ومن الواضح : إنّ بعد تعيين الموضوع لا معنى لتخصيصه .

مثلاً : العقل يرى إنّ كل عدد هو نصف مجموع حاشيته ، فهل هذا الحكم العقلي قابل للتخصيص ، بانّ يقال إنّ العدد عشرة - مثلاً - ليس كذلك ؟ .

وكذا إذا حكم العقل : بانّ مساحة المربع تحصل من ضرب أحد اضلاعه في الضلع المجاور له ، سواء في المربع التام التربيع ، أو في المربع المستطيل ، فهل يمكن أن يقال : إنّ هذا الحكم العقلي لا يجري في المربع الكذائي ؟ .

وهكذا اذا حكم العقل : بانّ الظّلم قبيح ، فهل يمكن أن يقال : انّ الظلم الفلاني ليس بقبيح ؟ والى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( فهنا ) في هذا الأمر الثاني من تنبيهات الانسداد ( مقامات ) على النحو التالي : ( الأوّل : في كون نتيجة الانسداد مهملة أو معينّة ) .

ص: 156

والتحقيق : أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السابقة التي حاصِلها بقاءُ التكليف ، وعدمُ التمكّن من العلم ، وعدمُ وجوب الاحتياط ، وعدمُ جواز الرّجوع الى القاعدة التي يقتضيها المَقام اذا جَرتْ في مسألة تعيّن وجوب العمل بأيّ ظنّ حَصَل في تلك المسألة من أيّ سبب .

وهذا الظنّ كالعلم في عدم الفَرق فياعتبار بينَ الأسباب والموارد والأشخاص ،

-------------------

( والتحقيق : انّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السّابقة ) المذكورة في أول بحث الانسداد ( التي حاصلها : بقاء التكليف ، وعدم التمكن من العلم ، وعدم وجوب الاحتياط وعدم جواز الرجوع الى القاعدة التي يقتضيها المقام ) في كلّ مسألة ، فانّه لا تجري فيها الاصول بحسب ما تقتضيها المسألة من : البرائة ، أو الاستصحاب ، أو التخيير ، أو الاحتياط .

وكذا لا يجوز الرجوع فيها الى التقليد ، أو القرعة ، أو ما أشبه ذلك .

فانّه ( اذا جرت في مسألة ) هذه المقدّمات ( تعيّن وجوب العمل بأي ظنّ حصل في تلك المسألة من أيّ سبب ) كان ذلك الظنّ ، كما اذا حصل الظن بخبر الواحد من ظاهر الكتاب ، أو من الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة القطعيّة .

( وهذا الظنّ كالعلم ) عام من جميع الحيثيات ( في عدم الفرق في اعتبار بين الأسباب ) كما ذكرنا امثلة لها .

( و ) عام بين ( الموارد ) من العبادات ، أو المعاملات ، أو الدّيات ، أو القضاء ، أو الارث ، أو غير ذلك .

( و ) عام بين ( الاشخاص ) من مرتب الظنّ ، بأن يكون الظنّ قوياً ، أو ضعيفاً ،

ص: 157

وهذا ثابت بالإجماع وبالعقل .

وقد سَلَك هذا المسلكَ صاحبُ القوانين ، حيث أنّه أبطَلَ البراءة في كلّ مسألة من غير ملاحظة

-------------------

فانّ حاله حال العلم في حال الانفتاح حيث لا فرق فيه بين الأسباب والموارد والأشخاص .

( وهذا ) أي : اطلاق النتيجة وكليتها بعد ثبوت المقدّمات المذكورة ( ثابت بالاجماع ) والمراد : الاجماع التقديري ، لا الاجماع الفعلي ، لأنّ الانفتاحين لا يقولون بالانسداد اصلاً حتى يختلفون في اطلاق النتيجة أو أهمالها .

قال في الأوثق :« لا يخفى : إنّ دعوى الاجماع في المسائل العقليّة ، سيما غير المعنونة منها في كلمات القدماء ممّا لا وجه له ، اللّهم ، الاّ أن يريد منه مجردّ الاتفاق بدعوى الاستكشاف بحكم عقولنا عن حكم جميع ذوي الأسباب » (1) .

هذا ، وكأنّ الأوثق أراد بهذا الكلام جواب بعض المحشين الذين إستشكلوا على المصنّف : بانّ التمسك بالاجماع هنا ينافي رده على صاحب الضوابط فيما سبق ، حيث نقل هذا المحشي : انّ مراد المصنّف بقوله : إعلم انّ بعض من لا خبرة له ، هو صاحب الضوابط .

( و ) ثابت أيضاً ( بالعقل ) حيث إنّ العقل بعد تماميّة المقدّمات المذكورة ، لا يرى فرقاً بين الأسباب والموارد والاشخاص .

( وقد سلك هذا المسلك ) أي : التمسك بالاجماع والعقل لكون النتيجة كليّة لا مهملة ( صاحب القوانين ، حيث انّه أبطل البرائة في كلّ مسألة من غير ملاحظة

ص: 158


1- - أوثق الوسائل : ص219 نتيجة دليل الانسداد هل هي مهملة أو معيّنة .

لزوم الخروج عن الدّين ، وأبطل لزوم الاحتياط كذلك مع قَطعِ النظر عن لزوم الحَرج .

ويَظْهر أيضاً من صاحبَيّ المعالم والزُبدة ، بناءا على اقتضاء ما ذكراه لإثبات حجّية خبر الواحد للعمل بمطلق الظنّ ، فلاحِظ .

-------------------

لزوم الخروج عن الدّين ) بمعنى : أنّ البرائة لا تجري في مسائل ، وإن لم تلزم البرائة الخروج عن الدّين .

( وأبطل لزوم الاحتياط كذلك ) أي : في كلّ مسألة ( مع قطع النّظر عن لزوم الحرج ) بمعنى : انّه وإن لم يلزم الحرج فلا يحتاط في المسائل في اطراف العلم الاجمالي .

( ويظهر ايضاً من صاحبيّ المعالم والزُّبدة بناءاً على اقتضاء ما ذكراه لاثبات حجّية خبر الواحد للعمل بمطلق الظنّ ) فانّهما يزعمان ان مطلق الظنّ حجّة ويقولان : بانّ خبر الواحد إنّما هو حجّة ، لأنّه من صغريات مطلق الظنّ ممّا يدل على أنّ مطلق الظنّ حجّة ، فالنتيجة مطلقة لا مهملة ( فلاحظ ) كلامهم .

وتوضيح ذلك : انّ صاحب القوانين يقول : إنّ حجّية أصالة البرائة انّما هي من جهة إفادة هذا الاصل الظنّ ، فاذا كان ظن على خلاف البرائة ، لم تكن أصالة البرائة حجّة ، ويقول أيضاً : انّه لا يجب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي ، اذ العلم الاجمالي إنّما يمنع المخالفة القطعيّة ولا يوجب الموافقة القطعيّة ، وعليه : فالعمل بالبراءة لا يجوز من جهة عدم حجّية البرائة مع وجود الظنّ على خلاف البرائة ، والعمل بالاحتياط لا يلزم في اطراف العلم الاجمالي لما سبق .

هذا هو رأي القوانين ، أمّا نظر غيره فهو : انّ البرائة لا تجري في حال الانسداد ، لأنّه يوجب الخروج عن الدّين ، والاحتياط لا يلزم ، لانّه عُسْر وحَرج .

ص: 159

لكنّك قد عرفت ممّا سَبق أنّه لا دليل على مَنْع جريان أصالة البراءة وأصالة الاحتياط والاستصحاب المطابق لأحدهما في كلّ مورد مورد من مواردها بالخصوص .

إنّما الممنوع جريانُها في جميع المسائل ، للزوم

-------------------

إذا عرفت انّ في المسألة رأيين قلنا : انّ صاحب القوانين يقول بعموم نتيجة الانسداد لكل ظنّ ، وذلك من جهة : الاجماع على حجيّة الظنّ مطلقا حال الانسداد ومن جهة : أنّ العقل في حال الانسداد لا يرى فرقاً بين الظنّون .

أمّا الرأي الآخر في قِبال القوانين : فيرى عموم النتيجة ، من جهة : عدم جريان البرائة ، وعدم لزوم الاحتياط في حال الانسداد ، فاذا لم يكن برائة ولا احتياط ، لم يكنُ بُدّ من الظنّ ، فالظّن حجّة مطلقاً .

وأمّا صاحبا ، الزُبدة والمعالم : فانهما يقولان بحجيّة مطلق الظنّ ، ويزعمان أنّ الخبر الواحد حجّة من باب انّه من صغريات مطلق الظنّ ، وعلى هذا فهما يقولان : باطلاق حجّية الظنّ في حال الانسداد مطلقة لا مهملة .

إذن : فنتيجة دليل الانسداد مطلقة لا مهملة .

( لكنّك قد عرفت ممّا سبق : انّه لا دليل على منع جريان أصالة البرائة ، وأصالة الاحتياط ، والاستصحاب المطابق لأحدهما ) أي : للبرائة أو للاحتياط ( في كلّ مورد مورد من مواردها بالخصوص ) أي : موارد البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب المطابق لهما ، فقول القوانين : انّه لا تجري البرائة ، ولا الاحتياط ، والا الاستصحاب الموافق لهما غير تام .

( إنّما الممنوع ) من جريان البرائة هو : ( جريانها في جميع المسائل ، للزوم

ص: 160

المخالفة القطعيّة الكثيرة ولزوم الحرج عن الاحتياط .

وهذا المقدار لا يُثبت إلاّ وجوبَ العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظنّ .

وحينئذٍ فنقول :

-------------------

المخالفة القطعيّة الكثيرة ) لأنّا اذا أجرينا البرائة في جميع مسائل الفقه ، من أول الطهارة الى الدّيات ، حصل لنا العلم بمخالفات كثيرة ، والأصل لا يجري مع العلم بمخالفات كثيرة .

( و ) إنّما الممنوع من الاحتياط هو : ( لزوم الحَرج عن الاحتياط ) فانّا اذا أردنا إجراء الاحتياط ، من أوّل الفقه الى آخره ، لزم الحرج الأكيد والعُسر الشديد .

( وهذا المقدار ) الذي يوجب جريان البرائة فيما لا يستلزم الخروج عن الدّين ويوجب جريان الاحتياط ، لأنّه لا يستلزم العُسر ، ( لا يثبت الاّ وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم ) لما لا يستلزم ذلك ، فنعمل بالظنّ فقط في القدر الذي يوجب الخروج عن الدّين في البرائة ويوجب العُسر والحرج في الاحتياط .

والحاصل : انّ القدر الموجب للخروج عن الدّين أو العُسر ، يعمل فيه بالظنّ ، أما في غير هذا القدر فيعمل بالبراءة اذا كان الشّك في التكليف ، وبالاحتياط اذا كان الشّك في المكلّف ، فلا يكون الظنّ حجّة مطلقاً بحيث يكون عاماً ( بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ، ولا بحسب مرتبة الظنّ ) واشخاصه - كما مرّ سابقاً -.

( وحينئذٍ ) حيث لا يتم دليل القوانين ، ولا دليل صاحبي المعالم والزبُدة ( فنقول : ) بعد أنّ لم يثبت حجّية الظنّ مطلقاً من كلام الأعلام الثلاثة : هل نحن نرى الاطلاق أو الاهمال في نتيجة دليل الانسداد ؟ .

ص: 161

إنّه إمّا أن يقرّر دليلُ الانسداد على وجه يكون كاشفاً عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظنّ ، بانّ يقال : إنّ بقاء التكليف - مع العلم بأنّ الشارع لم يَعذُرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ، مع عدم ايجاب الاحتياط علينا وعدم بيان طريق مجعول فيها - يكشفُ عن أنّ الظنّ جائز العمل وانّ العمل به ماض ، عند الشارع وانّه لا يُعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه ولا بفعل محرّم اذا ظُنّ بعدم تحريمه .

-------------------

وذلك ( انّه إمّا أن يقرر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفاً عن حكم الشّارع بلزوم العمل بالظنّ ) وهذا ما يسمى بالكشف ( بأنّ يقال : إنّ بقاء التكّليف مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ) ولا يخفى : إنّ قوله : « مع العلم » عطف بيان لقوله : «بقاء التكليف» ، وحيث قصد من التكليف : الأحكام الشرعيّة ، جاء بالضمير المؤث في قوله : «لها وإهمالها» .

( مع عدم إيجاب الاحتياط علينا ) حيث إنّ الشارع لم يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي من أول الفقه الى آخره لما عرفت : من أنّه يوجب إختلال النظّام ، أو العُسر الاكيد والحَرج الشّديد .

( وعدم بيان طريق مجعول فيها ) أي : في أحكامه بأن يقول مثلاً : إعملوا بالاولويات ، أو بالقياسات ، أو بالشهرات ، أو بما اشبه ذلك .

فانّه ( يكشف ) أي : بقاء التكليف ( عن انّ الظنّ جائز العمل ) في حال الانسداد ( وانّ العمل به ) أي : بالظنّ ( ماض عند الشارع ، وانّه لا يعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه ) فتركناه ( ولا بفعل محّرم اذا ظنّ بعدم تحريمه ) فعملنا بذلك المحرم الواقعي الذي ادى الظنّ على خلافه .

ص: 162

فحجّيةُ الظنّ على هذا التقرير تعبّدٌ شرعيّ كَشفَ عنه العقلُ من جهة دوران الأمر بين اُمور كلّها باطلة سواه ، فالاستدلالُ عليه من باب الاستدلال على تعيين احد طرفيّ المنفصلة أو اطرافها بنفي الباقي ، فيقال : أنّ الشارع إمّا أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالاً ، أو أراد الامتثال بها على العلم ، أو اراد الامتثال المعلوم إجمالاً ، أو أراد إمتثالها

-------------------

وعليه : ( فحجيّة الظنّ على هذا التقرير ) أي : تقرير الكشف . ( تعبّد شرعي كشف عنه العقل ) فانّ العقل كاشف بسبب هذه المقدّمات التي ذكرناها عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة ( من جهة دوران الأمر بين اُمور كلّها باطلة سواه ) أي : سوى الظن .

والاُمور الباطلة المذكورة عبارة عن : عدم التكليف ، أو وجوب الاحتياط ، أو نصب طريق مجعول .

إذن : ( فالاستدلال عليه ) أي : على الظنّ في حال الانسداد ( من باب الاستدلال على تعيين احد طرفي المنفصلة ، أو أطرافها بنفي الباقي ) مثل أنّ يقال : العدد إمّا زوج ، وإمّا فرد ، لكن العدد في هذا المكان ليس بزوج فهو فرد .

هذا بالنسبة الى احد الطرفين ، وأمّا بالنسبة الى احد الاطراف فيقال : كان في الدار اما زيد أو عمرو أو بكر ، لكن زيداً وعمراً ليسا في الدار قطعاً ، فلا يبقى إلاّ أنّ يكون في الدار بكر .

وتقريب المنفصلة في المقام ، وهو ما ذكره المصّنف بقوله : ( فيقال : انّ الشّارع اما أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالاً ) رأساً .

( أو أراد الامتثال بها ) أي : بهذه التكاليف ( على العلم ) بانّ نعلم بتلك التكاليف فنؤدّيها ، ( أو أراد الامتثال المعلوم اجمالاً ) بالاحتياط؛ ( أو أراد إمتثالها

ص: 163

من طريق خاص تعبّدي ، أو أراد إمتثالها الظني ، وما عدا الأخير باطل ، فتعيّن هو .

وإمّا أن يقرّر على وجه يكون العقلُ منشأللحكم بوجوب الامتثال الظنّي، بمعنى حُسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه ،كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ عند التمكّن من تحصيل العلم .

-------------------

من طريق خاصّ تعبّدي ) جعله الشارع ، ( أو أراد إمتثالها الظنّي ) فقط .

( و ) معلوم انّ ( ما عدا الأخير ) من الاحتمالات الأربعة المتقدمة ( باطل ) لأنه لا اعراض للشّارع عن أحكامه قطعاً ، واطاعة التكاليف بالعلم الوجداني في كلّ تكليف تكليف غير حاصل لنا ، والامتثال الاجمالي بالاحتياط موجب لاختلال النظام والعُسر والحَرج ، والشارع لم يجعل طريقاً خاصاً ، إذن ( فتعين هو ) أي : العمل بالظنّ .

وعليه : فان مقتضى هذا الاستدلال الكشفي هو : حجّية الظنّ مطلقاً من حيث الأسباب والموارد والمراتب - كما سيأتي الالماع اليه إنشاء اللّه تعالى - .

( وأمّا أن يقررّ على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظني ) وهذا ما يصطلح عليه : بانّ نتيجة دليل الانسداد الحكومة ( بمعنى : حُسن المعاقبة ) من المولى ( على تركه ) أي : على ترك العبد العمل بالظنّ ( وقبح المطالبة ) من المولى عن العبد ( بأزيد منه ) أي : بأزيد من الظنّ ، كأن يطالبه بالاحتياط ، أو نحو ذلك .

( كما يحكم ) العقل ( بوجوب تحصيل العلم ، وعدم كفاية الظنّ عند التّمكن من تحصيل العلم ) ففي حال الانفتاح يطلب العقل العلم ، وفي حال الانسداد الظنّ .

ص: 164

فهذا الحكمُ العقليّ ليس من مجعولات الشارع ، إذ كما أنّ نفسَ وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقق الأمر والنهي من الشارع ليس من الأحكام المجعولة من الشارع ، بَل شيء يَستقلّ به العقلُ لاعلى وجه الكشف ، فكذلك كيفيّة الاطاعة وأنّه يكفي فيها الظنّ بتحصيل مراد الشارع في مَقام ويعتبر فيها العلمُ بتحصيل المراد في مَقام آخر امّا تفصيلاً أو إجمالاً .

وتوهّمُ : «انّه يلزم على هذا إنفكاكُ حكم العقل عن حكم الشرع» ،

-------------------

وعليه : ( فهذا الحكم العقلي ليس من مجعولات الشّارع ) لأنّ العقل يرى انّ هذا طريق الاطاعة ، لا انّ الشّارع جعل الظّنّ طريق الاطاعة .

( إذ كما انّ نفس وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقّق الأمر والنهي من الشّارع ، ليس ) ذلك الوجوب وتلك الحرمة ( من الأحكام المجعولة من الشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف ) فانّ الشّارع بعد أن أمر ونهى ، قال العقل :أطع أمره واترك نهيه ( فكذلك كيفيّة الاطاعة وانّه يكفي فيها ) أي : في الاطاعة . ( الظّنّ بتحصيل مراد الشارع في مقامٍ ) وهو : مقام الانسداد .

كما ( ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر ) أي : في صورة التمكن من العلم ، وذلك ( إمّا تفصيلاً ) كما إذا تمكّن العبد من العلم التفصيلي ولم يكن فيه عُسر ولا حرج ( أو إجمالاً ) كما إذا لم يتمكن العبد من العلم التفصيلي وكان له علم إجمالي ، ولم يستلزم الاطاعة في أطراف العلم الاجمالي عُسرا وحَرجا .

( وتوهّم : انّه يلزم على هذا ) أي : على كون نتيجة دليل الانسداد الحكومة ، لا الكشف . ( إنفكاك حكم العقل عن حكم الشّرع ) مع انّه كل ما حكم به العقل حكم به الشّرع ، فكيف تقولون : بانّ نتيجة الانسداد حجّية الظّنّ مطلقا

ص: 165

مدفوعٌ بما قرّرنا في محلّه ، من أنّ التلازم بين الحُكمَين إنّما هو مع قابليّة المورد لهما .

أمّا لو كان قابلاً لحكم العقل دون الشرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية ، فانّهما لا يَقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيّين بأن يريد فعل الأولى وترك الثانية بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وتَرْك المنهيّ عنه

-------------------

على الحكومة ، لا على الكشف ؟ .

هذا التوهم ( مدفوع بما قرّرنا في محلّه : من انّ التلازم بين الحكمين ) العقل والشّرع ( إنّما هو مع قابليّة المورد لهما ) بأن يكون حكما شرعيا وحكما عقليا .

( أمّا لو كان قابلاً لحكم العقل دون الشّرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية ) إذ في باب الاطاعة والمعصية ، الحاكم الوحيد هو العقل ، ولا مدخلية للشرع فيهما ، ولهذا ( فانّهما ) أي : باب الاطاعة والمعصية ( لا يقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتّحريم الشّرعيّين ، بأن يريد ) المولى ( فعل الأولى ) أي : الطاعة ( وترك الثّانية ) أي المعصية ، ( بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه ) .

مثلاً إذا قال المولى : صلّ ، وقال : لا تشرب الخمر ، ثم قال بعد ذلك : أطعني ، فان قوله : أطعني ، إرشاد الى حكم العقل ، وليس فيه ثواب ولا عقاب ، مع قطع النظر عن ثواب الصّلاة وعقاب شرب الخمر ، لا انّه تكليف جديد .

وإلاّ فلو كان قوله : «أطعني» تكليفا جديدا ، لزم أن يكون للمصلي ثوابان : ثواب أصل الصلاة ، وثواب الاطاعة ، ولشارب الخمر عقابان : عقاب شرب الخمر ، وعقاب المعصية .

ص: 166

الحاصلة ، بالأمر والنهي ، حتى انّه لو صرّح بوجوب الاطاعة وتحريم المعصية ، كان الأمر والنهي للارشاد لا للتكليف ، اذ لا يترتبّ على مخالفة هذا الأمر والنهي الاّ ما يترتّب على ذات المأمور به ، والمنهي عنه ، أعني نفس الاطاعة والمعصية .

وهذا نفسُ دليل الارشاد ، كما في أوامر الطبيب .

-------------------

ومن البديهي : انّه ليس للطاعة الواحدة ثوابان ، ولا للعقوبة الواحدة عقابان ، فللمولى ارادة واحدة بفعل المأمور به ، وترك المنهي عنه ( الحاصلة بالأمر والنهيّ ) لا أنّ له إرادتين : إرادة بالنسبة الى فعل المأمور به وترك المنهي عنه ، وإرادة بالنسبة الى الطاعة .

هذا ( حتى انه لو صرّح بوجوب الاطاعة ) كما قال سبحانه : « اَطِيعُوا اللّه وأطِيعوا الرَّسول واوْلي الأمر منكمُ »(1) ( وتحريم المعصية ) كما قال سبحانه : « وَما نهاكُم عنهُ فانتهُوا »(2) ( كان الأمر والنّهي ) في أطيعوا وإنتهوا ( للارشاد ، لا للتكليف ) فأمره ونهيه ارشاد الى حكم العقل ، لا انّه تكليف جديد .

ويدلّ على انّه ليس بتكليف جديد ما ذكره بقوله ( اذ لا يترتبّ على مخالفة هذا الأمر والنّهي إلاّ ما يترتّب على ذات المأمور به والمنهي عنه ، أعني : نفس الاطاعة والمعصية ) للصلاة وشرب الخمر ، فليس هناك طاعتان ومعصيتان .

( وهذا نفس دليل الارشاد ) فانّ الأوامر الارشادية لاطاعة ولا معصية في فعلها أو تركها ، وانّما تكون النتيجة لنفس الفعل والترك ( كما في أوامر الطّبيب ) فانّ الطبيب ، اذا قال : اشرب هذا الدواء ، فان اطاعه لم يكن لطاعة أمر الطبيب ثواب ،

ص: 167


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر او ثواب آخر غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنّهي عنه فعلاً أو تركاً من الثواب والعقاب .

ثمّ إنّ هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من حيث الموارد يعني المسائل ، اذ على الأوّل يدّعى الاجماع القطعيّ على أنّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ،

-------------------

وإنّما تكون النتيجة الحسنة لفعل شرب الدواء ، واذا عصاه لم يكن لعصيان أمر الطبيب عقاب ، وإنّما تكون النتيجة السيئة لنفس ترك شرب الدواء .

( ولذا ) أي : لأجل انّه ليس الأمر الاطاعة والمعصية ثواب وعقاب ( لا يحسن ) بل يقبح ( من الحكيم عقاب آخر ، أو ثواب آخر ، غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنّهي عنه فعلاً أو تركاً من الثواب والعقاب ) وإنّما لا يحسن ثواب آخر ، أو يقبح الثواب الآخر ،لأنّه خلاف الحكمة .

نعم ، يصح أنّ يتفضل المولى بثواب آخر ، الاّ أن يكون على نحو الأجر ، فاذا استأجر أجيراً بدرهم ، ثم اعطاه درهمين وقال : إنّ كلا الدرهمين أجرة كان عملاً قبيحاً ، لأنّ الدرهم الثاني يكون من وضع الشيء في غير موضعه ، وأمّا اذا أعطاه درهماً اجراً ودرهماً تفضلاً لم يكن قبيحاً .

( ثمّ إنّ هذين التقريرين ) الكشف والحكومة ( مشتركان في الدّلالة على التعميم ) في النتيجة ( من حيث الموارد يعني المسائل ) فان نتيجة دليل الانسداد - سواء قلنا : بانّه يفيد الكشف ، أو يفيد الحكومة - العمل بالظنّ في كل المسائل من أول الفقه الى آخره اذا ظنّ بها .

( اذ على الاوّل : ) وهو الكشف ( يدّعى الاجماع القطعي على انّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ) اذ لا وجه للفرق بعد عموم الدّليل لكلّ الابواب .

ص: 168

وعلى الثاني يقال إنّ العقل مستقل بعدم الفَرق في باب الاطاعة والمعصية بَينَ واجبات الفروع من أوّل الفقه الى آخره ولا بَين محرّماتها كذلك فيبقى التعميم من جهتيّ الاسباب ومرتبة الظنّ ، فنقول : أمّا التقرير الثاني ، فهو يقتضي التعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه الاّ الانكشاف .

-------------------

( وعلى الثاني : ) وهو الحكومة ( يقال : انّ العقل مستقل بعدم الفرق في باب الاطاعة والمعصية بين واجبات الفروع ) أي : الفروع الواجبة ( من أولّ الفقه الى آخره ، ولا بين محرّماتها ) أي : الفروع المحرمة ( كذلك ) أي : من أول الفقه الى آخره .

( فيبقى التعميم من جهتيّ : الأسباب ، ومرتبة الظنّ ) فهل أنّ الظنّ من كل الأسباب حجّة ، أو من أسباب خاصة ؟ وهل أن الظنّ بكل مراتبه القوية والضعيفة والمتوسطة حجّة ، أو بعض مراتبه ؟ .

( فنقول : اما التقرير الثاني ) الذي هو الحكومة : ( فهو يقتضي التّعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ) فحيثما حصل الظنّ كان حجّة ، سواء حصل من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل ، أو الاولوية ، أو ما أشبه ذلك .

( بل هو ) أي الظنّ ( من هذه الجهة ) أي : من جهة الاسباب ، ( نظير العلم ، لا يقصد منه الاّ الانكشاف ) فكما أنّ العلم حجّة ، لأنّه كاشف عن الواقع كشفاً قطعياً من غير نظر الى اسباب العلم ، كذلك الظنّ في حال الانسداد حجّة من غير نظر الى أسباب الظنّ ، لأن له كشفاً ناقصاً في زمان عدم وجود الكشف التام

ص: 169

وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوةً وضَعفاً فلا تعميمَ في النتيجة ، إذ لايلزمُ من بطلان كلّيّة العمل بالاصول التي هي طرق شرعيّة الخروجُ عنها بالكليّة ، بل يُمْكِن الفرقُ في مواردها بين الظنّ القويّ البالغ حدَّ سكون النفس في مقابلها فيُؤخَذ به وبين ما دونه فيؤخذ بها .

-------------------

يقوم مقامه .

( وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوّة وضعفاً ، فلا تعميم في النتيجة ) حتى يكون الظنّ مطلقاً قوّياً كان أو ضعيفاً حجّة ، ( إذ لايلزم من بطلان كليّة العمل بالأصول ) ، بطلان الجزئية أيضاً ، فانّ السلب الكلّي لايلازم السلب الجزئي .

فاذا قلنا : ليس كلّ النّاس في البلد ، لم يكن معناه ليس بعض الناس في البلد .

وعليه : فبطلان كليّة العمل بالاصول ( التي هي ) أي : تلك الاصول ( طرق شرعيّة ) لايلزم من بطلان هذه الكلّية ( الخروج عنها ) أي : عن الاصول ( بالكلّيّة ) فانّا وان قلنا في مقدمات الانسداد : بانّ العمل بالبرائة يوجب الخروج عن الدّين ، والعمل بالاحتياط يوجب العُسر والحَرج ، لكن ذاك فيما إذا عملنا بالبرائة والاحتياط كلية ، أما إذا عملنا بهما في موارد الظّنّ الضعيف ، وعملنا بالظّنّ القوي في موارد وجود الظّن القويّ ، فلا يلزم خروجاً عن الدّين ولاعُسراً ولاحرجاً .

وعليه : فلا يلزم العمل بكل مراتب الظّنّ قوة وضعفاً ( بل يمكن الفرق في مواردها بين الظّنّ القوي البالغ حدّ سكون النّفس في مقابلها ) أي : في مقابل هذه الموارد ، فيسكن النفس وفق هذا الظّنّ ، في مقابل الوهم الذّي لايسكن النفس فيه ( فيؤخذ به ) أي : بهذا الظّنّ القوي ( وبين مادونه ) أي : مادون الظّنّ القوي كالظّنّ الضعيّف ( فيؤخذ بها ) أي : بالاصول .

ص: 170

وأمّا التقريرُ الأوّلُ فالإهمالُ فيه ثابتٌ من جهة الأسباب ومن جهة المرتبة .

وإذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ،

-------------------

( وأمّا التقرير الأوّل ) الذّي هو الكشف : ( فالاهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ، ومن جهة المرتبة ) وذلك بعد ثبوت الانسداد في أغلب الأحكام ، وبقاء التكليف ، وبطلان وجوب الاحتياط كليّة ، وبطلان جواز العمل بالاصول وسائر الطرق التعبدية ، كالقرعة ، والاولوية ، وماأشبه ، فانّه ليس للعقل أن يستكشف بملاحظة هذه المقدمات : انّ كون الظّنّ حجّة عند الشّارع مطلقاً من غير فرق بين أسبابه ومراتبه .

فانّه بعد عزل العقل عن الحكومة ، يكشف العقل عن انّ الشّارع جعل الظنّ في الجملة حجّة ، أمّا انّ كل مراتب الظّنّ وكل أسباب الظّنّ يكون حجّة ، فليس للعقل كشف ذلك عن الشّرع .

ومن الواضح : انّ هذا مبنيّ على انّ القدر الثابت من مقدمات دليل الانسداد هو بطلان كلّي وجوب العمل بالاحتياط ، وكذا كلي جواز العمل بالاصول ، والاّ فعلى فرض ثبوت بطلانهما إطلاقاً ، فلا ريب انّ المنكشف عند العقل حينئذٍ حجيّة الظنّ مطلقا من دون فرق بين اسبابه ومراتبه ، إذ لا مناص من العمل بالظّنّ حينئذ في موارد وجود الظّنّ مطلقاً ، ولايكون فرق بين الأسباب والموارد والمراتب .

( وإذا عرفت ذلك ) من ان النتيجة اما كشف ، أو حكومة ، وانّه على الكشف تكون النتيجة امّا كليّة أو جزئية ، وعلى الحكومة تكون النتيجة أيضاً امّا كليّة أو جزئية ( فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثّاني ) أي : الحكومة

ص: 171

وأنّ التقرير على وجه الكشف فاسدٌ .

أمّا أوّلاً : فلأنّ المقدّماتِ المذكورة لاتستلزمُ جَعلَ الشارع للظنَّ مطلقاً أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّةً ، لجواز أن لايجعل الشارعُ طريقاً للامتثال بعد تعذّر العلم أصلاً .

بل عرفتَ في الوجه الاوّل من الايراد على القول باعتبار الظنّ في الطريق أنّ ذلك غيرُ بعيد .

وهو أيضاً طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ، حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ، ولايجب على الموالي نصب

-------------------

( وانّ التقرير على وجه الكشف فاسدٌ ) من وجوه :

( أمّا أوّلاً : فلأنّ المقدّمات المذكورة لاتستلزم جعل الشّارع للظّنّ مطلقاً ) من أيّ سبب ( أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّة ، لجواز أن لايجعل الشارع طريقاً للامتثال بعد تعذر العلم أصلاً ) بل يَكِلُ الأمرَ الى العرف ، كما إنّ الموالي لايجعلون الطرق غالباً لأوامرهم ، بل يَكِلوُن ذلك الى العقلاء والعرف .

( بل عرفت في الوجه الأوّل من الايراد على القول باعتبار الظّنّ في الطريق ) أي : قول القائل : بانّ الظّنّ بالطريق حجّة ، لا الظنّ بالأحكام ( انّ ذلك ) أي : عدم جعل الشّارع طريقاً للأمتثال ( غير بعيد ) منه .

( وهو ) أي : عدم الجعل ( أيضاً طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ) من الموالي الى العبيد ( حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة ، مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ) فانّ العبيد يعملون بأوامر الموالي حسب العلم ، فاذا لم يكن لهم علم عملوا حسب الظنّ ( ولا يجب على الموالي نصب

ص: 172

الطريق عند تعذّر العلم .

نعم ، يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذةُ على مخالفة الواقع الذي يؤدّي إليه الامتثال الظنّيُّ ، إلاّ أن يقال : إنّ مجرّدَ إمكان

ذلك ما لم يَحْصَل العلمُ به لايقدحُ في إهمال النتيجة وإجمالها ، فتأمّل .

-------------------

الطريق عند تعذر العلم ) من العبيد بأوامر مواليهم .

( نعم ، يجب عليهم ) أي : على الموالي ( الرّضا بحكم العقل ، ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع ، الذّي يؤدي اليه ) أي : يؤديّ الى ذلك الخلاف للواقع ( الامتثال الظّنّي ) من العبيد .

فإذا كان الواقع - مثلاً - وجوب مجيئهم في هذا اليوم الى دار المولى ، ولكن ظنوا عدم لزوم المجيء فلم يأتوا ، فانّه لايعاقبهم المولى ، لأنه يقبح عند العقلاء مؤاخذتهم على عملهم بالظّنّ - حين تعذّر العلم عليهم - وإن كان الظّنّ على خلاف الواقع .

( إلاّ أن يقال : انّ مجرّد إمكان ذلك ) أي : عدم الجعل ( مالم يحصل العلم به ) أي : بعدم الجعل ( لايقدح في إهمال النّتيجة وإجمالها ) وعدم كليّتها .

فانّ مجرد إحتمال عدم جعل الشارع الطريق بعد الانسداد إذا لم يحصل العلم بعدم الجعل ، لايقدح في إهمال النتيجة ، ولايضر بإجمالها ، وما ذكرناه سابقاً : من انّه على الحكومة تكون النتيجة عامّة من حيث الأسباب غير صحيح ، إذ إمكان عدم الجعل لايدل على أنّ الظّنّ من كل سبب حجّة ، فانّ العقل يحتمل انّ الشّارع جعل بعض الأسباب حجّة دون بعض .

نعم ، لو علم بانّ الشّارع لم يجعل طريقاً إطلاقاً ، كشف العقل ان الظّنّ من كل سبب حجّة ( فتأمل ) .

ص: 173

وإمّا ثانياً : فلاّنه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال صحّ المنعُ الذي أورده بعضُ المتعرّضين لردّ هذا الدليل ،

-------------------

قال الأوثق : « ضَعفُ « إلاّ أن يُقال » ظاهر ، إذ الفرض انّ إهمال النتيجّة مبنّي على الكشف ، ولا رَيب انّ كشف العقل وإدراكه لجعل الشّارع الظّنّ حجّة ، لايمكن إلاّ بعد إنتفاء إحتمال إحالة الشّارع المكلّفين الى طريقة العقلاء ، ومجرد إحتماله كافٍ فيمنع كشف العقل وإدراكه» (1) .

( وأمّا ثانياً : ) فانّه إذا لم نقل بالحكومة وقلنا بانّ مقدمات الانسداد تكشف عن حجّية الظّنّ ، كان لقائل أن يقول : يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة ، مثل إستحسان أكثرية العلماء لحكم مّا ، كما نَجد ذلك في مجالس الأمم غير الاسلامية ، حيث انّهم يعملون بأكثرية الآراء في أحكامهم ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا يحتمل أن يجعله الشّارع حجّة فيما لم يجعل الظّنّ حجّة ، وإذا جاء هذا الاحتمال بَطُل كون الظّنّ حجّة .

( فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال ) حجّة ، لا على الحكومة ( صحّ المنع الذّي أورده بعض المعترضين لردّ هذا الدّليل ) أي : دليل الانسداد ، فان الفاضل النراقي أَشكَل على دليل الانسداد : بانّه من أين القطع بانّ الشّارع جعل الظنّ حجّة ، بل يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة .

وعليه : فإذا قلنا بالحكومة ، لا يأتي إيراد النَراقي ، أمّا إذا قلنا بالكَشف ، جاء

ص: 174


1- - أوثق الوسائل : ص221 فساد دليل الانسداد على وجه الكشف .

وقد أشرنا إليه سابقاً .

وحاصله : أنّه كما يحتمل أن يكون الشارعُ قد جعل لنا مطلقَ الظنّ أو الظنَّ في الجملة المتردّد بين الكلّ والبعض المردّد بين الابعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئاً آخر حُجّةً من دون إعتبار إفادته الظنّ ،

-------------------

إيراده ، وهو : انّه يحتمل أن يكون الشّارع جعل شيئاً آخر غير الظّن حجّة ، لاأنّه جعل الظّنّ حجّة ، ( وقد أشرنا اليه سابقاً ) أي : الى مالايقدر الكَشفي على جوابه ، وإنّما يقدر الحكومي على جوابه .

( وحاصله : ) أي : حاصل إشكال النَراقي على الانسداد هو : ( انّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظّن ) أي : الظّنّ مطلقاً ( أو الظّنّ في الجملة ) أي : على وجه الاهمال والاجمال ( المتردّد ) صفة لقوله : في الجملة ( بين الكلّ والبعض ) لأنّا نحتمل إنّ الشّارع جعل كلّ الظّنون حجّة ، ونحتمل انّه جعل بعض الظّنون حجّة ( المردّد ) ذلك البعض أيضاً ( بين الابعاض ) هناك ثلاثة إحتمالات :

الأول : إنّه جعل الظنون كلها جحّة .

الثاني : إنّه جعل بعض الظّنون حجّة ، وذلك البعض يحتمل أن يكون هو الظّنّ القويّ فقط .

الثالث : ان يكون ذلك البعض هو الظنّ القوي والمتوسط فقط دون الظنّ الضعيف .

وعليه : فكما يحتمل جعل ذلك ( كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئاً آخر حُجّة ، من دون إعتبار إفادته الظّنّ ) كما مثّلنا له بجعل رأي أكثرية العلماء حجّة في الأحكام .

ص: 175

لأنّه أمرٌ ممكن غَيْرُ مستحيل .

والمفروض عدمُ إستقلال العقل بحكم في هذا المَقام ، فَمِنْ أينَ يَثبت جعلُ الظنّ في الجملة دون شيء آخر ، ولم يكن لهذا المنع دفعٌ أصلاً ، إلاّ أن يدّعى الاجماعُ على عدم نصب شيء آخر غير الظنّ في الجملة ، فتأمّل .

-------------------

وانّما قلنا باحتمال ذلك ( لأنّه أمرٌ ممكن غير مستحيل ) إذ لادليل على إستحالته .

هذا ( والمفروض : عدم إستقلال العقل بحكم في هذا المقام ) لأنّ الكلام هنا على الكشف لا على الحكومة .

وعليه : ( فمن أين يثبت جعل الظّنّ في الجملة دون شيء آخر ) يجعله حجّة في حال الانسداد ؟ .

وإذ أشكل النَراقي بهذا الاشكال ، لم نتمكن من رده على الكشف ( ولم يكن لهذا المنع ) من الفاضل النَراقي ( دفع أصلاً ، إلاّ أن يدّعى الاجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظّنّ في الجملة ) ومعنى في الجملة هنا : إمّا مطلقاً ، وإمّا بعضاً .

( فتأمل ) ولعله إشارة الى ما سيأتي إنشاء اللّه تعالى من الاشكال على قوله وثالثاً : بانّه لو تمسك بالاجماع ، لم يمكن تسمية هذا الدليل الانسدادي عقلياً لأنّ الاجماع شرعي لاعقلي ، والدليل المستند الى الاجماع يكون دليلاً شرعيا ، والمفروض : انّ دليل الانسداد من لأدلة العقلية ، وربمّا يقال في وجه فتأمل شيءٌ آخر لايهم التعرّض له .

ص: 176

وأمّا ثالثاً : فلأنّه لو صحّ كونُ النتيجة مهملةً مجملةً لم ينفع أصلاً إن بقيت على إجمالها ، وإن عُينِّتَ فامّا أن تُعيّن في ضِمنِ كُلّ الأسباب وإمّا أن تُعيّن في ضمن بعضها المُعيّن ، وسيجيء عدمُ تماميّة شيء من هذين إلاّ بضميمة الاجماع ، فيرجع الأمرُ بالأخَرَةِ الى دعوى الاجماع على حجيّة مطلق الظنّ بعد الانسداد ،

-------------------

( وأمّا ثالثاً : فلأنه لو ) كانت نتيجة الانسداد الكشف ، كان دليل الانسداد شرعياً لاعقلياً ، فلماذا يسمونه عقلياً ؟ وذلك لأنّه على تقدير الكشف ، لاتكون النتيجة إلا مهملة ، فيحتاج في تعميمها الى الاجماع ، والاجماع ، دليل شرعي ، وما يستند الى الدليل الشرعي يكون شرعياً لا عقلياً .

وعليه : فان ( صح كون النتيجة مهملة مجملة ، لم ينفع أصلاً إن بقيت على إجمالها ) لأنّ الاجمال لايدل على إن أي الظنون حجّة حتى يتمسك به .

( وان عيّنت ) النتيجة بعد الاهمال ( فامّا ان تُعيّن في ضمن كلّ الأسباب ) بأن يكون حاصل إلانسداد والدليل المعيّن هو : ان كل أسباب الظنون حجّة .

( وامّا أن تعيّن ) النتيجة ( في ضمن بعضها المعيّن ) أي : بعض الظنون المعيّنة الحاصلة من أسباب خاصة : كالكِتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل فقط ، لاسائر الظنون .

( وسيجيء عدم تماميّة شيء من هذين ) أي : من أن تعيّن في ضمن كل الأسباب ، أو ان تعيّن في ضمن بعضها المعيّن ( إلاّ بضميمة الاجماع ) فان اللازم تدخيل الاجماع في تحصيل النتيجة ( فيرجع الأمر بالأخرة الى دعوى الاجماع على حجّية مطلق الظنّ بعد الانسداد ) لأنّا إحتجنا في المعيّن الى الاجماع .

ص: 177

فتسميتُه دليلاً عقليّاً لايظهرُ له وجهٌ عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشرعيّة ونتيجتها عقلّية ، وهذا جارٍ في جميع الأدلّة السمعيّة ، كما لا يخفى .

المقام الثاني :

في أنه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب و المرتبة ، أم لا ؟ .

فنقول : أمّا على تقدير كون العقل كاشفاً عن حكم الشارع بحجّية الظنّ

-------------------

إذن : ( فتسميته دليلاً عقليّاً ، لايظهر له وجه ) تام ( عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشّرعيّة ونتيجتها عقلية ) بمعنى : إن تلك المقدمات الشّرعية تعطي نتيجة عقلية ( وهذا جارٍ في جميع الأدلّة السّمعيّة كما لايخفى ) فانّ نتائج الأدلة السّمعيّة تكون عقلية ، لأنّ إنتاج الكبرى والصغرى للنتيجة عقلي قطعاً .

لكنّه كما ترى ، فان لازمة ان نسمّي الادلة من أوّل الفقه الى آخر الفقه بانّها عقلية ، وذلك واضح البطلان ، وانّما يلزم ذلك لأن إنتاج الأشكال الأربعة لنتائجها عقلي ، وإن كانت المقدمتان : الصغرى والكبرى غير عقلية ، ولا يخفى : انّ هذا الاشكال أشبه بالاشكال اللّفظي من الاشكال العمقي .

ولما تمّ المقام الاوّل وهو : هل ان دليل الانسداد يعطي الكشف أو الحكومة ؟ نقول : ( المقام الثّاني : في انّه على أحد التقريرين السّابقين ) وهما : الكشف والحكومة ( هل يحكم بتعميم الظّنّ من حيث الأسباب والمرتبة ، أم لا ؟ ) بل تكون النتيجة مهملة من حيث الأسباب والمرتبة .

( فنقول : امّا على تقدير كون العقل كاشفاً عن حكم الشّارع بحجّية الظّنّ

ص: 178

في الجملة ، فقد عرفت انّ الاهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه .

الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، والاجماع على بطلان التخيير .

والتعميم بهذا الوجه يحتاج الى ذكر ما يصلح أن يكون مُرجحاً وإبطاله ،

-------------------

في الجملة ) أي : انّ بعض الظّنّون حجّة ( فقد عرفت : انّ الاهمال بحسب الأسباب ، وبحسب المرتبة ) كليهما ( ويذكر للتعميم من جهتهما ) اي : من جهة الأسباب والمرتبة ( وجوه ) على النحو التالي :

( الأوّل : عدم المرّجح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرّجح ، والاجماع على بطلان التخيير ) بين أفراد الظنون عند العمل .

قال في الأوثق في وجه التعميم : « لأنّه مع إهمال النتيجة وعدم المرجّح ، أمّا أن يبنى على التخيير بين أفراد الظنون في مقام العمل ، فهو خلاف الاجماع ، وأمّا أن يبنى على التعيين ، وحينئذٍ : امّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما هو معيّن عند اللّه مبهم عندنا ، فهو مستلزم للتكليف بالمجهول ، وهو قبيح من الشارع الحكيم ، وإمّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما نختاره للعمل ، وهو مستلزم للترجيح بلا مرجح ، فلابّد حينئذٍ من الحكم بحجّية جميعها بفقد المرجح لبعضها » (1) .

ولا يخفى عليك ضعف هذا الدليل ممّالا يسع المجال لذكره .

هذا ( و ) لكن ( التعميم بهذا الوجه ، يحتاج الى ذكر ما يصلح أنّ يكون مرجحاً وإبطاله ) أي: إبطال المرجح ، لأنّه اذا كان هناك مرجّح ، لم تصل النوبة الى التعميم.

ص: 179


1- - أوثق الوسائل : ص221 فساد دليل الانسداد على وجه الكشف .

ولِيُعلم أنّه لا بدّ أن يكون المعّينُ والمرجّحُ معيّناً لبعض كافٍ بحيث لايلزمُ من الرجوع بعد الالتزام به الى الاصول محذورٌ ، والاّ فوجوده لا يُجدي .

إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أنّ يكون معيّناً أو مرجحّاً أحدُ اُمور ثلاثة :

الأوّل : من هذاالاُمور كونُ بعض الظنون متيقناًبالنسبة الى الباقي ، بمعنى كونه واجب العمل قطعاً على كلّ تقدير ،

-------------------

( وليعلم : أنّه لابدّ أن يكون المعين ) - بالكسر - ( والمرجّح ) والفرق بينهما : أنّ المعيِّن يعين ، والمرجح يقول : هذا ارجح من غيره ( معيّناً لبعض كافٍ بحيث لا يلزم من الرّجوع بعد الالتزام به ) أي : بهذا البعض المعيّن ( الى الاُصول محذور ) مثل الخروج عن الدّين أو ما اشبه ذلك .

( وإلاّ فوجوده ) أي : هذا البعض المعيّن أو المرجحّ ( لايجدي ) لأنّه بعد معرفة البعض المعيّن أو المرجَّح - بالفتح - يكون العلم الاجمالي باقياً ممّا نحتاج معه الى الانسداد ، لانّ العلم الاجمالي هو الذي سبب إحتياجنا الى الانسداد وهذا الاحتياج باق .

( إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أن يكون معيّناً أو مرجحاً ) لبعض الظنون ممّا يكفي بالنسبة الى علمنا الاجمالي ، هو ( أحد اُمور ثلاثة ) كما يلي :

( الأوّل : من هذه الاُمور : كون بعض الظنون متيقنّاً بالنسبة الى الباقي ، بمعنى :

كونه واجب العمل قطعاً على كل تقدير ) أي : تقدير وجوب العمل بجميع الظنون ، وتقدير وجوب العمل ببعض الظنون .

مثلاً : اذا قال المولى : أكرم العلماء فانّه يحتمل إرادة كل عالم حتى عالم الهِندسة ، والطب ، والفلك ، وما اشبه ، ويحتمل إرادة خصوص علماء الفقه ، فعلماء الفقه متيقنون على كل تقدير ، لأنّه سواء كان العالم عاماً او خاصاً ، فالفقهاء

ص: 180

فيؤخذ به ويطرح الباقي ، للشكّ في حجّيته .

وبعبارة اُخرى : يقتصرُ في القضيّة المهملة المخالفة للأصل على المتيقن ، وإهمالُ النتيجة حينئذٍ من حيث الكم فقط ، لتردّده بين الأقلّ المعيّن والأكثر .

ولا يتوهّمُ : « أنّ هذا المقدار المتيقن حينئذٍ من الظّنون الخاصّة ، للقطع التفصيلّي بحجّيّته » ،

-------------------

مقصودون للمولى في وجوب الاكرام ( فيؤخذ به ) أي : بالمتيقن ( ويطرح الباقي ) ، الذي ليس بمتيقن ( للشّك في حجيّته ) أي :في حجّية الباقي ومشكوك الحجّية يجري فيه أصالة عدم الحجّية .

( وبعبارة اُخرى : يقتصر في القضية المهملة المخالفة للأصل ) اي : حجّية الظنّ في الجملة ، فان الحجّية مخالفة للأصل ( على المتيقّن ) من أنّه حجّة ، حتى يخرج بسبب اليقين عن أصالة عدم الحجّية .

( وإهمال النتيجة حينئذٍ ) أي : حين وجود القدر المتيقن ، ( من حيث الكم فقط ) لوضوح : انّه مع وجود القدر المتيقن ، يكون الاهمال بالنسبة الى ذلك الزائد على المتيقن لا محالة ، اذ القدر المتيقن متيقن ، فلا إهمال بالنسبة اليه ، وذلك ( لترددّه ) أي : تردد الظنّ الذي هو حجّة ( بين الأقل المعيّن ، والأكثر ) المشكوك فيه .

( ولا يتوهم : انّ هذا المقدار المتيقن حينئذٍ ) أي : بعد الانسداد ، ودوران الأمر بين الأقل المتيقن ، وبين الاكثر غير المتيقن ( من الظنّون الخاصة ، للقطع التفصيليّ بحجّيته ) على كل تقدير سواء تقدير كون جميع الظنّون حجّة ، أم تقدير كون هذا الظنّ الخاص الذي هو المتيقن حجّة .

ص: 181

لاندفاعه : بانّ المراد بالظنّ الخاصّ ما علمَ حجيّته بغير دليل الانسداد ، فتأمل .

الثاني : كونُ بعض الظنون أقوى من بعض فيتعيّن العملُ عليه ، للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم فى كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة من الواجبات والمحرّمات على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للإحتياط فيه في غاية البُعد ،

-------------------

وإنّما لا يتوهم ( لاندفاعه : بانّ المراد بالظّن الخاص : ما عُلِمَ حجيّته بغير دليل الانسداد ) ومن المعلوم : انّ القدر المتيقن في المقام إنّما علم حجّيته بسبب دليل الانسداد ، فلا يكون المتيقن من باب الظنون الخاصّة .

( فتأمل ) ولعلّه اشارة الى انّ القدر المتيقن لم يثبت بدليل الانسداد ، بل هو معلوم ، سواء قلنا بالإنسداد أم لا .

( الثاني : ) من الوجوه الثلاثة مما يصلح أن يكون معينّاً أو مرجحاً : ( كون بعض الظنّون أقوى من بعض ) وإنّ لم يكن متيقناً بالنسبة الى الباقي ، لأنّ القدر المتيقن غير القدر المرجّح ( فيتعيّن العمل عليه ) اي : على هذا الأقوى .

وذلك ( للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة ، من الواجبات والمحرّمات ) لأنّ هناك علماً إجمالياً كبيراً من أوّل الفقه الى آخر وهذا العلم الاجمالي يقتضي الاتيان بكل محتمل الوجوب وترك كل محتمل التحريم ، فيلزم الاقتصار في مخالفته . ( على القدر المتيقّن ) منه ( وهو : ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه ) ضمير « فيه » عائد الى : « ما » في قوله : ما كان الاحتمال ( في غاية البُعد ) .

فانّه كلّما كان الظنّ قويّاً عمل على الظنّ ، وكلّما كان الظنّ ضعيفاً لا يعمل

ص: 182

فانّه كلما ضعف الاحتمال الموافقُ للاحتياط كان إرتكابه أهون .

الثالثُ : كونُ بعض الظنّون مظنون الحُجيّة ، فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره ،

-------------------

على ذلك الظنّ .

مثلاً : اذا كان ظنّان : ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ ضعيف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وكان الاحتياط بالجمع بينهما عُسراً على المكلّف ، فاذا دار الأمر بين العمل بأحد الظنّين ، عمل بظنّ وجوب الصّلاة لا بظنّ وجوب الدعاء ، لأنّ احتمال وجوب الدعاء الموافق للاحتياط في غاية البُعد بينما إحتمال وجوب الصلاة في غاية القرب .

( فانّه كلّما ضعف الاحتمال الموافق للاحتياط كان إرتكابه أهون ) ومعنى الارتكاب في مثالنا : إن يترك الدعاء فلا يوافق فيه الاحتياط ، فانّ الاحتياط يقول باتيان الدعاء .

( الثالث : ) ممّا يصلح أن يكون معيّناً أو مرجّحاً لبعض الظّنون على بعض : ( كون بعض الظنون مظنون الحجّية ) بينما بعض الظنون الآخر ليس كذلك ( فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره ) ممّا لايكون مظنون الحجّية ( يكون أولى من غيره ) .

مثلاً : هناك ظنّان : ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وهذا الظنّ يظنّ المكلفّ بانّه حجّة ، لانّه مستند الى خبر العادل ، وخبر العادل يظنّ بانّ الشارع قرره في حال الانسداد ، وظنّ آخر بوجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وهذا الظنّ لا يظن المكلّف إنّه حجّة ، لأنّه مستند الى الشهرة ، والشهرة لا يظنّ المكلّف بانّ الشارع جعلها طريقاً ، فانّه عند تعسر الاحتياط باتيان الصلاة والدعاء معاً ، يقدّم الصلاة

ص: 183

إما لكونه اقرب الى الحجّية ، من غيره ، ومعلومٌ أنّ القضية المهملة المجملة تُحملُ ، بعد صَرفها الى البعض بحكم العقل على ما هو أقربُ محتملاتها الى الواقع ، وإمّا لانّه أقربَ الى احراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحانُ مطابقته للواقع ، لانّ المفروض كونه من الامارات المفيدة للظنّ بالواقع ورجحان كونه بدلاً عن الواقع ،

-------------------

للظنّ بالصلاة ، ولكون هذا الظنّ مظنون الحجّية ، فقد اجتمع في الصلاة ظنّان بالنتيجة ، بينما الدعاء ليس فيه إلاّ ظن واحد .

وإنّما يقدّم مظنون الحجّية على غيره ( إمّا لكونه ) أي : كون مظنون الحجّية ( أقرب الى الحجيّة من غيره ) ولم يقل أقرب الى الواقع لعدم لزوم أن يكون أقرب لاحتمال كون الظّن الذي لم يظنّ حجّية أقوى ، فيكون ذلك الظنّ الأقوى أقرب الى الواقع .

( ومعلوم : أنّ القضية المهملة المجملة ) أي : حجّية الظنّ ( تحمل بعد صرفها ) أي : صرف تلك القضية المهملة ( الى البعض ) صرفاً ( بحكم العقل ، على ما هو أقرب محتملاتها الى الواقع ) فانّ البعض الذي هو أقرب الى الحجيّة ، هو أقرب محتملات القضية الى الواقع .

( وامّا لأنّه اقرب الى إحراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع ) لكونه مظنون الحجّية ( لأنّ المفروض : كونه من الأمارات المفيدة للظنّ بالواقع ) فانّ الخبر الذي دل على وجوب صلاة الجمعة أمارة تفيد الظّن بالواقع .

( ورجحان كونه بدلاً عن الواقع ) لا يخفى : إنّ هذه جملة مستأنفة وليست عطفاً على سابقها ، ومعناها : أنّ الخبر الواحد يرجح أن يكون بدلاً عن الواقع لو لم يصادف الواقع ، لأنّ الشارع جعل الخبر واقعاً تنزيلياً .

ص: 184

لأنّ المفروض الظنّ بكونه طريقاً قائماً مقامَ الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له ، فاحتمالُ مخالفة هذه الأمارات للواقع ، ولبِدلهِ موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ، لأنّها على تقدير مخالفتها للواقع ، لايظنّ كونُها بدلاً عن الواقع .

-------------------

وإنّما يرجح كونه بدلاً عن الواقع ( لأنّ المفروض : الظنّ بكونه طريقاً قائماً مقام الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له ) اي للواقع ، وذلك على ما سبق في أوّل الكتاب من المصلحة السلوكية .

( فاحتمال مخالفة هذه الأمارات للواقع ولبِدَله ، موهوم في موهوم ) بينما الظنّ الذي لا يظن بحجيّته يكون في إحتمال مخالفته موهوم واحد .

والى هذا أشار بقوله : ( بخلاف إحتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ) أي : الأمارات التي لا يظن بحجيتها ( لأنّها ) اي : تلك الأمارات ( على تقدير مخالفتها للواقع ، لا يظنّ كونها بدلاً عن الواقع ) فاذا كان في الظنّ بصلاة الجمعة ظنّان : ظنّ بأنه واقع وظنّ بانّه على تقدير أنّه لم يكن واقعاً كان واقعاً تنزيلياً ، وكان في الظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ظن واحد فقط ، وهو : الظنّ بأنّه واقع ، لكن اذا لم يكن واقعاً لم يكن ظنّ بانّه بدل من الواقع، قدّم العقل الظنين على الظنّ الواحد.

وعليه : فيقدّم صلاة الجمعة على الدّعاء عند رؤية الهلال ، كلما دار الأمر بينهما ولم يتمكن من الجمع بينهما لتعسر أو تعذر .

هذا ، ولا يخفى : انّ المصّنف قد كرّر جملة :« لأنّ المفروض »ثلاث مرات :

الأولى : علّة لاقرب .

الثانية : علّة لرجحان المطابقة للواقع .

الثالثة : علّة لرجحان كونه بدلاً .

ص: 185

ونظيرُ ذلك : ما لو تعلّقَ غَرضُ المريض بدواء تعذّر الاطلاعُ العلميّ عليه ، فدار الأمرُ بين دوائين : احدهما يظنّ انّه ذلك الدّواء ، وعلى تقدير كونه غيره يظنّ كونُه بدلاً عنه في جميع الخواصّ .

والآخر يظنّ أنّه ذلك الدواء ، لكن لا يظنّ أنّه على تقدير المخالفة بدل عنه ، ومعلومٌ بالضرورة انّ العمل بالأوّل أولى .

ثمّ

-------------------

ثم إنّ المصنّف مثَّل للظنّين والظنّ الواحد ، وإنّ الظنيّن مقدّم على الظنّ الواحدبقوله : ( ونظير ذلك ما لو تعلق غرض المريض بدواء تعذر الاطّلاع العلمي عليه ، فدار الأمر بين دوائين احدهما يظن أنّه ذلك الدواء ) الذي هو شفاء لمرضه ( وعلى تقدير كونه غيره ، يظن كونه بدلاً عنه في جميع الخواص ) .

كما يقال : إنّ التَرنجبين بدل عن الشيرخِشت ، فأحد الدوائين يظن أنّه الشير خِشت ، ويظنّ أنّه على تقدير أنّه لم يكن الشيِرخشت كان التَرنجَبين .

( والآخر يظنّ انه ذلك الدّواء لكن لا يظنّ انّه على تقدير المخالفة بدل عنه ) كما اذا كان الدواء الآخر يظنّ انّه الشيِرخشت ، أما اذا لم يكن هو الشيِرخِشت فانّه يكون شيئاً تافهاً لا يرتبط بمرضه .

( ومعلوم بالضرورة : أنّ العمل بالأول أولى ) عند العقل والعقلاء ، لأنّ الأول فيه ظنّان ، بينما في الثاني ظنّ واحد .

( ثمّ ) إنّ ذا الظنّين قد يكون معلوماً ، كما اذا كان الخبر ذا ظنين ، فهو أرجح من الشهرة ذات الظنّ الواحد ، وقد يكون ذو الظنين دائراً بين اُمور ، فيأتي المكلّف بأحد هذه الاُمور ، لا بالأمر الواحد ذي الظنّ الواحد ، اذ الا ءتيان بأحد تلك الاُمور أقرب الى الواقع ، لأنّه إمّا ظنّ واحد ، أو ظنان ، أما الاتيان بذي الواحد لا يحتمل

ص: 186

انّ البعض المظنون الحجّية قد يُعلمُ بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكّى رواتهُ بعد واحد أو حجّية الاجماع المنقول ، وقد يعلم اجمالاً وجودُه بين أمارات ، فالعملُ بهذه الأمارات أرجحُ من غيرها الخارج من محتملات ذلك المظنون الاعتبار . وهذا كما لو ظنّ عدمُ حجّية بعض الأمارات ، كالأولويّة ، والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ، فإنّا اذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملةً مردّدةً بين هذه الاُمور وغيرها

-------------------

فيه أن يكون ذا ظنّين .

وذلك ( انّ البعض المظنون الحجّية ) وهو ذو الظنين - على ما ذكرناه - ( قد يعلم بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكى رواته بعدل واحد ، أو حجّية الاجماع المنقول ) فانّه مقدّم على الظنّ بالواقع فيما اذا كان ذا ظنّ واحد ، فلم يكن مظنون الحجّية .

( وقد يعلم اجمالاً ) أي : المظنون الحجّية يعلم إجمالاً ( وجوده بين أمارات ) متعددة ( فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها ) ذلك الغير ( الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار ) بأن يكون ذا ظنّ واحد .

( وهذا كما لو ظنّ عدم حجّية بعض الأمارات : كالأولويّة والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ) الواحد ، بينما هناك الخبر ، والاجماع المنقول ، وأحدهما يحتمل أن يكون ذا ظنين ، فانّه يعمل بالخبر أو بالاجماع ، ويترك الأولويّة ، والشهرة ، والاستقراء ، وفتوى الجماعة .

وإنّما يقدّم أحد الاثنين على أحد الأربعة لما ذكره المصنّف بقوله : ( فانّا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة مردّدة بين هذه الاُمور ) الأربعة ( وغيرها )

ص: 187

وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ،لزَم من ذلك الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها وإن كان مردداً بين ابعاض ذلك الغَير ، فكان الاخذُ بالغَير أولى من الأخذ بها ، لِعَين ما تقدّم وإن لم يَكنُ بين أبعاض ذلك الغَير مرجّح ، فافهم .

-------------------

كالاثنين في مثالنا ، أي : الخبر والاجماع المنقول : ( وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ) الأربعة ( لزم من ذلك ، الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها ) أي : في غير الأربعة .

هذا ( وإنّ كان ) ذلك الغير الذي قال المصنّف : غيرها ( مردّداً بين أبعاض ذلك الغير ) اي : بين الخبر والاجماع المنقول في مثالنا ( فكان الأخذ بالغير ) من الخبر والاجماع ( أولى من الأخذ بها ) اي : بهذه الأربعة : من الأولويّة ، والشهرة والاستقراء ، وفتوى الجماعة .

وإنّما كان أولى ( لعين ما تقدّم ) من قولنا : إنّ بعض المظنون الحجّية قد يعلم بالتفصيل ، وقد يعلم اجمالاً ، وإنّ الاجمال مقدّم على ما لا يظن حجّيته ( وإنّ لم يكن بين ابعاض ذلك الغير مرجّح ) بانّ لم يكن ترجيح للخبر على الاجماع ، ولا للاجماع على الخبر .

لكن يلزم علينا أن نأخذ بما يسنده الخبر ، أو يسنده الاجماع ، لا أنّ نأخذ بما يسنده الاولويّة ، أو الشهرة ، أو الاستقراء ، أو فتوى الجماعة .

( فافهم ) ولعله إشارة الى انّه لا إطلاق في تقديم أحد المحتملين من ذي الظنّين على ذي الظنّ الواحد ، فانّه ربما يقدم العقلاء ذا الظنّ الواحد ، كما اذا كان له رجحان لا يوجد لأحد محتملي ذي الظنّين ، فانّه اذا عمل بذي الظنّ الواحد ، أحرز المكلّف ذلك الرجّحان ، بينما أذا عمل بأحد محتملي ذي الظنين فاته ذلك الرجّحان .

مثلاً : الدّعاء عند رؤية الهلال ذو ظنّ واحد ، لكنّه أرجح بسبب السيرة

ص: 188

هذه غايةُ ما يُمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض .

لكن نقول : إنّ المُسلّم من هذه في الترجيح لا ينفعُ ، والذي ينفع غيرُ مسلّم كونُه مرجّحاً .

توضيح ذلك : هو أنّ« المرجحّ الأوّل » - وهو تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي - وإنّ كان من المرّجحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلومَ الحجّية تفصيلاً وَغَيرهُ مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل ؛ لكنّه لا ينفع ، لقلّته وعدم كفايته ، لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي

-------------------

أما الظهر والجمعة فانّه وان كان احدهما ذا ظنين ، لكنّه اذا أتى بأحدهما إحتمل أنه حصل على ظنّ واحد ، بدون الرجحان الذي كان في الدعاء .

( هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنّون على بعض ) فيما كانت النتيجة مهملة .

( لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه ) الترجيحات الثلاثة ( في الترجيح ، لاينفع ) أي : لا ينفع في ترجيح بعض الظنون على بعض ( والذي ينفع ) في الترجيح ( غير مسلّم كونه مرجّحاً ) حتى يمكن الاعتماد عليه .

و ( توضيح ذلك : هو إنّ المرجّح الأوّل ، وهو :تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي ) بان يكون ظنّ متيقناً وظنّ مشكوكاً ( وان كان من المرجّحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلوم الحجيّة تفصيلاً ) فان المتيقن معناه : إنّه حجّة قطعاً ( وغيره ) أي : غير المتيقن ( مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل ) لأنّ الأصل في مشكوك الحجّية عدم الحجّية .

( لكنه لا ينفع ) هذا المتيقن وذلك ( لقلّته وعدم كفايته ) بمعظم الأحكام التي هي محل إبتلاء المكلّف ( لأنّ القدر المتيقنّ من هذه الأمارات هو الخبر الذي )

ص: 189

زُكّي جميعُ رواته بعَدلين ، ولم يُعملّ في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ اضعف نوعاً من سائر الأمارات الاُخر ولم يُوهَن لمعارضة شيء منها ،

-------------------

جمع خمسة شرائط :

الأوّل : ( زكيّ جميع رواته بعدلين ) من باب الشهادة ، لأنّه يعتبر في الشهادة على الموضوعات نفران .

الثاني : ( ولم يعمل في تصحيح رجاله ، ولا في تمييز مشتركاته ) كأبي بَصير - مثلاً - فانّه مشترك بين القوي والضعيف ، أو الصحيح والفاسد المذهب .

فيجب ان لايعمل في التصحيح والتمييز ( بظنّ أضعف نوعاً ) أي : ضعفاً نوعياً ( من سائر الأمارات الأخر ) المعارضة لهذا الحكم الّذي قام عليه هذا الخبر المزكى المصحح ، لأنّه اخذا صححت رجاله وميزت مشتركاته بظنّ أضعف ، صار هذا الخبر أضعف من تلك الأمارات الاُخر ، فانّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين .

مثلاً : هنا خبر يدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة وزكيّت رجاله بعدلين ، لكن في رجاله رجل إسمه سالم وسالم مشترك بين القوي والضعيف ، وهناك إنسان ضعيف يقول : إنّ سالم هذا هو القوي لا الضعيف .

وفي قِبال هذا الخبر أمارة اخرى تدل على وجوب الظهر يوم الجمعة ، لكن في طريق تلك الأمارة ليس مثل هذا الانسان الضعيف ، فان تلك الأمارة تكون أقوى من هذا الخبر بالنتيجة .

الثالث : ( ولم يوهن ) هذا الخبر القوي ( لمعارضة شيء منها ) أي من الأمارات فانّه ربّما يوهن الخبر بالمعارضة كمعارضة الشهرة مثلاً .

ص: 190

وكان معمولاً به عند الأصحاب كلاً أو جُلاً ، ومفيداً للظنّ الاطمئناني بالصّدور ، إذ لاريبَ أنّه كلّما إنتفى أحدُ هذه الأُمور الخمسة في خبر ، إحتمل كون غَيره حجّةً دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّية على كلّ تقدير .

وأمّا عدمُ كفايته لندرته فهو واضحٌ ، مع أنّه لو كان بنفسه كثيراً كافياً ، لكن يَعلم إجمالاً بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له في الأمارات الاُخّر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في

-------------------

الرابع : ( وكان معمولاً به عند الأصحاب كُلاً أو جُلاً ) لأنّ الخبر المعرض عنه غير حجّة على ماقرره جماعة من الفقهاء والاصوليين - .

الخامس : ( ومفيداً للظنّ الاطمئناني بالصدور ) اذ بعض العلماء إشترطوا وجود الظن في حجّية الظواهر .

( إذ لاريب انّه كلّما إنتفى أحد هذه الأمور الخمسة في خبر ، إحتمل كون غيره حجّة دونه ) أي دون هذا الخبر الّذي إنتفى أحد هذه الأمور الخمسة فيه ( فلا يكون ) هذا الخبر المنتفي فيه بعض هذه الامور الخمسة ( متيقن الحجّية على كلّ تقدير ) أي : على تقدير حجّية الكلّ وحجية البعض ، لأن البعض إذا كان حجّة دون البعض الآخر ، إحتمل أن يكون الحجّة غيره .

( وأمّا عدم كفايته ) أي : عدم كفاية المتيقن الحجّية ( لندرته ، فهو واضح ) لأنّ مثل هذا الخبر الجامع لهذه الشروط الخمسة قليل جداً ( مع انّه لو كان بنفسه كثيراً كافياً ) باعتبار عموماتها وإطلاقاتها ( لكن يعلم إجمالاً بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له ) أي : لمثل هذا الخبر ( في الأمارات الاُخر ) .

وعليه : ( فيكون ) هذا الخبر الكافي بنفسه والكثير ( نظير ظواهر الكتاب في

ص: 191

عدم جواز التمسك بها مع قطع النظر عن غيرها ، إلاّ أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدّي منها بما هو متيقن بالاضافة إلى مابقي ، فتأمّل .

وإمّا « المرجّح الثاني » ، وهو كونُ بعضها أقوى ظناً من الباقي ، ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّةٍ لهَ مُتعسّرٌ أو متعذّر ، لأنّ القوّة والضعف اضافيّان ،

-------------------

عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها ) أي عن غير تلك الظواهر ، إذ ظواهر الكتاب إنّما تكون حجّة إذا لم تكن مخصصة أو مقيدة أو ما أشبه ذلك .

( إلا أن يؤخذ بعد الحاجة الى التعدي منها بما هو متيقّن بالاضافة الى مابقي ) فاذا كنّا نحتاج - مثلاً - الى ألف حكم وتيقّناً بسبعمائة منها . فالثلثمائة الباقية قد نتيقّن بمائتين منها ، لكن لايقيناً مطلقاً بل بالنسبة الى المائة الباقية! وهكذا ، فيكون المتيقن المطلق هو الأوّل ، والمتيقن بالنسبة هو الثاني ، وهكذا .

( فتأمّل ) لعل وجهه : انّ المتيقن الاضافي لاينفع فيما نحن فيه ، إذ غاية الأمر انّه أرجح من غيره بمعنى ان الجامع لكل القيود متيقن مطلق! امّا الجامع لبعض القيود فهو أرجح من فاقد هذه القيود .

مثلاً : ذو القيود الأربعة أرجح من ذي القيود الثلاثة ، وذو القيود الثلاثة أرجح من ذي القيود الأقل لكنّه في حدّ ذاته مشكوك الاعتبار نظراً الى فقدانه لبعض القيود ، فالمفيد انّما هو المتيقن المطلق ، لا المتيقن النسبي المسمّى بالمتيقن الاضافي .

( وأما المرجّح الثاني : وهو كون بعضها ) أي : بعض الظنون ( أقوى ظنّاً من الباقي ، ففيه ) : أولاً :

( ان ضبط مرتبة خاصّة له ) أي : للأقوى ( متعسّر أو متعذر ، لأنّ القوة والضعف إضافيّان ) ولا ميزان لضبطهما .

ص: 192

وليس تعارض القويّ مع الضعيف هنا في متعلّق واحد حتى يذهب الظنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الأُخرى . نعم يوجد مرتبة خاصّة ، وهو الظنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكماً ،

-------------------

مثلاً : من يتمكن من حمل مائة منّ قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل خمسين ! بينما نفس من يتمكن من حمل المائة ضعيف بالنسبة الى من يتمكن من حمل مائة وخمسين ، وهكذا من يتمكن من حمل خمسين قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل عشرة .

وفيه ثانياً : ما أشار اليه بقوله : ( وليس تعارض القوي مع الضعيف هنا في متعلّق واحد ! حتى يذهب الظّنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الاُخرى ) القوية ، فانّه لا يمكن حصول الظنّين في متعلق واحد حتى يذهب الظنّ من الاضعف ويبقى في الأقوى .

مثلاً : إذا كان ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة وعلمٌ ضعيف بوجوب صلاة الظهر ، فالقوي يجعل الظنّ الضعيف وهماً ، لعدم إمكان إجتماع ظنٌّ وشكٌ ، فكيف بظنّ وظن ؟ .

أمّا في المقام فليس ظنّان في مورد واحد ، حتى يجعل القوي منهما الضعيف وهماً ، بل ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ آخر بحرمة شرب التبغ - مثلاً- ، ونحن حيث لانتمكن من الاحتياط - فرضاً - يلزم علينا أن نأخذ بأحد الظنين .

( نعم ) إستثناء من قوله : انّ ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر ( يوجد مرتبة خاصّة ) من الظّنون ليس فيها تعذر أو تعسر ( وهو : الظّنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكماً ) فانّه كما يجب على الانسان إتّباع العلم ، كذلك يجب عليه إتّباع الظّن الاطمئناني .

ص: 193

بل موضوعاً ، لكنّه نادر التحقّق .

مع أنّ كونَ القوّة معيّنة للقضيّة المجملة محلّ منع ، إذ لايستحيلُ أن يعتبر الشارعُ في حال الانسداد ظنّاً يكون أضعفَ من غيره ، كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة ، فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة .

وما تقدّم في تقريب مرجّحيّة القوة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظنّ

-------------------

( بل ) هو ملحق بالعلم - ( موضوعاً ) لأنّ الظنّ الاطمئناني يطلق عليه العلم ، فان العلم في لسان العرف أعمّ من القاطع للنقيض والاطمئناني ( لكنّه نادر التحقق ) .

وفيه ثالثاً : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة ) حيث انّ نتيجة الانسداد حجّية الظنّ في الجملة ( محلّ منع ) .

وانّما كان محل منع ( إذ لايستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّاً يكون أضعف من غيره ) بأن يترك الشارع الظّنّ الأقوى ويأخذ بالظّنّ الأضعف ( كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة ) .

مثلاً : الظّنّ عن الخبر ليس أقوى من الظنّ عن الشهرة ، مع انّ الأول حجّة دون الثاني ، بل كثيراً مايكون الظّنّ القياسي أقوى في نظر الانسان من الظّنّ الخبري ، كما في قصة أَبان بالنسبة الى ديّة الأصابع في المرأة والرجل ، وغير ذلك .

( و ) ان قلت تقدّم منكم عند نفي تعميم النتيجة - من جهة مرتبة الانكشاف قوة وضعفاً - على تقدير حكومة العقل : أن حكمتم بإمكان الفرق بين الظّنّ القوي والضعيف ، فلماذا تركتم ذلك هنا ؟ .

قلت : ( ماتقدّم في تقريب مرحجيّة القوّة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظّنّ

ص: 194

عند إنسداد باب العلم من منشئات العقل وأحكامه .

وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد - عن أنّ الشارع جَعل الظنّ حجّةً في الجملة وتردّد أمرُه في أنظارنا بين الكلّ والأبعاض - فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونُه هو المجعول حجّةً ، لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة .

-------------------

عند إنسداد باب العلم ، من منشئات العقل وأحكامه ) أي : كون دليل الانسداد مفيداً للحكومة ، فانّ العقل يقدم الظّنّ القوي على الظنّ الضعيف مطلقاً .

( وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد عن انّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة ) أي : لم يجعله حجّة مطلقاً ( وتردّد أمره في أنظارنا بين الكل والابعاض ) بأن يكون كل الظّنون حجّة أو بعض الظّنون حجّة بفرض النتيجة على الاهمال والاجمال ( فلا يلزم من كون بعضها أقوى ، كونه هو المجعول حجّة ) فقياس الكشف على الحكومة قياس مع الفارق .

( لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظّنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة ) .

مثلاً : قال الشارع : « كُلُ شَيءٍ حَلال » (1) وقال : « كُلُّ شَيءٍ طاهِرٌ » (2) وقال : « البَيّنَةُ على المُدّعي وَاليَمينُ على مَنْ أنكَر » (3) وقال : « كَذّب سَمعَكَ

ص: 195


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ج40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - فقه القرآن : ج2 ص12 ، غوالي اللئالي : ج1 ص244 ح172 و ج2 ص258 ح10 ، الوسيلة : ص218 ، الصوارم المهرقة : ص150 ، وسائل الشيعة : ج27 ص233 ب2 ح33665 .

وأمّا « المرجّحُ الثالثُ » - وهو الظنّ بإعتبار بعض فيؤخذُ به لأحد الوجهين المتقدّمين - ففيه ، مع أنّ الوجه الثاني لايفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته : أنّ الترجيحَ على هذا الوجه

-------------------

وَبَصَرَكَ عَن أَخيكَ » (1) وقال : « إقرارُ العُقلاءِ على أَنفُسِهِم جائز » (2) وهكذا ، مع إنّه كثيراً ما نظنّ بخلاف هذه الأمور ظنّاً قوياً ، فانّه قد نظنّ بحرمة الشيء ونجاسته ، وإنّ البينة مشتبهة في الشهادة ، وانّ الحالف يكذب أو يشتبه ، وإنّ مارآه بَصرنا وسَمِعَهُ سمعنا أقوى ممّا يدّعيه الأخ ، وانّ المقر كاذب لجهة من الجهات ، والى غير ذلك .

( وأمّا المرجح الثالث : وهو الظنّ بإعتبار بعض ) دون بعض فاذا كان هناك ظنّ واحد ، وهناك ظنّان فذو الظنيّن مقدّم على ذي الظّنّ الواحد ( فيؤخذ به ) أي : بمظنون الاعتبار ( لأحد الوجهين المتقدّمين ) ممّا ذكرناه في أوّل الثالث بقولنا : امّا لكونه أقرب الى الحجية من غيره ، وإمّا لأنّه أقرب لمصلحة الواقع .

( ففيه مع انّ الوجه الثاني ) وهو : كونه أقرب الى إحراز مصلحة الواقع ( - لايفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته - ) وفرق بين اللزوم والأولويّة ، فان اللزوم لازم بينما الأولويّة راجحة ، فانّ العقل لايحكم بأزيد من انّ الذي له أولوية أرجح ، لا إنّه لازم إلاّ إذا كانت أولوية واصلة الى حدّ المنع من النقيض ، والمفروض انّه لاتصل الى ذلك .

ففيه : ( ان الترجيح على هذا الوجه ) أي : الوجه الثاني وهو : كونه أقرب إلى

ص: 196


1- - الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الأعمال : ص295 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، بحار الأنوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

يَشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في أنّ مَداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذٍ إذا فرضنا كون الظنّ الذي لم يظنّ بحجّيتّه أقوى ظنّاً بمراتب من الظنّ الذي ظنّ حجّيتّه ، فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ، فيرجع الأمر الى لزوم ملاحظة الموارد الخاصّة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظنّ المظنون الاعتبار .

نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائماً من حيث القوة والضعف ،

-------------------

إحراز مصلحة الواقع ( يشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في انّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ ) إذا صار المناط هو الأقرب الى الواقع فانّه ( إذا فرضنا كون الظّن الذي لم يظنّ بحجّيته ) أي : ذو الظنّ الواحد ( أقوى ظنّاً بمراتب ، من الظّنّ الذي ظنّ حجّيته ) أي : من ذي الظّنين ( فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ) وإنّما بنائهم على ترجيح الأقوى منهما إذا كان هناك أقوى ، وإلاّ فالتساوي والتخيير بينهما ، مثلاً : صلاة الجمعة ذات الظنّ الواحد ! لكن في الدرجة التسعين من الظنّ ، ودعاء رؤية الهلال ذو الظنين ، لكن كلّ ظنّ منهم في الدرجة الأربعين ، فيكون الأوّل أقوى ، لأنّه بتسعين في مقابل ما بثمانين .

وعليه : ( فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد الخاصة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها ) أي : بتلك الضابطة ( في ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار ) على الظنّ الّذي لم يظنّ باعتباره .

( نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائماً من حيث القوة والضعف ) بأن كان ظنّ صلاة الجمعة وظنّ الدعاء متساويين وفي رتبة واحدة قوة وضعفاً ، لكن أضيف على ظنّ صلاة الجمعة : كونه مظنون الحجّية ، دون الدعاء فليس الظنّ به

ص: 197

كان ذلك المرجّحُ بنفسه منضبطاً ، ولكنّ الفرض مستبعد بل مستحيل ، مع أنّ اللازم على هذا أن لايعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنّ حجّيته بظنّ قد ظنّ حجّيته، لأنّه أبعد من مخالفة الواقع وبدله بناءا على التقرير المتقدّم.

-------------------

مظنون الحجّية ( كان ذلك المرجّح ) وهو الظّنّ المظنون الاعتبار ( بنفسه منضبطاً ).

هذا ( ولكن ) فيه أوّلاً : ان ( الفرض مستبعد ) لأنّه يستبعد التساوي من حيث القوة والضعف في كل الظنون المتعارضة ( بل مستحيل ) عادة .

وفيه ثانياً : ( مع انّ اللازم على هذا ) أي : على ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار على الظّن الّذي ليس بمظنون الاعتبار ( أن لايعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنَّ حجيته بظنّ قد ظنّ حجيته ) .

مثلاً : ظنّ بصلاة الجمعة ، عن الخبر المظنون حجّية ذلك الخبر ، وانّما ظنّ حجّية الخبر ، لأنّ الاجماع - مثلاً - قام على حجّية الخبر ، فهناك ثلاثة ظنون ، فيكون ماله ثلاث ظنون أقوى ممّا له ظنّان ، كما إنّ ماله ظنّان أقوى ممّا له ظنّ واحد .

وإنّما يقدّم ذو الثلاثة ظنون ( لأنّه أبعد من مخالفة الواقع ، وبدله ) أي : من مخالفة بدل الواقع ، على ماتقدّم : من انّ مايحتمل أن يكون واقعاً ، وإذا لم يكن واقع كان بدل الواقع ، أقرب ممّا يكون واقعاً ، وإذا لم يكن واقع كان مخالفاً للواقع ، وذلك ( بناءاً على التقرير المتقدّم ) من ان مظنون الحجّية أولى من غيره .

والحاصل : انّه أوّلاً : قد يكون ذو الظنّ الواحد أقوى ، فليس الاعتبار بذي الظنين مطلقاً .

وثانياً : انّ اللازم من المرجح الثالث أن يؤخذ بذي الثلاثة ظنون في قِبال ذي الظنين ، لا أن يؤخذ بذي الظنين إطلاقاً حتى يتساوى ذو الظنين وذو الثلاثة ظنون.

ص: 198

وإمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره.

ففيه :

أوّلاً : أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّية أمارة على الاطلاق ، فان أكثر ما أُقيم على حجّيته الأدلة من الأمارات الظنّية المبحوث عنها الخبرُ الصحيحُ ، ومعلومٌ عند المصنّف أنّ شيئاً ممّا ذكروه لحجّيته لايوجب الظنّ بها على الاطلاق .

-------------------

( وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ، ففيه : ) إنّه مركب من صغرى هي : « وجود أمارة توجب الظن بأمارة اخرى » وكبرى هي : « انّه كلّما ظنّ بأمارة أُخرى كانت تلك الأمارة حجّة » .

ولكن يرد على الصغرى : انّه لا أمارة تفيد الظنّ بأمارة اخرى ، وعلى الكبرى : انّه على فرض إفادة أمارة الظّنّ بأمارة اخرى لا دليل على حجّية مثل هذا الظنّ ، وقد أشار المصنّف الى منع الصغرى بقول :

( أوّلاً : انّه لا أمارة تفيد الظّنّ بحجّية أمارة على الاطلاق ) أي : انّه مطلقاً ليس لنا هكذا أمارة تفيد الظّنّ بحجيّة أمارة أخرى ، ( فان أكثر ما أقيم على حجّيته ) الضمير في حجّيته راجع الى « ما » ( الأدلة من الأمارات الظّنية المبحوث عنها الخبر الصحيح ) أي : انّ الخبر الصحيح هو أكثر ما أقيم على حجّيته الأدلة .

( ومعلوم عند المنصف : إنّ شيئاً ممّا ذكروه لحجيته ) أي : الأدلة الّتي أقاموها على حجّية الخبر الصحيح ( لا يوجب الظّنّ بها على الاطلاق ) أي : لاتوجب تلك الأمارات الظنّ بالأخبار الصحيحة مطلقاً ، بل الأمارات القائمة على حجّية الخبر الصحيح ، توجب الظن بحجّية قسم خاص من الخبر ، وهو : الخبر الجامع للقيود الخمسة المذكورة قبل صفحة تقريباً .

ص: 199

وثانياً : إنّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل .

وقد توهّم غيرُ واحد أنّه ليس المراد إعتبار مطلق الظنّ وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ، وإنّما المقصودُ ترجيحُ بعضها على بعض.

فقال بعضهم في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار ، بعد الاعتراف بأنّه ليس المقصودُ هنا إثباتَ حجّية الظنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنيّة

-------------------

( وثانياً : ) نمنع الكبرى ، وذلك ( انّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ ) أي : أيّ دليل على إعتبار مطلق الظّن في ترجيح ظنّ إنسدادي على ظنّ آخر ، فإن الظنّ ( المجمل ) الّذي هو نتيجة الانسداد أفراده متساوية من حيث انّه لادليل على تقديم ظنّ على ظنّ ، فيبقى على إجماله .

( وقد توهّم غير واحد : انّه ليس المراد إعتبار مطلق الظّنّ ) أي : لانقول : انّ الظّنّ بالظّنّ معتبر ، بل نقول : انّه مرجّح على الظنّ الذي لايظنّ باعتباره ، فليس المراد إعتبار مطلق الظّنّ ( وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ) حتى يلزم إثبات حجّية الظّنّ المطلق به .

( وإنّما المقصود ترجيح بعضها ) أي : بعض الظنون ( على بعض ) وهو ترجيح الظنون المرجّحة ، على الظنون التي ليست مرجّحة ، ويكون الترجيح أي : بالظنّ بأنّ هذا الظنّ حجّة .

( فقال بعضهم ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية رحمه اللّه ( في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار بعد الاعتراف : بانّه ليس المقصود هنا إثبات حجّية الظّنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنية ) « بالأمارات » متعلق بقوله : « إثبات »

ص: 200

القائمة عليها ، ليكون الاتّكالُ في حجّيتها على مجرّد الظنّ .

ثم إنّ الدّليل العقليّ المثبت لحجّيتها هو الدليل العقليّ المذكور .

والحاصل من تلك الأمارات الظنيّة هو ترجيح بعض الظنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكليّة ، بل يقتصر في مفاد القضيّة المهملة على تلك الجملة .

-------------------

( القائمة عليها ) أي : على الظنون المظنونة الاعتبار ( ليكون الاتكال في حجّيتها على مجرّد الظنّ ) حتى يشكل بأنّه لادليل على حجّية المظنون الاعتبار ، دون الظنون التي لايظنّ بحجيتها .

فانّه قال مالفظه : ( ثمّ انّ الدّليل العقلي المثبت لحجّيتها ) أي : لحجّية الظنون المظنونة الاعتبار ( هو الدليل العقلي المذكور ) أي : دليل الانسداد .

( والحاصل : من تلك الأمارات الظنّية ) الدالة على حجّية بعض الظّنون ( هو : ترجيح بعض الظّنون على البعض ) وذلك بترجيح الظّنون المظنونة الاعتبار ، على الظنون التي ليست بمظنونة الاعتبار ( فيمنع ذلك ) أي : ترجيح بعض الظنون على بعض ( من إرجاع القضيّة المهملة ) التي أنتجتها مقدّمات دليل الانسداد ( الى الكلية ) .

والحاصل : إنّ الظّنّ المظنون الاعتبار مقدّم على غيره ، لا أنّ ذلك يوجب حجّية كل الظنون ، فالنتيجة المهملة تعيّن في بعض الظّنون ، لا أنَّ المهملة تعمّم الى كل الظنون ( بل يقتصر في مقاد القضيّة المهملة ) التي هي نتيجة الانسداد ( على تلك الجملة ) من الظنون التي ظنّ باعتبارها .

ص: 201

فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدّليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون نظراً الى حصول القوّة بالنسبة إليها ، لإنضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع .

فاذا قطع العقل بحجّية الظنّ بالقضيّة المهملة ، ثم وجد الحجّية متساوية بالنظر الى الجميع حكم بحجّية الكلّ .

وأمّا إذا وجدها مختلفةً وكان جملةٌ منها أقربَ الى الحجية من الباقي

-------------------

( فالظّنّ المفروض ) وهو الظّنّ بحجّية بعض الظنون ( انّما يبعث على صرفَ مفاد الدّليل المذكور ) وهو دليل الانسداد ( الى ذلك ) البعض الذي ظنّ باعتباره ( وعدم صرفه ) أي : الدليل المذكور ( الى سائر الظنون ) فلايجعل الدليل المذكور كل الظّنون حجّة ( نظراً الى حصول القوّة بالنّسبة اليها ) فانّ الظنون المظنونة الاعتبار ، أقوى من الظنون التي ليس على إعتبارها ظنّ .

وإنّما تحصل القوة بالنسبة الى هكذا ظنّ ( لانضمام الظّنّ بحجّيتها الى الظن بالواقع ) فيجتمع هناك ظنّان : ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وظن بأنّ هذا الظّنّ معتبر لاستفادته من الخبر - مثلاً - .

وعليه : ( فاذا قطع العقل بحجية الظّنّ بالقضية المهملة ) أي : بنحو القضية المهملة ، لأن العقل قاطع في حال الانسداد بأن الظنّ حجّة في الجملة ( ثم وجد الحجّية متساوية بالنّظر الى الجميع ) أي : الى جميع الظنون ( حكم بحجّية الكل ) وتساوي كل الظّنون في الحجّية .

( وأما إذا وجدها مختلفة ) أي : وجد العقل الظنون التي هي نتيجة الانسداد مختلفة من حيث القوة والضعف ( وكان جملة منها أقرب الى الحجّية من الباقي ،

ص: 202

نظراً الى الظنّ بحجيّتها دون الباقي ، فلا محالة تقدّم المظنونُ على المشكوك والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الظنُّ مثبتاً لحجيّة ذلك الظنّ ، وإنّما هو قاض بتقديم جانب الحجّية في تلك الظنون ، فينصرف إليه ماقضى به الدّليل المذكور .

-------------------

نظراً الى الظّنّ بحجّيتها دون الباقي ) من الظنون لأن الباقي لايظن بحجّيتها (فلا محالة تقدّم المظنون ) إعتباره ( على المشكوك ) إعتباره ( والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ) .

فانّ الانسان إذا كان حائراً في تكليفه وجاهلاً به ، قدم الظنون المظنونة الاعتبار على الظنون المشكوكة الاعتبار ، وقدّم المشكوكة الاعتبار على الظنون الموهومة الاعتبار .

( فليس الظّنّ مثبتاً لحجيّة ذلك الظنّ ) المظنون الاعتبار ( وإنّما هو ) أي : الظنّ ( قاض بتقديم جانب الحجّية في تلك الظّنون ) أي الظنون المظنونة الاعتبار ( فينصرف اليه ) أي : الى تلك الظنون ( ماقضى به الدليل المذكور ) أي : دليل الانسداد .

ثم لايخفى : انّ الضمائر في كلام المصنّف والشيخ محمد تقي وغيرهما قد تطابق اللّفظ ، وقد لاتطابقه بل تطابق المعنى ، فقول صاحب الحاشية هنا : « إليه » راجع الى « الظنون » باعتبار انّه يرجع الى كل ظنّ ظنّ ، كقوله سبحانه : « فانظر إلى طَعامِكَ وَشَرابِك لم يَتَسَنَّهُ » (1) .

وقوله سبحانه : « وَالمَلائِكَةُ بَعدَ ذلِكَ ظَهيرٌ » (2) .

ص: 203


1- - سورة البقرة : الآية 259 .
2- - سورة التحريم : الآية 4 .

ثم إعترض : على نفسه ، بأنّ صرف الدّليل إليها إن كان على وجه اليقين تمّ ما ذكر ، وإلاّ كان إتكالاً على الظنّ .

والحاصل أنّه لاقطع لصرف الدّليل إلى تلك الظنون .

ثمّ أجاب : بأنّ الاتكال ليس على الظنّ بحجّيتها ،

-------------------

وقد قال بعضهم : الأمر في التذكير والتأنيث سهلة بتأنيث سهلة يريد بذلك : إنّ القضية سهلة ، كما يقال : الرّهن وثيقة ، لأنّه مأوّل بعين وثيقة ، الى غير ذلك ممّا هو معروف في الأدب .

فتحصَّل : انّ كلام المصنّف في قوله وثانياً : انّه لا دليل على انّه لو ظنّ باعتبار ظنّ كان ذلك الظّنّ حجّة دون سائر الظنون .

وجواب الشيخ محمد تقي : انّا لانقول بحجيّة الظنّ المظنون الاعتبار ، وإنّما نقول : بأنّه أرجح من غيره ، فاذا كانت نتيجة الانسداد مهملة ، ورأينا انّ بعض الظّنون يظنّ باعتباره دون بعض ، قدّم الظنّ المظنون الاعتبار على الظنّ الذي ليس بمظنون الاعتبار .

( ثم إعترض ) الشيخ محمد تقي ( على نفسه : بأنّ صرف الدليل اليها ) أي الى تلك الظنون المظنونة الاعتبار ( ان كان ) الصرف ( على وجه اليقين ، تمّ ماذكر ) من ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ( وإلاّ ) بأن لم يوجب اليقين ( كان إتكالاً على الظنّ ) لأنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة ، فالاتكال على إعتبار خصوص الظنون المظنونة الاعتبار إتكال على الظنّ ، ولم يثبت بعد إعتبار مطلق الظّنّ .

( والحاصل : انّه لاقطع لصرف الدّليل ) أي : دليل الانسداد ( الى تلك الظّنون ) أي : الى الظّنون التي ظنّ باعتبارها .

( ثم أجاب : بأنّ الاتكال ليس على الظنّ بحجّيتها ) أي : بحجّية تلك الظنون

ص: 204

ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها ، بل التعويل على القطع بالترجيح .

وتوضيحه : أنّ قضيّة دليل الانسداد حجّية الظنّ على سبيل الاهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّية الجميع أو البعض ، ثم الأمر في البعض يدور بين المظنون وغيره ، وقضيةُ العقل في الدوران بين الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض أخذاً بالمتيقّن .

-------------------

المظنونة الاعتبار ( ولا على الظنّ بترجيح تلك الظّنون على غيرها ) فانّه لاقطع بحجّية الظّنون المظنونة الاعتبار ، وكذلك لاقطع بأنّ الظنون المظنونة الاعتبار أرجح من سائر الظنون ( بل التعويل ) والاعتماد في ترجيح مظنون الاعتبار على سائر الظنون ( على القطع بالترجيح ) فان ظنيّة المرجّح لاتنافي قطعيّة الترجيح .

مثلاً : الشهرة يظنّ بأنّها مرِّجح ، فاذا قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، نقطع بأنّ الدعاء مرجّح بالفتح .

قال الشيخ محمد تقي : ( وتوضيحه ) أي : توضيح الجواب ( :ان قضيّة دليل الانسداد حجّية الظّنّ على سبيل الاهمال ) أي : انّ الظنّ في الجملة حُجة ( فيدور الأمر بين القول بحجّية الجميع أو البعض ) لأنّه يحتمل حجّية جميع الظّنون ، ويحتمل حجّية بعض الظنون .

( ثمّ الأمر في البعض ) إذا قلنا بحجّية البعض فقط ( يدور بين المظنون ) الاعتبار ( وغيره ) بأن نأخذ بمظنون الاعتبار ، أو نأخذ بسائر الظنون التي ليست بمظنونة الاعتبار ( وقضيّة العقل ) أي مقتضاه ( في الدوران بين الكلّ والبعض هو : الاقتصار على البعض ) .

وإنّما كان قضية العقل الاقتصار على البعض ( أخذاً بالمتيقن ) لأنّ البعض

ص: 205

ولذا قال علماء الميزان : المهملة في قوّة الجزئية .

ولو لم يتعيّن البعضُ في المقام ودارت الحجّية بينه وبين سائر الأبعاض من غير تفاوت في نظر العقل ، لزم الحكمُ بحجّية الكلّ ، لبطلان الترجيح من غير مرجّح .

وأمّا لو كانت حجّيةُ البعض ممّا فيه الكفاية مظنونةً

-------------------

متيقن ، أمّا الكلّ فليس بمتيقن ، والأصل عدم حجّية ماعدا المتيقن .

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه من انّ في دوران الأمر بين الكلّ والبعض يقتصر على البعض ( قال علماء الميزان ) والمنطق ( : المهملة في قوة الجزئية ) ولا يخفى : انّ مرادهم في عالم الاثبات وإن كان في عالم الثبوت لما كانت كليّة .

مثلاً : لو قال : « تَمرةٌ خَيرٌ من جرادة » (1) ، كان معناه المقطوع به : انّ بعض التمر خير من بعض الجراد ، وإن أمكن أن يكون في الواقع كلّ تمرة خير من جرادة .

( ولو لم يتعيّن البعض ) الذي هو حجّة ( في المقام ) أي : في مقام الانسداد ( ودارت الحجّية بينه ) أي : بين هذا البعض ( وبين سائر الأبعاض ، من غير تفاوت في نظر العقل ) بين هذا البعض وسائر الأبعاض ( لزم الحكم بحجّية الكلّ ) .

إنما مايلزم القول بحجّية الكل ( لبطلان الترجيح من غير مرجّح ) لفرض انّه لاترجيح لبعض الظنون على البعض .

( وامّا لو كانت حجّية البعض ممّا فيه الكفاية ) بمعظم الأحكام ( مظنونة ) خبر

ص: 206


1- - فقه الرضا : ص228 ، وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح17269 .

بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب الى الحجّية من غيره ممّا لم يقم على حجّيتّه دليلٌ ، فيتعيّن عند العقل الأخذُ به دون غيره ، فانّ الرّجحان حينئذٍ قطعيّ وجداني ، والترجيحُ من جهته ليس ترجيحاً بمرجّح ظنيّ ، وإن كان ظنّاً بحجّية تلك الظنون ، فانّ كون المرجّح ظنّاً لايقتضي كَون الترجيح ظنّياً ، وهو ظاهر » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : قد عرفتَ سابقاً أنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن تجعل كاشفةً عن كون الظنّ في الجملة حجّةً علينا

-------------------

حجّية البعض ( بخصوصه ، بخلاف الباقي ) من الظنون ( كان ذلك ) المظنون الحجّية ( أقرب الى الحجّية من غيره ) أي : الباقي ( ممّا لم يقم على حجّيته دليل ).

فانّه إذا كان هناك مظنون الحجّية وغير مظنون الحجّية ( فيتعيّن عند العقل الأخذ به ) أي بمظنون الحجّية ( دون غيره ) أي : ماسوى مظنون الحجّية ، فانّه لايؤخذ بما سواه .

( فان الرّجحان حينئذ قطعي وجداني ، والترجيح من جهته ) أي : من جهة الرّجحان القطعي ( ليس ترجيحاً بمرجّح ظنّي وإن كان ) أي : المرجّح ( ظنّاً بحجّية تلك الظنون ) المظنونة الاعتبار ( فانّ كون المرجّح ظنّاً ، لايقتضي كون الترجيح ظنيّاً ، وهو ظاهر ) (1) فانّ الترجيح مقطوع به ، لكن المرجّح هو الظنّ ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

( أقول : ) كلام المحقّق صاحب الحاشية غير تام ، إذ ( قد عرفت سابقاً : إنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن تُجعَل كاشفة عن كون الظّن في الجملة حجّة علينا

ص: 207


1- - هداية المسترشدين : ص 394 .

بحكم الشارع ، كما يشعر به قوله : « كان بعضُ الظنون أقربَ إلى الحجّية من الباقي » ، وامّا أن يجعل منشأ لحكم العقل بتعيّن إطاعة اللّه سبحانه حين الانسداد على وجه الظنّ ، كما يشعر به قوله نظراً إلى حصول القوّة لتلك الجملة ، لإنضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع .

-------------------

بحكم الشارع ) فتكون النتيجة على الكشف ( كما يشعر به قوله ) أي : قول صاحب الحاشية في عبارته المتقدّمة ( كان بعض الظّنون أقرب الى الحجّية من الباقي ) فإنّ القرب والبُعد يكون عند الاستكشاف ، والاستكشاف يكون لحكم الشرع ، فان العقل يحكم لا انّه يستكشف .

( وأما أن يجعل ) تلك المقدمات ( منشأ لحكم العقل بتعيّن إطاعة اللّه سبحانه حين الانسداد على وجه الظّن ) وهذا مايسمى بالحكومة ( كما يشعر به قوله ) أي : قول صاحب الحاشية ( نظراً الى حصول القوة لتلك الجملة لإنضمام الظّنّ بحجّيتها الى الظّنّ بالواقع ) فانّ قوة الظنّ بالواقع ، يشعر أن الأقربية الى الواقع ، هي مناط حجّية الظنّ حسب حكم العقل .

قال الأوثق : « الاشعار في المقام الأول : من جهة إعتبار الأقربية الى الحجيّة ، لأنّه يشعر بكون المستكشف عنه بدليل الانسداد هي الحجّية عند الشارع ، وفي المقام الثاني : من جهة إعتبار قوة الظّنّ بالواقع لأنّه يشعر بكون المدار في العمل والترجيح هي الأقربية الى الواقع التي هي مناط حكم العقل على القول بالحكومة » (1) .

ص: 208


1- - أوثق الوسائل : ص224 مرجحات بعض الظنون .

فعلى الأوّل ، إذا كان الظنّ المذكور مردّداً بين الكلّ والبعض إقتصرَ على البعض ، كما ذكره ، لأنّه المتيقّن .

وأمّا إذا تردّد ذلك البعضُ بين الأبعاض ، فالمعيّنُ لأحد المحتملين أو المحتملات لايكونُ إلاّ بما يقطع بحجّيته ، كما أنّه إذا إحتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لايمكن ترجيحُ أحدهما بمجرّد الظنّ به ، إلاّ بعد إثبات حجّية ذلك الظنّ .

-------------------

( فعلى الأوّل : ) الذي هو الكشف ( إذا كان الظن المذكور ) الذي هو حجّة حسب مقدمات الانسداد ( مردّداً بين الكلّ والبعض ) بأن لم نعلم هل كلّ الظنون حجّة ، أو بعض الظّنون حجّة ؟ ( إقتصر على البعض ، كما ذكره ) صاحب الحاشية ( لأنّه المتيقن ) فان البعض داخل على كل حال ، وأما الزائد على ذلك البعض فهو مشكوك ، والأصل في المشكوك عدم الحجّية .

( وأمّا إذا تردّد ذلك البعض بين الأبعاض ) بأن لم نعلم هل الظنّ الخبري حجّة ، أو الظّن المستند الى الشهرة ، أو الظن المستند الى الاجماع ، أو غير ذلك ؟

( فالمُعَين ) بصيغة إسم الفاعل ( لأحد المحتملين ) إذا كان إحتمال الحجّية مردداً بين إثنين فقط ( أو المحتملات ) إذا كان إحتمال الحجّية مردداً بين أكثر من إحتمالين ( لايكون إلاّ بما يقطع بحجّيته ) لأنّ الأصل عدم الحجّية إلاّ بما علم حجيّته .

( كما انّه إذا إحتمل في الواقعة : الوجوب والحرمة ) كصلاة الجمعة حيث قال جماعة : بوجوبها تعييناً أو تخييراً ، وقال جماعة : بحرمتها ، فانّه ( لايمكن ترجيح أحدهما بمجرد الظّنّ به ، إلاّ بعد إثبات حجّية ذلك الظّن ) وإذا كان حجّة كان معنى ذلك : إنّه مقطوع الحجّية .

ص: 209

بل التحقيقُ : انّ المرجّحَ لأحد الدّليلين عند التعارض كالمعيّن لأحد الاحتمالين يتوقفُ على القطع بإعتباره عقلاً أو نقلاً ، وإلاّ فأصالة عدم إعتبار الظنّ لافرقَ في مجراها بين جَعْله دليلاً وجَعْله مرجّحاً ، هذا مع أنّ الظنّ المفروض إنّما قام على حجّية بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيته بدليل الانسداد ،

-------------------

( بل التحقيق : انّ المرجّح لأحد الدّليلين عند التعارض ، كالمعيّن لأحد الاحتمالين ) هنا على حدّ سواء ، فان كل واحد منهما ( يتوقف على القطع باعتباره عقلاً أو نقلاً ) .

وإنّما قال : بل التحقيق ، لإفادته عموم الأمر لكل مرجّح ، لا خصوص المقام ، فهو إضراب من الخاص الى العام ، وعلى أي حال : فاللازم القطع بالتعميم أو الترجيح .

( وإلاّ ) بأن لم يكن قطع ( فأصالة عدم إعتبار الظنّ لافرق في مجراها ) أي : في مجرى هذه الأصالة ( بين جعله ) أي : الظن ( دليلاً ، وجعله مرجّحاً ، هذا ) أولاً ، حيث لايمكن الترجيح بالظنّ لأنّ الظنّ ليس بمقطوع المرجحية .

( مع انّ ) هنا إشكالاً ثانياً على الترجيح بالظنّ وهو : انّه لو فرض الترجيح بالظّن لم يكن هذا الظنّ المرجّح حجّة من باب دليل الانسداد ، بل من باب دليل آخر خارجي ، فهو ظنّ خاصٌ لا ظنّ عام بدليل الانسداد ، فان ( الظنّ المفروض إنّما قام على حجّية بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيته بدليل الانسداد ) حتى يصير الظنّ مرجّحاً .

قال في الأوثق : توضيح قوله : « مع انّ الظّنّ المفروض » هو : انّ الشارع قد يجعل الطّريق مع قطع النظر عن إنسداد باب العلم بالواقع ، لأجل خصوصية

ص: 210

فتأمّل .

وأمّا على الثاني ، فالعقلُ إنّما يحكمُ بوجوب الاطاعة على الوجه الأقرب إلى الواقع فاذا فرضنا إنّ مشكوكَ الاعتبار يحصل منه ظنّ بالواقع أقوى ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار كان الأوّلُ أولى بالحجّية في نظر العقل .

-------------------

لاحظها الشارع فيه ، وقد يجعل الطّريق لأجل إنسداد باب العلم بالواقع ، بأن كان الانسداد علّة لجعله ، وما تعلّق الظنّ بحجّيته إنّما هو من قبيل الأوّل ، وما كشفت عنه مقدمات دليل الانسداد إجمالاً من قبيل الثاني ، فكيف يجعل الظنّ بالأوّل مرجّحاً للثاني في مقام إجمال النتيجة وإهمالها ؟ (1) .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى انّ الانسداد ينتج : انّ الظنّ حجّة ولايهمه بَعد ذلك أن يكون هناك دليل خاص أيضاً بحجّية هذا الظنّ الانسدادي ، كدلالة آية ورواية على حكم ، مع عدم تنافي دلالة الآية لدلالة الرواية .

( وأما على الثاني : ) الحكومة ( فالعقل إنّما يحكم بوجوب الاطاعة على الوجه الأقرب الى الواقع ) لأن العقل يرى : إنّ الواقع هو المحور ، فكلّما كان الأمر أقرب اليه كان أوجب في الاطاعة .

( فاذا فرضنا انّ مشكوك الاعتبار ) بأن لم يظنّ إعتباره ( يحصل منه ظنّ بالواقع، أقوى ممّا يحصل من الظّنّ المظنون الاعتبار ، كان الأوّل ) أي مشكوك الاعتبار ( أولى بالحجّية في نظر العقل ) من الثاني الّذي هو مظنون الاعتبار .

ص: 211


1- - أوثق الوسائل : ص224 مرجحات بعض الظنون .

ولذا قال صاحب المعالم : « إنّ العقل قاضٍ بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة متفاوتة بالقوّة والضعف ، فالعدولُ عن القويّ منها إلى الضعيف قبيحٌ » ، انتهى .

نعم ، لو كان قيامُ الظنّ على حجّية بعضها ممّا يوجب قوّتها في نظر العقل ، لأنّها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظنّ بخلافه ،

-------------------

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه : من أنّ الاعتبار بالأقوى ، لا كون الاعتبار بظنّ الاعتبار ( قال صاحب المعالم : انّ العقل قاضٍ بأنّ الظّن إذا كان له جهات متعددة متفاوتة بالقوّة والضعف ) كما إذا كان خبر قوياً من حيث السند ضعيفاً من حيث الدلالة ، وخبر آخر بالعكس ، وخبر ثالث قوياً فيهما ضعيفاً في جهة الصدور أو كان خبر قوياً من جهة الشهرة ضعيفاً من جهة القواعد الأوليّة ، وخبر آخر بالعكس ، وهكذا ( فالعدول عن القوي منها الى الضعيف قبيح (1) ، إنتهى ) كلام المعالم .

اللّهم إلاّ إذا كانت جهات القوة والضعف متعارضة ، ولم يكن بعض الظنون أقوى من بعض فللمكلَّف الأخذ بأيهما شاء على التخيير إذا لم يكن هناك تعيين .

( نعم ، لو كان قيام الظّنّ على حجّية بعضها ، ممّا يوجب قوتها ) أي : قوة ذلك البعض ( في نظر العقل ، لأنّها ) أي : ذلك البعض ( جامعة لادراك الواقع ، أو بدله ) إدراكاً ( على سبيل الظنّ ) كان راجحاً على غيره .

( بخلافه ) أي : بخلاف البعض الذي لم يظنّ حجيّته ، فانّه ظنّ بادراك الواقع دون بدل الواقع على تقدير المخالفة للواقع فيكون مرجوحاً .

ص: 212


1- - معالم الدين : ص193 .

رجع الترجيحُ به إلى ماذكرنا سابقاً وذكرنا ما فيه .

وحاصلُ الكلام يرجعُ إلى أنّ الظنّ بالإعتبار إنّما يكونُ صارفاً للقضيّة إلى ماقام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجّيته في تعيين الاحتمالات أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها أتمَّ ، لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل .

والأوّلُ موقوفٌ على حجيّة مطلق الظنّ .

-------------------

لكن إذا قلنا ذلك ( رجع الترجيح به الى ماذكرنا سابقاً ، وذكرنا مافيه ) وقد مثّلنا له بالشِير خِشت والتَرنجَبين ودواء آخر ، إذا لم يكن شِير خِشت فليكن ترنجبين ، وقد قلنا إنّ التَرنجَبين بدل عن الشِير خِشت .

( وحاصل الكلام ) في الرّد لصاحب الحاشية ( يرجع الى انّ الظنّ بالاعتبار ، إنّما يكون صارفاً للقضيّة ) المهملة التي هي نتيجة دليل الانسداد ( الى ماقام عليه من الظنون ) الانسدادية ( إذا حصل القطع بحجّيته ) أي : حجيّة ماقام عليه من الظنون ( في تعيين الاحتمالات ) على تقدير الكشف .

( أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها ) أي : بمقتضى تلك الظنون ( أتمّ ، لجمعها بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالبدل ) على تقدير الحكومة .

وعليه : فالظّنّ بالإعتبار - سواء على تقدير الكشف أو الحكومة يجعل مظنون الاعتبار حجّة دون سواه .

( والأوّل : ) وهو ماإذا حصل القطع بحجّيته في تعيين الاحتمالات ( موقوف على حجّية مطلق الظّنّ ) والحال انَّ الكلام الآن في انّ مطلق الظّنّ أم لا ، فكيف يتمسك بالظّنّ على حجّية بعض الظنون ؟ .

ص: 213

والثاني لا إطّرادَ له ، لأنّه قد يعارضها قوّةُ المشكوك الاعتبار .

وربّما التزم بالأوّل بعضُ من أنكر حجيّة مطلق الظنّ ، وأورد إلزاماً على القائلين بمطلق الظنّ ، فقال كما يقولون :

« يجب علينا في كلّ واقعة البناءُ على حكم ، ولعدم كونه معلوماً لنا يجبُ في تعيينه العملُ بالظنّ ،

-------------------

( والثاني : ) وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله : أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها أتم ، لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل ( لا إطّراد له ) إذ ليس كل مظنون الاعتبار أقوى من غيره ، ( لأنّه قد يعارضها ) أي يعارض هذه الظنون المظنونة الاعتبار ، ( قوة ) الظن ( المشكوك الاعتبار ) فيتساويان ، أو يقدّم مشكوك الاعتبار على مظنون الاعتبار ، لما عرفت : من انّ الملاك بالقوة لابظنّ الاعتبار .

( وربّما التزم بالأوّل : ) وهو : انّ الظنّ بالاعتبار يكون صارفاً للقضية المهملة الى ماقام عليه من الظنون ( بعض من أنكر حجّية مطلق الظّنّ ) هوالفاضل النراقي ( وأورد الزاماً على القائلين بمطلق الظنّ ) في الفروع ، بمعنى :انّه ليس مطلق الظن حجّة ، لأنّ القضية المهملة في نتيجة الانسداد منصرفة الى الظنون المظنونة الاعتبار لا مطلقاً .

( فقال - كما يقولون - ) أي : الفقهاء والمتكلّمون : ( :يجب علينا في كل واقعة ، البناء على حكم ) لأنَّ كل واقعة فيها حكم من اللّه سبحانه وتعالى ( ولعدم كونه ) أي : ذلك الحكم ( معلوماً لنا ) علماً تفصيلياً ( يجب في تعيينه العمل بالظنّ ) فكل ماظننا انّه حكم اللّه عملنا به ، وكلّما شككنا أو وهمنا انّه حكم اللّه لم نعمل به .

ص: 214

فكذا نقول ، بعدما وجب علينا العملُ بالظنّ ولم نعلم تعيينه : يجب علينا في تعيين هذا الظنّ العملُ بالظنّ » .

ثمّ إعترض على نفسه ، بما حاصله : « إنّ وجوبَ العمل بمظنون الحجّية لا ينفي غيره ، - فقال : - قلنا : نعم ، ولكن لايكون حينئذٍ دليل على حجّية ظنّ آخر ، إذ بعد ثبوت حجّية الظنّ المظنون الحجّية ينفتح بابُ الأحكام ولايجري دليلك فيه ويبقى تحت أصالة عدم الحجّية » .

وفيه : أنّه إذا إلتزم ، باقتضاء مقدّمات الانسداد

-------------------

( فكذا نقول بعدما وجب علينا العمل بالظّنّ ولم نعلم تعيينه - يجب علينا في تعيين هذا الظنّ العمل بالظّنّ ) بأن تكون الظنون التي نريد العمل بها مظنونة الاعتبار ، فيكون قسم خاص من الظّنّ حجّة ، لا كل ظنّ حجّة .

( ثم إعترض على نفسه بما حاصله : انّ وجوب العمل بمظنون الحجّية لاينفي غيره ) من مشكوك الاعتبار وموهومة ، فانّا نعمل بالظنّ مطلقاً ، سواء كان مظنون الاعتبار ، أو مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار .

( فقال : قلنا ) في جواب هذا الاعتراض ( :نعم ، ولكن لايكون حينئذ دليل على حجّية ظنّ آخر ) غير مظنون الاعتبار ( إذ بعد ثبوت حجّية الظنّ المظنون الحجّية ، ينفتح باب الاحكام ) علينا ( ولايجري دليلك فيه ) أي : في الظنّ الآخر الذي ليس بمظنون الاعتبار ( ويبقى ) ذلك الظنّ الآخر ( تحت أصالة عدم الحجّية ) (1) .

هذا ( وفيه : ) أي : في كلامه تدافع ، إذ ( انّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد ،

ص: 215


1- - عوائد الأيام : ص139 .

مع فرض عدم المرجّح ، العملَ بمطلق الظنّ في الفروع دَخَلَ الظنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ، فلا موردَ للترجيح والتعيين حتى يعيّن بمطلق الظنّ ، لأنّ الحاجة إلى التعيين بمطلق الظنّ فرعُ عدم العمل بمطلق الظنّ .

وبعبارة أُخرى : إما أن يكون مطلقُ الظنّ حجّةً وإمّا لا .

فعلى الأوّل لا موردَ للتعيين والترجيح ، وعلى الثاني لايجوز الترجيحُ

-------------------

مع فرض عدم المرجّح ) لبعض الظنّون على بعض التزم على ( العمل بمطلق الظّن في الفروع ) وانّه كلّما حصل ظنّ وجب العمل به ، فيكون قد ( دخل الظّنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ) أي : موهوم الاعتبار فيما يلزم العمل به من الظنون .

وعليه : ( فلا مورد للترجيح والتعيين ) إطلاقاً ( حتى يعيّن ) بعض الظنون ( بمطلق الظّنّ ) ويقال : بأنّ الظّنّ المظنون الاعتبار حجّة ، دون سائر الظنون من مشكوك الاعتبار وموهوم الاعتبار .

وذلك ( لأنّ الحاجة الى التعيين بمطلق الظنّ ، فرع عدم العمل بمطلق الظّنّ ) فاذا لم يجب العمل بمطلق الظّنّ ، لزم علينا التفكيك والتفريق في الظنون ، أمّا إذا وجب علينا العمل بمطلق الظّن ، فلا موضع للتفريق والتمييز ولا لتعيين بعض الظنون دون بعض .

( وبعبارة أُخرى : امّا ان يكون مطلق الظنّ حجّة ، وإمّا لا ) يكون مطلق الظنّ حجّة .

( فعلى الأوّل : ) وهو أن يكون مطلق الظنّ حجّة ( لا مورد للتعيين والترجيح ) لبعض الظنون على بعض .

( وعلى الثاني ) وهو أن لا يكون مطلق الظنون حجّة ( لا يجوز الترجيح

ص: 216

بمطلق الظنّ ، فالترجيحُ بمطلق الظنّ ساقطٌ على كلّ تقدير .

وليس للمعترض القلبُ بأنّه إن ثبت حجّيّةُ مطلق الظّن تعيّن ترجيحُ مظنون الاعتبار به ، إذ على تقدير ثبوت حجّيّة مطلق الظنّ لايتعقّل ترجيحُ حتى يتعيّن الترجيحُ بمطلق الظنّ .

ثمّ انّ لهذا المعترض كلاماً في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ - لا من حيث حجّية مطلق الظنّ حتى يقال : انّ بعد ثبوتها لاموردَ للترجيح - لا بأس بالإشارة إليه

-------------------

بمطلق الظنّ ) بأن يكون الظنّ بالاعتبار ، موجبا للرّجحان .

وعليه : ( فالترجيح بمطلق الظنّ ساقطٌ على كل تقدير ) سواء على تقدير مطلق الظنّ ، أو عدم مطلق الظنّ .

( وليس للمعترض ) وهو النراقي رحمه اللّه ( القلب ) للاشكال علينا ( : بأنه إن ثبت حجّية مطلق الظّن ، تَعَيّن ترجيح مظنون الاعتبار به ) أي : بمطلق الظن .

( إذ ) يرد عليه بأنّا نقول : ( على تقدير ثبوت حجّية مطلق الظّن ، لايتعقل ترجيح ) أصلاً ، لأنَّ الحاجة الى الترجيح إنّما يكون فيما إذا كان بعض الظنون حجّة ، أما إذا كان كل الظنون حجّة ، فلا معنى للترجيح ( حتى يتعين الترجيح بمطلق الظّن ) إنتهى .

( ثمّ إنّ لهذا المعترض ) وهو النَراقي ( كلاماً في ترجيح المظنون الاعتبار بمطلق الطّن ) أي : قال بترجيح المظنون الاعتبار ، وإن كان ذلك الاعتبار بسبب مطلق الظنّ ، ولكن ( لا من حيث حجّية مطلق الظنّ ، حتى يقال : إن بعد ثبوتها ) أي ثبوت حجّية مطلق الظنّ ( لا مورد للترجيح ) .

بل قال بترجيح مظنون الاعتبار بسبب آخر ، ف- ( لابأس بالاشارة اليه ) أي :

ص: 217

وإلى ما وقع فيه الخلط والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا .

فقال : معترضاً على القائل بما قدّمنا ، من أنّ ترجيحَ أحد المحتملين عين تعيينه بالاستدلال ، بقوله : « إنّ هذا القائل خَلَطَ بين ترجيح الشيء وتعيينه ولم يعرف الفَرقَ بينهما ، ولبيان هذا المطلب نقدّم مقدّمةً ، ثم نجيبُ عن كلامه ، وهي إنّه لا ريبَ في بطلان الترجيح

-------------------

الى كلام هذا المعترض ( والى ما وقع فيه الخَلط والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا ) فانّه حمل الترجيح على سكون النفس الى المظنون الحجّية ، بما لايكون مثل هذا السكون في مشكوك الحجّية ، أو موهوم الحجّية من دون أن يحكم بالتعيين .

وإنّما قال بسكون النفس الى ماكان مظنون الحجيّة ، وعدم سكون النفس الى ماليس بمظنون الحجّية ولم يقل بأنّ مظنون الحجّية مرجّح ، لأن الظنّ بالحجّية ليس مرجَّحاً من باب الحجّية الشرعية ، ولا من قبل الشارع ، كما إنّه لايثبت تعيين الظنّ بالظّن المطلق قبل إثبات حجيّته .

لكن من الواضح : انّ هذا خلط بين الترجيح وبين سكون النفس ، فانّ سكون النفس في أي شيء حصل بسبب . العلم العادي للانسان والعلم حجّة بنفسه .

( فقال : معترضاً على القائل بما قدّمنا ) سابقاً ( من ان ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه ) وذلك ( بالاستدلال بقوله : إنّ هذا القائل ) الذي قال : بأنّ ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه ( خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، ولم يعرف الفرق بينهما ) أي : بين التعيين والترجيح .

( ولبيان هذا المطلب ) وهو الفارق بين التعيين والترجيح ( نقدم مقدّمة ، ثم نجيب عن كلامه وهي ) أي تلك المقدمة ( انّه لاريب في بطلان الترجيح

ص: 218

بلا مرجّح ، فانّه ممّا يَحكم بقبحه العقلُ والعرف والعادة ، بل يقولون بإمتناعه الذاتيّ كالترجيح بلا مرجّح .

والمرادُ بالترجيح بلا مرجّح هو سكونُ النفس إلى أحد الطرفين والميلُ اليه من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوباً .

-------------------

بلا مرجّح ، فانّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعُرف والعادة ) والفرق بين العُرف والعادة : إنّ العرف مايراه الناس وإن لم يكن له سابقة ، بينما العادة ماله سابقة .

مثلاً : إذا إجتمع الناس على لزوم مرور السيارات من اليمين فوضع الناس للسيارات هذا القانون كان عرفاً ، فاذا ساروا على ذلك مدة من الزمن صارَ عادة .

( بل يقولون بامتناعه الذاتي ، كالترجيح بلا مرجّح ) والفرق بين الترجيّح بلا مرجّح ، والترجّح بلا مرجح ، إن الترجيح بلا مرجّح هو إن العاقل يرجّح أحد شيئين متساويين على الثاني ، بينما الترجّح بلا مرجّح هو عبارة عن أن يترجّح شيء بنفسه على شيء آخر .

مثلاً : كفتا ميزان متساويتان تترجّح إحداهما على الأُخرى بلا هبوب ريح أو غيره ، فهذا يسمى ترجّحاً بلا مرجّح ، بينما إذا الانسان الجائع رجَّح أكل قرص على قرص والقرصان متساويان ، كان ترجيحاً بلا مرجّح .

ومن المعلوم ان الترجّح بلا مرجّح محال ، لأنّه يساوق وجود المعلول بدون العلة بينما الترجيح بلا مرجّح إختلفوا في إمكانه أو إستحالته ، كما يظهر ذلك لمن راجع الكلام والحكمة .

( والمراد بالترجيح بلا مرجّح ، هو : سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل إليه من غير مرجّح ، وإن لم يحكم ) النفس ( بتعيينه ) أي بتعيين ذلك المرجَّح - بالفتح - ( وجوباً ) وعلى نحو اللزوم فانّ من يأكل أحد القرصين تسكن نفسه

ص: 219

وأمّا الحكمُ بذلك فهو أمرٌ آخر وراء ذلك .

ثمّ أوضح ذلك بأمثلة : منها أنّه لو دار أمرُ العَبدِ في أحكام السلطان المرسلة إليه بين أمور وكان بعضها مظنوناً بظنّ لم يُعلمَ حجّيّتهُ من طرف السلطان ، صحّ له ترجيحُ المظنون ولا يجوز له الحكمُ بلزوم ذلك .

ومنها أنّه لو أُقدِمَ إلى أحد طعامان أحدُهما ألذّ من الآخر فاختار عليه لم يرتكب ترجيحاً بلا مرجّح ، وإن لم يلزم أكلُ الألذ ، ولكن لو حكم بلزوم الأكل لابدّ من

-------------------

إلى هذا القرص الذي أخذه للأكل وإن لم يحكم بأنّه متعين عليه أكله دون القرص الآخر .

( وأمّا الحكم بذلك ) أي : بوجوب التعيين ( فهو أمرٌ آخر وراء ذلك ) أي : وراء الترجيح وسكون النفس .

( ثمّ أوضح ) النَراقي ( ذلك ) الفرق بين الترجيح والتعيين ( بأمثلة ) على النحو التالي .

( منها : انّه لو دار أمرُ العبد في أحكام السّلطان المرسلة ) تلك الأحكام ( إليه ) أي : الى العبد ( بين أُمور ، وكان بعضها مظنوناً بظنّ لم يعلم حجّيته من طرف السلطان ، صحّ له ) أي : للعبد ( ترجيح المظنون ) فهذا ترجيّحٌ ( ولايجوز له الحكم بلزوم ذلك ) وهذا تعيين ، فهناك فرق بين الترجيح والتعيين .

( ومنها : انه لو أُقدِمَ إلى أحدٍ طعامان أحدهما ألذّ من الآخر فاختار عليه ) أي : إختار الألذّ على غير الألذّ ، ( لم يرتكب ترجيحاً بلا مرجّح ، وان لم يلزم أكل الألذ ) فتقديم الألذّ ترجيح وليس بتعيين ( ولكن لو حكم بلزوم الأكل لابد من

ص: 220

تحقيق دليل عليه ، ولايكفي مجرّد الألذيّة .

نعم ، لو كان أحدُهما مضراً صحَ الحكمُ باللزوم .

ثمّ قال : وبالجملة ، فالحكمُ بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، فالمرجّح غير الدّليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني يكون فيمقام التصديق والحكم .

ثم قال : أن ليس المرادُ أنّه يجب العملُ بالظنّ المظنون الحجّية وأنّ الذي يجب العمل به بعد إنسداد باب العلم .

-------------------

تحقيق دليل عليه ) أي : على هذا اللزوم ( ولايكفي مجرّد الألذّية ) للتعيين .

والحاصل انَّ أكل الألذّ ترجيح وليس بتعيين .

( نعم ، لو كان أحدهما مُضرّاً ، صحّ الحكم باللزوم ) فيكون هذا تعييناً لا ترجيحاً .

( ثمّ قال : وبالجملة فالحكم بلا دليل ، غير الترجيح بلا مرجّح ) إذ الحكم بلا دليل معناه : انّه لا دليل ، بينما الترجيح بلا مرجّح معناه : انّ هناك دليلاً على الأعم من الفردين لكنّه يرجّح أحدهما على الآخر لسكون النفس في المرجَّح - بالفتح - وميله إليه .

وعلى هذا : ( فالمرجّح غير الدليل ، والأول : يكون في مقام الميل والعمل ) فيسمى ترجيحاً .

( والثاني : يكون في مقام التصديق والحكم ) فيكون تعييناً ، وما نحن فيه إذا أخذنا بمظنون الاعتبار ، رجّحناه ولم نكن عيّناه .

( ثمّ قال : إن ليس المراد : انّه يجب العمل بالظّن المظنون الحجّية ) وهو الظنّ الذي قام على حجيته ظن آخر ( وإن الذّي يجب العمل به بعد إنسداد باب العلم )

ص: 221

بل مراده أنّه - بعدما وَجَبَ على المكلّف ، لإنسداد باب العلم وبقاء التكليف ، العملُ بالظن ، ولا يعلم أيُّ ظنّ لو عمل بالظنّ المظنون حجّيتّه - أيّ نقض يُلزمُ عليه . فان قلتَ : ترجيحٌ بلا مرجّح فقد غلطتَ غلطاً ظاهراً ، وإن كان غيره ، فبينّه حتّى ينظر » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

فانّه لم يكن هذا مراده حتى يشكل عليه .

( بل مراده ) أي : مراد من يقدّم الظّن المظنون الاعتبار على الظّن المشكوك الاعتبار ، أو الموهوم الاعتبار ( أنّه بعدما وجب على المكلّف - لإنسداد باب العلم وبقاء التكليف - العمل بالظّن ) .

« العمل » : فاعل « وجب » أي : وجب العمل بالظّن على المكلّف ، لأنّ باب العلم إنسد عليه ( ولا يعلم ) أن ( أي ظنّ ) يعمل به ( لو عَمِلَ بالظّن المظنون حجّيته أي نَقض يُلزَمُ عليه ؟ ) وهذا هو مدعانا : من انّ الظّن المظنون الاعتبار هو المقدّم على غيره .

قال : ( فان قلت : ) بأن تقديم الظّن المظنون الاعتبار ، على الظّن المشكوك الاعتبار ، أو الظّن الموهوم الاعتبار ، هو ( ترجيح بلا مرجّح ، فقد غلطت غلطاً ظاهراً ) لأنّه من باب سكون النفس بالظّن المظنون الاعتبار لا من باب الترجيح .

( وإن كان غيره ) أي : غير الترجّيح بلا مرجّح ( فبيّنه حتى ينظر ) (1) هل هو صحيح أو لا ؟ ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

وحاصله : انَّ النَراقي رحمه اللّه لايقدّم الظّن المظنون الاعتبار ، من جهة ان الظّن بالاعتبار حجّة ، بل يقدّمه من جهة ميل النفس وسكونها الى الظّن المظنون

ص: 222


1- - عوائد الأيام : ص139 .

أقول : لايخفى أنّه ليس المرادُ من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوبَ العمل بالظنّ ، فاذا فرض أنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ، فلا غَرضَ إلاّ في تعيينه ، بحيث يحكمُ بأنّ هذا هو الذي يجب العملُ به شرعاً ، حتّى يبني المجتهدُ عليه في مقام العمل ويلتزم بمؤدّاه على أنّه حكم شرعيّ من الشارع .

وأمّا دواعي إرتكاب بعض الظنون دون بعض فهي مختلفة غير منضبطة :

-------------------

الاعتبار ، دون سائر الظنون .

( أقول : لايخفى ) إن كلامه رحمه اللّه غير تام ، لأنه إذا جاز العمل بأي واحد من الظّنين : المظنون الاعتبار وغيره ، كما يجوز أكل الطعام الألذّ وغيره في مثاله ، لم يكن يلزم على المكلّف بعد الانسداد : العمل بمظنون الاعتبار خاصة ، والحال إنّ كلام من يقول بأنّه يلزم العمل بمظنون الاعتبار خاصة ، إنّما هو في لزوم ذلك وتعيينه لافي ترجيحه بميل النفس وهواها .

وذلك كما قال : ( انّه ليس المراد من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظّن ، فاذا فرض إنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ) مظنونة الاعتبار ، وظنون ليست كذلك ( فلا غرض ) للمكلّف ( إلاّ في تعيينه ) أي : تعيين بعض الظنون عن بعض ( بحيث يحكم بأنّ هذا ) المعيّن ( هو الّذي يجب العمل به شرعاً حتى يبني المجتهد عليه ) أي : على هذا الظّن المظنون الاعتبار ( في مقام العمل ويلتزم بمؤداه على انّه حكم شرعيّ من الشارع ) فان هذا هو المراد من تعيين العمل ببعض الظنون دون بعض .

( وأمّا دواعي إرتكاب بعض الظنون دون بعض ) لاُمور لاترجع الى التعيين ( فهي مختلفة غير منضبطة ) لأنّ الميول النفسانية تختلف ، فقد يريد الانسان

ص: 223

فقد يكون الداعي إلى الاختيار موجوداً في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون في مظنون الاعتبار ، فليس الكلامُ إلاّ في أنّ الظنّ بحجّيّة بعض الظنون هل يوجبُ الأخذ بذلك الظنّ شرعاً ، بحيث يكون الآخذُ بغيره لداع من الدواعي مُعاقَباً عند اللّه في تَرك ماهو وظيفته من سلوك الطريق .

وبعبارة أُخرى : هل يجوز شرعاً أن يعمل المجتهدُ بغير مظنون الاعتبار أم لايجوز ؟ .

-------------------

أكل الطعام الألذّ ، وقد يريد أكل الطعام غير الألذّ ، لأنّه يجد الطعام الثاني أخف على معدته ، أو لأنّه لايسبب له تثبيطاً في عمله ، أو ما أشبه ذلك ، كما أشار اليه بقوله :

( فقد يكون الداعي إلى الاختيار ) لظنّ دون ظنّ ( موجوداً في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون ) الداعي ( في مظنون الاعتبار ) أيضاً كذلك كما قد يكون في مشكوك الاعتبار .

وعليه : ( فليس الكلام ) الآن حين نريد تعيين بعض الظنون بعد قيام دليل الانسداد ( إلاّ في ان الظّن بحجّية بعض الظنون ، هل يوجب الآخذ بذلك الظّن شرعاً بحيث يكون الآخذُ بغيره لداع من الدواعي ) كداعي التسهيل وما أشبه ( معاقباً عند اللّه ) تعالى ( في ترك ماهو وظيفته من سلوك الطريق ؟ ) الذي هو الظّن المظنون الاعتبار .

( وبعبارة اُخرى : هل يجوز شرعاً أن يعمل المجتهد بغير مظنون الاعتبار ، أم لايجوز ) إلاّ أن يعمل بما هو مظنون الاعتبار ؟ ، فالمعيار هذا ، لا أن الانسان يأخذ مظنون الاعتبار من باب الميول النفسانية ونحوها .

ص: 224

إن قلت : لايجوز شرعاً .

قلنا : فما الدّليل الشرعيّ بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة على أنّ تلك المهملة غير هذه الجزئية .

وإن قلتَ : يجوز ، لكن بدلاً عن مظنون الاعتبار ، لاجمعاً بينهما ، فهذا هو التخيير الذي إلتزم المُعمِّم ببطلانه .

وإن قلت : يجوز جَمعاً بينهما فهذا هو مطلبُ المعمِّم .

-------------------

( إن قلت : لايجوز شرعاً ) العمل بغير المظنون ، لأنّ الظّنّ المظنون الاعتبار أقرب الى الواقع من الظّنّ الّذي ليس مظنون الاعتبار . ( قلنا : فما الدليل الشرعي بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة ) أيُّ ظنّ كان ، بعد ان انتجت مقدمات الانسداد حجّية الظنّ ( على أن تلك المهملة غير هذه الجزئية ) فان النتيجة المهملة ليس معناها : انه يلزم ان يأخذ بمظنون الاعتبار .

وان شئت قلت : ان النتيجة ان كانت مهملة ، فلا يعيّن الظّن بالاعتبار بعض الظنون دون بعض ، وإن كانت النتيجة مطلقة فكل الظنون على حدّ سواء ، فمن أين ان مظنون الاعتبار يجب أن يؤخذ به لا غيره ؟ .

( وإن قلت : يجوز ) الأخذ بغير مظنون الاعتبار ( لكن بدلاً عن مظنون الاعتبار ، لاجمعاً بينهما ) .

قلت : ( فهذا هو التخيير الذي التزم المعمِّم ببطلانه ) لأنّ معنى ذلك : انّ لك أن تأخذ بمظنون الاعتبار أو بغير مظنون الاعتبار ، لكن غير مظنون الاعتبار بدلاً عن مظنون الاعتبار .

( وإن قلت : يجوز ، جمعاً بينهما ) بلا بدلية أحدهما عن الآخر ( فهذا هو مطلب المعمِّم ) بينما أنت تقول : انّه يلزم ترجيح مظنون الاعتبار على غير

ص: 225

فليس المرادُ بالمرجّح مايكون داعياً إلى إرادة أحد الطرفين ، بل المراد مايكون دليلاً على حكم الشارع .

ومن المعلوم أنّ هذا الحكم الوجوبيّ لايكون إلاّ عن حجّة شرعيّة ، فلو كان هي مجرّد الظنّ بوجوب العمل بذلك البعض ، فقد لزم العملُ بمطلق الظنّ عند إشتباه الحكم

-------------------

مظنون الاعتبار .

وحاصل ان قلت الثلاثة : ان الأمر دائر بين الأخذ بسائر الظنون ، وبين الأخذ بسائرها بدلاً عن المظنون الاعتبار ، وبين الأخذ بكلا الظنّين على حدّ سواء .

فالأول : لماذا وبأي دليل ؟ .

والثاني : هو التخيير بينهما .

والثالث : هو التعميم لهما .

والتخيير والتعميم ، لايقول بهما من يلزم ترجيح مظنون الاعتبار على غيره .

وعلى كلّ حال : ( فليس المراد بالمرجّح : مايكون داعياً إلى إرادة أحد الطرفين ) كما ذكره النَراقي بدون أن يكون ملزماً لأحدهما على الآخر ، بل بمجرد ميل النفس وسكوتها إلى أحد الطرفين ( بل المراد مايكون دليلاً على حكم الشارع ) بلزوم تقديم هذا الطرف على ذاك .

( ومن المعلوم : ان هذا الحكم الوجوبي لايكون إلاّ عن حجّة شرعية ) فانّ الانسداد لم يدلّ على التقديم ، فاللازم ان يكون هناك حجّة شرعية خارجية تدل على تقديم مظنون الاعتبار على غير مظنون الاعتبار .

( فلو كان هي ) أي الحجّة الشرعية ( مجرّد الظّن بوجوب العمل بذلك البعض ) المظنون الاعتبار ( فقد لزم العمل بمطلق الظّن عند إشتباه الحكم

ص: 226

الشرعيّ .

فإذا جاز ذلك في هذا المقام لِمَ لا يجوز في سائر المقامات ؟ فلم قُلتُم إنّ نتيجة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ في الجملة ؟ .

وبعبارة اُخرى : لو إقتضى إنسداد باب العلم في الأحكام تعيينَ الأحكام المجهولة بمطلق الظنّ ، فَلِمَ منعتم إفادة ذلك الدّليل إلاّ لإثبات حجّية الظنّ في الجملة ، وإنّ إقتضى تعيينَ الأحكام بالظنّ في الجملة لم يوجب إنسدادُ باب العلم في تعيين الظنّ في الجملة الذي وَجَبَ العملُ به بمقتضى الانسداد العملَ في تعيينه بمطلق الظنّ .

-------------------

الشرعي ) لأن مطلق الظّن حينئذ يكون حجّة ، وعليه : فالظّن بالاعتبار يقدم مظنون الاعتبار على غيره .

( فاذا جاز ذلك ) أي : العلم بمطلق الظنّ ( في هذا المقام ) أي في مقام الترجيح ( لِمَ لايجوز في سائر المقامات ) فيكون كل ظنّ حجّة ، وإذا جاز في سائر المقامات ( فلم قلتم إن نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّن في الجملة ) لا في الكلية.

( وبعبارة اُخرى : لو إقتضى إنسداد باب العلم في الأحكام ، تعيين الاحكام المجهولة بمطلق الظّن ) حتى جعلتم بسببه مظنون الاعتبار حجّة ( فلم منعتم إفادة ذلك الدليل ) أي : دليل الانسداد ( إلاّ لإثبات حجّية الظّن في الجملة ) وقلتم إن مظنون الاعتبار فقط حجّة ، ولم تقولوا بحجّية الظّن مطلقاً ؟ .

( وإن إقتضى تعيين الأحكام بالظّن في الجملة ) بأن لم يكن الظّن مطلقاً حجّة ( لم يوجب إنسداد باب العلم - في تعيين الظّن في الجملة الذي وجب العمل به بمقتضى الانسداد - العمل في تعيينه بمطلق الظّن ) « العمل » فاعل « لم يوجب » أي : لم يوجب إنسداد باب العلم العمل في تعيين الظّن بمطلق الظن ، حتى يكون

ص: 227

وحاصلُ الكلام : أنّ المرادَ من المرجّح هنا هو المعيّنُ والدّليلُ الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ .

فإن كان في المقام شيء غير الظنّ فليذكر ، وإن كان مجرّد الظنّ فلم تثبت حجّية مطلق الظنّ .

فَثَبَتَ مِن جميع ذلك أنّ الكلام ليس في المرجّح للفعل ، بل المطلوبُ المرجّحُ للحكم بأنّ الشارع أَوجَب بَعْدَ الانسداد العمل بهذا دون ذاك .

وممّا ذكرنا : يظهرُ ما في آخر

-------------------

الظّن المطلقُ مرجّحاً لبعض الظّنون على بعض .

( وحاصل الكلام ) في ردّ النَراقي ( : ان المراد من المرجّح ) لبعض الظنون على بعض ( هنا ) في باب الانسداد ( هو المعيّن والدليل الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ ) فالميل النفساني وسكون النفس من المعينات .

( فان كان في المقام ) الذي قلتم بأن الظّن المظنون الاعتبار مقدّم على غيره ( شيء غير الظّن ) الموجب لتقديم ظنّ على ظنّ ( فليذكر ) حتى نرى ان ذلك المرجح ما هو ؟ .

( وإن كان ) المرجّح والملزم والمعيّن لبعض الظنون على بعض ( مجرّد الظّن ، فلم تثبت حجّية مطلق الظّن ) حتى يكون الظّن مرجحاً .

( فثبت من جميع ذلك : إن الكلام ليس في المرجّح للفعل ) الذي يفعله الشخص بالميل النفساني والسكون الاطمئناني كما قاله النَراقي ( بل المطلوبُ المرجّحُ للحكم بأنّ الشارع أَوجَب بَعْدَ الانسداد العمل بهذا ) المظنون الاعتبار ( دون ذاك ) الذّي لم يظن إعتباره .

( وممّا ذكرنا ) من ان الظّن بالاعتبار لايكون مرجِّحاً قطعياً ( يظهرُ ما في آخر

ص: 228

كلام البعض المتقدّم ذِكْرُه في توضيح مطلبه ، من أنّ كون المرجّح ظنّاً لا يقتضي كونَ الترجيح ظنيّاً . فانّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعياً لايقتضي ذلك ، بل إن قام الدليل على إعتبار ذلك المرجّح شرعاً كان الترجيح به قطعيّاً ، وإلاّ فليس ظنيّاً أيضاً .

ثمّ إنّ ما ذكره الأخيرُ في مقدّمته ، من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال ، يظهرُ منه خلطٌ بين الترجيح بلا مرجّح في الايجاد والتكوين وبينه

-------------------

كلام البعض المتقدّم ذِكْرُه ) وهو الشيخ محمد تقي رحمه اللّه ( في توضيح مطلبه : من أنّ كون المرجّح ظنّاً لايقتضي كونَ الترجيح ظنيّاً ) وهذا ما ذكره في آخر كلامه حيث نقله المصنّف عنه قبل صفحتين ونصف تقريباً .

( فانّا نقول ) في ردّ الشيخ محمد تقي : ( إن كون المرجّح قطعياً ) أي : كون المرجح متحقق الوجود قطعاً ( لايقتضي ذلك ) أي : لايقتضي الترجيح ، لان وجود الرّجحان لايستلزم ان يكون الشارع جعله مرجحاً ( بل إن قام الدليلُ على إعتبار ذلك المرجح شرعاً ، كان الترجيح به قطعيّاً ، وإلاّ فليس ظنيّاً أيضاً ) .

إذ القطع بانّ قسماً خاصاً من الخبر في حال إنسداد ، وهو الجامع للقيود الخمسة التي ذكرناها سابقاً ، راجح على باقي أقسام الخبر ، لايقتضي أن يكون الترجيح بهذا قطعياً ، بلّ ولا ظنيناً إلاّ أن يقوم دليل من الشارع يقول : قدّم هذا الظّن - الذي هو مظنون الاعتبار ، أو هو مقطوع الاعتبار - على غيره .

( ثمّ إن ما ذكره الأخيرُ ) أي : النَراقي ( في مقدّمته : من انّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال ، يظهرُ منه خلط بين الترجيح بلا مرجّح في الايجاد والتكوين ) بأن يكون هناك شيئان متساويان كلّ قابل للوجود فيوجد الخالق أحدهما دون الآخر ، فانّه خلاف الحكمة ، وخلاف الحكمة محال على الحكيم ( وبينه ) أي :

ص: 229

في مقام الالزام والتكليف . فانّ الأوّل محال ، لا قبيح ، والثاني قبيح ، لا محال.

فالاضرابُ في كلامه عن القبيح إلى الاستحالة لاموردَ له ، فافهم .

فَثَبَت ممّا ذكرنا أنّ تعيينَ الظنّ في الجملة مِن بَيْنَ الظنون بالظنّ غيرُ مستقيم .

وفي حُكْمِه مالو عيّن بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه ،

-------------------

بين الترجيح بلا مرجح ( في مقام الالزام والتكليف ) .

وإنّما كان خلطاً ( ف- ) لاجل ( أنّ الأوّل : محال ، لاقبيح ) لما عرفت ، وربّما يقال : بأنّه إذا لم يكن هذا ترجيحاً كان من وجود المعلول بدون العلة التامّة وذلك محال .

( والثاني : قبيح ، لامحال ) لأنّه خلاف ما يليق عقلاً .

وعليه : ( فالاضراب في كلامه ) أي النَراقي ( عن القبيح الى الاستحالة لا مورد له ) إذ لكلّ من الاستحالة والقبح مورد غير مورد الآخر .

( فافهم ) ولعلّة إشارة الى أن كليهما بالنسبة الى الحكيم محال - لأنّ التكوين والتشريع كليهما بحاجة الى العلة - وبالنسبة الى غير الحكيم قبيح ، والكلام في المقام طويل جداً محلّه علم الكلام والحكمة ، ولذا نضرب عنه صفحاً .

( فثبت ممّا ذكرنا : إنّ تعيين الظّن ) بعد الانسداد تعييناً ( في الجملة من بين الظنون ) بأن نقول : إنّ الظّن في الجملة حجّة لا أن كل ظنّ حجّة ويعيّن ذلك الظّن من بين الظّنون ( بالظّن ) بأن يكون الحجّة : الظّن المظنون الاعتبار ، فهو ( غير مستقيم ) .

( وفي حكمه ) أي في حكم تعييّن الظّن الذي قلنا إنّه غير مستقيم ( مالو عيّن بعض الظنون ، لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه ) مثلا : نقول : الظنون على أربعة

ص: 230

كالأولويّة والاستقراء بل الشهرة ، حيث أنّ المشهور على عدم إعتبارها ، بل لا يبعد دخول الأوّلين تحت القياس المنهيّ عنه ، بل النهيُ عن العمل بالأولى منهما واردٌ في قضيّة « أبان » المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة .

فانّه بذلك أنّ الظنّ المعتبر بحكم الانسداد في ماعدا هذه الثلاثة .

وقد ظهر ضعفُ ذلك ممّا ذكرنا من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بالظنّ .

-------------------

أقسام ، لكن ثلاثة منها منفية فالرابع هو الحجّة ( كالأولوية والاستقراء ، بل الشهرة ، حيث إن المشهور على عدم إعتبارها ) أي : على عدم إعتبار هذه الظنون الثلاثة : الأولويّة ، والاستقراء ، والشهرة .

لكن لايخفى ان نفي الشهرة بالشهرة محل تأمّل .

( بل لايبعد دخول الأوّلين ) الأولويّة والاستقراء ( تحت القياس المنهيّ عنه ) لأنه نوع قياس ، فلا تحتاج الى الشهرة في نفيهما .

( بل النّهي عن العمل بالأولى منهما ) أي : بالأولوية ( وارد في قضية أَبان المتضمّنة لحكم ديّة أصابع المرأة ) وحيث قد تقدّمت الرّواية والاستدلال بها في أوّل الكتاب فلا حاجة الى إعادتهما .

وعليه : ( فانّه يظنّ بذلك ) أي : بعدم إعتبار الاُمور الثلاثة ، و ( ان الظّن المعتبر بحكم الانسداد ، فيما عدا هذه الثلاثة ) : الأولويّة والاستقراء والشهرة . ( وقد ظهر ضعف ذلك ) أي : تعيين الظّن بسبب نفي غيره ( ممّا ذكرنا : من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بالظّن ) فانّ الظّن سواء كان ظنّاً باعتبار شيء أو ظنّاً بعدم إعتبار شيء آخر - ممّا يثبت إعتبار غيره - ليس بحجّة حتى يعيّن بعض الظنون دون بعض .

ص: 231

ونزيد هنا أنّ دعوى حصول على عدم إعتبار هذه الامور ممنوعةٌ ، لأنّ مستند الشهرة على عدم إعتبارها ليس إلاّ عدمَ الدّليل عند المشهور على إعتبارها ، فيبقى تحت الأصل ، لالكونها منهيّاً عنها بالخصوص ، كالقياس ، ومثلُ هذه الشهرة المستندة إلى الاصل لايوجبُ الظنّ بالواقع .

وأمّا دعوى كون الأوّلين قياساً ، فنكذّبه بعمل

-------------------

( ونزيد هنا : إن دعوى حصول الظّن على عدم إعتبار هذه الاُمور ممنوعة ) . فأوّلاً قلنا : انّه لو حصل الظّن بعدم إعتبار الثلاثة ، لم يكن هذا الظّن حجّة على أن الظّن المعتبر ، هو غير هذه الثلاثة .

وحالاً نقول : انّه لايحصل الظّن بعدم إعتبار هذه الثلاثة ، بل نتيجة الانسداد أن الظّن حجّة ولو كان الظّن الحاصل من هذه الثلاثة .

( لان مستند الشهرة على عدم إعتبارها ) أي : عدم إعتبار هذه الثلاثة ( ليس إلاّ عدم الدّليل عند المشهور على إعتبارها ) أي : انَّ المشهور يقولون انّه لا دليل على إعتبار هذه الثلاثة ( فيبقى تحت الأصل ) حيث انّ الأصل عدم الحجيّة ، فاذا شككنا في حجيّة هذه الثلاثة ، فالأصل عدم حجيّتها ( لا لكونها ) أي : هذه الثلاثة ( منهيّاً عنها بالخصوص كالقياس ) .

والحاصل : ان هذه الثلاثة لا دليل على حجيتها : لا انّ هناك دليلاً على عدم حجيتها حتى تكون هذه الثلاثة كالقياس المنهي عنه .

( ومثل هذه الشهرة ) على عدم إعتبار الثلاثة ( المستندة الى الاصل ، لا يوجب الظنّ بالواقع ) فانّ المشهور إنّما يقولون بعدم حجيّة هذه الثلاثة من جهة الأصل ، والأصل لايوجب الظنّ بالواقع حتى نظنّ بأن هذه الثلاثة ليس بحجّة .

( وأمّا دعوى كون الأولين قياسا ) وهما : الأولويّة والاستقراء ( فنكذّبه بعمل

ص: 232

غير واحد من أصحابنا عليهما . بل الأولويّة قد عمل بها غيرُ واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد .

ومنه يظهر الوهنُ في دلالة قضيّة « أبان » على حرمة العمل عليها بالخصوص ،

-------------------

غير واحد من أصحابنا عليهما ) فانّ غير واحد من الأصحاب قالوا بحجية هذين الاثنين عند الانسداد .

( بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد ) كالشهيد الثاني ، وصاحب المَعالم ، وغيرهما ، فانّهم يَرَونَ ان الاستقراء والأولويّة حجّة حتى في حال الانفتاح . أمّا الأولويّة ، فلأنها من جهة الملاك المقطوع به ، كما في قوله تعالى : « ولا تَقُل لَهُما أُفٍ » (1) المفيدة لحرمة شتمهما وضربهما وإهانتهما وطردهما . وأما الاستقراء : فلعمل العبيد عليه في أوامر الموالي ، والشارع لم يحدث طريقة جديدة ، فاذا كان المولى - مثلاً - يستصحب عبده كلّ يوم الى محله فلم يحضر العبد يوماً ، معتذراً بأنه لم يقل له المولى أنت كلّ يوم ، رأى العقلاء إستحقاق العبد للعقاب حيث يقولون له : ألَمْ يستصحبك في الأيام السابقة ؟وهذا ليس الاّ الاستقراء ،الى غير ذلك من الامثلة .

( ومنه ) أي : من عمل العقلاء ، بالأولويّة عند الانسداد ، بل عند الانفتاح أيضاً كما نقلناه عن جملة من أصحابنا - ( يظهر الوهن في دلالة قضية أَبان على حرمة العمل عليها ) أي على الأولويّة ( بالخصوص ) فكيف بحال الانسداد ؟ .

ص: 233


1- - سورة الاسراء : الآية 23 .

فلا يبقى ظنٌ من الرّواية بحرمة العمل عليها بالخصوص .

ولو فرض ذلك دخل الأولويّةُ فيما قام الدّليل على عدم إعتباره ، لأنّ حجيّة الظنّ الحاصل من رواية أبان متيقن الاعتبار بالنسبة إلى الأولويّة؛ فحجّيتها مع عدم حجّية الخبر الدالّ على المنع عنها غير محتملة ، فتأمّل .

-------------------

وحيث كان الوهنُ في دلالة الرواية ( فلا يبقى ظنّ من الرواية بحرمة العمل عليها ) أي : على الأولويّة ( بالخصوص ) فكيف بحال الانسداد ؟ .

والوهن انّما يكون من جهة انّه لاأولوية في الرّواية بعد قاعدة : كون المرأة نصف الرجل ، ففهم أَبان من الرواية الأولويّة كان فهماً على خلاف فهم العقلاء ، فالنقص في فهم أَبان لا في عدم حجيّة الأولويّة . ( ولو فرض ذلك ) أي : فرض كون الظّن بحرمة العمل بالأولوية مستفاداً من رواية أَبان . ( دخل الأولويّة فيما قام الدّليل على عدم إعتباره ) الضمير يرجع الى « ما » ( لأن حجّية الظّن الحاصل من رواية أَبان متيقنّ الاعتبار ، بالنسبة الى الأولويّة ) فان خبر أَبان وهو حجّة شرعاً دال على عدم جواز الأخذ بالأولوية ، فيكون خبر أَبان كالخبر الدال على عدم حجية القياس ، فالظّن الحاصل من الأولويّة منع الشارع عن العمل به ، كما أن الظنّ الحاصل من القياس منع الشارع عن العمل به .

( فحجّيتها ) أي : حجّية الأولية ( مع عدم حجّية الخبر الدال على المنع عنها ) أي : عن الاوّلوية ، والمراد بالخبر : هو خبر أَبان ( غير محتملة ) فلا يصح أن نَردَّ حجّية خبر أَبان لاجل حجيّة الأولويّة ، من ان خبر أَبان منع عن الأولويّة .

( فتأمل ) لعلّه إشارة الى الأولويّة لها من القوة ، بحيث لايتمكن خبر أبان من منعها حتى تكون الأولويّة غير حجّة ، فحال الأولويّة حال خبر الواحد ، حيث إن

ص: 234

ثمّ بعد ما عرفت من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ، فاعلم : أنّه قد يصحّ تعيينها بالظنّ في مواضع :

أحدُها : أن يكون الظنّ القائمُ على حجّيّة بعض الظنون من المتيقن إعتباره بعد الانسداد ، إمّا مطلقاً ، كما إذا قام فردٌ من الخبر الصحيح المُتَيَقنَ إعتباره مِن بَيْنَ سائر الأخبار وسائر الأمارات على حجّية بعض ما دونه ،

-------------------

لخبر الواحد من القوة بحيث لايتمكن خبر من المنع عن حجيته حتى يكون خبر الواحد غير حجّة . ( ثمّ بعد ما عرفت : من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ) أي : ان الظّن لا يعيّن بعض الظنون ، دون بعض حتى يكون الظّن المظنون الاعتبار حجّة دون الظّن الذي لم يظن باعتباره ( فاعلم انّه قد يصح تعيينها ) أي : تعيين القضية المهملة ( بالظّن في مواضع ) فيكون الظّن معيناً للظّن : ( أحدها أن يكون الظّن القائم على حجية بعض الظّنون من المتيقن إعتباره بعد الانسداد ) فان المتيقن من نتيجة دليل الانسداد على القول بالكشف على قسمين :

قسم متيقن حقيقي وهو ما كان إعتباره على الاطلاق متيقناً قطعاً . وقسم متيقن إضافي - سيشير المصنّف اليه - وهو ما كان إعتباره متيقناً بالاضافة .

فالاول : ( إما مطلقاً كما إذا قام فرد من الخبر الصحيح المتيقن إعتباره من بين سائر الأخبار وسائر الأمارات ) أي : إنّه يقيني بين سائر الأخبار وسائر الأمارات حيث انّ سائر الأخبار وسائر الأمارات محتمل الحجّية ، بينما هذا الخبر متيقن لتوفر الشروط الخمسة المذكورة سابقاً فيه ، فقام ( على حجّية بعض ما دونه ) . مثلاً : إذا قام الخبر الصحيح الأَعلائي ، على حجية خبر الثقة الذي هو دون

ص: 235

فانّه يصير حينئذٍ متيقّن الاعتبار ، لأجل قيام الظنّ المتيقّن الاعتبار على إعتباره .

لكن هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجّية الظنّ بين كونه من المسائل الفرعيّة وكونه في المسائل الاُصولية ، وإلاّ فلو قلنا إنَّ الظنّ في الجملة ، الذي قضى به مقدمات دليل الانسداد ، إنما هو المتعلّقُ بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ،

-------------------

الخبر الصحيح الاعلائي ( فانّه ) الضمير عائد الى « ما » ( يصير حينئذ متيقّن الاعتبار ) لان خبر الثقة بقيام الخبر الصحيح على حجّيته يكون متيقن الاعتبار أيضاً ، وذلك كما قال ( لاجل قيام الظّن المتيقن الاعتبار على إعتباره ) . وعليه : فظّن معتبر ، عيّن ظنّاً مشكوك الاعتبار ، فيكون ذلك الظّن المشكوك أيضاً معتبراً . ( لكن هذا مبنّي على عدم الفرق في حجّية الظّن ، بين كونه في المسائل الفرعيّة ، وكونه في المسائل الاُصوليّة ) . مثلاً : إذا قال الخبر : الدّعاء واجب عند رؤية الهلال ، كان هذا قائماً على مسألة فرعية ، أما إذا قال الخبر : الشهرة حجّة ، فهو قائم على مسألة اُصولية ، فالخبر المتيقن الاعتبار الذي يقول بأن خبر الثقة حجّة ، يكون من الظّن القائم على مسألة اُصولية لأنّ مسألة الحجّية واللاحجّية من المسائل الاُصولية ، لا من الأحكام الخمسة حتى تكون مسألة فرعية .

( وإلاّ ) يعني : إن لم نقل بأنّ الظّن الانسدادي حجّة في المسائل الاصولية ( فلو قلنا : إنّ الظّن في الجملة الذي قضى به مقدمات دليل الانسداد إنّما هو المتعلّق بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ) من المسائل الاصولية ، فالظّن في المسائل الفرعية

ص: 236

فالقدر المتيقن انّما هو متيقنٌ بالنسبة الى الفروع لاغير .

وممّا ذكرنا سابقاً ، من عدم الفَرق بين تَعَلُّق الظنّ بِنَفْس الحكم الفرعيّ وبين تَعَلّقه بما جعل طريقاً إليه ، إنّما هو بناء على ما هو التحقيق من تقرير مقدمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل دون كَشْفِه عن جَعْلِ الشارع ، والقدر المتيقن مبنيّ على الكشف ،

-------------------

حجّة ، لا في المسائل الاصولية .

وعليه : ( فالقدر المتيقن ) من حجّية الخبر الصحيح ( إنّما هو متيقن بالنسبة الى الفروع لاغير ) وحينئذ فاذا قام الخبر المتيقن حجّيته على حجية خبر الثقة - مثلاً -

فانّه لا يسبِّب هذا الظّن المتيقن ، حجّية خبر الثقة ، لانّه قام على مسألة اُصولية ، وقد عرفت : ان الظّن في المسألة الاُصولية ليس بحجّة على هذا المبنى .

( و ) إن قلت : انّكم ذكرتم سابقاً : من انّه لافرق في الظّن الانسدادي بين الظّن بالفروع والظّن بالمسائل الاُصولية ، فكيف تقولون هنا بأن الظّن بالمسائل الاصولية ليس بحجّة ؟ .

قلت : ( مما ذكرنا سابقاً : من عدم الفرق بين تعلُّق الظّن بنفس الحكم الفرعي ، وبين تعلّقه بما جعل طريقاً إليه ) أي : المسألة الاصولية ( انّما هو بناءاً على ما هو التحقيق من تقرير مقدمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل ، دون كشفه عن جعل الشارع ) .

فاذا قلنا بالحكومة ، لم يكن فرق بين الظّن المتعلِّق بالمسائل الاُصولية وبين الظّن المتعلِّق بالمسائل الفرعية .

وأمّا اذا قلنا بالكشف ، فالقدر المتيقن من حجية الظّن الانسدادي انّما هو الظّن المتعلق بالمسائل الفرعية ، واليه أشار بقوله : ( والقدر المتيقن مبنيّ على الكشف

ص: 237

كما سيجيء . إلا أن يدّعى إنّ القدر المتيقن في الفروع هو متيقن في المسائل الاُصولية أيضاً .

وأما بالاضافة إلى ما قام على إعتباره إذا ثبت حجّية ذلك الظنّ القائم . كما لو قام الاجماعُ المنقول على حجّية الاستقراء مثلاً ، فانّه يصير بعد إثبات حجّية الاجماع المنقول ببعض الوجوه ظنّاً معتبراً .

ويُلحق به ما هو متيقنٌ بالنسبة إليه كالشهرة ، إذا

-------------------

كما سيجيء ) فلا منافاة بين كلامنا هنا وكلامنا سابقاً .

والحاصل : انّه على الحكومة يكون الظّن حجّة مطلقاً ، سواء تعلق بمسألة اُصولية أو فرعية ، امّا بناءاً على الكشف ، فالظّن حجّة في المسألة الفرعية فقط .

( إلاّ أن يدّعى : ان القدر المتيقن في الفروع هو متيقن في المسائل الاُصولية أيضاً ) فاذا كان المتيقن من الخبر ذي الخمسة الشروط السابقة حجّة على الفروع ، كان حجّة على المسألة الاصولية أيضاً ، لان الملاك في المسألتين واحد .

( وأما بالاضافة الى ما قام على إعتباره إذا ثبت حجّية ذلك الظنّ القائم ) وهذا عطف على قوله : « امّا مطلقاً » أي : كون المتيقن نسبياً وبالاضافة الى شيء آخر ، بأن يكون الشيء الثاني حجّة قطعاً بالنسبة الى الشيء الأول ، بمعنى : انّه إذا كان الشيء الاول حجّة فالشيء الثاني يكون حجّة يقيناً .

( كما لو قام الاجماع المنقول على حجيّة الاستقراء - مثلاً - فانّه يصير بعد اثبات حُجيّة الاجماع المنقول ببعض الوجوه ) الدالة على حجّية إجماع المنقول ( ظنّاً معتبراً ) خبر قوله : « فانّه يصير » .

( ويلحق به ) أي : بالاستقراء ( ما هو متيقن بالنسبة اليه ) أي الى الاستقراء ، فانّه إذا كان الاستقراء حجّة كان ذلك الشيء حجّة بطريق أولى ( كالشهرة إذا

ص: 238

كانت متيقنة الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء بحيث لا يحتمل اعتبارهُ دُونها .

الثاني : أن يكون الظنُّ القائمُ على حجّية ظنّ متحّداً لا تعدّد فيه ،

-------------------

كانت ) الشهرة ( متيقنة الاعتبار بالنسبة الى الاستقراء بحيث لايحتمل إعتباره ) أي الاستقراء ( دونها ) أي : دون الشهرة .

فانّه قد قام الاجماع المنقول الذي هو حجّة إنسدادي على حجية الشهرة ، لكن لامباشرة ، بل بسبب انّ الاجماع جعل الاستقراء حجّة ، والشهرة أولى بالحجّية من الاستقراء فاذا كان الاستقراء حجّة ، كانت الشهرة حجّة بطريق أولى .

( الثاني ) ممّا يصح تعيينه بسبب الظّن : ( أن يكون الظّن القائم على حجّية ظنّ متحّداً لا تعدّد فيه ) فان الأقسام ثلاثة :

الاوّل : أمارة واحدة على ظنّ واحد ، كالشهرة القائمة على الخبر .

الثاني : أمارات متعددة على جملة من الظنون ، كالشهرة على الخبر ، والاجماع المنقول على الأولويّة ، وهكذا .

الثالث : أمارة واحدة على جملة من الظنون مثل الشهرة على الخبر والأولويّة والاجماع المنقول .

وما ذكره المصنّف هو القسم الأول ، فاذا كان هناك ظنون متعددة بعد الانسداد ، كظنّ خبري ، وظنّ إجماعي وظنّ أولي ، وقلنا : بانّه لايجب العمل بالكل إحتياطاً ، لانّ الاحتياط عسرٌ ، أو لايجوز لانّه مُخّل بالنظام ، فاذا قامت الشهرة الموجبة للظنّ على الظّن الخبري أخذ بالظنّ الخبري وإن كان ظّنّ الشهرة من أضعف الظنون لانّه في تعيين تلك الطرق الثلاثة تجري مقدمات الانسداد .

فنقول : لايلزم كل الثلاثة ، ولايترك كل الثلاثة .

ص: 239

كما إذا كان مظنونُ الاعتبار منحصراً فيما قام أمارة واحدة على حجّيته ، فانّه يعمل به في تعيين المُتّبع وإن كان أضعَف الظنون ، لأنّه إذ إنسدّ بابُ العلم في مسألة تعييّن ما هو المتّبع بعد الانسداد ولم يجز الرجوع فيها إلى الاصول حتّى الاحتياط ، كما سيجيء ، تعيّنَ الرجوعُ إلى الظنّ الموجود في المسألة ، فيؤخذ به ، لما عرفت من أنّ كلّ مسألةٍ إنسدّ فيها بابُ العلم وفُرِضَ عدمُ صحّة الرجوع فيها إلى مقتضى الاصول ، تَعيّن بحكم العقل العملُ بأيّ ظنّ وجد

-------------------

وأمّا انّه لا يلزم كل الثلاثة ، فلأن الاحتياط غير واجب ، أو غير جائز .

أمّا انّه لايترك كل الثلاثة فلأنّه يوجب الخروج عن الدّين ، فاللازم أن نرجع الى بعض هذه الظنون فنرجّح هذه البعض بسبب الظنّ به .

( كما إذا كان مظنون الاعتبار ) كالخبر ( منحصراً فيما قام أمارة واحدة على حجّيته ) كالشهرة بأن قامت الشهرة على الخبر ، فالخبر مظنون ( فانّه يعمل به ) أي : بالظّن القائم ( في تعيين المُتّبع ) بصيغة المفعول .

والمراد بالمُتبع : هو مظنون الاعتبار كالخبر في مثالنا ، فيؤخذ به ( وان كان ) المُتبع ( أضعف الظّنون ، لانّه إذا إنسد باب العلم في مسألة تعييّن ما هو المُتَبع ) - بالفتح - ( بعد الانسداد ولم يجز الرّجوع فيها ) أي : في المسألة ( الى الاصول حتى الاحتياط ) لأنّه حَرجٌ ، أو يوجب إختلال النظام ( كما سيجيء ) من انّه لا يجوز الرّجوع في المسألة الى الاحتياط .

وعليه : فقد ( تعيّن الرجوع الى الظّن الموجود في المسألة ، فيؤخذ به ) أي : بالظّن ، وذلك ( لِما عرفت : من أنّ كلّ مسألة إنسد فيها باب العلم ، وفرض عدم صحّة الرجوع فيها الى مقتضى الاصول تعيّن بحكم العقل : العمل بأي ظنّ وجد

ص: 240

في تلك المسألة .

الثالث : أنّ يتعدّد الظنونُ في مسالٔة تعيين المتّبع بعد الانسداد بحيث يقوم كلّ واحد منها على إعتبار طائفة من الأمارات كافية في الفقه .

لكن يكون هذه الظنون القائمة كلّها في مرتبة لايكون إعتبارُ بعضها مظنوناً .

-------------------

في تلك المسألة ) وأن كان من أضعف الظّنون .

فانّه لمّا إنسدّ باب العلم بترجيح الخبر ، أو الاوّلوية ، أو الاجماع المنقول بعضها على بعض ، كان اللازم أن نأخذ بالترجيح الظني ، والمفروض : انّ الظّن الذي يستند الى الشهرة قام على ترجيح الخبر ، فيكون الخبر مظنون الاعتبار .

وأما القِسمان الآخران ، وهو : ما إذا كانت أمارات على جملة من الظنون ، أو كانت أمارة واحدة على جملة من الظنون ، فسيأتي الكلام فيهما في ثالث المصنّف إنشاء اللّه تعالى .

( الثالث : أن يتعدّد الظّنون في مسألة تعيين المُتّبع ) - بالفتح - ( بعد الانسداد ) أي : الظّن الذي يجب إتباعه بعد أن انسد باب العلم ( بحيث يقوم كل واحد منها ) أي : من تلك الظّنون ( على إعتبار طائفة من الأمارات ) وتكون تلك الأمارات ( كافية في الفقه ) أي : كافية بمعظم الفقه ، وذلك مثلناه في الثاني بأن قامت الشهرة على الخبر ، والاجماع المنقول على الأولويّة ، وهكذا .

( لكن يكون هذه الظنون القائمة كلها في مرتبة ) واحدة بحيث ( لايكون إعتبار بعضها مظنوناً ) دون البعض الآخر ، بل يكون كلّها مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار ، أو مظنون الاعتبار ، فانّه ان كان بينها فرقٌ بأن كان بعضها مظنون الاعتبار ، وبعضها مشكوك الاعتبار ، وبعضها موهوم الاعتبار ، قدّم البعض

ص: 241

فحينئذٍ: إذا وجب بحكم مقدّمات الانسداد في مسألة تعيين المتّبع الرجوعُ فيها إلى الظنّ في الجملة ، والمفروضُ تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة وعدم المرجّح لبعضها ، وجب الأخذُ بالكلّ بعد بطلان التخيير بالاجماع وتعسّر ضبطُ البعض الذي لايلزم العُسرُ من الاحتياط فيه .

-------------------

المظنون على المشكوك والمشكوك على الموهوم .

وعليه : ( فحينئذ ) أي : حين تعدد الظّنون في مسألة تعيين المُتبع مع تساوي مرتبة تلك الظّنون ( إذا وجب بحكم مقدّمات الانسداد في مسألة تعيين المتّبع : الرّجوع فيها ) أي : في مسألة تعيين المتّبع ( الى الظّن في الجملة ) بأن نقول : كما تجري مقدّمات الانسداد في تعيين الحكم ، كذلك تجري في تعيين الطريق الى الحكم ، فهل الطريق : الشهرة التي هي طريق الى الخبر ، أو الطريق : الاجماع المنقول الذي هو طريق الى الأولويّة ؟ .

وحيث لايمكن الاحتياط في الجميع من المظنون والمشكوك والموهوم ولا البرائة ، ولا التقليد ، ولا القرعة ، ولا ما أشبه ذلك ، فاللازم ترجيح المظنون سواء من طريق الشهرة أو الاجماع للتساوي فيؤخذ بالكل ، كما قال : ( والمفروض : تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة ) أي : مسألة تعيين المتّبع ( وعدم المرجّح لبعضها ) على بعض ( وجب الأخذ بالكل بعد بطلان التخيير ) بين هذه الظنون وذلك أولاً : ( بالاجماع ) فانّه باطل إجماعاً .

( و ) ثانياً : ( تعسّر ضبط البعض ، الذي لايلزم العُسر من الاحتياط فيه ) فانّا لو أردنا الاحتياط في هذه المعينّات - بالكسر - كالشهرة والاجماع المنقول في مثالنا ، إحتياطاً لايلزم منه عُسر على المكلّف ، صح ذلك الاحتياط ، لكن حيث يكون

ص: 242

فالذي ينبغي أن يقال : على تقدير صحّة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ، إنّ اللازمَ على هذا ، أوّلاً ، هو الاقتصارُ على المتيقن من الظنون ، وهل يلحق به كُلّما قام المتقين على إعتباره ؟ وجهان ، أقواهما العدم ، كما تقدّم ، إذ بناءا على هذا التقرير لانسلّمُ كشفَ العقل بواسطة مقدّمات الانسداد

-------------------

ضبط المعِين - بالكسر - الذي لايستلزم العُسر ، هو بنفسه عسُر ، فيلزم ترك الضبط ، وترك الضبط إنّما يكون بإتباع المعِينات - بالكسر .

إذا عرفت ذلك نقول : الى هنا كان الكلام في إن مطلق المعِيّن - الكسر - حجّة ، ومن قوله : فالذي ينبغي ، يكون الكلام في تعيين بعض الظنون ، وهو الذي ذكر الثالث لأجله .

وعليه : ( فالذي ينبغي أن يقال على تقدير صحة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ) لا الحكومة ( ان اللازم على هذا ) أي : على تقرير الكشف مايلي : ( أولاً : هو الاقتصار على المتيقن من الظّنون ) وهو الظّن المتعلق بالفروع ، لا بالاصول ( وهل يحلق به ) أي : بالمتيقن ( كلما قام المتيقن على إعتباره ؟ ) أي : كما إن المتيقن من ظنون الفروع حجّة ، هل المتيقن إذا قام على إعتبار ظنّ يكون ذلك المتيقن أيضاً حجّة ؟ مثلاً : المتيقن من الظنون : وجوب الجمعة ، لا وجوب الدّعاء عند رؤية الهِلال ، وهذا هو المتيقن في الفروع وهو حجّة بلا إشكال لكن الخبر ، أو الاجماع المنقول ، أو الشهرة ، أو الأولويّة ، التي كلها مظنونات إذا كان بينها متيقن الاعتبار ، فهل هذا المتيقن حجّة أيضاً .

( وجهان : أقواهما العدم ) فليس متيقن الاعتبار بحجّة ( كما تقدّم ، إذ بناءاً على هذا التقرير ) وهو الكشف ( لانسلم كشف العقل بواسطة مقدّمات الانسداد

ص: 243

إلاّ عن إعتبار الظنّ في الجملة في الفروع دون الاصول ، والظنّ بحجّية الأمارة الفلانيّة ظنُّ بالمسألة الاُصوليّة .

نعم ، مقتضى تقرير الدّليل على وجه حكومة العقل أنّه لافرقَ بين تعلّق الظنّ بالحكم الفرعيّ أو بحجّية طريق .

ثمّ إن كان القدرُ المتيقنُ كافياً في الفقه ، بمعنى أنّه لايلزم من العمل بالأصول في مجاريها المحذورُ اللازُم على تقدير الاقتصار على المعلومات ، فهو ،

-------------------

الاّ عن إعتبار الظّن في الجملة ) أي : ليس كلّ الظنون بل المتيقن منها ( في الفروع دون الاصول ) حجّة فقط .

( و ) من الواضح : ان ( الظّن بحجّية الأمارة الفلانية ، ظنٌّ بالمسألة الاصولية ) وليس ظنّاً بالمسألة الفرعية ، حتى يكون حجّة ، وعليه : فالمتيقن من الظنون المتعلِّقة بالفروع حجّة ، لا المتيقن من الظنون المتعلِّقة بالمسائل الاصولية .

( نعم ، مقتضى تقرير الدليل ) أي : دليل الانسداد ( على وجه حكومة العقل ) بأنّ الظّن حجّة هو : ( انّه لا فرق بين تعلّق الظّن بالحكم الفرعيّ ، أو بحجّية طريق ) لأن العقل يرى ان الظّن حجّة ، ولايهم بعد حصول الظّن بين أن يكون الظّن متعلقاً بالأصل أو بالفرع .

( ثمّ ) على تقدير الحكومة ( ان اكان القدر المتيقن كافيا في الفقه ، بمعنى : انّه لايلزم من العمل بالاصول في مجاريها ) أي : مجاري الاصول ( المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ) فقط ، من الخروج عن الدّين إذا أجرينا البرائة ، أو العُسر والحَرج ، وإذا أجرينا الاحتياط - مثلاً - ( فهو ) أي : حينئذٍ نعمل بالمتيقن فقط .

ص: 244

وإلاّ فالواجبُ الأخذُ بما هو المتيقنُ من الأمارات الباقية الثابتة بالنسبة إلى غيرها .

فان كفى في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقن بالنسبة ، وهكذا .

ثمّ لو فرضنا عدمَ القدر المتيقن بين الأمارات او عدم كفاية ما هو القدر المتيقن مطلقاً أو بالنسبة :

-------------------

( والاّ ) أي : بأن كان إجراء الاصول مستلزماً لأحد المحذورين المذكورين ( فالواجب الأخذ بما هو المتيقن من الأمارات الباقية الثابتة بالنسبة الى غيرها ) أي : بالنسبة الى الأمارات التي هي في الدرجة الثالثة .

مثلاً : لنفرض ان الظنّ قام على حجية الخبر ، فهو القدر المتيقن تيقناً إطلاقياً من الظنون في الاصول ، فان كفى الخبر بمعظم الفقه فهو ، وان لم يكف أخذنا بالاجماع في تعيين بقية الأحكام ، لأن الاجماع متيقن نسبي وان لم يكن متيقناً مطلقاً كالخبر ، وإنّما كان الاجماع متيقنا نسبياً ، لانّه بالنسبة الى الأولويّة متيقن فالأولوية في الدرجة الثالثة .

( فان كفى ) المتيقن النسبي ( في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا ) من انّه لا يلزم من العمل بالاصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ( فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقن بالنسبة ) كالأولوية التي هي في درجة ثالثة في مثالنا ، ونترك الدرجة الرابعة كالشهرة - مثلاً - ( وهكذا ) حتى ننتهي الى ما يكفي بمعظم الفقه .

( ثم لو فرضنا عدم القدر المتيقّن بين الأمارات ) بأن كانت الجميع متساوية ( أو عدم كفاية ما هو القدر المتيقن مطلقاً ) وهو المتيقن الأول ( أو بالنسبة ) أي :

ص: 245

فان لم يكن على شيء منها أمارةٌ ، فاللازمُ الأخذُ بالكلّ ، لبطلان التخيير بالاجماع وبطلان طرح الكلّ بالفرض وفقد المرجّح ، فتعيّن الجميع .

وإن قام على بعضها أمارة : فان كانت أمارةً واحدةً ، كما إذا قامت الشهرة على حجّية جملة من الأمارات ، كان اللازمُ الأخذ بها ، لتعيّن الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظنون ،

-------------------

المتيقن ، فالمتيقن ( فان لم يكن على شيء منها أمارة ) معينة ( فاللازم الأخذ بالكل ) أي : بكل تلك الأمارات القائمة على الأحكام ( لبطلان التخيير ) بين الأمارات ( بالاجماع ) فان المكلّف ليس مخيراً بين أن يأخذ بهذه الأمارة أو بتلك الأمارة .

( وبطلان طرح الكل بالفرض ) لانّ المفروض : إنّا لو طرحنا كل الأمارات لزم امّا الخروج عن الدّين ، أو العُسر والحَرج الناشيء من الاحتياط أو ما أشبه ذلك من الاُمور الباطلة .

( وفقد المرجّح ) لها ، لانّه لامرجح لبعض الأمارات على بعض .

إذن : ( فتعيّن ) الأخذ ب- ( الجميع ) كما وقد ظهر : انّه ربّما يعيّن بعض الأمارات ، فيكون بعض الأمارات مظنون الاعتبار دون البعض الآخر .

( وإن قام على بعضها ) أي بعض تلك الأمارات ( أمارة : ) بأن حصل الظّن المظنون الاعتبار ( فان كانت أمارة واحدة ، كما إذا قامت الشهرة على حجّية جملة من الأمارات ) كالخبر الواحد ، والأولويّة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( كان اللازم الأخذ بها ) أي : بتلك الجملة ( لتعيّن الرّجوع الى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظّنون ) .

وانّما يتعين الرجوع اليها ، لان الظنّ المظنون الاعتبار مقدّم على غيره

ص: 246

وإن كانت أماراتٍ متعدّدةً قامت كلُّ واحدة منها على حجّية ظنّ مع الحاجة إلى جميع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها عُمِلَ بها .

ولا فَرق حينئذٍ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظنّ بالاعتبار والعدم وبين تفاوتها في ذلك .

وأمّا لو قامت كلّ واحدة منها على مقدار

-------------------

- على ماسبق - .

( وان كانت أمارات متعدّدة ، قامت كلّ واحدة منها على حجّية ظنّ ، مع الحاجة الى جميع تلك الظنون في الفقه ، وعدم كفاية بعضها ) أي : بعض تلك الظنون ( عُمِل بها ) أي : بتلك الأمارات المتعددة جميعاً ، كما إذا قامت الشهرة على الخبر ، والاجماع المحصل على السيرة ، وهكذا .

( ولا فرق حينئذ ) أي : حين كانت أمارات متعددة ، قامت لكل واحدة منها على حجّية ظنّ خاص ( بين تساوي تلك الأمارات القائمة ) على حجيّة الظنون ( من حيث الظن بالاعتبار والعدم ) أي : عدم الظّن بالاعتبار ، بان الظّن باعتبار الأمارات القائمة أو لا نظنّ باعتبارها ( وبين تفاوتها ) أي : تفاوت تلك الأمارات القائمة ، بأن نظنّ باعتبار البعض ، ولانظن باعتبار البعض الآخر ( في ذلك ) اسم الاشارة راجع الى الظّن .

وانّما لافرق ، لان المفروض : الاحتياج الى الجميع في الوفاء بمعظم الفقه حيث قلنا : مع الحاجة الى جميع تلك الظنون ، وعليه : فلا فرق بين أن تكون كلها متساوية في الاعتبار ، أو كلها متساوية في عدم الظّن بالاعتبار ، أو مختلفة : بأن يظن باعتبار بعضها دون اعتبار بعض .

( وأمّا لو قامت كل واحدة منها ) أي : من تلك الأمارات ( على مقدار

ص: 247

من الأمارات كافٍ في الفقه : فان لم تتفاوت الأماراتُ القائمةُ في الظنّ بالأعتبار وجب الأخذُ بالكلّ ، كالأمارة الواحدة لفقد المرجّح ، وإن تفاوتت : فما قام متيقّنٌ الاعتبار او مظنونُ الاعتبار على إعتباره يصير معينّاً ، كما إذا قام الاجماع المنقول بناءا على كونه مظنون الاعتبار على حجّية أمارة غير مظنونة الاعتبار وقامت تلك الأمارة ،

-------------------

من الأمارات ، كافٍ ) ذلك المقدار ( في الفقه ) كما إذا قامت الشهرة على حجّية الخبر العادل فقط ، وقام الاجماع المنقول على حجّية الأولويّة القطعيّة فقط ، وهكذا .

( فان لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظّن بالاعتبار ) وذلك بأن كان الجميع مظنون الاعتبار ، أو كان الجميع غير مظنون الاعتبار ( وجب الأخذ بالكل ، كالأمارة الواحدة ، لفقد المرجّح ) فكما انّه إذا كانت أمارة واحدة قائمة على جملة من الأمارات نأخذ بتلك الجملة ، كذلك إذا كانت أمارات متعددة قامت كلّ واحدة على مقدار من الأمارات .

( وان تفاوتت ) أي : الأمارات القائمة تفاوتت في الظّن بالاعتبار ( فما قام متيقن الاعتبار او مظنون الاعتبار على إعتباره ، يصير معيّناً ) لاستناده الى اليقين ، أو الى الظّن الذي هو الملجأ عند الانسداد .

( كما إذا قام الاجماع المنقول بناءاً على كونه مظنون الاعتبار على حجّية أمارة غير مظنونة الاعتبار ) مثلاً : خبر غير الامامي غير مظنون الاعتبار ، لكن قام الاجماع المنقول على إعتباره ( وقامت تلك الأمارة ) على الحكم .

والمراد بتلك الأمارة : هي الأمارة غير مظنون الاعتبار ، كما إذا قام خبر غير الإمامي على وجوب صلاة الجمعة - مثلاً - وقام الاجماع المنقول على حجّية خبر

ص: 248

فانها تتعيّن بذلك .

هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفاً .

وأمّا ، على ما هو المختار من كونه حاكماً ، فسيجيء الكلامُ فيه بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة ، إن شاء اللّه تعالى .

إذا عرفت ذلك ، فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات ، حتّى يعرفَ المتيقن منها حقيقةً أو بالاضافة الى غيرها ،

-------------------

غير الامامي ( فانّها ) أي : الأمارة غير مظنونة الاعتبار ، كخبر غير الامامي في مثالنا ( تتعيّن بذلك ) أي : بالاجماع المنقول الذي كان في كلامنا .

( هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفاً ) حيث انّ الكشف في الجملة ، لا أنّه كاشف على الاطلاق ، كما ألمعنا الى ذلك سابقاً .

( وأمّا على ماهو المختار من كونه ) أي : دليل الانسداد ( حاكماً ) أي : انّه بعد تمامية المقدّمات ، يكون العقل حاكماً بحجّية الظنّ ( فسيجئالكلام فيه بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة إنشاء اللّه تعالى ) فانّ النتيجة إذا كانت مهملة إحتجنا الى تعميم حجّية الظّن بسبب معمّم خارجي ، إذ دليل الانسداد بنفسه لايدُل على التعميم .

( إذا عرفت ذلك ) الذي ذكرناه : من وجود المتيقن وعدم وجوده ، ووجود المتيقن ، فالمتيقن وعدم وجوده ، الى غير ذلك ( فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات حتى يعرف المتيقن منها حقيقة ) أي : تيقناً حقيقياً على كل حال ( أو بالإضافة الى غيرها ) أي : المتيقن فالمتيقن ، ففيما إذا كان المتيقن كافياً بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ إحتاج الى المتيقن .

ص: 249

ويُحصّلَ مايمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ، ويميّز بين تلك الأمارات القائمة من حيث التساوي والتفاوت من حيث الظنّ بحجّية بعضها من أمارة أُخرى ، ويعرفَ كفايةَ ما أُحرِزَ إعتبارُه من تلك الأمارات وعدمَ كفايته في الفقه .

وهذا يحتاجُ الى سير مسائل الفقه إجمالاً حتى يعرف أنّ القدر المتيقن من الأخبار ، لايكفي مثلاً في الفقه بحيث يرجع ، في موارد خلت عن هذا الخبر ، إلى الاصول التي يقتضيها الجهلُ بالحكم في ذلك المورد .

-------------------

( و ) على المجتهد أن ( يحصّل مايمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ) فالخبر - مثلاً- الذي يدلّ على الحكم أمارة ، والاجماع الذي قام على حجّية الخبر : أمارة قامت على حجّية أمارة أُخرى .

( و ) عليه بعد ذلك ان ( يميز بين تلك الأمارات القائمة ، من حيث التساوي والتفاوت ) تساوياً ، أو تفاوتاً ( من حيث الظّن بحجّية بعضها من أمارة أُخرى ) وعدم ذلك .

( و ) انّما يلزم على المجتهد ماذكرناه ، كي ( يعرف كفاية ما احرز إعتباره من تلك الأمارات ، وعدم كفايته في الفقه ) لأنّ المقصود المهم للمجتهد : معرفة قدر كافٍ من الفقه ، يسبب إنحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الواجبة على الناس .

( وهذا ) اللازم على المجتهد ممّا ذكرناه ( يحتاج الى سير ) الفقيه في ( مسائل الفقه إجمالاً ) من أول الطهارة الى آخر الدّيات ( حتى يعرف انّ القدر المتيقن من الأخبار لايكفي - مثلاً - في الفقه ، بحيث يرجع في موارد خلت عن هذا الخبر ) والمراد بالخبر : الجنس ( الى الاصول التي يقتضيها الجهل بالحكم في ذلك المورد ) .

ص: 250

وأنّه إذا إنضمّ اليه قسمٌ آخر من الخبر ، لكونه متيقناً إضافيّاً ، أو لكونه مظنون الاعتبار بظنّ متبّع ، هل يكفي أم لا ؟ فليس له الفتوى على وجه يوجب طرحَ سائر الظنون حتى يعرفَ كفاية ما أحرزه من جهة اليقين أو الظنّ المتّبع . وفقّنا اللّه للإجتهاد الذّي هُو أشدُّ من طُول الجِهاد ، بحقِّ مُحمّد وآله الأمجاد .

-------------------

وذلك لأن الاصول انّما تجري في موارد لم يكن فيها خبر ممّا يجهل الفقيه حكم ذلك المورد ، فيرجع فيه الى الاصول الأربعة كل في موضعه .

( و ) حتى يعرف ( انّه إذا إنضمّ اليه قسم آخر من الخبر ، لكونه متيقناً إضافيّاً أو لكونه مظنون الاعتبار بظّن متّبع ، هل يكفي أم لا ) فخبر العادل - مثلاً- متيقن الاعتبار ، فاذا كفى بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ ضمّ إليه خبر الثقة ، وخبر الثقة مظنون الاعتبار ، فان كان الخبران معاً يكفيان بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ ضُمّ اليهما خبر الممدوح بدون تعديل أو وثاقة ، وهكذا .

( فليس له ) أي : للفقيه ( الفتوى على وجه يوجب طرح سائر الظنون ) بمجرد عدم وجود المتقين - مثلاً- ( حتى يعرف كفاية ما أحرزه من جهة اليقين ، أو الظّن المتّبع ) فاذا ظهرت له الكفاية جاز له طرح سائر الظنون ، وإلاّ لم يجز له ذلك .

( وفّقنا اللّه ) سبحانه وتعالى ( للإجتهاد الّذي هو أشد من طول الجهاد بحق محمّد وآله الأمجاد ) وقد ورد في الحديث : « مِدادُ العُلَماءِ أفضَلُ مِن دِمَاءِ الشُهَداءِ » (1) وذلك لأنّ الاجتهاد أصعب من الجهاد ، ولأنّ الاجتهاد يبقى ثمره اذا كان مكتوباً أو نحوه ، بينما المجاهدون يذهبون بدون ذكر إذا لم يسجّل

ص: 251


1- - منية المريد : ص341 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص398 ب2 ح5853 . ففيه يرجّح .

الثاني : من طرق التعميم ماسلكه غير واحد من المعاصرين من عدم الكفاية ، حيث إعترفوا - بعد تقسيم الظنون الى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه - بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة الاقتصارُ على مظنون الاعتبار ، ثمّ على المشكوك ، ثمّ يتسرّى إلى الموهوم .

لكنّ الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، إمّا بأنفسها ، بناءا على إنحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين ،

-------------------

المجتهدون جهادهم وآثار جهادهم ، واللّه الموفق المستعان .

هذا هو أوّل الوجوه ممّا ذكره قبل صفحات بما عبارته : « المقام الثاني : في انّه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الاسباب والمرتبة ام لا » ، الى ان قال : « ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه : الأوّل : عدم المرجّح » الى

آخر عبارته ، ثم إنتقل الى الثاني فقال :

( الثاني : من طرق التعميم ) لنتيجة دليل الانسداد تعميماً للمظنون الاعتبار ، والمشكوك الاعتبار ، والموهوم الاعتبار ( ما سلكه غير واحد من المعاصرين من ) جهة ( عدم الكفاية ) لمظنون الاعتبار ، فاللازم التعميم ( حيث إعترفوا بعد تقسيم الظنون الى : مظنون الاعتبار ، ومشكوكه ، وموهومه ، بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة ) لدليل الانسداد ( الاقتصار على مظنون الاعتبار ) فقط .

( ثمّ ) ان لم يكف ف- ( على المشكوك ) الاعتبار ( ثمّ ) إن لم يكف ( يتسرّى الى الموهوم ) الاعتبار .

هذا ( لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ) بمعظم الأحكام ( اما بأنفسها بناءاً على إنحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين ) فانّ من المعلوم : ان الأخبار الصحيحة بتزكية العدلين في كلّ الرواة ، قليلة جداً .

ص: 252

وإمّا لأجل العلم الاجماليّ بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظنّون المشكوكة الاعتبار .

فلا يجوز التمسّكُ بتلك الظواهر ، للعلم الاجماليّ المذكور ، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسُنّة المتواترة في عدم الوفاء بِمُعْظَم الأحكام .

فلا بدّ من التَسرّي ، بمقتضى قاعدة الانسداد ولزوم المحذور من الرجوع إالى الاصول ، الى الظنون المشكوكة الاعتبار

-------------------

( وأما لاجل العلم الاجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها ) أي : إن الأحكام الظاهرة منها مخالفة لما أُريد منها ، لأن هذه الأخبار مخصصة ، أو مقيّدة ، أو مجاز ، فظواهرها شيء والمراد منها شيء آخر .

( ووجود ما يظنّ منه ) الضمير راجع الى « ما » في : « ما يظن » ( ذلك ) أي : ذلك الخلاف ( في الظنون المشكوكة الاعتبار ) « وفي » متعلق « بوجود » أي : يوجد فيما يشك إعتباره مخصصاً ومقيّداً وقرينة مجاز ، للأخبار التي يجب العمل بها ، حيث علمنا علماً إجمالياً بمخالفة كثير من ظواهرها للمراد منها .

وعليه : ( فلايجوز التمسّك بتلك الظواهر ) أي : بظواهر الأخبار بدون الفحص عن الظنون المشكوكة المخصّصة والمقيّدة وقرائن المجاز .

وإنّما لايجوز التمسك بتلك الظواهر ( للعلم الاجمالي المذكور فيكون حالها ) أي : حال هذه الأخبار المظنونة الاعتبار ( حال ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام ) وذلك إما من جهة قلّتها بانفسها ، واما من جهة العلم الاجمالي بمخالفة ظواهر كثير منها للمراد منها .

( فلابدّ من التسري - بمقتضى قاعدة الانسداد ، ولزوم المحذور من الرّجوع الى الاصول - الى الظنون المشكوكة الاعتبار ) « الى الظنون » متعلق ب- « التسري » ،

ص: 253

التي دلّت على إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ، فيعملُ بما هو من مشكوك الاعتبار مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّد لاطلاقاته وقرائن لمجازاته .

فاذا وجب العملُ بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ، ثبت وجوبُ العمل لغيرها ممّا ليس فيها معارضةٌ لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ، بالاجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ،

-------------------

لأنه قد إنسدّ باب العلم ولايمكن الرجوع الى الاصول ، فلا بّد من الذهاب الى الظنون المشكوكة الاعتبار ( التي دلّت ) تلك الظنون المشكوكة الاعتبار ( على ارادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ) .

وعليه : ( فيعمل بما هو من مشكوك الاعتبار ) فان مشكوك الاعتبار ( مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ، ومقيّد لاطلاقاته ، وقرائن لمجازاته ) فانّ في مظنون الاعتبار : عمومات ، ومطلقات ، ومجازات ، وفي الظنون المشكوكة الاعتبار : مقيدة ومخصصة لها ، وقرينة لمجازاتها فنعمّم . الظن الذي هو حجّة من مظنون الاعتبار الى مشكوك الاعتبار .

هذا تعميم ، وهناك تعميم آخر أشار إليه بقوله : ( فاذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ) التي هي مخصصة ومقيدة أو قرائن مجاز ( ثبت وجوب العمل لغيرها ) أي : لغير هذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ( ممّا ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ) .

وإنّما ثبت وجوب العمل ( بالاجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ) سواء كان معارضاً لمظنون الاعتبار ، أم لم يكن معارضاً لمظنون الاعتبار ، وهذا هو التعميم الثاني .

ص: 254

فانّ أحداً لم يفرّق بين الخَبر الحَسَن المعارض لاطلاق الصحيح وبين خبر حَسَن آخر غير معارض لخبر صحيح ، بل بالأولويّة القطعيّة ، لأنّه إذا وجب العملُ بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعملُ بما ليس له معارض أولى .

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يُعْلَم إجمالاً بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشفُ عن ذلك ظنّاً هي الأمارات الموهومة الاعتبار .

فنعمل بتلك الأمارات ،

-------------------

وعليه : ( فانّ أحداً لم يفرِّق بين الخبر الحَسَن المعارض لاطلاق الصّحيح ، وبين خبر حَسَن آخر غير معارض لخبر صحيح ) والمفروض : إنّ الخبر الحَسن من مشكوك الاعتبار ، والخبر الصحيح من مظنون الاعتبار .

( بل بالأولوية القطعيّة ) في خبر حَسن آخر ، فانّه إذا عمل بخبر حَسنٌ معارض ، فالاولى ان يعمل بخبر حَسنٍ غير معارض ( لأنه إذا وَجَبَ العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى ) إذ الحَسن المعارض إذا كان حجّة ، فالحَسن غير المعارض حجّة بطريق أولى .

( ثمّ ) بعد تعميم الظنون من مظنون الاعتبار الى مشكوك الاعتبار ، يصل النوبة الى تعميم آخر ، وهو : التعميم الى موهوم الاعتبار ، وقد أشار إليه بقوله :

( نقول : انّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالاً بعدم إرادة المعاني الظاهرة ) منها ( والكاشف عن ذلك ) أي : عن عدم ارادة الظاهر منها كشفاً ( ظنّاً ، هي : الامارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ) الموهومة

ص: 255

ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالاجماع المركّب ، حيث أنّ أحداً لم يفرق بين الشهرة المعارضة للخبر الحَسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة ، كما عرفت .

أقول : الانصاف : أنّ التعميم بهذا الطريق أضعفُ من التخصيص بمظنون الاعتبار ،

-------------------

الاعتبار ، وبعد العمل بموهوم الاعتبار الكاشف ، ننقل الكلام الى تعميم رابع ، وهو ما أشار اليه بقوله : ( ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار ) الذي ليس بكاشف .

وإنّما نعمل بهذا الباقي ( بالاجماع المركّب حيث أن اُحداً لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحَسن ) معارضة ( بالعموم والخصوص ) أي : لا بالتّباين ( وبين غير المعارض له ) أي : للخبر الحَسن ، والمفروض : إن الشهرة موهومة الاعتبار ومع ذلك لايفرق أحد بينهما .

( بل بالأولويّة ) القطعيّة ( كما عرفت ) حين قلنا : بانّه إذا وجب العمل المشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى ، فان نفس هذه الأولوية تأتي في موهوم الاعتبار ، فيقال : إذا وجَب العمل بموهوم الاعتبار الذي له معارضة بظاهر مشكوك الاعتبار بما ليس له معارضة أولى .

( أقول : الانصاف ان التعميم بهذا الطريق ) أي : الطريق الثاني الذي سلكه غير واحد من المعاصرين وذكرنا تفصيله الى هنا ( أضعف من التخصيص بمظنون الاعتبار ) أي : بمخصص القضية المهملة ، وتعيين تلك القضية بالظنون التي ظنّ إعتبارها ، بأن يكون مظنون الاعتبار ، مخصصاً للنتيجة المهملة ، فاذا لم تخصص

ص: 256

لأنّ هذا المعمِّم قد جمع ضِعفَ القولين ، حيث إعترف بأنّ مقتضى القاعدة ، لولا عدم الكفاية ، الاقتصارُ على مظنون الاعتبار .

وقد عرفتَ أنّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ بالاعتبار إلاّ إذا ثبت جوازُ العمل بمطلق الظنّ عند إنسداد باب العلم .

-------------------

النتيجة بمظنون الاعتبار ، كان اللازم عدم التعميم بهذا الطريق أيضاً .

وإنّما كان أضعف ( لأن هذا المعمّم قد جمع ضِعفَ القولين ) الذّين احدهما : ان الاصل في القضية المهملة الاقتصار على القدر المتيقن ، وقد عرفت سابقاً إنّه ضعيف .

وثانيهما : إنّ المتيقن من هذه الجملة هو مظنون الاعتبار ، وقد عرفت ايضاً أنّه ضعيف ( حيث إعترف ) هذا المعمم في كلامه السابق عندما قال : لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، فقد إعترف ( بانّ مقتضى القاعدة لولا ) جهة ( عدم الكفاية : الاقتصار على مظنون الاعتبار ) أي : كان اللازم الاقتصار على مظنون الاعتبار ، لكن لم يكن كافياً ، فتمسكنا بمشكوك الاعتبار وموهومه .

( وقد عرفت : انّه لا دليل على إعتبار مطلق الظّن بالاعتبار ، إلاّ اذا ثبت جواز العمل بمطلق الظنّ ) أي عرفت ذلك في رَدِّ لزوم الاقتصار على مظنون الاعتبار الذي كان يخصِّص الظنون بما ظنّ إعتباره .

ومن المعلوم : إنّه إذا ثبت العمل بمطلق الظنّ ، لم يكن وجه للتخصيص بمظنون الاعتبار ( عند إنسداد باب العلم ) .

وبذلك ظهر : إنّه لا وجه لهذا التعميم الذي ذكره بقوله : الثاني من طرق التعميم ما سلكه غير واحد من المعاصرين ...الخ .

هذا تمام الكلام في الاشكال الأوّل على المعمم ذكره المصنّف بقوله :

ص: 257

وأما ما ذكره من التعميم لعدم الكفاية .

ففية ، أوّلاً : أنّه مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين .

وليس كذلك ، بل الأماراتُ الظنّيّةُ من الشهرة وما دلّ على إعتبار قول الثقة ، مضاماً إلى ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الرّوايات وفي تشخيص أحوال الرواة ،

-------------------

« أقول الانصاف » .

ثم أشكل المصنّف عليه إشكالاً ثانياً بقوله :

( وأمّا ما ذكره من التعميم لعدم الكفاية ) حيث قال : لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ( ففيه أولاً : إنّهُ مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ) كما ذكره هو بنفسه .

لكن ( وليس كذلك ) إذ مظنون الاعتبار ليس منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ( بل الأمارات الظنّية من الشهرة ) مثل قوله عليه السلام : « خُذ بما إشتَهرَ بَينَ أصحابِكَ » (1) . ( وما دلّ على إعتبار قول الثقة ) مثل قوله عليه السلام : « لاعُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالينا فِي التَشكِيكِ فيِما يَروِيهِ عَنّا ثُقاتُنا » (2) .

( مضافاً الى ما استُفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الرّوايات ، وفي تشخيص أحوال الرّواة ) لانه طريق عقلائي لم يثبت ردعه

ص: 258


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 ، رجال الكشّي : ص536 .

يُوجبُ الظنّ القويّ بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر الموثّق ، والضعيف المنُجَبِر بالشهرة من حيث الرواية .

ومن المعلوم كفايةُ ذلك وعدمُ لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلى الأصول .

وثانياً : أنّ العلم الاجماليّ الذي إدّعاه يرجعُ حاصله إلى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة

-------------------

من الشارع وإذا لم يثبت الردع ، ثبت إمضاء الشارع له ، لانّ الردع لو كان لَبانَ .

وعليه : فانّ ذلك كلّه ( يوجب الظّن القويّ بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر المُوثّق ، و ) الخبر ( الضَعيف المنجبِّر بالشهرة من حيث الرواية ) أي : مقابل الشهرة الفتوائية ، فانّ الشهرة الروائية قال غير واحد من الفقهاء بحجّيتها بخلاف شهرة الفتوى ، فانّها ليست حجّة عند المعظم .

( ومن المعلوم : كفاية ذلك ) الذي ذكرناه من الأمارات الظّنية الكثيرة بمعظم الأحكام ( وعدم لزوم محذور من الرّجوع في موارد فقد تلك الأمارات الى الاصول ) سواء رجعنا الى أصل البرائة فانّه لايلزم الخروج عن الدّين ، أو رجعنا الى أصل الاحتياط ، فانّه لايوجب إختلالاً للنظام أو عُسراً وحَرجاً .

( وثانياً ) إنّ قوله : « فاذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل بغيرها ممّا ليس فيه معارضة لظواهر الأمارات » ، الى آخر كلامه ، غير تام ، وذلك ( انّ العلم الاجمالي الذي إدعاه ) حيث قال : لاجل العلم الاجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها .

( يرجع حاصله الى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة

ص: 259

كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار .

ومن المعلوم أن العملَ بها لأجل ذلك لايوجبُ التعديّ إلى ماليس فيه هذه العلّة ، أعني مشكوكات الاعتبار الغير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار .

فان العلم الاجماليّ بوجود شهرات متعددة مقيّدة لاطلاق الأخبار أو مخصصة لعموماتها لايُوجبُ التَعدّي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو تخصيص ، فضلاً عن التسرّي إلى الاستقراء والأولويّة .

-------------------

كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار ) فانّ مشكوكات الاعتبار مطابقة للواقع ، ومخصصة أو مقيدة ، أو قرائن مجاز لمظنونات الاعتبار .

هذا ( ومن المعلوم : ان العمل بها ) أي : بمشكوكات الاعتبار ( لأجل ذلك ) أي : لأجل كشفها عن المراد في مظنون الاعتبار ( لايوجب التعدّي ) من هذه المشكوكات الاعتبار المخصصة والمقيدة والقرائن ( الى ماليس فيه هذه العلّة ) من الكشف عن المراد ( أعني : مشكوكات الاعتبار غير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار ) إذ كيف يقاس غير الكاشف على الكاشف ؟ .

( فان العلم الاجمالي بوجود شهرات متعددة مقيّدة لاطلاق الأخبار ، أو مخصصة لعموماتها ) أو قرائن لمجازاتها ( لايوجب التعدّي الى الشهرات غير المزاحمة للأخبار ) فان « الأخبار » متعلق ب« مزاحمة » ( بتقييد ، أو تخصيص ) أو قرينة ، وقوله : « بتقييد » متعلق ب- « التعدي » .

وعليه : لا يتعدى من المقيِّد والمخصص الى غيرهما ( فضلاً عن التّسري الى الاستقراء والأولوية ) إذ الشهرة ليست كلّها حجّة ، فضلاً عن أن تكون الاستقراءات والأولويات أيضاً حجّة وهما أضعف من الشهرة .

ص: 260

ودعوى الاجماع لايخفى ما فيها ، لأنّ الحُكمَ بالحجيّة في القسم الاوّل لعلّة غير مطرّدة في القسم الثاني حكم عقلي يعلم بعد تعرّض الامام عليه السلام له قولاً أو فعلاً ، إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروضُ عدمُ جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي وجود العلم الاجماليّ ،

ومن ذلك : يُعرَفُ الكَلامُ في دعوى الأولويّة ، فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الاجماليّ ، فكيف يتعدّى

-------------------

( ودعوى الاجماع ) بالتعدي ، كما إدعاه القائل بالتعميم ( لايخفى ما فيها ) أي في هذه الدعوى ( لأنّ الحكمُ بالحجّية في القسم الأول ) المزاحمة ( لعلة ) متعلق ب- « الحجيّة » أي : ان الحجّية انّما هي العلة ( غير مطّردة في القسم الثاني ) أي : غير المزاحمة ( حكم عقليّ ) خبر قوله : « لأن الحكم » .

وعليه : فالحكم بالحجّية حكم عقلي وهو ( يعلم بعدم تعرّض الامام عليه السلام له قولاً أو فعلاً ) فان الامام عليه السلام الذي تعرّض لهذا الحكم العقلي بقوله أو بفعله ، لم يتعرّض له ( إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض : عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي ) أي : العلّة ( : وجود العلم الاجمالي ) فكيف يتعدى من مورد الحكم العلم الاجمالي الى غير مورد العلم الاجمالي ؟ .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : بأنّه لايتعدى من مشكوك الاعتبار الكاشف الى مشكوك الاعتبار غير الكاشف ( يعرف الكلام في دعوى الأولوية ) حيث قال : ان الكاشف لو كان حجّة فغير الكاشف أولى بالحجّية ، مستدِّلاً بأنّ غير المزاحم أولى بالحجّية من المزاحم .

وإنّما يعرف الكلام في ذلك ، لِما أشار اليه بقوله : ( فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل ) أي : المزاحم ( إذا كان هو العلم الاجمالي ، فكيف يتعدى

ص: 261

إلى ما لايوجد فيه المناط فضلاً عن كونه أولى .

وكأنّ متوهّمَ الاجماع رأى أنّ أحداً من العلماء لم يفرّق بين أفراد الخبر الحَسن وأفراد الشُهرة ، ولم يَعلم أنّ الوجهَ عندهم ثُبوتُ الدّليل عليهما مطلقاً أو نفيه كذلك ، لأنهم أهلُ الظنون الخاصّة ، بل لو إدّعى الاجماعُ - على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحِسان أو الشهرات لأجل العلم الاجماليّ بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجماليّ - كان في محلّه .

-------------------

الى ما لايوجد فيه المناط ) وهو غير المزاحم ( فضلاً عن كونه ) أي : مالا يوجد فيه المناط ان يكون ( أولى ) ممّا فيه المناط ؟ .

( وكأن متوهّم الاجماع ) الذي إدعى الاجماع على أن غير الكاشف مثل الكاشف ( رأى أنّ أحداً من العلماء لم يُفرِّق بين أفراد الخبر الحَسنَ ، وأفراد الشهرة ) فكلّ خبر حسن جائز ، وكل شهرة يجوز العمل بها ، فلم يفرِّق بين الخبر المزاحم والخبر غير المزاحم ، والشهرة المزاحمة والشهرة غير المزاحمة .

هذا ( ولم يعلم أن الوجه عندهم ) في عدم التفرقة ( ثبوت الدّليل عليهما مطلقا ) أي : على الخبر الحَسن والشهرة ( أو نفيه ) أي : نفي الدليل عليهما ( كذلك ) أي : مطلقاً ، فالخبر مطلقاً حجّة أو ليست بحجّة والشهرة مطلقاً حجّة أو ليست بحجّة ، وذلك ( لأنهم أهل الظنون الخاصة ) فسحبُ هذا المتوهم كلامهم إلى باب الانسداد في غير محله ، لأن باب الانسداد لايقاس بباب الانفتاح .

( بل لو إدّعى الاجماع على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحِسان ، أو الشهرات ، لأجل العلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجمالي ، كان ) إدعاء هذا الاجماع ( في محلّه ) فاللازم العمل

ص: 262

الثالث : من طرق التعميم ماذكره بعض مشايخنا « طاب ثراه » ، من قاعدة الاشتِغال بناءا على أنّ الثابت من دليل

-------------------

بالأخبار الحِسان والشهرات بقدر العلم الاجمالي فقط ، لمطابقة بعضها للواقع دون سائر أخبار الحِسان وبقية الشهرات ، بل وما كان خارجاً عن المزاحم .

فهنا ثلاثة أقسام : الأوّل : جملة من الأخبار والشهرات بعضها مطابقة للواقع .

الثاني : الأعم من هذه الجملة ومن سائر المزاحمات التي لاعلم إجمالي بمطابقة بعضها للواقع .

الثالث : الأعم من الأولين وما ليس بمزاحم .

هذا ، والدليل إنّما دلّ على حجّية الأوّل ، لا الثاني ، فكيف بالثالث ؟ .

وعليه : فالمتوهم عمّم العمل الى كل أخبار الحِسان والشهرات ، والمصنّف يخصصه بما فيه علم الاجمالي ، ومطابقة الواقع ، ويقول لايعم العمل بالخبر والشهرة حتى المعارض الذي لاعلم إجمالي فيه ، فكيف بما هو خارج عن المعارضة إطلاقاً ؟ .

( الثالث : من طرق التعميم ) في نتيجة دليل الانسداد ، لو قلنا بأنّ النتيجة مُهملة وليست مطلقة ( ماذكره بعض مشايخنا طاب ثراه ) وهو المحقّق شريف العلماء ( : من قاعدة الاشتغال ) فانّه بعد أن علم إجمالاً بوجوب طريق منصوب من قبل الشارع كافٍ لمعظم الفقه ، وهذا الطريق موجود فيما بأيدينا من الأمارات كالخبر ، والاجماع المنقول والاجماع المحصّل والشهرة والأولوية ، وما أشبه ذلك ، وجَب بحكم العقل : الاحتياط في جميعها تحصيلاً للجزم بسلوك الطريق المنصوب .

وإنّما نحتاج في هذا التعميم الى قاعدة الاشتغال ( بناءاً على أن الثابت من دليل

ص: 263

الانسداد وجوبُ العمل بالظنّ في الجملة .

فاذا لم يَكُنْ قدرٌ متيقن كافٍ في الفقه وَجَبَ العَملُ بكلّ ظنّ .

ومَنْعُ جريان قاعدة الاشتغال هُنا - لكون ماعدا واجب العمل من الظنون مُحرّمَ العمل - فقد عَرِفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدّليل الأوّل من أدلّة إعتبار الظنّ بالطريق .

-------------------

الانسداد : وجوب العمل بالظّن في الجملة ) حيث أن نتيجة دليل الانسداد مُهملة ، وليست بمطلقة ، فانّه إذا كانت مطلقة لم نحتج الى التعميم ، وانّما نحتاج الى التعميم إذا كانت النتيجة مهملة .

وعليه : ( فاذا لم يكن قدر متيقن كافٍ في الفقه ، وَجَبَ العمل بكلّ ظنّ ) سواء كان مظنون الاعتبار ، أو مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار ، وسواء كان في الاصول أو في الفروع حتى يكفي الظّن بمعظم الفقه الذي نحن مكلفون بالعمل به .

( و ) ان قلت : الاشتغال لايجري فيما إذا كان بعض الأطراف محرّم العمل ، فاذا علم الانسان بأنّه يحرم العمل ، بأحد الطرق - مثلاً- الخبر الواحد ، أو القياس ، أو

الاستحسان ، أو الأولوية ، أو ما أشبه ذلك ، لم يجز له أن يعمل بكلّ هذه الطرق ، لأنّه لايجوز تحصيل الواقع بالطّريق المحرم .

وعليه : فاذا إحتاط في كل هذه الطرق ، علم بأنّه عمل بطريق محرّم ، وذلك ل- ( منع جريان قاعدة الاشتغال هنا ، لكون ماعدا واجب العمل من الظنون ، محرّم العمل ) حيث إن الأصل حُرمة العمل بالظّن كما تقدّم في أوّل الكتاب .

قلت : ( فقد عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة إعتبار الظنّ بالطريق ) حيث قال المصنّف هناك : ودعوى ان الأمر دائر بين الواجب

ص: 264

ولكنّ فيه : أنّ قاعدةَ الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضةٌ في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة . كما إذا إقتضى الاحتياطُ في الفروع وجوبَ السورة ، وكان ظنٌ مشكوكُ الاعتبار على عدم وجوبها ، فانّه يجبُ مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة لاحتمال وجوبها .

ولا ينافيه الاحتياطُ في المسألة الاُصولية ،

-------------------

والحرام لأن العمل بما ليس طريقاً حرام ، مدفوعة : بأنّ العمل بما ليس طريقاً إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم والعمل بكلّ مايحتمل الطريقية رجاء ان يكون هذا هو الطريق لاحرمة فيه من جهة التشريع ، إنتهى نصّ كلامه .

( ولكن فيه : انّ قاعدة الاشتغال ) لاتوجب تعميم الظن على ما يدعيه المعمّم ، فان قاعدة الاشتغال ( في مسألة العمل بالظّن ) وهي المسألة الاُصولية ( معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ) واذا تعارضتا تساقطتا .

( كما إذا اقتضى الاحتياط في الفروع وجوب السورة ) في الصلاة ( وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ) أي : وجوب السورة ( فانّه ) مقتضى هذا الظّن المشكوك أن لايأتي بالسورة ، لكن ( يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقرائة السورة ) ولايعتنى بالظّن المشكوك الاعتبار القائل بعدم الوجوب وهو الظّن في المسألة الاُصولية ( لاحتمال وجوبها ) أي : السورة .

إذن : فالقاعدة لاتقتضي حجّية الظنّ على الاطلاق ( ولاينافيه الاحتياط في المسألة الاُصولية ) أي : لاينافي الاحتياط في الفروع بقرائة السورة ، الاحتياط في المسألة الاُصولية بالعمل بالظّن المشكوك الاعتبار الذي يقول بعدم وجوبها .

ص: 265

لأنّ الحكم الاصوليّ المعلوم بالاجمال - وهو وجوبُ العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب - معناه وجوبُ العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أنّ يقع الفعل لا على وجه الوجوب .

ولاتنافي بين الاحتياط بفعل السورة لاحتمال الوجوب وكونه لا على وجه الوجو ب الواقعيّ .

وتوضيحُ ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظّنّ وجوبُ تطبيق عمله عليه .

فاذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به

-------------------

وذلك ( لأن الحكم الاصولي المعلوم بالاجمال وهو : وجوب العمل بالظّن القائم على عدم الوجوب ) للسورة ( معناه : وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ) للسورة ( ويكفي فيه ) أي : في هذا الوجه المنطبق على عدم الوجوب ( أن يقع الفعل ) أي : فعل السورة ( لا على وجه الوجوب ) بأن لايقصد حين إتيان السورة الوجوب .

( ولا تنافي بين الاحتياط بفعل السورة ) حسب الاحتياط في الفروع ( لاحتمال الوجوب و ) بين ( كونه لا على وجه الوجوب الواقعي ) وهو مقتضى الاحتياط في المسألة الاُصولية وفي إتيان السورة بهذا النحو جمع بين المسألة الاُصولية والمسألة الفرعية .

( وتوضيح ذلك ) أي : عدم المنافاة ( ان معنى وجوب العمل بالظّن : وجوب تطبيق عمله عليه ) أي : على طبق الظنّ .

( فاذا فرضنا انّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به )

ص: 266

إلاّ أنّه لايتعيّن عليه ذلك الفعلُ .

فإذا إختار فعلَ ذلك فيجب أن يقع الفعلُ لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجبُ أن يقع على وجه عدم الوجوب ، إذ لايعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصدُ عدم الوجوب .

نعم ، يجب التشرّع والتدّين بعدم الوجوب ، سواء فعله أو تركه

-------------------

أي : بالظّن ( إلاّ انّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل ) كفعل السورة في المقام .

( فاذا إختار ) المكلَّف ( فعل ذلك ) كالسورة ( فيجب ان يقع الفعل لا على وجه الوجوب ) فيأتي بالسورة لابقصد الوجوب ( كما لو لم يكن هذا الظّن ) إلانسدادي ( وكان غير واجب بمقتضى الأصل ) فاذا لم تكن السورة واجبة بمقتضى أصالة عدم الوجوب ، فانّ عدم وجوبها لايتنافي مع الاتيان بها ، لأن غير الواجب يجوز الاتيان به .

وكذلك الحال إذا قام الظنّ الانسدادي على عدم وجوب السورة ، فانّه يجوز الاتيان بها لكن حين الاتيان بالسورة لايقصد الوجوب .

( لا انّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ) « هذا » عطف على قوله « فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب » ، ومعناه : انّه لايقصد الوجوب ، لا أنّه يقصد عدم الوجوب ( إذ لا يعتبر في الأفعال غير الواجبة قصد عدم الوجوب ) حتى يقال : بانّ يأتي بالسورة بقصد عدم الوجوب بل يكفي أن يأتي بها لا بقصد الوجوب .

( نعم ، يجب التشرّع والتّدين بعدم الوجوب ) بمعنى : الالتزام القلبي بأنّ السورة ليست واجبة ( سواء فعله أو تركه ) أي : سواء أتى بالسورة أو ترك

ص: 267

من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع .

وحينئذٍ : فاذا تردّد الظنّ الواجبُ العمل المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب أُمور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظَنّ المُجمل المعلوم إجمالاً وجوب أن لايكونَ فعلُه لهذه الأمور على وجه الوجوب .

كما لو لم تكن هذه الظنونُ وكانت هذه الأُمور مباحةً بحكم الأصل ، ولذا

-------------------

السورة ، فانّه يلتزم قلباً بأنّها ليست واجبة ، وذلك ( من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع ) ويقوم مقام العلم الظنّ في حال الانسداد .

( وحينئذ ) أي : حين لم يقصد الوجوب بالسورة لا أنّه قصد عدم الوجوب ( فاذا تردد الظّن الواجب العمل المذكور ) أي : الظنّ في المسألة الاُصولية ( بين ظنون تعلقت بعدم وجوب امور ) وتلك الظنون عبارة ، عن ظنون مظنونة الاعتبار ، ومشكوكة الاعتبار ، وموهومة الاعتبار ( فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظّن المجمل المعلوم إجمالاً : وجوب ان لايكون فعله لهذه الاُمور على وجه الوجوب ) وقوله :« وجوب » ، خبر قوله : ف- « معنى » .

والحاصل : ان الظّن لو تعلّق بعدم وجوب اُمور ، وكان يعارضه علم إجمالي بوجوب أحد هذه الأشياء فمعنى وجوب ملاحظة الظنّ الاصولي المتعلّق بأحد هذه الاُمور إجمالاً : وجوب أن لايكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب ( كما لو لم تكن هذه الظنون ، وكانت هذه الاُمور مباحة بحكم الأصل ) .

والحاصل إنّه كما يقول اصل عدم الوجوب لايجب عليك ولايقول لا تأتِ بهِ كذلك إذا كان علم إجمالي بعدم وجوب أحد اُمور كان معنى هذا العلم لايجب عليك تلك الاُمور ولايقول العلم الاجمالي : لا تأتِ بتلك الأمور .

(ولذا) أي : المعتبر : ان لا يأتي بالفعل على وجه الوجوب ، لا أنّ لا يأتي بالفعل

ص: 268

يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل ، لاحتمال أنّه واجب .

ثمّ إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجَمعُ بَيَن تِلكَ الأُمور . فيجبُ على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها لاحتمال أن يكون هو الواجب . وما إقتضاه الظنُّ القائمُ على عدم وجوبه من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب باقٍ بحاله .

-------------------

إطلاقاً ( يستحب ) عقلاً ( الاحتياط وإتيان الفعل ) كالسورة في المثال ( لاحتمال انّه واجب ) فقد جمع بين الظنّ في المسألة الاُصولية والظّن في المسألة الفرعية .

( ثمّ ) بعد الظّن الذي تعلّق بعدم وجوب اُمور ظنّاً في المسألة الاُصولية ( إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج ) أي : من دليل خارج ( بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الاُمور ) كالظّن بوجوب السورة في مثالنا ( فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها ) .

ومعنى الالتزام : مجرد الاتيان الخارجي بالفعل ( لاحتمال ان يكون هو الواجب ) فيأتي بذلك إحتياطاً ، لكن لا يأتيه بقصد الوجوب لينافي الظنّ في المسألة الاُصولية .

( وما إقتضاه الظّن القائم على عدم وجوبه ) هذا مبتدأ خبره قوله : « باق بحاله » ( من وجوب ان يكون فعله لا على وجه الوجوب ) قوله : « من » بيان لقوله : « ما اقتضاه » والمعنى : إذا الظنّ القائم على عدم الوجوب يقتضي أن يكون فعله لا على وجه الوجوب فالظنّ القائم على عدم وجوب السورة ( باق بحاله ) .

والحاصل : ان الظّن الاصولي باقٍ بحاله وإن أتى بالسورة خارجاً لابقصد الوجوب .

ثم ان المصنّف إستدل على ماذكره بقوله : ماإقتضاه الظنّ باق بحاله

ص: 269

لأنّ الاحتياط في الجميع لايقتضي إتيانَ كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعي ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ، والظنّ القائم على عدم وجوبه لايمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه .

كما أنّه لو فرضنا ظنّاً معتبراً معلوماً بالتفصيل ، كظاهر الكتاب ، دلَّ على عدم وجوب شيء لم يناف مؤدّاه لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لإحتمال الوجوب .

هذا ،

-------------------

بقوله: ( لأن الاحتياط في الجميع ) بالاتيان بتلك الامور التي يعلم خارجاً بوجوب أحدها ( لايقتضي إتيان كل منها ) أي : من جميع الافراد الذي يعلم إجمالاً بوجوب أحدها ( بعنوان الوجوب الواقعي ،بل ) يأتي بها ( بعنوان انّه محتمل الوجوب ) .

هذا من جهة الاحتياط في المسألة الفرعية وأمّا الاحتياط في المسألة الاُصولية فقد ذكره المصنّف بقوله : ( والظن القائم على عدم وجوبه ، لايمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه ) أي : بعنوان انّه محتمل الوجوب ، فقد جمع بين الاحتياط في مسألة الاُصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية .

( كما انّه لو فرضنا ظنّا معتبراً معلوماً بالتفصيل كظاهر الكتاب ، دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه ) أي : مودّى هذا الظنّ المعتبر ( لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب ) فانّه قد ظهر ممّا ذكرناه : إمكان الجمع بين الظنّ في الاصول ، وبين الظنّ في الفروع ، وإن كان يترائى ان الظّن في الفروع منافٍ للظنّ في الاصول .

لايقال : ( هذا ) الذي ذكرتم : من الجمع بين المسألة الاُصولية والمسألة الفرعية لايقول به المشهور ، بل المشهور يقولون : بتقديم قاعدة الاحتياط في المسألة

ص: 270

وأمّا ما قرعَ سمعكَ - من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاُصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما - فليس في مثل المقام .

بل مثالُ الأوّل منهما ما إذا كان العملُ بالاحتياط في المسألة الاُصوليّة مزيلاً للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة .

-------------------

الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ، أو يقولون : بأنّ الاحتياطَين يعتارضان ويتساقطان ، لا انّه يجمع بين الاحتياطين كما ذكرتم أنتم .

لأنه يقال : ( وأمّا ما قرع سمعكَ من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، أو تعارضهما ) وتساقطهما ( فليس في مثل المقام ) الذي يمكن فيه الجمع بين القاعدتين ، فهناك موارد ثلاثة :

مورد تقديم المسألة الاصولية على الفرعية .

مورد التعارض بين المسألة الاصولية والمسألة الفرعية .

مورد الجمع .

وعلى أي حال : فما أراده المعمم لنتيجة دليل الانسداد من إطلاق التعميم لم يتم ( بل ) التعميم انّما هو في صورة عدم تعارض المسألة الاصولية بالمسألة الفرعية .

( مثال الأوّل ) : وهو تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ( منهما ) أي : من التقديم والتعارض ( ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصولية ، مُزيلاً للشك الموجب للاحتياط في المسألة الفرعية ) فانّه انّما يحتاط في المسألة الفرعية لأجل الشك ، فاذا أَزالَ الشّكُ الاحتياط في المسألة الاصولية ، لم يبق مورد للاحتياط في المسألة الفرعية .

ص: 271

كما إذا تردّد الواجبُ بين القَصر والاتمام ودلّ على أحدهما أمارةٌ من الأمارات التي يُعلَمُ إجمالاً بوجوب العمل ببعضها ، فانّه إذا قلنا بوجوب العمل بهذه الأمارات يصير حجّة معيّنةً لإحدى الصلاتين .

إلاّ أن يقال : إن الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي إتيانها لانَفيَ غيرها ، فالصلاة الأُخرى حكمُها حُكم السورة في عدم جواز اتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير

-------------------

( كما إذا تردد الواجب بين القصر والاتمام ) وذلك في المسافر من مَحَلّ الاقامة الى مادون أربعة فراسخ ، فانّه يتردد بين أن يبقى على تمامه ، أو يقصر ( و دلّ على أحدهما ) من القصر أو التمام ( أمارة من الامارات التي يعلم إجمالاً بوجوب العمل ببعضها ) بأن كانت هناك أمارات يعلم المكلّف بأنّه يجب العمل ببعض هذه الأمارات : كالاجماع المنقول ، والشهرة والأولوية ، وما أشبه ، وإحدى هذه الأمارات دلّت على القصر - مثلاً - .

( فانّه إذا قلنا : بوجوب العمل بهذه الأمارات ) من باب الاحتياط في المسألة الاصولية ( يصير ) هذا الواجب العمل به من الأمارة ( حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين ) فلا مجال للاحتياط بإتيان الصلاتين حينئذ ، لأنّ الشك قد إرتفع بسبب الأمارة .

( إلاّ أن يقال : ) لبقاء الاحتياط في الفرع المذكور ( ان الاحتياط في المسألة الاصولية ، إنّما يقتضي إتيانها ) أي : إتيان الصلاة التي دلّت الامارة عليها ( لانفي غيرها ) كصلاة التمام في الفرع المذكور ( فالصلاة الاُخرى ) كالتمام في فرعنا ( حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب ) كما تقدّم ( فلاينافي وجوب إتيانها لإحتمال الوجوب ، فيصير

ص: 272

نظيرَ مانَحنُ فيه .

وأمّا الثاني : وهو موردُ المعارضة - فهو كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها اماراتٌ نعلمُ إجمالاً بحجّية إحداها ، فانّ مقتضى هذا وجوبُ الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك تركُ الجميع ، فافهم .

-------------------

نظير مانحن فيه ) أي : تصير مسألة السورة فيما تقدّم ، نظير مانحن فيه من مسألة القصر والتمام .

( وأمّا الثاني : وهو مورد المعارضة ) بين المسألة الأُصولية والمسألة الفرعية ( فهو كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء من بين أشياء ودلّت على وجوب كل منها امارات نعمل إجمالاً بحجّية إحداها ) مثلاً : دلّ الاجماع على وجوب صلاة الجمعة ، والأولوية على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال والشهرة على وجوب جَلَسَة الاستراحة ، لكن دلّ دليل على حرمة إحدى المذكورات ( فان مقتضى هذا ) العلم الاجمالي بالوجوب في المثال المذكور ( وجوب الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك ) العلم بالحرمة ( ترك الجميع ) إحتياطاً .

( فافهم ) لعله إشارة الى انّه لافرق بين مسألتي السورة والقصر والتمام ، فمسألة القصر والتمام نظير مسألة السورة ، وعليه فكلتا المسألتين من وادٍ واحد ، فان القائل بوجوب الاحتياط عند الشك في الأجزاء والشرائط إنّما يقول مع الشك في السورة .

مثلاً : إنّ التكليف بالصلاة في الجملة ثابت والشك إنّما هو في المكلَّف به وهو إن الصلاة هل هي مركَبة من تسعةِ أجزاء أو من عشرة أجزاء ؟ والقصر والتمام من هذا القبيل لأنّ التكليف ثابت ، وإنّما المكلَّف به لايعلم إنّه قصر أو تمام .

ص: 273

وأمّا دعوى « أنّه إذا ثبت وجوبُ العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العملُ به في مقابل الاحتياط للاجماع المركّب » ، فقد عرفتَ شناعته .

فان قلت :

-------------------

وإن قلت : الظّن الاصولي يقدَّم على المسألة الفرعية الاحتياطية ، لأنه كما يقدّم الظّن على البرائة والتخيير ، والاستصحاب ، كذلك يقدّم على الاحتياط ، وعليه فما تقدّم ممّا قَرعَ سمعنا هو الصحيح ، وقول المصنّف : فليس في مثل المقام ، غير تام .

قلت : ( وأمّا دعوى : انّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول ) العملية : كالبرائة ، والتخيير ، والاستصحاب ( وَجَبَ العمل به ) أي : بالظنّ ( في مقابل الاحتياط ) أيضاً ( للاجماع المركّب ) بأنّه إما يجب الاحتياط مطلقاً ، وإما لايجب مطلقاً .

( فقد عرفت شناعته ) في آخر التنبيه السابق ، وكذا فيما أورده ثانياً على المعمم الثاني ، وذلك لعدم وجود علّة الحكم فسحبه في غير مورد العلّة غير صحيح ، لأنّه لا علّة للحكم بالتقديم في الاحتياط .

بل لو إدعى الاجماع : على أن كلّ من حكم بالتقديم في مقابل غير الاحتياط من الاصول ، لعلّه غير مطردة في مقابل الاحتياط ، لم يحكم بالتقديم في مقابله ، كان في محله كما نص على ذلك المصنّف السابق .

( فان قلت ) مقتضى كلامكم : إنّا نعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية كالقصر والتمام حسب ماذكرتم ، وأيضاً نعمل بالاحتياط في الظّن في المسألة الاصولية حسب ماتقدّم ، وهذا جمع بين الاحتياطين وهو موجب للعُسر .

ص: 274

إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط لزم العُسرُ والحَرج ، إذ يجمع حينئذٍ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب مع كونه مطابقاً للاحتياط اللازم . فاذا فرض لزومُ العُسر من مراعاة الاحتياطين معاً في الفقه تعيّن رفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ .

فاذا فرضنا هذا الظنُّ مجملاً لزم العمل بكل ظنّ ممّا يقتضي الظنّ بالتكليف إحتياطاً ، وامّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيُعمَلُ بها فراراً عن لزوم العُسر .

-------------------

وذلك لأنّا ( اذا عملنا في مقابل الاحتياط بكل ظنّ يقتضي التكليف ) في المسألة الاصولية ( وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط ) في المسألة الفرعية ( لزم العُسر والحَرج ، إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب ، وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب ، مع كونه ) أي : الوجوب ( مطابقاً للاحتياط اللازم ) أي : مع كون الوجوب في كلّ من مشكوك الوجوب ، وموهوم الوجوب مطابقاً للاحتياط اللازم .

( فاذا فرض لزوم العُسر من مراعاة الاحتياطين ) الاحتياط في الظنّ الموافق له ، والظنّ المخالف له ( معاً في الفقه ) متعلق بالعُسر بمعنى : لزوم العُسر في الفقه ( تعيّن رفعه ) أي : رفع العُسر ( بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظّن ) فارتفع الاحتياط في الظنّ المخالف له ، أي : موهوم الوجوب .

( فاذا فرضنا هذا الظنّ مجملاً ) لإقتضاء دليل الانسداد : الاهمال ( لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضي الظّن بالتكليف إحتياطاً ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم ، فيعمل بها فراراً عن لزوم العُسر ) .

ص: 275

قلت : رفعُ العُسر يمكنُ بالعمل ببعضها ، فما المعمِّم ؟ فيرجع الأمرُ إلى أنّ قاعدة الاشتغال لاينفع ولا يتم في الظنون المخالفة للاحتياط ، لأنّك عرفت أنّه لايثبت وجوب التسرّي إليها فضلاً عن التَعميم فيها ، لأنّ التَسرّي إليها كان للزوم العُسر ، فافهم .

-------------------

والحاصل : ان المعمِّم قال : بأن الظّن مطلقاً حجّة في مظنون الاعتبار ومشكوكه ، وموهومه ، والشيخ أورد عليه : بأنّه ربّما يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، فلا تعميم في حجّة الظّن .

وفي « إن قلت » قال : بأنّه لايمكن العمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، لأنّه يلزم العُسر من الجمع بين الاحتياطين : الاحتياط في المسألة الاصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية فأجاب عنه بقوله :

( قلت : رفع العُسر يمكن بالعمل ببعضها ) أي : ببعض الظنون المخالفة للاحتياط اللازم ( فما المعمِّم ) للظنّ ؟ .

إذن : ( فيرجع الأمر الى أن قاعدة الاشتغال ) أي : المعممة لكل الظنون (لا ينفع ولايتمّ في الظّنون المخالفة للاحتياط ) في المسألة الفرعية ، فان الاحتياط في المسألة الفرعية يمنع عن الاحتياط في المسألة الاصولية بتعميم قاعدة الاشتغال ( لأنّك عرفت : إنّه لايثبت وجوب التسرّي إليها ) أي : الى الظنون المخالفة للاحتياط ( فضلاً عن التعميم فيها ، لأن التسرّي إليها كان للزوم العُسر ) لا لقاعدة الاشتغال .

( فافهم ) لعلّه إشارة الى إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعية ، لأن المسألة الاصولية رافعة للشكّ الذي هو موضوع للاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد تقدّم ذلك من المصنّف .

ص: 276

هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّنّ في الجملة .

وقد عَرفتَ أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وقد عرفتُ أيضاً ماينبغي سلوكه على تقدير تماميّته من وجوب إعتبار المتيقن حقيقةً أو بالاضافة ، ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمِّم الأوّل من المعممّات الثلاثة .

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومةَ العقل - بوجوب الاطاعة الظنيّة والفرار عن المخالفة الظنيّة

-------------------

( هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد ، على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّن في الجملة ) ممّا تكون النتيجة مهملة ، فيحتاج الأمر الى التعميم ، وقد ذكرنا ثلاث معمّمات لتعميميّ النتيجة وتكلمنا حول كل واحد منها بإسهاب .

( وقد عرفت أن التحقيق خلاف هذا التقرير ) أي : خلاف تقرير الكشف ، وإنّ الصحيح هو الحكومة .

( وقد عرفت أيضاً : ماينبغي سلوكه على تقدير تماميته ) أي : تمامية هذا التقرير الكشفي : ( من وجوب إعتبار المتيقن حقيقة ، أو بالاضافة ) أي : المتيقن فالمتيقن ( ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار ، بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة ) وإنّه إن كفى مظنون الاعتبار فهو ، وإلاّ أخذ من غيره .

( وأمّا على تقدير تقريرها ) أي : تقرير مقدّمات الانسداد ( على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الاطاعة الظنّية ) الذي قويناه نحن ، فانّه يجب بحكم العقل : الاطاعة الظنيّة ( والفرار عن المخالفة الظنية ) بأن لانخالف مانظنه حكماً

ص: 277

وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك - كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك - فالتعميمُ وعدمُه لايتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ، لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصودُ الانكشافَ الظنّي بين الأسباب المحصّلة له .

كما لا فرق فيما إذا كان المقصودُ الانكشافَ الجزميَّ بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ

-------------------

( وانّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك ) أي : من الموافقة الظنية ( كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ) بأن لا يعمل بالظنّ .

وعليه : ( فالتعميم ) في النتيجة لكل الظنون ( وعدمه ) أي : عدم التعميم ( لايتصور بالنسبة إلى الأسباب ) أي : اسباب الظنون ، فان الظّن قد يحصل من الخبر ، أو من ظاهر الآية ، أو من الاجماع المنقول أو المحصل ، أو السيرة ، أو الأولوية ، أو غيرها ، فكل الأسباب المؤدية الى الظّن لا فرق فيها ( لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنيّ بين الأسباب المحصّلة له ) للانكشاف الظني .

وقوله : « بين الاسباب » متعلق : « بعدم الفرق » فان منظور العقل في حال الانسداد : الظّن ، فالظّن من أي سبب حصل يكون حجّة .

( كما لافرق فيما إذا كان المقصود : الانكشاف الجزميّ ) بالعلم ( بين أسبابه ) أي : بين أسباب الانكشاف في حال العلم ، فكما ان العلم إذا حصل للانسان في حال الانفتاح لا فرق عنده بين أسباب العلم ، كذلك إذا حصل له الظنّ في حال الانسداد لا فرق عنده بين أسباب الظنّ .

( وإنّما يتصور ) التعميم وعدمه على الحكومة ( من حيث مرتبة الظّن

ص: 278

ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّرُ عرفاً .

بيانُ ذلك : أنّ الثابتَ من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيليّ هو وجوبُ الامتثال الاجماليّ بالاحتياط في إتيان كلّ مايحتمل الوجوب ، وترك كلّ مايحتمل الحرمة .

لكنّ المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت وجوبه على وجه الموجبة الكلّية بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط

-------------------

ووجوب الاقتصار على الظّن القوي الذي يرتفع معه التحيّر عرفاً ) فمع كفاية الظّن القوي بمعظم الفقه ، يعمل بالظّن القوي ويترك الظّن الضعيف .

( بيان ذلك ) أي : إن التعميم وعدمه يتصور بالنسبة الى مرتبة الظنّ على الحكومة ( انّ الثابت من مقدمتي بقاء التكليف ، وعدم التمكّن من العلم التفصيلي ) حيث هما مقدمتان للانسداد ، فمقدمة تقول : ان التكليف باق الى يومنا هذا ، ومقدمة تقول : إنّا لا نتمكن من العلم التفصيلي .

فالثابت من هاتين المقدمتين ( هو : وجوب الامتثال الاجمالي بالاحتياط في إتيان كل مايحتمل الوجوب ، وترك كل مايحتمل الحرمة ) فان العقل يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي حتى يعلم الانسان ببرائة ذمته من التكليف الذي كلّفه به المولى .

هذا ( لكن المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط ) حيث إن الاحتياط يوجب العُسر والحرج ( إنّما أبطلت وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( على وجه الموجبة الكلية ) .

ومعنى إبطاله على وجه الموجبة الكلية : ( بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط ) فانّه لما كان عسرةً أو حرجاً ، لم يلزم العمل بالاحتياط الى حدّ العُسر

ص: 279

أو يرجع إلى الأصل كذلك .

ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكلّية لايستلزم صدق السالبة الكلّية .

وحينئذٍ : فلا يثبتُ من ذلك إلاّ وجوبُ العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة .

-------------------

والحَرج ، أما العمل بالاحتياط في جملة من الأطراف بحيث لايصل الى العُسر والحَرج ، فالمقدمة الثالثة لم تبطل مثل هذا الاحتياط .

( أو يرجع الى الأصل كذلك ) أي : بأن يرجع الى الأصل في كل واقعة من الوقائع المحتملة ، فانّ ذلك أيضاً باطل على وجه الموجبة الكلية ، لأنّ ذلك يوجب الخروج عن الدّين ، أما الرجوع الى الأصول بمقدار لايستلزم الخروج عن الدّين فلم تدّل المقدمة الثالثة على بطلان ذلك .

( ومن المعلوم : انّ إبطال الموجبة الكلية لايستلزم صدق السالبة الكليّة ) لأن إبطال الموجبة الكلّية قد يصدق مع السالبة الكلّية وقد يصدق مع السالبة الجزئية ، فاذا قلنا - مثلاً - ليس كل انسان بعاقل ، لم يكن معناه : كلّ إنسان مجنون مطلقاً ، بل معناه : بعض الانسان مجنون ، وقد يكون معناه كلياً ، كقوله سبحانه : « إنَّ اللّه ُ لايُحبُ كُلَّ مُختالٍ فَخُورٍ » (1) أي : ان يُحب كل واحد واحد منهم .

( وحينئذ ) أي : حين لم يستلزم إبطال الموجبة الكلية صدق السالبة الكلية ( فلايثبت من ذلك ) أي : من إبطال الموجبة الكلية ( إلاّ وجوب العمل بالظّن على خلاف الاحتياط و ) على خلاف ( الأُصول في الجملة ) أي : يعمل بالظّن على خلاف الاحتياط فيما يكون الاحتياط موجباً للعُسر والحَرج ، ويعمل بالظّن

ص: 280


1- - سورة لقمان : الآية 18 .

ثم إنّ العقل حاكمُ بأنّ الظنّ القويّ الاطمئناني أقربُ إلى العلم عند تَعذّره ، وإنّه إذا لم يمكن القطعُ باطاعةِ مراد الشارع وترك مايكرهه وجب تحصيلُ ذلك بالظنّ الأقرب الى العلم .

وحينئذٍ : فكلّ واقعة تقتضي الاحتياط الخاصّ بنفس المسألة أو الاحتياط العامَّ من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطعُ بتحقّق التكليف فيها

-------------------

على خلاف الاصول فيما يكون الاصول موجباً للخروج عن الدّين ، فيكون قد عمل بالظّن في الجملة .

( ثمّ إنّ العقل حاكم : بأنّ الظنّ القوي الاطمئناني أقرب الى العلم عند تعذّره ) أي : تعذر العلم فانّه حيث لم يلزم العمل بكلّ الظنون ، فاللازم بحكم العقل أن يعمل بالظّن القوي الاطمئناني ( وانّه إذا لم يمكن القطع باطاعة مراد الشارع وترك مايكرهه ) الشارع ( وجب تحصيل ذلك ) أي : مراد الشارع ( بالظّن الأقرب الى العلم ) لا كلّ ظنّ .

( وحينئذ ) أي : حين وجوب تحصيل الظّن الأقرب لا كلّ ظنّ تنقسم الوقائع الى ثلاثة أقسام : القسم الأول : ما أشار اليه بقوله : ( فكلّ واقعة تقتضي ) تلك الواقعة ( الاحتياط الخاص ) المرتبط ( بنفس المسألة ) لأنّه من الشّك في المكلّف به ( أو الاحتياط العام من جهة كونها ) أي : تلك الواقعة ( إحدى المسائل التي نقطع بتحقق التكليف فيها ) أي : في تلك المسائل ، وذلك من جهة الانسداد .

والحاصل : مايقتضي الاحتياط سواء كان إحتياطاً خاصاً لأنّه من شك في المكلّف به أو إحتياطاً عاماً لأنّه أحد أطراف العلم الاجمالي من أول الفقه الى آخر

ص: 281

إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنيّة توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع ، تركنا الاحتياط وأخذنا بها .

وكلُّ واقعةٍ ليست فيها أمارةٌ كذلك نعملُ فيها بالاحتياط ، سواء لم يوجد أمارةٌ أصلاً كالوقائع المشكوكة أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان .

وكلُّ واقعة لم يمكن فيها الاحتياط تعيّن التخييرُ في الأوّل والعملُ بالظنّ في الثاني

-------------------

الفقه ( ان قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ) و « أمارة : » فاعل « قام » ( ظنّية توجب ) أي : تلك الأمارة ( الاطمئنان بمطابقة الواقع ، تركنا الاحتياط وأخذنا بها ) أي : بتلك الأمارة الظنية .

والحاصل : ان كلّ واقعة تقتضي الاحتياط خاصاً ، أو عاماً إن قام على خلاف الاحتياط دليل ، تركنا الاحتياط وأخذنا بذلك الدليل .

الثاني : ( وكلّ واقعة ليست فيها أمارة كذلك ) أي : توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع ( نعمل فيها ) أي في تلك الواقعة ( بالاحتياط ، سواء لم يوجد أمارة اصلاً ، كالوقائع المشكوكة ، أو كانت ) الامارة ( ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان ) .

الثالث : ( وكلّ واقعة لم يمكن فيها الاحتياط ، تعيّن التخيير . في الأوّل ) ، والمرادُ : ب- « الأول » : قوله : « لم يوجد أمارة أصلاً كالوقائع المشكوكة » ( والعمل بالظّن في الثاني ) والمراد ب- « الثاني » قوله : « أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان » .

والحاصل : انّه ان كان الواجب : العمل بالظّن الأقرب كان المورد على ثلاثة أقسام : الأوّل : ان يكون هناك على خلاف الظّن أمارة وفي هذا يعمل بالأمارة .

الثاني : ان يكون بدون أمارة لكن يمكن الاحتياط ، وفي هذا يعمل بالاحتياط .

ص: 282

وإن كان في غاية الضَعف ، لأنّ الموافقة الظنّية أولى من غيرها .

والمفروضُ عدمُ جريان البراءة والاستصحاب ، لانتقاضهما بالعلم الاجماليّ . فلم يبق من الأصول إلاّ التخييرُ ، ومحلّهُ عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلاّ فيؤخذ بالراجح .

ونتيجةُ هذا هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظنّ الغير الاطمئناني إن أمكن وإلاّ فبالاُصول والعملُ بالظنّ في الوقائع

-------------------

الثالث : مالايمكن الاحتياط ايضاً ، فاذا تساوى الطرفان ، كان التخيير ، وان كان هناك ظنّ عمل بالظّن ( وان كان ) ذلك الظّن ( في غاية الضعف ) .

وإنّما يعمل بالظّن الضعيف ( لأنّ الموافقة الظنيّة أولى من غيرها ) والعقل يحكم : بأنّ الظّن مقدّم على الوهم والشك .

( و ) إن قلت : لماذا تعملون بالظّن ولاتجرون البرائة أو الاستصحاب ؟ .

قلت : ( المفروض : عدم جريان البرائة والاستصحاب ، لإنتقاضهما بالعلم الاجمالي ) فانّ أطراف العلم الاجمالي لايجري فيها البرائة ولا الاستصحاب - كما قرّر في محلّهما - .

إذن : ( فلم يبق من الاصول إلاّ التخيير ) بأن يخيَّر الانسان بين هذا الطرف وذاك الطرف ( ومحلّه ) أي : محل التخيير ( عدم رجحان أحد الاحتمالين ) وهو الشك البحت ( وإلاّ فيؤخذ بالرّاجح ) ولو كان ضعيفاً جداً - كما ذكرناه - .

( ونتيجة هذا ) الذي ذكرناه من الأقسام الثلاثة ( هو : الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظّن غير الاطمئناني إن أمكن ) الاحتياط ( وإلاّ ) بأن لم يمكن الاحتياط ( فبالأصول ) أي : لابّد من العمل بالاُصول ( والعمل بالظّن في الوقائع

ص: 283

المظنونة بالظنّ الاطمئناني .

فاذا عمل المكلّف قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة الغير الواجب على المكلّف من جهة العُسر إلاّ إلى الموافقة الاطمئنانيّة ، فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظنّ الاطمئنانيّ بها .

وإمّا موردُ التخيير ، فالعملُ فيه على الظنّ الموجود في المسألة وإن كان ضعيفاً فهو خارجَ عن الكلام ، لأنّ العقلَ لا يحكمُ فيه بالاحتياط حتّى يكون التنزّل منه إلى شيء آخر ، بل التخييرُ أو العملُ بالظنّ

-------------------

المظنونة بالظنّ الاطمئناني ) « والعمل » : عطف على : « الاحتياط » ، فيكون نتيجة ما اخترناه هو : الاحتياط عند الشك والظّن غير الاطمئناني ، والعمل بالظّن الاطمئناني .

( فاذا عمل المكلّف ) بما ذكرناه من الأمرين : الاحتياط والظّن الاطمئناني ( قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة غير الواجب على المكلّف ) و « غير » : صفة الموافقة و « على المكلّف » : متعلق ب- « الواجب » وذلك ( من جهة العُسر ) وهو متعلق بقوله « غير الواجب » بمعنى : انّه ليس بواجب لأنّه عُسر .

وعليه : فتركه للموافقة القطعية ليس ( إلاّ الى الموافقة الاطمئنانية ) أي : لم يترك القطع بالموافقة ، الاّ الى الموافقة الاطمئنانية ( فيكون مدار العمل : على العلم بالبرائة ، والظّن الاطمئناني بها ) أي بالبرائة .

( وأمّا مورد التخيير ، فالعمل فيه على الظّن الموجود في المسألة وإن كان ضعيفاً فهو خارج عن الكلام ) .

وإنّما كان خارجاً عن الكلام ( لأنّ العقل لايحكم فيه بالاحتياط حتى يكون التنزّل منه ) أي : من الاحتياط ( الى شيء آخر ، بل التخيير أو العمل بالظّن

ص: 284

الموجود تنزّل من العلم التفصيليّ إليهما بلا واسطة .

وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه في مورد الانسداد على الظنّ الاطمئناني ومطلق الظنّ والتخيير ، كلٌّ في مورد خاصّ ، وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقلّ .

-------------------

الموجود ، تنزّل من العلم التفصيلي إليهما بلا واسطة ) فانّه ليس تنزلاً من العلم التفصيلي الى العلم الاجمالي ، ثم منه الى غيره .

وإنّما لايكون تنزل بواسطة ، لأن العقل فيما لايمكن فيه الاحتياط ، لايحكم بتحصيل العلم الاجمالي بالبرائة فيه كما يلغى وجوبه بالاجماع ، ثم يتنزل منه الى غيره ، بل العقل يتنزل راساً من العلم التفصيلي اليهما .

( وان شئت قلت : ) في نتيجة الأقسام الثلاثة التي ذكرناها : ( ان العمل في الفقه في موارد الانسداد ) لباب العلم يكون كالتالي :

أولاً : ( على الظّن الاطمئناني ، و ) هو المسمى : بالعلم العرفي .

ثانياً : على ( مطلق الظنّ ، و ) لو كان غير إطمئناني ، بل ولو كان في غاية الضعف .

ثالثاً : على ( التخيير ) وذلك ( كلّ فيمورد خاص ) على ماعرفت .

( وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقل ) لأن العقل يرى وجوب العمل بالاطمئنان إذا لم يكن علم ، فاذا لم يكن إطمئنان يرى العمل بالظنّ لأنّه أرجح ، فاذا لم يكن ظنّ يرى التخيير .

وهناك رابع لم يذكره المصنّف وهو الاحتياط فانّه قد يكون التكليف العقلي هو الاحتياط دون الثلاثة التي ذكرها .

ص: 285

وقد سَبَقَ لذلك مثالٌ في الخارج : وهو ما إذا عَلمنا بوجود شِياةٍ محرّمةٍ في قطيع ، وكان أقسامُ القطيع بحسب إحتمال كونها مصداقاً للمحرّمات خمسةً ، قسمٌ منها يظنّ كونها مُحَرَّمة بالظنّ القوي الاطمئناني ، لا أن المحرَّم مُنحَصرٌ فيه ، وقسم منها يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشك والتحيّر ،

-------------------

( وقد سَبَقَ لذلك ) أي للظّن الانسدادي ( مثال في الخارج وهو : ماإذا علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع ) والمصنّف إنّما مَثّلَ بهذا المثال لإفادة أنّه كما أنّ العمل بالظّن في هذا المثال ليس لأجل الانسداد ، بل لما يذكره فيما بعد : من انّه تبعيض في الاحتياط تخلّصاً من العُسر والحَرج ، كذلك يكون مانحن فيه من العمل في الفقه .

( و ) حاصل المثال : إنّه إذا ( كان أقسام القطيع بحسب إحتمال كونها مصداقاً للمحرّمات خمسة ) فانّ هذا التقسيم الخماسي أمر طبيعي إذ هناك الظنّ القوي ، والظّن الضعيف ، وفي مقابلهما : الوَهم الضعيف ، والوَهم القوي .

والخامس : الشك حيث لاترجيح لجانب إطلاقاً .

ف- ( قسم منها : يظنّ كونها محرّمة بالظّن القويّ الاطمئناني لا أن المحرَّم منحصرٌ فيه ) لأنّه إذا كان المحرم منحصراً في هذا القسم بهذا الظّن لايكون في قِباله إلاّ قسم واحد ، وهو : الوَهم الضعيف فقط ، فلا تتحقق الأقسام الأربعة الباقية كلها .

( وقسم منها : يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشك والتحيّر ) أي : بظنّ أقل قوة من القسم الأوّل ، فاذا كان القسم الأول - مثلاً - تسعين في المائة ، فهذا القسم يكون ثمانين في المائة .

ص: 286

وثالث يشكّ في كونها محرّمة ، وقسمُ منها في مقابل الظنّ الأوّل ، وقسمٌ منها موهوماً في مقابل الظنّ الثاني .

ثم فرضنا في المشكوكات ، وهذا القسمُ من الموهومات مايحتمل ان يكون واجب الارتكاب . وحينئذٍ فمقتضى الاحتياط وجوبُ إجتناب الجميع ممّا لايحتمل الوجوب .

فاذا إنتفى وجوبُ الاحتياط لأجل العُسر واحتيج إلى إرتكاب موهوم الحرمة كان إرتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئناني أولى من الكلّ ، فيبني على العمل به ،

-------------------

( وثالث : يشك في كونها محرّمة ) أم لا ؟ وهذا القسم المتوسط بين الظنيّن : القوي والضعيف ، والوهمين : الضعيف والقوي .

( وقسم منها : في مقابل الظنّ الأوّل ) فيكون وَهماً ضعيفاً .

( وقسم منها موهوماً في مقابل الظّن الثاني ) فيكون وهماً قوياً فهذه أقسام خمسة .

( ثمّ فرضنا في المشكوكات ، وهذا القسم من الموهومات ) أي : في قسمين من هذه الأقسام الخمسة ( مايحتمل أن يكون واجب الارتكاب ) لنذر أو نحوه ( وحينئذٍ : فمقتضى الاحتياط ) العقلي في إطاعة أمر المولى ( وجوب إجتناب الجميع ممّا لايحتمل الوجوب ) بأن يحتاط في الأقسام الثلاثة أيضاً .

( فاذا إنتفى وجوب الاحتياط لأجل العُسر ، واحتيج الى إرتكاب موهوم الحرمة ، كان إرتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئناني أولى من الكلّ ) لأنّه مظنون الاباحة بالظّن الاطمئناني ( فيبني على العمل به ) أي : بالموهوم الذي هو في مقابل الظنّ القوي .

ص: 287

ويتخيّر في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ، ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه .

لكنّك خبيرٌ بأنّ هذا ليس من حجّية مطلق الظنّ ولا الظنّ الاطمئنانيّ في شيء ، لأنّ معنى حجّيته ان يكون دليلاً في الفقه ، بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد الخلوِّ عنه بمقتضى الأصل الذي يقتضيه .

-------------------

كما ( ويتخير في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ) والحرمة ، لأنّ الطرفين متساويان فيه ، فإنّه لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، كان من دوران الأمر بين المحذورين ممّا لايمكن الاحتياط فيه ، ولا مرجّح لأحد الطرفين على الآخر ، فيتخيّر في المشكوك بين أن يأتي به أَو لا يأتي به .

هذا ( ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه ) أي : من محتمل الوجوب ، فصارت المحتملات من حيث العمل على ثلاثة أقسام : لازم الاحتياط ، مخير بين الاتيان وعدمه ، راجع الارتكاب .

( لكنّك خبير بأن هذا ) الذي ذكرناه من الأقسام الثلاثة في العمل ( ليس من حجّية مطلق الظّن ، ولا الظّن الاطمئناني في شيء ) فان الدليل الذي ذكرناه لايدل على إنّه يجب العمل بالظّن الاطمئناني ولا إنّه يجب العمل بمطلق الظنّ .

وإنّما لم يكن من حجّية مطلق الظّن ، ولا الظّن الاطمئناني ( لأن معنى حجّيته ) أي حجّية الظنّ ( أن يكون دليلاً في الفقه بحيث يرجع في موارد وجوده اليه ، لا إلى غيره ) والضمائر في : « وجوده » ، و « اليه » و « غيره » ، كلها يعود الى « الدليل » ( وفي موارد الخلوّ عنه ) أي : عن هذا الدليل يرجع ( بمقتضى الأصل الذي يقتضيه ) ذلك المورد .

ص: 288

والظنُّ هنا ليس كذلك ، إذ العملُ ، إمّا في مَوارِدِ وُجُودِهِ ، فيما طابق منه الاحتياط فالعملُ على الاحتياط ، لا عليه ، إذ لايدلّ على ذلك مقدّماتُ الانسداد ، وفيما خالف الاحتياط لايُعوّلُ عليه إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العُسر ، وإلاّ فلو فرض فيه جهة أخرى لم يكن معتبراً

-------------------

هذا ( و ) لكن ( الظّن هنا ) في الأقسام الخمسة ( ليس كذلك ) بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا الى غيره ، وفي موارد الخلوّ عنه الى مقتضى الأصل الذي يقتضيه .

وعليه ، فقد ظَهر ممّا ذكرناه من المثال ما يلي :

أولاً : إنّ الظّن الذي يلزم العمل به بعد الانسداد ليس هو كل الظنون .

ثانياً : إنّه ليس العمل بهذا البعض من الظنون من باب الانسداد ، بلّ من باب التبعيض في الاحتياط دفعاً للحَرج كما قال : ( إذ العمل امّا في موارد وجوده ) أي وجود الظنّ ( فيما طابق منه الاحتياط ) بأن كان الظنّ مطابقاً للاحتياط ( فالعمل ) يكون ( على الاحتياط ، لا عليه ) أي : لا على هذا الظنّ .

وإنّما يقتضي الاحتياط العمل به ( إذ لايدلّ على ذلك ) أي : على هذا الظّن ( مقدّمات الانسداد ) فانّه سواء كانت المقدمات أو لم تكن المقدمات ، فالاحتياط يقتضي العمل على هذا الظّن .

( وفيما خالف الاحتياط لايُعوّل عليه ) أي : على هذا الظنّ ( إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العُسر ) بمعنى إنا نترك الاحتياط لأنّه عُسر ، لا لأنّ الظنّ على خلافه .

( وإلاّ فلو فرض فيه جهة أُخرى ) بأن كان ذا ثلاث جهات ( لم يكن معتبراً

ص: 289

من تلك الجهة ، كما لو دار الأمرُ بين شرطيّة شيء وإباحته وإستحبابه فظنّ باستحبابه ، فانّه لايدل مقدّماتُ دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء والأخذ بالظنّ في عدم وجوبه لا في إثبات إستحبابه .

وإمّا في مواردِ عَدَمِه ، وهو الشك ، فلايجوز العملُ إلاّ بالاحتياط الكليّ الحاصل من احتمال كون الواقعة عن موارد التكليف المعلومة إجمالاً وإن كان لايقتضيه نفسُ المسألة .

-------------------

من تلك الجهة كما لو دار الأَمر بين شرطية شيء ، وإباحته ، وإستحبابه ، فظنّ باستحبابه ، فانّه لايدّل مقدّمات دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء ، والأخذِ بالظّن في عدم وجوبه ) « والأخذ : » مبتدأ ، وخبره : « في عدم » .

( لا في إثبات إستحبابه ) أي : انّ مقدمات دليل الانسداد لا يثبت إستحبابه والحال انّه لو كان الظّن حجّة ، لكان اللازم نفي الأمرين الآخرين ، كما إذا كان مكان هذا الظنّ ، الخبر الذي هو حجّة ، حيث انّه يثبت مظنونه وينفي ماعداه .

( وأمّا في موارد عدمه ) أي : عدم الظّن ، بأن لم يكن المكلّف ظانّاً بل كان شاكاً ، وقوله : « وأما في موارد عدمه » ، عطف على ماذكره قبل أسطر من قوله : « إذ العمل في موارد وجوده » .

( وهو الشك ) وهذا بيان لموارد عدم الظنّ ( فلايجوز العمل إلاّ بالاحتياط الكليّ ، الحاصل من إحتمال كون الواقعة عن موارد التكليف المعلومة إجمالاً ) من أول الفقه الى آخر الفقه فانّنا إنّما نعمل بالاحتياط في المشكوكات من جهة العلم الاجمالي ( وإن كان لايقتضيه نفس المسألة ) الخاصة .

ص: 290

كما إذا شكّ في حرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ، بل العملُ على هذا الوجه تبعيضٌ في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعاً للحرج ، ثمّ يعيّن العقلُ للطرح البعضَ الذي يكون وجودُ التكليف فيها إحتمالاً

-------------------

( كما إذا شك في حرمة عَصير التمر ، أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ) أي : شك في هذا وحده ، أو شك في ذاك وحده ، وليس المراد بالعلم الاجمالي بحرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال ، فانّه إذا كان الشك في حرمة العصير - مثلاً - كان مقتضى البرائة إنّه لا حرمة فيه ، لكن حيث العلم الاجمالي الكلي من أول الفقه الى آخر الفقه وجب علينا أن نعمل بكل محتمل الوجوب بالاتيان به وبكل محتمل الحرمة بتركه .

وعليه : فانّه يحتاط بترك عصير التمر ، وبوجوب الاستقبال بالمحتضر لا انّه يتمكن من إجراء البرائة فيهما ، فيشرب ويترك إستقبال المحتضر .

ومن المعلوم انّه لو كان الظّن حجّة ولم يكن في الموردين ظنّ ، كان مجرى للبرائة بينما الآن وليس الظّن حجّة ، لزم العمل بالاحتياط في حرمة العصير فيجتنبه ، ووجوب الاستقبال فيأتي به .

وعلى أي حال : فليس العمل به من باب الانسداد ( بل العمل على هذا الوجه ) بالظّن فيما ذكره المصنّف بقوله : « أما » « وأمّا » ( تبعيض في الاحتياط وطرحه ) أي : طرح الاحتياط ( في بعض الموارد دفعاً للحَرج ) وليس العمل بالظّن من باب إن الظّن حجّة ، بل من باب الانسداد .

( ثمّ ) إذا صار القرار على العمل بالظّن وطرح الاحتياط في موارد العُسر والحَرج ( يعيّن العقل للطرح : البعض الذي يكون وجود التكليف فيها إحتمالاً

ص: 291

ضعيفاً في الغاية .

فان قلت : إنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّةً إلى المظنونات يوجبُ العُسرَ فضلاً عن إنضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ووجوب الرّجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل .

وهذا مساوٍ في المعنى لحجّيّة الظنّ المطلق ،

-------------------

ضعيفاً في الغاية ) فإذا دار الأمر في مورد الطرح بين طرح الظّن القوي أو الظنّ الضعيف ، نطرح الظنّ الضعيف ، لأنّ طرحه أولى - عقلاً - من طرح الظنّ القوي .

وحيث ذكر المصنّف : ان العمل إنّما هو على الاحتياط وليس على الظنّ ، أشكل عليه المستشكل بما يأتي من قوله : إن قلت : ان العمل بالتالي يكون على الظن ، فيثبت قول الانسدادي : من إن العمل في حال الانسداد يكون على الظنّ ، ولم يثبت قولكم : بأن العمل في حال الانسداد يكون على الاحتياط ، والى هذا الاشكال أشار بقوله : ( فان قلت : ان العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّةً الى المظنونات ) بالظّن القوي ، أو الظنّ الضعيف ( يوجب العُسر ، فضلاً عن إنضمام العمل به ) أي : بالاحتياط ( في الموهومات المقابلة للظّن غير القوي ) .

وحيث كان العمل بكل ذلك موجباً للعُسر ، والعُسر مرفوع ( فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ) قوياً كان أو ضعيفاً من جهة ( ووجوب الرّجوع في المشكوكات الى مقتضى الأصل ) من جهة أُخرى .

( وهذا ) التبعيض في العمل : بين الرّجوع الى الأصل ، والرجوع الى الظّن ( مساوٍ في المعنى لحجّية الظنّ المطلق ) لأن معنى حجّية الظنّ المطلق :

ص: 292

وإن كان حقيقةً تبعيضاً في الاحتياط الكلّي ، لكنّه لايقدحُ بعد عدم الفرق في العمل .

قلت : لانُسلّمُ لزومَ الحرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات بالظنّ

-------------------

إنّ الانسان يعمل بالظّن المطلق وفي غير الظنّ المطلق يعمل بالأصل ، وأَنتم الّذين ذكرتم إن ذلك مقتضى الاحتياط ذكرتم أيضاً نفس ذلك ( وإن كان حقيقة تبعيضاً في الاحتياط الكلّي ) لأن العمل على وِفق مظنونات التكليف من حيث الاحتياط ، لا من حيث إنّها مظنونات .

( لكنّه لا يقدح ) هذا التبعيض في الاحتياط لأنّه ممّا يرجع الى العمل بالظّن المطلق في غير المشكوكات ( بعد عدم الفرق في العمل ) .

وعليه : المصنّف قسّم الأمر الى أقسام خمسة : المظنونات قوياً وضعيفاً ، والموهومات قوياً وضعيفاً ، والمشكوكات ، فقال برفع اليد عن الاحتياط في واحد منها ، - وهو : الموهومات بالوهم الضعيف في مقابل الظنّ الاطمئناني بنفي التكليف - بعد لزومه العُسر لو إحتاط في الأربعة الباقية .

وقال : أيضاً : انّ ذلك لاينطبق على حجّية الظنّ لأنّه على تقدير حجّية الظنّ يكون المَرجِع في المشكوكات : الأصل ، وفي الموهومات بالوهم القوي ، يكون المرجع : الأصل المطابق للظّن بعدم التكليف ، لا الاحتياط بالعمل بالظّن بالتكليف .

وأشكل عليه في «إن قلت» : بأنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمَّة الى المظنونات يوجب العُسر فضلاً عن إنضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظّن غير القوي ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ في آخره فأجاب المصنّف عنه بقوله : ( قلت : لانسلّم لزوم الحَرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات بالظّن

ص: 293

الغير القوي في نفي التكليف فضلاَ عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات .

وذلك ، لأنّ حصول الظنّ الاطمئنانيّ غير عزيزٌ في الأخبار وغيره ، واما في غيرها فلأنّه كثيراً مّا يحصلُ الاطمئنان من الشهرة والاجماع المنقول والاستقراء والأولويّة .

وأمّا الأخبارُ ، فلأنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن ، وهو يحصل غالباً من خبر من يوثق بصدقه ولو في خصوص الرّواية

-------------------

غير القوي في نفي التكليف فضلاً عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات ) أي : موهومات عدم التكليف .

وإنّما لانسلّم ذلك ، لِما ذكره بقوله : ( وذلك لأنّ حصول الظنّ الاطمئناني غير عزيز في الأخبار ، وغيرها ) من الأدلة : كان الاجماع المنقول ، والشهرة والسيرة ، وما أشبه ( وأما في غيرها ) أي غير الأخبار ( فلأنّه كثيراً ما يحصل الاطمئنان من الشهرة ، والاجماع المنقول ، والاستقراء ، والأولويّة ) كما هو واضح ، فانّ هذه الأمور توجب إطمئنان الفقيه بالحكم غالباً .

( وأمّا الأخبار ، فلأن الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام ) أي : الظنّ الذي نريده في الأخبار ( هو الظّن بصدور المتن ) لأنّ في الخبر نحتاج الى ثلاث أُمور : المتن ، والدلالة ، وجهة الصدور ، ومعنى جهة الصدور : إنّ الخبر هل هو صادر للتقية أو لبيان حكم الواقع .

( وهو ) أي الظنّ بصدور المتن ( يحصل غالباً من خبر مَنْ يوثق بصدقه ولو في خصوص الرّواية ) لأن الانسان قد يثق بصدق إنسان مطلقاً وقد يثق بصدق

ص: 294

وإن لم يكن إماميّاً أو ثقةً على الاطلاق ، إذ ربّما يتسامح في غير الرّوايات بما لايتسامح فيها .

وأمّا إحتمالُ الارسال ، فمخالفٌ لظاهر كلام الراوي ، وهو داخلٌ في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلاً عن الاطمئنان منه .

-------------------

شخص في هذا الخبر الخاص وإن لم يكن صادقاً في سائر أخباره .

وإنّما يثق بصدقه في هذا الخبر الخاص ، لقرائن تكتنف بكلامه ( وان لم يكن ) الضمير يرجع الى : من يوثق ، أي : الراوي لم يكن ( إمامياً أو ثقة على الاطلاق ) أي : انّه ليس في كلّ إخباراته ثقة ، وإنّما يكون في هذا الخبر ثقة .

( إذ ربّما يتسامح في غير الرّوايات بما لايتسامح فيها ) كما هو شأن غالب من له تديّن في الجملة ، فانّه ينقل كل خبر عادي بدون التثبت فيه ، أما الأخبار عنهم عليهم السلام فلا ينقلها إلا عن تثبت لمكان دينه وعلمه بان الخبر عنهم عليهم السلام إذا لم يكن مورد الاطمئنان يكون ورائه العقاب .

( و ) إن قلت : كيف يطمئن بصدور المتن وفي مُتون كثير من الأخبار إرسال ، والارسال يوجب عدم الظّنّ بالصدور ؟ .

قلت : ( أمّا إحتمال الارسال ) في الخبر ( فمخالف لظاهر كلام الراوي ) فانّ الظاهر من كلام الانسان الذي ينقل الخبر عن شخص هو : إنّه سمعه منه بلا واسطة ، وبدون أن يكون هناك بينه وبين المروي عنه واسطة .

( و ) من المعلوم : إنّه ( هو ) أي : هذا الظاهر الذي ذكرناه ( داخل في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظّن فضلاً عن الاطمئنان منه ) أي : من الظنّ ، فانّ الظواهر حجّة عند العقلاء سواء ظنوا أم لم يظنّوا .

ص: 295

فلو فرض عدمُ حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد ، لم يقدح في إعتبار ذلك الخبر ، لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئنانيّ هو جهةُ صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه . وأمّا أنّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظيّ لا بأسَ بعدم إفادته للظنّ ، فيكون صدورُ المتن غيرَ مظنون أصلاً ، لأنّ النتيجة تابعة لأخَسّ المقدّمتين .

-------------------

وعليه : ( فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد ) والاسناد هو مقابل الارسال ( لم يقدح ) عدم حصول الظنّ بالصدور ( في إعتبار ذلك الخبر ، لأن الجهة التي يعتبر فيها ) أي : في تلك الجهة ( إفادة الظنّ الاطمئناني هو جهة صِدق الراوي في أخباره عمّن يروي عنه ) فانّه يلزم ان نعلم بان الراوي صادق في هذا الخبر خاصة ، أو في جميع إخباراته عامة .

( وأمّا ان إخباره بلا واسطة ، فهو ظهور لفظيّ) الظّن ( لابأس بعدم إفادته للظنّ ) .

والحاصل : إنّ الظنّ يحتاج إليه في المتن لا في السَنَد ( فيكون صدور المتن غير مظنون أصلاً ) الفاء في قوله : فيكون ، تفريع على عدم إفادة الخبر للظنّ من حيث إحتمال الارسال .

وعليه : فانّا لانحتاج الى الظّن في عدم الارسال ، لأنّ ظاهره : انّه غير مرسل ، بل مُسند ( لأنّ النتيجة تابعة لأخَسّ المقدّمتين ) فإذا إحتجنا في الدلالة الى الظّن وفي عدم الارسال كُنّا لانحتاج الى الظّن لم يحتج الخبر الى الظّن بالاسناد .

ولايخفى : إنّا ناقشنا في هذه الجملة سابقاً ، وقلنا : إن النتيجة تابعة لكلتا المقدمتين : بعضاً عن هذه وبعضاً عن تلك ، فالسقف المبني على الطين ضعيف والسقف المبني على الآخر قوي والسقف المبني عليهما فيه نصف الضعف

ص: 296

وبالجملة : فدعوى « كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار وغيرها من الامارات بحيث لايحتاج إلى مادونها ولا يلزمُ من الرّجوع في الموارد الخالية عنها إلى الاُصول محذورٌ وإن كان هناك ظنون لاتبلغ مرتبة الاطمئنان » ، قريبةٌ جداً .

إلاّ أنّه يحتاج الى مزيد تتبّع في الرّوايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء .

وكيف كان : فلا أرى الظنَّ الاطمئنانيّ الحاصل من الأخبار وغيرها

-------------------

ونصف القوة ، وهكذا في سائر القياسات ، فلا يصح أن يقال : إن السقف المبني على الآخر والطين معاً تابع للطين فقط .

( وبالجملة : فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانية في الأخبار وغيرها ) الحاصلة ، تلك الظنون الاطمئنانية ( من الامارات بحيث لايحتاج الى مادونها ) أي : مادون الامارات ( ولا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها ) أي : عن الامارات ( الى الاصول ) الأربعة ( محذور وإن كان هناك ظنون لاتبلغ مرتبة الاطمئنان ) فان هذه الدعوى ( قريبة جداً ) .

وقوله : « قريبة » خبر لقوله : « فدعوى » : « محذور » فاعل لقوله : « لايلزم » .

( إلاّ انّه ) أي : حصول الظنون الاطمئنانية بالقدر الكافي بمعظم الفقه ( يحتاج الى مزيد تتبّع في الروايات وأحوال الرّواة ، وفتاوى العلماء ) والشهرات ، والسيرات ، والأولويات ، وما أشبه حتى يحصل بإستعانة ما ذكر من التتبع ، الظنون الاطمئنانية الكثيرة الوافية بمعظم الفقه .

( وكيف كان : فلا أرى الظّن الاطمئناني الحاصل من الأخبار وغيرها

ص: 297

من الأمارات أقلَّ عدداً من الأخبار المصحّحة بعدلين ، بل لعلّ هذه أكثر .

ثم إنّ الظنَّ الاطمئناني من إمارة أو امارات إذا تَعلّق بحجّية أمارة ظنيّة كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تُفده ، بناءا على ماتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق ، إلاّ أن يدّعيَ مُدّع قلّتَها بالنسبةِ الى نفسه ،

-------------------

من الأمارات ) كالإجماعات ، والشهرات ، والسيرات والأولويات ، وما أشبه ( أقل عدداً من الأخبار المصححة بعدلين ، بل لعلّ هذه أكثر ) ولهذا فالفقهاء يطمئنون غالباً بأكثر من المسائل الفقهية من هذه الأمارات التي ذكرناها وإن لم يكن في أكثرها أخبار مصححة بعدلين .

( ثمّ إنّ ) المصنّف لتتميم الاشكال على ان قلت القائل : بأن العمل بالاحتياط يوجب العُسر ، بعد أن ذكر : إنّ الظّن الاطمئناني بالأحكام يَفي بمعظم الفقه قال : إن هناك ظنّاً آخر أيضاً وهو : الظنّ بالأمارات وإن لم يستلزم الظن بالحكم وهذان الظنّان بإنضمام أحدهما الى الآخر يفيان بمعظم الفقه ، وإليه أشار بقوله : فانّ ( الظّن الاطمئناني من أمارة أو أمارات ، إذا تعلق بحجيّة أمارة ظنّية ) كما إذا ظننّا من أمارة بحجّية الأولوية ، أو الشهرة أو السيرة ، أو الاجماع المنقول ( كانت ) تلك الأمارة الظنية ( في حكم الاطمئنان ) بالحكم ( وإن لم تفده ) أي : لم تفد هذه الأمارة الظنيّة التي هي ظنّ إطمئناني - ظنّاً إطمئنانيّاً بالطريق - ظنّاً إطمئنانياً بالحكم ( بناءاً على ماتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظّن بالطريق ) في حال إنسداد باب العلم بمعظم الأحكام .

( إلاّ أن يدّعي مدّعٍ قلّتها بالنسبة الى نفسه ) أي : قلة الظنون الاطمئنانية بالنسبة الى نفس هذا المدّعي ، كما إذا إدعى صاحب القوانين ان الظنون الاطمئنانية

ص: 298

لعدم الاطمئنان له غالباً من الأمارات القويّة وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضاً .

وحينئذٍ : فيتعيّن في حقه التعدّي منه إلى مطلق الظنّ .

وأمّا العملُ في المشكوكات بما يقتضيه الأصلُ في المورد ، فلم يثبت ، بل اللازم بقاؤه على الاحتياط نظراً إلى كون المشكوكات من المحتملات التي يعلم إجمالاً بتحقّق التكليف فيها وجوباً وتحريماً .

ولا عسر في الاحتياط فيها نظراً إلى قلّة

-------------------

بالنسبة لنفسه قليلة ( لعدم الاطمئنان له ) أي : لهذا المدّعي ( غالباً من الأمارات القويّة ، وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضاً ) أي : بتلك الأمارات فلا له ظنّ بالأحكام بالقدر الكافي ، ولا يرى الظّن بالطريق حجّة .

( وحينئذ : فيتعيّن في حقّه ) أي : حق هذا المجتهد الانسدادي كصاحب القوانين في المثال ( التعدّي منه الى مطلق الظنّ ) لأنّه لم يحصل على القدر الكافي من الظنّ الاطمئناني .

( وأما العمل في المشكوكات بما يقتضيه الأصل في المورد ) أي : في كل مورد مورد ( فلم يثبت ) إذ يلزم على مثل هذا المجتهد أن يعمل في مورد المشكوكات أيضاً بالاحتياط كما قال : ( بل اللازم بقاؤه ) أي : بقاء المشكوك ( على الاحتياط ، نظراً الى كون المشكوكات من المحتملات ، التي يعلم إجمالاً بتحقّق التكليف فيها وجوباً وتحريماً ) من أول الفقه الى آخر الفقه ، فانه يلزم عليه أن يحتاط في المظنونات والمشكوكات والموهومات جميعاً ، حتى يحصل على التكليف .

( ولا عُسر في الاحتياط فيها ) أي : في المشكوكات ( نظراً الى قلة

ص: 299

المشكوكات ، لأنّ أغلب المسائل يحصل فيها الظنّ بأحد الطرفين ، كما لايخفى .

مع أنّ الفرقَ بين الاحتياط في جميعها والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها إنّما تظهرُ في الاُصول المخالفة للاحتياط .

ولا ريبَ أنّ العُسر لايحدث بالاحتياط فيها ،

-------------------

المشكوكات ،لأن أغلب المسائل يحصل فيها الظّن بأحد الطرفين كما لايخفى ) ظنّا قوياً أو ظنّاً ضعيفاً ، فالمشكوكات قليلة ، وإذا كانت قليلة لم يكن عُسر في الاحتياط فيها .

هذا ( مع ) تقريب آخر لوجه وجوب العمل بالاحتياط في المشكوكات ، وعدم لزوم العُسر من الاحتياط فيها ، فانّ الوجه الأول كان ملخصه : قلّة المشكوكات ، وهذا الوجه يقول : إنّ الاحتياط إنّما هو في الاصول النافية للتكليف لا الاصول المثبتة .

وحاصل التقريب : إن الاصول قد تكون مثبتة للتكليف ، وهذا يلزم العمل فيها بالاحتياط كإستصحاب التكليف ، وقد تكون أُصولاً نافية للتكليف كالبرائة والاستصحاب النافي للتكليف .

وذلك ( إن الفرق بين الاحتياط في جميعها ) أي : جميع المشكوكات ( والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها ) أي : موارد المشكوكات ( إنّما تظهر في الاصول المخالفة للاحتياط ) وقد مثّلنا لذلك بالاستصحاب النافي للتكليف والبرائة ، ومن الواضح : انّ التخيير ليس ممّا يوجب تكليفاً أو يدفع تكليفاً .

( ولا ريب ان العُسر لايحدث بالاحتياط فيها ) أي : في الأُصول المخالفة

ص: 300

خصوصاً مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم التَركَ ، وهو غيرُ موُجب للعُسر .

وحينئذٍ : فلا يثبت المدّعى من حجّية الظنّ وكونه دليلاً بحيث يرجع في موارد عدمه إلى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات .

والحاصلُ : انّ العملَ بالظنّ من باب الاحتياط لايخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكليّ الثابت بمقتضى العلم الاجماليّ في الوقائع .

نعم ، لو ثبت بحكم العقل أنّ الظنَّ عند إنسداد باب العلم مرجّحٌ

-------------------

للاحتياط ( خصوصاً مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم : الترك و ) الترك ( هو غير موجب للعسر ) لانّ الترك ليس عملاً حتى يوجب العُسر .

( وحينئذٍ ) أي : حين لزم العمل بالاحتياط في المشكوكات ، لقلتها ، ولما ذكرناه من قولنا : مع انّ الفرق الى آخره ( فلايثبت المدّعى من حجّية الظنّ ) مطلقاً وإنّما ثبت لزوم الاحتياط ( وكونه دليلاً ) أي : لم يثبت كون الظنّ دليلاً ( بحيث يرجع في موارد عدمه ) أي : عدم الظنّ ( الى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات ) فقط ، وأما غير المظنونات فاللازم العمل فيها بالاحتياط .

( والحاصل انّ العمل بالظّن من باب الاحتياط ، لايخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلي الثابت بمقتضى العلم الاجمالي في الوقائع ) من أول الفقه الى آخر الفقه ، والاحتياط الكلي في مقابل الاحتياط الجزئي في المكلّف به في المسائل الفرعية خاصة .

( نعم ) إستثناء من قوله . « والحاصل » ، أي : ان اللازم العمل بالاحتياط في المشكوكات ، إلاّ ( لوثبت بحكم العقل : إنّ الظّنّ عند إنسداد باب العلم مرجّح

ص: 301

في الأحكام الشرعيّة نفياً وإثباتاً ، كالعلم ، إنقلب التكليف إلى الظنّ ، وحكمنا بأنّ الشارع لايريد إلاّ الامتثال الظنّي وحيث لا ظنّ كما في المشكوكات ، فالمرجع إلى الاُصول الموجودة في خصوصيّات المقام ، فيكون كما لو إنفتح باب العلم أو الظنّ الخاصّ ، فيصير لزومُ العُسر حكمةً في عدم ملاحظة الشارع العلمَ الاجماليَّ في الامتثال بعد تعذّر التفصيليّ ، لا علّةً حتّى يدور الحكمُ مدارها .

ولكنّ الانصافَ : أنّ المقدّمات المذكورة لاتنتج هذه النتيجة ،

-------------------

في الاحكام الشّرعية نفياً وإثباتاً ، كالعلم ) كما قال بعض : بأنّ اللازم أوّلاً : العلم ، ثمّ الظّنّ .

فاذا ثبت ذلك ( إنقلب التكليف ) الفعلي عند تعذر العلم ( الى الظنّ ، وحكمنا ) عطف على قوله : « انقلب » ( بأنّ الشّارع لايريد إلاّ الامتثال الظنّي ، وحيث لاظنّ كما في المشكوكات ، فالمرجع الى الاُصول الموجودة في خصوصيات المقام ) من البرائة ، والاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، كل في مورده ( فيكون ) الظنّ الانسدادي ( كما لو إنفتح باب العلم ، أو الظنّ الخاص ) حجّة للإثبات والنفي .

وعليه : ( فيصير لزوم العُسر ، حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الاجماليّ في الامتثال بعد تعذّر التفصيلي ) فلا يلزم الاحتياط في المشكوكات وان كانت طرف العلم الاجمالي ( لا علّةً حتى يدور الحكم مدارها ) فانّ الشارع لايريد العمل بالعلم الاجمالي ، وإنّما يريد العمل بالظنّ الانسدادي سواء كان في العمل بالعلم الاجمالي في المشكوكات عُسر أم لا .

هذا ( ولكن الانصاف : انّ المقدّمات المذكورة لاتنتج هذه النتيجة ) من : انّ

ص: 302

كما يظهر لِمَن راجعها ، وتأمّلها .

نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العُسر ثبتت النتيجة المذكورة ، لكن عرفت فساد دعواه في الغاية ، كدعوى ان العلم الاجمالي المقتضي للاحتياط الكلّيّ إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ، فلا مقتضي فيها للعدول عمّا يقتضيه الاُصول الخاصّة في مواردها ، فانّ هذه الدعوى ، يكذّبها ثبوتُ العلم الاجماليّ بالتكليف الالزامي قبل إستقصاء الأمارات ، بل قبل الاطّلاع عليها ،

-------------------

الظنّ الانسدادي حجّة وإن لم يكن عُسر في العمل بالمشكوكات ( كما يظهر لِمَن راجعها وتأمّلها ) بل يدور حجيّة الظنّ مدار العُسر وجوداً وعدماً ، فحيث لا عُسر في العمل بالمشكوكات لزم العمل بها ، وإذا لزم منه عُسر سقط العُسر .

( نعم ، لو ثبت إنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العُسر ، ثبتت النتيجة المذكورة ) أي : عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، لأن الاحتياط يوجب العُسر ، والعُسر مرفوع فلا إحتياط فيها .

( لكن عرفت :فساد دعواه ) أي دعوى هذا الثبوت ( في الغاية ) إذ ليس الاحتياط في كل مشكوك موجباً للعُسر بالبديهة .

( كدعوى : إن العلم الاجمالي المقتضي للإحتياط الكلّي ، إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ) فان هذه الدعوى فاسدة أيضاً .

وعليه : ( فلا مقتضي فيها ) أي في المشكوكات ( للعدول عمّا يقتضيه الاصول الخاصة في مواردها ) الى الظنّ الانسدادي ( فانّ هذه الدّعوى يكذّبها ثبوت العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي قبل إستقصاء الأمارات ) في المشكوكات أيضاً ( بل قبل الاطّلاع عليها ) أي : على الأمارات ، فكيف يكون العلم الاجمالي خاصاً

ص: 303

وقد مرّ تضعيفه سابقاً ، فتأمّل فيه ، فانّ إدّعاء ذلك ليس كلّ البعيد .

ثمّ إنّ نظيرَ هذا الاشكال الوارد في المشكوكات من حيث الرّجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاُصول العمليّة واردٌ فيها ، من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ الى الاصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والأخبار المتيقن كونُها ظنوناً خاصةً .

-------------------

بموارد الأمارات ، مع انّ المكلَّف لم يطّلع على تلك الأمارات ، والحال انّ العلم لايعقل قبل الاطلاع ؟ .

هذا ( وقد مرّ تضعيفه سابقاً ، فتأمّل فيه ، فانّ إدّعاء ذلك ) أي : إدعاء إن العلم

الاجمالي المقتضي للإحتياط الكلي إنّما هو في مورد الأمارات ( ليس كلّ البعيد ) بل هو قريب .

( ثم إنّ نظير هذا الاشكال الوارد في المشكوكات ، من حيث الرّجوع فيها ) أي : في تلك المشكوكات ( بعد العمل بالظنّ ) « بالظّنّ » ، متعلق بقوله : « العمل » ( الى الاصول العمليّة ) « الى » : متعلق بقوله : « الرجوع » ( وارد فيها ) أي : في المشكوكات ( من حيث الرّجوع فيها بعد العمل بالظّن الى الأُصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسّنة المتواترة ) كأصل العموم ، وأصل الاطلاق ، وأصل الحقيقة وما أشبه ذلك ( والأخبار المتيقّن كونها ) أي : كون تلك الأخبار ( ظنوناً خاصة ) وهي حجّة بالأدلة الخاصة لا بدليل الانسداد .

وعليه : فالأصول اللفظية كالأصول العملية كلاهما يرد عليهما الاشكال ، فانّ معنى حجّية الظّنّ : هو جواز الرّجوع في موارد فقده الى الاصول اللّفظية إن وجدت ، وإلاّ فإلى الاُصول العمليّة .

مثلاً : إذا لم يظنّ بأنّ الرّبابين الزوجين الذين زواجهما بالمتعة حرام ، يرجع

ص: 304

توضيحه : انّ من مقدّمات دليل الانسداد إثبات عدم جواز العمل بأكثر

-------------------

فيه الى أصالة الحِلّ ، وهو أصل لفظي حيث قال عليه السلام : « كُلُ شيء لَكَ حَلالٌ » (1) ، فإطلاقه يشمل المقام إن كانت أصالة الحِلّ جارية في المقام ، وإن لم تكن المسألة مجرى أصل الحِلّ ، رجعنا فيها الى أصل البرائة عن الحرمة ، وكما إنّ الاشكال المتقدّم وارد على الأصل العملي ، كذلك يرد نفس هذا الاشكال على أصل الحِلّ الذي هو ظاهر الرواية المتقدِّمة .

والاشكال هو : انّه لايجوز التمسك بكثير من الظواهر ، لأنّها مخصصة ، أو مقيدة ، أو مجاز ، فالظواهر صارت مجملة ، ولايمكن التمسك بالاحتياط في تلك الظواهر كلها ، لأن ذلك يوجب العُسر والحَرج .

إذن : فاللازم التبعيض في الاحتياط ، لا أن نعمل بالظنّ مطلقاً بسبب مقدّمات الانسداد ، ذلك لِما تقدّم في الاصول العملية : من انّ تبعيض الاحتياط لا يساوي العمل بالظنّ ، حتى يكون الظنّ حجّة بحيث يخصِّص بالظنّ العموم ، أو يقيّد بالظّنّ الاطلاق ، أو يكون الظّنّ قرينة المجاز ، ولا يندفع هذا الاشكال إلاّ بما ذكرناه سابقاً : من انّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّنّ كالعلم ، ليرتفع الاجمال في الظواهر ، فيكون الظنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح .

( توضيحه ) اي : توضيح هذا الاشكال الوارد على الظواهر ، كما كان واردا على الاصول العمليّة ( انّ من مقدمات دليل الانسداد إثبات عدم جواز العمل بأكثر

ص: 305


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

تلك الظواهر ، للعلم الاجماليّ بمخالفة ظواهرها في كثير من الموارد ، فتصير مجملة لاتصلح للاستدلال .

فاذا فرضنا رجوعَ الأمر إلى تركِ الاحتياط في المظنونات أو في المشكوكات أيضاً ، وجواز العمل بالظنّ المخالف للاحتياط وبالأصل المخالف للاحتياط ، فما الذي أخرج تلك الظواهر عن الاجمال حتّى يصحّ بها الاستدلال في المشكوكات ، إذ لم يثبت كون الظنّ مرجِعاً ، كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع إلى الظواهر عدمُ الظنّ بالمخالفة ؟ .

-------------------

تلك الظواهر ) الواردة في الكتاب والسنة ، وإنما لايعمل بأكثر تلك الظواهر ( للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهرها ) أي ظواهر الكتاب والسنة ( في كثير من الموارد ) بسبب التقييد ، أو التخصيص ، أو قرينة المجاز ( فتصير ) تلك الظواهر كلها ( مجملة لاتصلح للاستدلال ) .

وعليه : فاللازم الرّجوع الى الاحتياط في جميعها .

( فإذا فرضنا رجوع الأمر الى ترك الاحتياط في المظنونات ، أو في المشكوكات أيضاً ) بناءاً على لزوم الحَرج في الاحتياط فيهما ( وجواز العمل بالظنّ المخالف للإحتياط ) في المشكوكات ( وبالأصل المخالف للإحتياط ) أي : الأصل العملي ومعنى ذلك : أن نأخذ بالظّنّ المخالف للإحتياط في الظاهر من الكتاب والسنّة ، فإذا لم يكن ظنّ مخالف للإحتياط عملنا بالأصل المقتضي للبرائة مثلاً .

وعليه : ( فما الذي أخرج تلك الظّواهر عن الاجمال ، حتى يصحّ بها الاستدلال في المشكوكات إذ لم يثبت كون الظّنّ مرجِعاً كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع الى الظواهر عدم الظنّ بالمخالفة ؟ ) يعني : إذا فرضنا انّا لا نتمكن من الاحتياط في ظواهر الكتاب والسنة لأنّه يوجب العُسر والحَرج ، فالظواهر تبقى مجملة ، فكيف

ص: 306

مثلاً إذا أردنا التمسّك ب- « اُوفوا بالعقود » ، لإثبات صحّة عقدٍ إنعقدت أمارةٌ ، كالشهرة أو الاجماع المنقول ، على فسادها . قيل : لايجوز التَمسّكُ بعمومه ، للعلم الاجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لانعلمُ تفصيلها .

ثمّ إذا ثبت وجوبُ العمل بالظنّ من جهة عدم إمكان الاحتياط في

-------------------

نعمل بالظنّ في توضيح المُجمل ، إذا لم يثبت حجّية الظنّ في حال الانسداد وانّه كالعلم حال الانفتاح ؟ .

وعليه : فتكون الظواهر اللّفظية التي عرض عليها الاجمال كالاصول العمليّة ، وكما لايصح إجراء أصل البرائة في المشكوكات في الاصول العمليّة ، كذلك لايجوز العمل بالظواهر المجملة بسبب الاُصول اللّفظية .

( مثلاً : إذا أردنا التّمسّك ب- « أوفُوا بالعُقودِ » (1) لإثبات صحة عقدٍ إنعقدت أمارة كالشهرة ، أو الاجماع المنقول ، على فسادها ) وقوله : « أمارة » ، فاعل لقوله : « انعقدت » ، ومثال ذلك : عقد الكالي بالكالي ، حيث إنعقدت الشهرة ، أو الاجماع المنقول على فساده ، فاذا أردنا أن نتمسك ب- « أوفُوا بالعقود » لإثبات صحته ( قيل ) لنا : ( لايجوز التمسّك بعمومه ) أي : عموم « أوفُوا بالعقود » .

وإنّما لايصح التمسك بعموم « اوفُوا بالعقود » لصحة هذا العقد ( للعلم الاجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لانعلم تفصيلها ) أي : تفصيل تلك العقود الخارجة ، وبذلك صار « أوفُوا بالعُقود » مجملاً .

( ثمّ إذا ثبت وجوب العمل بالظنّ من جهة عدم إمكان الاحتياط في

ص: 307


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

بعض الموارد وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزماً للحرج ، فاذا شكّ في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنيّة ، قيل : إنّ الواجبَ الرجوعُ إلى عموم الآية ، ولايخفى أنّ إجمالها لايرتفع بمجرّد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التكليف .

ودفعُ هذا - كالاشكال السابق -

-------------------

بعض الموارد ) لأنّه يوجب إختلال النظام ( وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزماً للحَرج ) فالاحتياط التام في الظواهر غير ممكن ، والاحتياط الممكن غير واجب لوجود الحَرج .

وعليه : ( فإذا شك في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنيّة ) لأنّه من المشكوكات ، ( قيل ) لنا : ( إنّ الواجب الرّجوع الى عموم الآية ) ، أي : آية « أَوفُوا بالعُقود ».

( ولايخفى : إنّ إجمالها ) أي : إجمال الآية حسب ماذكرناه ( لايرتفع بمجرد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التّكليف ) .

هذا ، وقد تقدّم الفرق في العمل بالظّنّ ، بين كونه من باب الحجّية حتى يكون مخصصاً ، ومقيداً ، وقرينة مجاز ، وبين كونه من باب الفرار من لزوم العُسر والحَرج ، فانّه إذا فرض كون العمل بالظّن لأجل الفرار من لزوم العُسر الحاصل من العمل بالاحتياط الكلي ، لا لأجل حجّية الظنّ شرعاً ، فالعمل بالظنون المخالفة للظواهر بالتخصيص ، أو التقييد ، أو قرينة المجاز ، لأجل دفع العُسر ، لايوجب إرتفاع العلم الاجمالي المذكور حتى يصح التمسك بالظواهر في موارد الشك .

( ودفع هذا ) الاشكال في الظواهر اللفظية ( كالاشكال السّابق ) في الاصول

ص: 308

منحصرٌ في أن يكون نتيجةُ دليل الانسداد حجّية الظنّ كالعلم ، ليرتفع الاجمال في الظواهر ، لقيامه في كثير من مواردها من جهة إرتفاع العلم الاجماليّ ، كما لو علم تفصيلاً بعض تلك الموارد بحيث لايبقى علمٌ إجمالاً في الباقي ، أو يدّعى أنّ العلمَ الاجماليّ الحاصل في تلك الظواهر إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ، فلا يقدح في المشكوكات ، سواء ثبت حجّية الظنّ أم لا .

وأنت خبيرٌ بأنّ

-------------------

العمليّة ( منحصر في أن يكون نتيجة دليل الانسداد : حجّية الظنّ كالعلم ) منتهى الفرق : إنّ العلم حجّة في حال الانفتاح ، والظنّ حجّة في حال الانسداد حيث لا علم.

وإنّما يكون الظّنّ حجّة ( ليرتفع الاجمال في الظواهر ، لقيامه ) أي : الظنّ ( في كثير من مواردها ) أي : موارد العلم الاجمالي ( من جهة إرتفاع العلم الاجمالي ) به ، وقوله : « من جهة » ، متعلق بقوله : « ليرتفع » .

( كما لو علم تفصيلاً بعض تلك الموارد بحيث لايبقى علمٌ إجمالاً في الباقي ) فيكون الظنّ في حال الانسداد كالعلم حجّة ، لا انّه من باب وجود العُسر في الاحتياط .

( أو يدّعى : انّ العلم الاجمالي الحاصل في تلك الظواهر ) من الكتاب والسنة قد حصل بسبب كثرة التخصيصات ، والتقييدات ، والمجازات ، كما قال : ( إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ) أي : انّ موارد الأمارات حصل فيها العلم الاجمالي ( فلايقدح ) هذا العلم الاجمالي ( في المشكوكات ) التي ليست موارد للامارات ( سواء ثبت حجّية الظنّ أم لا ) .

هذا ( وأنت خبير بأنّ ) كلا الجوابين : أي قوله : « ودفع هذا كالإشكال السابق

ص: 309

دعوى النتيجة على الوجه المذكور يكذّبها مقدّماتُ دليل الانسداد .

ودعوى : « إختصاص المعلوم إجمالاً من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات » ، مضعّفةٌ بأنّ هذا العلم حاصل من دون ملاحظة الأمارات ومواردها .

وقد تَقدّم سابقاً انّ المعيارَ في دخولِ طائفة من المحتملات في أطراف

-------------------

منحصر ...» وقوله : « أو يدّعى إنّ العلم الاجمالي الحاصل ...» غير تامّين ، لأن ( دعوى النتيجة على الوجه المذكور ، يكذّبها مقدّمات دليل الانسداد ) فانّ دليل الانسداد ينتج عدم لزوم الاحتياط التام ، لا انّه ينتج كون الظنّ مطلقاً حجّة .

هذا هو الاشكال على الجواب الأول من قول المصنّف : « ودفع هذا كالاشكال السابق ...» .

ثم أشار المصنّف الى الاشكال على الجواب الثاني من قوله : أو يدّعي العلم الاجمالي بقوله : ( ودعوى إختصاص المعلوم إجمالاً من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات ) فقط دون المشكوكات ، فهذه الدعوى ( مضعّفة : بأنّ هذا العلم حاصل من دون ملاحظة الأمارات ومواردها ) فانّك إذا لم تعلم موارد الأمارات كيف يمكن أن تدعي انّ العلم الاجمالي حاصل في موارد الأمارات فقط ؟ فهو مثل أن يقول إنسان : الكتاب في الدار وهو لايعلم بوجود الدار أصلاً .

وعليه : فالعلم الاجمالي بمخالفة الظواهر لو كان مختصاً بموارد الأمارات ، لكان اللازم ارتفاع هذا العلم الاجمالي بالعمل بالامارات ، والحال انّه ليس كذلك ، لبقاء العلم الاجمالي مع ملاحظة الظواهر مع المشكوكات أيضاً .

هذا ( وقد تقدّم سابقاً : انّ المعيار في دخول طائفة من المحتملات في أطراف

ص: 310

العلم الاجماليّ لنراعي فيها حكمه وعدم دخوله هو تبديل طائفة من محتملات المعلوم لها دخلٌ في العلم الاجماليّ بهذه الطائفة المشكوك دخولها ، فان حصل العلمُ الاجمالي كانت من أطراف العلم ، وإلاّ فلا .

-------------------

العلم الاجمالي لنراعي فيها ) أي : في تلك الطائفة ( حكمه ) اي : حكم العلم الاجمالي ( وعدم دخوله ) أي : عدم دخول تلك الطائفة في العلم الاجمالي ، المعيار ( هو : تبديل طائفة من محتملات المعلوم ، لها ) أي : لتلك الطائفة ( دخل في العلم الاجمالي بهذه الطائفة المشكوك دخولها ) وقوله : « بهذه » متعلق بقوله : « تبديل » ، أي : تبدل طائفة بطائفة .

( فان حصل العلم الاجمالي ، كانت ) الطائفة الثانية ( من أطراف العلم ) الاجمالي ( وإلاّ ، فلا ) تكون من أطراف العلم الاجمالي .

وفيما نحن فيه لو أبدل جملة من موارد الأمارات بحيث إرتفع العلم الاجمالي عنها بموارد المشكوكات ، لبقي العلم الاجمالي أيضاً .

مثلاً : إذا علمنا بأن عشرة شياة موطوئة ضاعت في قطيع فيه مائة شاة ، بعضها أبيض ، وبعضها أصفر ، وبعضها أسود ، وعلمنا بأنّ الشياة العشرة ليست في الأسود ، فاذا أخذنا من الأبيض والأحمر عشرة ، وجعلنا مكانها عشرة من الأسود ، لم يبق العلم الاجمالي ، لاحتمال انّ المحرّمات كانت في الأبيض والأصفر فقط ، وقد أخذناها بحسب الاحتمال ، فهذا دليل على انّ الأسود ليس من أطراف العلم الاجمالي .

أمّا لو لم نعلم بأنّ العشرة في أيٍ من الشياة المائة ، فاذا أخذنا عشرة من الأبيض والأصفر وجعلنا مكانها الأسود ، بقي العلم الاجمالي على حاله فيتبين من ذلك إنّ الأسود أيضاً من أطراف العلم الاجمالي .

ص: 311

وقد يُدفَعُ الاشكالان بدعوى قيام الاجماع بل الضرورة على أنّ المرجع في المشكوكات إلى العمل بالاصول اللفظيّة إن كانت ، وإلاّ فالى الاُصول العمليّة .

وفيه : أنّ هذا الاجماع مع ملاحظة الاُصول في أنفسها ، وأمّا مع طروّ العلم الاجماليّ بمخالفتها في كثير من الموارد غاية الكثرة ، فالإجماعُ ، على سقوط العمل بالاُصول مطلقاً ، لا على ثبوته .

-------------------

( وقد يدفع الاشكالان ) وهما : إشكال الرّجوع في المشكوكات الى الاُصول العمليّة ، وإشكال الرّجوع في المشكوكات الى الظواهر ( بدعوى قيام الاجماع ، بل الضّرورة ) من الدّين ( على انّ المرجع في المشكوكات الى العمل بالاُصول اللّفظية إن كانت ) أصول لفظية هي المقام كالعموم ، والاطلاق ، وما أشبه ، ( وإلاّ ، فالى الاُصول العمليّة ) من البرائة ، والاستصحاب ، والتخيير ، والاحتياط ان لم يكن هناك أصلٌ لفظي .

( وفيه : إنّ هذا الاجماع مع ملاحظة الاُصول في أنفسها ) أي : إنّه إذا كان هناك أصل ولم يكن معارضاً بالعلم الاجمالي ، فما ذكرتم : من المراجعة الى الاُصول اللّفظية أولاً ، ثم الى الاصول العمليّة ثانياً هو الصحيح .

( وأمّا مع طروّ العلم الاجمالي بمخالفتها ) أي : بمخالفة الاصول اللّفظية والاُصول العمليّة ( في كثير من الموارد غاية الكثرة ) فانّا نعلم علماً إجمالياً بأنّ الاُصول اللّفظيّة والاصول العمليّة قد خُولِفَت في كثير من الموارد ، تلك الموارد في غاية الكثرة ( فالإجماع على سقوط العمل بالاصول مطلقاً ) أصلاً عملياً كان أو أصلاً لفظياً ( لا على ثبوته ) الضمير عائد الى العمل بالاُصول .

ص: 312

ثمّ إنّ هذا العلم الاجماليّ وإن كان حاصلاً لكلّ أحد قبل تمييز الأدلّة عن غيرها ، إلاّ أنّ من تعينّت له الأدلّة وقام الدّليل القطعيّ عنده على بعض الظنون عَمِلَ بمؤدّاها وصار المعلومُ بالاجمال عنده معلوماً بالتفصيل .

كما إذا نُصِبَ أمارةٌ طريقاً لتعيين المحرّمات في القطيع الذي عُلِمَ بحرمة كثير من شياتها ، فانّه يعلم بمقتضى الأمارة ، ثمّ يرجع في مورد فقدها إلى أصالة الحِلّ ، لأنّ المعلوم إجمالاً صار معلوماً بالتفصيل ،

-------------------

( ثمّ إنّ هذا العلم الاجمالي ) بمخالفة الاصول في كثير من الموارد ( وان كان حاصلاً لكل أحد قبل تمييز الأدلة عن غيرها ) فان العلم الاجمالي حاصل قبل أن يميز المكلّف الأدلة ، فاذا تميزت الأدلة وكانت بالقدر الكافي لمعظم الفقه ، سقط العلم الاجمالي .

( إلاّ انّ من تعيّنت له الأدلّة ) على موارد الحكم الذي كلّف بذلك الحكم ( وقام الدّليل القطعيّ عنده على بعض الظّنون ) بأن كانت الظنون حجّة عنده بالقدر الكافي بالأحكام ( عَمِلَ بمؤداها ) أي : بمؤدّى تلك الظنون ( وصار المعلوم بالاجمال عنده معلوماً بالتفصيل ) إذا كان البعض المعين بسبب الأدلة بقدر المعلوم بالاجمال ، فان الزائد على ذلك يكون مجرى لأصل البرائة .

( كما إذا نصب أمارة طريقاً لتعيين المحرّمات في القطيع ، الّذي علم بحرمة كثير من شياتها ) بأن قال الخبر وهو أمارة : إنّ طريق تعيين الشياه المحرمة : القرعة ، فان الأمارة لمّا عينت القرعة ( فانّه يعمل بمقتضى الأمارة ) أي : الأمارة المعيّنة - بالكسر - .

( ثم يرجع في مورد فقدها ) أي : فقد تلك الأمارة ( الى أصالة الحِلّ ، لأنّ المعلوم إجمالاً صار معلوماً بالتفصيل ) علماً وجدانياً ، أو علماً تنزيلياً

ص: 313

والحرامُ الزائدُ عليه غيرُ معلوم التحقّق في أوّل الأمر .

وأمّا مَن لم يقم عنده الدليلُ على أمارة ، إلاّ أنّه ثبت له عدمُ وجوب الاحتياط والعملُ بالأمارات ، لا من حيث أنّها أدلّة ، بل من حيث أنّها مخالفة للاحتياط وتركَ الاحتياط فيها موجِبٌ لإندفاع العُسر ، فلا دافعَ لذلك العلم الاجماليّ لهذا الشخص بالنسبة الى المشكوكات .

-------------------

( والحرام الزائد عليه ) أي : على ذلك المعلوم بالتفصيل ( غير معلوم التّحقق في أوّل الأمر ) فالشك بدوي بالنسبة الى الزائد .

مثلاً : إذا كان له علم إجمالي بحرمة مائة شاة من مجموع قطيع فيه مائة وخمسون شاة ، والقرعة عيّنت المائة ، فانّ الزائد على تلك المائة يكون مجرى لأصالة الحِلّ ، لأنّه لم يعلم من أوّل الأمر حرمة أكثر من مائة .

( وأمّا من لم يقم عنده الدّليل على ) حجّية ( أمارة ) كمن لم يقم عنده الخبر الواحد على حجّية القرعة لتعيين الشياة المحرمة ( إلاّ انّه ثبت له عدم وجوب الاحتياط ) لأنّه متعذّر ، أو متعسّر ( و ) ثبت له ( العمل بالأمارات لا من حيث إنّها أدلّة ، بل من حيث انّها مخالفة للاحتياط ) فترك الاحتياط ليدفع العُسر .

( و ) إنّما يعمل بالأمارة المخالفة للاحتياط ، لأن ( ترك الاحتياط فيها ) أي : في مورد تلك الأمارات ( موجب لاندفاع العُسر ) فانّه إذا عمل بكل موارد العلم الاجمالي لزم العُسر ، أمّا إذا عمل بالعلم الاجمالي في غير مورد الأمارة الدالّة على عدم العمل بالاحتياط ، إندفع العُسر .

وعليه : ( فلا دافع لذلك العلم الاجمالي ) المقتضي للاحتياط ( لهذا الشخص بالنسبة الى المشكوكات ) فانّه يلزم عليه أن يعمل في المشكوكات بالاحتياط ، وهذا ما أشرنا اليه سابقاً : من انّ الاقسام خمسة ، وإنّ المشكوكات يكون مورداً للاحتياط .

ص: 314

فعلم ممّا ذكرنا أنّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامةً في الانتاج إلاّ انّ نتيجتَها لا تفي بالمقصود من حجّية الظنّ وجعلِهِ كالعلم أو كالظنّ الخاصّ .

وأمّا على تقرير الكشف فالمستنتجُ منها وإن كان عينَ المقصود إلاّ أنّ الاشكالَ والنظَر بل المنعَ في إستنتاج تلك النتيجة .

-------------------

( فعلم ممّا ذكرنا : انّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامة ) من جهة كونها تفيد كليّة النتيجة من جهة الأسباب ، فانّ الظّنّ عند الانسداد

من أيّ سبب حصل كان حجّة ، كما إنّ العلم حال الانفتاح من أيّ سبب حصل كان حجّة .

إذن : فمقدمات الانسداد على تقرير الحكومة تامة ( في الانتاج ، إلاّ انّ نتيجتها لاتفي بالمقصود من حجّية الظّنّ وجعله كالعلم ، أو كالظّنّ الخاص ) في كونه مخصصاً ، أو مقيداً ، أو مفسّراً للمجمل ، وذلك لأنّ العقل - بعد إبطال الاحتياط الكلي بسبب لزوم العُسر - يحكم بالعمل بالظنّ الاطمئناني ، أو بالظنّ مطلقاً في نفي التكليف .

لكن حكمه هذا إنّما هو لرفع العُسر ، لا لأنه حجّة يرجع اليه في تعيين المعلوم بالاجمال ، كما يرجع الى العلم في تعيين المعلوم بالاجمال ، أو يرجع الى الظنّ الخاص كالخبر - الذي هو حجّة - في تعيين المعلوم بالاجمال ، فيكون مخصصاً ، ومقيداً ، ومفسراً للمجمل .

( وأمّا على تقرير الكشف ، فالمستنتج منها ) أي : من مقدمات الانسداد ( وإن كان عين المقصود ) وهو حجّية الظّنّ ( إلاّ انّ الاشكال والنّظر ، بل المنع في استنتاج تلك النتيجة ) فانّ الكشف لايسبب النتيجة المطلقة ، بل تكون النتيجة

ص: 315

فإن كنتَ تَقدرُ على إثبات حَجّية قِسم من الخبر لايلزمُ من الاقتصار عليه محذورٌ ، كان أحسنَ وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكَشفِ مّا ذكرنا من المسلك في آخره ، وعلى تقرير الحكومةِ مابينّا هنا أيضاً من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظنّ الاطمئنانيّ بالحكم أو بطريقيّة أمارة دَلّت على الحكم وإن لم تُفد إطمئناناً ، بل ولا ظنّاً ، بناءا على ماعَرفت من مسلكنا المُتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق .

وأمّا في ما لايمكن الاحتياط

-------------------

على الكشف مهملة ، وعلى الحكومة ليست مهملة ، لأنّها لاتجعل الظنّ حجّة ، بل تبعض في الاحتياط .

وعلى أي حال : ( فان كنت تقدر على إثبات حجّية قسم من الخبر ، لايلزم من الاقتصار عليه محذور ) كمحذور عدم الوفاء بمعظم الفقه ( كان أحسن ، وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكشف ماذكرنا : من المسلك في آخره ) أي : آخر بحث الكشف ، وهو : الأخذ بالمتيقن ، فالمتيقن .

( وعلى تقرير الحكومة مابيّنا هنا أيضاً : من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظّنّ الاطمئناني بالحكم ، أو بطريقية أمارة دلّت على الحكم ) أي : لافرق في حجّية الظّنّ حينئذٍ بين الظّن بالحكم ، أو الظن بالطريق ( وان لم تفد ) أي : طريقية أمارة دلّت على الحكم ( إطمئناناً ، بل ولا ظنّاً ) بالحكم ، وذلك ( بناءاً على ماعرفت: من مسلكنا المتقدّم: من عدم الفرق بين الظّنّ بالحكم، والظّنّ بالطريق ) .

وقوله : «بناءاً» ، بيان لما ذكره بقوله : «الظّنّ الاطمئناني بالحكم ، أو بطريقية أمارة دلّت على الحكم» .

( وأمّا فيما لايمكن الاحتياط ) في أطراف العلم الاجمالي من جهة العُسر

ص: 316

فالمتّبعُ فيه - بناءاً على ماتقدّم في المُقدّمات من سقوط الاُصول عن الاعتبار ، للعلم الاجمالي بمخالفةِ الواقع فيها - هو مطلقُ الظنّ وإلاّ فالتخيير .

وحاصلُ الأمرِ عَدمُ رفع اليد عن الاحتياط في الدّين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه .

وعليك بمراجعة ماقدّمنا من الأمارات على حجّية الاخبار ، عَساكَ تظفرُ فيها بأماراتٍ توجبُ الاطمئنانَ بوجوب العمل بخبر الثقة عَرفاً إذا أفاد الظنّ وإن لم

-------------------

( فالمتّبع فيه ) أي : فيما لايمكن الاحتياط ( بناءاً على ماتقدّم في المقدمات : من سقوط الاصول عن الاعتبار ) وذلك السقوط إنّما هو ( للعلم الاجمالي بمخالفة الواقع فيها ) أي : في تلك الاصول ، فيكون المرجع فيه ( هو مطلق الظنّ ) وقوله : «هو» خبر قوله : «فالمتّبع» .

( وإلاّ ) بأن لم يكن ظنّ ، بل شك في المسألة ( فالتخيير ) بين الأطراف .

( وحاصل الأمر : عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدّين مهما أمكن ، إلاّ مع الاطمئنان بخلافه ) أي : بالاطمئنان بأنّه لايلزم الاحتياط .

( وعليك بمراجعة ماقدّمنا من الأمارات على حجّية الأخبار ) في باب حجّية خبر الواحد من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وغيرها ( عَساك ) ولَعلَكَ ( تظفر فيها ) أي : في تلك الأمارات ( بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة عرفاً ) .

وقوله : «عرفاً» ، متعلق بقول : «الاطمئنان» ، أي : أمارات توجب الاطمئنان العرفي بوجوب العمل بخبر الثقة ، وذلك فيما ( إذا أفاد ) خبر الثقة ( الظن وإن لم

ص: 317

يُفد الاطمئنان ، بل لعلّك تَظفرُ فيها بخبر مصَحَّح بعدلين مطابق لعَمل المشهور مفيد للاطمئنان ، يدلّ على حجّية المصحّح بواحد عدل ، نظراً إلى حجّية قول الثقةِ المُعدّل في تعديله ، فيصير بمنزلة المُعدّل بعدلين حتّى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعاً ، بناءا على دليل الانسداد بكلا تقريريه ، لأنّ المفروضَ حُصولُ الاطمئنان من الخبر القائم على حجيّةِ قول الثِقَةِ

-------------------

يفد الاطمئنان ) والمراد من الظن : النوعي ، لا الشخصي - كما ذكرناه هناك - .

( بل لعلّك تظفر فيها ) أي : في الأمارات ( بخبر مصحّح بعدلين ، مطابق لعمل المشهور ، مفيد للاطمئنان ) بأن يكون ذلك الخبر جامعاً لشرائط الحجّية بهذه الأسباب الثلاثة ( يدل على حجّية المصحّح بواحد عدل ) أي : انّه إذا صحّح الخبر عادل واحد ، كان ذلك الخبر حجّة ، فهناك خبر مصحّح بعدلين يدلّ على حجّية خبر مصحّح بواحد . وإنّما يكون المعدل بعدلين ، دالاً على حجّية المعدل بواحد ( نظراً الى حجّية قول الثقة المعدّل في تعديله ) وقوله : «في تعديله» ، متعلق بقوله : «حجّية» ( فيصير ) المعدّل بواحد ( بمنزلة المعدَّل بعدلين ) لأنّ المعدّل بعدلين لما قال : إنّ المعدّل بواحد حجّة ، يكون هذا المعدّل بواحد كالمعدّل بعدلين ( حتى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعاً ) .

وقوله : «حتى» ، متعلق بقوله : «فيصير» ، فانّه إذا قال زرارة أو محمد بن مسلم - مثلاً - خبر فضيل حجّة ، أصبح خبر فضيل كأنّه معدّل بعدلين ، فان خبر فضيل وإن لم ينقله عدلان ، لكن قال عدلان : خبر فضيل حجّة ، فصار خبر فضيل كأنه معدّل بعدلين ، وذلك ( بناءاً على دليل الانسداد بكلا تقريريه ) : الكشف ، والحكومة .

قوله : «بناءاً» ، متعلق بقوله : «حتى يكون المصحّح بعدل واحد متبعاً» ( لأنّ المفروض حصول الاطمئنان من الخبر القائم على حجّية قول الثقة

ص: 318

المُعدَّل المستلزم لحجّية المصحَّح بعدل واحد ، بناءا على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ، فيقضي به تقريرُ الحكومة ، وكونِ مثله متيقنُ الاعتبار من بين الأمارات فيقضي به تقريرُ الكشف .

-------------------

المعدَّل ، المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ) .

والحاصل : إنّ دلالة الخبر المصحّح بعدلين على حجّية المصحّح بعدل واحد ، مبني على دلالة المصحّح بعدلين على حجّية قول العدل في روايته وفي تعديله ، حتى يكون المصحّح بعدل واحد متبعاً .

وإنّما قال المصنّف : نظراً ، لأنّ المتيقّن منه : دلالته على حجّية العدل الواقعي ، فيحتاج في تصحيح السند حيث لايعلم عدالة رجال السند واقعاً ، الى تعديل عدلين .

هذا ( بناءاً ) وهو قيد لقوله : «المستلزم» ، فان الاستلزام مبني ( على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ) أيضاً ، لا خصوص الأحكام ، فانّه ربّما يقال : انّ خبر الثقة حجّة في الأحكام ، وربّما يقال : انّ خبر الثقة حجّة ، سواء أُخبر بتعديل الرواة أو أخبر بالأحكام ، فانّ الاستلزام المذكور في عبارة المصنّف حيث قال : المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ، إنّما هو بناءاً على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ايضاً .

( فيقضي به تقرير الحكومة ) و «تقرير» : فاعل «يقضي» ، أي : يقضي تقرير الحكومة على انّ خبر المعدل بعدل واحد حجّة ، سواء دلّ على الحكم ، أو على حجّية خبر الثقة ، وإنّما يقضي الحكومة بذلك ، لأن الحكومة أفادت حجّية الخبر الاطمئناني ، والخبر المعدل بواحد يوجب الاطمئنان .

( وكون مثله متيقن الاعتبار من بين الأمارات ، فيقضي به تقرير الكشف )

ص: 319

المقام الثالث

في أنّه إذا بُني على تعميم الظنّ ، فان كان التعميمُ على تقرير الكشف ، بأن يكون مُقدّماتُ الانسداد كاشفةً عن حكم الشارع بوجوب العَمل بالظنّ في الجملة ثمّ تعميمه بإحدى المعّمِمات المتقدّمة ، فلا إشكالَ من جهة العِلم بخروج القياس عن هذا العُموم ،

-------------------

« وكون مثله » عطف على مدخول الجار في قوله : « لأن المفروض » ، أي : ولكون مثله متيقّن الاعتبار . . . فانّ قول المصنّف : «بكلا تقريريه» ، علّله بعد ذلك بقوله : «لأن المفروض» ، تقريباً للحكومة ، وبقوله : «وكون مثله» ، تقريباً للكشف ، فإنَّ الحكومة تحتاج الى الاطمئنان ، وخبر الثقة يوجب الاطمئنان ، والكشف يحتاج الى متيقن الاعتبار ، وخبر الثقة متيقن الاعتبار .

وعليه : فالمصحّح بعدل واحد متّبع ، بناءاً على دليل الانسداد بكِلا تقريريه ، لكن أحد التقريرين من باب الاطمئنان والآخر من باب التيقن ، و «تقرير الكشف» في قول المصنّف فيقضي به تقرير الكشف ، فاعل «يقضي» .

( المقام الثالث ) في بيان وجه خروج القياس على القول بحجّية الظنّ مطلقاً مع انّ القياس يوجب الظنّ ، فاللازم ان يكون في حال الانسداد حجّة .

والكلام ( في انّه إذا بني على تعميم الظّنّ ) لكل ظنّ ( فانّ كان التعميم على تقرير الكشف ، بأن يكون مقدّمات الانسداد كاشفة عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّن في الجملة ) إبتداءاً ، بأن تكون النتيجة مهملة ( ثم تعميمه ) أي : الظّنّ ( باحدى المعمّمات المتقدّمة ) التي ذكرناها ( فلا اشكال ، من جهة العِلم بخروج القياس عن هذا العموم ) أي : عموم الظّنّ .

ص: 320

لعدمِ جريان المعمّم فيه بَعد وجود الدّليل على حُرمة العمل به فيكون التعميم بالنسبة إلى ماعداه ، كما لايخفى على مَن راجع المعمّمات المتقدّمة .

وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدّليل موجبةً لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ماعدا الظنَّ وقبح إكتفاء المكلَّف على ما دونه ، فيشكَلُ توجيهُ خروج القياس ، وكيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطاً للاطاعة والمعصية ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه .

-------------------

وإنّما لا إشكال في ذلك ( لعدم جريان المعمّم فيه ) أي : في القياس ( بعد وجود الدّليل على حرمة العمل به ) أي : بالقياس ، لأنّ أدلة حرمة العمل بالقياس مطلقة تشمل حال الانفتاح والانسداد معاً .

وعليه : ( فيكون التعميم بالنسبة الى ماعداه ) أي : الى ماعدا القياس ، فيكون كل ظنّ حجّة إلاّ القياس ، الّذي خرج بالدّليل الخاص ( كما لايخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة ) حيث إنها معمّمات تدلّ على حجّية كل ظنّ ، إلاّ الظنّ الذي صرّح الشارع بخروجه .

( وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ماعدا الظّنّ ) أي : فوق الظّنّ ( وقبح إكتفاء المكلّف على مادونه ) أي : مادون الظنّ ، فلا يحق للمكلَّف ان يعمل بما هو دون الظنّ ، من المشكوكات والموهومات ويترك المظنونات ( فيشكل توجيه خروج القياس ) عن الظّنّ على تقرير الحكومة .

ووجه الاشكال مابيّنه بقوله : ( وكيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ كالعلم ، مناطاً للاطاعة والمعصية ، ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه ) أي : عن الظّنّ ،

ص: 321

ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارعُ العملُ به فانّ المنعَ عن العمل بما يقتضيه العَقلُ من الظنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً جرى في غير القياس ، فلا يكون العقلُ مستقلاً ، إذ لعلّه نهى عن أمارة ، مثل مانهى عن القياس بل وأزيد ، واختفى علينا .

-------------------

وذلك بإرادة الشارع غير الظّنّ ممّا لايصل اليه المكلّف ، وبعمل المكلّف بما هو دون الظنّ من الشّك والوَهم .

( ومع ذلك ) أي : مع حكم العقل بكون الظّن كالعلم ( يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان ) إذا قلنا بأنّ الظّنّ الاطمئناني حجّة يحصل ( من القياس ، و ) الحال انّه ( لايجوّز الشارع العمل به ؟ ) أي : بالقياس .

وعليه : ( فانّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً ) هذا المنع ( جرى في غير القياس فلا يكون العقل مستقلاً ، إذ لعلّه ) أي : لعل الشّارع ( نهى عن أمارة مثل مانهى عن القياس ) بأن نهى عن الخبر الواحد - مثلاً - أو الأولويّة ، أو الاجماع المنقول ، أو الاجماع المحصل ، أو غير ذلك .

( بل وأزيد ) من أمارة ، بأن منع الشارع عن العمل بأمارتين - مثلاً - أو ثلاث أمارات ( وإختفى ) ذلك المنع من الشارع ( علينا ) .

قال الأوثق : « لأنّ حكم العقل بشيء خصوصاً أو عموماً ، إنّما هو بعد ملاحظة جميع قيود موضوعه ، التي لها دخل في حكمه ، ولذا لايمكن عروض التخصيص لعموم حكمه ، لأنه إذا لاحظ موضوعاً عامّاً ووجده جامعاً لجميع القيود ، التي لها دخل في حكمه ، فحكم فيه بشيء ، فاستثناء بعض الأفراد

ص: 322

ولا دافعَ لهذا الاحتمال إلاّ قبحُ ذلك

-------------------

من حكم هذا الموضوع شرعاً أو عقلاً إن كان ، مع كونه جامعاً للقيود المذكورة ، فهو يستلزم : إما عدم حكم العقل بالحكم على الموضوع العام من أوّل الأمر ، أو التناقض في حكمه .

إذ الفرض : كون الفرد مشتركاً مع كلّية في القيود المذكورة ، فان لم تكن القيود المذكورة علّة لحكم العقل ، يلزم عدم حكمه من ابتداء الأمر على الموضوع العام المذكور ، بما فرض حكمه به أوّلاً ، وإن كانت علّة له ، لزم التناقض بين حكمه العام والخاص ، وان كان مع فرض كونه فاقداً لبعض القيود المذكورة ، فالاستثناء حينئذٍ وإن كان صحيحا إلاّ إنّه حينئذٍ يكون من باب التخصّص بدون التّخصيص وهو خلاف الفرض من كون الظنّ القياسي جامعاً لجهة إعتبار سائر الظنون : من قبح إرادة الآمر لما فوقه ، وإكتفاء المأمور بما دونه في مقام الامتثال .

وممّا ذكرناه يظهر : الواجب في عدم كون حكم العقل قابلاً للتخصيص » (1) ، انتهى .

( و ) إن قلت : فرق بين حكم الشارع بأن القياس لايجوز العمل به ، وبين إحتمال انّ الشارع منع - مثلاً - عن العمل بخبر الواحد فأي كلام منكم هذا الذي ذكرتم : بأنّه إذا منع الشارع عن القياس سقط عملنا بالخبر الواحد أيضاً ، لاحتمالنا انّ الشارع منع عنه ؟ .

قلت : إحتمال النهي في الخبر موجود ، و ( لادافع لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك )

ص: 323


1- - أوثق الوسائل : ص229 في استثناء القياس .

على الشارع ، إذ إحتمالُ صدور الممكن بالذات عن الحكيم لايرتفع إلاّ بقبحه .

وهذا من أفراد ما إشتهر من أنّ الدّليل العقليّ لايقبل التخصيص ، ومنشأه لزوم التناقض .

ولا يندفعُ إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع وهو التخصّص .

وعدمُ التناقض في تخصيص العُمومات اللفظيّة إنّما هو

-------------------

أي : النهي ( على الشارع ، إذ إحتمال صدور الممكن بالذّات عن الحكيم ، لايرتفع إلاّ بقبحه ) ، لكن حيث لم يعلم قبحه ، فيبقى إحتمال النهي في الخبر موجوداً ومع هذا الاحتمال لايستقل العقل بحجّية الظّنّ المستفاد من الخبر ، وسيأتي إنشاء اللّه تعالى في الوجه السادس من وجوه الجواب عن الاشكال المذكور ، اشارة الى ذلك .

( وهذا ) الّذي ذكرناه : من انّ القياس لايمكن إخراجه عن حكم العقل ، القائل بحجّية الظنّ على الحكومة ، هو ( من أفراد ما إشتهر : من انّ الدّليل العقلي لايقبل التخصيص ) على مابينّاه قبل أسطر .

( ومنشأه ) أي : منشأ هذا المشتهر هو : ( لزوم التناقض ) بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، لأنّ العام حكم عقلي ، والخاص حكم شرعي ، وهذا التناقض وإن كان من حاكمين ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة إمضاء الشرع أحكام العقل ، يرجع الى التناقض في حكم الشرع .

( ولايندفع ) هذا التناقض ( إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع ، وهو التخصّص ) فليس الحكم العقلي مخصصاً ، بل متخصصاً .

( و ) أمّا ( عدم التناقض في تخصيص العمومات اللّفظيّة ) فذلك ( إنّما هو

ص: 324

لِكون العُموم صوريّاً ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصورّي .

ثمّ إنّ الإشكال هنا في مقامين :

أحدُهُما : في خروج مثل القياس وأمثاله ممّا نقطع بعدم إعتباره .

الثاني : في حكم الظنّ الذي قام على عدم إعتباره ظَنٌّ آخر ، حيث إنّ الظنّ المانع والممنوع

-------------------

لكون العموم صوريّاً ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصّوري ) وهذا جواب عن إشكال مقدّر ، وهو : انّه إذا لم يكن الحكم العقلي قابلاً للتخصيص ، فكيف تكون العمومات اللّفظية قابلة للتخصيص ؟ .

والجواب : إنّه فرق بين الحكم العقلي والحكم اللّفظي ، فالحكم اللّفظي إذا خصص كان معناه انّ العموم كان ظاهراً مراداً للمتكلم لا واقعاً ، والمخصص كشف عن ذلك ، لا انّه مراد تارة في العموم وغير مراد تارة في الخصوص ، حتى يلزم التناقض .

( ثمّ إنّ الاشكال هنا ) في المقام الثالث ( في مقامين ) على مايلي :

( أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله ) والمراد بمثل القياس : القياس ، فلايقال : إنّه تكرار لكلمة مثل وأمثال ، لأنّه من المتعارف أن يعبّر عن الشيء بكلمة مثله ( ممّا نقطع بعدم إعتباره ) اذ هناك بعض الأُمور مقطوع بعدم إعتباره : كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، وما أشبه ذلك ، فليس الاشكال خاصاً بالقياس .

( الثاني : في حكم الظّنّ الّذي قام على عدم إعتباره ظنّ آخر ) ممّا يعبّر عنه بالظنّ المانع والممنوع ، فانّه إذا كان نتيجة دليل الانسداد عموم الظنّ ، فكيف يكون ظنّاً مانعاً عن ظنّ آخر ؟ كما قال : ( حيث إنّ الظّنّ المانع والممنوع ،

ص: 325

متساويان في الدخول تحت دليل الانسداد ولا يجوز العملُ بهما ، فهل يُطرحان أو يرجّح المانع أو الممنوع منه أو يرجع إلى الترجيح ؟ وجوهٌ بل أقوالٌ .

أمّا المقام الأوّل :

فقد قيل في توجيهه أمورٌ : الأوّل : ما مال إليه أو قال به بعضٌ ، من منع حرمةِ العَمل بالقياس في أمثال زَمانِنِا .

-------------------

متساويان في الدّخول تحت دليل الانسداد ) لفرض انّ كل واحد منهما ظنّ يدل على حجّيته مقدّمات دليل الانسداد ، وليس المراد بالظّنّ المانع والممنوع : الظّنّ الشخصي حتى يقال : انّه لايمكن ظنّان متخالفان ، بل الظنّ النوعي : كالخبر حجّة ، والشهرة حجّة ، ثم قامت الشهرة على عدم حجّية الخبر .

( ولا يجوز ) أي : لايمكن ( العمل بهما ) أي : بالظنّ المانع والظنّ الممنوع معاً ( فهل يطرحان ، أو يرجّح المانع ، أو ) يرجّح ( الممنوع منه ، أو يرجع الى الترجيح ؟ ) فربّما يرجّح المانع ، وربّما يرجّح الممنوع ، فيما إذا كان هناك رجّحان لاحدهما على الآخر ( وجوه ) ، محتملة ( بل أقوال ) في المسألة .

( أمّا المقام الأوّل : فقد قيل في توجيهه ) أي : توجيه خروج القياس عن حجّية مطلق الظنّ في حال الانسداد على الحكومة ( أُمور ) على النحو التالي :

( الأول : ما مال إليه ، أو قال به بعض من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا ) وهو المحقّق القمي في القوانين ، حيث إنّه لايرى حرمة القياس بعد الانسداد ، وإنّما يكون القياس ممنوعاً عنده حين الانفتاح ، لأنّه يرى انّ الأدلة

ص: 326

وتوجيههُ ، بتوضيح مِنّا ، أنّ الدّليلَ على الحرمة إِن كان هي الأخبار المتواترة معنىً في الحرمة ، فلا رَيبَ إنّ بعضَ تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم السلام من العامّة التاركين للثَقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده عِلم الثقل الأكبر ،

-------------------

المحرمة لاتشمل حال الانسداد .

( وتوجيهه بتوضيح منّا ) فانّ عبارته في بحث حجّية أخبار الآحاد في طيّ وجوه التقصّي عن إشكال خروج القياس ماهذا لفظه :

« ويمكن أن يقال : إن في مورد القياس لم يثبت إنسداد باب العلم بالنسبة الى مقتضاه ، فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس ، فيعلم إنّ حكم اللّه تعالى غيره وإن لم يعلم إنّه أي : شيء هو ، فنفي تعيينه يرجع الى سائر الأدلة وإن كان مؤداها عين مؤدّاه ، فليتأمّل ، فانّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتى في موضع لا سبيل له الى الحكم إلاّ به » إنتهى كلامه .

وتوضيحه : ( انّ الدّليل على الحرمة ) أي : حرمة العمل بالقياس ( إن كان هي الأخبار المتواترة معنىً في الحرمة ) وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة معى التواتر المعنوي ( فلا ريب إنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم السلام من العامة التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر ) وهم الأئمة عليهم السلام ( الّذي عنده علم الثقل الأكبر ) وهو القرآن الحكيم ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عبّر عنهما : بالثقل الأكبر والثقل الأصغر .

وإنّما كان القرآن الثقل الأكبر ، لأنّ القرآن يشمل حتى الأئمة عليهم السلام ، فهم ثقل أصغر بالنسبة الى القرآن ، فلاينافي ذلك إنّهم هم القرآن الناطق ، وانّ القرآن هو القرآن الصامت .

ص: 327

ورجعوا إلى إجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا وإستحسنوا وضلّوا وأضلّوا .

وإليهم أشارَ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في بيان من يأتي مِن بَعدِه من الأقوام ، فقال : « برهة يعملون بالقياس » .

والأمير عليه السلام ، بما معناه : «إنّ قوماً ثقلت عليهم الأحاديثُ أن يعوها فتمسّكوا بآرائهم» إلى آخر الرّواية .

وبعضٌ منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لا يغني من الحقّ شيئا .

-------------------

وعلى أي حال : فان العامّة تركوا الأئمة عليهم السلام في الفقه ، وفي سائر شؤون الدنيا والآخرة ( ورجعوا الى إجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا وإستحسنوا ، وضلّو وأضلّوا ) ، والفرق بين القياس والاستحسان : انّ القياس ، يقاس شيء على شيء ، بخلاف الاستحسان ، فانّه يستحسن المجتهد شيئاً بدون أن يكون له شبه في الشريعة .

( وإليهم ) أي : الى هؤلاء العامّة الذين تركوا الثقل الأصغر ( أشار النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( برهة يعملون بالقياس ) ومعنى البرهة : مدة من الزمن .

( و ) أشار إليهم ( الأمير عليه السلام بما معناه : إنّ قوماً ثقلت عليهم الأحاديث أن يعوها ، فتمسكوا بآرائهم ، الى آخر الرّواية ) إذ من الواضح : حفظ الحديث شيء مشكل ، أمّا القياس بما في أذهانهم فشيء سهل .

ثم إنّ بعضّهم لم يتمكنوا أن يعوا النصوص ، حيث رأوها مخالفة لما في أذهانهم من الموازين المتعارفة عندهم ، فاعوزتهم أي : ضاق عليهم معرفتها ، فتركوها وأخذوا مكانها بالقياس .

( وبعض منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لايغني من الحق شيئاً )

ص: 328

وبعضٌ منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومَحقِ السنّة ، لاسلتزامه الوقوعَ غالباً في خلاف الواقع .

وبعضها تدلّ على الحرمة ووجوب التوقف إذا لم يوجد ما عداه ، ولازمه الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقف ، لأجل العملِ بالرجوع الى أئمة الهُدى عليهم السلام ، أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات

-------------------

إذ القياس لايوجب اليقين .

( وبعض منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومَحْقِ السّنة ) والمَحق بمعنى : الذهاب والزوال ( لاستلزامه الوقوع غالباً في خلاف الواقع ) والمراد بالسّنة : الطريقة التي قررها اللّه سبحانه وتعالى ، سواء في القرآن الحكيم ، أو في السنة المطهرة .

( وبعضها تدل على الحرمة ووجوب التوقّف إذا لم يوجد ما عداه ) أي : ماعدا القياس ، فاذا وجد ماعدا القياس من أقوالهم عليهم السلام أجمعين لزم العمل بذلك ، وإلاّ فالتوقف ( ولازمه : الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقّف لأجل العمل ، بالرّجوع الى أئمة الهُدى عليهم السلام ) و «الى» متعلق «بالرجوع» ، فان مفهوم الحرمة إذا وجد ماعدا القياس : إنّ العمل بالقياس ليس بحرام إذا لم يوجد شيء من أخبارهم عليهم السلام .

( أو بصورة ماإذا كانت المسألة من غير العمليّات ) أي : من الاعتقاديات ، حيث لا عمل حتى يحتاج الانسان الى شيء يدلّ على كيفية عمله .

ومن الواضح : إنّ الاعتقاديات لاتوجب إضطرار الانسان الى شيء ، فانّه لايجوز الاعتماد على الاجتهادات الظّنية في الاعتقاديات مثل : صفات اللّه سبحانه ، والنبي ، والأئمة عليهم السلام أجمعين ، وذلك يظهر من قوله عليه السلام في رواية

ص: 329

أو نحو ذلك .

ولا يخفى أنّ شيئاً من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ، لايَدُلّ على حُرمة العملِ بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عموماً

-------------------

زرارة : «لو إنّ العِبادَ إذا جَهلُوا وقفُوا ولم يجحَدُوا ، لم يكفُرُوا» (1) .

( أو نحو ذلك ) كصورة التمكّن من الطرق الشرعية .

( ولا يخفى : انّ شيئاً من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ) المذكورة ( لايدلّ على حرمة العمل بالقياس ) وذلك لأن القسم الأول من الأخبار يدل على حرمة القياس في قبال الأئمة عليهم السلام .

والقسم الثاني : يدلّ على المبالغة في المنع ، للدلالة على كثرة تخلّف القياس عن الواقع ، وهو نظير قوله سبحانه : « إنَّ الظَّنَّ لايُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً » (2) وذلك خاص بزمان الانفتاح .

والقسم الثالث : كذلك ، حيث إنّ كثرة المخالفة توجب إبطال الدّين ، الذي هو أمرٌ حقيقي ، جعله اللّه سبحانه لوصول الناس الى الواقعيات ، ومن المعلوم : إنّه إذا تعذر الوصول الى الواقعيات كافة ، فالوصول الى بعض الواقعيات بسبب القياس أقرب الى العقل من الترك المطلق .

والقسم الرابع : الدال على التوقف ، فقد عرفت وجهه ممّا لاحاجة الى تكراره .

وعليه : فلا دلالة في هذه الأخبار على حرمة العمل بالقياس ( الكاشف عن صدور الحكم عموماً ) بأن بيّنوا عليهم السلام حكماً عامّاً مثل : «كل شيء

ص: 330


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .
2- - سورة يونس : الآية 36 .

أو خصوصاً عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو أحدِ أمنائه «صلوات اللّه عليهم أجمعين» ، مع عدم التمكُن من تحصيلِ العلم به ولا الطريق الشرعيّ ، ودوران الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه صدر منهم عليهم السلام ، والعمل بما يظنّ

-------------------

لك حلال» (1) و «كل شيء طاهر» (2) و «اذا شَكَكتَ فابنِ على الأكثر» (3) الى غير ذلك من الأحكام العامة ( أو خصوصاً ) مثل : انّ الأنكحة حلال ، وإنّ ماء البحر طاهر ، وما أشبه ذلك ، من الأحكام الواصلة إلينا ( عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو أحد أُمنائه صلوات اللّه عليهم أجمعين ) . حيث إنّهم عليهم السلام ذكروا كلّ الاحكام التي تحتاجها الأمة إما بالخصوص ، وإما بالعموم .

( مع عدم التمكن من تحصيل العلم به ) أي : بذلك الحكم الصادر عنهم عموماً أو خصوصاً ، ( ولا الّطريق الشرعي ) كالظنّ الخاص فيما إذا قلنا : بأن الخبر حجّة ، فانّه وإن لم يحصل للانسان العلم بالواقع بسبب الخبر ، إلاّ إنّه طريق شرعي .

والحاصل : انّه إذا لم نعلم بالأحكام الواقعيّة ، ولم يكن طريق خاص اليها ، بأن إنسدّ باب العلم والعلمي ، كان القياس هنا كاشفاً عن بعض تلك الأحكام .

( ودوران الأمر بين : العمل بما يظنّ انّه صدر منهم عليهم السلام ، والعمل بما يظنّ

ص: 331


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، الوسيلة : ص76 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 .

أنّ خلافه صدر منهم عليهم السلام ، لمقتضى الاُصول المخالفة للقياس في موارده أو الأمارات المعارضة له . وَما ذَكرنا واضحٌ على من راعى الانصاف وجانَبَ الاعتساف .

وإن كان الدّليلُ هو الاجماعَ بل الضرورةَ عند علماء المذهب ، كما ادّعي ، فنقول : إنّه

-------------------

انّ خلافه صدر منهم عليهم السلام ) قوله : « ودوران » ، عطف على قوله : « مع عدم التمكن » ، أي : إذا دار الأمر بعد انسداد باب العلم والعلمي ، الى أن نعمل بما نظنّ كما هو مقتضى القياس ، أو أن نعمل بخلاف ظنّنا ، كان العمل طبق الظنّ القياسي أولى من العمل على خلاف الظنّ .

( لمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده ) أي في موارد القياس ( أو ) مقتضى ( الأمارات المعارضة له ) أي : للقياس .

مثلاً : البرائة تقول : بعدم التكليف بالدّعاء عند رؤية الهلال ، والقياس يقول : بوجوب الدّعاء ، وخبر واحد غير حجّة يقول : بعدم وجوب الجمعة ، والقياس : يقول بوجوبها ، فهل نعمل بالأصل والامارة ونترك الدّعاء والصلاة ، أو نعمل بالقياس ونأتي بهما ؟ لاشك انّ العقل يقول : إعمل بالقياس حين انسداد باب العلم والعلمي وأئت بالدّعاء والصلاة .

( وما ذكرنا ) : من العمل بالقياس في قِبال الاصول والأمارات التي ليست بحجّة ( واضح على من راعى الانصاف ، وجانب الاعتساف ) أي : الجَور .

( وإن كان الدّليل هو الاجماع ) على حرمة العمل بالقياس ، وهذا عطف على قوله قبل أسطر : إن الدليل على الحرمة إن كان هي الأخبار المتواترة ( بل الضرورة عند علماء المذهب ، كما إدّعي ) بأنّه أمرٌ ضروري عند علمائنا ( فنقول : إنّه

ص: 332

كذلك ، إلاّ أنّ دعوى الاجماع والضرورة على الحرمة في كل زمانٍ ممنوعةٌ .

ألا ترى أنّه لو فرض « والعياذ باللّه » إنسدادُ باب الظنّ من الطُرق السمعيّة لعامّة المكلّفين أو لمكلّف واحد باعتبار ماسنَحَ لَهُ من البُعد عن بلاد الاسلام ، فهل تقول : إنّه يحرُم عليه العملُ بما يظنّ بواسطة القياس أنّه الحكمُ الشرعيّ المتداول بين المتشرّعة وأنّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، ثمّ تدّعي الضرورة على ماادّعيتُه من الحرمة ، حاشاك .

-------------------

كذلك ) : أمرٌ ضروري ( إلاّ انّ دعوى الاجماع والضّرورة على الحرمة في كلّ زمان ) حتى زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي ( ممنوعة ) قطعاً .

( ألا ترى انّه لو فرض والعياذ باللّه انسداد باب الظّنّ من الطّرق السمعيّة ) أي : من الأمارات التي وضعت : كالخبر الواحد ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( لعامّة المكلّفين ، أو لمكلّف واحد ، باعتبار ماسنَح له من البُعد عن بلاد الاسلام ) كما إذا إنكسرت سفينة في البحر ، فالتجأ أهلها الى جزيرة من الجزر وبقوا هناك مدة مديدة وهم لايعلمون الأحكام الطارئة لهم .

( فهل تقول : انّه يَحرُم عليه ) أو عليهم ( العمل بما يظنّ بواسطة القياس : انّه الحكم الشّرعي المتداول بين المتشرّعة وانّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ) فلا يلزم عليه العمل بظنّه ( ثمّ تدّعي الضرّورة على ماإدّعيته من الحرمة ) عن العمل بالقياس ، أو إنّك ترجح أن يعمل بالظّنّ القياسي على الوهم في المسألة ؟ .

( حاشاك ) أن تقول : بأنه مخير بين العمل بالظنّ ، وبما يقابله .

ص: 333

ودعوى : « الفرق بين زماننا هذا وزمان إنطماس جميع الأمارات السمعيّة » ممنوعة ، لأنّ المفروض أنّ الأمارات السمعيّة الموجودة بأيدينا لم يثبت كونها متقدّمة في نظر الشارع على القياس ، لأنّ تقدّمها على القياس إن كان لخصوصية فيها ، فالمفروضُ بعد انسداد باب الظنّ الخاصّ عدمُ ثبوت خصوصيّة فيها واحتمالها ، بل ظنُّها لايُجدي ،

-------------------

( و ) إنّ قلت : إن زماننا هذا يوجد فيه خبر الواحد وما أشبه ، فليس مثل الانسان الذي إنكسرت به السفينة وبقي في جزيرة منعزلة .

قلت : ( دعوى الفرق بين زماننا هذا وزمان إنطماس جميع الأمارات السّمعيّة ) كزمان التجاء جماعة من الناس ، أو واحد منهم الى الجزيرة ( ممنوعة ، لأنّ المفروض : انّ الأمارات السّمعيّة الموجودة بأيدينا ) الآن ، بعد الغيبة بأكثر من ألف سنة ( لم يثبت كونها ) أي : كون هذه الأمارات السمعيّة ( متقدّمة في نظر الشارع على القياس ) .

وذلك ( لأنّ تقدمها على القياس ) أي : تقدّم تلك الأمارات السمعيّة ( إن كان لخصوصيّة فيها ) أي : في هذه الأمارات السمعية ( فالمفروض بعد انسداد باب الظّنّ الخاص عدم ثبوت خصوصيّة فيها ) حتى تكون الأمارات السمعية ظنوناً خاصةً يجب العمل بها .

( و ) إنّ : الأمارات تحتمل الخصوصيّة ، بل نظّن الخصوصية فيها ، ولذا تكون هذه الأمارات مقدّمة على الظنّ القياسي .

قلت : ( احتمالها ) اي : الخصوصيّة ( بل ظنّها لا يجدي ) ولا ينفع في تقدّم الأمارات على الظنّ القياسي ، لأنّ الاحتمال والظنّ لا يجعل شيئاً حجّة .

ص: 334

بل نفرض الكلامَ فيما اذا قطعنا بأن الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص وان كان لخصوصيّة في القياس أوجبتَ كونه دونها في المرتبة فليس الكلامَ الاّ في ذلك .

وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك في الجملة مُسلّمة ، وأمّا كلّيته فلا ،

-------------------

( بل نفرض الكلام فيما اذا قطعنا بأنّ الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص ) فماذا تعملون حينئذٍ ؟ هل تعملون بالظّن القياسي ، أو بخلاف الظنّ القياسي وهو الوهم ؟ .

( وإنّ كان لخصوصيّة في القياس أوجبتَ ) أن ( كونه دونها في المرتبة ) أي : كون القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة ، ( فليس الكلام الاّ في ذلك ) فقولكم : « ان القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة » ، مصادرة .

وقوله : «وان كان لخصوصية في القياس» ، عطف على قوله : « إن كان لخصوصية فيها » .

( وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك ) اي : في حرمة العمل بالقياس ( في الجملة مسلّمة ) لأنّا ندّعي : انّ في زمان الانفتاح يحرم العمل بالقياس .

( وأما كلّيته ) بأن يحرم العمل بالقياس كليّة ، حتى في زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي ( فلا ) اذ لا دليل على الحرمة الكليّة ، بل قد عرفت : انّ الرّوايات تدل على الحرمة في الجملة .

ويؤيد ذلك ما روي عن الصادق عليه السلام في رسالة طويلة الى أصحابه يقول : « وكما إنّه لَم يكن لاحد من الناس مع محمّدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم أن يأخذ بهواه ، ولا رأيه ،

ص: 335

وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد .

-------------------

ولا مقاييسهِ ، خلافاً لأمر محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم كذلك لم يكن لأحد بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّ يأخذ بهواه ، ولا رأيه ، ولا مقاييسه » .

ثم قال : « واتّبعوا آثار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسُنتهِ فخذوا بها ، ولا تتبعوا أهوائكم ورأيكم فتضلّوا ، فان أضل الناس عند اللّه من إتبّع هواهُ ورأيه ، بغير هدىً من اللّه » .

ثم قال : « أيّتها العصابة عليكم بآثار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسُنتهِ ، وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول اللّه من بعدهِ وسُنتهم فانّه من اخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لأنهم هم الذين أمر اللّه عزّ وجلّ باتباعهم وولايتهم . . . » (1) .

الى غير ذلك من الأحاديث الظاهرة في أنّه لا يجو ز العمل بالقياس في قِبال آثار الرسول والأئمة الهداة ، فاذا لم تكن آثار للرسول والائمة الهداة - ولو من جهة غيبة الامام المهدي عليه السلام ، وانطماس معالم الدين بسبب المنحرفين والمفسدين والعامة ومن اشبههم - فالظنّ القياسي أولى بالعمل من الوهم القياسي .

( وهذه الدعوى ) أي : دعوى الاجماع والضرورة على حرمة العمل بالقياس كلّية حتى في زمان الانسداد ( ليست بأولى من دعوى السيّد ) المرتضى رحمه اللّه ( ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد ) فكلّما نجيب به عن دعوى السيد ، نجيب به أيضاً عن هذه الدعوى ، فانّ كلتا الدعويين غير تامة .

ص: 336


1- - الكافي روضة : ج8 ص8 ح1 .

لكن الانصاف : انّ اطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الاجماعات يوجبُ الظنّ المتاخِمَ للعلم ، بل العلمِ بانّه ليس ممّا يركنُ اليه في الدّين مع وجود الأمارات السمعية .

فهو حينئذٍ ممّا قام الدليل على عدم حجيته ، بل العملُ بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ، كما هو لازم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيته .

ضروري البطلان في المذهب .

-------------------

ثم ان المصنّف أجاب عن كلام القوانين بقوله ( لكن الانصاف ان اطلاق بعض الأخبار ) الدالة على حرمة العمل بالقياس ( وجميع معاقد الاجماعات ) التي اقيمت على الحرمة ( يوجب الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم ) نفسه ( بأنّه ليس ) القياس ( ممّا يركن اليه في الدين مع وجود الأمارات السمعيّة ) والتي هي باقية الى يومنا هذا .

وعليه : ( فهو ) اي : القياس ( حينئذٍ ) اي : حين وجود الأمارات السمعية ( ممّا قام الدليل ) من الاطلاق المذكور في الرّوايات ( على عدم حجّيته ) راساً .

( بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ) يلزمه في زمان الانسداد ، فاذا كان هناك خبر صحيح وقياس على خلافه ، فانّه يعمل بالقياس ويترك الخبر الصحيح ، لأنّ من يقول بحجيّة الظنّ القياسي حين الانسداد ، يقول بحجيّته وان كان القياس في قبال الخبر الصحيح .

( كما هو لازم القول : بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيّته ) فان لازم القول بحجيّة القياس في زمان الانسداد : انّه حجّة ولو في قِبال الخبر الصحيح وهو ( ضروريّ البطلان في المذهب ) .

ص: 337

الثاني : منع افادة القياس للظن ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الشارع جَمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفةً وفرق بين ما يتخيل متآلفة .

وكفاك في هذا عمومُ ما وردَ من : « انّ دين اللّه لا يُصابُ بالعقول ، وأن السنّة اذا قيست محق الدينُ ، وانّه لا شيء أبعد عن عقول الرجال

-------------------

اللّهم الاّ أن يقول القائل بحجيّة القياس : انه لا حجيّة للقياس اذا كان هناك خبر صحيح ، وعليه : فتحصّل من الوجه الاول : إنّ القياس حجّة في زمان الانسداد .

الوجه ( الثاني : منع افادة القياس للظنّ ) فالقياس ليس بحجّة ، لانّه لا يوجب الظنّ فهو سالبة بانتفاء الموضوع ( خصوصاً بعد ملاحظة : انّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة ، وفرّق بين ما يتخيل متآلفة ) .

مثلاً : يتراءى أنّ صلاة الظهر متخالفة مع صلاة العشاء ، لأنّ احديهما في النهار والاُخرى في الليل بينما الشارع جعل فيهما اربع ركعات متوافقة ، ويتراءى ان صلاة المغرب متآلفة مع صلاة العشاء ، لانهما في وقت واحد بينما جعلهما الشارع مختلفة في الركعات ، ودم الحيض وغيره يرى مؤلفاً وقد جعل لهما الشارع حكماً مختلفاً ، ودم البكارة وسائر دماء الجسد يرى مختلفاً بينما جعل الشارع لهما حكماً واحدا .

( وكفاك في هذا عموم ما ورد : « من انّ دينَ اللّه لا يُصابُ بالعُقول » (1) وانّ « السُنة اذا قيست مُحِقَ الدين » (2) ، و « أنّه لا شيء أبعدُ عن عُقولِ الرّجالِ

ص: 338


1- - بحار الأنوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

من دين اللّه » ، وغيرها ، ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس ، وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في ديّة اصابع الرجلّ والمرأة

-------------------

من دينِ اللّهِ » ) (1) والمراد منه : جزئيات فروع الدّين ، لا كليات الفروع ، ولا اُصول الدين ، مثلاً : العقل يدرك لزوم الصلاة والصوم ، والحّج ، والخُمس ، والزّكاة وما أشبه ، لكن لا يدرك لماذا الركعات الخاصة ؟ ولماذا الأذكار الخاصة ؟ ولماذا الترتيب الخاص ؟ وكذلك لا يدرك العقل لماذا المفطرات الخاصة ، والوقت الخاص للصوم ؟ ولماذا الأشواط الخاصة ، والأوقات الخاصة لمناسك الحجّ ؟ ولماذا النصاب الخاص ، والاصناف الخاصة في الخمس والزكاة .

وبهذا يجمع كون الاسلام دين العقل وان العقل حجّة باطنة (2) - كما في الاحاديث - وبين « إنّ الدّين لا يصاب بالعقول » (3) .

كما ان اُصول الدّين ايضاً عقليّة ، ولذا اقام العلماء على كلّ أصلٍ أصلٍ جملة من الأدلة العقلية ( وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس ) ولو كان القياس له مدخلية في الدين ، لزم أن يكون الدين يجمع بين المؤتلفات ويفرِّق بين المختلفات ، لا أنّ يكون العكس - كما مرّ - .

(وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في ديّة اصابع الرّجل والمرأة

ص: 339


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 بالمعنى ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 و ص95 ب9 ح48 و ص110 ب10 ح10 (بالمعنى) .
2- - راجع الكافي اصول : ج1 ص16 ج12 ، بحار الانوار : ج1 ص137 ب4 ح3 .
3- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الأنوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

الآتية .

وفيه : أنّ منع حصول الظنّ من قياس في بعض الأحيان مكابرةٌ مع الوجدان .

وأمّا كثرةُ تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات ، فلا يؤثر في منع الظنّ ، لأنّ هذه الموارد بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات اقلٌ قليل .

-------------------

الآتية ) (1) انشاء اللّه تعالى .

( وفيه : إنّ منع حصول الظنّ من القياس من بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان ) فانّه لا شك في ان القياس كثيراً ما يوجب الظنّ ، كما إنّ العادة والعرف يقضيان بالقياس في الاُمور العرفية في الهندسة والحِساب والطب ، وسائر الاُمور فيقول الزارع مثلاً : سنحصل هذه السنة على الزرع الأفضل لأنها تشبه السنة الماضية في كثرة الامطار ، الى غير ذلك .

( وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات فلا يؤثر في منع الظنّ ) اذا الظنّ أيضاً كثير ، وذلك ( لأنّ هذه الموارد ) التي فرّق الشارع فيها بين المؤتلفات ، والف بين المختلفات ( بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات أقل قليل ) لأنّ الغالب إنّ المؤتلفات متشابهة .

مثلاً : الأحكام بالنسبة الى الناس كلهم ، في الدّيات والقصاص ، والحدود ، والقضاء ، وما أشبه ، حكم واحد ، وكذلك بالنسبة الى الحيوانات ، فالشياه كلّها لها

ص: 340


1- - انظر الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

نعم ، الانصافُ ، أنّ ما ذكرهُ من الأخبار في منع العمل بالقياس موهن قويّ يوجب غالباً ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادي النظر ، وامّا منعه عن ذلك دائماً فلا ، كيف ، وقد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمى عندهم بتنقيح المناط القطعي ، وايضاً فالأولوية الاعتبارية من اقسام القياس ، ومن المعلوم إفادتها للظنّ ، ولا ريب أن منشأ الظنّ فيها هو استنباط المناط ظنّاً ،

-------------------

حكم واحد في الحلّية والطهارة ، والكِلاب كلّها لها حكم واحد في النجاسة والحُرمة ، كما ان الغالب إختلاف المختلفات ، فللرجل أحكام ، وللمرأة أحكام ، وللأطفال أحكام ، وللكبار أحكام ، وللمُتذكّر أحكام ، وللناسي أحكام ، وهكذا .

( نعم ، الانصاف إنّ ما ذكره ) المحقّق القمي - فان الاجوبة الأربعة كلّها للمحققّ القمي - ( : من الأخبار في منع العمل بالقياس موهن قويّ ، يوجب غالباً ارتفاع الظنّ الحاصل منه ) و« منه » : متعلق « بالحاصل » : ( في بادي النظر ، أما منعه عن ذلك دائماً ، فلا ) فانّ الأخبار لا ترفع الظنّ دائماً ، وإنّما ترفع الظّن غالباً .

( كيف ، و ) الحال إنّه ( قد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمى عندهم بتنقيح المناط القطعي ) مثلاً : يقاس أولاد الشبهة على ولد الحال فيقطع بانّه يحرم الزواج به ، ويحلّ النظر اليه ، ويرث ، وغير ذلك .

( وأيضاً فالأولوية الاعتبارية ) التي يعتبرها العقلاء اولى ( من أقسام القياس ، ومن المعلوم افادتها للظنّ ) فانّه اذا حرم أن يقول الانسان لأبويه : افٍ ، فالأولوية تقول : يحرم أن يضربهما او يشتمهما ، أو ما اشبه ذلك وهو قِياس .

( ولا ريب انّ منشأ الظنّ فيها ) أي : في الأولوية ( هو : استنباط المناط ظناً ) فالقياس يوجب الظنّ احياناً قطعاً ، واحياناً بطريق أولى .

ص: 341

وأما آكديّته في الفرع فلا مدخل له في حصول الظّن .

الثالث : انّ بابَ العلم في مورد القياس ومثله مفتوحٌ للعلم بأنّ الشارع ارجعنا في هذه الموارد الى الاصول اللفظيّة أو العمليّة فلا يقتضي دليلُ الانسداد اعتبار ظنّ القياس في موارده .

-------------------

( و ) إن قلت : إنّ الأولوية تعطي آكدية الحكم في الفرع ولذا يقاس الفرع على الأصل .

قلت : ( أمّا آكديته في الفرع ، فلا مدخل له في حصول الظنّ ) اذ حصول الظنّ من باب القياس سواء كان آكد أم لا ، وكما يحصل الظنّ من الآكد يحصل من غيره .

( الثالث ) : انّه لا يجوز العمل بالقياس من باب أنّه لا انسداد في باب القياس ، وذلك ( انّ باب العلم ) ولو بالحكم الظاهري ( في مورد القياس ومثله ) أي : مثل القياس من النوم ، والرّمل ، والجَفر ، والاصطرلاب ، والظنّ العاميّ ممّا لا إعتبار بها قطعاً ، كما لا إعتبار بالقياس أيضاً ( مفتوحٌ ) .

وإنّما كان باب العلم في هذه الموارد مفتوحاً ( للعلم بأنّ الشارع ارجعنا في هذه الموارد الى الاصول اللفظيّة ) اذا كان هناك اصل لفظي : كالعموم والاطلاق ، وما أشبه ( أو العمليّة ) فيما اذا تكن اُصول لفظيّة ، فان الشارع قد ارجعنا عند فقد الاصول اللفظية الى الاصول العمليّة ، كالبراءة ، والاستصحاب ، وما اشبه ذلك .

وعليه : ( فلا يقتضي دليل الانسداد إعتبار ظنّ القياس في موارده ) اي : في موارد القياس ، وتوضيح هذا الكلام بلفظ الاوثق على ما يلي :

« إنّا نعلم لأجل نهي الشارع عن العمل بالقياس : انّ حكم اللّه تعالى غير ما يستفاد منه وان لم نعلم أي شيء هو حكم اللّه ، ففي تعيينه يرجع الى سائر الاصول اللفظية والعمليّة وإن كان مؤدّاه عين مؤداه ، يعني : اذا حصل الظنّ من

ص: 342

وفيه : انّ هذا العلم إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلامَ في وجوب الامتناع عنه بعد منع الشارع . انّما الكلامُ في توجيه صحة نهي الشارع عن العمل به ، مع أنّ موارده وموارد سائر الأمارات متساوية .

فان امكن

-------------------

القياس بحكم ، فهذا الحكم باطل من حيث كونه مؤدّى القياس ، وصحيح من حيث كونه مؤدّى دليل آخر فلا تناقض حينئذٍ بين حجّية الظنّ مطلقاً ، وبين حرمة العمل بالظّن الحاصل من القياس » (1) .

( وفيه : انّ هذا العلم ) اي علمنا بأنّ الشارع جعل طريقاً آخر الى أحكامه ( إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلام في وجوب الامتناع عنه ) اي : عن القياس ( بعد منع الشارع ) عنه .

( إنّما الكلام في توجيه صحة نهي الشارع عن العمل به ) اي : بالقياس ( مع أنّ موارده ) اي : موارد القياس ( وموارد سائر الأمارات ) المنتهية الى الظنّ ( متساوية ) فانّا حيث علمنا بأنّ الشارع منع عن القياس علمنا بأنّه جعل طريقاً آخر الى أحكامه ، سواء وافق ذلك الطريق القياس في النتيجة أم لا .

والحاصل : انّه لا كلام في انّا نعلم بانّ الشارع منع عن القياس وجاء بطريق آخر للوصول الى أحكامه ، وانّما الكلام في انّه كيف منع الشارع عن العمل بالقياس ، والحال أنّه كسائر اسباب الظّن يوجب الظنّ ، والعقل بعد الانسداد لايرى فرقاً بين اسباب الظنّ سواء كانت تلك الاسباب : قياساً ، أو خبراً ، او شهرة ، أو أولوية ، أو اجماعاً ، أو غير ذلك ، وقد عرفت انّ حكم العقل غير قابل للتخصيص (فان أمكن

ص: 343


1- - أوثق الوسائل : ص231 اشكال شمول النتيجة للظن القياسي .

منعُ الشارع عن العمل بالقياس أمكن ذلك في أمارة اُخرى ، فلا يستقل العقل بوجوب العمل بالظنّ وقبح الاكتفاء بغيره من المكلّف .

وقد تقدّم أنّه لولا ثبوتُ القُبح في التكليف بالخلاف لم يستقلّ العقل بتعيين العمل بالظنّ ، اذ لا مانع عقلاً عن وقوع الفعل الممكن ذاتاً من الحكيم الاّ قبحُه .

والحاصلُ : انّ الانفتاح المدّعى ان كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلافُ المفروض ،

-------------------

منع الشارع عن العمل بالقياس) بعد حكومة العقل بحجّية الظنّ مطلقاً ( أمكن ذلك ) المنع ( في أمارة اُخرى ) كالخبر ، والشهرة ، أو ما اشبه ذلك ( فلا يستقلّ العقل بوجوب العمل بالظنّ ، وقبح الاكتفاء بغيره من المكلّف ) لانّه يحتمل أن الشارع منع عنه ، واذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال في الأدلة العقلية.

( وقد تقدّم : انه لولا ثبوت القبح في التكليف بالخلاف ) اي : تكليف الشارع بخلاف الظنّ ( لم يستقل العقل بتعيين العمل بالظنّ ) اي : لا يتمكن العقل أن يقول : بأنّ العمل بالظنّ هو الحجّة في باب الانسداد ( اذ لا مانع عقلاً عن وقوع الفعل الممكن ذاتاً من الحكيم الاّ قبحه ) .

وذلك انّ الحكيم يفعل الفعل الممكن اذا لم يكن قبيحاً ، فاذا بنينا على عدم قبح المنع عن بعض الظنون وهو الظنّ القياسي تبيّن عدم قبح المنع عن بعض الظنون الاُخر كالظنّ الخبري ، فمن أين ان الشارع لم يمنع عن الظنّ الخبري ؟ .

( والحاصل : ان الانفتاح المدّعى ) لباب العلم في مورد القياس يغنينا عن القياس ، كما ذكره المجيب الثالث بقوله : انّ باب العلم في مورد القياس ومثله مفتوح ( ان كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلاف المفروض ) لأنّه لو لم

ص: 344

وان كان بملاحظة منع الشارع ، فالاشكال في صحّة المنع ومجامعته مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ، فالكلام هنا في توجيه المنع ، لا في تحققه .

الرابع :

-------------------

يمنع الشارع عن القياس كان الظنّ القياسي ايضاً حجّة .

( وان كان بملاحظة منع الشارع ، فالاشكال ) إنّما يكون ( في صحة المنع ومجامعته ) اي : مجامعة هذا المنع ( مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ) اذ كيف يستقل العقل بأنّ الظنّ حجّة حال الانسداد ثم يمنع الشارع عن فرد من هذه الظنون ، مع أنّه متساوٍ مع سائر الظنّون بحكم العقل ؟ .

وعليه : ( فالكلام هنا : في توجيه المنع ، لا في تحققه ) اي : كلامنا في انّه كيف منع الشارع عن القياس ، مع انّه تناقض ؟ وليس كلامنا في أنّ المنع متحقق - كما ذكره - في الجواب الثالث .

( الرابع : ) من أجوبة المحقّق القمي عن إشكال خروج القياس - حسب تفسير المصنّف - هو : إنّ مقدّمات الانساد تدل على حجّية الأدلة الظنيّة ، ولا تدل على أن الظنّ حجّة . ومن المعلوم : إمكان إخراج القياس على الأوّل ممّا حاصله : الادّلة الظنيّة دون القياس حجّة ، بخلاف الثاني : فانّه اذا كانت النتيجة حجّية الظنّ عقلاً اشكل : بانّه كيف أخرج الظنّ القياسي فان ذلك مستلزم للتناقض ؟ .

وبعد اخراج القياس - على ما عرفت - يكون المعيار الظنّ ، لأنّه اذا تعارض الخبر والاولوية - مثلاً - وكان احدهما اقوى ظنّاً ، اخذ بالأقوى ويكون اللازم حنيئذٍ الأخذ بالظّن منهما لا بالوهم .

وحاصل كلام المحقّق القمي - على ما فسره المصنّف - هو : إنّ المعيار أوّلاً :

ص: 345

انّ مقدمات دليل الانسداد ، أعني انسداد باب العلم مع العلم ببقاء التكليف ، انّما توجبُ جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ، ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً اقوى .

وبالجملة : هي تدلّ على حجّية الأدلّة الظنيّة دون مطلق الظن النفس الأمري .

والأول أمر قابل للاستثناء ، اذ لا يقبح أن يقال : « إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه

-------------------

الأمارات ، ثم يكون المعيار الظنّ .

هذا ، ولكن ظاهر عبارة المحققّ القمي بعيد عن تفسير المصنّف هذا ، ونحن حيث نرى الشرح في تفسير العبارة على ما فسرها المصنّف وهو كما قال : ( إنّ مقدّمات دليل الانسداد اعني انسداد العلم ) والعلمي ( مع العلم ببقاء التكليف ، إنّماتوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ) من الأمارات ( ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً اقوى ) اي : هناك امران :

الأمر الاوّل : لزوم الأخذ بالأمارات المفيدة للظنّ .

الأمر الثاني : إنّه اذا تعارض أمارتان ، اخذ بالأمارة الأقوى .

( وبالجملة : هي ) اي : مقدّمات الانسداد ( تدل على حجّية الادلة الظنيّة دون مطلق الظنّ النفس الأمري ) اي : انّا مكلّفون بعد الوجدان بالأخذ بأسباب الظن ، لا انّ نأخذ بنفس الظنّ .

( والأوّل ) أي : أسباب الظنّ التي نحن مكلفون بالأخذ بها ( أمر قابل للإستثناء ) فيستثنى منه القياس ( اذ لا يقبح ) عقلاً أو شرعاً ( أن يقال : انّه يجوز العمل بكل ما يفيد الظنّ بنفسه ) من الأمارات كالخبر الواحد ، والشهرة ،

ص: 346

ويدلّ على مراد الشارع ظنّاً الاّ الدليل الفلاني ، وبعد اخراج ما خرج عن ذلك يكون باقي الأدلة المفيدة للظنّ حجّة معتبرة .

فاذا تعارضت تلك الادلّة لزم الأخذُ بما هو الأقوى وترك ما هو الأضعفُ ، فالمعتبر حينئذٍ هو الظنّ بالواقع ويكون مفادُ الاقوى حينئذٍ ظنّاً والأضعفُ وهماً ، فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره »

-------------------

والأولوية ، والاجماع المنقول ، وغير ذلك ( ويدل على مراد الشارع ظنّا ) عطف على قوله : « يجوز العمل بكل ما يفيد » ( الاّ الدليل الفلاني ) حيث يستثنى من الأمارات هذا الدليل .

( وبعد إخراج ما خرج عن ذلك ) اي : عمّا يفيد الظنّ ( يكون باقي الادلّة المفيدة للظنّ حجّة معتبرة ) فاذا أخرج القياس - مثلاً - بقي الخبر ، والاجماع المنقول ، والأولوية ، والشهرة ، ونحوها من أسباب الظنّ ، حجّة يجب الأخذ بها عند الانسداد .

( فاذا تعارضت ) الأدلة الباقية بعد خروج ما خرج من ( تلك الأدلة ) كتعارض الخبر والاولويّة ( لزم الأخذ بما هو الأقوى وترك ما هو الاضعف ، فالمعتبر حينئذٍ ) اي : حين تعارض الادلة ( هو : الظنّ بالواقع ، ويكون مفاد الأقوى حينئذٍ ) اي : حين تعارض الادلة ( ظنّاً والاضعف وهماً ) لوضوح أنّه لا يراد : الظنّ الشخصي ، فانّه لا يعقل تعارض الظنين ، بل يراد : تعارض السببين ، بأن كان احدهما يورث الظنّ والآخر يورث الوهم ( فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره ) (1) لانّ العقل يرى انّ الظنّ مقدّم على الوهم .

ص: 347


1- - القوانين المحكمة :ج2ص217 .

انتهى .

اقول : كأنّ غرضَه ، بعد فرض جعل الاُصول من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط انّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها يوجب عقلاً الرجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة .

وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ويكون القياسُ خارجاً عن حكمها ، لا أن يكون العقل يحكمُ بعمومها ويخرجُ الشارعُ القياسَ ، لأنّ هذا عينُ ما فرّ منه من الاشكال .

-------------------

( إنتهى ) كلام المحقق القمي ، فانّ الادلّة الأربعة المذكورة كلها له .

( أقول : كأنّ غرضه - بعد فرض جعل الاُصول ) حجّة ( من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط ) لأنّه موجب للعُسر والحَرج ( - انّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها ) اي : في تلك الوقائع ( يوجب عقلاً الرّجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة ) سواء كان الواجب الرّجوع الى كلّ الأمارات أو بعض الأمارات .

( وهذه القضيّة ) اي : قضية وجوب الرجوع الى طائفة من الأمارات ( يمكن أن تكون مهملة ) لا مطلقة حتى تشمل الكل ( ويكون القياس خارجاً عن حكمها ) اي : عن حكم هذه القضيّة ، لأنّ المهملة يمكن الاخراج عنها ، بخلاف المطلقة ، فان النتيجة لو كانت كليّة لم يمكن اخراج القياس - لما عرفت سابقاً : من أنه يلزم التناقض - .

( لا أن يكون العقل ) حال الانسداد ( يحكم بعمومها ) أي : بعموم هذه القضية ( ويخرج الشّارع القياس ) فانّه لا يحكم العقل بعمومها ( لأنّ هذا عين ما فرّ منه من الاشكال ) وهو : لزوم التخصيص في الدليل العقلي ، فانّه غير معقول .

ص: 348

فاذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم ، فلابدّ من إعمال الباقي في مواردها .

فاذا وجد في مورد اصلٌ وامارةٌ - والمفروض أن الاصل لا يفيد الظنّ في مقابل الأمارة - وجب الاخذُ بها ، واذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة اخذ بالاصل لانّه يُوجب الظنّ بمقتضاه .

وبهذا التقرير يجوز منع الشارع عن القياس .

-------------------

( فاذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم ) اي : حكم وجوب الرجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة ( فلابدّ من إعمال الباقي ) من الأمارات الظنيّة ( في مواردها ) بان يعمل بالخبر في مورده ، والاولوية في موردها ، وهكذا .

( فاذا وجد ) بعد خروج القياس ( في مورد أصل وأمارة ، والمفروض : انّ الأصل لايفيد الظنّ في مقابل الأمارة ، وجب الاخذ بها ) اي : بتلك الأمارات وذلك لأنّ الاصل محكوم بالأمارة .

( واذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة ) المعتبرة وإن كانت أمارة غير معتبرة موجودة في المورد ، فان الأمارة غير المعتبرة لا يؤخذ بها ، لأنّها كالقياس في المثال ( اخذ بالأصل ) كالبراءة والاستصحاب ، وما اشبه ( لأنّه يوجب الظنّ بمقتضاه ) اي : بمقتضى الأصل ، فالأمارة مقدّمة ، ثم بعد الأمارة تصل النوبة الى الاصل .

( وبهذا التقرير ) الذي ذكرناه : من إهمال النتيجة ( يجوز منع الشارع عن القياس ) لأنّك قد عرفت : ان الواجب الاخذ بالأمارات في الجملة وهذه المهملة يمكن إخراج القياس منها .

ص: 349

بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ، فانّ هذه القضية لا تقبل الاهمال ولا التخصيص ، وليس في كلّ مسألة الاّ ظنّ واحد .

وهذا معنى قوله في مقام آخر :« ان القياس مستثنىً من الأدلّة الظنّية لا أنّ الظنّ القياسيّ مستثنى من مطلق الظنّ » . والمراد بالاستثناء هنا اخراج ما لولاه لكان قابلاً للدخول ، لا داخلاً بالفعل ، والاّ لم يصحّ بالنسبة الى المهملة .

-------------------

هذا ( بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرّجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ) اي : في تلك المسألة ، وذلك بأن قرّرنا دليل الانسداد على نحو الكليّة ( فانّ هذه القضيّة ) اي : وجوب الرجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ( لا تقبل الاهمال ولا التخصيص ) .

أمّا الاهمال : فلأن الفرض أن القضية كليّة ، وأمّا التخصيص : فلأنّه يستلزم التناقض - على ما عرفت سابقاً - .

هذا ( وليس في كلّ مسألة الاّ ظنّ واحد ) فلا يكون هناك تعارض ، ويلزم من اخراج ظنّ في مسألة ما ، التخصيص فيالدليل العقلي وهو غير معقول .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من تفسير عبارة المحقّق ( معنى قوله ) اي : المحقّق ( في مقام آخر : ان القياس مستثنى من الادلة الظنّية ، لا أن الظنّ القياسي مستثنى من مطلق الظّن ) فالأمارات هي المحور لا الظنّ ( والمراد بالاستثناء هنا : اخراج ما لولاه لكان قابلاً للدخول لا داخلاً بالفعل ) اي : لولا استثناء القياس لكان قابلاً للدخول لا إنّه داخل بالفعل ، وانّما نقول : انّه لا يرى بذلك الدخول بالفعل لأنّه كما قال : ( وإلاّ لم يصحّ بالنسبة الى المهملة ) كما أوضحناه .

ص: 350

هذا غايةُ ما يخطر بالبال في كشف مراده .

وفيه : انّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّرُ بتقريرها على وجه دون وجه ، فانّ مرجع ما ذكر من الحكم بوجوب الرّجوع الى الأمارات الظنيّة في الجملة الى العمل بالظنّ في الجملة ، اذ ليس لذات الأمارة مدخلية في الحجّية في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقاً أو على وجه الاهمال .

-------------------

( هذا غاية ما يخطر بالبال في كشف مراده ) قدس سره ، حيث انّ عبارته مبهمة كما اعترف به صاحب الحاشية ، وصاحب الفصول ، وغيرهما .

( وفيه : ) انّ صاحب القوانين فرّ من جعل الظنّ حجّة الى جعل الأمارة حجّة ، والحال أنّه لا فرق بينهما في ان النتيجة لو كانت كليّة ، لم يمكن اخراج القياس ، وإن كانت جزئية ، أمكن اخراج القياس ، فلا يهم أن تكون النتيجة : حجّية الأمارات ، أو حجّية الظنّ كما قال : ( إنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغير بتقريرها ) اي : تقرير المقدمات ( على وجه دون وجه ) أي : وجه كون الأمارات حجّة ، دون وجه كون الظنّ حجّة ( فانّ مرجع ماذكر من الحكم بوجوب الرّجوع الى الأمارات الظنيّة في الجملة : الى العمل بالظنّ في الجملة ) فسواء قلنا : الأمارة حجّة ، أو قلنا : الظنّ حجّة ، تكون النتيجة واحدة .

( اذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّية في لحاظ العقل ) فانّ العقل يهمه الظنّ بعد عدم امكان العلم ، ولا يهمه الأمارة ( والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقاً أو على وجه الاهمال ) فانّ مهمة العقل أن يعمل بالظنّ .

ص: 351

وقد تقدّم : انّ النتيجة على تقرير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئنانيّ مع الكفاية ، ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لا خراج القياس .

وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملةٌ لا يشكلُ معها خروج القياس ، اذ الاشكال مبنيّ على عدم الاهمال وعموم النتيجة ، كما عرفت .

الخامس :

-------------------

هذا ( وقد تقدّم : ان النتيجة على تقرير الحكومة ، ليست مهملة ، بل هي ) اي : النتيجة كليّة ( معينّة للظنّ الاطمئناني مع الكفاية ) من ايّ سبب كان الظنّ الاطمئناني المذكور .

( ومع عدمها ) أي عدم الكفاية ( فمطلق الظنّ ) يلزم العمل به ، سواء كان اطمئنانيا أم لا .

( وعلى كلا التقديرين ) أي : سواء كانت النتيجة : الظنّ الاطمئناني ، أو مطلق الظنّ ، فانّه ( لا وجه لا خراج القياس ) لأنّ القياس قد يوجب الظنّ الاطمئناني وقد يوجب الظنّ المطلق .

( وأما على تقرير الكشف فهي ) اي : النتيجة ( مهملة ) من غير فرق بين أن تكون النتيجة حجّية أسباب الظنّ ، أو حجّية الظنّ نفسه ، وحينئذٍ ( لا يشكل معها ) اي : مع نتيجة الكشف ( خروج القياس ، اذا الاشكال مبنيّ على عدم الاهمال وعموم النتيجة - كما عرفت - ) فكلّما قلنا : النتيجة مهملة أمكن اخراج القياس ، وكلّما قلنا : ان النتيجة كليّة لم يمكن اخراج القياس ، فلا ربط لكلام المحقّق القمي رحمه اللّه بجواب كيفية اخراج القياس .

( الخامس ) من الوجوه التي ذكروها لاخراج القياس عند الانسداد ، ما ذكره

ص: 352

انّ دليل الانسداد إنّما يُثبتُ حجّية الظنّ الذي لم يَقمُ على عدم حجّيته دليلٌ .

فخروج القياس على وجه التخصّص دون التخصيص .

توضيحُ ذلك : انّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال لأنّ البراءة الظنيّة تقوم مقام العلميّة .

أمّا اذا حصل بواسطة منع الشارع القطعُ بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنيّة حتى يحكم العقلُ بوجوبها .

-------------------

المحقّق المحشي وأخوه صاحب الفصول من ( : انّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّية الظنّ ، الذي لم يقم على عدم حجّيته دليل ) فاذا قام دليل على عدم حجيّة ظنّ ، لم يتكفّل دليل الانسداد بحجيّته .

وعليه : ( فخروج القياس ) عن الظنون التي هي حجّة بسبب دليل الانسداد ، يكون ( على وجه التخصّص دون التخصيص ) فانّ القياس كان خارجاً من الأول لا أنّه كان داخلاً في عموم الظنّ ثم خرج .

( توضيح ذلك : إنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ) اي : إنّ العقل يقول : اعمل بالظنّ ولا تعمل بالوهم الذي هو الطرف الآخر للظّن ( لأنّ البرائة الظنّية تقوم مقام العلميّة ) عند تعذرها ، فانّ الطريق العقلائي هو إتباع العلم ، فاذا لم يكن علم لزم إتباع الظنّ ، لأنّه كما انّ العلم يستلزم البرائة ، الظنّ أيضاً يستلزم البرائة عند الانسداد .

( أمّا اذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البرائة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى برائة ظنيّة ) في حال الانسداد ( حتى يحكم العقل بوجوبها ) اي : بوجوب هذه البرائة الظنيّة .

ص: 353

واستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند إنفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم نظيره في تقرير اصالة حرمة العمل بالظن .

فاذا فرض قيامُ الدّليل من الشارع على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به . فانّ هذا لا يكون تخصيصاً في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ، لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكن من العلمي .

فاذا فرض الدليل على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به صار الامتثالُ في العمل بمؤدّاه علميّاً فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ ،

-------------------

( واستوضح ذلك ، من حكم العقل : بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ) ، فانّه اذا كان باب العلم منفتحاً يحرم العمل بالظنّ ( كما تقدّم نظيرهُ في تقرير اصالة حرمة العمل بالظنّ ) فانا اقمنا الأدلة الأربعة على حرمة العمل بالظنّ حال الانفتاح .

( فاذا فرض قيام الدّليل من الشارع على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به ) اي : بالظنّ ( فانّ هذا لا يكون تخصيصاً في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ) وإنّما يكون تخصّصاً ( لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكن ) من العلم ( إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكن من العلمي ) والمراد : الأعمّ من العلم والعلمي كما هو واضح ( فاذا فرض الدليل على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به ) اي : بالظنّ ( صار الامتثال في العمل بمؤدّاه علميّاً ) لأن الشارع قال : اتّبع هذا الظنّ ( فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي ) لأنّ هذا الظنّ

ص: 354

فما نحن فيه على العكس من ذلك .

وفيه : انّك قد عرفت عند التكلّم في مذهب ابن قبِة أنّ التعبّد بالظنّ مع التمكّن من العلم على وجهين :

أحدُهما : على وجه الطريقيّة بحيث لا يلاحظ الشارعُ في أمره عدا كون الظنّ إنكشافاً ظنيّاً للواقع بحيث لا يترتبّ على العمل به عدا مصلحة الواقع على تقدير المطابقة .

-------------------

في حال الانفتاح خرج تخصيصاً .

( فما نحن فيه ) وهو : قيام الدّليل على عدم جواز الاكتفاء بالظنّ القياسي في مقام تحصيل الامتثال في حال الانسداد ( على العكس من ذلك ) الذي ذكرناه : من الاكتفاء بالظنّ في حال الانفتاح ، ففي حال الانفتاح يعمل بالظّن بالنصّ ، وفي حال الانسداد لايعمل بالظنّ بالنص ايضاً .

( وفيه : ) إنَّ إجازة العمل بالظنّ في حال الانسداد اذا لم يكن الشارع يتدارك مصلحة الواقع مع المخالفة قبيح ، وكذلك حال المنع عن العمل بالظنّ في حال الانسداد ، فليس اجازة الظنّ في حال الانفتاح مطلقاً ، كما ليس المنع عن الظنّ في حال الانسداد مطلقاً ، وهذا ما يذكره المصنّف في السادس من الأجوبة ، كما قال : ( إنّك قد عرفت عند التكلّم في مذهب ابن قِبة ) في اوّل الكتاب ( انّ التعبّد بالظنّ مع التمكن من العلم على وجهين ) بالنحو التالي :

( احدهما : على وجه الطريقية بحيث لا يلاحظ الشارع في أمره ) بالعمل بالظنّ ( عدا كون الظنّ انكشافاً ظنّياً للواقع بحيث لا يترتب على العمل به ) اي : بالظّن ( عدا مصلحة الواقع على تقدير المطابقة ) فاذا لم تكن مطابقة فاتَ المكلّف مصلحة الواقع .

ص: 355

والثاني : على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة على تقدير مخالفة الظّن للواقع .

وقد عرفت أنّ الأمر بالعمل بالظنّ مع التمكّن من العلم على الوجه الأوّل قبيحٌ جداً ، لأنّه مخالفٌ لحكم العقل بعدم الاكتفاء في الوصول الى الواقع بسلوك طريق ظنّي يحتمل الافضاء الى خلاف الواقع .

نعم ، إنّما يصّح التعبّد على الوجه الثاني .

فنقول : إنّ الأمر فيما نحن فيه كذلك ،

-------------------

( والثاني : ) الظنّ ( على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها ) اي : بهذه المصلحة السلوكية ( مصلحة الواقع الفائتة ) على المكلّف ( على تقدير مخالفة الظنّ للواقع ) فاذا خالف الظنّ الواقع تدارك الشارع تلك المصلحة الفائتة باعطاء بدلها للمكلّف ، وهذا ما اصطلحنا عليه في اول الكتاب : بالمصلحة السلوكية .

( وقد عرفت : ان الامر بالعمل بالظنّ مع التمكن من العلم على الوجه الأوّل ، قبيح جداً ) لأنَّ الشارع هو الذي سبّب تفويت مصلحة الواقع على المكلّف والشارع لا يفعل القبيح .

وإنّما يكون قبيحاً ( لأنّه مخالف لحكم العقل ) الحاكم ( بعدم الاكتفاء في الوصول الى الواقع بسلوك طريق ظنّي يحتمل الافضاء ) والانتهاء ( الى خلاف الواقع ) مع عدم التدارك لتلك المصلحة ، فان المولى اذا ترك العبد وشأنه طَرقَ سبيل العلم ، والعلم يسبّب دركه لمصلحة الواقع امّا اذا جعل له طريقا ظنيّاً وفاته مصلحة الواقع ، فاللازم على المولى أن يتدارك تلك المصلحة .

( نعم ، انّما يصحّ التعبّد على الوجه الثاني ) اي : على المصلحة السلوكية ( فنقول : إنّ الأمر فيما نحن فيه ) من منع القياس في حال الانسداد ( كذلك ) فاذا

ص: 356

فانّه بعدما حكم العقلُ بانحصار الامتثال عند فقد العلم في سلوك الطريق الظني ، فنهيُ الشارع عن العمل ببعض الظنون إن كان على وجه الطريقيّة ، بان نهى عند فقد العلم عن سلوك هذا الطريق من حيث أنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيحٌ ، لأنّه تعَرضّ لفوات الواقع فينتقضُ به الغرضُ .

كما كان يلزم ذلك من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمكّن من العلم ، لأنّ حال الظنّ عند الانسداد من حيث الطريقيّة حالُ العلم مع الانفتاح

-------------------

تدارك المولى المصلحة الواقعيّة الفائتة من المكلّف ، صح منع القياس ، والاّ لم يصح .

( فانّه بعدما حكم العقل بانحصار الامتثال - عند فقد العلم - في سلوك الطريق الظني ) « في سلوك » متعلق ب « انحصار » ( فنهي الشّارع عن العمل ببعض الظنون ) كالقياس ( إن كان على وجه الطريقيّة ، بان نهى عند فقد العلم ، عن سلوك هذا الطريق ) اي : طريق القياس ( من حيث أنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيح ) على المولى أن ينهى عنه .

وإنّما يكون قبيحاً على المولى ( لأنّه تعرّض لفوات الواقع ) فانّ القياس في جملة من الأحوال يطابق الواقع ، فنهي المولى عنه يسببّ تفويته للمصلحة على عبده ( فينتقض به الغرض ) اي : بسبب هذا النهي ينتقض غرض المولى ، فانّ غرض المولى : درك العبد مصلحة الواقع ، والنهي يسبب تفويت هذه المصلحة على العبد .

( كما كان يلزم ذلك ) اي : نقض الغرض ( من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمّكن من العلم ) فانّ الأمر بالظنّ عن الانفتاح ، يشابه النهي عن الظّن عند الانسداد ( لأنّ حال الظّن عند الانسداد من حيث الطريقيّة ، حال العلم مع الانفتاح

ص: 357

لا يجوز النهيُ عنه من هذه الحيثية في الأوّل ، كما لا يجوز الامرُ به في الثاني .

فالنهيُ عنه وإن كان مُخرجاً للعمل به عن ظنّ البراءة الى القطع بعدمها الاّ أن الكلامَ في جواز هذا النهي لِما عرفت من أنّه قبيح .

وإن كان على وجهٍ يكشفُ النهيُ عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ يغلب على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ، فهذا وان كان جائزاً حسناً ، نظير الأمر به على هذا الوجه مع الانفتاح ، فهذا

-------------------

لا يجوز النّهي عنه من هذه الحيثية ) اي : من حيث الطريقيّة ( في الأول ) عند الانسداد ( كما لا يجوز الأمر به في الثاني ) عند الانفتاح .

وعليه : ( فالنهي عنه ) اي : عن القياس ( وإن كان مخرجاً للعمل به عن ظنّ البرائة الى القطع بعدمها ) اي : بعدم البرائة كما ذكره المستدِّل ( إلاّ أنّ الكلام في جواز هذا النهي ) وانّه هل يجوز أن ينهى عنه المولى أو لا يجوز ؟ .

وإنّما كان الكلام في هذا النهي ( لما عرفت : من أنّه ) اي : النهي في حال الانسداد عن بعض الظنون ( قبيح ) وقد مرّ تفصيله .

( وإن كان على وجه يكشف النهي عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ ) القياسي بحيث ( يغلب ) تلك المفسدة ( على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ) اي : عند طرح القياس ( فهذا وان كان جائزاً حسناً ) عند العقل ( نظير الأمر به ) اي : بالظنّ ( على هذا الوجه ) اي : وجه غلبة مصلحة الطريق على مصلحة الواقع ( مع الانفتاح ) لباب العلم ، إلاّ انّه جواب آخر كما قال :

( فهذا ) الجواب بأن النهي عن القياس لغلبة مفسدة القياس على مفسدة ترك

ص: 358

يرجع الى ما سنذكره في الوجه السادس .

وحاصله : أنّ النهيَ يَكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به . فالنهيُ عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظّن مع الانفتاح .

فان قلت : اذا بُنيَ على ذلك ، فكلُّ ظنّ من الظنون يحتملُ أن

-------------------

الواقع ( يرجع الى ما سنذكره في الوجه السادس ) وهو : انّه لو عمل بالقياس في حال الانسداد ، حصل على عشرين مفسدة - مثلاً - أما اذا لم يعمل بالقياس حصل على عشرة مفاسد ، فحيث يرى الشارع انّ في العمل بالقياس زيادة مفسدة ينهى عنه .

( وحاصله : انّ النهي ) من الشارع عن العمل بالقياس في حال الانسداد ( يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة ) تلك المصلحة ( على تقدير العمل به ) اي : بالقياس .

وعليه : ( فالنّهي عن الظّنون الخاصة ) في حال الانسداد ( في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ) إنّما يكون ( نظير الأمر بالظنّون الخاصة ) كالخبر الواحد وما اشبه ( في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانتفاح ) فانّه في حال الانتفاح يأمر الشارع بالعمل بالظّن ، لأنّه يرى أن ا لعمل بالظّن له عشرون مصلحة ، فيما يعلم الشارع بانّه لو لم يعمل بالظنّ يدرك فقط عشرة مصالح .

( فان قلت : اذا بنيَ على ذلك ) اي : على ان القياس يحتمل أن يكون اكثر مفسدة ولذلك نهى الشارع عنه في حال الانسداد ( فكل ظنّ من الظنّون يحتمل أن

ص: 359

يكونَ في العمل به مفسدةٌ كذلك .

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدةَ لا يَقدحُ في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يُظنّ معه بالبراءة عند الانسداد .

-------------------

يكون في العمل به مفسدةٌ كذلك ) أي : مفسدة اكثر ، فنحتمل انّ هذا الظنّ ايضاً منع الشارع منه .

هذا ، وقد تقدّم : ان مع احتمال المنع لا يصح الاستدلال ، لأنّه من الاُمور العقليّة وقالوا : اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، فكيف تعملون أنتم في حال الانسداد بسائر الظنّون : كالظنّ الحاصل من الخبر الواحد ، أو الاجماع المنقول ، أو الشهرة ، أو الأولوية ، أو ما اشبه ذلك ؟ .

( قلت : نعم ) هذا الاحتمال موجود في سائر الظنون ( ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبرائة عند الانسداد ) .

وإنّما لا يقدح ، لأنه انّما هو بعد الاحتياج الى العمل لفرض بقاء التكليف ، ولفرض انه لا طريق غير الظنّ ، فاذا لم يرض الشارع بالظن ، كان اللازم عليه أن ينهى عن الظنّ وينصب طريقاً آخر ، فاذا رأيناه لم ينصب طريقاً آخر ، ولم ينه عن الظنّ ، كشفنا عن انّ الظنّ ليس ممّا يحتمل فيه المفسدة الأكثر ، كما كان في القياس المفسدة الاكثر .

والحاصل : انه اذا كان في الخبر - مثلاً - في حال الانسداد مفسدة اكثر ، كان اللازم على الشارع أن ينهى عن الخبر كما نهى عن القياس ، فاذا رأيناه لم ينه عن الخبر ، ولم ينصب طريقاً آ خر غير الخبر ، كشفنا عن ان الخبر حجّة من باب الظنّ الانسدادي ، وهذا عكس حال الانفتاح .

ص: 360

كما أنّ احتمال وجود المصلحة ، المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدحُ في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد ، ان العقل مستقلٌ بوجوب العمل بالظنّ مع إنسداد باب العلم ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ، اذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة ، أو توهمّها ولا يجوز العدولُ عن البراءة الظنيّة اليهما .

وهذا الوجهُ وإن كان حسناً وقد اخترناه سابقاً الاّ أن ظاهر أكثر

-------------------

( كما انّ احتمال وجود المصلحة ، المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ) فالاحتمال لا ينفع لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

هذا ( وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد : ان العقل مستقلٌ بوجوب العمل بالظنّ مع انسداد باب العلم ) لانه لا طريق غير الظّن ( ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ) .

مثلاً : احتمال ان تكون القرعة ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو النوم ، أو ما أشبه ذلك هو الطريق المتعبّد به لا ينفع في جعل هذه الاُمور طريقاً في قِبال الظنّ ، الذي جعله العقلاء طريقاً عند الانسداد ( اذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل ) كونه طريقاً شرعيّاً عند الانسداد ( سوى الشك في البرائة أو توهمها ) اي : توهم البرائة ( ولا يجوز العدول عن البرائة الظنيّة اليهما ) اي : الى البرائة الشكيّة والبرائة الوهميّة ، فالاحتمال في مقابل الظنّ باطلّ عقلاً .

( وهذا الوجه ) السادس من أجوبة اشكال خروج القياس ( وإن كان حسناً وقد اخترناه سابقاً ) في جواب وجه خروج القياس في حال الانسداد ( الاّ أن ظاهر اكثر

ص: 361

الأخبار الناهية عن القياس أنّه لا مفسدة فيه الاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتاً عن ذلك وبعضها ظاهراً في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، الاّ أنّ دلالة الاكثر اظهر .

فهي الحاكمة على غيرها ، كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجعٌ الى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه .

-------------------

الأخبار الناهية عن القياس : أنّه لا مفسده فيه ) بالذات ،بأن يكون القياس كالخمر - مثلاً - ( الاّ الوقوع في خلاف الواقع ) فانّ القياس إنّما يكون منهياً عنه ، لأنّه على الأكثر يخالف الواقع .

هذا ( وان كان بعضها ) اي : بعض تلك الأخبار ( ساكتاً عن ذلك ) اي : عن كثرة وقوع القياس في خلاف الواقع ( وبعضها ظاهراً في ثبوت المفسدة الذاتيّة ) كما هو مدار الوجه السادس من الاجوبة التي ذكرناها ( الاّ انّ دلالة الأكثر ) من الأخبار الدالة على مفسدة خلاف الواقع في القياس ( اظهر ) من دلالة بعض الأخبار في المفسدة الذاتية .

إذن : ( فهي ) اي الاخبار الأكثر ، تكون ( الحاكمة على غيرها ) لأنّ ظهور مفسدة خلاف الواقع ( كما يظهر لمن راجع الجميع ) اي : جميع الأخبار الواردة في القياس ، في باب القضاء من الوسائل ، والمستدرك وغيرها .

وعليه : ( فالنهي راجع الى سلو كه من باب الطريقيّة ) فيكون النهي - عند فقد العلم - عن سلوك الطريق القياسي من حيث انّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيح لأنّه تعرض لتفويت الواقع ، ( وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه ) فانّه نهي عند الانفتاح ، لا أنه نهي عن الانسداد .

ص: 362

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لابدّ من حملها في مقابل العقل المستقلّ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع الى الائمة عليهم السلام ، والأدلّة القطعيّة منها كالاجماع المنعقدِ على حرمة العمل به حتى مع الانسداد لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة .

كما أنّه اذا قام دليل على حجّية الظنّ مع التمكّن من العلم ، نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ، لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالفٌ لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره .

-------------------

( الاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة ) التي نهت ( عن العمل بالقياس ) وتبيّن فيها جهة النهي وهو : كونه ( من حيث الطريقيّة ، لابّد من حملها في مقابل العقل المستقل ) الدال ذلك العقل على العمل بمطلق الظنّ عند الانسداد ( على صورة انفتاح باب العلم ، بالرّجوع الى الائمة عليهم السلام ) اجمعين .

( و ) أمّا ( الادلّة القطعيّة منها ) اي : من الادلة الدالة على حرّمة العمل بالقياس غير الرّوايات ( كالاجماع المنعقد على حرمة العمل به ) اي : بالقياس ( حتى مع الانسداد ) فذلك ( لاوجه له غير المفسدة الذاتية ) كما تقدّم : من أنّ بعض الأخبار أيضاً ظاهر في ثبوت المفسدة الذاتية .

( كما انّه اذا قام دليل على حجّية الظنّ مع التمكن من العلم ، نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ) فانّه لا يمكن للشارع تجويز العمل بالظن حال الانفتاح ، الاّ اذا تداركه الشارع عند مخالفة الظنّ للواقع .

وانّما نحمل الظنّ على وجود المصلحة المتداركة في حال الانفتاح ( لأنّ حمله ) اي حمل الظنّ ( على العمل من حيث الطريقيّة ، مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسره ) اي : مع تيسّر العلم .

ص: 363

الوجه السابع : هو أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبةُ مخالفتها للواقع ، كما يشهد به قوله عليه السلام : « إنّ السُّنة اذا قِيست مُحِقَ الدّينُ » ، وقوله : « كانَ ما يُفسدهُ اكثر ممّا يُصلحهُ » ، وقوله : « ليسَ شيءٌ ابعدَ عن عُقولِ الرّجالِ من دينِ اللّهِ »

-------------------

هذا ، ولا يخفى : انّ خلاصة هذا الوجه الذي هو سادس الوجوه ، كان عبارة : عن وجود مفسدة ذاتية في القياس ، ولذلك نهى الشارع عنه .

( الوجه السّابع : ) من وجوه أجوبة اشكال خروج القياس ( هو أن ) في القياس مفسدة خلاف الواقع ، لا المفسدة الذاتيّة ، فحيث انّه كثيراً ما يخالف الواقع نهى الشارع عنه ، حتى في حال الانسداد ، فخروج ( خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات ) حيث أجاز الشارع سائر الأمارات وأبطل العمل بالقياس ( هي غلبة مخالفتها ) أي : القياسات ( للواقع كما يشهد به قوله عليه السلام : « إنّ السُنّة اذا قِيستَ مُحِقَ الدّين » (1) ) المَحق : بمعنى : البطلان ، اي : بطل الدّين ، لأنّه لا يطابق الواقع حينئذٍ .

( وقوله ) عليه السلام : ( « كان ما يُفسِدهُ أكثرُ ممّا يُصلحهُ » (2) ) لأنّ الافساد عبارة عن المخالفة للواقع ، بينما الاصلاح عبارة عن الموافقة للواقع .

( وقوله ) عليه السلام : ( « لَيسَ شيءٌ أبعد عن عُقول الرِّجال من دِينِ اللّهِ » (3) ) وقد تقدّم معنى : ان العقل لا يصيب الدّين ، وان المراد به في الجزئيات والاّ فالكليات

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .
2- - بحار الأنوار: ج1 ص208 ب5 ح7 وفيه مايصلح، وسائل الشيعة: ج27 ص25 ب4 ح33112.
3- - تفسير العياشي : ج1 ص11 ح2 و ص12 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 بحار الأنوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 و ص95 ب9 ح48 والجميع بالمعنى .

وغير ذلك .

وهذا المعنى لمّا خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنيّة عند فقدِ العلم ، فهو إنّما يحكمُ بها لادراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها . فاذا كشف الشارعُ عن حال القياس وتبيّن عند العقل حالُ القياس فيحكمُ حكماً اجماليا بعدم جواز الرّكون اليه .

نعم ، اذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد ، لا يحكم بترجيح غيره عليه

-------------------

غالباً تصاب بالعقول ، فانّ الاسلام دين العقل .

( وغير ذلك ) من الروايات الدالة على أنّ القياس يخالف الواقع كثيراً .

( وهذا المعنى ) اي : غلبة مخالفة القياس للواقع ( لمّا خفي على العقل ، الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّية عند فقد العلم ) اذ العقل يحكم بوجوب اتباع العلم في امتثال أوامر المولى ، فاذا فقد المكلّف العلم بها ، ( فهو ) اي : العقل يحكم بوجوب اتباع الظنّ .

و ( انّما يحكم بها ) اي : بتلك الطرق الظنيّة ( لادراك اكثر الواقعيات المجهولة بها ) اي : بهذه الطرق ، وقوله : « بها » متعلق « بالادراك » فانّ تلك الطرق تدرك اكثر الواقعيات المجهولة ( فاذا كشف الشّارع عن حال القياس ) وانّه لا يطابق الواقع ( وتبيّن عند العقل حال القياس ، فيحكم ) العقل ( حكماً إجمالياً بعدم جواز الرّكون اليه ) اي : الى القياس ، لأنّ الشارع العالم بالحقائق كشف للعقل عدم مطابقة القياس على الاغلب للواقع .

( نعم ، اذا حصل الظنّ منه ) اي : من القياس ( في خصوص مورد ) من الموارد وفرع من الفروع ، في حين ( لا يحكم ) العقل ( بترجيح غيره عليه ) أي : لا يحكم

ص: 365

في مقام البراءة عن الواقع . لكن يصح للشارع المنعُ عنه تعبّداً بحيث يظهر منه : إني ما اُريد الواقعيات التي تضمّنها ، فان الظنَّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه والأخذ بغيره .

وحينئذٍ : فالمُحسّنُ لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة

-------------------

بترجيح غير القياس عليه ، لأنّ المفروض : ان غيره وَهْمٌ والقياس ظنّ ، ولهذا يحكم العقل في هذا المورد الخاص بترجيح القياس على غيره .

كما يحكم العقل ( في مقام البرائة عن الواقع ) فان العقل حيث يريد أن يحكم ببرائة الانسان عن الواقع ، وكان باب العلم منسداً ، وحصل له ظنّ من القياس ، حكم على طبق القياس .

( لكن يصح للشّارع المنع عنه تعبّداً ) بان يقول : حتى في هذا المورد من الظنّ لا تعمل بالقياس ، وإنّما اعمل بالوهم المطابق لسائر الاُصول : كالاستصحاب والبرائة ، ما اشبه ، ( بحيث يظهر منه ) اي : من الشارع حيث منع عن الظّن القياسي بأن يقول : ( إنّي ما اُريد الواقعيات التي تضمّنها ) القياس .

فان قلت : كيف يمنع الشارع عن الظّن في حال الانسداد ؟ اليس الظنّ في حال الانسداد كالعلم ؟ .

قلت : كلا ( فان الظنّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه ) فان الشارع يتمكن من أن يكلّف الشخص بترك الظنّ ، بينما لا يتمكن أن يكلّف الشخص بترك العلم ، والفارق : ان الظنّ ليس كاشفاً قطعيّاً ، بخلاف العلم .

وعليه : فيتمكن الشارع من منع الشخص عن العمل بالقياس ( والأخذ بغيره ) بأن يقول : خذ بالاُصول وان كانت موهومة ، واترك القياس وإن كان مظنوناً .

( وحينئذٍ : فالمُحسّنُ لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة ) بأن يقول :

ص: 366

كونُه في علم الشارع مؤدّياً في الغالب الى مخالفة الواقع .

والحاصلُ : انّ قبحَ النهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة إمّا أن يكونَ لغلبة الوقوع في خلاف الواقع مع طرحه فينافي الغرض ، وأمّا أن يكون لاجل قبح ذلك في نظر الظّان ، حيث أن مقتضى القياس أقربُ في نظره الى الواقع ، فالنهيُ عنه نقضٌ لغرضه في نظر الظّان .

أمّا الوجهُ الأوّل ، فهو مفقود في المقام ، لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع .

-------------------

ان القياس ليس بطريق ( كونه في علم الشّارع مؤديّاً في الغالب الى مخالفة الواقع ) وإن لم يدرك العقل ذلك .

( والحاصل : ان قبح النّهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة ) اي : لا على أن فيه مفسدة ذاتية ، يكون على وجهين :

( إمّا أن يكون لغلبة الوقوع فيخلاف الواقع مع طرحه ) اي : مع طرح القياس ، ( فينافي الغرض ) اي : غرض المولى ، ونقض الغرض قبيح ، فقبح النهي إنّما هو لأنّه منافٍ للغرض واقعاً .

( وامّا أن يكون لأجل قبح ذلك ) اي : قبح النهي عن العمل بالقياس ( في نظر الظّان ، حيث أنّ مقتضى القياس أقرب في نظره الى الواقع ، فالنهي عنه ) اي : عن القياس ( نقض لغرضه في نظر الظان ) .

والحاصل : ان قبح نهي الشارع عن العمل بالقياس ، اما لأنّه مناف للغرض واقعاً ، وإمّا لأنّه مناف للغرض في نظرّ الظّان .

( أما الوجه الأوّل : فهو مفقود في المقام ) اي : في مقام النهي عن القياس ( لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع ) فلا قبح للنهي من جهة منافاته للغرض واقعاً .

ص: 367

وأمّا الوجهُ الثاني ، فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظّان النّهي في ذلك المورد الشخصيّ على عدم ارادة الواقع منه في هذه المسألة ولو لأجل اطّراد الحكم .

الا ترى أنّه يصّح أن يقول الشارعُ للوسواسيّ القاطع بنجاسة ثوبه : « ما اُريد منك الصلاة بطهارة الثوب » وإن كان ثوبُه في الواقع نجساً ، حسماً لمادّة وسواسه .

-------------------

وأمّا الوجه الثاني : فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظّان النّهي في ذلك المورد الشخصي على عدم ارادة الواقع منه ) بمعنى : انّ الشارع لا يريد الواقع من طريق القياس ، وإنّما يريد الواقع من طريق الأصل المنافي للقياس ( في هذه المسألة ) الشخصيّة ( ولو لأجل اطّراد الحكم ) .

فان الشارع اراد المنع عن القياس كلّية لكثرة مخالفته للواقع ، فرفع اليد عن القياس حتى في مورد اصابته للواقع ، وذلك لأنّ مفسدته كان اكثر من مصلحته ، فقدّم الشارع ترك العمل بالقياس رأساً من باب تقديم الأهم على المهم ، وهذا ما يفعله العقلاء في كلّ مورد يكون فيه المفسدة اكثر من المصلحة .

( ألا ترى : أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه : ما أُريد منك الصلاة بطهارة الثوب ) اطلاقاً ، بل صلّ بالثوب طاهراً كان أو نجساً ، وهو يصلي احياناً في الثوب النجس ، لانّه يترك قطعه ( وإن كان ثوبه في الواقع نجساً ) ؟ .

وانّما يقول له الشارع ذلك ويرفع يده عن الحكم الواقعي ( حسماً ) وقطعاً ( لمادة وسواسه ) فاذا صح ذلك في العلم ، صح ذلك في الظنّ أيضاً بطريق اولى .

ص: 368

ونظيره : انّ الوالد اذا أقام ولده الصغير في دكّانه في مكانه ، وعلم منه أنه يبيع اجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له منعهُ عن العمل بظنّه .

ويكون منعهُ في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ، ويكون هذا النهيُ في نظر الصبي الظانّ بوجود النفع في المعاملة الشخصيّة اقداماً منه ورضىً بالخسارة وترك العمل بما يظنّه نفعاً ، لئلا يقع في الخسارة في مقامات اُخر ، فانّ حصولَ الظنّ الشخصيّ بالنفع تفصيلاً في بعض الموارد لا ينافي علمه بانّ العمل بالظنّ القياسيّ منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجبُ الوقوعَ غالباً في مخالفة الواقع .

-------------------

( ونظيره ) اي : نظير نهي المولى حتى في صورة المطابقة للواقع ( : انّ الوالد اذا أقام ولده الصغير في دكانه في مكانه ) اي : في مكان الوالد ( وعلم ) الوالد ( منه انّه

يبيع اجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له ) اي : للوالد ( منعه عن العمل بظنّه ويكون منعه في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ) لأنّ الوالد يريد الربح ، والولد اذا عمل بظنونه سبب الخسارة في الاجناس .

( ويكون هذا النهي في نظر الصبيّ الظان بوجود النفع في المعاملة الشخصية ، اقداماً منه ورضىً بالخسارة ، و ) اقداماً على ( ترك العمل بما يظنّه نفعاً ) فقوله : «وترك» ، عطف على قوله : « بالخسارة » ( لئلا يقع في الخسارة في مقامات اُخر ) فالصبي يعلم بانّ الوالد قد صرف النظر عن هذا النفع الشخصي ، حتى لا يقع في خسارات في مقامات اُخر .

( فانّ حصول الظنّ الشخصي بالنفع - تفصيلاً - في بعض الموارد ، لا ينافي علمه ، بانّ العمل بالظنّ القياسي منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره ، يوجب الوقوع غالباً في مخالفة الواقع ) فاذا كانت هناك موارد للقياس من زيد

ص: 369

ولذا علمنا ذلك من الأخبار المتواترة معنىً مع حصول الظنّ الشخصي في الموارد منه ، إلاّ انّه كلُّ مورد حصل الظّن نقولُ بحسب ظنّنا إنّه ليس من موارد التخلّف فنحمل عمومَ نهي الشارع الشامل لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع واغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ، لئلا يقع في مفسدة

-------------------

ومن آخرين ، علم زيد بأن جملة من هذه الموارد التي يقيسها هو أو يقيسها غيره من المكلفين تخالف الواقع ، فيعلم زيد بأنّ الشارع منع عن القياس اطلاقاً حتى لا يقع المكلَّف في مخالفة الواقع كثيراً وان ظنّ زيد انّ القياس في هذا المورد الشخصي يطابق الواقع .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من أن حصول الظنّ الشخصي بالنفع - تفصيلاً - في بعض الموارد ، لا ينافي علمنا بخلاف الواقع في غالب موارد القياس ( علمنا ذلك ) اي : علمنا انّ خلاف الواقع في القياس اكثر ( من الأخبار المتواترة معنىً ، مع حصول الظنّ الشّخصي في الموارد منه ) اي : من القياس ، وقوله :« لذا » صغرى لكبرى قوله : « فان حصول الظنّ الشخصي . . . » فكلام المصنّف : مثل أن يقال : الانسانُ خُلقَ حَسنَاً ، ولذا نرى زيدا حَسناً .

( الاّ أنّه ) لمّا لم يمكن الظنّ القياسي بمطابقة الواقع مع الظنّ بانّه خلاف الواقع ، لأنّه جمع بين النقيضين ف ( كلّ مورد حصل الظنّ ) من القياس ( نقول : بحسب ظنّنا : انّه ليس من موارد التخلّف ، فنحمل عموم نهي الشّارع الشّامل لهذا المورد ) الشخصي ( على رفع الشارع يده عن الواقع واغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ) .

وانّما رفع الشارع يده عن القياس المطابق للواقع ( لئلا يقع ) العبد ( في مفسدة

ص: 370

تخلّفهِ عن الواقع في اكثر الموارد .

هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الاشكال وعليك بالتأمّل في هذا المجال ، واللّه العالمُ بحقيقة الحال .

المقام الثاني

فيما اذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ على حرمة العمل ببعضها بالخصوص ،

-------------------

تخلّفه عن الواقع في أكثر الموارد ) فكما أنّه مع علم الوسواسي بالنجاسة يقول الشارع له : رفعت يدي عن الواقع المعلوم عندك ، كذلك مع الظنّ القياسي يقول الشارع : رفعت يدي عن الواقع المظنون عندك .

( هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الاشكال ) القائل : بأنّه كيف يمكن للشارع منع القياس في حال الانسداد ؟ ( وعليك بالتأمّل في هذا المجال واللّه العالم بحقيقة الحال ) .

هذا كلّه بناءاً على المنع عن القياس في حال الانسداد ، أمّا مَن يرى انّ القياس في حال الانسداد يجوز العمل به ، فلا يحتاج الى هذه الاجوبة ، لأنّه يرى ان المنع عن القياس خاص بحال الانفتاح ولو للانصراف .

ثم انّ المصنّف قال قبل صفحات : ان الاشكال في مقامين : احدهما : في خروج القياس ، وثانيهما : في حكم الظنّ الذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر ، وحيث فرغَ من الكلام في المقام الاوّل قال :

( المقام الثاني : فيما اذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ ) الانسدادي ( على حرمة العمل ببعضها ) اي : ببعض الظنون الاُخر من افراد مطلق الظّن ( بالخصوص ) بأن دلّ الدّليل الفلاني على أن الدّليل الفلاني الآخر لا إعتبار به .

ص: 371

لا على عدم الدّليل على اعتباره .

فيخرجُ مثلُ الشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، لأنّ مرجعها الى انعقاد الشهرة على عدم الدّليل على حجّية الشهرة وبقائها تحت الاصل .

وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط

-------------------

( لا على عدم الدّليل على اعتباره ) أي : اعتبار الفرد الآخر من الظنّ لأنّ الظنّ القياسي - مثلاً - قد يقوم على عدم اعتبار شيء ، وقد يقوم على عدم الدليل على اعتباره ، فانّ مورد الاشكال هو الأول ، لا الثاني .

وعليه : ( فيخرج ) من هذا المقام وهو الظنّ المانع والممنوع ( مثل : الشّهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ) فانّ المشهور من العلماء يقولون : انّ الشهرة ليست بحجّة ، فهذا لايسمى من الظنّ المانع والممنوع ( لأنّ مرجعها ) أي : مرجع هذه الشهرة المنعقدة على عدم حجّية الشهرة ( الى انعقاد الشهرة على عدم الدّليل على حجيّة الشهرة وبقائها ) أي : بقاء الشهرة ( تحت الاصل ) اي : اصل عدم الحجّية ، فانّه لو شككنا في الحجيّة ، فالاصل : عدم الحجّية .

إذن : فالشهرة المانعة لا تقول : انّ الشهرة ممنوعة العمل ، وإنّما تقول : لا دليل على حجّية الشهرة ، فانّ مثل هذه المسألة خارجة عن مقامنا وهو الظنّ المانع والممنوع .

نعم ، لو قامت الشهرة على وجود الدّليل على المنع عن العمل بالشهرة ، كان من ظنّ المانع والممنوع .

( وفي وجوب العمل بالظّنّ الممنوع ) قوله ، ( أو المانع ) قول ثان ، ( أو الأقوى منهما ) قول ثالث ، ( أو التساقط ) فلا يعمل لا بالظنّ المانع ولا بالممنوع

ص: 372

وجوهٌ بل أقوالٌ .

ذهب بعضُ مشايخنا إلى الأوّل ، بناءا منه على ما عرفت سابقاً ، من بناء غير واحد منهم انّ دليل الانسداد لايثبتُ إعتبارَ الظنّ في المسائل الاُصوليّة التي منها مسألة حجّية الممنوع .

ولازم بعض المعاصرين الثاني ، بناءا على ماعرفت منه ، من أنّ اللازمَ بعد الانسداد تحصيلُ الظنّ بالطريق ، فلا عِبرةَ بالظنّ بالواقع مالم يقم على اعتباره الظنّ .

-------------------

قول رابع ، ( وجوه بل أقوال ؛ ذهب بعض مشايخنا ) وهو : شريف العلماء ، وقَبلَه قال بذلك الرياض ، وبعده جماعة آخرون ( الى الأوّل ) وهو : أن يعمل بالظنّ الممنوع ، ويسقط المانع .

وذلك ( بناءاً منه على ما عرفت سابقاً : من بناء غير واحد منهم : انّ دليل الانسداد لايثبت إعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة ، التي منها مسألة حجّية الممنوع ) فالظّنّ المانع ليس بحجّة ، ولا حق للظنّ المانع أن يقول : انّ الظّنّ الممنوع ليس بحجّة ، فالظّنّ الممنوع داخل تحت دليل الانسداد ويعمل به ، بخلاف الظنّ المانع .

( ولازم بعض المعاصرين ) كالتُستري ، وصاحب الحاشية ، وصاحب الفُصول ( الثاني ) وهو : انّ الظّنّ المانع حجّة ، والممنوع ليس بحجّة .

وذلك ( بناءاً على ماعرفت منه ) أي من هذا البعض ( : من انّ اللازم بعد الانسداد ، تحصيل الظّنّ بالطّريق ) أي : إنّ دليل الانسداد يدلّ على حجّية الظّنّ في المسألة الاُصولية ( فلا عِبرةَ بالظنّ بالواقع ) أي : بالمسألة الفرعية ( مالم يقم على اعتباره الظّن ) الطريقي ، وفيما نحن فيه : الظّنّ على عدم الاعتبار ، فلا يؤخذ

ص: 373

وقد عرفت ضعف كلا البنائين وأنَّ نتيجة مقدمات الانسداد هو الظنّ بسقوط التكاليف الواقعيّة في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس الواقع وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع .

نعم ، بعضُ من وافقنا ، واقعاً أو تنزّلاً ، في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، إختارَ في المقام وجوبَ طرح الظنّ الممنوع

-------------------

بالظّنّ الممنوع ، الذي قام ظنّ في المسألة الاُصولية على عدم اعتباره .

هذا ( وقد عرفت : ضعف كلا البنائين ) لأنّ المصنّف ذهب الى حجّية الظّنّ في المسائل الاصولية والفرعية معاً ( و ) قال : ( انّ نتيجة مقدمات الانسداد هو : الظّنّ بسقوط التكاليف الواقعية في نظر الشّارع ) أي : الظنّ ببرائة الذمّة عن التكاليف المتوجهة الى المكلّف حسب العلم الاجمالي العام ( الحاصل ) ذلك الظنّ بسقوط التكاليف ( بموافقة نفس الواقع ) وهو الظنّ في المسألة الفرعية ( وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع ) وهو الظّنّ في المسألة الاُصولية .

( نعم ، بعض من وافقنا - واقعاً أو تنزّلاً - في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، اختار في المقام ) أي : في مسألة الظنّ المانع والممنوع ( وجوب طرح الظّنّ الممنوع ) والأخذ بالظّن المانع .

وقوله : « واقعاً أو تنزّلاً » ، يعني : انّ بعضهم قال بمثل مقالتنا : من انّ الظّنّ حجّة ، سواء كان في المسألة الاُصولية أو في المسألة الفرعية ، وبعضهم لم يقل بذلك ، وإنّما قال بأحد القولين الأولين ، ثم قال : إذا تنزّلنا وقلنا ، بإطلاق حجّية الظنّ في المسألة الفرعية والمسألة الاُصولية ، كان مقتضى القاعدة : وجوب طرح الظّنّ الممنوع والأخذ بالظنّ المانع .

ص: 374

نظراً إلى أنّ مفادَ دليل الانسداد ، كما عرفت في الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس وهو اعتبارُ كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليلٌ معتبر .

والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر ، وهو الظنّ المانع ، فانّه معتبرٌ حيث لم يقم دليلٌ على المنع منه ، لأنّ الظنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظنّ المانع .

غاية الأمر أنّ الأخذَ به مُنافٍ للأخذ بالمانع ، لا أنّه يدلّ على وجوب

-------------------

وإنّما قال : « من وافقنا واقعاً أو تنزّلاً » ( نظراً الى انّ مفاد دليل الانسداد - كما عرفت في الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس - وهو اعتبار كل ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر ) قوله : « هو » ، خبر قوله : « إن مفاد . . . » ، يعني : إنّ دليل الانسداد إنّما يفيد اعتبار كل ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر .

هذا ( والظّنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر ، وهو : الظّنّ المانع ) فانّ الظنّ المانع قام على عدم اعتبار الظّنّ الممنوع ( فانّه ) أي : الظنّ المانع ( معتبر ) في نفسه ( حيث لم يقم دليل على المنع منه ) .

والحاصل : انّ الظّنّ المانع قام على عدم اعتبار الظّن الممنوع ، أما الظّنّ الممنوع فلم يقم على عدم اعتبار الظنّ المانع ( لأنّ الظّنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظّنّ المانع ) .

إن قلت : لازم الأخذ بالظنّ الممنوع هو : عدم اعتبار الظنّ المانع .

قلت : ( غاية الأمر : انّ الأخذ به ) أي : بالظّنّ الممنوع ( منافٍ للأخذ بالمانع ) لأنّه إذا أخذنا بالممنوع كان معناه : انّا لم نأخذ بالمانع ( لا أنّه يدلّ على وجوب

ص: 375

طرحه ، بخلاف الظنّ المانع ، فإنّه يدلّ على وجوب طرح الظنّ الممنوع .

فخروجُ الممنوع من باب التخصّص لا التخصيص ، فلا يقال : انّ دخول أحد المتنافيين تحت العامُ لايصلحُ دليلاً لخروج الآخر مع تساويهما في قابلية الدّخول من حيث الفرديّة .

-------------------

طرحه ) أي : طرح الظنّ المانع ، وهذا ( بخلاف الظّن المانع ، فانّه يدلّ على وجوب طرح الظّن الممنوع ) ، فالظنّ الممنوع قام دليل معتبر على لزوم طرحه ، بينما الظّنّ المانع لم يدل دليل معتبر على لزوم طرحه .

إذن : ( فخروج الممنوع من باب التخصّص ) لأنه ليس ظنّاً لم يقم على عدم اعتباره ظنّ معتبر ، بل الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره الظنّ المانع ، والظنّ المانع معتبر ، ( لا التخصيص ) بأن يكون دليل الانسداد شاملاً للظنّ الممنوع لكن هناك مخصّص يخرجه من دليل الانسداد .

والحاصل : انّ دليل الانسداد لايشمل الممنوع ، لا أنّه يشمله ثم يخرجه منه بمخرج .

وعليه : ( فلا يقال : انّ دخول أحد المتنافيين تحت العام ، لايصلح دليلاً لخروج الآخر مع تساويهما ) أي : تساوي المتنافيين ( في قابليّة الدّخول من حيث الفردّية ) فان الظّنّ الممنوع ليس داخلاً تحت العام ، لعدم شمول العام وهو دليل الانسداد للظنّ الممنوع أصلاً .

ومثال ما ذكره المصنّف بقوله : « انّ دخول أحد المتنافيين تحت العام . . . » هو : انّه إذا كان خبر الواحد حجّة ، ثم قام خبر واحد على عدم حجّية خبر آخر ، فانّه لا دليل على ان نأخذ بالخبر الأوّل ونترك الخبر الثاني ، كما لا دليل لأن نأخذ بالخبر الثاني ونترك الخبر الأوّل ، لأنّ كلاً من الخبرين متساويان في قابلية

ص: 376

ونظيرُ مانحن فيه : ماتقرّر في الاستصحاب ، من أنّ مثلَ استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوبُ النجسُ دليل حاكمٌ على استصحاب نجاسة الثوب وإن كان كلُّ من طهارة الماء ونجاسة الثوب ، مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب متيقّنةً في السابق مشكوكةً في اللاحق ، وحكمُ الشارع بابقاء

-------------------

دخولهما تحت حجّية الخبر الواحد فلا أولوية لأحدهما على الآخر ، والظنّ المانع والممنوع من جهة دليل الانسداد ليس من هذا القبيل ، لأنّ الظّن الممنوع خارج تلقائياً بدون تخصيص ، وإنّما بالتخصص كما عرفت .

( ونظير ما نحن فيه ) : من انّ أحد الدليلين يمنع الآخر تخصصاً لا تخصيصاً ( ما تقرّر في الاستصحاب : من أنّ مثل استصحاب طهارة الماء المغسول به الثّوب النجس ، دليل حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ) فاذا كان هناك ثوب نجس وماء طاهر ، ثم شككنا في بقاء الماء على الطهارة فاستصحبنا طهارته وغسلنا به الثوب ، فإن استصحاب بقاء نجاسة الثوب مرفوع بسبب استصحاب طهارة الماء .

هذا ( وان كان كلّ من طهارة الماء ونجاسة الثّوب مع قطع النّظر عن حكم الشّارع بالاستصحاب ، متيقّنة في السّابق مشكوكة في اللاحق ) لأنّا بعد اليقين بطهارة الماء شككنا في بقاء طهارته ، وبعد اليقين بنجاسة الثوب شككنا في بقاء نجاسته ، لكن بقاء طهارة الماء بالاستصحاب يرفع نجاسة الثوب بعد غسل الثوب بالماء ، فلا يبقى شك في نجاسته .

وعليه : فانّ كل واحد منهما وإن كان إستصحاباً ( و ) كان ( حكم الشارع بإبقاء

ص: 377

كلّ متيقّن في السابق مشكوكٍ في اللاحق متساوياً بالنسبة إليهما .

إلاّ أنّه لمّا كان دخولُ يقين الطهارة في عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلاً على زوال نجاسة الثوب المتيقنة سابقاً ، فيخرج عن المشكوك لاحقاً ، بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ، فانّه لايصلحُ للدلالة على طروّ النجاسة للماء المَغسول به قبل الغسل وإن كان منافياً لبقائه على الطهارة .

-------------------

كل متيقن في السّابق مشكوك في اللاحق متساوياً بالنسبة اليهما ) أي : الى طهارة الماء والى نجاسة الثوب .

( إلاّ انّه لما كان دخول يقين الطّهارة ) للماء ( في عموم الحكم ) الاستصحابي ( بعدم النقض ) للحالة السابقة ( والحكم عليه بالبقاء ، يكون دليلاً على زوال نجاسة الثّوب المتيقّنة ) تلك النجاسة ( سابقاً ، فيخرج ) الحكم بنجاسة الثوب ( عن المشكوك لاحقاً ) فلا يبقى لنا شك في نجاسة الثوب لاحقاً ، بعد إستصحاب طهارة الماء المزيل للنجاسة التي كانت في الثوب .

هذا ( بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ) إذا حكمنا على بقاء نجاسة الثوب ( فانّه لايصلح للدّلالة على طروّ النجاسة للماء - المغسول به - قبل الغسل ) .

قوله : « قبل » متعلق بقوله « طرو » أي : لايدلّ بقاء نجاسة الثوب على انّ الماء صار نجساً قبل أن نغسل الثوب به ( وإن كان ) بقاء النجاسة في الثوب ( منافياً لبقائه ) أي : لبقاء الماء ( على الطهارة ) فانّه إذا قلنا : بأنّ الثوب باقٍ على نجاسته بعد الغسل ، كان معنى ذلك : انّ الماء لم يبق طاهراً ، لأنه لو بقي طاهراً لم يبق الثوب نجساً ، فالإستصحابان متنافيان ، إلاّ انّ إستصحاب الطهارة حاكم

ص: 378

وفيه ، أوّلاً : أنّه لايتمّ فيما إذا كان الظنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقومَ الشهرةُ مثلاً على عدم حجّية الشهرة ، فانّ العملَ ببعض أفراد الأمارة ، وهي الشهرة في المسألة الاُصوليّة دون البعض الأخر ، وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ، كما ترى .

وثانياً : انّ الظنّ المانع إنّما يكون على فرض إعتباره دليلاً على عدم اعتبار الممنوع ،

-------------------

على إستصحاب نجاسة الثوب .

( وفيه : ) أي : في طرح الظنّ الممنوع بسبب الظنّ المانع - كما ذكرناه عند قولنا : « نعم بعض من وافقنا واقعاً أو تنزلاً . . . » الى آخر عبارته - ، مايلي :

( أولاً : انّه لايتّم فيما إذا كان الظّنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقوم الشّهرة مثلاً على عدم حجيّة الشّهرة ) .

وإنّما لايتم ذلك في هذا المورد لقوله : ( فانّ العمل ببعض أفراد الأمارة وهي : الشّهرة في المسألة الاُصوليّة ) وهي الحجّية واللاحجّية ( دون البعض الآخر وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ) كالشّهرة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ( كما ترى ) ، إذ لايمكن حجّية الشهرة في كليهما للتناقض ، ولا في أحدهما للترجيح بدون مرجّح .

( وثانياً : ) بأن كان الظّنان من جنسين ، مثل : قيام الشهرة على عدم حجيّة الخبر ، ففيه : ( انَّ الظّن المانع إنّما يكون على فرض اعتباره دليلاً على عدم اعتبار الممنوع ) أيّ : انَّ الظّن المانع دليل على عدم اعتبار الممنوع وسيأتي - إنشاء اللّه تعالى - بقية الكلام عند قوله : وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع .

والحاصل : انَّ كل واحد من المانع وَالممنوع يمنع الآخر ، أمّا انّ الظّنّ المانع

ص: 379

لأنّ الامتثال بالممنوع حينئذٍ مقطوع العدم .

كما تقرّر في توضيح الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس .

وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع .

مثلاً : إذا فرض صيرورةُ الأولوية مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد لم يُعقل بقاء الشهرةِ المانعة عنها على افادة الظنّ بالمنع .

-------------------

يمنع الممنوع ( لأنَّ الامتثال بالممنوع حينئذٍ مقطوع العدم ) فالممنوع لايعمل به إطلاقاً قطعاً ( كما تقرّر في توضيح الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس ) حيث قلنا هناكَ : إنَّ دليل الانسداد إنّما يثبت حُجيّة الظّن الذي لم يقم على عدم حجّيته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص دون التخصيص .

( وهذا المعنى موجود في الظّنّ الممنوع ) ايضاً ، فكما انَّ الظّنّ المانع يمنع الممنوع ، كذلك الظّن الممنوع يمنع المانع .

( مثلاً : إذا فرض صيرورة الأولويّة مقطوعة الاعتبار ) بأن كان ظنٌّ - ناشيء عن الأولوية - مقطوع إعتباره ( بمقتضى دخولها ) أي : دخول الأولوية ( تحت دليل الانسداد ، لم يعقل بقاء الشّهرةِ المانعة عنها على إفادة الظّنّ بالمنع ) لأنّه لايعقل أن يظنّ الانسان بالممنوع ، ثمّ يظنّ بالمانع أيضاً .

وعليه : فيكون خروج الظنّ المانع - كما ذكرناه - على وجه التخصص دون التخصيص .

إن قلت : إنّا نظنّ بحسب الشّهرة على عدم حجّية الأولوية .

قلت : ننقض ذلك بأنّا بسبب ظنّنا بالأولوية ، نظن بعدم حجّية الشهرة .

ص: 380

ودعوى : « انّ بقاء الظنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليلٌ على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولويّة ، وإلاّ لارتفع الظنّ بعدم حجّيتها ، فيكشف ذلك عن دخول الظنّ المانع تحت دليل الانسداد » مُعارَضَةٌ بأنّا لانجد من أَنفُسِنا القَطعَ بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع ، فلو كان الظنّ المانع داخلاً لحصل القطعُ بذلك .

-------------------

والى هذا الاشكال والجواب أشار المصنّف بقوله : ( ودعوى : انَّ بقاء الظّنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليل ) أي : هذا البقاء دليل ( على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولويّة ) فلا نظنّ بحجّية الأولويّة بعد ظنّنا بحجيّة الشّهرة ( وإلاّ ، لارتفع الظّنّ بعدم حجّيتها ) أي : بعدم حجّية الشّهرة .

وعليه : ( فيكشف ذلك ) أي : عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولوية ( عن دخول الظّن المانع ) أي : الظّن بالشهرة ( تحت دليل الانسداد ) فلا يبقى الظّن الممنوع تحت دليل الانسداد .

فان هذه الدعوى ( معارضة ، بأنّا لانجد من أَنفُسِنا القطع بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطّريق الممنوع ) فانّا إذا سلكنا الأولوية الدالّة على فرع من الفروع ، لانجد من أنفسنا القطع بخلاف هذا الحكم عند الشارع ( فلو كان الظّن المانع داخلاً ، لحصل القطع بذلك ) أي : بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطَّريق الممنوع .

وتوضيح هذا الاشكال والجواب على لفظ الأوثق : « انَّ الظّنَ المانع والممنوع ظنّان تمانعا في الاندراج تحت دليل الانسداد ، إذ القطع بدخول احدهما مستلزم للقطع بخروج الآخر ، غاية الأمر : انّ المنع من جانب المانع من جهة كون مؤداه عدم حجّية الممنوع ، ومن جانب الممنوع إنّما هو بالملازمة دون المطابقة ، فكما أنَّ المانع دليل على عدم حصول الامتثال للممنوع ، كذلك الحال في الممنوع ،

ص: 381

وحَلّ ذلك : أنّ الظنّ بعدم اعتبار الممنوع إنّما هو مع قطع النظر عن ملاحظة دليل الانسداد ولا نسلّم بقاء الظنّ بعد ملاحظته .

ثمّ إنّ الدليل العقليّ

-------------------

ومجرّد كون ذلك في أحدهما بالمطابقة وفي الآخر بالملازمة لايجدي في المقام » (1) .

أقول : وذلك لأنّه قد تقدّم منّا في هذا الشرح : انّ التناقض كما يحصل بين شيئين ، يحصل بين لازميهما ، وبين كل واحد منهما ولازم الآخر ، فيكون مصداق التناقض في أربعة موارد على النحو التالي : مثلاً : إذا كان لازم الضياء الحرارة ، ولازم الظلام البرودة ، وكان بين الضياء والظلام تناقضاً ، فانّه يكون من صور التناقض أيضاً : التناقض بين الضياء والبرودة ، وبين الظلام والحرارة وبين الحرارة والبرودة .

( وحَلّ ذلك ) أي : الجواب الحلي عن انّه كيف يمكن رفع التدافع بين الظنّ المانع والممنوع ؟ ( انَّ الظّن بعدم اعتبار الممنوع ، إنّما هو مع قطع النظّر عن ملاحظة دليل الانسداد ) أي : لو لم يكن دليل الانسداد موجوداً ، لكنّا نظنّ بعدم اعتبار الظنّ الممنوع ( ولا نسلّم بقاء الظّنّ بعد ملاحظته ) لأنَّ دليل الانسداد يجعل الممنوع حجّة .

( ثمّ إنَّ الدّليل العقلي ) وهو الانسداد على الحكومة ، ولايخفى : انّ هذا تتميم للردّ على القول المذكور ، وليس رداً جديداً ، وحاصله : انّ تحكيم أحد الدّليلين وإرتكاب التأويل في الآخر بالتخصّص دون التخصيص ، فرض تعارضهما

ص: 382


1- - أوثق الوسائل : ص233 الظن المانع والممنوع .

يفيد القطع بثبوت الحكم بالنسبة الى جميع أفراد موضوعه .

فاذا تنافى دخول فردين فامّا أن يكشف عن فساد ذلك الدّليل ، وامّا أن يجب طرحهما ، لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقليّ بشيء منهما ، وأمّا أن يحصل القطعُ بدخول أحدهما فيقطع بخروج الآخر ، فلا معنى للتردد بينهما

-------------------

وإجمالهما بالنسبة الى مورد التعارض ولو في بادئالنظر ، وهذا إنّما يجري في الاحكام اللفظية دون العقلية .

وعليه : فالإنسداد على الحكومة الذي هو دليل عقلي ( يفيد القطع بثبوت الحكم ) أي : حجّية الظنّ ( بالنسبة الى جميع أفراد موضوعه ) أي : الظّنّ ، فان العقل حاكم بأنّ كلّ ظنّ حجّة ، فيشمل الظنّ المانع والظّن الممنوع شمولاً إبتدائياً .

( فاذا تنافى دخول فردين ) كما عرفت من أنَّ الظّنّ المانع يمنع دخول الممنوع ، والظّن الممنوع يمنع دخول المانع ، للتضاد بينهما ( فامّا أن يكشف عن فساد ذلك الدّليل ) وانّ دليل الانسداد ليس بحجّة ، إذ كيف يمكن أن يكون حجّة وهو يشمل فردين متضادين ؟ .

( وأمّا أن يجب طرحهما ) أي : طرح المانع والممنوع ، ( لعدم حصول القطع من ذلك الدّليل العقلي بشيء منهما ) إذ كيف يمكن القطع بالمتضادين ؟ .

( وأمّا أن يحصل القطع بدخول أحدهما ، فيقطع بخروج الآخر ) فإذا كان الظّن المانع حجّة فالممنوع خارج ، وإذا كان الظّن الممنوع حجّة فالظّن المانع خارج ( فلا معنى للتردد بينهما ) لأنَّ الدليل العقلي لُبّي لا لفظي حتى يتصور التردد بين فرديه .

ص: 383

وحكومة أحدهما على الآخر .

فما مثلنا به المقامَ ، من إستصحاب طهارة الماء وإستصحاب نجاسة الثوب ، ممّا لاوجهَ لهُ ، لأنّ مرجعَ تقديم الاستصحاب الأوّل إلى تقديم التخصّص على التخصيص ، ويكون أحدُهما دليلاً رافعاً لليقين السابق ، بخلاف الآخر ،

-------------------

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم زيداً ، وتردد زيد بين أن يكون إبن عمرو ، أو إبن بكر ، صحّ التردد في موضوع الاكرام ، وكذلك لو تردد الاكرام بين الضيافة أو إهداء هدية ، أمّا ان يتردد العقل بين أنَّ الاحسان الى زيد حَسنٌ أو قبيحٌ - مثلاً - فهذا لايعقل لِما تقدّم سابقاً : من انَّ العقل لايتردد في أحكامه ولا في مواضيع تلك الأحكام .

( و ) على هذا : فلا تردد في ( حكومة أحدهما على الآخر ) ، حتى لانعلم هل أنّ المانع مقدّم على الممنوع ، أو الممنوع مقدّم على المانع ؟ .

إذن : ( فما مثلّنا به المقام ) والمقام هو : المانع والممنوع ، والمثال ما ذكره بقوله : ( من إستصحاب طهارة الماء ، وإستصحاب نجاسة الثّوب ، ممّا لا وجه له ) لأنَّ الاستصحاب بالدّليل اللفظي والانسداد على المفروض دليل لبّي عقلي - كما عرفت - .

وإنّما لم يكن وجه للمثال ( لأنَّ مرجع تقديم الاستصحاب الأوّل ) أي : إستصحاب طهارة الماء على إستصحاب نجاسة الثوب ( الى تقديم التخصّص على التخصيص ) على ما سبق قبل أسطر ( ويكون أحدهما ) وهو إستصحاب طهارة الماء ( دليلاً رافعاً لليقين السّابق ) بنجاسة الثوب ( بخلاف الآخر ) فلا ترفع نجاسة الثوب طهارة الماء .

ص: 384

فالعملُ بالأوّل تخصّص وبالثاني تخصيص ، ومرجعه - كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين - إلى وجوب العمل بالعامّ تعبّداً إلى أن يحصل الدليل على التخصيص .

إلاّ أن يقال : إنّ القطع بحجّية المانع عينُ القطع بعدم حجّية الممنوع ، لأنّ معنى حجّية كلّ شيء وجوبُ الأخذ بمؤدّاه ،

-------------------

وعليه : ( فالعمل بالأوّل : تخصّص ، وبالثّاني : تخصيص ، ومرجعه ) أي : مرجع تخصيص الاستصحاب الحاكم إستصحاب المحكوم ( كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين ) الّذين أَحدهما سببي والآخر مسببّي ( الى وجوب العمل بالعام تعبّداً الى أن يحصل الدَّليل على التخصيص ) فيكون قوله عليه السلام : « لاتنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) واجب العمل به في مسألة طهارة الماء حتى يحصل مخصّص لهذا العام ، وحيث لايوجد مخصّص فهو نافذ ، وإذا كان طهارة الماء مستصحبة لم يبق مجال لبقاء نجاسة الثوب .

وحيث انَّ المصنّف قال قبل أسطر « ودعوى انَّ بقاء الظّن من الشهرة معارضة بأنّا لانجد من أنفسنا . . . » فقد جعل بذلك التعارض بين الظّنين : المانع والممنوع ، وهنا أراد أن يُبيّن أنّه لاتعارض ، وانّ الظّنّ المانع مقدّم على الظّن الممنوع بقوله :

( إلاّ أن يقال : إنَّ القطع بحجّية المانع ، عين القطع بعدم حجّية الممنوع ، لأنّ معنى حجّية كلّ شيء : وجوب الأخذ بمؤدّاه ) ومعنى الأخذ بمؤدّى المانع : انّه

ص: 385


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح21 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج28 ص217 ب10 ح10462 .

لكنّ القطعَ بحجّية الممنوع التي هي نقيض مؤدّى المانع مستلزمٌ للقطع بعدم حجّية المانع .

فدخولُ المانع لايستلزمُ خروج الممنوع ، وإنّما هو عين خروجه ، فلا ترجيحَ ولا تخصيص ، بخلاف دخول الممنوع ، فانّه يستلزم خروج المانع ، فيصير ترجيحاً من غير مرجّح ، فافهم .

-------------------

لامجال للممنوع ( لكن القطع بحجّية الممنوع التي هي نقيض مؤدّى المانع ) لأنَّ الممنوع لو كان حجّة لم يكن المانع حجّة ( مستلزم للقطع بعدم حجّية المانع ) فمن أحد الطرفين عينه ، ومن الطرف الآخر مستلزم له .

وعليه : ( فدخول المانع لايستلزم خروج الممنوع وانّما هو ) أي : دخول المانع ( عين خروجه ) أي : خروج الممنوع ( فلا ترجيح ولا تخصيص ) لأنّه بمجرد دخول المانع كان المعنى : عدم دخول الممنوع .

هذا ( بخلاف دخول الممنوع ، فانّه يستلزم خروج المانع فيصير ) دخول الممنوع ( ترجيحاً من غير مرجّح ) إذ يقال : انّه لماذا دخل الممنوع ولم يدخل المانع ؟ .

( فافهم ) ولعلّه إشارة الى أنّ معنى حجّية المانع : هو وجوب الأخذ بمؤدّى المانع ، وهو ليس عين عدم حجيّة الممنوع ، بل كل شيء عين نفسه لا عين عدم ضده .

وبذلك يظهر : انَّ دخول كل واحد من المانع والممنوع تحت دليل الانسداد مستلزم لخروج الآخر ، لا أنَّ أحدهما عين خروج الآخر ، فلا يصح ما ذكره بقوله : « إلاّ أن يقال » .

ثم حيث لم يتحقق إلى الآن تقديم المانع أو تقديم الممنوع .

ص: 386

والأولى أن يقال : إنّ الظنّ بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لايجوز - كما عرفت سابقاً في « الوجه السادس » - أن يكون من باب الطريقيّة ، بل لابدّ أن يكون من جهة اشتمال الظنّ الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع .

وحينئذٍ : فاذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ فقد ظنَّ بإدراك الواقع ، لكن مع الظنّ بترتّب مفسدة غالبة ، فيدور الأمر بين المصلحة

-------------------

( والأولى : ) أن نفصّل : بانّه ربّما يقدّم هذا ، وربّما يقدّم ذاك ، وربّما يتساقط المانع والممنوع كلاهما ويكون المرجع هو الاصول العمليّة ، وذلك ( أن يقال : إنّ الظّن بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لايجوز - كما عرفت سابقاً في الوجه السادس - أن يكون من باب الطّريقيّة ) قوله : « أن يكون » ، فاعل قوله : « لا يجوز » أي : لايجوز أن يكون من باب الطّريقيّة ، بمعنى : انّه حيث لايكون الممنوع طريقاً لم يكن حجّة .

( بل لابدّ أن يكون من جهة اشتمال الظّن الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع ) فالظّن المانع والظّنّ الممنوع كلاهما كثير المطابقة للواقع ، إلاّ أن الظّنّ الممنوع فيه مفسدة غالبة ، كما ذكرنا ذلك في منع القياس : في أنّ القياس أيضاً يطابق الواقع كثيراً إلاّ أنّ فيه مفسدة غالبة .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الظّن الممنوع إنّما منع عنه لجهة إشتماله على مفسدة غالبة ( فاذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ ، فقد ظُنَّ بإدراك الواقع ) أي : إدراك الواقع بسبب الظّن الممنوع .

( لكن مع الظّنّ ) بإدراك الواقع يظنّ أيضاً ( بترتّب مفسدة غالبة ) وهذا الظّن بترتب المفسدة الغالبة إنّما جاء بملاحظة الظّنّ المانع ( فيدور الأمر بين المصلحة

ص: 387

المظنونة والمفسدة المظنونة ، فلابدّ من الرجوع إلى الأقوى .

فإذا ظنّ بالشهرة نهيُ الشارع من العمل بالأولويّة ، فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلُّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبةً من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اُخِذَ به ، وكلُّ أولويّة كان أضعفَ منه وجب طرحُه .

وإذا لم يتحقق الترجيحُ بالقوة حُكم بالتساقط ، لعدم إستقلال العقل بشيء منهما حينئذٍ .

-------------------

المظنونة والمفسدة المظنونة ) أي : هل المقدّم الظّن المانع ، لأنَّ في الممنوع مفسدة ، أو المقدّم الظّن الممنوع ، لأن الممنوع أيضاً يفرض مطابقته للواقع - كما يفرض مطابقة الظّن المانع للواقع - ؟ وحيث دار الأمر بين الظنّين المانع والممنوع ( فلا بدّ من الرّجوع الى الأقوى ) منهما .

( فاذا ظنّ بالشّهرة نهي الشّارع من العمل بالأولوّية ) بأن كان الظّنّ المانع ناشئاً من الشّهرة ، والظّن الممنوع هو عبارة عن العمل بالأولية ، ( فيلاحظ مرتبة هذا الظّن ) الناشيء من الشّهرة ( فكلّ أولوية في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظّن الحاصل من الشّهرة أُخِذَ به ) أي الظّنّ الذي هو ناشيء من الأولوية ( وكلّ أولوية كان أضعف منه ) أي : من الظّن الناشيء من الشهرة ( وجب طرحه ) أي : طرح ذلك الظّن الحاصل من الأولية .

( وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة ) في أحد الظنين المانع والممنوع ( حكم بالتّساقط ) والرّجوع في المسألة بالأصل الموجود في تلك المسألة وذلك ( لعدم إستقلال العقل بشيء منهما حينئذٍ ) أي : من المانع والممنوع حين لم يكن أحدهما أقوى من الآخر .

ص: 388

هذا ، إذا لم يكن العملُ بالظنّ المانع سليماً عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظنُّ الممنوع الاحتياطَ اللازمَ في المسألة ، وإلاّ تعيّن العملُ به ، لعدم التعارض .

-------------------

و ( هذا ) الذّي ذكرناه : من تقديم أقوى الظنين ( إذا لم يكن العمل بالظّنّ المانع ، سليماً عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظّن الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة وإلاّ ) بأن كان الظّنّ المانع سليماً ( تعيّن العمل به ) أي : بالمانع ( لعدم التعارض ) فانَّ المانع والممنوع كليهما يحكمان على طبق الأصل ويمكن الأخذ بمقتضاهما فلاتعارض في البين .

وتوضيح ذلك بلفظ الأوثق : « اِنَّ الظّنّ الممنوع تارة يكون موافقا للاحتياط اللازم في خصوص المسألة ، كما إذا تعلق بوجوب السورة على القول بوجوب الاحتياط عند الشك في الأجزاء والشرائط ، واُخرى يكون مخالفاً للاحتياط في المسألة ، كما إذا تعلقّ بعدم وجوبها ، وأثر وجوب الأخذ بأقوى الظنين إنّما يظهر على الثاني ، دون الأوّل .

إذ على الأوّل : يتعين الاتيان بالسورة سواء قلنا بوجوب الأخذ بالمانع والرجوع في مورد الممنوع الى الاصول ، أو بوجوب الأخذ بالممنوع بخلافه على الثاني ، إذ مع الأخذ بالمانع حينئذٍ والرجوع في مورد الممنوع الى الاُصول يجب الاتيان بالسورة لاجل قاعدة الاحتياط ، ومع الأخذ بالممنوع لايجوز تركها في الصلاة لأنَّ المفروض : انّ مؤدّى الظنّ الممنوع » (1) إنتهى .

ص: 389


1- - أوثق الوسائل : ص234 الظن المانع والممنوع .
الأمر الثالث

أنّه لا فرقَ في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد بين الظنّ الحاصل أوّلاً من الأمارة بالحكم الفرعيّ الكلّي كالشهرة أو نقل الاجماع على حكم ، وبين الحاصل به من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل .

كأن يحصل الظنُّ ، من قوله تعالى : « فَتَيمّموا صَعيداً » ، بجواز التيمّم بالحَجر مع وجود التراب الخالص ،

-------------------

الأمر الثالث

( الأمر الثالث ) من تنبيهات الانسداد : ( إنّه لا فرق في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد ) بين الظّن بالحكم ، أو الظنّ بالموضوع ، أو الظّن بمتعلقات أحدهما ، فكلّ ظنّ ينتهي الى الحكم الفرعي يكون حجّة بدليل الانسداد .

وعليه : فلا فرق ( بين الظّنّ الحاصل أوّلاً من الأمارة بالحكم الفرعي الكلّي كالشهرة ، أو نقل الاجماع على حكم ) فاذا قامت الشّهرة على حكم ، أو قام الاجماع على حكم ، فذلك الحكم هو وظيفة المكلّف في حال الانسداد ، لأن الشّهرة ، والاجماع المنقول يسببان الظنَّ في الحكم الفرعي .

( وبين ) الظّن (الحاصل به) أي : بالحكم الفرعي (من أمارة متعلقة بألفاظ الدّليل) بأن عيّنت تلك الأمارة معنى لفظ ، سواء كان اللّفظ في الموضوع أو في الحكم.

( كأن يحصل الظّن من قوله تعالى : « فَتَيَمّمَوُا صَعيِداً » (1) بجواز التّيمّم بالحجر مع وجود التّراب الخالص ) فيظنّ بأن الصعيد مطلق وجه الأرض الشامل للحجر أيضاً .

ص: 390


1- - سورة النساء : الآية 43 .

بسبب قول جماعة من أهل اللغة : « إنّ الصعيدَ هو مطلق وجه الأرض » .

ثم الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ذكرناهما في بحث حجّية الظواهر .

أحدُهما : مايتعلّق بتشخيص الظواهر ، مثل الظنّ من الشهرة بثبوت الحقائق الشرعيّة ، وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ، وإنّ الأمر عقيبَ الحظر ظاهرٌ في الاباحة الخاصّة

-------------------

وإنّما يحصل هذا الظّنّ ( بسبب قول جماعة من أهل اللّغة : انَّ الصّعيد هو مطلق وجه الأرض ) لا خصوص التراب فلا فرق في الحجّية بين أن يظنّ إبتداءاً بجواز التيمم بالحجر ، أو يظنّ بأنّ الصعيد في الآية يشمل الحجر أيضاً ممّا نتيجته جواز التّيمم بالحجر .

( ثمّ الظّنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ، ذكرناهما في بحث حجّية الظّواهر ) في أول الكتاب :

( أحدُهما : مايتعلّق بتشخيص الظواهر ) وأنّه هل هذا ظاهر أو ليس بظاهر ؟ فاذا ظنّ بأنّه ظاهر كفى في الاعتماد عليه .

وذلك ( مثل الظّنّ من الشهرة بثبوت الحقايق الشرعيّة ) فالصلاة التي يقولها الشارع ، يُرادُ بِها : الأركان المخصوصة ، لا الدّعاء ، وكذلك الصوم يُراد به الكفَّ المخصوص ، لا مطلق الكَفّ ، وهكذا .

( وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ) سواء وضعاً تعيينياً أم تعيّنياً - كما حُقِقَ في ذلك المبحث - فليس الأمر يُراد به الاستحباب ، ولا انّه مُجمل بين الوجوب والاستحباب ، الى غير ذلك .

( وإنّ الأمرَ عقيبَ الحظر ظاهر في الاباحة الخاصّة ) والمراد بالاباحة الخاصة :

ص: 391

أو في مجرّد رفع الحظر ، وهكذا .

والثاني : مايتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ، كأن يحصل الظنّ بإرادة المعنى المجازي أو أحد معاني المشترك لأجل تفسير الرّاوي مثلاً أو من جهة كون مذهبه مخالفاً لظاهر الرّواية .

-------------------

الاباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة ( أو في مجرّد رفع الحظر ) ممّا يمكن أن يكون واجباً ، أو مستحباً ، أو مكروهاً ، أو مباحاً .

( وهكذا ) بالنسبة الى الظنون المتعلّقة بتشخيص الظواهر .

( والثّاني : مايتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ) وانّه هل المولى أراد الظاهر ، أو أراد غير الظاهر ؟ ( كأن يحصل الظّنّ بإرادة المعنى المجازي ، أو أحد معاني المشترك ) .

وإنّما يحصل هذا الظّنّ ( لأجل تفسير الرّاوي - مثلاً- ) فالرّاوي يفسِّر قوله عليه السلام « زيارة الحسين عليه السلام واجبة » على : تأكد الاستحباب ، مع أنّ الواجب ظاهر في المانع من النقيض ، فتفسير الرّاوي للفظ ، حمل له على معناه المجازي .

أو يفسّر الرِّطل في رواية الكُرّ على : الرِّطل المَدني لا الرِّطل العراقي ، فالرّاوي حمل اللفظ المشترك في كلام الامام عليه السلام على أحد معنييه .

( أو من جهة كون مذهبه مخالفاً لظاهر الرّواية ) قوله : « أو » ، عطف على قوله : « لأجل » ، فإنّ بعض الفقهاء يحملون ظاهر بعض الرّوايات على خلاف ظاهرها ، لأنّ مذهبهم على خلاف ظاهرها ، وحيث لايجدون مساغاً لطرح الرّواية يضطرون الى حمل الرّواية على خلاف ظاهرها .

مثلاً : قول الامام عليه السلام : إنزح للنجاسة الفلانية كذا دلواً من البئر ، فيحمل الفقيه لفظ : «إنزح» على الاستحباب لا الوجوب ، لأن مذهبه إستحباب المنزوحات .

ص: 392

وحاصلُ القسمين الظنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر أو المرادات ، والظاهر حجّيتها عند كلّ من قال بحجّية مطلق الظنّ لأجل الانسداد .

ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس الظنون المتعلّقة بالألفاظ ، بأن يقال : إنّ العلم فيها قليل ، فلو بني الأمرُ على إجراء الأصل

-------------------

( وحاصل القسمين الظّنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظّواهر أو المرادات ) فانّ كل هذه الظّنون حجّة على الانسداد .

وإنّما قال : غير الخاصة ، لإخراج الظّنون الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر : كأصالة عدم النقل ، أو لتشخيص المرادات : كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم السهو ، والنسيان ، والخطأ ، والغلط ، ونحو ذلك .

( والظّاهر حجّيتها ) أي : حجّية كل هذه الظّنون ( عند كلّ من قال بحجّية مطلق الظّن لأجل الانسداد ) فانّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّن بقول مطلق ، إما بالمعممات على القول بالكشف أو مطلقاً على القول بالحكومة ، والنتيجة : أنّ الظّن يشمل كل هذه الظّنون .

( ولا يحتاج إثبات ذلك ) أي : لايحتاج إثبات تعميم النتيجة بالنسبة الى نفس الحكم ، وبالنسبة الى مايُستَنبَط منه الحكم ( الى إعمال دليل الانسداد في نفس الظّنون المتعلّقة بالألفاظ ) فالظّنّ الانسدادي الكبير يتكفّل حجّية كل هذه الظّنون ، ولا حاجة الى إنسداد صغير بخصوص الألفاظ .

وعليه : فلا حاجة ( بأن يقال : إنَّ العلم فيها ) أي : في الظّنون غير الخاصة المتعلّقة بتشخيص الظّواهر والمرادات ( قليل ، فلو بني الأمر على إجراء الأصل ،

ص: 393

لزم كذا وكذا ، بل لو إنفتح بابُ العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد وجب العملُ بالظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ من تلك الأمارات المتعلقة بمعاني الألفاظ عند إنسداد باب العلم في الأحكام .

وهل يُعمَلُ بذلك الظنّ في سائر الثمرات المترتّبة على تعيين معنى اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعّي الكلّي ، كالوصايا والأقارير والنذور ؟

-------------------

لزم كذا وكذا ) الى سائر مقدّمات الانسداد .

( بل لو إنفتح باب العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد ) بأن إنسد باب العلم بالنسبة الى معنى « الصعيد » في الآية المباركة فقط ، وانّه هل يُراد به مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ ( وجب العمل بالظّن الحاصل بالحكم الفرعي من تلك الأمارات المتعلّقة بمعاني الألفاظ عند إنسداد باب العلم في الأحكام ) فانّ الانسداد الكبير يوجب حجّية مطلق الظّنّ ، ومن تلك الظّنون : الظّن بكفاية التيمم بالحجر ، حيث أنّ « الصعيد » في الظّنّ : مطلق وجه الأرض ، فهذا الفرد الخاص إنّما يكون الظّن فيه حجّة لكونه فرداً للظّن الثابت إعتباره بدليل الانسداد ، لأن دليل الانسداد أعم من المتعلّق بالحكم والمتعلّق بالفاظ الموضوع ، أو بألفاظ الحكم ، الى غير ذلك من الظّنون التي كلها تنتهي إلى الحكم .

( وهل يعمل بذلك الظّن ) المرتبط بتشخيص الظواهر والمرادات ( في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى اللّفظ في غير مقام تعيين الحكم الشّرعي الكلّي ) أو لم يعمل به ؟ .

مثّل المصنّف لغير مقام تعيين الحكم الشرّعي الكلي بقوله : ( كالوصايا ، والأقارير ، والنذور ) والأوقاف ، والشروط ، والعهود ، والأيمان ، وما أشبه ذلك

ص: 394

فيه إشكال ، والأقوى العدمُ ، لأنّ مرجعَ العمل بالظنّ فيها إلى العمل بالظنّ في الموضوعات الخارجيّة المترتّبة عليها الأحكام الجزئية الغير المحتاجة الى بيان الشارع حتّى يدخل فيما إنسدّ فيه باب العلم ، وسيجيء عدمُ إعتبار الظنّ فيها .

-------------------

من الألفاظ التي يستعملها أفراد النّاس في أغراضهم الشخصية ؟ .

( فيه إشكال ، والأقوى العدم ) فليس الظّنَّ في هذه الاُمور حجّة ، فإذا قال الموصي - مثلاً- : إعط زيداً بعد موتي أواني ، وشككنا في انَّ الآنية مطلق الظرف ، أو الظرف غير المثقوب حتى لايشمل مثل المصفاة ونحوها ؟ فانّه لا نتمكن أن نستند الى الظّن الانسدادي في تشخيص أحد المعنيين .

وإنّما لانتمكن ( لأنَّ مرجع العمل بالظّن فيها ) أي : في أمثال هذه الأمور كالوصايا والأقارير وغيرها ( الى العمل بالظّن في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها ) أي : على هذه الموضوعات الخارجية ( الأحكام الجزئية غير المحتاجة ) تلك الأحكام الجزئية ( الى بيان الشّارع ، حتى يدخل فيما إنسدّ فيه باب العلم ) فانّ في الموضوعات يستطرق باب العرف لا باب الشرع .

وعليه : ففي المثال المذكور ، إذا لم نأخذ بالظّن الانسدادي كان اللازم - مثلاً- إجراء قاعدة العدل ، فالظروف غير المثقوبة تكون لزيد حسب الوصية ، أمّا الظروف المثقوبة فانّها تُقسَّم بين الورثة وبين زيد ، لأنّ قاعدة العدل هي تقسيم المال المشكوك بين الطرفين .

اَللّهمَّ إلاّ أن يقال باجراء أصالة عدم الانتقال الى الموصى له ، فهي باقية في تركة الميت ويرثها الوراث .

هذا ( وسيجيء عدم إعتبار الظّن فيها ) أي : في الموضوعات الخارجّية

ص: 395

نعم ، من جعل الظنون المتعلّقة بالألفاظ من الظنون الخاصّة مطلقاً لزمه الاعتبارُ في الأحكام والموضوعات ، وقد مرَّ تضعيفُ هذا القول عند الكلام في الظنون الخاصّة .

وكذا لا فرقَ بين الظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من نفس الأمارة أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ، وبين الحاصل بالحكم الفرعّي الكليّ من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجيّ ، ككون الراوي عادلاً أو مؤمناً حال الرواية ، وكون زُرارة هو إبن أعين ، لا ابن لطيفة ، وكون عليّ بن الحكم

-------------------

المترتبة عليها الأحكام الجزئية .

( نعم ، من جعل الظّنون المتعلّقة بالألفاظ من الظّنون الخاصة مطلقاً ) من غير فرق بين الأسباب والأشخاص والموارد ( لزمهُ الاعتبار في الأحكام والموضوعات ) بهذه الظّنون ، فيكون الظّن في الوصايا ، والأقارير ، والنذور ، وغيرها ، كلّها حجّة ، كما يكون الظّن في الأحكام حجّة .

( وقد مرّ تضعيف هذا القول عند الكلام في الظّنون الخاصّة ) لكنّا ذكرنا هناك : إنَّ الأظهر هو الحجّية بالنسبة الى مايراه العرف حجّة ، كالظنون الحاصلة من قول اللّغوي وما أشبه . ( وكذا لافرق بين الظّنّ الحاصل بالحكم الفرعي الكلّي من نفس الأمارة ، أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ) فالأول : كالظّن بجواز التيمم بالحجر ، والثاني : ككون الصعيد أعمّ من التراب أو من الحجر .

( وبين الحاصل بالحكم الفرعي الكلّي من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجي ، ككون الرّاوي عادلاً أو مؤمناً حال الرّواية ) فإنّه إذا كان ظنّه بأنّ الرّاوي العادل حجّة كان قوله حجّة بالنسبة إلى الأحكام التي رواها هذا الرّاوي .

( وكون ) الرّاوي ( زُرارة هو : إبن أعين ، لا إبن لطيفة ، وكون علي بن الحكم

ص: 396

هو الكوفيّ ، بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ، فانّ جميعَ ذلك وإن كان ظنّاً بالموضوع الخارجيّ ، إلاّ أنّه لمّا كان منشئاً للظنّ بالحكم الفرعيّ الكليّ الذي إنسدّ فيه بابُ العلم عُمِلَ به من هذه الجهة ، وإن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق إسمه المشترك .

ومن هنا تبيّن أنّ الظنون الرّجاليّة معتبرة بقول مطلق

-------------------

هو : الكوفي ، بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ) فانّ زُرارة بن أعين ثِقةً جليل القدر ، بخلاف زُرارة بن لطيفة ، فهو غير مذكور بتوثيق ولا مدح ، غير : أنّه كوفي .

وقد إختلف الرجاليون في إتحاد علي بن حكم الكوفي مع علي بن الحكم الأنباري ، والأنبار : إمّا إسم محلّة بالكوفة ، وإمّا أسم منطقة بين العراق ودمشق ، وعلى تقدير تعدد علي بن الحكم ، فأحمد بن محمد إنّما يروي عن الكوفي دون الأنباري .

ومثل ماذكره المصنّف من الاُمور الثلاثة المرتبطة بالحكم ، وباللفظ ، أو بالراوي غيرها من الاُمور ، مثل : الظّن بجهة الصدور ، وإن الرواية صدرت تقية أم لا ؟ ( فانّ جميع ذلك وإن كان ظنّاً بالموضوع الخارجي ، إلاّ أنّه لما كان منشئاً للظّن بالحكم الفرعي الكلّي الّذي إنسدّ فيه باب العلم ) لأن هذه الاُمور كلّها مرتبطة بالحكم الّذي يستنبطه الفقيه ( عمل به من هذه الجهة ) أي : عمل بهذا الظنّ بالموضوع الخارجي من جهة كونه في طريق الحكم ( وأن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلّقة بعدالة ذلك الرّجل ، أو بتشخيصه عند إطلاق إسمه المشترك ) ؛ وذلك لأن دليل الانسداد إنّما هو بالنسبة الى الأحكام ، ولا حجيّة له بالنسبة الى غيرها ، كما عرفت مثاله بالنسبة الى الوصايا ، والأقارير ، والنذور .

( ومن هنا تبيّن : إنَّ الظّنون الرجاليّة معتبرة بقول مطلق ) سواء كان ظّناً

ص: 397

عند من قال بمطلق الظنّ في الأحكام ولايحتاجُ إلى تعيين أنّ إعتبار أقوال أهل الرّجال من جهة دخولها في الشهادة أو في الرواية ، ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظنّ بصدق الخبر المستلزم للظنّ بالحكم الفرعيّ الكليّ .

-------------------

بالعدالة ، أو بالتمييز بين المشتركات ، أو بالارسال وعدم الارسال ، كما إذا لم يعلم هل انَّ الرّاوي أرسل الرّواية أو سمعها هو ؟ فظنّ الفقيه بأنّها مرسلة الى غير ذلك ( عند من قال : بمطلق الظّن في الأحكام ) لأنّه يرى الانسداد كصاحب القوانين .

( ولايحتاج إلى تعيين أنَّ إعتبار أقوال أهل الرّجال من جهة دخولها في الشّهادة ، أو في الرّواية ) لأنّه لايهم أن تكون أقوال الرّجال شهادة ، أو رواية ، بعد كون المناط مطلق الظّنّ ، ومطلق الظّن حاصل في المقام .

( ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ) بأن يكون المعدّل ، أو المزكي ، من أهل الخبرة والرجال ( بل يقتصر ) ويكتفي ( على تصحيح الغير ، للسند وإن كان ) ذلك الغير ( من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظّن بصدق الخبر ) لأنَّ المعيار هو الظّن ( المستلزم ) ذلك الظّن بصدق الخبر ( للظّن بالحكم الفرعي الكلّي ) على ما عرفت : من انَّ المناط هو الظّنّ بالحكم الفرعي الكلّي ، ولايهم طريق هذا الظّنَّ .

انتهى

الجزء الخامس ويليه

الجزء السادس في خلاصة

الأمر الثّالث من تنبيهات

الانسداد وله الشُّكر

على ما أنعم

ص: 398

المحتويات

تتمّة المقدّمة الثالثة: بطلان الاحتياط ... 7

المقدمة الرابعة: الرجوع الى الظنّ... 55

التنبيه على أُمور... 68

التنبيه الأوّل: عدم الفرق بين تحصيل الظنّ بالحكم... 68

القائل بحجيّة الظنّ في كون الشيء طريقاً والجواب عنه... 72

الوجه الثاني: في لزوم الظنّ بالطريق... 127

التنبيه الثاني: هل نتيجة الإنسداد مهملةً أم لا... 154

المقام الأوّل: هل حجيّة دليل الانسداد على الكشف أم الحكومة... 161

الاهمال نتيجة الكشف... 171

بطلان تقرير الانسداد على الكشف... 172

المقام الثاني: هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الاسباب والمرتبة... 178

أدلة التعميم: الأول: عدم المرجح... 179

مرجّحات بعض الظنون... 180

الاشكال على مرجّحات بعض الظنون... 189

الثاني من طرق التعميم: عدم الكفاية لمظنون الاعتبار... 252

الثالث من طرق التعميم: قاعده الاشتغال... 263

على تقدير الحكومة لا يتصور التعميم بالنسبة للأسباب... 278

المقام الثالث: خروج القياس عن حجّية الظنّ... 320

ص: 399

الاشكال في مقامين... 325

الأوّل: في توجيه خروج القياس عن الحجّية... 326

الثاني: الظنّ بحرمة العمل ببعض أفراد الظنّ... 371

التنبيه الثالث: كل ظنّ ينتهي الى الحكم الفرعي حجّة... 390

المحتويات... 399

ص: 400

المجلد 6

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الوصائل الى الرسائل

ص: 5

ص: 6

تتمّة المقصد الثاني: «تتمّة دليل الانسداد»

اشارة

وملخّصُ هذا الأمر الثالث أنّ كلّ ظنّ تولّد منه الظنّ بالحكم الفرعيّ الكلّي فهو حجّة من هذه الجهة ، سواء كان الحكمُ الفرعيّ واقعيّاً أو كان ظاهريّاً ، كالظنّ بحجّية الاستصحاب تعبّداً أو بحجّية الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعليّ بالحكم ، وسواء تعلّق الظنّ أوّلاً بالمطالب العمليّة أو غيرها أو بالأمور الخارجيّة من غير إستثناء في سبب هذا الظنّ .

-------------------

( وملّخص هذا الأمر الثالث ) من تنبيهات الانسداد ( : انَّ كل ظنّ تولّد منه الظّن بالحكم الفرعي الكلّي ، فهو ) أي : الظّن الوالد ، ( حجّة من هذه الجهة ) أي : من جهة ولده ، وهو الظّن بالحكم الفرعي الكلّي ( سواء كان ) ذلك ( الحكم الفرعي واقعيّاً أو كان ظاهرّياً ) فانّه لا فرق بين الظّنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبين الظّنّ بأن هذا الحكم حكم ظاهري في حال الجهل .

( كالظّنّ بحجّيّة الاستصحاب تعبّداً ) فإنّ الاستصحاب ليس كاشفاً عن الواقع ، بل هو حكم الانسان الجاهل بالحكم الواقعي .

( أو بحجّية الأمارة غير المفيدة للظّنّ الفعلي بالحكم ) فاذا ظنّ بحجّية تلك الأمارة كفى في الأخذ بمؤدّاها وإن لم يظنّ فعلاً بالحكم فإنّ الحكم المتولِّد من الاستصحاب ، بناءاً على إعتباره من باب التعبّد حكم ظاهري ، وكذا الحال في الحكم المتولّد من الأمارة التي ذكرها المصنّف بقوله : « أو بحجّية الأمارة ...» .

( وسواء تعلّق الظّن أولاً بالمطالب العملّية ) كالظّن بالفروع ( أو غيرها ) كالظّن بظواهر الألفاظ ومراداتها ( أو بالاُمور الخارجية ) كالظّن بعدالة الرّاوي ( من غير إستثناء في سبب هذا الظّن ) فأنّه بناءاً على حجّية الظّن ، لا فرق في الحجّية بين الأسباب ، والموارد ، والأشخاص ، والمراتب .

ص: 7

ووجهُه واضحٌ ، فإنّ مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظنّي وترجيح الراجح على المرجوح في العمل ، حتّى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات بناءا على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد ، لم يكن فرقٌ بينَ ما تعلّق تلك الأمارة بنفس الحكم أو بما يتولّد منه الظنُّ بالحكم .

ولا إشكالَ في ذلك أصلاً إلاّ أن يغفل غافلٌ عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدّعي الاختصاص بالبعض دون البعض من حيث لايشعر .

وربّما تخيّل بعضٌ أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن

-------------------

( ووجهه ) أي : وجه هذا الملّخص ( واضح ، فانّ مقتضى النتيجة ) للإنسداد ( هو : لزوم الامتثال الظّنّي ، وترجيح الرّاجح على المرجوح في العمل ) إطلاقاً ( حتى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات ، بناءاً على عدم التّعميم في نتيجة دليل الانسداد ) قلنا - مثلاً- انّ خبر الواحد حجّة وليست الشهرة بحجّة وإن أوجبت الشهرة الظّن .

وعليه : فانّه ( لم يكن فرق بين ماتعلّق تلك الأمارة ) التي رأينا حجيّتها كالخبر الواحد في المثال ( بنفس الحكم ، أو بما يتولّد منه الظّن بالحكم ) وما يتولد عبارة عن : ظهور لفظ ، أو مراد ، أو أمر رجالي ، أو جهة صدور من تقيّة ، أو غيرها .

( ولا إشكال في ذلك أصلاً ، إلاَّ أن يغفل غافل عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدّعي الاختصاص ) لحجّية الظّن الانسدادي ( بالبعض دون البعض ) وإن كان الجميع متساوياً في الوصول الى الحكم ، فان هذا التخصيص غفلة ( من حيث لايشعر ) صاحبها .

( وربّما تخيّل بعض : انَّ العمل بالظّنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن

ص: 8

يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام ، بل المقتصرُ على الظنون الخاصّة في الأحكام أيضاً عاملٌ بالظنّ المطلق في الرجال .

وفيه : نظرٌ يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال ، فانّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكلّ أمارة .

نعم ، لو كان الخبرُ المظنونُ الصدور مطلقاً أو بالظنّ الاطمئنانيّ من الظنون الخاصّة

-------------------

يعمل بمطلق الظّن في الأحكام ) فإنّه إذا لم يكن إنسداد في الأحكام ، فالانسداد في الرّجال متحقّق فيعمل بالظّن المطلق في الرّجال ( بل المقتصر على الظّنون الخاصّة في الأحكام أيضاً ) حيث انّه لايرى الانسداد فيها ( عامل بالظّن المطلق في الرّجال ) .

والحاصل : إنَّ الانسداد موجود في الرّجال على أي حال ، سواء قلنا بالإنسداد في الأحكام أو لم نقل بالإنسداد فيها .

( وفيه : نظر يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرّجال ، فانّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها ) أي : في الرّجال ( على العمل بكل أمارة ) ووجه الظهور : إنَّ إختلافهم في اعتبار التعدد في المزكّى ، أو عدم الاعتبار ، شاهد على عدم إتفاقهم على العمل بالظّن المطلق في الرّجال ، فانّهم لو كانوا عملوا بالظّن المطلق ، كان الظّن معيارهم ، لا تعدد المزكّي أو وحدته .

( نعم ، لو كان الخبر المظنون الصّدور مطلقاً ) بأيّ ظنّ كان ( أو بالظنّ الاطمئناني ) فقط ( من الظّنون الخاصة ) وقوله : « من الظّنون » ، خبر لقوله « لو كان » .

ص: 9

لقيام الأخبار أو الاجماع عليه ، لزم القائلَ به العملُ بمطلق الظنّ أو الاطمئناني منه في الرجال ، كالقائل بالظنّ المطلق في الأحكام .

ثمّ إنّه قد ظهر مما ذكرنا أنّ الظنّ في المسائل الاُصوليّة العمليّة حجّةٌ بالنسبة الى مايتولّد منه من الظنّ بالحكم الفرعي الواقعيّ أو الظاهريّ .

وربّما منع منه غيرُ واحد

-------------------

وإنّما يكون من الظّنون الخاصة ( لقيام الأخبار أو الاجماع عليه ) فمظنون الصدور يكون من الظّنون الخاصة ، في- ( لزم القائل به ، العمل بمطلق الظّن ، أو الاطمئناني منه في الرّجال كالقائل بالظّن المطلق في الأحكام ) .

والحاصل : إنّه لو قلنا انّ الخبر المظنون الصدور حجّة ، كفى الظّن في باب الرّجال ، لأنّه إذا ظنّنا إنَّ زُرارة - مثلاً- عادل ، فقد ظننّا بصدور خبره عن الامام عليه السلام ، فقول المصنّف : « نعم » إستثناء عن الاشكال الذّي ذكره بقوله : « فيه نظر » ، وحاصل الاشكال : تمامية قول المتخيّل الذي قال بكفاية الظّن في باب الرّجال ، ولو لم يكن إنسداد في باب الأحكام .

( ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكرنا : ) من أنّ الظّن مطلقاً حجّة ، سواء بالنسبة إلى الأحكام والموضوعات ، أو الرجال وغير ذلك ( أن الظّن في المسائل الاُصولية العمليّة ) مثل الظّن بالإستصحاب ، أو البرائة ، أو الاحتياط ، أو غير ذلك ( حجّة بالنسبة الى مايتولّد منه من الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ، أو الظّاهري ) لِما تقدّم : من انَّ كلّ ظّن يكون في طريق الحكم ، سواء كان الحكم واقعياً أو ظاهرياً ، يكون ذلك الظّن الَّذي هو في الطريق حجّة .

( وربّما منع منه ) أي : من كون الظّنّ في المسائل الاُصولية حجّة ( غير واحد

ص: 10

من مشايخنا رضوان اللّه عليهم . وما استندوا إليه أو يصحّ الاستناد للمنع أمران : أحدُهما : أصالةُ الحرمة وعدمُ شمول دليل الانسداد ، لأنّ دليل الانسداد ، إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصوليّة كما يجري في خصوص الفروع ، وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد ، بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرّعية ، فيثبت حجّية الظنّ في الجميع ويندرج فيها المسائل الاُصوليّة ، وإمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة ، فيثبت به إعتبار الظنّ في خصوص الفروع ، ولكنّ الظنّ بالمسألة الاُصوليّة يستلزمُ الظنّ بالمسألة الفرعيّة الّتي يبتني عليها .

-------------------

من مشايخنا رضوان اللّه عليهم ، وما استندوا اليه ، أو يصّح الاستناد للمنع ) عنه ( أمران ) كما قال : ( أحدُهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد ) للمسائل الاُصولية ( لأنّ دليل الانسداد ، إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصولية ، كما يجري في خصوص الفروع ) أي : كما أنَّ في الفروع دليل الانسداد جارٍ ، كذلك في المسائل الاُصولية ( وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد بالنّسبة إلى جميع الأحكام الشّرعيّة ) وما يرتبط بالأحكام الشرعيّة ، وما يكون في طريقها ( فيثبت حجّية الظّنّ في الجميع ، ويندرج فيها ) أي : في جميع الأحكام الشرعيّة ( المسائل الاُصولية ) أيضاً ( وأمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة فيثبت به ) أي : بدليل الانسداد ( إعتبار الظّن في خصوص الفروع ) .

والحاصل : إنّ مقدّمات الانسداد ، إمّا أن تجري في الفروع فقط ، أو في الاُصول فقط ، أو في كليهما .

هذا ( ولكن الظّن بالمسألة الاُصوليّة يستلزم الظّن بالمسألة الفرعيّة التي يبتني عليها ) فانّه إذا جرى الانسداد في خصوص الفروع فقط ، فالمسائل الاُصولية

ص: 11

وهذه الوجوهُ بين ما لايصحّ وبين مالا يُجدي .

أمّا الأوّلُ : فهو غيرُ صحيح ، لأنّ المسائل الاُصوليّة الّتي ينسدّ فيها بابُ العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يستلزمُ من إجراء الاُصول فيها محذورٌ كأن يلزمُ من إجراء الاُصول في المسائل الفرعيّة التي إنسدّ فيها بابُ العلم ،

-------------------

أيضاً يجري فيها الانسداد لابتناء الفروع على هذه الاُصول .

والحاصل : إنَّ جريان الانسداد في المسائل الاُصوليّة على أحد أوجه ثلاثة :

الأوّل : إنّ الانسداد جارٍ في الاُصول فقط .

الثاني : إنّه جارٍ في كلّ من الاُصول والفروع معاً .

الثالث : إنّه جار في الفروع فقط .

فعلى الأولين : يجري الانسداد في الاُصول رأساً ، وعلى الثالث : حيث انّ المسائل الاُصولية في طريق الفروع والانسداد في الفروع حجّة ، فالإنسداد في الاُصول أيضاً حجّة .

( و ) لكن كلّ ( هذه الوجوه ) الثلاثة ( بين مالا يصح ، وبين مالايجدي ) ولا ينفع في إفادة حجّية الظّن في المسائل الاُصولية .

( امّا الأوّل : ) وهو ماذكرناه بقولنا : إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصولية ( فهو غير صحيح ، لأنّ المسائل الاُصولية الّتي ينسدّ فيها باب العلم ، ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يستلزم من إجراء الاُصول فيها ) أي : في هذه المسائل الاُصولية ( محذور ) من الخروج عن الدّين ، ونحو ذلك ( كأن يلزم من إجراء الاُصول في المسائل الفرعية الَّتي إنسدّ فيها باب العلم ) فلا تجري مقدمات الانسداد في المسائل الاُصولية .

ص: 12

لأنّ ما كانَ من المسائل الاُصوليّة يبحث فيها عن كون شيء حجّةً ، كمسألة حجّية الشهرة ونقل الاجماع وأخبار الآحاد ، أو عن كونه مرجّحاً ، فقد إنفتح فيها بابُ العلم وعُلِمَ الحجّةُ منها من غير الحجّة والمرجّحُ منها من غيره بإثبات حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة ، إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة العقليّة على أنّ ما كان من الأمارات داخلة في نتيجة دليل الانسداد فهو حجّةٌ .

-------------------

وإنّما لا يلزم محذور ( لأنَّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشّهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد ، أو عن كونه ) أي : كون شيء ( مرجّحاً ) كموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وما أشبه ذلك ( فقد إنفتح فيها ) أي : في هذه المسائل الاُصولية ( باب العلم ، وعلم الحجّة منها من غير الحجّة و ) علم ( المرجّح منها من غيره ) أي : من غير المرجّح .

وإنّما إنفتح فيها باب العلم ( ب ) سبب ( إثبات حجّية الظّن في المسائل الفرعيّة ) فإن الظّن لما كان ثابت الحجّية في المسائل الفرعية ، علمنا من ذلك : انَّ كل شيءٍ وصل إلى المسألة الفرعيّة فهو حجّة ، سواء كان ذلك الشيء الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الخبر ، أو غيرها ؟ .

وسواء كان ذلك الشيء معيناً للحكم ، أو مرجّحاً لدليل على دليل ، فيما إذا دار الأمر بين دليلين لم نعلم بحجّية أحدهما أوّلاً وبالذات ، وإنّما علمنا بالترجيح لموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، أو بما أشبه ذلك .

( إذ بإثبات ذلك المطلب ) أي : حجّية الظّن في المسائل الفرعية ( حصل الدلالة العقليّة على أنَّ ما كان من الأمارات داخلة في نتيجة دليل الانسداد ، فهو حجّة ) والدلالة العقليّة عبارة عن : التلازم بين حجّية الظّن في الفروع ، وحجّية

ص: 13

وقس على ذلك معرفةَ المرجّح ، فانّا قد علمنا بدليل الانسداد أنّ كلاًّ من المتعارضين إذا اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات فهو راجحٌ على صاحبه مقدّم عليه في العمل .

وما كانَ منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطيّة ، وهي ألفاظ الكتاب والسنّة ، من حيث إستنباط الأحكام عنها ، كمسائل الأمر والنهي وأخواتهما ، من المطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ، فقد عَلِمَ حجّيّة الظنّ فيها من حيث إستلزام الظنّ بها الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ .

-------------------

مايستلزم هذا الظّن أيضاً .

( وقس على ذلك ) أي : التلازم بين حجيّة الظّن في الفرع ، وحجّية الظّنّ في المسألة الاُصولية ( معرفة المرجّح ، فإنّا قد علمنا بدليل الانسداد : انَّ كُلاً من المتعارضين إذا اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات ) كموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وموافقة المشهور ، إلى غير ذلك ( فهو ) أي : المُعتَضد - بصيغة المفعول - ( راجح على صاحبه مقدّم عليه في العمل ) قطعاً .

( وما كان منها ) أي : من المسائل الاُصولية - قوله : « وما كان » عطف على قوله قبل أسطر : « لأن ماكان من المسائل الاُصولية ...» - ( يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية ، وهي : الفاظ الكتاب والسّنة من حيث إستنباط الأحكام عنها ) لا من حيث جهات النحو ، والصرف ، والبلاغة ، وشبهها ، بل ( كمسائل الأمر ، والنّهي ، وأخواتهما : من المطلق والمقيّد والعام والخاص ، والمجمل والمبيّن، الى غير ذلك ، فقد عَلِمَ حجّية الظّنّ فيها من حيث إستلزام الظّنّ بها ) أي : بهذه المسائل المرتبطة بالفاظ الكتاب والسنّة (الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي )

ص: 14

لِما عرفتَ من أنّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجّيةُ الظنّ الحاصل بها من الأمارة إبتداءا ، والظنّ المتولّد من أمارة موجودة في مسألة لفظيّة .

ويلحق بهما بعضُ المسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ

-------------------

لأن ألفاظ الكتاب والسنّة وما أشبه كلها في صدد بيان حكم الواقع .

والحاصل : إنّا نحتاج هنا إلى أمرين :

الأوّل : انْ نتكلم حول أنّ ظاهر الكتاب حجّة أم لا ، والخبر حجّة أم لا ؟ الى غير ذلك .

وأشار إليه المصنّف بقوله : « لأن ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها ...» .

الثاني : ان نتكلم حول انَّ الأمر ظاهر في الوجوب أم لا ، والمطلق يحمل على المقيد أم لا ؟ إلى غير ذلك ، وأشار اليه المصنّف بقوله : « وما كان منها يبحث فيها...» .

ثمّ إنَّ المصنّف انّما قال : حيث إستلزم الظّن بها ، الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ( لما عرفت : من أنَّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع : حجّية الظّنَّ الحاصل بها ) أي : بتلك الفروع ( من الأمارة إبتداءاً ) بأن ظنّ بأنّ الدعاء عند رؤية الهلالِ - مثلاً - واجب ( والظّن المتولِّد من أمارة موجودة في مسألة لفظية ) مثل : أن يظنّ بأنَّ الأمر ظاهر في الوجوب .

( ويلحق بهما ) الضمير عائد إلى ما ذكره المصنّف بقوله : « لأنَّ ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها ...» وقول : « وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية ...» وهما ما ذكرناهما بقولنا الأوّل والثاني فيلحقهما ( بعض المسائل العقليّة مثل : وجوب المقدّمة ) للواجب .

( وحرمة الضّد ) للواجب .

ص: 15

وإمتناع إجتماع الأمر والنهي ، والأمر مع العلم بانتفاء شرطه ونحو ذلك ممّا يستلزم الظنُّ به الظنّ بالحكم الفرعيّ ، فانّه يكتفي في حجّية الظنّ فيها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ولا يحتاج إلى إجرائه في الاصول .

وبالجملة : فبعض المسائل الاُصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد وبعضها صارت حجّيةُ الظنّ فيها معلومةً بدليل الانسداد في الفروع والباقي منها الذي

-------------------

( وإمتناع إجتماع الأمر والنّهي ) أو عدم إمتناع إجتماعهما .

( والأمر مع العلم بإنتفاء شرطه ) بأنّه هل يجوز أن يأمر به الآمر أو لا يجوز أن يأمر به مع علمه بانتفاء الشرط ؟ .

( ونحو ذلك ممّا يستلزم الظّنّ به ) أي : بهذه المسائل الاُصولية العقليّة ( الظّنّ بالحكم الفرعي ) لما عرفت : من أنَّ كل شيء وقع في طريق الظّنّ بالحكم الفرعي يكون الظّن فيها حجّة من باب الانسداد ( فإنّه يكتفي في حجّية الظّن فيها ) أي : في هذه المسائل العقليّة ( بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ولا يحتاج إلى إجرائه في الاُصول ) أي : في المسائل الاُصولية .

( وبالجملة : فبعض المسائل الاُصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد ) وهذه المسائل هي ما أشار إليها المصنّف بقوله : « لأن ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ...» .

( وبعضها ) أي : وبعض المسائل الاُصولية الاُخر : ( صارت حجّية الظّنّ فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع ) وهي ما أشار اليه المصنّف بقوله : « وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية وهي ألفاظ الكتاب والسنّة ...» .

( والباقي منها : ) أي : من المسائل الاُصولية الَّتي لم تصر معلومة ، و ( الّذي

ص: 16

يحتاج في إثبات حجّية الظنّ فيها إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاُصول ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالأصول وطرح الظنّ الموجود فيها محذورٌ . وإن كانت في أنفسها كثيرةً ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات ، كخبر الواحد ونقل الاجماع لا بشرط الظنّ الشخصيّ ،

-------------------

يحتاج في إثبات حجّية الظّنّ فيها ) أي : في هذه المسائل ( إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاُصول ، ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالاُصول ) كالبرائة ، والاستصحاب ، والتخيير ، وما أشبه ( وطرح الظّن الموجود فيها ) أي : في هذه المسائل ( محذور ) وذلك لما عرفت : من قلّة الفروع المترتبة عليها بالنسبة إلى سائر الفروع ، فلا يلزم من إجراء الاُصول في هذه المسائل الاُصولية غير الكثيرة محذور الخروج عن الدّين ، ونحو ذلك ( وإن كانت في أنفسها كثيرة ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات : كخبر الواحد ، ونقل الاجماع ) أي : الاجماع المنقول ( لابشرط الظّن الشخصي ) .

وإنّما ذكر هذا القيد ، لإخراج قول من يقول : بأنَّ الخبر الواحد إنّما يكون حجّة بشرط ظنّ الشخص بصدق الخبر ، وكذلك بالنسبة إلى الاجماع المنقول : بأنّه انّما يكون حجّة بشرط الظّن الشخصي بصدق الاجماع ، وانّما قيّدها بهذا القيد لئلا يلزم التناقض بين قوله سابقاً : « لأنّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد » ، وبين قوله هنا : « مثل المسائل الباحثة عن حجية بعض الامارات ، كخبر الواحد ونقل الاجماع » ، اذ يمكن أن يستشكل على المصنّف : بأنّه كيف ذكرتم خبر الواحد ، والاجماع المنقول ، في مكانين ؟ .

ص: 17

وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار الآحاد على مذهب من يراها ظنوناً خاصّة ، والباحثة عن بعض المرجّحات التعبّديّة ، ونحو ذلك ، فانّ هذه المسائل لاتصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع .

لكن هذه المسائل بل وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظنّ بأحد طرفي المسألة إلى الاُصول وطرح ذلك الظنّ لزم محذورٌ كان يلزم في الفروع .

وأمّا الثاني - وهو إجراءُ دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعيّة ،

-------------------

( وكالمسائل الباحثة عن شروط اخبار الآحاد على مذهب من يراها ظنوناً خاصّة ) لا أنّها حجّة من باب الانسداد ، كاشتراط أن يكون المخبر عادلاً ، وضابطاً ، وما أشبه ذلك ( والباحثة عن بعض المرجّحات التّعبّدية ) مثل : مطابقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وإلى غير ذلك ممّا هي في قِبال المرجّحات العقلائية ، مثل الأفقهية . ونحو ذلك ممّا يجريها العقلاء في أوامر مواليهم .

( ونحو ذلك ) من المسائل الاُصوليّة ( فانّ هذه المسائل لا تصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ) بل اللازم : إمّا إجراء دليل الانسداد في هذه المسائل الاُصولية ، أو القول : بأن دليل الانسداد عام يجري في الاُصول والفروع معاً .

( لكن هذه المسائل ، بل وأضعافها ، ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظّنّ بأحد طرفي المسألة الى الاُصول ) العملية ( وطرح ذلك الظّن ) الّذي حصل بأحد طرفي المسألة ( لزم محذور كان يلزم في الفروع ) إذا رجع فيها إلى الاُصول العمليّة : من لزوم الخروج عن الدّين وما أشبه ذلك ممّا تقدّم .

( وأمّا الثاني : وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشّرعية ،

ص: 18

فرعيّةً كانت أو أصليّةً - فهو غير مُجدِ ، لأنّ النتيجة وهو العمل بالظنّ لايثبت عمومه من حيث موارد الظنّ إلاّ بالاجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، بأن يقال : إنّ العملَ بالظنّ في الطهارات دون الديات ، مثلاً ، ترجيحٌ بلا مرجّح ومخالف للإجماع .

وهذان الوجهان مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاُصوليّة .

أمّا فقدُ الاجماع فواضحٌ ، لأنّ المشهور ، كما قيل ، على عدم إعتبار الظنّ

-------------------

فرعيّة كانت أو أصليّة ) والمسائل الاُصولية إنّما تسمّى بالأحكام الشرعيّة ، لأوَلها إليها ( فهو غير مجدٍ ، لأنَّ النتيجة : وهو العمل بالظّن لايثبت عمومه من حيث موارد الظّن إلاّ بالاجماع المركّب ، أو التّرجيح بلا مرجّح ) حتى يشمل الاُصول والفروع .

لكن لايخفى : إنَّ هذا مبنيٌ على تقرير دليل الانسداد على طريق الكشف لتصير النتيجة مهملة ، لا على طريق الحكومة .

وعلى أي حال : فوجه التعميم ( بأن يقال : إنَّ العمل بالظّن في الطهارات دون الدّيات - مثلاً - ترجيح بلا مرجّح ) لأنّ الطهارات والدّيات كلّها أحكام شرعية ، فلماذا يعمل بالظّن في الطهارات دون الدّيات ، مع أنّ الدليل فيهما واحد ؟ ( ومخالف للإجماع ) أيضاً لأنَّ المجمعين لايرون الفرق بين مختلف المسائل .

( وهذان الوجهان ) : الترجيح بلا مرجّح ، والمخالفة للإجماع ( مفقودان في التعميم والتّسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاُصوليّة ) فلا إجماع على إستواء الطائفتين من المسائل كما أنّه ليس حجّية الظّن في الفروع دون الاُصول ترجيحاً بلا مرجّح .

( أمّا فقدُ الاجماع ، فواضح ، لأنَّ المشهور كما قيل - على عدم إعتبار الظّنّ

ص: 19

في الاُصول .

وأمّا وجودُ المرجّح ، فلأنَّ الاهتمامَ بالمطالب الاُصوليّة أكثر ، لابتناء الفروع عليها ، وكلّما كانت المسألة مهمّة كان الاهتمامُ فيها أكثر ، والتحفّظُ عن الخطأ فيها آكد ،

-------------------

في الاُصول ) لكن لايخفى : إنّ نفي شيء بالاستناد الى قول ضعيف غير وجيه ، وهذا القول هو من شريف العلماء إستاذ المصنّف - كما سيأتي - لا أنّه ممّا يرتضيه المصنّف .

( وأمّا وجود المرجّح ) لخروج المسائل الاُصولية حتى لاتكون مشمولة لنتيجة الانسداد فوجهه : الاهتمام بالمسائل الاُصولية أكثر ، لأنَّ مسألة واحدة من المسائل الاُصولية يتفرع عليها من الفروع جملة كبيرة ، ومثل هذه المسائل يهتم بها ، فلا يكتفى فيها بالظّن ، بل اللازم أن يقتصر فيها على القطع أو ما يشبه القطع من الظنون الخاصة .

وعليه : فلا يلزم من خروج المسائل الاُصوليّة ترجيح بلا مرجّح بأن يقال : انَّ المسائل الاُصولية والمسائل الفقهية متساويتان فاذا أخذنا بنتيجة الانسداد في المسائل الفقهية دون المسائل الاُصولية ، لزم ترجيح المسائل الفقهية على المسائل الاُصولية - في نتيجة الانسداد - بلا مرجّح كما قال :

( فلأن الاهتمام بالمطالب الاُصوليّة أكثر لابتناء الفروع عليها ) أي : على هذه المسائل الاُصولية ( وكلّما كانت المسألة مهمة كان الاهتمام فيها أكثر ، والتحفّظ ) بأن يحفظ الانسان نفسه ( عن الخطأ فيها آكد ) فمسألة أُصولية واحدة لها من الأهمية بقدر ما لعشر مسائل ، أو ما لمائة مسألة من الأهمية ، وذلك أنّها ممّا يبنى عليها جملة من الفروع .

ص: 20

ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك ، بقولهم : إنّ إثباتَ مثل هذا الأصل بهذا مشكلٌ ، أو إنّه إثباتُ أصل بخبر ، ونحو ذلك .

وأمّا الثالثُ ، وهو إختصاصُ مقدّمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعيّة ، إلاّ أنّ الظنّ بالمسألة الفرعيّة قد يتولّدُ من الظنّ في المسألة الاُصوليّة .

فالمسألة الاُصوليّة بمنزلة المسائل اللغويّة يعتبر الظنّ فيها من حيث كونه منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعي .

ففيه : أنّ الظنَّ بالمسألة الاُصوليّة إن كان منشأَ للظنّ بالحكم الفرعيّ ،

-------------------

( ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك ) أي : عن الاكتفاء بالظّن في الاُصول ( بقولهم : إنَّ إثبات مثل هذا الأصل بهذا مشكل ، أو انّه إثبات أصل بخبر ) واحد ( ونحو ذلك ) من التعبيرات الفقهائية .

( وأمّا الثالث : وهو إختصاص مقدمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعية ، إلاّ أنّ الظّن بالمسألة الفرعيّة قد يتولّد من الظّن في المسألة الاُصولية ) فاذا كان الظّن في المسألة الفرعية حجّة ، كان الظّنّ في المسألة الاُصولية حجّة أيضاً ، لأنّ المسألة الأُصولية والدة للمسألة الفرعية .

إذن : ( فالمسألة الاُصولية بمنزلة المسائل اللّغوية يعتبر الظّنّ فيها من حيث كونه منشأ للظّنّ بالحكمُ الفرعي الواقعي ) فلفظ الصعيد - مثلاً - هل هو لمطلق وجه الأرض ، أو لخصوص التراب ؟ مسألة لغويّة ، فاذا ظننّا بأحد الطرفين في هذه المسألة اللغويّة تولَّد منها مسألة فرعية بجواز التيمم بمطلق وجه الأرض ، أو بخصوص التراب .

( ففيه : إنَّ الظّنّ بالمسألة الاُصولية إن كان منشأ للظّنّ بالحكم الفرعي ،

ص: 21

كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة والمسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وإمتناع إجتماع الأمر والنهي ، فقد إعترفنا بحجّية الظنّ فيها .

وأمّا ما لايتعلّق بذلك ويكون باحثة عن أحوال الدّليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة ، وهي التي منعنا عن حجّية الظنّ فيها ، فليس يتولدُ من الظنّ فيها

-------------------

كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة ) التي تحتاج الى الاستنباط ، كلفظ الصعيد ، ولفظ الآنية ، ولفظ الغِناء ، ولفظ آلة اللّهو ، وغيرها ، ممّا تحتاج الى الاستنباط لإجمالها في جملة من الفروع .

( والمسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة ) للواجب ( وإمتناع إجتماع الأمر والنّهي ، فقد إعترفنا بحجّية الظّن فيها ) حيث قلنا قبل نصف صفحة تقرّيباً : «وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية وهي: الفاظ الكتاب والسنّة من حيث إستنباط الأحكام عنها الى قولنا : ويلحق بهما بعض المسائل العقلية ، مثل وجوب المقدّمة، وحرمة الضد ، وإمتناع إجتماع الأمر والنهي » ، الى آخره .

( وأمّا ما لايتعلّق بذلك ) أي : بما ذكرناه : من الموضوعات المستنبطة والمسائل العقلية ( ويكون باحثة عن أحوال الدّليل من حيث الاعتبار في نفسه ، أو عند المعارضة ) كما إذا بحثنا عن أنّه : هل الخبر الواحد حجّة أو لا ، لا من حيث حصول الظّن منه ؟ وكذا إذا تكلّمنا حول المرجّحات التعبديّة عند معارضة الدليلين .

( وهي التي منعنا عن حجّية الظّن فيها ) حيث قلنا قبل صفحة تقريباً : « لأنَّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد » الى آخره ( فليس يتولّد من الظّن فيها )

ص: 22

الظنُّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، وإنّما ينشأ منه الظنُّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ ، وهو ممّا لم يقتض إنسدادُ باب العلم بالأحكام الواقعيّة العملَ بالظنّ فيه ، فإن إنسداد باب العلم في حكم العصير العنبيّ إنّما يقتضي العملَ بالظنّ في ذلك الحكم المنسدّ لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته .

بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات ، لا من حيث هي ، بل من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعلّي عليها

-------------------

أي : في هذه المسائل ( الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ) .

فإنا إذا ظننّا بالمسألة الاُصولية فيها ، لا ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ( وإنّما ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الظاهري ) لأنّا نظن : إنّ هذا حكمنا الفعلي ، أمّا انّه حكم واقعي فلا نظنّ بذلك .

( وهو ممّا لم يقتض إنسداد باب العلم بالأحكام الواقعية ، العمل بالظّن فيه ) أي : الفرعي الظاهري .

وإنّما يكون الفرعي الظّاهري ممّا لم يقتض إنسداد باب العلم بالأحكام الواقعية العمل بالظّن فيه ( ف- ) ذلك ( إنّ إنسداد باب العلم في حكم العصير العنبي إنّما يقتضي العمل بالظّن في ذلك الحكم المنسد ) وهو الحكم الواقعي للعصير ( لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته ) وهو الحكم الظاهري .

فإنّا لما جهلنا الأحكام الواقعية التجئنا الى دليل الانسداد ليكشف لنا عن تلك الأحكام الواقعية ، فاذا دلّ دليل على الحكم الظاهري ، لم يكن ذلك مطلوباً لنا .

( بل أمثال هذه الأحكام ) الظاهرية ( الثابتة للموضوعات لا من حيث هي ) لتكون أحكاماً واقعية ( بل من حيث قيام الأمارة غير المفيدة للظّنّ الفعلي عليها )

ص: 23

إن ثبت إنسدادُ باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الاُصول عُمِلَ فيها بالظنّ ، وإلاّ فانسدادُ باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم إمكان العمل فيها بالاُصول لايقتضي العملَ بالظنّ في هذه الأحكام ، لأنّها لاتغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم .

هذا غايةُ توضيح ما قرّره أُستاذنا الشريف قدس سره اللطيف ، في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظنّ في المسائل الاُصوليّة .

-------------------

أي : غير المعتبر فيها ذلك الظنّ ( إن ثبت إنسداد باب العلم فيها ) أي : في هذه الأحكام الظاهرية ( على وجه يلزم المحذور من الرّجوع فيها الى الأُصول ) العمليّة ( عُمِلَ فيها بالظّن ) أيضاً .

( وإلاّ فإنسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم إمكان العمل فيها ) أي : في الأحكام الواقعية ( بالاُصول ) العمليّة ( لايقتضي العمل بالظّنَّ ، في هذه الأحكام ) الظاهرية ( لأنها لاتغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم ) .

إذن : فالمطلوب : الأحكام الواقعية ، والانسداد ينتهي الى الأحكام الظاهرية ، فالظنّ بالمسألة الاُصولية يولّد الظّن بالمسألة الظاهرية ، والحال إنّا نريد المسألة الفرعية الواقعية ، فليس الظنّ بالمسألة الاُصولية المولّدة للفرعية الظاهرية حجّة من باب الانسداد ، الذي يطلب منه الوصول الى الظّن بالواقع ، لا الظّن بالحكم الظاهري .

( هذا غاية توضيح ماقرّره استاذنا الشريف ) شريف العلماء ( قدس سره اللّطيف في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظّنّ في المسائل الاُصولية ) وإنّما الانسداد هو حجّة في المسائل الفرعية فقط .

ص: 24

الثاني من دليل المنع : وهو أنّ الشهرة المحققة والاجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في مسائل أصول الفقه ، وهي مسألة اصوليّة ، فلو كان الظنُّ فيها حجّةً وجب الأخذُ بالشهرة ونقلُ الاجماع في هذه المسألة .

والجوابُ : أمّا عن الوجه الأوّل فبأنّ دليلَ الانسداد واردٌ على أصالة حرمة العمل بالظنّ .

-------------------

( الثّاني من دليل المنع ) أي : منع كون الانسداد حجّة بالنسبة إلى المسائل الاُصولية ( وهو : أنّ الشّهرة المحقّقة ، والاجماع المنقول على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ) وقوله : « على » خبر قوله : « ان الشهرة » أي : انّ الشهرة والاجماع قائمان على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ( وهي مسألة أُصوليّة ) أي : أنَّ مسألة حجّية الظّن هي من مسائل أصول الفقه ، وعدم الحجّية مسألة اُصولية ( فلو كان الظّن فيها حجّة ، وجبَ الأخذ بالشّهرة ونقل الاجماع في هذه المسألة ) .

والحاصل : انّه كما لايمكن إبطال القياس بالقياس ، كذلك لايمكن إبطال الظّن في المسألة الاُصولية بنفس الظّن في المسألة الاصولية لأنّ مسألة حجّية الظّن هي من المسائل الأُصولية ، وعدم الحجّية هي بنفسها مسألة اُصولية .

ثمّ أنّه لما إستدّل شريف العلماء لعدم حجّية الظّنّ في المسائل الاُصولية بدليلين :

الأوّل : أصالة الحرمة وعدمَ شمول دليل الانسداد للمسائل الاُصوليّة .

الثاني : الشهرة المحقّقة والاجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في المسائل الاُصولية ، شرع المصنّف في الجواب عن الدليلين فقال :

( والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ) وهو أصالة الحرمة ( : فبأنَّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظّن ) فكما يرد على أصالة حرمة العمل بالظّن أدلة

ص: 25

والمختارُ في الاستدلال به في المقام هو الوجهُ الثالثُ ، وهو اجرائه في الأحكام الفرعيّة ، والظنّ في المسائل الاُصوليّة مستلزمٌ للظنّ في المسألة الفرعيّة .

وما ذكر من كون اللازم منه هو الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ صحيحٌ ، إلاّ أنّ ما ذكر - من أنّ إنسدادَ باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها الى الاصول لايقتضي إلاّ اعتبارَ الظنّ بالحكم الشرعيّ الواقعيّ -

-------------------

خبر الواحد وما أشبه ، فكذلك يرد على أصالة حرمة العمل بالظنّ دليل الانسداد ، لكن الخبر في حال الانفتاح والظّن المطلق في حال الانسداد .

( والمختار في الاستدلال به ) أي : بدليل الانسداد ( في المقام هو الوجه الثالث ) الذي ذكره شريف العلماء ( وهو : إجرائه في الأحكام الفرعيّة ، والظّن في المسائل الاُصولية مستلزم للظّن في المسألة الفرعية ) حيث تقدمت عبارته - قبل صفحة ونصف تقريباً - بما لفظه : وأمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعية فيثبت به إعتبار الظّن في خصوص الفروع ، ولكن الظّن بالمسألة الاُصولية يستلزم الظنّ بالمسألة الفرعية التي يبتني عليها .

( وما ذكر ) ه شريف العلماء إشكالاً على هذا الوجه الثالث ( من كون اللازم منه : هو الظّن بالحكم الفرعي الظّاهري صحيح ، الاّ أنَّ ماذَكَرَ : من أنَّ إنسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها ) أي : بتلكَ الأحكام الواقعية ( وعدم جواز الرّجوع فيها الى الاُصول لايقتضي الاّ إعتبار الظّنّ بالحكم الشّرعي الواقعي ) غير تام ، فقد تقدمت عبارته بقوله : « فليس يتولّد من الظّن فيها ، الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الظاهري ، وهو : ممّا لم

ص: 26

ممنوعٌ .

بل المقدّمات المذكورة ، كما عرفت غيرَ مرّة ، إنّما تقتضي إعتبارَ الظنّ بسقوط تلك الأحكام الواقعيّة وفراغ الذمّة منها . فاذا فرضنا مثلاً أنّا ظننا بحكم العصير لا واقعاً ، بل من حيث قام عليه ما لايفيد الظنّ الفعلي بالحكم الواقعي ، فهذا الظنّ يكفي في الظنّ بسقوط الحكم الواقعيّ للعصير .

بل لو فرضنا أنّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعيّ أصلاً ،

-------------------

يقتض انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة العمل بالظّن فيه ...» فانّ هذا الاشكال ( ممنوع ، بل المقدّمات المذكورة - كما عرفت غير مرّة - إنّما تقتضي إعتبار الظّن بسقوط تلك الأحكام الواقعية وفراغ الذمة منها ) .

هذا وسقوط الأحكام وفراغ الذمة ، قد يكون بالوصول الى الواقع ، وقد يكون بالوصول إلى بدله ، فقوله : « إنَّ الانسداد لايوصل الى الواقع ، بأن يعلم المكلّف إنّه واقع » ، كلام صحيح ، إلاّ إنّا لانريد الوصول الى الواقع فقط ، بل يكفينا أن نصل الى الواقع أو بدل الواقع ، ودليل الانسداد يصل الى أحدهما قطعاً .

( فاذا فرضنا مثلاً ، إنّا ظننّا بحكم العصير لا واقعاً ) أي : لم نعلم إنّه حكم واقعي بالنسبة الى العصير ( بل من حيث قام عليه ما لايفيد الظّن الفعلي بالحكم الواقعي ) أي : ظننّا بأن حكم العصير كذا ، لكن لم يكن ظننا انّه كذا هو الحكم الواقعي للعصير بل إحتملنا أنّه حكم واقعي وإحتملنا انه حكم ظاهري ( فهذا الظّنَّ يكفي في الظّنّ بسقوط الحكم الواقعي للعصير ) وإن لم يكن ظنّاً بالحكم الواقعي ، لأنّا مأمورون بالواقع أو ببدله ، لا بالواقع بما هو واقع .

( بل لو فرضنا : انّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعي أصلاً ) أي : أنَّ الظّن لم يتعلق

ص: 27

وإنّما حصل الظنّ بحجّية أُمور لاتفيد الظنّ ، فانّ العمل بها يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعيّة عنّا ، لما تقدّم من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً وبين الاتيان ببدله كذلك ، فالظنّ بالاتيان بالبدل كالظنّ بإتيان الواقع ، وهذا واضح .

وأمّا الجواب عن الثاني : فبمنع الشهرة والاجماع ،

-------------------

بالحكم ( وإنّما حصل الظّنّ بحجّية أُمور لاتفيد الظّن ) كما اذا ظنّنا بحجّية خبر الواحد - مثلاً - وقام الخبر الواحد على حرمة العصير ، لكنّا لم نظنّ بالحرمة ، لوضوح : انَّ الظّن بالمسألة الاُصولية لايستلزم الظّن بالمسألة الفرعية .

بل القطع بالمسألة الاُصولية لايستلزم الظّن بالمسألة الفرعية ، فاذا قطعنا - مثلاً- بأنَّ الشاهدين حجّة في نفسِهما ، وقام الشاهدان على انّ زيداً سارق ، فإنّا قد نقطع بأنّه سارق ، وقد نقطع انّه ليس بسارق ، وقد نشك في سرقته وعدم سرقته وقد نظنّ بأحد الطرفين ونتوهم الطرف الآخر ، فالقطع بالمسألة الاُصولية لايستلزم حتى الوهم بالنسبة الى الفرعية ( فانّ العمل بها ) أي : بتلك الاُمور كالعمل بالخبر الواحد - مثلاً - ( يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعية عنّا ) .

وإنّما يظنّ ( لما تقدّم : من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً ، وبين الاتيان ببدله كذلك ) أي : علماً أو ظنّاً ( فالظّن بالاتيان بالبدل كالظّن بإتيان الواقع ، وهذا واضح ) لا غبار عليه ، فقول شريف العلماء : « بأنّ الظّن في المسألة الاُصوليّة ليس حجّة ، لأنّه لايوصل الى الظّن بالفرعيّة الواقعيّة » ، غير تام ، لأنّا لا نريد الفرعية الواقعية ، بل يكفينا الفرعية الظاهرية التي هي بدل عن الواقع .

( وأمّا الجواب عن الثاني ) الّذي قال : بأنّ الشهرة المحقّقة والاجماع المنقول ، يدلان على عدم حجّية الظّن في مسائل اُصول الفقه ( فبمنع الشهرة والاجماع )

ص: 28

نظراً إلى أنّ المسألة من المستحدثات ، فدعوى الاجماع فيها مساوقةٌ لدعوى الشهرة .

وثانياً : لو سلّمنا الشهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظنون الخاصّة ، كأخبار الآحاد والاجماع المنقول .

وحيث إنّ المتّبع فيها الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها كالإجماع والسيرة على حجّية أخبار الآحاد مختصّة بالمسائل الفرعيّة بقيت المسائل الاُصوليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظّنّ ، ولم يُعلم بل ولم يُظنّ من مذهبهم الفرقُ بين الفروع والاُصول ، بناءاً

-------------------

على هذه الدلالة ( نظراً إلى إنَّ المسألة من المستحدثات ) فإن مسألة الانسداد بهذه الخصوصيات لا شكَ في أنّها مسألة حادثة ، ( فدعوى الاجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة ) فيها ، وكلاهما ممنوعان ، إذ لا شهرة قطعاً ، وحيث لا شهرة قطعاً فلا إجماع أيضاً .

( وثانياً : لو سلّمنا الشّهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظّنون الخاصة ، كأخبار الآحاد ، والاجماع المنقول ) والسيرة ، والأولوية ، ونحوها .

( وحيث انَّ المتبع فيها ) أي : في الظّنون الخاصة ( الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها - كالإجماع والسّيرة - على حجّية أخبار الآحاد مختصة بالمسائل الفرعيّة ) فانّ غاية مايثبت بالأدلة الخاصة إعتبار الظّنون الخاصة في المسائل الفرعية ، فلو قامت الأدلة الخاصة على مسائل اُصولية لم يكن دليل على إعتبار تلك الظنّون .

ولهذا ( بقيت المسائل الاُصولية تحت أصالة حرمة العمل بالظّنّ ) فالظنّ حجّة في المسألة الفرعيّة لا في المسألة الاُصولية .

هذا ( ولم يعلم ، بل ولم يظنّ من مذهبهم : الفرق بين الفروع والاُصول ، بناءاً

ص: 29

على مقدّمات الانسداد وإقتضاء العقل كفاية الخروج الظنيّ عن عهدة التكاليف الواقعيّة .

وثالثاً : سلّمنا قيامَ الشهرة والاجماع المنقول على عدم الحجّية على تقدير الانسداد ، لكنّ المسألة أعني كونَ مقتضى الانسداد هو العمل بالظنّ مطلقاً في الفروع دون الاُصول عقليّةٌ ، والشهرة ونقل الاجماع إنّما يفيدانِ الظنَّ في المسائل التوقيفيّة دون العقليّة .

-------------------

على مقدّمات الانسداد ) وإنّما يَرون الفرق بينهما - بناءاً على الظّن الخاص - فيقولون بحجّية الظّن في الفروع دون الاُصول .

( و ) كذا لايرون الفرق بين الفروع والاُصول بناءاً على ( إقتضاء العقل كفاية الخروج الظّني عن عهدة التكاليف الواقعيّة ) حال الانسداد .

والحاصل من الجواب على إشكال عدم حجّية الظّن في الاُصول أمران :

أوّلاً : لا شهرة ولا إجماع على عدم حجّية الظّن في المسائل الاُصولية.

ثانياً : لو سلّمنا الشهرة والاجماع ، فهما يقولان بعدم حجّية الظّن في المسائل الاُصولية على تقدير الانفتاح وحجّية الظن الخاص ، وكلامنا نحن في حال الانسداد .

( وثالثاً : سلّمنا قيام الشّهرة والاجماع المنقول على عدم الحجّية على تقدير الانسداد ) أي : سلّمنا عدم صحة جوابنا الأوّل ، وعدم صحة جوابنا الثاني ( لكنّ المسألة أعني : كون مقتضى الانسداد هو العمل بالظّن مطلقاً ) مقابل الظنون الخاصة ( في الفروع دون الاُصول ، عقليّة ) لأنّ العقل يقول : لا حجّية للظّن في الاُصول ( والشّهرة ونقل الاجماع إنّما يفيدان الظّن في المسائل التوقيفية ، دون العقلية ) لأنّ العقل لايحتاج في حكمه الى ملاحظة حكم الغير .

ص: 30

ورابعاً : إنّ حصول الظنّ بعدم الحجّية مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية لا يجتمعان ، فتسليمُ دليل الانسداد يمنعُ من حصول الظنّ .

وخامساً : سلّمنا حصولَ الظنّ ، لكنّ غايةَ الأمر دخولُ المسألة فيما تقدّم من قيام الظنّ على عدم حجّية الظنّ ، وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى ، فراجع .

-------------------

والحاصل : إنَّ العقل يقول لاحجّية للظّن في الاُصول ، وأنتم تقولون الظّن حجّة في الاُصول لقيام الشّهرة على حجّيته ، فهو مثل أن يقول إنسان : يستحيل إجتماع النقيضين عقلاً ، وأنتم تقولون الشهرة قامت على جواز إجتماع النقيضين .

( ورابعاً : إنّ حصول الظّن بعدم الحجّية ) لأن الشهرة والاجماع لما قاما على عدم الحجّية كان معناه : انّا نظنّ بسبب الشهرة والاجماع عدم حجّية الظّن في الاُصول ( مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية ) لأن المفروض : إنّ الظّن حاصل في المسائل الاُصولية لكنّه ليس بحجّة على كلامكم ، ( لا يجتمعان ) إذ كيف يجتمع الظّنّ بعدم الحجّية مع الظّن بالحجّية ؟ .

وعليه : ( فتسليم دليل الانسداد ) في الاُصول ( يمنع من حصول الظّنَّ ) فيها ، فالظّن في المسألة الاُصولية لايحصل أصلاً .

( وخامساً : سلّمنا حصول الظّنّ ) الذي منعناه في الجواب الرابع ( لكن غاية الأمر دخول المسألة فيما تقدّم من قيام الظّنَّ على عدم حجّية الظّنّ ) فهو من قبيل الظّن المانع والممنوع .

( وقد عرفت : انّ المرجع فيه الى متابعة الظّنّ الأقوى ، فراجع ) ونتيجة ذلك : أنّه ربّما يكون الظّنّ في مسائل أُصول الفقه حجّة ، وربّما لايكون حجّة ، فأين ما ذكرتم بأنّه لا حجّية للظّن في المسائل الاُصولية إطلاقاً ، حيث إستدللتم

ص: 31

الأمر الرابع

انّ الثابتَ بمقدّمات دليل الانسداد هو الاكتفاءُ بالظنّ في الخروج عن عهدة الأحكام المنسدّ فيها بابُ العلم ، بمعنى أنّ المظنونَ إذا خالف حكمَ اللّه الواقعيّ لم يعاقب عليه بل يثاب عليه ، فالظنّ بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعيّ الممتثل .

وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجيّ على ذلك المعيّن ، فلا دليل على الاكتفاء فيه بالظنّ .

-------------------

على ذلك بقيام الاجماع والشهرة على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ؟ لكن لايخفى : إنَّ بعض هذه الأجوبة محل تأمّل ، وحيث إنّا بصدد الشرح غالباً نترك بيان الاشكال فيها الى المفصلات .

( الأمر الرابع : ) من تنبيهات الانسداد ( إنَّ الثابت بمقدمات دليل الانسداد ) هو حجّية الظّن في الأحكام وفي مقدماتها ، أمّا في التطبيقات فالظّن ليس بحجّة ، فالثابت بدليل الانسداد ( هو الاكتفاء بالظّن في الخروج عن عهدة الأحكام المسندّ فيها ) أي : في تلك الأحكام ( باب العلم ) والعلمي ( بمعنى : أنَّ المظنون إذا خالف حكم اللّه الواقعي لم يعاقب عليه ) أي : العامل بالظّن لا يعاقب على تركه حكم اللّه الواقعي . وإنّما لايعاقب لأنّه عمل بظنّه ( بل يثاب عليه ) لأنّه مأمور بالأمر العقلي المستتبع للأمر الشرعي ، أو بالأمر الشرعي على إتباع الظنّ ( فالظّن بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل ) « الممتثل » مفعول « يكفي » ، يعني يكفي المكلّف الظنّ .

( وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعيّن ) أي : على ذلك الحكم المعين بحسب الظّن ( فلا دليل على الاكتفاء فيه ) أي : في التطبيق (بالظّن)

ص: 32

مثلاً ، إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيينُ الواجب الواقعيّ بالظنّ ، فلو ظننّا وجوبَ الجمعة فلا نُعاقَبُ على تقدير وجوب الظهر واقعاً ، لكن لا يلزمُ من ذلك حجّيةُ الظنّ في مقام العمل على طبق ذلك الظنّ ، فاذا ظننّا بعد مضيّ مقدار من الوقت بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن إحتمل نسيانها فلا يكفي الظنّ بالامتثال من هذه الجهة ، بمعنى أنّه إذا لم نأت بها في الواقع ونسيناها قام الظنّ بالاتيان مقامَ العلم به ، بل يجب بحكم الأصل وجوبُ الاتيان بها .

-------------------

بل اللاّزم أن يكون التطبيق بالعلم والعلمي .

( مثلاً : إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظّهر ، جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظّن ) وانّه هل الواجب في يوم الجمعة أن نأتي بصلاة الجمعة ، أو بصلاة الظهر ؟ ( فلو ظننّا وجوب الجمعة فلا نعاقب ) من قبل المولى ( على تقدير وجوب الظّهر واقعاً ) لأنّ العقل والشرع قالا بإتباع الظنّ .

( لكن لايلزم من ذلك ) أي : من حجّية الظنّ على وجوب الجمعة ( حجّية الظّن في مقام العمل على طبق ذلك الظّن ) ، بل اللازم أنّ نأتي بالجمعة قطعاً بأن نقطع بأنّا أتينا بالجمعة ، لا أن نظنّ أنّا أتينا بالجمعة .

وعليه : ( فإذا ظنّنا بعد مضي مقدار من الوقت ) يسع لفعل الجمعة ( بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن احتمل نسيانها ، فلا يكفي الظّن بالامتثال من هذه الجهة ) أي : من جهة إنّا أتينا بالجمعة ( بمعنى : أنّه إذا لم نأت بها ) أي : بالجمعة

( في الواقع ونسيناها ، قام الظّن بالاتيان مقام العلم ) فالظّن حجّة في أصل وجوب الجمعة ، أمّا الاتيان بها في يوم الجمعة ، فاللازم أن يكون مقطوعاً ( به ، بل يجب بحكم الأصل ) أي : أصالة عدم الاتيان ( وجوب الاتيان بها ) أي : بالجمعة .

ص: 33

وكذلك لو ظننّا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظنّ بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال .

وبالجملة : إذا ظنّ المكلّفُ بالامتثال وبراءة ذمّته وسقوط الواقع ، فهذا الظنّ إن كان مستنداً الى الظنّ في تعيين الحكم الشرعيّ كان المكلّفُ فيه معذوراً مأجوراً على تقدير المخالفة للواقع ، وإن كان مستنداً إلى الظنّ بكون الواقع في الخارج منه

-------------------

( وكذلك لو ظّننا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة ) ولم نعلم بالدخول علماً قطعياً ( فلا يقتصر على هذا الظّن ) بل اللازم الاتيان بها بعد القطع بدخول الوقت ( بمعنى : عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال ) أي : إنَّ هذا الظّن لايرفع العقاب على تقدير كونه مخالفاً للواقع .

والحاصل : انّه لايكفي الظّن في أصل الاتيان ، أو في شرطه ، أو في جزئه ، كما إذا ظنّ بأنّه قد قرأ الحمد ، والحال إنّه بعد في محله فالمثال الأوّل : لأصل الاتيان ، والمثال الثاني : للشرط ، ولم يذكر المصنّف مثال الجزء إكتفاءاً منه بذكر الشرط ، لأن الشرط والجزء لهما حال واحد .

( وبالجملة : إذا ظنّ المكلّف بالامتثال و ) ظنّ ب- ( برائة ذمته وسقوط الواقع ) عنه ( فهذا الظّن إن كان مستنداً الى الظنّ في تعيين الحكم الشرعي ) بأن تعلق الظّن بأصل الحكم الشرعي ، أو بمقدماته ، كمسائل الاُصول ( كان المكلّف فيه معذوراً مأجوراً على تقدير المخالفة للواقع ) وذلك للمصلحة السلوكية الَّتي ذكرناها في أوّل الكتاب .

( وإن كان مستنداً إلى الظّن بكون الواقع في الخارج منه ) أي : من الحكم

ص: 34

منطبقاً على الحكم الشرعيّ فليس معذوراً ، بل يُعاقبُ على ترك الواقع أو ترك الرجوع الى القواعد الظاهريّة التي هي المعوّل لغير العالم .

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ الظنّ بالأُمور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها على المفاهيم الكلّيّة التي تعلّق بها الأحكام الشرعيّة لا دليلَ على اعتباره ، وأنّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسدّ فيه بابُ العلم ، لفقد الأدلّة المنصوبة من الشارع وإجمال ما وجد منها .

-------------------

( منطبقاً على الحكم الشرعي ، فليس معذوراً ، بل يعاقب على ترك الواقع ، أو ترك الرّجوع الى القواعد الظّاهرية الّتي هي ) أي : القواعد الظاهرية ( المعوّل لغير العالم ) وذلك لأنه لا إنسداد في مقام التطبيق ، وانّما الانسداد في مقام الحكم ، فاللازم في مقام التطبيق سلوك الطرق العقلائية من العلم أو العلمي .

هذا وقول المصنّف : « على ترك الواقع ، أو ترك الرجوع » ، اشارة الى التسوية بين الواقع ، وبين القواعد الظاهرية ، التي على المكلّف الرّجوع الى أيهما شاء ، لأنا ذكرنا في مسألة القطع : إنَّ العلمي في عرض العلم وإنّ تمكن المكلّف من العلم .

( وممّا ذكرنا ) : من انَّ الظنّ حجّة في الأحكام لا في التطبيقات ( تبيّن : أنَّ الظّنّ

بالاُمور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها ) أي : بإنطباق هذه الاُمور الخارجية ( على المفاهيم الكلّية الَّتي تعلّق بها ) أي : بتلكَ المفاهيم الكلّية ( الأحكام الشرعيّة ، لا دليل على اعتباره ) أي : اعتبار هذا الظّن .

( و ) تبين أيضاً : ( انَّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسدّ فيه باب العلم ، لفقد الأدلة المنصوبة من الشّارع ، وإجمال ما وجد منها ) أي : من تلك الأدلة .

ص: 35

ولا يعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ، فانّ المعذور فيه هو الظنّ بأنّ قبلةَ العراق مابين المشرق والمغرب ، أمّا الظنّ بوقوع الصلاة إليه فلا يُعذر فيه .

فظهر اندفاعُ توهّم أنّه إذا بنى على الامتثال الظنيّ للأحكام الواقعيّة فلا يُجدي إحراز العلم بانطباق الخارج

-------------------

والواو في قوله : « وإجمال » ، للترديد لا للجمع ، أي : في مقام فقد الدليل أو إجمال الدّليل ، مثل قولهم :« الكلمة : اسم وفعل وحرف » ، حيث انَّ الكلمة الواحدة ليست كل ذلك ، بل المراد : انَّ الكلمة : إمّا إسم ، أو فعل ، أو حرف .

( ولايعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ) أي : من جهة الأحكام ، فالجاهل غير معذور من جهة التطبيقات .

هذا والمراد بالجاهل غير المعذور هنا : غير العالم ولو كان ظانّاً مع التمكن من العلم ، أمّا إذا لم يتمكن من العلم ، فمعذور قطعاً ويقوم الظنّ مقام العلم ، مثل من غَمَّت لديه الشهور بالنسبة الى الصيام ، ومن كان في سجن مظلم بالنسبة الى أوقات الصلاة ، والى غير ذلك ، وقد ذكر المصنّف لذلك مثالاً بقوله : ( فانَّ المعذور فيه هو الظّن بأن قبلة العراق مابين المشرق والمغرب ) أي : فيما إذا لم يعلم الانسان خصوصية القبلة ، وإنّما علم إجمالاً انّها بين المغرب والمشرق ، فاذا صلى فيما بينهما صحت صلاته .

( أمّا الظّن بوقوع الصّلاة اليه ) أي : الى مابين المغرب والمشرق ( فلا يعذر فيه ) لو خالف الواقع ( فظهر ) ممّا ذكرناه : من أنّ الظّن الانسدادي حجّة في الأحكام ، لا في التطبيقات ( اندفاع توهّم ) صاحب القوانين : من ( انّه إذا بنى على الامتثال الظّني للأحكام الواقعيّة ، فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج

ص: 36

على المفهوم ؛ لأنّ الامتثال يرجع بالآخرةِ الى الامتثال الظنّي ، حيث أنّ الظانّ بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب إمتثالهُ للتكاليف الواقعيّة ظنيٌّ ، عَلِمَ بما بين المشرق والمغرب أو ظَنَّ .

وحاصله : انّ حجّية الظنّ في تعيين الحكم بمعنى معذوريّة الشخص مع المخالفة لايستلزم حجّيته في الانطباق بمعنى معذوريّته لو لم يكن الخارجُ منطبقاً على ذلك الذي عيّن وإلاّ لكان الاذنُ في العمل بالظنّ في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها

-------------------

على المفهوم ) إذ أي فائدة في العلم بالانطباق والحال انّه بالتالي يرجع الى الظّن ؟ لأنَّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين كما قال :

( لأنَّ الامتثال يرجع بالآخرة إلى الامتثال الظّني حيث انَّ الظّان بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب إمتثاله للتكاليف الواقعيّة ظنّي ، علم بما بين المشرق والمغرب أو ظنّ ) فاذا كان إنسداد بالنسبة الى نقطة القبلة بين المشرق والمغرب ، فكما يجوز انّ يعمل بالظّن في النقطة الخاصة ما بينهما ، كذلك يجوز أن يعمل بالظّن بأنّه مابين المشرق والمغرب أولاً .

( وحاصله : ) أي : حاصل الاندفاع والجواب عن صاحب القوانين هو : ( انّ حجّية الظّنّ في تعيين الحكم بمعنى : معذوريّة الشّخص مع المخالفة ) للواقع ، مخالفة للحكم ( لايستلزم حجّيته ) أي : حجّية الظّنّ ( في الانطباق ) والحجّية هنا ( بمعنى : معذوريّته ) أي : معذورية الشّخص في العمل الخارجي ( لو لم يكن الخارج منطبقاً على ذلك الّذي عيّن ) بالظّن .

( وإلاّ لكان الاذن في العمل بالظّن في بعض شروط الصّلاة ، أو أجزائها ، يوجب جوازه ) أي : جواز العمل بالظّن ( في سائرها ) أي : في سائر الأجزاء

ص: 37

وهو بديهيّ البطلان .

فَعلِمَ أنّ قياس الظنّ بالأمور الخارجيّة على المسائل الاصوليّة واللغويّة وإستلزامه الظنَّ بالامتثال قياسُ مع الفارق ، لأنّ جَميع هذه يرجعُ إلى شيء واحد هو الظنُّ بتعيين الحكم .

-------------------

والشرائط .

وإنّما قلنا : « وإلاّ لكان الاذن . . . » لنفس الدّليل الّذي ذكره القوانين بقوله : « لأنّ الامتثال يرجع بالآخرة الى الامتثال الظنّي . . . » .

( وهو ) إشارة الى قوله : وإلاّ لكان الاذن . . . » ( بديهيّ البطلان ) لوضوح : انّه إذا لم نتمكن من العلم في وجوب السورة وتمكنا من العلم بوجوب الحَمد ، لا يجوز لنا ترك العلم بالحمد الى الظّنّ به ، فان يتنزَّل من العلم الى الظّنّ بقدر الاضطرار ، ولا إضطرار بالنسبة الى الحمد ، وإنّما الاضطرار بالنسبة الى السورة فقط .

( فعلم : انّ قياس الظّنِّ بالاُمور الخارجية ) الذي فعله صاحب القوانين حيث قال : بأن الظّن في التطبيقات الخارجيّة ( على المسائل الاُصولية واللّغوية ) حيث أنّ الظنّ حجّة في هذه المسائل ، ( وإستلزامه ) أي : هذا القياس كفاية ( الظّنّ بالامتثال ) فلا حاجة الى أن نقطع في التطبيق حتى يكون إمتثال ( قياس مع الفارق ) .

إذن : فالمسائل الاُصولية واللّغوية الظّن فيها حجّة ، أمّا التطبيقات الخارجية فالظنّ ليس حجّة فيها ( لأنّ جميع هذه ) أي : المسائل الاُصولية واللّغوية ( يرجع الى شيء واحد هو : الظّنّ بتعيين الحكم ) لا التطبيق ، فالتطبيق شيء ، وتعيين الحكم شيء آخر ، والظّن إنّما هو حجّة في تعيين الحكم ، لا في تطبيق الحكم

ص: 38

ثمّ إن المعلوم عدمُ جَريان دليل الانسداد في نفس الاُمور الخارجيّة ، لأنّها غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتّى يدّعى طروّ الانسداد فيها في هذا الزمان ، فيجري دليل الانسداد في أنفسها ، لأنّ مرجعها ليس الى الشرع ولا الى مرجع آخر منضبط .

-------------------

الكلي على المصداق الخارجي .

لا يقال : سلّمنا أنّه لايجري دليل الانسداد المرتبطة بالأحكام في التطبيقات الخارجية ، لكنّا نقرّر انسداداً آخر في باب التطبيقات .

لأنه يقال : ( ثمّ انّ المعلوم : عدم جريان دليل الانسداد في نفس الاُمور الخارجية ) والتطبيقات لكليات الأحكام على هذه الاُمور ، لنقرّر دليل الانسداد في الوقت بالنسبة الى الصلاة - مثلاً- وغير ذلك . وإنّما لايجري ( لأنّها ) أي : الاُمور الخارجية ( غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتى يدّعى طروّ الانسداد فيها ) أي : في تلك الأمارات والأدلة ، فليس مثل ما قرر الانسداد في الأحكام الشرعية حيث انّها منوطة بأدلة ، وأمارات مضبوطة : كالخبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، والأولوية ، والسيرة ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فانّ ( في هذا الزمان ) المتأخر عن زمان المعصومين عليهم السلام ، يجري الانسداد في الأحكام الشرعية فقط ، دون التطبيقات الخارجية ( ف- ) انّها غير منوطة بأدلة وأمارات مضبوطة ، حتى ( يجري دليل الانسداد في أنفسها ) .

إذن : فلا طريق للإنسداد في نفس تلك الأُمور الخارجية ( لانّ مرجعها ليس الى الشرع ، ولا إلى مرجع آخر منضبط ) حتى يدّعى طروّ الانسداد فيه ، لانّ الشيء المنضبط يجري فيه الانسداد اذا جهل ذلك الشيء المنضبط ، أمّا الشيء

ص: 39

نَعم ، قد يوجد في الأُمور الخارجيّة ما لا يبعدُ إجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي اُنيط به أحكام كثيرةٌ من جواز التيمّم والافطار وغيرهما ، فيقال : إنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالبا إذ لا يُعلم غالبا إلا بعد تحققه ، فاجراء أصالة عدمه في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو الوقوع في الضرر غالبا ، فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظنّ .

-------------------

غير المنضبط فلا انضباط له حتى يكون معلوما تارةً ومجهولاً اُخرى ، فاذا كان معلوما وجب العلم فيه ، وإذا كان مجهولاً جرى الانسداد فيه .

( نعم ، قد يوجد في الاُمور الخارجية ما لا يبعد اجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي أُنيط به أحكام كثيرة ) حيث انّ الشارع جعل الضرر سبباً لأحكام كثيرة غير الأحكام الأوليّة ( من جواز التيمّم ) بدل الوضوء والغسل ( والافطار ) إذا كان الصوم ضاراً ( وغيرهما ) كالجبيرة ، ومناسك الحجّ ، حيث إنّ الاضطرار يغير الوضوء ، والغُسل ، والجبيرة ، ويغير جملة من أحكام الحجّ الى الأحكام الاضطرارية .

وإنّما يقرر الانسداد في باب الضرر بالكيفية التالية :

( فيقال : إنَّ باب العلم بالضرر منسدّ غالباً ، إذ لايُعلمُ غالباً ) الضرر ( إلا بعد تحقّقه ) وذلك يوجب الضرر على العباد إذا قيد الشارع : « لاضرر » بالعلم بالضرر ( فإجراء أصالة عدمه ) أي : عدم الضرر ( في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو : الوقوع ، في الضرّر غالباً ) والشارع لايريد ضرر المكلفين لأنّه قال : « لا ضَرَرَ ولا ضرار » ( فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظّن ) .

وعليه : فكلّما ظنّ المكلّف الضرر تبدّل حكمه من الحكم الأولي الى الحكم

ص: 40

هذا إذا أُنيط الحكمُ بنفس الضرر ، وأمّا إذا اُنيط بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك ، بل يشمل حينئذٍ الشكّ أيضاً .

ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما

-------------------

الثانوي ، وإذا لم يظنّ الضرر كان مكلّفاً بالحكم الأولي .

ثمّ أن ( هذا ) الذي ذكرناه : من جريان دليل الانسداد في باب الضرر إنّما هو ( إذا أنيط الحكم بنفس الضّرر ) بأن قال الشارع : إنَّ الّذي يتضرر بالصوم لا يصوم ، وإنّ الذي يتضرر بالوضوء والغسل يتيمم ، وهكذا .

( وأمّا اذا أُنيط ) الحكم الضرري ( بموضوع الخوف ) بأن قال الشّارع : إذا خفت الضرر فلا تصم ، أو لاتحج ، أو تتيمم ، أو ما أشبه ( فلا حاجة الى ذلك ) الانسداد ( بل يشمل حينئذٍ ) موضوع الخوف ( الشّكَ أيضاً ) .

وعليه : فاذا شك في انّ الشيء الفلاني ضرر عليه أو لا وخاف الضرّر ، تنزَّل الى الحكم الثانوي ، بل إذا كان الموضوع هو خوف الضرر شمل الوهم أيضاً فان الخوف يشمل الوهم ، فاذا كان اللصوص يقتلون راكبي سيارة من عشر سيارات ، فالراكب في احداها متوهم انّه يقتل لا شاك ، لأنّ الشك فيما كان طرفاه متساويين ، بينما هنا إحتمال السلامة تسعة من عشرة ، وإحتمال القتل واحد من عشرة ومع ذلك يقول العقلاء هنا خوف الضرر .

( ويمكن أن يجري مثل ذلك ) أي : مثل موضوع الضرر ( في مثل العدالة ، والنّسب ، وشبههما ) كقيم المتلفات ، والأرش في الجنايات ، وما أشبه ذلك ، فان سبيل العلم بها على الوجه المضمون من الزيادة والنقيصة غير موجود غالباً ،

ص: 41

من الموضوعات التي يلزمُ من إجراء الاُصول فيها مع عدم العلم ، الوقوعُ في مخالفة الواقع كثيراً ، فافهم .

-------------------

إذ يضطرب فيها السوق والخبراء ويزيدون وينقصون باختلاف الرغبات .

وإلى غير ذلك ( من الموضوعات التّي يلزم من إجراء الاُصول فيها مع عدم العلم ، الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً ) .

مثلاً : إذا شككنا في أرش الجناية بأنه عشرة ، أو مائة ، أو خمسمائة ؟ فأجرينا أصل عدم الزيادة عن العشرة على الجاني ، وكذا أجرينا أصل عدم العدالة في هذا الشاهد ، وفي هذا الامام ، وفي هذا القاضي ، وفي هذا المرجع ، وأصل عدم انتساب هذا الولد الى هذا الأب ،وأصل عدم أخوة زيد وعمرو فيما إذا مات أحدهما وادعى الآخر ارثه ، وأصل عدم الضرر في الوضوء والغسل والصوم ، وهكذا ، لزم الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً .

ولهذا نجري الانسداد الصغير في هذه الاُمور ونقول : لا شك أنّ هناك أضراراً ، وطريق العلم اليها منسدّ ، وإجراء الأصل فيها يوجب الوقوع في كثير من تلك الأضرار ، التي لايرضى بها الشّارع ، والاحتياط عسرٌ ، وغير ذلك من مقدمات الانسداد ، فاللازم أن يكون المرجع في تلك الأضرار : الظّن ، فكلما ظننّا بالضرر عملنا بالحكم الثانوي كالتيمم ، وكل ما لم نظنّ بالضرر عملنا بالحكم الأولي من باب الكشف ، أو من باب الحكومة .

وهكذا نقول في العدالة والنَسب وغيرهما .

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى أنّه لايجري الانسداد في هذه الموضوعات مطلقاً ، وإنّما يجري الانسداد فيما تمت فيه مقدّمات الانسداد من وقوع العُسر والحَرج والخروج عن الدّين ، وما أشبه .

ص: 42

الأمر الخامس

اشارة

في اعتبار الظنّ في اصول الدّين والأقوالُ المستفادةُ من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة ، من حيث وجوب مطلق المعرفة أو الحاصلة عن خصوص النظر وكفاية الظنّ مطلقاً أو في الجملة ، ستّةٌ :

-------------------

أو أنّ مراده من قوله : « فافهم » ، أنَّ العدالة ، والنَسب ، والضرر ، ونحوها ، يؤخذ من العرف حتى بدون الظن الشخصي ، لأنَّ الشارع لم يجعل فيه طريقاً جديداً ، والعرف لهُ موازين خاصة في هذه الاُمور ، فلا حاجة الى جريان الانسداد فيها .

( الأمر الخامس ) من تنبيهات الانسداد : ( في اعتبار الظّنّ في اُصول الدّين ، و ) أنّه هل يكفي الظّنّ أو يلزم فيه العلم ؟ .

( الأقوال المستفادة من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة من حيث وجوب مطلق المعرفة ) ولو كانت حاصلة من التقليد ( أو الحاصلة عن خصوص النّظر ) والاجتهاد ( وكفاية الظّنّ مطلقاً ) من أي سبب كان ( أو في الجملة ) أي : من أسباب خاصة ( ستة ) .

هذا وقد عرفت : أن أُصول الأقسام أربعة :

الأوّل : وجوب المعرفة العلمية مطلقاً ولو من التقليد .

الثاني : وجوب المعرفة الحاصلة من النظر فقط .

الثالث : كفاية الظّن مطلقاً من أي : سبب حصل .

الرابع : كفاية الظّن في الجملة لا كلّ ظنّ .

ص: 43

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف عن الأكثر وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح إجماع العلماء كافّةً .

وربّما يُحكى دعوى الاجماع عن العضدي ، لكنّ الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في العقليات من اُصول الدّين دعوى إجماع الاُمة على وجوب معرفة اللّه .

الثاني : اعتبارُ العلم ولو من التقليد ، وهو المصرّح به في كلام بعضٍ والمحكي عن آخرين .

الثالث : كفايةُ الظنّ مطلقاً ،

-------------------

وكيف كان : - فقد ذكر المصنّف هنا أقوالاً ستة :

( الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ) ولو كان إستدلالاً خفيفاً ( وهو المعروف عن الأكثر ، وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح : إجماع العلماء كافة ) على أنّه يجب معرفة اُصول الدين بالنظر والاستدلال . ( وربّما يُحكى دعوى الاجماع عن العضدي ) من العامّة ( لكن الموجود منه ) أي : من كلام العضدي ( في مسألة عدم جواز التّقليد في العقليّات من اُصول الدّين : دعوى إجماع الاُمة على وجوب معرفة اللّه ) سبحانه ، وليس فيه تعرض لاعتبار العلم ولا لزوم كونه حاصلاً عن الاستدلال والنظر .

( الثّاني : اعتبار العلم ولو من التّقليد ) فلا حاجة الى الاستدلال والنظر ( وهو المصرّح به في كلام بعض والمحكي عن آخرين ) من علمائنا .

( الثالث : كفاية الظّنّ مطلقاً ) في مقابل القول الرابع والخامس حيث فيهما

ص: 44

وهو المحكيّ عن جماعة ، منهم : المحقّق الطوسيّ في بعض الرسائل المنسوبة إليه ، وحكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه ، وعن المحقّق الأردبيليّ وتلميذه صاحب المدارك ، وظاهر شيخنا البهائيّ والعلاّمة المجلسيّ والمحدّث الكاشاني قدس سرهم .

الرابع : كفايةُ الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائيّ ، في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنّه نسبه إلى بعض .

الخامس : كفايةُ الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس سره ، في النهاية عن الأخباريين ،من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين

-------------------

يشترط الظّن من طرق خاصة ( وهو المحكي عن جماعة منهم المحقق الطّوسي في بعض الرّسائل المنسوبة اليه ، وحكي نسبته اليه في فصوله ) لأنّ المحقّق الطوسي كتب كتاباً سمّاه الفصول ( ولم أجده فيه ) أي : في ذلك الكتاب .

( وعن المحقّق الأردبيلي ، وتلميذه صاحب المدارك ، وظاهر شيخنا البهائي ، والعلاّمة المجلسي ، والمحدّث الكاشاني قدس سرهم ) هذا القول أيضاً ، حيث انهم اكتفوا بالظّنّ مطلقاً في اُصول الدين .

( الرّابع : كفاية الظّنّ المستفاد من النظر والاستدلال ، دون التّقليد ) فالظّن إذا كان مستنداً إلى التقليد لم يكف ، أمّا إذا كان مستنداً إلى الاستدلال والنظر كفى ( حكي عن شيخنا البهائي في بعض تعليقاته على شرح المختصر انّه نسبه الى بعض ) علمائنا .

( الخامس : كفاية الظّنّ المستفاد من أخبار الآحاد وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس سره في النّهاية عن الأخباريّين : من انّهم لم يعوّلوا في اصول الدين

ص: 45

وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، وحكاه الشيخُ في عدّته في مسألة حجّية أخبار الآحاد عن بعض غفَلَةِ أصحاب الحديث ، والظاهرُ أنّ مراده حَمَلَةُ الأحاديث الجامدون على ظواهرها المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة المعارضة لتلك الظواهر .

السادس :كفايةُ الجزم بل الظنّ من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً ، لكنّه معفوّ عنه ،

-------------------

وفروعه ، إلاّ على أخبار الآحاد ) وحيث انَّ خبر الواحد يوجب الظّنّ النوعي فظاهر كلامهم : انَّ الظّنّ في اُصول الدين كاف .

( وحكاه الشيخ في عدّته في مسألة حجّية أخبار الآحاد عن بعض ، غفلة أصحاب الحديث ) أي : الغافلين الذين يحملون الأحاديث ، فانهم يرون صحة الاعتماد في اُصول الدين وفروع الدين على أخبار الآحاد .

( والظاهر أنَّ مراده : حَمَلَة الأحاديث ، الجامدون على ظواهرها ، المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة ، المعارضة لتلك الظواهر ) كما ان الظاهر : عدم وجود مثل هؤلاء في الشيعة الذين نعرفهم ، فلعلّ الشيخ أراد به الظاهرية من العامّة والحَشوية .

( السادس : كفاية الجزم بل الظّن من التقليد ، مع كون النّظر واجباً مستقلاً لكنّه معفوّ عنه ) فهنا مسألتان :

أولاً : مسألة وجوب الجزم أو الظنّ ولو من التقليد .

ثانياً : مسألة وجوب النظر .

فاذا ترك وجوب النظر ترك واجباً ، لكنّه لم يترك المعرفة الواجبة إذا كان له جزم ، أو ظنّ تقليدي .

ص: 46

كما يظهر من عدّة الشيخ قدس سره ، في مسألة حجّية أخبار الآحاد وفي أواخر العدّة .

ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقّح ، فالأولى ذكرُ الجهات التي يمكن أن يتكلّمَ فيها ، وتعقيبُ كلّ واحدة منها بما يقتضيه النظرُ من حكمها ، فنقول مستعيناً باللّه : انّ مسائل اصول الدّين ، وهي التي لايطلب فيها أوّلاً وبالذات إلاّ الاعتقادُ باطناً والتديّنُ ظاهراً وإن ترتّب على وجوب ذلك بعضُ الآثار العمليّة على قسمين :

-------------------

( كما يظهر من عدة الشيخ قدس سره في مسألة حجّية أخبار الآحاد ، وفي أواخر العدّة ) .

وإنّما ذكر المصنّف هذا التنبيه هنا ، لنرى : انّه مع الانفتاح هل يكفي الظّنّ بأصول الدين أو يلزم العلم بها ؟ وانّه مع الانسداد لباب العلم في اُصول الدين هل تجري مقدمات الانسداد في هذا الباب أيضاً كما تجري في باب المسائل الشرعية أم لا ؟ .

( ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام ) في باب اصول الدين ( غير منقّح ، فالأولى ذكر الجهات التّي يمكن أن يتكلّم فيها وتعقيب كلّ واحدة منها ) أي : من هذه الجهات ( بما يقتضيه النظر من حكمها ، فنقول مستعيناً باللّه ) متوكلاً عليه :

( إنّ مسائل اُصول الدّين ، وهي الَّتي لا يطلب فيها أولاً وبالذات إلاّ الاعتقاد باطناً والتدين ظاهراً ) وذلك بأن يعتقد بقلبه ويقرّ بلسانه ( وان ترتب على وجوب ذلك ) الاعتقاد الباطني والتدين الظاهري ( بعض الآثار العمليّة ) كالمطالعة لمعرفة الحق ، والاستماع لقائل الحق ، والتعلم ، وما أشبه ذلك ( على قسمين ) كالتالي :

ص: 47

أحدُهما ما وجب على المكلّف الاعتقادُ والتديّنُ غيرَ مشروط بحصول العلم ، كالمعارف ، فيكون تحصيلُ العلم من مقدّمات الواجب المطلق فيجبُ .

الثاني :مايجبُ الاعتقادُ والتديّنُ به إذا اتفق حصولُ العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف .

وأمّا الثاني : فحيث كان المفروضُ عدمُ وجوب تحصيل المعرفة العلميّة ، كان الأقوى القولَ بعدم وجوب العمل فيه بالظنّ لو فرض حصوله

-------------------

( أحدهما : ما وجب على المكلّف الاعتقاد والتدّين غير مشروط بحصول العلم ) بأن قال الشارع له : يجب عليكَ أن تعتقد وتتدين ( كالمعارف ) الخمسة من اُصول الدين ( فيكون تحصيل العلم من مقدّمات الواجب المطلق ، فيجب ) هذا التحصيل للعلم وهذا أوّلاً وبالذّات عقلي ، وثانياً وبالعرض شرعي لا بالنسبة الى جميع الاُصول الخمسة ، فإن مثل الامامة يكون - كما قاله جمع - بدليل شرعي بعد ثبوت النبوة على ما ذكرنا بعض تفصيله في كتاب « الاُصول » .

( الثّاني : مايجب الاعتقاد والتديّن به إذا اتّفق حصول العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف ) الخمسة : من أحوال البرزخ والمعاد ، وخصوصيات الجنة والنّار ، وكذلك خصوصيات النبيّ والامام صلوات اللّه عليهما .

( وأمّا الثّاني : ) وهو ما يجب الاعتقاد والتديّن إذا اتفق حصول العلم به ( فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل المعرفة العلميّة ) بالنسبة اليه ، ( كان الأقوى القول : بعدم وجوب العمل فيه بالظّن لو فرض حصوله ) يعني : انّه لو فرض حصول الظّنّ بخصوصيات البرزخ وما أشبه ، لم يجب العمل بذلك بأن يلتزم به قلباً ، ويظهره للناس لساناً ، وما أشبه ذلك .

ص: 48

ووجوب التوقف فيه ، للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقّف ، وأنّه : « إذا جَاءَكُم ماتَعلَموُن فقُولُوا به ، وإذا جَاءَكُم ما لاتَعلَمُونَ فها ، وأهوى بيده إلى فيه » ، ولا فرقَ في ذلك بين أن يكون الأمارة في تلك المسألة خبراً صحيحاً أو غيره .

-------------------

وعليه : فاذا لم يظهره لم يكن مشمولاً لقوله سبحانه : « إنَّ الّذيِنَ يكتُمُونَ ما أَنزَلنَا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ ، أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ وَيَلعَنُهُمُ اللاعِنُونَ » (1) .

ولم يكن مشمولاً للحديث القائل : « مَنْ كَتَم عِلما أَلجَمه اللّه ُ تَعالى يَومَ القِيامَةِ بِلجامٍ مِن نَارٍ » (2) .

وذلك لإنصراف أمثال هذه الآيات والروايات الى ما علم به ، لا ماظنّ .

( و ) كذا كان الأقوى : القول بعدم ( وجوب التّوقّف فيه ) فلا يلتزم بنفسه بذلك ، هذا كله ( للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم ) كقوله سبحانه : « وَلاَتقفُ مَالَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (3) ( والآمرة بالتوقّف وانّه : « إذا جَائَكُم ما تَعلَمُونَ فَقُولُوا بهِ ، وَإذا جَائَكُم ما لاتَعلَمُونَ فَها » ) (4) قال الامام هذه الكلمة ( وأهوى بيده الى فيه ) أي : توقفوا واسكتوا ، ولعلّ : « ها » ، إسم فعل بمعنى : « تنبّه » ، والهاء في كلمة هذا من هذا القبيل ، لأنّ ذا : للإشارة ، وها : للتنبيه .

( ولا فرق في ذلك ) الّذي ظنّ به الانسان ممّا لايجب عليه إظهاره والعمل به ( بين أن يكون الأمارة في تلك المسألة خبراً صحيحاً ، أو غيره ) كالإجماع

ص: 49


1- - سورة البقرة : الآية 159 .
2- - منية المريد : ص42 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص78 ب13 ح66 و ج108 ص115 .
3- - سورة الاسراء : الآية 36 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .

قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة - بعد ذكر أنّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم - : « وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديقُ به مطلقاً وإن كان طريقهُ صحيحاً ، لأنّ خبر الواحد ظنّيّ ، وقد إختُلِف في جواز العمل به في الأحكام الشرعيّة الظنّية ، فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلميّة » ، انتهى .

وظاهرُ الشيخ في العدّة أنّ عدم جواز التعويل في اصول الدين على أخبار

-------------------

المنقول ، ونحو ذلك .

ويؤيده ما إستدل به المصنّف حيث قال : ( قال شيخنا الشهيد الثّاني في المقاصد العليّة بعد ذكر : انَّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم ) ما لفظه :

( وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في ذلك من طريق الآحاد ، فلا يجب التّصديق به مطلقاً ) حتى ( وان كان طريقه صحيحاً ، لأنَّ خبر الواحد ظّنّي ، وقد إختلف في جواز العمل به في الأحكام الشرعيّة الظّنّية ) كالمسائل الفقهية ( فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلمية ) (1) التي يطلب فيها الاعتقاد والعلم ؟ .

والفرق بين العلم والاعتقاد : انَّ العلم هو : أن يعرف الانسان الشيء ، والاعتقاد هو : ان يعقد قلبه عليه ، فانَّ كثيراً مايعلم الانسان شيئاً لكنّه لايعقد ، قلبه عليه ، قال سبحانه : « وَجَحدُوا بها وَإستَيقَنَتها أَنفُسُهُم » (2) .

( إنتهى ) كلام الشهيد الثّاني قدس سره .

( وظاهر الشّيخ في العُدّة : انّ عدم جواز التّعويل في أصول الدّين على أخبار

ص: 50


1- - المقاصد العليّة : مخطوط .
2- - سورة النمل : الآية 14 .

الآحاد إتفاقيّ إلاّ عن بعض غَفَلِة أصحاب الحديث .

وظاهرُ المحكيّ في السرائر عن السيّد المرتضى عدمُ الخلاف فيه أصلاً ، وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم إعتبار أخبار الآحاد في اصول الفقه .

لكن يمكن أن يقال إنّه اذا حصل الظنّ من الخبر : فان أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدمَ تصديقه علماً أو ظنّاً ، فعدمُ حصول الأوّل كحصول الثاني قهريّ لايتّصفُ بالوجوب وعدمه .

-------------------

الآحاد إتّفاقي ) بين العلماء ( إلاّ عن بعض غَفَلَةِ أصحاب الحديث ) (1) الذين يعتمدون في اصول الدّين على أخبار الآحاد ، كما يعتمدون عليها في الفقه .

( وظاهر المحكي في السّرائر عن السيّد المرتضى ) رحمه اللّه ، هو : ( عدم الخلاف فيه أصلاً ) (2) وانّه لايعتمد في اُصول الدين على أخبار الآحاد .

( وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم إعتبار أخبار الآحاد في اُصول الفقه ) لأنّ أخبار الآحاد إذا لم يعتمد عليها في اُصول الفقه ، كان عدم الاعتماد عليها في اُصول الدين بطريق أولى .

( لكن يمكن أن يقال : انّه اذا حصل الظّن من الخبر ، فان أرادوا بعدم وجوب التصديق ، بمقتضى الخبر : عدم تصديقه علماً أو ظنّاً ؟ فعدم حصول الأوّل ) العلم ( كحصول الثّاني ) الظّنّ ( قهرّي ) لوضوح : انّه لم يحصل له العلم حتى يعلمه ، ووضوح : انّه ظنّ بذلك الشيء ، فهو ظّان به قهراً ، والظّنّ بالشيء قهراً ( لايتّصف بالوجوب وعدمه ) فانّه بعد حصول الشيء لايقال : إنّه واجب ، كما أنّه بعد حصول الشيء لايقال : إنَّ عدمه واجب .

ص: 51


1- - عدّة الاصول : ص53 .
2- - السرائر : ص6 .

وإن أَرادوا عدم التديّنَ به الذي ذكرنا وجوبهُ في الاعتقاديّات وعدمَ الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد - كما يظهر من بعض الأخبار الدالة على أنّ فرضَ اللسان القولُ والتعبيرُ عمّا عقد عليه القلبُ وأقرّ به ، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى : « قُولُوا آمَنّا باللّه ِ وَمَا أُنزِلَ إليَنَا » الى آخر الآية - فلا مانعَ من وجوبه في مورد خبر الواحد ، بناءا على أنّ هذا نوعُ عمل بالخبر ، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لايأبى الشمول لمثل ذلك .

-------------------

( وإن أرادوا ) بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر ( : عدم التّديّن به ، الّذي ذكرنا وجوبه ) أي : وجوب التدين . ( في الاعتقاديات ، و ) ذكرنا : ( عدم الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد ) القلبي ( كما يظهر من بعض الأخبار الدّالة على أنّ فرض اللّسان : القول والتّعبير عمّا عقد عليه القلب وأقرّ به ، مستشهداً ) الامام عليه السلام ( على ذلك ) أي : على أنّ فرض اللسان : القول والتعبير عمّا عقد عليه القلب ( بقوله تعالى : « قُولُوا آمَنَّا بِاللّه ِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا » (1) الى آخر الآية ) المباركة ؟ .

( فلا مانع من وجوبه ) أي : وجوب التدّين ( في مورد خبر الواحد ) قوله : « فلا مانع » ، خبر قوله : « وأن أرادوا عدم التّدين به » فانّ إرادتهم : عدم وجوب التّدين بمثل هذا الخبر غير تام ، وقوله : « فلا مانع » ، ردٌّ لما أرادوه من عدم التّديّن .

وإنّما قلنا : لامانع من وجوب التدين به ( بناءاً على أنّ هذا نوع عمل بالخبر ، فإنّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لايأبى الشّمول لمثل ذلك ) فمعنى صدّق العادل : العمل بقوله ، في مورد العمل ، والتدّين بقوله ، في مورد التدّين .

ص: 52


1- - سورة البقرة : الآية 136 .

نعم ، لو كان العملُ بالخبر لا لأجل الدليل الخاصّ على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة اليه لثبوت التكليف وإنسداد باب العلم ، لم يكن وجهٌ للعمل به في مورد لم يثبت التكليفُ فيه بالواقع كما هو المفروض ، أو يقال : إنّ عمدةَ أدلّة حجّية أخبار الآحاد وهي الاجماع العملي لاتساعدُ على ذلك .

-------------------

( نعم ، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدّليل الخاص على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة اليه لثبوت التكليف وإنسداد باب العلم ) أي : ان كان الخبر حجّة من باب الدليل الخاص ، أوجَب التدّين بما دلّ عليه الخبر من الاعتقاديات : كأحوال البرزخ والمعاد ، وأحوال الائمة والنبيّ والزهراء صلوات اللّه عليهم أجمعين .

وأمّا إن كان الخبر حجّة من باب الظّن العام ودليل الانسداد ( لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض ) فان وجوب التديّن والاقرار من آثار العلم بهذا النوع من الاعتقاديات لأنفسها حتى يقوم الظّن مقام العلم بعد تعذّر العلم بها .

( أو يقال ) في تقرير عدم الوجه للعمل بخبر الواحد وان كان حجّة من باب الظن الخاص ( : إنَّ عمدة أدلّة حجّية أخبار الآحاد وهي : الاجماع العملي ، لاتساعد على ذلك ) أي : لاتساعد على الأخذ بخبر الواحد في الاُمور الاعتقادية ، فالخبر الواحد لايلزم التديّن به في خصوصيات المَعاد والبَرزخ ، وصفات المعصومين عليهم السلام ، سواء كان حجّة من باب الظّن الخاص ، أو من باب الظّن العام ، والانسداد .

وعلى هذا : فقوله : « أو يقال » ، إضراب عمّا ذكره سابقاً بقوله : « فإن ما دلّ

ص: 53

وممّا ذكرنا يظهرُ الكلامُ في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في أصول الدين ، فانّه قد لايأبى دليلُ حجّية الظواهر عن وجوب التديّن بما تدلّ عليه من المسائل الاُصوليّة التي لم يثبت التكليف بمعرفتها .

لكن ظاهر كلمات كثير عدمُ العمل بها في ذلك .

ولعلّ الوجهَ في ذلك أنّ وجوبَ التديّن المذكور إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاُصوليّة ، لا من آثار نفسها .

-------------------

على وجوب تصديق العادل لايأبى الشمول لمثل ذلك » .

( وممّا ذكرنا ) : من شمول تصديق العادل لهذه الخصوصيات الاُصولية ، التي لاترتبط بصميم العقيدة ، لأنها ثانوية ( : يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اُصول الدّين ) الثانوية ، لا الاُصول الأولية : كالتوحيد ، والعَدل ، والنبوة ، والامامة ، والمعاد .

( فانّه قد لايأبى دليل حجّية الظّواهر عن وجوب التّدين بما تدلّ عليه ) ظواهر الكتاب ، والأخبار المتواترة ( من المسائل الاُصولية الّتي لم يثبت التكليف بمعرفتها ) إبتداءاً مثل : قصص الأنبياء ، وأحوال البرزخ ، وأحوال السيّدة مريم صلوات اللّه عليها ، وإلى غير ذلك .

( لكن ظاهر كلمات كثير : عدم العمل بها ) أي : بظواهر الكتاب ، والخبر المتواتر ( في ذلك ) لأنّ الظاهر ليس بقطعي .

( ولعلَّ الوجه في ذلك ) أي : عدم العمل بها ( : انَّ وجوب التّديّن المذكور ) بهذه المسائل الاُصولية الثانوية ( إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاُصولية ، لا من آثار نفسها ) أي : آثار نفس المسألة الاُصولية .

وعليه : فإذا علم الانسان هذه الاُمور ، وَجَبَ عليه التدّين بها ، لا لأنّه واقع ، فانّه

ص: 54

وإعتبار الظنّ مطلقاً أو الظنّ الخاصّ ، سواء كان من الظواهر أو غيرها ، معناه ترتيبُ الآثار المتفرعّة على نفس الأمر المظنون لا على العلم به .

وأمّا ما يتراءى من التمسّك بها أحياناً لبعض العقائد ، فلاعتضاد مدلولها بتعدّد الظواهر وغيرها

-------------------

لو كان الواجب التدّين لأنّه أمر واقعي حقيقي ، كان اللازم تحصيلها ، بينما المسائل الثانوية ليست كذلك فلا يجب التدّين إلاّ بعد العلم بها ، والمفروض : إنَّ ظاهر الكتاب والخبر المتواتر لايوجب العلم .

وإن شئت قلت : إنَّ وجوب التدّين بهذه الموضوعات الثانوية انّما هو مع وصف العلم بها ، لا لذاتها حتى يقوم الظّن مقام العلم ، فالتدّين في هذه المسائل الثانوية واجب مشروط ، لا واجب مطلق ، فحيث لا علم بهذه الاُمور ، لايجب التديّن بها ، وإن كانت ظواهر الكتاب والأخبار المتواترة تدّل عليها .

( و ) من المعلوم : انَّ ( إعتبار الظّنّ مطلقاً ) أي : الانسدادي ( أو الظّنّ الخاص ) كالخبر الواحد ، بناءاً على حجيته ( سواء كان ) الظّن حاصلاً ( من الظواهر ، أو غيرها ) كالظّن الحاصل من الاجماع ، ونحوه ( معناه : ترتيب الآثار المتفرعة على نفس الأمر المظنون ، لا على العلم به ) ، فليس وجوب التدّين بهذا النوع من الاُصول الثانوية من آثار نفسه ، بل من آثار العلم به كما هو المفروض .

( و ) إن قلت : فلماذا نراهم يتمسكون بهذه الظواهر من الآيات والأخبار على الموضوعات الاُصولية في كثير من الكتب الكلامية ؟ .

قلت : ( أمّا يترائى من التمسّك بها ) أي : بهذه الظواهر ( أحياناً لبعض العقائد ) المرتبطة بأحوال الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأحوال البرزخ والمعاد ، والجنّة والنار . (فلإعتضاد مدلولها ) أي : مدلول هذه الظواهر ( بتعدد الظّواهر وغيرها )

ص: 55

من القرائن وإفادة كلّ منها الظنّ ، فيحصلُ من المجموع القطعُ بالمسألة ، وليس إستنادُهم في تلك المسألة الى مجرّد أصالة الحقيقة التي لاتفيد الظنّ بارادة الظاهر ، فضلاً عن العلم .

ثمّ إنّ الفرقَ بين القسمين المذكورين وتمييز ما يجب تحصيلُ العلم به عمّا لا يجب

-------------------

أي : غير الظواهر ( من القرائن ) الدالة على تلك الظواهر ( وإفادة كلّ منها ) أي : من الظواهر ، وغير الظواهر من القرائن ( الظّنّ ، فيحصل من المجموع القطع بالمسألة ) .

وعليه : فالإستدلال إنّما هو لأجل القطع بالمسألة ، لا لأجل الظّنّ .

( وليس إستنادهم ) أي : العلماء ( في تلك المسألة ) الاُصولية الثانوية ( الى مجرّد أصالة الحقيقة ) بأن يقال : حيث إنَّ الأصل الحقيقة ، لا المجاز - فما دلّ على عدم رؤية اللّه سبحانه إطلاقاً ، كقوله تعالى : « لَن تَرانِي » (1) أي :- الى الأبد - كان مفاده إستحالة الرؤية ( الّتي لاتفيد ) أصالة الحقيقة هذه ( الظّنّ بإرادة الظّاهر ، فضلاً عن العلم ) فانّه ليس وجه إستنادهم هو : أصالة الحقيقة ، بل وجه إستنادهم هو : تجمع الظّنون الموجبة للقطع .

( ثمّ إنَّ الفرق بين القسمين المذكورين ) : الواجب المطلق ، والواجب المشروط ، بحصول العلم في المطلق دون المشروط ، وبعبارة أُخرى : الواجبات الأولية ، والواجبات الثانوية ( وتمييز ما يجب تحصيل العلم به ) لكونه واجباً مطلقاً ( عمّا لا يجب ) لكونه واجباً مشروطاً وإنّما إذا حصل العلم وجب

ص: 56


1- - سورة الأعراف : الآية 143 .

في غاية الاشكال .

وقد ذكر العلاّمة قدس سره في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوّة والامامة والمعاد أموراً لا دليل على وجوبها كذلك ، مدّعياً أنّ الجاهلَ بها عن نظرٍ واستدلالٍ خارجٌ عن رِبقَة الاسلام مستحقّ للعذاب الدائم .

-------------------

التدّين به يكون ( في غاية الاشكال ) .

وذلك انّه قد لايشك في بعضها ، فأصول الدّين الخمسة - مثلاً - لا شك في كونها واجباً مطلقاً ، ومن قرأ سورة كذا - مثلاً- أُعطي قصراً بوصف كذا في الجنّة ، لا شكَ في كونه واجباً مشروطاً إلاّ أنّ بعض الاُمور الاُصولية ، لايعلم هل أنه من القسم الأول ، أو من القسم الثاني ؟ .

هذا ( وقد ذكر العلاّمة قدس سره في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التّوحيد ، والنّبوة ، والامامة ، والمعاد : أُموراً لا دليل على وجوبها كذلك ) أي : على كونها واجباً مطلقاً غير مشروط بالعلم ( مدّعياً : انّ الجاهل بها عن نظر ) بأن لم يعلمها عن إجتهاد ( وإستدلال ، خارج عن ربقةِ الاسلام ، مُستَحقٌ للعذاب الدّائم ) (1) .

أقول : قال العلاّمة هناك : « فلابّد من ذكر ما لايمكن جهله على أحد من المسلمين ، ومن جهل شيئاً من ذلك ، خرج عن رِبقة المؤمنين ، وإستحق العذاب الدائم » ، ثمّ ذكر خصوصيات كثيرة في أُصول الدين ، لكن المشهور عدم وجوب الاعتقاد بها ، بمعنى : انّه لايجب تعليمها وتعلمها ، إضافة الى انَّ الغالب من الناس

ص: 57


1- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص6 .

وهو في غاية الاشكال .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضي عموم وجوب المعرفة ، مثلُ قوله تعالى : « وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والانس إلاّ لِيَعْبُدونِ » ، أي ليعرفون .

وقوله صلوات اللّه عليه وآله : « ما أعلَمُ شيئاً بَعدَ المَعرِفَةِ أفضلَ من هذه

-------------------

الذين هم ليسوا من أهل العلم ، لايعرفون ذلك ولم يحكم أحد بتكفيرهم .

ولا يخفى : إنَّ الرِبقة - بكسر الراء وسكون الباء - عبارة عن حَبل مستطيل فيه عرى ، تربط فيها الدواب ، وقد إستعاره العلاّمة هنا للحكم الجامع للمؤمنين وهو : إستحقاق الثواب الدائم والتعظيم الكامل بالنسبة الى من كان في هذه الرِبقة من المؤمنين .

( وهو في غاية الاشكال ) كما يظهر لمن راجع كلماتهم ، بل السيرة المستمرة بين المؤمنين منذ عهد الرسالة الى اليوم .

( نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضي عموم وجوب المعرفة ، مثل قوله تعالى : « وَما خَلقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إلاَّ لِيَعبُدُونِ » (1) ) فإن إطلاقه شامل لمعرفة صفاته سبحانه من الثبوتية والسلبية ونحوها ، كما في التفسير ( أي : ليعرفون ) فانّه لم أجد فيما عندي من الكتب ، تفسير ليبعدون ب- : ليعرفون ، عن الروايات ، وإنّما هذا قول بعض المفسّرين فقط ، وهو خلاف الظاهر ، فانّ العبادة ظاهرها : العمل ، لا الاعتقاد .

( وقوله صلوات اللّه عليه وآله : ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه

ص: 58


1- - سورة الذاريات : الآية 56 .

الصلوات الخمس » . بناءا على أنّ الأفضليّة من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزمُ الوجوب .

وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة إستشهاد الامام عليه السلام بها ، لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السابق عليهماالسلام ، وعمومات طلب العلم ،

-------------------

الصلوات الخمس ) (1) فانّ المعرفة في هذه الرواية مطلقة ( بناءاً على انَّ الأفضلية من الواجب - خصوصاً مثل الصّلاة - تستلزم الوجوب ) بالنسبة الى المعرفة فإنّه لامعنى لأنّ نفضّل شيئاً على شيء إلاّ أن يكونا شريكين في الجامع .

( وكذا عمومات وجوب التّفقّه في الدّين ، الشّامل للمعارف ، بقرينة إستشهاد الامام عليه السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السّابق عليهماالسلام ) كما تقدّم في روايات حجّية خبر الواحد ( وعمومات طلب العلم ) مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « طَلَبُ العِلمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَمُسلِمَةٍ » (2) .

وفي جملة من الروايات : « طَلبُ العِلمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِ مُسلِمٍ » (3)

ص: 59


1- - الكافي فروع : ج3 ص264 ح1 ، مفتاح الفلاح : ص44 ، دعوات الراوندي : ص27 ، غوالي اللئالي : ج1 ص318 ح64 (بالمعنى) .
2- - مجموعة ورام : ج2 ص176 ، غوالي اللئالي : ج4 ص70 ح36 ، كنز الفوائد : ج2 ص107 ، مشكاة الانوار : ص133 ، مصباح الشريعة : ص22 ، عدة الداعي : ص72 ، بحار الانوار : ج1 ص177 ب1 ح45 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح1 ، بصائر الدرجات : ص2 ، المحاسن : ص225 ، مشكاة الانوار : ص133 ، الامالي للمفيد : ص28 ، مجموعة ورام : ج2 ص14 ، دعائم الاسلام : ج1 ص83 ، روضة الواعظين : ص10 ، ارشاد القلوب : ص165 ، اعلام الدين : ص81 ، منية المريد : ص99 .

هو وجوبُ معرفة اللّه جلّ ذكره ومعرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والامام عليه السلام ، ومعرفة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على كلّ قادر يتمكّن من تحصيل العلم ، فيجبُ الفحص حتّى يحصل اليأسُ ، فإن حصل العلمُ بشيء من هذه التفاصيل إعتقد وتديّن وإلاّ توقّف ولم يتديّن بالظنّ لو حصل له .

ومن هنا قد يقال : إن الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة اللّه ومعرفة أولياءه ، صلوات اللّه عليهم ، أهمّ من الاشتغال بعلم المسائل العملية ، بل هو المتعيّن ،

-------------------

والى غير ذلك ، فإن مقتضى العموم ( هو وجوب معرفة اللّه جلّ ذكره ، ومعرفة النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلمومعرفة الامام عليه السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) .

قوله : « هو » ، خبر قوله : « إنّ مقتضى عموم وجوب المعرفة » ، انّ المعرفة واجبة ( على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتّى يحصل اليأس ) من العلم ( فان حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل ) الّتي ذكرها العلاّمة رحمه اللّه ( اعتقد وتديّن ) بها المكلّف ( وإلاّ توقف ولم يتدّين بالظّنّ لو حصل له ) الظّن ، اذ لا دليل على وجوب التدين بالظّن ، بل عموم : « إنّ الظَّنَّ لايُغني مِنَ الحقِّ شَيئاً » (1) وما أشبه ، دليل على أنّه يلزم عليه أن لايتدين بالظنّ .

( ومن هنا قد يقال : إنَّ الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة اللّه ، ومعرفة أوليائه صلوات اللّه عليهم ، أهمّ من الإشتغال بعلم المسائل العملية ) والفروع الفقهية ، ( بل هو المتعين ) أي : يتعين الإشتغال بالعلم المتكفل بأصول الدّين ، لا أن يشتغل بالعلم بفروع الدين ويترك العلم بأصول الدين .

ص: 60


1- - سورة يونُس : الآية 36 .

لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه إلا كفائيّاً بخلاف المعرفة .

هذا ، ولكنّ الإنصافَ عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعانَ بعدم التمكّن من ذلك إلاّ للأوحدي من الناس ، لأنّ المعرفة المذكورة لا يحصلُ إلاّ بعد تحصيل قوة إستنباط المطالب من الأخبار وقوّة نظريّة أُخرى لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ،

-------------------

وذلك ( لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه ) أي : بعلم الفروع ( إلا كفائياً ) فانّه لايجب على كل أحد ان يكون مجتهداً في فروع الدين ( بخلاف المعرفة ) فان وجوب الاشتغال بها حتى يحصل له العلم بها واجب عيني .

( هذا ) ما ربّما يقال ( ولكن الإنصاف عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكّن من ذلك ) فإن الاشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة اللّه ، ومعرفة أوليائه عليهم السلام ، ومعرفة المعاد ، وما أشبه ، لايتيسر ( إلاّ للأوحدي من الناس ، لأن المعرفة المذكورة لايحصل إلاّ بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الأخبار وقوّة نظريّة أُخرى ) مثل نظرية بطلان سائر العقائد ، ونظرية تمييز الأخبار الموافقة للعقل عن الأخبار المخالفة له .

وعليه : فاللازم أن يكون له قوة إستنباط نظريتين بالنتيجة ( لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ) فانّه كثيراً ما لايلتفت الانسان الى البراهين العقليّة فيأخذ بما يخالفها .

لايقال : انّه كيف يمكن أن تكون هناك أخبار مخالفة للبراهين العقلية ؟ .

لأنّه يقال : يراد بتلك الأخبار : ماله ظاهر كذلك ، بل نشاهد في آيات القرآن

ص: 61

ومثلُ هذا الشخص مجتهدٌ في الفروع قطعاً ، فيحرم عليه التقليدُ .

ودعوى جوازه له للضرورة ليس بالأولى من دعوى جواز ترك الإشتغال بالمعرفة التي لاتحصل غالباً بالأعمال المبنيّة على التقليد .

-------------------

ظواهر : الجبر ، والتَجسيم ، وعدم عِصمة الانبياء ، وما أشبه ذلك ، فكيف بالأخبار ؟ .

( ومثل هذا الشّخص ) الّذي له قوة إستنباط المطالب من الأخبار ( مجتهد في الفروع قطعاً ) بالإضافة إلى كونه مجتهداً في الأصول ( فيحرم عليه التقليد ) فان من له قوة الاستنباط يكون عالماً ، والعالم لايجوز له أن يرجع الى عالم آخر .

( ودعوى جوازه ) أي : جواز التقليد ( له ، للضرورة ) أي : يجوز لمثل هذا الشخص العالم أن يقلد وإن كان عالماً لضرورة أنَّ الإشتغال بالأهم وهو العلم بالمعارف ، أهم من الاشتغال بالاجتهاد في المسائل الفرعيّة ، فيجتهد في المسائل الاُصولية ويقلّد في المسائل الفرعية .

فدعوى جواز التقليد له ( ليس بالأولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة ) والإجتهاد فيها ، فانّها هي ( الّتي لاتحصل غالباً ) ولكل أحد ( بالأعمال المبنيّة على التّقليد ) اذ المعرفة بحاجة الى صعوبة الاجتهاد ومتابعة كبيرة ، فلا تحصل غالباً لمن يترك المعرفة ويشتغل عنها بالأعمال التقليدية .

لكن من الواضح : انّ محل كلام المصنّف هو القسم الثاني من المعرفة وهو : الخصوصيات الزائدة للمعارف الخمسة ، حيث يكون المعرفة ، العمل مقدّماً عليها إذا دار الأمر بينهما ، وأما القسم الأول من المعرفة ، الواجب تحصيله لكلّ أحد ، فهو مقدّم قطعاً على المسائل الفرعية .

ص: 62

هذا إذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلّة المجتهدين ، وأمّا في مثل زماننا فالأمر واضح ، فلا تغترّ حينئذٍ بمن قصُر إستعداده أو همّته عن تحصيل مقدّمات إستنباط المطالب الإعتقادية الأصوليّة والعمليّة عن الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فيتركها بغضاً لها - لأنّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا - ويشتغلُ بمعرفة صفات الربّ جلّ ذكره وأوصاف حججه ، صلوات اللّه وسلامه عليهم ، ينظر في الأخبار

-------------------

( هذا اذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة ) بأن يقضي بين الناس ويحل مشاكلهم وذلك ( لأجل قلّة المجتهدين ) .

أمّا إذا تعيّن عليه هذان الأمران ، فَتَقَدُم الاجتهاد في المسائل الفرعية أهم من الاجتهاد في خصوصية مسائل أُصول الدّين .

( وأمّا في مثل زماننا ، فالأمر واضح ) لقلّة شديدة في المجتهدين ( فلا تغتّر حينئذٍ ) أي : حين عرفت لزوم الإجتهاد في اصول الدين ، والاجتهاد في فروع الدين ، وانّه يكون تارة الأوّل أهم واُخرى الثاني أهم ( بمن قصر إستعداده ، أو همته عن تحصيل مقدّمات إستنباط المطالب الاعتقاديّة الاُصولية والعمليّة ) فلا يحصلها ( عن الأدلّة العقليّة والنقلية فيتركها بغضاً لها ) .

وإنّما يتركها ( لأنّ النّاس أعداء ما جهلوا ) كما ورد في الحديث ، وسببه : انّ الناس يرون صحّة ماعندهم من الباطل ، فيرون الواقعيات التي تخالف آرائهم جهالات وضلالات ، فيكونون أعدائها بزعم انّها جهالة وضلالة ، وهذا غالباً يكون في الجهل المركب .

( ويشتغل بمعرفة صفات الرّب جل ذكره ، وأوصاف حججه ، صلوات اللّه وسلامه عليهم ) أجمعين ، وخصوصيات المَعاد ، وهو ( ينظر في الأخبار

ص: 63

لا يعرفُ من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاصّ من العامّ، وينظرٍ في المطالب العقليّة لا يعرفُ به البديهيّات فيها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حَمَلَةِ الشريعة العمليّة والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النية ، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن .

-------------------

لا يعرف من الفاظها الفاعل من المفعول فضلاً عن معرفة الخاص من العام ) والمطلق من المقيد ، والمُجمل من المبيّن ، وإلى غير ذلك ، ومن الواضح : انّ علوم العربية هي الأساس للعلوم الرفيعة الأصولية والفرعية .

( وينظر في المطالب العقليّة لا يعرف به البديهيّات فيها ) فينتهي في مطالبه العقلية الى خلاف المطالب العقلية الواقعية .

( ويشتغل في خلال ذلك ، بالتّشنيع على حملة الشّريعة العمليّة ) من المجتهدين ( والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النيّة « فَسيَأتِيهُم أَنباءُ ما كَانُوا بِهِ يَستَهزِؤُنَ » (1) ) كما في الآية الكريمة ، حيث إنّه لمّا يموت يعرف مدى الجهالة التي كان فيها ، والضّلالة التي كان عليها ، وكذا يظهر له ذلك في القيامة أيضاً .

هذا ، وقد شاع في زمان شيخنا المصنّف رحمه اللّه بين الناس صنفان .

الأوّل : المشتغلون بالأخبارية .

الثاني : المشتغلون بالفلسفة .

وكتاب الرّسائل والمكاسب كلاهما في قِبال هاتين الطائفتين ، فلولاهما لعلَّهُ بقي رَواج هذين الصنفين .

ص: 64


1- - سورة الشعراء : الآية 6 .

هذا كلّه حالُ وجوب المعرفة مستقلاً .

وأمّا إعتبارُ ذلك في الإسلام أو الايمان فلا دليلَ عليه .

بل يدل على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الاسلام أو الايمان .

-------------------

لايقال : إنّه قد إنقطع دابر أولئك الجهلة ، فما هي الحاجة الى هذين الكتابين ؟ .

لأنّه يقال : هذان الكتابان من أهم الكتب الحديثة في شرح القانون وتوضيحه وكشفه والإستدلال له ، فهما أرفع كتاب في القانون كتب الى اليوم ممّا لو تَعَرّفَ المقنّنون العالميون بهما ، لاستفادوا منهما أعظم إستفادة ، والعَتَب على قصور همة المسلمين في إيصال هذين الكتابين الى الجامعات العالمية ، حتى يعرفوا كيف إرتفع القانون الإسلامي بما لايشبهه أيّ قانون في العالم ؟ والكلام في هذا الأمر طويل خارج عن مقصد الشرح .

( هذا كلّه حال وجوب المعرفة ) العقلية ( مستقلاً ) عن الأدلة الشرعية ، وقد ظهر : إنّ اللازم هو الإشتغال بالمسائل الفرعيّة عن الإشتغال بتفاصيل المسائل العقلية في المعرفة حسب الأدلة التي ذكرها الحكماء في باب المعرفة .

( وأمّا إعتبار ذلك ) أي : الزائد على ما اعتبر قطعاً ( في الاسلام أو الايمان ) فانّه يعتبر في الاسلام : التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، ويعتبر في الايمان اضافة الى ذلك : الاعتقاد بالامامة ، والعدل ( فلا دليل عليه ) أي : على الزائد من ذلك ، بمعنى : أنّه لا دليل هناك يدل على وجوب الفحص عن خصوصيات هذه الاُمور الخمسة والاجتهاد فيها .

( بل يدلّ على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الاسلام أو الايمان ) وهذه الأخبار الكثيرة متواترة معنىً ، ومما يقطع الانسان بكفاية ما تضمنته تلك الأخبار من دون وجوب زيادة عليها بالفحص والبحث والاستدلال .

ص: 65

ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام ، المرويّة في الكافي : « إنّ اللّه ، عزّوجلّ ، بعثَ مُحمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهو بمكّة عَشَر سِنين ، ولم يَمُتْ بمكّةَ في تلك العشر سِنينَ أحدٌ يَشهَدُ أن لا إله إلاّ اللّه ُ وأَنَّ مُحمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم، إلاّ أدخله اللّه ُ الجَنّةَ بإقراره ، وهو إيمانُ التصديق ، فانّ الظاهِرَ أنّ حقيقةَ الايمان التي يخرجُ الإنسانُ بها عن حدّ الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغيّر بعد إنتشار الشريعة .

-------------------

( ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المرويّة في الكافي : إنَّ اللّه عزوجل بعث محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم وهو بمكة عشر سنين ) أي : دامت رسالته في مكة المكرّمة مدة عشر سنوات ( ولم يمت بمكة في تلك العشر سِنين أحدٌ يشهدُ أن لا إِله إلاّ اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إلاّ أدخله اللّه الجَنّةَ باقراره ، وهو إيمان التصديق ) (1) .

والظاهر : انَّ المراد هو الإكتفاء بما ذكره القرآن والنبيّ للمسلمين في مكة من شؤون الامامة وشؤون المعاد ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في أوّل يوم أظهر بعثته قَرَنَ ذلك بإمامة علي عليه السلام ، ويشهد له يوم الإنذار ، كما أنّه من أوّل الأمر ذكر شؤون المَعاد ، ويشهد بذلك ما جاء في السُور المكيّة من القرآن الحكيم .

( فانّ الظاهر : انَّ حقيقة الايمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر الموجِب للخلود في النّار ، لم تتغير بعد إنتشار الشّريعة ) ولا يخفى : أنّ الخلود في النّار إنّما يكون للمعاند كما في الدعاء : « أَقسمت ... أَن تُخلِّدَ فِيها المُعانِدين » (2) وقد ذكرنا

ص: 66


1- - الكافي اصول : ج2 ص29 ح1 (بالمعنى) .
2- - مفاتيح الجنان : ص66 ، الدعاء والزيارة : للشارح ص127 .

نعم ، ظهر في الشريعة امور صارت ضروريّة الثبوت من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيعتبر في الاسلام عدمُ إنكارها .

لكنّ هذا لايوجب التغيير ، فانّ المقصود أنّه لم يعتبر في الايمان أزيدُ من التوحيد والتصديق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلّغ .

وليس المرادُ معرفةَ تفاصيل ذلك ، وإلاّ لم يكن من آمن بمكّة من أهل الجنّة أو كان حقيقةُ الايمان بعد إنتشار الشريعة غيرها في صدر الاسلام .

-------------------

تفصيل بعض ذلك في كتاب « الاُصول » .

( نعم ، ظهر في الشّريعة أُمور صارت ضرورّية الثّبوت من النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيعتبر في الاسلام عدم إنكارها ) والاعتقاد بها ، وذلك لأنّ إنكارها تكذيب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وإنكار لرسالته ، علماً بأن ما صار ضروري الثبوت فيما بعد لم يكن شيئاً جديداً عمّا كان في مكّة المكرمة ليستدعي التغيير كما قال :

( لكن هذا ) الّذي ظهر في الشرعية من الاُمور الضرورية الثبوت ( لا يوجب التغيير ) في حقيقة الايمان ( فانّ المقصود انّه لم يعتبر في الايمان أزيد من التّوحيد والتّصديق بالنّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلّغ ) عن اللّه سبحانه وتعالى ، فكلّما صار ضرورياً دخل في تصديق الرّسول .

( وليس المراد : معرفة تفاصيل ذلك ) الّذي ظهر في الشّريعة ممّا صار ضروري الثبوت من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما بعد ( وإلاّ لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنّة ، أو كان حقيقة الايمان بعد إنتشار الشّريعة غيرها في صدر الاسلام ) وذلك لأنَّ الأمر لايخرج عن ثلاثة أحوال :

الأوّل : ماذكرناه : من بقاء حقيقة الايمان .

الثّاني : انّ الذي كان في مكة لم يكن حقيقة الايمان ، وهذا يستشكل عليه :

ص: 67

وفي رواية سُليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ أدنى ما يكون به العبدُ مؤمناً أنّ يعرّفه اللّه تبارك وتعالى إيّاه ، فيقرّ له بالطاعة ، فيعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة . فقلت : يا أمير المؤمنين! وإن جهل جميعَ الأشياء إلاّ ما وصفتَ ؟ قال : نعم » . وهي صريحة في المدّعى .

-------------------

بأنّه إذن كيف يدخل الجنّة من مات بها والحال انَّ الروايات المتواترة دلّت على دخولهم الجنّة ؟ .

الثالث : انَّ حقيقة الشريعة قد تغيّرت من مكة الى المدينة ، ففي مكّة كانت حقيقة وفي المدينة أصبحت حقيقة أُخرى ، وهذا ضروري العدم ، لأن حقيقة الشريعة واحدة بالبداهة عند جميع المسلمين .

( وفي رواية سُليم بن قَيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنَّ أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ) فيكون أدنى المؤمنين إيماناً وإن كان له درجات فوق ذلك ( أن يعرّفه اللّه تبارك وتعالى إيّاه ) أي : يعرّفه اللّه نفسه ، وذلك لأنّ أصل المعرفة من اللّه سبحانه وتعالى ( فيقرّ له بالطاعة فيعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه ، وشاهده على خلقه ، فيقرّ له بالطّاعة ) فان كلام الامام عليه السلام صريح في كفاية هذه الاُمور في أُصول الدين .

( فقلتُ : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت ؟ ) ولعل المراد بجميع الأشياء : خصوصيات أحوال البرزخ ، والمَعاد ، والجنّة والنار ، وما أشبه ذلك ، ( قال ) عليه السلام : ( نعم (1) ، وهي صريحة في المدّعى ) الذي إدعيناه :

ص: 68


1- - بحار الأنوار : ج69 ص17 ب29 ح3 بالمعنى .

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « جُعِلتُ فِداكَ ، أخبِرني عن الدّين الذي أفترضه اللّه على العبادِ مالا يَسَعُهُم جهلُه ، ولا يَقبَلُ مِنهُم غَيرَهُ ما هُو ؟ » فقال : أعد عليّ . فأعاد عليه . فقال : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقامُ الصلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وحِجّ البيت مَنْ إِستطاعَ إليه سبيلاً ، وصومُ شهر رمضان - ثمّ سكت قليلاً ، ثمّ قال - : والولاية والولايةُ ، مرتيّن - ثمّ قال - : هذا الّذي فرض اللّه ُ عزوجلّ على العباد ، لايسأل الربُّ عن العباد

-------------------

من انّ تفاصيل الخصوصيات لا شأن لها في أصل الايمان .

( وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : جُعلت فِداك أخبرني عن الدّين الّذي إفترضه اللّه على العباد ما لايسعهم جهله ، ولايقبل منهم غيره ، ماهو ؟ فقال ) عليه السلام : ( أعد عليَّ ) ولعلّ الامام عليه السلام أراد أن يهيء السائل للجواب ، فإن الانسان إذا أعاد الكلام تهئهو بنفسه لتلقّي الجواب تهيئاً أكثر ( فأعادَ عليه ) السّؤال :

( فقال ) عليه السلام ( شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وانَّ محمّداً رسُوُلُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، واقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وحجّ البيت من إستطاع إليه سبيلاً ، وصوم شهر رمضان ، ثمَّ سكت ) الامام عليه السلام ( قليلاً ، ثمّ قال : والولاية ) ولعلّ الامام إنّما سكت لتمييز الولاية عن غيرها بكثرة الأهمية .

وإنّما كانت الولاية آكد وأكثر أهمية لأنّها قيادة للأمة والاُمة بلا قيادة تكون في ضلال من دينها ودنياها ، ولذلك أعاد عليه السلام قوله : ( والولاية مرتين ) أي : إنّ الامام عليه السلام كرّر الولاية مرة ومرة .

( ثمّ قال : هذا الّذي فرض اللّه عزّ وجّل على العباد ، لايسأل الرّبُ عن العِباد

ص: 69

يومَ القيامة ، فيقول : ألاّ زدتني على ما إفترضتُ عليك ، ولكن من زاد زاده اللّه ، إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم سَنَّ سُنّةً حسنةً ينبغي للنّاس الأخذُ بها .

ونحوها رواية عيسى بن السيريّ ، « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حدثني عمّا

بُنيِتْ عليه دعائمُ الاسلام التي إذا أَخَذتُ بها زكى عملي ولم يضرّني جهلُ ماجهلتُ بعده ؟ .

فقال : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والإقرارُ بما جاء من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولايةُ التي أمر اللّه بها ولايةُ

-------------------

يومَ القيامة فيقول ) لعبده ( ألا زدتني على ما إفترضت عليك ، و ) ذلك لكفاية هذه الاُمور التي ذكرها الامام عليه السلام .

ثمّ قال ( لكن من زاد زاده اللّه ) أي : إنَّ الانسان إذا أتى بالزيادة على هذه الاُمور التي ذكرت في الكتاب والسُنّة ، زاده اللّه فضلاً وثواباً ، ورحمة ورضوانا ، حيث ( إنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً ينبغي لِلناس الأخذُ بها ) (1) أي : إنَّ الزيادة الَّتي ينبغي للانسان أن يزداد منها هي ما ورد من سنّة الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( ونحوها ) في الدلالة على ما ذكرناه من أصل الايمان ( رواية عيسى بن السّيري ، قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حدّثني عمّا بُنِيَتْ عليه دعائم الاسلام ، الّتي إذا أخذتُ بها زكى عملي ) أي : نَما وأثمر بالثواب والجنة ( ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده ) بأن أكون معاقباً في الآخرة ؟ .

( فقال : شهادة أن لا إلهَ إلاّ اللّه ، وأَنّ مُحَمّداً رسُوُلُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم والإقرارُ بِما جَاءَ مِن عندِ اللّه ِ ، وَحَقٌ في الأموال : الزّكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه بها : ولاية

ص: 70


1- - الكافي اصول : ج2 ص22 ح11 (بالمعنى) .

آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : « مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعرِف إمامَ زَمانِهِ مَاتَ ميتةً جاهِليّة » ، وقال اللّه تعالى : « أَطيِعُوا اللّه وأطيعوا الرَّسولَ وأُولي الأَمرَ مِنكُم » ، فكان عليّ ، ثم صار من بعده الحسن ، ثمّ من بعده الحسين ، ثم من بعده عليّ بن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثم هكذا يكون الأمر ، إنّ الأرضَ لا تصلحُ إلاّ بإمام » ، الحديث .

وفي صحيحة أبي اليَسع : « قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أخبرني عن

-------------------

آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : مَن ماتَ وَلَم يَعرِف إمامَ زَمانِهِ مَاتَ مِيتَةً جاهِليّةٍ ) فكما إنَّ الجاهليين كانوا من أصحاب النار ، فكذلك من مات بدون معرفة إمام زمانه .

ثمّ إستدّل الامام بوجوب هذه الثلاثة بقوله عليه السلام : ( وقال اللّه تعالى : « أَطيعُوا اللّه َ وأَطيعُوا الرَسُولَ وَأُولِي الأَمِرِ مِنكم » (1) فكان ) وليّ الأمر بعد الرسول ( عليٌ ، ثمّ صار من بعده الحَسَن ، ثمّ من بَعدهِ الحُسين ، ثمّ من بعده علي بن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثم هكذا يكون الأمر ) إمام بعد إمام ، وذلك ( إنَّ الأرضَ لاتصلِح إلاّ بإمام (2) ، الحديث ) .

فانّ في هذه الأحاديث ما يدلّ على إنَّ الاُصول هو عبارة عن الشهادات الثلاث ، أو عن الشهادتين الأوليين ، والشهادة الثالثة إنّما هي من شؤون الشهادتين الأوليين ، كما اِنَّ المعاد والقيامة أيضاً من شؤون الشهادتين الأوليين .

( وفي صحيحة أبي اليَسع قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أخبرني عن

ص: 71


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص21 ح9 ، المحاسن : ص154 ح79 .

دعائم الاسلام التي لايسع أحداً التقصيرُ عن معرفة شيء منها ، التي من قصّر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينُه ولم يُقبل منه عملُهُ ، ومن عرفها وعمل بها صحّ دينُه وقُبِلَ عملُهُ ولم يضق به ممّا هو فيه لجهل شيء من الأمور جهلُهُ ؟ فقال : شهادةُ أنّ لا إله إلاّ اللّه ، والايمانُ بأنَّ محمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والإقرارُ بما جاء به من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر اللّه عزّ وجل بها ولايةُ آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

-------------------

دعائم الاسلام ، الّتي لايسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها ) وقوله « التقصير » ، فاعل « لايسع » ، و ( الّتي من قصّر عن معرفة شيء منها ، فسد عليه دينه ، ولن يقبل منه عمله ، ومن عرفها ) أي عرف تلك الدعائم ( وعَمِلَ بها ، صحّ دينه ، وقُبِلَ عمله ، ولم يضق به ) .

أقول : «لم يضق» ، على وزن : لم يبع ، بصيغة المجهول ، لأنّه أجوف يائي ، أي : لم يضيِّق عليه ( ممّا هو فيه ) ضيقاً شرعياً ( لجهل شيء من الاُمور ) يكون ( جهله ) فيه غير ضارّ به ؟ ( فقال ) عليه السلام : ( شهادة أن لا إلهَ إلاّ اللّه والايمان بأن محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والاقرار بما جاء به من عند اللّه ، وحقّ في الاموال : الزّكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه عزّوجلّ بها : ولاية آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) .

ولا يخفى : إنَّ زيادة بعض الأشياء في بعض الروايات دون بعض ، مثل : الولاية ، والصّلاة ، انّما هو من جهة إقتضاء حال السائل ذلك ، وقد ذكرنا بعض تفصيله في كتاب « الفقه » المرتبط بالآداب والسنّن (2) .

ص: 72


1- - الكافي ( اصول ) : ج2 ص20 ح6 و ص21 ح9 .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 .

وفي رواية إسماعيل : « قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الدّين الذي لايَسَعُ العِبادَ جَهلُهُ ؟ فقال عليه السلام : الدّينُ واسعٌ ، وإنّ الخوارجَ ضيّقوا على أنفسهم ، بجهلهم ، فقلتُ : جُعِلت فداك! أما اُحدِّثُكَ بديني الذي أنا عليه ؟ فقال ، بلى قلتُ : أشهدُ أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبدُه ورَسوله ، والإقرار بما جاء به من عند اللّه ، وأتولاّكم وأبرء من عدّوكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلتَ شيئاً ، فقال : هو واللّه الذي نحنُ عليه ، فقلتُ : فهل اَسلم أحدٌ لايعرفُ هذا الأمر ؟ قال : لا ، إلاّ المستضعفين .

-------------------

( وفي رواية إسماعيل ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : عن الدّين الّذي لايسع العباد جهله ؟ فقال عليه السلام : الدّين واسع ، وانّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ) لأنهم شرطوا في الامام فوق شروط اللّه سبحانه وشروط النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولذا ضَلّوا وأَضَلوا وإنحرفوا عن أمير المؤمنين عليه السلام الى حكام جائرين ، كما يجد ذلك من راجع تواريخهم .

( فقلتُ : جُعلتُ فِداكَ ، اما أُحدّثُكَ بديني الَّذي أنا عليه ؟ فقال ) عليه السلام : ( بلى ، قلت : أشهدُ أن لا اِلهَ إلاَّ اللّه ، وانَّ مُحمّداً عَبدُهُ ورسولهُ ، والاقرار بما جاء به من عند اللّه ) أي : أقر بذلك ( وأتولاّكم ، وأَبرءُ من عدوّكم ، ومن رَكِبَ رقابكم ) أي : صار حاكماً عليكم ، وهذا من التشبيه المعنوي بالمادي ( وتَأَمّرَ عليكم ، وظلمكم حقّكم ) فهل هذا كافٍ يابن رسول اللّه ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( ماجهلتَ شيئاً ) قوله : « ماجهلت » بصيغة الخطاب ، ثم أردف ( فقال ) ثانياً عليه السلام ( : هو واللّه الَّذي نحن عليه ، فقلت : فهل أَسلَمَ أحدٌ لايعرفُ هذا الأمر ) بأن يكفيه دون ذلك في المعرفة في الآخرة ؟ .

( قال : لا ، إلاّ المستضعفين ) والمراد بالمستضعفين : الذين لايدركون الاُمور

ص: 73

قلتُ : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادُكم ، قال : أرأيتَ أُم أيمن! فانّي أشهدُ أنّها من أهل الجَنّة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه » .

-------------------

كادراك سائر الناس ، فإن المستضعف يطلق في الشريعة على قسمين من الناس :

الأوّل : المسضعف في عقيدته .

الثاني : المستضعف الّذي إستضعفه الجبارون كما قال سبحانه : « وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلى الّذينَ إستُضعِفوُا في الأَرضِ وَنَجْعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثيِنَ » . (1)

( قلت : من هم ) المستضعفون ؟ .

( قال : نساؤكم وأولادكم ) فإن الغالب من هؤلاء لايدركون خصوصيات الايمان ، ولهذا فَهم مستضعفون في عقيدتهم عن قصور ، لا عن تقصير .

ثم إستشهد عليه السلام لكلامه بشيء هو واضح عند السائل وعند غيره ( قال : أرأيت ) أي : أتعرف معرفة كأنك رأيته ، كما قال سبحانه في القرآن الحكيم عن لسان الشيطان : « أَرأيتَكَ هذا الّذي كَرَّمتَ عَليَّ » (2) ولهذا فُسّر « أرأيت » في كتب اللّغة : بأخبرني ، أي : أخبرني عن ( اُم أيمن ؟ فانّي أشهد انّها من أهل الجنّة وما كانت تعرف ما أنتم عليه ) (3) من المعرفة .

لايقال : ألم تكن أُم أيمن في زمن الرّسول وعليّ وفي بيت الزهراء صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ فكيف كانت لاتعرف مانعرفه ؟ .

لأنّه يقال : إنَّ كل إنسان يستوعب من المعرفة بقدره ، كما إن الزمان أيضاً كشف لنا ما كان مستوراً عنها ، وأرانا الحقائق كما هي ممّا كانت لم ترها بل سمعت

ص: 74


1- - سورة القصص : الآية 5 .
2- - سورة الاسراء : الآية 62 .
3- - الكافي اصول : ج2 ص405 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، وسائل الشيعة : ج4 ص456 ب55 ح5701 .

فانّ في قوله « ماجهلتَ شيئاً » ، دلالةً واضحةً على عدم إعتبار الزائد في أصل الدين .

والمستفادُ من هذه الأخبار المصرّحة بعدم إعتبار معرفةٍ أزيدَ ممّا ذكر فيها في الدين - وهو الظاهرُ أيضاً من جماعة من علمائنا الأخيار ، كالشهيدين في الألفية

-------------------

عنها ، ومن يرى الشيء يكون أكثر معرفة به ممّن قد سمعه فقط ، فتجارب التاريخ ، وحوادث الزمان صقلت معرفتنا باصول الدّين وخصوصاً بالولاية والامامة وجعلت معرفتنا أعمق ، وأكثر إحاطة منها فانّهم عليهم السلام قد أدّوا ما عليهم تجاه بناء الفرد وبناء الاُمة الاسلامية الواحدة ، وتكوين الدولة ، وإرساء قواعد الاُصول ، ونشر الأحكام والأخلاق ، مع إنّهم كانوا غالباً في اسفار الحروب ونحوها ، حتى أن في كلّ شهر ونصف كان للرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم سفر أو حرب ، أو غزوة ، طيلة السنوات العشرة ، في المدينة المنورة ، ومن المعلوم : انَّ أسفار تلك الأيام كانت لها من المشقة ماليس لها في زماننا هذا .

وعليه : ( فانّ في قوله عليه السلام : ماجهلتَ شيئاً ، دلالةً واضحةً على عدم إعتبار الزّائد في أصل الدّين ) وإن كانت فروع الدّين من المسائل الفقهية تحتاج الى أكثر من ذلك .

( والمستفاد من هذه الأخبار المصرّحة بعدم إعتبار معرفة أزيد ممّا ذكر فيها في الدّين ) قوله : « في الدين » متعلق : « بعدم إعتبار » ، فإن الذّي كان مصدّقاً بما ذكر في هذه الأخبار يكون مؤمناً حقاً .

( وهو الظّاهر أيضاً من جماعة من علمائنا الأخيار : كالشهيدين في الألفية

ص: 75

وشرحها والمحقّق الثاني في الجعفريّة وشارحها وغيرهم - أنّه يكتفى في معرفة الربّ التصديقُ بكونه موجوداً وواجبَ الوجود لذاته والتصديقُ بصفاته الثبوتّية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث

-------------------

وشرحها ، والمحقّق الثّاني في الجعفريّة ، وشارحها ، وغيرهم : انّه يكتفى في معرفة الرّب ، التّصديق بكونه موجوداً ، وواجب الوجود لذاته ) وليس بواجب الوجود لغيره ، كما في ساير الممكنات فانّها واجبة الوجود لغيرها .

وربّما يقال : بأنّه كيف يطلق على ذاته سبحانه وتعالى واجب الوجود ، ولم يرد في آية أو خبر مع انّ أسمائه سبحانه توقيفية ؟ .

فانّه يقال : ليس هذا باسم ، بل إلماع الى حقيقة ، والممنوع جعل الاسم ، لا الإلماع الى الحقيقة ، فاذا قلنا : بأن معنى انّه يرضى أو يغضب ، انّه يفعل ما يترتب على الرضا والغضب من باب « خُذ الغايات وإترك المبادي » ، فهل يستشكل عليه بتوقيفية الأسماء ؟ .

( والتّصديق بصفاته الثّبوتيّة الرّاجعة الى صفتي : العلم والقدرة ) ولم يظهر وجه إرجاع صفاته تعالى الى العلم والقدرة وإن ذكره جملة من المتكلّمين ، كما أنّه لا داعي إلى ذلك أيضاً ، فإنا نرى في الناس من له علم وقدرة ومع ذلك يفعل خلاف علمه وخلاف قدرته لخباثة في ذاته ، فهل مايفعله هذا كان لفقده العلم والقدرة ؟ .

( ونفي الصّفات الرّاجعة الى الحاجة والحدوث ) فهو سبحانه ليس بمركّب ، ولا جسم ، ولا مرئي ، ولا محلّ للحوادث ، ولا شَريكَ له ، وليس بمُحتاج ، ولا مَعاني له ، فليس ذاته غير صفته ، كما في المخلوقات ، فانّ ذواتها غير صفاتها .

ص: 76

وأنّه لا يصدر منه القبيحُ فعلاً أو تركاً .

والمرادُ بمعرفة هذه الأمور ركوزُها في إعتقاد المكلّف ، بحيث إذا سألته عن شيء ممّا ذكر أجاب بما هو الحق فيه وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ .

ويكتفى في معرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ،

-------------------

ثمّ أن هنا تكراراً في كونه واجب الوجود وانّه ليس بحادث ، فلا حاجة الى أحدهما ، إلاّ انّ طرح الثاني أولى إذ عدم الحدوث لايلازم وجوب الوجود لزوماً عقلياً وإن كان في الخارج ليس للأمرين إلاّ وجوداً واحداً ، وهكذا بالنسبة الى كونه سبحانه غنياً وانّه ليس بمحتاج .

( وانّه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً ) أي : لايفعل فعلاً قبيحاً ، ولا يترك تركاً يراه العقل قبيحاً ، بل لايفعل سبحانه من الأحوال الخمسة الممكنة إلاّ أمرين فقط ، والاحوال الخمسة عبارة : عمّا هو خيرٌ محض ، وما هو شرٌ محض ، وما خيرُهُ أزيد ، وما شرّه أزيد ، وما يتساوى فيه الخير والشر ، فانّه لايفعل إلاّ ما كان خيراً محضاً ، أو كان خيره أزيد حسب الموازين العقلية .

( والمراد بمعرفة هذه الأمور : ركوزها ) أي : ارتكازها ( في اعتقاد المكلّف بحيث اذا سألته عن شيء ممّا ذكر ، أجاب بما هو الحقّ فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ ) فان العلم شيء والتعبير شيء آخر كما هو واضح .

( ويكتفى في معرفة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ) لكن الظاهر : انّه لايحتاج الى معرفة النسب ، فان من عرف زيداً كان عارفاً به

ص: 77

والتصديقُ بنبوّته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقادُ بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أولّ عمره إلى آخره .

قال في المقاصد العليّة : « ويمكن إعتبارُ ذلك ، لأنّ الغرضَ المقصودَ من الرسالة لايتمُّ إلاّ به ، فتنتفي الفائدةُ التي بإعتبارها وجب إرسال الرسل ، وهو ظاهرُ بعض كتب العقائد المصدّرة بأنّ

-------------------

وإن كان لايعرف انّه ابن عمرو ، أو أخو خالد .

( والتصديق بنبّوته ) ورسالته ، لوضوح : ان النبوّة غير الرسالة ، فالرسالة أخص من النبوة ( وصدقه ) والظاهر : انّ صدقه تكرار وتأكيد ، لأنّ التصديق بالنبوّة والرسالة ، معناه : التصديق بصدقه ( فلا يعتبر في ذلك ) أي : في التصديق بالنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم زيادة عليه من ( الاعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أوّل عمره الى آخره ) .

والفرق بين الملكة وعدمها : انّه من الممكن انّ لايأتي الانسان بمعصية إطلاقاً ، لكن لا عن ملكة العصمة والحفظ ، وان يصدق في جميع أُموره ، لكن ليس له ملكة الصدّق ، وهكذا في سائر الملكات والأفعال فقوله : «بالملكة» لبيان ماذكرناه وان العصمة إنّما هي ناشئة عن الملكة .

وحيث رأى المصنّف إمكان أن يثقل على السامع ماذكره : من عدم لزوم الاعتقاد بالعصمة ، إستشهد بقول الشهيد الثاني حيث ( قال في المقاصد العليّة : ويمكن إعتبار ذلك ) أي لزوم الاعتقاد بالعصمة ( لأنَّ الغرض المقصود من الرّسالة لايتمّ إلاّ به ) أي : بكونه معصوماً ( فتنتفي الفائدة التي باعتبارها ) أي : باعتبار تلك الفائدة ( وجب إرسال الرّسل ) لولا العصمة .

( وهو ) أي : لزوم الاعتقاد بالعصمة ( ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة : بأنّ

ص: 78

من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمناً مع ذكرهم ذلك ، والأوّل غير بعيد من الصواب » ، إنتهى .

أقولُ : الظاهرُ أنّ مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس سره ، حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهرُه دعوى إجماع العلماء عليه .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفةَ ما عدا النبوّة واجبةٌ بالاستقلال على من هو متمكّنٌ منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع ،

-------------------

من جهل ماذكروه فيها ) أي : في تلك الكتب ( فليس مؤمناً ، مع ذكرهم ذلك ) أي : وجوب الاعتقاد بالعصمة .

ثمّ قال الشهيد بعدها : ( والأوّل : ) وهو : عدم إعتبار لزوم الاعتقاد بالعصمة ( غير بعيد من الصّواب (1) ، إنتهى ) كلام الشهيد في المقاصد العليّة .

( أقول : الظّاهر أنَّ مراده ببعض كتب العقائد : هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس سره حيث ذكر تلك العبارة ) التي نقلها الشهيد عنه بقوله : «لأنَّ الغرض المقصود من الرسالة» الى آخره .

( بل ظاهره ) أي : ظاهر العلاّمة ( دعوى إجماع العلماء عليه ) أي : على إشتراط الاعتقاد بالعصمة في كون الإنسان مؤمناً .

( نعم ، يمكن أن يقال : انَّ معرفة ماعدا النبوّة ) في النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من العصمة وغيرها ( واجبة بالاستقلال على من هو متمكّن منّه بحسب الاستعداد ) الفكري والمستوى العلمي له ( وعدم الموانع ) عن طلب الزيادة من المعرفة وذلك

ص: 79


1- - المقاصد العليّة : مخطوط .

لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقّه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأنّ الجهل بمراتب سفراء اللّه ، جلّ ذكره ، مع تيسّر العلم بها تقصيرٌ في حقّهم وتفريطٌ في حبّهم ونقصٌ يجب بحكم العقل رفعهُ ، بل من أعظم النقائص .

وقد أومئ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إلى ذلك حيث قال مشيراً إلى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعيّة : « إنّ ذلك علمٌ لا يضرُّ جهله ، - ثمّ قال :- إنّما العلومُ ثلاثةٌ : آيةٌ مُحكَمةٌ وفَرِيضَةٌ عادِلَةٌ وَسُنَّةٌ

-------------------

( لما ذكرنا : من عمومات وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصّلوات الواجبة وانّ الجهل بمراتب سفراء اللّه جلّ ذكره ) جهلاً لا يعذر المكلّف فيه ، لا مثل الجهل بأنّ القائم عليه السلام أفضل من الثمانية الذين كانوا قبله - مثلاً - ( مع تيسّر العلم بها ) أي : بمراتب السفراء ( تقصير في حقهم ، وتفريط في حبّهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه ، بل من أعظم النقائص ) في الانسان المسلم .

قوله : « وإن الجهل » عطف على الدليلين السابقين : من عمومات وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصلاة ، وكأن قوله : وان الجهل : دليل عقلي ، بالإضافة الى الدليلين السابقين الشرعيين : من وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصلوات .

( وقد أومئ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الى ذلك ) أي : الى وجوب نحو هذه المعرفة بالنسبة الى الأنبياء عليهم السلام ( حيث قال مشيراً الى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعية : إنّ ذلك ) أي : تلك العلوم الخارجة عن العلوم الشّرعية ( علم لايضرّ جهله ، ثمّ قال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « إنّما العلومُ ثَلاثَةٌ : آيةٌ مُحكَمَةٌ وَفَريضَةٌ عادِلَةٌ ، وَسُنَّةٌ

ص: 80

قائِمةٌ ، وَمَا سِواهُن فَهُو فضول » .

-------------------

قائِمةٌ ، وما سِواهُنَّ فَهُو فَضول » (1) ) .

فقد روي عن أبي الحسن موسى عليه السلام إنه قال : « دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم المسجد ، فاذا جماعة قد أطافوا برجل فقال : ماهذا ؟ فقيل : علاّمة ، فقيل : ما العلاّمة ؟ فقالوا : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهلية والأشعار العربية ، قال : فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّما العلوم ثلاثة . . . » .

والّذي يستظهر من الحديث : إنّ الآية المحكمة يراد بها : القرآن ، أما الآيات المتشابهات فلا يعلمها الانسان ، ولذا قيّد صلى اللّه عليه و آله وسلم الآية بالمحكمة .

ويراد ب- « الفريضة العادلة » : الواجبات الأعم من ترك المحرمات ، وإنّما وصف الفريضة بأنّها عادلة ، من باب التوضيح والإلماع الى أن الفرائض روُعي في تشريعها العدالة بلا إفراط فيها على الناس ولا تفريط .

ويراد ب- « السُنة القائمة » : الأحكام الثلاثة الاُخر من الأحكام الخمسة ، لأن المستحب ، وترك المكروه ، والاختيار في فعل المباح وتركه ، سنّة سَنّها اللّه ورسوله .

ثمّ من المعلوم : إنّ اصول الدّين قسم منها ذكرت في الكتاب ، وقسم منها ذكرت في الروايات ، فاصول الدين مشمولة للآية المحكمة والفريضة العادلة .

هذا ، وقد قيل في تفسير الرّواية أقوال أُخر لا يهمنا ذكرها .

ثمّ لا يخفى : انّ العلم بالتواريخ وأشعار العرب ونحوها ، قد تكون واجبة لكونها مقدّمة لواجب ، وقد تكون غير ذلك ، فقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّها فضول

ص: 81


1- - الكافي اصول : ج1 ص32 ح1 (بالمعنى) .

وقد أشار الى ذلك رئيس المحدِّثين في ديباجة الكافي ، حيث قسّم النّاس الى أهل الصحّة والسلامة وأهل المرض والزّمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرق الأخيرة .

ويكتفي في معرفة الأئمّة عليهم السلام ، بنسبهم المعروف

-------------------

من باب الغالب لا الحصر .

( وقد أشار الى ذلك ) الّذي ذكرناه : من كون معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الإستعداد وعدم الموانع ( رئيس المحدّثين ) الكليني قدس سره ( في ديباجة الكافي ، حيث قسّم الناس الى أهل الصحة والسّلامة ، وأهل المرض والزّمانة ، وذكر وضع التّكليف عن الفِرق الأخيرة ) أي : عن أهل المرض والزّمانة الذين لايقدرون على استيعاب هذه الاُمور .

ومن المعلوم : إنّ من جملة التكاليف : خصوصيات أصول الدين الزائدة على القدر الدخيل في كون الشخص مسلماً .

قال الأوثق : لارَيبَ في عدم كون المعارف الخمسة - ولو إجمالاً - موضوعة عن أحد ، وكونها شرطاً في تحقق الايمان ، فلا بدّ أن يكون المراد : وضع تفاصيلها بالوجوب النفسي (1) .

( ويكتفي في معرفة الأئمة عليهم السلام ) عرفانهم ( بنسبهم المعروف ) وقد تقدّم الإشكال في لزوم معرفة النسب ، ولذا لا يعرف ذلك أكثر العوام بدون أن يستنكر أحد من العلماء عليهم .

اللّهمَّ إلاّ أن يريد المصنّف بمعرفتهم بأنسابهم : أن يعرّفهم بأنفسهم لا أن

ص: 82


1- - أوثق الوسائل : ص238 وجوب تحصيل العلم في الاعتقاديات .

والتصديقُ بأنّهم أئمة يهدون بالحقّ ويجب الانقيادُ إليهم والأخذ منهم ، وفي وجوب الزائد على ماذكر من عصمتهم الوجهان .

وقد ورد في بعض الأخبار تفسيرُ معرفة حقّ الامام بمعرفة كونه إماماً مفترضَ الطاعة .

ويكفي في التصديق بما جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

-------------------

يعرف آبائهم واُمهاتهم ، وكذلك يحتمل أن يريد المصنّف فيما ذكره في معرفة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحقّ ، ويجب الإنقياد اليهم والأخذ منهم ، وفي وجوب الزائد على ماذكر من عصمتهم ) أي : بأن يجب أيضاً أن يعرفَهم معصومين ( الوجهان ) المتقدّمان في النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ( وقد ورد في بعض الأخبار تفسير معرفة حقّ الامام ) عليه السلام ( بمعرفة كونه إماماً مفترض الطّاعة ) ولم يذكر في تلك الأخبار أن يعرفهم بالعصمة .

منها : ما عن الكافي في باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام بسنده عن إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : أعرض عليك دين اللّه عزّ وجلّ ؟ قال : فقال : هات ، فقلت : أشهدُ أن لا اِله اِلاّ اللّه وحدَه لا شَريكَ لَهُ ، وأَنَّ مُحمّداً عَبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند اللّه ، وأنَّ علياً كان إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسن إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسين إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان عليّ بن الحسين إماماً فرض اللّه طاعته بعدهم ، حتى إنتهى الأمر اليه ، ثمّ قلت : أنت يرحمكَ اللّه قال : فقال عليه السلام : هذا دين اللّه ودين ملائكته .

( ويكفي في التّصديق بما جاء النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) به ، فإنّه من الضروري وجوب

ص: 83

التصديقُ بما علم مجيئه متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسمانيّ والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالاً ، مع تأمل في إعتبار معرفة ماعدا المعاد الجسمانيّ من هذه الأمور في الايمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ، للأخبار المتقدّمة والسيرة المستمرّة ،

-------------------

تصديق النبيّ بما جاء به ( : التّصديق بما علم مجيئه متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ) .

وقد مثّل المصنّف لأحوال المبدأ بقوله : ( كالتّكليف بالعبادات ) لأن العبادات من شؤون المبدأ .

ومَثَّلَ لأحوال المعاد بقوله : ( والسّؤال في القبر وعذابه ) أي عذاب القبر ( والمعاد الجسماني ، والحساب ، والصّراط ، والميزان ، والجنّة والنّار ، إجمالاً ) إذ من الواضح : انّه لا يلزم معرفة هذه الاُمور على سبيل التفصيل ، بلّ كثير من الخواص لايعرفونها تفصيلاً ، فكيف بالعوام ؟ .

( مع تأمّل في إعتبار معرفة ماعدا المعاد الجسماني - من هذه الاُمور- في الايمان ) قوله « في » ، متعلق بقوله : « اعتبار » ، أي : يتأمّل في أنّه يلزم في باب الايمان : أن يعرف الانسان ماعدا المعاد الجسماني : من أحوال الصراط ، والجنّة والنّار ، والميزان ، وما أشبه .

ذلك الايمان ( المقابل للكفر الموجب للخلود في النّار ) لأنّ الايمان له إطلاقان : إيمان يقابل الكفر ، وإيمان يقابل الخلاف ، وعلى أيّ حال : فكون الكفر موجباً للخلود في النار قد عرفت التأمّل في إطلاقه .

ثمّ أنّ المصنّف بيّن وجه التأمّل بقوله : ( للأخبار المتقدّمة ، والسّيرة المستمرة ،

ص: 84

فانّا نعلم بالوجدان جهلَ كثير من الناس بها من أوّل البعثة إلى يومنا هذا .

ويمكن أن يقال : إنّ المعتبرَ هو عدمُ إنكار هذه الأمور وغيرها من الضروريّات ، لا وجوبُ الاعتقاد بها ، على مايظهر من بعض الأخبار ، من أنّ الشاكّ إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر .

ففي رواية زُرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لو أنّ العبادَ إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا » ، ونحوها غيرها .

ويؤيّدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره ، باسناده

-------------------

فانّا نعلم بالوجدان جهل كثير من النّاس بها من أوّل البعثة الى يومنا هذا ) بدون إستنكار من الرّسول ، والأئمة ، والعلماء عليهم ، ولو كان الجهل ضاراً لكان الاستنكار قائماً .

( ويمكن أن يقال : إنَّ المعتبر : هو عدم إنكار هذه الاُمور ) التي ذكرناها من نحو : الجنّة ، والنّار ، والميزان ، والصِراط ( وغيرها من الضّروريات ) التي ذُكرت في الكتب الكلامية ( لا وجوب الاعتقاد بها ، على مايظهر من بعض الأخبار ) التي بأيدينا : من أنّ الضار : هو الإنكار ، لا وجوب الاعتقاد .

ولهذا جاء في بعض الأخبار ( : من أنّ الشّاكَ إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر ، ففي رواية زُرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يَجحَدوا ، لم يكفروا (1) ، ونحوها غيرها ) ومنه يتبين : إن الإنكار هو الّذي يوجب الكفر ، لا عدم العلم ( ويؤيّدها ) أي : يؤيد رواية زُرارة ( ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره

ص: 85


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

عن الصادق عليه السلام : « إنّ جماعةً يقال لهم الحقّيّة ، وهم الذين يقسِمون بحقّ عليّ ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة » .

وبالجملة : فالقولُ بأنّه يكفي في الايمان الاعتقادُ بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص وبنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبإمامة الأئمّة عليهم السلام ، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسمانيّ الذي لا ينفكّ غالباً عن الاعتقادات السابقة غيرُ بعيد ، بالنظر الى الأخبار والسيرة المستمرة .

-------------------

باسناده عن الصّادق عليه السلام : انّ جماعةً يقال لهم : الحقّيّة ، وهم الذين يقسِمون بحقّ عليّ ) عليه السلام ( ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة ) فان عدم معرفتهم بحق عليّ وفضله ، لا يوجب كفرهم حتى يدخلون النار ، وإنّما إذا أنكروا حقّه وفضله سبّب لهم دخول النار .

( وبالجملة : فالقول بأنّه يكفي في الايمان ) الخاص ، الذي هو أخص من الاسلام ( : الاعتقاد بوجود الواجب ) لذاته ( الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص ، وبنبوة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبإمامة الأئمة عليهم السلام ، والبرائة من أعدائهم ) والغاصبين لحقوقهم ( والاعتقاد بالمعاد الجسماني الّذي لاينفكَ غالباً عن الاعتقادات السّابقة ) وهي الحِساب ، والصِراط ، والميزان ، والجَنّة ، والنار ، وما أشبه ( غير بعيد بالنّظر الى الأخبار والسّيرة المستمّرة ) .

وإنّما قال : غالباً ، لأنَّ كثيراً من أهل القرى والأرياف ، بل من أهل المدن الفارغة عن العلماء ، بل وكثير ممّن هم في أوائل بلوغهم ، لايعرفون من المعاد إلاّ أنهم يجزون بالاحسان إحساناً ، وبالسيئات عقاباً أو غفراناً ، ولا يستنكر عليهم

ص: 86

وأمّا التديّنُ بسائر الضروريّات ، ففي إشتراطه أو كفاية عدم إنكارها أو عدم إشتراطه أيضاً ، فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدّين وجوهٌ ، أقواها الأخيرُ ، ثمّ الأوسطُ .

وما إستقربناه فيما ما يعتبر في الايمان وجدتُه بعد ذلك في كلام محكيّ عن المحقّق الورع الأردبيليّ في شرح الإرشاد .

ثمّ الكلامَ إلى هُنا في تمييز القسم الثاني ، وهو ما لايجب الاعتقادُ به إلاّ بعد حصول العلم به عن القسم الأول ، وهو مايجب الاعتقاد به مطلقاً ،

-------------------

أحد من العلماء ممّا يدل على كفاية مثل هذا الاعتقاد .

( وأمّا التّديّن بسائر الضّروريّات ، ففي إشتراطه ) في الايمان ( أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم إشتراطه أيضاً ) فانّه حتى إذا أنكرها بلا علم بأنّها من الدين ، لم يكن ضاراً بايمانه ، كما قال :- ( فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدّين ، وجوه ) ثلاثة : ( أقواها : الأخير ، ثم الأوسط ) وإنّما كان الأقوى الأخير ، للأصل ، والسيرة ، وبعض الروايات المتقدمة .

هذا ( وما إستقربناه فيما يعتبر في الايمان ، وجدته بعد ذلك ) أي : بعد ان كتبت هذه الامور هنا ( في كلام محكي عن المحقّق الوَرع : الأردبيلي ، في شرح الارشاد ) (1) ممّا يؤيد ما ذكرناه ، فانّه قدس سره على شدّة تقواه وورعه إذا رأى ذلك كانت رؤيته تلك مؤيدة لما إستفدناه من الآيات ، والأخبار ، والاجماع ، والسيّرة .

( ثمّ الكلام الى هنا في تمييز القسم الثاني ، وهو : ما لايجب الاعتقاد به الاّ بعد حصول العلم به ، عن القسم الأوّل ، وهو : ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ،

ص: 87


1- - مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الأذهان : ج3 ص220 .

فيجب تحصيلُ مقدّمته ، أعني الأسباب المحصّلة للاعتقاد ، وقد عرفتَ أنّ الأقوى عدمُ جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني .

وأمّا القسمُ الأوّل : الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد ، فالكلامُ فيه يقعُ تارةً بالنسبة الى القادر على تحصيل العلم وأخرى بالنسبة إلى العاجز ، فهنا مقامان :

الأوّل : في القادر

والكلامُ في جواز عمله بالظنّ يقعُ في موضعين ، الأوّل : في حكمه التكليفيّ ،

-------------------

فيجب تحصيل مقدّمته أعني : الأسباب المحصّلة للاعتقاد ) وقد مرّ الفرق بين العلم والاعتقاد ، وأن العلم : أن يعلم الانسان شيئاً في مقابل أن يجهله ، والاعتقاد : أنّ يعقد قلبه .

( وقد عرفت : إنَّ الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني ) إذ لا دليل على ذلك .

( وأمّا القسم الأوّل الّذي يجب فيه النّظر لتحصيل الاعتقاد ) وقبل تحصيل الاعتقاد تحصيل العلم حتى يعتقد ( فالكلام فيه يقع تارة بالنّسبة الى القادر على تحصيل العلم ، واُخرى بالنسبة الى العاجز ) عن تحصيل العلم ( فهنا مقامان ) على النحو التالي :

الأوّل : في القادر ( والكلام في جواز عمله بالظّن يقع في موضعين ) كما يلي :

( الأوّل : في حكمه التكليفي ) أي : جواز الاقتصار على الظّن لمن تمكّن من العلم .

ص: 88

والثاني : في حكمه الوضعيّ من حيث الإيمان وعدمه ، فنقول :

أمّا حكمهُ التكليفيّ ، فلا ينبغي التأمّلُ في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظنّ .

فمن ظنّ بنبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو بإمامة أحد من الأئمة عليهم السلام ، فلا يجوز له الاقتصار ، فيجب عليه مع التفطّن لهذه المسألة زيادةُ النظر ، ويجب على العلماء أمرُهُ بزيادة النظر ليحصل له العلمُ إن لم يخافوا عليه الوقوعَ في خلاف الحقّ ، لأنّه حينئذٍ يدخل في

-------------------

( والثّاني : في حكمه الوضعي من حيث الايمان وعدمه ) وانّه لو كان ظانّاً ، هل يكون مؤمناً له أحكام الايمان ، أو ليس بمؤمن ؟ والمراد بالايمان هنا هو معناه الأعم المرادف للاسلام .

( فنقول : أمّا حكمه التكليفي ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز اقتصاره ) أي : المكلّف ( على العمل بالظّن ) وهو قادر على تحصيل العلم والاعتقاد .

وعليه : ( فمن ظنّ بنبوة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو بامامة أحد من الأئمة عليهم السلام ، فلا يجوز له الاقتصار ) على هذا الظّن ( فيجب عليه - مع التّفطّن لهذه المسألة - زيادة النظر ) وقيّده بالتفطن ، لأنّ من لم يتفطّن لا تكليف عليه ، وقوله : « زيادة النظر » فاعل قوله : ف- « يجب » .

( ويجب على العلماء ) من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وخصّ العلماء بالوجوب ، لأنهم هم الملتفتون الى هذه الاُمور غالباً ، والاّ فالأمر لا يخص العلماء كما لايخفى ، فانّه يجب عليهم ( أمره بزيادة النّظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحقّ ) .

وإنّما وجب إن لم يكن خوف ( لأنّه حينئذٍ ) أي : حين الخوف ( يدخل في

ص: 89

قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ، فانّ بقاءه على الظنّ بالحقّ أولى من رجوعه إلى الشّك أو الظنّ بالباطل فضلاً عن العلم به .

والدليلُ على ما ذكرنا جميعُ الآيات والأخبار الدالّة على وجوب الايمان والعلم والتفقّه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتديّن وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظنّ ، وهي أكثر من أن تحصى .

وأمّا الموضعُ الثاني : فالأقوى فيه بل المتعيّنُ الحكمُ بعدم الايمان ،

-------------------

قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ) فكما إنَّ العاجز لا تكليف عليه ، كذلك من يخشى أن يقع في خلاف الحقّ الصريح إذا فحص وبحث ونظر لا تكليف عليه .

وإنّما يخشى عليه ذلك ، لتهيأ ذهنيته للوقوع في خلاف الحق ( فانّ بقائه على الظّن بالحقّ أولى من رجوعه الى الشّكَ ، أو الظّن بالباطل ، فضلاً عن العلم به ) أي : فضلاً عن القطع بالباطل .

ولا يخفى : إنَّ إطلاق المصنّف العلم هنا على القطع ، مع انّهم عَرّفوا القطع : بالاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، لايكون إلاّ من باب التوسع .

هذا ( والدّليل على ما ذكرنا ) : من انّه يجب تحصيل العلم ، هو : ( جميع الآيات والأخبار الدّالة على وجوب الايمان ، والعلم ، والتفقّه ، والمعرفة ، والتّصديق ، والإقرار ، والشّهادة ، والتّدين ، وعدم الرّخصة في الجهل والشّك ومتابعة الظّنّ ، وهي أكثر من أن تحصى ) كما لايخفى ذلك على من راجع البحار في هذه الأبواب .

هذا تمام الكلام بالنسبة الى الحكم التكليفي في تحصيل العلم .

( وأمّا الموضع الثّاني : ) وهو حكمة الوضعي من حيث الايمان وعدم الايمان ( فالأقوى فيه ، بل المتعيّن : الحكم بعدم الايمان ) لمن لم يحصّل العلم

ص: 90

للأخبار المفسّرة للايمان بالإقرار والشهادة والتديّن والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم .

وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ ؟ فيه وجهان ، من إطلاق ما دلّ على أنّ الشاكَّ وغير المؤمن كافرٌ ، وظاهر ما دلّ من الكتاب والسنّة على حصر المكلَّف في المؤمن والكافر

-------------------

والاعتقاد ، وذلك ( للأخبار المفسّرة للايمان بالاقرار ، والشهادة ، والتدّين ، والمعرفة ، وغير ذلك من العبائر الظّاهرة في العلم ) .

ومعنى ذلك : انّه إذا لم يكن له العلم ، لم يكن له الايمان ، وعلى هذا فهو ليس بمؤمن قطعاً ( وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ ؟ فيه وجهان : من إطلاق ما دلّ على أنّ الشّاكَ وغير المؤمن كافر ) ومن المعلوم أنَّ المراد بالشّاك هو غير العالم ، فيشمل الواهم ، والظان ، والشاك المتساوي الطرفين .

( و ) كذا من ( ظاهر ما دلّ من الكتاب والسّنة على حصر المكلّف في المؤمن والكافر ) فاذا لم يكن الانسان مؤمناً كان كافراً ، لأنّ ظاهر هذه الآيات والرّوايات : انّه لا واسطة بين الأمرين .

مثل ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام : « مَنْ شَّكَ فِي اللّه ِ وَفِي رَسُولِ اللّه ِ فَهُوَ كافر » (1) .

وعن منصور بن حازم قال : «قُلتُ لأبي عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ شَّكَ فِي رَسولِ اللّه ِ؟ قالَ : كافرٌ ، قُلتُ : مَنْ شكَّ فِي كُفرِ الشّاك فَهوَ كافرٌ ؟ فأَمسَكَ عَنِي ،

ص: 91


1- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 ، وسائل الشيعة : ج28 ص346 ب10 ح34925 ، المحاسن : ص89 ح33 .

ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود فلا يَشملُ ما نحن فيه ،

-------------------

فَرددتُ عَليهِ ثَلاثَ مَرات ، فاستَبَنْتُ فِي وَجههِ الغَضَب » (1) .

وعن سُليم بن قَيس الهِلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « بُنيَ الكُفرُ على أَربَعِ دَعائِمَ : الفسّق ، والغُلوّ ، والشّك ، والشُبهة » (2) .

وعن أبي إسحاق الخُراساني قال : « كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في خطبته : لا تَرتابُوا فَتَشكُوا ، وَلا تَشكُوا فتكفُروا » (3) ، والى غير ذلك .

( ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود فلا يشمل ما نحن فيه ) مثل ما عن مُحمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « كلُّ شَيءٍ يَجرُّه الإقرار وَالتَسليم فَهوُ إيمانٌ ، وكُلّ شَيءٍ يَجرُّه الانكار وَالجُحود فَهوُ الكُفر » (4) . وعن زُرارة عَن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا » (5) .

وعن محمد بن مسلم قال : « كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالساً عن يساره وزُرارة عَن يَمينه ، فَدخَل عَليه أبوُ بصير فقال : ياأبا عَبد اللّه ماتقول فيمَنْ شَّكَ فِي اللِّه ؟ فَقالَ : كافِرٌ ياأبا مُحمّد ، قال : فَشكَّ فِي رسولِ اللِّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ فقال : كافِرٌ ، قال : ثم إلتفَتَ إلى زُرارة فقال : إنّما يكفر إذا جَحد » (6) .

ص: 92


1- - الكافي اصول : ج2 ص387 ح11 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص391 ح1 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص387 ح15 .
5- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .
6- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 .

ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان ، وقد أُطلق عليه في الأخبار الضّلالُ ،

-------------------

ومن المعلوم : إنّ الجمع بين الطائفتين هو : حمل المطلق على المقيّد ، ويؤيده أخبار الواسطة كما قال : ( ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان ، وقد أطلق عليه ) أي : على الوسط بين الكفر والايمان ( في الأخبار : الضّلالُ ) .

فعن زُرارة أبي جعفر عليه السلام : في قول اللّه عزّوجل : « وآخَرون مُرجَون لأمِرِ اللّه ِ » ؟ (1) قال : « قَومٌ مُشرِكونَ فَقَتَلوُا مِثلَ : حَمزَةَ ، وَجعفَر ، وأشباههم مِن المؤمِنينَ ، ثمّ إنّهم دخلوا في الاسلام ، وَوَحّدوُا اللّه ، وتركوا الشّرك ، وَلَم يَعرِفُوا الايمان بقلوبهم ، فَيكُونُوا مِن المؤمنين فَيجِب لَهم الجَنّة ، ولم يكونوا على جحُودِهم فيكفروا فَيجِب لَهُمُ النّار ، فَهُم على تِلكَ الحال إمّا يعُذبَهم وَإمّا يتَوُبُ عَليهِم » (2) .

وعن زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « ما تقول في أصحاب الأَعراف ؟ فَقُلت : ما هم إلاّ مُؤمِنون أو كافِروُن ، إِنْ دَخلُوا الجَنّةَ فَهُم مؤمنون ، وإن دَخلُوا النّارَ فَهُم كافِروُن ، فقال : وَاللّه ما هُم بمُؤمِنينَ ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين دخلوا الجَنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين لَدَخلوا النّار كما دخلها الكافرون ، ولكنّهم قوم إستوت حسناتهم وسيئآتهم فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم كما قال اللّه عزّوجلّ ، فقلت : أمِنْ أهل الجنّة هُم أو مِنْ أهل النّار ؟ فقال : إتركهم حيث تركهم اللّه ، قلت : أفترجئهم ؟ قال : أرجئهم كما أرجئهم اللّه ، إنْ شاءَ أدخلهم الجنّة

ص: 93


1- - سورة التوبة : الآية 106 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص407 ح1 .

...

-------------------

برحمته ، وإنّ شاء ساقهم الى النار بذنوبهم ولم يظلمهم » (1) .

وعن هاشم صاحب البريد ، قال : « كنت أنا ومحمّد بن مسلم وأبو الخَطاب مجتمعين ، فقال أبو الخطاب : ماتقولون فيمَن لم يعرف هذا الأمر ؟ فقلت : من لم يعرف هذا الأمر فهُو كافرٌ ، فقال أبو الخطاب : ليس بكافر حتى يقوم عليه الحجّة ، فاذا قامت عليه الحجّة ولم يعرف فهو كافر ، فقال له محمّد بن مُسلم : سُبحان اللّه ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر ، ليس بكافر إذا لم يجحد ؟ قال : فلما حججت دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام فاخبرته بذلك ، فقال : إنّكَ قَد حَضرتَ دعاباً ، ولكن موعدكم الليلة عند الجمرة الوسطى بمِنى ، فلما كانت الليلة إجتمعنا عِندَهُ وأبو الخطاب ومحمّد بن مسلم وتناول وسادة فوضعها في خدره وقال : أما ، ماتقولون في خدمكم ونسائكم وأهلكم ؟ أليس يشهدون أن لا اِله اِلاّ اللّه ؟ قلت : بلى ، قال : أليس يصلّون ويصومُون ويحجّون ؟ قلت : بلى ، قال : ويعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال : فما هم عندكم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف هذا الأمر فهو كافر ، قال : سبحان اللّه أما رأيت اهل الطريق وأهل الماء ؟ قلت : بلى ، قال : أليس يصلّون ويصومون ويحجّون ؟ أليس يشهدون أن لا اِله اِلاّ اللّه وأن محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم رَسوُلُ اللّه ؟ قلت : بلى ، قال : أيعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال : فما هم عندكم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف فهو كافر ، قال : سبحان اللّه أما رأيت الكعبة وأهل اليمن وتعلقهم بأستار الكعبة ؟ قلت : بلى ، قال عليه السلام : أليس يشهدون أن لا اِلّه اِلاّ اللّه وأن محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ويصلّون ويصومون ويحجّون ؟ قلت : بلى ،

ص: 94


1- - الكافي اصول : ج2 ص403 ح2 .

لكن أكثر الأخبار الدالّة على الواسطة مختصّةٌ بالإيمان بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ على أنّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر ، لا على ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر ،

-------------------

قال : فيعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال فما تقولون فيهم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف فهو كافر ، قال : سُبحان اللّه ، هذا قول الخوارج .

ثمّ قال : إن شئتم أخبرتكم ؟ فقلت : بلى ، فقال أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشَيءٍ مالم تَسمَعوُه مِنّا ، قال : فظننّت انّه يريد ما على قول محمّد بن مسلم » (1) .

وعن عمر بن أَبان قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المستضعفين ؟ فقال عليه السلام : « هم أهل الولاية فقلت : أي ولاية ؟ فقال : أما إنّها ليست بالولاية في الدّين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين وليسوا بالكفار ، ومنهم المرجون لأمر اللّه عزّوجلّ » (2) .

الى غير ذلك من الأخبار التي يجدها المتتبع في البحار في باب الايمان والكفر وفي غيره .

( لكن أكثر الأخبار الدّالة على الواسطة ، مختصّة بالايمان بالمعنى الأخصّ ) فهناك من يؤمن بالائمة الطاهرين عليهم السلام إيماناً بالمعنى الأخص ، وكافر يقابله ، ومسلم ليس يؤمن بالائمة الطاهرين ، وهو واسطة بينهما ( فيدلّ على انَّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولاكافر ، لاعلى ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر ) الذي هو محل البحث والكلام .

ص: 95


1- - الكافي اصول : ج2 ص401 ح1 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص405 ح5 ، تفسير العياشي : ج1 ص257 ح194 .

نعم ، بعضها قد يظهرُ منه ذلك . وحينئذٍ فالشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخصّ ليس بمؤمن ولا كافر ،

-------------------

قال الآشتياني : « ثم إنّ الواسطة بين الايمان بالمعنى الأعم وهو : الاسلام والكفر ، لايترتب عليه حكم كلّ من الكافر والمسلم ، فمثل النجاسة لايترتب عليه بل يحكم بطهارته ، لأنّ النجاسة من أحكام الكفر ، كما أن جواز النكاح والتوارث من أحكام الاسلام ، وهل يحكم بصحة عباداته ام لا ؟ وجهان : أوجههما الثاني ، لأنَّ ظاهرهم إعتبار الاسلام في صحة العبادات لا مانعية الكفر .

نعم ، لايجوز إسترقاقه قطعاً ، لأنّه أحكام الكفر ، كما انّه يحكم بسقوط القضاء - أي قضاء العبادات - عنه بعد الاسلام ، فانّه من أحكامه .

وبالجملة : لابد من تشخيص كون الحكم مترتباً على الكفر أو الاسلام وهو بنظر الفقيه ، وأمّا الواسطة بين المؤمن بالمعنى الأخص والكافر : فيجري عليه حكم المسلم القائل بالايمان الأخص ، ولايترتب عليه حكم كل من الكافر والمؤمن ، فمثل حَقن الدماء والميراث وجواز النكاح فيما كانت الواسطة إمرأة وأراد المؤمن نكاحها يترتب عليه ، وأما نكاحه المؤمنة ونحوه ممّا رتب في الشرع على الايمان بالمعنى الأخص فلا يترتب عليه » .

إنتهى ، وان كان في بعض ماذكره قدس سره تامّل موضعه الفقه .

( نعم ، بعضها قد يظهر منه ذلك ) وانّه واسطة بين الاسلام بالمعنى الأعم والكفر ( وحينئذٍ ) أي : حين كان واسطة بين الايمان بالمعنى الأخص والكفر ( فالشّاك في شيء ممّا يعتبر في الايمان بالمعنى الأخص ) كالشّك في انّ الامام المهدي عليه السلام وهو الامام الثاني عشر - مثلاً - يكون ( ليس بمؤمن ولا كافر ،

ص: 96

فلا يجري عليه أحكامُ الإيمان .

وأمّا الشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الاسلام بالمعنى الأعم ، كالنبوّة والمعاد ، فان إكتفينا في الاسلام بظاهر الشهادتين وعدم الانكار ظاهراً وإن لم يعتقد باطناً فهو مسلمٌ ، وإن اعتبرنا في الاسلام الشهادتين مع إحتمال الاعتقاد على طبقهما حتّى تكون الشهادتان أمارةً على الاعتقاد الباطنيّ فلا إشكال في عدم إسلام الشاكّ لو علم منه الشكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين ، من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما .

-------------------

فلا يجري عليه أحكام الايمان ) بالمعنى الأخص .

( وأمّا الشّاك في شيءٍ ممّا يعتبر في الاسلام بالمعنى الأعمّ : كالنبّوة ، والمعاد ، فان إكتفينا في الاسلام بظاهر الشّهادتين ، وعدم الانكار ظاهراً وإن لم يعتقد ) الاسلام ( باطناً ، فهو مسلم ) لأن المفروض : انّه شهد الشّهادتين ولم ينكر شيئاً ممّا يعتبر في الاسلام المعاد - مثلاً - .

( وإن إعتبرنا في الاسلام الشّهادتين مع إحتمال الاعتقاد على طبقهما حتى تكون الشّهادتان أمارة على الاعتقاد الباطني ، فلا إشكال في عدم إسلام الشّاكَ ) في مرحلة الواقع والثبوت ، لأنّه غير مسلم حسب هذا الميزان ، فانّه ( لو علم منه الشّكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين : من جواز المناكحة ، والتّوارث ، وغيرهما ) كطهارة البدن ، والدفن في مقبرة المسلمين ، والى غير ذلك .

لكن قد يقال : إذن فكيف يجري على المنافق أحكام الاسلام ، مع انّه عاقد قلبه على الخلاف ، لا أنّه شاك فقط ؟ .

فانّه ربّما يقال : بأنّ الأقسام أربعة :

الأول : المسلم حقيقة .

ص: 97

وهل يُحكم بكفره ونجاسته حينئذٍ فيه إشكالٌ من تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود ، هذا كلّه في الظانّ بالحقّ ، وأمّا الظانُّ بالباطل ، فالظاهرُ كفرُهُ .

بقي الكلام في أنّه اذا لم يكتف بالظنّ وحصل الجزمُ من تقليد ، فهل يكفي

-------------------

الثاني : المسلم صورة ، فتجري أحكام الاسلام ، وهذا يشمل المنافق أيضاً .

الثالث : من لايجري عليه أحكام الاسلام وإن شهد الشّهادتين ، وذلك كما إذا جاء كافر وأراد الزواج من بنت مسلمة فقيل له : لايسمح لك بالزواج منها إلاّ بعد الشهادتين ، فتشهد وهو يقول : انّه لايعتقد بشيء ممّا شهد به أصلاً ، أو علمنا منه لك .

الرابع : الكافر لفظاً وقلباً .

( و ) كيف كان ، فعلى قول المصنّف : انّه لايجري على الشاك أحكام المسلمين ، لكن ( هل يحكم بكفره ونجاسته حينئذٍ ؟ ) أي : حين كان شاكاً واقعاً وعلمنا منه ذلك ؟ .

( فيه إشكال : من تقييد كفر الشّاك في غير واحد من الأخبار بالجحود ) وهذا ليس بجاحد ، فلا يكون كافراً ولانجساً .

لكن لايخفى : إنّ السيرة جرت على عدم التفكيك بين أحكام الاسلام والكفر ، بأنّ لاينكح - مثلاً - لكن يقال : بانّه ظاهر ، أو يدفن في مقابر المسلمين ، بل أمّا أحكام الاسلام جارية في حقه ، أو كلّ أحكام الكفر .

( هذا كلّه في الظّان بالحقّ ، أمّا الظّان بالباطل ، فالظاهر : كفره ) لأنّ توهم الاسلام ليس باسلام ، والأدلة منصرفة عن مثله .

( بقي الكلام في انّه إذا لم يكتف بالظّن وحصل الجزم من تقليد ، فهل يكفي

ص: 98

ذلك أو لابدّ من النظر والاستدلال ؟ ظاهرُ الأكثر الثاني ، بل إدّعى عليه العلاّمة قدس سره ، في الباب الحادي عشر الاجماعَ ، حيث قال : « أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه وصفاته الثبوتيّة وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبوّة والامامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد » . فانّ صريحه أنّ المعرفة بالتقليد غير كافية .

ومثلها عبارة الشهيد الأوّل والمحقق الثاني ، وأصرحُ منهما عبارةُ المحقّق رحمه اللّه في المعارج ، حيث إستدلّ على بطلان التقليد بأنّه جزم في غير محلّه .

-------------------

ذلك ) في الحكم عليه بالاسلام ، وجريان أحكام الاسلام عليه ( أو لابّد من النظر والاستدلال ؟ ) حتى يقال : بانّه مسلم محكوم بأحكام الاسلام ؟ .

( ظاهر الأكثر : الثاني ، بل إدّعى عليه العلامّة قدس سره في الباب الحادي عشر : الاجماع ) على ذلك ( حيث قال : أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه ، وصفاته الثبوتيّة ، ومايصحّ عليه ) من الأقوال والأفعال ( وما يمتنع عنه ) من الصفات السلبية ، والأقوال والأفعال ( والنّبوة ، والامامة ، والمعاد ، بالدّليل لا بالتّقليد ) (1) فانّ التقليد لايكفي في صدق الاسلام بالنسبة الى الاصول الاسلامية ، وفي الايمان بالنسبة الى الاُصول الايمانية ( فانّ صريحه : انَّ المعرفة بالتقليد غير كافية ) في التسمية بالإسمين المذكورين ، وفي جريان أحكامهما على المسلم والمؤمن .

(ومثلها : عبارة الشهيد الأوّل ، والمحقّق الثّاني ، وأصرح منهما : عبارة المحقّق رحمه اللّه في المعارج ، حيث إستدل على بطلان التقليد: بانّه جزم في غيرمحله)

ص: 99


1- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص4 .

ولكن مقتضى إستدلال العضديّ ، على منع التقليد بالاجماع على وجوب معرفة اللّه وأنّها لاتحصلُ بالتقليد هو انّ الكلامَ في التقليد الغير المفيد للمعرفة .

وهو الذي يقتضيه أيضاً ما ذكره شيخنا في العدّة ، كما سيجيء كلامه؛ وكلامُ الشهيد رحمه اللّه ، في القواعد من عدم جواز التقليد في العقليّات ولا في الاصول الضروريّة من السمعيّات ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عملٌ ويكون المطلوبُ فيها العلمَ ، كالتفاضل بين الأنبياء السابقة .

-------------------

فان المقلّد جازم ، لكن جزمه ليس في محله ، إذ التقليد الفروع لا الاُصول .

( ولكن مقتضى إستدلال العضدي ) وهو من علماء العامّة ( على منع التّقليد ، بالاجماع على وجوب معرفة اللّه وانّها لاتحصل بالتّقليد ، هو : انَّ الكلام في التقليد غير المفيد للمعرفة ) أما التقليد المفيد للمعرفة القلبية ، فانّه يكفي في الحكم بالاسلام ، اذ التقليد قد يفيد العلم وقد لايفيد العلم .

( و ) مقتضى كلام العضدي ( هو الّذي يقتضيه أيضاً ماذكره شيخنا ) الطوسي ( في العّدة ما سيجيء كلامه ) إنشاء اللّه تعالى .

( وكلام الشهيد ) الأول ( رحمه اللّه في القواعد : من عدم جواز التّقليد في العقليّات ، ولا في الاُصول الضروريّة من السّمعيّات ) يقتضي ذلك أيضاً ، فالأول : كوجود اللّه سبحانه وتعالى ، والثاني : كالائمة الاثني عشر عليهم السلام ، فانّه سمعي ضروري وليس بعقلي في خصوصيات العدد ونحوه ( ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عمل ، ويكون المطلوب فيها العلم ، كالتفاضل بين الانبياء السّابقة ) مثل : إنّ إبراهيم عليه السلام أفضل من لوط وموسى وعيسى بما هما من أولي العزم أفضل من زكريا ويحيى ،

ص: 100

ويعضده أيضاً ظاهرُ ما عن شيخنا البهائي قدس سره في حاشية الزبدة من أنّ النزاعَ في جواز التقليد وعدمه يرجعُ إلى النزاع في كفاية الظنّ وعدمها .

ويؤيدّه إقترانُ التقليد في الاصول في كلماتهم بالتقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى أنّ المستفتى فيه هي الفروع دون الاصول .

لكنّ الظاهرَ عدمُ المقابلةُ التامّة بين التقليدين ، إذ لايعتبر في التقليد في الفروع حصولُ الظنّ ، فيعمل المقلّدُ

-------------------

الى غير ذلك .

( ويعضده أيضاً : ظاهر ما عن شيخنا البهائي قدس سره في حاشية الزّبدة : من أنَّ النّزاع في جواز التّقليد وعدمه ، يرجع الى النّزاع في كفاية الظّن وعدمها ) ومعناه : انّه إذا حصل العلم للمقلّد من تقليده في اُصول الدّين ، كفى في كونه مسلماً قطعاً ، فانّ لانزاع فيه بين أحد ( ويؤيّده ) أيضاً ( إقتران التّقليد في الاُصول في كلماتهم بالتّقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى : ان المُستفتى فيه ) بصيغة المفعول ( هي الفروع دون الاُصول ) بضميمة وضوح : انَّ التقليد في الفروع لايوجب العلم ، فكذلك التقليد في الاصول .

وعلى أي حال : فمرادهم من عدم جواز التقليد في الاصول : التقليد الذي لايوجب العلم ، أمّا إذا أوجب العلم فلا إشكال في كون المقلّد مسلماً يجري عليه أحكام الاسلام .

( لكن الظّاهر عدم المقابلة التّامّة بين التقليدين ) حتى يقال : إنَّ كلماتهم في التقليد في الفروع ، هي بعينها تأتي في التقليد في الاُصول ، فيقال : حيث إن في الفروع لاتحتاج الى العلم ، كذلك لايحتاج الى العلم في الاُصول ( إذ لايعتبر في التّقليد في الفروع حصول الظّن ) قطعاً ( فيعمل المقلّد ) بفتاوى مرجعه

ص: 101

مع كونه شاكّاً .

وهذا غيرُ معقول في اصول الدّين التي يُطلَبُ فيها الاعتقادُ حتّى يجري فيه الخلافُ .

وكذا ليس المرادُ من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع مخالفاً كان في الواقع أو موافقاً كما في الفروع ،

-------------------

( مع كونه ) أي : المقلِّد ( شاكاً ) بل ومع وهمه ، بان كان ظنّه على خلاف فتوى مرجع تقليده . ( وهذا غير معقول في اُصول الدّين ، التي يُطلَبُ فيها الاعتقاد ) فانّه لا شكَ في عدم كفاية التقليد في اصول الدين إذا كان التقليد في اصول الدين يورث الشك أو الوهم دون العلم فانّه غير كافٍ قطعاً ، بل ولا معقول كفايته ( حتى يجري فيه الخلاف ) بأنه هل يكفي التقليد أو لايكفي التقليد ؟ فلا يدل اقتران التقليدين في كلماتهم على أن مايذكرونه في التقليد في الفروع ، هو عين مايذكرونه في التقليد في الاصول حتى يستفاد من ذلك : انّهم يصححون التقليد في الاصول إذا أوجب التقليد العلم .

( وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا ) في باب الاصول ( :كفايته عن الواقع ، مخالفاً كان ) التقليد ( في الواقع ، أو موافقاً ) بأن يقلّد - مثلاً - في تعدد الآلهة ، أو عدم العدل ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه مقطوع البطلان والمواخذة ( كما في الفروع ) فان المقلِّد في الفروع معذور في تقليده طابق الواقع أم لا ، وفي مخالف الواقع له ثواب الانقياد .

ويؤيده ما ورد مرسلاً : « انّ للمُصيب أَجرين وَللمُخطى ء أَجرا واحدا » (1) .

ص: 102


1- - حاشية سلطان العلماء على المعالم : ص80 .

بل المرادُ كفايةُ التقليد في الحقّ وسقوط النظر به عنه ، إلاّ أن يكتفي فيها بمجرّد التديّن ظاهراً وإن لم يعتقد ، لكنّه بعيدٌ .

ثمّ إنّ ظاهرَ كلام الحاجبيّ والعضديّ إختصاصُ الخلاف بالمسائل العقليّة .

وهو في محلّه ، بناءا على ما إستظهرنا منهم ، من عدم حصول الجزم من التقليد ، لأنّ الذي لايفيد الجزم من التقليد إنّما هو في العقليّات المبنية على الاستدلالات العقلّية .

-------------------

وما ورد من قوله عليه السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) .

( بل المراد كفاية التقليد في الحقّ ) بأن يقلّد في وحدة الاله وعدله ، بينما هو لم يصل الى ذلك علميّاً ( وسقوط ) وجوب ( النّظر به ) اي : بالتقليد ( عنه ) ايٌ عن هذا المقلد في الحقّ والمعتقد به قلباً ( إلاّ أن يكتفي فيها بمجرد التدّين ظاهراً ) بأن يبني عليها بناءاً عمليّاً ( وان لم يعتقد ) قلباً ( لكنّه بعيد ) إذ الظاهر انّ مرادهم الاعتقاد .

( ثم إنَّ ظاهر كلام الحاجبي والعضدي : إختصاص الخلاف بالمسائل العقلية ) دون السمعية ، لأنهما مثّلا بمعرفة اللّه ، ومن المعلوم : انَّ الاستدلال على معرفته سبحانه وتعالى عقلي لاشرعي .

( وهو ) أي : كلامهما ( في محلّه بناءاً على ما استظهرنا منهم ) أي : من العلماء ( :من عدم حصول الجزم من التقليد ، لأنَّ الذي لايفيد الجزم من التّقليد ، انّما هو في العقليّات المبنيّة على الاستدلالات العقليّة ) فبدون الاستدلالات العقلية

ص: 103


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل لشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

وأمّا النقليّات ، فالاعتمادُ فيها على قول المقلّد ، - بالفتح - كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزمَ بصدقه بواسطة القرائن وفي الحقيقة يخرج هذا عن التقليد .

وكيف كان : فالاقوى كفايةُ الجزم الحاصل من التقليد ، لعدم الدليل على إعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد ، وتقييدها بطريق خاصّ لادليل عليه .

-------------------

لايحصل للانسان الجزم والقطع .

( وأمّا النقليّات فالاعتماد فيها على قول المقلَّد - بالفتح - كالاعتماد على قول المخبر ، الذي قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن ) وقد لايفيد ( وفي الحقيقة يخرج هذا ) أي : مايفيد الجزم ( عن التّقليد ) لأنه إذا علم الانسان شيئاً لم يسمّ مقلداً .

( وكيف كان ) فان المستفاد من كلام الحاجبي والعضدي وغيرهما هو : كفاية التقليد المورث للعلم كما قال : ( فالاقوى : كفاية الجزم الحاصل من التقليد ) في اُصول الدين ( لعدم الدليل على إعتبار الزائد على المعرفة ، والتصديق ، والاعتقاد ) ونحوهما ممّا ورد في الكتاب والسنة .

( وتقييدها بطريق خاص ) بأن يقال : يلزم أن تكون المعرفة عن الاستدلال والنظر ( لا دليل عليه ) ويمكن هنا الاشكال على المصنّف : بانّه كيف يمكن إثبات إستحقاق العقاب في المقلّد في الباطل وعدمه في المقلد الحق ، مع فرض كونهما متساويين في سعيهما من جميع الجهات ، سوى ما كان خارجاً عن وسعهما بأن كان الاول : مولوداً في الفرقة التي كانوا على الباطل ، والثاني : فيمن على الحق ؟ .

ص: 104

مع أنّ الانصافَ : أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ،

-------------------

والجواب : أمّا عن الذي قلّد في الحقّ ، فعدم إستحقاقه العقاب بأنّ إستحقاقه الجنة ، فلانه سلك الطريق الموصول الى الجنة .

وأمّا عن الذي قلّد في الباطل فمن يقول : انّه يستحق العقاب إذا لم يكن مقصّراً ؟ بل يمتحن هناك في القيامة كما دلّ عليه النص وقول العلماء ، فحالهما حال نفرين : قلّد أحدهما من دلّه على الطّريق ، والثاني من دلّه على خلاف الطّريق ، فانّ الأول : يصل دون الثاني .

وكيف كان : فالكلام تارة في الوصول وعدم الوصول ، واُخرى في العقاب وعدم العقاب .

ثمّ انّ المصنّف أيّد ما ذكره : من كفاية التقليد بقوله : ( مع أنّ الانصاف : انَّ النّظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطّن بوجوب النظر في الاصول ، لايفيد بنفسه الجزم ) وإنّما يحتاج الى لطف اللّه سبحانه وتعالى وسلوك طريقه ، والتضرع إليه ، حتى يمنحه تعالى النور ، كما في الحديث الشريف : « لَيسَ العِلمُ بُكثَرةِ التَعلّم وإنّما هُوَ نُورٌ يقَذِفُهُ اللّه فِي قَلبِ مَنْ يَشاء » (1) .

أقول : ومن المعلوم : انّ مشيئة اللّه سبحانه وتعالى ليست إعتباطاً ، بل باسبابها الخاصة ، وقد ذكرنا معنى هذا الحديث في : « الفقه : كتاب الآداب والسنن » (2) فلا يقال ، كيف حصل العلم الكثير من الكفار الذين يناوئون الاسلام كما نجد

ص: 105


1- - منية المريد : ص69 ، مصباح الشريعة ص16 ، بحار الانوار : ج70 ص140 ب52 ح5 .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

لكثرة الشّبَهِ الحادثةِ في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شُبَهاً يَصعبُ الجوابُ عنها للمحققّين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ، فكيف حالُ المشتغل به مقداراً من الزمان لأجل تصحيح عقائده ، ليشتغل بعد ذلك بأمور معاشه ومعاده ، خصوصاً ، والشيطانُ يغتنمُ الفرصة لالقاء الشبهات والتشكيك في البديهّيات ، وقد شاهدنا جماعةً صرفوا أعمارهم ولم يحصِّلوا منها شيئاً إلاّ القليل .

-------------------

ذلك قديماً وحديثاً ؟ .

هذا وإنّما قال : « لايفيد بنفسه الجزم » ( لكثرة الشّبه الحادثة في النفس ، والمدوّنة في الكتب ، حتى انّهم ذكروا شبهاً يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصّارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ) مثل شبهة الآكل والمأكول ، وشبهة التغيّر في علم الباري سبحانه قبل خلقه شيئاً وبعد خلقه شيئاً ، الى غير ذلك .

( فكيف حال المشتغل به ) أي : بالبرهان العقلي ( مقداراً من الزّمان لأجل تصحيح عقائده ليشتغل بعد ذلك باُمور معاشه ومعاده ) كسباً وعبادة ( خصوصاً والشيطان يغتنم الفرصة لالقاء الشّبهات والتشكيك في البديهّيات ) .

ومن هنا نشأت العقائد الباطلة الكثيرة من عقلاء العالم ( وقد شاهدنا جماعة صرفوا أعمارهم ) في الاستدلالات العقلية ، والكتب الحكمية ( ولم يحصّلوا منها ) أي : من البراهين العقلية الصحيحة ( شيئاً إلاّ القليل ) واللّه الهادي الى سواء السبيل .

ص: 106

المقام الثاني : في غير المتمكن من العلم

والكلامُ فيه تارةً في تحقق موضوعه في الخارج ، واُخرى في أنّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيلُ الظنّ أم لا ، وثالثةً في حكمه الوضعيّ قبل الظنّ وبعده .

أمّا الأوّلُ : فقد يقال فيه : بعدم وجود العاجز ، نظراً إلى العمومات الدالة على حصر النّاس في المؤمن والكافر ،

-------------------

( المقام الثّاني : في غير المتمكن من العلم ) بأن لايقدر على تحصيل العلم (والكلام فيه تارة : في تحقّق موضوعه في الخارج ) وانّه هل يوجد هكذا إنسان ؟.

( واُخرى : في انّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظّن أم لا ؟ ) بأن يترك وشأنه ، فليس عليه تحصيل الظنّ وان تمكن منه ، بل يبقى على شكه .

( وثالثة : في حكمه الوضعي قبل الظّن وبعده ) وانّه هل هو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين أو كافر محكوم بأحكام الكافرين ؟ .

( أمّا الأوّل : فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز ) إطلاقاً ، فليس هناك من لا يتمكن من تحصيل العلم .

وانّما يقال لذلك لاُمور أوّلاً : ( نظراً الى العمومات الدّالة على حصر الناس في المؤمن والكافر ) فقد قال سبحانه في سورة التغابن : « هُوَ الذّي خَلَقَكُم فَمِنكُم كَافِرٌ وَمِنكُم مُؤمِنٌ ، وَاللّهُ بمَا تَعمَلوُنَ بَصِيرٌ » (1) فان الظّن بالحقّ إذا لم يوجب الايمان ، كان الظان كافراً ، لأنه مقتضى حصر المكلّفين فيهما .

ص: 107


1- - سورة التغابن : الآية 2 .

مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النار ، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر ، فينتج ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وأنّ من نراه قاصراً عاجزاً عن العلم قد يَمكّن عليه تحصيل العلم بالحقّ ولو في زمان مّا وإن صار عاجزاً قبل ذلك أو بعده ، والعقل لايُقَّبِحُ عقاب مثل هذا الشخص .

ولهذا

-------------------

ثانياً : ( مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النّار ) .

ثالثاً : ( بضميمة حكم العقل : بقبح عقاب الجاهل القاصر ) .

والحاصل : إنّ الناس إما مؤمن أو كافر ، ولا ثالث لهما ، والكافر خالد في النار ، ومن إستوجب النار كشف عن انه كان قادراً على الايمان لتمكنه من العلم ، وانّما لم يؤمن تقصيراً ( فينتج ذلك ) الذي بيناه من المقدمات الثلاث ( عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وانّ من نراه قاصراً عاجزاً عن العلم ، قد يمكن عليه تحصيل العلم بالحقّ ولو في زمان مّا ، وإن صار عاجزاً قبل ذلك ) الزمان ( أو بعده ) فانّ الالتفات في زمان مّا ، يوجب صحة العقاب عند العقلاء .

هذا ( والعقل لايقبّح عقاب مثل هذا الشخص ) فانّ من أمره المولى بشيء ، وتمكن من الاتيان بذلك الشيء في وقت ولم يفعله ، صحّ للمولى عقابه .

نعم ، إذا تمكن منه لكن الواجب كان موسعاً فلم يفعله ثم مات أو ماأشبه ذلك ممّا أخرجه عن القدرة ، لم يصح عقابه ، لأنّ المولى هو الّذي أباح له الترك ولو من جهة إجازته باستصحاب الحياة ، وبانّه جامع للشرائط الى آخر وقت الامكان ، ولانريد بذلك : إنّ الاستصحاب الاصطلاحي جارٍ في المقام ، بل نريد : انّ العقلاء يرون إستمرار القدرة الى آخر الوقت والشارع لم يغيره .

( ولهذا ) الذّي ذكرناه : من إنّ الناس على قسمين فقط ، وانّ غير المؤمن كافر

ص: 108

إدّعى غيرُ واحد في مسألة التخطئة والتصويب الاجماعَ على أنّ المخطيء في العقائد غيرُ معذور .

لكنّ الذي يقتضيه الانصافُ : شهادةُ الوجدان بقصور بعض المكلّفين ، وقد تقدّم عن الكليني مايشير إلى ذلك ، وسيجيء عن الشيخ قدس سره ، في العدّة من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم .

هذا مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ، وقضيّةُ مناظرة زُرارة وغيره مع الامام عليه السلام ، في ذلك مذكورةٌ في الكافي .

-------------------

يستحق العقاب ( إدّعى غير واحد في مسألة التخطئة والتّصويب ) المذكورين في باب الاجتهاد في الفروع ( :الاجماع على أنّ المخطيء في العقائد غير معذور ) .

هذا غاية ما يقال في بيان الأمر الأول ، وهو : عدم وجود العاجز عن تحصيل العقائد الحقة .

( لكن الّذي يقتضيه الانصاف : شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين ) عن التأمّل والنظر ، والبحث والفحص ، للوصول الى الحق ( وقد تقدّم عن الكليني مايشير الى ذلك ) حيث قال المصنّف : «وقد أشار الى ذلك رئيس المحدّثين في ديباجة الكافي» ( وسيجيء عن الشيخ قدس سره في العدّة : من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم ) لاتكليف له كما لاتكليف للبهائم .

( هذا مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ، و ) قد تقدّم هنا ( قضية مناظرة زُرارة وغيره ، مع الامام عليه السلام في ذلك ) وهي ( مذكورة في الكافي ) حيث انّ زُرارة كان ينكر الواسطة بين الايمان والكفر ، والامام عليه السلام ينكر عليه ذلك ويثبت الواسطة بينهما .

هذا بالاضافة الى روايات إمتحان بعض الناس في الآخرة ، فانّه لو لم يكن

ص: 109

وموردُ الاجماع ، على أنّ المخطيء آثمٌ ، هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجُهد معذوراً غير آثم .

وأمّا الثاني : فالظاهرُ فيه عدم وجوب تحصيل الظنّ لأنّ المفروض عجزُه عن الايمان والتصديق المأمور به ، ولا دليلّ آخرَ على عدم جواز الوقف ،

-------------------

الناس الاّ مؤمن أو كافر ، لم يكن وجه للامتحان هناك .

( ومورد الاجماع ) الذي قد تقدّم : من أنّهم مجمعون على أنّ المخطيء في العقائد غير معذور ، و ( على انّ المخطيء آثم ، هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ) لا واقعاً ، فإنّ من يبذل جهده واقعاً لابدّ وأن يصيب الواقع لقوله سبحانه : « وَالذّيِنَ جاهَدوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » (1) .

وعليه : ( فلا ينافي كون الغافل ) عن الحّق رأساً ( والملتفت العاجز عن بذل الجهد ، معذوراً غير آثم ) كما نرى في كثير من الذين هم منقطعون عن العلم والعلماء في القرى والأرياف البعيدة .

( وأمّا الثّاني : ) وهو انّه هل يجب عليه مع اليأس من العلم ، تحصيل الظّن ام لا ؟ ( فالظاهر فيه : عدم وجوب تحصيل الظّن ) عليه ، بل يبقى على الشّكَ ( لأنَّ المفروض عجزه عن الايمان والتّصديق المأمور به ) وكذلك عن الاعتقاد ، وما أشبه ، ممّا أمر اللّهُ به الانسانَ .

( ولا دليل آخر على عدم جواز الوقف ) أي : التوقف .

ص: 110


1- - سورة العنكبوت : الآية 69 .

وليس المقامُ من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظنّ مع تعذّر العلم ، لأنّ المقصودَ فيها العملُ ولا معنى للتوقف فيه ، فلا بّد عند إنسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظنّ .

والمقصودُ فيما نحن فيه الاعتقادُ فاذا عجز عنه ، فلا دليلَ على وجوب تحصيل الظنّ الذي لايُغني من الحق شيئاً ، فيندرج في عموم قولهم عليهم السلام : « إذا جَاءَكُم

-------------------

( وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظّن مع تعذّر العلم ) .

إذن : فلا يقاس الاصول بالفروع ، فيقال : كما أنّه يجب تحصيل الظنّ بالفروع إذا لم يتمكّن من العلم والعلمي ، كذلك يجب تحصيل الظنّ بالاصول إذا لم يتمكّن من العلم والعلمي .

وإنّما لايقاس بذلك ( لأنّ المقصود فيها ) أي : في الفروع ( العمل ، ولا معنى للتوقف فيه ) أي : في العمل ، لأنّه إمّا فاعل وإمّا تارك ( فلا بدّ عند إنسداد باب العلم من العمل على طبق أصل ، أو ظنّ ) فان كان في المقام ظنّ عمل به ، وإلاّ تمسّك بالبرائة ، والاستصحاب ، وما اشبه .

( والمقصود فيما نحن فيه ) من مسائل اُصول الدين ( : الاعتقاد ) واليقين ، والتصديق ، وما أشبه ذلك ( فاذا عجز عنه ) أي : عن الاعتقاد ( فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الذّي لايغني من الحقّ شيئاً ) ، كما ورد في قوله سبحانه : « إنَّ الظّنَ لا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً » (1) .

( فيندرج ) هذا الانسان بالنسبة الى العقائد ( في عموم قولهم عليهم السلام : إذا جائَكُم

ص: 111


1- - سورة يونس : الآية 36 .

مالا تَعلَمُون فها » .

نعم ، لو رجع الجاهلُ بحكم هذه المسألة إلى العالم ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّيّ الى الباطل ، فلا يبعدُ وجوبُ إلزامه بالتحصيل ، لأنّ انكشاف الحقّ ، ولو ظنّاً ، أولى من البقاء عى الشكّ فيه .

-------------------

ما لاتَعلَمُون فها ) (1) وأشار بيده عليه السلام الى فيه ، كما قد تقدّمت هذه الرواية .

( نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة ) أي : مسألة انّه هل يجب تحصيل الظّن على من لم يتمكن من العلم ، أو لايجب ؟ ( الى العالم ، ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظّن بالحقّ ، ولم يخف عليه إفضاء نظره الظّني الى الباطل ) حتى يكون الظنّان متساويين بالنسبة اليه ( فلا يبعد وجوب الزامه ) من قبل العالم ( بالتحصيل ) للظّن ( لأنّ إنكشاف الحقّ ولو ظنّاً أولى من البقاء على الشّكَ فيه ) .

قال في الأوثق : « لا يخفى : إنَّ الحكم بالوجوب لايناسب حكمه بعدم وجوب تحصيل الظّن على من لم يتمكن من العلم ، ولو تمّ ما ذكره من الأولوية لثبت وجوب تحصيل الظنّ على نفسه أيضاً » (2) ، انتهى .

ويمكن أن يؤيد اطلاق قول الاوثق بالوجوب على نفسه أيضاً ، أي : سواء بالنسبة الى نفسه أو بالنسبة الى أمر العالم له بما ورد من قوله : صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إذا أمرتُكُم بَشيءٍ ، فَأتُوا منه ما استَطَعتُم » (3) وقوله أيضاً : « ما لايُدَرك كُلّه لايُتَرك

ص: 112


1- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .
2- - أوثق الوسائل : ص241 كفاية الجزم الحاصل من التقليد في الاعتقاديات .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .

وأمّا الثالث : فان لم يُقِرَّ في الظاهر بما هو مناط الاسلام ، فالظاهرُ كفرهُ ، وإن أقرّبه مع العلم بأنّه شاكّ باطناً فالظاهرُ عدمُ إسلامه ، بناءا على أنّ الاقرار الظاهريّ مشروط بإحتمال إعتقاده لما يقرُّ به .

-------------------

كلّه »(1) .

وقوله تعالى : « يُريُد اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ . . . » (2) .

وأشباه ذلك ، ممّا يدلّ على أن الواجب هو : تحصيل الجزم فاذا لم يتمكن من تحصيله وتمكن من تحصيل الظّن القوي كان لازماً ، وهكذا إذا لم يتمكن من تحصيل الظّن القوي وتمكن من تحصيل الظّن الضعيف ، وإن كان كل ذلك مورد تأمّل .

اَللّهم الاّ أن يقال : انّه واجب ، لأنّ الأمر تدريجي ، فربّما يحصل بعد الظنّ الجزم ، كما أنّه ورد في عكسه : « لا تَرتابُوا فَتَشكُوا ، وَلا تَشكُوا فَتكفُروا » (3) .

( وأمّا الثالث : ) وهو حكمه الوضعي قبل الظنّ وبعده ( فانّ لم يقرّ في الظّاهر بما هو مناط الاسلام ) من العقائد الثلاثة : الالوهية ، والنبّوة ، والمعاد ( فالظّاهر كفره ) لشمول أدّلة الكفر لمن أنكر أحد الثلاثة .

( وإنْ أقرّ به مع العلم بأنه شاك باطناً ) بأن علمنا : انّه شاك باطناً لكنّه يقرّ بالاصول الاسلامية ظاهراً ( فالظاهر عدم إسلامه ، بناءاً على أنّ الاقرار الظاهري مشروط باحتمال ) نا ( إعتقاده لما يقرّ به ) .

لكن ذلك ينقض بالمنافق ، حيث نعلم : بانّه لايعتقد ومع ذلك يحكم باسلامه

ص: 113


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .

وفي جريان حكم الكفر عليه إشكالٌ : من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاكّ .

ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود .

مثل رواية محمّد بن مُسلم ، قال : « سَأَلَ أَبُو بَصير أَبا عَبِد اللّهِ عليه السلام ، قال : ما تَقُول فِيمَن شَكّ فِي اللّهِ ؟ قالَ : كافرٌ ، ياأبا مُحمّد ، قال : فشكّ في رسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : كافرٌ ، ثمّ إلتفت إلى زُرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جَحَد » .

-------------------

ظاهراً ، إذا أقرّ بالاصول الثلاثة ، والتزم بأحكام الاسلام ظاهراً ، كالمنافقين الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وإنّما قلنا : والتزم بأحكام الاسلام ظاهراً ، في قبال من يريد الوصول الى مآربه من الكفار ، كالزواج بمسلمة ، أو ما أشبه ذلك ، فيأتي بالشهادتين لا يتجاوز بهما لسانه ، فانّ الأدلة لا تشمله قطعاً ، كما سبق الالماع اليه .

وكيف كان : فعلى ماذكره المصنّف يتفرّع قوله : ( وفي جريان حكم الكفر عليه إشكال ، من : إطلاق بعض الأخبار بكفر الشّاك ) وهذا شاك فهو كافر .

( ومن تقييده في غير واحد من الأخبار : بالجحّود ) ومقتضى حمل المطلق على المقيد أن نقول : بأنّ الجاحد كافر ، لا الشاك .

( مثل : رواية محمّد بن مسلم قال : سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السلام ، قال : ماتقول فيمن شّكَ في اللّه ؟ قال : كافرٌ ياأبا محمّد ، قال : فشك في رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ قال : كافر ، ثم التفت الى زُرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جَحَد ) (1) فهو تقييد للكفر بما إذا كان جاحداً ، وتصلح هذه الرّواية للجمع بين الطائفتين .

ص: 114


1- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 .

وفي رواية اُخرى:«لو أنّ الناسَ إذا جَهلُوا وَقَفُوا ولم يَجحَدُوا لم يَكفُروا» .

ثمّ إنّ جحودَ الشاكّ يحتملُ أن يراد به إظهارُ عدم الثبوت وإنكار التديّن به ، لأجل عدم الثبوت ، ويحتمل أن يراد به الانكارُ الصوريّ على سبيل الجزم . وعلى التقديرين ، فظاهرها أنّ المقرَّ ظاهراً ، الشاكَّ باطناً الغيرَ المظهر لشكّه ، غيرُ كافر .

ويؤيّد هذا روايةُ زرارة الواردةُ في تفسير قوله تعالى : « وآخَروُن

-------------------

( وفي رواية أخرى : « لو أنَّ النّاسَ إذا جَهلُوا وقَفَوُا ولم يَجْحَدوا لم يَكفُروُا » ) (1) كما تقدمت هذه الرواية .

( ثمّ إنًّ جحود الشّاكَ يحتمل أن يراد به ) أي : بالجحود ( : إظهار عدم الثبوت ، وإنكار التّدين به لأجل عدم الثبوت ) فيقول : إنَّ رسالة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : غير ثابتة لديّ ، أو ما أشبه هذه العبارة .

( ويحتمل أن يراد به : الإنكار الصّوري على سبيل الجزم ) فيقول : إني أعتقد أنَّ محمداً صلى اللّه عليه و آله وسلم ليس رسولاً ، هكذا يقول بلسانه ، وهو في قلبه شاك في انّه رسول أو ليس برسول ، ولا يبعد أن تشمل الرّواية كلتا الصورتين .

( وعلى التقديرين فظاهرها ) أي : هذه الروايات ( انَّ المقرّ ظاهراً ) باصول الاسلام ( الشّاكَ باطناً غير المظهر لشكّه ) وإنّما يظهر الشهادتين ( غير كافُر ) ويعامل معاملة المسلمين .

( ويؤيد هذا ، رواية زُرارة الواردة في تفسير قوله تعالى : « وآخَروُنَ

ص: 115


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح9 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

مرجون لأمرِ اللّهِ » ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « قومٌ كانُوا مُشركِينَ ، فَقَتَلوُا مثلَ حَمزةَ وجَعفَر وأشبهاهَهُما مِنَ المؤُمِنينَ ، ثمّ إنُّهْم دَخلوُا فِي الإسلام فَوحَّدوا اللّه وتَركُوا الشِّركَ ، وَلمَ يَعرِفُوا الإيمانَ بِقلوبِهم فَيكُونوا مُؤمِنينَ فَيجِبُ لَهمُ الحسنى ، وَلم يَكُونُوا عَلى جُحودِهِم فَيكفُرُوا فَيَجِبُ لَهمُ النارُ ، فَهُم عَلى تِلكَ الحالة ، امّا يُعذّبهُم وَإما يَتوُبُ عَليَهِم » ، وقريبٌ منها غيرها .

ولنختم الكلام بذكر كلام السّيد الصدر الشارح للوافية ، في أقسام المقلّد في اُصول الدّين ، بناءا على القول بجواز التقليد ، وأقسامه بناءا على عدم جوازه .

-------------------

مُرجُونَ لأمر اللّه ... » (1) ، عن أبي جعفر عليه السلام قال عليه السلام : قَومٌ كانوا مشُركينَ فَقَتَلوا مثل حَمزة ، وجَعفر ، وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ أنهم دخلوا في الاسلام ووحّدوا اللّه ، وتركوا الشّرك ولم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الحسنى ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النّار ، فهم على تلك الحالة ، إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم ) (2) .

لكن لايخفى : انّ اللّه سبحانه يرجّح أحد الأمرين حسب ميزان الحكمة بمؤهلاتهم الموجبة للجنّة أو النار ، لا انّه سبحانه يرجح أحد الأمرين إعتباطاً .

( وقريب منها غيرها ) من سائر الروايات .

( ولنختم الكلام بذكر السّيد الصّدر الشارح للوافية في اقسام المقلّد في اصول الدّين ، بناءاً على القول بجواز التقليد ) في اصول الدين ( وأقسامه بناءاً على عدم جوازه ) اي : التقليد في اصول الدين .

ص: 116


1- - سورة التوبة : الآية 106 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص407 ح1 .

قال : « إنّ أقسامَ المقلّد على القول بجواز التقليد ستّةٌ ، لأنّه إمّا أن يكون مقلّدا في مسألة حقّة أو في باطلة .

وعلى التقدير إمّا أن يكون جازماً بها ، أو ظانّاً ، وعلى تقديريّ التقليد في الباطل إمّا أن يكون إصرارهُ على التقليد مبنياً على عناده وتعصّبه بأن حصل له طريق علم فما سلكه وإمّا لا ، فهذه أقسام ستّة .

فالأوّلُ : وهو من قلّد في مسألة حقّة جازماً بها ، مثلاً : قلّد في وجود

-------------------

وذلك ان الاقسام في كل من السلب والايجاب وإن كانت متساوية ذاتاً إذ لايعقل أقسام في الايجاب لايقابلها أقسام في السلب : إلاّ أنَّ المعيار في المقام حسب الأدلة الشرعية مختلف ، ولذا صار عدد الاقسام في جانب تختلف عن عدد الاقسام في الجانب الآخر .

( قال : إنَّ أقسام المقلّد على القول بجواز التقليد ) في اُصول الدين ( ستة : لأنّه امّا أن يكون مقلداً في مسألة حقّة ) مثل : توحيد اللّه سبحانه وتعالى ( أو في باطلة ) مثل : تعدد الآلهة .

( وعلى التقديرين : امّا أن يكون جازماً بها ، أو ظانّاً ) فهذه أقسام أربعة .

( وعلى تقديري التّقليد في الباطل ، إمّا أن يكون إصراره على التقليد ، مبنيّاً على عناده وتعصّبه بأن حصل له طريق علم فما سلكه ، وامّا لا ) .

وعليه : فالتقليد في الحقّ له قسمان ، والتقليد في الباطل له أربعة أقسام ( فهذه أقسام ستة ) بحسب الأقسام التي نريد فيها بعد ترتيبها على هذه الأقسام ، والاّ فان من الممكن تنويع الاقسام الى أكثر من ذلك .

( فالأوّل : وهو من قلّد في مسألة حقة جازماً بها ، مثلاً : قلّد في وجود

ص: 117

الصانع وصفاته وعدله ، فهذا مؤمنٌ .

وإستدلّ عليه بما تقدّم حاصله ، أنّ التصديق معتبر من أيّ طريق حصلَ إلى أن قال :

الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّاً بها من دون جزم ، فالظاهرُ إجراءُ حكم المسلم عليه في الظاهر ، إذ ليس حالهُ بأدونَ من حال المنافق ، سيّما إذا كان طالباً للجزم مشغولاً بتحصيله فمات قبل ذلك .

-------------------

الصانع وصفاته وعدله ) ورسالة الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين ، والمعاد ، وإمامة الائمة الطاهرين عليهم السلام ( فهذا مؤمن ) له كل أحكام الايمان في الدنيا والآخرة .

( وإستدل عليه بما تقدّم حاصله : إنَّ التّصديق معتبر من أيّ طريق حصل ) فان هذا مصدق بكلّ اُصول الدين وان كان طريقه التقليد ، والمفروض : انّه جازم بتلك الاصول .

( الى أن قال : الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّاً بها من دون جزم ، فالظّاهر : إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر ) فيجوز بالنسبة اليه : الذبح ، والنكاح ، والارث ، والدّفن في مقبرة المسلمين ، وغير ذلك ( اِذ ليس حاله بأدون من حال المنافق ) الذي نعلم بأن قلبه مخالف للحق ، ومع ذلك نجري عليه أحكام الاسلام ، كما كان يفعله الرسول والائمة الطاهرون عليهم السلام بالنسبة الى المنافقين ، حتى الذين شهد اللّه سبحانه وتعالى بنفاقهم ، كما في عبد اللّه بن اُبي ، ونحوه .

( سيمّا إذا كان طالباً للجزم ، مشغولاً بتحصيله ) غير مقصّر في الطلب ( فمات قبل ذلك ) أي : قبل أن يحصل على الجزم بها .

ص: 118

أقول : هذا مبنيّ على أنّ الاسلام مجرّد الإقرار الصوريّ وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد .

وفيه : ما عرفت من الاشكال وإن دلَّ عليه غير واحد من الأخبار .

الثالث : من قلّد في باطل ، مثل إنكار الصانع أو شيئا ممّا يعتبر في الايمان ، فجزم به من غير ظهور حَقّ ولا عِناد .

الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به كذلك .

والظاهر في هذين إلحاقُهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة .

-------------------

( أقول هذا ) الكلام من السّيد الصدر في القسم الثاني ( مبني على أنَّ الاسلام : مجرد الاقرار الصّوري وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد ) بل وان علم بعدم المطابقة للاعتقاد كما في المنافق .

( وفيه : ما عرفت من الاشكال ، وان دلّ عليه غير واحد من الأخبار ) فقد تقدّم : انَّ هذا هو مقتضى القاعدة لما وجدناه من سيرة الرسول والائمة الطاهرين عليهم السلام .

( الثالث : من قلّد في باطل ، مثل : انكار الصانع ، أو شيئاً ممّا يعتبر في الايمان ) كالنبوة ، والامامة ، والمعاد ، والعدل ( فجزم به من غير ظهور حق ولا عناد ) والظاهر : ان كلمة : « ظهور » ، زائدة ، إذ قوله بعد ذلك : « والظاهر في هذين : اِلحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة » ، إنّما هو تابع لعالم الثبوت لاعالم الاثبات ، لانه ان كان عن عناد لم يمتحن في الآخرة ، فانّ المعاند مصيره النار .

( الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به ) أي : بذلك الباطل ( كذلك ) أي : من غير ظهور حق ولاعناد .

( والظاهر في هذين : الحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة ) فانّ

ص: 119

وأمّا في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقد اما يوجبه ، وبالإسلام إن لم يكونا كذلك ، فالأوّل كمن أنكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم مثلاً ، والثاني كمن أنكر إماماً .

الخامس : من قلّد في باطل جازماً مع العناد .

السادس : من قلّد في باطل ظانّاً كذلك ، وهذان يُحكمُ بكفرهما مع ظهور الحقّ والإصرار .

-------------------

كل قاصر يقام عليه الحجّة يوم القيامة ، فان أطاع دخل الجنّة ، وان عصى دخل النار ، وذلك حسب ما دلّ عليه العقل والأخبار .

( وأمّا في الدّنيا فيحكم عليهما بالكفر إنّ اعتقدا ما يوجبه ) أي : ما يوجب الكفر ( وبالاسلام إن لم يكونا كذلك ) بأن إعتقدا ما يوجب الاسلام ، وقوله : « بالاسلام » ، عطف على قوله :« بالكفر » .

( فالأوّل : كمن أنكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم - مثلاً - ) .

( والثاني : كمن أنكر اِماماً ) فان منكر النبيّ كافر ، أما منكر الامام فهو مسلم ، كالمخالفين .

( الخامس : من قلّد في باطل جازماً مع العناد ) والاصرار عليه .

السادس : من قلّد في باطل ظانّاً كذلك ) أي : مع العناد والاصرار عليه .

( وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحقّ ) لهما ( والاصرار ) على ما قلدا فيه من الباطل .

هذا ، ولا يخفى مواضع الضعف في هذا التقسيم والحكم في الاقسام المذكورة ، ولكن حيث لايهمنا التعرّض لمسألة اُصول الدين في هذا المقام ، نتركه لموضعه في كتب اُصول الدين .

ص: 120

ثمّ ذكر أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ، قال : إنّه إمّا أن يكون مقلّداً في حقّ أو في باطل ، وعلى التقديرين مع الجزم أو الظنّ .

وعلى تقديري التقليد في الباطل بلا عناد أو به ، وعلى التقادير كلّها دلّ عقله على الوجوب أو بيّن له غيره ، وعلى الدلالة أصرّ على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعدُ او لا .

فهذه أقسامٌ أربعةَ عَشرَ :

-------------------

( ثمّ ذكر ) السّيد الصدر ( أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ) وقوله : « ثم » عطف على قوله قبل أسطر : « اِنَّ أقسام المقلد على القول بجواز التقليد ستة » .

( قال : إنّه امّا أن يكون مقلّداً في حقّ ، أو في باطل ) وقد مثّلنا لكلّ منهما .

( وعلى التقديرين : مع الجزم ، أو الظّن ) فهذه أقسام أربعة .

( وعلى تقديري التقليد في الباطل ) أي : القسمان الاخيران ( بلا عناد أو به ) أي : بالعناد فهذه أقسام ستة .

( وعلى التقادير كلّها ) أي : الستة المذكورة ( دلّ عقله على الوجوب ) أي : وجوب النظر ( أو بيّن له غيره ) بأن لم يدله عقله على وجوب النظر ، لكن غيره كالمجتهد - مثلاً - بيّن وجوب النظر عليه ، فيكون بيانه حجّة على هذا المقلد .

( وعلى الدّلالة ) بسبب عقله أو بسبب غيره ( أصرّ على التقليد ، أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد ) أي : رجع قبل أن يتقن الاصول بالاستدلال .

( أو لا ) أي : لم يدله عقله على وجوب النظر ، ولم يبيّن له غيره .

وعليه : ( فهذه أقسام أربعة عشر ) من أقسام المقلد على القول بعدم

ص: 121

الأوّل : التقليدُ في الحقّ جازماً مع العلم بوجوب النظر والاصرار ، فهو مؤمن فاسق ، لاصراره على ترك الواجب .

الثاني : هذه الصورةُ مع ترك الاصرار والرجوعُ ، فهذا مؤمن غير فاسق .

الثالث : المقلّد في الحقّ الظانّ مع الاصرار ، والظاهر أنّه مؤمن مُرجيَ في الآخرة ، وفاسق ، للاصرار .

الرابعُ : هذه الصورةُ مع عدم الاصرار ، فهذا مؤمن ظاهراً غيرُ فاسق .

-------------------

جواز التقليد ، ثم ذكر الاقسام مفصلاً فقال :

( الأوّل : التقليد في الحقّ جازماً ، مع العلم بوجوب النّظر ، والاصرار ) على ما جزم به من دون أن ينظر ويفحص ( فهو مؤمن فاسق ، لإصراره على ترك الواجب ) .

أما كونه مؤمناً : فلأنه يعتقد بالحق كمن يصل الى المقصد تقليداً فانّه قد وصل ، وإما انه فاسق : فلانه قد ترك الواجب حيث لم يبحث عن الطريق .

( الثّاني : هذه الصّورة مع ترك الاصرار ، والرجوع ) عن إصراره الى الفحص والنظر ( فهذا مؤمن غير فاسق ) لأنه لم يترك الواجب من الفحص والنظر .

( الثالث : المقلّد في الحقّ الظّانّ مع الاصرار ، والظاهر : انّه مؤمن مرجي في الآخرة ، وفاسق للاصرار ) على ترك ما يجب عليه من النظر ، قال سبحانه : « وآخَروُنَ مُرجَونَ لأمرِ اللّهِ إما يُعذّبُهُم وإمّا يَتُوبُ عَليهم » (1) .

( الرابع : هذه الصورة مع عدم الاصرار فهذا مؤمن ظاهراً غير فاسق ) وإنما لم يكن فاسقاً ، لأنه لم يصّر على ترك النظر .

ص: 122


1- - سورة التوبة : الآية 106 .

الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازماً أو ظانّاً مع عدم العلم بوجوب الرجوع ، فهذان كالسابق بلا فسق .

أقول : الحكم بايمان هؤلاء لايجامعُ فرضَ القول بعدم جواز التقليد ، إلاّ أن يريد بهذا القول قول الشيخ قدس سره ، من وجوب النظر مستقلاً ، لكن ظاهره إرادة قول المشهور ، فالأولى الحكُم بعدم إيمانهم على المشهور ، كما يقتضيه إطلاقُ مَعْقَد إجماع

-------------------

( الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازماً أو ظانّاً مع عدم العلم بوجوب الرّجوع فهذان كالسّابق ) مؤمنان ( بلا فسق ) وانّما لم يكونا فاسقين ، لأنهما لم يعلما بوجوب الرجوع حتى يرجعا .

( أقول الحكم ) من السيد الصدر ( بايمان هؤلاء ، لا يجامع فرض القول بعدم جواز التقليد ) حيث إنَّ مقصد السيد الصدر في هذه الاقسام هو : عدم جواز التقليد فكيف يكون هذا الانسان مؤمناً مع انّه يقلد ، والحال انه لايجوز التقليد ؟ .

( إلاّ أن يريد بهذا القول ، قول الشيخ قدس سره من وجوب النظر مستقلاً ) أي : من غير إرتباط بالايمان ، فالنظر واجب مستقل ، وهذا الانسان حيث إعتقد عن طريق التقليد ، فهو مؤمن ، وحيث ترك النظر فهو فاسق .

هذا ( لكن ظاهره ) أي : ظاهر السيد الصدر ( : إرادة قول المشهور ) : من عدم كون وجوب النظر واجباً مستقلاً ، وانّ كلّما وجب فيه النظر فلم ينظر ، كان التارك للنظر غير مؤمن .

اذن : ( فالأولى : ) حسب قول المشهور ( : الحكم بعدم إيمانهم ) هؤلاء ، الذين ذكر السيد الصدر : إنّهم مؤمنون .

وانّما نحكم بعدم ايمانهم ( على المشهور ، كما يقتضيه إطلاق مَعْقَد إجماع

ص: 123

العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ، لأنّ الايمانَ عندهم المعرفةُ الحاصلةُ عن الدليل لا التقليد ، ثمّ قال :

السابع : المقلّد في الباطل جازماً معانداً مع العلم بوجوب النظر ، فهذا أشدّ الكافرين .

الثامن : هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضاً كافر .

ثمّ ذكر الباقي وقال :

-------------------

العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ) وقد تقدّم نقله عنه رحمه اللّه ، وذلك ( لأنّ الايمان عندهم ) أي : عند المشهور ( المعرفة الحاصلة عن الدّليل ، لا التقليد ) فكلّما كان تقليد ، لم يكن إيمان .

( ثمّ قال ) السيد الصدر : ( السابع : المقلّد في الباطل جازماً معانداً ، مع العلم بوجوب النظر فهذا أشدّ الكافرين ) .

وهو إنّما يكون كافراً ، لأنه مبطل في عقيدته ، وانّما يكون أشدهم كفراً ، لأنه معاند .

( الثامن : هذه الصّورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضاً كافر ) ان مات ولم يرجع عن إعتقاده الباطل ، لانّه لم يعتقد بالحق ، لكنّه ليس بمنزلة السابع ، لانّه لم يكن معانداً .

( ثمّ ذكر الباقي وقال ) :

التاسع : هذه الصورة من غير علم بالوجوب ، وهذا أيضاً كافر .

العاشر : هذه الصورة من غير عناد .

الحادي عشر : المقلّد في الباطل الظّان ، معانداً مع العلم والاصرار .

الثاني عشر : بلا إصرار .

ص: 124

إنّ حكمها يظهر ممّا سبق » .

أقول : مقتضى هذا القول الحكُم بكفرهم ، لأنّهم أولى به من السابقين .

بقي الكلام فيما نسب إلى الشيخ في العدّة من القول بوجوب النظر مستقلاً مع العفو ،

-------------------

الثالث عشر : بلا علم .

الرابع عشر : بلا عناد .

ثم أضاف قائلاً : ( ان حكمها ) أي : حكم بقية الصور التي لم يذكر حكمها ( يظهر ممّا سبق ) (1) إنتهى كلام السيد الصدر .

( أقول : مقتضى هذا القول : الحكم بكفرهم ، لأنهم أولى به من السّابقين ) ومراد المصنّف هو : إنّ الحكم بفكر المقلدين في الباطل على القول بعدم جواز التقليد ، أولى من الحكم بكفر المقلدين في الحقّ على القول بعدم جواز التقليد ، وقد تقدّم : انَّ مقتضى قول المشهور : من عدم جواز التقليد في اُصول الدّين ، هو : الحكم بكفر المقلد في الحقّ ، فاذا كان المقلد في الحق كافراً ، فالمقلد في الباطل أولى أن يكون كافراً .

( بقي الكلام فيما نسب الى الشيّخ في العدّة : من القول بوجوب النّظر مستقلاً مع العفو ) بمعنى : إنّه إذا لم ينظر في اُصول الدين ليعتقد بها عن دليل ، لكنّه وصل الى الحق فقد فعل حراماً ، لأنّه ترك الواجب من النظر ، لكن هذا الحرام الذي فعله يعفى عنه في الآخرة ، كالعبد الّذي أمره المولى بأن يسأل الناس عن طريق النجف ويذهب اليه ، فلم يسأل أحداً وذهب إعتباطاً ، لكنّه وصل الى النجف صدفة ، فانّه

ص: 125


1- - شرح الوافية : مخطوط .

فلابّد من نقل عبارة العدّة ، فنقول :

قال في باب التقليد ، بعد ما ذكر إستمرار السيرة على التقليد في الفروع والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول ، مستدّلاً بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العاميّ معرفة الصلاة وأعدادها : « وإذا كان لايتمّ ذلك الاّ بعد معرفة اللّه ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لايصحّ التقليد في ذلك » .

-------------------

فعل الحرام في عدم إطاعة المولى ، لكن المولى يعفو عنه لأنه وصل الى النجف الذي هو مقصود المولى .

( فلا بّد من نقل عبارة العُدّة ) للشيخ الطوسي قدس سره ( فنقول : قال في باب التقّليد بعد ما ذكر إستمرار السّيرة على التّقليد في الفروع : ) فانه لاتزال سيرة المتّدينين على التقليد في مسائل الصوم ، والصلاة ، والحج ، والنكاح ، وغيرها .

قال : ( والكلام في عدم جواز التّقليد في الاُصول ) أي : في اصول الدين ( مستدلاً بأنّه لا خلاف في انّه يجب على العامي معرفة الصّلاة وأعدادها ) وكذلك معرفة سائر ما وجب على الانسان من الفروع ، من الطهارة الى الديّات ( واذا كان لايتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة اللّه ) أي : العلم باللّه سبحانه وتعالى ( ومعرفة عدله ، ومعرفة النبّوة ) والامامة ( وجب ان لايصح التقليد في ذلك ) أي : في كلّ واحد واحد من المعارف المذكورة .

وإنّما تتوقف معرفة الأحكام الفرعية على معرفة الاصول ، لأنّه إذا لم يعرف اللّه ، فلم يصليّ ؟ واذا لم يعرف عدله فلماذا يصليّ ؟ اذ المصلي وغير المصلي في عرف الظالم على حد سواء ، ولذا يقول المنكر لعدل اللّه سبحانه : بأنّ من المحتمل أن يدخل اللّه الانبياء النار ، والفراعنة الجنّة ، كما انه اذا لم يعرف النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يؤدّ الصلاة ، لأنَّ الصلاة إنّما جاء بها النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ص: 126

ثمّ إعترض : بأنّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاُصول وعدم الإنكار عليهم .

فأجاب : بأنّ على بطلان التقليد في الاُصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك ، وهذا كافٍ في النكير .

-------------------

هذا ولم يذكر الشيخ رحمه اللّه المعاد ، لأنّ معرفته مندرجة في معرفة عدل اللّه تعالى ، وإلاّ فالفروع أيضاً متوقفة على معرفة المعاد ، فانّه اذا لم يكن معاد لم يكن ملزم للانسان في عمل الواجبات وترك المحرمات .

( ثمّ إعترض : بأنَّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع ) وانه يصح التقّليد بالنسبة إليهم ، فلا يلزمون بالاجتهاد في فروع الدين ( كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاُصول وعدم الإنكار عليهم ) فان الغالب من المسلمين يقلّدون في اصول الدين ، والعلماء لاينكرون عليهم كونهم مقلّدين .

( فأجاب : بأنَّ على بطلان التقليد في الاصول أدّلة عقليّة وشرعيّة ، من كتاب ، وسنّة ، وغير ذلك ) .

فالدليل العقلي هو : إنّ غير العلم لا يكون مؤمّنا .

ودليل الكتاب قوله تعالى : « فاعلَم انَّهُ لا اِلَهَ اِلاّ اللّه » (1) وغيره من الآيات .

ودليل السّنة : روايات متواترة كما في كتب الأحاديث .

ومراد الشيّخ من قوله : وغير ذلك ، هو : الاجماع .

( وهذا كافٍ في النكير ) على المقلدين في اصول الدين .

ص: 127


1- - سورة محمد : الآية 19 .

ثم قال : إنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئاً في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه .

وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدّمنا ، لأنيّ لم أجد أحداً من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام ، قطع موالاة من يسمع قولهم وإعتقد مثلَ إعتقادهم وإن لم يستند ذلك الى حجّة من عقل أو شرع .

ثمّ إعترض : على ذلك بأنّ ذلك لايجوز ، لأنّه يؤدّي إلى الاغراء بما لايأمن أن يكون جهلاً .

-------------------

( ثمّ قال ) شيخ الطائفة رحمه اللّه : ( انَّ المقلّد للحق في اصول الدّيانات - وإن كان مخطئاً في تقليده - ) لكنّه ( غير مؤاخذ به ) أي : بالتقليد ، وقوله : « غير مؤاخذ » ، خبر : « إنَّ » ( وانّه معفوّ عنه ) في ترك هذا الواجب ، لأنّه وصل الى الحق .

( وإنّما قلنا ذلك ) أي : انّه غير مؤاخذ ( لمثل هذه الطّريقة التي قدّمنا ) والمراد بهذه الطريقة : السيرة في عدم إنكار العلماء على المقلدين في أصول الدين تقليدهم .

قال : ( لأني لم أجد أحداً من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام ، قطع موالاة من يسمع قولهم ) والمراد بقوله : «من يسمع قولهم» : المقلدون الذين يسمعون قول الأئمة عليهم السلام ، وكذلك قول العلماء ( واعتقد ) أولئكَ المقلدون ( مثل : اعتقادهم ) في اصول الدين ( وإن لم يستند ذلك ) الاعتقاد من المقلدين في اصول الدين ( الى حجّة من عقل أو شرع ) بل كان مجرد تقليد .

( ثمّ إعترض ) الشيخ رحمه اللّه بنفسه ( على ذلك ) أي : على جواز التقليد في اصول الدين ، وقال ( بأنَّ ذلك ) التقليد في الاُصول ( لايجوز ، لأنّه يؤدّي الى الاغراء بما لا يأمن أن يكون جهلاً ) إذ لو علم الشخص : بأن التقليد في اصول الدين جائز ،

ص: 128

وأجاب : بمنع ذلك ، لأنّ هذا المقلّد لايمكن أن يعلمَ سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ، لأنّه إنّما يمكنه معرفةُ ذلك إذا عرف الاصول وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه ، فكيف يكون إسقاطُ العقاب مغرياً ، وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلمُ بالاصول وسَبروا أحوالهم وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ،

-------------------

ترك النظر والاجتهاد ، وإذا ترك النظر والاجتهاد إحتمل أن يكون قد وصل في تقليده الى خلاف الواقع ، فيكون المجوّز لترك النظر موجباً لإغراء المقلد بالجهل .

( وأجاب بمنع ذلك : ) أي : الاغراء بالجهل ( لأنَّ هذا المقلّد لايمكن أن يعلم سقوط العقاب عنه ) إذا قلّد ولم ينظر ويجتهد ( فيستديم الاعتقاد ) أي : فلا يستديم الاعتقاد الحاصل له من التقليد وترك النظر .

وذلك ( لأنّه إنّما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول ) يعني : عرف مسائل اصول الدين التي منها مسألة سقوط العقاب عن المقلد في المعارف عن اجتهاد ونظر،( وقد فرضنا : انّه مقلّد في ذلك كلّه فكيف يكون اسقاط العقاب مغرياً ) له.

هذا وقد حكى : انّ عبارة شيخ الطائفة نقلها الشيخ المصنّف بالمعنى ، وهي في العُدّة هكذا : « وذلك لايؤدّي الى شيء من ذلك ، لأن هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم أنَّ ذلك سائغ له ، فهو خائف عن الإقدام على ذلك ، ولا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه ، فيستديم الاعتقاد » الى آخر ما ذكره المصنّف .

( وانّما يعلم ذلك ) أي : كون الاُصول عن تقليد حقّاً مطابقاً للواقع ( غيره ) أي :

غير المقلّد ( من العلماء الذّين حصل لهم العلم بالاصول ، وسَبروا أحوالهم ) وفقاً لما حصل لهم من العلم ( وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ،

ص: 129

ولا يسوغ ذلك لهم إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم . وذلك يخرجه من باب الاغراء .

وهذا القدر كافٍ في هذا الباب إنشاء اللّه تعالى .

وأقوى ممّا ذكرنا

-------------------

ولا يسوغ ذلك ) أي : عدم الإنكار من العلماء ( لهم ) أي : للمقلدين ( إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ) أي : عن المقلدين في اصول الدين .

( وذلك يخرجه من باب الاغراء ) فلا يكون سكوتهم عليهم إغراءاً لهم بالجهل .

( وهذا القدر ) أي : هذا المقدار من البيان الذي ذكرناه نحن شيخ الطائفة ( كافٍ في هذا الباب إنشاء اللّه تعالى ) أي : باب حكم التقليد في اصول الدين وان التقليد في الحقّ عصيان ، لكنّه غير معاقب عليه .

والحاصل من كلام الشيخ : إنّ الصلاة ونحوها متوقفة على المعرفة والمعرفة لازمة ، ولا تكون المعرفة إلاّ بالنظر والاجتهاد ، لا بالتقليد ، إلاّ أنّه لو قلّد عفي عنه ، لأن الأئمة عليهم السلام ومن حذا حذوهم من العلماء ، لم يقاطعوا المقلدين في اصول الدين .

وإنّما نقول بأن ترك النظر في اصول الدين عصيان ، لما دلّ من الأدلة اللفظية كتاباً وسنّة على وجوب النظر ، وترك الواجب معصية .

ثم انّ هذا الكلام من شيخ الطائفة حيث كان دالاً على إنَّ كل المقلدين في اصول الدين يرتكبون العصيان بترك النظر ، أضرب عنه وفصّل : بانّه اذا كان المقلد قادراً على المعرفة بالنظر ، وجب عليه النظر ، وإلاّ لم يجب ، وذلك حيث قال قدس سره : ( وأقوى ممّا ذكرنا ) : من إطلاق العصيان على المقلّدين ، هو التفصيل

ص: 130

أنّه لا يجوز التقليد في الاُصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل .

ومن ليس له قدرة على ذلك أصلاً فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست بمكلّفة بحال » ، إنتهى .

وذكر ، عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد ، ماهو قريب من ذلك .

قال : « وأمّا ما يرويه قوم من المقلدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وان كان مخطئاً معفوٌ عنه

-------------------

فيه وذلك : ( إنّه لايجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلد طريق الى العلم به ) أي : بالاصول ( امّا على جملة أو تفصيل ) أي : علماً إجمالياً أو علماً تفصيلياً .

( و ) أما ( من ليس له قدرة على ذلك ) العلم ( أصلاً ) لا إجمالاً ولا تفصيلاً ( فليس بمكلّف ) هذا بالنظر ، بل يكفيه التقليد ، لأنّه غير قادر على النظر ، وغير القادر ليس بمكلف ( وهو بمنزلة البهائم الّتي ليست بمكلفة بحال ) (1) ، فان البهائم ليست مكلّفة أصلاً ، أمّا غير القادر من الناس فليس بمكلف بالنظر وان كان مكلفاً بالتقليد ( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( وذكر ) الشيخ أيضاً ( عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد ماهو قريب من ذلك ) الذي نقلناه عنه من العُدّة و ( قال : وأمّا ما يرويه ) من الروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام ( قوم من المقلّدة ) والمراد بهم : الذين يقلّدون في اصول الدين ( فالصحيح الّذي أعتقده : انّ المقلّد للحق وإن كان مخطئاً ) في انّه يقلد ، إلا أنّه ( معفوّ عنه ) بمعنى : انّه لايعاقب على العصيان المذكور .

ص: 131


1- - عدّة الاصول : ص294 .

ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا تركُ ما نقلوه » ، انتهى .

أقول : ظاهر كلامه قدس سره ، في الاستدلال على منع التقليد بتوقّف معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة اُصول الدّين ، أنّ الكلامَ في المقلّد الغير الجازم ،

-------------------

ثم قال : ( ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ) حتى نعده فاسقاً ( فلا يلزم على هذا ) أي : لأجل التقليد في اصول الدين ( ترك مانقلوه ) (1) من الروايات ، لأنهم إذا كانوا فساقاً لا يصح الاعتماد عليهم ، أمّا إذا كان فسقهم معفواً عنه ، صح أن يكونوا أئمة للصلوات ، وشهوداً ، ورواة للحديث ، وغير ذلك ( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( أقول : ظاهر كلامه قدس سره في الاستدلال على منع التقليد بتوقف معرفة الصلاة وإعدادها على معرفة اُصول الدّين ) ممّا ذكرناه سابقاً : بأن الصلاة ونحوها متوقفة على المعرفة ، فالمعرفة لازمة ، لأنَّ الصلاة لازمة ، وما يتوقف عليه اللازم لازم ، ولا تكون المعرفة إلاّ بالنظر ، فلا يجوز التقليد ، إلاّ أنّه لو قلد عفي عنه ، لأن الائمة عليهم السلام وسائر العلماء الذين هم على سيرتهم لم يقاطعوا المقلدين في اصول الدين ولم ينكروا عليهم فظاهر إستدلال الشيخ على منع التقليد هو : ( انّ الكلام في المقلّد غير الجازم ) لأنّه إذا كان جازماً فقد حصلت له المعرفة ، فقوله : « على معرفة اصول الدين » ، معناه : انّه لم يحصل للمقلد الجزم ، بناءاً على أنّ المعرفة عبارة عن الجزم في الاصول ، سواء حصل من النظر أو من التقليد ، لأنّها مشتقة من مادة العرفان والعرفان عبارة عن العلم .

ص: 132


1- - عدّة الاصول : ص54 .

وحينئذٍ فلا دليلَ على العفو .

وما ذكرهُ من عدم قطع العلماء والأئمّة موالاتهم مع المقلّدين ، بعد تسليمه والغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم ، لايدّلّ على العفو وإنّما يدلّ على كفاية التقليد .

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين كان المقلد غير جازم ( فلا دليل على العفو ) عنه ، فمن أين انّه معفو عنه ؟ .

( وما ذكره : من عدم قطع العلماء والأئمة ) عليهم السلام ( موالاتهم مع المقلّدين ) ممّا إستدل به على انهم معفو عنهم وإلاّ لقطع العلماء والأئمة موالاتهم معهم ( بعد تسليمه ) اذ لانسلم : عدم قطع الأئمة والعلماء للمقلدين كان عفواً عنهم ، لأن هناك إحتمالاً آخر ، وهو : ان العلماء لم يعرفوا عدم جزم المقلدين حتى يقاطعوهم ، وامّا الأئمة عليهم السلام فقد عرفوا ان مواليهم اعتقدوا بأصول الدين عن نظر ولذلك لم يقاطعوهم .

( و ) كلّما بَعُدَ ( الغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم ) كما يحدث ذلك بالنسبة الى العلماء فان الأئمة عليهم السلام لايتصور فيهم ذلك ، اذ لايشترط في العلماء ان يعرفوا : انَّ الناس إنّما يعرفون اصول الدّين عن النظر أو عن التقليد .

وعليه : فان ماذكره من الاستدلال ( لايدلّ على العفو ، وإنّما يدلّ على كفاية التقليد ) فان السكوت عن الشيء قد يكون من جهة انّه ليس بمنكر ، وقد يكون من جهة انّه منكر معفو عنه ، فكيف إستدل شيخ الطائفة على سكوت الأئمة والعلماء على أنّه منكر معفو عنه ؟ .

والحاصل : إنّهم لم ينكروا على المقلدين : إما لأنّه لايجب عليهم النظر ، أو لأنّه

ص: 133

وإمساكُ النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدل على عدم وجوبه عليهم ، لما إعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الأدلّة الواضحة على بطلان التقليد في الاُصول ، لم يدلَّ على العفو عن هذا الواجب المستفاد من الأدلّة ، فلا دليل على العفو من هذا الواجب المعلوم وجوبه .

والتحقيقُ أنّ إمساكَ النكير

-------------------

واجب ، ولكن تركهم لهذا الواجب معفو عنه ، ودلالة هذا الكلام على كفاية التقليد في اصول الدين إنّما هو بناءاً على عدم إعتبار الجزم في الاسلام وكفاية التدين والاظهار فيه ، ولذا قُبِلَ إسلام المنافقين الذين كانت بواطنهم خلاف الظاهر .

هذا ( وإمساك النكير عليهم في ترك النظر ، و ) ترك ( الاستدلال ، اذا لم يدلّ على عدم وجوبه عليهم ) أي : عدم وجوب النظر على المقلدين ( لما اعترف به قبل ذلك : من كفاية النكير المستفاد من الأدلة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول ) أي : ان الأدلة الواردة عن الأئمة عليهم السلام في وجوب تحصيل المعرفة ، وقول العلماء بوجوب النظر في اصول الدين ، نكير على من لاينظر ولا يشتغل بتحصيل المعرفة ، فقول الشيخ : «انهم لم ينكروا» محل تأمّل ، لأنهم انكروا أشدّ الانكار بسبب هذه الأدلة الواضحة .

فإمساك النكير اذا لم يدلّ على عدم وجود النظر ( لم يدلّ على العفو عن هذا الواجب ) قوله : « لم يدل » ، جواب قوله : «إذا لم يدل على عدم وجوب النظر ...» ( المستفاد من الأدلة ، فلا دليل على العفو من هذا الواجب المعلوم وجوبه ) من قبل الأئمة عليهم السلام ، ومن قبل العلماء .

( والتحقيق ) في وجه إمساكهم النكير على المقلدين ( إنَّ إمساكَ النكير

ص: 134

لو ثبت ولم يحتمل كونُه لحملِ أمرهم على الصحّة وعلمهم بالاصول دلّ على عدم الوجوب ، لأنّ وجود الأدلّة لايكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى فيه من حيث الارشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، لكنّ الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين .

فالانصافُ : أنّ المقلّدَ الغيرَ الجازم المتفطّن لوجوب النظر عليه فاسقٌ مؤاخذٌ على تركه للمعرفة الجزميّة بعقائده ،

-------------------

لو ثبت ، ولم يحتمل كونه لحمل أَمرهم على الصحة وعلمهم بالاصول ) أي : حملهم على أنهم عالمون بالأصول ، ل- ( دلّ على عدم الوجوب ) أي : عدم وجوب النظر ( لأنّ وجود الأدلّة لايكفي في إمساك النكير ) الواجب ( من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى ) وجود الأدلة ( فيه من حيث الارشاد والدلالة على الحكم الشرعي ) فان وجود الأدلة كافٍ في الارشاد ، غير كافٍ في إمساك النكير .

( لكن الكلام في ثبوت التقرير ) من الأئمة عليهم السلام ومن العلماء للتقليد في اصول الدين ( وعدم إحتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين ) فان العلماء احتملوا علم المقلدين باصول الدّين ، وأمّا الأئمة عليهم السلام فانّهم حملوا أمر الناس على الظاهر .

( فالانصاف : انّ المقلّد غير الجازم ، المتفطن لوجوب النّظر عليه ، فاسق ) لأنّه ترك الواجب مع تفطنه بوجوبه ، فهو ( مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزمية بعقائده ) واصول دينه ، بمعنى : عدم القطع والجزم منه بها .

ص: 135

بل قد عرفتَ إحتمال كفره ، لعموم أدلّة كفر الشاكّ .

وأمّا الغير المتفطنّ لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة .

وفي جريان حكم الكفر إحتمال تَقَدَّمَ .

وأمّا الجازمُ فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن عُلِمَ من عمومات الآيات

-------------------

( بل قد عرفت : إحتمال كفره لعموم أدلّة كفر الشّاك ) بناءاً على انّ المراد من الشاك : غير الجازم ، لا الشّكَ المتساوي الطرفين .

( وأمّا غير المتفطن لوجوب النّظر لغفلته ، أو العاجز عن تحصيل الجزم ) بان كان من البُلّة - مثلاً- ( فهو معذور في الآخرة ) ويمتحن فيها حسب ماورد في بعض الأخبار .

( وفي جريان حكم الكفر ) على مثل هذا الانسان غير المتفطن ، أو العاجز عن تحصيل الجزم ( إحتمالَ تَقدَّمَ ) بيانه .

لكن لايخفى : إنّ مقتضى الأدلة فيمن أظهر الاسلام وعمل بأحكامه في الظاهر ، انّه مسلم محكوم بكلّ أحكام الاسلام حتى اذا علمنا أنّه منافق يخالف باطنه ظاهره ، فكيف بمن لانعلم منه وهو غير الجازم باطناً ؟ .

أمّا في الآخرة فحكمه الى ربِّ العالمين الأعلم بالموضوعات وبالأحكام ، فلا يهمنا التعرض لحكمه في الآخرة .

نعم ، يهمنا حكمه في الدنيا من جهة تخويفه من العقاب إذا لم يحصل المعرفة بالنظر ، وعدم تخويفه ، وما أشبه ذلك ، ممّا هو شأن كتب اصول الدين .

( وأمّا الجازم ، فلا يجب عليه النّظر والاستدلال وإن علم من عمومات الآيات

ص: 136

والأخبار وجوبُ النظر والاستدلال ، لأنّ وجوبَ ذلك توصّليّ لأجل حصول المعرفة ، فاذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر ، اللّهم إلاّ أن يفهمَ هذا الشخصُ منها كونَ النظر والاستدلال واجباً تعبّدياً مستقلاً أو شرطاً شرعيّاً للايمان ، لكنّ الظاهرَ خلافُ ذلك ، فانّ الظاهرَ كونُ ذلك من المقدّمات العقليّة .

-------------------

والأخبار وجوب النّظر والاستدلال ) في اصول الدين ( لأنّ وجوب ذلك ) أي : النظر والاستدلال ( توصلي لأجل حصول المعرفة ، فاذا حصلت ) المعرفة ( سقط وجوب تحصيلها ) أي : تحصيل المعرفة ( بالنظر ) والاستدلال .

( اللّهمَّ الاّ أن يفهم هذا الشخص ) الجازم بسبب التقليد ( منها ) أي : من الأدلة ( كون النّظر والاستدلال واجباً تعبدياً مستقلاً ) لا واجباً توصلياً ( أو شرطاً شرعيّاً للايمان ) بحيث انه اذا لم يراع هذا الشرط الشرعي لم يكن مؤمناً .

( لكن الظاهر خلاف ذلك فان ) النظر والاستدلال ليس واجباً تعبدياً مستقلاً أو شرطاً شرعياً ، بل ( الظّاهر كون ذلك ) أي : النظر ( من المقدّمات العقليّة ) للوصول الى العلم والمعرفة ، فاذا فرض حصول العلم والمعرفة للمقلّد ، لم يجب عليه النظر والاستدلال .

بل ربّما يظهر من مقبولة عُمر بن حَنظلة : انَّ المقلّد للحق يكفيه تقليده ذلك ، بل يظهر من المقبولة أيضاً : انَّ المقلّد للباطل اذا كان مرجعه مرجعاً زاهداً في الدنيا وزخارفها ، غير متعصِّب في ظاهره يكفيه في عدم كونه معاقباً بسبب تقليده لمرجعه في اصول الدين ، فراجع المقبولة في الرسائل وغيرها .

ص: 137

الأمر السادس

اشارة

إذا بنينا على عدم حجّية ظنّ أو على عدم حجّية الظنّ المطلق ، فهل يترتب عليه آثار اُخَرُ غيرُ الحجّية بالاستقلال ، مثل كونه جابراً لضعف سند أو قصور دلالة ،

-------------------

( الأمر السادس : ) من تنبيهات الانسداد : ( إذا بنينا على عدم حجّية ظنّ ) كالظن الحاصل من القياس ، أو الاستحسان ، أو ما أشبه ( أو على عدم حجّية الظنّ المطلق ) بأن لم نقل بالإنسداد ( فهل يترتب عليه ) أي : على هذا الظنّ غير الحجّة ( آثار اُخر غير الحجّية ، بالاستقلال ؟ ) أي : انّه لم يكن حجّة في نفسه ، لكن هل يكون مؤيداً لحجّة ، أو مسقطاً لحجّة ، أم لا ؟ كما قال :

( مثل كونه جابراً لضعف سند ، أو قصور دلالة ) فان الظّن بالسند يوجب حجيته والظن بالدلالة يوجب قوتها ، فأبو بصير - مثلاً- مشترك بين الثقة والضعيف ، والظنّ : بأنّ أبا بصير في سند الرواية الفلانية هو الثقة يوجب حجّيتها ، وكذا بالنسبة الى الدلالة ، فان الظنّ : بأن المراد من قوله عليه السلام : « ثَمن العَذرة سُحتٌ » (1) عذرة الانسان لا عذرة سائر الحيوانات ، وان المراد من قوله عليه السلام : « لا بأسَ ببيع العَذرة » (2) عذرة غير الانسان ، يوجب قوة دلالتها .

ص: 138


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

أو كونه موهناً لحجّة أُخرى ، أو كونه مرجّحاً لأحد المتعارضين على الآخر .

ومجملُ القول في ذلك ، أنّه كما يكون الأصلُ في الظنّ عدمَ الحجّية ، كذلك الأصلُ فيه عدمُ ترتّب الآثار المذكورة من الجبر والوهن والترجيح .

وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة :

الأوّل : الجبر بالظنّ الغير المعتبر

فنقول : عدمُ إعتباره امّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه ،

-------------------

( أو كونه موهناً لحجّة اُخرى ) بأن كانت رواية صحيحة السند ظاهرة الدلالة ، لكن ظننّا بأنّ هذه الرّواية وردت تقية - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ، ممّا يسقطها عن الحجّية .

( أو كونه ) أي : الظنّ ( مرجّحاً لأحد المتعارضين على الآخر ) فيما اذا كان هناك دليلان متساويان في الحجّية في أنفسهما ، فيرجّح الظنّ الخاص ، أو العام ، أحدهما على الآخر ، أو كان الظنّ موهناً لأحد المتعارضين ممّا سبب ترجّح طرفه عليه .

( ومجمل القول في ذلك : انّه كما يكون الأصل في الظّن عدم الحجّية ) للأدلة الأربعة التي اقمناها على عدم حجّية الظن ( كذلك الأصل فيه ) أي : في الظنّ ( عدم ترتّب الآثار المذكورة ) عليه ( من الجبر ، والوهن ، والتّرجيح ) وغير ذلك .

( وأمّا تفصيل الكلام في ذلك ، فيقع في مقامات ثلاثة ) كما يلي :

( الأوّل : الجبر بالظنّ غير المعتبر ) سواء كان ظنّاً خاصاً كالقياس ، أو ظنّا مطلقاً إذا لم يكن إنسداد ( فنقول : عدم إعتباره ) أي : الجبر بالظّنّ ( امّا ان يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص ، كالقياس ، ونحوه ) كالرأي ، وهو مايسمى

ص: 139

وإمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظنّ .

وأمّا الأوّلُ : فلا ينبغي التأمّلُ في عدم كونه مفيداً للجبر ، لعموم مادلّ على عدم جواز الاعتناء به وإستعماله في الدّين .

وأمّا الثاني : فالأصلُ فيه وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه إذا كان المجبور محتاجاً إليه من جهة إفادته للظنّ بمضمونه

-------------------

بالاستحسان أيضاً بدون أن يكون هناك مقيس عليه حتى يصدق عليه القياس .

( وأمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظّن ) بسبب الأدلة العامة : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، حيث تقدّم بيان ذلك ، والتي منها قوله سبحانه : « إنَّ الظَنَّ لايُغنِي مِنَ الحقِّ شَيئاً » (1) .

( وأمّا الأوّل : ) وهو النّهي عن الظنّ بالخصوص ( فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه مفيداً للجبر ، لعموم ما دلّ على عدم جواز الاعتناء به ، و ) عدم ( استعماله في الدّين ) فانّ كون القياس - مثلاً - جابراً ، نوع إستعمال في الدين ، والظاهر المنع عن إستعمال القياس مطلقاً ، سواء كان بالاستقلال أو بالتبع .

( وأمّا الثاني : ) وهو ما كان الظنّ منهياً عنه من جهة دخوله تحت عموم اصالة حرمة العمل بالظنّ ( فالأصل فيه وإن كان ذلك ) أي كون مثل هذا الظّن العام جابراً ( إلاّ أنّ الظاهر : انه إذا كان المجبور محتاجاً اليه ) أي : الى الظنّ ( من جهة إفادته ) أي : إفادة هذا الظنّ الجابر الذي هو غير معتبر في نفسه ( للظّن بمضمونه ) أي : بمضمون الخبرالمجبور يعني بما تضمنه الخبر بنسبته الى المعصوم عليه السلام من حيث الصدور ، فليس المراد من قوله رحمه اللّه بمضمونه : الدلالة ، بل الصدور ،

ص: 140


1- - سورة يونُس : الآية 36 .

كالخبر إذا قلنا بكونه حجّةً بالخصوص لوصف كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارةُ الغير المعتبرة الظنَّ بصدور ذلك الخبر إنجبر قصورُ سنده به .

إلاّ أن يدّعى أنّ الظاهر اشتراطُ حجّية ذلك الخبر بافادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّدُ كونه مظنونَ الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده وبالجملة فالمتّبعُ هو مايفهم من دليل حجّية المجبور .

-------------------

ويوضحه قوله بعد ذلك : ( كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص ، لوصف كونه مظنون الصّدور ) فانه قد تقدّم الاختلاف في انّ الخبر هل هو حجّة مطلقاً ، أو الخبر الذي كان مظنون الصدور ، أو الخبر الذي ليس على خلافه ظنّ ؟ ( فافاد تلك الأمارة غير المعتبرة ) كالشهر - مثلاً- إذا قلنا انّها غير معتبرة ( الظّنّ بصدور ذلك الخبر ، انجبر قصور سنده به ) فان سند ذلك الخبر ينجبر بسبب هذا الظّن غير المعتبر .

( إلاّ أن يدّعى : انّ الظاهر إشتراط حجّية ذلك الخبر ) الضعيف ، ( بافادته للظّن بالصدور ) يعني : إفادة بنفسه من جهة سنده أنه مظنون الصدور ( لا مجرد كونه مظنون الصّدور ولو حصل الظّن بصدوره من غير سنده ) كما لو حصل بسبب الشهرة التي ليست بحجّة فانها تورث الظنّ فقط .

قوله : « إلاّ » إستثناء من قوله السابق : «إلاّ أن الظاهر انه إذا كان المجبور محتاجاً اليه ...» .

( وبالجملة : فالمتّبع هو مايفهم من دليل حجّية المجبور ) وانه هل يلزم أن يكون المجبور بنفسه مظنوناً ، أو لا يلزم أن يكون بنفسه مظنوناً ، بل يكفي الظنّ من الخارج ؟ فعلى الأول : لايكون الظنّ العام موجباً لحجيته ، وعلى الثاني : يكون

ص: 141

ومن هنا لاينبغي التأمّلُ في عدم إنجبار قصور الدّلالة بالظنّ المطلق ، لأنّ المعتبر في باب الدلالات هو ظهورُ الألفاظ نوعاً في دلالتها ، لا مجرّد الظنّ بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج .

فالكلامُ إن كان ظاهراً في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو ، وإلاّ - بأن كان مجملاً أو كان

-------------------

الظنّ العام موجباً لحجيته .

( ومن هنا ) حيث انَّ الظنّ الخارجي لايمكنه الجبر في الجملة ( لاينبغي التأمّل في عدم إنجبار قصور الدلالة بالظّنّ المطلق ) إذا لم يكن إنسداد ، فانّ الظنّ لايجبر الدلالة ( لأنّ المعتبر في باب الدّلالات هو : ظهور الألفاظ نوعاً ) أي : ظهوراً نوعياً ( في دلالتها ) أي : في دلالة تلك الالفاظ ( لا مجرّد الظّنّ بمطابقة مدلولها ) أي : مدلول الألفاظ ( للواقع ولو من الخارج ) .

مثلاً : قوله سبحانه : « فَكاتِبُوهُم إِنْ عَلِمتُم فِيهم خَيراً » (1) يلزم ظهور « خيراً » في الايمان بمعنى : أن العبد المؤمن يكاتب مقابل أن يراد بالخير : المال ، بمعنى : انّ العبد ذا المال يكاتب ، امّا إذا لم يكن ظهور « خيراً » في الايمان ، وظنّنا أنّ المراد بالخير : الايمان ، لايمكن أن نقول : إنَّ العبد إذا كان مؤمناً يكاتب ، لأنَّ هذا الظّن لايوجب الظهور ، فان الظهور حجّة ، لا الظّن الحاصل من الخارج .

وعلى هذا ( فالكلام أن كان ظاهراً في معنى بنفسه ، أو بالقرائن الداخلة ) بل أو الخارجة ، مثل : قرينية المقيد للمطلق ، والخاص للعام ، والمبين للمجمل ، الى غير ذلك ( فهو ) يؤخذ بذلك الظاهر ( وإلاّ بأن كان مجملاً ) في نفسه ( أو كان

ص: 142


1- - سورة النور : الآية 33 .

دلالتُه في الأصل ضعيفةً ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفّي - فلا يُجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ، إذ التعويلُ حينئذٍ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام ، بل ربّما لا تكون تلك الأمارةُ موجبةَ للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايتُه إفادة الظنّ بالحكم الفرعيّ ، ولا ملازمةَ بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لايريده بذلك اللفظ .

-------------------

دلالته في الأصل ضعيفة ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي ) على انتفاء الحكم عند إنتفاء الوصف ، فانّه دلالة ضعيفة كما ذكروا .

وعليه : ( فلا يجدي الظّن بمراد الشّارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ) أما الأمارة الخارجية المعتبرة : كالمقيّد بالنسبة الى المطلق ، والخاص بالنسبة الى العام ، وما أشبه ذلك ، فلا إشكال في الأخذ بها على ما اشرنا اليه .

فالأمارة الخارجيّة لاتجدي ( اذ التعويل حينئذٍ ) أي : حين الظنّ بالمراد من أمارة خارجية ( على ذلك الظنّ ) الخارجي ( من غير مدخليّة للكلام ) بينما : يكون الظهور حجّة إذا كان مستنداً الى الكلام نفسه .

( بل ربما لاتكون تلك الأمارة ) الخارجية ( موجبة للظّنّ بمراد الشّارع من هذا الكلام ) بالذات ، وانّما ( غايته ) أي : غاية ماتفيده تلك الأمارة الخارجية ( إفادة الظّن بالحكم الفرعي ، و ) من المعلوم : انّه ( لا ملازمة بينه ) أي : بين الظّن بالحكم

الفرعي ( وبين الظنّ بارادته ) أي : بارادة ذلك الحكم الفرعي ( من اللّفظ ) .

ثم بيّن المصنّف عدم الملازمة بقوله : ( فقد لايريده ) أي : لايريد الشارع ذلك الحكم الفرعي ( بذلك اللّفظ ) الذي ذكره ، فكيف نتمكن أن نقول : بأن مراد الشارع من هذا اللّفظ ، هذا الحكم الفرعي ؟ .

ص: 143

نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعيّ ، فالظنّ به

-------------------

مثلاً : قول الشارع : « وَلَن تَستَطيعُوا أنّ تَعدِلُوا بَينَ النِساء وَلَو حَرصتُم » (1) لو ظنّنا من الخارج إنَّ مراده : عدالة الزوج في المحبة القلبية بين زوجاته المتعددات ، فانّه لايمكن أن نقول : أنّ مراد الشارع ذلك ، وان كانت العدالة القلبية بين الزوجات شبه المحال ، إذ لعلّ مراد الشارع من هذه الآية المباركة عدالة الحكام في قضايا النزاعات بين النساء ، حيث كثيراً مايميل قلب الحاكم الى طلاق الزوجة ، لأنه يريدها لولده - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ، فقد ذكر بعضهم : انَّ هذا هو المراد من الآية المباركة بقرينة السياق ، حيث قال سبحانه : « وَإِن امرَأَةٌ خافَت مِنْ بَعلِهَا نُشُوزاً أَو إعِراضاً ، فَلا جُنَاحَ عَلَيهِما أن يُصلِحا بَينَهُما صُلحاً ، والصُّلحُ خَيرٌ ، وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ، وَإنْ تُحسِنُوا وَتَتَّقُوا فَانَّ اللّه َ كانَ بِمَا تَعمَلوُنَ خَبِيراً * وَلَنْ تَستَطيعُوا أنّ تَعدِلُوا بَينَ النّساءِ وَلَو حَرصتُم ، فلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ فَتَذَرُوها كالمُعلَّقَةِ وإن تُصلِحُوا وتَتَّقُوا فإنَّ اللّه َ كَانَ غَفوراً رَحيماً * وإن يَتَفرَّقا يُغِنِ اللّه ُ كُلاً مِن سَعَتِهِ وَكانَ اللّه ُ واسِعاً حَكِيماً » (2) .

فان قرينة الآية المتقدِّمة « وإن تُصلِحُوا وَتتَّقُوا » ظاهرة في هذا المعنى ، فلا يكون تنافٍ بين هذه الآية المباركة ، وآية : « فإن خِفتُم أَلاّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً...» (3) والكلام في هذا الموضوع موكول الى محلّه ، وانّما ذكرناه من باب المثال .

ثم انّ المصنّف إستثنى من قوله : « ولا ملازمة بينه وبين الظنّ » بقوله : ( نعم ، قد يعلم من الخارج : كون المراد هو الحكم الواقعي ، فالظنّ به ) أي : بالحكم

ص: 144


1- - سورة النساء : الآية 129 .
2- - سورة النساء : الآيات 128 - 130 .
3- - سورة النساء : الآية 3 .

يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتفاق .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما إشتهر - من أنّ ضعفَ الدلالة منجبرٌ بعمل الأصحاب - غير معلوم المستند ، بل ، وكذلك دعوى إنجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب لم يُعلمَ لها بيّنةٌ .

والفرقُ أنّ فهمَ الأصحاب وتمسّكهم به كاشفٌ ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايتَهُ الكشفُ عن الحكم الواقعيّ الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مراداً من ذلك اللفظ ، كما عرفت .

-------------------

الواقعي ( يستلزم الظّن بالمراد ، لكن هذا ) أي : ماذكرناه من قولنا : نعم قد يعلم من الخارج : هو ( من باب الاتّفاق ) ولا يكون معياراً كليّاً على مانحن بصدده .

( وممّا ذكرنا يظهر : انّ ما اشتهر ) بين الفقهاء والاصوليين ( : من انّ ضعف الدّلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند ) عند المصنّف ( بل ، وكذلك دعوى انجبار قصور الدّلالة بفهم الأصحاب ، لم يعلم لها بيّنة ) ودليل وان كنّا ذكرنا نحن في الاصول : انّ الظّاهر من الأدلة العامة والخاصة : الانجبار في كلام المقامين .

( والفرق ) بين عمل الأصحاب وفهم الأصحاب ( : أنّ فهم الاصحاب وتمسّكهم به ) أي بما فهموه وقالوه من دلالة الخبر ( كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ) ومن المعلوم : عدم إعتبار هذا الظنّ ، كما أنه لايستلزم إعتبار القرينة عند الأصحاب ، إعتبارها عندنا أيضاً ، حتى اذا ذهبوا الى معنى نذهب اليه نحن أيضاً .

( بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايته ) أي : غاية العمل ، هو ( : الكشف عن الحكم الواقعي ) لأنهم لايعملون بغير الحكم الواقعي ( الّذي قد عرفت : انّه لايستلزم كونه مراداً من ذلك اللّفظ كما عرفت ) .

ص: 145

بقي الكلامُ في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى جابرةً لضعف سند الخبر .

فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنَّ بصدق الخبر ، ففيه - مع أنّه قد لايوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر - : أنّ جلّهم لايقولون بحجّية الخبر المظنون الصدور مطلقاً ، فإنّ المحكيّ عن المشهور إعتبارُ الايمان في الراوي ،

-------------------

مثلاً : قد يكون الشيء واجباً واقعاً ، لكن لفظ «ينبغي» الموجود في الحديث لايدل عليه ، فلا يفهم عملهم على الوجوب من هذا اللّفظ بل لعله من الخارج ، فقد يقولون إنّا نفهم من « ينبغي » الوجوب ، وقد يقولون : إنّه واجب لكن لايعلم أن فهمهم الوجوب مستند الى لفظ الحديث .

( بقي الكلام في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى ) لا الشهرة في الرواية ( جابرة لضعف سند الخبر ) فيما إذا كان الخبر ضعيف السند وقامت الشهرة في الفتوى على طبق ذلك الخبر ، سببت الشهرة إنجبار ضعف الخبر سنداً.

( فانّه إن كان من جهة افادتها ) أي إفادة الشهرة في الفتوى ( الظّن بصدق الخبر ، ففيه - مع انّه قد لايوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظّنّ بصدور حكم عن الشّارع مطابق لمضمون الخبر- ) لأنّه لا تلازم بين الشهرة الفتوائية وبين صدور الخبر الضعيف المطابق لتلك الشهرة الفتوائية .

ففيه ( : انّ جلّهم لايقولون بحجّية الخبر المظنون الصّدور مطلقاً ) فالظّن بصدور الخبر لأجل قيام الشهرة لاينفع في إعتبار ذلك الخبر ، بل الخبر إنّما يكون حجّة اذا كان صحيح السند أو موثوق السند .

( فانّ المحكي عن المشهور : اعتبار الايمان في الرّاوي ) فاذا لم يكن الراوي

ص: 146

مع أنّه لايرتاب في إفادة الموثّق للظنّ .

فان قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الاماميّ بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ، ومثل قوله عليه السلام : « لا تأخُذَنَّ مَعالِمَ دينك مِن غَير شِيعَتِنا » .

قلنا : إن كان ماخرج بحكم الآية والرواية مختصّاً بما لايفيد الظّنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّاً لما ظنّ بصدوره كان خبرُ غير

-------------------

مؤمناً ، لايعتبر خبره وان ظنّنا بصدقه ( مع أنّه لايرتاب في افادة الموثّق ) من أخبار العامة ( للظّنّ ) فلو كان الظّن بالصدور حجّة ، لم يحتج الى الايمان وكان كثير من أخبار العامة حجّة .

( فان قيل : إنَّ ذلك ) أي : اشتراط الايمان في الرّاوي انّما هو ( لخروج خبر غير الامامي بالدّليل الخاص ) فالخبر المظنون الصدور حجّة وإن كان غير جامع للشرائط ، فالموثق أيضاً لولا الدليل الخاص لكان داخلاً في الاعتبار لا خارجاً عنه ، والدليل الخاص ( مثل منطوق آية النبأ ) فان غير المؤمن فاسق ، ولذا لا يعمل بخبره ( ومثل قوله عليه السلام : « لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دينك مِن غَير شيعَتِنا » (1) ) فاذا لم يكن شيعياً لا يؤخذ بخبره .

والحاصل من قوله : ان قيل : « ان الخبر المظنون الصدور حجّة إلاّ ما خرج » .

( قلنا : ان كان ماخرج بحكم الآية والرّواية مختصّاً بما لايفيد الظّنّ ) فكل ما لايفيد الظنّ لايعلم به ( فلا يشمل الموثّق ) لأنَّ الموثّق يفيد الظّن ( وان كان عاماً لما ظنّ بصدوره ) فخبر غير الامامي لايعمل به وإن ظنّ بصدوره ( كان خبر غير

ص: 147


1- - رجال الكشّي : ص4 .

الإماميّ المنجبر بالشهرة والموثّقُ متساويين في الدخول تحت الدّليل المخرج .

ومثلُ الموَثّق خبرُ الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبرُ المعتضدُ بالأولويّة والاستقراء

-------------------

الامامي المنجبر بالشّهرة والموثّق متساويين في الدّخول تحت الدّليل المخرج ) .

والحاصل من قوله « قلنا : انَّ المستثنى ان كان خاصاً بغير مظنون الصدور من خبر غير الامامي » ، بمعنى : ان خبر غير الامامي إذا لم يكن بمظنون الصدور ليس بحجّة ، فيكون لازم ذلك : أن خبر العامي المظنون الصدور حجّة ، والحال انّكم تقولون : بأن خبر العامي مطلقاً ، سواء كان مظنوناً أم ليس بمظنون ، خرج بآية النبأ والرواية .

وان كان المستثنى عاماً يشمل خبر كل غير إمامي ، سواء كان مظنون الصدور أم لا ، فان اللازم أن تقولوا : بأن خبر غير الامامي مطلقاً ، والخبر الموثّق ، أي : الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة كلاهما لايعمل بهما ، لأن الضعيف المنجبر بالشهرة هو خبر فاسق ، فكما انّ منطوق الآية يشمل العامي لأنّه فاسق ، كذلك يشمل الضعيف لأنّه فاسق أيضاً ، وكما ان الشهرة ليست جابرة لخبر العامي كذلك ليست جابرة للضعيف الموثّق .

والحاصل : انّ اللازم أن تقولوا : امّا بحجيّة خبر العامي المظنون ، أو تقولوا بعدم حجّية خبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، والحال إنّكم تقولون بأن كل خبر عامي ليس بحجّة ، وكلّ خبر ضعيف مجبور بالشهرة حجّة .

( ومثل الموثّق ) في سؤال الفرق بينه وبين المنجبر بالشهرة ( خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، والخبر المعتضد بالأولويّة ، و ) المتعضد ب- ( الاستقراء ،

ص: 148

وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لايقولون بذلك ، وإن كانّ لقيام دليل خاص عليه ، ففيه المنعُ من وجود هذا الدليل .

وبالجملة : فالفرقُ بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر في غايةِ الاشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية .

-------------------

وسائر الأمارات الظّنية ) قوله : « وسائر » عطف على قوله : « خبر الفاسق » .

وعليه : فاذا كان شهرة الموثّق توجب حجيته مع كونه ضعيفاً في نفسه ، لزم أن تكون هذه الأخبار أيضاً حجّة ( مع أنّ المشهور لايقولون بذلك ) أي : لا يقولون باعتبار هذه الأخبار المذكورة وحجيتها .

( وإن كان ) ما خرج بحكم الآية والرواية ( لقيام دليل خاص عليه ) كالاجماع الذي إدعاه كاشف الغطاء على جبر ضعف الخبر بالشهرة ( ففيه : المنع من وجود هذا الدّليل ) فانّه لا إجماع في المسألة .

( وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشّهرة ، و ) الضعيف ( المنجبر بغيرها ) أي : غير الشهرة ( من الأمارات ، وبين الخبر الموثّق المفيد ، لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ) بالشهرة ( في غاية الاشكال ) لأن الملاك في الحجّية واللاحجّية فيهما واحد ، فامّا أن نقول بحجيتهما معاً ، وأما أن نقول بعدم حجيتهما معاً .

( خصوصاً مع عدم العلم بإستناد المشهور ) في فتواهم ( الى تلك الرّواية ) الضعيفة ، لأن الكلام في رواية ضعيفة مطابقة لفتوى المشهور بلا استناد من المشهور الى تلك الّرواية .

ص: 149

وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعيف بالشهرة ضعيفٌ مجبورٌ بالشهرة .

وربما يدّعى كونُ الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الاجماعُ على حجّيّته ولم يثبت .

وأشكلُ من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ، بناءا على أن التبيّن يعمّ الظني الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر .

-------------------

( واليه ) أي : الى ماذكرناه : من أنّ الخبر الضعيف لاينجبر بالشهرة الفتوائية ( أشار شيخنا في موضع من المسالك : بانَّ جبر الضعيف بالشّهرة ، ضعيف مجبورٌ بالشّهرة ) أي إذا أردنا ان نقول : بأنَّ الضعيف مجبور بالشهرة ، هذا القول بنفسه ضعيف ويحتاج الى جبره بالشهرة .

( وربّما يدّعى كونُ الخبر الضعيف المنجبر ) بالشهرة الفتوائية ( من الّظنون الخاصّة ، حيث إدعي الاجماع على حجّيته ) فيكون الاجماع مستند حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية ( و ) لكن ( لم يثبت ) هذا اللاجماع ، حتى يكون مستنداً لكون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة .

( وأشكل من ذلك ) أي : من دعوى الاجماع ( : دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ) أي : على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية ( بناءاً على أنّ التبيّن ) في الآية ( يعّم الّظني الحاصل من ذهاب المشهور الى مضمون الخبر ) بتقريب : انّ قوله سبحانه : « فَتَبيّنُوا » (1) للتبيّن الظنّي ، وليس خاصاً بالتبيّن العلمي ، والضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية يصدق عليه التبيّن ، لأنه حصل

ص: 150


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وهو بعيدٌ ، إذ لو أُريدَ مطلق الظنّ فلا يخفى بُعده ، لأنّ المنهيّ عنه ليس إلاّ خبرَ الفاسق المفيد للظنّ ، إذ لا يعمل أحدٌ بالخبر المشكوك صدقُه .

وإن اُريد البالغُ حدَّ الاطمئنان فله وجهٌ ، غيرَ أنّه يقتضي دخولَ سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ولو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة ، فالآية تدلّ على حجّيّةِ الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بُعدَ فيه .

-------------------

التبيّن الظنّي فيه .

( وهو ) أي : شمول التبيّن للّظني ( بعيد ، إذ لو اُريد مطلق الظنّ ، فلا يخفى بُعده ) فانّه بعيد أنْ يريد اللّه سبحانه وتعالى من التبيّن في الآية المباركة : التبيّن الشامل للتبيّن الظّنّي أيضاً ( لأن المنهي عنه ليس إلاّ خبر الفاسق المفيد للّظن ، إذ لايعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه ) فان خبر الوليد كان مظنوناً وقد نهى اللّه سبحانه عن إتباعه الاّ بالتبيّن ، فاللازم أن يريد سبحانه بالتبيّن : العلمي الموجب للعلم ، لا الأعم من العلمي والظّني حتى يشمل التبيّن الضعيف المنجبر بالشهرة .

( وإن اُريد ) من التبيّن في الآية المباركة : الظنّ ( البالغ حدّ الاطمئنان ، فله وجه ) لأن الاطمئنان حجّة عقلائية ( غير أنه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة ) للخبر الضعيف ( إذا بلغت ولو بضميمة المجبورحدّ الاطمئنان ) .

ولازم ذلك : انّ كل خبر ضعيف مجبور بسائر الظنون كالأولوية ، وما أشبهها ، بلغ حدّ الاطمئنان يكون حجّة ( ولايختصّ ) الجبر على ذلك ( بالشهرة ) فقط .

إذن : ( فالآية تدلّ على حجّية الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ) مطلقاً بأي : سبب كان ( ولا بعد فيه ) لأن الموجب للاطمئنان لا يندم فاعله ، فالآية المباركة

ص: 151

وقد مرّ في أدلّة حجّيّة الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه من حكايات الاجماع والأخبار .

وأبعدُ من الكلّ دعوى استفادة حجّيّته ممّا دلّ من الأخبار ، كمقبولة ابن حنظلة والمرفوعة إلى زُرارة ، على الأمرِ بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ،

-------------------

تقول : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبأ » (1) تبيّنوا تبيّناً موصلاً للعلم ، أو موصلاً للاطمئنان ، بأي وجه حصل ذلك الاطمئنان .

( وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار مايؤيّده أو يدلّ عليه : من حكايات الاجماع والأخبار ) على ان كل خبر يطمئن اليه ، سواء كان من عادل ، أو فاسق ، إمامي ، أو غير إمامي يكون حجّة .

( وأبعد من الكلّ ) أي : من كل الاستدلالات المتقدّمة على أن الشهرة جابرة ( : دعوى استفادة حجّيته ) أي : حجّية الخبر الضعيف المجبور بالشهرة ( ممّا دلّ من الاخبار - كمقبولة ابن حنظلة (2) ، والمرفوعة الى زُرارة (3) - على الأمر بالأخذ بما إشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ) قوله : « على الأمر » ، متعلق بقوله : « ممّا دل » ، فان في الخبر : « خُذ بِما إشتَهَر بَينَ أَصحابِكَ » .

ص: 152


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيّته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولويّة .

وتوضيحُ فساد ذلك أنّ الظاهر من الروايتين شهرةُ الخبر من حيث الرواية ، كما يدلّ عليه قولُ السائل فيما بعد ذلك : « انّهما معا مشهوران » ، مع أنّ ذكر الشهرة من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة .

-------------------

( فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض ) كما في مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زُرارة ، حيث يدلان على أنّ الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للشهرة يؤخذ به ، فان الأخذ بالخبر بسبب الشهرة عند التعارض ( يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولوية ) أي : اذا كان الخبر الذي له معارض يؤخذ به بسبب الشهرة ، فالأخذ بالخبر بسبب الشهرة إذا لم يكن له معارض أولى .

( وتوضيح فساد ذلك ) الذي ذكرناه بقولنا : وأبعد من الكل ( : انّ الظاهر من الرّوايتين ) : المقبولة والمرفوعة ( : شهرة الخبر من حيث الرّواية ، كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : « إنهما معاً مشهوران ») بينما الكلام في مقامنا هذا : الشهرة الفتوائية .

هذا ( مع أنّ ذكر الشّهرة من المرجّحات ، يدل على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النّظر عن الشهرة ) فليس كل مايوجب ترجيح دليل على دليل ، يوجب العمل بلا دليل ، فما ذكروه من الأولوية في غير محله ، كما انه لا اجماع في المسألة ، وبذلك تحققه : انَّ الشهرة الفتوائية لاتكون جابرة للخبر الضعيف .

ص: 153

المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهونا

والكلام هنا أيضا يقعُ تارةٍ فيما علم بعدم اعتباره ، وأُخرى فيما لم يثبت اعتباره .

وتفصيلُ الكلام في الأوّل أنّ المقابلَ له إن كان من الأمور المعتبرة ، لأجل إفادة الظنّ النوعيّ ، اي يكون نوعه لو خُلِّيَ وطبعَه مفيدا للظنّ ، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ، فلا إشكالَ في عدم وهنه بمقابلته ما علم عدمُ اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح

-------------------

( المقام الثاني : في كون الّظنّ غير المعتبر موهناً ) لخبر ، أو ما اشبه ، ممّا هو حجّة في نفسه ( والكلام هنا أيضاً يقع تارة فيما علم بعدم إعتباره ) كالقياس ( واُخرى فيما لم يثبت إعتباره ) كالشهرة ، فالقياس والشهرة ظنان غير معتبرين شرعاً .

( و ) أمّا ( تفصيل الكلام في الأوّل : ) أي : فيما علم عدم اعتباره فهو : ( انّ المقابل له ) اي : الشيء قبال هذا الظن ، الذي ليس بمعتبر ( إن كان من الاُمور المعتبرة ) في نفسه ، كما إذا كان القياس في مقابل الخبر الصحيح ، حيث إنَّ الخبر الصحيح معتبر .

وانّما كان معتبراً ( لأجل افادته الّظنّ النّوعي أي : يكون نوعه لو خُلِّيَ وَطبعَه مفيداً للّظن ) فانّ الخبر الصحيح لو خلّي ونفسه أفاد الانسان الظنّ ( وان لم يكن مفيداً له في المقام الخاص ) كما إذا كان خبر زُرارة لم يفد الظنّ لهذا الانسان الخاص - مثلاً- بسبب عوارض خارجية .

( فلا إشكال في عدم وهنه ) أي : وهن ماأفاد الظنّ النوعي وكان معتبراً ( بمقابلته ما علم إعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح ) فانّ الخبر الصحيح

ص: 154

بناءا على كونه من الظنون على هذا الوجه .

ومن هذا القبيل : القياسُ في مقابلة الظواهر اللفظيّة فانّه لا عبرةَ به أصلاً ، بناءا على كون إعتبارها من باب الظنّ النوعيّ ، ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح .

نعم ، لو كان حجّيّتهُ ، سواء كان من باب الظنّ النوعيّ أو كان من باب التعبّد ، مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقف مجالٌ .

-------------------

سنداً ، اذا قابله القياس لايوجب القياس ومنه ( بناءاً على كونه ) أي : كون الخبر الصحيح ( من الظّنون على هذا الوجه ) أي : على وجه إفادة الظنّ النوعي .

( ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الّظواهر اللّفظية ) فان الظهور اللفظي حجّة باعتبار إفادته الظنّ النوعي ، فاذا كان القياس على خلاف الظاهر لم يوجب القياس وهن الظاهر ( فانه لاعبرة به ) أي : بالقياس ( أصلاً ، بناءا على كون إعتبارها ) أي : إعتبار الظواهر ( من باب الظّن النّوعي ) فان الظاهر إنما يكون حجّة لأن نوعه يوجب الظنّ .

( ولو كان ) المقابل له من الأمور المعتبرة ( من باب التعبّد ) قوله : « ولو كان » عطف على قوله : « لاجل إفادته الظنّ النوعي » ( فالأمر أوضح ) لعدم مدخلية الظّن فيه أصلاً ، فوجود الظنّ فيه وعدمه ولو مع الظنّ بالخلاف سواء ، لأن المفروض : انّه حجّة من باب التعبّد لا من باب الظنّ النوعي .

( نعم ، لو كان حجّيته ) أي : ما كان حجّة من السند أو الظاهر ( - سواء كان من باب الظنّ النّوعي ، أو كان من باب التعبّد- مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ) بأن كان السند حجّة اذا لم يظنّ على خلافه ، وكان الظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه ( كان للتوقف مجال ) فيما إذا خالفه القياس الموجب ذلك القياس للظنّ .

ص: 155

ولعلّه الوجهُ ، فيما حكاه بعضُ المعاصرين عن شيخه : أنّه ذكر له مشافهةً : « أنّه يتوقفُ في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه » .

لكنّ هذا القول ، أعني تقييد حجّيّة الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيدٌ في النهاية .

وبالجملة : فيكفي في المطلب ما دلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك .

-------------------

وانّما يتوقف في حجّية السند أو الدلالة حينئذٍ ، لأن المفروض : انّ السند والظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه ، والقياس أورث الظنّ على خلافه .

( ولعله ) أي : لعلّ التقيّيد بعدم الظنّ على الخلاف ( الوجه في ماحكاه بعض المعاصرين عن شيخه : انّه ذكر له مشافهة : « انّه يتوقفُ في الّظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف ، حتى القياس ، وأشباهه » ) اي : أشباه القياس ، كالأولوية ، ونحوها .

( لكن هذا القول أعني : تقييد حجّية الّظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيدٌ في النّهاية ) إذ لادليل عليه ، بل العقلاءيذمون من لم يعمل بالحجّة معتذراً بالّظن على خلافها .

( وبالجملة : فيكفي في المطلب ) أي : في عدم كون القياس الذي هو ظّن غير معتبر موهناً ، سواء كان القياس مخالفاً للسند ، أم للدلالة اُمور :

أوّلاً : ( مادلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس ) فانه يشمل ماكان القياس دليلاً ، أو جابراً ، أو موهناً .

ثانياً : ( مضافاً الى استمرار سيرة الاصحاب على ذلك ) اي : عدم الاعتناء

ص: 156

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس - معلّلاً بما حاصله غلبةُ مخالفته للواقع - يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس أثرٌ ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر التّعليل أنّه كالموهوم .

فكما لا ينجبر به ضعيفٌ ، لا يضعّف به قويّ .

-------------------

بالقياس مطلقاً .

ثالثا : ( مع انّه يمكن أن يقال : انّ مقتضى النهي عن القياس معللاً بما حاصله : غلبة مخالفته للواقع ) وإن مايفسده أكثر ممّا يصلحه ، وانّه يوجب محق الدين ، وما أشبه ، وهو ( يقتضي أن لايترتب شرعاً على القياس أثر ، لامن حيث تأثيره في الكشف ) فلا يكون القياس حجّة بنفسه ( ولا من حيث قدحه ) فلا يكون القياس موهناً لغيره ( فيما هو كاشف بالذّات ) أي : لايكون القياس موهناً لماله كشف نوعي - كما عرفت - .

وعليه : ( فحكمه ) أي : حكم القياس ( حكم عدمه ) فكأنه لم يكن ( فكأنّ مضمونه ) أي : مضمون القياس ( مشكوك لا مظنون ) ومن المعلوم : انّ الشك ليس بحجّة ولايكون موهناً ( بل مقتضى ظاهر التّعليل ) في النهي عن القياس ( : انه كالموهوم ) الذي هو أسوء من المظنون ، لأن ذلك هو معنى : كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه .

إذن : ( فكما لاينجبر به ) أي : بالقياس ( ضعيف ) السند أو الدلالة ( لا يضعّف به ) أي بالقياس ( قويّ ) السند أو الدلالة ، فالقوي على حاله ، سواء كان القياس مخالفاً له أم لا .

ص: 157

ويؤيّد ما ذكرنا الروايةُ المتقدّمةُ عن أبان الدّالة على ردع الامام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع وهذا حسنٌ .

لكنّ الأحسنَ منه تخصيصُ ذلك بما كان إعتباره من قِبَل الشارع .

كما لو دلّ الشرع على حجّيّة الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه .

فان نفي الأثر شرعا عن الظنّ القياسيّ يوجب بقاء إعتبار تلك

-------------------

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من انّ القياس وجوده كعدمه ( :الرّوايةُ المتقدّمة عن أَبان الدّالّة على ردع الإمام ) عليه السلام ( له ) أي : لأبان ( في رد الخبر الواحد في تنصيف ديّة أصابع المرأة بمجرد مخالفته للقياس ) قوله : « بمجرد » ، متعلق بقوله : « رد » ( فراجع ) كي تعلم إنّ القياس كالمشكوك ، بل كالموهوم ، في انّه لايصح أن يكون مستنداً ، ولاموهناً ، ولا جابراً .

( وهذا ) أي : هذا الذي ذكرناه : من انّ القياس لايكون له شأن في أي من الاُمور الشرعية ( حَسَنٌ ) لما ذكرناه .

( لكنّ الأَحسنَ منه تخصيص ذلك ) أي : تخصيص انّ القياس ليس موهناً ( بما كان إعتباره من قِبَل الشارع ) فالشئالذي إعتبره الشارع لايكون القياس - وان أورث الظنّ بخلافه - موهناً له .

( كما لو دلّ الشّرع على حجّية الخبر مالم يكن الظنّ على خلافه ) بأن قال الشارع : الخبر حجّة مالم يكن ظنّ على خلافه ، فان القياس إذا سبّب الظنّ على الخلاف لم يكن هذا القياس حجّة ، لأن الشرع لما أسقط القياس دل على انه ليس بدليل ، ولا جابر ولا كاسر .

وعليه : ( فانّ نفي الأثر شرعاً عن الظنّ القياسي ، يوجب بقاء إعتبار تلك

ص: 158

الأمارة على حاله .

وأمّا ما كان إعتباره من باب بناء العُرف وكان مرجعُ حجّيّته شرعا إلى تقرير ذلك البناء ، كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع .

فتأثير الظنّ بالخلاف في القدح في حجّيّة الظواهر

-------------------

الأمارة ) التي هي حجّة ( على حاله ) أي : حال تلك الأمارة ، وانمّا أتى بضمير المذكر ،لافادة انّ الأمارة دليل .

والحاصل : انّ الشارع إذا قال : الأمارة حجّة مالم يظنّ على خلافها ، فكان الظّن القياسي على خلافها ، لم يسقط القياس تلك الأمارة عن الحجّية ، لأن الظنّ القياسي وجوده كعدمه عند الشارع ، فكأن تلك الأمارة لا ظنّ على خلافها .

( وأمّا ماكان إعتباره من باب بناء العرف ، وكان مرجع حجيته ) الضمير في « حجيته » راجع الى « ماكان » ( شرعا الى تقرير ذلك البناء ) العرفي ( كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم ) فانّ العرف لايعملون بظاهر كان القياس مخالفاً لذلك الظاهر ( فلا يرتفع ذلك ) أي : ظهور الظاهر عن الحجّية بسبب القياس المخالف لذلك الظاهر .

وإنّما لايرتفع حجيته ( بماورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع ) فان الشارع إنّما جعل الحجّية لظاهر ، هو عند العرف حجّة ، والعرف لا يرى الحجّية لظاهرٍ خالفه القياس .

وعليه : ( فتأثير الظنّ ) القياسي ( بالخلاف ، في القدح في حجّية الظواهر ) حيث قلنا : إنّ القياس يسقط الظاهر عن الحجّية عند العرف ، والشارع إنما جعل الظواهر حجّة إذا كان العرف يرون حجيتّها .

ص: 159

ليس مثلَ تأثيره في القدح في حجّيّة الخبر غير المظنون الخلاف في كونه مجعولاً شرعيّا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ، لأنّ المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا هي الآثار المجعولة دون غيرها .

نعم ، يمكن أن يُقال : إنّ العرفَ بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع

-------------------

فان تأثير ذلك فيه ( ليس مثل تأثيره ) أي : تأثير الظنّ بالخلاف ( في القدح في حجّية الخبر ، غير المظنون الخلاف ) ممّا لم يكن الظنّ القياسي على خلافه ( في كونه مجعولاً شرعياً ، يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ) فانّ الشارع إذا جعل الشيء حجة وكان القياس على خلافه ، لم يضر القياس بحجّية ذلك الشيء ، لأن الشارع لم يجعل القياس مؤثراً ، فسواء كان القياس على خلافه أم لا ، يكون حجّة ، وانّما لايضر القياس بالحجّة المجعولة شرعاً ( لأن المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشئالموجود حسّاً ) والمراد بالشئ: هو الظنّ القياسي ( هي الآثار المجعولة دون غيرها ) والأثر المجعول للظن بالخلاف فيما نحن فيه ، لايكون إلا في حجيّة الخبر ، دون حجّية الظواهر ، فيرتفع أثر الظنّ القياسي بالخلاف في حجيّة الخبر ، فاذا كان القياس على خلاف الخبر لايعتنى بالقياس ويؤخذ بالخبر ، لإن الشارع نفى إعتبار القياس .

لكن إذا كان القياس مخالفاً للظواهر أثَّر القياس في إسقاط حجيتّها ، لأنّ الشارع جعل الحجّية للظواهر التي يراها العرف حجّة ، والظاهر الذي مخالف للقياس لايراه العرف حجّة ، فلا يراه الشرع حجّة .

( نعم ) هذا إستثناء من قوله : لكن الأحسن منه ، وهو انّه ( يمكن أن يقال : انّ العُرفَ بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع ) وانّه منع عن العمل بالقياس

ص: 160

لا يعبأون به في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته ، فيكون النهيُ عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها للقياس .

وممّا ذكرنا يعلمُ حالُ القياس في مقابل الدّليل الثابت حجّيّته بشرط الظنّ .

كما لو جعلنا الحجّةَ من الأخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها ،

-------------------

منعاً أكيداً ( لايعبأون به ) أي : بالقياس ( في مقام إستنباط أحكام الشارع من خطاباته ) أي : من خطابات الشارع ، فلا يرون للقياس مدخلية في إستنباط الأحكام إطلاقاً ، لا استناداً ، ولاترجيحاً ، ولاتأييداً .

وعليه : ( فيكون النهي ) من الشارع ( عن القياس ، ردعاً لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها ) أي : مخالفة تلك الظواهر ( للقياس ) أي : ان العرف يبنون على تعطيل الظواهر لأجل انّها تخالف القياس ، فلايأخذون بالظواهر ، لكن بعد نهي الشارع عن القياس ، يأخذون بالظواهر ويتركون القياس .

( وممّا ذكرنا ) : من إنّ القياس هل يكسر الظاهر فيسقط الظاهر عن الحجيّة ، أو أن الظاهر يؤخذ به وان خالفه القياس وانّما القياس هو الذي يسقط ، ( يعلم حال القياس فيمقابل الدليل الثابت حجيته بشرط الظنّ ) وانّه هل يعمل فيه بالقياس أو يعمل بالدليل ؟ .

( كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار : المظنون الصدور منها ) أي : من تلك الأخبار ، بأن لم نقل الاخبار مطلقاً حجّة ، وانمّا الاخبار المظنونة الصدور حجّة ( أو الموثوق به منها ) بأن يكون الحجّة من الأخبار هي الأخبار المظنونة الصدور بالظن الاطمئناني .

ص: 161

فانّ في وهنها بالقياس الوجهين : من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجّيتها على وجه الشرطيّة ، فمرجعه إلى فقدان شرط وجدانيّ ، أعني وصف الظنّ بسبب القياس .

ونفي الآثار الشرعيّة للظنّ القياسيِّ لا يُجدي ، لأنّ الأثر المذكور ، أعني رفع الظنّ ، ليس من الاُمور المجعولة ،

-------------------

( فان في وهنها ) أي : وهن تلك الأخبار ( بالقياس ) أي : بسبب القياس ( الوجهين ) المتقدمين : فيانهّ هل يؤخذ بالقياس أو يؤخذ بالأخبار ؟ .

ثم بيّن الوجه الأول بقوله : ( من حيث ) إنّ القياس يكسر الحجّة ، لأجل ( رفعه ) أي : رفع القياس ( للقيد المأخوذ في حجيّتها ) أي : في حجّية تلك الأخبار ( على وجه الشرطية ) لأن تلك الأخبار حجيتها من جهة الظنّ مطلقا أو من جهة الظنّ الاطمئناني ، ومن المعلوم : إنّ القياس يرفع هذا الظنّ فتسقط الأخبار عن الحجيّة .

( فمرجعه ) أي : مرجع رفع القياس للقيد المأخوذ ( الى فقدان شرط وجداني ) عن تلك الأخبار - ( أعني : وصف الظنّ - بسبب القياس ) قوله : « بسبب » ، متعلق بقوله : « فقدان » .

هذا ( ونفي الآثار الشرعية للظنّ القياسيِّ لايُجدي ، لأنَّ الأثر المذكور أعني : رفع الظنّ ليس من الاُمور المجعولة ) للشارع حتى ينتفي بنفي الآثار الشرعية للظنّ القياسي .

قوله : «ونفي الاثار ...» عبارة عن إشكال ، وهو : إنّ الشارع رفع أثر القياس ، فكيف يكسر القياس الخبر الذي هو حجّة ؟ فاجاب عنه بقوله : « لا يجدي ...» ممّا حاصله : ان القياس يرفع الظّن ، والظنّ معتبر في حجّية الخبر .

ص: 162

ومن أنّ أصل إشتراط الظنّ من الشارع ، فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المُزاحَمَ بالظنّ القياسيّ لا يُنقَصُ أصلاً من حيث الايصال إلى الواقع وعدمه من الخبر السليم عن مزاحمته ، وإن وجود القياس وعدمه في نظره سيّان .

فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدٍّ سواء .

ومن هنا

-------------------

( ومن انّ أصل إشتراط الظنّ من الشارع ) وهذا وجه عدم كسر القياس للحجة ، ( فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المُزاحَم بالظنّ القياسي ) حيث ان القياس ضد الخبر ( لايُنقَصُ ) هذا الخبر ( أصلاً من حيث الايصال الى الواقع وعدمه ) أي : عدم : الايصال ( من الخبر السليم عن مزاحمته ) أي : عن مزاحمة القياس ( وإنّ وجود القياس وعدمه في نظره ) أي : في نظر الشارع ( سيّان ) أي : متساويان .

وعليه : فاذا علمنا ذلك ( فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء ) والمراد بالخبرين : هما الخبران اللذان أحدهما خالف القياس ، والآخر لم يخالف القياس ، فانّه إذا كان القياس وجوده كعدمه ، فالخبر بذاته مظنون وإن لم يكن الظنّ فعلياً لمزاحمة القياس ، فالخبر المظنون بذاته حجّة ، سواء كان هناك ظنّ فعلي بمضمون الخبر ، أو لم يكن ظنّ فعلي ، لأنّ القياس الذي هو مظنون عارض الخبر .

ولا يخفى : ان الوجه الثاني الذي أشار اليه بقوله : «ومن ان اصل اشتراط الظنّ من الشارع ...» هو الذي قرّبه المصنّف سابقاً ويقرِّبه لاحقاً .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرناه : من ان الخبر المظنون الذي هو حجة ، ان كان إعتبار ظنّه من الشارع لم يعارضه القياس ، وان لم يكن إعتبار ظنّه من الشارع

ص: 163

يمكن جريان التفصيل السابق : بأنّه إن كان الدليل المذكور المقيّد اعتبارُه بالظنّ ممّا دلّ الشرعُ على إعتباره ، لم يزاحمه القياسُ الذي دلّ الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين اللّه ، وإن كان ممّا دلّ على إعتباره العقلُ الحاكمُ بتعيين الأخذ بالراجح عند إنسداد باب العلم والطرق الشرعيّة ، فلا وجهَ لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجّيّته أعني الظنّ .

فانّ غايةَ الأمر صيرورةُ مورد إجتماع تلك الأمارة والقياس مشكوكا ،

-------------------

عارضه القياس وأسقطه ( يمكن جريان التفصيل السابق ) هنا وهو : ( بأنّه إن كان الدليل المذكور ) كالخبر ( المقيد إعتبارهُ بالظّن ، ممّا دل الشرع على إعتباره ) أي : على اعتبار ذلك الظنّ ( لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه ) أي : على كون القياس ( كالعدم من جميع الجهات الّتي لها مدخل في الوصول الى دين اللّه ) فكلّ شيء له مدخلية في الوصول الى دين اللّه سبحانه وتعالى لايعارضه القياس ، كما لايؤده .

( وإن كان ممّا دلّ على إعتباره العقل ، الحاكم بتعيين الأخذ بالرّاجح عند إنسداد باب العلم والطرق الشرّعية ) بأن كان الظنّ حجيته من باب الانسداد ( فلا وجه لاعتباره ) أي : إعتبار ذلك الظنّ الذي دلّ عليه العقل ( مع مزاحمة القياس ) لهذا الظنّ ( الرافع لما هو مناط حجيّته ) أي : حجيّة ذلك الخبر الذي عارضه القياس ( أعني : الظنّ ) قوله : « أعني » ، بيان لقوله : « مناط حجيته » .

وعليه : فاذا عارض القياس الظنّ الانسدادي قدم القياس عليه ، لأن الدليل مستند الى العقل والقياس يرفع هذا الدليل العقلي .

( فان غاية الأمر : صيرورة مورد إجتماع تلك الأمارة والقياس ، مشكوكاً )

ص: 164

فلا يحكم العقلُ فيه بشيء ، إلاّ أن يدّعيَ المدّعي أنّ العقلَ بعد تبيّن حال القياس لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به عن القوّة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم وإن كان لا يعبّر عن تلك القوة حينئذٍ بالظنّ وعن مقابلها بالوهم .

والحاصل : أنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا

-------------------

بأنه هل يعمل بتلك الأمارة الانسدادية ، أو يعمل بالقياس ؟ ( فلا يحكم العقل فيه ) أي : في هذا المورد المشكوك ( بشيء ) من الحجيّة أو اللاحجيّة ، وإذا لم يحكم العقل بشيء من الحجية أو اللاحجية ، سقطت تلك الأمارة المستندة الى الانسداد .

والحاصل : إنّ القياس إذا خالف الأمارة الانسدادية فاما أن نقول بتقدم القياس على الأمارة ، أو نقول بتعارضهما وتساقطهما فان النتيجة : عدم وجود الحجة .

( إلاّ أن يدّعي المدّعي ) عدم إسقاط القياس للامارة الانسدادية أيضاً ، ( انّ العقل بعد تبيّن حال القياس ) وانّه لايصيب الواقع ، ولا مدخلية له في دين اللّه ( لايسقط عنده الأمارة المزاحمة به ) أي : بالقياس ( عن القوة التي تكون لها ) أي : لتلك الأمارة ( على تقدير عدم المزاحم ) فالعقل يعمل بالامارة ، سواء خالفها القياس أو لم يخالفها ( وإنْ كان لايعبّر عن تلك القوة حينئذٍ ) أي حين زاحمها القياس ( : بالظنّ ، وعن مقابلها : بالوهم ) فان الأمارة لاظنّ بها حينئذٍ ، إلاّ انّه يعمل بها ولايؤخذ بالقياس .

( والحاصل ) أي : حاصل ما تقدّم من قولنا : إلاّ أن يدعي ( : انّ العقلاء اذا وجدوا في شهرة خاصة ، أو إجماع منقول ) أو ما أشبههما ( مقداراً

ص: 165

من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجأوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم ، وعلموا من حال القياس ببيان الشارع أنّه لا عبرة بما يفيد من الظنّ ولا يرضى الشارع بدخله في دين اللّه ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا ، لأنّه لا ينقصهما عمّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأنيّ والنوعيّ والطبعيّ .

وممّا ذكرنا صحّ للقائلين لأجل الانسداد ، بمطلق الظنّ إلاّ ما خرج ،

-------------------

من القوة والقرب الى الواقع ، والتجأوا الى العمل على طبقهما مع فقد العلم ) لأن المفروض إنسداد باب العلم ( وعلموا من حال القياس ببيان الشارع : انّه لاعبرة بما يفيد ) القياس ( من الظنّ ، ولايرضى الشارع بدخله في دين اللّه ) تعالى .

إذا علموا بذلك ( لم يفرقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين ) الذين هما مستند الحكم ( مزاحمين بالقياس أم لا ) فان العقلاء يعملون بالشهرة والاجماع ، سواء وافقهما القياس أو خالفهما ، أو لم يكن هناك قياس اصلاً وذلك ( لأنه ) أي : لان القياس ( لاينقصهما ) أي : لاينقص الشهرة والاجماع ( عمّا هما عليه من القوة والمزية المسماة ) تلك القوة المزية ( : بالظن الشأني والنوعيّ والطبعيّ ) .

ثم أن كل هذه الالفاظ الثلاثة في مقابل الظنّ الفعلي ، لأنه بعد القياس لا ظنّ فعلي بتلك الأمارة ، فيسمى بالشأني : لأن من شأنه حصول الظنّ على طبقه ، ويسمى بالنوعي : لأن نوع هذه الأمارة يوجب حصول الظّن ، ويسمى بالطبعي : لأن طبع هذه الأمارة حصول الظنّ بسببها .

( وممّا ذكرنا ) : من إنّ القياس لايكسر الأمارة الانسدادية ( صح للقائلين لأجل الانسداد بمطلق الظنّ ، إلاّ ما خرج ) قوله : « بمطلق » ، متعلق بقوله : « للقائلين » ، أي : صح للقائلين بحجّية مطلق الظنّ لأجل الانسداد إلاّ ما خرج ، وقوله :

ص: 166

أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأنيّ ، بمعنى إنّ الظنّ الشخصيّ إذا إرتفَعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القولُ بذلك على رأي بعضهم ممّن يُجري دليلَ الانسداد في كلّ مسألة مسألة ،

-------------------

« الاّ ما خرج » استثناء عن مطلق الظن ، أي : يقولون بحجيّة مطلق الظنّ إلا الظنّ الذي خرج بدليل .

وعليه : فللقائلين بمطلق الظنّ للإنسداد ( أن يقولوا : بحجيّة الظّن الشأني بمعنى : إنّ الظنّ الشخصي إذا إرتفعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد ) وكان الارتفاع ( بسبب الأمارات الخارجة عنه ) أي : الانسداد ( لم يقدح ذلك ) الارتفاع ( في حجيتها ) أي : في حجيّة تلك الأمارات ، وذلك لأن الظنّ الشخصي ليس معياراً في باب الانسداد وانّما المعيار هو الظن الشأني النوعي الطبعي كما عرفت .

( بل يجب القول بذلك ) أي : بعدم القدح ( على رأي بعضهم ) أي : على رأي بعض القائلين بالإنسداد ( ممن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة ) فان في باب الانسداد قولين :

الأوّل : انّه إذا تمت مقدمات الانسداد نعمل بالظّن المطلق في جميع المسائل ، سواء كان في بعض تلك المسائل دليل خاص ، أم لا .

الثاني : انّه إذا تمت مقدّمات الانسداد ، فاللازم أن نجري مقدمات الانسداد في كلّ مسألة مسألة ، فاذا كان في مسألة دليل خاص نعمل بذلك الدليل الخاص ، ولانعمل فيها بالظنّ الانسدادي ، لانّه إذا جاء الدليل الخاص فلا مجال للعمل بالظنّ الانسدادي .

ص: 167

لأنّه إذا فرض في مسألة وجودُ أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجهَ للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم .

هذا كلّه مع إستمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهيّة وعدم الاعتناء في الكتب الاصوليّة .

فلو كان له أثر شرعيّ ولو في الوهن ، لوجب التعرّض لأحكامه في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في كلّ مورد من موارد الفروع ،

-------------------

وإنّما قلنا : بل يجب ( لأنه إذا فرض في مسألة ) خاصة ( وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ) بسبب القياس .

( فافهم ) ولعله إشارة الى انّه يختلف الأمر بين الحكومة : فالقياس مزاحم وموجب لإسقاط الأمارة ، وبين الكشف : فليس القياس بمزاحم لأن العقل لا يرى القياس مزاحماً ، بينما الشرع يراه مزاحماً .

( هذا كلّه ) تقريب للأخذ بالأمارة في قبال القياس ( مع إستمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهية ) سواء كان العامل بالفقه إنسدادياً أو إنفتاحياً ( وعدم الاعتناء في الكتب الاصولية ) بالقياس .

( فلو كان له ) أي : للقياس ( أثر شرعي ولو في الوهن ) للامارة المقابلة للقياس ( لوجب التعرّض لأحكامه ) أي : أحكام القياس ( في الاصول ) بأن يقولوا : انّه حجّة أو ليس بحجة ، وانّه جابر ، أو موهن ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) لوجب ( البحث والتفتيش عن وجوده ) أي : عن وجود القياس ( في كل مورد من موارد الفروع ) بأن يقول - مثلاً - إن خبر أبان في قطع أصابع المرأة موهوم ، لأنّه مخالف للقياس ، أو أن إعطاء الدرهم للودعيين بالتنصيف مخالف للقياس ، أو ما أشبه ذلك ، بينما لم نعهدهم يقولون بمثل ذلك في أي فرع

ص: 168

لأنّ الفحصَ عن الموهن كالفحص عن المعارض واجبٌ ، وقد تركه أصحابنا في الاُصول والفروع ، بل تركوا روايات من إعتنى به منهم وإن كان من المؤسّسين لتقرير الاُصول ، وتحرير الفروع ، كالاسكافيّ ، الذي نسب اِليه بناء تدوين « اصول الفقه » من الاماميّة منه ومن العمّانيّ يعني ابن ابي عقيل ، وفي كلام آخر : إنّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلّة منهما أيضا ، جزاهما اللّه وجميعَ من سَبَقَهُما ولحقَهُما خيرَ الجزاء .

-------------------

من فروع الفقه .

وانّما يجب الفحص ( لأن الفحص عن الموهن ، كالفحص عن المعارض واجبٌ ) لأنّه مقدمة لحصول الأحكام ، ومقدمة حصول الأحكام واجبة كما ذكروا.

( و ) لكن نرى ( قد تركه ) أي : ترك البحث والتفتيش عن القياس ، وعن ذكر أحكامه ( أصحابنا في الاصول والفروع ) ممّا يدل على قيام سيرتهم على عدم ملاحظة القياس لا دليلاً ، ولا مؤيداً ، ولا موهنا .

( بل تركوا ) أي : الاصحاب ( روايات من إعتنى به ) أي : بالقياس ( منهم وإن كان من المؤسسين لتقرير الاُصول وتحرير الفروع ، كالاسكافي ) وهو : إبن الجُنيد ( الذي نسب اليه : بناء تدوين « اصول الفقه » من الامامية منه ) أي من الاسكافي ، فانّه أول من دوّن في اصول الفقه .

( ومن العماني يعني : إبن أبي عقيل ) ، فان العُماني شارك الاسكافي في التدوين ، ولهذا عبر عنهما بالقديمين حيث انّهما ( قدّس سرّهما ) أول من دوّنا في الاصول . ( وفي كلام آخر ) هذا عطف على قوله : « نسب اليه » : ( انّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلة منهما أيضاً ، جزاهما اللّه وجميع من سبَقَهُما ولحقهما خير الجزاء ) .

ص: 169

ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التقصّي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه على التكلّم فيما سطرنا هيهنا نقضا وإبراما .

هذا تمامُ الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظنّ المنهيّ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه .

وأمّا الظنُّ الذي لم يثبت إلغاؤه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ،

-------------------

هذا ، ولكن أجوبة المسائل وذكر الفتاوى في كتب الأخبار - بالمناسبة - كان قبلهما أيضاً ، وإنّما هما أول من دوّن في الفقه على إسلوب الرسائل العمليّة المتداولة اليوم .

( ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا - في التفصيّ عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد - من الوجوه ) قوله : « من الوجوه » ، متعلق بقوله : « ماذكرنا » أي : بملاحظة تلك الوجوه تقدر ( على التكلم فيما سطرنا هيهنا ) في الموهنية ( نقضا وإبراما ) فانّه كما يستشكل على خروج القياس عن الحجّية الانسدادية ، مع انّه موجب للظنّ ، كذلك يستشكل بأنه كيف لايكون القياس موهناً ، مع إن الظّن الانسدادي حجّة مطلقاً ؟ والجواب عن هذا الاشكال في الوهن هو الجواب عن الاشكال في عدم الحجيّة .

( هذا تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة ) كالشهرة ونحوها وهنا ( بالظنّ المنهي عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه ) كالاستحسان ، والرأي ، وما أشبه ذلك.

( وأمّا الظنّ الذي لم يثبت الغاؤه الاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ) كالظنّ الحاصل من الجَفر ، والرّمل ، والرُّؤيا ، وما أشبه ذلك

ص: 170

فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارُها مشروطا بعدم الظنّ بالخلاف ، فضلاً عمّا كان اعتبارُه مشروطا بافادة الظنّ .

والسرّ فيه انتفاء الشرط .

وتوهُم « جريان ما ذكرنا في القياس هنا من جهة انّ النّهي يدلّ على عدم كونه مؤثرا أصلاً فوجوده

-------------------

( فلا إشكال في وهنه ) فان مثل هذا الظنّ موهن ( لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظّن بالخلاف ) لأن مثل هذه الظنّ يوجب فقد الشرط ، وإذا فقد الشرط فقد المشروط الذي هو حجيّة تلك الأمارة ( فضلاً ) في كون مثل هذا الظّن موهناً ( عما كان إعتباره مشروطاً بافادة الظن ) .

فاذا إعتبر في حجيّة الشهرة - مثلاً - عدم الظنّ بالخلاف ، وظنّ الشخص بالخلاف من جهة الجَفر - مثلاً - ، فانّه لايمكن العمل بالشهرة ، أما إذا قلنا : بأن حجيّة الشهرة مشروطة بأن يظنّ الانسان وفق الشهرة ، فاذا ظنّ الانسان من الجفر على خلاف الشهرة ، كان سقوط الشهرة عن الحجيّة بطريق أولى .

( والسرّ فيه ) أي : في كون الظنّ بالخلاف موهناً ( إنتفاء الشرط ) لفرض : أن الشهرة مشروطة بالظّن بالوفاق أو بعدم الظّن بالخلاف ، وقد فقد الشرط بسبب الظنّ الذي كان على خلاف الشهرة .

( وتوهم جريان ما ذكرنا في القياس ) من عدم الوهن فيعمل بالامارة في قِبال الظنّ بالخلاف ( هنا ) أي : في الظنّ الذي لم يثبت الغائه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن .

وانّما يتوهم جريانه هنا ( من جهة ان النهي ) عن العمل بالظّن ( يدل على عدم كونه مؤثراً أصلاً ) حتى في الوهن ( فوجوده ) أي : وجود الظّن الذي لم يثبت

ص: 171

كعدمه من جميع الجهات » ، مدفوعٌ .

كما أنّه لا إشكال في عدم الوهنيّة إذا كان إعتبارها من باب الظنّ النوعيّ .

المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

وقد عرفت أنّه على قسمين : أحدُهما ما ورد النهيُ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه .

-------------------

الغائه الاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن ( كعدمه من جميع الجهات ) فلا يكون مثل هذا الظنّ جابراً ، أو كاسراً ، أو مستنداً ، بل يكون كالظنّ القياسي فان هذا التوهم ( مدفوع ) بالفرق بين القياس المنهي عنه بالخصوص ، وغير القياس الذي لم ينه عنه بالخصوص وانّما لايعمل به لأنه داخل في إطلاق حرمة العمل بالظّن ، فلا يكون القياس موهناً بينما يكون هذا الظنّ موهنا ، لأن هذا الظّن يوجب فقد الشرط على ماعرفت .

( كما انّه لا إشكال في عدم الوهنية ) بالظّن الذي لم يثبت إلغائه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ( إذا كان إعتبارها ) أي : إعتبار الأمارة المقابلة لهذا الظّن ( من باب الظنّ النوعيّ ) .

وانّما لم يكن إشكال في عدم الوهنية لبقاء شرط إعتبارها مع فقدان الظنّ الفعلي للظنّ بالخلاف ، إذ المفروض : ان الأمارة المذكورة لاتحتاج الى الظنّ الفعلي حتى إذا فقدنا الظنّ الفعلي سقطت عن الحجيّة .

( المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر ) وانّه هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجحاً لأحد الخبرين على الآخر فيما إذا تعارض خبران أم لا ؟ ( وقد عرفت : انه ) أي : الظنّ غير المعتبر ( على قسمين ) كما يلي : ( أحدهما : ماورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه ) من الاستحسان والرأي .

ص: 172

والآخرُ ما لم يعتبر ، لأجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمة .

أمّا الأوّل ، فالظاهر من أصحابنا عدمُ الترجيح به .

نعم ، يظهر من المَعارج وجودُ القول به بين أصحابنا ، حيث قال في باب القياس : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياسُ موافقا لما تضمنّه أحدُهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيحَ ذلك الخبر ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العملُ بهما ولا طرحُهُما ، فتعيّن العملُ بأحدهما ، وإذا كان التقديرُ تقديرَ التعارض ،

-------------------

( والآخر : مالم يعتبر لأجل عدم الدليل ، وبقائه تحت أصالة الحرمة ) المستفادة من النهي عن العمل بالظّن ، كالرّؤيا ، والجَفر ، والرَّمل ، وغير ذلك .

( أما الأول ) : وهو ما ورد النهي عنه بالخصوص ( فالظاهر من أصحابنا : عدم الترجيح به ) أي بهذا الظنّ غير المعتبر .

( نعم ، يظهر من المعارج ) للمحقق قدس سره ( وجود القول به ) أي : بالترجيح بسبب القياس ( بين أصحابنا ) الامامية ، ( حيث قال في باب القياس : ذهب ذاهب ) أي : بعض الفقهاء ( الى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقاً لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك ) أي : موافقه القياس ( وجهاً يقتضي ترجيح ذلك الخبر ) الموافق للقياس به .

( ويمكن أن يحتج لذلك ) أي : لترجيح القياس لأحد الخبرين المتعارضين ( : بأن الحق في أحد الخبرين ) المتعارضين ( فلا يمكن العمل بهما ) لتعارضهما ( ولا طرحهما ) والعمل بشيء ثالث ، لانّا نعلم إنّ الحق في أحدهما ( فتعين العمل بأحدهما ) فقط ( وإذا كان التقديرُ ) أي الفرض ( تقديرَ التعارض ) ومقاومة

ص: 173

فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياسُ يصلحُ أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العملُ بما طابقه .

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياسَ مطروحٌ في الشريعة .

لأنا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنْ لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدةَ كونه مرجّحا كونُه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجحُ كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، لا بذلك القياس .

-------------------

كل واحد منهما للآخر ( فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ) سواء كان مرجحاً منصوصاً أو غير منصوص .

وعليه : فان لم يكن هناك مرجحات خارجية أو داخلية تصل النوبة الى القياس ( و ) ذلك لأن ( القياس يصلح أن يكون مرجّحاً لحصول الظنّ به ) والخبر الموافق للقياس نظنّ بكونه مطابقاً للواقع ( فتعين العمل بما طابقه ) القياس .

( لا يقال : أجمعنا ) نحن الإمامية ( على إنّ القياس مطروح في الشريعة ) الاسلامية فكيف تجعلونه مرجحاً لأحد الخبرين ؟ .

( لأنا نقول ) طرح القياس ( بمعنى : انه ليس بدليل على الحكم ) أي : إذا قام القياس على حكم ، لا نعمل به ( لا بمعنى أن لا يكون ) القياس ( مرجّحاً لأحد الخبرين ) فلا دليل على أنه لا يقع مرجحاً ، وانّما الدليل على أنه لا يقع دليلاً .

( وهذا ) الترجيح بالقياس إنّما هو ( لأنّ فائدة كونه مرجّحاً كونه رافعاً للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح ) بسبب القياس ، ( كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ) أي : بالخبر الراجح ( لا بذلك القياس ) المرجّح له ، فالخبر المرجوح يسقط بسبب القياس فيبقى الخبر الراجح بلا معارض فنعمل

ص: 174

وفيه نظرٌ » ، انتهى .

ومال الى ذلك بعضُ سادة مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، بعضَ الميل .

والحقّ خلافهُ ، لأنّ دفع الخبر المرجوح بالقياس عملُ به حقيقةً ، فانّه لولا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به ،

-------------------

بهذا الخبر الراجح .

( وفيه : ) أي : فيما ذهب إليه الذاهب من ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بسبب القياس ( نظر ) (1) لأن طرح القياس في الشريعة معناه : انّه لا إعتناء به إطلاقاً ، لا سنداً ، ولا مرجحاً ، ولا موهناً .

هذا بالاضافة إلى انّه لو كان القياس مرجحاً ، لتعرَّضَ له الفقهاء في مقام التراجيح ، بينما نرى انّهم لا يتعرضون للقياس إطلاقاً .

( إنتهى ) كلام المحقق في المعارج .

( ومال الى ذلك ) أي : الترجيح بسبب القياس ( بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس سرهم بعضَ الميل ) أيضاً .

( و ) لكن ( الحق خلافه ) فلا يكون القياس مرجحاً ( لأن دفع الخبر المرجوح بالقياس ) قوله : « بالقياس » ، متعلق بقوله : « دفع الخبر » ، هو ( عمل به ) أي : بالقياس ( حقيقة ) .

وانّما كان عملاً به حقيقة لما بيّنه لقوله ( فانّه لولا القياس ، كان العمل به ) أي : بالخبر المرجوح ( جائزاً ) لأنه يكون حينئذٍ تخيير بين الأخذ بأحد الخبرين ( والمقصود ) من الترجيح بالقياس ( تحريم العمل به ) أي : بالخبر المرجوح

ص: 175


1- - معارج الاصول : ص186 .

لأجل القياس ، وأيُّ عمل أعظمُ من هذا .

والفرق بين المرجّح والدليل ليس إلاّ أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به والمرجّح رافع للمزاحم عنه . فلكلّ منهما مدخلٌ في العلّة التامّة لتعيّن العمل به .

فاذا كان إستعمالُ القياسِ محظورا وأنّه لا يعبأ به في الشرعيّات كان وجودُه كعدمه غيرَ مؤثّر ،

-------------------

تحريماً ( لأجل القياس ، وأيّ عمل أعظم من هذا ) فان جواز العمل بالمرجوح سقط بسبب القياس وهذا عين العمل بالقياس .

( والفرق بين المرجح والدليل ليس إلاّ : أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به ) أي : بالراجح ( والمرجّح : رافع للمزاحم عنه ) أي : عن الراجح ( فلكل منهما ) أي : من المرجح والدليل ( مدخلٌ في العلّة التامة لتعيّن العمل به ) أي : بالراجح ، فاذا قال خبر : « ثَمنُ العَذَرَةِ سُحت » (1) وقال خبر آخر : « لا بَأسَ بِبَيع العَذَرَةِ » (2) فانّه لا فرق بين أن يكون القياس دليلاً على « لا بَأس بِبَيعِ العَذَرةِ » ومرجحاً ل « لا بَأسَ بِبيَعِ العَذَرة » حيث يسقط بالقياس خبر : « ثَمنُ العَذر سُحت » .

( فاذا كان إستعمال القياس محظوراً ) في الشريعة ( وإنّه لا يعبأ به ) أي : بالقياس ( في الشرعيّات ) إطلاقاً كما يقتضي دليل حرمة العمل بالقياس ( كان وجوده) أي : وجود القياس (كعدمه غير مؤثر) لا في الاقتضاء ولا في رفع المانع .

ص: 176


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مع أنّ مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظنّ كونُهُ من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ، فيشترك مع الدليل المنضّم إليه في الاقتضاء .

هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ .

وأمّا على مذهبهم : فيكون القياسُ تمام المقتضي بناءا على كون الحجّة عندهم الظنّ الفعليّ ، لأنّ الجزء المنضمّ إليه

-------------------

والحاصل من إشكال الترجيح بالقياس امور :

أوّلا : إن القياس إذا دفع المزاحم كان عملاً به .

ثانياً : إن القياس إذا كان مرجحاً ، كان جزء المقتضي لا مجرد دفع المزاحم .

والى هذا الثاني اشار بقوله : ( مع إن مقتضى الاستناد في الترجيح به ) أي : بالقياس ( الى إفادته للظّن ، كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ) وقوله : « الى إفادته » ، متعلق بقوله : « الاستناد » ( فيشترك ) القياس ( مع الدليل المنضم اليه ) أي : الدليل الذي رجحناه بسبب القياس ( في الاقتضاء ) قوله : « في » ، متعلق بقوله : « يشترك » ، فيكونا جزئيّ مقتض : جزء هو الخبر ، وجزء هو القياس الذي إنضم الى الخبر .

ثمّ أن المصنّف اشار الى إشكال ثالث بقوله : ( هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ ، وأمّا على مذهبهم : فيكون القياس تمام المقتضي ) لاجزء المقتضي ( بناءاً على كون الحجّة عندهم ) أي : عند هؤلاء القائلين بمطلق الظنّ هو ( : الظّن الفعليّ ) .

وانّما يكون القياس على قولهم : تمام المقتضي ( لأنّ الجزء المنضم اليه )

ص: 177

ليس له مدخلٌ في حصول الظنّ الفعليّ بمضمونه .

نعم ، قد يكون الظنّ مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي ، فتأمّل .

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه

-------------------

القياس وهو الخبر ( ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعلي بمضمونه ) أي : بمضمون الخبر وإنّما المدخلية كلها للقياس .

والحاصل : انّه إذا تعارض خبران فكلّ واحد من الخبرين لا ظنّ بمضمونه ، فلا وجه للعمل به ، فاذا وافق القياس أحد الخبرين وعمل بذلك الموافق ، كان معناه : انا عملنا بالقياس ، فكان القياس كل المقتضي ، إذ القياس هو الذي إقتضى الظّن ، والمفروض : إنّ هؤلاء القائلين يعملون بمطلق الظّن فيكون عملهم بالقياس فقط ، فلا يكون القياس جزء المقتضي ، وإنمّا يكون كلّ المقتضي .

( نعم ) وهذا إستثناء من قوله هذا كلّه ( قد يكون الظنّ مستنداً إليهما ) أي : الى القياس ، والى الخبر المنضم إليه القياس ( فيصير ) القياس ( من قبيل جزء المقتضي ) لا كل المقتضي .

( فتأمّل ) لعله إشارة الى إنّ كلاً من الخبرين مقتضٍ للظنّ الفعلي ، لكن تساويهما وتعارضهما مانع عن حصول الظنّ الفعلي ، فالظنّ القياسي يرفع هذا المانع عن الخبر الموافق له ، فيحصل الظنّ الفعلي بسبب القياس ، فيكون كل واحد من الخبر والقياس جزءاً من المقتضي ، لا كلّ المقتضي الذي ذكرناه في قولنا : «هذا كله على مذهب غير القائلين بمطلق الظن ...» .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من عدم كون القياس مرجحاً ( بل يدل عليه :

ص: 178

إستمرار سيرة أصحابنا الاماميّة « رضوان اللّه عليهم » في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسيّ أحيانا فضلاً عن أن يتوقّفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر أو الترجيح بمرجّح موجود إلى أن يبحثوا عن القياس .

كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية .

-------------------

إستمرار سيرة أصحابنا الامامية رضوان اللّه عليهم في الاستنباط ، على هجره ) أي : هجر القياس ( وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسي أحياناً ) فانهم أحياناً يحصل لهم الظّن من القياس ، ومع ذلك لا يعملون به ، ممّا يدل على أنّهم لا يجعلون القياس مرجحاً ، كما لا يجعلونه دليلاً .

( فضلاً عن ان يتوقفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر ، أو الترجيح بمرجّح موجود ) توقفاً ( إلى أن يبحثوا عن القياس ) .

و ( كيف ) يكون عندهم القياس مرجحاً ؟ ( ولو كان كذلك ) أي : كان القياس مرجحاً ( لاحتاجوا الى عنوان مباحث القياس ) بأن يعنونوا القياس في مباحثهم

الاصولية ، كما عنونوا الخبر الواحد ، والظواهر ، والاجماع ، وما أشبه ذلك .

( والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية ) بأن يبحثوا عن القياس بالمباحث التي يقتضي القياس البحث عنها على تقدير حجّيته ، مثل مبحث أن يكون القياس سنداً ، ومبحث أن يكون القياس مرجحاً ، ومبحث أن يكون القياس موهناً ، ومبحث تعارض القياسين وانّه إذا تعارضا ماذا يعمل معهما الى غير ذلك ، فحيث رأيناهم قد هجروا عنوان القياس ومباحثه ، دلّ على إنّ القياس مطروح عن الاعتبار في الشريعة مطلقاً ، حتى عن كونه مرجّحا لاحد الخبرين .

ص: 179

وأمّا القسم الآخر ، وهو الظنّ الغير المعتبر ، لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل ، فالكلامُ في الترجيح به يقعُ في مقامات .

الأوّلُ : الترجيحُ به في الدلالة بأن يقع التعارضُ بين ظهوري الدليلين ، كما في العامّين من وجه وأشباهه . وهذا لا إختصاصَ له بالدليل الظنّيّ السند ، بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة .

-------------------

( وأما القسم الآخر ) وهذا عطف على قوله قبل صفحة : «المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر وقد عرفت انّه على قسمين» ، ثم ذكر القسم الاول بقوله : «أحدهما : ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه» ، وهنا ذكر القسم الثاني ( و ) قال : ( هو الظنّ غير المعتبر لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل ) بالظنّ حسب ما يستفاد من الأدلة الأربعة ( فالكلام في الترجيح به ) أي : بهذا الظنّ غير المعتبر ( يقع في مقامات ) على النحو التالي :

( الأوّل : الترجيح به في الدلالة ) وذلك ( بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين ، كما في العاميّن من وجه ) حيث إنّ في مورد الاجتماع يكون لكل واحد من الدليلين ظهور فيه ، فيأتي ظنّ غير معتبر ، كالرّؤيا ، والجَفر ، ونحوهما ، لترجيح أحد العاميّن في مورد الاجتماع .

( وأشباهه ) كظهور الأمر في الوجوب ، وظهور ينبغي في الاستحباب وظهور النهي في الحرمة ، وظهور لا ينبغي في الكراهة ، الى آخر هذه الظهورات .

( وهذا ) القسم وهو : الترجيح بالظّن غير المعتبر في الدلالة ( لا إختصاص له بالدليل الظّني السند ) كخبري الواحد ( بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة ) فاذا فرض تعارض الظهور في آيتين ، أو تعارض الظهور في روايتين متواترتين ، يقع الكلام في أنّه هل يرجّح أحد الدلالتين على الآخر بسبب الظنّ غير المعتبر ، أم لا ؟ .

ص: 180

الثاني : الترجيحُ به في وجه الصدور ، بأن نفرض الخبرين صادرين وظاهري الدلالة ، وإنحصر التحيّرُ في تعيين ما صدر لبيان الحِكَم وتمييزه عمّا صدر على وجه التقيّة أو غيرها من الحِكَم المقتضية لبيان خلاف الواقع . وهذا يجري في مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور مع

-------------------

( الثاني : الترجيح به ) أي : بالظنّ غير المعتبر ( في وجه الصدور ) بأنّه هل صدر الخبر تقية ، أو لا ؟ وذلك ( بأن نفرض الخبرين صادرين ) قطعاً ( وظاهري الدلالة ) في مفادهما ( وإنحصر التحيّرُ في تعيين ما صدر لبيان الحكم ، وتمييزه عمّا صدر على وجه التقية ) .

مثلاً : إذا قال خبر : بأن الكافر نجس ، وقال خبر آخر : بأنّه طاهر ، والعامة لهم قولان في المسألة ، فلا نعلم إنّ الخبر الذي قال : بأنّ الكافر طاهر صدر تقية أو أن الخبر القائل : بأنّ الكافر نجس صدر تقية ، وكان هناك مرجّح ظنّي غير معتبر يؤيد هذا ، أو يؤيد ذاك ؟ .

( أو غيرها ) أي : غير التقية ( من الحِكَم ) جمع حكمة ( المقتضية لبيان خلاف الواقع ) مثل حكمة إيقاع الاختلاف بين الشيعة حتى لا يكون لهم طريق واحد ، يُعرفوا به ، وإنْ لم يكن شيء من تلك الأحكام موافقاً للعامّة ، ولذا قال عليه السلام : « أنا خالَفتُ بَيْنَهُم » (1) .

( وهذا ) أي : هذا الترجيح بالظّن غير المعتبر في وجه الصدور ( يجري في مقطوعي الصدور ) كالسُنَّتين المتواترتين ( ومظنوني الصدور ) كالخبرين ( مع

ص: 181


1- - عدّة الاصول : ج1 ص130 .

بقاء الظنّ بالصدور في كلّ منهما .

الثالثُ : الترجيحُ به من حيث الصدور بأن صار بالمرجّح أحدُهما مظنون الصدور .

وأمّا المقام الأوّل

فتفصيل القول فيه : أنّه إن قلنا بأنّ مطلق الظنّ على خلاف الظواهر يُسقِطُها عن الاعتبار لاشتراط حجّيّتها بعدم الظنّ على الخلاف ، فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظنّ المرجّح ،

-------------------

بقاء الظّن بالصدور في كلّ منهما ) وذلك فيما إذا كان أحدهما مقطوع الصدور والآخر مظنون الصدور .

( الثالث : الترجيح به ) أي : بالظنّ غير المعتبر ( من حيث الصدور بأن صار بالمرجّح أحدهما مظنون الصدور ) والآخر موهوم الصدور ، كما إذا كان هناك خبران ثقتان متعارضان لا نعلم إنّ أيّهما مرجح على الآخر من جهة الصدور ، فيأتي الظنّ غير المعتبر ليرجح أحدهما على الآخر .

( أما المقام الاوّل : فتفصيل القول فيه : انّه إن قلنا بأن مطلق الظنّ على خلاف الظواهر ، يُسقِطُها ) أي : يسقط تلك الظواهر ( عن الاعتبار ) .

وإنّما الظّن على خلاف الظاهر يسقط الظاهر عن الاعتبار ( لاشتراط حجيّتها ) أي : حجّية الظواهر ( بعدم الظنّ على الخلاف ) كما قال بذلك بعض .

وعليه : ( فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظّن المرجح ) وذلك لأن الظنّ لما اسقط الظاهر عن الاعتبار لم يكن ظاهر ، وانّما يكون المجال لخلاف ذلك الظاهر وهو الظنّ .

ص: 182

لكن يخرج حينئذٍ عن كونه مرجّحا ، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجّيّة ، لا لدفع مزاحمته للظهور المنضمّ إليه ، فيصير ما وافقه حجّةً سليمةً عن الدليل المعارض .

إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنُّ لأسقطهُ عن الاعتبار .

نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذّ التي لا إعتبار بها ،

-------------------

( لكن يخرج ) الظنّ ( حينئذٍ عن كونه مرجّحاً ، بل يصير سبباً لسقوط الظهور المقابل له ) أي : المقابل للظنّ ( عن الحجّية ) لأن الظاهر حينئذٍ لايكون حجّة وإنّما يكون الظنّ وحده هو الذي يجب العمل به ، وذلك ( لا لدفع مزاحمته للظهور المنضم إليه ) أي : إنّ الاسقاط ليس من جهة المزاحمة ( فيصير ما وافقه ) أي : ما وافق الظّن ( حجّةً سليمة عن الدليل المعارض ) ، بل لبقاء الظنّ وحده .

وإنّما قلنا : لا لدفع المزاحمة ( إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنّ ) بأن لم يكن خبر يوافق هذا الظنّ ، وانّما كان هناك ظنّ وكان ظهور على خلاف ذلك الظنّ ( لأسقطه عن الاعتبار ) أي : لأسقط الظّن الشيء المقابل له عن الاعتبار .

وعليه : فالظن يكون حينئذٍ ( نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذ الّتي لا إعتبار بها ) فإنّه إذا كان هناك خبران أحدهما موافق للشهرة ، والآخر مخالف لها ، اسقط الشهرة الخبر المخالف عن الاعتبار إطلاقاً ، فيؤخذ بالخبر المشهور حينئذٍ .

والحاصل : انّه إذا كان هناك خبران ، أحدهما يوافق الظنّ أو يوافق الشهرة ، فالخبر المخالف لهما لا إعتبار به أصلاً ، أما في الخبر المخالف للظنّ : فلأن مثل

ص: 183

بل أُمِرنا بتركها ولو لم يكن في مقابلها خبر معتبر .

وأولى من هذا : إذا قلنا باشتراط حجّيّة الظواهر بحصول الظنّ منها أو من غيرها على طبقها .

-------------------

هذا الخبر ليس حجّة لأنا إشترطنا أن لا يكون الظاهر مخالف للظّن ، والاّ سقط عن الظهور والحجّية ، وأما فيالخبر المخالف للشهرة : فلأن الشهرة تسقط الخبر المخالف لها عن الحجّية ، حيث قال عليه السلام : « دَع الشّاذَ النّادِر » (1) .

( بل أمرنا بتركها ) أي : بترك الأخبار الشاذة ( ولو لم يكن في مقابلها ) أي : في مقابل تلك الشواذ ( خبر معتبر ) فكيف بما إذا كان في مقابل تلك الشواذ خبر معتبر ؟ .

( وأولى من هذا ) الذي ذكرناه : من إشتراط الحجّية بعدم الظنّ بالخلاف ( إذا قلنا باشتراط حجّية الظواهر بحصول الظنّ منها ) أي : من تلك الظواهر ( أو من غيرها ) أي : من غير تلك الظواهر ( على طبقها ) فاللازم في حجّية الظواهر : أن يظن الانسان بمضمون الخبر ، سواء حصل الظّن من نفس الخبر ، أو حصل الظّن من أمارة خارجية .

وانّما كان الترجيح بالظّن غير المعتبر هنا أولى ممّا اشترطنا حجيته بعدم الظن بالخلاف ، لأنه لم يحصل الظنّ بمضمون الخبر .

والحاصل : انّه يلزم : إما عدم الظنّ بالخلاف ، وإما الظّن بالوفاق ، فاذا كان الظنّ بالخلاف مسقطاً ، كان عدم الظنّ بالوفاق مسقطاً بطريق أولى ، إذ في الاول :

ص: 184


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لكنّ هذا القول سخيفٌ جدّا ، والأوّل أيضا بعيدٌ ، كما حقّق في مسألة حجّيّة الظواهر .

وإن قلنا بأنّ حجّيّة الظواهر من حيث إفادتها للظنّ الفعليّ وأنّه لا عبرةَ بالظنّ الحاصل من غيرها على طبقها ، أو قلنا بأنّ حجّيّتها من حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لا يعتبر فيها إفادتها للظنّ الفعليّ ،

-------------------

المقتضي موجود وإنّما منع عنه المانع ، وفي الثاني : المقتضي ليس بموجود ، فاذا كانت نار وَكان الخشب رطباً لا يحترق ، فعدم الاحتراق إذا لم تكن نار أصلاً أولى .

( لكن هذا القول ) الذّي يقول بإشتراط حجّية الظواهر بحصول الظّن منها ، أو من غيرها على طبقها ( سخيفٌ جداً ) لأن الظواهر حجّة ، سواء ظن الانسان على طبقها أو لم يظنّ ، والدليل على ذلك : أن المولى يعاقب العبد إذا خالف الظاهر ولم يقبل عذره : بأنه لم يظّن على وفاق الظاهر .

( والأوّل أيضاً : بعيد ) وهو : إشتراط الحجية بعدم الظّن على الخلاف ( كما حُقّق في مسألة حجيّة الظواهر ) حيث قلنا هناك : ان الظاهر حجّة ، سواء ظنّ على وفاقه أم لا ، وسواء ظنّ على خلافه أم لا .

( وإن قلنا : بأنّ حجّية الظواهر من حيث إفادتها للظنّ الفعلي ، وانّه لا عبرة بالظّن الحاصل من غيرها ) أي : من غير تلك الظواهر ( على طبقها ) أي : على طبق تلك الظواهر ( أو قلنا بأن حجّيتها ) أي : حجّية الظواهر ( من حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لايعتبر فيها ) أي : في هذه الأصالة ( إفادتها للظّن الفعلي ) فلا ، فإنّ الاحتمالات في حجية الظواهر أربعة :

الاول : أن لايكون ظنّ على خلافه .

ص: 185

فالأقوى عدمُ إعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح ، إذ المفروضُ على هذين القولين سقوطُ كِلا الظاهرين عن الحجّيّة في مورد التعارض ، وأنّه إذا صدر عنه قوله ، مثلاً : إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد أيضا : كلّ شيء يطير لا بأسَ بخُرئه وبوله .

-------------------

الثاني : أن يكون ظنّ بوفاقه ، سواء كان الّظن من نفسه أو من غيره .

الثالث : أن يكون الظن بوفاقه من نفسه .

الرابع : انّه لايحتاج الى الظّن الفعلي أصلاً .

أما القولان الاولان : فقد سبق الكلام فيهما بالترجيح ، وأما القولان الأخيران : ( فالاقوى : عدم إعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح ) فيما إذا تعارض خبران وكان الّظن المطلق موافقاً لأحدهما ( إذ ) علة قوله : عدم اعتبار ( المفروض على هذين القولين ) الاخيرين : الثالث والرابع ( سقوط كلا الّظاهرين عن الحجيّة في مورد التعارض ) وانّما يسقط الظاهران في مورد التعارض لما سيأتي إنشاء اللّه تعالى فيقوله : « اما على الأول » ، « واما على الثاني » .

( و ) وذلك ( انّه إذا صدر عنه ) عليه السلام ( قوله مثلاً : « إغسل ثوبك من أبوال مالايؤكل لحمه » (1) ، وورد أيضاً : «كلّ شيء يطير لابأس بخرئه وبوله» ) (2) فان بين الروايتين عموم من وجه ، فالهرة - مثلاً - لا يشملها كل شيء يطير ، لأن الهرة ليست بطائر ، والطير المأكول اللحم كالحمام لايشمله أبوال مالايؤكلّ لحمه ، لأن الحمام ممّا يؤكل لحمه ، فيتعارضان في مثل الغراب الأبقع ، الذي هو طائر محرّم

ص: 186


1- - الكافي فروع : ج3 ص57 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص264 ب12 ح57 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص266 ب12 ح66 .

وفرض عدمُ قوّة أحد الظاهرين من حيث نفسه على الآخر ؛ كان ذلك مُسقِطا لظاهر كليهما عن الحجّيّة في مادّة التعارض ، أعني خُرءَ الطير الغير المأكول وبوله .

أمّا على الأوّل : فلأنّ حجّيّة الظواهر مشروطة بالظنّ المفقود في المقام .

-------------------

اللحم ، فمن حيث إنّه لايؤكل لحمه ، يشمله خبر : «ما لا يؤكلّ لحمه» ، ومن حيث إنهّ يطير ، يشمله خبر : «لابأس بخرئه» .

( وفرض عدم قوة أحد الظاهرين من حيث نفسه ) أي : من غير دليل خارجي يقوّي ظهوره ( على الآخر ) لأن كل واحد منهما ظاهر في هذا المورد الذي مثّلنا له بالغراب الأبقع .

( كان ذلك ) التعارض بدون قوة أحد الظاهرين ( مسقطاً لظاهر كليهما عن الحجيّة في مادة التعارض أعني : خرء الطير غير المأكول وبوله ) وعند التساقط لانعلم : هل إنّ خُرء الغُراب الأبقع طاهر أونجس ؟ فاللازم الرجوع الى دليل ثالث مثل «كلّ شيء لكَ طاهر» (1) ، أو ما أشبه ذلك .

( أمّا على الأوّل ) الذي ذكرنا فيه لزوم إفادة الظّن الفعلي من نفس الظاهر : ( فلأن حجّية الظواهر مشروطة بالّظن ، المفقود في المقام ) فلا يكون هناك ظنّ بهذا الجانب ولا بذلك الجانب أي لاظنّ في خرء الغراب الأبقع بالطهارة ولا بالنجاسة ، لأن الظاهرين متعارضان ، فلا يحصل منهما ظنّ ، أما إذا حصل الظنّ من الخارج ، فلا إعتبار بمثل هذا الظّن ، لأنا قلنا بلزوم إفادة الظّن الفعلي من نفس الظاهر ، وانّه لا إعتبار بالظّن الحاصل من غير الظاهر على طبق الظاهر .

ص: 187


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وأمّا على الثاني : فلأنّ أصالة عدم القرينة في كلّ منهما معارضةٌ بمثلها في الآخر ، والحكمَ في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة أحدهما على الآخر التساقطُ والرجوعُ إلى عموم أو أصل يكون حجّيّته مشروطة بعدم وجودهما على قابليّة الاعتبار .

-------------------

( وأمّا على الثاني ) : أي : الاتكال على أصالة عدم القرينة ( فلأن أصالة عدم القرينة في كلّ منهما ) أي : في كلّ من الظاهرين في مورد الاجتماع ( معارضة بمثلها في الآخر ) فان الأصل عدم القرينة على طبق هذا الظاهر ، والأصل عدم القرينة على طبق الظاهر الآخر .

( و ) لأنَّ ( الحكمَ في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة أحدهما على الآخر : التساقط ) فإذا حصل التساقط بين الأصلين المتعارضين لزم العلاج ( والرجوع الى عموم ، أو أصل ، يكون حجيته ) أي حجية ذلك العموم أو الاصل ( مشروطة بعدم وجودهما ) أي : عدم وجود الأصلين ( على قابلية الاعتبار ) أي : وجوداً معتبراً .

والحاصل : انّه إذا لم يكن أصل قابلاً للإعتبار لا في هذا الخبر ولا في الخبر الآخر المعارض له ، فاللازم : الرجوع الى عموم أو أصل ، يعيّن التكليف ، بان نرجع في المقام - مثلاً - الى عموم « كُلّ شَيءٍ لَكَ طاهر » (1) أو الى أصل انّ الطعام قبل أن يلاقي هذا الخرء لم يكن نجساً ، فالإستصحاب يقتضي عدم نجاسته بالملاقات للخرء وإذا تساقط الظاهران وعملنا بالظّن الموجود في المسألة لم يكن الظّن مرجحاً لأحد الظاهرين وانّما يكون الظّن حجّة قائمة بنفسه واليه أشار

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

فلو عمل حينئذٍ بالظنّ الموجود مع أحدهما ، كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة ، كنّا قد عملنا بذلك الظنّ مستقلاًّ ، لا من باب كونه مرجّحا ، لفرض تساقط الظاهرين وصيرورتهما كالعدم .

فالمتّجهُ حينئذٍ الرجوعُ في المسألة ، بعد الفراغ عن المرجّحات من حيث السّند أو من حيث الصدور تقيّةً أو لبيان الواقع ، إلى قاعدة الطهارة .

-------------------

بقوله : ( فلو عمل حينئذٍ ) أي : حين التساقط ( بالظّن الموجود مع أحدهما ، كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة ) - مثلاً - لبول وخرء الغراب الأبقع في المثال : ( كنا قد عملنا بذلك الظّن ) المستند الى الشهرة عملاً ( مستقلاً ) من باب الاستناد الى هذا الظنّ ( لا من باب كونه مرجّحاً ) .

ثمّ عللّ قوله : « لا » ، بقوله : ( لفرض تساقط الظّاهرين وصيرورتهما كالعدم ) فلا يكون في المقام إلاّ الشهرة ، فتكون الشهرة مستنداً للنجاسة ، لا أن الشهرة تكون مرجحاً لهذا الطرف ، أو لذلك الطرف .

( فالمتجه حينئذٍ ) أي : حين تساقط الأصلين ( : الرجوع في المسألة بعد الفراغ عن المرجّحات من حيث السّند ، أو من حيث الصّدور تقية ، أو لبيان الواقع ) قوله : « او لبيان » ، عطف على قوله : « الصدور » ، فالرجوع يكون ( إلى قاعدة الطهارة ) فقوله : « الى » متعلق بقوله : « الرجوع » .

والحاصل : انّه إذا كان لأحد الخبرين مرجح سندي ، أو مرجح من جهة الصدور ، أخذنا به ، وإذا لم يكن لأحدهما مرجّح فاللازم الرجوع الى دليل ثالث ، والدليل الثالث في المقام حسب ما مثّلنا له من خُرء الغراب الأبقع ، هو : قاعدة الطهارة ، أما الشهرة على النجاسة نأخذ بها ، لأن الشهرة ليست بحجّة .

هذا تمام الكلام في الترجيح بالظّن غير المعتبر في باب الدلالة .

ص: 189

وأمّا المقام الثاني

فتفصيل القول فيه أنّ أصالة عدم التقيّة - إن كان المستندُ فيها أصلَ العدم في كلّ حادث ، بناءا على أنّ دواعيَ التقيّة التي هي من قبيل الموانع لاظهار الحقّ حادثةٌ - تدفع بالأصل ، فالمرجعُ بعد معارضة هذا الأصل في كلّ خبر بمثله في الآخر هو التساقُط .

-------------------

( وأما المقام الثاني ) : وهو الترجيح بالظّن غير المعتبر في جهة الصدور ( فتفصيل القول فيه : أنّ أصالة عدم التقية ) ومحتملات هذه الأصالة أربعة ، يشير المصنّف الى الاحتمال الاول منها بقوله : « إن كان المستند فيها أصل العدم » .

ويشير الى الاحتمال الثاني منها بقوله : «وكذلك لو استندنا فيها الى أن ظاهر حال المتكلم» .

ويشير الى الاحتمال الثالث منها - بقوله : « ولو إستندنا فيها الى الظهور ...» .

ويشير الى الاحتمال الرابع منها - بقوله : « وإن إستندنا فيها الى الظهور النوعي ... » .

أما الاحتمال الأوّل : فهو ( - إن كان المستند فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( أصل العدم في كل حادث ) والتقية أمر حادث ، فالاصل عدمها ، وذلك ( بناءاً على أن دواعي التقية التي هي من قبيل الموانع لاظهار الحق ) فانّ التقية مانعة عن إظهار الحق ( حادثة - ) أي : إن الدواعي حادثة ، وهي : ( تدفع بالأصل ) لأن الأصل في كلّ حادث العدم .

وعليه : ( فالمرجع بعد معارضة هذا الأصل ) أي : أصل عدم التقية ( في كلّ خبر ) من المتعارضين ( بمثله في الآخر هو : التساقط ) لأنا نشكّ إنَ هذا الخبر الاوّل هل صدر تقية ؟ نقول : الاصل عدمه .

ص: 190

وكذلك لو إستندنا فيها إلى أنّ ظاهرَ حال المتكلّم بالكلام ، خصوصا الامام عليه السلام ، في مقام إظهار الأحكام التي نصب لأجلها هو بيانُ الحقّ ، وقلنا بأنّ إعتبار هذا الظهور مشروطٌ بافادته الظنّ الفعليّ المفروض سقوطه من الطرفين .

وحينئذٍ : فان عملنا بمطلق الظنّ في تشخيص التقيّة وخلافها - بناءا على حجّيّة الظنّ في هذا المقام ، لأجل الحاجةِ إليه

-------------------

ونشك إن هذا الخبر الثاني هل صدر تقية ؟ نقول : الأصل عدمه ، فيتساقط أصل عدم التقية في هذا الخبر وفي ذلك الخبر .

(وكذلك لو إستندنا فيها) أي : في أصالة عدم التقية (إلى أنّ ظاهر حال المتكلم بالكلام خصوصاً الامام عليه السلام في مقام إظهار الأحكام التي نصب) الامام عليه السلام ( لاجلها هو ) أي : ظاهر حال المتكلم ( :بيان الحق ) لا ذكر خلاف الحق تقية .

هذا ( وقلنا : بأن إعتبار هذا الظهور ) أي : ظاهر حال المتكلم ( مشروط بافادته الظّنّ الفعليّ ) بأن يظنّ السامع ظنّاً فعلياً بكون المتكلم في مقام بيان الواقع ( المفروض سقوطه ) أي : سقوط هذا الظّن الفعلي ( من الطرفين ) : من هذا الخبر ، ومن ذلك الخبر ، لأنهما تعارضا ونعلم بأن أحدهما صادر تقية ، فلا ظهور لحال المتكلم في انّه في مقام بيان الواقع لا في هذا الخبر ولا في ذاك الخبر .

( وحينئذٍ ) أي : حين يتساقط الظاهران ( فانّ عملنا بمطلق الظّن في تشخيص التقية وخلافها ) أي : خلاف التقية ( بناءاً على حجّية الظّن في هذا المقام ) أي : في مقام تشخيص التقية وخلافها ( لأجل الحاجة اليه ) أي : الى مطلق الظنّ وقوله : « لاجل الحاجة » ، متعلق بقوله : « عملنا بمطلق الظنّ » .

ص: 191

من جهة العلم بصدور كثير من الأخبار تقيّةً وأنّ الرجوعَ إلى أصالة عدمها في كلّ مورد يوجبُ الافتاء بكثير ممّا صدر تقيّةً ، فيتعيّن العملُ بالظنّ ، أو لأنّا نَفهَمُ ممّا ورد في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم كونَ ذلك من أجل كون الموافقة مظنّةً للتقيّة ، فتعيّن العملُ بما هو أبعدُ عنها بحسب كلّ أمارة - كان ذلك الظنُّ دليلاً مستقلاًّ في ذلك المقام وخرج

-------------------

وانّما نكون بحاجة الى مطلق الظّن ( من جهة العلم بصدور كثير من الأخبار تقية وانّ الرجوع الى أصالة عدمها ) أي : الى أصالة عدم التقية ( في كلّ مورد يوجب الافتاء بكثير ممّا صدر تقية ، فيتعين العمل بالظّن ) لوجود الانسداد في صدور الحكم تقية ، فنعمل في تشخيص التقية بالظّن المطلق ، لأنا لا نتمكن من العلم والعلمي ، في تشخيص التقية عن غيرها ، في كلّ خبرين متعارضين مع علمنا بأنّ أحدهما صدر تقية ولم نشخّص ذلك الصادر تقية بعلم أو علمي .

( أو لأنّا نفهم ) وهذا عطف على قوله : « لأجل الحاجة » ، ومعناه : إنّا نقول : بحجية مطلق الظنّ في تشخيص التقية ، وذلك إمّا من جهة الحاجة الى مطلق الظنّ ، وإما من جهة أنّا نفهم ( - ممّا ورد في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم - كون ذلك ) أي : الذي نفهمه منها انّما هو ( من أجل كون الموافقة مظنّة للتقية ، فتعيّن العمل بما هو أبعد عنها ) أي : أبعد عن التقية ( بحسب كل أمارة ) قوله : « بحسب » ، متعلق بقوله : « أبعد » .

والحاصل : انّه إذا كان أحد الخبرين أبعد بحسب دلالة أمارة ما عليه فكل أمارة دلتّ على أن أحد الخبرين أبعد عن التقية عملنا بها .

( كان ) جواب قوله : «فان عملنا بمطلق الظنّ» ( ذلك الظّن ) أي : الظّن في تشخيص التقية ( دليلاً مستقلاً في ذلك المقام ) أي : مقام التعارض ( وخرج )

ص: 192

عن كونه مرجّحا.

ولو إستندنا فيها إلى الظهور المذكور وإشترطنا في إعتباره عدمَ الظنّ على خلافه ، كان الخبرُ الموافقُ لذلك الظنّ حجّةً سليمةً عن المعارض لا عن المزاحم كما عرفت نظيره في المقام الأوّل .

-------------------

هذا الظّن ( عن كونه مرجّحاً ) لأنَّ الظاهرين تساقطا ولم يبق لتشخيص ان هذا الخبر تقية ، أو ذاك إلاّ الظّن المطلق .

والمراد بالظاهرين : ظاهر هذا الخبر في انّه لم يصدر تقية ، وظاهر ذاك الخبر في انّه لم يصدر تقية ، وانّما سقط الظاهران للتعارض بينهما ، حيث نعلم أن أحدهما صدر تقية ، فلا ظهور في هذا الجانب ، ولا ظهور في ذاك الجانب ، للعلم الاجمالي بأنّ أحدهما صدر تقية ، وحنيئذٍ فالمرجح الظّن المطلق في تشخيص التقية ، ولا يكون الظّن مرجحاً بل يكون مستنداً .

( ولو إستندنا فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( إلى الظهور المذكور ) أي : ظاهر حال المتكلم ( وإشترطنا في إعتباره : عدم الظنّ على خلافه ) في قبال ما تقدّم : من أن المستند في أصالة عدم التقية : ظاهر حال المتكلم مشروطاً بافادته الظّن الفعلي ( كان الخبر الموافق لذلك الظّنّ حجّة سليمة عن المعارض ) وذلك لأن المعارضة على هذا التقدير مشروطة بعدم الظّن على الخلاف ، ومن المعلوم : ان الخبر المخالف يظنّ منه على الخلاف .

وعليه : فالخبر الموافق انّما هو سليم عن المعارض ( لا عن المزاحم ، كما عرفت نظيره في المقام الأول ) حيث ذكرنا قبل صفحة قولنا : لا لدفع مزاحمته للظهور المنضم إليه ، فيصير ما وافقه حجّة سليمة عن الدليل المعارض .

ص: 193

وإن إستندنا فيها إلى الظهور النوعيّ ، نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح وظهور تكلّم المتكلّم في كونه قاصدا ، لا هازلاً ، ولم نشترط في إعتباره الظنّ الفعليّ ولا عدم الظنّ بالخلاف ، تعارضَ الظاهران ، فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظنّ المفروض ، والكلام فيه يعلم ممّا سيجيء في المقام الثالث .

وهو : ترجيح السّند بمطلق الظنّ

إذ الكلام فيه أيضا مفروض

-------------------

( وانْ إستندنا فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( الى الظهور النوعي ) لا أصل العدم كما قلنا في الأول ، ولا ظاهر حال المتكلم كما قلنا في الثاني والثالث ( نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح ، وظهور تكلم المتكلم في كونه قاصداً لا هازلاً ) فان نوع فعل المسلم صحيح ، ونوع كلام المتكلم بقصد الجد لا بقصد الهزل ، وهنا نقول : نوع كلام المتكلم لأجل بيان الواقع لا لأجل التقية .

وهذا الظهور النوعي هو ممّا يعتمد عليه العقلاء إلاّ فيما علم خروجه عنه ( ولم نشترط في إعتباره ) أي : في إعتبار هذا الظهور النوعي ( الظّن الفعلي ) على وفاقه ( ولا عدم الظّن بالخلاف ) فسواء كان ظنّ فعلي على الوفاق ، أم كان ظنّ فعلي على الخِلاف ، لم يكن الاعتبار بهذين الظّنين .

وعليه : فان إستندنا في أصالة عدم التقية الى الظهور النوعي : ( تعارض الظاهران ) هذا جواب قوله : وإن استندنا ( فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظّن ) غير المعتبر ( المفروض ) موافقته لأحد الخبرين ( والكلام فيه ) أي : في الترجيح بهذا الظنّ ( يعلم ممّا سيجيء في المقام الثالث وهو : ترجيح السند بمطلق الظنّ ، إذ الكلام فيه ) بشروط ثلاثة : - أي : في المقام الثالث ( أيضاً مفروض ) .

ص: 194

فيما إذا لم نقل بحجّيّة الظنّ المطلق ولا بحجّيّة الخبرين بشرط إفادة الظنّ ولا بشرط عدم الظنّ على خلافه ، إذ يخرج الظنّ المفروض على هذه التقادير عن المرجّحيّة بل يصير حجّة مستقلّة على الأوّل ، سواء كان حجّيّة المتعارضين من باب الظنّ المطلق

-------------------

أوّلاّ : ( فيما إذا لم نقل بحجية الظّن المطلق ) .

ثانياً : ( ولابحجيّة الخبرين بشرط إفادة الظّن ) .

ثالثاً : ( ولا بشرط عدم الظّن على خلافه ) .

والحاصل : انّه إذا كان خبران متعارضان ، فهل نتمكن من ترجيح أحدهما على الآخر بسبب الظنّ كما إذا ظننّا بصحة سند أحدهما دون سند الآخر ؟ .

الجواب : انّه يمكن الترجيح بالظّن بشروط ثلاثة :

الأوّل : أن لا نقول : بأنّ مطلق الظّن حجّة ، إذ لو كان مطلق الظن حجّة ، وظنّنا بسند أحد الخبرين دون سند الآخر، يكون الظّن حجّة مستقلة، ولا يكون مرجحاً .

الثاني : أنّ لا نقول : بأنّ حجّية الخبر مشروط بأفادته الظّن ، إذ لو كان الخبر الذي يفيد الظنّ حجّة ، كان أحد الخبرين الذي هو مظنون حجّة ، دون الخبر الآخر ، فلا يكون الظنّ مرجحاً ، بل يكون حجة مستقلة أيضاً .

الثالث : أن لا نقول بان حجية الخبر مشروط بعدم الظّن على خلافه ، إذ لو كان أحد الخبرين يظنّ على خلافه سقط عن الحجّية ، وكان الخبر الآخر الذي لا يظنّ على خلافه حجّة ، وانّما يكون حجّة مستقلاً ( إذ يخرج الظنّ المفروض ) مطابقته لأحد الخبرين ( على هذه التقادير ) الثلاثة - التي ذكرناها - ( عن المرجحيّة ، بل يصير ) الظنّ ( حجّة مستقلة على الأول ) وهو ما ذكره بقوله : إذا لم نقل بحجيّة الظّن المطلق ( سواء كان حجية المتعارضين في باب الظّن المطلق،

ص: 195

أم من باب الاطمئنان أم من باب الظنّ الخاصّ .

فانّ القول بالظنّ المطلق لا ينافي القول بالظنّ الخاص في بعض الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين ويسقط المرجوح عن الحجّيّة على الأخيرين ، فيتعيّن أنّ الكلام في مرجّحيّته

-------------------

أم من باب الاطمئنان ، أم من باب الظّن الخاص ) أي : إنَ حجية الخبرين مع قطع النظر عن تعارضهما انّما هي مستندة الى الظّن الانسدادي ، أو الظّن الاطمئناني ، أو الى الظّن الخاص ، فإذا تعارضا وكان الظّن على طبق أحدهما كان ذلك الظّن حجّة لذلك المطابق له ، لا مرجحاً .

لا يقال : كيف يكون الظّن المطلق حجة لتعيين أحد الخبرين المتعارضين مع قولكم : بأنّ مستند حجيّة المتعارضين من باب الظّن الخاص ، حيث قلتم أم من باب الظّن الخاص ؟ .

لأنه يقال : ( فانّ القول بالظّن المطلق ) في إستناد الحجيّة ( لا ينافي القول بالظّن الخاص في بعض الأمارات ، كالخبر الصحيح بعدلين ) فان القائل بالانسداد ، لا يقول بسقوط الظّن الخاص ، بل يقول : كلّما وجد الظّن الخاص ، كالخبر الصحيح بعدلين ، كان ذلك الخبر حجة ، وكل ما لم يكن ظنّ خاص ، كان الظّن الانسدادي حجّة ، فاذا وجد خبران صحيحان ، كل خبر في سنده عدلان وتعارضا ، وصلت النوبة الى الظن الانسدادي لتعيين أحد الخبرين للعمل .

هذا ( ويسقط المرجوح عن الحجيّة على الأخيرين ) قوله : « ويسقط » عطف على قوله : « بل يصير حجة مستقلة على الأول » ، ومراده بالأخيرين : ما تقدّم من قوله : «ولا بحجية الخبرين بشرط إفادة الظّن ، ولا بشرط عدم الظّن على خلافه» .

وعليه : ( فيتعين : إن الكلام في مرجحيّته ) وهذا مرتبط بقوله قبل سطرين :

ص: 196

فيما إذا قلنا بحجّيّة كلّ منهما من حيث الظنّ النوعيّ كما هو مذهب الأكثر ، فمُلَخصه : انّه لا ريبَ في أنّ مقتضى الأصل عدمُ الترجيح ، كما أنّ الأصل عدمُ الحجّيّة ، لأنّ العمل بالخبر الموافق لذلك الظنّ

-------------------

«إذ يخرج الظّن المفروض على هذه التقارير عن المرجحية» ، وقوله : « بل يصير...» كالجملة المعترضة ، فتكون العبارة هكذا : إذ يخرج الظنّ المفروض على هذه التقادير عن المرجّحية ، فيتعين : إنّ الكلام في مرجّحية الظنّ ، وذلك (فيما إذا قلنا بحجّية كلّ منهما) أي : من الخبرين المتعارضين ( من حيث الظّن النوعي ) وهذا متعلق بقوله : « بحجية كل منهما » ( كما هو ) أي : هذا القول ( مذهب الأكثر ) .

إذا عرفت ذلك ، قلنا : أن الظّن غير المعتبر لا يكون مرجحاً ، ولا يكون حجّة ، لأن الأصل عدم المرجحية ، وعدم الحجّية ، وإليه أشار بقوله : ( فملخصه ) أي : ملخص الكلام ( : انّه لا ريب في انّ مقتضى الأصل : عدم الترجيح ) بالظّن غير المعتبر ( كما إنّ الأصل عدم الحجّية ) للظّن غير المعتبر ، وذلك ( لأنّ ) هذا علة لقوله : « مقتضى الأصل : عدم الترجيح » .

وانّما لا نرجّح أحد الخبرين بسبب الظّن غير المعتبر ، لأنه يجب إما ان نلتزم بأن الشارع رجّح هذا الخبر المظنون بالظّن غير المعتبر ،على الخبر الآخر ، وهذا تشريع محرّم ، لأنّ الشارع لم يرجّحه ، واما أن لا نلتزم بذلك ، بل نرجّح بالظّن غير المعتبر بلا التزام انّه من الشارع ، وهذا موجب لطرح ذلك الأصل أو القاعدة التي كان اللازم الرجوع اليها بعد تساقط الخبرين ، لولا هذا الظّن غير المعتبر .

وعليه : فان ( العمل بالخبر الموافق لذلك الظّن ) غير المعتبر الذي كان مع أحد الخبرين المتعارضين يستلزم - كما ذكرنا - أحد محذورين :

ص: 197

إن كان على وجه التديّن والالتزام بتعيين العمل به من جانب الشارع وأنّ الحكم الشرعيّ الواقعيّ هو مضمونه ، لا مضمون الآخر من غير دليل قطعيّ يدلّ على ذلك ، فهو تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، والعملُ به لا على هذا الوجه محرّمٌ إذا إستلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فقد هذا الظنّ .

فالوجهُ المقتضي لتحريم العمل بالظنّ مستقلاً من التشريع

-------------------

الأوّل : ( إن كان ) ذلك العمل ( على وجه التديّن والالتزام بتعيين العمل به ) أي : بهذا الخبر المظنون ( من جانب الشارع ، وإنّ الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه ) أي : مضمون هذا الخبر ( لا مضمون الآخر ) المعارض له ( من غير دليل قطعي يدل على ذلك ) قوله : « من غير » ، متعلقّ بقوله : « على وجه التدين » ، وقوله ، « ذلك » إشارة الى قوله : و« ان الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه » ( فهو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة ) فان كُلاً من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، دلّ على أنّه لا يجوز الاسناد الى الشارع بدونه وصول دليل منه .

الثاني : ( و ) إن كان ( العمل به ) أي : بالخبر الموافق للظّن غير المعتبر ( لا على هذا الوجه ) أي : وجه التدين ، فهو ( محرم إذا استلزم ) العمل بهذا الخبر الموافق للظّن غير المعتبر ( مخالفة القاعدة ، أو الاصل ، الذي يرجع اليه على تقدير فقد هذا الظّن ) وذلك لأن الشارع أمر بإتباع الاصل ، أو القاعدة ، لا الخبر المخالف لهما حتى وإنْ كان هذا الخبر المخالف مظنوناً .

وكيف كان : فلا يكون الظّن مرجّحاً لأحد الخبرين عن الآخر ، وذلك لما أشار اليه بقوله : ( فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظّن مستقلاً من التشريع )

ص: 198

أو مخالفة الاُصول القطعيّة الموجودة في المسألة جارٍ بعينه في الترجيح بالظنّ والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلّها متساوية النسبة إلى الحجّيّة وإلى المرجّحيّة .

وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجّح يُحدِثُ حكما شرعيّا لم يكن مع عدمه ، وهو وجوب العمل بموافقته عينا ، مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر .

-------------------

مع النسبة الى الشارع ( أو مخالفة الأصول القطعية الموجودة في المسألة ) بدون النسبة الى الشارع ( جارٍ بعينه في الترجيح بالظّن ) والحاصل : انّه كما لا يكون الظّنّ غير المعتبر مستنداً ، سواء نسبه الى الشارع حيث يلزم التشريع ، أو لم ينسبه حيث انّه يخالف الاصل أو القاعدة ، كذلك لا يكون مثل هذا الظّن مرجّحاً لأحد الخبرين على الآخر في صورة التعارض بين الخبرين ( و ) ذلك لأن ( الآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم ، كلها متساوية النسبة الى الحجّية ، والى المرجحّية ) فكما لا يكون الظّن حجة كذلك لا يكون مرجحاً .

هذا ( وقد عرفت في الترجيح بالقياس : ان المرجّح يُحدِثُ حكماً شرعياً لم يكن ) ذلك الحكم الشرعي ( مع عدمه ) أي : مع عدم القياس ( وهو ) أي : بذلك الحكم الحادث ( وجوب العمل بموافقته عيناً ) أي : متعيناً قوله : « وهو » يراد به الحكم الشرعي ( مع كون الحكم لا معه ) أي لا مع القياس كان ( هو التخيير ) بين الخبرين ( أو الرجوع الى الأصل الموافق للآخر ) .

أقول : ربّما يكون الأصل مخالفاً لكلا الخبرين ، وموافقاً لشيء ثالث ، فقول المصنّف: أو الرجوع الى الاصل الموافق للآخر، من باب المثال، لا من باب الخصوصية .

ص: 199

هذا ، ولكنّ الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليّين هو الترجيحُ بمطلق الظنّ .

وليعلم أوّلاً : أنّ محلَّ الكلام ، كما عرفت في عنوان المقامات الثلاثة أعني الجبر والوهن والترجيح ،

-------------------

( هذا ) تمام الكلام في إنّ الظّن غير المعتبر لا يمكن أن يكون مرجّحاً ، كما لا يمكن أن يكون حجّة ( و ) ان حال الظّن غير المعتبر حال القياس في عدم صحة كونه مستنداً ولا مرجحاً .

( لكن الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليين هو : الترجيح بمطلق الظن ) في مورد وجود خبرين متعارضين ، فان الاصوليين يرجحون أحد الخبرين أو الخبر الآخر ، بالمرجحات المنصوصة اذا كانت ، فإذا لم تكن هناك مرجحات منصوصة رجَّحوا أحد الخبرين على الخبر الآخر بالظّن المطلق .

( و ) حيث يتوهم ان بين القولين تناقضاً ، أراد المصنّف رفع هذا التوهم ، فان هناك قولاً يقول : بانّه لا يرجح بالظّن ، وقولاً آخر : بانّه يرجّح بمطلق القوة .

ومن المعلوم : ان مطلق القوة يشمل الظنّ وغير الظّن فيوهم التناقض ، لكن لا تناقض بين القولين ، لأن المراد بعدم الترجيح بالظّن : عدم الترجيح بالظّن الخارجي ، والمراد بالترجيح بمطلق القوة : والقوة من نفس الخبر وداخله ، ولرفع هذا التناقض قال المصنّف : «ليعلم أولاّ : ان محل الكلام القوة من نفس الخبر وداخله» .

ولرفع هذا التناقض قال المصنّف : ( ليعلم اوّلاً : أنّ محلَّ الكلام كما عَرفتَ في عنوان المقامات الثلاثة ، أعني الجبر ، والوهن ، والترجيح ) بالظنّ غير المعتبر ،

ص: 200

وهو الظنُّ الذي لم يعلم إعتبارُه .

فالترجيحُ به من حيث السّند أو الدلالة ترجيحٌ بأمر خارجيّ . وهذا لا دخل له بمسألة أُخرى إتفاقيّة ، وهي وجوبُ العمل بأقوى الدليلين وأرجحهما .

فانّ الكلامَ فيها في ترجيح أحد الخبرين الذي يكون بنفسه أقوى من الآخر من حيث السند ، كالأعدل والأفقه أو المسند أو الأشهر روايةً أو غير ذلك ، أو من حيث الدلالة ، كالعامّ على المطلق ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز على الاضمار ، وغير ذلك .

-------------------

( وهو : الظنّ الذي لم يعلم اعتباره ) من الشارع ( فالترجيح به ) اي : بهذا الظنّ غير المعتبر ( من حيث السنّد ، أو الدلالة ) أو جهة الصدور ( ترجيح بامر خارجي ) عن نفس الخبر ، فان هذا الظنّ خارج عن نفس الخبر .

( وهذا لا دخل له بمسألة اُخرى اتفاقية ) بين العلماء ( وهي : وجوب العمل باقوى الدليلين وأرجحهما ) سواء كان القوة من الظن المعتبر ، أو من الظن غير المعتبر .

( فانّ الكلام فيها ) أي : في المسألة الاُخرى انّما هو ( في ترجيح أحد الخبرين ، الذي يكون بنفسه اقوى من الآخر من حيث السند ) وتلك الاقوائية من حيث السند : ( كالأعدل ، والأفقه ) والأَورَع ، وما اشبه ذلك ( أو المسند ) في قِبال المرسل ( أو الاشهر رواية ، أو غير ذلك ) كعمل المشهور .

( أو من حيث الدلالة ) وهذا عطف على قوله : « من حيث السند » وتلك الاقوائية من حيث السند : ( كالعام على المطلق ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز على الاضمار ، وغير ذلك ) كالاضمار على النقل ، فانّ هذه اُمور داخلية تُسبّب

ص: 201

وبعبارة أُخرى ، الترجيحُ بالمرجّحات الداخليّة من جهة السند إتفاقيّ ، وإستفاض نقلُ الاجماع من الخاصّة والعامّة على وجوب العمل بأقوى الدّليلين عن الآخر .

والكلامَ هنا في المرجّحات الخارجة المعاضدة لمضمون أحد الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر .

نعم ، لو كشفت تلك الأمارة عن مزيّة داخليّة لأحد الخبرين على الآخر من حيث سنده أو دلالته دخلت

-------------------

تقديم خبر على خبر ، كتقديم الخبر العام على الخبر المطلق ، أو تقديم الخبر الذي هو حقيقة على الخبر الذي هو مجاز ، الى آخره .

( وبعبارة اُخرى : ) الفرق بين المسألتين هو : انّ ( الترجيح بالمرجحات الداخلية من جهة السند اتفاقي ) بين العلماء ( واستفاض نقل الاجماع من الخاصة والعامة على وجوب العمل بأقوى الدّليلين ) قوة داخلية ( عن الآخر ) اي : عن الدليل الآخر .

( والكلام هنا ) اي : في الترجيح بالظنّ الذي نفيناه : إنّما هو ( في المرجّحات الخارجة ) عن ذات الخبر سنداً ، ودلالة ، وجهة صدور تلك المرجحات ( المعاضدة لمضمون احد الخبرين ) وكذلك ( الموجبة لصيرورة مضمونه ) اي : مضمون أحد الخبرين ( اقرب الى الواقع ) في نظر الظّان ( من مضمون ) الخبر ( الآخر ) فالقوة الداخلية متفق بين العلماء الترجيح بها ، اما القوة الخارجية بسبب الظنّ غير المعتبر ، فمختلف في انها هل تكون مرجّحة أو ليست بمرجّحة ؟ .

( نعم ، لو كشفت تلك الأمارة ) الخارجية ( عن مزية داخلية لاحد الخبرين على الآخر من حيث سنده ، او دلالته ) أو جهة صدوره ( دخلت ) تلك الأمارة

ص: 202

في المسألة الاتفاقيّة ووجب الأخذُ بها ، لأنّ العمل بالراجح من الدليلين واجب إجماعا ، سواء علم وجهُ الرّجحان تفصيلاً أو لم يعلم إلاّ إجمالاً .

ومن هنا ظهر أنّ الترجيحَ بالشهرة والاجماع المنقول إذا كشفا عن مزيّة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ممّا لا ينبغي الخلافُ فيه .

نعم ، لو لم يكشفا عن ذلك

-------------------

الخارجية ( في المسألة الاتفاقية ) التي هي عبارة عن المزية الداخلية ( ووجب الأخذ بها ) اي :بتلك الامارة التي أوجبت المزية الداخلية .

وانّما وَجَبَ الاخذ بها ( لأنّ العمل بالراجح من الدليلين واجب اجماعاً ) بين العلماء ( سواء علم وجه الرّجحان تفصيلاً ، أم لم يعلم إلاّ إجمالاً ) فان المزية الخارجية ربمّا تكشف عن أقوائية السند ، وربما تكشف عن أقوائية في الخبر ، اجمالاً ، بانْ تعلم : ان هذا الخبر اقوى من الخبر الآخر ، لكن لا نعلم هل الاقوائية من حيث السند ، أو من حيث جهة الصدور ، فانه يلزم على كل حال ترجيح الأقوى على غير الاقوى .

( ومن هنا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من أنَّ المزية الداخلية مرجّحة ولو جاءت بسبب الخارج ( ظهر : إنّ الترجيح بالشهرة والاجماع المنقول ، إذا كشفا عن مزية ) قطعيّة ( داخليّة في سند احد الخبرين أو دلالته ) أو جهة صدوره ، فانّه ( ممّا لا ينبغي الخلاف فيه ) اي : في ذلك الترجيح .

قوله : « ممّا لا ينبغي » خبر قوله :« ان الترجيح » والكشف انّما يكون اذا علمنا بسبب الشهرة أو الاجماع المنقول ، أو نحوهما ، ان خبر زُرارة - مثلاً - فيه مزية ليست في خبر محمد بن مُسلم المعارض له وإن لم نعلم تلك المزية تفصيلاً .

( نعم ، لو لم يكشفا ) اي : الشهرة والاجماع المنقول ( عن ذلك ) الذي قلناه

ص: 203

إلاّ ظنّا ، ففي حجّيّته أو إلحاقه بالمرجّح الخارجيّ وجهان ، أقواهما الأوّل ، كما سيجيء .

وكيف كان : فالذي يمكن أن يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي وجوهٌ :

الأوّل : قاعدةُ الاشتغال ، لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق للظنّ .

وتوهّمُ : « إنّه قد يكون الطرفُ المخالفُ للظنّ موافقا للاحتياط ، اللازم في المسألة الفرعيّة

-------------------

من المزية الداخلية ( الاّ ظنّاً ) بان ظننّا إنّ في احد الخبرين مزية داخليّة ، لا أنا قطعنا بالمزية الداخلية ( ففي حجيّته ) اي في حجيّة ذاك الخبر ذي المزية ( أو الحاقه بالمرجّح الخارجي ) فلا يكون مرجّحاً لذي المزية الظنيّة ( وجهان : أقواهما : الأول ) وانّه حجّة لأنّه ايضاً مزية وان كانت مزية مظنونة ( كما سيجيء ) انشاء اللّه تعالى . ( وكيف كان ) الأمر في المزية الداخلية والخارجية ( فالذي يمكن أن يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي ) الذي قال به معظم الاصوليين - على ما تقدّم - ( وجوه ) على النحو التالي :

( الأوّل : قاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق للظنّ ) وقد حُقّق في محله : إنّ دوران الأمر بين التخيير والتعيين يوجب التعيين فحيث يدور الأمر بين التخيير بين الخبرين ، أو التعيين لذي المزية يقدّم التعييّن فنأخذ بذي المزية .

( وتوهم : انه قد يكون الطرف المخالف للظنّ موافقاً للاحتياط ، اللازم ) ذلك الاحتياط ( في المسألة الفرعيّة ) بأنْ يكون في احد الخبرين مزيّة وفي الخبر الآخر

ص: 204

فيتعارض الاحتياطَ في المسألة الاصوليّة بل يرجّح عليه في مثل المقام ، كما نبّهنا عليه عند الكلام في معمِّمات نتيجة دليل الانسداد » ، مدفوعٌ بأنّ المفروض فيما نحن فيه عدمُ وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لولا الظنّ ؛

-------------------

احتياط ( فيتعارض الاحتياط في المسألة الاُصولية ) مع الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فانّ المسألة الاصولية هو دوران الأمر بين التعييّن والتخييّر ، والمسألة الفرعيّة هي الرّواية الثانية التي توافق الاحتياط .

( بل يرجّح ) الاحتياط في المسألة الفرعيّة ( عليه ) أي : على الاحتياط في المسألة الاصولية ( في مثل المقام ، كما نبّهنا عليه عند الكلام في معمِّمات نتيجة دليل الانسداد ) .

مثلاً : اذا كان هناك خبران ، احدهما يقول : بنجاسة الحديد ، والآخر يقول : بطهارته ، والخبر الدّال على الطهارة موافق للشهرة ، فهو ذو مزية والخبر الدّال على النجاسة موافق للإحتياط ، فالمسألة الاصولية تسند الطهارة والمسألة الفرعية تسند النجاسة .

هذا التوهم ( مدفوع : بأنّ المفروض فيما نحن فيه ) من دوران الأمر بين الخبرين المتعارضين هو : ( عدم وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين ) لأنّ المكلّف مخيّر بين الخبرين حسب ما دلّ عليه قوله عليه السلام « بأَيهما اَخَذْتَ من باب التسليم وَسِعكَ » (1) .

وانّما لا يجب الاخذ بما وافق الاحتياط ( لولا الظنّ ) الذي حصل للانسان

ص: 205


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

لأنّ الأخذَ به ، إن كان من جهة إقتضاء المورد للإحتياط ، فقد ورد عليه حكمُ الشارع بالتخيير المرخّص للأخذ بخلاف الاحتياط وبراءة الذمّة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له ، ولهذا يحكم بالتخيير أيضا وإن كان أحدُهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا ، إذ كما أنّ الدليل المعيّن للعمل به

-------------------

بسبب موافقة الشهرة لأحد الخبرين ( لأنّ الأخذ به ) اي : بما وافق الاحتياط ( إن كان من جهة اقتضاء المورد للاحتياط ) لأنّ النجاسة مطابق للاحتياط في المثال المذكور ( فقد وَرَدَ عليه ) اي : على الاحتياط ( حكم الشارع بالتخيير المرخِّص ) - بالكسر - على صيغة الفاعل ( للأخذ بخلاف الاحتياط ) أيضاً .

فان التخيير معناه : أنت مخيّر بينَ أنْ تأخذ بالاحتياط أو بغير الاحتياط ( و ) معناه ( برائة الذمة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له ) اي : للاحتياط .

( ولهذا ) اي : لأنّ الشارع حكم بالتخيير هنا ( يحكم بالتخيير ايضاً وإنْ كان احدهما موافقاً للاستصحاب والآخر مخالفاً ) للاستصحاب .

والحاصل : إّٔ حكم التخيير بين الخبرين ، لا يَدعُ مجالاً للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما لا يترك مجالاً للاستصحاب الاصولي المعيّن لأحد الطرفين فيما كان احد الخبرين موافقاً للاستصحاب والآخر مخالفاً له ، فانّ الشارع حكم بالتخيير بين الخبرين سواء كان احدهما موافقاً للاحتياط أم لا ، وسواء كان احدهما موافقاً للاستصحاب ام لا ، فلا مجال للاحتياط في المسألة الفرعيّة .

( اذ كما انّ الدّليل المُعَيّن ) بصيغة اسم الفاعل ( للعمل به ) اي : بذلك الدّليل

ص: 206

يكون حاكما على الاصول ، كذلك الدليلُ المخيّرُ في العمل به وبمعارضه .

وإن كان من جهة بعض الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط ، وطرح ما خالفه ، ففيه ما تقرّر في محلّه من عدم نهوض تلك الأخبار لتخصيص الأخبار الدالّة على التخيير .

بل هنا كلام آخر ، وهو :

-------------------

معناه : عدم التعارض ، لأنّه ( يكون حاكماً على الاصول ) فاذا كان هناك دليل وأصل ، يقدّم الدليل على الاصل ( كذلك الدّليل المخيّر في العمل به وبمعارضه ) . لايدع مجالاً للأصول ، سواء كان أصل الاحتياط ، أو أصل الاستصحاب ؟ .

( وان كان ) الاخذ به - وهذا عطف على قوله : « لأن الاخذ به ان كان من جهة اقتضاء المورد للاحتياط ..» - ( من جهة بعض الأخبار الدّالة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط ، وطرح ما خالفه ) في باب الخبرين المتعارضين ، فان فيبعض اخبار العلاج ما يدلّ على الاخذ بما وافق الاحتياط دون ما خالفه ( ففيه ما تقرّر في محله ) وقد ذكر المصنّف هنا اشكالين على ذلك :

أوّلاً : انّه ليس من مسألة التخيير والتعيين .

ثانياً : على فرض انّه منه ، فدلالة الاخبار العلاجية على التخيير ، لا تدعُ مجالاً للمسألة الفرعيّة بالاحتياط .

هذا غير أنّ المصنّف ذكر الاشكال الثاني أوّلاً والاشكال الاوّل ثانياً .

وعليه : فلا يمكن الأخذ بالاحتياط في المسألة الفرعيّة لما قد تبيّن : ( من عدم نهوض تلك الأخبار ) اي : أخبار الاخذ بالإحتياط من الخبرين المتعارضين ( لتخصيص الأخبار الدّالة على التخيير ) بين المتعارضين .

( بل هنا كلام آخر ، وهو : ) إنّ المرجوح ليس بحجّة اطلاقاً ، فليس من مسألة

ص: 207

أنّ حجّيّة الخبر المرجوح في المقام ، وجواز الأخذ به يحتاج الى توقف ، إذ لا يكفي في ذلك ما دلّ على حجّيّة كلا المتعارضين بعد فرض امتناع العمل بكلّ منهما ، فيجبُ الأخذُ بالمتيقّنِ جوازُ العمل به وطرحُ المشكوك ، وليس المقامُ ، مقامَ التكليف المردّد بين التعيين والتخيير ، حتّى يبنى على مسألة البراءة والاشتغال .

-------------------

التعييّن والتخيير ليقدّم التعيين على التخيير كما قال : ( ان حجيّة الخبر المرجوح في المقام ، وجواز الأخذ به يحتاج الى توقف ) بمعنى : أنّه لا نتمكن ان نقول بحجيّة الخبر المرجوح ( اذ لا يكفي في ذلك ) اي : في حجيّة الخبر المرجوح ( ما دلّ على حجيّة كلا المتعارضين بعد فرض : امتناع العمل بكلّ منهما ، فيجب الأخذ بالمتيقن جواز العمل به ) قوله : « جواز » فاعل قوله : « بالمتيقن » ( وطرح المشكوك ) منهما .

( و ) الحاصل : ان الخبر المرجوح وإنْ وافق الاحتياط يلزم تركه ، فلا يمكنه مُعارضَة الخبر الرّاجح حتى يكون من دوران الامر بين الاحتياط في المسألة الاُصولية وبين الاحتياط في المسألة الفرعية فانّه ( ليس المقام ، مقام التكليف المردد بين التعييّن والتخيير ، حتى يبنى على مسألة البرائة والاشتغال ) .

هذا ، وقد اختلف العلماء في مسألة التعيين والتخيير فقال بعض : بتقديم الاشتغال الموافق للتعيين ، وقال بعض : بتقديم البرائة الموافق للتخيير ، لكن المقام ليس من هذا الباب ، فانّه ليس هنا تخيير اطلاقاً ، بل يلزم طرح الخبر المرجوح والاخذ بالخبر الراجح الذي كان رجحانه بسبب الظنّ الخارجي ، ففي المثال السابق يلزم الاخذ بطهارة الحديد الموافق للمشهور ، ويطرح القول بالنجاسة الموافق للاحتياط ، لأنّه لا حجيّة في خبر النجاسة .

ص: 208

وتمامُ الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث التراجيح إن شاء اللّه تعالى .

الثاني : ظهورُ الاجماع على ذلك وكما استظهره بعضُ مشايخنا ، فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات الخارجيّة بافادته للظنّ بمطابقة أحد الدليلين للواقع ، فكأنّ الكبرى وهي وجوبُ الأخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق أحد الدليلين مسلّمةً عندهم .

وربّما يستفاد ذلك من الاجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى المتعارضين ،

-------------------

(وتمام الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث الترجيح انشاء اللّه تعالى) مفصلاً .

( الثاني ) من الوجوه التي استدّل بها للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي الموافق لأحد الخبرين : ( ظهور الاجماع على ذلك ) اي : على الترجيح بالظنّ الخارجي ( وكما استظهره ) اي : الاجماع ( بعض مشايخنا ، فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات الخارجية ب- ) سبب ( افادته للظنّ بمطابقة احد الدليلين للواقع ) وقوله : « بافادته » متعلق بقوله : « يستدلّون » .

( فكأن الكبرى وهي : وجوب الاخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طِبقِ احد الدّليلين مسلّمةً عنده ) وانّما يأتون بالصغرى ، وان هذا المرجّح يفيد الظنّ بأحد الخبرين ، وصورة القياس هكذا : المرجح الفلاني يفيد الظنّ بأحد الخبرين ، وكلّما افاد الظنّ بأحد الخبرين يوجب حجّية ذلك الخبر المظنون .

( وربما يُستفاد ذلك ) اي : وجوب الاخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق احد الدّليلين ( من الاجماعات المستفيضة على وجوب الاخذ بأقوى المتعارضين ) ومن المعلوم : انّه اذا كان احد المتعارضين موافقاً للظنّ يكون اقوى من الآخر .

ص: 209

إلاّ أنّ يشكل بما ذكرنا : من أنّ الظاهر أنّ المراد بأقوى الدليلين منهما ما كان كذلك في نفسه ولو لكشف أمر خارجيّ عن ذلك ، كعمل الأكثر الكاشف عن مرجّح داخليّ لا نعلمه تفصيلاً ، فلا يدخل فيه ما كان مضمونُه مطابقا لأمارة غير معتبرة ، كالاستقراء ، والأولويّة الظنّيّة مثلاً ، على تقدير عدم إعتبارهما ، فانّ الظاهرَ خروجُ ذلك عن معقد تلك الاجماعات ، وإن كان بعضُ أدلّتهم الأُخَر قد يفيد العمومَ لما نحن فيه ، كقبح ترجيح المرجوح ،

-------------------

( إلاّ أن يشكل بما ذكرنا : من انّ الظاهر : انّ المراد بأقوى الدليلين منهما ) اي : من المتعارضين : ( ما كان كذلك ) اي اقوى ( في نفسه ولو لكشف امر خارجي عن ذلك ) اي : عن كونه اقوى في نفسه ( كعمل الأكثر ) من العلماء باحد الخبرين ( الكاشف عن مرجّح داخلي لا نعلمه تفصيلاً ) .

وعليه : فلا يكون موافقة احد الخبرين للظنّ موجباً للترجيح ، الاّ فيما اذا كان الظنّ سبباً للأقوائية الداخلية في ذلك الخبر المظنون .

إذن : ( فلا يدخل فيه ) اي : في اقوى الدليلين ( ما كان مضمونه ) اي مضمون احد الخبرين ( مطابقاً لأمارة غير معتبرة ) فرضا ( كالإستقراء ، والأولوية الظنيّة - مثلاً - على تقدير عدم اعتبارهما ) اي : عدم اعتبار الاستقراء والاولوية الظنيّة فانّهما ليسا معتبرين شرعاً .

( فان الظاهر خروج ذلك ) اي : المطابقة للأمارة غير المعتبرة ( عن معقد تلك الاجماعات ) القائمة على وجوب الاخذ بأقوى المتعارضين ( وان كان بعض أدلّتهم الأُخر ) غير الاجماعات المستفيضة على وجوب الاخذ باقوى المتعارضين ( قد يفيد العموم لما نحن فيه ) من الترجيح بأمارة غير معتبرة ( كقبح ترجيح المرجوح ) على الراجح ، فانّه لا شك في كون موافقة أمارة غير معتبرة

ص: 210

إلاّ أنّه لا يبعدُ أن يكون المرادُ المرجوحَ في نفسه من المتعارضين لا مجرّدَ المرجوح بحسب الواقع ، وإلاّ اقتضى ذلك حجّيّة نفس المرجّح مستقلاًّ .

نعم ، الانصافُ : أنّ بعضَ كلماتهم يستفادُ منه أنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجّح أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر .

وقد استظهر بعضُ مشايخنا الاتفاقَ على الترجيح

-------------------

لأحد الخبرين يجعل ذلك الخبر راجحاً ، فلا يقدّم الخالي عن الرجحان عليه ، ولا يساويه ايضاً .

( الاّ انّه لا يبعد أن يكون المراد : المرجوح في نفسه من المتعارضين ، لا مجرد المرجوح بحسب الواقع ) وان كان الرّجحان خارجياً ، فانّه يشترط وجود القوة في داخل احد المتعارضين لا من الخارج .

( والاّ ) بأنْ ارادُوا مجرد المرجوح بحسب الواقع ( اقتضى ذلك ) اي : مجرد المرجوح بحسب الواقع ( حجيّة نفس المرجّح مستقلاً ) وهذا مقطوع العدم ، لأنّ المفروض : ان الكلام في الأمارة المرجّحة التي هي ليست بمعتبرة .

وانّما قال المصنّف «وإلاّ اقتضى ذلك» ، لانّه لو كان مرجّحاً كان معناه : انه لولاه لم يؤخذ بالخبر الراجح ، ومعنى ذلك : أنّ المرجِح بالكسر حجّة والمطلوب : انّه ليس بحجة ، لأنّ الكلام في الأمارة غير المعتبرة التي توافق احد الخبرين .

( نعم ، الانصاف انّ بعض كلماتهم يستفاد منه : إنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجح أقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) سواء كان المرجح المقرّب امراً داخلياً أم خارجياً .

( و ) يؤد هذا التعميم ما ( قد استظهر بعض مشايخنا : الاتفاق على الترجيح

ص: 211

بكلّ ظنّ ما عدا القياس .

فمنها : ما تقدّم عن المعارج من الاستدلال للترجيح بالقياس بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر .

ومنها : ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرّر ، فانّ مرجعَ ما ذكروا فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظنّ بموافقة أحدهما لحكم اللّه الواقعيّ .

-------------------

بكل ظنّ ما عدا القياس ) لأنّ القياس خارج بالنصّ واستظهار بعض مشايخنا ذلك من عدة اُمور في كلماتهم :

( فمنها : ما تقدّم عن المعارج : من الاستدلال للترجيح بالقياس ) عند بعض من جعل القياس مرجحاً ( بكون مضمون الخبر الموافق له ) اي : للقياس : ( اقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) فيظهر من هذا الاستدلال : إنّ الاقربية الى الواقع امرٌ

مفروغ عن الترجيح به ، متفق عليه بينهم ، والاّ لم يصح جعله دليلاً .

( ومنها : ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرّر ) وهو ما اذا كان خَبَران متعارضان : احدهما خلاف الاصل ممّا يسمى ناقلاً لأنّه ينقل عن حكم الاصل ، والآخر موافق للاصل ممّا يُسمى مقرراً ، لأنّه يقرر الاصل ، كما اذا قال احد الخبرين بالحرمة ، وقال الآخر : بالاباحة فان الحرمة خلاف الاصل ويُسمى ناقلاً ، والاباحة موافقاً للأصل ويُسمى مقرراً .

( فان مرجع ما ذكروا فيها لتقديم احدهما على الآخر ) بحسب ما وجد في المسألة من المذهبين : القائل اوّلهما بتقديم المقرر ، وثانيهما : بتقديم الناقل ، فان كل واحد منهما استدل لما ذهب اليه بما يرجع ( الى الظنّ بموافقة احدهما لحكم اللّه الواقعي ) مما يدل على ان الظنّ يرجح هذا على ذاك ، او ذاك على هذا .

ص: 212

إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظنّ حاصلٌ من نفس الخبر المتّصف بكونه مقرّرا أو ناقلاً .

ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف معلّلين بأن الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، وفي ترجيحه بعمل علماء المدينة ،

-------------------

( الاّ ان يقال : انّ هذا الظنّ حاصل بنفس الخبر المتصّف بكونه مقرراً أو ناقلاً ) لا من الخارج ، فلا يدل كلامهم على انّ الظنّ المستفاد من الخارج ، كالشهرة ، والاستقراء ، وما اشبه ذلك يكون مرجحاً .

( ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف ) بهذا الخبر دون ذاك فيما اذا كان الخبران متعارضين ( معلّلين بأنّ الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفق له الاقل ) وانّما يوفق الأكثر للصواب ،لأنّ اللّه سبحانه جعل الشورى في الموضوعات المختلف فيها ، ومعنى الشورى : هو الاخذ بقول الأكثر ، قال سبحانه : « وأَمُرهُم شُورى بينهم » (1) وقال ايضاً : « وَشاورَهُم في الأمر » (2) وقال ثالثة : « وَتشاوُر » (3) .

( وفي ترجيحه ) اي : ترجيح احد الخبرين ، وهذا عطف على قوله : « في ترجيح احد الخبرين بعمل اكثر السلف » ( بعمل علماء المدينة ) لانّهم اقرب الى محل الوحي ، وجه ، ومن المعلوم : ان هذا لا يوجب الاّ الظنّ ، ممّا يدل على ان الظنّ مرجّح .

ص: 213


1- - سورة الشورى : الآية 38 .
2- - سورة آل عمران : الآية 159 .
3- - سورة البقرة : الآية 233 .

إلاّ أن يقال إنّ ذلك كاشف عن مرجّح داخليّ في أحد الخبرين .

وبالجملة : فتتبّع كلماتهم يوجب الظنّ القويّ بل القطع بأنّ بناءهم على الأخذ بكلّ ما يشتمل على ما يوجب أقربيته إلى الصواب ، سواء كان لأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوّة مضمونها .

ثمّ لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات بمرجّحيّة مطلق الظنّ المطابق لمضمون أحد الخبرين ، فلا أقلّ من كونه مظنونا ، والظاهرُ وجوبُ العمل به في مقابل التخيير

-------------------

( الاّ أنّ يقال : ان ذلك كاشف عن مرجح داخلي في احد الخبرين ) فلا يدلّ على أنّ الظنّ مطلقاً ولو من الخارج يكون مرجحاً .

( وبالجملة : فتتبع كلماتهم يوجب الظنّ القوي ، بل القطع بأنّ بنائهم : على الأخذ بكل ما يشتمل على ما يوجب أقربيته الى الصواب ، سواء كان لأمر راجع الى نفسه ) أي : الى نفس الخبر ، مثل أن يكون سنده اقوى من سند غيره ، أو مضمونه اقرب الى العرف من مضمون غيره ، وهكذا .

( او لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوة مضمونها ) من الخارج ، مثل الشهرة والاستقراء ، والاجماع المنقول ، وما اشبه ذلك .

( ثم لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات ) التي ذكرناها بقولنا : منها ، ومنها ، ومنها ( بمرجحيّة مطلق الظّن المطابق لمضمون احد الخبرين ) ولو بسبب الاحتفاف بأمارة اجنبيّة خارجية ( فلا اقل من كونه ) اي : الترجيح بمطلق الظنّ المطابق لمضمون احد الخبرين ( مظنوناً ) ان لم يكن مقطوعاً .

( والظاهر : وجوب العمل به ) اي : بهذا الظنّ ( في مقابل التخييّر ) وذلك لجريان قاعدة الاشتغال عند مَنْ يَرى تقدّم التعيين على التخيير في صورة دوران

ص: 214

وإن لم يجب العملُ به في مقابل الاصول ، وسيجيء بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى .

الثالث : ما يظهر من بعض الأخبار ، من أنّ المناط في الترجيح كونُ أحد الخبرين أقربَ مطابقةً للواقع ، سواء كان لمرجّح داخليّ كالأعدليّة مثلاً أو لمرجّح خارجيّ كمطابقته لأمارة توجبُ كونَ مضمونه أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر :

مثلُ ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة في الحديث ، كما في مقبولة ابن حَنظلة ،

-------------------

الأمر بينهما ( وان لم يجب العملُ به في مقابل الاصول ) كالاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب في احد الطرفين مقدّم على الظنّ في الطرف الآخر ، ( وسيجيء بيان ذلك انشاء اللّه تعالى ) فيما يأتي .

( الثالث ) ممّا يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي : ( ما يظهر مِنْ بعض الأخبار : من انّ المناط في الترجيح ، كون أحَد الخبرين اقرب مطابقة للواقع ) اي : من جهة المطابقة للواقع : فقوله : « مطابقة » تمييز .

( سواء كان لمرجّح داخلي ، كالأعدلية ) فان الاعدلية مرجّح داخلي في سند الخبر ( مثلاً او لمرجّح خارجي ، كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) كالشهرة والاستقراء ونحوهما (مثل ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة في الحديث ، كما في مقبولة إبن حنظلة ) (1) .

ص: 215


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فانّا نعلمُ أنّ وجهَ الترجيح بهذه الصفة ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقربَ إلى الواقع من الخبر الغير الموصوف بها ، لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق .

وليس هذه الصفة مثل الأعدليّة وشبهها في إحتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ؛ ولذا اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق وثاقته ،

-------------------

وانّما يعد الاصدقيّة مرجح خارجي لماذكره بقوله : ( فانّا نعلم انّ وجه الترجيح بهذه الصفة ) اي : الاصدقية ( ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من الخبر غير الموصوف بها ) فالاصدقية طريق الاقربية الى الواقع ( لا لمجرد كون راوي احدهما اصدق ) حتى لا يكون له ربط بالاقربية الى الواقع .

( وليس هذه الصفة ) اي : الاصدقية ( مثل الاعدلية وشبهها ) كالافقهية ، والاورعية ( في احتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ) في داخل الخبر .

قال في الاوثق : « اذ يحتمل أنْ يكون الشارع قد جَعلَ للعادل مرتبةً لاجل عدالته ومرتبةً اُخرى لاجل خَبره وإنْ احتملت مخالفته للواقع حِفظاً لإنتهاك حرمته بين الأَنام بخلاف صفة الصدق ، على ما قربه المصنّف ، وكذلك في الأوثقية والاعدلية والاصدقية » (1) .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرنا : من إنّ الاعتبار بالقرب إلى الواقع ( اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق ؟ وثاقته ) فإنّ البيّنة إذا كانت

ص: 216


1- - أوثق الوسائل : ص247 الوجه الثاني والثالث مما استدلّ به للترجيح .

لأنّ صفةَ الصدق ليست إلاّ المطابقةَ للواقع ، فمعنى الأصدق هو الأقربُ إلى الواقع . فالترجيحُ بها يدلّ على أنّ العبرة بالأقربيّة من أيّ سبب حصلت .

ومثلُ ما دلّ على ترجيح أوثق الخبرين ، فانّ معنى الأوثقيّة شدّةُ الاعتماد عليه ، وليس إلاّ لكون خبره أوثقَ ، فاذا حصل هذا المعنى

-------------------

عادلة يؤخذ بكلامها دون ما إذا كانت ثقة غير عادلة ، فإنّه لولا ملاحظة الظنّ بسبب الأقربية إلى الواقع ، كان خبر العدل والثقة متساويين من حيث إنّهما لايكذبان ، وانّما الفرق : انّ العدالة أمرٌ خارجي توجب الظنّ بمضمون الخبر ، بينما ليست الوُثاقة كذلك فالظنّ من الخارج أوجب قبول البيّنة العادلة دون البينّة الموثقة .

وقد علّل المصنّف ما تقدّم من قوله : «لا لمجرد كون راوي أحدهما أصدق» ، بقوله : ( لأن صفة الصدق ليست إلاّ المطابقة للواقع ، فمعنى الأصدق : هو الأقرب إلى الواقع ) فإذا كان هناك خَبران : صادق وأصدق يقدّم الأصدق على الصادق ( فالترجيح بها ) أي : بالأصدقيّة ( يدل على أنّ العبرة بالأقربية ) إلى الواقع ( من أي سبب حصلت ) تِلكَ الأقربية سواء من السَبب الداخل أو من السبب الخارج .

( ومثل ) عطف على قوله قبل أسطر « مثل ما دلّ على الترجيح والأصدقية » ( ما دلّ على ترجيح أوثق الخبرين ) فإذا كان هناك خبران متعارِضان أحدهما أوثق من الآخر ، قدِّم الأوثق على غير الأوثق ، مع إنّ كليهما ثقة ( فإن معنى الأوثقية: شدّة الاعتماد عليه ) فإنّه إذا كان خبران أحدهما أوثق والآخر موثق ، كان الأوثق أشدُ إعتماداً عليه من الموثق (وليس إلاّ لكون خبره أوثق) من الخبر الآخر .

وعليه : ( فإذا حصل هذا المعنى ) أي : شدة الاعتماد على أحدهما دون الآخر ،

ص: 217

في أحد الخبرين من مرجّح خارجيّ ، اتّبع .

وممّا يستفاد منه المطلبُ على وجه الظهور ما دلّ على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث يعرفه كلّهُم وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم ، بل يَنفرد بروايته بعضهُم دون بعض ، معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، فيدلّ على أنّ طرح

-------------------

( في أحد الخبرين من مرجّح خارجي ، اتّبع ) ذلك الخبر الذي له مرجّح خارجي ، فلا فرق بين أن يكون شدة الاعتماد بأحد الخبرين داخل أو خارج .

( وممّا يُستفاد منه المطلب على وجه الظهور ) أي : الترجيح بمطلق الظنّ الخارجي أو الداخلي ، إضافة الى الوجوه الثلاثة التي ذكرناها بقولنا : « الأول : قاعدة الاشتغال ، والثاني : ظهور الاجماع ، والثالث : مايظهر من بعض الأخبار » ( ما دلّ على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهوراً بين الأصحاب بحيث يعرفه كلهم ) أي : جلهم : ( وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم ، بلّ ينفرد بروايته بعضهم دون بعض ) كما إذا روى أحد الخبرين عشرة ، والآخر ثلاثة أو أربعة .

وإنّما قدّم الإمام عليه السلام المشهور على غيره ( معلِّلاً ذلك ) التقديم ( بأن المُجمَعَ عَليهِ لا رَيبَ فيه ) (1) والمراد بالمُجمع عليه : ما قام عليه الشهرة بقرينة قوله عليه السلام « دَع الشّاذَ النّادِرَ » (2) .

( فيدل ) هذا الخبر الذي قدّم المشهور على غير المشهور ( على أن طرح

ص: 218


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

الآخر لأجل ثبوت الرَّيب فيه ، لا لأنّه لا ريبَ في بطلانه ، كما قد يتوهّم ، وإلاّ لم يكن معنىً للتعارض وتحيّر السائل ، ولا لتقديمه على الخبر المجمع عليه ، إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه صدر الخبر ، ولا لقول السائل بعد ذلك : « هما معا مشهوران » .

-------------------

الآخر ) الذي ليس بمشهور ( لأجل ثبوت الرَّيب فيه ، لا لأنّه لا رَيبَ في بطلانه كما قد يُتَوهم ) فإنّه قد يقال : خبر زُرارة لا رَيبَ فيه ، بمعنى : إنّ خبر عَمار المقابل له ، فيه ريب ، وقد يقال : خبر زُرارة لا ريب فيه ، بمعنى : إنّ خبر أبي الخطاب المقابل له لا ريبَ في بطلانه ، والمراد هنا من «لا رَيبَ فيهِ» في الروّاية : المعنى الأوّل ، لا المعنى الثاني .

( وإلاّ ) بأنْ كان المراد منه : إنّ الخبر المقابل له لا رَيبَ في بطلانهِ ( لم يكن معنىً للتعارض ) لأنّ الخبر الذي لاريبَ في بطلانه يسقط تلقائياً فلا يُعارض الخبر الذي لاريب فيه .

( و ) كذا لم يكن معنى ل- ( تحّير السائل ) بين الخبرين ، الذي أحدهما بالتعيين لاريبَ في بطلانه ( ولا ) معنى أيضاً ( لتقديمه ) أي : الخبر الذي فيه رَيب ( على الخبر المُجمع عليه ، إذا كان راويه ) أي : راوي الخبر الذي فيه الرَيب ( أعدل كما يقتضيه صدر الخبر ) حيث إنّ الإمام عليه السلام قدّم أوّلاً الأعدل ، ثم إذا لم يكن بينهما أعدل ، بل كان كلاهما عادلان قدّم الخبر المُجمع عليه على غيره .

ومعنى تقديم الأعدل : أنْ يقدّم الأعدل أوّلاً وإنْ كان الخبر الآخر أشهر ، فاذا لم يكن أعدل في البين ، كان اللازم الأخذ بالأشهر .

( ولا ) معنى أيضاً ( لقول السائل بعد ذلك ) أي : بَعدَ جَعل الإمام الأشهر مقدَّماً على غيره : ( هما معاً مشهوران ) إذ الخبر الذي لا رَيبَ في بطلانه سواءا كان

ص: 219

فحاصلُ المرجّح ثبوتُ الرَّيب في الخبر الغير المشهور ، وانتفاؤه في المشهور ، فيكون المشهورُ من الأمر البيّن الرّشد ، وغيرُه من الأمر المشكل ، لا بيّن الغيّ ، كما توهّم .

وليس المرادُ به نفيَ الرَّيب من جميع الجهات ، لأنّ الاجماع على الرواية لا يوجبُ ذلك ضرورةً ، بل المرادُ وجودُ ريب في غير المشهور يكون منتفيا في الخبر المشهور ، وهو احتمالُ وروده على بعض الوجوه

-------------------

مشهوراً أو غير مشهور لا يُؤخذ به ، بل لايمكن أنْ يكون مثل هذا الخبر الذي لارَيبَ في بطلانه مشهوراً بين الأصحاب .

وعليه : ( فحاصل المرجّح : ثبوت الرَّيب في الخبر غير المشهور ، وانتفاؤه في المشهور ، فيكون المشهور من الأمر البيّن الرّشد ، وغيره من الأمر المُشكل ، لا بيّن الغيّ كما توهّم ) فانّ المتوهم ، توهم : إنّ المراد بأنّ غير المشهور هو : بيّنُ الغَيّ ، وقد رَدّ المصنّف على ذلك باُمور أربعة : بقوله : « وإلاّ لم يكن » وقوله : « وتحيّر السائل » وقوله : « ولا لتقديمه » وقوله : « ولا لقول السائل » .

ثم إنّ المصنّف شَرَعَ في مطلبٍ آخر ، فقال : ( وليس المراد به ) أي : بقول الإمام : « لا رَيبَ فيه » ( نفي الرَيب من جميع الجهات ) بل نفي الرَيب النسبي ، ( لأن الاجماع على الرّواية لايُوجب ذلك ) أي : نفي الرَيب من جَميع الجهات ( ضرورة ) وبداهة ( بل المراد : وجود رَيب في غير المشهور ) رَيباً نسبياً ( يكون ) ذلك الرَيب ( منتفياً في الخبر المشهور ) عند الاصحاب .

( وهو ) أي : ذلك الرَيب في الجملة الموجود في غير المشهور ( : إحتمال وروده ) أي : ورود غير المشهور ( على بعض الوجوه ) لا لبيان الحُكم الواقعي .

ص: 220

أو عدم صدوره رأسا .

وليس المرادُ بالريب مجرّدَ الاحتمال ولو موهوما ، لأنّ الخبر المجمع عليه ، يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعضُ الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ، غايةُ الأمر كونُه في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحا وفي غير المشهور احتمالاً مساويا يصدق عليه الريبُ عرفا.

وحينئذٍ : فيدلّ على رجحان

-------------------

( أو ) إحتمال ( عدم صدوره رأساً ) وهذا عطف على قوله : « وروده » ، فاذا كان خبر زُرارة وخبر محمّد بن مسلم - مثلاً - متعارضان ، وإحتَملنا ورود خبر زُرارة للتقيّة ولم نحتمل مثل ذلك في خبر ابن مسلم ، صحّ أنْ يقال : لا رَيبَ في خبر ابن مسلم في قبال خبر زُرارة الذي فيه الرَيب من جهة إحتمالنا انّه صدر تقيّة .

ثم إنّ المصنّف انتقل إلى بيان أمر آخر فقال : ( وليس المراد بالرَيب : مجرد الاحتمال ولو موهوماً ) بأن يكون إحتمال الرَيب في خبر غير المشهور موهوماً ، وفي خبر المشهور ليس حتى ذلك الاحتمال الموهوم ، بل المراد الرَيب العرفي ( لأن الخبر المُجمَع عليه ، يحتمل فيه أيضاً من حيث الصدور بعض الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ) فإنّه يحتمل في خبر المشهور أيضاً صدوره لا لبيان الحُكم الواقعي .

( غاية الأمر : كونه ) أي : الرَيب ( في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحاً ) عند العرف ( وفي غير المشهور إحتمالاً مساوياً يصدق عليه الرَيب عرفاً ) عقلائياً .

( وحينئذٍ ) أي : حين قدّم الامام عليه السلام ما فيه نفي الرَيب النسبي على ما فيه الرَيب النسبي ( فيدل ) هذا الخبر المرجّح بالمشهور على غيره ، ( على رجحان

ص: 221

كلّ خبر يكون نسبتُه إلى معارضه ، مثلَ نسبة الخبر المُجمع على روايته إلى الخبر الذي اختصّ بروايته بعضٌ دون بعض ، مع كونه بحيث لو سَلِمَ عن المعارض أو كان راويه أعدل وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لأُخِذَ به ، ومن المعلوم أنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبتُه إلى معارضه ، تلك النسبةُ .

ولعلّه لذا علّل تقديمُ الخبر المخالف للعامّة على الموافق بأنّ ذاك

-------------------

كلَّ خبر يكون نسبته إلى معارضه ، مثل نسبة الخبر المُجمَع على روايته إلى الخبر الذي إختصّ بروايته بعض دون بعض ) بأنْ كان في أحد الخبرين رَيبٌ نسبي ، ممّا ليس هذا الرَيب النسبي في الخبر الآخر ، فإنّه يؤخذ بالخبر الآخر الذي لا رَيب فيه ويترك الخبر الذي فيه الرَيب النسبي .

( مع كونه ) أي : ما فيه الرَيب النسبي ليس ساقطاً بالمرة ( بحيث لو سَلِمَ عن المعارض ، أو كان رواية أعدل وأصدق من راوي معارضه المُجمَع عليه ) قوله : « المجمع عليه » : صفة لقوله : « معارضه » ( لأخذ به ) أي بما فيه الرَيب النسبي .

( ومن المعلوم : إنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ) للواقع ( ومخالفة معارضه للواقع نسبته ) أي : نسبة هذا الخبر المعتضد بالأمارة ( إلى معارضه ، تلك النسبة ) التي بين ما لارَيبَ فيه وما فيه الرَيب ، وقول المصنّف : « ومن المعلوم » ، بيان للصغرى بعد إستفادة الكبرى الكليّة من الرّواية ، التي قدّمت ما لاريبَ فيه على ما فيه الريب .

( ولعلّه لذا ) أي : لتقديم ما لاريب نسبي فيه ، على مافيه ريب نسبي ( عُلّل تقديم الخبر المخالف للعامّة على الموافق ) لهم في الرواية ( بأنَّ ذاك ) الذي هو

ص: 222

لا يحتمل إلاّ الفتوى وهذا يحتمل التقيّة ، لأنّ الريبَ الموجود في الثاني منتفٍ في الأوّل .

وكذا كثيرٌ من المرجّحات الراجعة إلى وجود إحتمالٍ في أحدهما ، مفقودٍ علما أو ظنّا في الآخر ، فتدبّر .

فكلُّ خبر من المتعارضين يكون فيه ريبٌ لا يوجد في الآخر أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريبا ، فذاك الآخرُ مقدّمٌ عليه .

-------------------

مخالف للعامّة ( لايحتمل الاّ الفتوى ، وهذا ) الموافق للعامة ( يحتمل التقية ، لأنّ الريب الموجود في الثاني ) وهو : الموافق للعامّة ( منتف في الأوّل ) المخالف للعامّة .

( وكذا كثير من المرّجحات الراجعة إلى وجود إحتمالٍ في أحدهما ، مفقود ) ذلك لاحتمال ( علماً أو ظنّاً في الآخر ، فتدبر ) ولعلّه إشارة إلى أن ميزان المرجّحات هو المطابقة للواقع ، وحيث لم يكن معنى المطابقة للواقع : جعل الراجّح أقرب إلى ذهن العامل من المرجوح - لفقد دليل في المرجحات المنصوصة ، يدلّ على أن كل ما كان أقرب بنظر العامل يكون مقدّماً على الآخر - فلا يتم ما ذكره المصنّف من الترجيح بكل ظنّ .

ثم على تقدير التقديم لكلّ ما يوافقه الظنّ على ماليس فيه مثل هذا الظنّ ( فكلّ خبر من المتعارضين يكون فيه رَيب لايوجد في الآخر ) مثل ذلك الريب ، ( أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريباً ) قوله : « ريباً : » مفعول قوله « لايعد » ( فذاك الآخر ) الذي لارَيب فيه أو فيه ريب ضعيف جداً ( مقدّمٌ عليه ) أي : على مافيه الرَيب أو فيه رَيب أقوى .

ص: 223

وأظهرُ من ذلك كلّه ، في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ ، ما دلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على أنّ الوجه في الترجيح بها أحدُ وجهين :

أحدُهما : كونُ المخالف أبعد من التقيّة ، كما علّل به الشيخُ والمحققُ ؛

-------------------

( وأظهر من ذلك كلّه ) أي : من تلك الوجوه الثلاثة التي ذكرناها ، ومن الوجه الرابع الذي ذكرناه قبل نصف صفحة تقريباً بقولنا : وممّا يستفاد منه المطلب ( في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ ) مايلي :

ومن الواضح : إنّ هذا غير ماذكره قبل أسطر بقوله : « ولعلّه لذا علّل تقديم الخبر المخالف للعامّة ...» ، فإنّ قوله : « لعلّه » ، تأييد لكون الأخذ بالمشهور من جهة ان المشهور أقرب إلى الصواب ، وان قوله : « لذا عُلّل » ، تأييد مستقل لأصل المطلب الذي بيّنَهُ بقوله قبل صفحتين تقريباً : «فالذي يمكن أن يستدّل به لترجيح مطلق الظنّ الخارجي وجوه» .

وعليه : فان الأظهر دلالة من كل ذلك : ( مادلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة ) فإذا كان هناك خبران أحدهما موافق للعامّة ، والآخر مخالف ، وتعارضا يؤخذ بالمُخالف ( بناءاً على انّ وجه الترجيح بها ) أي : بمخالفة العامّة ( أحد وجهين ) على مايلي :

( أحدهما : كون المخالف أبعد من التقية ، كما علّل به الشيخ والمحقّق ) ولا يخفى : ان المراد « بالأبعد » هنا : ليس التفضيل ، بل : البعد ، فإنّ صيغة التفضيل كثيراً ما تستعمل في أصل المعنى ، فالأحوط - مثلاً - معناه : إنّه احتياط ، و «الأولى» معناه : إنّه قريب ، وليس الآخر قريباً ، وهكذا .

ص: 224

فيستفاد منه اعتبارُ كلّ قرينة خارجيّة توجب أبعديّةَ أحدهما عن خلاف الحقّ ، ولو كانت مثلَ الشهرة والاستقراء ، بل المستفاد منه عدمُ اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ، كما هو مفاد الخبر المتقدّم الدالّ على ترجيح ما لا ريبَ فيه على ما فيه الرّيبُ بالاضافة إلى معارضه .

لكنّ هذا الوجهَ لم يُنَصَّ عليه في الأخبار ، وإنّما هو شيء مستنبط منها ، ذكره الشيخ ومن تأخّر عنه .

-------------------

( فيستفاد منه ) أي من هذا التعليل ( اعتبار كلّ قرينة خارجية توجب أبعدية أحدهما عن خلاف الحق ، ولو كانت ) تلك القرينة الخارجية ( مثل الشهرة ، والاستقراء ) والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك .

( بل المستفاد منه ) أي : ممّا دلّ من الأخبار العلاجية على الترجيح بمخالفة : العامّة ( : عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي ) في حصول الترجيح ( تطّرق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين ، بعيد في الآخر ) ولو لم يكن مفيداً للظنّ بالواقع ، فلا يلزم الظنّ وانّما يوجد الاحتمال ( كما هو مفاد الخبر المتقدّم الدال على ترجيح ما لاريب فيه على مافيه الريب ) .

وعليه : فوجود ريب في الجملة في الخبر ، يوجب تقدّم معارضه عليه ، وإن لم يكن معارضه مظنوناً ، فاذا كان خبراً ليس فيه ريب وذلك ( بالإضافة إلى معارضه ) أي : بالنسبة الى معارضه ، نأخذ بما لاريب فيه ونترك ما فيه الريب .

( لكنّ هذا الوجه ) وهو : كون المخالف أبعد من التقية ( لم يُنَصّ عليه في الأخبار ) العلاجية ( وإنّما هو شيء مستنبط منها ) أي : من الأخبار ( ذكره الشيخ ومن تأخر عنه ) كالمحقّق وغيره ، فلا يمكن الاستناد إلى هذا الوجه في كفاية

ص: 225

نعم ، في رواية عبيد بن زرارة : « ما سَمِعتَهُ مِنّي يُشبِهُ قولَ النّاس فَفيهِ التقيّةُ ، وما سَمِعتَ منّي لا يُشبِهَ قولَ الناس ، فلا تقيّةَ فيه » .

الثاني : كونُ المخالف أقربَ من حيث المضمون إلى الواقع .

-------------------

تطرّق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر .

( نعم ) رواية : « دَع ما يُريبُكَ إلى مَا لايُريبُك » (1) مؤيد لهذا الاحتمال ، وكذا ( في رواية عبيد بن زرارة ) قال عليه السلام : ( ما سَمِعته مني يُشبِهُ قَولَ النّاسِ فَفِيهِ التقيّة ، وَما سمِعتَ مِنّي لا يُشبِه قَولَ النَاس ، فَلا تَقِيَّةَ فِيهِ ) (2) فالمعيار كون المخالف أبعد عن التقية كما ذكره الشيخ ، إذ مجرد الشبه بقول الناس يسقط الخبر في قِبال الذي لا يشبه قول الناس ، وان لم يكن هناك ظنّ موافق لما لايشبه قول الناس ، اذ ليس المعيار الظنّ ، وإنّما المعيار : الأبعدية ، والرّيب ، وما أشبه ذلك .

( الثاني ) من وجهي الترجيح بمخالفة العامّة ( : كونُ المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع ) والأقربية الى الواقع إما من جهة الكم ، أو من جهة الكيف .

امّا مِن جهة الكم : فمثل أنْ يكون في كل عشرة من الأخبار المخالفة للعامة سبعة منها يُطابق للواقع، بينما في الأخبار الموافقة للعامّة خمسة منها يُطابق الواقع.

ص: 226


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، كنز الفوائد ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 وقريب منه في تهذيب الأحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 .

وامّا من جهة الكيف : فمثل أنْ يَقول العامّة : بأن النَجس بالبول يُغسل مرة ، والواقع انّه يغسل ثلاث مرات ، فإذا كان خبران أحدهما يقول بالمرة ، والآخر بالمرتين ، فالمرتين أقربُ إلى الواقع .

والفرقُ بين الوجهين : انّ الأوّل كاشفٌ عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشفٌ عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع .

وهذا الوجهُ منصوصٌ في الأخبار ، مثل تعليل الحكم المذكور فيها بقوله عليه السلام : « فانّ الرُشدِ في خِلافِهِم » ، و « ما خالَفَ العامَّةَ فَفيهِ الرَّشاد » .

فانّ هذه القضيّة قضيّة غالبيّة لا دائمة ، فيدلّ على أنّه يكفي في الترجيح الظنُّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين .

-------------------

( والفرقُ بين الوجهين : إنّ الأوّلُ ) : وهو ماذكرناه بقولنا : «أحدهما كون المخالف أبعد من التقيّة» ( كاشفٌ عن وجه صدور الخبر ) فالخبر الصادر موافقاً للتقية ، يكون تقيّة ، بينما الخبر الصادر على خلاف التقيّة يكون مطابقاً للواقع .

( والثاني ) : وهو ما ذكرناه بقولنا : «كون المخالف أقرب من حيث المضمون» . ( كاشفٌ عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع ) دون الآخر المُوافق للعامّة .

( وهذا الوَجْهُ ) الثاني ( منصوصٌ في الأخبار ، مثل تعليل الحُكم المذكور ) وهو الأخذ بما خالف العامّة ( فيها ) أي : في الأخبار ( بقوله عليه السلام : « فانّ الرُشد فِي خِلافِهِم » (1) و « ما خَالَفَ العامَّةَ فَفيِهِ الرَّشاد » (2) ) فإنَّ من المعلوم : ان ما فيه الرُشد معناه : المطابقة للواقع .

وعليه : ( فإنّ هذه القضية ) أي : قضية كون الرُشد في خلافهم ( قضيّة غالبيّة لا دائمة ) لوضوح : انّه كثيراً ما يتطابق رأي العامة مع رأي الشيعة ( فيدلّ على انّه يكفي في الترجيح : الظنّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين ) ممّا ينتهي

ص: 227


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 ، .

ويدلّ على هذا التعليل أيضا ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد ، من قوله « إئتِ فَقِيهَ البَلد فاستَفتِهِ في أمرِكَ ، فَاذا أفتاكَ بشيءٍ ، فَخُذ بخِلافهِ ، فانّ الحَقَّ فيه » .

وأصرحُ من الكلّ في التعليل بالوجه المذكور مرفوعةُ أبي إسحاق الأرجانيّ إلى أبي عبد اللّه عليه السلام . قال : قال عليه السلام : « اتدري لِمَ أمِرتُم بالأخذِ بخلافِ ما يَقولُهُ العامّةُ ؟ فقُلتُ : لا أدري . فقال : إنّ عليّا عليه السلام لم يكُن يدين اللّه بدين إلاّ خالفَ عَليه الأُمّة إلى غيره ، إرادةً لا بطال أمرِهِ ،

-------------------

إلى الترجيح بمطلق الظنّ .( ويدلّ على هذا التعليل ) أي : تعليل كون الرُشد في خلافِهم (أيضاً : ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد ، من قوله) عليه السلام في جواب من سأله : انّه إذا لم يكن في بلد أحداً من علماء الشيعة فالى مَنْ يرجع في المسائل الحادثة ؟ فقال عليه السلام : ( إئتِ فَقِيهَ البَلدِ فَاستَفتِهِ فِي أَمرِك ، فإذا أَفتاكَ بشيء ، فخُذ بِخِلافِه ، فَانَّ الحَقَّ فيه ) (1) أي : في خلاف ما يفتيك مفتي العامة .

( وأصرحُ مِنَ الكلّ في التعليل بالوجه المذكور ) وهو كون الرُشد في خلافهم ( مَرفوعَةُ أبي إسحاق الأرجانيّ إلى أبي عبداللّه عليه السلام قال : قال عليه السلام : أَتدرِي لِمَ أمِرتُم بالأَخذِ بِخِلافِ مَا يَقُولُهُ العَامّةُ ؟ فَقُلتُ : لا أدرِي ، فقال : إنَّ عَليّاً عليه السلام لَمْ يَكُن يدين اللّه بدين إلاّ خَالَفَ عَليه الأُمّة ، إلى غيره ) أي : كانوا يخالفون طريقَةَ الإمام عليه السلام فيما كانت تلك الطَريقة مُختصةٌ به وبشيعَتِهِ .

وإنّما يخالفون عليه ( إرادَةً لإبطالِ أَمرِهِ ) حتى لاتكون طريقة الشيعة التي هي

ص: 228


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص294 ب22 ح27 ، علل الشرائع : ص531 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، بحار الانوار : ج2 ص233 ب29 ح14 .

وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشي الذي لا يعلمونَهُ ، فاذا أفتاهم بشيء جعلوا لَهُ ضِدّا من عند أنفسهِم لِيَلبِسُوا على النّاس » .

ويصدّقُ هذا الخبر سيرةُ أهل الباطل مع الأئمّة عليهم السلام ، على هذا النحو ، تبعا لسلفهم .

حتّى أنّ أبا حنيفة حكي عنه أنّه قال : « خالفتُ جَعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكني لا أدري هل يُغمِضُ عينيه أو يفتحهُما في السجود » .

-------------------

طريقة علي عليه السلام مشهوراً بين الناس مأخوذاً بها ( وكانوا يسألون أميرَ المُؤمنين عليه السلام ) في زَمانِهِ ( عن الشَيء الّذي لا يَعلمُونَهُ ، فإذا أَفتاهُم بشيء جَعَلُوا لَهُ ضِدّاً مِن عِندِ أَنفُسهِم لِيلبِسُوا على النّاس ) (1) الطريقة الصحيحة ، وهذا لا يُنافي أخذ الثلاثة أحياناً بقوله عليه السلام في موارد مذكورة في التاريخ ، لأنّها موارد اضطرارية كانت تهدد مواقعهم وإنّما الغالب هو ترك طريقته عليه السلام إلى خلافه .

( ويُصدّقُ هذا الخبر ) وهو خبر أبي إسحاق ( سيرةُ أهل الباطل مع الأئمة عليهم السلام على هذا النحو ) من ترك فتاوى الأئمة عليهم السلام إلى ما يخالفها غالباً وذلك ( تبعاً لسلِفهم ) من الثلاثة الذين تقدّموا علياً عليه السلام ( حتى انّ أبا حنيفة حكي عنه انّه قال : خالفتُ جَعفراً فيكلّ مايقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يُغمِضُ عَينيه أو يفتحهُما في السجود ) حتى اخالفه (2) إلى غيره ؟ .

ولا يخفى : إنّا إذا راجعنا اليوم فتاوى العامّة والخاصة ، رأينا كثيراً منها متطابقة ، لكن لم يكن الأمر في زمن الأئمة عليهم السلام على هذا المِنوال ، بل كان المخالفون يعملون على خلاف الأئمة عليهم السلام ، كما هو شأن كل حكومتين متعارضتين حيث

ص: 229


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 ، علل الشرائع : ص179 و ص531 .
2- - مفتاح الكرامة : ج3 ص393 .

والحاصل : انّ تعليلَ الأخذ بخلاف العامّة في هذه الروايات بكونه أقربَ إلى الواقع ، حتّى انّه يجعل دليلاً مستقلاًّ عند فقد من يرجع إليه في البلد ، ظاهرٌ في وجوب الترجيح بكل ما هو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّةَ الرشد .

-------------------

تعمل كلّ منهما على خلاف الأُخرى .

ومن المعلوم : إنّ الأئمة عليهم السلام كانوا الخُلفاء المنصوص عليهم من اللّه ورسوله ، وكانوا يذكّرون الناس بذلك ويحكمون على قلوبهم وأفكارهم ، وكان الناس ينظرون اليهم بهذا المنظار ممّا يثير قلق حكام الجور ، فيعملون على مخالفتهم وطمس ذكرهم ، وممّا يدل على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يدعون إلى حقهم ويذكّرون الناس بذلك ، دعمَهُم لِمَنْ قام من بني الزهراء عليهاالسلام بثورات ضد الحاكمين الغاصبين بالدعاء لهم والترحمُ عليهم .

( والحاصل : انّ تعليل الأخذ بخلاف العامّة في هذه الرّوايات بكونه ) أي : بكون ذلك الخلاف ( أقرب إلى الواقع ، حتّى انّه يجعل دليلاً مستقلاً عند فقد من يرجع إليه في البلد ) من فقهاء الشيعة وعلمائهم كما في قوله عليه السلام : « إئت فَقيه البَلد فاستفتِهِ فِي أَمرك ، فَإذا أَفتاكَ بشَيء فَخُذ بِخلافهِ فانّ الحَقَ فيه » (1) فانّ هذا التعليل ( ظاهرٌ في وجوب الترجيح بكلّ ماهو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّة الرشد ) .

وإنّما ذكرنا المظنّة ، لوضوح : إنّ المستفتي من فقيه البلد لايقطع بأن خلاف

ص: 230


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص294 ب22 ح27 ، علل الشرائع : ص531 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، بحار الانوار : ج2 ص233 ب29 ح14 .

واذا انضمّ هذا الظهور إلى الظهور الذي إدّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ، فالظاهرُ أنّه يحصلُ من المجموع دلالة لفظيّة تامّة .

ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة هو الذي دعى أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ، بل يوجب في أحدهما مزيّة مفقودة في الآخر ولو بمجرّد كون خلاف الحقّ

-------------------

فتوى فقيه البلد هو المطابق للواقع قطعاً .

( واذا انضمّ هذا الظهور ) وهو ما ذكرناه بقولنا : «ظاهر في وجوب الترجيح ...» ( إلى الظهور الذي ادّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ) ونحوهما ( فالظاهر : انّه يحصلُ من المجموع دلالة لفظيّة تامّة ) للترجيح بكل ظنّ داخلي أو خارجي وإن كان الظنّ غير معتبر .

ومن المعلوم : إنّ الدّلالة اللفظيّة قد تستفاد من لفظ واحد ، وقد تستفاد من ألفاظ مُتعَددة ، كما في اللفظ وقرينة المجاز ، وفي العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمُجمل والمبيّن ، وما أشبه ذلك ، فلا إستغراب في قول المصنّف : « مِن إفادة إنضمام ظهور » إلى ظهور ، لما ذكره من الدّلالة اللفظيّة على الترجيح بمطلق الظنّ .

( ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة ) حسب ما ذكرناه : من ضمّ ظهور إلى ظهور ( هو الّذي دعى أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ) رجحاناً ظنيّاً .

( بل ) دعاهم الى العمل بكل ما ( يوجب في أحدهما مزية مفقودة في الآخر ) وان لم يكن صاحب المزية يوجب الظنّ ، كما قال ( ولو بمجرد كون خلاف الحق

ص: 231

في أحدهما أبعدَ منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات .

فما ظنّه بعضُ المتأخّرين من أصحابنا على العلاّمة وغيره قدس سرهم ، من متابعتهم في ذلك طريقةَ العامّة ظنٌّ في غير المحلّ .

ثمّ إنّ الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظيّة ، فلا إشكالَ في الاعتماد عليها ؛ وإن لم يبلغ هذا الحدَّ بل لم يكن إلاّ مجرّدَ الاشعار ،

-------------------

في أحدهما أبعد منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات ) فإنّ كثيراً من المرجّحات يكون سبباً لكون الراجح أبعد عن خلاف الحق بالنسبة الى الآخر .

وعليه : ( فما ظنّه بعض المتأخرّين من أصحابنا ) وهو صاحب الحدائق على ما حكاه بَعضٌ ، حيث أخذ ( على العلاّمة وغيره قدس سرهم ) إشكالاً وهو ما ذكره المصنّف بقوله : ( من متابعتهم في ذلك ) أي : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر ( طريقة العامّة ) لأن العامّة هم الذين يعملون بالظنّ غير المعتبر ، لا الخاصة ، فإنّ هذا الكلام من صاحب الحدائق هو ( ظنّ في غير المحل ) وقوله : « ظن » ، خبر قوله : « فما ظنّه بعض المتأخرين » .

( ثم إن الاستفادة التي ذكرناها ) قبل أسطر من ضم الظهورين : ظهور التعليل في وجوب الترجيح بكل ماهو من قبيل هذه الأمارة ، منضماً إلى الظهور المدّعى في روايات الترجيح بالأصدقية والأوثقية ( إن دخلت تحت الدلالة اللّفظيّة ، فلا إشكال في الاعتماد عليها ) أي : على هذه الاستفادة .

لكن ( وإنْ لم يبلغ هذا الحدَّ ) من الدلالة اللفظيّة ( بل لم يكن إلاّ مجرّد الاشعار ) بالدلالة ، فانّ الدلالة اللفظيّة : كون اللفظ ظاهراً في معنى ، بينما الاشعار هو : كون اللفظ له إيماء وإشارة الى ذلك المعنى من غير ظهور فيه ،

ص: 232

كان مؤيّدا لما ذكرناه من ظهور الاتفاق .

فان لم يبلغ المجموعُ حدّ الحجّيّة ، فلا أقلّ من كونها أمارةً مفيدةً للظنّ بالمدّعى .

ولابد من العمل به ، لأنّ التكليفَ بالترجيح بين المتعارضين ثابت ،

-------------------

( كان مؤيّداً لما ذكرناه : من ظهور الاتفاق ) من العلماء على الترجيح بكلّ مرجّح ظنيّ وإنْ لم يكن منصوصاً .

( فإنّ لم يبلغ المجموعُ ) من المؤيد - بالكسر- والمؤيَد - بالفتح - ( حدّ الحجّية ، فلا أقلّ من كونها أمارة مفيدةً للظنّ بالمدّعى ) أي : بالذي ادعيناه من الترجيح بكل ظنّ .

( و ) المُراد بهذا الظنّ الذي ادعى انه ( لابّد من العمل به ) هو الظّنّ الانسدادي ، فإنّ المصنّف لما تنزّل عن الدلالة اللفظيّة إلى مجرد الاشعار ، وضمّ إليه ظهور الاتفاق ، ثم تنزّل عن حجيّة المجموع وكونه مفيداً للقطع بالمدعى إلى كونه أمارة ظنيّة ، تمسك في إثبات اعتبار هذا الظنّ بدليل الانسداد ، فبيّن مقدّمات هذا الانسداد كي يستنتج من هذه المقدمات المدعى المذكور .

فكما ان الانسداد يجري في كلي الأحكام بعد تماميّة المقدمات ، كذلك يجري في خصوص بعض الموارد والذي من تلك الموارد ما نحن فيه : من الترجيح بسبب الظنّ غير المعتبر .

والمقدّمات هي ما أشار اليها : من وجوب التكليف بالترجيح ، والمرجّح بالمنصوص غير واف ، فيدور الأمر بين الترجيح بمطلق الظنّ أو بالوهم ، وحيث انّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، لَزِمَ الترجّيح بالظنّ ، وذلك ( لأنّ التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت ) .

ص: 233

لأنّ التخيير في جميع الموارد وعدمَ ملاحظة المرجّحات ، يوجبُ مخالفة الواقع في كثير من الموارد ، لأنّا نعلمُ بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها معيّنا .

والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية . مع أنّ تلك الأخبار معارضٌ بعضها بعضا ، بل بعضُها غيرُ معمول به بظاهره ، كمقبولة ابن حنظلة المتضمّنة لتقديم الأعدليّة على الشهرة ، ومخالفة

-------------------

وإنّما كان هذا التكليف ثابتاً ( لأن التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجّحات ، يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ) .

وإنّما يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ( لأنّا نعلم بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها ) وذلك أخذاً ببعض الأخبار ( معيناً ) لا التخيير بين الطرفين .

( والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية ) بترجيح بعض الأخبار على بعض في جميع الموارد ( مع ) انّه لايمكن الأخذ بالأخبار العلاجيّة ، ل- ( أنّ تلك الأخبار معارضٌ بعضها بعضاً ) فانّ بعض الأخبار يرجّح أحد المرجحات على غيره ، فيما البعض الآخر من الأخبار يرجّح غير هذا المرجّح عليه .

( بل بعضها ) أي : بعض المرجّحات المنصوصة ( غير معمول به بظاهره ، كمقبولة ابن حنظلة (1) المتضمنة لتقديم الأعدلية على الشهرة ، و ) على ( مخالفة

ص: 234


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

العامّة ، وموافقة الكتاب .

وحاصلُ هذه المقدّمات : ثبوتُ التكليف بالترجيح وانتفاء المرجّح اليقينيّ وإنتفاء ما دلّ الشرعُ على كونه مرجّحا ، فينحصر العملُ في الظنّ بالمرجّح .

فكلّما ظنّ أنّ مرجّحٌ في نظر الشارع وَجَبَ الترجيحُ به ، وإلاّ لوجب تركُ الترجيح أو العملُ بما ظنّ من المتعارضين انّ الشارع مرجّح غيره عليه .

والأوّلُ : مستلزمٌ للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم

-------------------

العامّة ، و ) على ( موافقة الكتاب ) مع وضوح : انّ الخبر المخالف للكتاب يُضرب به عَرضَ الحائط ، ولو كان راويه اعدل من راوي الخبر المُوافق للكتاب ، وهكذا ، ممّا سيأتي في باب التعادل والتراجيح إنشاء اللّه تعالى .

( وحاصلُ هذه المقدّمات : ثبوت التكليف بالترجيح ) بين المتعارضين ، بأن يرجّح بعض الأخبار على بعض ( وإنتفاء المرجّح اليقيني ) بحيث نقطع بأن هذا الخبر مرجّح على الخبر الآخر ( وإنتفاء ما دلّ الشرع على كونهِ مُرجّحاً ) يعني إنّه لا قطع بالترجيح ولا ظنّ بالترجيح ظنّاً خاصاً .

وعليه : ( فينحصر العمل ) في باب ترجيح خبر على خبر في باب الأخبار المتعارضة ( في الظنّ ) الانسدادي ( بالمرجّح ، فكلّما ظنّ انّه مرجّح في نظر الشارع ، وجب الترجيح به ، وإلا ) بأن لم نأخذ بالظنّ الانسدادي في الترجيح ، ( لوجب ترك الترجيح ) مطلقاً والقول بالتخيير بين الخبرين في جميع الموَارد .

( أو العمل بما ظنّ من المتعارضين انّ الشارع مرجّح غَيرَهُ عَليه ) بأنْ نأخذ بالوهم ونترك الظنّ .

( والأوّل ) : وهو ترك الترجيح ( مستلزمٌ للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم

ص: 235

التكليفَ بوجوب الترجيح ، والثاني ترجيحٌ للمرجوح على الراجح في مقام وجوب البناء لأجل تعذّر العلم على أحدهما وقبحه بديهيّ .

وحينئذٍ : فاذا ظننّا من الأمارات السابقة أنّ مجرّد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع ، تعيّن الأخذُ به .

هذا ، ولكن لمانعٍ ان يمنع وجوبَ الترجيح بين

-------------------

التكليفَ بوجوب الترجيح ) في تلك الموارد .

( والثاني ) : وهو العمل بالوَهم في قِبال الظنّ ( ترجيحٌ للمرجوح على الراجح ) لأنّا لو تركنا الظنّ بالرّجحان لزم أن نأخذ بالوهم ( في مَقام وجوب البناء ) على أحد الطرفين .

وإنّما يجب البناء على أحد الطرفين ( لأجل تعذّر العلم على أحدهما ) إذ لاعلم لتقديم هذا الخبر على ذاك ، كما إنّه لا ظنّ خاص عليه ، فيدور الأمر بين الظنّ الانسدادي أو الوهم ، فاذا لم نأخذ بالظنّ يلزم أن نأخذ بالوهم ( وقبحه ) أي : قبح الأخذ بالوهم ، لأنه من ترجيح المرجوح على الراجح ( بديهي ) كما ذكرناه في بحث مقدّمات الانسداد .

( وحينئذ ) أي : حين لزوم العمل بالظنّ الانسدادي في باب الترجيح ( فاذا ظننّا من الأمارات السابقة : ان مجرد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع ، تعيّن الأخذ به ) أي : بهذا الشيء الذي هو أقرب في نظر الشارع الى الواقع وترك ما ليس بأقرب ، وهذا هو معنى الترجيح بالظنّ الانسدادي ، وإن لم يكن منصوصاً .

( هذا ) تمامُ الكلام في الأخذ بالمرجّحات الظنيّة غير المنصوصة ، لكن المصنّف رجع عن ذلك فقال : ( ولكن لمانعٍ أنْ يمنع وجوبَ الترجيح بين

ص: 236

المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي دلّ العرفُ على وجوب الترجيح بها ، كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر .

وبيانُ ذلك : أنّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ، كالعامّ والخاصّ وشبههما ممّا لا يحتاجُ الجَمعُ بينهما إلى شاهد ، فالمرجّحُ فيه معلومٌ من العرف .

-------------------

المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ) شرعاً ( كالتراجيح الراجعة الى الدلالة ) وهذا مثال للمرجّحات المعلومة ( التي دلّ العرفُ على وجوب الترجيح بها ) والشارع سكتَ عن العرف ممّا معناه : أمضاء العُرف ( كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر ) فاذا فقد مثل هذا الترجيح الدلالي المعلوم ، نقول بالتخيير فيه ، لا أن نرجع الى الظنّ بالترجيح .

وعلى هذا : فاذا لم يكن مرجّح معلوم ، ولا مظنون بالظنّ الخاص ، نترك الترجيح بين الخبرين ، ونأخذ بأحدهما حتى وإن كان رجحان ظنيّ إنسدادي مع أحدهما ، سواء كان الترجيح المعلوم من قبيل الترجيح السندي ، أو الدلالي ، أو جهة الصدور .

( وبيانُ ذلك : ) أي : بيان انّه لا نقدّم أحد الخبرين على الآخر بالظنون الانسدادية هو : ( انّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ، كالعام والخاص ، وشبههما ) كالمطلق والمقيّد ( ممّا لايحتاج الجَمعُ بينهما الى شاهدٍ ) خارجي ، بل انّ العُرف إذا رأى العام والخاص ، قدّم الخاص على العام ، وإذا رأى المطلق والمقيّد ، قدّم المقيّد على المطلق ( فالمرجح فيه معلوم من العرف ) بلاحاجة الى أمر خارجي ، كالشهرة ، والاستقراء ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك.

ص: 237

وما كان من قبيل تعارض الظاهرين ، كالعامّين من وجه وشبههما ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد ، فالوجهُ فيه ، كما عرفت سابقا ، عدمُ الترجيح إلاّ بقوّة الدلالة ، لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجيّ غير معتبر ، ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظنّ ، بل يرجع فيه إلى الاصول والقواعد .

-------------------

( وما كان من قبيل تعارض الظاهرين ، كالعاميّن من وجه ، وشبههما ) مثل ماورد : من ان « ثَمنُ العَذرةِ سُحت » (1) وَ « لا بَأسَ ببَيع العَذرَةِ » (2) ، فإنّ هذين الخبرين بمثابة مورد الاجتماع في العامين من وجه ( ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد ) من الخارج حتى يقدّم هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ( فالوجه فيه كما عرفت سابقاً : عدم الترجيح إلاّ بقوة الدلالة ) في أحدهما على الآخر ( لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجي غير معتبر ) مثلاً : إذا قال الشارع : أكرم العلماء وقال : لاتكرم الفسّاق ، نقدّم لا تكرم الفساق بالنسبة إلى العالم الفاسق - الذي هو مورد الاجتماع - على أكرم العلماء ، لأنّ لاتكرم أقوى دلالة في معناه من أكرم العلماء ، حيث انّ الفاسق مكروه في نظر الشارع أشد كراهة .

( ولذا ) أي لأنّه لايقدّم أحدهما على الآخر بسبب ظنّ خارجي ( لم يحكم فيه ) أي : في ما كان من قبيل تعارض الظاهرين ( بالتخييّر مع عدم ذلك الظنّ ) أي الظن الخارجي ( بل يرجع فيه ) بعد التساقط هنا ( إلى الاُصول والقواعد ) إذا كان

ص: 238


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح12285 .

فهذا كاشفٌ عن أنّ الحكم فيهما ذلك من أوّل الأمر للتساقط ، لاجمال الدلالة .

-------------------

هناك في البين أصل أو قاعدة .

وعليه : ( فهذا ) الذي ذكرناه : من انّه لم يحكم فيه بالتخيير ( كاشفٌ عن انّ الحكم فيهما ) أي : في الخبرين المتعارضين العاميّن من وجه ( ذلك ) أي : الرجوع الى الاُصول والقواعد ( من أوّل الأمر ) أي : بمجرد رؤية هذين الخبرين المتعارضين وذلك ( للتساقط ) متعلق بقوله : « يرجع » ( لإجمال الدلالة ) فإنّ الانسان لايعلم المراد وقوله : « لإجمال » متعلق بقوله : « للتساقط » .

والحاصل : إنّ في مورد العام من وجه ، إذا كان أحدهما أقوى دلالة فهو ، وإلاّ كان المرجع الاصول والقواعد الأولية ، وهذا شاهدٌ على انّه ليس من باب التعارض بين الخبرين ليكون المرجع المرجّحات المنصوصة فكيف بالمرجّح غير المنصوص الذي هو عبارة عن الظنّ الانسدادي ؟ .

قال في الأوثق : « لايخفى : إنّ المصنّف قد ذكر في باب التعادل والترجيح في المتعارضين وجوها :

الأوّل : الرجوع فيهما إلى المرجّحات السندية ومع فقدها فالتخيير .

الثاني : الحكم بالإجمال في مادة الاجتماع من أوّل الأمر ، والرجوع إلى الاُصول .

الثالث : التفصيل بين ما لم يكن للمتعارضين مورد سليم عن المعارض كقوله : إغتسل للجُمعة الظاهر في الوجوب ، وقوله : ينبغي الغُسل للجمعة الظاهر في الاستحباب .

ص: 239

وما كان من قبيل المتباينين الذين لا يمكن الجَمعُ بينهما إلاّ بشاهدين ، فهذا هو المتيقنُ من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة .

ومن المعلوم انّ موارد هذا التعارض على قسمين :

أحدُهما : ما يمكنُ الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتابٍ أو سنّةٍ مطابق لأحدهما ،

-------------------

فالأوّل : وهو ما كان لهما مورد سليم عن المعارض ، كالعاميّن من وجه » (1).

( و ) الثاني وهو ( ما كان من قبيل المتباينين الذين لايمكن الجَمعُ بينهما إلا بشاهدين ) وذلك لأنّه بحاجة إلى شاهد في هذا الجانب ، وشاهدّ في الجانب الآخر .

مثلاً : إذا قال : انصر زيداً ، وقال : لاتنصر زيداً ، وقامَ شاهدٌ على انّ مراده من أنصر : نصرته على الكفار ، يلزم قيام شاهد آخر على ان المراد من لاتنصره : عدم نصرته على المؤمنين الذين اختلفوا مع زيد ، ولا يكفي الشاهد الأوّل الذي اثبت المراد من : انصر ، في كشف المراد من : لاتنصر ، إذ من المحتمل أن يكون مراده من لا تنصر معنى آخر ، مثل : لاتنصره في مقابل أرحامِه ، وهكذا ! .

وعليه : ( فهذا هوَ المتيقنُ من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة ) يعني غير المرجحات الدلاليّة ، فان المرجّحات الدلاليّة إنّما تكون في الداخل .

( ومن المعلوم : إنّ موارد هذا التعارض ) التبايني ( على قسمين ) كما يلي :

( أحدهما : ما يمكن الرّجوع فيه إلى أصل ، أو عموم كتاب ، أو سنّة ، مطابق لأحدهما ) بأن كان الخبران أحدهما مطابق لأصل ، أو سنّة ، أو كتاب ، في قِبال

ص: 240


1- - أوثق الوسائل : ص247 الوجه الثاني والثالث مما استدل به للترجيح .

وهذا القسمُ يُرجَعُ فيه إلى ذلك العموم أو الأصل .

وإن كان الخبرُ المخالفُ لأحدهما مطابقا لأمارة خارجيّة - وذلك لأنّ العمل بالعموم والأصل يقينيّ لا يرفع اليدُ عنه إلاّ بوارد يقينيّ .

والخبر المخالف له لا ينهضُ لذلك ، لمعارضته بمثله ، والمفروضُ أنّ وجوبَ الترجيح بذلك الظنّ لم يثبت - فلا واردَ على العموم والأصل .

-------------------

القسم الثاني الذي يكون كلا الخبرين مخالفاً للأصل ، أو الكتاب ، أو السنّة - مثلاً- كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى .

( وهذا القسم يرجع فيه الى ذلك العموم ، أو ) يرجع فيه إلى ( الأصل ) اذا لم يكن عموم من كتاب أو سنّة ، ويرجع اليهما حتى ( وإنْ كان الخبر المخالف لأحدهما مطابقاً لأمارة خارجية ) لم تكن مستندة الى نفس الخبر .

( وذلك ) أي : وجوب الرجوع في هذا القسم الى العموم أو الأصل إنّما هو ( لأنّ العمل بالعموم والأصل يقيني لايرفع اليدُ عنه ) أي عن ذلك العموم أو الأصل ( إلاّ بوارد يقينيّ ) له قوة رفع اليد عن الأصل والعموم .

( و ) من الواضح : إنّ ( الخبر المخالف له ) أي : لذلك الخبر الموافق لأصل أو عموم ( لاينهضُ لذلك ) أي : لأنْ يكون وارداً يقينياً ، وذلك ( لمعارضته ) أي : لمعارضة هذا الخبر المخالف ( بمثله ) لأن المفروض هناك خبران أحدهما موافق للأصل أو العموم ، والآخر مخالف للأصل والعموم .

( و ) إن قلت إنّ الخبر المخالف موافق لظنّ إنسدادي خارجي ، فلماذا لايقدّم هذا الخبر المخالف على الخبر الموافق للأصل أو العموم ؟ .

قلت : ( المفروض : انّ وجوب الترجيح بذلك الظنّ ) الذي طابق الخبر المخالف ( لم يثبت ) شرعاً ( فلا واردَ على العموم والأصل ) .

ص: 241

القسمُ الثاني : ما لا يكون كذلك . وهذا أقلّ قليل بين المتعارضات ، فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظنّ خارجيّ على طبق أحدهما لم يكن محذورٌ .

نعم ، الاحتياطُ يقتضي الأخذَ بما يطابق الظنّ خصوصا ، مع أنّ مبنى المسألة على حجّيّة الخبر من باب الظنّ ، غيرُ مقيّد بعدم الظنّ الفعليّ على خلافه .

-------------------

والحاصل : إنّ الخبر الموافق للأصل أو العموم ، يقدّم على المخالف لهما وإن كان الخبر المخالف موافقاً لظنّ إنسدادي خارجي .

( القسم الثاني : ما لايكون كذلك ) أي : لايمكن الرجوع في تعارض الخبرين الى أصل ، أو عموم ، لأنّ الأصل أو العموم مخالف لكليهما ، كما إذا كان هناك خبران : أحدهما يقول بالوجوب ، والآخر يقول بالحرمة ، والأصل : الاباحة .

( وهذا أقل قليل بين المتعارضات ) فإنّ الأغلب موافقة أحد الخبرين لأصل أو عموم ( فلو فرضنا العمل فيه ) أي : في هذا القسم ( بالتخيير مع وجود ظنّ خارجي على طبق أحدهما لم يكن محذور ) من علم ، أو ظنّ خاص ، أو ظنّ إنسدادي ، لعدم تمامية مقدّمات الانسداد ، مع كون هذا القسم أقل القليل على ما عرفت .

( نعم ، الاحتياط يقتضي الأخذ بما يطابق الظنّ ) الانسدادي ( خصوصاً مع إن مبنى المسألة على حجّية الخبر من باب الظنّ ، غير مقيّد بعدم الظنّ الفعلي على خلافه ) فليعمل بالخبر من باب الظنّ النوعي ، وإنْ كان ظنّ فعلي على خلاف هذا الخبر .

وعليه : ففي الصورة المفروضة ليس في العمل بالتخيير ، والأخذ بأي من الخبرين ، محذور ، خصوصاً مع إنّ بناء مسألة الترجيح على حجيّة الخبر

ص: 242

والدليلُ على هذا الاطلاق مشكلٌ ، خصوصا لو كان الظنُّ المقابلُ من الشهرة المحققة أو نقل الاجماع الكاشف عن تحقق الشهرة ، فانّ إثباتَ حجّيّة الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال وإن لم نقل بحجّيّة الشهرة ؛ ولذا

-------------------

من باب الظنّ النوعي غير مقيد بعدم الظنّ الفعلي على الخلاف ، فانّ الظنّ الحاصل من الأمارة الخارجية على خلاف الخبر المعمول به لا محذور فيه إذ الظنّ النوعي حاصل في هذا الخبر ، وإنْ كان ظنّ فعلي خارجي على خلافه .

( والدليل على هذا الاطلاق ) أي : إطلاق : العمل بالخبر وإنْ كان ظنّ فعلي على خلافه ( مشكلٌ ، خصوصاً لو كان الظنّ المقابل ) للخبر المعمول به ( من الشهرة المحقّقة ، أو نقل الاجماع الكاشف عن تحقق الشهرة ) لا نقل الاجماع مطلقاً ، فإنّه لا يلزم تحقّق الشهرة فضلاً عن تحقق الاجماع ، فانّه كثيراً ما يكون ناقل الاجماع قد استند إلى أصل أو رواية لها دلالة بنظرة ، أو ما أشبه ذلك .

ثم بيّن المصنّف قوله : مشكل ، بقوله : ( فانّ إثباتَ حجيّة الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال وإن لم نقل بحجّية الشهرة ) إذ الشهرة على خلاف الخبر ترفع الثقة من الخبر ، والثقة هو ميزان حجيّة الخبر لقوله عليه السلام « لا عُذرَ لأحَدٍ مِنْ مَوالِينَا فِي التَشكِيكِ فِيمَا يَرويهِ عَنّا ثُقاتُنا » (1) وما أشبه ذلك ، ممّا يفيد : انّ الملاك في الحجّية : الثقة ، سواء حصلت من نفس الخبر أو من الخارج ، وغير الثقة ، سواء كان من جهة نفس الخبر ، أو من جهة معارضة الخبر بالشهرة الخارجية ، فهو ليس بحجّة ( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان اثبات حجية

ص: 243


1- - رجال الكشّي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

قال صاحب المدارك : « إنّ العملَ بالخبر المخالف للمشهور مشكلٌ ، وموافقةَ الأصحاب من غير دليل أشكلُ » .

وبالجملة : فلا ينبغي تركُ الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير . وأمّا في مقابل العمل بالاُصول ، فان كان الأصلُ مثبتا للاحتياط ، كالاحتياط اللازم في بعض الموارد ، فالأحوطُ العملُ بالأصل ، وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة والاستصحاب النافي للتكليف ، أو مثبتا له مع عدم التمكّن من الاحتياط

-------------------

الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال ( قال صاحب المدارك : انّ العملَ بالخبر المخالف للمشهور مشكلٌ ، وموافقة الأصحاب ) في فتواهم المخالفة للخبر ( من غير دليل أشكل ) فالنتيجة : هو العمل بالخبر المخالف للمشهور ، لأن المشكل أولى من الأشكل .

( وبالجملة : فلا ينبغي تركُ الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير ) فاذا كان هناك خبرٌ مظنون ويعارضه خبرٌ غير مظنون ، نأخذ بالخبر المظنون ، ولا نقول بالتخيير بين الخبرين ، وقوله : « بالأخذ » ، متعلق بقوله : « الاحتياط » .

( وأمّا في مقابل العمل بالاصول ) أي : العمل بالخبر المقابل للأصل ( فانْ كان الأصل مثبتاً للاحتياط ، كالاحتياط اللازم في بعض الموارد ) كالدماء والفروج والأموال ( فالأحوط العمل بالأصل ) لأن في ذلك جمعاً بين الأصل والاحتياط .

( وإنْ كان ) الأصل ( نافياً للتكليف ، كأصل البرائة ، والاستصحاب النافي للتكليف ، أو مثبتاً له ) أي : للتكليف ( معَ عدم التمكّن من الاحتياط )

ص: 244

كأصالة الفساد في باب المعاملات ، ونحو ذلك ، ففيه الاشكالُ .

وفي باب التراجيح تتمّةُ المقال ، واللّهُ العالمُ بحقيقة الحال ، والحمدُ للّه أوّلاً وآخرا ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين .

-------------------

بأن لم يتمكن المكلَّف من أن يعمل فيه بالاحتياط .

ثم مَثَلَ لِقوله : أو مثبتاً له مع عدم التمكن من الاحتياط ( كأصالة الفساد في باب المعاملات ، ونحو ذلك ) مثل باب الطلاق والنكاح ( ففيه الاشكال ) المتقدّم : من انّه هل يخيّر بين الخبرين ، أو يعمل بالخبر النافي للتكليف ، أو بالمثبت له مع عدم التمكّن من الاحتياط ؟ .

هذا ( وفي باب التراجيح تتمّة المقال ) والنتيجة : إنّ الأمر في الخبرين المتعارضين على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أنْ يكون أحدهما موافقاً للظنّ غير المعتبر ، وهنا يؤخذ بالخبر المظنون ولا يتخير في العمل بأي الخبرين .

الثاني : أنْ يكون أحدهما موافقاً للأصل المثبت للإحتياط ، وهنا يأخذ بالخبر الموافق للإحتياط ولا يتخيّر في العمل بأي الخبرين .

الثالث : أن يكون أحدهما موافقاً للأصل النافي للتكليف ، أو المثبت للتكليف ، لكن لم يتمكن المكلَّف من الاحتياط فهل يعمل هنا بالخبر الموافق للأصل ، أو يتخيّر بين الخبرين ؟ الأمرُ فيه مشكلٌ .

( واللّه ُ العالم بحقيقة الحال ، والحَمدُ للّه أولاً وآخراً ) وظاهراً وباطناً ( وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ) وسُبحان رَبكَ ربّ العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحَمدُ للّه رَبِ العَالمين .

ص: 245

ص: 246

الوصائل الى الرسائل

المقصد الثالث: في الشك

اشارة

ص: 247

ص: 248

المقصد الثالث من مقاصد الكتاب في الشّك

مبحث البرائة والاشتغال

قد قسمنا ، في صدر هذا الكتاب ، المكلّفَ الملتفتَ إلى الحكم الشرعيّ العمليّ

-------------------

مبحَث البَرائة والاشتغال

بسم اللّه ِ الرّحمن الرحيم

وَبهِ نَستَعين الحَمدُ للّه ِ رَبّ العالَمين ، والصّلاة والسّلام على مُحمّد وآلهِ الطاهِرين ، وَلَعنَةُ اللّه ِ عَلى أعدائِهم أَجمَعيِنَ إلى يَومِ الدِّين .

قالَ : ( المقصَدُ الثالث مِن مَقاصِد هذا الكتاب فِي الشك ، قد ) تقدّم مَقصَدان من مَقاصِدِ هذا الكتاب وهُما : القطعُ والظّنّ ، وَهذا هو المقصَدُ الثالث ، لأنّ الصّفة

النفسيّة بالنسبة إلى الأُمور الخارجيّة على ثلاثةِ أقسام : علمٌ ، وظنٌّ ، وشّكٌ ، وامّا الوَهم فهو داخلٌ في مَبحثِ الظّنّ ، لأنّ الوَهم هو الطَرف المرجوح ، والظّنّ هو الطَرف الراجح .

المدخل

ثم إنّا ( قسّمنا في صدر هذا الكتاب ، المكلّفَ الملتفتَ ) وذكرنا : إنّه يلزم أنْ يكون الحكم مقيداً بالمكلّف لأن غير المكلّف لا حُكمَ له ، والصبي المميز وإنْ لم يصطَلحُوا عليه بأنّهُ مكلّف لكنّه مكلّف في الجُملة ، فهل يجوز للولد غير البالغ اللّواط أو الزّنا أو قَتل الناس أو شرب الخَمر أو ما أشبَه هذه الاُمورُ ، وكذلك بالنسبةِ إلى البنت غير البالغة ؟ .

كما ذكرنا هناك وجه قيد الالتفات ( الى الحكم الشرعيّ العمليّ ) أي : الحكم

ص: 249

في الواقعة على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا أن يحصل له القطعُ بحكمه الشرعيّ ، وإمّا أن يحصل له الظنُّ ، وإمّا أن يحصل له الشكّ .

وقد عرفتَ انّ القطعَ حجّةٌ في نفسهِ

-------------------

الفرعي من الأحكام الشرعيّة ، فانّ الأحكام الشرعيّة قد تكون اُصوليّة كالاعتقاديات ، وقد تكون فرعية كالأحكام الخمسة .

وعليه : فاذا إلتفت المكلّف الى الحكم الشرعي ( في الواقعة ) الخارجية مقابل الاعتقاديّة ، سواء كانت الواقعة مرتبطة بالجوارح أو القلب ، حيث إنّ للقلب أيضاً أحكاماً شرعيّة ، كحُرمةِ سوء الظّنّ إذا ظهرَ والحَسد كذلك ، بالإضافة إلى المكروهات والمستحبات بالنسبة الى الصّفات النفسيّة .

وإنّما جيء بالواقعة بلفظ التأنيث ، لأنّهما صفة للصفة المقدرة ، فانّ الأعمال والأقوال والنيّات صفة للإنسان ، فالتقديرُ : الصفة الواقعة ، أمّا التاء في الصفة ، فهي بدل ، مثل : « عدة » ، فإنّ أصلهما وصفٌ وَوَعدٌ .

وعلى كل حال : فالمكلّف الملتفت ( على ثلاثة أقسام ، لأنّه : إمّا أنْ يحصل له القطعُ بحكمه الشّرعيّ ) وإنّما عبَّر بالقطع دون العلم ، لأن العلم يقال للمطابِق للواقع ، والقطع لِما يقطعُه الانسان سواء كان مطابِقاً للواقع أو لم يكن ، والمعيار في مقامنا هو القطع ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق ، فانّ القاطع يعمل بقطعه بضرورة عقله ( وإمّا أن يحصل له الظّنّ ) وهو الطرف الرّاجح من الطرفين ، ولَمْ يذكر الوَهم لوضوح إنّه كلّما حصل ظنّ في طرفٍ حصل الوهم في الطرف الآخر ، فهو غني عن الذكر ( وإمّا أن يحصل له الشّك ) وهو المتساوي طرفاه ، فإذا ترجّح أحدهما على الآخر صار ظنّاً وَوَهماً .

( وقد عَرفت : انّ القطعَ حجّةٌ في نفسهِ ) يحتَجُّ المولى به على العبد ، ويحتجّ

ص: 250

لا بجعل جاعل ، والظنَّ يمكن أن يعتبر في الطرف المظنون لانّه كاشفٌ عنه ظنّا لكنّ العملَ به والاعتمادَ عليه في الشرعيّات موقوفٌ على وقوع التعبّد به شرعا ، وهو غيرُ واقع إلاّ في الجملة .

وقد ذكرنا مَواردَ وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب .

-------------------

العبدُ بهِ عَلى المولى ( لا بجعلِ جاعل ) فإنّ الذاتيات لاتُجعل ، إذ القطع في نظر القاطِع نور .

( والظّنّ ) ليس بحجّة في نفسهِ ، لأنّه نورٌ ناقص والعقلاء لايعتمدون على النورِ الناقص - على المشهور - إلاّ عند الضرورة ، أو قيام الدّليل من الموالي ، فانّه ( يمكن أن يعتبر ) الحجيّة ( في ) متعلّقه أي : فيما تعلّق بهِ الظنّ وهو ( الطرف المظنون ) بأن يقول الشارع ، أو المولى العرفي : إذا ظننّتم بشيء فاعمَلوا به ، كما يمكن عكسه بأنْ يقول : إذا ظننّت بشيء فإعمل ضد ذلك الظنّ ( لأنّه ) أي : الظّنّ ( كاشفٌ عنه ) أي : عن المتعلق ( ظنّاً ) أي : كشفاً ظنيّاً ونوراً ناقصاً .

( لكنّ ) مجرد الامكان لا يكفي في الحجّية العقليّة والعقلائيّة ، بل ( العملَ به ) أي : بالظّنّ ( والاعتماد عليه في الشرعيّات ، موقوفٌ على وقوع التعبّد به ) أي : بالظنّ تعبّداً ( شرعاً ) بأنْ جعل الشارع الظّنَّ في الخبرِ الواحد حجّة ، أو عقلاً : بأنْ يرى العقل اللاّبدية في العمل بالظّنّ كما تقدّم في باب الانسداد .

( وهو ) أي : التعبّد بالظنّ ( غيرُ واقع ) في الشريعة ( إلاّ في الجملة ) وفي بعض الموارد ، فإنّ الشارع لم يجعل الظّنّ حجّةً مطلقاً ، بل جعلَ الظّنَّ حجّةً في موارد خاصة ( وقد ذكرنا مَواردَ وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ) المشتمل على مباحث القطع والظنّ كظواهر الألفاظ ، وقول اللّغوي،

ص: 251

وأمّا الشكُّ ، فلمّا لم يكن فيه كشفٌ أصلاً لم يعقل فيه أن يعتبر ، فلو ورد في مورده حكمٌ شرعيّ ، كأن يقول : « الواقعة المشكوكة حكمُها كذا » ،

-------------------

والاجماع المنقول ، والشهرة ، وخبر الثقة ، وما أشبه ذلك .

كما إنّه قد ذُكِرَ في الفقه مواردَ لحجّيةِ الظّنّ في الموضوعات : كالبيّنة ، واليد ، والسُوق ، وأرض المُسلم ، ونحو ذلك ، ولم نذكرها هنا ، لأنّ هذا الكتاب مختص بذكر مسائل الاصول ، وهي الّتي تجري من أوّل الفقه إلى آخره ، والبيّنة ونحوها لاتجري إلاّ في موارد خاصة ، كما نبَّهنا على ذلك في بعض المباحث السابقة .

هذا ، وقد عرفت سابقاً : إنّ ما لم يرد اعتباره في الشرع من الظنون الّتي لم يجعلها الشّارع حجّة : كخبر الفاسق ، والشاهد الواحد ، وما أشبه ذلك ، فهو داخلٌ في الشّكّ حكماً ، وإنْ كان بصورة الظّنّ موضوعاً بأن كان راجحاً في نظر الظآن ، فالمقصود هنا بيانُ حكم الشك بالمعنى الأعم .

وكيف كان : فالقطع حجّة بنفسه ، والظنّ حجّةٌ إذا اعتبره الشارع .

( وأمّا الشّكُ ، فلمّا لم يكن فيه كشفٌ أصلاً ) لا كشفاً تاماً كالقطع ، ولا كشفاً ناقصاً ، كالظّنّ ، لأنّ الشّك عبارةٌ عن التردد والجهَل ( لم يعقل فيه أن يعتبر ) شرعاً ، بأن الشارع - مثلاً - : قال إعمل بشكّك ، إذ لامعنى للعمل بالشّك .

وعليه : ( فلو ورد في مورده ) أي : مورد الشّك ( حكمٌ شرعي ) كما سيأتي مثالُه ، أو حكم عقلي كما تقدّم في باب الانسداد ( كأن يقول ) الشارع : ( الواقعة المشكوكة ) التي لا نعلم حكمها ( حكمُها كذا ) كما في الطهارة والحليّة حيث يقول الشارع : « إذا شككت فابن على الطّهارة » ، أو « إذا شككتَ فابنِ على

ص: 252

كان حكما ظاهريّا ، لكونه مقابلاً للحكم الواقعيّ المشكوك بالفرض ،

-------------------

الحليّة » (1) ، أو « إذا شككت فابنِ عَلى الأكثر » (2) .

وهذا الحكم حينئذٍ ( كان حكماً ظاهريّاً ، لكونه مقابلاً للحُكم الواقعيّ المشكوك بالفرض ) فانّهم اصطلحوا على أنّ الحكم إذا كان مجعولاً للموضوعات من غير اعتبار علم المكلَّف أو جَهله ، سُميّ حُكماً واقعياً ، وإن كان الحكم مجعولاً للموضوعات بقيد الشّك كما إذا قال المولى : الموضوع المشكوك الحكم حكمه كذا ، كان حكماً ظاهرياً ، فالأوّل : مثل أن يقول : التُتُن حَرامٌ ، والثاني : مثل أن يقول : التُتُن إذا لَم تعلَم هل انّه حرام أو حلال فهو لَكَ حَلال .

هذا ، ولكن لنا هنا ملاحظتان :

الأُولى : انّا لانستظهِر تقسيم الحكم الى الواقعي والظاهري ، لأنّ ذلك مستلزم للتناقض بينهما ، فإنّ الحكم الواقعي إذا شمل العالِم والجاهِل ، كيف يُجعل الحكم الظاهري للجاهل على خلافِ ذلك الحكم الواقعي أو على وفاقِه ؟ وقد ذكرنا تفصيل ذلك في «الاصول» ، وقلنا : إنّ ما إصطلحوا عليه بالحكم الظاهري ليس هو إلاّ تَنجيزاً أو إعذاراً ، وربّما كان من الأحكام الاضطراريّة ، أو التسهيلية ، أو نحو ذلك .

الثانية : إنّا لا نسلّم جعل الحكم للجاهل القاصر الذي لا أَثر لهذا الحكم المجعول بالنسبةِ اليه إطلاقاً لأنّه لغوٌ ، فقولِهِم : إنَّ الأحكام تَعمّ العالم والجاهل إنّما هو على نحو الموجَبَةِ الجُزئيّة لا الكليّة .

ص: 253


1- - انظر الكافي فروع : ج6 ص232 ح4 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .

ويُطلق عليه الواقعيّ الثانويّ أيضا ، لأنّه حكمٌ واقعيٌّ للواقعة المشكوك في حكمها ، وثانويٌّ بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه ، لأنّ موضوعَ هذا الحكم الظاهريّ ، وهو الواقعة المشكوك في حكمها ، لا يتحقّقُ إلاّ بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشكّ فيه .

-------------------

( و ) كيف كان : فإنّه ( يُطلق عليه ) أي : على الحكم الظاهري ( الواقعي : الثانوي أيضاً ) فله إسمان : ظاهريٌ ، وواقعيٌ ثانويّ .

أمّا تسميته بالواقعي : ف- ( لأنّه حكمٌ واقعيٌّ للواقعة المشكوك في حكمها ) فإنّ الشارع جَعَلَ هذا الحكم على الواقعةِ المشكوكةِ ، فكما إنّ الشارع قال : « الماءُ طاهرٌ » (1) ، كذلك قالَ : « كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تَعلَمَ أنّه قَذِرٌ » (2) .

( و ) أمّا تسميته بالثانوي : فلأنّه ( ثانويٌّ بالنسبة إلى ذلك الحُكم المشكوك فيه ) فإنّا إذا شككنا في أنّ التُتُن حرامٌ أو حَلال ، جعل الشارع لهُ حكم الحلية وقال : « كُلّ شيءٍ فيه حَلالٌ وحَرامٌ ، فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِف الحرام منه بعينه فتدعه » (3) ، وذلك ( لأنّ موضوعَ هذا الحكم الظّاهريّ وهو الواقعة المشكوك في حكمها ، لا يتحقّقُ إلاّ بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشّك فيه ) أي : في ذلك الحكم ، فإنّ موضوع الحكم الظاهري لا يتحقّق إلاّ بعدَ جَعل الحكم الواقعي على موضوع خارجي ، فاذا كان موضوعه - مثلاً - التتن المشكوك حكمُه ، فهذا العنوان:

ص: 254


1- - الامالي للصدوق : ص645 ، الكافي فروع : ج3 ص1 ح2 و ح3 ونظيره في الوسائل : ج1 ص133 ب1 ح323 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

مثلاً شربُ التتن في نفسه له حكمٌ ، فرضنا فيما نحن فيه شكّ المكلّف فيه .

فاذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم

-------------------

أي: التتن المشكوك حكمه، لا يتحقق إلاّ بعد أن يجعل الشارع للتتن حكماً واقعياً، فيلتفت المكلّف الى حكم التتن ويشك فيه بأن حكمه هل هو الحرمة أو الحليّة ؟ فاذا إلتفت الى التُتن وحكمه وشُّكَ فيه جعل الشارع له حكماً ظاهرياً وهو الحِليّة .

ومن المعلوم : إنّه إذا كان تحقّق موضوع الحكم الظاهري متأخراً عن جعل الحكم الواقعي للموضوع ، فنفس الحكم الظاهري أيضاً يكون متأخراً عنه ، فيكون التَرتيب هكذا : أوّلاً : الموضوع وهو : التتن ، ثم الحكم وهو : الحرمة ، ثمّ الشك في أنّ هذا التتن حَرامٌ أو حَلالٌ ، ثم يأتي مرتبة الحكم الظاهري وهو : الحِليّة ، فهناك موضوعان وحكمان .

ولا يخفى : انّ الحكم الثانوي في اصطِلاحِهم يُطلقُ على موردَين :

الأوّل : الحكم الظاهري - كما عرفت - .

الثاني : الحكم الاضطراري ونحوه ، كالخمر فانّه حرامٌ ، واذا اضّطر إليها الانسان صارت حلالاً ، فالحكم الأوليّ هو الحرمة ، والحليّة هو حكم ثانوي .

هذا ، وأمّا مثال تأخر مرتبة الحكم الظاهري فكما قال : ( مثلاً : شربُ التتن في نفسه ) أي : الشرب بما هُوَ هُوَ لا بِما هُوَ مشكوك الحُكم ( له حكمٌ ) في الواقع هو الحرمة ، ثم ( فرضنا فيما نَحنُ فِيهِ شكّ المكلّف فيه ) أي : في ذلك الحكم الواقعي لشرب التتن ، وفَحصَ ولم يصل اليه ( فاذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم ) بأن قال الشارع : « كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرفَ أنّهُ

ص: 255

كان هذا الحكمُ الوارد متأخّرا طبعا عن ذلك المشكوك ، فذلك الحكم حكمٌ واقعيّ بقولٍ مطلَق .

وهذا الواردُ ظاهريّ ، لكونه المعمولَ به في الظاهر ، وواقعيّ ثانويّ ، لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم ، لتأخّر موضوعه عنه ،

-------------------

حَرامٌ » (1) ، ( كان هذا الحكم الوارد ) بالحليّة ( متأخراً طبعاً عن ذلك المشكوك ) أي : الحرمة المجعولة على التتن بما هو هو .

وعليه : ( فذلك الحكم ) المجعول للتدخين بما هو هو ، وقد فرضناه : الحرمة ( حكمٌ واقعي بقولٍ مطلَق ) أي : لايقيّد بأنّه واقعي أوّلي ، أو واقعي ثانوي ، وربّما يقيّد الواقعي المطلق بالواقعي الأولي أيضاً .

( وهذا ) الحكم ( الواردُ ) لشرب التتن بما هو مشكوك الحكم أعني : الحليّة في كلامنا ، هو حكم ( ظاهريّ ، لكونه المعمولَ به في الظاهر ) للانسان الشاك الذي لم يوصله فحصه إلى الحكم الواقعي .

( وواقعيّ ثانويّ ، لأنّه ) أي : لأنّ هذا الحكم الظاهري ( متأخّر عن ذلك الحكم ) المجعول للتدخين بما هو هو .

وإنّما كان متأخّراً هذا الحكم عن ذلك الحكم ( لتأخّر موضوعه ) وهو الشرب المشكوك الحكم ( عنه ) أي : عن جعل الحكم للشرب بما هو هو ، وقد عرفت : إنّ هنا موضوعان وحكمان :

الموضوع الأوّل : التتن .

ص: 256


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

ويسمّى الدليلُ الدالّ على هذا الحكم الظاهريّ أصلاً .

وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل علما أو ظنّا معتبرا ، فيختصّ باسم الدليل ،

-------------------

الحكم الأوّل : الحرمة .

الموضوع الثاني : التتن المشكوك الحكم .

الحكم الثاني : الحليّة .

( ويسمّى ) في إصطلاح الفقهاء والاصوليين ( الدليلُ الدالّ على هذا الحكم الظّاهري ) المجعول في مورد الشك : ( أصلاً ) كأصالَة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ، فدليل « لاتَنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) يَدلّ على الاستصحاب ، و « أَخُوكَ دينك فَاحتَط لِدِينكَ » (2) يدلّ على الاحتياط وَ « رُفِعَ مَا لا يَعلَمُونَ » (3) يدلّ على البرائة وكل منها يسمى بالأصل .

( وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل ) وهو الحكم الواقعي ، ممّا أورث ( علماً ) كالخَبر المُتواتِر ( أو ظنّاً معتبراً ) كخبر الثقة ( فيختصّ بإسم الدّليل ) أي : يسمّى دليلاً .

وعليه : فإنّ بين الدّليل والأصل فرقاً ، فالدّليل هو الذي يدلّ على الأحكام الأوليّة ، والأصل هو الدّليل على الأحكام الثانوية .

ص: 257


1- - الكافي اصول : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وقد يقيّد بالاجتهاديّ .

كما أنّ الأوّلَ قد يسمّى بالدليل مقيّدا بالفقاهتيّ .

وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهانيّ ، لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد .

-------------------

وممّا تقدّم : عُلِمَ الفرق بين الأحكام الظاهريّة والأحكام الواقعيّة ، فإنّ مرتبة الأحكام الواقعيّة مقدّمة على مرتبة الأحكام الظاهرية وعُلِمَ أيضاً الفرق بين الأصل والدّليل ، فإنّ الأصل يُطلَقُ في الأحكام الظاهرية ، والدليلَ يُطلَقُ في الأحكام الواقعيّة .

( وقد يقيّد ) الدّليل ( بالإجتهاديّ ) فيقال لما يدل على الأحكام الواقعية : الدليل الاجتهادي .

( كما انَّ الأوّل ) أي : الأصل ( قد يسمّى بالدّليل مقيّداً بالفقاهتيّ ) وقد ذكرنا أنّ التاء في الفقاهتيّ ليست على القواعد العربية ، إذ التاء في أمثالها تحذف للقاعدة ، فيقال للمنسوب إلى أبي حنيفة : حنفي ، ولا يقال : حنيفتي وهكذا .

وعلى أي حال : فانّ الحكمُ المجعول في مورد الشك يُسمى تارةً بالأصل ، وأُخرى بالدّليل الفقاهيّ ، كما إنّ ما يدلّ على الحكم الواقعي الذي ذكرنا أنّه مشترك بين العالم والجاهل يُسمّى تارةً بالدليل و أخرى بالدليل الاجتهاديّ .

( وهذان القيدان ) : الاجتهادي والفقاهي ( اصطلاحان من الوحيد البهبهاني ) رحمه اللّه ( لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد ) ، فانّ ما ذكر في تعريف الفقه وفي تعريف الاجتهاد يُناسب هذا الاصطلاح ، فالإصطلاح على الدليل بالاجتهاديّ إنّما هو لأنّ الاجتهاد إستفراغ الوسع لتحصيل الأحكام الواقعية ، والدليل طريق إلى الأحكامِ الواقعيّة ، و الاصطلاح على الأصل بالفَقاهي

ص: 258

ثمّ إنّ الظنّ الغير المعتبر حكمُه حكمُ الشكّ ، كما لا يخفى .

وممّا ذكرنا - من تأخّر مرتبة الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ ، لأجل تقييد موضوعه بالشكّ في الحكم الواقعيّ -

-------------------

لأن الفقيه هو الذي يستخرج الاصول من الأدلة الأربعة ، وكُلّ واحد منهما وإن صحّ إطلاقه على الآخر إلاّ أنّ التخصيص لأجل التمييز بينهما .

أمّا الفرق بين المجتهد والفقيه فهو أنّ الأوّل يقال له من حيث إنّه بذل وسعه واجتهد في تحصيل الأحكام ، والثاني يقال : لأنّه فهم وفقه ، فكأن الأوّل بمنزلة المقدمّة للثاني ، ولذا يصح أن يقال : إجتهد ففقه ، ولا يصح أن يقال : فقه فاجتهد ، وعلى أي حال فانّه لا مشاحة في الاصطلاح .

( ثم انّ الظّنّ غير المعتبر ) الذي لم يعتبره عقل كما في الانسداد ، ولا شرع كما في الخبر الواحد ، والظواهر ، وما أشبه ( حكمه حكمُ الشّك ) في الرجوع الى الأصول العمليّة ، لأنّه كلما لم يكن هناك علم ولا علمي - والمراد بالعلمي : الظّنون المعتبرة - فالمرجع الاصول العمليّة المذكورة : من الاستصحاب ، والبرائة ، والاحتياط ، والتخيير ( كما لايخفى ) إذ المكلّف شاكّ في الحكم حينئذٍ ، وكونه ظانّاً لاينافي كونه شاكاً ، فانّ الشّكّ الذي هو المعيار في الرجوع الى الاصول العمليّة أعم من الظّنّ والشّكّ .

( وممّا ذكرنا من تأخّر مرتبة الحكم الظّاهريّ عن الحكم الواقعيّ لأجل تقيّيد موضوعه ) أي : موضوع الحكم الظاهريّ ( بالشّكّ في الحكم الواقعي ) فقد تقدّم منّا : بأنّ موضوع الحليّة الظاهريّة في باب التبغ ، هو التبغ المشكوك حكمه الواقعي ، ومن المعلوم: إنّ هذا العنوان لايتحقق إلاّ بعدَ جعل حكم للتبّغ في الواقع ، ثم إنّ المكلّف يشك في ذلك الحكم ، فيترتب عليه الحكم الظاهري بالحليّة .

ص: 259

يظهرُ لك وجهُ تقديم الأدلّة على الاصول ، لأنّ موضوعَ الاصول يرتفعُ بوجود الدليل .

فلا معارضةَ بينَهما ، لا لعدم إتحاد الموضوع ، بل لارتفاع موضوع الأصل - وهو الشكّ - بوجود الدليل .

-------------------

وعليه : فمما ذكرناه ( يظهرُ لك وجهُ تقديم الأدلّة ) أي : الأدلة الظّنية المعتبرة شرعاً ، كظواهر الكتاب ، وقول اللغوي ، والشهرة ، وما أشبه ذلك ( على الأصول ) العمليّة ، فإنّه إذا دلّ الدليل على حرمة التتن - مثلاً- فلا يبقى مجال لإجراء الأصل في التتن حتى يُقال إنّه حلال ( لأنّ موضوعَ الاصول يرتفعُ بوجود الدّليل ) من باب الورود على ماسيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى .

وعليه : فإنّ التتن - مثلاً- موضوع لأصالة الحليّة مادام يصدق عليه أنّه مشكوك الحكم ، فاذا شككنا في حكم التتن نقول : إنّه حلال بمقتضى : « كُلّ شيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِفَ إنّهُ حَرامٌ » (1) ومن المعلوم : إنّه بعد قيام الدليل على الحرمة أو الحليّة - مثلاً- يخرج التتن عن كونه مشكوك الحكم ، فاذا دلّ الدليل على حرمته فلا مجال ليقال : إنّه حلال للحكم الظاهري ، وإذا دلّ الدليل على حلّيته فهو حلال واقعاً ، ولا حاجة إلى أن يقال : إنّه حلال في الظاهر .

إذن : ( فلا معارضةَ بينَهما ) أي : بين الأصل والدّليل لما عرفت : من أنّ الدليل مقدّم على الأصل (لا لعدم اتّحاد الموضوع) فقط (بل لارتفاع موضوع الأصل - وهو: الشكّ - بوجود الدّليل) فإنّ هناك وجهين لعدم المعارضة بين الأصل والدليل .

ص: 260


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب23 ح12 .

الا ترى أنّه لا معارضةَ ولا تنافيَ بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الاباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشكّ فيه هي الحرمة .

فاذا علمنا بالثاني لكونه علميّا والفرض سلامته

-------------------

الأوّل : إنّ موضوع الحرمة التتن ، وموضوع الحليّة التتن المشكوك حكمه ، فلكلّ واحد موضوع غير موضوع الآخر ، ومن الواضح : إنّ التعارض لايكون بين موضوعين ، وإنّما التعارض يكون في موضوع واحد إذا كان له حكمان .

الثاني : أنّه إذا جاء الدّليل على الحرمة لم يكن شكّ في حكم التتن ، وقد عرفت : انّ موضوع الحليّة هو : التتن المشكوك الحكم .

( ألا ترى انّه لا معارضة ولا تنافيَ بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي : الاباحة ) الظاهرية ( وبين كون حكم شرب التتن في نفسه ) أي : ( مع قطع النظر عن الشك فيه هي : الحرمة ) الواقعية ، فالتتن حرام واقعاً حلال ظاهراً .

ثم إنّ الفرق بين المعارضة والتنافي : هو انّ المعارضة تُطلَق على المناقضة بين الشيئين ، أو شبه المناقضة كالتَضّاد ، والتنافي يُطلَق على ما إذا لم يمكن إجتماعهما وإنْ لم يكن بينهما مناقضة ولا تضاد ، كما إذا كان هناك لا زِمان لشيء واحد ، فأثبت المتكلّم أحدهما دون الآخر ، مثلاً : أثبت حرارة الشمس دون ضوئها أو بالعكس ، وإنْ كان هذا أيضاً يرجع بالأَخرة إلى التناقض .

ويمكن أن يريد المصنّف بالتنافي : المعارضة ، فيكون تأكيداً لفظيّاً .

وعلى كل حال : ( فاذا علمنا بالثّاني ) أي : بأنّ التتن حرام واقعاً ( لكونه علميّا ) أي : بسبب كونه معلوماً بالدليل ( والفرض سلامته ) أي : سلامة الثاني وهو

ص: 261

عن معارضة الأوّل ، خرج شربُ التتن عن موضوع دليل الأوّل ، وهو كونه مشكوك الحكم ، لا عن حكمه حتّى يلزم فيه تخصيص ، وطرح لظاهره .

-------------------

الحرمة ( عن معارضة الأوّل ) أي : الاباحة ( خرج شربُ التتن عن موضوع دليل الأوّل ) أي : الأصل الذي دلّ على الاباحة ( وهو ) أي : موضوع دليل الأوّل ( كونه مشكوك الحكم ) فإنّه قد صار معلوم الحكم بسبب قيام الدّليل عليه .

وعليه : فالخروج إنّما يكون خروجاً موضوعياً وليس خروجاً حكمياً كما قال : ( لا عن حكمه ) أي : ليس خروجاً عن حكم الأصل الذي هو الاباحة ، فهو مثل ما إذا قال : أكرم العلماء وخرج زيد لأنّه جاهل ، لا لأنّه عالم لكن لايجوز إكرامه ، فالخروج خروج موضوعي لا خروج حكمي ( حتّى يلزم فيه ) أي : في هذا الخروج ( تخصيص ، وطرح لظاهره ) أي : لظاهر الأصل وهو الحليّة .

هذا ولا يخفى : إنّ في المقام أموراً أربعة :

الأوّل : الوُرود ، وذلك بأن يكون هناك دليلان : أحدهما يكون بحيث إذا جاء إرتفع موضوع دليل الآخر وجداناً بأنْ لايكون له موضوع حقيقة ، مثل ما لو قال : « إذا شَككتَ فِي شيءٍ فهُوَ لَكَ حَلالٌ » (1) ، وقال : « الميتة حرام » ، فإنّ الدليل الثاني يرفع موضوع الدليل الأوّل الذي هو الشكّ ، إذ بعد ورود التحريم لا شكَ في الميتة .

الثاني : الحكومة ، وهو أن ينفي أحذ الدليلين موضوع الدليل الآخر تعبّداً وإن كان موضوعه باقٍ حقيقةً ، كما إذا قال : « إذا شككتَ فابن على الأكثر » (2) ، وقال :

ص: 262


1- - الكافي فروع : ج6 ص232 ح4 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .

...

-------------------

« لاشكَ لِكثير الشّكّ » (1) فانّ كثير الشّكّ لايبني على الأكثر ، بل يبني على مايصحّح صلاته ، فإن كان المصحّح لصلاته البناء على الأقل بنى على الأقل ، ومن الواضح : انّ كثير الشك هذا باقٍ شكه ، لكنّه بمقتضى : « لاشك لكثير الشك » لا حكم لشكّه حتى يبني فيه على الأكثر .

ولايخفى : أن الحكومة قد تكون موسّعة للدليل الآخر ، مثل قوله : « الطّواف بالبيتِ صَلاة » (2) وقوله « لاصَلاةَ الاّ بطهور » (3) فانّ الأوّل وسع الصلاة حيث جعل حكم الصلاة مشروطا بالطهور جارياً في الطواف .

وقد تكون مضيّقة مثل ماتقدّم من قوله : « لا شَكَّ لكثير الشّك » حيث إن هذا الدليل ضيّق دائرة « إذا شككت فابن على الأكثر » .

الثالث : التخصيص ، وذلك بأن يخرج الدليل الثاني بعض الأفراد عن حكم الدليل الأوّل ، مع إنّ موضوع الدّليل الثاني داخل في الدّليل الأول مثل أكرم العلماء ، ولاتكرم الفاسق من العلماء ، فان العالم الفاسق عالم ، لكنّه خرج

ص: 263


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 وص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3و4 ، من لايحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، الامالي للصدوق : ص645 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 و ص365 ب1 ح960 .

ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا ، لأنّ الترجيحَ فرعُ المعارضة .

وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليل ، والعامّ على الأصل ، فيقال يخصّص الأصل بالدليل أو يخرج عن الأصل بالدليل ،

-------------------

عن وجوب الإكرام ، الذي هو حكم دليل أكرم العلماء .

الرابع : التخصص ، وهو خروج موضوع دليل عن موضوع دليل آخر ، مثل : أكرم العلماء ، ولاتكرم زيداً ، فيما إذا كان زيد جاهلاً ، فانّ زيداً خارج عن العلماء لأنّه جاهل لا لأنه عالم لايجب إكرامه .

( ومن هنا ) أي ممّا ذكرناه : من إنّ تقديم الدليل على الأصل من باب الورود لاالتخصيص ، حيث إنّ الورود هو كون الدليل مخرجاً للشيء عن موضوع الدليل الآخر ، والتخصيص كون الدليل مخرجاً للشيء عن حكم الدليل الآخر ( كان اطلاقُ التقديم والترجيح في المقام ) أي : قولهم : الدليل يقدّم على الأصل ، وقولهم : الدليل يرجّح على الأصل ( تسامُحاً ) لا إطلاقاً حقيقيا .

وذلك ( لأنّ ) التَقديم و ( الترجيحَ فرعُ المعارضة ) .

وقد تبين : إن المورود عليه لايعارض الوارد ، فانّ « الميتة حرام » لايعارض «إذا شككت في شيء فابن على الحلية» ، لانّه لاشك في الميتة بعد قول الشارع هذا .

( وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليلُ ، والعامّ على الأصل ، فيقال : يُخصّص الأصل بالدليلُ ، أو يخرج عن الأصل بالدّليل ) انّما هو من باب التسامح ، لأن الخاص كان داخلاً في العام ثم خرج ، مثل : أكرم العلماء ، ولاتكرم زيداً العالم ، وما نَحنُ فيه ليس كذلك ، اذ الميتة حرام لم يكن داخلاً في اذا شككت في شيء فابن على الحلية .

ص: 264

ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلّة الغير العلميّة ، بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البراءة ، مثلاً ، أنّه إذا لم يعلم حرمةُ شرب

التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ

-------------------

( ويُمكن أن يكون هذا الاطلاق ) أي : إطلاق قولهم : الدليل مقدّم على الأصل ، وراجح على الأصل ، ومخصص للأصل ( على الحقيقة ) لا على التسامح ، لكن كونه على الحقيقة إنّما هو ، ( بالنسبة الى الأدلّة غير العلميّة ) أي : بالنسبة الى ما لايوجب العلم بل يوجب الظّنّ فقط ، لأنّ أدلة اعتبار الاصول عامّة تشمل مورد الظنّ على الخلاف ، أو الشّك في الحكم ، فقوله عليه السلام : « الناسُ فِي سِعَةٍ مالا يَعلَمُون » (1) دليل يشمل مالو شَكَ في حُكم شيءٍ ، أو ظنّ بحكم شيء ، لأن كليهما ممّا لايعلمون .

وعليه : فاذا وردَ حرمة شرب التتن بدليل ظنيّ وقلنا : بأنه يلزم الأخذ بهذا الدليل الظنيّ ، كان ذلك خروجاً عن مالايعلمون ، لأنك لاتعلم علماً وجدانياً ومع ذلك لست في سعة ، إذ يجب عليك الاجتناب عن شرب التتن ، فيكون خروج الدليل عن الأصل خروجاً حقيقياً لا خروجاً تسامحياً .

إذن : فتقديم الدليل على الأصل إذا كان الدليل موجباً للعلم يكون من باب الورود ، أما إذا كان الدليل موجباً للظّن فيكون من باب التخصيص ، وذلك ( بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البرائة ) أي : مقتضاه ( مثلاً : انّه إذا لم يعلم حرمةُ شرب التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ ) فانّ ذلك يشمل صورتين :

ص: 265


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص454 ح109 وورد نظير ذلك في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 و تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 و المحاسن : ص452 ح365 و وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

ومفادَ الدليل الدالّ على اعتبار تلك الأمارة الغير العلميّة المقابل للأصل أنّه إذا قام تلك الأمارة الغير العلميّة على حرمة الشيء الفلانيّ فهو حرامٌ .

وهذا أخصّ من دليل أصل البراءة مثلاً ، فيخرج به عنه

-------------------

الأوُلى : صورة الشك .

الثانية : صورة قيام خبر الثقة على الحرمة .

( ومفادَ الدّليل الدّال على اعتبار تلك الأمارة غير العلمّية المقابل للأصل ) وقوله : « المقابل » ، صفة لقوله : « الدليل الدال » بمعنى : إنّ مقتضى أدلة حجّية خبر الثقة الدال على الحرمة فيما اذا دلّ دليل على حرمة شرب التتن ولم يوجب ذلك الدليل العلم ( انّه إذا قام تلك الأمارة غير العلمية على حرمة الشيء الفلاني ) كالتتن ( فهو حرام ) للأمارة .

( وهذا ) أي : دليل حجّية خبر الثقة ( أخصّ من دليل ) حجّية ( أصل البرائة - مثلاً - ) لأنّ مقتضى أدلة حجّية أصل البرائة لقوله عليه السلام : «الناس فِي سعة مالا يعلمون» (1) حليّة التتن في صورة الشك وكذا في صورة قيام خبر الثقة على الحرمة ، اذ في صورة قيام خبر الثقة على الحرمة لانعلم بالحرمة وإنّما نظنّ بالحرمة ظنّاً .

ومقتضى أدلة حجّية خبر الثقة أعني : صدّق العادل : حرمة التتن في صورة قيام خبر الثقة على حرمة التتن ( فيخرج به ) أي بسبب هذا الدليل ( عنه ) أي : عن الأصل ، لأنّك قد عرفت : إنّ الأصل يشمل فردين ، والدليل يشمل فرداً واحداً .

ص: 266


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص454 ح109 وكذا ورد نظير ذلك في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 وتهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 والمحاسن : ص452 ح365 ووسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

وكونُ دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ، باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ،

-------------------

( و ) ان قلت : إنكم ذكرتم إن دليل الأمارة أخص مطلقاً من دليل الأصل ، فدليل الأمارة يكون مخصصاً لدليل الأصل ، وهذا غير صحيح ، بل بين الدليلين عموم من وجه ، فانّ دليل الأمارة يشمل كلّ مورد قام عليه الأمارة ، سواء كان هناك أصل أم لا ، ودليل الأصل يشمل كلّ مورد ليس فيه علم ، سواء كان هناك أمارة أم لا ، فيتعارضان في مورد فيه أصل وأمارة .

وعلى هذا : ففي مورد التعارض ، دليل الخبر يقول : خذ بالخبر ، ودليل البرائة -مثلاً- يقول: خذ بالبرائة ، فيتعارضان، هذا في مورد الاجتماع ولهما موردا إفتراق:

الأوّل : أن يكون خبر بدون البرائة ، كما إذا علم إجمالاً بأنّ يوم الجمعة يجب عليه الظهر أو الجمعة ، وورد خبر يقول : بوجوب الظهر ، فانّ هنا خبراً ولا برائة .

الثاني : أن يكون برائة بدون الخبر ، كما إذا شك في حرمة شرب التتن ، فانّ البرائة تقول بالحلّية ، ولا خبر في المقام ، فاذا كان هناك خبر وبرائة تعارضا وتساقطا ، مثلاً : في عَرقِ الجنب من الحرام برائة تقول : بأنّه لا تكليف بالنسبة الى العرق ، وخبر يقول : بأنه نجس ، فيتساقط حينئذ البرائة والخبر لتعارضهُما ، ويكون المرجعَ الأصل العقلي وهو أن كلّما لم يقم من المولى دليل عليه ، فليس على العبد تكليف .

والى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : و ( كون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ) من دليل الأصل ، وإنّما كان بينهما عموم من وجه ، لأنه ( باعتبار شموله ) أي : شمول دليل تلك الأمارة ( لغير مورد أصل البرائة ) أيضاً كما بيّناه .

والجواب عن هذا الاشكال هو : انّ دليل الأمارة مقدّم على دليل الأصل

ص: 267

لا ينفعُ بعد قيام الاجماع على عدم الفرق في إعتبار تلك الأمارة حينئذٍ بين مواردها .

وتوضيحُ ذلك : أنّ كونَ الدليل رافعا لموضوع الأصل - وهو الشكّ - إنّما يصحّ في الدليل العلميّ ، حيث انّ وجوده يُخرِجُ حُكمَ الواقعة عن كونه مشكوكا فيه ،

-------------------

في مورد التعارض حتى وإنْ كان بين الأمارة والاصل عموم من وجه ، وذلك للاجماع على تقدّم الأمارة على الأصل مطلقاً .

وعليه : فجعل العموم من وجه بينهما ( لاينفعُ بعد قيام الاجماع على عدم الفرق في إعتبار تلك الأمارة حينئذ ) أي : حين تعارض الأمارة مع الأصل ( بين مواردها ) أي : بين موارد الأمارة ، فسواء كان في موردها أصل ، أم لم يكن في موردها أصل ، وسواء كانت النسبة بينهما وبين الأصل عموم مطلق ، أم عموم من وجه ، فانّ الاجماع قام على اعتبار الأمارة وتقديمها مطلقاً .

( وتوضيحُ ذلك ) أي : توضيح تقديم الدليل غير العلمي على الأصل بعنوان التخصيص ، لا بعنوان الورود ، حيث انّ المصنّف ذكر أوّلاً : انّ دليل الأمارة واردٌ على دليل الأصل ، ثم أضرب عن ذلك وذكر : انّ دليل الأمارة مخصِّص لدليل الأصل ، والآن يريد توضيح كونه مخصصاً لا وارداً ، وبعد أسطر حين يقول : « هذا ولكن التحقيق » يرجع عن كونه مخصصاً ويبني على كونه وارداً .

وعليه : فتوضيح كونه مخصّصاً لا وارداً قوله : ( انّ كونَ الدّليل رافعاً لموضوع الأصل وهو ) أي موضوع الأصل ( الشّك ) وعدم العلم ( إنّما يصحٔفي الدليل العلميّ ) أي : إذا كان الدليل موجباً للعلم ( حيث إنّ وجوده ) أي : وجود الدليل الذي يوجب العلم ( يُخرِجُ حُكمَ الواقعة عن كونه مشكوكاً فيه ) فإذا قام - مثلاً-

ص: 268

وأمّا الدليل الغير العلميّ فهو بنفسه بالنسبة الى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، وأمّا بالنسبة الى ما عداهما فهو بنفسه غير رافع لموضوع الأصل ، وهو عدم العلم .

وأمّا الدليل الدالّ على اعتباره ، فهو وإن كان علميّا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ حكما ظاهريّا نظير مفاد الأصل .

-------------------

خَبرٌ مُتواترٌ على حرمةِ التتن ممّا أوجب العلم ، تقدّم هذا الخبر المتواتر على الأصل الذي موضوعه : الشك في حكم التتن ، فيكون تقديم الدليل المتواتر على الأصل بعنوان الورود .

( وأمّا الدّليل غير العلمي ) كخبر الثقة ، فانّ خبر الثقة لا يوُجب العلم ( فهو ) لايتقدم على الأصل بعنوان الورود ، لأن خبر الثقة ( بنفسه بالنسبة الى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، واما بالنسبة الى ماعداهما ) أي : ما عدا أصالة الاحتياط والتخيير ( فهو ) أي : خبر الثقة ( بنفسه ) مع قطع النظر عن دليل حجّيته ، فانّ دليل حجّية خبر الثقة هو الأدلة الأربعة كما قرر في محلّه ( غير رافع لموضوع الأصل ، وهو : ) أي : موضوع الأصل : الشك و ( عدم العلم ) .

والحاصل : انّ خبر الثقة لا يكون رافعاً لموضوع الشّك ، إذ الشّك باقٍ وجداناً .

( وأمّا الدّليل الدّال على اعتباره ) أي : على إعتبار ذلك الدليل الذي مثّلنا له بخبر الثقة ( فهو وإن كان علميّاً ) كالأدلة الأربعة الدالة على اعتبار خبر الثقة ، فانّ الأدلة الأربعة توجب علم الانسان بحجّية خبر الثقة ( إلاّ انّه لايفيد إلاّ حكماً ظاهريّاً نظير مفاد الأصل ) .

وعليه : فكل من الأصل ، وأدلة حجّية خبر الثقة يفيد الظّنّ ، ولا يفيد أحدهما

ص: 269

إذ المراد بالحكم الظاهريّ ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعيّ الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل .

-------------------

العلم ، فسواء قال الشارع - مثلاً- : « لاتَنقُض اليَقين بالشَّكِ » (1) الذي يفيد حجّية الاستصحاب ، أو قال : « إعمل بخبر العادل » فانّ كل واحد منهما لايفيد الاّ الظّنّ بحجّية خبر الثقة وبحجّية الاستصحاب .

والحاصل : انّ نفس خبر الثقة الدال على حرمة التتن - مثلاً- لايوجب العلم بالحكم الواقعي ، لاحتمال أنْ يكون الثقة قد اشتبه في الأمر ، ودليل حجّيته - أعني : الأدلة الأربعة الدالة على حجّية خبر الثقة - لايوجب العلم بحرمة التتن واقعاً أيضاً ، بل الأدلة الأربعة توجب العلم بحجّية الخبر الدال على حرمة التتن ظاهراً .

وعليه : فحرمة التتن ليس معلوماً لنا ، لا بالدّليل الدال على حرمة التتن ، ولا بالأدلة الأربعة الدالة على حجيّة خبر الثقة ، فيبقى حرمة التتن حكماً ظاهرياً مظنوناً ، ومثل : هذا الظنّ لايوجب العلم حتى يرفع الشك في حرمة التتن الذي هو موضوع الأصل .

وإنّما قلنا : انّ الدليل لايفيد الا حكماً ظاهرياً بحرمة التتن ( إذ المراد بالحكم الظّاهريّ ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعيّ ) كمؤديّات الاصول وسائر الأدلة غير العلميّة ، فهي كلّها أحكام ظاهرية في مقام الظاهر .

وأمّا الحكم الواقعي ، فهو الحكم ( الثّابت له ) أي : للفعل كشرب التتن ( من دون مدخليّة العلم والجهل ) كما سبق : من أنّ التتن له حكمان :

ص: 270


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فكما أنّ مفادَ قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » ، يفيدُ الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه ، فكذلك ما دلّ على حجّيّة الشهرة الدالة مثلاً على وجوب شيء ، يفيد وجوبَ ذلك الشيء من حيث انّه مظنون مطلقا أو بهذه الأمارة .

-------------------

حكم واقعي يشترك فيه العالم والجاهل ، وهو : ما أَثبتَهُ اللّه سبحانه وتعالى للتتن في اللّوح المحفوظ .

وحكم ظاهري شرّعه اللّه لنا مادام لم نعلم بذلك الحكم الواقعي ، وهو : انّ اللّه سبحانه وتعالى قال: اذا لم تعلم الحكم الواقعي للشيء فاتبع الخبر الدال على حكمه، وإن لم يكن خبر ، فاتبع الأصل ، فكلاهما حكم ظاهري بالنسبة الى شرب التتن .

( فكما انّ ) دليل حجّية الأصل وهو ( مفادَ قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ مُطلَقٌ حتى يَرد فِيهِ نَهيّ » ) (1) فان هذا دليل على حجيّة أصل البرائة وهو ( يفيدُ الرّخصة في الفعل غير المعلوم ورود النّهي فيه ) فإنّ كلّ شيء مطلق يفيد : حليّة شرب التتن من حيث انّه غير معلوم الحرمة واقعاً ( فكذلك ما دلّ على حجّية ) الأدلة غير العلميّة كالخبر الذي يرويه زُرارة - مثلاً- على حرمة التتن - فرضاً- فانّه لم يحصل العلم لا من الخبر ولا من الأصل .

وهكذا ( الشهرة الدّالة مثلاً على وجوب شيء ) كالصلاة عند ذكر اسم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فانّه ( يفيد وجوبَ ذلك الشيء ) أي : الصلاة عند ذكر النبي في المثال ( من حيث إنّه مظنون مطلقاً ) أي : بالدّليل الانسدادي ( أو بهذه الأمارة )

ص: 271


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

ولذا اشتهر أنّ علم المجتهد بالحكم

-------------------

الخاصة التي هي الشهرة ، حيث انّها حجّة بالدليل الخاص .

هذا ، وقول المصنّف : « مطلقاً أو بهذه الأمارة » ، إشارة الى انّ دليل حجيّة الشهرة قد يكون الانسداد بناءاً على الحجيّة من باب الظنّ المطلق ، ومقتضاه : ان الوجوب الذي أدّى إليه الشهرة حكم ظاهري ، حيث انّه مظنون بالظنّ المطلق ، وقد يكون دليل حجيّة الشهرة الظنّ الخاص ، كما إذا لم نقل بالانسداد وقام الدليل على حجّية الشهرة كقوله : « خُذ بِما إشتَهَرَ بين أَصحابِكَ » (1) أو ما أشبه ذلك من الأدلة الدالة على حجّية الشهرة .

وعلى أي حال : فكلّ من الظنّ المطلق ، أو الظنّ الخاص ، لايُوجب العلم بحجيّة الشهرة ، وإنّما يوجب الظنّ بحجيّة الشهرة ، وكما إنّ أصل البرائة يوجب الظّنّ كذلك الشهرة توجب الظنّ ، فكلاهما مظنونان ، وإذا كان كلاهما مظنوناً فتقديم الدّليل غير العلمي على الأصل إنّما يكون بعنوان التخصيص لا الورود .

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه : من إنّ أدلة اعتبار الظنّ توجب كون مؤدّى الظنّ حكماً ظاهرياً ، كما إنّ مؤدى الأصل أيضاً حكم ظاهري فليس مؤدّى أدلة اعتبار الظّنّ : الحكم الواقعي حتى يكون وارداً على مؤدّى الأصل ( إشتهر ) بين العلماء ( أنّ علم المجتهد بالحكم ) انّما هو علم بالحكم الظاهري ، لا علم بالحكم الواقعي ، لأنّ مبنى هذا العلم هو مايفيد الحكم الظاهري .

ص: 272


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

مستفادٌ من صغرى وجدانيّة ، وهي : « هذا ما أدّى إليه ظنّي » ، وكبرى برهانيّة ، وهي : « كلّ ما أدّى إليه ظنّي فهوحكمُ اللّه في حقّي » ، فانّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهريّ .

فاذا كان مفادُ الأصل ثبوتَ الاباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة ، ومفادُ دليل تلك الأمارة ثبوتَ الحرمة للفعل المظنون الحرمة ، كانا متعارضين

-------------------

وذلك لأن علمه ( مستفادٌ من صغرى وجدانيّة : وهي « هذا ما أدّى اليه ظنّي » ) أما ظنّاً مطلقاً ، أو ظنّاً خاصاً ، ( وكبرى برهانيّة : وهي « كلمّا أدّى اليه ظنيّ فهو حكمُ اللّه في حقّي » ) وإنّما كان كلمّا أدّى اليه ظنّ المجتهد هو حكم اللّه في حقه ، لأنّ ظنّه مستند إما الى دليل الانسداد وهو حجّة ، وأما الى الأدلة الخاصة وهي حجّة أيضاً ، ومن المعلوم : إنّ النتيجة - وهي الحكم - المبنية على مقدمتين : احداهما ظنّية وهي المقدمة الاُولى التي ذكرها بقوله : « هذا ما أدّى اليه ظنيّ ، لايكون علماً ، وإنّما يكون ظنّاً » .

إذن : ( فانّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظّاهري ) لا الحكم الواقعي ، فانّ الظّنّ لايوجب العلم بالحكم الواقعي ، كما إنّ دليل حجّية الظنّ أيضاً لايوجب علماً بالحكم الواقعي ، بل هاتان المقدّمتان توجبان الظنّ بالحكم الظاهري ، وهذا الظنّ حجّة امّا للانسداد ، أو للأدلة الدالة على حجيّة الظنون الخاصة .

وعليه : ( فاذا كان مفادُ الأصل : ثبوتَ الاباحة ) ظاهراً ، لأن الأصل يقول : الشيء المشكوك الحكم مباح لك ، فيثبت ( للفعل غير المعلوم الحرمة ) كشرب التتن : الاباحة ظاهراً ( ومفادُ دليل تلك الأمارة ) كالرواية التي تقول ، إنّ شرب التتن حرام - مثلاً - ( ثبوتَ الحرمة ) ظاهراً ( للفعل المظنون الحرمة ) لأنّا بعد ورود الرواية نظنّ بحرمة التتن ، فانّهما ( كانا متعارضين

ص: 273

لا محالة .

فاذا بنى على العمل بتلك الأمارة ، كان فيه خروجٌ عن عموم الأصل وتخصيصٌ له لا محالة .

هذا ، ولكنّ التحقيق انّ دليلَ تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل العلميّ رافعا لموضوع الأصل ،

-------------------

لا محالة ) فإنّ دليلاً يقول بحرمة التتن ، ودليلاً يقول بإباحة التتن .

( فاذا بنى على العمل بتلك الأمارة ) الدالة على حرمة التتن لأَن الأمارة أخصّ من الأصل ، أو لأنّ بينهما عموم من وجه ، لكن الاجمال قال بتقديم الأمارة على الأصل ( كان فيه خروجٌ عن عموم الأصل ) الدال على الاباحة ( وتخصيصٌ له لامحالة ) فيكون تقديم الأمارة على الأصل من باب التخصيص لا من باب الورود .

( هذا ) غاية تقريب الكلام في كون أدلة الامارات مخصصة لأدلة الاصول .

( ولكنّ التحقيق : ) انّ أدلة الأمارات واردة على أدلة الاصول ، لا انها مخصصة لها ، وقول المصنّف : « ولكن التحقيق » ، جواب على ما تقدّم منه قبل أسطر من قوله : «وتوضيح ذلك ...» .

ثم إنّ وجه كون أدلة الأمارات واردة وليست مخصصة لأدلة الاصول هو : ( إنّ دليلَ تلك الأمارة وإنْ لم يكن كالدّليل العلميّ رافعاً لموضوع الأصل ) فانّ أدلة الأمارة كما ذكره المصنّف على قسمين : الأوّل : انّها واردة على أدلة الاصول .

الثاني : انها حاكمة على أدلة الاصول .

وعلى أي حال : فانّ أدلة الأمارات ليست مخصصة لأدلة الاصول ، إذ الأمارات كالخبر الواحد - مثلاً- يقول : بحرمة التتن ، ودليل هذه الأمارة : صدّق العادل ، أو

ص: 274

إلاّ أنّه نزّل شرعا منزلةَ الرافع ، فهو حاكم على الأصل لا مخصّص له ،

-------------------

قوله سبحانه : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ...» (1) أو ما أشبه ذلك ، فانّ دليل الأمارة هذا وإن لم يكن كالدليل العلمي رافعاً لموضوع الأصل الذي هو عبارة عن الشك في حكم التتن - مثلاً - ( إلاّ انّه ) أي : دليل تلك الأمارة ( نزّل شرعاً منزلةَ الرّافع ) .

وعليه : فانّ الأمارة وهي - مثلاً- الخبر الدال على حرمة شرب التتن ، والذي دلّ على هذه الأمارة وهو : صدّق العادل ، يدل على تنزيلها منزلة العلم ، فاذا قام الخبر على حرمة شرب التتن يكون كالعلم بالحرمة ، وكما انّه إذا دلّ الخبر المتواتر - مثلاً- على حرمة التتن ، فهو يخرج عن موضوع الأصل لحصول العلم بحرمته بالوجدان، كذلك إذا دلّ الخبر - مثلاً- على حرمة التتن يخرج عن موضوع الأصل ، لكن خروجاً تعبدياً ، لأن دليل حجّية الخبر يقتضي تنزيل الخبر منزلة العلم .

إذن : ( فهو ) أي : دليل تلك الأمارة ( حاكم على ) دليل ( الأصل لا مخصّص له ) إذ قد تقدّم : انّ التخصيص عبارة عن خروج الحكم مع بقاء الموضوع ، مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيداً العالم ، بينما الحكومة عبارة عن تصرف دليل ثانٍ في موضوع دليل الأوّل توسعة أو تضييقاً ، مثل : « لا شكّ لكثير الشَك » (2) في التضييق ، و « الطواف بالبيت صلاة » (3) في التوسعة .

ص: 275


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 و ص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 و ص344 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

كما سيتّضح انشاء اللّه تعالى على أنّ ذلك إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة .

وأمّا الأدلّةُ العقليّة القائمة على البراءة والاشتغال ، فارتفاعُ موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنّيّة واضحٌ ،

-------------------

هذا ، ولكن المقام من قبيل الحكومة لا من قبيل المخصّص ( كما سيتضح إنشاء اللّه تعالى ) عند بيان الحكومة ، وذلك لان دليل الاصل يقول : « إذا شككت فاحكم بالحلّية » ، والخبر يقول : « التتن حرام » ، أي : لاشكّ لك ، فدليل الحرمة يتصرّف في موضوع دليل الأصل ، وموضوع دليل الأصل هو الشك فيرتفع به .

( على انّ ذلك ) أي : تخصيص أدلة الأصول بسبب أدلة الأمارات ، إذا سلّم التخصيص ، فهو ( إنّما يتمّ بالنّسبة الى الأدلة الشّرعيّة ) الدالة على حجّية البرائة ، أو الاشتغال ، أو الاستصحاب، حيث تكون أدلة الأمارات مخصصة لهذه الأصول الثلاثة.

( وأمّا الأدلّةُ العقليّة القائمة على البرائة والاشتغال ) مثل : « قبح العقاب بلا بيان » ولزوم الاحتياط في أطراف الشبهة من جهة العلم الاجمالي ( فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلة الظّنّية واضحٌ ) فانّ الاصول الأربعة بعضها شرعي وعقلي ، وبعضها عقلي فقط ، كالتخيير عند المصنّف حيث يرى انّه عقلي بحتٌ .

فموضوع الاصول الشرعيّة - الذي هو : الاستصحاب ، والبرائة ، والاشتغال ، الثابتة بالدليل الشرعي مثل : « لاتَنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) ومثل :« ما كُنّا مُعَذّبِينَ

ص: 276


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال العقاب ، كما

-------------------

حَتى نَبعَثَ رَسُولاً »(1) ومثل : « أَخُوكَ دِينُكَ فَاحتَط لِدِينِكَ » (2) - عدم العلم ، لأنها كلّها في مقام الشك فيكون دليل اعتبار الأمارة مخصّصاً لأدلة الأصول الشرعيّة كما سبق وجهه .

وموضوع البرائة العقليّة : عدم البيان ، وموضوع الاشتغال العقلي : احتمال العقاب ، وموضوع التخيير : عدم ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فيكون دليل اعتبار الأمارات وارداً على دليل الاصول العقليّة ورافعاً لموضوع هذه الاصول ، فانّه بعد قيام الخبر - مثلاً - أو الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو نحو ذلك ، على الحرمة يخرج التتن عن موضوع البرائة العقليّة الذي هو عدم البيان .

كما لايحتمل العقاب بعد ذلك بالنسبة الى ما دلّ من الخبر ونحوه على الاباحة .

وكذا بالنسبة الى التخيير ، فإنّه إذا إرتفع الشك والتحيّر بالنّص الدال على هذا الجانب أو ذاك الجانب ، لايبقى موضوع للتخيير .

وانّما يكون ارتفاع موضوعها واضحاً ( لجواز الاقتناع بها ) أي : بأدلة هذه الثلاثة ، فانّه يمكن عقلاً أن يكتفي الشارع بهذه الأدلة لبيان الحكم الواقعي ( في مقام البيان ) لما يطلبه الشارع واقعاً .

( و ) كذا بعد قيام الدليل على أحد طرفي العلم الاجمالي يكون - أيضاً - رافعاً للشك ، لجواز ( انتهاضها ) أي : نهضة الأدلة الظّنيّة ( رافعاً لاحتِمال العقاب ، كما

ص: 277


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

هو ظاهر ، وأمّا التخييرُ فهو أصل عقليّ لا غير .

واعلم أنّ المقصودَ بالكلام في هذه الرسالة الاصولُ المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعيّ الكليّ

-------------------

هو ظاهر ) فإنّه إذا احتمل المكلَّف وجوب الظهر أو الجمعة ، ثم قام الدّليل على وجوب الظهر ، فالجمعة تسقط عن موضوع الاشتغال العقلي ، لانّه بعد وجود الدليل الشرعي لا احتمال لوجوب الجمعة ، فلا عقاب .

( وأمّا التخييرُ فهو أصلٌ عقليّ لا غير ) فانّ المصنّف يرى إنّه لاتخيير شرعي ، فبعد قيام الدّليل على طرف الوجوب - مثلاً- يخرج طرف الحرمة عن موضوع التخيير ، فان موضوع التخيير : عدم الترجيح ، والدليل الشرعي يكون مرجّحاً لأحد الطرفين على الآخر ، ففي مسألة دوران الأمر بين المُحذُورَين : كالدَّوران بين الوجوب والحرمة يرى العقل : التخيير ، وذلك إذا لم يمكن الجَمع بينهما ، ولم يمكن طرح أي منهما ، ولم يكن ترجيح ، والدليل الشرعي يكون مرجّحاً لأحد الطرفين على الآخر ، فيكون وارداً لا مخصّصاً .

( واعلم : أَنّ المقصودَ بالكلام في ) هذا المقصد ، الذي هو مبحث الشك ، من ( هذه الرسالة ) هو : ( الاصولُ ) الأربعة ( المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعيّ الكلّي ) :

كالشك في حرمة التتن ، أو الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال في مبحث البرائة .

والشك في انّ الماء الذي زال تغيره يبقى على النجاسة أم لا في مسألة الاستصحاب ، حيث إنّ بعض الفقهاء قال : بزوال نجاسته ، لكن المشهور قال : ببقاء نجاسته للاستصحاب .

ص: 278

وإن تضمّن حكمَ الشبهة في الموضوع أيضا .

وهي منحصرة في أربعة ، أصل البراءة وأصل الاحتياط والتخيير والاستصحاب ، بناءا على كونه حكما ظاهريّا

-------------------

والشّك في انّ الجمعة واجبة أو الظهر في يوم الجمعة من زمن الغيبة ، في مسألة الاشتغال ، حيث يجب عليه الاتيان بهما .

والشك في إنّه هل يجب تقليد الأعلم أو الأورع ، فيما إذا كان هناك مجتهد ان أحدهما أَعلم والآخر أَورع ، ولم يمكن الجمع بينهما حتى يكون من باب الاحتياط ، بل يكون الأمر التخيير بينهما في باب التخيير ؟ .

( وإن تضمّن ) هذه الاصول ( حكمَ الشبهة في الموضوع أيضاً ) :-

كالشك في انّه هل هو مطلوب لزيد ديناراً أم لا ؟ في باب البرائة .

والشك في انّه هل هو باقٍ على وضوئه أم لا ؟ في باب الاستصحاب .

والشك في انّه هل يلزم عليه الصلاة في هذا الجانب أو ذاك الجانب ؟ في باب إشتباه القبلة ، حيث يجب عليه الصلاة اليهما من جهة الاشتغال .

والشك في انّه هل نذر شرب التتن ، أو نذر ترك الشرب ؟ في باب التخيير .

( و ) على أي حال : فإنّ المقصود الأصلي من كتب الاصول هو : التكلم حول الاصول الأربعة من جهة الشبهة في الحكم الفرعي الكلّي ، لا من جهة الموضوع حتى وإن كانت هذه الاصول الأربعة تجري في الشبهات الموضوعية أيضاً .

إذن : فالاصول المتضمنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي ، انّما ( هي منحصرة في أربعة : أصل البرائة ، وأصل الاحتياط ، والتخيير ، والاستصحاب ) على ما ذكرنا حصر الأصل في هذه الأربعة في أوّل الكتاب .

وإنّما ذكرنا الاستصحاب أيضاً ( بناءاً على كونه حكماً ظاهريّاً ) أي : بناءاً

ص: 279

ثبت التعبّدُ به من الأخبار ، إذ بناءا على كونه مفيدا للظنّ يدخلُ في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي .

وأمّا الاصولُ المشخّصةُ لحكم الشبهة في الموضوع ، كأصالة الصحّة

-------------------

على كون الاستصحاب من الاصول التعبدية الجارية في مورد الشك بحيث قد ( ثبت التعبّدُ بهِ من الأخبار ) فانّ الشيخ البهائي رحمه اللّه ذكر في بعض كتبه : انّ حجّية الاستصحاب من باب الأخبار ، والتي منها « لا تَنقُض اليَقينَ بالشَّك » (1) .

( إذ بناءاً على كونه مفيداً للظّنّ ) وانّه ثبت ببناء العقلاء ، وانّ الشارع أمضاه حيث سكت عليه - كما كان هو المشهور بين القدماء - وذكره العلاّمة ، وغيرهم ، فانّه ( يدخلُ ) أي : الاستصحاب حينئذ ( في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي ) فيكون حاله حال الخبر ، والشهرة ، ونحوهما ، حيث انّها تكشف عن الواقع ، وليست من باب حكم الشك عملاً .

( وأمّا الاصول المشخّصةُ لحكم الشّبهة في الموضوع ) أي : الاصول التي تجري في الشبهات الموضوعية بتشريع من الشارع ( كأصالة الصحة ) في عمل الانسان مسلماً كان أو كافراً - فإنّا ذكرنا في « الفقه » : إنّ أصل الصحة يجري في عمل الكافر أيضاً ، فاذا لم نعلم بأنّ هذا المتاع الذي بيد الكافر سرقه ، أو انّه ملكه ؟ جاز الاعتماد على أصالة الصحة في عمله فنشتري المتاع منه ، الى غير ذلك ممّا فصلناه هناك .

ص: 280


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأصالة الوقوع فيما شكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، فلا يقع الكلامُ فيها إلاّ بمناسبة يقتضيها المقامُ .

-------------------

( وأصالة الوقوع ) التي تسمّى : بأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ، حيث انَّ الانسان إذا فَرغَ عن العمل ، وشك في أنّه هل أتى به صحيحاً أم لا ؟ يحكم بأصل الفراغ وانّه أتى به صحيحاً .

وكذلك إذا تجاوز عن محل في الصلاة ونحوها ، وشكّ في انّه هل أتى بذلك الجزء - مثلاً- ، يحكم بالصحة لأصل التجاوز .

والفرق بين : أصل الصحة ، وأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ،مذكور بالتفصيل في « الفقه » .

اما المصنّف فقد ذكر أَصل التجاوز وأصل الفراغ بلفظ واحد وسماهُما : أصالة الوقوع ، وهي تجري ( فيما شك فيه بَعدَ تجاوز المحلّ ) سواء كان التجاوز داخل العمل ، كما لو شك وهو في الركوع : بانّه هل قرء الحَمد أم لا ؟ وفي السجود بانّه هل ركع أم لا ؟ أو كان بعد تمام العمل ، كما إذا أَتمّ الصلاة وشك في أنه هل أتى بالركوع أم لا - مثلاً - ( فلا يقع الكلامُ فيها ) أي : في هذه الاصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع ( إلاّ بمناسبة يقتضيها المقامُ ) استطراداً .

ولهذا لا نذكر أصل الطهارة ، أو أصل الحلّية ، أو ما أشبه ذلك هنا ، لأن موضع هذه الاصول والتي تسمّى : بالقواعد الفقهية ، في الفقه ، وقد سبق الالماع الى سبب ذلك في أوّل الكتاب ، فلا داعي الى تكراره .

وكيف كان : فليس التكلم حول غير هذه الاربعة من الاصول في هذا الكتاب إلاّ من باب الاستطراد ، فانّ وظيفة الاصول هي البحث عن الشبهات الحكمية الكلّية والتي هي منحصرة في هذه الأربعة .

ص: 281

ثمّ إنّ انحصارَ موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقليّ ، لأنّ حكمَ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقينُ السابقُ عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يُلحَظ .

-------------------

( ثم إنّ انحصارَ موارد الاشتباه ) والشك ، بأن لم يكن للمكلّف علم ، أو ظنّ يقوم مقام العلم ، بهذا الجانب أو ذلك الجانب ( في الاصول الأربعة ) : الاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط ( عقلي ) فانّ الحصر العقلي هو الحصر الذي يدور بين النفي والاثبات ، وموارد هذه الاصول الأربعة دائرة بين النفي والاثبات - كما سبق في أول الكتاب - .

هذا ، وقد أوضح الحصر بقوله : ( لأنّ حكمَ الشّك : إمّا ان يكون ملحوظاً فيه اليقينُ السّابقُ عليه ) أي : على الشّك ، بأن كان الشارع حكم باجراء حكم اليقين السابق في اللاحق المشكوك فيه ، كما إذا تيقن بالطهارة وشّك في انّه هل إرتفع بسبب نوم حصل له أو لم يرتفع ، لأنّ النوم لم يكن غالباً على سَمعِه وبَصره ، فانّه يستصحب الطهارة ، وكذلك في الأحكام الكلّية .

( وإمّا أن لايكون ) ملحوظاً فيه اليقين السابق ( سواء لم يكن يقين سابق عليه ) أصلاً ، مثل الشك في أنّ التتن حرام أم لا ، فانّه لا يقين سابق لحرمة التتن وعدم حرمته ، أو مثل تعاقبُ حالتين سابقتين : الحدث والطهارة ، والآن في الحالة الثالثة لايعلم هل الطهارة كانت متقدِّمة ، أو الحدث كان متقدماً حتى يستصحبه ؟ .

( أم كان ولم يُلحَظ ) بأنْ كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لكن اليقين السابق لم يكن ملحوظاً ، كالشك في المقتضي عند المصنّف على ما يأتي ، فانّ المصنّف لايجري الاستصحاب في الشك في المقتضي ، أو كالمثال المتقدّم :

ص: 282

والأوّلُ : موردُ الاستصحاب .

والثاني : إمّا أن يكون الاحتياطُ فيه ممكنا ام لا ، والثاني هو موردُ التخيير ،

-------------------

من الماء الكثير الذي تنجس بالتغيير ثم زال تغيّره من نفسه ، حيث إنّ المشهور يستصحبون حالة النجاسة ، خلافاً لبعض الفقهاء الذين لايقولون بالاستصحاب ، مدّعين : انّ التغيير كان سبب النجاسة ، فاذا زال السبب زال المسبب .

( والأوّلُ : هو موردُ الاستصحاب ) سواء كان الشك في التكليف أو في المكلّف به ، أمكن الاحتياط أو لم يمكن ، وسواء كان في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية ، في الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي .

( والثّاني : ) وهو ما لم يلحظ فيه الحالة السابقة ، سواء كان هناك يقين أم لم يكن ، فهو ( إمّا أن يكون الاحتياطُ فيه ممكناً ) كالجمع بين الطرفين الذين أحدهما واجب فقط ، أو أحدهما حرام فقط ، أو أحدهما واجب والآخر حرام .

( أم لا ) بأن لم يكن الاحتياط فيه ممكناً وذلك فيما إذا دار أمر شيء بين الوجوب والتحريم ، كما إذا لم يعلم انّه نَذَرَ وطي زوجته في ليلة الجمعة أو ترك وطيها ، أو انّه شك في انّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة واجبة أو حرام .

( والثاني : ) وهو ما لم يمكن فيه الاحتياط ، فانه ( هو موردُ التخيير ) فاذا لم يعلم : انّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام ، تخيّر بين الاتيان بها وتركها ، أو اذا لم يعلم : انّ الزوجة محلوفة الوطي أو الترك تخيّر في وطيها وتركه إذ لا علاج غير ذلك .

ص: 283

والأوّلُ إمّا أن يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل موردُ الاحتياط ، والثاني موردُ البراءة .

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مواردَ الاصول قد تتداخلُ ، لأنّ المناطَ في الاستصحاب ملاحظةُ الحالة السابقة المتيقنة ، ومدارَ الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودةً .

-------------------

( والأوّل ) وهو : ما أمكن فيه الاحتياط ، فهو ( : امّا ان يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ) وهو مايعبَّر عنه : بالشك في المكلّف به ، لأن التكليف محرز ، وإنّما المكلَّف به غير ظاهر ، فلا يعلم - مثلاً- هل إنّه نذر أن يصوم أول رجب ، أو أول شعبان ؟ .

( وإمّا أن لايدلّ ) دليل عقلي أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول .

( والأوّل : موردُ الاحتياط ) فاذا كان الأمر دائراً بين أحد واجبين أتى بهما ، أو أحد محرَّمين تركهما ، أو واجب ومحرَّم فعل الواجب وترك المحرّم ، كما إذا علم انّه نذر أما أن يشرب الشاي ، أو أن يترك التبغ ، فانّه يجب عليه أن يشرب الشاي ويترك التبغ .

( والثاني : موردُ البرائة ) فاذا شك في انّه هل يجب عليه دعاء رؤية الهلال أم لا ، تمسك بالبرائة في عدم الوجوب ، وإذا شك في انّه هل يحرم عليه التبغ أم لا ، تمسك بالبرائة في عدم الحرمة عليه ( وقد ظهر ممّا ذكرنا : انّ مواردَ الاصول قد تتداخلُ ) بأن يكون مورد واحد مورداً للاستصحاب وللبرائة - مثلاً- وذلك ( لأن المناطَ في الاستصحاب : ملاحظة الحالة السّابقة المتيقنة ، ومدار الثلاثة الباقية ) من الاصول ( على عدم ملاحظتها وان كانت موجودة ) فيمكن أن يكون لشيء

ص: 284

ثمّ إنّ تمامَ الكلام في الاصول الأربعة يحصلُ باشباعه في مقامين :

أحدهما : حكمُ الشكّ في الحكم الواقعيّ من دون ملاحظة الحالة السابقة ، الراجع إلى الاصول الثلاثة .

الثاني : حكمهُ بملاحظة الحالة السابقة ، وهو الاستصحاب .

-------------------

واحد حالة سابقة يرى بعض بسبب تلك الحالة جريان الاستصحاب ، ويرى بعض عدم الجريان لعدم ملاحظته الحالة السابقة ، فيجري فيه البرائة .

كما في مثال الماء المتغير ، الذي زال تغيره من نفسه ، حيث ان المشهور يستصحب حالة النجاسة ، وغير المشهور يقول : انّا نشكّ في نجاسة هذا الماء بعد زوال التغيّر ، فنجري البرائة ، فلا تكليف لنا بالنسبة الى تطهير ما لاقى هذا الماء .

وكذا الشك في المقتضي عند من لايرى جريان الاستصحاب فيه ، فيتمسك بالاُصول الاُخر الجارية في المقام ، بينما جملة من الاصوليين يَرَوْنَ جريانَ الاستصحاب فيه ، لعدم الفرق عندهم بين الشَّك في المقتضي والشّك في المانع ، وعلى كلٍ فالأمر في المثال سهل .

( ثمّ إنّ تمامَ الكلام في الاصول الأربعة يحصلُ باشباعه ) أي : باشباع الكلام ( في مقامين ) على مايلي :

( أحدهما : حكمُ الشّك في الحكم الواقعيّ ) للمكلَّف ( من دون ملاحظة الحالة السّابقة ، الراجع) حكم هذا الشك غير الملحوظ فيه الحالة السابقة ( الى الاصول الثلاثة ) : التخيير ، والاحتياط ، والبرائة .

( الثاني : حكمهُ ) أي : حكم الشّك ( بملاحظة الحالة السّابقة ، و ) ذلك الحكم ( هو الاستصحاب ) حيث يلاحظ في الاستصحاب الحالة السابقة ، بخلاف : البرائة ، والتخيير ، والاحتياط ، فانّه لايلاحظ فيها الحالة السابقة .

ص: 285

أمّا المقام الأوّل :

فيقع الكلامُ فيه في موضعين .

لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف ، وهو النوع الخاصّ من الالزام وإنْ علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم .

وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ،

-------------------

المقام الأوّل :

( أمّا المقام الأوّل : ) وهو حكم الشّك من دون لحاظ الحالة السابقة ( فيقع الكلام فيه في موضعين ) أيضاً :

الأوّل : مَبحث الشكّ في التكليف ، بان لم يعلم المكلّف هل كلّف بشيء أم لا ، كما إذا لم يعلم انّه هل كلّف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبحرمة التبغ ، أم لا ؟ .

الثاني مبحث الشك في المكلّف به ، بأنْ عَلِمَ بالتكليف ، لكنّه لم يعلم إنّ « المكلَّفَ به » هل هو هذا أو هو ذاك ؟ كما تقدّم بيانه والى الأوّل أشار المصنّف بقوله : ( لانّ الشّك إمّا في نفس التكليف وهو : النّوع الخاصّ من الالزام وإن علم جنسه ) أي : جنس التكلّيف وهو : الالزام ، لأنّه قد يَعلمَ الانسان الوجوب المردد بين شيئين أو يعلم التحريم المردد بين شيئين ، وقد يعَلمَ الالزام ، لكنّه لا يعلم هل هو إلزام وجوبي في هذا الطرف ، أو تحريمي في الطرف الآخر ؟ ( كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم ) .

ثم أشار الى الثاني بقوله : ( وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ) أي بنفس التكليف ، بأن علمنا التكليف ، لكنّا لا نعلم هل هو متعلق بهذا الشيء أو بذاك

ص: 286

كما إذا علم وجوب شيءٍ وشكَّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتةٍ وتَردّد بين الظهر والمغرب .

والموضع الأوّل :

يقعُ الكلامُ فيه في مطالب ، لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ،

-------------------

الشيء ؟ ( كما إذا علم وجوب شيء وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة ) فانّ التكليف هُنا مَعلومٌ وهو : الوجوب ، لكنْ متعلقه مجهول ، وهذا مثال للشبهةِ الحكميّة ( أو علم وجوب ) قضاء صلاة ( فائتةٍ ، وتردّد بين الظهر والمغرب ) فانّه علم بفوّت صلاة ، لكنّه لا يعلم هل الفائت ظهر أو مغرب ؟ فهذه شبهة موضوعية .

والموضع الأوّل :

( والموضع الأوّل ) وهو : مبحث الشك في التكليف فانّه ( يقع الكلام فيه في مطالب ) ثلاثة ، وأمّا الموضع الثاني وهو : الشك في المكلّف به ، فسيأتي بعد ذلك انشاء اللّه تعالى .

وإنما كان الكلام في الشك في التكليف في مطالب ثلاثة ( لأنّ التكليف المشكوك فيه : إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ) بأن شككنا في انّه هل هو حرام أم لا ؟ كالشك في حرمة التتن .

( وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ) بأنْ شككنا في أنّه هل هو واجب أم لا ولم نحتمل الحرمة ، كالشك في إنّ الصلاة عند ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم واجب أم لا ؟ ( وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ) كما إذا كان هناك إحتمالان : إحتمال الوجوب ، وإحتمال

ص: 287

وصور الاشتباه كثيرةٌ .

وهذا مبنيّ على إختصاص التكليف بالالزام

-------------------

الحرمة ، كالشّك في وجوب ردّ السلام على المصليّ إذا سلّم عليه طفلٌ أو مجنونٌ فهل هو واجب أو حرام ؟ .

( وصور الاشتباه كثيرة ) ترجع أهمَها الى سبع صور : الشبهة بين الوجوب وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

والشبهة بين الحرمة وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

والشبهة بين الوجوب والتحريم .

ففي الستة الاُولى : الحكم البرائة .

وفي الأخيرَة : الحكم التخيير ، إذا كان في أمر واحد كما إذا لم يعلم بأنّ صلاة الجُمُعةِ واجبةٌ أو محرمة ؟ والاحتياط بالجمع ، إذا كان بين أمرين ، كما إذا لم يعلم هل نَذَرَ شرب الشاي أو نَذَرَ ترك التبغ ؟ ولا مُناقشة في الأمثال وإنّما المهم الالماع إلى الحكم في الجملة .

( وهذا ) أي : حصر العنوان في الثلاثة : البرائة ، والاحتياط ، والتخيير ، والظاهر : أنّ الكلام الآتي يجري في الاستصحاب أيضاً ، فانَه إذا كان شيء مستحباً ، ثم شّك في بقاء الاستحباب وعدمه استُصحِبَ بقائه ، وكذا إذا شّكَ في بقاء الكراهة ( مبني على إختصاص التكليف بالالزام ) أي : الواجب والحرام فقط .

وذلك ان مقتضى أدلة البرائة هو : رفع الكُلفَةِ وَالمشقّةِ المحتملَةِ بالنسبة

ص: 288

أو إختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ،

-------------------

الى الالزام ، مثل قوله : « رُفِعَ مَالا يَعلَمونَ » (1) وقوله تعالى: « وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حَتى نَبْعَثَ رَسُولاً » ) (2) .

ومقتضى أدلة الاحتياط هو : ثبوت الكلفة والمشقة المحتملة مثل قوله : « اخوكَ دِينُك فاحتَط لدينِكً » (3) وما أشبه ذلك من الأدلة .

ومن المعلوم : إنّ رفع الكلفة واثباتها انّما يكون في الوجوب والحرمة لترتب العقاب على مخالفتهما ، امّا الاستحباب والكراهة فلا كلفة فيهما لعدم العقاب على المخالفة ، فيحكم بجواز كل من الفعل والترك فيما اذا شك في شيء انه مستحب أو ليس بمستحب ، أو مكروه أو ليس بمكروه ، أو مستحب أو مكروه في الدوران بين هذين الراجحين فعلاً وتركاً ، ولا يحتاج إلى اجراء البرائة ، أو الاستصحاب أو التخيير ، أو الاحتياط .

( أو إختصاص الخلاف في البرائة والاحتياط به ) أي : بالالزام ، بمعنى : إنّا وإنْ سلَّمنا إنّ أدلة الطرفين تجري في الاستحباب والكراهة لاطلاق تلك الأدلة فان الادلة ليست كلّها دالة على رفع العقاب ، وإنّما بعضها أعم مثل : « رُفِعَ مَا لا يَعْلَمُونَ » (4) وما أشبه ذلك ، إلاّ أنّ كلامنا في مبحثِ إختلاف العُلماء ،

ص: 289


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .
3- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
4- - تحف العقول : ص50 ، الخصال ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 .

فلو فُرِضَ شموله للمستحبّ والمكروه يظهرُ حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجةَ إلى تعميم العنوان .

ثمّ متعلّق التكليف المشكوك :

إمّا أن يكون فعلاً كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعيّ الكلّيّ ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه .

وإمّا أن يكون فعلاً جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئيّ ،

-------------------

واختلاف العلماء إنّما هو بالنسبة الى التكاليف الالزاميّة .

( فلو فُرِضَ شموله ) أي : شمول التكليف وشمول نزاع العلماء ( للمستحب والمكروه ) فلا حاجة الى التكلم فيهما أيضاً ، لأنّه ( يظهر حالهما من الواجب والحرام ) فانّ الشبهة الاستحبابية كالشبهة الوجوبية في أدلّة البرائة ، وكذلك الشبهة الكراهية كالشبهة التحريمية ، فانّ التقرير في الوجوب والحرمة يأتي في المستحب والمكروه أيضاً ( فلا حاجة الى تعميم العنوان ) ليشمل غير الالزام .

( ثم ) إنّ ( متعلق التكليف المشكوك ) أي : موضوع التكليف المشكوك قد يكون من الشبهة الحكمية كما قال : ( امّا أن يكون فعلاً كليّاً متعلقاً للحكم الشّرعي الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ) فانّ شرب التتن فعل كليّ له أفراد كثيرة ، وله حكم كلي هو : الحرمة أو الاباحة ( والدّعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه ) فانّ الدعاء فعل كليّ ، وله حكم كليّ : الوجوب أو الاستحباب - مثلاً - وقد يكون من الشبهة الموضوعية كما قال : ( وإمّا أن يكون فعلاً جزئياً متعلقاً للحكم الجزئي ) لوضوح : إنّ الموضوع إذا كان جزئياً كان له حكم جزئي ، كما أنّه

ص: 290

كشرب هذا المايع المحتمل كونه خمرا .

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني إشتباهُ الاُمور الخارجيّة .

ومنشأه في الأوّل إمّا عدمُ النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمالَ النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : « حتّى يطهرن » ، بين التشديد والتخفيف مثلاً ،

-------------------

إذا كان الحكم جزئياً كان له موضوع جزئي ، لعدم معقولية أنْ يكون أحدهما كلياً والآخر جزئياً ( كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمراً ) فانّ هذا المائع شيء جزئي ، وله حكم جزئي هو : الحرمة أو عدمها .

( ومنشأ الشك في القسم الثاني ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( اشتباه الأُمور الخارجيّة ) ممّا لا يرتبط بالشارع ، كالمائع يشتبه بأنّه خمر أو ماء ، والثوب يشتبه بانّه مغصوب أو مباح ، الى غير ذلك ، حتى إنّا إذا استطرقنا باب الشارع في انّ هذا هل هو خمر أم لا ؟ أو غصب أم لا ؟ أجاب : ارجعوا إلى الموازين العرفية ، لأنّ العرف هو المرَجعَ في أمثال هذه الامور ، وإنْ قال : انّه خمر أو ماء ، أو انّه غصب أو ليس بغصب ، فانّما يقوله لا بما إنّه مشرِّع .

( ومنشأه في الأوّل : ) أي الشبهة الحكميّة ثلاثة أمور :

( امّا عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ) حيث لا نصّ فيه .

( وإمّا أن يكون إجمال النّص ، كدوران الأمر في قوله تعالى : « حَتى يَطهرن» (1) بين التشديد والتخفيف - مثلاً - ) فانّ بعضهم قرأ « يَطَّهَّرنَ » ، وبعضهم قرأ « يَطهُرنَ » ، فاذا قرء بالتخفيف كان معناه : النظافة من الحيض وإنْ لم تغتسل ،

ص: 291


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

وإمّا أن يكون تعارضَ النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناءا على تواتر القراءات .

وتوضيحُ أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب :

-------------------

وإن قرء بالتشديد كان معناه : لزوم الاغتسال ممّا يوجب تحريم الوطي قبل الاغتسال وإن طهرت من الدم .

( وامّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه ) أي من تعارض النصين ( الآية المذكورة بناءاً على تواتر القراءات ) السبع ، أو العشر عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو جواز الاستدلال بكلّ قرائته .

لكنّا ذكرنا في أول الكتاب ، وفي بحث القرآن الحكيم : إنّ تواتر القراءات شيء لا يمكن القول به وإن ذهب اليه بعض الفقهاء ، بل القرآن من زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الى زماننا هذا لم يتغير ولم يتبدل عن هذه القراءة المشهورة ، وقد رأيت قرائين كُتِبَتْ قبل ألف سَنة كانَتْ مثل القرآن المتعارف عندنا الآن في البلاد الاسلامية ، لا تزيد نقطةً ولا حرفاً ولا حركةً ولا سكوناً ولا تنقصها أيضاً .

وعلى أي حال : فاذا صار « يطهرن » مجملاً بأن لم يعلم إنّ الوطي قبل الاغتسال محرم أم لا ، لانّه لم يعلم انّ القراءة بالتخفيف أو بالتشديد ، وكانت إحدى القرائتين صحيحة والقرائة الثانية غير صحيحة ، أو تعارضت القرائتان كتعارض الخبرين ، لأن أحديهما بالتخفيف ومعناه : الحلية قبل الاغتسال ، والاخرى بالتشديد ومعناه : عدم الحلية قبل الاغتسال ، كان من الشبهة التحريميّة ، حيث يقول الاُصوليون فيها بالبرائة ، والاخباريون بالاحتياط .

( وتوضيح أحكام هذه الأقسام ) التي ذكرناها يتمّ ( في ضمن مطالب ) ثلاثة :

ص: 292

الأوّلُ : دورانُ الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية .

الثاني : دورانُ الأمر بين الوجوب وغير التحريم .

الثالثُ : دورانُ الأمر بين الوجوب والتحريم .

المطلب الأوّل: فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب .

اشارة

وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ ، تارة : الواقعةُ الكلّيّةُ ،

-------------------

( الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية ) :

الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ، وذلك في الشبهة التحريمية ، بأنْ لم تعلم هل إنّ حكم الشيء الفلاني - مثلاً - حرام أو مكروه ، حرام أو مستحب ، حرام أو مباح ؟ .

( الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم ) من الأحكام الثلاثة ، أيضاً وذلك في الشبهة الوجوبية .

( الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ) من غير فرقٍ في كلّ ذلك بين الشبهة الموضوعيّة أو الشبهة الحكميّة ، كما إنّ الشبهة الحكميّة ، قد تكون من فُقدانِ النصّ ، وقد تكون من إجمال النصّ ، وقد تكون من تعارض النصين .

المطلب الأوّل :

أمّا ( المطلب الأوّل ) اي : الشبهة التحريمية فهو : ( فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ) من الأحكام الثلاثة الاُخر .

( وقد عرفت : انّ متعلّق الشك تارة الواقعة الكليّة ) الشرعية من الشبهة

ص: 293

كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدمُ النصّ أو إجمالُه أو تعارضُه ، وأُخرى : الواقعةُ الجزئيّةُ .

فههنا أربع مسائل :

الأُولى : مالا نصّ فيه

وقد اختُلِفَ فيه على ما يرجع إلى قولين :

أحدُهما : إباحةُ الفعل شرعا وعدمُ وجوب الاحتياط بالترك .

والثاني : وجوب الترك ويُعبّر عنه بالاحتياط .

-------------------

الحكمية ( كشرب التتن ، ومنشأ الشّكّ فيه عدم النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، وأخرى الواقعة الجزئية ) الخارجية من الشبهة الموضوعية مثل : كون هذا المائع ماءاً أو خمراً ( فههنا ) أي : في الشبهة التحريميّة ( أربع مسائل ) كما يلي :

( الاولى : فيما لا نصّ فيه ، وقد اختلف فيه ) العلماء ( على ما يرجع الى قولين ) وإنْ كانت الأقوال أكثر ، لكن بعض تلك الأقوال ليس محَط الاعتناء :

( أحدهما : إباحة الفعل شرعاً وعدم وجوب الاحتياط بالترك ) فكلما شككنا في شيء إنّه حرام أو ليس بحرام ، أجرينا فيه الاباحة .

( والثاني : وجوب التّرك ويُعبّر عنه : بالاحتياط ) ومأخوذ من قوله عليه السلام : « تأخُذ بالحَائِطةِ لدِينِكَ » (1) و قوله : « أخوُكَ دِينُكَ فَاحتَط لدينكَ » (2) .

ص: 294


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والأوّل منسوب الى المجتهدين ، والثاني الى معظم الاخباريين ، وربما نَسبَ إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان . ويحتمل الفرق بينها وبين بعضها من وجوه أُخَر تأتي بعد ذكر أدلّة الاخبارييّن .

-------------------

( والأوّل : ) وهو : البرائة وتسمى بالاباحة أيضاً ( منسوب الى المجتهدين ) الذين يجعلون القواعد العامّة أساساً للأحكام الشرعيّة ، وتلك القواعد مستفادة من : الكتاب والسنّة ، والاجماع ، والعقل .

( والثاني ) وهو : الاحتياط ، منسوب ( الى معظم الأخباريين ) الذين يرون العمل بالأخبار فقط ، حيث يقولون بأن ظواهر القرآن ليست بحجّة ، والاجماع كذلك لا دليل على حجيته ، والعقل انّما يحكم في اصول الدين لا في فروعه .

( وربّما نسب اليهم ) أي : الى الاخباريين ( أقوال أربعة : التحريم ظاهراً ، والتحريم واقعاً ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يَبعُد أن يكون تغايرها بإعتبار العنوان ) فحيث إنّ العناوين في الأخبار مختلفةٌ ، ففي بَعض الأخبار : « قِفْ » وفي بعض الأخبار : « إحتط » ، وفي بعض الأخبار : « إجتنب » ، الظاهر في التحريم الظاهري ، وفي بعض الأخبار : « النهي عن العمل » الظاهر في التحريم الواقعي ، ذهب كُلّ الى عنوان من هذه العناوين ، فليس إختلافهم إلاّ اختلافاً في التعبير لا في المذهب والغرض ( ويحتمل الفرق ) المعنوي ( بينها ) أي : بين هذه الأقوال جميعاً ( و ) يحتمل الفرق (بين بعضها) كالحرمة الظاهرية ، والواقعيّة ( من وجوه اُخر ) غير مجرد اختلاف العناوين التي ذكرناها وهي (تأتي بعد ذكر أدلة الاخباريين) إنشاء اللّه تعالى .

ص: 295

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة :
فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسا إلاّ ما ءاتاها » .

قيل : دلالتها واضحة .

-------------------

مثلاً : القائل منهم بالحرمة الظاهرية يقول : ليس محرَّماً واقعاً ، بينما القائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّ الشارع جعله حراماً واقعاً كحرمة شرب الخمر ولحم الخنزير .

والقائل بالتوقف يقول : لا نعلم حكمه ولذا نتوقف عن الحكم ، بينما القائل بالاحتياط يقول : إنّ محل الشبهة يحكم فيه بالحائطة ، دون أن يكون حراماً ظاهراً ، أو واقعاً ، ولا انّه يتوقف فيه من جهة الجهل ، حاله حال أطراف المحل المخطور في الخارج ، كبئر ، أو حيوان ، أو ما أشبه ، حيث يحتاط بعدم الاقتراب منه حذراً من الوقوع في الخطر ، لا أنّه حرام بنفسه واقعاً ، أو ظاهراً ، أو محل توقف من جهة الجهل .

هذا ، وقد ( احتجّ ) الاصوليون ( للقول الأوّل ) وهو البرائة ( بالأدلة الأربعة ) :

الكتاب ، والسنَّة والاجماع ، والعقل .

( فمن الكتاب آيات ، منها : قوله تعالى : « لا يُكلِّفُ اللّه ُ نَفساً إلاّ ما ءاتاها »(1) )

أي: أعطاها ( قيل ) والقائل المحقق النراقي في كتابةِ مناهج الاُصول ( دلالتها ) أي: دلالة الآية على البرائة ( واضحة ) بتقريب انّه حيث لم يعطينا اللّه العلم بانّ

ص: 296


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

وفيه : أنّها غير ظاهرة ، فانّ حقيقة الايتاء الاعطاء .

فامّا أن يُرادَ بالموصول المالُ ، بقرينة قوله تعالى قبلَ ذلك : « مَن قُدِرَ

عَلَيهِ رِزقُه فَليُنفِق مِمّا ءاتاهُ اللّه » .

-------------------

هذا الشيء حرام فهو لا يريد الحرمة منا ولا يكلّفنا بالحرم .

( وفيه : انّها غير ظاهرة ) في الدلالة على البرائة وذلك كما قال : ( فانّ حقيقة الايتاء : الاعطاء ) أي : البذل ، وان البذل كما سيذكره المصنّف يرتبط بالمال أكثر ممّا يرتبط بالحكم ، وعلى كلّ : فانّ من الموصول وهو « ما » في قوله تعالى : « ما

ءاتاها »ثلاثة احتمالات :

أحدها ما ذكره المصنّف بقوله : ( فامّا أن يُرادَ بالموصول : « المال » بقرينة قَوله تعالى قبل ذلك : « وَمن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِقُ مِمّا ءاتاهُ اللّه ُ » ) ومعنى قَدَر عليهِ رزقه : ضُيّقَ عليه رزقه ، والآية في سورة الطلاق وهي تتحدث عن المطلّقة قال سبحانه : « اسكُنُوهُنَّ مِن حَيث سَكَنتم مِنْ وجدِكُم ، ولا تضارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيهِنَّ ، وإنْ كُنَّ اولاتِ حَملٍ فَأَنفِقُوا عَلَيهِنَّ حَتى يَضَعنَ حَملَهُنَّ ، فإنْ أرضَعنَ لكُم فآتُوهُنَّ اُجُورَهُنّ وأتَمِروا بَينكُم بِمعروفٍ ، وإنْ تَعاسَرتُم فَستُرضع له أخرى * لِيُنفِقَ ذُو سِعَةٍ مِن سعَتِهِ ، وَمَن قُدِر عَليهِ رِزقُهُ ، فَليُنفِقُ ممّا ءاتاهُ اللّه ُ ، لا يُكلِّفُ اللّه ُ نفساً إلاّ مَا ءاتاها ، سَيَجعَلُ اللّه ُ بَعدَ عُسر يُسراً » (1) .

بمعنى : إنّه إنْ كان الزوج ذا سعة في المال فليُنفِقُ حَسبَ المتعارف ، وإنْ كان مضيقاً عليه في رزقه فليُنفق بِقدرِ قُدرَتِه ، كالفُقراء يُنفقون بقَدر قُدرَتِهم ، بخلافِ الأغنياء الذّين يوسِعون في الانفاق ، حيث يتمكنون مِنْ ذلك .

ص: 297


1- - سورة الطلاق : الآيات 6 - 7 .

فالمعنى : إنّ اللّه سبحانه لا يكلّف العبدَ إلاّ دفعَ ما اُعطِيَ من المال .

وإمّا أن يراد نفسُ فعل الشيء أو تركه ، بقرينة إيقاع التكليف عليه .

-------------------

( فالمعنى ) على هذا الاحتمال في الموصول هو ( : إنّ اللّه سُبحانَه لا يكلِّفُ العَبدَ إلاّ دفع ما أُعطي من المال ) وإنّما أوّله المصنّف بالدفع ، لأنّ « ما » الموصولة لاتكون متعلقاً بالحدث ، فالمعنى : لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ دفع مال ، لا انّه : لا يكلّف اللّه نفساً إلا مالاً ، فانّ المال ليس متعلق التكليف ، وإنّما متعلق التكلّيف عمل الانسان ، المتعلق بالمال .

وعلى كلّ : فهذا المعنى لا ربطَ لهُ بالبرائة ، إذ الكلام في دفع مقدار المال ، لا في ان الانسان إذا شك في تكليف مجهول يكون بريئاً عنه .

الثاني من محتملات « ما » الموصولة : ما أشار اليه بقوله : ( وإمّا أنْ يُراد ) من الموصول ( نفس فِعل الشيء أو تركه ) وإنمّا يُراد منه نفس فعل الشيء أو تركه ( بقرينة إيقاع التكليف عليه ) أي : على الموصول فانّه سبحانه قال : « لايكلّف اللّه ُ نفساً إلاّ ما ءاتاها » (1) ومن المعلوم : انّ التكليف يتعلق بالحَدث ولا يتعلق بالعين .

وعلى هذا : يكون الايتاء بمعناه الكنائي وهو : الاقدار ، لا بمعنى الاعطاء ، فالمعنى حينئذ : لا يكلّف اللّه نفساً الاّ ما أقدرها عليه من فعل أو ترك ، فانّ اللّه تعالى لا يكلّف الانسانَ بالطيران الى السماء بدون وسيلة ، كما لا يقول له : لا تكن في الحيّن ، فان مثل هذا الفعل والترك غير مقدور للإنسان

ص: 298


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

فاعطاؤه كناية عن الاقدار عليه ، فيدلّ على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطبرسيّ رحمه اللّه . وهذا المعنى أظهر وأشمل ، لأنّ الانفاق من الميسور داخل في ما آتاه اللّه .

وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ تركَ ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، وإلاّ لم ينازع في وقوع

-------------------

( فاعطاؤه ) إذن : ( كناية عن الاقدار عليه ) فيكون معنى الآية : لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ فعلاً أو تركاً أقدرها اللّه تعالى على ذلك الفعل أو الترك .

وعليه : ( فيدل ) ما ذكر من الآية المباركة ( على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطّبرسيّ رحمه اللّه ) في تفسير مجَمع البَيان .

( وهذا المَعنى أظهرُ ) عند المصنّف لأنّه بمنزلة كبرى كلية رَتَبَ عليها الصُغرى التي ذكرتها الآية في باب الانفاق على الزوجة .

( وأشمل ، لأنّ ) المعنى الأوّل وهو : ( الانفاق من ) المال على الزوجة ( الميسور ) عند الزوج ( داخل في ) المعنى الثاني أي : ( ما آتاهُ اللّه ) .

وإنّما كان المعنى الثاني أظهر ، لأنّه على الأوّل : لابدّ من تقدير المصدر كما مَر ، وعلى الثاني لا حاجة إليه ومن المعلوم : إن ما لا يحتاج إلى تقدير أظهر ممّا يحتاج إليه .

( وكيف كان ) فانه سواء قلنا : المعنى الثاني أظهر وأشمل ، أم قلنا : احتمال الآية للمعنيين المذكورين على حدٍ سواء ( فمن المعلوم أنّ ) الآية المباركة لا تدلّ على نفي التكليف المحتمل حيث استدل بها النَراقي على البرائة ، لانّ ( ترك ما يحتملُ التحريم ليس غير مقدور ) حتى تنفي الآية التكليف به .

( وإلاّ ) بأنْ كان الاجتناب عن مشكوك الحرمة غير مقدور ( لم ينازع في وقوع

ص: 299

التكليف به أحدٌ من المسلمين وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه .

نعم ، لو اُريد من الموصول نفسُ الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارةً عن الاعلام به ،

-------------------

التكليف به ) أي : بالاجتناب عن مشكوك الحرمة ( أحد من المسلمين ) لأنّ المسلمين متفقون على إنّ اللّه سبحانه وتعالى لايكلّف الانسان على غير المقدور ( وإن نازعت الاشاعرة في إمكانه ) أي : إمكان التكليف بغير المقدور ، فان الأشاعرة وان قالوا بذلك ، لكنّهم قالوا : إنّ التكليف بغير المقدور لم يقع من اللّه سبحانه وتعالى ، لوضوح : انّ الامكان شيء ، والوقوع شيء آخر .

أمّا أنّ الأشاعرة كيف ذهبوا إلى إمكان التكليف بغير المقدور فهو لأنهم لا يرون الحُسنَ والقُبح العقليّين ، واما عدم الامكان الذي يقول به الشيعة والمعتزلة فمستنده عدم إمكان تكليف الحكيم بما لا يمكن وقوعه في الخارج ، لأنه غير مقدور للمكلّف .

وثالث المعاني المحتملة في « ما » الموصولة : أنْ يُرادَ به الحكم والتكليف ، بمعنى إنّ اللّه لا يكلّف تكليفاً إلاّ إذا بيّن ذلك التكليف ، فتكون الآية حينئذٍ دليلاً على البرائة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

( نعم ، لو أُريد من الموصول ) في الآية المباركة ( : نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه ) أي : إيتاء ذلك الحكم والتكليف ( عبارة عن الاعلام به ) أي بذلك التكليف ، فيدل على نفي التكليف غير المعلوم ، ولعله بملاحظة هذا المعنى قال النَراقي : إنّ دلالة الآية على البرائة واضحّة .

وهنا معنى رابع في الآية ، لعله من حيث الاطلاق أقربُ إلى ظاهرها وهو : شمول الآية لكلّ ذلك فغير المقدور لا يكلف اللّه العبد به ، كما أن الحكم الذي

ص: 300

لكن إرادته بالخصوص ينافي مورد الآية ، وإرادةُ الأعمّ منه ومن المورد يستلزمُ إستعمال الموصول في معنيين ، إذ لا جامعَ بين تعلّق التكليف

-------------------

لم يبينه اللّه سبحانه وتعالى لا يكلّف العبد به ، فانّ إيتاء كل شيء بحسبه ، وهذا المعنى هو الذي يُشير اليه المصنّف أخيراً بقوله : « وإرادة الأعمّ منه ...» .

وعلى كل حال : فانّ المصنّف يعترض على المعنى الثالث ، ويقول : ( لكن إرادته بالخصوص ) أي حمل الموصول على التكليف فقط كما هو المعنى الثالث في كلام المصنفّ ( ينافي مورد الآية ) إذ مورد الآية إنفاق المال ، ومن المعلوم : إنّ الصغرى لا يمكن أن يكون إنفاق المال والكبرى الحكم والتكليف ، إذ هو حينئذٍ من قبيل أن يقال : إيّها الزوج أنت لا تكلف بانفاق المال الذي ليس في قدرتك ، لأنّه لا تكليف بالحكم الذي لم يبينه اللّه .

( و ) إنْ قلت : نستعمل الموصول في الأعمّ من التكليف ودفع المال .

قلت : ( إرادة الأعمّ منه ) أي : من التكليف ( ومن المورد ) الذي هو دفع المال ، بمعنى : حمل الموصول على التكليف وعلى دفع المال مَعاً ، ليكون معنى الآية : لا يكلِّفَ اللّه ُ نفساً إلاّ تكليفاً ، ودفع مالٍ ءاتاها ، فيكون المراد من اتيان التكليف : بيانه ، ومن إتيان المال : قدرة العبد عليه ( يستلزم إستعمال الموصول في معنيين ) وهو خلاف الظاهر ، إذ الظاهر من كلِّ لفظ معنى واحداً ، بل قال الآخوند : بإستحالة ذلك ، لكنّا نقّول بامكانه فإنْ كانت قرينة فَيها وَنعَمتْ ، وإلا كان الظاهر من كلّ لفظ معنى واحداً .

إنْ قلت : نأخذ بالجامع بين المعنيين .

قلتُ : لا يصح ذلك ( إذ لا جامع بين تعلّق التكليف ) وهو قوله سبحانه :

ص: 301

بنفس الحكم والفعل المحكوم عليه ، فافهم .

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام :

-------------------

« لا يُكَلِّفُ اللّه نَفساً » (1) ( بنفس الحكم ) بأن يكون المراد ب- « ما » الموصولة : التكليف ( والفعل المحكوم عليه ) بأن يكون الموصول بمعنى دفع المال أيضاً فانّه لا جامع بين المعنيين .

وحاصل المعنى الرابع ، الذي أشار اليه المصنّف : إن الموصول يُستعمل في معنى واحد كليّ لكن ذلك المعنى الواحد الكليّ شامل للتكليف ولدفع المال معاً ، فيُراد بالاتيان تارةً : « القدرةَ » ، وأخرى : « بيان التكليف » ، فيكون المعنى حينئذ : لا يكلّف اللّه تكليفاً إلاّ بيّنه ، ولا يكلّف اللّه مالاً إلاّ إذا مكّن المكلَّف من ذلك المال ، ومن المعلوم : انّ هذين المعنيين لا يمكن جمعهما في عنوانٍ واحدٍ ، إذ الموصول بمعنى التكليف مفعول مُطلق ، وبمعنى دفع المال مفعول به ، ولا يكون الشيء الواحد قابلاً لأن يكون مفعولاً مطلقاً ومفعولاً به .

( فافهم ) لعله إشارة الى ما ذكرناه : من إمكان جمعهما في المعنى الواحد ، إذ الجامع عطاء اللّه سبحانه وتعالى وعطائه قد يكون : بيان التكليف ، وقد يكون : منح المال ، فاذا بيّن التكليف اراد التكليف من العبد ، وإذا أعطى المال أراد المال من العبد ، كما إذا لم يبين التكليف لم يرده من العبد ، واذا لم يعط المال لم يرده من العبد ، فتكون الآية دليلاً على البرائة .

(نعم) ربمّا يؤيد المعنى الثالث ما ورد (في رواية عَبدِ الأعلى عن أبي عَبدِ اللّه عليه السلام

ص: 302


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

« قال : قُلتُ له : هَل كُلِّفَ النّاسُ بالمَعرفَةِ ؟ قالَ : لا ، عَلَى اللّه البَيانُ ، « لا يُكلِّفُ اللّه نَفسا إلاّ وُسعَها » ، و « لا يُكَلِّفُ اللّه نَفسا إلاّ ما ءاتاها » .

لكنّه لا ينفع في المطلب ، لأنّ نفس المعرفة باللّه غير مقدور قبل تعريف اللّه سبحانه ، فلا يحتاج دخولها إلى إرادة

-------------------

قَالَ : قُلتُ لَهُ : هَل كُلّفَ الناس بالمعرفة ؟ قال : لا ، على اللّه البَيانُ « لايُكَلِّفُ اللّهَ نَفساً اِلاَّ وُسعَهَا » ) (1) و ( « لايُكَلِّفُ اللّه نَفساً اِلاَّ ما ءاتَاها » (2) ) (3) . والمصنِّف أخذ المعرفة بمعنى معرفة اللّه سبحانه وتعالى ، فاستدلّ على إرادة المعنى الثالث بهذه الرواية ، حيث انّها نفت التكليف بالمعرفة من دون بيان ، وقد استشهد فيها عليه السلام بالآيتين ، فيعلم انّ المراد من الآية هو : المعنى الثالث ، أي : لا يكلّفُ اللّه نفساً إلاّ تكليفاً بيّنَهُ لها ، فتكون الآية دالةً على البرائة من دون البيان .

( لكّنه ) أي : ما وَرَدَ فِي الرواية ( لا ينفع في المطلب ) فلا يكون دليلاً على المعنى الثالث الذي نفيناه نحن وهو : نفي التكليف من دون بيان ، بل ظاهر الآية على رأي المصنّف يناسب كون الآية بالمعنى الثاني ، أي : نفي التكليف بغير المقدور .

وإنمّا الرواية تُناسب المعنى الثاني ( لأنّ نفس المعرفة باللّه غير مقدور قبل تعريف اللّه سبحانه ) فانّ الانسان لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى إلاّ بسبب الأنبياء والرُسل والأئمة عليهم السلام الذين هم من قبل اللّه تعالى ( فلا يحتاج دخولها ) أي : دخول المعرفة في الآية ( الى إرادة ) المعنى الثالث أي : إرادة التكليف

ص: 303


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة الطلاق : الآية 7 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص163 ح5 (بالمعنى) .

الاعلام من الايتاء في الآية .

وسيجيء زيادةُ توضيح لذلك في ذكر الدليل العقليّ إن شاء اللّه تعالى .

وممّا ذكرنا ،

-------------------

الذي يوصله اللّه سبحانه وتعالى الى عباده وذلك بارادة ( الاعلام من الايتاء في الآية ) .

وحاصل ما ذكره المصنّف ، هو : إن الامام عليه السلام نفى التكليف بمعرفة اللّه سبحانه وتعالى من دون بيان ، لأن المعرفة من دون البيان أمرٌ غير مقدور للإنسان ، واستَشهَد بالآيتين المباركتين لأنهما تنفيان التكليف بغير المقدور ، فالمعرفة بدون البيان أمرٌ غير مقدور .

لكن من المحتمل أن يراد بالمعرفة معرفة الامام عليه السلام ، فانّ معرفة الامام تَحتاج الى البيان بسبب نبي سابق أو إمام مُتقدِّم ، أو إعجاز ، فانّ الاعجاز بيانٌ عمليٌّ .

هذا ، ويَرِدُ على ما ذكره المصنّف : أنّ معرفة اللّه سبحانه وتعالى تَثبُتْ بالدليل العقليّ ، فالبيان يكون من المؤكدات ، لا إنّ المعرفة متوقفة على البيان - كما ذكره المصنّف - .

وكيف كان : فالرّواية تؤيد ما ذكرناه : من شمول الآية للعطائين : عطاء البيان وعطاء سائر الأشياء ، فانّ اللّه سبحانه وتعالى ما لم يعط شيئاً لا يكلف الانسان بذلك الشيء فالاستدلال بالآية على البرائة لا بأس به .

( وسيجيء زيادة توضيح لذلك ، في ذكر الدليل العقليّ إن شاء اللّه تعالى ) بتوفيقه وتأييده .

( وممّا ذكرنا ) : من استظهار كون الآية انمّا هي لنفي التكليف بغير المقدور ، وترك محتمل التحريم ليس بغير المقدور ، وانّ الآية ليست بصدد ذكر : ان عدم

ص: 304

يظهر حالُ التمسّك بقوله تعالى : « لا يُكلّفُ اللّه نَفسا إلاّ وسعَها » .

ومنها : قوله تعالى : « وما كنّا مُعَذِّبينَ حتّى نَبعَثَ رَسُولاً » .

بناءا على أنّ بعثَ الرسول كنايةٌ عن بيان التكليف ،

-------------------

البيان من اللّه ، يوجب عدم التكليف ( يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : « لا يُكلِّفُ اللّه ُ نَفساً إلاّ وسعَهَا » (1) فانّ هذه الآية أيضاً كالآية السابقة دليلُ على نفي التكليف بغير المقدور ، لا نفي التكليف عمّا لم يبينه اللّه سبحانه .

أقول : لكنّك قد عَرِفتَ : إنّ الآية ظاهرة في الأعمّ ، فانّ غير المقدور لا سعةَ للمكلَّف عليه ، كما إنّ غير المبيّن لا سعَةَ للمكلَّف عليه أيضاً ، فتكون الآية دليلاً على نفي التكليف بغير المقدور ، كما تكون دليلاً على نفي التكليف بما لم يبيّنه سبحانه ، فتكون الآية دليلاً على البرائة .

( ومنها ) أي : من الآيات التي استدلّ بها على البرائة ( : قوله تعالى « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً » ) (2) . بتقريب : دلالة الآية على عدم العذاب بدون البيان وهو : معنى البَرائة ، وقد ذكر المصنّف لدلالة الآية المباركة على البرائة وجوهاً ثلاثة :

أولها ما ذكره بقوله : ( بناءاً على إنّ بعث الرّسول كناية عن ) مطلق ( بيان التكليف ) فبعث الرسول سبب من الأسباب لا انّه السبب المنحصر ، اذ عصيان الناس رسولهم سببٌ آخر لا ستحقاقهم العذاب ، فيكون معنى الآية المباركة : إنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يُعذب حتى يُبيّن للناس بسبب الرسول تكاليفهم ، فاذا عصى الناس رسولَهُم إستحقوا بسبب عصيانهم العذاب فعذبهم .

ص: 305


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

لأنّه يكون به غالبا ، كما في قولك : « لا أبرحُ من هذا المكان حتّى يُؤذّنُ المؤَذّن » ، كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان النقليّ .

-------------------

وانّما جعل بعث الرسول كنايةً عن بيان التكليف ( لأنّه ) أي : لأن البيان ( يكون به ) أي : بالرسول ( غالباً ) .

أما الالقاء في القلب بحيث يعلم الانسان إنّه أمر اللّه سبحانه وتعالى ألهمه إياه ، كما في قصة أم موسى حيث يقول تعالى : « وأوحينا الى أم موسى ... » (1) أو ما أشبه ذلك فهو نادرٌ ، فالآية أريدَ بها السبب العام وانمّا ذكر السبب الخاص لغبة هذا السبب .

إذن : فهو ( كما في قولك لا أبرح من هذا المكان حتّى يؤذّنُ المُؤذّن ) فانّه لا يُراد به : أذان المؤذن بشخصه وانمّا هو ( كناية عن دخول الوقت ) سواء أذّن المؤذّن أم لم يؤذّن ، وانّما علّق على الأذان لغلبة وقوع الأذان عند دخول الوقت .

وهكذا لو قال : إني لا أفطر يوم الصيام حتى يظهر السواد ، يريد : دخول المغرب ، إذ ليس المعيار السواد بما هُوَ هُوَ ، فربمّا يُسودّ الافق بسبب سُحاب ، أو رِياح سوداء ، أو ما أشبه ذلك .

ثانيهما ما ذكرهُ بقوله : ( أو ) انّ بعث الرسول ( عبارة عن البيان النقلي ) أي : ما كنّا مُعذّبِينَ حَتى نُبيّن بياناً نقلياً ، فالبيان العقلي وإن كان حجّة لان العقل حجّة ، لكن لا يسبب مخالفته العقاب .

إنْ قلتَ : إن دلّ المستقل العقلي على الحرمة كان فيه أيضاً العقاب ، ولذا يصحُّ عقاب المولى عبدَهُ إذا وقعَ وَلدُ المَولى في البئر ولم ينقذهُ حتى مات ، أو إحترقت

ص: 306


1- - سورة القصص : الآية 7 .

ويُخصّص العمومُ بغير المستقلاّت أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب

-------------------

داره ولم يطفيء الحريق مع امكانه على الأمرين حتى وانْ لم يكن المولى أمره بالانقاذ والاطفاء ، وعذر العبد بأنّ المولى لم يأمره بذلك ، غير مفيد عند العقلاء في رفع العقاب عنهُ .

والحاصل : انه يلزم تحصيل غرض المولى ، سواء عَلِمَ العَبدُ غرضَهُ بالقول أو بالعقل .

قُلت : ( ويُخصص العموم ) في قوله تعالى : « وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتى نَبعَثَ رسولاً » (1) ( بغير المستقلات ) العقلية فيكون معنى الآية : انّ اللّه تعالى لا يعذب إلاّ بعد البيان النقلي من الرسول ، إلاّ في المستقلات العقليّة ، فانّه يعذب على مخالفتها أيضاً وإن لم يكن فيها بيان نقليّ من الرسول ، فيكون حاصل الآية : توقف العقاب على أحد أمرين : أمّا على بيان العقل المستقل ، أو بيان النقل من الرسول ، أما غير المستقلات العقليّة ، كالاجتناب عن التتن ، أو الالتزام بالدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - فالآية تدل على البرائة فيها : فيشملها عموم قوله تعالى : « وما كنا مُعَذِّبين » لان اللّه سبحانه وتعالى لم يبيّن - مثلاً - حكم التتن ولا حكم الدعاء وقت الهلال ، كما ان العقل - مستقلاً - لا يُلزم الاجتناب عن التتن ولا الالتزام بالدعاء عند الهلال ، لان الاجتناب عن التتن والالتزام بالدعاء ليس من المستقلات العقليّة .

وثالثهما : ما ذكره بقوله : ( أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب ،

ص: 307


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

إلاّ مع اللّطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناءا على أنّ منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ،

-------------------

إلاّ مع اللطّف بتأييد العقل بالنقل ) فالعقل والنقل وإنْ كان كلّ واحد منهما حجّة مستقلة - كما دل على ذلك الأدلة العقليّة والنقليّة - ، إلاّ انّ من عادة اللّه سبحانه وتعالى أنْ لا يُعاقب إلاّ بعد تأييد العقل بالنقل ، فالبيان النقلي بمجرده كافٍ في فعلية العقاب ، أمّا البيان العقليّ فبمجرده غير كافٍ فيها .

بل إنّ مقتضى الرحمة هو : العفو عن المخالفات العقلية ، إلاّ بعد إرسال الرسول وتأييد العقل بالنقل ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : « وَإذا أرَدنَا أنْ نُّهلِكَ قَريَةً ، أَمَرنَا مُترَفيهَا فَفَسَقُوا فيهَا ، فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدميراً » (1) .

بمعنى : إنّهم يخالفون الأوامر العقلية ، لكنّ اللّه لا يعذبهم بمجرد ذلك ، بل يبعث إليهم الرسل ويأمرهم بالأوامر ، فاذا خالفوا الأوامر عذبهم ، فيكون فَرق بين الموالي العرفية والمولى الحقيقي ، الموالي العرفية يعاقبون بمخالفة الغرض الذي دلّ عليه العقل ، أمّا المولى الحقيقي فلا يعاقب إلاّ بمخالفة البيان .

وعلى أي حال : فالعقاب من المولى الحقيقي غير موجود على مخالفة الاوامر العقلية ( وإن حسن الذّم ) عليها فالبيان العقلي بمجرده يكفي في فعلية الذم لا في العقاب وذلك ( بناءاً على إنّ منع اللطف ) وعدم تأكيد العقل بالنقل ( يوجب قبح العقاب دونَ ) فعلية ( الذّم ) .

وعليه : فالعقاب غير موجود وانْ كان الذّم موجوداً ، مثل نية السوء حيث

ص: 308


1- - سورة الاسراء : الآية 16 .

كما صرّح به البعض ، وعلى أي تقدير فيدلّ على نفيِ العقابَ قبل البَيان .

وفيه : أنّ ظاهره الاخبارُ بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيويّ الواقع في الاُمم السابقة .

-------------------

لا عِقابَ عليها وإن كان ناوي السوء مستحقاً له ( كما صرّح بهِ البَعض ) .

ولعلّ هذا المعنى الثالث هو الظاهر من الآية المؤيد بسائر الآيات والرّوايات .

( وعلى أي تقدير ) من التقادير الثلاثة التي ذكرناها في تفسير الآية المباركة ( ف- ) انّه ( يدلّ ) قوله تعالى : « وَما كُنّا مُعَذِّبينَ » (1) ( على نفي العقابَ قبلَ البَيان ) فيكون دليلاً على البرائة .

ثم إنّ المصنّف أشكل على دلالة الآية على البرائة بقوله : ( وفيه : انّ ظاهره الاخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ) أي : انّ الاُمم السابقة الذين عذبناهم في الحياة الدنيا بالغرق ، ورَمي الحِجارة ، وما أشبه ، إنّما عذبناهم بَعدَ البيان ( فيختص ) قوله تعالى في الآية المباركة ( بالعذاب الدّنيوي الواقع في الاُمم السابقة ) .

وعليه : فلا ربط للآية بنفي العقاب عن التكليف المحتمل ، الذي لم يبيّنه سبحانه فلا تكون الآية دليلاً على البرائة .

لكن ما ذكره المصنّف خلاف ظاهر الآية المباركة ، فانّ ظاهرها : انّ عدم التعذيب بدون البيان من عادة اللّه سبحانه وتعالى ، فانّه لا يعذب عبداً إلا بَعدَ البيان ، فلا فرق بين الاُمم السابقة واللاحقة ، كما لا فرق بين عذاب الدنيا ، كالحدود ، والتعزيرات ، ونحوها ، وعذاب الآخرة .

ص: 309


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ثمّ إنّه ربما يوردُ التناقضُ على مَنْ جمع بين التمسّك بالآية في المقام وبين ردّ من استدلّ بها ، لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمُّ من نفي الاستحقاق ،

-------------------

( ثمّ إنّه ربمّا يُورد التناقض ) والمُورِدْ هُو المحقّق القميّ رحمه اللّه ( على مَنْ ) والمراد منه هو الفاضل التوني الذي ( جمع بين التمسك بالآية في المقام ) حيث تمسك بالآية دليلاً على البرائة ( وبين ردّ من استدل بها ) أي : بالآية المباركة من الأشاعرة حيث انّهم استدلوا بالآية المباركة ( لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ) .

وكان رد الفاضل التوني على الأشاعرة : ( بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ) فالآية تدلّ على عدم فعلية التعذيب ، لا إنّها تدل على نفي الاستحقاق .

توضيح المقام إنّ المشهور هو التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، ولهذا اشتهر بينهم : « كلَّما حَكَمَ بهِ العَقل حَكَمَ بهِ الشَرع » ، لأنّ الشارع سيد العقلاء .

كما اشتهر بينهم أيضاً : « كُلّما حَكَمَ بهِ الشرع حَكَمَ بهِ العَقل » لأنّ العقل يعلم إنّ الشارع لا يقول إلاّ عن واقعية وحقيقة ، بحيث لو أدرك العقل الواقعيات والحقائق لحكم بها أيضاً .

ولا يراد : إنّ صلاة الصبح - مثلاً - جهراً لا اخفاتاً ممّا يحكم به العقل إبتداءاً ،بل يُراد : انه لو أدرك العقل حقيقة ذلك وسائر الواقعيات ، لحكم بها كما حكم بها الشارع ، فالانسان بالنسبة للواقعيات كالأعمى والشارع بصير ، فاذا قال الشارع - مثلاً - : إنّ هناك أسدٌ رابضٌ يتربص لافتراسِكَ ، حكمَ العقلُ أيضاً بصِحة ما قاله الشارع ، لأنّه يعلم انّه لو أبصر وَرأى لكانَ يشاهد الأسد كما يُشاهدهُ الشارع .

ص: 310

...

-------------------

والأشاعرة أنكروا هذا التلازم وقالوا : بأنّ الآية تدلّ على عدم التلازم ، لانّ الآية تقول : إنّ العقاب مبنيٌّ على بعث الرسول ، فلو خالف الانسان العقل ولم يأت رسول ، لا يعذب اللّه ُ المخالفَ بحكم عقله ، فلو كان تلازم بين العقل والشرع كان اللازم العقاب بحكم الشرع أيضاً لأنّ العقل يرى العقاب فيمن يخالف عقله فاللازم أن يكون الشرع أيضاً يرى العقاب في ذلك ، بينما يقول اللّه سبحانه وتعالى : انّ العقاب منحصر بالشرع وبَعدَ بعث الرسول .

ثم انّ الفاضل التُوني والوَحيد البَهبَهاني رحمهما اللّه ، قالا : إنّ الآيةَ تدلُ على البرائة ولا تدلُ على كلام الأشاعرة أي : لا تدل على نفي التلازم .

اما إنّ الآية تدل على البرائة ، فَلِمَا تقدّم .

واما انها لا تدلّ على عدم التلازم ، فلأن الآية تنفي فعلية العقاب ، لا إنّها تنفي استحقاق العقاب ، والتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع انمّا هو في الشأنية والاستحقاق ، فمِنَ الممكن أن يكون الشارع أيضاً يرى للمخالف استحقاق العقاب كالعقل ، لكن برأفته ولطفه لا يعاقبه إلا بعد البيان .

فتحصل من ذلك : إنّ الفاضل التُوني والمحقّق البهبهاني قالا : بأنّ الآية تدلّ على البرائة ، وقالا : انّ استدلال الأشاعرة بها على نفي الملازمة فاسدٌ .

لكن المحقّق القميّ أشكل عليهما وقال : بأنّ ذلك يُوجب التناقض ، وذلك لأنّا نسأل : هل الآية الدالة على نفيالعذاب الفعلي تدل على عدم التكليف الشرعي أو لا تدل ؟ فان قلتم : تدل ، قلنا : فالآية تدل على عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، لأن العقل دلّ على العقاب والشرع دلّ على عدمه .

وإن قلتم : إن الآية تدلّ على نفي فعلية العذاب ، ولا تدلّ على عدم التكليف

ص: 311

فانّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني ، وإن لم يدلّ فلا وجه للأوّل .

ويمكن دفعُه : بأنّ عدمَ الفعليّة يكفي في هذا المقام ، لأنّ الخصمَ

-------------------

الشرعي قلنا : فالآية لا تدل على البرائة ونفي التكليف الشرعي .

وعلى هذا : فلا يمكن للفاضل التوني ، ولا للمحقق البهبهاني أن يقولا بفساد كلام الأشاعرة وبدلالة الآية على البرائة ، فانّ ذلك يستلزم التناقض كما قال : ( فانّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعاً فلا وجه للثاني ) أي الملازمة بين الحكم الشرعي والعقلي .

( وان لم يدل ) الاخبار في الآية على نفي التكليف والاستحقاق ، بل على مجرد نفي الفعلية للعذاب مع السكوت عن الاستحقاق وعدمه عند وجود البيان العقلي ( فلا وَجهَ للأوّل ) أي للاستدلال بالآية على البرائة .

( ويُمكن دفعه ) أي : دفع التناقض الذي أورده المحقّق القميّ على الفاضل التُوني والوَحيد البهبهاني ، بما ذكرهُ الفصول ممّا حاصله : انّ الأخباري يقول : بفعلية العقاب ، والآية تقول : بعدم الفعلية ، فتدل الآية على البرائة ، وهذا لا ينافي ترتب العقاب عليه مع ان اللّه يَعفوُ عنه ، فالملازمة موجودة بين حكم العقل وحكم الشرع ومع ذلك نقول بالبرائة .

والحاصل : إنّ العقل يدّل على العقاب ، والشرع يدّل عليه أيضاً للملازمة ، ولكنْ مع ذلك نجري البرائة لأنّه ثبت إنّ اللّه سبحانه وتعالى يَعفُو عن مثل هذا الذَنب فلا يُعاقِبَ عليه .

وذلك ( ب- ) سبب ( أنّ عَدم الفعليّة يكفي في هذا المَقام ) أي : مَقام البرائة ، فكلّما لم يكنْ العقاب فعلياً كان المحكم : البرائة ( لأنّ الخصمَ ) وهو الأخباري

ص: 312

يدّعي أنّ في إرتكاب الشبهة الوقوعَ في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم ، كما هو مقتضى رواية خبر التثليث ونحوها التي هي عمدة أدلّتهم ،

-------------------

( يدّعي انّ في ارتكاب الشبهة ، الوقوع في العقاب والهلاك فعلاً ) أي : يدّعي الفعلية للوقوع في العقاب ( من حيث لايعلم ) فانّ مرتكب الشبهة وهو لايعلم بارتكابه الحرام يقع في العقاب .

( كما هو مقتضى رواية خبر التثليث ) حيث قال عليه السلام : « حَلالٌ بَيّنٌ ، وَحَرامٌ بَيّنٌ ، وَشُبَهاتٌ بَينَ ذلِكَ ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبهات نَجا مِنَ المُحرَماتْ ، وَمَن أخَذَ بالشُبهات وَقَع فِي المُحرَماتْ ، وَهَلَكَ مِنْ حَيثُ لا يَعلَم » (1) .

أقول : وإنّما كان الهلاك من حيث لايعلم ، لأنّه لايعلم بالحرام قطعاً ، إذ المفروض إنّه شبهة وهو جاهل بالحرمة ، ولذا إذا وقع في الحرام وقع في العقاب وهو لايعلم انّه قد ارتكب الحرام .

ولا يخفى : انّ تسمية المصنّف الأخباري بالخصم ليس إسائة ، لأنّ المناقشة في شيء ، يُطلق عليها المخاصمة ، فإنّ المخاصمة بمعنى المباحثة والمناقشة ، ولذا نسبها اللّه سبحانه وتعالى الى الملائكة حيث قال : « َمَا كانَ لِيَ مِنْ عِلمٍ بالمَلإ الأَعلى إذ يَختَصِمُون » (2) .

( ونحوها ) أي : نحو رواية التثليث ( التي هي عمدة أدلتهم ) فانّ عمدة أدلة الأخباريين القائلين بالحرمة في الشبهات الحكميّة التحريميّة ، هي هذه الروايات .

ص: 313


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، غوالي اللئالي : ج4 ص133 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - سورة ص : الآية 69 .

ويعترفُ بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعليّة ، بخلاف مقام التكلّم في الملازمة ، فإنّ المقصودَ فيهِ إثباتُ الحكم الشرعيّ في مورد حكم العقل ، وعدم ترتّب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته ،

-------------------

هذا ( ويعترف ) الأخباري مع ذلك ( : بعدم المقتضي للاستحقاق ، على تقدير عدم الفعليّة ) للعقاب ، فانّ الأخباري كالاُصولي معترف : بأنّه لو انتفت فعليّة العقاب في الشبهات التحريميّة ، انتفى الاستحقاق أيضاً ، إلاّ انّ الاصولي يدّعي انتفاء الفعلية بمقتضى الآية المباركة وسائر الأدلة ، والأخباري يدّعي ثبوت الفعليّة بمقتضى الأدلة التي ذكرها .

وعلى هذا : ( فيكفي في ) البرائة التي يقول بها الاصوليون ، و ( عدم الاستحقاق ) للعقاب ( نفي الفعليّة ) للعقاب المستفاد ذلك النفي من الآية المباركة .

( بخلاف مقام التكّلم في ) الحُسن والقُبح العقليين ، وان العقاب لمن أرشده عقله الى القبيح هل هو قبيح أو ليس بقبيح ؟ و ( الملازمة ) بين حكم العقل وحكم الشرع الذي هو مورد البحث مع الأشعري في هذا المقام ( فانّ المقصودَ فيهِ : إثباتَ الحكم الشّرعي في مورد حكم العقل ) أي انّ المقصود هنا : إثباتُ الملازمة بين الشرع والعقل ممّا ينكره الاشاعرة ويثبته العدلية .

ومن المعلوم : انّ الآية لا تدلّ على عدم الملازمة ، لأن الآية لاتدل على انّ الاستحقاق موقوف على بيان الشرع ولايكفي فيه حكم العقل ، وانّما الآية تدلّ على انّ فعليّة العقاب موقوفة على بيان الشرع ( وعدم ترتّب العقاب ) الفعلي ( على مخالفته ) أي : مخالفة العقل ( لاينافي ثبوته ) أي : ثبوت الحكم الشرعي ،

ص: 314

كما في الظِهار ، حيث قيل إنّه محرّمٌ معفوٌّ عنه .

وكما في العزم على المعصية على احتمال .

-------------------

لوضوح : انّه لامنافات بين الاستحقاق وعدم الفعليّة ، فربما يستحق الانسان العقاب ، لكن لاتقع الفعلية .

نعم ، كلّما كان هناك فعلية كان استحقاق أيضاً ، لعدم معقوليّة ان يعاقب اللّه سبحانه وتعالى إنساناً لايستحق العقاب .

( كما في الظِهار حيث قيل : انّه محرمٌ معفوٌّ عنه ) .

أما كونه محرماً : فلقوله سبحانه وتعالى : « وإنّهُم لَيَقُولُونَ مُنكرَا مِنَ القَولِ وَزُورا » (1) ، ومن الواضح : إنّ القولَ المنكر والزُور حرامٌ .

وامّا أنّه معفو عنه فلأن اللّه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك : « وإنّ اللّه َ لَعَفُوٌ غَفُور ».

فان قلت : فما فائدة كونه حراماً مع إنّه عقاب عليه ؟ .

قلت : أكثر المتديّنين يأنفون عن أن يأتوا بشيء يسبّب غضبَ اللّه ِ سُبحانه وتعالى ويحقّق عدم رضاه حتى وإن علموا أنّه لا عقاب عليه ، ففائدة كونه حراماً : انّ أكثر المتدينيين لا يرتكبونه ، بينما إذا لم يكن حراماً كانوا يرتكبونه .

( وكما في العزم على المعصية على احتمال ) فانّ مَنْ عزمَ على المعصية ولم يأتِ بها فيه احتمالات :

الأوّل : انّه حرامٌ معفوٌ عنه .

الثاني : انّه حرامٌ ومعاقبٌ عليه .

الثالث : انّه ليس بحرام ولايستحق العقاب عليه .

ص: 315


1- - سورة المجادلة : الآية 2 .

نعم ، لو فُرِضَ هناك أيضا إجماعٌ على أنّه لو إنتفت الفعليّة إنتفى الاستحقاق ، كما يظهر من بعض ما فرعّوا على تلك المسألة جاز التمسّكُ به هناك .

-------------------

ثم إنّا حيث قلنا : انّ الآية لا تدّل على ما إدّعاه الاشاعرة : من عدم الملازمة بين الفعلية وبين عدم الاستحقاق - وإنّما قلنا لاتدّل : إذ من الممكن الملازمة بين الفعلية وبين العقاب لكن اللّه سبحانه لايعاقب من باب العفو ، كالظهار ونحوه - استثنى المصنّف مورداً من ذلك بقوله :

( نعم ) فانّه ( لو فرض هناك ) في مقام التكلم في الملازمة ( أيضاً إجماع ) من علماء الكلام ، كما كان إجماع من الاُصوليين والأخباريين على التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ، أي ( على انّه لو انتفت الفعليّة إنتفى الاستحقاق ، كما يظهر من بعض مافرّعوا على تلك المسألة ) أي : مسألة حجيّة العقل ( جاز ) لمنكر الملازمة ( التمسك به ) أي : بقوله تعالى : « وما كُنّا مُعذبينَ ... »(1) ( هناك ) في مسألة عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع .

وامّا ما فرعوا على تلك المسألة فهو : حصول الثواب والعقاب ، وبقاء العدالة وزوالها - مثلاً- على موافقة حكم العقل ومخالفته ، فاذا وافق الانسان عقله أثيب وإذا خالف عوقب ، كما تقدّم في مثال العبد الذي يرى سقوط ولد المولى في البئر فانقذه فانّه مثاب ، أو لم ينقذه فانّه معاقب ، وكذا إذا وافق عقله بقي على عدالته ، وإذا خالف زالت عدالته - مثلاً- وما أشبه ذلك .

فانّ ظاهر هذه الثمرات هو : إنّ نزاعهم في ملازمة حكم العقل والشرع

ص: 316


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

والانصاف : أنّ الآية لا دلالةَ فيها على المطلب في المقامين .

ومنها : قوله تعالى : « وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوما بَعدَ إذ هَداهُم حَتَّى يُبيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ » ،

-------------------

في مرحلة الفعلية ، بحيث لو إنتفت الملازمة في هذه المرحلة انتفت في مرحلة الاستحقاق أيضاً ، يعني : إنّه إذا لم تكن ملازمة في مرحلة الفعليّة ، لم تكن ملازمة في مرحلة الاستحقاق .

( والانصاف ) عند المؤلف ( : انّ الآية لا دلالة فيها على المطلب في المقامين ) أي : لا دلالة فيها على البرائة كما لا دلالة فيها على نفي الملازمة ، وذلك لما تقدّم : من انّ الآية إخبارٌ عن العذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة ، فلا ربط لها بالبرائة عن التكليف المحتمل ، كما لا ربط لها بنفي الملازمة .

لكن الظاهر عندنا : إنّ الآية تدل على البرائة - كما عرفت - وانّها تدل ايضاً على نفي العقاب بدون بعث الرسول لطفاً ، ومع ذلك لاينافي ان تكون هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فانّه حيث يحكم العقل يحكم الشرع فيلزم منه العقاب بمخالفة حكم العقل أوّلاً وبالذات ، لكنّ اللّه تعالى أسقط العقاب من جهة اللّطف ثانياً وبالعرض .

(ومنها) أي : من الآيات التي تدّل على البرائة ( قوله تعالى: « وَما كَانَ اللّه ُ لِيُضِلَّ قَوماً بَعدَ إذ هَداهُم حَتّى يُبَيّنَ لَهُمُ مَا يَتَّقُونَ ... » ) (1) ولايخفى : انّ معنى إضلال اللّه سبحانه وتعالى هو : انّه يترك الناس وشأنهم حتى يضلوا ، فهو من قبيل أفسد الوالد ولده فيما إذا تركه وشأنه حتى فسد ، أو أفسدت الحكومة شعبها فيما إذا

ص: 317


1- - سورة التوبة : الآية 115 .

أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتّروك .

وظاهرُها أنّه تعالى لا يخذلهُم بعد هدايتهم إلى الاسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم .

-------------------

تركتهم وشأنهم حتى فسدوا .

وعليه : فيكون معنى الآية المباركة : انّه سبحانه إذا هدى الناس الى الاسلام بيّنَ ما عليهم من الأحكام الشرعية من الواجبات والمحرّمات ، فاذا تركوها وعصوها تركهم اللّه تعالى وشأنهم ، وترك اللّه لهم هو معنى إضلالهم ، فهذه الآية مثل قوله سبحانه : « نَسُوا اللّه َ ، فأنساهُم أنفسهم » (1) .

إذن : فمعنى : يبيّن لهم مايتقون ( أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتّروك ) وقد قالوا في وجه نزول هذه الآية : انّه مات قومٌ من المسلمين قبل نزول الفرائض ، فقيل : يا رسول اللّه ما منزلة هؤلاء ؟ فنزلت الآية .

وأما وجه دلالة الآية على البرائة فهو : انّه سبحانه يهدي الناس ويبيّن لهم أحكامهم ، فاذا لم يبيّن لهم حكماً من الاحكام بعد أن هداهم كان عدم بيانه ذلك دليلاً على عدم الحكم ، فاذا رأينا عدم البيان في مورد : كشرب التتن ، كان دليلاً على عدم الحكم فلا حرمة لشرب التتن ، كما انّه لاوجوب لدعاء رؤية الهلال لأنّه لم يبيّن وجوبه .

( وظاهرها ) أي : ظاهر الآية ( : انّه تعالى لايخذلهم ) ولا يتركهم وشأنهم ( بعد هدايتهم إلى الاسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم ) الوظائف الشرعية من الواجبات والمحرمات .

ص: 318


1- - سورة الحشر : الآية 19 .

وعن الكافي وتفسير العياشيّ وكتاب التوحيد : « حتّى يُعرّفهم ما يُرضيه وما يُسخطُه » .

وفيه : ما تقدّم في الآية السابقة ، مع أنّ دلالتها أضعفُ من حيث انّ توقّف الخذلان على البيان غيرُ ظاهر الاستلزام للمطلب ،

-------------------

( و ) يؤيد هذا المعنى ما ( عن الكافي ، وتفسير العيّاشي ، وكتاب التوحيد ) في تفسير الآية المباركة : ( حتى يعرّفهم ما يُرضيه وما يُسخِطُه ) (1) فتكون للآية دلالة على البرائة في كل مقام لم يبيّن اللّه سبحانه وتعالى الأحكام .

( وفيه : ما تقدّم في الآية السّابقة ) : من انّها إخبار عن العقاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة بعد اتمام الحجّة عليهم .

أقول : لكنّك قد عرفت : ظهور الآية هذه كالآية السابقة في البرائة ، واختصاصها بالعقاب الدنيوي - كما ذكره المصنّف - خلاف ظاهر الآية .

( مع انّ دلالتها ) أي : دلالة هذه الآية ( أضعف ) من الآية السابقة ( من حيث انّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب ) والمطلب هو إنتفاء العقاب عند إنتفاء البيان .

والحاصل : إنّ الآية تدلّ على إنتفاء الخذلان عند إنتفاء البيان ، ولا تدل على عدم العقاب الاخروي عند انتفاء البيان الذي هو مهمة القائل بالبرائة ، فانّ القائل بالبرائة يقول : حيث لا بيان لا عقاب اخروي ، فشرب التتن حيث لم يبيّن اللّه حرمته لاعقاب فيه ، وعدم الدعاء عند رؤية الهلال حيث لم يبيّن اللّه وجوبه

ص: 319


1- - الكافي اصول : ج1 ص163 ح3 ، التوحيد : ص411 و ص414 ، تفسير العياشي : ج2 ص115 ح150 ، المحاسن : ص276 ح389 .

اللّهمّ إلاّ بالفحوى .

ومنها : قوله تعالى: «لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيّنَة وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيّنَة» .

وفي دلالتها تأمّل ظاهر .

-------------------

لا عقاب في الآخرة على تركه .

( اللّهم إلاّ بالفحوى ) بأن يقال : إذا توقف الخذلان وسلب التوفيق على البيان - حسب الآية الكريمة - فالعقاب الاُخروي على التكليف أيضاً يتوقف على البيان بطريق أولى ، لأن عقاب الدّنيا الذي هو أخف إذا توقف على البيان ، فعقاب الآخرة الذي هو أشد يتوقف على البيان قطعاً .

وعليه : فسواء قلنا بالفحوى أو لم نقل به ، فدلالة الآية على مهمة القائل بالبرائة وافيةٌ .

( ومنها ) أي : من الآيات التي إستدلّ بها على البرائة ( : قوله تعالى : « لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ، وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيّنَة » (1) ) وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : انّ الحياة المعنوية في الدنيا والآخرة يمنحها اللّه سبحانه وتعالى بعد البيان ، والموت المعنوي والهلاك في الدنيا والآخرة إنّما يكون بعد البيان ، فلا هلاك في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد البيان ، وحيث لم يبيّن اللّه سبحانه وتعالى حرمة التتن - مثلاً - أو وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فلا يعاقب بالهلاك في الدنيا ولا في الآخرة من شرب التتن ، أو ترك الدعاء عند رؤية الهلال .

وعلى ما ذكرنا : فدلالة الآية على البرائة ظاهرة ، لكن المصنّف قال : ( وفي دلالتها : تأمّل ظاهر ) .

ص: 320


1- - سورة الانفال : الآية 42 .

ويرد على الكلّ انّ غايةَ مدلولها عدمُ المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ،

-------------------

قال في الأوثق : « ولعلّ وجه تأمل المصنّف في دلالتها هو : كون المراد بالبينة هي : المعجزات الباهرة للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فالمقصود من الآية : بيان علّة ما وقع منه تعالى من نصرة المسلمين ، لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها ، كما يشهد به ماقبلها من قوله سبحانه :

« إِذ أنتم بالعدوَة الدنيا وَهُم بالعَدوَةِ القُصوى والرّكبُ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلَو تَواعَدتُم لاختَلَفتُم فِي المِيعادِ ، وَلكن لِيَقضي اللّه ُ أَمراً كَانَ مَفعُولاً ، لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَينَةٍ ...» (1) »(2) .

أقول : لكن وجه النزول مورد ، والمورد لايخصّص ، بل من عادة القرآن الحكيم كثيراً كما شاهدنا : انّه يذكر علّة عامة لشيء خاص ، فدلالة الآية على البرائة ظاهرة .

ثم انّ المصنّف بعد إيراده على دلالة الآيات المذكورات ، أشكل على جميعها باشكال واحد جامع للكل حيث قال : ( ويرد على الكلّ : ) انّها لاتقاوم أدلة الاحتياط حتى على فرض دلالتها .

وانّما لاتقاوم أدلة الاحتياط لأن هذه الآيات على فرض دلالتها تدل على انّه لا عقاب إذ لا بيان ، والحال انّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجود البيان كما قال ( إنّ غاية مدلولها ) أي : مدلول الآيات المذكورات ، هو ( : عدم المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده ) أي : وجود النهي ( واقعاً ) .

ص: 321


1- - سورة الانفال : الآية 42 .
2- - أوثق الوسائل : ص258 أصالة البرائة .

فلا يُنافي ورودَ الدليل العامّ على وجوب إجتناب ما يحتمل التحريم .

ومعلومٌ انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلاّ عن دليل علميّ .

وهذه الآياتُ بَعدَ تسليمُ دلالتَها غيرُ معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى .

-------------------

إذن : فالآيات المباركة تدل على إنتفاء المؤاخذة على التكليف الوجوبي أو التحريمي من دون بيان ( فلا يُنافي ورود ) البيان من الشارع بسبب أدلة الاحتياط بمعنى : وجود ( الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التّحريم ) من أدلة الاحتياط .

( ومعلوم : انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب ) وهو الاخباري ( لايقول به ) أي : بوجوب الاجتناب ( إلاّ عن دليل علمي ) إن لم يكن علماً ، والدليل العلمي هو : أخبار الاحتياط ( وهذه الآيات بَعدَ تسليم دلالتَها غير معارضة لذلك الدليل ) الدال على الاحتياط .

( بل هي ) أي : هذه الآيات ( من قبيل الأصل بالنسبة اليه ) أي : الى الدليل ، وكما إنّ الأصل يرتفع بالدليل كذلك هذه الآيات لا موضوع لها بعد ورود أدلة الاحتياط ، فانّ موضوع الآيات الدالة على البرائة هو عدم البيان ، وأخبار الاحتياط تدلّ على وجود البيان ، فلا موضوع للآيات بعد أَخبار الاحتياط ( كما لايخفى ) .

لكنْ يَرِدُ على ذلك ما يلي :

أوّلاً : النقض بالشبهات الموضوعية والشبهات الوجوبية ، مع انّ الأخباريين لايقولون بوجوب الاحتياط فيهما .

ثانياً : الحَل بأنّ أخبار الاحتياط ظاهرةٌ في الاستحباب ، مثل قوله عليه السلام : « أَخُوكَ

ص: 322

ومنها : قوله تعالى ، مخاطبا لنبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مُلقِّنا إيّاهُ طريقَ الرَدّ على اليهود ، حيث حَرّموا بعضَ ما رزقهم اللّه تعالى إفتراءا عليه : « قُل لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّما عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلاّ أن يَكُونَ مَيتةً أو دَما مَسفُوحا ».

-------------------

دِينُكَ فَاحتَط لِدينكَ بِما شِئتَ » (1) وغيره ممّا هو ظاهر في ندبية الاحتياط لا وجوبه ، وبقرينة سياق سائر أَخبار الاحتياط لهذه الأخبار ، تحمل سائر أَخبار الاحتياط على الاستحباب أيضاً ، فلا دليل وارد على الآيات حتى يقال : انّ الاحتياط بيان .

وبهذا البيان يرفع اليد عن ظاهر الروايات الدالة على الاحتياط ، الى غير ذلك ممّا ذكرناه في مباحث الاصول .

( ومنها ) أي : من الآيات الدالة على البرائة ( قوله تعالى مخاطباً لنبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم مُلقِّناً إيّاه ) ومعلّماً له صلى اللّه عليه و آله وسلم ( طريق الرّد على اليهود حيث حرّموا بعض مارزقهم اللّه تعالى ) ، فانّ اليهود قالوا : انّ بعض الطيبات محرمة عليهم ، وكان هذا التحريم من اليهود ( إفتراءاً عليه ) تعالى ، فانّه تعالى علَّمَ الرسول كيف يَردُ على اليهود بقوله :

( « قل ) يامحمّد لليهود وغير اليهود ( : لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ ، إلاّ أنْ يَكُون مِيتَةً ، أو دَماً مَسفُوحاً . . . » (2) ) الى آخر الآية ، وحيث إنّ الآية ، المباركة في مقام ردّ اليهود ، لا في مقام حصر المحرّمات في المذكورات حصراً

ص: 323


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
2- - سورة الأنعام : الآية 145 .

فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى اللّه إليه . وعدمُ وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ذلك فيما اُوحِيَ إليه وإن كان دليلاً قطعيّا على عدم الوجود إلاّ أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة .

-------------------

حقيقياً ، فلا يقال : إنّ هذه الآية تدلّ على عدم تحريم مالم يذكر في القرآن الحكيم ، فانّ الحصر الاضافي إنّما يكون بالنسبة لا بالاطلاق ، كما قرّر ذلك في علم العربية والبلاغة .

وكيف كان : ( ف- ) انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بتعليم اللّه سبحانه وتعالى ( أبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرمات الّتي أوحى اللّه اليه ) فدلّت هذه الآية المباركة على عدم وجوب الاجتناب عمّا لم يوجد على حرمته دليل ، وحيث لم يدلّ على حرمة التتن ، أو حرمة ترك الدعاء عند رؤية الهلال دليل ، فالتتن ليس بحرام ، وكذلك ترك الدعاء ليس بحرام .

( و ) إنْ قُلت : فرق بين عدم وجداننا ، لأن عدم وجداننا ناشيء عن الجهل بالواقعيات ، وبين عدم وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لأنّ عدم وجدانه ناشيء عن العلم بالواقعيات ، فاذا لم يكن مالم يجده الرسول حراماً ، لايكون ذلك دليلاً على عدم حرمة مالم نجده نحن حراماً .

قلت : ( عدم وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ذلك فيما أوحِيَ إليه وإنْ كان دليلاً قطعيّاً على عدم الوجود ، إلاّ إنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة ) فانّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إني « لا أَجدُ » فليس بحرام ، ولم يقل : انّه ليس في الواقع فليس بحرام .

إذن : فقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم دليل على إنّ كل عدم وجدان بعد الفحص ، يوجب

ص: 324

لكنّ الانصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان إشارة الى المطلب .

وأمّا الدلالة فلا ، ولذا قال في الوافية : « وفي الآية إشعارٌ بأنّ اباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع » .

مع أنّه لو سلّم دلالتها ،

-------------------

عدم التكليف بالحرمة ، فانّ في العدول عن التعبير ب « ليس » الى التعبير ب « عدم الوجود » ، دلالةٌ على كفاية مجرّد عدم الوجدان في عدم التكليف بالحرمة .

( لكنّ ) المصنّف لم يَرتض دلالة الآية على البرائة ، لأنّه ردّ الدلالة بقوله : و ( الانصاف : انّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التّعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان اشارة الى المطلب ) الذي قلناه : من إنّ عدم الوجدان يدلّ على عدم الوجود إذا كان بعد الفحص وليس صراحة في المطلب .

( وأمّا الدّلالة ) الصريحة في الآية المباركة على انّ عدم الوجدان دليل على عدم الوجود ( فلا ، ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم دلالة الآية صراحة وانّما فيه مجرّد إشارة ، لا يمكن الاستناد اليها .

( قال في الوافية ) ما لفظه : ( وفي الآية ) مجرّد ( إشعارٌ بأنّ إباحة الاشياء ) التي لا دليل على حرمتها ( مركوزةٌ في العقل قبل الشّرع ) ففي الوافية جعل الآية مشعرة لا دليلاً ، ومن الواضح : انّه لايمكن إستناد الاصولي الى الاشعار في إدعائه البرائة .

( مع إنّه لو سلم دلالتها ) أي : دلالة الآية في نفسها فهي لاتنفعنا ، للفرق بين عدم وجدان الرّسول وعدم وجداننا ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم يعلم بعدم إختفاء حكم عليه ممّا أوحى اللّه تعالى اليه ، فعدم وجدان الرسول دليل البرائة ، لعدم الصدور منه تعالى ، وليس بالنسبة الينا كذلك ، فنحن نعلم بأنّه كانت أحكام في الشريعة

ص: 325

فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن اللّه تعالى من الأحكام يوجبُ عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام اللّه تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا وسيأتي توضيحُ ذلك عند الاستدلال بالإجماع العمليّ على هذا المطلب .

-------------------

خفيت علينا من جهة التقية ، أو من جهة إحراق الظالمين كتب الشيعة وقتل رواتهم ومحدّثيهم ممّا سبّب فقدنا لكثير من الأحاديث ، فعدم وجداننا ليس دليل البرائة وعدم التحريم ، فكيف يمكن قياس عدم وجداننا بعدم وجدان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ ، والى هذا أشار بقوله : ( فغاية مدلولها : كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن اللّه تعالى من الأحكام ، يوجب عدم التحريم ) بالنسبة الى الرسول ( لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام اللّه تعالى ) بالنسبة الينا ( بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا ) فلا يقاس عدم وجدان الرسول بعدم وجداننا .

لكن يمكن الجواب عن إشكال المصنّف نقضاً وحَلاً :

أمّا نقضاً : فلأنّه لو اُشكل على البرائة وعدم الاحتياط : باختفاء كثير من الاحكام ، لاشكل على عدم الاحتياط في كل الأحكام ، لاحتمالنا وجود شرائط وأجزاء للصلاة ، والصيام ، والحجّ ، والمعاملات ، وغيرها لم تصل إلينا ، فيجب علينا الاحتياط إذن في كل أَمر محتمل ، وهذا مالايقول به أحد .

وأمّا حَلاً : فلأن الأحكام المختفية لانعلم إنّها كانت من قبيل الواجبات والمحرمات .

وعليه : فالآية باقية على دلالتها من البرائة ، حتى نعلم بأنّ كل الذي اختفى علينا كان في الواجبات والمحرمات ، والمفروض عدم علمنا بذلك .

( وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالاجماع العملي على هذا المطلب )

ص: 326

ومنها : قوله تعالى : « وَمالَكُم أَنْ لا تأكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّهِ عَليهِ وَقَد فَصَّلَ لكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم » .

يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يَجتَنبُونَهُ .

ولعلّ هذه الآية أظهرُ من سابقَتِها ، لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز الحكمُ بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما

-------------------

أي : على البرائة إنشاء اللّه تعالى .

( ومنها ) أي من الآيات التي استدل بها على البرائة ( قوله تعالى : « وَمَالَكم ) والخطاب للمسلمين ( ألاَّ تأكُلُوا مِمّا ) ذبح ذبحاً شرعيّاً ، وحين الذبح ( ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عَليهِ ، وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم ؟ » (1)) فانّ المشركين واليهود كانوا يحرِّمون بعض أقسام الذبائح ، والمسلمون في أول عهدهم بالاسلام كانوا يتجنبون عن تلك المحرّمات التي كانت عند اليهود والمشركين لاعتمادِهم على التحريم قبل إسلامهم ، فَوَبّخهم اللّه ُ سبحانه وتعالى على ذلك ، وبيّن لهم المحرّمات ليكون أكل ماعدا ذلك حلالاً لهم .

وعليه : فالمحرّم ما فصّلته الآية ( يعني : مع خلوّ ما فصّل ، عن ذكرِ هذا الّذي يَجتَنِبُونَهُ ) لا وجهَ لاجتنابهم وعدم أَكلهِم منه ومن سائر المطعومات ، فتدلّ الآية على انّ كل شيء لم يبيّن حرمته يكون حَلالاً، وَمَنْ يُحرِّمهُ يكون مستحقاً للتَوبيخ .

( ولَعَلّ هذه الآية أظهرُ من سابقَتِها ) أي : من قوله سبحانه ، « قُلْ لا أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحرَّماً عَلى طاعِم يَطعمه ...» (2) وَوَجهُ الأَظهرية ما ذكرهُ المصنّف بقوله :

( لأنّ السّابقة دلّت على انّه لايجوز الحكم بحرمةِ مالم يوجد تحريمه فيما

ص: 327


1- - سورة الأنعام : الآية 119 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .

أوحى اللّه سبحانه إلى النبيّ ، صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وهذه تدل على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فُصِّل وإن لم يحكم بحرمته فيبطلُ وجوب الاحتياط أيضا ، إلاّ أنّ دلالتها موهونةٌ من جهةٍ أُخرى ، وهي أنّ ظاهرَ الموصول العمومُ ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

-------------------

أَوحى اللّه سبحانه إلى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فالآية السابقة كانت تدلّ على حرمةِ التشريع ، بينما هذه الآية تدلّ على حرمة الاجتناب .

مثلاً : الآية السابقة تقول : لا تقولوا التُتن حرام ( وهذه ) الآية تقول : لاتترك التتن بل إشربه ، فالآية هذه ( تدلّ على انّه لايجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجودهِ فيما فُصِّلَ ) حرمته في الشريعة ( وإن لم يحكم ) التارك ( بحرمته ) .

وعليه : فالآية السابقة تدلّ على حرمةِ التَشريع كما صنعه اليَهود ، وَهذهِ الآية تدلّ على حرمة مُطلق التزام الترك ، سواء كان الترك بعنوان الاحتياط ، كما صنَعَه جمع ، أو بعنوان التَشريع ، كما صنعه اليهود ( فيبطلُ وجوب الاحتياط أيضاً ) لأنّ الاحتياط حينئذٍ منهيٌّ عنه .

( إلاّ انّ دلالتها ) أي : الآية المباركة ( موهونةٌ من جهة أُخرى وهي : انّ ظاهر الموصول : العموم ) فان « ما » في قوله سبحانه : « وَقَدْ فَصَلَ لَكُم ما حرِّم عَليكُم » (1) ظاهرٌ في العموم أي : فصّل اللّه سبحانه وتعالى للمسلمين جميع المحرّمات .

( فالتّوبيخ ) منه سبحانه إنّما هو ( على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

ص: 328


1- - سورة الانعام : الآية 119 .

المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها .

ولا ريبَ أنّ اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه .

والانصافُ : ما ذكرنا ، من أنّ الآيات المذكورة لا تنهضُ على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يُعلم خصوصا أو عموما بالعقل

-------------------

المحرّمات الواقعية ، وعدم كون المتروك منها ) أي : ممّا فصّل فانّ الذبيحة الشرعية ليست من تلك المحرمات التي فصّلها اللّه سبحانه وتعالى .

( ولا ريبَ انّ اللازم من ذلك ) أي : من تفصيل جميع المحرمات وعدم كون الذبيحة المتروكة من تلك المحرمات ( العلم بعدم كون المتروك محرّماً واقعيّاً ) لأنّا إذا عَلمنا بكلِ المحرّمات ، ورأينا إنّ الذبيحة المتروكة ليست من تلك المحرّمات ، علمنا بأن الذبيحة ليست من المحرمات وحينئذٍ (فالتوبيخ في محلّه) بخلاف ما إذا لم نعلم المحرمات تفصيلاً ، كما هو حالنا بعد عدم علمنا بكل الأحكام ، لاختفائها من جهةِ تقية ، أو إحراق الكُتب ، أو قتل الرّواة - كما تقدّم - .

لكنّك قد عَرفتَ الجواب عن ذلك كلّه في الآية السابقة ، فلا حاجة الى تكراره .

اما المصنّف فقد قال : ( والانصاف ما ذكرنا : من انّ الآيات المذكورة لا تنهضُ على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأن غايةَ مدلول الدّال منها ) أي : من هذه الآيات ( هو : عدمُ التّكليف فيما لم يُعلم خصوصاً ) تكليفاً بالحرمةِ : كحرمةِ التتن ، أو تكليفاً بالوجوب : كوجوب الدُعاءِ عِند رؤيةِ الهِلالِ .

( أو عموماً ب- ) سبب ( العقل ) مثل : دلالة العقل على وجوب دفع ضرر العقاب

ص: 329

أو النّقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد .

وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبَهُ بزعم قيام الدّليل العقليّ أو النقليّ على وجوبه ، فاللازم على منكره رَدّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه .

وأمّا الآيات المذكورة ، فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهضُ بذلك ،

-------------------

المحتمل ( أو النّقل ) مثل : دلالة الأخبار على وجوب الاجتناب عن الشُبهةِ .

( وهذا ) أي : البرائة عند عدم البيان خصوصاً أو عموماً ( ممّا لا نزاع فيه لأحد ) سواء الاُصولي أو الأخباري ، فانّ الكل مُتَفِقُونَ على أنّه ما دام لم يكن بيانٌ عموماً ولا خصوصاً ، فانّه يكون مجرى البرائة .

( وإنّما أَوجِبَ الاحتياط من أوجبَهُ ) من الأخباريين ( بزعم قيام الدّليل ) العام ( العقلي ) وهو : وجوب دفع الضَرر المُحتمل ( أو النَقليّ ) وهو : أدلة الوقوف عند الشُبهة ونحوها ( على وجوبه ) أي : على وجوب الاحتياط .

إذن : ( فاللازم على منكره ) أي : منكر الاحتياط وهم الاصوليون ( رَدّ ذلك الدّليل ) بأن يثبتوا انّه لا دليل عقلي ولا نقلي في مقام الشبهة .

( أو معارضته ) أي : معارضة ذلك الدليل ( بما يدلّ على الرّخصة ، وعدم وجوب الاحتياط فيما لانصّ فيه ) حتى يتعارض دليل الأخباري مع دليل الاصولي فيتساقطان ويرجع الى الأصل العقلي السليم عن المعارض ، أو يكون دليل الاصولي أقوى فيكون مقدّماً على دليل الأخباري ، فيُحمل دليل الأخباري على الاستحباب .

( وأمّا الآيات المذكورة ) دليلاً للاُصوليين على ما تقدّم بيانها ( فهي كبعض الأخبار الآتية ) للاُصوليين ( لاتنهضُ بذلك ) أي : لاتتمكن من إبطال أدلة

ص: 330

ضرورة أنّه لو فرض أنّه وَرَدَ بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة .

وأمّا السنّة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة

منها : المرويُّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بسند صحيح في الخِصال ، كما عن

-------------------

الاخباريين أو معارضة أدلتهم .

( ضرورة انّه لو فرض : انّه وَرَدَ بطريق معتبر في نفسهِ ) من حيث : السند ، والدلالة ، وجهة الصدور ، على ( انّه يجب الاحتياط في كلِ مايحتمل أن يكون قد حكم الشّارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة ) لأنّ الآيات المذكورة تدلّ على ان بدون البيان لا حكم بالالزام ، والدليل المذكور يكون بياناً ، ومن المعلوم : انّ البيان يزيل موضوع عدم البيان .

أقول : لكنّك قد عرفت دلالة الآيات بما يسقط دليل الأخباري عن كونه بياناً ، فيلزم حَمله على الاستحباب ، أو نحو ذلك .

وعلى أي حال : فهذا تَمامُ الكلام في الآيات التي استدّل بها الاصوليون على عَدمِ وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية والشبهةِ الوجوبية .

( وأمّا السّنة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة ) إستدلوا بها على البرائة في الشبهة الوجوبية ، أو الشبهة التحريمية .

( منها : المرويّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بسند صحيح في الخصالِ ، كما عن التوحيد : رُفِعَ عَنْ أُمتي تِسعةٌ : الخَطأ ، وَالنِّسيان ، وَما أستُكرِهُوا عَليهِ ، وَمَا

ص: 331

التوحيد : « رُفِعَ عَن أمّتي تِسعةُ : الخطأ ، والنِّسيان ، وما استُكرِهُوا عَلَيهِ ، وما لا يَعلَمُونَ ، وما لا يُطيقُونَ ، وما إضطرُّوا إلَيهِ ...» ، الخبر .

-------------------

لايَعْلَمُونَ ، وَمَا لايُطيقُونَ ، وَمَا إضطرّوا إليهِ ، الخبر ) (1) وتتمته : وَالحَسد ، وَالطَيَرَةِ ، وَالتَفَكُرِ فِي الوَسوَسةِ فِي الخَلقِ مَا لَم ينطُق بِشفَةٍ .

فالخطأ : أن يشتَبهَ الشخص في قولِ أَراد أَن يقوله ، مثل ما لو قال : اللّهم لاتَغفر لي ، مكان اللّهم إغفر لي ، أَو في عملٍ : كَأَنْ إشتبهَ فَوطأ زوجَتَهُ في حالِ الحَيضِ

زاعماً انّها طاهرة .

والنسيان : واضح ، لكنّهم إختلفُوا في انّه هل يشمل النسيان الذي حصل من التسامح أم لا ؟ كما اذا تسامح في الأمر فنسي ، بحيث لو لم يكن يتسامح لم ينس .

وما لايُطيقون : امّا انّه لايتمكنون إطلاقاً ، فمعنى رفعه حينئذٍ رفع آثاره : من القَضاء ، والاعادة ، والكفارَة ، ونحو ذلك ، أو يَصعُب عليهم صعوبة بالغةً .

وما اضطُروُا إليه : هو ما إذا خافَ التَلفَ من الجوع - مثلاً - انْ لم يأكل لحم الخنزير ، أو الموت من العطش إنْ لم يشرب الخمر - مثلاً - ولا يخفى : ان « اضطُرَ » يقرء بصيغة المجهول ، وذلك على خلاف قاعدة باب الافتعال - لأنّه متعدٍ - لذا قال سبحانه في القرآن الحكيم : « ثمَّ نَضْطرُّهُم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ » (2) .

والطيرةُ : هو العَمَلُ حَسبَ طيران الطير أو تحرك غير الطير من الحيوانات الاخرى ، كما كان في الجاهلية حيث اذا أراد السفر ورأى طيراً يطير نحو الشمال ،

ص: 332


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ، تحف العقول : ص50 .
2- - سورة لقمان : الآية 24 .

...

-------------------

أو كلباً يعوي ، أو نحو ذلك ، ترك السفر ، فانّ العمل بهذا محرمٌ شرعاً ، وقال الشاعر في الطيرة :

لعمرك ما تَدري الطَوارق بالحَصى *** وَلا زاجِرات الطَير ما اللّه فاعِلُ .

وقال يزيد لَعَنَهُ اللّه مُتَطَيّراً من صياح الغُراب عِندَ وُرود أهل البيت عليهم السلام الى الشام :

لَمّا بَدت تِلكَ الرؤوس وأشرَقَت *** تلكَ الشموس على رُبى جَيرون

نَعبَ الغُراب فَقُلتُ صِح أو لاتَصِح *** فَلَقد قَضيتُ مِنَ النبيّ دِيوني(1) .

فانّه تطيّر بصوت الغُراب ودلالته على زوالِ ملكه .

والحسد : هو ان يحسد الانسان انساناً على مالٍ ، أو جاهٍ ، أو أولادٍ ، أو نحو ذلك ، ويظهرُ حسدهُ بقولٍ أو فعلٍ مثل : التنقيص أو الاستهزاء بالمحسود ، أو التآمر عليه ، ولذا قال سبحانه : « وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حَسَدَ » (2) أي : اذا أظهر حَسَدَهُ .

والتفكر في الوسوسة في الخلق : بأن يفكّر الانسان في انّه مَن خَلَقَ اللّه سبحانه

وتعالى - مثلاً - وما أشبه ذلك .

لكن هذه الثلاثة الأخيرة لاتكون محرّمة إذا لم يُظهِرها الانسان بيد ولا لسانٍ ، فإذا أظهرَها بيدٍ أو لسانٍ كان ذلكَ حراماً .

ثم انّه حيث نسب الرفع الى الأشياء المذكورة لم يَرد من الرَفع : رفعُ ذواتها ، بل رَفعُ جميع الآثار : من القضاء ، والاعادة ، والكَفارة ، والحَدِّ ، والتعزير ، وعقوبةِ

ص: 333


1- - بحار الانوار : ج45 ص199 ب39 ح40 .
2- - سورة الفلق : الآية 5 .

...

-------------------

الآخرة ، وعدم قبول الشهادةِ حيث قال سبحانه : « وَلا تَقبَلُوا لَهُم شَهادةً أبَداً » (1) .

الى غير ذلك من الاحكام الوضعية والتكليفيّة ، في الشُبهات الموضوعيّة والحكميّة ، واثبات الوضع بعد هذا الحديث يحتاج الى دليل ، كما انّ ما ذكر غير هذا في تفسير الحديث فهو خلاف ُ الظاهر .

وإنّما قال : « رُفِعَ » لأنّ تلك الأحكام كانت في الاُمم السابقة وإنّما رفعت عن اُمّةِ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من جهةِ أقربيةِ البشر الى الكَمال في زمانهِ ، فانّ البشر كلّما كان أقرب الى الكمال خَفّ تأديبه ، كالطفل اللجوج والطفل المتعارف ، حيث انّ تأديب الأول أشدُ .

ثمَّ انَّ الرفعَ والوضعَ كلاهُما يقالُ لاسقاط التكليف :

فالأوّل : بإعتبار صعودهِ وعدم بقائهِ في ذمة المكلَّف .

والثاني : بإعتبار سقوطهِ وعدم إستقراره في ذمةِ المكلَّف .

وعليه : فالنتيجة واحدةٌ ، ولذا قال سبحانه : « يَضَعُ عَنْهُمُ إِصَرهُم والأَغلال الَّتي كَانَتْ عَلَيهم » (2) .

ولعلّ الفرقُ بينَهُما إذا إجتَمَعا : إنّ الوضع يدلّ على أثقليّة الشيء الموضوع ، من الرفع الدال على أخفيّته .

وربَّما يُقال : الرَفعُ ، باعتبار عظمةِ المرفوع ، ولذا قالوا : رَفَعَ فلانٌ الأذان ، مكان قولهم : أذّن .

وكيف كان : فوجه الاستدلال بهذا الحديث للبرائةِ : ما ذكره المصنّف بقوله :

ص: 334


1- - سورة النور : الآية 4 .
2- - سورة الاعراف : الآية 157 .

فانّ حرمة شرب التتن ، مثلاً ، ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ والنّسيان ، رفعُ آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو كقوله عليه السلام : « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُمْ » .

-------------------

( فانّ حرمة شرب التتن - مثلاً - ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ) وكذلك وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ممّا لا يعلمون ، فهو مرفوع عنهم .

( ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ ، والنّسيان : رفع آثارها ، أو : خصوص المؤاخذة ) لكنّك عرفت : انّ اللازم رَفعُ جميع الآثار ، لأنَّ إطلاق المطلق يُوجب شموله لكلِّ الأفراد ، لا لبعض الأفراد دون بعض ، فكأنّ المصالح والمفاسد الواقعيّة الكامنةُ في الأحكام الشرعيّة ، كانت مقتضية لايجاب التحفظ ، الموجب لتنَجزُ التكليف : قضاءاً ، واعادة ، وغير ذلك ، فلم يوجبه سبحانهَ مِنَّةً على هذه الاُمة .

( فهو ) أي : الرَفعِ ( كقوله عليه السلام : مَا حَجَبَ اللّهُ عِلمهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضُوعٌ عَنَهُم ) (1) بمعنى : انَّ كلّ حكم لم يَأمر اللّهُ أوليائه بتبليغهِ إلى العباد وبقي مَحجُوباً عَنهمُ ، لم يكن لَهُ أثرٌ عَليهم .

لا يقال: إذا لم يأمر اللّهُ سبحانهُ وتَعالى بذلك الحكم، فما فائدةُ تسميتهِ حُكماً؟.

لانه يُقال : المراد بالحكم : الاقتضاء ، لا الفعليّة ، ففي التتن - مثلاً - إقتضاء الحرمة ، لكن حيث ابتلى هذا الاقتضاء بأمر أهم ، كالتَسهيل - مثلاً - حَجَبَهُ اللّهُ عن العباد ، فلم يردْهُ مَنهم ، ولم يوصل الاقتضاء الى الفعليّة .

وعلى أي حال : فان ممّا تقدَّم يَظهر : وجه النظر في كثير من هذه المناقشات

ص: 335


1- - التوحيد ص413 ح9 ، الكافي ( اصول ) : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ويمكنُ أن يُورد عليه : بأنّ الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون ، بقرينة أخواتها ، هو الموضوعُ ، أعني فعلَ المكلَّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شربُ الخمر او شربُ الخَلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ،

-------------------

التي وَرَدَت في المتن ، لكنّا نذكرها لمجرد الشرح .

قال المصنّف : ( ويمكن أن يُورد عَليهِ : بأنَّ ) الاستدلال برواية الرَفع على البَرائة في الشبهةِ الحُكميّة ، وجوبيّةً كانت أو تحريميّةً ، موقوفٌ على كون المُراد بالموصول من قوله عليه السلام : « رُفع ما لا يعلمون » (1) هو : الحكم غير المعلوم ، أو الأعم من الحكم ومن الموضوع ، اي : رُفِعَ الموضوع المجهول ، ورُفِعَ الحكم المجهول ، وليس كذلك ، إذ المراد بما لا يعلمون : الموضوع فقط ، فلا يشمل الحكم المجهول .

وعليه : فلا يدل الحديث على الرفع في الشبهةِ الحكميّة ، وذلك لوجهين :

أولهما : ما ذكره المصنّف بقوله : ( الظّاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة أخواتها ) مثل : ما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ( هو : الموضوع ، أعني : فعل المكلَّف غير المعلوم ) عنوانه ، والفعل غير المعلوم عنوانه ( كالفعل الّذي لا يعلم : انّه شربُ الخمر أو شربُ الخلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ) كالمرأة التي لايعرف انّها في الحيض أو ليست في الحيض ، أو انّها اخته من الرضاعة ، أو ليست أخته من الرضاعة ؟ .

كما انّ المراد بما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون : هو الفعل

ص: 336


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : 417 ، تحف العقول : ص50 ، الاختصاص : ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فلا يشمل الحكمَ الغيرَ المعلوم ،

-------------------

الذي اضطر اليه ، أو اكره عليه ، أو خرج عن طاقته .

إذن : ( فلا يشمل ) الحديث ( الحكم غير المعلوم ) الذي هو محل البحث في المقام ، حيث انّ الكلامُ في الشبهة الحكميّة ، اذ الأخباري يقول : بحرمةِ شرب التتن ، والاصولي يقول : بجوازه ، فشرب التتن موضوع معلوم ، وانّما حكمه غير معلوم ، بينما الحديث يدل على انّ الموضوع غير المعلوم مرفوع بقرينة سياقه مع الفقرات الاُخرى .

ثانيهما : انّ التقدير في الحديث : رفع المؤاخذة لكذا وَكذا من الأشياء التسعة ، ومن المعلوم : انَّ المؤاخذة تتعلق بفعل ما اكره ، او ما لا يطيق ، أو ما أشبه ذلك ، يعني : انَّ الفعل المكره عليه كشرب الخمر لا مؤاخذة عليه ، ووحدة السياق في تمام الفقرات في الرواية تقتضي أن يكون ما لا يعلمون كذلك ، أي : فعل مالا يعلمون لا مؤاخذة عليه ، فاذا لم يعلم انّ زوجته في الحيض - مثلاً - ووطأها ، فانّ هذا الفعل لا مؤاخذة عليه .

إذن : فما لا يعلمون خاص بالشبهة الموضوعيّة ، إذ لو شملَ الشبهةَ الموضوعيّة والشبهة الحكميّة لم يكن سياق الفقرات واحداً ، بل كان في فقرة : « ما لا يعلمون » يشمل الموضوع والحكم معاً بينما في سائر الفقرات يشمل الموضوع فقط ومن المعلوم : انّ عدم وحدة السياق خلاف الظاهر ، ولا يصار اليه إلاّ بالقرينة ، ولا قرينة في المقام حتى يفرّق بين السياق فيجعل « مالا يعلمون » يعم الشبهةَ الموضوعيّة والحكميّة ، ويكون سائر الفقرات خاصاً بالشبهةِ الموضوعيّة .

وعلى هذا : فالحديث لا يدلُّ على البرائةِ في الشبهةِ الحكميّة كما يذكرهُ الاصولي وينكرهُ الأخباري .

ص: 337

مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ، لأنّ المقدّر المؤاخذةُ على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة .

نعم ، هي من آثارها ، فلو جُعِلَ المقدّرُ في كلّ من هذه

-------------------

والى هذا الثاني أشار المصنّف بقوله : ( مع انَّ تقدير المؤاخذة في الرّواية لا يلائم عمومَ الموصول للموضوع والحكم ) بل يلائم إرادة الموضوع فقط ( لأنَّ المقدّر : المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ) في هذا الحديث ( ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة ) فانّ المؤاخذة تقع على فعل العبد لا على حكم الشارع .

( نعم ، هي ) اي : المؤاخذة ( من آثارها ) اي : من آثار الحرمة .

لكنّكَ قد عرفت : انّه لا وجه لتقدير المؤاخذة ، بل اللازم كل الآثار ، ولذلك فانّ هذا الاشكال غير وارد .

والى هنا ذكر المصنّف إحتمالين :

الأوّل : رفع جميع الآثار .

الثاني : رفع خصوص المؤاخذة .

وهناك إحتمالٌ ثالثٌ في الحديث : وهو رفعُ الأَثر الظاهر من كل واحد من الفقرات المذكورة في الرواية على حدة .

وجه هذا الاحتمال : هو الانصراف ، فهو مثل ما اذا قيل : « زيدٌ أسدٌ » ، حيث ينصرف الى انَّ لزيد اظهر آثار الأسد وهو الشجاعة ، لا العرف ، والشَعَر ، والأظفار الطويلة ، والمشي على أربع ، وما اشبه ذلك .

والى هذا الثالث ، أشار المصنّف بقوله : ( فلو جعل المقدر في كلّ من هذه

ص: 338

التسعة ما هو المناسبُ من أثره ، أمكنَ أن يقال : أثر حرمة شرب التتن - مثلاً - المؤاخذة على فعله فهي مرفوعة .

لكنّ الظاهر ، بناءا على تقدير المؤاخذة ، نسبةُ المؤاخذة إلى نفس المذكورات .

والحاصلُ : أنّ المقدَّر في الرواية ، باعتبار دلالة الاقتضاء ،

-------------------

التسعة ) الواردة في الرواية ( ماهو المناسب من أثره ) لا كل الآثار ، ولا المؤاخذة ( أمكن أن ) يُحمَل الموصول في « مالا يعلمون » على الحكم غير المعلوم أيضاً .

ف- ( يقال : أثر ) رفع سائر الفقرات في الرواية : هو المؤاخذة عليها بنفسها ، فأثر مالا يطيقون : انّه لايؤاخذ عليه بنفسه على حده ، وهكذا بقية الفقرات ، وأثر ( حرمة شرب التتن - مثلاً- المؤاخذة على فعله ) أي فعل الشرب نفسه ( فهي مرفوعة ) فيكون الحديث على هذا شاملاً للشبهة الحكمية « فيما لايعلمون » .

( لكن الظاهر ) انّ المرفوع : المؤاخذة ، و ( بناءاً على تقدير المؤاخذة ) فقط ، لا كل الآثار ، هو : ( نسبة المؤاخذة الى نفس المذكورات ) كلها ، لا المناسب لكل فقرة فقرة ، وقد عرفت : انّه على هذا التقدير يكون المرفوع في« ما لايعلمون » الموضوع ، مثل : انّه لم يعلم هل شربه هذا شرب ماء أو شرب خمر ؟ ولا يشمل رفع الحكم مثل : انه لايعلم هل انّ التتن حرامٌ أو حلال ؟ .

( والحاصل : إنّ المقدَّر في الرّواية باعتبارِ دلالةِ الاقتضاء ) وهي كما ذكرها البلاغيون : عبارةً عن انّه إذا لم يكن الكلام صحيحاً أو صادقاً حَسَبَ ظاهره ، لابّد وأن يقدّر فيه شيء يناسِبه صحةً وصدقاً ، كما في قوله تعالى : « وَجَآءَ رَبُكَ » (1)

ص: 339


1- - سورة الفجر : الآية 22 .

...

-------------------

حيث لم يكن الكلام صادقاً بظاهره لأنّ الربّ لايجيئ ، قدّروا : وجاء أَمرُ رَبِكَ .

وفي قوله سبحانه حكاية : « وَاسأَلِ القَرْيَةَ » (1) حيث لم يكن سؤال القرية صحيحاً ، إذ القرية لاتكون مورد السؤال والجواب قدّروا : واسأَل أهل القرية .

ولا يخفى : إنّ البلاغييّن والاُصولييّن أضافوا دلالتين أُخرييّن إلى دلالة الاقتضاء ، وربّما سميّ الجميع بدلالة الاقتضاء :

الاُولى : دلالة التنبيه ، وذلك فيما إذا اقترن بالكلام ما يُفيدُ دلالته - مثلاً- قالوا : « جَاءَ أعرابيّ إلى الرسولِ صلى اللّه عليه و آله وسلم وقال : هَلَكتُ وَأَهْلَكْتُ ، واقعتُ أهلي في نهار رَمضان ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم له : كَفِّرْ» (2) فان تقارن كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لكلام الأعرابي، يدل على انّ المراد ب « كفّر » : الكفارة لمن واقع أهله في شهر رمضان ، وإلاّ فكلام الرسّول صلى اللّه عليه و آله وسلم مطلق .

الثانية : دلالة الاشارة كما في الجَمع بين قوله تعالى : « وَالوالِداتُ يرضِعْنَ أَولادَهُنَّ حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ »(3) وقوله سبحانه : « وَحَملُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً » (4) فإنّ الجمعَ بينَ هاتين الآيتين يدلُ على إنّ أقل الحمل سِتَةَ أشهر ، ولذا ذَهبَ المشهور اليه .

وكيف كان : فحيث لايمكن أنْ نقول في حديث الرفع : بأنّ المراد هو ظاهر الرواية ، لأن هذه الأمور من الخطأ والنسيان وغير ذلك ليست مرفوعة في الامة ، فانهم يخطأون ، ولا يعلمون ، ويضطرون ، ولا يطيقون ، وما أشبه ذلك ، فاللازم

ص: 340


1- - سورة يوسف : الآية 82 .
2- - وسائل الشيعة : ج10 ص46 ب8 ح12793 بالمعنى .
3- - البقرة : 233 .
4- - سورة الاحقاف : الآية 15 .

يحتمل أن يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقربُ إعتبارا إلى المعنى الحقيقيّ ، وأن يكون في كلّ واحد منها ما هو الأثر الظاهر فيه ،

-------------------

أنْ نقدِّرَ شيئاً لدلالة الاقتضاء ، والشيء المقدر أحدُ أُمور ثلاثة :

أولاً : ( يحتمل أنْ يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ) بأنْ يكون كل الآثار لهذه الامور مرفوعة ( وهو الأَقرب اعتباراً ) أي : في إعتبار العقلاء ( إلى المعنى الحقيقي ) فانّه إذا لم يمكن ارادة رفع نفس المذكورات - كما هو ظاهر اللّفظ - فلابّد أنْ يراد به الأقربَ إلى المعنى الحقيقي ، وهو : رفع كلّ الآثار ، لوضوح : انّ مالا أَثرَ لَهُ بمنزلة المعدوم .

مثلاً قوله عليه السلام : « يَا أَشْباهَ الرِّجالِ وَلا رِجال » (1) ، فانّهم حيث كانوا رِجالاً لابّد وأن يكون المراد : نفي كل آثار الرجولة عنهم ، من الشَهامَةِ ، والشَجاعةِ ، والوَفاءِ ، والمروءة ، وغير ذلك .

ثانياً ( وأن يكون في كلّ واحدٍ منها ) أي : من التسعة ( ماهو الأثر الظاهر فيه ) أي : في كل واحدٍ واحد منها ، كرفع المضرّة من الطَيَرَةِ ، بمعنى : إنّ اللّه سبحانه وتعالى يدفع الضر عن الانسان الذي يتطيَّر ، وإنْ كانت الطَّيَرَة في نفسها تسبِّب الضرر .

وكرفع الكفر في الوسوسة ، حيث انّ الوسوسة تُوجبُ الكفر ، لكنّ اللّه سبحانه وتعالى لايحكم بكفر الذي يفكّر في الوسوسة إذا لم يظهرها بيدٍ أو لسان .

وكرفع المؤاخذة في البواقي بمعنى : انّ اللّه سُبحانه وتعالى لايؤاخِذَهُم بها

ص: 341


1- - معاني الأخبار : ص310 ، الارشاد : ج1 ص279 ، دعائم الاسلام : ج1 ص390 ، الاحتجاج : ص174 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص75 ب27 .

وأن يقدّر المؤاخذة في الكلّ .

وهذا أقربُ عرفا من الأوّل وأظهرُ من الثاني أيضا ، لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد .

-------------------

في الدنيا بالحدِّ والقصاص ، والتعزير ، وردّ الشهادة ، وغير ذلك ، ولا في الآخرة بالعقاب ، والعذاب ، والنار ، وما أشبه ذلك .

ثالثاً : ( وأن يقدّر المؤاخذة في الكلّ ) من التسعة ، بمعنى : إنّ المرفوع المؤاخذة في كل هذه التسعة .

( وهذا أقربُ عُرفاً من الأوّل ) أي : ان تقدير المؤاخذة على نفس المذكورات ، أقرب في نظر العرف من تقدير جميع الآثار .

أقول : لكنْ كونه أقرب محلُ نظر ، بل الأوّل أقربُ - كما عرفت - .

( وأظهرُ من الثاني ) أي : انّ المعنى الثالث هذا يكون أظهر من المعنى الثاني ( أيضاً ) .

وإنّما كان أظهر لما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّ الظاهر : انّ نسبة الرّفع الى مجموع التّسعة على نسق واحد ) والمعنى الثاني يُوجب فقد النسق الواحد ، وقد ذكرنا سابقاً : إنّ اضطراب النَسق في الحديث خلاف ظاهره؛ وخلاف الظاهر يحتاج إلى دليل ، والدليل لما كان مفقوداً لم يُمكن الذهابُ إليه .

وعلى هذا المعنى الذي استقرَبَهُ المصنّف وهو المعنى الثالث : للحفاظ على وحدة السياق في فقرات الحديث ، لابدّ من حمل « ما لايعلمون » على الفعل غير المعلوم عنوانه ، فيختص بالشبهة الموضوعيّة كما مثّلنا له : بأنّه لم يعلم هل إنّ شربه لهذا المايع شرب خمر ، أو شرب ماء ؟ فانّه حيث لايعلم مرفوع عنه المؤاخذة إذا شربه .

ص: 342

فاذا أريد من الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه وما اضطرّوا ، المؤاخذةُ على أنفسها ، كان الظاهرُ فيما لا يعلمون ذلك أيضا .

نعم ، يظهر من بعض الأخبار الصحيحة عدمُ إختصاص الموضوع عن الاُمّة بخصوص المؤاخذة .

فَعَنْ المحاسن عن أبيه ، عن صَفوان بن يَحيى ، والبَزَنطيّ جميعا ،

-------------------

أمّا إذا حمل « ما لايعلمون » على المعنى الأعمّ ، أو الشبهة الحكميّة فقط ، فانّه يختلف السياق ، ويكون كما عرفت : خلاف موازين العرف ، لكنّكَ قد عرفت ان الأظهر من هذه المعاني الثلاثة هو : المعنى الأوّل .

وعلى أي حال : فان نظر المصنّف هو ماذكره بقوله : ( فاذا أريد من الخطأ ، والنّسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما اضطرّوا ) إليه ، وما لايطيقون ، والحسد ، والوَسوسة ، والطيرة ( : المؤاخذة على أنفسها ، كان الظاهر فيما لايعلمون ) وهي الفقرة التاسعة ( ذلك أيضاً ) أي : المؤاخذة على نفسها ، لوحدة السياق ، فيراد بالموصول في « ما لايعلمون » : الفعل المجهول عنوانه ، فيختص بالشبهة الموضوعية فلا يكون الحديث دليلاً على البرائة .

( نعم ) يمكن أن يستدلّ على إرادة كل الآثار من الموصول في « ما لايعلمون » ويُصحّح حمل الموصول على الحكم والموضوع معاً بوجهين :

أولهما : ما أشارَ اليهِ المصنّف بقوله : ( يظهر من بعض الأخبار الصحيحة : عدم اختصاص الموضوع ) أي : المرفوع ( عن الامة ) المرحومة ( بخصوص المؤاخذة ) ممّا يدل على أن المرفوع عن الاُمّة أعمّ من المؤاخذة وغيرها .

( فَعَن المحاسن عن أبيه عن صَفوان بن يَحيى و ) عن ( البَزنطي جميعاً ) أي :

ص: 343

عن أبي الحسن عليه السلام : « في الرجُلِ يُستَحلَفُ عَلى اليَمينِ فَحَلَفَ بالطّلاق والعَتاق وصَدَقَةِ ما يَملِكُ ، أيَلزَمُهُ ذلِكَ ؟ فقال عليه السلام : لا ، قال رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفع عن أمّتي ما اكرهوا عليه ، وما لا يُطيقونَ ، وما أخطأوا ، الخبر » .

-------------------

ان كلاً منهما روى ( عن أبي الحسن ) الرِّضا ( عليه السلام : في الرّجل يُستَخلفُ على اليمين ) أي : يُكره على أنْ يَحلِفْ ( فَحَلَفَ بالطّلاق ، والعَتاق ، وصَدقَةِ ما يَملِك ) .

وهذا الحِلف كان شايعاً عندَ العامّةِ فيقولون : إنْ فَعلتُ كَذا فَزَوجَتي طالقٌ ، وعَبدي حرٌ ، ومُلكي صَدَقَةٌ ، وعند الشيعة هذا الحِلف لايصح في نفسه ، والسائل سأل عن الإمام عليه السلام انه إذا اُكره الشخص على مثل هذا الحلف ( أَيلزمه ذلك ؟ ) أي : هل يحصل بذلك الحلف طلاق زوجَتِهِ ، وتحريرُ عبدهِ ، وصدقة مُلكه ؟ .

( فقال عليه السلام : لا ، قال رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : رفع عن أُمتي : ما اكُرهُوا عَليهِ ، وَمَا لا يُطيقُون ، وَمَا أخطأوا ، الخبر ) (1) أي : إلى آخر الخبر .

ولا يخفى : انّ هذا الحلف باطل حتى لو لم يكن جهة الاكراه ، اذ كل من الصدقة ، والطلاق ، والعتق ، يحتاج في الشريعة الى سبب خاص ، والحلف ليس سبباً في تحقيق شيء من ذلك .

فهو مثل : انْ يحلف الرجل ان تكون بنتَه زوجةُ زيد ، أو أن تحلف المرأة أن تكون هي زوجةٌ لزيد ، فانّ الزوجية لا تكون إلاّ بسبب خاص هو : صيغة النكاح ، والحِلف ليس من ذلك - كما هو واضح - .

ص: 344


1- - وسائل الشيعة : ج23 ص226 ب12 ح29436 وقريب منه في المحاسن : ص339 ح124 .

فانّ الحلفَ بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضا ، إلاّ أنّ إستشهادَ الإمام عليه السلام ، على عدم لزومها مع الاكراه على الحلف بها بحديث الرفع ، شاهدٌ على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة .

-------------------

إنْ قلت : فلماذا سأل من الإمام عليه السلام عن بطلان هذا الحلف بالاكراه ، لا عن انه بنفسه باطل ؟ .

قلت : ( فانّ الحلف بالطّلاق ، والعتق ، والصّدقة ، وإن كان باطلاً عندنا ) معاشر الشيعة ( مع الاختيار أيضاً ) كما انّه باطل مع الاضطرار ( إلاّ أنّ استشهاد الإمام عليه السلام على عدم لزومها ) أي : لزوم هذه الثلاثة ( مع الاكراه على الحلف بها ) أي : بهذه الثلاثة إستشهاداً ( بحديث الرّفع ، شاهد على عدم اختصاصه ) أي : عدم إختصاص الرفع في الحديث ( برفع خصوص المؤاخذة ) فانّ البطلان في هذه الايقاعات يكون لما يلي :

أوّلاً : ان الانشاء في هذه الايقاعات لايكون بالقَسم ، وإنّما يلزم أن يكون بأسباب خاصة - كما ذكرناه - .

وثانياً : انه حتى على تقدير صحة الانشاء بالحلف ، فإنّ الاكراه المنافي لطيب النفس يسبب بطلانها .

ولعلّه إنّما عَدلْ الإمام عليه السلام عن الوجه الأوّل ، وَعَلّلَ البطلان بالوجه الثاني ، ثم استشهد له بالنبوي لمكان التقية ، إذ البطلان من جهة الاكراه ثابت حتى عند العامّة .

لكنّ الذي يُستفاد من هذا الحديث هو : انّ المرفوع في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفعَ ما إستُكرهُوا عليه » كلّ الآثار لا خصوص المؤاخذة ، فالكبرى مسلَّمةٌ ، إلا إنّ تعليل الإمام عليه السلام البطلان بهذه الكبرى هو موضع التقية .

ص: 345

لكنّ النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه السلام ، مختصٌّ بثلاثة من التسعة ، فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل .

وممّا يؤيّد إرادةَ العموم ظهورُ كون رفع كلّ واحد من التسعة من خواصّ اُمّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ لو اختصّ الرفعُ بالمؤاخذة أشكل

-------------------

والمصنّف أجاب عن الاستدلال بالخبر لكون المراد : جميع الآثار بقوله : ( لكن النبوي المحكّي في كلام الإمام عليه السلام مختصٌ بثلاثةٍ مِن التسعةِ ) أي : ما اُكرهوا عليه ، وما لايطيقون ، وما أخطأوا ( فلعَلَّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ) أي : بهذه الثلاثة ، لا بكل الحديث المشتمل على تسعة أشياء ، ولا منافات بين أن يكون حديث الثلاثة يراد بالرفع فيه : كل الآثار ، وحديث التسعة يراد بالرفع فيه : المؤاخذة فقط .

( فتأمّل ) إذ الحديث الوارد عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم حديث واحد مشتمل على التسعة ، وقد نقل الإمام عليه السلام ثلاثة من التسعة ، فلا يُمكن أنْ يكون المراد بثلاثة من التسعة رفع كل الآثار ، وبالستة الاخرى : رفع المؤاخذة فقط .

وعلى أي حال : فهذا الحديث شاهدٌ على ما استظهرناه نحن من حديث الرفع بأنّ المراد منه : رَفعُ كلّ الآثار .

الثاني : ممّا يمكن أنْ يُستدّل به على إرادة رفع كل الآثار في حديث الرفع ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( وممّا يؤيّد إرادة العموم ) في حديث الرفع ( : ظهور كون رفع كل واحد من التسعة : من خواصّ امّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) إذ الظاهر إنّ كل واحد واحد من هذه التسعة إنّما رفع عن أمّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم، ولم يرفع عن الامم السابقة أي واحد من هذه التسعة .

وهذا إنّما يتمُّ إذا أُريد به رفع كلّ الآثار ( إذ لو إختصّ الرّفع بالمؤاخذة ، أشكل

ص: 346

الأمرُ في كثير من تلك الامور ، من حيث انّ العقلَ مستقلٌّ بقبح المؤاخذة عليها ، فلا اختصاصَ له باُمّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على ما يظهر من الرواية .

-------------------

الأمر ) أي : أُشكل أمرُ إختصاص رفع هذه التسعة بهذه الأُمّة ( في كثير من تلك الاُمور ) كالخَطأ ، والنِسيان ، وما لايُطاق ، وما اُضطروا إليه ، وما لايَعلَمون .

وإنّما يشكل ذلك ( من حيث إنّ العقلَ مستقلٌّ بقبح المؤاخذةِ عليها ) في جميع الاُمم ( فلا إختصاص له ) أي : لرفع مؤاخذة هذه الامور ( بأُمّةِ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على ما يظهر ) ذلك الاختصاص ( من الرّواية ) لأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : رُفعَ عَن أُمتي تِسعة .

وعليه : فاذا كان المرفوع : كلّ الآثار في هذه التسعة كان من اختصاص أُمّةِ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أما إذا كان المرفوع : المؤاخذة فقط ، فذلكَ غير مُختَصٌ بأمتهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ يقبح عقلاً أن يؤاخذ اللّه الانسانَ بخطأ خارج عن إرادتهِ ، أو نسيان كذلك ، أو يؤاخذه بما لايعلم مع عدم إختياره المقدمات أيضاً ، أو يؤاخذه على ما لاطاقة له به ، كالطيران إلى السماء ، أو على ما اُضطُرَ إليه ، كما إذا أوجرَ شخصٌ في حَلق الانسان الخَمْرَ بدون اختياره ، فانّ الاضطرار معناه ذلك ، ولذا قال سبحانه : « ثم نَضطَرُّهُم إلى عذابٍ غَليظ » (1) مع وضوح : انّ الادخال في النار ليس باختيارهم .

لايقال : الرفع خاص بالمؤاخذة ، لكنّ المرفوع من اُمّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم

ص: 347


1- - سورة لقمان : الآية 24 .

والقولُ بأن الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كلّ واحد من الخواصّ شططٌ من الكلام .

لكنّ الذي يهوّن الأمرَ في الرواية جريانُ هذا الاشكال في الكتاب العزيز أيضا فانّ موارد الاشكال فيها ، وهي الخَطأ والنِسيان وما لا يُطاق وما اضطُرّوا إليه ، هي بعينها ما استوهبها

-------------------

هو المجموع من حيث المجموع ، فرفع المجموع من حيث المجموع خاص بامّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وانْ كان بعضها مرفوعاً أيضاً عن سائر الأُمم .

لأنه يقال : ( والقول بأنّ الاختصاص باعتبار رفع المجموع ) من حيث المجموع ( وإنْ لم يكن رفع كلّ واحد من الخواص شطط من الكلام ) أي : كلام بعيد عن الحق ، إذ لا معنى لضم ما يختص بامّة الرسول بما لايختص بها ، وجعل المجموع من خواص اُمّة الرسول باعتبار كون البعض من خواصها ، فاذا كان لزيد - مثلاً - كتاب الشرايع ، ولعمرو الشرايع وشرح اللمعة لايصح أن يقال : الشرائع وشرح اللمعة خاصٌ بعمرو .

وكيف كان : فقد ظهر من هذا الكلام : انّ الحديث ظاهر في رفع جميع الآثار ، لا رفع المؤاخذةِ فقط ، غير انّ المصنّف أجابَ عن هذا الاشكال الذي يريد تعميم الرفع لكل الآثار لا المؤاخذة فقط بقوله :

( لكن الّذي يهوّن الأمر في الرّواية ) ولا يدعُ موضعاً للإشكال فيها ( : جريانُ هذا الاشكال في الكتاب العزيز أيضاً ) وحيث إنّ الاشكال غير وارد على القرآن الحكيم ، فلا بدّ ان لايرد على الرواية .

( فانّ موارد الاشكال فيها ) أي : في الرواية ( وهي : الخَطأ ، والنِسيان ، وما لايطاق ، وما اُضطُرّوا اليه ، هي بعينها ما استوهبها ) أي : طلب هبتها والعفو عنها

ص: 348

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من ربّه ، جَلّ ذكره ، ليلة المِعراج ، على ما حكاه اللّه تعالى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في القرآن بقوله تعالى : « رَبّنا لا تؤاخِذنا إن نَسِينا او أخطَأنا ، رَبَّنا ولا تَحمِل عَلَينا إصرا ، كما حَمَلتَهُ عَلى الَّذينَ مِنْ قَبلِنا » .

والذي يحسم أصلَ الاشكال منعُ إستقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الامور بقول مطلق ،

-------------------

( النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من ربّه جَلّ ذكره ليلة المِعراج ) .

فإنّه يقال : كيف طلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم العفُو عن هذه الاُمُور ، مع انّ هذه الاُمور لا مؤاخذة عليها عقلاً ؟ فلا وجه للاستيهاب من اللّه سبحانه وتعالى فيما لا مؤاخذة عليها ، إذ هل يصحّ طلب عدم معاقبة الذين لايقدرون على الطيران إذا لم يطيروا بدون الأسباب ؟ أو هل يصحّ طلب موهبة الذين لايتمكنون من جمع النقيضين ؟ أو ما أشبه ذلك ؟ .

والحاصلُ : انّ المصحّح لإستيهاب هذه الاُمور في الآية المباركة ، هو المصحّح لجعل رفعها منّة على الامة ( على ما حكاه اللّه تعالى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في القرآن ) الحكيم ( بقوله تعالى : « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنَا إنْ نَسينَا أو أخطأنا ، رَبَّنا وَلا تَحمِل عَلَينا إصراً كَمَا حَملتَهُ عَلى الّذينَ مِنْ قَبلِنا ) ربَّنا ولا تُحَمّلنا ما لاطاقةَ لنَا بهِ » (1) والمعنى : لاتكلّفنا ما لا نطيقه .

( والّذي يحسم أصل الاشكال ) أي : يقطع أصل هذا الاشكال القائل : بأنّه كيف طلبه النبي ؟ وكيف وَرَدَ في الرواية ؟ هو : ( منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الاُمور بقول مطلق ) وانّما العقل يرى : قبح المؤاخذة على هذه

ص: 349


1- - سورة البقرة : الآية 286 .

فانّ الخَطأ والنّسيان الصادرين مِن تركِ التحفُّظ لا يقبح المؤاخذةُ عليهما ، وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط ، وكذا في التكليف الشاقّ الناشي عن إختيار المكلَّف .

-------------------

الامور في الجملة ، فيكون طلب الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما لايقبح العقل المؤاخذة عليه ، كما انّ الرواية وردت أيضاً في رفع ما لايقبح العقل المؤاخذة عليه .

( فانّ الخَطأ والنّسيان الصادرين مِن تركِ التحفُّظ لايقبح المؤاخذة عليهما ) وإنّما يقبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان اذا لم تكن مقدماتهما باختيار الانسان .

( وكذا ) لايقبح ( المؤاخذة على ما لايعلمون مع إمكان الاحتياط ) فيه .

( وكذا ) لايقبح ( في التكليف الشاق النّاشيء عن اختيار المكلّف ) فإنّ الانسان إذا لم يهتم بشيء نسيه ، وإذا لم يعبأ بأمر أخطأ فيه ، وإذا لم يَعلم حكما جهله ، واذا لم يهتم بالاحتياط في مورد العلم الاجمالي ، غير الملزم ، تركه ، كما إذا كان أحد الأطراف خارجاً عن محلّ ابتلائه ، أو كان مضطراً اليه ، أو غير مقدور له ، أو غير موجب للتكليف ، فإنّه يتمكن من الاجتناب عن الطرف الآخر بالاحتياط فيه ، لكنّه يتركه ، فانّ هذه الامور وأمثالها كانت لازمة في الشرائع السابقة حيث لايحكم العقل بقبح المؤاخذة عليها ، فطلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم رفعها كما في الآية المتقدِّمة ، وورد رفعها في الحديث أيضا بمعنى : رفع المؤاخذة عليها .

إذن : فلا يرد الاشكال على ظاهر الآية : بأنّه كيف طلب رفعها ؟ ولا على الحديث : بأنّه كيف ذكر رفعها ، والحال انّ وضعها والمؤاخذة عليها خلاف العقل ؟ لأنّك قد عرفت : انّ الوضع والمؤاخذة في مثل هذه الامور ليس خلاف العقل .

ص: 350

والمراد بما لا يطاق في الرواية هُوَ ما لا يحتمل في العادة ، لا ما لا يقدر عليه أصلاً ، كالطيران في الهواء ، وأمّا في الآية فلا يبعد أن يراد به العذابُ والعقوبةُ ، فمعنى « لا تُحمّلنا مَا لا طاقَةَ لَنا بهِ » : لا تُورِد علينا ما لا نطيقه من العقوبة .

-------------------

ثم لبيان معنى « ما لايطيقون » قال المصنّف : ( والمراد بما لايطاق في الرّواية : هُوَ مالا يُحتَمَل في العادة لا مالايقدرُ عليه أصلاً كالطيران في الهواء ) فالمراد به الشيء الممكن لكنْ مع حرج شديد ومشقة عظيمة ، فانّه لايقبح المؤاخذة عليه .

( وأمّا ) المراد من « مالا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » الذي استوهبه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من اللّه سبحانه وتعالى كما ( في الآية ) المباركة المتقدّمة ( : فلايبعد أن يراد به : العذاب والعقوبة ) الآخروية ، لا التكليف الشاق الذي ذكرناه في الحديث ( فمعنى : « لا تُحمِّلنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بهِ » (1) : لا تورد علينا مالا نطيقه من العقوبة ) .

هذا ، ولكنّا لم نعرف وجه استظهار المصنّف هذا المعنى من الآية المباركة ، فان ظاهر الآية كظاهر الحديث : مايشقّ على الانسان تحمله ، ويؤيد ذلك بعض الأحاديث الواردة في المقام : فعَن عمران بن مَروان قَال : سَمِعْتُ أبَا عَبد اللّه ِ عليه السلام يقول : قَالَ رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : رُفعَ عَنْ أُمَتي أَربعة خِصال : خَطأَهَا ، وَنِسيانَها ، وَمَا اُكرِهُوا عَليهِ ، وَمَا لايُطيقُونَ ، ذَلِكَ قَولُ اللّه ِ عزّ وجلّ : « رَبَّنا لا تُؤاخِذنا » (2) الآية ، وَقَوله سُبحانه : «« إلا مَنْ اُكرهَ وَقلبُهُ مُطمئنٌ بالايمان » (3) » (4) .

ص: 351


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة البقرة : الآية 286 .
3- - سورة النحل : الآية 106 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص462 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج4 ص373 ب12 ح5428 (بالمعنى) .

وبالجملة : فتأييدُ إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الاشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيفٌ جدا .

-------------------

وفي حديثٍ آخر عَنْ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال للّه سُبحانه وتَعالى لَمّا سَمِعَ ذلك : « أما إذا فَعَلْتَ ذلكَ بِي وَبأُمتي فَزدنِي ، قَال : سَل ، قال : «رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إنْ نَسِينَا أو أَخْطأنَا » قال عزّ وجلّ : لَسَتُ أُؤاخذُ أُمّتك بالنِسيان وَالخَطأ لِكرامَتِكَ عَليَّ ، وكانتْ الاُمم السالِفَة إذا نَسوا ما ذُكّروا بهِ فَتَحتُ عَليهِم أبوابَ العَذابِ ، وَقَدْ رَفعتُ ذَلِكَ عَن أُمَتك ، وَكانَت ألأُمم السالِفَةُ إذا أَخطَأوُا أُخِذُوا بالخَطأ وَعُوقِبُوا عَلَيه ، وَقَدْ رَفَعتُ ذَلِكَ عَنْ أُمَتِكَ لِكَرامَتِكَ عَليَّ .

فَقالَ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أعطَيتَني ذَلكَ فَزدني ، فقال اللّه تعالى لهُ : سَل ، قال : «رَبَنا وَلا تَحمِل عَلَينا إصراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذينَ مِن قبلِنا » - يعني بالاصر : الشدائد التي على من كان قبلنا- فأجابه اللّه إلى ذلك ، فقال تَباركَ اسمه : قد رفعتُ عن اُمتِكَ الآصار التي كانت على الاُمم السالفة ، ثم ذكر اللّه الآصار التي كانت على الاُمم السالفة واحداً بعد واحد » ، وفي موضع آخر من نفس هذا الحديث ، وَرَدَ بعد ذكر الآصار ، إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « إذا أعطيتني ذلك كلّه فَزدني ، قال : سَلّ ، قال : « رَبَنا ولا تُحمِّلنا مَا لاطَاقَةَ لَنا بِه » (1) ، قال تَبارَكَ اسمه : فَعَلْتُ ذَلكَ بامّتِكَ قَدْ رَفعتُ عَنهُم عظَم بَلاءِ الاُمَم ...» (2) .

( وبالجملة : فتأييد إرادة رفع جميع الآثار ) تأييداً ( ب- ) سبب ( لزوم الاشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ) كما عرفت ( ضعيف جدّاً ) فقد تقدّم :

ص: 352


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - بحار الانوار : ج92 ص270 ب30 ح20 بالمعنى .

وأضعفُ منه وهنُ إرادة العموم بلزوم كثرة الاضمار وقلة الاضمار أولى وهو كما ترى ،

-------------------

انّه لاتقبح المؤاخذة عليها عقلاً ، وعلى هذا فلا مانع من إرادة نفي خصوص المؤاخذة ، فانّ رفعها في كل واحد من التسعة منّة على هذه الامة فلا حاجَةَ لَنا إلى تقدير جميع الآثار .

أقول : لكنّكَ قد عرفت : انّ الظاهر هو : رفع جميع الآثار ، وإنّ الاختصاص بالمؤاخذة من غير مخصص .

( وأضعف منه ) أي : من التأييد السابق ( : وهن إرادة العموم : بلزوم كثرة الاضمار ) فانّ المصنّف لَمّا ذكر المؤيدين السابقين لإرادة نفي جميع الآثار وضعفهما ، بدأ ببيان موهنات ثلاثة لإرادة نفي جميع الآثار ثم ضعفها جميعاً وتلك الموهنات هي :

أوّلاً : ان إرادة نفي جميع الآثار يحتاج إلى كثرة الاضمار ، ومن المعلوم إنّ كثرة الاضمار أبعد مِنْ قلّة الاضمار ، فاذا دار الأمر في كلام بين قِلة الاضمار فيه أو كثرته ، قُدّم قلّة الاضمار ، لأن الاضمار خلافُ الأصل ، فكلّما كان خلاف الأصل أقلُّ كان أولى ، وأمّا انّه يستلزم كثرة الاضمار : فلأنه يلزم أن يقدر رفع : المؤاخذة ، والقصاص ، والجَلد ، والرَّجم ، والحدّ ، والكفارة ، والقضاء ، والاعادة ، والفدية ، وحصول النقل والانتقال ، وما أشبه ذلك في موارد الخطأ ، والنسيان ، الى آخره .

( وقلّة الاضمار أولى ) وذلك بأن يقدر المؤاخذة فقط .

( و ) لكن هذا الموهن لجميع الآثار ( هو كما ترى ) فانه غير تام ، إذ إرادة رفع جميع الآثار يحصل بتقدير لفظ واحد أيضاً وهو : كلمة الآثار ، فسواء قال : رفع جميع الآثار ، أم قال : رفع المؤاخذة كان المضمر كلمة واحدة .

ص: 353

وإن ذكره بعضُ الفحول .

ولعلّه أراد بذلك أنّ المتيقن رفع المؤاخذة ، ورفع ما عداه يحتاج إلى دليل قطعي .

وفيه : أنّه إنّما يحسن الرجوع إليه بعد الاعتراف باجمال الرواية ، لا لاثبات ظهورها في رفع المؤاخذة ،

-------------------

( وإن ذكره ) أي : ذكر هذا الموهن ( بعض الفحول ) وهو العلامة على ما نُسب إليه .

( ولعلّه ) رحمه اللّه لم يقصد من لزوم كثرة الاضمار : كثرته من حيث اللّفظ بل من حيث المعنى أي : ( أراد بذلك : انّ المتيقّن رفع المؤاخذة ، ورفع ماعداه يحتاج الى دليل قطعي ) مفقود في المقام .

( و ) لايخفى ما ( فيه ) أي : فيما لو أراد العلاّمة من كثرة الاضمار : الكثرة من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، وذلك ( انّه ) الضمير للشأن ( إنّما يحسن الرّجوع اليه ) أي : الى المتيقن ( بعد الاعتراف باجمال الرّواية ) والرواية ليست مُجملة ( لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة ) فانّه إذا كانت الرواية مجملة لابدّ لنا من الأَخذ فيها بالقدر المتيقن كما هي القاعدة ، أمّا إذا كانت الرواية ظاهرة فلا معنى للأخذ بالقدر المتيقن فيها .

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم العالم ، وكان العالم مجملاً بين شمول علماء الفقه فقط أو مع علماء الاصول ، والعربية ، والطب ، والهندسة ، نأخذْ هُنا بالقدر المتيقن ، لأنّ العالم مُجمل في كلامه ، أما إذا قال : « الماءُ طاهرٌ » والماء يشمل كلّ أقسام المياه من : البحر ، والبئر ، والنَزيز ، والمَطر ، ونحوها ، فلا معنى لأن نقول : إنّ القدر المتيقن من الماء هو ماء البحر - مثلاً- لأن الظهور يُوجب الأخذ بالجميع .

ص: 354

إلاّ أن يُراد إثباتُ ظهورها ، من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذ يوجبُ عدمَ التخصيص في عموم الأدلّة المثبتة لآثار تلك الامور وحملها على العموم يوجبُ التخصيص فيها .

-------------------

ولا يخفى : انّ الفرق بين كون الرواية ظاهرة في رفع المؤاخذة - كما إدعاه المصنّف - وبين كونها مُجملة ، وان رفع المؤاخذة متيقن - كما نُسبَ الى العلاّمة - هو انّه على الأوّل : يحكم بأنّ المراد من الموصول في « مالا يعلمون » : الفعل - كما تقدّم - أما على الثاني : فهو يَشمل الفعل وَالحكم ، فيشمل الموصول في : « مالا يعلمون » الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً ، وهذا هو الذي رجّحناه .

الثاني من الموهنات الثلاثة التي ذكرها المصنّف لإرادة نفي جميع الآثار هو ما أشار اليه بقوله : ( إلاّ أن يُراد : إثبات ظهورها ) أي : ظهور الرّواية في رفع المؤاخذة ( من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذة ، يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك الامور ، وحملها على العموم يوجب التّخصيص فيها ) أي : في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك الامور .

فانّ التكاليف إذا أخطأ العَبدُ فيها ، أو نَسيَها ، أو إضطر إليها ، لَها آثارٌ كثيرةٌ جداً ، فاذا حَملنا حديث الرَّفع على المؤاخذة فقط ، كان المرفوع : المؤاخذة ، فيكون التخصيص في تلك العمومات قليلاً ، لأنّ سائر الآثار باقية على حالها ، أمّا إذا حملنا الحديث على رفع جميع الآثار ، وجَبَ التخصيص في كل تلك الآثار بسبب الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما .

ومن المعلوم : انّ قلة التخصيص أولى من كثرته ، فاذا كان - مثلاً - : كلمة الفاسق عَلَماً لشخص ، وله معنى لغوي يشمل كُلّ عاصٍ ، فقال المولى : أكرم العلماء ولا تُكرم الفاسق ، وتردّد الفاسق بين أنْ يكون المراد به : العلمي ، فالخارج

ص: 355

فعمومُ تلك الأدلّة مبيّنٌ لتلك الرواية ،

-------------------

من أكرم العلماء شخص واحد ، وان يكون : الوصفي ، فالخارج منه عشرة ، لفرض وجود عشرة من العلماء الفسّاق ، كان أكرم العلماء دليلاً على إرادة الفاسق العلمي ، لأن التخصيص حينئذ أقل .

ومثال المقام : من نسي الطهارة وَجَبَ عليه إعادة الصلاة ، وقضاؤها ، والمؤاخذة ، كما نرى في الموالي العرفية ذلك ، فانّهم يؤاخذون الناسي لأوامرهم .

وكذا من قَتَل مُسلماً خطأً وَجَبَ عليه الكفارة ، والدية ، والصيام ، والمؤاخذة .

فيدور أمرُ حديث الرفع بين رفع المؤاخذة فقط وبقاء سائر الآثار ، وبين رفع كل الآثار وحيث إنّ الأوّل أقل تخصيصاً يقدَّم على الثاني : لأن العام شمل الجميع ، فاذا تردّد المخصّص بين الأقل والأكثر حُمِلَ على الأقل .

هذا ، ولكنّا ذكرنا : انّ الظاهر من الحديث هو : رفع كل الآثار ، فلا مجال للقول بإجمال المخصّص ودورانه بين الأقَل والأكثر حتى يقال : بان التخصيص الأقل أولى من الأكثر ، فيكون العام دليلاً على كون المخصص يراد به الأقل .

وعلى أي حال : ( ف- ) عند المصنّف ( عموم تلك الأدلة ) التي أطلقت الآثار لتلك الأشياء ، مثل إطلاق أدلة آثار الصلاة وغيرها ( مبيّن لتلك الرّواية ) ومراد المصنّف بالعموم : أَعمُ من العموم والاطلاق ، فانَّ أصالة العموم وأصالة الاطلاق في الأدلة المثبتة للأحكام والآثار للصلاة ، والصوم ، والحج ، والقتل ، وما أشبه ، تكون قرينة على ان المرفوع في هذه الرواية المخصصة ، الدالة على رفع تسعة اُمور عن الامة هو المؤاخذة فقط .

ص: 356

فانّ المخصّص إذا كان مُجملاً من جهة تردّده بين ما يوجب كثرة الخارج وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العامّ بالنسبة إلى التخصيص المشكوك فيه مبيّنا لاجماله ، فتأمّل .

وأضعفُ من الوهن

-------------------

( فانّ المخصّص ) كحديث الرفع - مثلاً - ( إذا كان مُجملاً من جهة تردّده بين ما يُوجب كثرة الخارج ، وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العام ) وإطلاق المطلق ( بالنسبة الى التخصيص المشكوك فيه ) والتقييد المشكوك فيه : بانّه هل التخصيص والتقييد للأفراد الأكثر ، أو للأفراد الأقل ؟ ( مبيّناً لاجماله ) أي : لاجمال ذلك المخصّص والمقيّد .

( فتأمّل ) لعلّه إشارة الى ماذكرناه : من كون الظهور في العموم والاطلاق ، أو اشارة الى ان ظهور العام وإطلاق المطلق لا يرفع إجمال المخصّص الدائر أمره بين الأقل والأكثر ، بل المخصّص والمقيّد يبقى على إجماله ، وإنّما يحمل ما نحن فيه على إرادة المؤاخذة فقط ، من باب ان المؤاخذة هي القَدَر المتيقن ، لا من باب الظهور .

وعليه : فالعام والمُطلق لايبينان المراد من المُجمل حتى يكون للمخصّص والمقيد ظهور في الأقل ، وإنّما يؤخذ بالقَدر المتيقن من المخصّص والمقيّد .

ثم إنك قد عرفت : انّ المصنّف ليس بناؤه العموم في حديث الرفع ، وانّما يخصّصه برفع المؤاخذة فقط ، لكنّه رحمه اللّه ذكر : إن جماعة ذكروا الموهنات للعموم ، وحيث لم يرتض المصنّف تلك الموهنات قام بتصنيفها وردّها ، وقد ردّ موهنين منها بعد ذكرها .

الثالث من تلك الموهنات للعموم هو ما أشار اليه بقوله : ( وأضعف من الوهن

ص: 357

المذكور وهن العموم بلزوم التخصيص بكثير من الآثار بل أكثرها ، حيث انّها لا ترفع بالخطأ والنسيان وأخواتهما ، وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرّواية كما هو حقّه .

-------------------

المذكور ) المتقدِّم ( وهن العموم بلزوم التّخصيص بكثير من الآثار ، بل أكثرها ) فانّه لو كان المراد : رفع جميع الآثار ، كان حديث الرفع نفسه مورداً للتخصيص الكثير ( حيث انّها ) أي : تلك الآثار ( لاترفع بالخطأ ، والنسيان ، وأخواتهما ) .

فانّه لو كان المرفوع : كل الآثار ، لزم أن لايكون للسهو في الصلاة سجدة خاصة ، ولا الخطأ في إفطار رمضان بزعم الغروب أو بزعم عدم طلوع الفجر موجباً للقضاء ، ولا الخطأ في القتل موجباً للديّة ، وهكذا ، والحال إنّا نرى : إنّ هذه الآثار ثابتة للخطأ ، والنسيان ، ونحوهما من سائر ما ذكر في حديث الرفع ، وهذا دليل على أن المرفوع : المؤاخذة فقط .

( وهو ) أي : هذا التوهم : بأن حديث الرفع لو كان شاملاً لكل الآثار وجب التخصيص الكثير فيه ( ناشٍ عن عدم تحصيل معنى الرّواية كما هو حقه ) فانّه سواء أُريد بالرواية المؤاخذة ، أو كل الآثار ، لايكون موجباً لرفع آثار الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما ، ممّا رتب على الخطأ بما هو خطأ ، وعلى النسيان بما هو نسيان ، وإنّما يرفع الآثار المرتبة على الصلاة والصيام ونحوهما ، بما هي صلاة ، وصوم ، ونحوهما .

فانّ الدليل الشرعي قد يدلّ على أثر للصلاة بما هي صلاة ، كما اذا قال الدليل : الجَهر واجب في صلاة الصبح .

وقد يدلّ الدّليل على أثر للصلاة بشرط الخطأ فيها ، فيكون موضوع الأَثر : الصلاةُ المشروطةُ بالخَطأ كما إذا قال الدليل : الصلاة المَسهُوّ فيها تحتاج

ص: 358

فاعلم أنّه إذا بنينا على عموم رفع الآثار ، فليس المرادُ بها الآثارَ المترتّبة على هذه العنوانات من حيث هي ، إذ لا يُعقل رفعُ الآثار الشرعيّة

-------------------

الى سجدتي السهو .

وقد يدلّ الدليل على أثر للصلاة بشرط عدم الخطأ فيها ، فيكون موضوع الأَثر : الصلاة التي لم يخطأ فيها ، كما إذا قال الدليل : إنّ الصلاة التي لم يخطأ فيها الإمام تكون واجبة المتابعة للمأموم ، أما إذا أخطأ الإمام فيها ، بأنْ نسي التشهُدَ - مثلاً- فاللازم على المأموم أن يتشهد بنفسه ، لا أنْ يتبع الإمام في القيام بعد السجدة الثانية قبل التشهد .

وهكذا بالنسبة الى القتل : فالقتلُ المشروط بالعمد : عَليه القصاص .

والقتلُ المشروط بعدم العمد : عَليِه الديّة .

والقتل بما هو قتل : له كذا من الحكم كالكفارة - مثلاً- .

اذا عرفتَ ذلك قُلنا في جواب هذا الموهن للعموم : ( فاعلم : انّه إذا بنينا على عموم رفع الآثار ) في حديث الرفع ، فانَّه مع ذلك لايشمل الحديث بعض أصناف الآثار قطعاً .

( فليس المراد بها ) أي : بالآثار المرفوعة ( الآثار المترتبة على هذه العنوانات ) أي : عنوان الخطأ ، وعنوان السهو ، وعنوان الاضطرار ، ونحوها ( من حيث هي ) فانّ الشارع جعل لنفس هذه العناوين آثاراً مخصوصة ، كما مثّلنا بسجدتي السهو أَثراً للنسيان في الصلاة ، والقضاء أثراً للخطأ في الأكل قبل الفحص عن الغروب ، والدية أثراً للخطأ في القتل ، وهكذا .

ومن الواضح : انّ هذه الآثار لا تُرفَع بالخطأ ، والسَهو ، والنسيان ، وما أشبه ، بل انّ هذه الآثار تثبت بسبب هذه العناوين ( إذ لا يُعقل رفع الآثار الشّرعيّة

ص: 359

المترتّبة على الخطأ ، والسّهو من حيث هذين العنوانين ، كوجوب الكفارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السّهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء .

وليس المرادُ أيضا رفع الآثار المترتّبة على الشيء بوصف عدم الخطأ ، مثل قوله : « من تعمّد الافطار فعليه كذا » ، لأنّ هذا الأثر يرتفع بنفسه

-------------------

المترتبة على الخطأ ، والسّهو ، ) والنسيان ، وما أشبه ( من حيث هذين العنوانين ) أي : الخطأ ، والسهو ، وكذا سائر العناوين المأخوذة في حديث الرفع .

وتلك الآثار : ( كوجوِب الكفّارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السّهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء ) ووجوب القضاء المترتب على الخطأ في الأكل بدون الفحص عن الفجر أو عن الغروب ، إلى غير ذلك .

( و ) كذا ( ليس المراد أيضاً ) من رفع جميع الآثار في حديث الرفع : ( رفع الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم ) هذه العناوين أي : الصلاة المشروطة بعدم ( الخطأ ) وعدم النسيان ، وما أشبه ( مثل قوله ) عليه السلام ( : من تعمّد الافطار فعليه كذا ) من الكفارة ، وقوله عليه السلام : « مَن قَتَل مُسلماً مُتعَمداً فَعلَيهِ القصاص » ، وقوله عليه السلام : « مَن زَنا مُتَعَمداً بدون اضطرارٍ ، أو نسيانٍ (1) ، أو جَهلٍ (2) ، أو ما أشبه ، فعليه الحدّ» ، الى آخر هذه العناوين المترتبة على الأشياء بوصف العمد .

وذلك ( لأنّ هذا الأثر ) ونحوه ، المترتب على مُتعمّد الفعل ( يرتفع بنفسه

ص: 360


1- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص110 ب18 وفيه ثمانية أحاديث .
2- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص32 ب14 .

في صورة الخطأ .

بل المرادُ أنّ الآثار المترتّبة على نفس الفعل لا بشرط الخطأ والعمد قد رفعها الشارعُ عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ .

-------------------

في صورة الخطأ ) ونحوه بانتفاء موضوعه ، لفرض انّ موضوعه : هو الشيء بوصف التعمد ، فاذا أخطأ الانسان ، لم يكن ذلك الأثر ، لأنه لم يكن تعمد ، فانّ الحكم يرتفع بانتفاء موضوعه ، ولا حاجة الى التمسك بحديث الرَفع في رفع هذا الأثر المترتب على الشيء بوصف التَعمُد .

والحاصل : انّ الصلاة في الشريعة لها أحكام ثلاثة :

الأوّل : الأحكام المترتبة على الصلاة من حيث السهو .

الثاني : الأحكام المترتبة على الصلاة من حيث العَمد .

وهذان الأثران لا يرتفعان بحديث الرفع .

الثالث : الصلاة بما هي صلاة ، فاذا كان للصلاة بما هي صلاة آثار ، رفع تلك الآثار حديث الرفع .

والى هذا الثالث أشار المصنّف بقوله : -

( بل المراد : أنّ الآثار المترتبة على نفس الفعل ) بما هو فعل ( لا بشرط الخطأ والعمد ) ولا بشرط النسيان والذكر ، ولا بشرط الجهل والعلم ، ولا بشرط الاختيار وعدمه ، ولا بشرط السهو وعدمه ، بل الصلاة بما هي صلاة ، فإنّ الشارع رَتَّب على الصلاة بما هي صلاة أحكاماً وحديث الرفع ( قد رفعها ) أي : رفع تلك الاحكام التي رتبها ( الشّارع ، عن ذلك الفعل ) الصلاتي فيما ( إذا صدر عن خطأ ) أو نسيان ، أو إضطرار ، أو سهو ، أو جهل ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : فان حديث الرفع يكون مخصصاً لهذا النحو من الأدلة المثبتة للآثار

ص: 361

ثمّ المرادُ بالآثار هي الآثار المجعولة الشرعيّة الّتي وضعها الشارعُ ، لأنّها القابلة للارتفاع برفعه .

وأمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة والعاديّة ، فلا تدلّ الروايةُ على رفعها

-------------------

بنحو الاطلاق أو العموم ، بدون تقيّيد للصلاة والصوم ونحوهما بالعمد أو باللاعمد .

( ثم ) إنّ هنا مطلباً آخر وهو : إنّ الأثَر المرفوع بحديث الرفع هو الأثَر الشرعي فقط ، لا الأثَر العقلي ، أو العرفي ، أو العادي .

فللصبي المميز - مثلاً - آثار ، فاستحباب الصلاة له ، اثره شرعاً ، وكونه في الحيز ، اثره عقلاً ، وانه يحترم في المجتمع ، أثره عرفاً ، وانبات اللحية له إذا وصل الى عمر كذا ، أثره عادة ، وحديث الرفع يرفع القسم الأوّل من الآثار ، لا سائر الأقسام ، لأن وضع سائر الاقسام ورفعها إنّما يكون بأسبابها الخاصة ، لا بالتشريع الشرعي ، فالشارع إنّما يرفع الأثر الذي وضعه هو ، لا الآثار العقليّة والعرفيّة والعاديّة .

ولذا قال المصنّف : ( المراد بالآثار ) المرفوعة بحديث الرفع عند مَنْ يَرى رفع جميع الآثار ( هي : الآثار المجعولة الشّرعيّة الّتي وضعها الشارع ) : من القضاء ، والاعادة ، والكفارة ، والحدّ ، والضمان ، وغيرها ( لأنّها القابلة للارتفاع برفعه ) أي : برفع الشارع .

( وأمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة ) كالكون في الحيّز ( والعادّية ) كنبات اللحية عند البلوغ ، والعرفيّة كاحترام المجتمع له ( فلا تدلُّ الرّواية على رفعها ) فمن إضطر إلى شرب الخمر - مثلاً - فشربها سكر ، والشارع لا يرفع السكر .

ص: 362

ولا رفع الآثار المجعولة المترتّبة عليها .

-------------------

وعليه : فكما لا يرتفع بحديث الرفع الآثار العقلية ، والعادية ، والعرفية بنفسها كذلك لا يرتفع بحديث الرفع أثر تلك الآثار العقليّة ، والعاديّة والعرفيّة .

ولهذا قال المصنّف : ( ولا رفع الآثار المجعولة المترتبة عليها ) أي : على الآثار العقلية ، والعرفية ، والعادية ، فاذا نذر - مثلاً - : انه كلما سكر صلّى ركعتين ، فاذا إضطر الى شرب الخمر وسكر ، لا يرتفع عنه وجوب صلاة ركعتين ، لأنّه جعل موضوع نذره : السُكر مطلقاً ، لا مقيداً بأنْ يكون السُكر مترتباً على شرب حرام ، أو جائز من جهة الاضطرار ، الى غير ذلك من الأمثلة .

ثم انّ المراد بالرفع : ما يكون له مقتضٍ وإنْ كان المقتضي ضعيفاً لا يتمكن من الأثر ، أو كان المقتضي قوياً في نفسه يتمكن من الأثر ذاتاً ، لكنْ هناك مانع يقف أمامه فلا يدعه يؤثر أَثره ، أو كان له مقتضي في الاُمم السابقة ولا مقتضي له إطلاقاً في هذه الاُمّة ، فان إطلاق الأثر على هذا القسم الثالث أيضاً صحيح .

مثلاً : النّار الضعيفة لا تحرق العود القوي لضعف المقتضي ، والنار القوية لا تحرق العود الضعيف المرطوب لوجود المانع ، والنار المستمرة في إحراق أشياء البيت من : القماش ، والخَشب ، والكتاب ، إذا وصلت الى ماء الحوض لا تحرقه ، لأن النار لم تخلق لإحراق الماء ، فليس بينهما سببية ومسببيّة ، بل الماء خارج موضوعاً .

وبهذا المعنى الثالث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ الصَبيّ وَالمَجنُون » (1) فانهما

ص: 363


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 بالمعنى ، بحار الانوار: ج5 ص303 ح13 ب14 .

ثمّ المرادُ بالرّفع ما يشمل عدمَ التكليف مع قيام المقتضي له ، فيعمّ الدفع ولو بأن يوجّه التكليف على وجه يخصّ بالعامد ،

-------------------

خارجان موضوعاً عن وضع القلم .

بخلاف رفع القلم عن المُكرَه حيث يُمكن وضع القَلَم عليه ، بأنْ يُقال له : لا تَفعَل الحرام وإنْ قَتَلَكَ المكرِه - بالكسر - وكذا على المُضطر ، بأنْ يقال له : لا تشرب الخمر وإنْ سبب المرض موتك إلى غير ذلك .

إذن : فربّما يمكن وضع القلم ، لكنْ الشارع يرفعه ، وربّما لا يمكن وضع القلم وإنّما يُطلق الرفع باعتبار أن القلم كان غير مرفوع عن زيد وعمرو وبكر ، فاذا وصل إلى خالد الصبي أو المجنون إرتفع ، وكذا كان القلم موضوعاً على أمة إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ولوط ، وإسحاق ، لكن لما وصل إلى أمة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إرتفع .

وعلى أيّ حال : فقد قال المصنّف : ( ثمّ المُراد بالرّفع ما يَشمل عدم التّكليف مع قيام المقتضي له ) أي : للتكليف ( فيعم ) الرفع في هذا الحديث ( الدفع ) فانّه قد يكون تكليف على انسان ثم يرفع عنه ، وقد لا يجعل له تكليف وإنّما يدفع التكليف عنه قبل مجيئه إليه كما قال :( ولو بأنْ يوجه التكليف على وجه يخصّ بالعامد ) فيكون عدم تكليف الجاهل ، والناسي ، ومَنْ أشبه ، من باب الدَفع حيث لم يوضع التكليف عليهم ، لا من باب الرفع ، بأن وضع عليهم التكليف ثم إرتفع ، فانّه قد يصب الماء على إنسان ثم يرتفع بَلَلَهُ بواسطة المَنْشَفَة ، وقد يمنع من صبّ الماء عليه ، وكلاهما يُطلق عليهما : الرفع .

وربمّا يطلق على الأوّل : الرفع ، وعلى الثاني : الدفع .

وإن شئتَ قُلتَ : انّ بين الرفع والدفع عموماً مطلقاً ، فإنّ كُل دفع رفع ، وليس

ص: 364

...

-------------------

كلّ رفع دفعاً ، وحديث الرفع من باب الدفع لا من باب الرفع ، لأنّه من الأوّل لم توضع التكاليف على هذه الاُمّة حتى ترفع عنها ، وَانّما دفع التكليف عنها بعدما كان مثبتاً على الاُمم السابقة .

وعليه : فقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفعَ عَن اُمتي ...» إخبار عن عدم جعل التكليف رأساً في موارد الخطأ ، والنسيان ، والاكراه ، وعدم الطاقة ، والاضطرار ، والحَسد ، والطَيرَة ، والوَسوَسةِ ، وَمالا يَعلَموُن .

والتعبير بالرفع دون الدفع لَعَلَهُ للاشارة إلى ثبوت هذه التكاليف بهذه العناوين على الاُمم السابقة ، كما ذكرنا في مثال رفع القلم عن الصبيّ والمجنون .

ولا يخفى : انّه لا تكليف في « مالا يعلمون » اطلاقاً ، لا أنّه تكليفٌ غير منجّز ، والمراد بالاطلاق : مقابل العلم الاجمالي ، حيث يُمكن جعل الاحتياط على العلم الاجمالي ، أمّا إذا لم يعلم إنسان شيئاً ، لا علماً إجمالياً ولا تفصيلياً ، وكان قاصراً ، فانّه لا يعقل وضع التكليف عليه ، إذ ما فائدة هذا التكليف من الحكيم ؟ .

لا يقال : انّ وضع التكليف عليه يفيد : انّه متى علم به ترتب عليه أثره : من القَضاءِ ، والكفَارَةِ ، ونحوهما .

لأنّه يقال : أوّلاً : نفرض انّه لم يعلم به حتى الموت ، ولم يكن له بعد موته أثر أيضاً : كقضاء ولده الاكبر - مثلاً - أو القضاء بالاستيجار له من ماله ، لانّه لا ولد ولا مال له - مثلاً - .

وثانياً : انّه إذا علم ثبت عليه تكليف بالقضاء ونحوه ، لا انه يصح التكليف عليه ، حال جهله ، كما انّ القضاء بالنسبة إلى ولده الاكبر ، أو القضاء من تركته ، تكليف جديد لا انّه تكليف كان عليه انتقل إلى غيره .

ص: 365

وسيجيء بيانه .

فان قلت : على ما ذكرت يخرجُ أثرُ التكليف في « ما لا يعملون » عن مورد الرّواية ، لأنّ إستحقاقَ العقاب أثرٌ عقليٌّ له

-------------------

لا يقال : فيه الاقتضاء في حال الجهل ، لأنّ التكليف تابعٌ للمصلحةِ والمفسدَةِ لأنّه يقال : الاقتضاء لا يسمى تكليفاً ، وكلامنا في التكليف لا في الاقتضاء .

وكيف كان : فالمراد بالرفع : الدفع ( وسيجيء بيانه ) مفصلاً إنشاء اللّه تعالى .

( فانْ قلت : ) أوّلاً : انكم قلتم : إنّ الأثر المرفوع في حديث الرفع ، هو الأثر الشرعي لا الأثر العقلي ، والحال انّ العقاب على المعصية أثر عقليّ ، لا ان الشارع جعله بالتشريع .

ثانياً : وقلتم أيضاً : ان المرفوع هو الأثر المترتب على الشيء بما هو هو ، أي : على الصلاة - مثلاً - بما هي صلاة ، لا على الصلاة المشروطة بشيء ، أو المشروطة بعدم شيء ، وفي « ما لا يعلمون » كلا الأمرين منتفيان وذلك كما يلي :

أوّلاً : انّ الصلاة المنسية - مثلاً- قُلتم : العقاب فيها مرفوع ، بينما العقاب أثر عقلي وليس أثراً شرعياً .

ثانياً : انّ العقاب مترتب على ترك الصلاة بشرط العصيان ، فترك الصلاة بشرط العصيان يترتب عليه العقاب ، وقد ذكرتم انّ المرفوع : هو أثر الصلاة بلا شرط ، فكيف تقولون إنّ الصلاة المنسية مرفوع عنها العقاب بحديث الرفع ؟ والى هذين المطلبين أشار المصنّف بقوله :

أولاً : ( على ما ذكرت يخرج أثر التكليف ) كالتكليف بالصلاة ( في « مالا يعلمون » عن مورد الرّواية ، لأنّ إستحقاق العقاب أثرٌ عقليٌّ له ) فاثر التكليف غير المعلوم كحرمة التتن - مثلاً - هو إستحقاق المؤاخذة وهو أثر عقلي

ص: 366

مع أنّه متفرّع على المخالفة بقيد العمد ، إذ مناطهُ ، أعني المعصية ، لا يتحققُ إلاّ بذلك .

وأمّا نفسُ المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعيّة .

والحاصلُ :

-------------------

وليس أثراً شرعياً حتى يرتفع بحديث الرفع ، فلا معنى للرفع بالنسبة الى « مالا يعلمون » .

ثانياً : ( مع انّه ) أي : الاستحقاق ( متفرّع على المخالفة بقيد العمد ، إذ مناطه ) أي : مناط الاستحقاق ( أعني المعصية لا يتحقق إلاّ بذلك ) أي : بقيد العمد ، فانّ إستحقاق المؤاخذة من الآثار المقيدة بالعمد ، نظير من تعمد ترك الصلاة أو تعمد الافطار ، حيث إنه مناط المعصية ، فانّ المعصية عبارة عن المخالفة العمدية ، وقد تقدّم : انّ هذا المصنّف من الأثر يرتفع بنفسه عند انتفاء العمد ، فلا حاجة في رفعه الى حديث الرفع .

ثم ان الاشكال الأوّل إنّما هو فيما إذا قلنا بانّ إستحقاق العقاب يرتفع بسبب « مالا يعلمون » .

( وأمّا ) إذا قلنا : إنَ ( نفس المؤاخذة ) ترتفع بما لا يعلمون ( ف- ) فيه : انّه ( ليست ) المؤاخذة ( من الآثار المجعولة الشرعيّة ) القابلة للارتفاع ، فانّ نفس المؤاخذة هي من فعل اللّه سبحانه وتعالى ينفذها « ملائكة غِلاظُ شِدادُ ، لا يَعصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ ما يُؤمَروُن » (1) .

( والحاصل : ) من كل ذلك هو ما يلي :

ص: 367


1- - سورة التحريم : الآية 6 .

أنّه ليس في « ما لا يعلمون » أثر مجعول من الشارع مترتّب على الفعل لا بقيد العلم والجهل حتّى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل .

قلت : قد عرفت أنّ

-------------------

أوّلاً : ( أنّه ليس في « ما لا يعلمون » أثر مجعول من الشارع مترتب على الفعل ) لأن الأثر اما هو إستحقاق العقاب ، وأما نفس المؤاخذة ، وكلاهما ليس أثراً شرعيّاً لشرب التتن - مثلاً - ، وإنّما الأول أثر عقليّ ، والثاني أثرٌ خارجي له .

ثانياً : انه لو فرضنا وجود الأثر ، لم يكن هذا الأثر ( لا بقيد العلم والجهل ، حتى يحكم الشارع بإرتفاعه مع الجهل ) وقد ذكرتم : انّ الأثر المرفوع هو الأثر الموضوع على الشيء مطلقاً لا بقيد العلم والجهل ونحو ذلك ، فحدّ شرب الخمر - مثلاً - من الآثار الشرعية المترتبة على الشرب ، ولم يكن بقيد العلم او الجهل ، فيحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل .

وكذا حدّ الزنا موضوع على الزنا لا بقيد العلم والجهل ، كما في الآية الكريمة : « الزَانِيَةُ وَالزَانِي فَاجلِدُوا كُل وَاحِد منهُما مائة جَلدَة » (1) فيحكم الشارع برفع هذا الاثر مع الجهل .

أما في المقام ، فالمؤاخذة والاستحقاق هما أثران مجعولان لترك الصلاة بقيد العمد ، فحديث الرفع لا يتمكن أن يرفع مثل هذا الأثر ولو فرضنا كونه أثراً شرعياً .

هذا وقد أجاب المصنّف عن الاشكال الأوّل بقوله : ( قلت : قد عرفت : انّ

ص: 368


1- - سورة النور : الآية 2 .

المراد برفع التكليف عدمُ توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هناك دليل يثبته لولا الرفع أم لا .

-------------------

المُراد برفع التّكليف : عدم توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هناك دليل يثبته ) أي : يثبت التكليف ( لولا الرفع ) فيكون رفعاً ( أم لا ) بان لم يكن دليل يثبت التكليف فيكون دفعاً ، فالمرفوع ليس هو امّا المؤاخذة وامّا إستحقاق العقاب ، حتى يقال انّه ليس أثراً شرعياً ، بل المرفوع شيء آخر ممّا هو أثر شرعي ، وترتبه على الفعل بنحو « لا بشرط » ، فيكون نفيه سبباً للبرائة ونفي التكليف ، فانّه لما أمكن توجيه الخطاب الى الشاك ، ومع ذلك لم يوجّه الشارع اليه تكلّيفاً ، صدق انّه رفع التكليف عنه لما تقدّم : من انّ الرفع يشمل الأعم من الدفع .

بل قد ذكرنا نحن : صحة أنْ يقال : رفع عن الصبي وعن المجنون - أيضاً - باعتبار : انّ القلم إستمر على الناس حتى وصل إليهما فرفع عنهما ولم يستمر بالوضع عليهما وانْ لم يكن فيهما مقتضى التكليف أصلاً .

وبهذا ظهر : انه ليس المرفوع أوّلاً وبالذات رفع المؤاخذة حتى يُقال : انّ المؤاخذة ليستْ أثراً شرعيّاً فلا يكون رفعها بيد الشارع ، بل المراد : انّ منشأ المؤاخذة وهو : وجوب الاحتياط مرفوعٌ ، وإذا رفع منشأ المؤاخذة إرتفعت المؤاخذة بتبَعهِ ، من غير فرق بين أنْ يكون هناكَ دليل ، يثبت التكليف لولا الرفع مثل : « حرِّمت عليكم الميتة » (1) فان التكليف بالحرمة شاملٌ للمختار وللمضطر لكن حديث الرفع نفاه فهو رفع للتكليف ، أو لم يكن دليل يثبته : مثل من تَعَمد

ص: 369


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

فالرفعُ هنا ، نظيرُ رفع الحرج في الشريعة . وحينئذٍ فاذا فرضناه أنّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشكّ فيه ، فلم يفعل ، ولم يوجب تحصيل العلم ولو بالاحتياط ووجّه التكليف على وجه يختصّ بالعالم تسهيلاً على المكلّف كفى

-------------------

الافطار فَعَليه الكفارة والتعزير ، فانّه ليس بحيث يثبت وجوب الكفارة والتعزير على غير القادر لولا حديث الرفع فغير القادر لا تكليف ثابت عليه حتى ينفيه حديث الرفع فهو دفع للتكليف .

وعليه : ( فالرفع هنا ، نظير رفع الحرج في الشريعة ) حيث انّه يكون برفع منشأه فيرتفع هو بتبعه .

ثم أشار المصنّف إلى الجواب عن الاشكال الثاني بقوله : ( وحينئذ ) أي : حين كان رفع الأَثر برفع التكليف وكان رفعه بمعنى : عدم توجهه مع وجود المقتضي ( فاذا فرضناه : انّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التّكليف بشربِ الخمر على وجه يشمل صورة الشك فيه ) اذ لا يقبح عقلاً توجيه الحرمة بايجاب الاحتياط والاجتناب على الانسان الشاك في مايع : انّه خمر أم لا ، وانّ الخمر حرامٌ أم لا ، ومع ذلك ( فلم يفعل ) أي : لم يوجّه الشارع التحريم إلى الشاك بايجاب الاحتياط عليه .

( ولم يوجب تحصيل العلم ) بالواقع ( ولو بالإحتياط ، ووجّه التكليف على وجه يختص بالعالم ) وذلك ( تسهيلاً على المكلفّ ) فانه اذا لم يقم دليلٌ على وجوب الاحتياط ( كفى ) عَدم القيام هذا في إختصاص تحريم الخمر بالعالم وإنْ

ص: 370

في صدق الرفع .

وهكذا الكلامُ في الخطأ والنسيان ، فلا يشترط في تحقّق الرّفع وجودُ دليل يثبت التكليف في حال العمد وغيره ، نعم لو قبح عقلاً المؤاخذةُ على الترك ، كما في الغافل الغير المتمكّن من الاحتياط ، لم يكن في حقّه

-------------------

كان ظاهر قوله تعالى : « إنَّما الخَمر وَالمَيسر » (1) شاملٌ للجاهل والعالم ؛ وعليه : فعدم إيجاب الاحتياط الموجب لتحريم الخمر على الشاك ، مع وجود المقتضي - تسهيلاً عليه - يكفي ( في صدق الرفع ) مع أنه دفع ، وذلك لما عَرفت : مِن وجود المقتضي للتكليف وعدم المانع الموجب للقبح في توجيه الخطاب .

( وهكذا الكلام في الخطأ والنسيان ) فانّه لا يقبح عقلاً تحريم الخمر على الناسي والخاطيء إذا أمكنهما التَحفُظ ، فانّه إذا أمكن التحفظ ولم يكن في توجيه الخطاب قبح أصلاً ومع ذلك لم يوجه الخطاب إليهما ، كان صدق الرفع محققاً ، ولا يحتاج صدق الرفع إلى توجيه التكليف أولاً الى الكل ثم رفع هذا التكليف عن الناسي والخاطيء ، بل يكفي في صِدق الرفع : عدم التكليف بايجاب التَحَفُظ والاحتياط مع وجود المقتضي للتكليف .

إذن : ( فلا يشترط في تحقق الرّفع : وجود دليل يثبت التكليف في حال العمد وغيره ) وبذلك ظهر الجواب عن الاشكالين السابقين .

ثم إن المصنّف قال : ( نعم ، لو قبح عقلاً المؤاخذة على الترك ) أي : مؤاخذة الشارع على مخالفة التكليف ( كما في الغافل ) أو الجاهل المركب ( غير المتمكن من الاحتياط ) والناسي أو الخاطيء الذي لا يتمكن من التحفظ ( لم يكن في حقه

ص: 371


1- - سورة المائدة : الآية 90 .

رفعٌ أصلاً ، إذ ليس من شأنه أن يوجّه التكليف اليه .

وحينئذٍ فنقول : معنى رفع أثر التحريم في « ما لا يعلمون » عدمُ إيجاب الاحتياط والتحفّظ فيه حتّى يلزمه ترتّبُ العقاب ، إذا أفضى تركُ التحفّظ إلى الوقوع في الحرام الواقعيّ .

وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ، فانّ

-------------------

رفعٌ أصلاً ) وذلك لعدم إقتضاء المفسدة الواقعية توجه التكليف إلى مثل الجاهل والناسي والخاطيء ،مع عدم إمكان الاحتياط والتحفظ بالنسبة إليهم ( إذ ليس من شأنه أن يوجه التّكليف إليه ) .

أقول : لكنّك عرفت صحة نسبة الرفع بالنسبة إليهم - أيضاً - لكنْ لا بمعنى الوضع عليهم ثم الرفع عنهم ثانياً ، ولا بمعنى انّه كان متوجهاً إليهم ودفع عنهم ، بل بالمعنى المتقدِّم الذي صحَّ بسبَبه رفع القلم عن المجنون والطفل والنائِم كما في حديث آخر .

وكيف كان ، فانّه حيث أراد المصنِّف تأكيد ما ذكره : من ان الرفع في « مالا يعلمون » ونحوه ، بإعتبار إمكان إيجاب الاحتياط وإيجاب التحفظ قال : ( وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التّحريم ) وهو المؤاخذة ( في « ما لا يعلمون » ) هو : ( عدم ) توجه التحريم بواسطة ( إيجاب الاحتياط ، و ) إيجاب ( التحفظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك ) الاحتياط و ( التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي ) فمعنى الرفع : إنّه لم يوجب الاحتياط مع إمكان الاحتياط بالنسبة الى الجاهل ، ولم يوجب التحفظ مع إمكان التحفّظ بالنسبة إلى الناسي والخاطيء .

( وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ) وأثرهما هو المؤاخَذَة ( فانّ

ص: 372

مرجعه إلى عدم إيجاب التحفّظ عليه ، وإلاّ فليس في التّكاليف ما يعمُّ صورةَ النّسيان لقبح تكليف الغافل .

والحاصلُ : أنّ المرتفعَ ، في « ما لا يعلمون » وأشباهه ممّا لا يشمله أدلّة التكليف ، هو إيجابُ التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعيّ ، ويلزمه ارتفاعُ العقاب واستحقاقه ،

-------------------

مرجعه إلى عَدمِ ) توجه التكليف بواسطة ( إيجاب التّحفظ عليه ) أي على الناسي والخاطيء فانه لم يوجب التحفظ عليهما حتى يترتب العقاب على المخالفة .

( والاّ ) بأنْ لم يكن معنى الرفع ذلك ، بل كان معناه : رفع التكليف بعد ثبوته ( فليس في التّكاليف ما يعمُ صورَة النّسيان ) والخطأ لوضوح : انّ عموم التكاليف لصورة النسيان والخطأ موقوف على قيام الدليل على وجوب التحفظ والاحتياط ، وقيام الدليل على ذلك مفقود ( لقُبح تكليف الغافل ) وحيث يقبح التكليف لم يدل دليل على وجوب التَحفُظ والاحتياط ، فلا يكون التكليف موجهاً إلى مثل الناسي والخاطيء والغافل .

( والحاصل :أنّ المرتفع في « مالا يعلمون » وأشباهه ممّا لا يشمله أدلة التّكليف ) وعدم شمول أدلة التكليف له إنّما هو لأن الشارع لم يوجب التحفظ والاحتياط عليه فالمرتفع فيها ( هو : ) توجه التكليف بواسطة ( إيجاب التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ، ويلزمه ) أي : يلزم عدم إيجاب الشارع التحفظ والاحتياط هذا ( ارتفاع العقاب واستحقاقه ) فمعنى رفع المؤاخذة رفع سبب المؤاخذة ، الذي هو التحفظ والاحتياط .

إذن : فلا يُقال : انّ المؤاخذة وإستحقاقها أثران عقليّان لا يمكن للشارع وضعهما ورفعهما .

ص: 373

فالمرتفعُ أوّلاً وبالذات أمرٌ مجعول يترتّب عليه إرتفاع أمر غير مجعول .

ونظيرُ ذلك ،

-------------------

لأنهُ يقال : انّ الشارع إنّما يرفع سبب المؤاخذة والاستحقاق ، والسبب هو : وجوب الاحتياط والتحفظ ، فانّ الشارع لم يوجب الاحتياط والتحفظ ، وبسبب عدم وجوبه لهما ارتفع لازمهما وهو : المؤاخذة والاستحقاق .

وعليه : ( فالمرتفع أوّلاً وبالذات أمرٌ مجعول ) والأمر المجعول هو التكليف بسبب إيجاب الاحتياط والتحفظ ، و ( يترتب عليه : إرتفاع أمرٌ غير مجعول ) وهو : الاستحقاق والمؤاخذة .

( ونظير ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ المرفوع : وجوب الاحتياط والتحفظ ، وبرفع هذا الأَثر الشرعي ارتفعت المؤاخذة اللازمة له ، هو ما ذكره من مسألة ناسي الجزء والشرط في الصلاة ، فقد قال بعض الفقهاء :

انّ الصلاة المنسي جزئها أو شرطها ، لا تحتاج الى إعادة وذلك لدليل حديث الرفع .

وردّه آخر : بأنّ هذه الصلاة تحتاج إلى إعادة ، وذلك لأنّ الاعادة مترتبة على البطلان الذي هو مخالفة لمأتي به المأمور به ، والمخالفة ليست من الآثار الشرعية لنسيان الجزء أو الشرط ، بل من الآثار العقلية ، وحديث الرفع لا يرفع هذا الاثر .

أجاب المصنّف عن هذا الرد بمثل الجواب السابق وهو : انّه لو نسي إنسان شرط الصلاة كالطهارة عن الخبث بأن صلّى في الخبث ناسياً ، أو نسي جزء الصلاة كالفاتحة بأن صلّى بلا فاتحة ، لا يلزم عليه إعادة الصلاة ، لان كلاً من الشرط المنسي أو الجزء المنسي مرفوع ، وإذا كان مرفوعاً طابق المأتي به للمأمور به ، وإذا تطابقا فقد أدّى التكليف ولا حاجة إلى الاعادة .

ص: 374

ما ربّما يقال في ردّ من تَمسّك ، على عدم وجوب الاعادة على من صلّى في النجاسة ناسيا ، بعموم حديث الرّفع من : « أنّ وجوبَ الاعادة وإن كان شرعيّا إلاّ أنّه مترتّب على مخالفة المأتي به للمأمور به الموجب لبقاء الأمر الأوّل ، وهي ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ، وقد تقدّم أنّ الرواية لا تدلّ على رفع الآثار الغير المجعولة

-------------------

وعلى هذا : فالتمسك بحديث الرفع لعدم وجوب الاعادة هو مقتضى القاعدة ، والرد عليه مردود ، واليه أشار المصنّف بقوله : ( ما ربّما يُقال : في ردّ مَنْ تَمسك على عدم وجوب الاعادة ، على من صلّى في النجاسة ناسياً ) أي في النجاسة الخبثية ، أمّا النجاسة الحَدثية : بأنْ لم يكن متوضئاً أو مغتسِلاً عن الجَنابة ، أو ما أشبه ، فاللازم عليه وجوب الاعادة .

وكيف كان : فقد تمسك بعضهم لعدم وجوب الاعادة على الناسي ( بعموم حديث الرّفع ) فجاء بعض آخر ( من ) الفقهاء وردّ هذا القائل بقوله : ( انّ وجوب الاعادة وإنْ كان ) ، أثراً ( شرعياً ) للنسيان ، وقوله : « من انّ » ، بيان لقوله : « ما ربما يقال » ، ( إلاّ ) انّ بينه وبين نسيان الجزء أو الشرط ، واسطة عقليّة ، وهو ( انّه مترتّب على ) البطلان .

ثم ان البطلان ليس أثراً شرعياً ، لانه عبارة عن : ( مخالفة المأتي به للمأمور به ، الموجب ) تلك المخالفة ( لبقاء الأمر الأوّل ، وهي : ) أي : المخالفة ( ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ) أي : لنسيان الجزء أو الشرط ، بل من الآثار العقليّة للنسيان ( وقد تقدّم : انّ الرّواية لا تدل على رفع الآثار غير المجعولة ) من جهة الشارع ، كالبطلان ، ونحوه ، فانّ البطلان أثرٌ عقلي وليس بأثر شرعي .

ص: 375

ولا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها هنا كوجوب الاعادة فيما نحن فيه » .

ويردّه : ما تقدّم في نظيره ، من أنّ الرّفع راجع هُنا إلى شرطيّة طهارة اللباس بالنسبة إلى الناسي ، فيقال بحكم حديث الرّفع : إنّ شرطيّة الطهارة شرعا مختصّةٌ بحال الذكر ، فيصير صلاةُ النّاسي في النّجاسة ، مطابقة للمأمور به فلا يجب الاعادة ، وكذلك الكلام في الجزء المنسيّ ،

-------------------

( ولا الآثار الشرعيّة المترتبة عليها هنا ) أي : المترتبة على الآثار غير المجعولة ( كوجوب الاعادة فيما نحن فيه ) فانّ وجوب الاعادة مترتب على البطلان ، والبطلان مترتب على ترك الجزء أو الشرط ، فهو أثر عقلي فلا يرفعه حديث الرفع ، فيلزم على قول هذا الراد : وجوب إعادة الصلاة لِمَنْ نسي جزءاً أو شرطاً ، لأن حديث الرفع لا يشمل نسيان الجزء أو الشرط .

( ويردّه ) أي : يرد هذا الراد ، فانّ الشيخ يؤيد من قال بعدم وجوب الاعادة ( ما تقدَّم في نظيره : من انّ الرّفع راجع هنا الى ) أمر مجعول أعني : ( شرطيّة طهارة اللّباس بالنّسبة إلى النّاسي فيقال : بحكم حديث الرّفع : إنّ شرطيّة الّطهارة شرعاً مختصةٌ بحال الذكر ) ولم تجعل طهارة اللباس ، أو طهارة البَدن ، شرطاً للناسي .

وعليه : ( فيصير صلاة النّاسي في الّنجاسة ، مطابقاً للمأمور به فلا يجب الاعادة ) عليه .

إذا عرفت هذا بالنسبة إلى ناسي النجاسة البدنية ، او اللباسية ،نقول : ( وكذلك الكلام في الجزء المنسي ) مثل نسيان الحمد ، والسورة ، والتسبيحات واذكار الركوع والسجود ، وما أشبه .

نعم ، نسيان الرّكن يوجب الاعادة لما ذكر في الفقِه من الدّليل عليه .

ص: 376

فتأمّل .

واعلم أيضا أنّه لو حكمنا بعموم الرّفع لجميع الآثار ، فلا يبعد اختصاصُه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الاُمّة ، كما إذا استلزم إضرار المسلم .

-------------------

( فتأمّل ) لعل وجهه : انّ الجزئية والشرطيّة ليستا عند المصنّف من المجعولات المستقلة حتى تقبلا الارتفاع ، بل هُما منتزعتان من الأمر بالمركب المشتمل على الجزء والشرط ، فالجزئية والشرطية ليستا من الأحكام المجعولة على مبنى المصنّف ، فكيف يمكن رفعهما بسبب حديث الرفع ؟ .

( واعلم أيضاً : أَنّه ) إذا قلنا بأن المرفوع : خصوص المؤاخذة ، أو الأثر المناسب لكلّ واحد واحد من التسعة ، فهو ، وأما ( لو حَكَمنا بعمُوم الرّفع لجميع الآثار ، فلا يبعد إختصاصه ) أي : إختصاص الرفع ( بما ) أي : بالأثر الذي ( لا يكون في رفعه ما ) أي : إضرار ( ينافي الامتنان على الاُمّة ) لأنّ الرواية في مقام الامتنان على جميع الاُمّة فتختص الرواية برفع الذي هُوَ مِنَّة لهم جميعاً ، وعليه : فلا يشمل الرفع الذي هو خلاف المِنّة على بعض الامّة ( كما إذا استلزم ) رفع الأَثر عن المسلم بسبب انّه ممّا لا يعلمون أو ما اضطروا اليه ، أو ما لا يطيقون ، أو ما أشبه ذلك ( إضرار المسلم ) الآخر .

وكذا إذا إستلزم ضرر من هو محترم المال ولو كان كافراً فانّ الكافر غير المحارب محترم المال حتى ماله الذي لا احترام له عندنا : كخمر الذمي ، وخنزيره مالم يتجاهر به فانّه لا يَحقُ للمسلم إتلافهما ، إلى غير ذلك من أموالهم المحترمة عندهم غير المحترمة عندنا ، فإنّ الكافر غير المحارب سواء كان ذمياً أو معاهداً أو محايداً يحترم ماله كما ذكرناه في « الفقه » .

ص: 377

فإتلافُ المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضَّمانُ ، وكذلك الاضرارُ بمسلم ، لدفع الضرر عن نفسه ، لا يدخلُ في عموم ما اضطرّوا إليه ، إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل باضرار الغير ، فليس الاضرارُ بالغير نظيرَ سائر المحرّمات الالهيّة المسوغة لدفع الضّرر .

-------------------

وعليه : ( فإتلاف المال المحترم نسياناً ، أو خطأ ) أو اضطراراً مثل : ما إذا نسي انّ المال للغير ، أو أخطأ في ضرب طير - مثلاً - فانكسر به اناء الغير ، أو إضطرارا لأجل سدّ الجوع ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه ( لا يرتفع معه الضّمان ) على المتلف ، والضمان هو أثر إتلاف مال الغير . ( وكذلك ) أي : نظير الاتلاف ( الاضرار بمسلم ، لدفع الضرر عن نفسه ) ، كما إذا توجه الضرر الى زيد ، فصَرَفَ زيد الضرر عن نفسه إلى الغير بأنْ أرادت الدولة - مثلاً - الضريبة من زيد فأخذ مال عمرو وأعطاه ضريبة للدولة ، فانّه بفعله هذا يرتكب الحرام ويكون المال مضموناً عليه ، فانّ دفع مال عمر وان كان نوعاً من الاضطرار ، إلا انّه ( لا يدخل في عموم ) قولِه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( ما اضطرّوا اليه ) .

وإنما لا يدخل في العموم ( إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل ) الذي هو مضطر ( باضرار الغير ) لأن إضرار الغير لرفع الضرر عن النفس ليس منّة على جميع الاُمّة بينما ظاهر حديث الرفع هو المنّة على جميع الاُمّة .

إذن : ( فليس الاضطرار بالغير ) لأجل الاضطرار ( نظير سائر المحرمات الالهّية ) المضطر إليها كشرب الخمر ، وأكل الميتة ، وما أشبه ( المسوغة ) بصيغة إسم المفعول ، صفة المحرمات أي : المحرمات الجائزة ( لدفع الضرّر ) .

نعم ، يُمكن أن يقال : إذا دار الأَمر بين الأَهم والمهم ، كان الضمان بدون الحرمة ، كما إِذا كان عند زيد دينار لعمرو ، فطلبه الظالم وقال : لو لم تعطني ديناره

ص: 378

وأمّا ورود الصحيحة المتقدّمة عن المحاسن في مورد حقّ الناس ، أعني العتق والصدقة ، فرفعُ أثر الاكراه عن الحالف يوجبُ فواتَ نفع على المعتق والفقراء ، لا إضرارا بهم ، وكذلك رفعُ أثر

-------------------

أحرقت دارك ، فانّه يجوز له إعطاء الدينار ، لأن حفظ داره أهم في نظر الشريعة من حفظ دينار غيره وإن كان ضامِناً له .

( و ) إنْ قلت : فكيف تمسك الإمام عليه السلام بحديث الرفع مع ان فيه إضراراً بالعبد حيث الا ينعتق ، وبالفقراء حيث لا يحصلون على المال بسبب إكراه المالك على الحلف بالعتق والصدقة ؟ .

قلت : ( أمّا ورود الصّحيحة المتقدّمة عن المحاسن (1) في مورد حقّ الّناس أعني : العتق والصّدقة ، فرفع أثر الاكراه عن الحالف ) وعدم ترتب الاثر على حلفه بالعتق والتصدُّق ، إنّما ( يوجب فوات نفع على ) العبد ( المعتق ) حيث لا يعتق ( والفقراء ) حيث لا يحصلون على المال ( لا ) انّه يكون ( إضراراً بهم ) ومن المعلوم : انّ عدم النفع غير الضرر ، فالرفع في هذا المقام عن الحالف كرهاً ليس ضرراً على الغير .

لكن لا يخفى : انّه ربّما يُعدّ عدم النفع : ضَرراً ، كما أَذا أراد بيع داره بألف حيث السوق رائج ، فحبسه ظالم حتى فَتَرَ السُوق ، وتنزلت قيمة الدار الى أربعمائة ، فانّه لا يُستبعد ضمان الظالم للستمائة ، لأنه عُرفاً قد سبَّب ضرر المالك ، وقد أشرنا إلى ذلك في «الفقه والاصول» .

( وكذلك ) أي نظير رفع أثر الاكراه عن الحالف بالعتق والصدقة ( رفع أثر

ص: 379


1- - المحاسن : ص339 ح124 ، وسائل الشيعة : ج23 ص226 ب12 ح29436 .

الاكراه عن المكرَه ، فيما إذا تعلّق الاكراه باضرار مسلم من باب عدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضّرر عن الغير ،

-------------------

الاكراه عن المكرَه ) - بالفتح - ( فيما إذا تعلّق الاكراه باضرار مسلم ) أو شخص محترم المال . كما اذا أكره الظالم زيداً بأنْ يأخذ مالاً من عمرو فأخذه ، فانه يدخل في عموم رفع ما إستكرهوا عليه ، فلا مؤاخذة على زيد تكليفاً ، كما انّه لا ضَمان عليه وضعاً لحديث الرفع .

وإنما لا يكون ضامناً ، لانه ليس من باب الاضرار بالغير وانّما ( من باب عدم وجوب تحمّل الضرّر ) على النفس ( لدفع الضّرر عن الغير ) فلا يكون ضامناً إلا في موارد الاهم والمُهم - على ما عرفت - فانّ الضرر لما كان أوّلاً وبالذات متوجهاً إلى الغير ، لا يلزم على المكرَه - بالفتّح - رفع الضرر عن الغير باضرار نفسه حتى وإنْ كان الضَرَرانِ مُتساويين ، كما إذا قال الظالم لزيد : اغصب لي ديناراً من عمرو ، وإلاّ أخذت ديناراً منك ؛ لكن لا يخفى ما في مثل هذه المسألة من اشكال .

نعم ، لا إشكال في انّه لا يجوز أن يقتل المكرَه - بالفتح - الغير ، فيما إذا قال الظالم له : إقتل زيداً وإلاّ قتلتك ، فانّه لا تقية في الدّماء وبطريق أولى لو قال : إقتل زيداً وإلاّ قطعت يدك ، فانّه لا يجوز له قتل زيد .

أمّا إذا قال : إقطع يد زيد وإلا قَتَلتَك لا يَبعُد جواز القطع بل وجوبه ، من جهة الأَهم والمُهم ، والمسألة سيالة في الدم : نفساً وطَرَفَاً ، والمال ، والعرض ، وكل واحد من الاربعة قد يدور بين المتساويين ، وقد يكون بين الأَهم والمهم وتارة : الأهم في المكرَه - بالفتح - والمهم في طرفه ، واُخرى بالعكس ، كما إنّ من المسألة : ما لو دار بين أحد الأربعة المذكورة والآخرين : كالمال والعرض ، والمال والدم وهكذا .

ص: 380

ولا ينافي الامتنانَ ، وليس من باب الاضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد ، فانّ الضررَ أوّلاً وبالذات متوجّهٌ على الغير بمقتضى إرادة المكرهِ - بالكسر - ، لا على المكرَه - بالفتح - ، فافهم .

بقي في المقام شيءْ وإن لم يكن مربوطا به

وهو أنّ النبويّ المذكور مشتمل على ذكر الطّيرة والحَسد

-------------------

هذا ( ولا ينافي ) الرفع هنا ( الامتنان ، وليس ) هو ( من باب : الاضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس ، لينافي ترخيصه ) اي : ترخيص الاضرار ورفعه ( الامتنان على العباد ) وإنما يكون هذا من باب عدم تحمل الضرر ، لا من باب الاضرار ، لانه كما قال : ( فانّ الضرر ) هنا ( اوّلاً وبالذات متوجه على الغير بمقتضى إرادة المكرِه - بالكسر - لا على المكرَه - بالفتح - ) فهو إذن ليس من باب الاضرار بالغير حتى يتنافى رفعه مع الامتنان .

( فافهم ) لعله إشارة الى أنّ المؤاخذة وإنْ كانت هنا مرفوعة ، الا انه - كما سبق - لا يبعد عدم رفع الضمان عن المكره - بالفتح - فللمتضرر الرجوع الى كل من المكرِه - بالكسر - والمكرَه - بالفتح .

( بَقي في المقامِ ) أي : فيما يَختص بالنبوي المشتمل على الرفع ( شيء وإن لم يكن مربوطاً به ) أي : بهذا المقام بالذات ، وهو الاستدلال بالنبوي على البرائة ، فانّ الكلام الذي نريد ان نتكلم فيه : هو حول الحديث نفسه ، لا حول الاستدلال به على البرائة . ( وهو : انّ النبوي (1) المذكور مشتمل على ذكر : الطّيرة ، والحَسد ،

ص: 381


1- - انظر الخصال : ص417 ، التوحيد : 353 ح24 ، تحف العقول : ص50 .

والتفكّر في الوسوسة في الخَلق ما لم ينطق الانسانُ بشفته ، وظاهرهُ رفعُ المؤاخذة على الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة .

ويمكن حملهُ على ما لم يظهر الحاسدُ أثرَه باللسان أو غيره بجعل عدم النُّطق باللّسان قيدا له أيضا .

-------------------

والتفكّر في الوسوسة في الخَلق ما لم ينطق الانسان بشفته ) الضمير في قوله : « بشفته » ، راجع إلى « من تطيّر ، وحسد ، وتفكر » ، كما نستظهره نحن من الرّواية .

أما المصنّف فقد قال : ( وظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث النبوي ( : رفع المؤاخذة على ) مطلق ( الحسد ) وهذا حسب استظهار المصنّف حيث يرى : انّ قوله : « مالم يَنطِق بشفته » ، راجعٌ إلى الجملة الأَخيرة ، أمّا حسب ما نستظهره نحن من ان قوله : مالم ينطق بشفته ، راجع إلى كل من الطَيرة ، والحَسد ، والتفكر ، فلا يأتي فيه هذا الكلام .

وعلى أي حالٍ : فالمصنف استظهر إنّ رفع الحَسد مطلق غير مقيد ، ومعناه : انّه لا يؤخذ الحسود بحسده سواء أظهر أَثره باللّسان واليد أم لا؟ فيكون معنى رفع الحسد : انّ الحسد كان حراماً في الاُمم السابقة مطلقاً ، فارتفعت حرمته عن هذه الامة مطلقاً .

هذا ( مع مخالفته ) أي : مخالفة هذا الظاهر الذي استظهرناه من لفظ الحسد في النبوي ( لظاهر ) الآيات وظاهر ( الأخبار الكثيرة ) الدالة على الحرمة والمؤاخذة على الحسد .

( ويمكن حمله ) أي : حمل النبوي الدال على رفع الحسد . ( على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره ) أي : غير اللسان ، كالاشارة ونحوها ( بجَعلِ عدم النُّطق باللسان ) المذكور في آخر الرواية ( قيداً له ) أي : الحسد ( ايضاً ) .

ص: 382

ويؤيّده تأخيرُ الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، المرويّة في آخر أبواب الكُفر والايمان من اُصول الكافي :

« قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : وُضِعَ عَن اُمَّتي تِسعَةُ أشياء : الخَطأ ، والنِسيانُ ، وما لا يَعلمُونَ ، وما لا يُطيقُونَ ، وَما اضطُرّوا إليه ، وما استُكرُهُوا عَلَيهِ ، والطِّيرَة والوَسوَسَةُ في التَفَكّر في الخَلق ،

-------------------

فلفظ الحَسد في النبوي ليس بمطلق ، بل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : ما لم ينطق بشفته ، قيد للثلاثة : الطَيَرَة ، الحسد ، والتفكر ، جميعاً ، والمعنى : انّ الحسد كان حراماً مطلقاً في الامم السابقة ، فارتفع عن هذه الامة حرمة الحسد المجرد عن اللّسان واليد .

لا يقال : كيف كان الحسد في الاُمم السابقة حراماً مطلقاً ، والحال ان فعل القلب ليس بيد الانسان حتى يكون محرّماً؟ .

لأنّه يُقال : المراد الحسد الذي هو سببه ، لا الحسد الذي يُلقى في القلب من غير إختيار .

( ويؤيّده ) أي : يؤيد كون عدم النطق المذكور في آخر الرواية قيداً للحسد أيضاً ( تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي ) وقد تَمَسْكنا أوّلاً برواية الصدوق دون هذه المرفوعة ، لأن رواية الصدوق صحيحة ، بينما رواية الهندي مرفوعة .

وعلى أي حال : فرواية الهندي مرويةٌ ( عن أبي عبد اللّه عليه السلام المروّية في آخر أبواب الكُفر والايمان من اُصول الكافي ، قال ) عليه السلام : ( قال رَسوُلُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : وُضِعَ عَن اُمَتّي تِسعَةُ أَشْيَاء : الخَطأ ، وَالنِسيانُ ، وَما لا يَعْلَمُونَ ، وَمَالا يُطيِقُونَ ، وَمَا اضطَرّوُا إليهِ ، وَمَا استُكرِهُوا عَليهِ ، والطَيَرَة ، وَالوَسوَسةِ في التَّفكر في الخلق ،

ص: 383

والحَسَدُ ما لَم يَظهَر بِلسان أو بِيَد » ، الحديث .

ولعلّ الاقتصارَ في النبويّ الأوّل على قوله : « ما لم ينطق » ، لكونه أدنى مراتب الاظهار .

وروي : « ثلاثةُ لا يَسلَمُ منها أحَدٌ ، الطِّيرَةُ والحَسَدُ والظَنُّ .

-------------------

وَالحَسَدِ مَالَمْ يَظهر بلسانٍ أو بيدٍ ، الحديث ) (1) فيكون قيد « مالم يظهر » متعلقاً بالحسد قطعاً .

وحيث انّ الحديثين واحد مآلاً ، فاللازم أنْ يقال : إنّ القيد في الحديث الأوّل وهو قوله : « ما لم ينطق بشفته » ، متعلق كما في الحديث الثاني « بالحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلق » .

لا يقال : إنّه لم يذكر في حديث الصدوق : « أو بيد » ، وقد ذكر في هذا الحديث .

لأنه يقال : ( ولَعَلّ الاقتصار في النبوي الأوّل ) الذي رواه الصدوق ( على قوله : « ما لم ينطق » ، لكونه أدنى مراتب الاظهار ) إذ الاظهار باليد أسوء من الاظهار باللسان، فهو مثل قوله سبحانه : « فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ » (2) حيث إنّ « أف » ادنى مراتب العقوق ، فيعلم حرمة الأعلى بالفحوى .

( و ) يؤيد كون الحسد المرفوع : هو الحسد مقيداً بعدم النطقّ وعدم العمل باليد - ايضاً - انّه قد ( رُوي : ثَلاثةٌ لا يَسلَمُ مِنها أحدٌ : الطَّيرَة ، وَالحَسَد ، و ) سُوءِ ( الظنّ ) فكل إنسان غير المعصوم لا بدّ أن يعرض له شيئاً من التَطَير ، أو الحَسد أو سوء الظنّ .

ص: 384


1- - الكافي اصول : ج2 ص463 ح2 .
2- - سورة الإسراء : الآية 23 .

قيل : فما نَصنعُ ؟ .

قال : إذا تَطيَّرتَ فامضِ ، وإذا حَسَدتَ فلا تَبغِ ، وإذا طَنَنتَ فلا تُحقِّق » .

والبغيُ عبارةٌ عن استعمال الحسد ، وسيأتي في رواية الخصال : « إنّ المؤمنَ لايَستَعمِلُ حَسَدَهُ » .

-------------------

( قيل ) للامام عليه السلام ( فَما نَصنَع ) إذا عَرضَ عَلينا شيئاً من هذه الثَلاثة ؟ .

( قَال ) عليه السلام : ( إذا تَطَيّرتَ فَامْضِ ) ولا تَعتَنِ بتَطَيرك وَتَشاؤمَك ( وإذا حَسَدْتَ فلا تَبْغِ ) أي : لاتَعمل حَسب ما يدعوك إليه حسدك ( وإذا ظنَنَتَ فلا تحقِّق ) (1) ظنّك بإظهار بيد أو لسان .

( والبغي ) في قوله : « فلا تبغ » ( عبارهٌ عن استعمال الحسد ) لأن البَغي هو الطلب المقترن بالعمل ، ولهذا تُسمّى المرأة الفاجرة : بالبغية ، لأنها تطلب الحرام وتفعله .

ومن الواضح : انّ وجه تأييد هذه الرواية لما ذكرناه من ان الحسد المرفوع هو المقيد بعدم إظهاره بيد أو لسان ، انّه عليه السلام نهى عن استعمال الحسد ، فيُستفاد منه : ان الحسد المرفوع حرمته هو : مالم يظهر أَثره ، وقد تقدّم : انّ في الآية الكريمة :

« وَمِن شَرِ حَاسِدٍ إذا حَسد » (2) اشارة الى هذا المعنى فانه إذا حسد ، اي اذا أظهر حسده ( وسيأتي في رواية الخصال ) ما يشير الى هذا المعنى أيضاً ، حيث يقول عليه السلام : ثَلاثةٌ لَم يَنج مِنها نَبيٌ فَمَنْ دُونِه : التَفكُرُ في الوَسوَسَةِ فِي الخلقِ ، وَالطَيَرَةِ، وَ الحَسَد : إلاّ ( إنّ المُؤمِنَ لا يَستَعمِل حَسَدَهُ ) (3) ومعنى ذلك : إن الحسد

ص: 385


1- - بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 .
2- - سورة الفلق : الآية 5 .
3- - الخصال : ص89 ح27 ، الكافي روضة : ج8 ص94 ح86 .

...

-------------------

موجودٌ في كل أحدٍ ، إلا انّ الذي آمنَ باللّه ِ وَاليومِ الآخر لا يَستَعمِلُ حَسدَهُ بيدٍ أَو لسانٍ .

وعليه : فتكون هذه الرواية قرينةٌ على انّ رواية الصدوق المتقدّمة عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، يُراد من قوله فيها : « ما لم يَنطِقُ الانسان بشفته » تقييد الحسد أيضاً ، لا تقييد الجُملة الأخير فقط .

أقول : قال بعض في تفسير هذه الرواية : إنّ مادة الحسد الموجودة في القلب حَسنة ، لأنها تُوجِبُ التقدّم من جهة التنافس ، وإنّما صورة الحسد الظاهرة بالّلسان واليد قبيحةٌ ، كمادة النار : فهي حَسَنَةٌ ، لأنّها تطهي الطعام وتنفع في تهيئة الوسائل والآلات ، وإنّما إستعمالها في الاحراق الضار قبيح ، وكذلك مادة الطَيرَة ، فانّها مادة تعدّل التفاؤل والتشاؤم في داخل الانسان ليختار الانسان بينهما الأحسن ، وإنّما صورتها الظاهرة وهو الوقوف عن العمل بسبب التطَيَرُ قبيحٌ .

وكذلك حال الوسوسة فانّها تقليب لوجوه الآراء والافكار ، وإنّما الاستمرار عليها والشك في الخالق وكيفية الخلقة قبيح .

وواضح : الأنبياء معصومون ، ولم يكونوا متَّصفين إلاّ بالصفات الحسنة من هذه الثلاثة ، دون السيئة منها .

إنْ قلت : قوله عليه السلام : « لَم يَنج فيها » الظاهر في انّها صفات سيئة .

قلت : باعتبار إن الأغلب يستعملون هذه الثلاثة في الامور السيئة جاء التعبير كذلك ، فالرواي على هذا التفسير مثل قوله تعالى : «الانسَانُ خُلِقَ هَلوُعاً»(1)

ص: 386


1- - سورة المعارج : الآية 19 .

ولأجل ذلك عَدَّ في الدّروس من الكبائر في باب الشهادة إظهارَ الحسَد ، لا نفسَه ، وفي الشرائع : « إنّ الحسدَ معصيةٌ ، وكذا الظنّ بالمؤمن ، والتظاهرُ بذلك قادحٌ في العدالة » .

والانصافُ : أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك .

-------------------

وقوله سبحانه : « إنّه كَانَ ظَلوُمَاً جَهوُلاً » (1) وغير ذلك من الآيات الكريمة .

وربّما يُقال : ان الرواية بنفسها ضعيفة السند ، فلا يستند إليها .

( ولأجل ذلك ) الذي ذكرناه : من ان إظهار الحسد حرام ، لا نفس الحسد القلبي ( عَدَّ في الدّروس من الكبائر في باب الشّهادة : إظهار الحَسد ، لانفسه ) فالحَسدُ الكامنُ في النفس لا يعدّ عصياناً .

( و ) قال المحقق ( في الشرائع : إنّ الحَسدَ معصيةٌ ، وكذا الظّنّ بالمؤمن ، والتظاهر بذلك ) أي : بكل واحد من الحسد والظنّ ( قادحٌ في العدالة ) ، ممّا يدلُ على إنّ كلاً من الحسد المجرد ، وكذلك الظنّ المجرد ، ليس بقادح في العدالة ، وعدم قدحه إما من جهة كونه معصية قلبية فقط ، بمعنى القبح الفاعلي لا الفعلي ، وامّا من جهة كونه صغيرة مرفوعة عن هذه الاُمّة .

( والانصاف : انّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك ) أي : إلى التظاهر به ممّا يدل على ان الحسد المُحرّم هو التظاهر بالحسد ، أما الحسد المرفوع عن هذه الاُمّة فهو الحسد القلبي الذي لا يظهر بيد أو لسان .

نعم ، لا شك في أنّ الحسد الذي هو عبارة عن : تمنّي زوال نعمة المحسود - في مُقابل الغِبطَة التي هي صفة حسنة ومعناها : تمني ارتفاع الانسان بنفسه

ص: 387


1- - سورة الأحزاب : الآية 72 .

وأمّا الطِّيَرَةُ ، بفتح الياء ، وقد يُسكّن ، وهي في الأصل التشاؤم بالطَّير ، لأنّ أكثر تشاؤم العرب كان به ، خصوصا الغراب .

والمرادُ ، إمّا رفعُ المؤاخذة عليها ،

-------------------

الى مستوى المغبوط - صفة سيئة يلزم على الانسان تزكية نفسه عنها ، ولها قبح فاعلي ، وإنْ لم يكن لها قبح فعلي ، والامم السابقة كانوا مأمورين بازالة هذا الحسد القلبي بسبب تزكيةِ النفس ، فلو أبقوه في قلوبهم كُتِب معصيته عليهم .

( وأمّا الطَّيَرَة - بفتح الياء وقد يسكن - وهي في الأصل ) أي : في معناها اللغوي ( التشاؤم بالطَّير ) فانّ كثيراً من الناس إذا رأوا طيراً يطير ذات اليمين أو ذات الشمال ، أو رأوا طيران يتناقران ، أو ما أشبه ، جعلوا ذلك دليلاً على حُسن ما يُريدون من العمل فأتوا به ، أو على سوئه فتركوه وإن كان لازماً وقد عزموا عليه .

ثم صار التطيّر بالغلبة إسماً لمُطلق التشاؤم ، سواء كان بالطَير أو بسائر الأشياء فإذا خرج - مثلاً من داره وهو يريد السفر ، فرأى جنازة أمامه ، يتشائم من سفره ذلك ويتركه ، ونحو هذه الامور التي لم ينزل اللّه بها من سلطان .

وإنّما سُميّ التشاؤم بالتَطَيَّر ( لأنّ أكثر تشاؤم العرب كان به ) أي : بالطير دون سائر الأشياء ، و ( خصوصاً الغُراب ) من بين الطيور ، وقد تقدّم شعر يزيد الصريح في الكفر : « نَعِبَ الغُراب فقلت صح أو لا تصح » (1) ، الى آخره .

( والمراد ) من رفع الطيرة : ( اما رفع المؤاخذة عليها ) .بمعنى : إن التطيّر كان مُحرماً في الامم السابقة ، لكن رُفِعَ عن هذه الامة حرمتها فلا يؤاخذون عليها .

ص: 388


1- - بحار الانوار : ج45 ص199 ب39 ح40 .

ويؤيّده ما روي من أنّ الطيرة شرك وإنّما يذهبه التوكّل ،

-------------------

( ويؤيّده ) أي : يؤيد كون التطيّر كان محرماً في الامم السابقة وقد ارتفع عن هذه الاُمّة ( ما روي : من انّ الطّيرة شرك ) باللّه سبحانه وتعالى ، لأن المتطيّر يرى تأثير هذا الطير أو ذلك الشيء الذي يتطيّر به على مصيره ، فهو لا يرى اللّه تعالى المؤثر الوحيد في كل اموره .

ثم انه جاء في الرواية بعد الكلام المتقدّم : ( وانّما يذهبه ) أي : يذهب التطير ويبطله : ( التّوكل ) (1) فاذا توكل الانسان على اللّه وواصل عمله ولم يعتن بتطيّره لم يكن به بأسٌ ، لأنه بعد اعتنائه هذا ، نفي الشرك باللّه سبحانه عن نفسه ، لان من الشرك ان يرى مع اللّه مؤثراً في اُموره .

والحاصل : ان هنا ثلاثة امور :

الأوّل : أن يمرّ التطيّر بخاطر الانسان من دون أن يعتقد به ، أو يرتب عليه أثره ، وهذا مرفوع عن هذه الامة .

الثاني : أن يعتقد بكونه مؤثراً في مصيره ، ويرتب عليه اثره فيتوقف عن عمله ، هذا حرام قطعي وشرك .

الثالث : ان لا يعتقد قلباً بذلك ، وإنّما يرتب عليه أثره عملاً : بان يتوقف عن عمله الذي أراد أن يعمله ، أو قولاً : بان لا يتوقف عن عمله ، لكنّه يقول : هذا غُراب ينعب فيُسبب لنا المشاكل في عملنا ، وهذا حرام لأنّه أظهره بلسان أو بعمل .

ص: 389


1- - وقد ورد في الكافي روضة : ج8 ص198 ب8 ح236 وفي وسائل الشيعة : ج22 ص404 ب35 وفي بحار الانوار : ج55 ص322 ( كفارة الطيرة التوكل ) .

وإمّا رفعُ أثرها ، لأنّ الطّير كان يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع .

-------------------

( وامّا ) ان يكون المراد من رفع الطَيَرة : ( رفع أثرها ) أي : أثر الطيرة من التشاؤم بالشر ( لأنّ الطّير كان ) بسبب التشاؤم به ( يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع ) وأمرهم بالمضي في مقاصدهم ، بدون أن يتأثروا بالتطيّر ويتخذوا منه سبباً لوقوفهم عن العمل الذي يقصدونه .

وهنا شيء آخر وهو : انّه لا يكون للطَيَرة تأثيرٌ في الخارج أيضاً ، وذلك لأن للنفس تأثير في الخارج كما لها تأثير في البدن ، أما تأثيرها في البدن : فان كلاً من النفس والبدن يؤثر في الآخر ، فاذا حزنت نفس الانسان سقم بدنه ، كما إذا سقم بدن الانسان حزنت نفسه .

وأما تأثيرها في الخارج : فقد ورد : « أنّ العَينَ لتُدخِلُ الرَجُلَ القَبرَ ، والبَعير القَدر » (1) مع وضوح : انّ العين حركة نفسية لا أكثر ولا أقل لكنها تؤثر في الخارج فتردي الذي وقعت عليه ، كما ورد : « لا تُعادُوا الأَيامَ فَتُعادِيكُم » (2) فانّ هذه الرواية مع قطع النظر عن تأويلها بالأئمة عليهم السلام ، ظاهرة في ان نفس معادات الأيام تُوجب معادات الأيام للانسان ، فاذا تَصورَ الانسان ان يوم الاربعاء - مثلاً - نحسٌ لعمل مّا ، صار ذلك اليوم نحساً عليه .

وورد أيضاً : « إنّ الروُّيا تقع على ما عبّر » (3) وقد عَبّر يوسف عليه السلام الرؤيا الكاذبة بالصلب ، مع انه لم ير رؤيا في المنام ، بل فكر في نفسه شيئاً وقال له

ص: 390


1- - بحار الانوار : ج63 ص26 ب1 ح29 .
2- - الخصال : ص394 ، معاني الاخبار : ص123 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص77 ب11 ح14804 .
3- - وسائل الشيعة : ج6 ص502 ب40 ح8549 و ح8550 ، بحار الانوار : ج61 ص174 ح34 ب44 .

وأمّا الوسوسةُ في التفكّر في الخَلق ، كما في النبويّ الثاني ، أو التكفّر في الوسوسة فيه ، كما في الأوّل ، فهُما واحدٌ ، والأوّل أنسبُ ، ولعلّ الثاني اشتباه من الرّاوي .

-------------------

بصورة الرؤيا ، فرؤياه أثّر في اليقظة ، وتفكيره أثر في الواقع .

كما ان تلك المرأة لما رأت الرؤيا وعبّر الرجل لها بموت زوجها مات زوجها ، الى غير ذلك ممّا هو بحث مفصل مذكور في علم النفس .

( وأمّا الوسوسةُ في التفكّر في الخَلقِ كما في النبوي الثاني ) (1) أي : مرفوعة الهندي ( أو التفكر في الوسوسة فيه ) أي : في الخَلقِ ( كما في الأوّل ) (2) الذي نقله الصدوق ( فهما واحدٌ ) معنىً ، لوضوح : انّه لا فرقَ بين أنْ يُقال : وَسوَسَ في تَفكرهِ ، أو تَفَكَرَ في وَسوَسته .

( والأوّل : أنسب ) إذ الوسوسة توجد في التفكر ، وإن كان الثاني صحيحاً أيضاً - على ما عرفت - فقول المصنِّف : ( ولعل الثاني اشتباه من الرّاوي ) محل تأمّل .

وربّما يقال : انّه من باب القلب في الكلام مثل عرضت الحوض على الناقة أي : الناقة على الحوض .

كما ويحتمل أنْ يكون فيه معنى النسبة ، مثل قول المتكلمين : الواجبات الشرعيّة ، ألطاف في الواجبات العقلية ، أي : بالنسبة إليها .

وعلى أي حال : فالوسوسة في التفكر أو التفكر فيها مرفوع عن هذه الاُمّة

ص: 391


1- - الكافي اصول : ج2 ص463 ح2 .
2- - الخصال : ص89 ح27 ، الكافي روضة : ج8 ص94 ح86 .

والمرادُ به - كما قيل - : وسوسةُ الشيطان للانسان عند تفكّره في أمر الخلقة . وقد استفاضت الأخبار في العفو عنه .

ففي صحيحة جميل بن درّاج قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّه يقع في قلبي أمرٌ عظيمٌ ، فقال عليه السلام : قل : لا إله إلاّ اللّهُ . قال جميل : فكلّما وقعَ في قلبي شيءٌ قلتُ لا إله إلاّ اللّه فذهب عني » .

وفي رواية حمران عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، عن الوسوسة

-------------------

( والمرادَ به كما قيل : وسوسةُ الشيطان للإنسان عند تفكّره في أمر الخلقة ) بأن يتفكر في انّه هل له خالق أو لا؟ وإذا كان له خالق فكيف يمكن أن يكون خالق لا جسم له ، ولا صورة ، ولا عرض ، ولا جوهر ، ولا ما أشبه ذلك؟ وإذا كان كذلك فمن هو خالق الخالق؟ واذا كان للخالق خالق فمن هو خالق ذلك الخالق؟ وهكذا .

والمفهوم من النبوي : انه كان حراماً في الاُمم السابقة ، ومعنى حرمته عليهم : هو الامتداد في التفكير فيه وذلك فيما إذا كان إمتداده بيد الانسان وباختياره ، وأما نفس الالقاء في القلب بدون الاختيار فليس بمحرم حتى عليهم ( وقد استفاضت الأخبار في العفو عنه ) وعدم المؤاخذة عليه ان تعمده أحد من هذه الامة ، واما ان لم يتعمده فواضح انه لا حرمة فيه ( ففي صحيحة جَميل بن دراج قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّه يَقع في قلبي أمرٌ عظيم ؟ فَقالَ عليه السلام : قل لا إله إلاّ اللّه ، قالَ جَميل : فكلما وَقَعَ في قلبي شيءٌ قُلتُ : لا إله إلا اللّه فَذهبَ عَني ) (1) ومن المعلوم : انّ المراد بالأمر العظيم أمثال ما ذكرناه .

( وفي رواية حمران عن أبي عبداللّه عليه السلام ) انّه سأله ( عن الوَسوَسة

ص: 392


1- - الكافي اصول : ج2 ص424 ح2 .

وإن كثرت ، قال عليه السلام : « لا شَيءَ فيها ، تَقُولُ : لا إله إلاّ اللّهُ » .

وفي صحيحة محمّد بن مُسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « جاء رجل إلى النبيّ ، صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فقال : يا رَسُولُ اللّه ! إنّي هلكتَ . فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : أتاك الخبيثُ ، فقال لك : مَن خَلَقَكَ ، فقلتَ : اللّه تعالى ، فقال : مَن خَلَقَهُ ؟ فقال : أي والذي بَعَثَكَ بِالحقِّ ، قال كذا فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ذاك وَاللّهِ مَحضُ الايمان » .

-------------------

وإن كَثُرتْ ؟ ) بمعنى الامتداد الزمني ، أو بمعنى التَشعُب الى فروع مختلفة ، كالوسوسة في اللّه ، وفي الرسول ، وفي الامِام ، وفي المعَاد ، وما أشبه ذلك ؟ .

( قال عليه السلام : لا شَيءَ فِيها ، تقولُ : لا إله إلاّ اللّه ُ ) (1) وكأَنَ قول لا إله إلاّ اللّه يوجب الايحاء الى النفس ببطلان تلكَ الامور التي وقعت فيها ، أو لأن الشيطان يُطرد بسبب قول لا إله إلا اللّه .

( وفي صَحيحَة مُحمّد بن مُسلم عن أبي عَبد اللّه عليه السلام : جاءَ رَجُلٌ إلى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلمفَقالَ : يا رسوُل اللّه إني هَلَكْتُ ، فَقالَ صلى اللّه عليه و آله وسلم : أتَاكَ الخَبيث ) أي : الشيطان ( فَقال لَكَ : مَنْ خَلَقَك ؟ فقُلتَ : اللّه تعالى ، فقال : مَنْ خَلقَهُ ؟ فقال ) الرَجُلُ مصدقاً للنبي : ( أي وَالّذي بَعَثَكَ بالحَقِ قال : ) لي الخبيث ( كذا ) مثل ما قُلتَ يا رسول اللّه ( فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ذاكَ واللّه مَحضُ الايمان ) (2) .

لا يقال : فكيف قال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّه محضُ الايمان؟ وهل تكون الوسوسة من محض الايمان ؟ .

ص: 393


1- - الكافي اصول : ج2 ص424 ح1 ، فقه الرضا : ص385 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح3 (بالمعنى) .

قال ابن أبي عمير ؛ فحدّث ذلك عبد الرحمن بن الحجّاج ، فقال : حدّثني أبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ رَسُولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إنّما عَنى بقوله « محضُ الايمان » خوفه أن يكون قد هَلَكَ حيث عرض في قلبه ذلك » .

وفي رواية أُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « وَالذي بَعَثَني بالحَقّ إنّ هذا لَصَريحُ الايمانِ ، فاذا وَجَدتُموهُ فقولوا : آمَنّا باللّه وَرَسُولِهِ ، وَلا حَولَ ولا قُوّةَ إلاّ باللّهِ » .

-------------------

لأنه يقال : ( قال ابن أبي عُمير : فحدّث ) أيضاً ( ذلك ) الحديث الذي حدثه مُحمّد بن مُسلم ( عبدالرحمن بن الحّجاج فقال ) بعد نَقلهِ للحديث المتقدّم : ( حدّثني أبي عن أبي عبداللّه عليه السلام : انّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إنّما عَنى بقوله ) ذلك : ( « محض الايمان » خوفه ) أي : خوف الرجل ( أن يكون قَد هَلَكَ حيث عرض في قلبه ذلك ) (1) فانّ مَن يَخافُ الهَلاك لا يكون إلاّ مؤمناً ، إذا غير المؤمن لايعتقد بهلاكه بسبب مثل هذا التفكير - كما هُوَ واضح - .

( وفي رواية اُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بعد ان سئل عن الوسوسة انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : ( والّذي بَعَثَني بالحَقّ إنّ هذا لصريحُ الايمانِ ، فاذا وجدتُمُوه ) أي : مثل هذا التفكير في النفس ( فقُولوا : آمنّا باللّه وَرَسُولِه ولا حَولَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّه ِ ) (2) .

ولعلّ المستفاد من إختلاف الروايات فيما يقوله الذي يجد في نفسه الوسوسة : انّه يصح التخلص بكلّ ما يؤدّي ذلك ، كأن يقول : لا حَولَ وَلا قُوةَ إلا باللّه ِ العلي العظيم ، أو يقول : اللّه أعبُد وَحدَهُ لا شريك له ، أو يقول : لا شريكَ لَكَ

ص: 394


1- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح4 (بالمعنى) .
2- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح4 .

وفي رواية أُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّ الشّيطانَ أتاكُم مِن قِبَلِ الأعمال ، فلم يَقوَ عَلَيكم ، فأتاكُم مِن هذا الوجه لكي يستَزلّكُم ، فاذا كان كذلك فليذكرُ أحَدُكُم اللّه تعالى وَحدَهُ » .

ويحتمل أن يُرادَ بالوسوسة في الخَلق الوسوسةُ في امور النّاس وسوء الظنّ بهم ،

-------------------

ياربّ جَلّ اسمُك وعزَّ ذكرك ، أو ما أشبه ذلك .

ولعل المُستفاد أيضاً من هذه الأحاديث أنْ يكون الأمر كذلك بالنسبة الى الوسوسة والتشكيك في الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيصح أن يقول : أشهدُ أنّ مُحمّداً عَبدُ اللّه ِ وَرَسُوله ، أو أشهد أنَّ محمّداً عَبدُ اللّه ِ وَرسولِهِ أرسلَهُ الى الناسِ كافةً ، وما أشبه ذلك ، وهكذا بالنسبة الى النبوة العامّة ، والامامة ، والعدل ، والمعاد ، لاستفادة الملاك من الأحاديث المتقدّمة وإنْ لم أرَ مَنْ تَعرضَ لها .

( وفي رواية أخرى عَنهُ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بعد أنْ سُئِلَ عَن الوسوسة فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( إنّ الشَّيطان أَتاكم من قِبَل الأعمال ، فَلم يَقوَ عَلَيكم ) أي : لم يتمكن من أنْ يصرعكم كما يصرع المصارع رقيبه ( فأتَاكُم مِنْ هذا الوجه ) أي : من وجه التفكر والوسوسة في القلب ( لكي يَستَزَلكُم ) ويوُجب وقوعكم في المعصية والكُفر ، ( فاذا كان كذلك فَليذكرُ أحدُكُم اللّه تعالى وَحدَهُ ) (1) بأنْ يقول - مثلاً : لا إله إلا اللّه ، وهذه الرواية تؤيد ما ذكرناه : من إنّ المقصود : ذكر اللّه لدفع الوسوسة التي عرضت عليه .

( ويحتمل أن يُرادَ بالوسوسة ) في التفكر ( في الخَلق : الوسوسة ) في التفكر ( في أمور النّاس ، و ) ذلك عن طريق ( سوء الظّنّ بهم ) فيكون المُراد من الخلق

ص: 395


1- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح5 .

وهذا أنسَبُ بقوله : « ما لم ينطق بشفته » .

ثمّ هذا الذي ذَكَرنا ، هُوَ الظاهر المَعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة .

-------------------

في الرواية : المخلوق دون الخالق .

يؤيد ، وهذا المعنى ، ماتقدّم في الرِواية : من انّه ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطَيَرَة ، والحَسد ، والظنّ (1) ، وقد ذكرنا هناك انّ المراد بالظنّ : الظنّ السَيء ( وهذا أنسب بقوله : « مالم ينطق بشفته » (2) ) ولعلّ وجه الأنسبية ماذكروه : من انّ الوَسوَسةَ في أمر المخلوق ربّما يجري على اللسان ، دون الوسوسة في أمر الخلقة فانّه لا يَجري على اللسان .

لكنْ لا يخفى : ان الأَنسبية محل تأمّل ، بَلّ الأَنسب : هو المعنى المشهور المنصرف من الروايات المذكورة .

( ثمّ هذا الذي ذَكرَنا : هُوَ الظاهر المَعروف في معنى الثلاثة الأَخيرةِ المذكورة في الصحيحة ) : من الوَسوَسة في التفكر في الخَلق ، والطَيَرَة ، والحَسد .

لكنْ قيل في تفسيرها معنى آخر ، فرفع الطَيَرة - مثلاً - قالوا : يعني : تحريمها على الاُمّة ، ونهيهم عن الاعتناء والالتفات إليها أو العمل بها ، لا رفع حرمتها أو أَثرها العادي ، فلا يكون رفعها حينئذ على سياق رفع أخواتها .

كما قيل في معنى رفع الحَسد : أن الحسد الذي يخطر بالبال أحياناً ، رفع حرمته ، أما الحَسد العمدي فغيُر مَرفوع سواء أظهره أم لا ؟ .

وَهكذا قِيلَ في معنى الوسوسة : بانّه هُو التفكر في القضاء والقَدر ، وَخلق

ص: 396


1- - بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 .
2- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 .

وفي الخِصال ، بسند فيه رفعٌ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « قال ثَلاثٌ لم يَعرَ مِنها نبيٌّ فَمَن دُونَهُ ، الطِيَرَةُ والحَسَدُ والتَفَكّرُ في الوسوسةِ في الخلق » .

وذكر الصدوق رحمه اللّه ، في تفسيرها : أنّ المرادَ بالطَيرَة ، التطيّرُ بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو المؤمن ، لا تطيّره ،

-------------------

الأَشرار من مثل إبليس وغَيرهِ ، وإنّ أفعالَ العباد باختيارهم أَو بمشيئةِ اللّه ِ سُبحانه وتَعالى ، وغير ذلك من الاُمور المرتبطة بالخالق أَو بالخلق .

هذا ، ولكن قد أشرنا فيما مضى : بأن الظاهر منها هو ما ذكرناه .

ثم انّه لما كان الظاهر تطابق الفقرات الأخيرة في النبوي ، المعترضة للحسد والطَيَرة والوَسوَسة ، مع حديث الخصال الآتي ذَكَرَهُ المصنّف ليذكر توجيه الصدوق له بما لا يُنافي مقام الأنبياء وعصمتهم فقال : ( وفي الخِصال بسند ) مذكور ، لكن ( فيه رفع ) أي : ان هذا الخبر مرفوع وليس سَنده متصلاً ، فهو ضعيف السَند ( عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : ثلاثٌ لم يَعر ) أي ، لم يخلوا ( منها ) أي : من هذه الثلاثة ( نبيٌّ فَمَن دونَهُ : الطّيرة ، والحَسَدُ ، والتفكّرُ في الوسوسة في الخَلق ) (1) فانّكَ ترى إنّ هذا الحديث يتطابَق مع النبوي ، في فقراته الأخيرة بفارق : إنّ في هذا الحديث قد نسب هذه الثلاثة إلى الأنبياء أيضاً .

( وذكر الصّدوق رحمه اللّه في تفسيرها : أنّ المراد بالّطَيَرة : التطَيرّ بالنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أو المؤمن ، لا تطيّره ) أي : لا يتطير النبي نفسه ، فان النبي لا يتطير ، وإنّما يتطَيَر

ص: 397


1- - بحار الانوار : ج11 ص75 ب4 ح2 .

كما حكى اللّه ، عزّ وجل ، عن الكفّار : « قالوا اطّيَّرنا بِكَ وَبِمَن مَعكَ » .

والمراد بالحسد أن يُحسَدُ ، لا أن يَحسُدَ ، كما قال اللّه تعالى : « أم يَحسُدُونَ النّاسَ عَلى ما ءاتاهُمُ اللّهُ » .

-------------------

الكفار بالأنبياء والمؤمنين ، كما ورد في القرآن الحكيم : « يَطَّيّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ » (1) و ( كما حكى اللّه عزّوجلّ عن الكفّار ) من قوم صالح عليه السلام ، حيث انهم « قالوا اطّيَّرنا بِكَ وَبمَنْ مَعَكَ » ) (2) من المؤمنين بك .

( والمراد بالحسد : أن يُحسدَ ) بصيغة المفعول ، أي : بأنْ يكون النبي والمؤمنون محسودين ( لا أن يَحسُدَ ) النبي بنفسه بصيغة الفاعل ( كما قال اللّه تعالى : « أم يَحسُدُون النَّاسَ عَلى ما ءاتاهُمُ اللّه ُ ) من فضله » (3) بمعنى : ان الناس يحسدون الأنبياء والمؤمنين على ما ءاتاهم اللّه من فضله ، و « أم » في قوله تعالى : « أم يحسدون ..»بمعنى : بل ، كما ذكره المفسرون وغيرهم .

انتهى

الجزء السادس ويليه

الجزء السابع في تتمّة

الاستدلال بالسنّة للبرائة

ونستمد منه العون

في إتمامه

ص: 398


1- - سورة الاعراف : الآية 131 .
2- - سورة النمل : الآية 47 .
3- - سورة النساء : الآية 54 .

المحتويات

تتمّة التنبيه الثالث ... 7

اعتبار الظنون الرجاليّة... 8

الظن بالمسائل الاصوليّة... 10

التنبيه الرابع : الظنّ في التطبيقات ليس حجّة... 32

التنبيه الخامس : في اعتبار الظنّ في اُصول الدين... 43

الجهات التي يمكن ان يتكلم فيها... 47

الذي لا يجب فيه تحصيل الاعتقاد... 88

المقام الأول : في القادر... 88

المقام الثاني : في غير المتمكن من العلم... 107

التنبيه السادس : هل يترتب على الظن آثار غير الحجيّة... 138

المقام الأول : الجبر بالظن غير المعتبر... 139

المقام الثاني : في كون الظنّ غير المعتبر موهنا... 154

المقام الثالث : في الترجيح بالظن غير المعتبر وهو على قسمين... 172

القسم الاول : ما ورد النهيُ عنه بالخصوص... 173

القسم الآخر : الظنّ غير المعتبر لبقائه تحت اصالة حرمة الظنّ... 180

الترجيح بهذا الظنّ في الدلالة... 182

الترجيح به في وجه الصدور... 190

ص: 399

الترجيح به من حيث الصدور... 191

المقصد الثالث : في الشك ... 247

مبحث البراءة والاشتغال... 249

الانحصار عقلي... 282

تقسيم الاصول الاربعة... 285

الشك دون ملاحظة الحالة السابقة... 286

الشك في التكليف... 287

المطلب الأول دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب... 293

المسألة الاولى : ما لا نصّ فيه... 294

قول الاصوليين بالبراءة... 296

أدلة الاصوليين : الاول : الكتاب... 296

الثاني : السنة... 331

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 7

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

والمرادُ بالتفكّر ابتلاء الأنبياء عليهم السلام ، بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ، كما حكى اللّه عن الوليد بن المُغيرة : « إنّه فكَّر وَقَدَّرَ فقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ » ، فافهم .

-------------------

( والمراد بالتفكرّ : إبتلاء الأنبياء ) والأئمة عليهم السلام ( بأهل الوسوسة ) من الناس الذي يشككون في الأنبياء وفي دعوتهم ، وفي الأئمة الطاهرين والأولياء المقربين .

وعلى هذا ، فيكون معنى هذا الحديث هو ما ذكره الصدوق ( لا غير ذلك ) فان الانبياء معصومون ولا يكون فيهم شيء من الصفات السّيئة .

وأما ابتلاء الأنبياء بأهل الوسوسة : فهو (كما حكى اللّه عن الوليد بن المُغيرة) انه دخل مجلس قومه وقال : أتزعمون انّ مُحمّداً مجنونٌ وَلم يَرَ مِنهُ جنونٌ ، أو كاهِنٌ ولم يُحدّث كما يحدثه الكهنة ، أو شاعر ولم يَرَ منه الشعر ، أو كاذب وهو مشهور بالصدق والأمانة ؟ قالت قريش : فماذا نقول فيه فاخذ يفكر في الجواب ويقدر التهمة تقديراً كما قال عنه تعالى : ( « إنه فكّر وَقَدَّرَ » ) أي : انّه جعل نسبة الكذب إلى النبي تقديراً خاصاً ، وقال : إنّه ساحرٌ ، فتوعّده اللّه بالعذاب حيث قال سبحانه ( « فَقُتِلَ » ) أي : قَتَلَهُ اللّه ، وهذا من الدعاء على الوليد ، وليس معناه الأخبار ، وإنما معناه : التهديد بالموت والبوار ، ثم العقاب والعذاب على أنه ( « كيف قدّر »(1) ) (2) وهذا إظهار للتعجب منه بأنّه كيف استطاع ان يطعن النبي بما يُناسب أذهان السذج من الناس حيث قال : انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ساحر .

( فافهم ) فان هذا التفسير الذي ذكره الصدوق وإنْ كان حسناً من جهة تنزيه

ص: 5


1- - سورة المدثر : الآيات 18 - 19 .
2- - الخصال : ص89 ح27 .

قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضعُ الرّسالة .

ومنها : قوله عليه السلام : « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَن العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُم » .

فانّ المحجوب حرمةُ شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد .

وفيه : أنّ الظاهر ممّا حجبَ اللّهُ تعالى علمَهُ

-------------------

الأنبياء ، إلاّ انّه خلافُ ظاهر الرواية .

أقول : وقد ذكرنا سابقاً معنىً مناسباً للرواية لا يُنافي ظاهرها .

ثم انّ المصنّف قال : ( قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضع الرّسالة ) فانّ مقتضى هذه الرسالة : الاكتفاء بتحقيق فقرة : « رُفِعَ مَالا يَعلَمُون » لأنّها هي محل الكلام في انها هل تدل على البرائة ، أو لا تدل عليها أمّا ؟ سائر الفقرات فانّما ذكرناها إستطراداً .

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : ما حَجَبَ اللّه ُ عِلْمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ موضوعٌ عَنهُم ) (1) ووجهُ تقريبُ الرّواية للدلالةِ على البرائة هو : ما ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ المحجوب : حُرمَةُ شرب التتن ، فهي موضوعةٌ عن العباد ) وكذلك المحجوب : وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فهو موضوع عن العباد ، هذا في الشُبهة الحكمية ، وكذا في الشبهة الموضوعية ، كما إذا كان حيوان لم نعرف انّه كلب أو شاة ، ولم يُؤدّ الفحص إلى نتيجة ، فهو موضوع عن العباد ، لأنّ اللّه حَجَبَ علمَه أي : علم كونه شاة أو كلباً .

( وفيه : انّ الظّاهر ممّا حجبَ اللّه ُ علمَه ) بقرينة نسبة الحُجب إلى اللّه سبحانه

ص: 6


1- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ما لم يبيّنه للعباد ، لا مابيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى اللّه في كتمان الحق أو ستره ، فالرواية مساوقة لما وَرَدَ عن مولانا أمير

-------------------

وتعالى ( مالم يبّينه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى اللّه في كتمان الحق أو ستره ) وتبديله الى الباطل ، إذ قد يكتم الانسان الحق ولا يبوح به وقد يُصادر الحقَ وينشر مكانه الباطل .

وعليه : فاذا كان اللّه هو الحاجب ، كان الحكم موضوعاً عنهم ، أمّا إذا بيّن اللّه سبحانه الحكم وإنّما لم يصل إلينا بسبب الاخفاء الصادر عن الأئمة عليهم السلام تقية ، أو بسبب انّ المخالفين أحرقوا الكتب ، وقتلوا الرواة ، وما أشبه ذلك ، فهو ليس ممّا حجبه اللّه ، وإنّما الحجب صار بسبب العصاة ومن أشبههم .

ثم الظاهر من الكتاب والسنة : انّ كل الأحكام قد بيّنها اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم كما في قوله تعالى « اليَومُ أكمَلتُ لكُم دِينَكُم » (1) .

وكما في الرّواية المروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حَجة الوداع حيث قالَ : « مَامِنْ شَيءٍ يُقرِّبكُم من الجَنّةِ ، وَيُباعدكُم من النَار ، إلا وَقَدْ أَمرتكُم بهِ ، وَما مِنْ شيءٍ يُقرِّبكُم من النار وَيُباعدكُم من الجَنّةِ إلاّ وَقَد نهَيتُكُم عَنه » (2) .

هذا ، والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قد بَين كثيراً من الأحكام للأوصياء من بعده ، لكنّ الناس حالوا دون إفادة الأوصياء تلك الأحكام .

وعليه : ( فالرّواية مُساوقة ) أي : مرادفةٌ في الدلالة ( لما ورد عن مولانا أمير

ص: 7


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 وقريب منه في أعلام الدين : ص342 ح31 ومستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

المؤمنين عليه السلام : « إنّ اللّهَ تعالى حَدَّ حُدُودا فلا تَعتَدُوها ، وفَرَضَ فَرائِضَ فلا تَعصُوها ، وسَكَتَّ عَن أشياءَ ، لم يَسكُت عَنها نِسيانا فَلا تتكلّفُوها ، رَحمَةً مِنَ اللّهِ لَكُم » .

-------------------

المؤمنين عليه السلام : إِنَّ اللّه تَعالى حَدَّ حُدوُداً فَلا تَعتَدوُها ، وَفَرضَ فَرائِضَ فَلا تَعصُوها ، وَسَكَتَ عَنْ أشياءَ ، لمْ يسكُت عَنها نِسياّناً ) بل سكت عنها مصلحةً (فَلا تَتَكَلفوُها) أي : لا تُسببّوا لأنفسكم المشقة في امتثالها ، وذلك ( رحمةً مِنَ اللّه ِ لكُم ) (1) أي : إن سكوته من جهة الرحمة عليكم حتى لا تقعوا في المشقة .

ولا يخفى : انّ جملة : « وضع عليه » معناها : أثبته عليه وكلفه به ، أمّا جملة « وضع عنه » فمعناها : رفع عنه ولم يكلفه به ، وفي الحديث : موضوع عنهم ، أي : مرفوع عنهم ، وقد تقدَّم منّا : الفرقُ بين الوَضع والرَّفع ، ، فلا داعي إلى تكراره .

لكن لا يبعد أنْ يكون الحديث دالاً على البرائة ، ولعلّ نسبة السكوت والحجب إلى اللّه تعالى يكون من جهة نسبة كلِّ شيء إليه حتى الاضلال ، فانّ الكفارَ والمخالفينَ حين لم يؤمنوا وأصروا على كفرهِم وخلافهم تركهم اللّه ليفعلوا ما شاءوا إمتحاناً لهُم ، وللأنبياء ، والأئمة ، والمؤمنين ، فمنعوا الأنبياء والأئمة والرواة : عن بيان الأحكام كما قال سبحانه : « فَردّوُا أَيديهُم فِي أَفواهِهِم»(2) ، وقوله تعالى : « وَكَذلكَ جَعَلنا لِكُلّ نَبي عَدوّاً شَياطِينَ الإنسِ والجِنّ»(3) الى غير ذلك .

ويؤيد هذا المعنى انه لو لم يبّين اللّه حكماً لم يكلف الناس بذلك الحكم

ص: 8


1- - غوالي اللئالي: ج3 ص548 ح15، وسائل الشيعة: ج27 ص175 ب12 ح33531، من لا يحضره الفقيه: ج4 ص74 ب12 ح5149، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج18 ص267 ب102 بالمعنى.
2- - سورة ابراهيم : الآية 9 .
3- - سورة الانعام : الآية 112 .

...

-------------------

فهو يكون تأكيداً لا تأسيساً - ويكون الحكم تأكيداً إن قالَ بهِ العقل ، وتأسيساً انْ تفرد به الشرع - .

ومن المعلوم : انّ التأسيس هو مقتصى الكلام لا التأكيد إلاّ إذا كان قرينةً على التأكيد ، ولا قرينة في المقام .

ثم ان معنى كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام هو : انّ اللّه قد جعل لكلّ من البيع ، والرّهن ، والنكاح ، وغيرها من الاُمور حدوداً وشرائط ، فلا يصح التعدي عن تلك الحدود .

مثلاً : حكم اللّه تعالى : انّه يلزم عدم مجهولية العوضين في البيع ، وعدم مجهولية الزوجين في النكاح ، وهكذا في سائر المعاملات ، فانّ لها شرائط اذا تعدّاها الانسان وقعت منه باطلة غير صحيحة .

كما فرض اللّه الصلاة والصيام والحَج ، والزكاة ، ونحوها من العبادات وجعل لها حدوداً وشرائط ، فلا يجوز للانسان عصيانها وتركها ، أو الزيادة والنقيصة فيها بما يوجب بطلانها .

كما انّ اللّه سَكَتَ عن وقتِ القيامة ، ووَقت ظهور المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، وسكت عن بيان إنّ إبراهيم أفضل أم نوح ، إلى غير ذلك ، فالذي ينبغي للانسان هو أن لا يتكلَّف معرفة وقت ظهور أو القيامة أو فضيلة هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، وهكذا .

ولا يخفى : انَّ هناكَ فرقاً بين حديث الحجب ، وحديث علي أمير المؤمنين عليه السلام فان الثاني - بعد بيان الجملتين : من الفرائض والحدود - لا يفيد إلاّ سكوته تعالى عن الاشياء الخارجة عن الأحكام ، وليس عن الأحكام ، فانّ

ص: 9

ومنها : قوله عليه السلام : « الناسُ في سَعَة ما لا يَعلَمُوا » .

فانّ كلمة « ما » إمّا موصولة اضيف إليها السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب .

وفيه : ما تقدّم في الآيات

-------------------

الأحكام قد بينها ، بخلاف حديث الحجب ، فليس فيه هذه القرينة ، فيشتمل الأحكام أيضاً ، ولهذا لا نرى بأساً بالاستدلال بحديث الحجب على البرائة ، كما استدل به كثير من الاصوليين ( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة (قوله عليه السلام : « النّاسُ فِي سَعَةِ مَالا يَعلَموُا » (1) وفي قرائة هذه الجملة إحتمالان أشار اليهما المصنّف بقوله : ( فانّ كلمة « ما » امّا موصولة أضيف إليها السّعة) فيكون معناه : الناسُ في سعةِ الحكم الذي لا يعلمونَه ، أو المراد : ب- « ما » أعم من الحكم والموضوع ، أي : في سعة الشيء الذي لا يعلمونه موضوعاً كان أو حكماً ، ولايخفى : انّ هذا المعنى أنسب بالحديث لأنّه مقتضى الاطلاق .

( وإمّا مصدرية ظرفية ) فتكون « ما » بمعنى : « ما دام » ، ويكون التقدير : الناس في سعةٍ - بالتنوين - ما دام لا يعلمون ، وحيث حُذِفَ متعلق لا يعلمون ، وحذفُ المتَعلّق يُفيدُ العموم ، يكون أعم من الحكم والموضوع .

( وعلى التقديرين يثبت المطلوب ) وهو : انّه لا حرمةَ على الانسان ولا وجوبَ فيما إذا كان الشك في الشيء من الشك البدوي غير المقرون بالعلم الاجمالي . ( وفيه : ) انّه لا يدل على البرائة وذلك لأجل ( ما تقدّم في الآيات :

ص: 10


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 وقريب منه في المحاسن : ص452 ح365 والكافي فروع : ج6 ص297 ح2 وتهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ووسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع .

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام : « قال : سألتُهُ عَمَّن لم يَعرِف شَيئا ، هَل عَلَيهِ شَيء ؟ قال : لا » .

بناءا على أنّ المراد بالشيء الأوّل

-------------------

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل ) بشرط انْ يكون عدم علمه ( بعد التأمّل والتتبّع ) بل إنهم يدّعون : انهم يعلمون بوجوب الاحتياط بدليل العقل والنقل ، فلا يكون مَورد الاحتياط ممّا لا يعلمون .

نعم ، دليلُ الأخباريين انْ تَمَّ لم يكن الخبر دالاً على البرائة ، لأَنّ دليل الأخباريين وارد ، على هذا الخبر ، لكن دليلهم لا يتم - كما سيأتي - فهذا الخبر يكون دالاًّ على البرائة في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، والتكليفيّة والوضعيّة ، تحريميّة كانت أو وجوبيّة .

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( رواية عَبد الأَعلى عن الصّادق عليه السلام قال : سألتُه عَمَّنْ لَم يَعرِف شيئاً ، هَلْ عَلَيهِ شَيء؟ قال : لا )(1)

ولا يخفى : انّ «شيء» في آخر السؤال يشمل ، العقاب والاستحقاق ، والاعادة ، والقضاء ، والكفارة ، والحَدّ ، وغير ذلك للاطلاق ، فاللازم أن لا يكون عليه شيء إذا كان غير العالم بأن لم يعرف شيئاً .

وكيف كان : فهذا الحديث من أدلة البرائة ( بناءاً على أنّ المراد بالشيء الأوّل :

ص: 11


1- - الكافي ( اصول ) : ج1 ص164 ح2 .

فرد معيّن مفروض في الخارج حتّى لا يفيد العموم في النفي ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول ، وأمّا بناءا على إرادة العموم ، فظاهرُه السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا .

ومنها : قوله عليه السلام : « أيّما امرء رَكب

-------------------

فرد ) أي : شيء ( معين مفروض في الخارج ) يعني : انه سَأل عما إذا لم يعلم الانسان - مثلاً - وجوب الجمعة ، أو حرمة التتن ، هل عليه شيء من الوجوب والحرمة ؟ فقال عليه السلام : لا ، لا شيء عليه ، ممّا يدلُ على البرائة .

هذا إذا أخذنا : « لم يعرف شيئاً » بمعنى الفرد ( حتى لا يفيد العموم في النفي ) يعني : انّه لا يعرف شيئاً خاصاً ، لا انّه لا يعرف شيئاً أصلاً ( فيكون المُراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟ ) فقال عليه السلام : لا .

( وأمّا بناءاً على إرادة العموم ) من قوله : « لم يعرف شيئاً » لانه نكرةٌ في سياق النَفي ، والنكرة في سياق النفي تُفيد العُموم ( فظاهره ) إنّما هو ( السؤال عن القاصر الذي ) يعيش في كهوف الجبالِ ، أو منقطع من الأرض ، أو جزيرة نائية ، فهو ( لا يدرك شيئاً ) من الأحكام ، فلا يكون الحديث دالاً على البرائة .

لكن يُمكن أن يُقال : انّه على العموم أيضاً يدلّ على البرائة ، فانّ مَن لا يعرف شيئاً إطلاقاً ملاكه يأتي فيمن لا يعرف شيئاً بالخصوص ، وبذلك يظهر وجهُ النظر في قولِ الأوثق حيث قال : « انّما لم يتعرّض المصنّف لرد هذه الرواية لوضوح ضَعفِ دلالتِها ، لعدم دلالتها على البرائةِ سواء اُريد بالشيء : شيء معين ، أو غير معين » .

( وَمنها : ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : أيّما امرءٍ رَكِبَ

ص: 12

أمرا بِجَهالَةٍ فلا شَيء عَلَيهِ » .

وفيه : أنّ الظاهِرَ من الرواية ونظائرها من قولك : « فلانٌ عَمِلَ كذا بجهالة » ، هو اعتقادُ الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ .

-------------------

أمراً بجَهالةٍ فلا شيء عَليهِ ) (1) ذكره الإمام عليه السلام في باب الحَج فيمن حَج مُحرماً في ثوب مخيط ، لكنّه من باب المورد فلا يخصص الوارد ، بل هوَ عامٌ يشمل الشُبهة الوجوبية والتَحريمية ، والحكمية والموضوعيّة ، فيكون من أدلة البرائة .

لكنّ المصنّف حيث لم يرتَضِ بدلالةِ هذه الرواية على البرائة ، أَشكَلَ على دلالتها بقوله : ( وفيه : انّ الظّاهر من الرّواية ونظائرها من قولكَ : فلانٌ عَمِل كذا بجهالة ، هو : إعتقاد الصّواب ) في عمله بأن يكون جَهلاً مُركَباً ، ( أو الغفلة عن الواقع ) بأنْ كان غافلاً غفلةً مُطلقَة ( فلا يَعّم صورة ) الجهل البسيط المقترن بالشك و ( التردد في كون فعله صواباً أو خطأً ) .

فانّ الجاهل قد يكون غافلاً محضاً ، وقد يكون جاهلاً مركباً ، وقد يكون جاهلاً بسيطاً ، والأولان لَيسا من محل الكلام ، وانّما الثالث هو محلِ البَحث في البرائة لكن حيث يرى المصنّف انّ هذه الرواية ظاهرةٌ في الأولين لا في الأخير الذي هو محل البحث أخرج الرواية عن الدلالة على البرائة فيما نحن فيه .

وربّما إستُدِلَ للمصنّف بأنّ سببية الغفلة والجَهل المركب أقوى للارتكاب من سببية الجهل البسيط للإرتكاب ، إذ الشاك كثيراً ما يَخاف من الارتكاب بخلاف

ص: 13


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ب1 ح47 وفيه أي رجل ، وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 .

ويؤيّده أنّ تعميمَ الجهالة بصورة التردّد ، يُحوِجُ الكلامَ إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، فتأمّل .

-------------------

الغافل والجاهل المركب .

لكنّ هذا لا يتمكن أن يُخصص عُموم الرواية بالأولين فقط حتى وان قال المصنّف : ( ويؤيّده ) أي : يؤيد التخصيص الذي إستظهرناه من الرواية ( : انّ تعميمَ الجهالة ) في الرواية ( بصورة التردد ، يُحوجُ الكلامَ إلى التّخصيص بالشاك غير المقصِّر ) لوضوح انّ المقصِّر في الفحص غير معذور . ويدل عليه ما في الحديث من انّه يقال في القيامة لغير العامل المعتذر بعدم العلم : « هَلاّ تَعَلَمْتَ » (1) كما وَرَدَ ذلك في تفسير قوله سبحانه : « وَقِفوهُم إنَّهُم مَسئولوُن » (2) .

( وسياقه ) أي : وسياق هذا الخبر ( يأبى عن التخصيص ) فقد ذكرَ بَعضٌ وجهُ الاباء : بأنّ الخبر ظاهرٌ في أنّ الجهالة عِلّةٌ للمعذورية ، وحينئذٍ كلّما وُجدَت الجَهالة ، كانت عذراً سواء كانتْ عن قصور أو تقصير .

( فتأمّل ) وكأنّ في التأمّل هذا اشارة الى وجود إشكالين في الكلام :

الأوّل : انّه من أينَ إباؤه عن التخصيص؟ بل ربّما يُقال : انّ ظاهره : الجاهل القاصر ، فهو مثل : « ما لا يَعلَمُون » المنصرف إمّا إلى القاصر ، أو يكون أعم ، لكنْ يخُصَص بالقاصر حسبَ الأدلةِ الاخَر ، الدالة على انّ المقصِّر غير معذور .

الثاني : انه لو خُصِّص الحديث بالغافل والجاهل المركب ، كانَ مخصّصاً أيضاً بما إذا لم تكن الغفلة والجهل المركب عن تقصير ، وإلاّ لم يكن معذوراً ، وذلك على ما هو بناؤهم في الكلام والفقه والاصول .

ص: 14


1- - انظر الامالي للمفيد : ص292 .
2- - سورة الصافات : الآية 24 .

ومنها : قوله عليه السلام « إنّ اللّه تَعالى يَحتَجُّ على العِباد بما آتاهم وعرّفهم » .

وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفتَ في الآيات وغير واحد من الأخبار ، ممّا لا ينكره الأخباريّون .

ومنها : قوله عليه السلام في مُرسلَةِ الفقيه :

-------------------

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : إنّ اللّه تعالى يَحتَجُّ على العِبادِ بما آتاهُم وَعَرّفَهُم ) (1) بتقريب : انّ حكم التتن المجهول وحكم الدّعاء عند رؤية الهلال المجهول ، ليس ممّا أعطى اللّه علمه للعباد ، وإلاّ لم يكن مجهولاً لهم .

هذا ، ولكنّ المصنّف لم يَرتَض دلالة هذه الرواية فاشكل على دلالتها قائلاً : ( وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار : ممّا لا ينكره الاخباريون ) فانهم يدّعون العلم بالحكم الشرعي في مثل التتن ، والدعاء عند رؤية الهلال ، وهو : وجوب الاحتياط ، وحيث علموا فللّه عليهم حُجة ، لأنّه قد آتاهم وعرّفهم وجوب الاحتياط .

لكن الجواب عن هذا الاشكال هو : إنّ أدلة الأخباريين لا تقوم حُجّة على وجوب الاحتياط كما قرر في محله ، فدلالة هذه الرواية على البرائة أيضاً لا غُبار عليها .

( ومنها : ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام في ) روايةٍ ( مُرسَلةٍ ) منقُولَةٍ في كتاب من لا يحضره ( الفقيه ) والرواية وان كانت مُرسلة لكنّها مّما يعتمد عليها ، لأن الصدوق ضَمَنَ حُجيّة ما في كتابه هذا ، وقوله عليه السلام

ص: 15


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح4 .

« كلُّ شيء مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ ».

استدلّ به الصدوق قدس سره على جواز القنوت بالفارسيّة واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبتَ الحَظرُ مِن دين الاماميّة .

ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ .

-------------------

بحسب هذه الرواية هو : ( كُلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَرِدَ فِيه نَهيٌ ) (1) ومعنى المطلق انه غير موقوف فإذا شَكَ الانسان في ان التتن مطلق أو منهي عنه ، كان مقتضى القاعدة انّه مُطلق وليس بمنهي عنه ، وكذا بالنسبة إلى ترك الدعاء عنه رؤية الهلال .

هذا ، وقد ( استدلّ به ) أي : بهذا الحديث ( الصدوق قدس سره على جواز القنوت بالفارسيّة ) لأنه قال : حيث لم يرد بالنسبة الى القنوت بالفارسية نهي فهو اذن جائزٌ كما ( واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحَظرُ من دين الاماميّة ) أي : إنّ الصدوق في كتاب أماليه جَعَلَ من دين الإمامية كون الأصل في الأشياء : الاباحة حتى يثبت المنع ، ومستندُه في ذلك هذا الخبر فكلّما شكَ في شيء انّه جائز أو محظور ، جاز للإنسان إرتكابه .

( ودلالته ) أي : دلالة هذا الخبر ( على المطلب ) أي : على الاباحة في الشبهة التحريميّة ، وانّه لا يجب الاحتياط فيها عند المصنّف ( أوضح من الكُلّ ) أي : من كل الروايات المتقدّمة .

ص: 16


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لانّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم .

-------------------

( و ) ذلك لأنك قد عرفتَ ما أشكله المصنّف عليها وان كُنا لم نَرَ فِيها شيئاً من الاشكالات المذكورة ، وقد ألمعنا إلى الجواب عنها عند كُلِ روايةٍ رواية .

وعلى كُلِ حالٍ ، فالمصنف : على انّ هذه الرواية أوضحُ دلالةً من كلّ الروايات المتقدمة إذ ( ظاهره : عدم وجوب الاحتياط ، لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ) فإنّ الحديث يدلُ على انّ الاشياء بذاتها مباح قبل ورود النهي من الشارع ووصول ذلك النهي إلى المكلّف وحيث لم يرد في التتن - مثلاً - نهيٌ ولم يصل إلى المكلّف حرمته فهو مُباحٌ .

هذا ، وفي بعض نُسخ الحديث « حَتى يرد فيه أمرٌ أو نهي » فيكون أوضح دلالة على الشبهة التحريميّة والوجوبية معاً .

وعلى كل حال : فالظاهر ان التتن - مثلاً - بحسب هذا الحديث مطلق ومباح بذاته ، لا انّه مطلق ومباح من حيث كونه مجهول الحكم ، وأدلة الاحتياط تحكم بوجوب الاحتياط في مجهول الحكم ، فيقع التعارض بين أدلة الاحتياط وهذا الحديث ، إذا أدلة الاحتياط تقول : مجهول الحكم يحتاط فيه ، وهذا الحديث يقول : ذات الشيء مُباح ، وذات الشيء مُباح ، أعمُّ من كونهِ مجهول الحكم أو غير مجهول ، فيقع التعارض في مجهول الحكم فهو مثل أن يقول : الحيوان نام ، ويقول : الانسان ليس بنام ، إذ يقع التعارض بينهما في الانسان .

ص: 17

فان تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط دلالةً وسندا ، وجَبَ ملاحظةُ التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدةُ التعارض .

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : « فيمن تزوّج امرأة في عدّتها اَهيَ لا تحَلُّ لَهُ أبدا قال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما ينقضي عدّتها ،

-------------------

وعليه : ( فان تَمَّ ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالةً وسنداً ، وجَبَ ملاحظة التعارض بينها ) أي : بين أدلة الاحتياط ( وبين هذه الرّواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ) في مجهول الحكم لما عرفت : من انّ أدلة الاحتياط تدلُ على حرمة الشيء من حيث كونه مجهول الحكم ، وهذه الرواية تدلُ على عدم وجوب الاحتياط ، إذ ذات كلُ شيء مباح سواء كان مجهول الحكم أو لم يكن مجهول الحكم ، فمجهول الحكم يكون مورد التعارض .

( ثم ) اذا تعارض الدليلان لزم ( الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدة التعارض ) من الترجيح لهذا الجانب أو ذاك الجانب ، وإذا لم يكن مرجح في البين جرى التخيير بينهما ، فتكون النتيجة : عدم وجوب الاحتياط لأن التخيير بين الاحتياط وعدمه معناه : ان للمكلّف أن لا يحتاط وعدمه معناه . ان للمكلّف أن لايحتاط .

( وقد يحتج ) للبرائة في الشبهة التحريميّة ( بصحيحةِ عبد الرّحمن بن الحجّاح فيمن تزوّج إمرأة في عِدَتِها أَهِيَ لا تَحلُّ لَهُ أبداً؟ ) أي : انّها محرمةٌ عليه تَحريماً أبدياً ، حتى انّه إذا إنقضت عدتها أيضاً تكون محرّمة ولا يجوز له أن يأخذها ويتزوج بها ؟ ( قال : أمّا إذا كان بجهالة فليزوّجها ) أي : فيجوز لَهُ نكاحَها ولا تكون عليه محرمة أبداً وذلك ( بعد ما ينقضي عدّتها ) ثم انه عليه السلام بَيّنَ وجه

ص: 18

فقد يعذر الناسُ في الجهالة بما هو أعظمُ من ذلك ، قُلتُ : بأيّ الجهالتين أعذر ، بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدّة؟ قال : إحدى الجهالتين أهونُ من الاُخرى ، الجهالة بأن اللّه تعالى حرّمَ عليه ذلك . وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط .

-------------------

جواز النكاح في العِدة قائلاً : ( فقد يعذر النّاس في الجَهالة بِما هُو أعظمُ مِنْ ذلك ) أي : بجهالةٍ أعظمُ من جَهالة أنّ المرأة في العِدة وأنّ النكاح محرّم في العِدة ، فإنَّ قَتْلَ المؤمن خَطأ ، ونكاح ذاتِ البَعل خطأً والكفُر خطأً ، وغير ذلك ، معذور فيها ، فانّ القاتل في المثال لايُقتَل ، والنكاح في المثال لا يُحَد ، والذي كَفَر خَطأً لا يُجري عَليه أحكام الكُفر : من إنفصال زوجته ، وتقسيم ماله ، ووجوب قتلِه .

قال : ( قُلتُ ) يا سيدي ( بأي الجهالتين اُعذر؟ ) أي : أكثر معذورية فهو من باب التفضيل ( بجهالته انّ ذلك ) أي : النكاح في العدة ( محرّم عليه ) وهو الجهل بالحكم ( أم بجهالته أنّها في عدّة ) وهو الجهل بالموضوع ؟ .

( قال : إحدى الجهالتين أهون من الاُخرى ) أي : انّ الرجل معذور في كِلتا الجَهالتين ، لكنْ إحداهما أَهونُ من الاُخرى .

ثم إنّه بَيّن أهون الجهالتين بقوله عليه السلام : ( الجهالة بأنَّ اللّه َ تعالى حَرّمَ عَليهِ ذلك ) أهون ، فهو بهذه الجهالة الحكمية أعذر ، من الجهالة بانّها في العِدة ، أي : من الجَهالة الموضوعية .

( وذلك ) أي : وجه كون الجهالة بالحكم أهونُ ( لأنّه ) أي : لأنّ هذا الجاهل بالحكم ( لا يقدر معها ) أي : مع هذه الجهالة ( على الاحتياط ) فإنّ الانسان إذا لم يَعلم إنّ البول نجس - مثلاً - لا يتمكن من الفحص والاجتناب ، لفرض انّه غافل عن حكم البول ، ومن الواضح : انّ الغافل لا تكليف عليه امّا انّه اذا علم ان البول

ص: 19

قلت : فهو في الاُخرى معذور ، قال عليه السلام : نعم ، إذا إنقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها » .

-------------------

نجس فهو يتمكن أن يجتنب عن كل رطوبة إحتياطاً ، لعلمه بأنّ إحدى هذه الرطوبات - مثلاً - نجسة حتى ولو كانَ بعضها خارجاً عن مقدوره ، أو عن محلِ ابتلائهِ ، أو كان مُضطراً إليها ، أوما أشبهَ ذلك ، فانّه يتمكن من اجتنابها إحتياطاً ، فالاحتياط هو فرع العلم ، فاذا فقد العلم إنتفى الاحتياط معه .

قال : ( قلت فهو في الاُخرى ) أي : في الجَهالة بأنّها في العِدّة ، وهو الجهل الموضوعي ( معذور ) أيضاً ، كما كان معذوراً في الجهل الحكمي ؟ ( قال عليه السلام : نعم ، إذا إنقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها ) (1) .

ونُمثل لذلكَ بمثال خارجي وهو : إنّ الانسان اذا كان غافلاً كون الحَيّة سامةٌ ، فهو لا يتمكن من الاجتناب عنها ، أما إذا علم بأن الحيّة سامةُ لكنّه لا يعلم ان الحية ما هي من الحيوانات ، فانّه يتمكن من الاجتناب عن كل حيوان وإن كان غافلا عن إنّ هذا الحيوان الذي يراه هي حية أم لا ؟ .

وظاهر هذا الحديث هو : الجَهل بأنّ المعتدّة محرّمة ، والجهل بأنّ هذه المرأة في العِدّة ، وكلا الجهلين شايع خصوصاً في الناس الذين يسكنون القرى والأرياف البعيدةِ عن أهل العلم بل رأينا بَعضاً يجهلون حرمة الجمع بين الاختين ، وزواج الخامسة ، والجمع بين ام الزوجة وبنتها ، حرمة تمتع المرأة التي لها زوج وغير ذلك من محرمات النكاح بل قد رأينا بعضهم قد تزوجوا كذلك حتى إذا نبهوا تركوا .

ص: 20


1- - الكافي فروع : ج5 ص427 ح3 ، نوادر القمّي : ص110 ح271 .

وفيه : أنّ الجهلَ بكونها في العِدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة ، والشكّ في إنقضائها ، فان كان الشكّ في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها ، فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز .

-------------------

( وفيه : ) انّه لا يمكن الاستدلال بهذا الخبر على المطلوب وهو : البرائة في الشبهة الحكميّة التحريميّة ، كالبرائة عن حرمة تزويج المعتَدَّة ، وعدم استحقاق العقاب على هذا التزويج الذي أراد الاُصوليّون الاستدلال به على البرائةِ مُطلقاً ، وذلك ( انّ الجَهل بكونها في العِدّة ) بأن كان الزوج جاهلاً بانّ هذه المرأة في العِدة وتزوجها ، له اقسام اربعة :

القسم الأوّل : ( ان كان مع العلم بالعدّة ) اي : ان الزوج كان يعلم الحكم بأن المعتدة يحرم تزويجها ، وكان يعلم الموضوع أيضاً بان المرأة في العدة ( في الجملة ، و ) انّما كان ( الشّك في انقضائها ) أي : في إنقضاء العدة عنها ( فإن كان الشّكّ في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها ) بأنْ عَلِمَ مثلاً : انّ العِدة ثلاثة أشهر ، لكنّه لا يعلم هل انها انقضت او لم تنقض بعد ؟ .

ففي دلالة الخبر على البرائة في هذا القسم وهو القسم الأوّل إشكالان :

الاشكال الاول : ( فهو شبهة في الموضوع خارج عَمّا نحنُ فيه ) لأنّه يكون الخبر دالاً على المَعذوريةِ في الشبهة الموضوعية ، ولا يستلزم من ذلك ، المعذورية في الشبهة الحكمية التي كلامنا فيها الآن أيضاً .

الاشكال الثاني : ( مع إنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان : عدم الجواز ) لأنّ الانسان إذا عَلِمَ بأنّ المرأة في العِدة ولم يعلم إنقضائها ، يلزم عليه الاستصحاب ولا يجوز له التزويج بها ، فلا يكون حينئذ معذوراً .

ص: 21

ومنه يعلم أنّه لو كان الشكّ في مقدار العدّة فهو شبهة حكميّة قصّر في السؤال عنها ، فهو ليس معذورا إتفاقا ، لأصالة بقاء العِدّة وأحكامها ، بل في رواية اُخرى أنّه : « إذا عَلِمَت أنّ عليها العِدّةَ لَزِمَتها الحُجَةُ » ،

-------------------

الثاني : ( ومنه ) أي : من القسم الأوّل وهو : المؤاخذة بهذا التزويج - الذي هو شبهة موضوعية لوجود الاستصحاب في بقاء العدّة ( يعلم انّه لو كان الشّكّ في مقدار العدّة ) بأن لم يكن يعلم هل انّ العِدة ثلاثة أشهر أو شهران ؟ ( فهو شبهة حكميّة قصّر في السّؤال عنها ، فهو ليس معذوراً إتفاقاً ) بين العُلماء وذلك لأمرين :

الأمر الأوّل : انه قصرّ في السؤال عن مقدار العِدة ، لان مقدار العدة ممّا يرتبط بالشارع ، فهو من الشبهة الحكميّة ، والشبهة الحكميّة لا يجوز إرتكابها إتفاقاً إلاّ بعد الفحص والسؤال حتى اليأس ، وكل تقصير في ذلك يُوجب عدم المعذورية .

الأمر الثاني : ( لأصالة بقاء العِدّة وأحكامها ) من حرمة التزويج وغير ذلك عند الشك في أنّ العدة شهران أو ثلاثة ؟ وذلك للاستصحاب ( بل في رواية أخرى ، انّه : إذا عَلَمت ) المرأة ( انّ عليها العِدّة لزمتها الحُجّة ) (1) أي : لم يكن لها عذر في التزويج عند علمها بالعدة والشك في مقدارها أو في إنقضاء ذلك المقدار .

وذلك لبقاء العدة بالاستصحاب ، وحيث لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك ، كان اللازم القول بعدم معذورية الرّجل إذا علم ان على المرأة العدة ومع ذلك تزوجها .

ص: 22


1- - الكافي فروع : ج7 ص192 ح2 ، وسائل الشيعة : ج28 ص127 ب27 ح34385 .

فالمراد من المعذوريّة ، عدم حرمتها عليه مؤيّدا لا من حيث المؤاخذة .

ويشهد له أيضا قوله عليه السلام بعد قوله : « نعم إذا انقضت عدّتها » فهو مَعذورٌ في أن يزوّجها .

وكذا مع الجهل بأصل العِدّة ،

-------------------

وعلى هذا : ( فالمراد من المعذوريّة ) عند الجهل بالِعدة التي ذكرها الإمام عليه السلام هو ( : عدم حرمتها عليه مؤبّداً ) وهذا حكم وضعي لا يرتبط بما نحن فيه ، فالحديث ( لا ) يدل على المطلوب الذي هو إثبات البرائة والمعذورية ( من حيث المؤاخَذة ) والحكم التكليفي ، فانّ - مطلوب الاصوليين : إثبات البرائة المعذورية للشاك ، بينما الحديث يثبت عدم الحرمة الأبدية ، فلا يكون دليلاً على البرائة .

( ويشهدُ لَهُ ) أي : لِما ذكرناهُ : من انّ المراد مِنَ المعذورية هنا : الحُكم الوَضعي ، لا الحُكم التكليفي ( أيضاً ) أي : بالاضافة إلى شهادة الرواية المتقدمة على عدم المعذورية في الحكم التكليفي وهي : « انّه اذا علمت انّ عليها العدة لزمتها الحجة » ( قوله عليه السلام بعد قوله : نعم ) فانه يشهد لما ذكرناه انّه عليه السلام قال ( :إذا انقضت عدّتها ، فَهوَ معذورٌ في أن يزوّجها ) (1) ممّا يدلُ على انّ الكلام في المعذورية بالنسبة للحكم الوضعي ، لا المعذورية بالنسبة للحكم التكليفي والبرائة .

القسم الثالث : ( وكذا ) لا يعذر الرجل المتزوج للمرأة في العدة كما لم يكن المتزوج في القسم الثاني معذوراً ، لو تزوّجها ( مع الجهل بأصل العدّة ) بأن لم يكن الرجل هنا في القسم الثالث يعلم : انّ على المرأة عدّة يحرم التزويج بها

ص: 23


1- - الكافي فروع : ج5 ص427 ح3 ، نوادر القمي : ص110 ح271 .

لوجوب الفَحص وأصالة عدم تأثير العقد ، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل .

هذا إن كان ملتفتا شاكّا ،

-------------------

في العِدة وتزوجها ، وإنّما لا يعذر لوجهين :

الوجه الأوّل : ( لوجوب الفَحص ) في الشبهة الحُكمية ، والمفروض ان الشبهة حكمية في المقام .

الوجه الثاني : ( وأصالة عدم تأثير العقد ) فانّ المرأة كانت محرّمة عليه ، اذا عَقَدَ عليها يشك في انّ هذا العقد هل أثَّرَ في الاباحة أو لم يُؤثر ؟ الأَصلُ : عدم التأثير في إباحتها عليه وبقائها أجنبية عنه .

ثم انه كيف يصح معذورية الجاهل بالحكم ( خصوصاً مع وضوح الحكم بين المسلمين ) فانهّم يعلمون ان التزويج في العِدة حرام ( الكاشف عن تقصير الجاهل ) في السؤال ؟ .

وهذا مؤيد آخر يؤيد انّ الرواية في صَدَد معذورية الجَاهل من حيث الحرمة الأبدية والحكم الوضعي ، لامن حيث المؤاخذة والحرمة التي هي حُكم تكليفي ، فلا تكون الرواية دليلاً على البرائة حتى يستشهد بها الاصوليّون .

ولا يخفى : انَّ (هذا) الذي ذكرناه في الأقسام الثلاثة من الجهل بالعدّة ، وقلنا : بعدم صَحة حمل الرواية فيها على المعذورية من حيث المؤاخذة فانّه مؤاخذ ومستحق للعقاب ، لانّه شك فلم يستصحب العدة في الشبهة الموضوعية ، ولم يفحص عنها في الشبهة الحكمية بل قلنا : انّ الرواية محمولة فيها على المعذورية من حيث الحرمة الأبدية ، فان المرأة هذه لا تكون على مثل هذا الرجل حرام أبداً هذا الحكم في الاقسام الثلاثة انّما هو (إن كان ملتفتاً شاكاً) بأنْ كان جاهلاً جهلاً بسيطاً.

ص: 24

وإن كان غافلاً أو معتقدا للجواز فَهُو خارجٌ عن مسألة البراءة ، لعدم قدرته على الاحتياط .

وعليه

-------------------

( و ) ، أمّا القسم الرابع هو : ( إن كان غافلاً ) اطلاقاً عن الحكم والموضوع ( أو معتقداً للجواز ) بأنْ كان جاهلاً جَهلاً مُركباً ( فهُوَ خارجُ عن مسألة البرائة ، لعدم قدرته على الاحتياط ) فإن الغافل لا يكلَّف بالفحص ، لانه لا يعقل تكليفه ، فلا يتمكن من الاحتياط والجاهل المركب أيضاً كذلك ، لانّه يقطع بأنّ المرأة ليست في العِدة ، ويقطع بأنّ المرأة التي في العدة لا حرمة له في تزويجها فيكون خارجاً عن محل البحث .

وعليه : فاذا حملنا الرواية على الغافل أو الجاهل المركب ، خرجت الرواية عن مورد كلام الاُصوليين والأخباريين ، لأن كلامهما في مورد إمكان الاحتياط فيقول الاخباريون عندها : بالاحتياط ، والاُصوليون بالبرائة ، بينما الغافل والجاهل المركب لا يتمكنا من الاحتياط ولا يتمكنان من إجراء البرائة ، إذ لو تعلقت القدرة بأحد الطرفين تعلقت بالطرف الآخر أيضاً أمّا إذا لم تتعلق القدرة بطرف فلا تتعلق بالطرف الآخر .

مثلاً : القادر على الحركة إنّما يكون قادراً إذا كان قادراً على كل مِن الحركة والسكون حيث هُما ضِدان ، فيقال له حينئذٍ : قادر ، أما إذا لم يقدر على الحركة فليس بقادر على السكون أيضاً ، كما انّه إذا لم يكن قادراً على السكون لم يكن قادراً على الحركة ، أيضاً ، فهو ليس بقادر إطلاقاً ، والبرائة والاحتياط ضِدان ، فاذا لم يقدر على أحدهما لم يقدر على الآخر .

( وعليه ) أي : على هذا الفرض وهو : كون الرجل جاهلاً مركباً ، أو غافلاً

ص: 25

يحمل تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله عليه السلام : « لأنّه لا يقدر ، الخ » ، وإن كان تخصيصُ الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدلُّ على قدرة الجاهل بالعِدّة على الاحتياط ، فلا يجوز حمله على الغافل ،

-------------------

( يحمل تعليل معذورية الجاهل بالتحريم ) في الحديث والتعليل هو ما أشار اليه ( بقوله عليه السلام : « لأنّه لا يقدر ، الخ » ) فانّ الإمام عليه السلام قال : « لأنّه لا يقدر مَعَ الجَهالةِ على الاحتياط » وعدم القدرة على الاحتياط انمّا يكون في الجاهل المركب أو في الغافل ، أما الجاهل البسيط الملتفت ، فلا شَكَ في انّه قادرُ على الاحتياط .

والحاصل : إن كان الزوج جاهلاً مركباً أو غافلاً لم يكن مورداً للبرائة ، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على البرائة ، وإن كان جاهلاً بسيطاً ملتفتاً لم يتم قوله عليه السلام : « لأنه لا يقدر » اذ هو - كما عرفت - قادر وحيث قال عليه السلام : « انه لايقدر » ، يلزم حمل الرواية على الجاهل المركب أو الغافل .

وعلى أي حال : فظاهر الرواية ينفي الاستدلال بها على البرائة ( وإن ) وصلية ( كان تخصيص الجاهل بالحرمة ) أي : الجاهل بالحكم ( بهذا التعليل ) بقوله : « لأنه لا يقدر » ( يدل ) بالمفهوم ( على قُدرَةِ الجَاهِل بالعِدّة ) وهو الجاهل بالموضوع ( على الاحتياط ) لأن الإمام عليه السلام قد قابل بين الجاهلِ بالموضوع والجاهلِ بالحُكم ، ثم نفى التَمكن من الاحتياط بالنسبة إلى الجاهل بالحكم ، ممّا يدلُ على ان الجاهل بالموضوع قادرٌ على الاحتياط .

إذن : ( فلا يجوز حمله ) أي : حمل الجاهل بالعِدة ( على الغافل ) لأن الغافل لا يقدر على الاحتياط .

والحاصل : ان الإمام عليه السلام حكم : بأن الجهل بالحرمة وهو الجهل بالحكم أهون وعَلَلَهُ بأنّه لا يقدر على الاحتياط ، ومعنى ذلك : ان الجاهل بالعدة وهو الجاهل

ص: 26

إلاّ أنّه إشكال يَردُ على الرواية على كلّ تقدير .

ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ، فتدبّر فيه وفي دفعه .

-------------------

بالموضوع ، يقدر على الاحتياط .

لكن هذا لا يَتُم إلا بفرض الجَهل بالحرمة جهلاً مركباً أو غفلة ، مع فرض الجهل بالعِدة جهلاً بسيطاً لا غير ، وقد تقدَّم : انّ الجاهل البسيط لا يُعذر من حيث المؤاخذة في شيء من صور الجَهل بالعِدة ، بل يُعذر من حيث الحُرمة الأَبدية فلا حرمة أبدية للمرأةِ عليه .

( إلاّ انّه ) أي تخصيص عدم القدرة على الاحتياط بما إذا كان جاهلاً بالحكم ممّا كانت شبهة الرجل شبهة حكمية ( إشكال يَردُ على الرّواية على كل تقدير ) أي : سواء قلنا بانّ المُراد من الرواية : الجَهل بالعِدة بشبهة موضوعية كما تقدمت ، أو انّ المراد : بشبهة حكميّة ، لأنهما لا يتمكنان من الاحتياط .

( ومحصّله ) أي : محصل هذا الاشكال هو ( : لزوم التفكيك بين الجهالتين ) والتفكيك خلافُ السياق ، فانَّ فرض الجهل بالحرمة مركباً وغفلة ، ممّا لا يمكن معه الاحتياط ، وفرض الجهل بالعِدة بسيطاً يُمكن فيه الاحتياط ، والحال انّه يُمكن في كل من الجهلين أن يكون بسيطاً ، أو مركباً ، وغفلة خلاف السياق .

( فتدبّر فيه ) أي : في الاشكال الذي ذكرناه ( وفي دفعه ) فانّه قد دفع هذا الاشكال بعض بمالا يوجب إختلاف السياق وهو كما قال :

انه عليه السلام أرادَ من الجَهل في الموضعين : مَعناه العام الشامل لكُل أقسام الجهل ، إلا انّ الغالب في الجهل بالحرمة هو المرُكب أو الغفلة ، إذ الملتفت إلى هذا الحكم لا يبقى في الجهل والشك لوضوحه بين المسلمين ، فيفحص عنه ويصل بالنتيجة

ص: 27

وقد يُستدلّ على المطلب ، أخذا من الشهيد في الذكرى ، بقوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ فيهِ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحرَامَ منه بِعَينِهِ فَتَدَعَهُ » .

-------------------

إلى الحرمة ، بخلاف الجهل بالعدة ، فإنّ الغالب فيه هو الشك ، لأن المتعارف هو النظر والتأمّل الدقيق في خصوصيات المرأة التي يُراد نكاحها ، وعندئذ يتوجه الذهن قهراً إلى حالها من حيث العدة وعدمها .

إذن : فتنزيل الجهل بالعدة على المتردد ، والجهل بالحرمة على الغافل ، ليس مستلزماً للتفكيك في الجهالة ، بل الجهل في كلا الموردين بمعنى عدم العلم ، وانّما الخلاف في الموردين ناشيء من الخصوصية في هذا المورد وفي ذاك المورد .

( وقد يُستدل على المطلب ) أي : البرائة في الشبهة التحريمية والمستدل هو الفاضل التوُني في الوافِية ، وتَبِعَهُ السيد الصدر شارحُ الوافِية ، كما انّ الفاضل النَراقي في مَناهج الاُصول إستدل بهذاالحديث من وجوه متعددة ، والكل ( أخذاً من الشهيد ) الأوّل حيث استدل للبرائة ( في الذكرى ، بقوله عليه السلام : كُلُّ شيء فِيهِ حَلالُ وَحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالُ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ فَتَدَعهُ ) (1) أي : فتتركه .

ومن المعلوم : ان الانسان لا يعلم حرمة شرب التتن بعينه ، فلا يكون التتن عليه حراماً ، بل يمكن أن يقال بمثل ذلك في الشبهة الوجوبية أيضاً ، فانّ الانسان لا يعلم حرمة ترك الدعاء عند رؤية الهِلال بعينه ، فالترك لا يكون حراماً بل هو مُباحٌ له .

ص: 28


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، الذكرى : ص5 .

وتقريبُ الاستدلال ، كما في شرح الوافية : « أنّ معنى الحديث أنّ كلَّ فعل من الأفعال التي تتّصف بالحلِّ والحرمة ، وكذا كُلّ عين ممّا يتعلّق به فعلُ المكلّف وَيتّصف بالحِلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحُرمة فَهوَ حَلالٌ .

فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف وما علم أنّه حَلالٌ لا حرام فيه

-------------------

( وتقريب الاستدلال ) بهذا الحديث ( كما في شرح الوافِية ) للسّيد الصَدر حيث شرح وافية الفاضل التوُني فقال : ( أنّ معنى الحديث : أنّ كُلَ فِعلٍ مِنَ الأفعالِ الّتي تتصف ) أي : القابلة للاتصاف ( بالحِلّ والحرمة ) كالمشي ، فانّه قابل ، ليتصف بالحِلِّ ، لأنّه للترويح عن النفس ، وبالحرمة لأنّه سَفر معصية لقتل مُسلمٍ - مثلاً - .

( وكذا كُلُ عينٍ ممّا يتعلّق به فعلُ المكلّف ويَتّصف بالحِلَ والحرمة ) كالخمر حيث يتعلق به شرب المكلَّف ، وقابلٌ لأن يكون حَراماً ، لأنّه لا ضرورة إليه ، وقابل أن يكون حلالاً لأنه مضطر إلى شربه ، فانه ( إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحِلَّ والحُرمةِ ) بأن شَك في انَه حلالٌ أو حَرامٌ ( فهُو حلالٌ ) للانسان الشاك .

إذن : ( فخرج مالا يتّصف بهما جميعاً ) لأنا ذكرنا : انّه يجب أن يكون قابلاً للاتصاف بالحِلِّ والحرمة ، فالشيء غير القابل للاتصاف ، خارج عمّا ذكرناه ( من الأفعال الاضطراريّة ) ككون الانسان في الحيز ، والتنفس ، وحركة المرتعش ، ونحو ذلك ( والأعيان الّتي لا يتعلق بها فعل المكلّف ) مثل : الشمس ، والقمر ، والنجوم السيارة ، ونحوها .

( و ) كذلك خرج ما لا شك في حكمه أي : ( ما علم انّه حَلالٌ لا حَرام فِيِه ،

ص: 29

أو حرامٌ لا حَلال فيهِ ، وليس الغرضُ من ذكر الوصف مجرّدَ الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه .

فصار الحاصل : أنّ ما إشتبه حكمه وكان محتملاً لأن يكون حلالاً ، ولأن يكون حراما فَهُوَ حَلالُ ، سواء عَلِمَ حُكم كُلّي فَوقَهُ أو تحتهُ

-------------------

أو حَرامٌ لاحَلال فِيهِ ) كالماء الذي هو حلال لا حرام فيه ، وكون بعض أفراد الماء حَراماً لا يضرّ بالمثال ، وكذلك كالخمر الّتي هي حرام لا حلال فيه ، وكون بعض أقسام الخمر للمضطر حلالاً لايضر بالمثال أيضاً .

( وليس الغرض من ذكر الوصف ) أي : قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » ( :مُجرد الاحتراز ) فقط ممّا ذكرناه من القسمين أي : ما لايتعلق به حكم أو لا شك في حكمه ( بل هو ) أي : الاحتراز ( مع ) أي : بالاضافة إلى ( بيان ما فيه الاشتباه )

ان للوصف أمرٌ سَلبي وهو : الاحتراز ، وأمرٌ إيجابي وهو هُنا : بيان أنّ موضوع الحِلية الظاهرية هو : ما إشتبه حليته وحرمته ، أما سائر الأحكام من المستحب ، والمكروه ، والمباح ، فَليس الكلام فيها .

( فصار الحاصل ) من الوصف المذكور في الرواية ( : انّ ما إشتبه حكمه ) ولم يعلم انه حلالٌ أو حرامٌ ( وكان محتملاً لأن يكون حلالاً ، ولأن يكون حراماً ) وقوله « وكان » ، بيان لقوله : « ما اشتبه حكمه » ، فانّ هذا الموضوع المُحتمل للأمرين ، يكون موضوعاً للحكم الظاهري ، وهو ما أشار إليه بقوله : ( فهُوَ حَلال ، سواء عَلِمَ حُكم كُليّ فوقه ) أي : فوق ذلك المشتبه ( أو تحته ) أي : تحت ذلك المشتبه .

وعليه : فانّه قد يعلم كليّ الفوق ، كما إذا رأى لَحماً ولم يعلم انه حرامٌ أو حَلالٌ بينَما يعلم كليّ لحم المذكى وانّه حلالٌ ، وكليّ لحم الميتة وانّه حرام ، فهو يعلم

ص: 30

بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تَحقّقهِ في ضمنه لعلم حكمه أم لا .

وبعبارة أُخرى : إنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندكَ ، بمعنى أنّك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين

-------------------

الكليّين ، لكنّه لا يعلم هل هذا فرد يندرج تحت هذا الكليّ أو ذاك الكليّ ؟ .

وقد يعلم كليّ التحت ، كما إذا علم انّ الخمر حرامٌ والخَل حَلالٌ ، لكنّه يجهل كليّ الفوق فلا يعلم إنّ المايع الشامل لهما هل الأصل فيه الحرمة وخرج منه الخَل ؟ أو الأصل فيه الحِلية وخرج منه الخَمر ؟ .

ويُفيد معرفة كليّ الفوق في ان المشتبه الذي لا يعلم انه حلال أو حرام ، كالشرب المصنوع من الخشب - مثلاً - ممّا لا إسكار فيه بانه اذا كان الأصل في المايع الحرمة فهُو حَرامّ ، وإذا كان الأصل الحِلية فهُوَ حَلالٌ ، وذلك كما قال المصنّف : ( بحيث لو فرض العلم باندراجه ) أي : إندراج هذه المشتبه ( تحته ) أي : تحت الكليّ ( أو تَحقُقِهِ في ضمنه ) أي : في ضمن الكلي ( لعلم حكمه ) من الكليّ الفوق أو من الكليّ التحت ، فاذا علم - مثلاً - ان هذا اللحم مندرجٌ في المذكى لعلم حليته ، أو انّه مندرجٌ في المِيتة لعلم حرمته ، وكذا لو علم تحقق هذا المايع في ضِمن الخَل علم حليته ، أو في ضِمن الخمر لعلم حرمته .

( أم لا ) عطف على قوله : « بحيث لو فرض العلم باندراجه لعلم حكمه » ، بمعنى : انّه لو فرض العلم باندارجه أيضاً لا يعلم حكمه ، وذلك كما في الشبهه الحكمية كحرمة التتن - مثلاً - حيث لا يعلم هل أنّ التتن حرام أو ليس بحرام ؟ فقد ذكر للشبهة الموضوعية فرضين ، وللشبهة الحكمية فرضاً واحداً .

( وبعبارة اخرى : إنّ كل شيء فيهِ الحَلال والحرام عندكَ ، بمعنى : أنّك تقسمه إلى هذين ) القسمين : الحَرام والحَلال ( وتحكم عليه بأحدِهما لا على التعيين )

ص: 31

ولا تدري المُعيّن منهما ، فَهُو لَكَ حَلالٌ .

فيقال حينئذٍ : الرواية صادقة على مثل اللحم المشتري من السوق المحتمل للمذكّى والميتة ، وعلى شرب التتن ، وعلى لحم الحَمير ، إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه ، لأنّ يصدق على كلّ منها أنّه شيء فيه حَلالٌ وحَرامٌ عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين فنقول : هو إمّا حلال وإمّا حرام ،

-------------------

لأنك لا تدري هل هذا حرامُ أو حلال ؟ ( ولا تدري المُعين منهما ، فهُوَ لكَ حَلال ، فيُقال حينئذٍ : الرّواية صادقة على ) الشبهات الموضوعية ( مثل اللّحم المشترى من السوق المحتمل للمذكى والميتة ) فيما إذا لم يكن هناك علم بأنّه سوُق مسلم أو كافر ، وإلاّ كان اللحم محكوماً في سوق المسلم بالتذكية ، وفي سوق الكافر بعدم التذكية .

( و ) صادقة أيضاً ( على ) الشبهات الحكمية مثل : ( شرب التتن ، وعلى لحم الحَمير ، إنْ لم نقل بوضوحه ) وأما إذا قلنا بوضوحه وعلمنا بأنّه حَلالِ أو حرام فهو خارج عن مثال الشبهة الحكمية ( وشككنا فيه ) وهذا عطف بيان لقوله : « إن لم نقل بوضوحه » ، يعني : إن شككنا في لحم الحِمار ، ولم يكن عندنا واضحا، فهو مثال لِما نحنُ فيهِ ، ويكون كشرب التتن في كونِه من الشبهةِ الحُكميةِ .

وانّما نقول : بأنّ الرواية تشمل الشبهات الموضوعية والشبهات الحكميّة معاً ( لأنّه يصدق على كل منها ) أي : من الأمثلة المذكورة ( : انّه شيء فيه حَلالٌ وحَرامٌ عندنا ، بمعنى : انّه يجوز لنا أن نجعله ) أي : نجعل كلّ واحد من الأمثلة المذكورة ( مقسماً لحكمين ) بنحو الترديد ( فنقول : هو : إمّا حلال وامّا حرام ) في الشبهة الموضوعية .

ص: 32

وإنّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعضُ أنواعها وأصنافها حلالاً وبعضُها حراما واشتركت في أنّ الحكم الشرعيّ المتعلّق بها غير معلوم » ، انتهى .

أقول : الظاهر أنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه ، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مَثَّلَهُ بهما ،

-------------------

( و ) ل- ( انّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها وأصنافها حلالاً وبعضها حراماً ) كشرب التتن ، حيث ان بعض أقسام الشرب حلال ، كشرب مسحوق البنفسج للدواء ، وبعض أقسامها حرام كشرب البنج ، وهذا مثال للشبهة الحكمية .

هذا ( و ) قد ( إشتركت ) الأمثلة المذكورة ( في انّ الحكم الشرعي المتعلّق بها غير معلوم ) (1) الحلية أو الحرمة .

( إنتهى ) كلام السيد الصدر الذي أراد أن يُبيّن : انّ هذه الرواية تشمل الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية معا ، فاذا شك في شيء انّه حلال أو حرام ، سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، فالأصل البرائة ، كما هو مشرب الاصوليين .

( أقول ) : انّ المصنّف أشكل على كلام السيد الصدر بإشكالين :

الأول : ما أشار اليه بقول : ( الظاهر : أنّ المراد بالشيء ) في قوله عليه السلام : « كُلّ شيء ...» ( ليس هو خصوص المشتبه ) على نحو الجزئية ممّاله حكم واحد ( كاللحم المشترى ) مِنْ السوقِ ( ولحم الحَمير على ما مَثّله ) أي : مثلَ السيد الصدر الشيء في الرواية ( بهما ) .

ص: 33


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في « منه » إليهما ، لكن لفظة « منه » ليس في بعض النسخ .

-------------------

وإنّما نقول بأنّه ليس المرُاد بالشيء خصوص المشتبه ( إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في « منه » اليهما ) أي : إلى مثل اللحم المشترى ، ولحم الحَمير ، كما جَاءَ في كلام السيد الصَدر .

وحاصلُ الاشكال : إن قوله : « منه » ، في الرواية يرجع إلى الكلي ، لأنه بمعنى : البعض لا الى الشخصي ، فيقال مثلاً : المايع منه حلالُ ومنهُ حَرام ، ولا يُقال : هذا الاناء منه حَلالُ ومنه حرام ، كما لا يقال : التتن الكليّ منه حرام ومنه حلال ، لأنّ التتن الكليّ له حكمْ واحد ، فيكون المراد بقوله عليه السلام : « كُلّ شيء » : الكلي الذي فيه قسمان ، لا الجزئي ، ولا الكلي الذي له قسم واحد .

نعم ، يمكن أن يُراد بكلّ شيء : الجزئي ، ويُراد ب- « منه » : الكليّ ، وذلك على سبيل الاستخدام ، فيكون لفظ شيء قد استعمل في معنى ، وضميره في معنى آخر ، وهذا مايصطلح عليه بالاستخدام في علم البلاغة ، كقول الشاعر :

إذا نَزَلُ السَماء بأرضِ قَومٍ***رَعيناهُ وإنْ كانُوا غِضاباً

فهو كما إذا قلت : هذا المايع في هذا الاناء الأحمر حرامٌ ، وهذا المايع في الاناء الأبيض حلالٌ ، ثم قلت : وكليّ المايع لك حلال حتى تعرف انّه حرام .

هذا ( لكن ) الذي يرفع النزاع هو : ان ( لفظة « منه » ليس في بعض النسخ ) (1)

كما ان الاستخدام خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلاّ بالقرينة ، .

الثاني من اشكالي المصنّف على السيد الصدر هو : ما أشار إليه بقوله :

ص: 34


1- - كرواية الغوالي : ج3 ص465 ح16 .

وأيضا : الظاهر أنّ المراد بقوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » كونُه منقسما إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل لا مردّدا بينهما ، إذ لا تقسيم مع الترديد أصلاً ، لا ذهنا ولا خارجا ، وكون الشيء منقسما لحكمين ، كما ذكره المستدِلّ ، لم يعلم له معنى محصّل ، خصوصا مع قوله قدس سره « أنّه يجوز لنا

-------------------

( وأيضاً ) حاصله : انّ قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » للتقسيم مثل الانسان أبيض وأسود ، لا للترديد مثل زيد اما عالم أو جاهل ، والسيد الصدر قال بأنه للترديد ، فاشكل عليه المصنّف وقال :

( الظاهر : انّ المراد بقوله عليه السلام : « فيه حلالٌ وحَرامٌ » كونه ) أي : كون الشيء هنا ( منقسماً إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل ) فقسم حَلالّ وقسم حرامٌ ، كاللحم الذي قسمٌ منهُ حلالٌ وهو لحم الغنَم ، وقسم مِنهُ حرامٌ وَهُو لحمُ الخنزير ( لا مردداً بينهما ) أي : ليس المُراد إحتمال الحرمة وإحتمال الحليّة ( إذا لاتقسيم مع الترديد أصلاً لا ذهناً ولا خارجاً ) فليس معنى المردد : انّه في الذهن منقسم ، أو في الخارج منقسم ، بل معنى المردد : انّه في الخارج شيء واحد ، وفي الذهن لا يعلم انه هكذا أو هكذا ؟ .

( وكون الشيء ) المردد ( منقسماً لحكمين ) حلالٌ وحرامٌ ( كما ذكره المستدِلّ، لم يعلم له معنى محصَّل) قوله : «لم يعلم» ، خبر لقوله : «وكون الشيء» .

وانّما لم يعلم له معنى محصّل ، لأن ما ذكره من الترديد بين كون شيء واحد حلالاً أو حراماً ، هو من الترديد ، لا من التقسيم ، لأن التقسيم انّمايكون إذا كان لشيء قسمان ، لا إذا كان فيه إحتمالان ، فان الترديد يكون في شيء واحد مجهول محتمل لان يكون حراماً أو حلالاً .

وهذا الاشكال يكون قوياً على الصدر ( خصوصاً مع قوله قدس سره : « أنّه يجوز لنا

ص: 35

ذلك » ، لأنّ التقسيم إلى الحكمين ، الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ، أمرٌ لازمٌ قهريّ ، لا جائز لنا .

وعلى ما ذكرنا فالمعنى - واللّه العالم - أنّ كُلَّ كلّيّ فيهِ قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ، فهذا الكلّيّ لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه .

-------------------

ذلك » ) وانّما قال خصوصاً ( لأنّ التقسيم إلى الحكمين ، الّذي ) قسمّ الصدر المردد اليه ( هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ) والترديد في الشيء المشتبه ( أمرٌ لازمٌ قهريّ ، لاجائز لنا ) كما عبَّر عنه السيد الصدر قدس سره .

وعليه : فالتعبير ب- « يجوز لنا » كالتعبير بكون الشيء مقسماً لحكمين ، غير ظاهر المعنى .

أقول : لا يخفى : انّ بعض إشكالات المصنِّف عليه غير ظاهر .

( وعلى ما ذكرنا ) : من المراد بالشيء : الكلي ، لا الشخصي ، وانّ ظاهر القضية : وجود الحَلال والحَرام فعلاً على نحو التقسيم ، لا على نحو الترديد ، ( فالمعنى ) للحديث يكون ( واللّه العالم : انّ كُلَ كلّيُ فيهِ قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى والميتة ) وكذلك العصير المغلي بين قسم حرام لم يذهب ثُلُثاه ، وقسم حلال ذهب ثُلثاه ، إلى غير ذلك ( فهذا الكّلي لك حلال ) أفراده ( إلى أن تعرف القسم الحرام ) من ذلك الكليّ ( معينّاً في الخارج فتَدَعَهُ ) أي : تتركه .

وعليه : فلحم الغنم الذي لا يعرف إنّه حرامٌ أو حلالٌ ، ولم يكن هُناكَ أصلٌ أو أمارة ، على أحد الطرفين : محكومٌ بالحِلية ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الشُبهات الموضوعيّة .

ص: 36

وعلى الاستخدام يكون المراد : أنّ كلّ جزئيّ خارجيّ في نوعه القسمان المذكوران فذلك الجزئيّ لك حَلالٌ حتّى تعرفَ القسم الحرام من ذلك الكلّيّ في الخارج فتدعه ، وعلى أيّ تقدير : فالرواية مختصّة بالشبهة في الموضوع .

-------------------

هذا بناءاً على تفسير الشيء في الرواية بالمعنى الكليّ .

( و ) اما ( على الاستخدام ) وهو عطف على قوله : « وعلى ما ذكرنا » ، فهو : بأن يراد بالشيء في كلام الإمام عليه السلام : خصوص المشتبه ، بالضمير في « فيه » ، و « منه » : الكليّ ، على نحو الاستخدام ، حيث ذكرنا : انّ المحتمل في الرواية معنيان ، وإن كان المعنى الاستخدامي خلافُ الظاهر ، وذلك كما قال :

( يكون المراد : انّ كلّ جزئيّ خارجيّ ) كاللحكم المردد بين كونه مذكّى أو مِيتة ( في نوعه القسمان المذكوران ) « في نوعه » خبر ، « والقسمان المذكوران » مبتدأ أي : كان هذا اللحم الخارجي له نوع فوقه وفي ذلك النوع قسمان : قسم مُحرمٌ كالميتة وقسم مُحَلّلٌ كالمذكى ( فذلك الجزئي ) الخارجي المشتبة بأنّه من هذا النوع أو من ذاك النوع ( لكَ حلالّ حتى تعرفَ القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج ) بأن تعرف انّ هذا الشخصي من النوع الحرام الميتة ، لا من النوع الحلال المذكى ( فتدعه ) .

( وعلى أي تقدير ) سواء قلنا : بأن المراد بالشيء : الكليّ ، أو قلنا : بانّ المراد منه : الجزئي على المعنيين الذين عرفتهما ( فالرّواية مختصّة بالشّبهة في الموضوع ) لا الشبهة في الحكم الذي هو محل الكلام في باب البرائة ، فالرواية إذن لا تدلّ على البرائة في الشبهات الحكميّة .

ثم انّ المصنّف كرّر للتأكيد ما ذكره من الاشكالين على شارح الوافية بقوله :

ص: 37

وأمّا ما ذكره المستدلّ - من أنّ المراد من وجود الحَلال والحَرام فيه احتماله وصلاحيته لهما - فهو مخالفٌ لظاهر القضيّة ولضمير « منه » ولو على الاستخدام .

-------------------

( وأمّا ما ذكره المستدلّ : من انّ المراد من وجود الحَلال والحَرام فيه ) ليس تقسيمه إليهما ، بل ( احتماله ) أي : احتمال المشتبه ( وصلاحيته ) أي : صلاحية المشتبه ( لهما ) أي : للحلية والحرمة ، حيث انّ المستدلّ أرجَع التقسيم إلى الترديد ( فهو ) غير تام لما يلي :

أولاً : انه ( مخالفٌ لظاهر القضيّة ) كما عرفت : من انّ ظاهر القضية وجود الحَلال والحَرام فِعلاً ، لا احتمال الحرام والحلال ترديداً .

( و ) ثانياً : انّه مخالف ( لضمير « منه » ) لأن لفظة « من » للتبعيض ، والتبعيض ظاهر في وجود القسمين فعلاً ، فلايمكن إرجاع الضمير في « منه » إلى المشتبه المحتمل للحِلّ والحرمة ، لأن المشتبه المردد بين الحلال والحرام ليس فيه قسمان فيكون إرجاعه إليه غير جائز ( ولو على الاستخدام ) بأنْ يُراد من الشيء : المشتبه ، ومن ضمير « منه » النوع استخداماً حتى يكون المعنى : ان المشتبه الذي فيه احتمالان ، لَكَ حلالٌ حتى تَعرفَ القسم الحَرام من نوعهِ .

وعلى أي حال : فالحديث في نظر المصنّف مختصٌ بالشبهةِ الموضوعيّةِ ولا يشمل الشبهةِ الحكميةِ ، لكنّ الظاهر : شمولهُ لَهُما ، فهذا اللحم الشخصي الخارجي الذي لم يعلم انّه من المِيتة أو المذكى لَكَ حَلال وهو شبهة موضوعية ، وهذا اللحم الكليّ للغراب الذي لم يعلم انه حلال أو حرام - حيث في كليّ اللحم حلال كلحم الحمام ، وحرام كلحم الطاوُوس - هو لكَ حلال ، وهو شبهة حكمية ، وهذا هو الذي أشار إليه النَراقي ، وإنْ كان في بعض كلام النَراقي تأمّل ذكره المصنّف .

ص: 38

ثم الظاهر : أنّ ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه - كما في قوله عليه السلام في رواية اُخرى : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِف أنّه حَرامٌ » - بيانُ منشأ الاشتباه جهة الحكمية

-------------------

( ثم ) بدأ المصنّف يمّهد لِرَدّ النَراقي الذي فَسر الحديث بتفسير لم يرتضهِ المصنّف فقال ( الظاهر : انّ ذكر هذا القيد ) أي : قيد فيه حلال وحرام في الرواية ( مع تمام الكلام بدونه ) أي : بدون هذا القيد ، لأنّه يصحّ أنْ يُقال : كلُ شيء لَكَ حلالٌ ، حَتى تَعرف انّه حرامٌ ( كما ) لم يذكر هذا القيد ( في قوله عليه السلام في رواية أخرى : كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِفَ انّهُ حَرامٌ ) إنّما هو لأجل (بيان منشأ الاشتباه) وسببه .

فإنّه قد يكون منشأ الاشتباه في هذا اللحم الخارجي بانّه حرام أو حلال ، هو : ان في كليّ لحم الغنم مُذكى وميتة ، وهذا ما أشار إليه هذا الحديث وقال : بانّه حلال ، فيختص الحديث بالحلية الظاهرية في الشبهة الموضوعية .

وقد يكون منشأ الاشتباه هو عدم العلم بالحكم الكليّ الذي جَعَلَهُ الشارع ، كما إذا لم يعلم ، إنّ الغراب حرّمهُ الشارع أو حَلّله ، فمنشأ هذا الاشتباه في الغُراب ليس هو وجود القسمين ، وانّما هو لأنا لا نعلم هل انّ الغُراب حرّمه الشارع أو حلّله ؟ فيكون من ( جهة الحكمية ) فلا يشمله هذا الحديث .

لكنْ يمكن أن يقال : انّ منشأ الاشتباه في الغُراب أيضاً وجود القسمين من الطير : الطير الحَلال ، والطير الحَرام ، ولم يعلم : إنّ الشارع حَرَّمَ الغُراب كالطيور المحرمة ، أو حلّلها كالطيور المُحللة ؟ فيكون الاختلاف بين الروايتين من

ص: 39

الذي يعلم من قوله عليه السلام : « حتى تعرف » .

وكما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستَدلّ أيضا يحصل بذلك .

-------------------

اختلاف التعبير ، لا لأجل الاختلاف في الشُبهةِ الموضوعيّة والشُبهةِ الحُكميةِ ، كما ذكره المصنّف .

ثم انّ المصنّف ذكر : انّ ( الذي ) إستفاده من دلالة القيد : « فيه حلال وحرام » في الرواية على انّه لبيان منشأ الاشتباه وسببه ، فيختص بالحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية بان ذلك ( يعلم ) أيضاً ( من قولهِ عليه السلام : « حتى تعرف » ) فإنّ حتى تعرف : دليلُ على إرادة الحِليّة الظاهرية في الشبهة الموضوعية فان الحلية الظاهرية إنّما هي في صورة الاشتباه في الموضوع الخارجي ، لا في الحكم ، إذ منشأ الاشتباه في الحكم فقدان النص ، أو إهماله ، أو تعارضه ، ولا يجري فيه البرائة إلا بَعدَ الفحص واليأس ، وهذا ما لم يتعرض له هذا الحديث .

( وكما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستَدِلّ أيضاً يحصل بذلك ) ومراده « بذلك » : هو قيد فيه حلال وحرام ، والمراد من « المذكورات في كلام المستدل » : هو ما تقدَّم من قوله : فخرج ما لا يَتَصف بهما جميعاً : من الأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلقّ بها فعل المكلّف ، وما عُلِمَ انّه حلال لا حرام فيه ، أو حرامٌ لا حلال فيه .

والحاصل : انّ المصنّف قد ذكرَ لقيد « فيه حلال وحرام » أمرين :

الأَول : إنَّ هذا القيد هو احتراز عن المذكورات .

الثاني : أنّه بيان لسبب الاشتباه ومنشأه .

ثمّ انّ المصنّف بعد ذكر من التمهيد لِرَد النَراقي ، ذكرَ وجه الرَّد بقوله

ص: 40

ومنه ، يظهر فسادُ ما انتصر به بعضُ المعاصرين للمستدلّ ، بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضيّة في الانقسام الفعليّ ، فلا يشمل مثل شرب التتن من : « أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام واشتبه قسم ثالث منه ، كاللحم ، فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغَنم وحرام وهو لحم الخنزير ، فهذا الكلّيّ

-------------------

ب- ( ومنه ) أي : من أنّ قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » بَيانٌ لمنشأ الشُبهة ، فيختص بالشبهة الموضوعيّة ولا يشمل الشبهة الحكميّة ( يَظهر فساد ما انتصر به بعض المعاصرين ) وهو النَراقي ، فقد انتصر ( للمستدل ) وهو السَيد الصَدر ( بعد الاعتراف ) من هذا المعاصر ( بما ذكرنا : من ظهور القضيّة في الانقسام الفعلي ، فلا يشمل مثل شرب التتن ) الذي ليس فيه الانقسام الفعلي ، ممّا يدل على ان هذا المعاصر لم يَرتض بالترديد الذي ذكره السيد الصدر .

ولا يخفى : انّ استثنائه لشرب التتن أيضاً محل تأمّل لِما تقدّم : من انّه يُمكن تصوير الانقسام فيه ، فان قسماً من الشرب حلال ، وقسماً منه حرام ، وقسماً لايعلم حكمه ، فهناك - مثلاً- ثلاث سيجارات : أحدها : حُشي بنجاً فهُوَ حرام ، والآخر : حُشي بالبنفسج فهو حلال ، والثالث : لا نعلم انه حلال أو حرام فهو حلال بمقتضى الرواية .

ثم بيّن المصنّف كيفية إنتصار هذا المعاصر بقوله : ( من انّا نفرض شيئاً له قسمان : حلالٌ وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه ) بالشبهة الحكمية التي هي محل الكلام بين الاُصوليين والأخباريين ، والاُصوليون يستدلون بهذا الحديث على حليتها ( كاللّحم ) الكليّ ( فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغَنم ، وحرام وهو لحم الخنزير ) وقسم ثالث يشتبه بأنّه حلال أو حرامٌ كَلحم الحِمار ( فهذا الكلّي

ص: 41

المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالاً حتّى تَعرف حرمته » .

وجه الفساد : أنّ وجودَ القسمين في اللحم ليس منشأً لاشتباه لحم الحمار ولا دخل له في هذا الحكم أصلاً ، ولا في تحقق الموضوع ،

-------------------

المنقسم : حلال ، فيكون لحم الحمار حلالاً حتى تعرف حرمته ) (1) فتتركه .

( وجه الفساد ) لكلام النراقي هو : ( ان ) قوله عليه السلام في الخبر المُتَقَدِم : فيه حلالٌ وحرامٌ ، إنما هو بيان لسبب الشبهة ، و ( وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحِمار ) فانّ القسمين لو كانا معاً حلالاً أو كانا معاً حراماً لشككنا أيضاً في لحم الحمار .

وإنّما نشك في لحم الحمار ، لفقد النصّ ، أو لإهماله ، أو لتعارضه ، فلا تشمل الرواية مثل لحم الحِمار ( ولا دخل له ) أي : لوجود القسمين ( في هذا الحكم ) بحلية لحم الحِمار ( أصلاً ) . فانّ من الواضح : ان حلية الغَنم وحرمة الخنزير ، لا يؤثران في حكم الشرع بحلية لحم الحِمار ( ولا ) دخل لهذين القسمين ( في تحقق الموضوع ) للحكم بالحلية ، إذ موضوع الحكم بالحلّية هو : الشك الناشيء ، من فقدان النص ، أو اهمال النّص ، أو تعارض النصين وليس هو وجود القسمين في الشيء .

لكنْ ربّما يُقال : انّ في كلام المصنِّف نظر ، فانّ لوجود القسمين دخل في الشك في القسم الثالث ، فانّه إذا علمنا انّ للشارع في الطيور حلالاً وحراماً ، وعرفنا الحلال في الحَمام ، والحرام في الطاووس ، ولم نعرف قسماً ثالثاً فشككنا في انّه من أي منهما كان له دخل ، فهو كما إذا علمنا بأنّ للشارع في لحم الغنم

ص: 42


1- - مناهج الاحكام للنراقي : ص214 ، بحر الفوائد : ح2 ص22 .

وتقييدَ الموضوع بقيد أجنبيّ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع مع خروج بعض الأفراد منه ، مثل شرب التتن ، حتّى احتاج هذا المنتصرُ إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ، ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان بالاجماع

-------------------

حلالاً هو المذكى ، وحراماً هو الميتة ، ولم نعرف قسماً ثالثاً فشككنا انّه من أي منهما ، فمنشأ الشك في القسم الثالث في المثالين هو وجود القسمين ، وإلاّ لوكان كل الطيور حلالاً ، أو كل الطيور حراماً ، لم نكن نشك في القسم الثالث ، وهو الغُراب ، كما انّه كذلك لو كان كل اللحوم للأغنام حلالاً ، أو كل اللحوم للأغنام حراماً .

( وتقييد ) هذا مبتدءٌ خَبَره « مستهجن » يأتي فيما بعد مما حاصله : ان تقييد الإمام عليه السلام ( الموضوع ) في الخبر المتقدّم ، والموضوع ، هو : كل شيء ( بقيد أجنبي ) والمراد : انّه اجنبيٌّ عن الموضوع وعن الحكم حيث قال عليه السلام : فيهِ حَلالُ وَحَرامٌ ( لا دخل له ) اي لهذا القيد ( في الحكم ) أي : في حلية لحم الحِمار ( ولا في تحقيق الموضوع ) أي : الشك في لحم الحِمار ، لأنّه نشك في لحم الحِمار فنقول : بالحلية حسب ما قاله النَراقي وغيره .

هذا ( مع خروج بعض الأفراد منه ) أي : هناك قسمٌ ليس من هذا القَبيل باعتراف النَراقي نفسه ( مثل : شرب التتن ) إذ النَراقي انّما أَلْحَقَ شرب التتن بالحِمار في المثال ليساوي الاجماع ، لا انه جعله من نفس « كل شيء فيه حلالٌ وحرامٌ » ( حتى احتاج هذا المنتصر ) وهو النَراقي ( إلى إلحاق مثله ) أي : مثل التتن ( بلحم الحِمار وشبهه ، ممّا يوجد فيه نوعه قسمان معلومان ) .

فان النَراقي ألحق التتن بلحم الحِمار لا بشمول الدليل للتتن ، بل ( بالاجماع

ص: 43

المركّب مستهجنٌ جدّا لا ينبغي صدورُه من متكلّم فضلاً عن الإمام عليه السلام .

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدمُ الحاجة إلى الاجماع المركّب ، فانّ الشربَ فيه قسمان : شرب الماء

-------------------

المركّب ) وهو : ان كلّ مَنْ قال بحلية لحم الحِمار قال بجواز شرب التتن ، وكل من قال بحرمة لحم الحِمار قال بحرمةِ شرب التتن ، فليس لنا ان نفصِّلَ بينهما فنقول بحلية لحم الحِمار وحرمة شرب التتن .

وحيث انّ الرواية شملت حلية لحم الحِمار ، فلا بّد ان نقول بحلية جواز شرب التتن .

وعليه : فهذا التقييد ( مستهجن جداً لا ينبغي صدوره من متكلم ) عادي ( فضلاً عن الإمام عليه السلام ) فإنّ الإمام لو قصدَ شمول الرواية للشبهةِ الحكميةِ لم يذكر القيد الذي لا ينفع في باب هذه الشبهة بل يُوجب خروج بعض افراد الشبهة ، مثل : شرب التتن ، فانه لو أراد شمول الرواية للشبهة الحكمية كان اللازم أن يقول : كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، كما ورد في رواية اخرى ، وعلى هذا : فالرواية السابقة المقيدة بقوله : فيه حلال وحرام خاصة بالشبهة الموضوعية ولا تشمل الشبهة الحكمية .

( هذا ) هو الاشكال الأوّل من المصنّف على النَراقي ، واما الاشكال الثاني عليه - والظاهر انه وارد عليه ، كما ألمَعنا إليه سابقاً - فهو ما أشار إليه بقوله : ( مع انّ اللازم ممّا ذكر ) حيث فرضنا شيئاً له قسمان : حلال وحرام ، كما فرضنا بالنسبة إلى لحم الحمار فانّه مشتبه بين قسمين حلالُ هو الغَنم ، وحَرامٌ هو الخنزير فاللازم منه ( عدم الحاجة إلى الاجماع المركّب ) في حكم التتن أيضاً وذلك بفرض القسمين فيه كما قال : ( فان الشرب ) كليٌّ ( فيه قسمان : شرب الماء ،

ص: 44

وشرب البنج وشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم .

وأمّا الفرقُ بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يُصغى إليه .

-------------------

وشرب البنج ) والأوّل : حلال كلحم الغنم ، والثاني : حرام كلحم الخنزير .

( وشرب التتن ) الذي هو القسم الثالث يكون حينئذٍ ( كلحم الحمار بعينه ) فإنّه مشكوك بانّهُ حلالٌ أو حرامٌ ، فاللازم أن يكون التتن كلحم الحِمار في الحلية ، لأنه قسم ثالث داخل في كليّ الشرب ، كما ان لحم الحِمار قسم ثالث داخل في كليّ اللحم .

( وهكذا ) يمكن فرض القسمين لا في التتن فقط بل في ( جميع الأفعال المجهولة الحكم ) .

لا يقال : فرقٌ بين التتن ولحم الحِمار ، إذ اللحم كليّ قريب للغنم والخنزير والحِمار ، بخلاف الشرب فهو كليّ بعيد ، إذ الشرب له قِسمان :

شرب المايع ، والتدخين الذي يصطلح عليه بالشرب أيضاً ، والتدخين له أقسام ، فيدخل لحم الحِمار في كلّي اللحم ، لانّه جنسٌ قريب إلى لحم الحِمار ، بخلاف شرب التتن فانّه لا يدخل في كليّ الشرب لأنه جنس بعيد بالنسبة اليه .

لأنه يُقال : ( وأمّا الفرق بين الشرب واللّحم : بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن ) وشرب البنج مثلاً ( بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي انْ يُصغى إليه ) لوضوح : عدم الفرق بين القريب والبعيد ، إذ للتتن أيضاً جنس قريب وهو التدخين كما تقدّم : من انّه على ثلاثة اقسام : قسم محرمٌ هو : التدخين بالبنج ، وقسم مُحلل

ص: 45

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله عليه السلام : « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » ، معرفةُ ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّيّة لحم الحِمار .

-------------------

وهو : التدخين بالبنفسج ، لأنّه نافع لبعض الأمراض ، وقسم مشكوك فيه وهو : التدخين بالتتن .

وعليه : فلو أَغمضنا النظر عن أصل الاشكال الذي ذكرناه على النَراقي ، فلا ينبغي الفرق بين التتن ولحم الحمار ، وفي شمول الرواية لهما ، كما لا حاجة في إدخال التتن في حكم الاباحة بما ذكره من الاجماع المركب .

( هذا كلّه ) هو أول الاشكالين على النراقي ، حيث أشرنا إليه بقولنا : وجه الفساد : ان وجود القسمين في اللحم ليس منشأً لاشتباه لحم الحِمار ، وهناك إشكال آخر على النَراقي أشارَ إليه المصنّف بقوله :

( مضافاً إلى انّ الظاهر من قوله عليه السلام : « حَتّى تَعَرِفَ الحَرامَ مِنه » : معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ) فانّ المصنّف إستظهر من الرواية : انّ هذا اللحم حَلالٌ حتى تَعرِفَ انّه غير مُذكى ، فهناك لَحمانً : مُذكى وميِتة ، الأوّل :

حلال ، والثاني : حرامٌ ، والثالثً : لا يُعرف انّه حلالٌ أو حرامٌ ، فيحكم بحليته حتى يعرف انّه من الميتة الذي هو القسم الحرام من القسمين .

وعليه : فاذا شَك الانسان في لحم ، فهو لَهُ حلال حتى يعرف انّه داخل في القسم الثاني الذي هو الميتة ، وليس كذلك لحم الحِمار ، فانّه لا يكون له حلالاً حتى يعرف انّه لحم الخنزير ، لانه واضح ( ومعلوم انّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّية لحم الحِمار ) فانّه لا يعقل أن يقال اللحم الذي فيه حلال كالغنم ، وحرام كالخنزير ، هو لَكَ حلال عند الشك في لحم الحِمار حتى تعرف

ص: 46

وقد اورَدَ على الاستدلال :

-------------------

انّه حرام لكونه لحم الخنزيز .

لكنْ يمكن أنْ يُقال في ردّ هذا الاشكال بما يلي :

أوّلاً : من أين لزوم دخول اللحم المشكوك في العنوان الثاني حتى يشمله الخبر ، بل الخبر يشمل ذلك كما يشمل مالم يكن اللحم المشكوك داخلاً في أحد القسمين ؟ .

وثانياً : من المُمكن أنْ يُقال على تقدير القسمين أيضاً : انَّ ما خلقه اللّه من اللحوم قسم منه حلال وقسم منه حرام ، فاذا شك في لحم الحِمار يحكم بحليته حتى يعلم بكونه داخلاً في القسم الحرام .

وإلى هنا إنتهى كلام المصنّف في الاشكال على النَراقي الذي جَعل الخبر أعمّ من الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، حيث انّ المصنّف يرى انّ الخَبر لا يشمل إلا الشبهة الموضوعيّة فقط ، فلا يكون دليلاً على البرائة التي ذكرها الاصوليون ، وإستشهدوا بهذا الخبر له .

ثم انّ المحقق القميّ أشكلَ على الاصوليين الذين جَعلوُا الخبرَ دليلاً على البرائة في الشبهة الحكميةِ بالاضافةِ الى كونهِ دليلاً على البرائة في الشبهة الموضوعيّة : بأنّه يلزم من شمول الخبر للقسمين من الشبهة استعمال اللفظ في معنيين ، فتارةً يُراد بقوله : « فيه حلال وحرام » الشبهة الحكمية أي : ما يحتمل انّه حلال أو حرام كالتتن ، وتارةً يُراد به : الشبهة الموضوعيّة أي : ما لا يعلم انّه مذكى أو ميتة ، وإنّما يكون إستعمالاً للفظ في معنيين ، لأنّه تارة يكون بمعنى الترديد ، وأخرى بمعنى التقسيم ، والى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( وقد أورَدَ ) المحقق القميّ ( على الاستدلال ) أي : استدلال السيد الصدر بهذه الرواية

ص: 47

« بلزوم استعمال قوله عليه السلام : « فيه حَلالٌ وحرامٌ » ، في معنيين ، أحدُهما أنّه قابلٌ للاتصاف بهما .

وبعبارة أُخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعيّ به ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما ، والثاني ، أنّه منقسم إليهما ،

-------------------

على البرائة في الشبهة الحكمية إضافة إلى شمول الرواية للشبهة الموضوعيّة ( بلزوم إستعمال قوله عليه السلام : « فيهِ حلالٌ وحرامٌ » في معنيين ) ومن المعلوم : ان إستعمال اللفظ في معنيين ، إما محال كما قاله الآخوند ، وإما خلافُ الظاهر فيحتاج إلى قرينة ولا قرينة في المقام كما قاله مشهور الاصوليين وأما المعنيين : فهما عبارة عمّا يلي :

( أحدهُما : انّه ) أي : انّ قوله عليه السلام : « كل شيء » ( قابلٌ للاتصاف بهما ) أي : بالحلال والحرام بمعنى الترديد .

( وبعبارة أُخرى : يمكن تعلق الحكم الشرعي ) من الحلال والحرام ( به ) أي : بقوله : « كل شيء » ( ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما ) أي : ما لا يقبل الحكم الشرعي أصلاً ، كالأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلَّف - كما تقدَّم في كلام السيد الصدر - .

وعلى هذا : فقوله : « فيه حلال وحرام » هو بمعنى الترديد كشرب التتن ، وهي الشبهة الحكمية .

( والثاني : انّه ) أي : ان قوله عليه السلام : « كُلّ شيء » ( منقسم إليهما ) أي : إلى الحلال والحرام فيكون هناك قسمٌ حلالٌ كالمذكى ، وقسمٌ حرامٌ كالميتة ولا قسم مشكوك الموضوع ، فلا يعلم انّه داخل في القسم الحرام أو في القسم الحلال وهو الشبهة الموضوعية فيخرج بهذا المعنى ما علم انه حلال لا حرام فيه أو حرامٌ

ص: 48

ويوجد النوعان فيه إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز ، وبلزوم استعمال قوله عليه السلام : « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينهِ » ، في المعنيين أيضا ، لأنّ المراد حتّى تعرف من الادلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه وتعرف من الخارج من بيّنة أو غيرها

-------------------

لا حلال فيه ، كما ذكره السيد الصدر أيضاً .

( و ) بعبارة أخرى : كل شيء فيه حلال وحرام يعني : ( يوجد النوعان فيه أمّا في نفس الأمر ) أي : فعلاً هو منقسم الى قسمين ، ولا نعلم انّ هذا المشكوك داخل في القسم الحرام ، أو في القسم الحلال ، كما في الشبهات الموضوعية من مثال المذكى والميتة واللحم المشكوك بينهما .

( أو عندنا ) أي : انا نتردد في ان هذا المشكوك حلال أو حرام بدون وجود القسمين فيه ، كما في الشبهات الحكمية .

( وهو ) أي : استعمال اللفظ في أكثر من معنى ( غير جائز ) .

هذا هو الاشكال الأوّل من المحققّ القميّ على السيد الصدر ، وله اشكال ثانٍ عليه ، وهو : ان استعمال اللفظ في معنيين يلزم أيضاً في قوله عليه السلام : « حتى تعرف الحرام » فانّه يكون حينئذٍ بمعنى : أن تعرف انّه داخل في القسم الحرام كما في الميتة والمذكى في الشبهة الموضوعيّة ، وتعرف انّ حكمه الحرمة من الخارج كما في التتن في الشبهة الحكميّة ، وإلى هذا الاشكال الثاني أشار المصنّف بقوله :

( وبلزوم إستعمال قوله عليه السلام : « حتى تعرف الحرامَ منه بعينهُ » في المعنيين أيضاً ) وذلك غير جائز ( لأن المراد : حتى تعرف ) الحرمة ( من الأدلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه ) في الشبهات الحكمية ( وتعرف من الخارج : من بيّنة أو غيرها ) كاخبار ذي اليد ، وسوق المسلمين وأرضهم ، وما أشبه ذلك

ص: 49

الحرمة ، إذا أُريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمّل » ، انتهى .

وليته أمر بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضا ، ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى .

هذه جملة ما استدلّ به من الأخبار .

والانصافُ : ظهورُ بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

-------------------

( الحرمة ، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه ) في الشبهات الموضوعية .

ثم قال المحقّق القميّ : ( فليتأمّل ) إشارة إلى انّه ممُكن دفع الاشكال الثاني : بأنّ المعرفة قد استعملت في معنى واحد وهو العلم ، إلاّ أن طرق المعرفة مختلفةٌ ، فربّما تكون المعرفة من الدليل الشرعي ، وربّما تكون المعرفة من الامور الخارجية وعليه : فالإشكال الثاني عند المحقق القميّ أيضاً وارد على السيد الصدر ( إنتهى ) كلام المحقّق القميّ أعلى اللّه مقامه :

قال المصنّف رحمه اللّه : ( وليته ) أي : ليت المحقق القميّ ( أَمَرَ بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضاً ) بأنّه من الممكن أن يكون قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » قد استعمل في معنى واحد وهو ما فيه الاشتباه الاّ انّ ما فيه الاشتباه قد يكون منشأه : إجمال النّص، أو فقدانه، أو تعارض النصين ، وقد يكون منشأة : الامور الخارجية .

هذا ( ويمكن إرجاعه ) أي : إرجاع التأمّل الذي امر به المحقّق القميّ ( إليهما ) أي : إلى كِلا الا يرادين ( معاً ، وهو الأولى ) أي : ارجاع التأمّل إلى كلا الايرادين يكون أولى هكذا ذكر بعض الشراح والمحشين وجه التأمّل في كلام المصنّف ، لكن لنا في كون مراد المصنّف من التأمّل ما ذكروه تأمّل .

وكيف كان : فانّ (هذه جملة ما استدل به من الأخبار) على البرائة .

( والانصاف : ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

ص: 50

لا نصّ فيه في الشبهة بحيث لو فرض تماميّةُ الأخبار الآتية للاحتياط وقعت المعارضة بينهما . لكن بعضها غير دالّ إلاّ على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمرٌ عامٌّ به ، فلا تعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجّيّة سندا ودلالة .

-------------------

لانصّ فيه في الشبهة ) الحكمية مثل قوله عليه السلام : « كل شيء مُطلقٌ حَتى يَرِدَ فِيهِ النَهي » (1) وغير ذلك ( بحيث لو فُرضَ تمامّية الأخبار الآتية للاحتياط ) ممّا استدل بها الأخباريون للاحتياط في الشبهة التحريمية ( وقعت المعارضة بينهما ) لأن كلّ شيء مطلق يقول : مالم يكن نهي فهو حلال ، وخبر الاحتياط يقول : يلزم الاحتياط وإن لم يكن نهي .

( لكن بعضها ) أي : بعض أخبار البرائة ( غير دال إلاّ على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ) أي بالاحتياط ( فلا تعارض ) هذه الأخبار الدالة على البرائة ( ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت ) أخبار الاحتياط (للحجّية) بأنْ تمت دلالتها ، وسندها ، وجهة صدورها بحيث كانت كما قال : حجّة (سنداً و) نصّاً ، أو ظاهراً ( دلالة ) وصادِرَة لأجل بيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها .

بل يلزم أن يقال حينئذٍ : انّ أخبار الاحتياط حاكمةّ على هذهِ الأخبار الدالة على البرائة كما سيجيء ، وإلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات والأخبار على البرائة .

ص: 51


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين :

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريّين على أنّ الحكمَ - فيما لم يَرد فيه دليلٌ عقليّ أو نقليّ على تحريمه من حيث أنّه مجهول الحكم - هي البراءة وعدمُ العقاب على الفعل .

وهذا الوجهُ لا ينفعُ إلاّ بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدّليل العقليّ والنقليّ للحظر والاحتياط ، وهو نظير حكم العقل الآتي .

-------------------

( وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين ) بالنحو التالي :

( الأوّل : دعوى إجماع العُلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريين على انّ الحكم ) العلميّ ( فيما لم يَرد فيه دليلٌ ) عام أو خاص ( عقليّ أو نقليّ على تحريمه ) أي : تحريم الشيء المشكوك في انّه حرامٌ أو حلالٌ ( من حيث انّه مجهول الحكم : هي البرائة وعدم العقاب على الفعل ) .

الضمير : « هي » راجع ، إلى قوله : « الحكم » ، وانّما انّث الضمير باعتبار البرائة ، فانّ الضمير الذي يتوسط بين مُذكر ومؤنث يجوز فيه التذكير والتأنيث .

( وهذا الوجه ) من الاجماع الذي هو إجماع فرضي ( لا ينفع إلاّ بعد عدم تمامية ماذكر : من الدّليل العقليّ والنّقليّ للحظر والاحتياط ) إذ لو تمّ ما استدل به الأخباريون على الاحتياط من العقل أو النقل ، لم يكن مجال لهذا الاجماع .

( وهو ) أي : هذا الاجماع الفرضي يكون ( نظير حكم العقل الآتي ) فيما بعد ، الدال على البرائة ، فانّ العقل انّما يدل على البرائة إذا لم يكن دليل للاحتياط ، أما إذا كان هناك دليل على الاحتياط لم يكن مجال لحكم العقل .

ص: 52

الثاني : دعوى الاجماع على أنّ الحكم - فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو - عدمُ وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب .

وتحصيلُ الاجماع بهذا النحو من وجوه :

الأوّل : ملاحظةُ فتاوى العلماء في موارد الفقه فانّك لا تكادُ تجدُ من زمانِ المحدّثين إلى زمان أرباب التّصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط .

-------------------

( الثاني : دعوى الاجماع ) الحدسي الذي لا يضره مخالفة الأخباريين ، فانّ الاجماع الحدسي عبارة عن : اتفاق جماعة من العلماء ينتقل الذهن من اتفاقهم إلى رأي المعصوم عليه السلام ، ولا يحتاج مثل هذا الاجماع إلى اتفاق الكل كما ذكر في مبحث الاجماع ، وهذا الاجماع إنّما هو ( على انّ الحكم فيما لم يرد ) فيه ( دليل ) خاص أو عام ( على تحريمه ) واقعاً ( من حيث هو ) فانّ شرب التتن من حيث هو ، له حكمُ ، ومن حيث انه مشكوك ، له حكم ، وحكمه ( : عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب ) وذلك للبرائة .

( وتحصيل الاجماع بهذا النحو ) أي : الاجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام حدساً ( من وجوه ) تالية :

( الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه ) والاصول ، وهذا يسمى : بالاجماع المحصَّل في قِبال الاجماع المنقول ، الذي ينقله فقيه واحد أو أصولي واحد ( فإنّكَ لا تكادُ تجدُ من زمانِ المحدّثين ) وهم أصحاب الأئمة عليهم السلام وتابعيهم الذّين كتبُوا الأحاديث ( إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى : من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط ) .

فلا ترى أحداً من مثل : شيخ الطائفة ، والمُفيد ، والمرتضى ، وابن البَرّاج ،

ص: 53

نعم ، ربما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي إعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها .

ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول .

فمنهم ثقةُ الاسلام الكلينيّ رحمه اللّه ، حيث صَرَّح في ديباجة الكافي ب- « أنّ الحكمَ فيما إختلف فيه الأخبار التخييرُ » .

-------------------

وغيرهم يعتمد في الحكم بالحرمة على الاحتياط ، وانّما يستندون في الحرمة كاستنادهم في الوجوب إلى الأدلة الأربعة .

( نعم ، ربّما يذكرونه ) أي : يذكرون الاحتياط ( في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط ) في الشبهة التحريميّة وهم الأخباريون ( بعدم وجوبه فيها ) أي : بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية .

وعلى اي حال : فذكرهم للاحتياط انّما هو للتأييد لا للاستناد ، سواء ذكر الاحتياط في الشبهة الوجوبية أو في الشبهة التحريميّة .

ثم انّ المصنّف تَطرّق لذكر بعض كلماتِهم فقال : ( ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ماهو ظاهر في هذا القول ) أي : القول بالبرائة فيما لم يكن على حرمته دليل صريح من الأدلة الأربعة ( فمنهم : ثقة الاسلام الكُليني رحمه اللّه حيث صَرَّح في ديباجة الكافي : بانّ الحكم فيما إختلف فيه الأخبار ) اي اختلف بالتعارض هو ( : التخيير ) فاذا ورد - مثلاً - خبر بقول : « ثمن العذرة سُحتٌ » (1) ،

ص: 54


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة: ج17 ص175 ب20 ح22284 .

ولم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان ، وما لم يرد فيه نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه ، فالظاهرُ أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا .

-------------------

وخبر آخر يقول : « لا بأس ببيع العذرة » (1) يكون المكلّف مخيراً بين الأمرين .

هذا ( ولم يلزم ) الكليني رحمه اللّه ( الاحتياط ) في باب تعارض الأخبار ( مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان ) فقد قال الامام عليه السلام في مورد تعارض الأخبار : « خُذ بما وافَقَ الاحتياط منهُما » .

( و ) حيث ( ما لم يرد فيه نصّ بوجوبه ) أي : بوجوب الاحتياط ( في خصوص ما لا نصّ فيه ) يكون حال ما لا نصّ فيه مثل حال تعارض الأخبار ، فكما في مورد تعارض الأخبار ، كذلك لا احتياط في مورد عدم النصّ .

ثم إنّ الكليني رحمه اللّه لما قال : بالبرائة في صورة التعارض ، ولم يعمل بما ورد فيها من النص الخاص بالاحتياط ، لا بد وان يقول : بالبرائة في صورة فقدان النّص الذي هو محل البحث ، بطريق أولى ، والأولوية من جهة : انّ في مورد تعارض النصين يوجد نَصٌ بالتحريم ، وفي مورد فقدان النص ، لا يوجد نص بالتحريم ، فاذا كان الحكم بالبرائة في مورد يكون فيه نص على التحريم ، كان الحكم بالبرائة في المورد الذي لا نص فيه بطريق أولى .

وعليه : ( فالظاهر : انّ كل مَن قال بعدم وجوب الاحتياط هناك ) في تعارض النصين ( قال به ) أي : بعدم وجوب الاحتياط ( هنا ) أي : في صورة فقدان النص ،

ص: 55


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

ومنهم الصدوقُ رحمه اللّه ، فانّه قال : « إعتقادُنا أنّ الأشياء على الاباحة حتّى يَرِدَ النهيُ » . ويظهرُ من هذا موافقةُ والده ومشايخه ، لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربما يقول : « الذي أعتقده واُفتي به » ، واستظهر من عبارته هذه أنّه من دين الإماميّة .

وأمّا السيّدان ، فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدةً

-------------------

ومن الواضح : ان صورة فقدان النص تشمل صورة إجمال النص ولو بالمِلاك .

( ومنهم الصدوق رحمه اللّه ) فانّ كلامه ظاهر بالبرائة فيما لا نصّ على تحريمه أيضاً ( فانّه قال : إعتقادنا انّ الاشياء ، على الاباحة حتّى يرد النهي ) فانّ هذا الكلام نص على انه إذا لم يكن نهي كان محَلاً للاباحة ، والاباحة عبارة أُخرى عن البرائة .

( ويظهر من هذا ) حيث قال : اعتقادنا ( : موافقة والده ومشايخه ) أيضاً على القول بالبرائة فيما لا نص فيه ( لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة ) وهي قوله : اعتقادنا ( مع مخالفته ) أي : الصدوق ( لهم ) أي : لوالده ومشايخه .

( بل ربّما يقول ) الصدوق رحمه اللّه فيما يتفرّد به : ان ( الذي اعتقده وأُفتي به ، و ) ربّما يقول : اني ( استظهر من عبارتهِ هذه : انه ) أي : كون الاشياء على الاباحة ، ما لم يكن هناكَ دليلٌ خاص أو عامٌ على التحريم فاستظهر منه ، واعتقد بانّه ( من دين الاماميّة ) وذلك لتعارف قوله : اعتقادنا فيما إذا طابق نظره نظر والده ومشايخه ، لا ما تفرد به : انّه من دين الامامية .

( وامّا السّيدان ) : المُرتضى ، وابن زُهرة ، ( فقد صَرَّحا : باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة ) كشرب التتن في الشبهة الحكميّة ، واللحم المشتبه بين المذكى والميتة في الشبهة الموضوعية .

ص: 56

وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد أنّه متى فَرضنا عدمَ الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل .

وأمّا الشيخُ قدس سره ، فانّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس سره ، إلى أنّ الأصلَ في الأشياء من طريق العقل الواقف ، إلاّ أنّه صَرّح في العدة ب- « أنّ حكمَ الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنّهُ لا يمتنعُ أن يدلّ دليل سمعيّ على أنّ الأشياء على الاباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمرُ كذلك وإليه نذهب » ، انتهى .

وأمّا من تأخّر عن الشيخ ، كالحِلّيّ والمحقّق والعلاّمة والشهيدين وغيرهم ، فحكمهُم بالبراءة يعلمُ من مراجعة كتبهم .

-------------------

( وصرّحا أيضاً في مسألة العمل بخبر الواحد : انه متى فَرضنا عدم الدليل ) ومرادهما بالدليل : الكتاب ، والسُنّة ، والاجماع ( على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل ) وقد تقدّم منهما انَّ حكم العقل عندهما هو الاباحة .

( وأمّا الشيخ قدس سره : فانّه وإن ذهب وفاقاً لشيخه المفيد قدس سره إلى انّ الأصل في الأشياء من طريق العقل : الواقف ) في الحكم : لا الحظر ، ولا الاباحة ( إلاّ انه صَرّح في العدة : بان حكم الاشياء من طريق العقل وان كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع ان يدل دليل سمعي ) أي : شرعي ( على انّ الأشياءَ على الاباحة بعد أنْ كانت على الوقف ) عقلاً ( بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب ، انتهى ) فالأصل الأولي . بحكم العقل ، وإنْ كان الوقف ، إلاّ ان المستفاد من الدليل السمعي هو الاباحة .

( وأمّا من تأخر عن الشيخ : كالحِلّي ، والمحقّق ، والعلاّمة ، والشهيدين ، وغيرهم ، فحكمهم بالبرائة ) في الشبهة الحكمية ( يعلم مِن مراجعة كتبهِم ) فانّهم حَكمُوا بالبرائة في الشبهة التحريميّة .

ص: 57

وبالجملة : فلا نعرفُ قائلاً معروفا بالاحتياط ، وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة .

ثمّ إنّه ربما نُسب إلى المحقّق قدس سره ، رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبَر من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني . وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء اللّه تعالى .

وممّا ذكنا يظهرُ أنّ تخصيصَ بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالفٌ للواقع ،

-------------------

( وبالجملة : فلا نعرف قائلاً معروفاً بالاحتياط ، وانْ كان ظاهر المعارج ) للمحقّق ( نسبته ) أي : نسبة القول بالاحتياط ( إلى جماعة ) ولعلهم كانوا من العلماء الذين لم يصل الينا تأليفهم ، أو لم تكن لهم تأليفات .

( ثم انّه ربّما نُسب إلى المحقق قدس سره رجوعه ) أي : رجوع المحقّق ( عمّا في المعارج إلى ما في المُعتَبر من التفصيل ) فانّ الناسب قال : ان المحقق وانْ اختار في المَعارج : البرائة ، لكنّه عَدَلَ في المعتَبَر عنه الى التفصيل ( بين ما يعمّ به البلوى ) أي : يكثر به الابتلاء ( وغيره ، وانّه لا يقول بالبرائة في الثاني ) أي : فيما لا يكثر الابتلاء به ، وانّما يقول بالبرائة في الأول الذي يعمّ به البلوى .

( وسيجيء الكلام في ) بُطلان ( هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء اللّه تعالى ) الكاشفة عن ان المحقّق باقٍ على قوله في المعارج : من أن الأصل البرائة .

( ومما ذكرنا ) : من ذهاب المتقدمين والمتأخرين إلى الحكم بالبرائة في الشبهة التحريميّة ( يظهر : انّ تخصيص بعض ) الفقهاء ( القول بالبرائة بمتأخري الإماميّة ) فقط دون متقدميهم ( مخالفٌ للواقع ) إذ قد عَرفت : انّ الإماميّة

ص: 58

وكأنّه ناش عمّا راى من السيّد رحمه اللّه ، والشيخ رحمه اللّه ، من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد . ويؤيّده ما في المعارج من نسبةِ القول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جماعةٍ .

الثاني : الاجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة ، فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق .

وممّن استظهر منه دعوى ذلك ، الصدوق رحمه اللّه ، في عبارته المتقدّمة عن إعتقاداته .

-------------------

من المتقدمين والمتأخرين مطبقون على القول بالبرائة .

( وكأنه ) أي : كأن نسبة التخصيص بالمتأخرين ( ناش عَمّا رَأى ) هذا الناسب ( من السيد رحمه اللّه والشيخ رحمه اللّه من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد ) التي ارتأوا الحَظر فيها ، وذلك من باب التأييد والاستناد لما رأوه ، لا من باب وجوب الاحتياط .

( ويؤيده ) أي : يؤيد كون التخصيص بالمتأخرين خلاف الواقع ( : ما في المَعارج : من نسبةِ القَول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جَماعةٍ ) أي : انّ المَعارج نَسبَ القول بالاحتياط إلى جماعةٍ فقط ، ممّا ظاهره : ان المشهور يقول بالبرائة ، وقوله : رفع الاحتياط ، بمعنى : نسبته ، لأن النسبة إذا كانت إلى جماعة سابقة تسمّى رفعاً ، ولهذا تسمّى الرواية الساقطة بعض اسنادها بالمرفُوعَة .

( الثاني ) من وجوه دعوى الاجماع ( : الاجماعات المنقولة ) في كلمات الأصحاب ( والشهرة المحقّقة ) التي يجدها الانسان عند مراجعة كلماتهم ( فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق ) من جميع العلماء .

( وممّن استظهر منه دعوى ذلك ) . اي : الاجماع المذكور ، هو ( الصدوق رحمه اللّه ، في عبارته المتقدّمة عن ) كتاب ( إعتقاداته ) حيث قال رحمه اللّه : اعتقادنا : انّ الأشياء

ص: 59

وممّن إدّعى اتفاقَ المحصلين عليه الحلّيُّ في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسنّة والاجماع : « إنّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتَمدُ في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسّكُ بدليل العقل » ، انتهى .

ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبّع كتابه ، هو أصل البراءة .

وممّن ادّعى إطباق العلماء المحقّقُ في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز

-------------------

على الاباحة فانّ هذا إجماع منقول على البرائة .

( وممّن ادّعى اتفاق المحصّلين ) أي : اجماع العلماء ( عليه ) أي : على القول بالبرائة هو : ابن ادريس ( الحلّي في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسّنة والاجماع ) وانّها أدلة للأحكام : ( انّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتَمد في المسألة الشرّعيّة عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة ) أي : عن مدركها ( التَمسك بدليل العقل ، انتهى ) .

هذا ولم يرد ابن إدريس من دليل العقل ما يذكره المتأخرون من الأدلة العقليّة في الأحكام الشرعيّة مطلقاً ، بل كما ذكره المصنّف : ( ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبع كتابه : هو أصل البرائة ) فانّ الحلي رحمه اللّه من عادتهِ الرّجوع إلى البرائة عند فقد الثلاثة ، والجمع بين هذين الكلامين منه ، يدل على ان مراده من دليل العقل : البرائة .

( وممّن إدعى إطباق العلماء : المحقّق في المَعارج في باب الاستصحاب ) كما رأيناه في كتابه ( و ) نقل ( عنه ) أي : عن المحقّق ( في ) رسالته المُسمات باسم : ( المسائل المصرّيّة أيضاً في توجيه نسبة السّيد ) المرتضى ( إلى مذهبنا : جواز

ص: 60

إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه :

« إنّ من أصلنا العملَ بالأصل ، حتّى يثبت الناقل ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمايعات » .

فلولا كونُ الأصل إجماعيّا ، لم يحسن من المحقّق قدس سره ، جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا .

وأمّا الشهرةُ

-------------------

ازالة النّجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه ) .

فانّ السيد المرتضى قال : ومن مذهبنا جواز ازالة النجاسة بالمضاف ، فأثار هذا الكلام السؤال بانّه : كيف ينسب السيد الى المذهب ما لا نصّ فيه؟ فاجاب المحقق عنه : بأنّ هذه الدعوى ليست مبتنية على تتبع الأدلة من الكتاب ، أو السنّة ، بل ( ان من أصلنا : ) أي : من قواعد الشيعة الإمامية ( العمل بالأصل ) أي : البرائة ( حتّى يثبت النّاقل ) أي : المانع عن ذلك الأصل ( ولم يثبت المنع عن إزالة النّجاسة بالمايعات ) المضافة ، فيدل اصل البرائة هذا على كفاية الازالة بالمضاف .

ولا يخفى : انّ ما ذكره وإنْ كان محلُ نظر صُغرىً ، إلا انّ مرادنا بالاستدلال على الحكم بالأصل ، هو : أنْ يتمسك بالأصل حيث لا يجد الدليل .

قال الشيخ المصنّف قدس سره : ( فلولا كون الأصل إجماعيّاً ، لم يحسن من المحقّق قدس سره جعله ) أي : جعل الأصل ( وجهاً ) أي : توجيهاً ( لنسبة ) السيد رحمه اللّه ( مقتضاه ) أي : مقتضى الأصل وهو : جواز إزالة النجاسة بالمايعات (إلى مذهبنا) .

وعليه : فهذه كلّها إجماعات منقولة تدل على انّ عملهم يكون على البرائة في مورد فقدان النص .

( وأمّا الشهرة ) في المسألة ، فقد ذكرنا : انّها شهرة محققة على انهم يعملون

ص: 61

فانّما تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب ، خصوصا في الكتب الفقهيّة . ويكفي في تحقّقها ذهابُ من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين .

الثالث : الاجماع العمليّ الكاشف عن رضا المعصوم عليه السلام ،

-------------------

بالبرائة عند فقد النص ( فانّما تتحقق بعد التّتّبع في كلمات الأصحاب ، خصوصاً في الكتب الفقهيّة ) كما انّ بعضاً منها يوجد أيضاً في الكتب الاصولية ، أو في الكتب الاعتقادية .

( ويكفي في تحقّقها ) أي : الشهرة ( ذهاب من ذكرنا ) أسمائهم في الاجماع (من القدماء المتأخرين) إليها ، فانّه إذا لم يحصل لنا من تتبع أقوالهم إجماع في المسألة فلا أقل من حصول الشهرة المحققة عليها .

ولا يخفى : انّ المُراد بالشهرة هنا : الشهرة الفتوائيّة لا الشهرة الروائيّة ، وقد ذهبَ جمعٌ من العلماء الى ان حجيّة الشهرة لقوله عليه السلام : « خُذ بما اشتهر بين أصحابِكَ وَدَعْ الشَاذَ النَادِرَ ، فَانَّ المُجمَعَ عَليهِ لا رَيبَ فِيهِ » (1) إذ التعليل يدل على عموم حجيّة الشهرة ، وإنْ لم تكن الشهرة في الرواية ، فانّ الشهرة الروائيّة كانت مورداً للحديث المذكور ، والمَورد لا يخُصص الوارد .

إلى هنا تحقق وجود الاجماع المحصَّل ، والاجماع المنقول ، والشهرة على انّ البرائة هي المحكمة في الشبهة الحكمية التحريمية .

(الثالث) من وجوه الاجماع : ( الاجماع العمليّ ) أي : انهم أجمعوا في عملهم على التمسك بالبرائة ( الكاشف عن رِضا المعصوم عليه السلام ) فانّ عمل الأتباع

ص: 62


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فانّ سيرةَ المسلمين من أوّل الشريعة بل في كلّ شريعة على عدم الالتزام والالزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات وليس ذلك إلاّ لعدم إحتياج الرخصة في الفعل إلى البيان ، وكفاية عدم وجدان النهي فيها .

-------------------

المقيّدين بالعمل بأقوال المتبوعين ، يدلّ على ان المتبوع راضٍ بذلكَ ، وإلاّ بأن لم يكن راضياً ، لما عمل الأتباع به .

( فانّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة ) اي : من زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، الى يومنا هذا ( بل في كلّ شريعة ) وقانون من القوانين الوضعية المتعارفة في العالم غير المتدين جارٍ ( على عدم الالتزام ) بأنّفسهم ( والالزام ) لغيرهم ( بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ) فانّ احتمالهم ورود النهي لا يكفي لديهم للعمل بالاحتياط ، بل إنّهم مع إحتمالهم ورد النهي إذا فحصوا ولم يجدوا عملوا بالبرائة .

( و ) ممّا يؤيد ذلك ( ان طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات ) كقوله تعالى : « حُرّمت عَليكُم الميتَةُ ، وَالدَمُ ، وَلحمُ الخنزير ، وَما أُهِلَ لغَير اللّه بهِ ، وَالمنخَنقَةُ ، والموقُوذَة ، والمُتَرَدّيةُ ، وَالنَطيحَةُ ، وَمَا أَكَل السَبعُ إلاّ ما ذَكيتُم ، وَماذُبِحَ على النُّصُبِ ، وأن تَستَقسِمُوا بالأزلام ، ذلكم فِسقٌ ...» (1) .

(وليس ذلك إلاّ لعدم إحتياج الرخصة) من الشارع وإلاباحة (في الفعل إلى البيان ، و كفاية عدم وجدان النّهي فيها ) من الشارع ، وعلى ذلك جرت سيرة المسلمين .

ص: 63


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

قال المحقّق رحمه اللّه ، على ما حكي عنه : « إنّ اهل الشرائع كافّة لا يخطِّئون من بادَرَ إلى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجِبُونَ عليه عند تناول شيء من المأكول والمشروب أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ،

-------------------

وهذا الكلام لسنا أوّل من قاله ، وانّما سَبَقَنا إليه غيرنا ، فقد ( قال المحقّق رحمه اللّه ، على ما حُكي عنهُ : انّ أهل الشرائع كافةً لا يُخطّئون مَنْ بادَرَ الى تناول شيء من

المشتبهات ) والمبادرة يُراد بها : الارتكاب ، المُسابقة ( سواء علم الاذن فيها من الشرع ، أم لم يعلم ) .

فانّ المتشرعة لايفرّقون بين ماهو معلوم الاباحة من الشرع ، وبين ماهو مشكوك الاباحة منه ، فيتناولون الشيء المشكوك الاباحة كما يتناولون الشيالمعلوم سواء كان في الأكل ، أو الشرب ، أو اللباس ، أو المسكن ، أو المركب ، أو الزوجة ، أو غير ذلك .

( ولا يوجِبوُنَ عليه ) أي : على المتناول ( عند تناول شيء من المأكول ، والمشروب ) والملبوس ، والمنكوح ، والمسكون ، وغيرها ( ان يعلم التنصيص على اباحته ) فلا يقولون : انّه يجب عليك العلمَ بالاباحة ، بل يقولون : انه يكفيك احتمال الاباحة إنْ لم يكن نصّ على التحريم .

كما ( ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ) بأنّ كان قاصِراً فتناول محرَّماً من المحرمات ، فلا يقولون له : انّ القاعدة اجتناب الشيء حتى تثبت الاباحة ، بل يقولون له : ان القاعدة التناول الا أن يثبت التحريم .

ص: 64

ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الاذن » ، انتهى .

أقول : إن كان الغرضُ ممّا ذكر من عدم التخطئة بيانَ قبح مؤاخذةِ الجاهل بالتحريم ، فهو حَسنٌ مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقليّ الآتي ، ولا ينبغي

-------------------

هذا ( ولو كانت ) المشتبهات المحتمله للتحريم ( محظورة ) أي : ممنوعة عند المتشرعة ( لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن ، إنتهى ) كلام المحقّق .

( أقول ) : هل انّ مبنى كلام المحقّق في الشارع ، وانّه يقبح عليه مؤاخذة الجاهل بالحكم مع جهله بوجوب الاحتياط أيضاً كما اذا كان الشخص جاهلاً بأن التتن - مثلاً - حرامٌ عليه ، وجاهلاً بأنّه يلزم عليه الاحتياط في الشبهة التحريمية؟

انْ كان هذا مبنى كلامه ، فيَردُ عَليه : ان اللازم على المحققّ حينئذٍ أن يجعل هذا دليلاً عقلياً لأن كافة العقلاء على ذلك وليس أهل الشرائع فقط .

أو : ان مبنى كلام المحقّق في المكلّف ، وانّه لا يجب عليه دفع الضرر المحتمل ؟ ان كان هذا مبنى كلامه ، فسيجيء البحث عن ان العقل هل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، أو لا يحكم بوجوبه انشاء اللّه تعالى .

والى المبنى الاوّل اشار المصنّف بقوله : ( إن كان الغرض ) للمحقق ( ممّا ذكر : من عدم التخطئة ) لمن يبادر الى تناول المشتبهات هو : ( بيان قبح مؤاخذةِ الجاهل بالتحريم ؟ ) أي : انّ الشارع يَقْبُح عليه أنْ يُعاقبَ الجاهل بالتحريم ( فهو حَسنُ مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه ) أي : على الجاهل ( من الشارع ) أي : انّ العبد لم يبلغه الحكم ولم يبلغه وجوب الاحتياط عند جهله بالحكم .

( لكنّه ) أي : قبح مؤاخذةِ الجاهل ( راجع إلى الدّليل العقلي الآتي ، ولا ينبغي

ص: 65

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ، بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهلِ الشرائع على قبح ذلك .

وإن كان الغرضُ منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ، حتّى لو فرض عدم قبحها لفرض العقاب من اللوازم القهريّة لفعل الحرام - مثلاً -

-------------------

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ) كما فعله المحقّق ، حيث استدل على ذلك بخصوص أهل الشرائع ( بل بناء كافّة العقلاء ) حتى ( وإن لم يكونوُا من أهلِ الشرائع : على قُبح ذلك ) أي : قبح العِقاب بدون البيان والى المبنى الثاني اشار المصنّف بقوله : ( وان كان الغرض منه ) أي : غرض المحقّق من هذا الكلام ( : انّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ) أي : بناء العقلاء على ان للعبد أن يرتكب ما لم يعلم حرمته ( حتى لو فرض عدم قبحها ) أي : قبح المؤاخذة فانّ كلا منا ليس في الشارع وانّه يوأخذ أو لا يؤاخذ ، أو يقبح مؤاخذته أولا يقبح مؤاخذته ، بل كلامنا في العبد من حيث انّه يجوز له ارتكاب ماهو محتمل الضرر أو لا يجوز له ذلك؟ .

إنْ قلت : كيف يتصور ويفرض عدم قبح مؤاخذة الجاهل عقلاً؟ بعبارة اخرى : كيف يُمكن أن نقول : بأن مؤاخذة الجاهل جائزة ؟ .

قلت : ( لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام - مثلاً - ) فإنّ بعضهم قالوا : بأنّ العقاب تابعٌ لفعل الحرام ، فحال العقاب حال السُكر من اللوازم القهرية لشرب الخمر ، فانّ شارب الخمر سواء شربها عمداً أو جهلاً لابد وأن يَسكر ، وبعضٌ قالوا : بأن الانسان إذا ارتكب الحرام يعاقب ، لأن العقاب ثمرةُ الحرام سواء كان فاعل الحرام قاصراً أو مقصراً .

ص: 66

أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلاً لم يزل بناؤهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المُحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

( أو فرض المولى ) مولى اعتباطياً لا يعمل بموازين العقل ( في التكاليف العرفيّة ) بأن كان المولى ( ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلاً ) كما هو الغالب في قوانين عالم اليوم التي وضَعَها مَنْ يُسمون أنفسهم بالعقلاء ، فانّ من يدخل البلد - مثلاً - بدون إجازة الدولة ، يعاقبونه بالسجن أو الغَرامة وإنْ لم يكن يعلم ذلك الداخل بقانون البلد ، إلى غير ذلك من قوانينهم الكثيرة التي تشمل العالم والجاهل والقاصر والمقصر ، وعليه : فلو فرض بناء العقلاء على جواز الارتكاب ، فانّه ( لم يزل بناؤهم على ذلك ) أي على تحويز الارتكاب وقوله : « لم يزل » ، جواب قوله : « لو فرض » .

وكيف كان : فانْ كان غرض المحقّق : انّ العقلاء يُجوّزوُن إرتكاب الجاهل ولو فرضنا انّه لا يقبح عقابه ومؤاخذته ( فهو مبنيٌّ على عدمِ وجوبِ دفع الضرر المُحتمل ) وانّه هل لمِنْ يُريد الارتكاب ، جواز الارتكاب عقلاً إذا احتمل الضرر أو عدم جواز الارتكاب؟ ( وسيجيءُ الكلامُ فيه ) أي : في وجوبِ أو عدمِ وجوب دفع الضرر المُحتمل ( إن شاء اللّه تعالى ) في بَحث الشك في المكلَّف به .

ولعل الأوجه في هذا الباب هو : ان دفع الضرر المُحتمل انّما لا يجب إن كان الضَرر المحتمل قليلاً ، أو كان من باب الأهم والمُهم ، كما إذا احتمل الغَني خسارةَ درهم ، أو احتمل راكب السفينة الغَرق ، والاّ فانّ العقل يحكم بوجوبه .

ثم ان المصنّف بعد أنْ ذكر الكتاب والسنّة والاجماع دليلاً على البرائة في الشبهة التحريميّة ، شرعَ في الدّليل الرابع فقال :

ص: 67

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف

ويشهد له حكمُ العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلاً بتحريمه .

ودعوى : « أنّ حُكمَ العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيانٌ عقليٌّ ، فلا يقبح بعده المؤاخذة » ،

-------------------

( والرّابع من الأدلة ) على البرائة في الشبهة التحريميّة : ( حكمُ العقل بقبح العقاب على شيء ، من دون بيان التكليف ) فإنّ المولى إذا لم يُبين التكليف وجوبياً أو تحريماً ، يقبحُ عَقلاً عقوبة المرتكب ، فعدم البيّان هو موضوع البرائة العقليّة ( ويشهد له ) أي : يشهد لحكم العقل هو ( : حكم العقلاء كافة : بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما ) أي : فعل الحرام الذي ارتكبه العبد ، ممّا ( يعترف ) المولى ( بعدم إعلامه أصلاً ) أي : بعدم إعلام المولى العبد ( بتحريمه ) أي : بتحريم ذلك الفعل ، فاذا اعترف المولى : انّه لم يبين لعبده الحكم اصلاً ، أو بينه لكن لم يصل إلى العبد ، ولم يوجب عليه الاحتياط ، فانّ العقلاء يَرون عقاب المولى لمثل هذا العبد في ارتكابه للمحرم الواقعي قبيحاً .

إن قلت : انّه حيث يلزم دفع الضرر المحتمل ، وعقل العبد يقول به ، فليحتمل العبد الضرر في ارتكاب شيء كان هذا الأمر العقلي بياناً فلو ارتكبه الا يقبح عقاب المولى له كما قال المصنّف : ( ودعوى : انّ حُكمَ العقل بوجوبِ دفع الضَّرر المُحتَمل بيانٌ عقليٌّ ، فلايَقبح بعدَهُ ) ، أي : بَعدَ هذا البيان العقليّ ( المؤاخذةُ )

ص: 68

مدفوعةٌ : بأنّ الحكمَ المذكور على تقدير ثبوته لا يكونُ بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة وإن لم يكن

-------------------

من المولى لعبدِهِ ، والحاصل ان دفع الضرر المحتمل بيان ، فاذا ارتكبَ العبد ماهو محتمل الضرر ، وعاقَبَهُ المولى عليه لم يكن من المولى عقاب بلا بيان ، بل كان العقاب مع البيان العقلي ، ولا فرق في البيان بين كونهِ شَرعياً أو عقليّاً .

قلت : هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) وذلك لأنّ في المَقام قاعدتين :

الاُولى : « قُبح العِقابِ بَلا بَيان » .

الثانية : « دَفع الضَرر المُحتمل واجبٌ » .

لكنّ القاعدة الاولى لا تَدعُ مَجالاً للقاعدةِ الثانية ، لأن الضررَ المحتمل يرتفع بسبب عدم البَيان ، فلا يحتمل العَبد الضرر ، إذ يقول العبد للمولى : إنّك لم تُبيّن ، فلم أحتمل الضَرر ، وعليه : فالدعوى مدفوعة ( ب- ) سبب ( انّ الحكم المذكور ) أي : دفع الضرر المحتمل ( على تقدير ثبوته ) وحكم العقل بوجوبه ( لا يكون بياناً للتكليف المجهول المعاقَب عليه ) إذ اللازم على المولى : إما أنْ يُبيّن انّ التتن حرامُ ، واما أن يُوجب الاحتياط حتى يكون الاحتياط بياناً ، وحيث لم يبيّن حرمة التتن ، ولا وجوب الاحتياط ، فلا بيان من المولى ، وإذ لم يكن بيان ، فلا يخاف العبد الضرر المحتمل .

إذن : فليس وجوب دفع الضرر المحتمل بياناً واقعياً للتكليف المجهول ( وإنما هو ) أي : وجوب دفع الضرر المحتمل ( بيان لقاعدة كلية ظاهرية ) إذ العقل قد يبيّن قاعدة واقعيّة مثل : حرمة ظلم الناس ، وقد يبيّن قاعدة ظاهرية مثل : وجوب دفع الضرر المحتمل ، ووجوب الاحتياط في أطراف الشبهة ( وإن لم يكن

ص: 69

في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عُوقِبَ على مخالفتها وإن لم يكن تكليفٌ في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده

-------------------

في مورده ) أي : في مورد هذا الحكم العقلي ( تكليف في الواقع ) أي : حكماً واقعياً بالاجتناب عنه - مثلاً - .

فانّ العقل يقول اجتنب عن الانائين الذين أحدهما : سمُ ، ومعنى ذلك : اجتنب عن الاناء الأحمر وعن الاناء الأبيض ، فلو اجتنب عن الاناء الأحمر كان هذا حُكماً عقليّاً ظاهرياً ، لانّه قد لا يكون السم في مورد الاناء الأحمر ، وكذا إذا قال : إدفع الضرر المحتمل ، حيث سمع بأنّ في السفر الكذائي ضرراً ، فسافر ولم يكن في الواقع ذلك الضرر المذكور ، فانّه لا تكليف له في الواقع ، وانّما يصل إلى المقصد بسلام ، ولهذا كان مثل هذا الحكم العقلي حكماً ظاهرياً لا حكماً واقعياً .

وعليه : ( فلو تمت ) قاعدة دفع الضرر المحتمل وقلنا : انّ العقل يحكم بهذه القاعدة الظاهرية ( عُوقِبَ على مخالفتها ) أي : على مخالفة هذه القاعدة الظاهرية ، لا على مخالفةِ الواقع ، لفرض انّه لم يكن في الاناء الذي شَربه سم حتى يَضره الواقع ، وكذا لم يكن في الطريق ضرر حتى يتضرر بمخالفة الواقع ، فدفع الضرر المحتمل تكليفُ ظاهري ، ويعاقب لو خالفه حتى ( وان لم يكن تكليف في الواقع ) في مورده باجتناب التتن - مثلاً - .

( لا ) انّه يعاقب ( على التكليف المحتمل على فرض وجوده ) أي : وجود ذلك التكليف المحتمل يعني : انه لو كان التتن في الواقع حراماً ، لم يكن العقاب على شرب التتن لانّه لم يصله حرمة التتن وانّما يكون العقاب على انّه لماذا خالف وجوب دفع الضرر المحتمل ؟ .

ص: 70

فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة ، بل قاعدة القبح واردة عليها ، لأنّها فرع احتمال الضرر ، أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها ،

-------------------

وعلى هذا : ( فلا تصلح القاعدة ) أي : قاعدة دفع الضرر المحتمل ( لورودها على قاعدة القبح المذكورة ) أي : قاعدة قبح العقاب بلا بيان ( بل قاعدة القبح واردة عليها ) أي : على دفع الضرر المحتمل ، فانّه لما قبح العقاب بلا بيان ، والمولى لم يبين حرمة التتن لا بالصراحة ولا بإيجاب الاحتياط ، فلا احتمال للضرر حتى يجب دفع الضرر المحتمل ، وذلك ( لأنها ) أي : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( فرع إحتمال الضّرر ) الاخروي ( أعني : العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ) على ما عرفت .

إذن : ( فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو : ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف ) أو بيانه وجوب الاحتياط ، أما لو شك في التكليف بعد الفحص وعدم الظفر بالحكم الشرعي ، وكذا عدم الظفر بوجوب الاحتياط ، فلا عِقاب فيه قطعاً .

وإنّما يكون العقاب محتملاً فيما إذا بيّنَ الشارع التكليف فخالفه ، أو بينَ الشارع التكليف ( فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة ) سواء كان الاشتباه في الامور الخارجية ، كالانائين المشتبهين ممّا يُسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، أو كان الاشتباه بين حكمين إلزاميين ممّا يسمّى بالشبهة الحكميّة كالاشتباه بين وجوب الظهر أو الجمعة ( وما يشبهها ) أي : ما يشبه الشبهة المحصورة ، كالشبهة التي أمر الشارع بالاجتناب عنها ، كما في الدِماء ، والفروج ،

ص: 71

هذا كلّه إن اُريد بالضرر العقابُ .

وإن اريد بها مضرّةٌ أُخرى غيرُ العقاب التي لا يتوقف ترتّبها على العلم ، فهو وإن كان محتملاً ، لا يرتفع إحتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلاّ أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين .

-------------------

والأموال ، على ما ذكروا من وجوب الاحتياط فيها .

( هذا كله ) أي : كون قاعدة القبح وارداً على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( إن أريد بالضرر : العقاب ) الاخروي ، وقد تبيّن : انّه لا عقاب في الآخرة ، لانّه لا بيان .

( و ) أما ( إن أريد بها ) أي : بقاعدة دفع الضرر المحتمل ( مضرة أخرى غير العقاب ) كالأضرارَ الدنيوية ، مثل : ضرَر شرب الخمر على صحته وسلامته أو المضرات الاخروية غير العقاب مثل : كون جمود العين سبباً لقسوة القلب ، وقسوة القلب مانعة عن الارتقاءات المعنوية ، فلا ترتفع به .

إذن : فالمضرات الاُخر ، كالآثار الوضعية ( التي لا يتوقف ترتبها على العلم ) بالحرمة ، لوضوح : ان السكر يعرض الانسان إذا شرب الخمر ، سواء علم بأنّها خمر أم لا ، وكذلك إذا جمدت عينه بقسوة قلبه وقساوة القلب مانعةٌ عن الارتفاعات المعنويّة ( فهو وإنْ كان محتملاً ، لا يرتفع إحتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلاّ انّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ) .

والحاصل : ان قولكم : شرب التتن فيه ضرر محتمل ، ودفع الضرر المحتمل

ص: 72

...

-------------------

واجب بحكم العقل ، إن أردتم بالضرر المحتمل : العقاب ، فقد تبيّن انّه لا عقاب عليه ، وإن أردتم بالضرر المحتمل : المضرات الدنيوية ، ككون شرب التتن موجباً لبعض الأمراض ، فهذه شبهة موضوعية لأنا لا نعلم هل ان في التتن ضرراً بالغاً أو لا ، والشبهة الموضوعية لا يجب الاحتياط فيها عند كل من الاصوليين والأخباريين .

وعليه : فلا يتمكن الأخباري أن يقول : ان احتمال الضرر الدنيوي - مثلاً - في التتن ، يوجب الاحتياط فيه بعدم شربه .

وانّما قلنا ضرراً بالغاً ، لأنّ الضرر غير البالغ لا يجب دفعه ، ولذا قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكذا فاطمة عليهاالسلام في العبادةِ حَتى تَوَرَمَتْ قَدَماهُما ، وسافر الحَسن عليه السلام إلى الحج راجلاً حتى قرُحَتْ رجله ، واشتَغَل السَّجاد والكاظِم عليهماالسلام بالعبادة حتى صارا كالشِن البالي ، إلى غير ذلك .

وكذا يجوز للانسان بلا إشكال أن يمشي في الشمس - مثلاً - وإن سبَّبَ ذلك صداعه ، وهذا مبحث فصلناه في قاعدة لا ضرر .

هذا ، وقد أفتى جماعة من الفقهاء : بأن الضرر في الصوم الواجب - مثلاً - اذا كان بالغاً حرم الصوم ، وإن كان الضرر قليلاً وجب الصوم ، وإن كان الضرر معتداً به غير بالغ ، تخيّر بين الصيام وعدم الصيام ، مثلاً : إنّه اذا صام اصيب بصداع خفيف مقدار ساعة ، فانّه يجب عليه الصوم . وقد يُصاب - بصداع شديد أسبوعاً فانّه يحرم عليه الصوم ، وقد يُصاب يوماً بصداع غير خفيف فانّه يجوز له أن يصوم ويجوز له ان يفطر ويقضي .

وكذلك قالوا بالنسبة إلى الوضوء ، والغُسل ، والقيام في الصلاة ، وغير ذلك

ص: 73

فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود . فلابدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر ،

-------------------

من الأحكام الشرعية ، والسر في ذلك : ان « لا ضرر » يرفع الضرر الكثير ، أما الضرر المتوسط فيتعارض مع دليل ذلك الحكم ، وأما الضرر الخفيف فيتقدّم دليل ذلك الحكم على دليل لا ضرر ، على بحث ذكروه في « الفقه » .

وعلى أي حال : ( فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة ) غير العقاب الاُخروي ( لكان هذا ) الوجوب ( مشترك الورود ) علينا نحن الاصوليين ، وعلى الأخباريين أيضاً ، لأن الاصوليين لا يوجبون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الحكمية ولا في الشبهة الموضوعية وجوبيةً كانت أو تحريميّة ، والأخباريين لا يوجبُون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الموضوعيّة مطلقاً وفي الشبهة الحكمية الوجوبية منها فقط دون التحريميّة ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهِلال ، أو وجوب الصلاة على محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم عند ذكر إسمَه .

( فلابدّ على كلا القولين : ) قول الاُصوليين وقول الاخباريين من معالجة الأمر بأحد أمرين : ( إما من منع وجوب الدفع ) للضرر المحتمل غير العقاب الاُخروي ( وأمّا من دعوى ترخيص الشارع واذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر ) أي : ان المشكوك كونه مصداقاً للضرر يجب دفعه عقلاً ، إلاّ انّ الشارع أَذِنَ في ارتكابه ، ومعنى الاذن في ارتكابه : انه لو كان في الواقع ضرر تداركه الشارع بمصلحة على قدره .

مثلاً: إذا احتمل العبدُ انّ في سفرهِ ضرراً بمقدار عشرة دنانير يأخذه العَشّار منه، منعَهُ العقل عن السفر ، فاذا أجاز المولى له السَفر ، كان معنى ذلك : ان المولى

ص: 74

وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه تعالى .

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس سره ، في الغنية : « أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليفٌ بما لا يطاق » ، وتبعه بعضُ من تأخّر عنه فاستدلّ به في مسألة البراءة ، والظاهرُ أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ،

-------------------

اما يعلم انّ العَشار لا يأخذ منه الدنانير فلا يتضرر العبد واما يعلم انّ العَشار يأخذ منه الدنانير ، لكنّه يتداركه بالتعويض عنها ، هذا ( وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه ) تعالى .

( ثم انّه ذكر السيد أبو المكارم ) وهو : ابن زُهرة ( قدس سره في الغُنية ) دليلاً عقلياً آخر على البَرائة غير ما تقدَّم من قُبح العقاب بلا بَيان ، وهو : ( انّ التكليف بما لا طريّق إلى العلم به تكليف بما لا يُطاق ) وَمِنَ الواضح : انّ التكليف بمالا يُطاق مَحالٌ ، فاللازم الحكم بالبرائة في الشبهة الحكمية التحريميّة ، بل في كلّ الشُبهات الأربع : من الموضوعية ، والحكمية ، والتحريميّة ، والوجوبيّة .

( وتبعه بعضُ مَن تأخر عنه ) كالمحقق وغيره ( فاستدل به في مسأله البرائة ) وقال - مثلا - : إنّ تكليف الجاهل بالاجتناب عن التتن في الشبهة الحكمية أو بالاجتناب عن اللحم المشكوك كونه مُذكى أو ميتة في الشبهة الموضوعيّة ، تكليف بمالا يُطاق والتكليف بما لا يُطاق ممتنع من الشارع فيكون حكمه البرائة .

ولكنْ حيث ان التكليف بالاجتناب ممّا يُطاق ،لا مما لا يُطاق ، فسره المصنّف بقوله : ( والظاهر : انّ المراد به : ما لا يطاق الا متثال به واتيانه بقصد الطّاعة ) لا مالا يطاق الاتيان به ، كالطيران إلى السماء بلا وسيلة ، أو جمع النقيضين ، فمعنى كلامهم هو : ان الجاهل لا يقدر على ترك التتن بقصد الاطاعة حتى يحصل

ص: 75

كما صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ، وإلاّ فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف .

و

-------------------

على الامتثال ، وذلك لأنّ قصد الطاعة لا يمكن في حق مَن لم يصل إليه إنّ المولى اراد منه ترك التتن .

( كما صرّح به ) أي : بأنّ المُراد بما لا يطاق هو : الامتثال بقصد الطاعة ( جماعة من الخَاصّة والعامّة في دليل إشتراط التكليف بالعلم ) فقد قالوا : ان تنجيز التكليف مشروطٌ بالعلم ، إذ لولا العلم لما أمكن الامتثال وقصد الطاعة .

( وإلاّ ) بانْ لم يكن مراد هؤلاء ذلك الذي ذكرناه من المعنى : ( ف- ) واضح : ان ( نفس الفعل ) أي : مجرد إتيان الواجب وترك الحرام المحتملين ، كالدعاء عند رؤية الهلال المحتمل الوجوب ، وترك التتن المحتمل الحرمة ( لا يصير مما لايطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف ) بهما .

( و ) لا يقال : كيف حملتم كلام إبن زهرة على قولكم : الاتيان بقصد الطاعة - كما تقدّم - والحال انّ كلامه محتمل لأربعة أمور :

الأوّل : انّه يريد : ما ذكرتم من المعنى .

الثاني : انّه يريد : ان مُطلقَ صدور الفعل عن الجاهل بالتكليف محالٌ ولو بدون قصد الطاعة .

الثالث : انّه يريد : إنّ االاتيان بالتكليف برجاء كونهِ مَطلوباً مَحالٌ .

الرابع : انّه يريد : إنّ صدورَ الفعل من الجاهل أحياناً صَدفة لا لداعي التكليف محالٌ .

وحيث انّ كلامَهُ محتمل لهذه الاُمور الأربعة ، فما الداعي لحمل كلامه

ص: 76

إحتمالُ : « كون الغَرض من التكليف مطلقَ

-------------------

على الأمر الأوّل الذي بينتموه ؟ .

لأنّه يقال : الاحتمالات الثلاثة الاُخر ، لا يمكن أن تكون مراداً لأبن زُهرة ، إذ يرد على الثاني والثالث منها : ان المولى إنْ أمر بالاحتياط في صورة شك العبد بالتكليف ، كفى في تحريك العبد إلى الطاعة ، وإن لم يأمره بالاحتياط ، فالتكليف المشكوك لا ينفع في التحريك لا تحريكاً قطعياً كما في الثاني ، ولا تحريكاً رجائياً كما في الثالث .

قال الآخوند رحمه اللّه : وذلك حيث انّه لا يعقل أن يكون التكليف المجهول باعثاً وداعياً إلى المأمور به ، وزاجراً ومانعاً عن المنهي عنه ، ومجرد الفعل أو الترك بدون أن يكون الأمر أو النهي داعيا أو زاجراً لا يكاد أن يكون إمتثالاً ، مع إنَّ الغرضَ من التكليف مطلقاً ولو توصلياً هو الامتثال بحيث لو لم يكن للمكلَّف من قبل نفسه بَعثُ أو زَجرّ صار هو باعثه أو زاجره ، ولا ينافي ذلك سقوط التكليف في التوصليات بمجرّد الفعل أو الترك كما لا يخفى ، انتهى .

ويرد على الرابع : ان التكليف بقصد اتيان العبد أحياناً صدفة عبث ، لأن العبد قد يترك التتن بنفسه أحياناً وصدفة فلا داعي لمثل هذا التكليف .

هذا ، وقد أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : « واحتمال كون الغرض ...» ، وإلى الثالث بقوله : « أو يكون الغرض ...» ، وإلى الرابع بقوله : « وصدور الفعل ...» .

ثم أجاب عن الثاني والثالث بقوله : « مدفوع ..» .

وعن الرابع بقوله : « لا يمكن أن يكون ...» .

وعلى أيّ حال : فان ( احتمال كون الغرض من التكليف ) في كلام ابن زهرة : حيث قال : ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق هو : ( مطلق

ص: 77

صدور الفِعل ولو مع عدم قصد الاطاعة ، أو يكون الغرضُ من التكليف مع الشكّ فيه إتيانَ الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد إحتمال كونه مطلوبا للآمر .

وهذا ، ممكن من الشاكّ وإن لم يمكن من الغافل » ، مدفوعٌ ؛ بأنّه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة ،

-------------------

صدور الفعل ولو مع عدم قصد الاطاعة ) كما في التوصليات .

( أو : يكون الغرض من التكليف مع الشك فيه ) أيّ : مع ان العبد شاك في ان المولى كلّفه أو لم يكلفه هو : ( اتيان الفعل ) في محتمل الوجوب ، أو الترك في محتمل التحريم ( بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوباً للآمر ) وذلك رجاءاً بأن يكون مقصود الشارع هو تحريم التتن ، وايجاب الدعاء عند رؤة الهلال .

مثلا : ان الشاك في هذا الحرام ذاك في ذلك الواجب ، يلتزم بترك الأوّل ، وفعل الثاني من باب الرجاء والاحتياط ( وهذا ) أيّ : الرجاء والاحتياط ( ممكن من الشاك وان لم يمكن من الغافل ) ومن الجاهل جهلاً مركباً .

وعليه : فهذان الوجهان : الثاني والثالث من احتمالات كلام الغنية ( مدفوع : بانّه ان قام دليل ) من الخارج ( على وجوب اتيان الشّاك في التكليف ) بأن يقول الدليل الخارجي للشاك في التكليف : « احتط لدينك » (1) أي : يجب عليك الاتيان ( بالفعل لاحتمال المطلوبية ) رجاءاً ، ويجب عليك ترك الفعل لاحتمال

ص: 78


1- - الامالي للطوسي ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل وإلاّ لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور .

والحاصلُ : أنّ التكليفَ المجهولَ لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف ، لا يمكنُ أَنْ يكون غرضا للتكليف .

-------------------

المبغوضية احتياطاً ( أعني ذلك من التكليف بنفس الفعل ) فان دليل الاحتياط يكفي في تكليف الشاك بترك التتن - مثلاً - أو بفعل الدّعاء عند رؤة الهلال ، فلا حاجة إلى توجّه نفس التكليف الواقعيّ لكلّ من ترك التتن وفعل الدعاء إلى الشاك .

( والاّ ) بان لم يقم دليل من الخارج يقول بوجوب الاحتياط ، فانه ( لم ينفع التكليف المشكوك ) بنفسه ( في تحصيل الغرض المذكور ) : من حمل العبد وتحريكه نحو التكليف الواقعيّ المجهول ، فان التكليف الواقعيّ المجهول ما دام كونه مجهولاً ومشكوكاً ما لم يقم عليه دليل خارجي بالاحتياط لا يكون بنفسه محركاً للفعل رجاءاً والترك احتياطاً ، كما عرفت ذلك في كلام الآخوند .

( والحاصل ) من هذه الصور الثلاث التي اخترنا منها الصورة الأولى ، ورددنا الصورتين الباقيتين ( : انّ التكليف المجهول لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقاً ) أي : لا يعقل كون التكليف المجهول محركاً للعبد نحو الفعل والترك لا تعبداً ولا توصلاً ولا احتياطاً ولا رجاءاً .

ثمّ المصنّف أشار إلى الاحتمال الرابع لكلام الغنية وبعدها تعرّض لجوابه بقوله : ( وصدور الفعل من الفاعل احياناً ) وصدفه ( لا لداعي التكليف ، لا يمكن ان يكون غرضاً للتكليف ) .

ص: 79

وإعلم : أنّ هذا الدليل العقليّ ، كبعض ما تقدَّم من الأدلّة النقليّة ، معلّقٌ على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط فلا يثبت به إلاّ الأصل في مسألة البراءة ولا يعدّ من أدلّتها بحيث تعارض أخبار الاحتياط .

-------------------

فلو قيل : ان الغرض من تكليف الجاهل : صدور الدعاء ، أو ترك التتن على نحو القضية الاتفاقية ، أي : اتفاقاً وصدفة يصدر منه الفعل والترك وذلك من دون توجه الشاك إلى التكليف ، ومن دون أن يكون التكليف المجهول محركاً ، كما في سائر المباحات ، حيث ان الانسان قد يرتكبه وقد لا يرتكبه صدفة .

قلنا : جعل هذا الأمر الأحياني والاتفاقي غرضاً للتكليف عبث ، لوضوح : ان الدعاء قد يحصل أحياناً صدفة والتتن قد يترك أحياناً صدفة ، سواء كان في الواقع تكليف أم لم يكن ؟ .

وعليه : فلا يمكن أن يكون مراد ابن زهرة ومن تبعه من كلامه : بان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ، الاّ ما ذكرناه : من الاحتمال الأوّل وهو : ان مراده : الامتثال به واتيانه بقصد الطاعة .

( واعلم : انّ هذا الدليل العقلي ) الذي ذكره ابن زهرة ( كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقلية ) من الكتاب والسنّة والاجماع ( معلّق على عدم تمامية أدلّة الاحتياط) ومع تماميتها لا يبقى مجال لهذا الدليل ، اذ موضوع هذا الدليل هو : التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، والحال ان دليل الاحتياط يكون سبباً للعلم .

وعليه : ( فلا يثبت به ) أيّ بهذا الدليل العقليّ الذي أقامه ابن زهرة ( الاّ الأصل في مسألة البرائة ) أيّ : ان هذا الدليل العقليّ يدل على البرائة فيما اذا لم يكن هناك دليل على خلاف البرائة ( ولا يعدّ من أدلتها ) أيّ : من ادلة البرائة ، كما للاحتياط ادلة ( بحيث تعارض أخبار الاحتياط ) .

ص: 80

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة

منها : استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر والجنون .

وفيه ، أنَّ الاستدلال به مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ

-------------------

فانّ هذه القاعدة العقلية لوكانت دليلاً منجزاً في باب البرائة وتقول بأن التكليف في باب الشكّ في الشبهة التحريمية أو الوجوبية هو : البرائة ، لكان هذا الدليل معارضاً لأدلة وجوب الاحتياط ، لأن دليلاً يقول بالبرائة ، ودليلاً يقول بالاحتياط ، الا انّ هذا الدليل العقلي ليس هكذا ، وإنّما هو معلق على عدم البيان ، فاذا بَيَّنَ المولى وجوب الاحتياط إنسحب هذا الدليل العقلي عن الميدان ، كما ذكرنا مثله في الدليل العقلي المتقدّم .

( وقد يستدلّ على البرائة بوجوه غير ناهضة ) للحجيّة واثبات البرائة .

( منها : استصحاب البرائة المتيقّنة حال الصغر والجنون ) فانّ الصغير يقيناً غير مكلّف ، فاذا شكَّ بعد الكبر :بأنه هل كلّف بحرمة شرب التتن - مثلاً - فالأصل عدم التّكليف ، وكذا لو كان مجنوناً فانه غير مكلّف قطعاً ، فاذا أفاقَ وشكَّ في انّه هل كلّف بترك التتن أم لا ، فالأصل عدم التّكليف .

( وفيه : انّ الاستدلال به ) أيّ : بالاستصحاب على البرائة ( مبنيّ على إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) أيّ إنّا اذا استدللنا بالاستصحاب على البرائة ، كانت البرائة حجّة من باب الأمارة الظنّية ، والحال انّه سيأتي انشاء اللّه تعالى : ان الاستصحاب ليس حجّة من باب الأمارة الظنيّة .

هذا بالاضافة إلى انّ حال الصغر والجنون يختلف عن حال الكبر والافاقة ،

ص: 81

فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعيّ دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهرية . وسيجيء عدمُ اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ انشاء اللّه .

وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفعُ في المقام ،

-------------------

مع انّه يلزم في الاستصحاب بقاء الموضوع وهنا قد اختلف .

وعلى هذا : ( فيدخل أصل البرائة بذلك ) أيّ : باثباتنا أصل البرائة بسب الاستصحاب ( في الأمارات ) لأن الاستصحاب أمارة كاشفة عن الواقع ، فاذا كان أصل البرائة حجّة من باب الاستصحاب ، كان أصل البرائة أيضاً من الأمارات ( الدالّة على الحكم الواقعي ) فتكون البرائة عن التكليف أمارة وحدها ( دون الاُصول ) التعبدية ( المثبتة للأحكام الظّاهريّة ) لأن الاصل كما تقدّم يثبت الأحكام الظاهرية سواء كان احتياطاً أو تخييراً .

( و ) فيه : عدم صحة المبنى وهو : كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ ، إذ ( سيجيء عدم إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ انشاء اللّه ) تعالى ، فلا تكون البرائة حجّة من باب الاستصحاب الظنيّ .

( وأمّا لو قلنا باعتباره ) أيّ : الاستصحاب ( من باب الأخبار الناهية عن نقض ) وابطال ( اليقين بالشك ) كما ورد هذا اللفظ في الروايات من قولهم عليهم السلام « لا تَنقض اليَقينَ بالشّكِ » (1) ( فلا ينفع ) أيّ : الاستصحاب ( في المقام ) لإثبات

ص: 82


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 .

لأنّ الثابت بها ترتّب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلاّ براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه .

والمطلوبُ في الآن اللاحق هو القطعُ بعدم ترتّب العقاب على الفعل او ما يستلزم ذلك ،

-------------------

البرائة ( لأنّ ) المقدار ( الثابت بها ) أي : بأخبار الاستصحاب ( ترتب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ) دون اللوازم العقلية والعرفية والعادية والمستصحب هنا في باب البرائة لا أثر له شرعاً .

والحاصل : انكم تقولون : باثبات البرائة باستصحاب حال الصغر والجنون ، ونحن نقول : إن أردتم : الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الظنّ ؟ ففيه : إنّ الاستصحاب حجّة من باب الاخبار لا من باب الظنّ ، وان اردتم الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الاخبار ، ففيه : انّه وان كان صحيحاً ، الاّ ان الاستصحاب حينئذ لا يثبت البرائة لأنّ ( المستصحب هنا ) في باب البرائة الذي هو التيقن بالبرائة حال الصغر والجنون ( ليس الاّ ) ثلاثة اُمور :

الأوّل : ( برائة الذمّة من التكليف ) .

الثاني : ( وعدم المنع من الفعل ) .

الثالث : ( وعدم استحقاق العقاب عليه ) أيّ : على الفعل .

( والمطلوب في الآن اللاحق ) بعد ان بلغ الصبي أو أفاق المجنون ( هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل ) أي : على فعل شرب التتن مثلاً ( أو ما يستلزم ذلك ) أيّ : يلزم ان نقطع بعدم العقاب ، أو نقطع بالجواز الذي هو مستلزم للقطع بعدم العقاب .

ص: 83

إذ لو لم يقطع بالعدم واحتَمَلَ العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه ، حتّى يأمن العقل من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة .

ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ، لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

-------------------

وإنّما نحتاج إلى القطع بعدم العقاب ، لأنّ الأخباريين يقولون باحتمال العقاب ، ولذا يوجبُون الاحتياط في شرب التتن ، والاُصوليّون يقولون في المقابل بالقطع بعدم العقاب ، فعليهم أن يثبتوا القطع بعدم العقاب .

( اذ لو لم يقطع بالعدم ) أيّ : بعدم العقاب ( واحتمل العقاب ) بعد الاستصحاب كما كان العقاب محتملاً قبل الاستصحاب ( أحتاج ) الاُصوليون ( إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان اليه ) أيّ : إلى الاستصحاب حتّى يتمكنوا من مقاومة الأَخباريين الذين يقولون باحتمال العقاب ، و ( حتى يأمن العقل من العقاب ) بعد الاستصحاب .

( ومعه ) أيّ : مع الاحتياج إلى قبح العقاب من غير بيان ( لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ) فانّ اثبات البرائة بالاستصحاب يخرج البرائة عن كونها اصلاً مستقلاً ويجعلها صغرى من صغريات الاستصحاب ، والاستصحاب لا يدفع احتمال العقاب حسب الفرض .

اذا تمهَّدَ ما ذكرناه نقول : ( ومن المعلوم : أنّ المطلوب المذكور ) أيّ : القطع بعدم العقاب ( لا يترتب على المستصحبات المذكورة ) أيّ : استصحاب برائة الذمة من التّكليف ، واستصحاب عدم المنع من الفعل ، وإستصحاب عدم استحقاق العقاب عليه ( لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

ص: 84

المجعولة الشرعيّة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر .

وأمّا الاذنُ والترخيصُ في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلاً للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلاّ أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ،

-------------------

المجعولة الشرعيّة حتى يحكم به ) أي : بهذا العدم ( الشرع في الظاهر ) بسبب قوله عليه السلام : « لا تَنقُض اليَقينَ بالشَّك » (1) إذ القطع بالعقاب أو بعدم العقاب من حالات النفس - فانّ الانسان يقطع أو لا يقطع بسبب الأسباب الخارجية - وحالات النفس أمر تكويني لا تشريعي ، والاستصحاب إنّما يثبت الأمر التشريعيّ لا الأمر التكويني .

( وأمّا الاذن والترخيص في الفعل ) بمعنى : انّ الشارع أجاز شرب التتن - مثلاً - ( فهو وان كان ) الجواز ( أمراً قابلاً للجعل ) لأن الجواز أحد الأحكام الخمسة الشرعيّة ( ويستلزم انتفاء العقاب واقعا ) لوضوح : أنّه لا عقاب على الجائز ، فاذا تمكن الاستصحاب من اثبات الجواز ، تمكن من اثبات عدم العقاب الذي هو مطلوب الاُصوليّين مقابل احتمال العقاب الذي هو مطلوب الأخباريين .

( الاّ أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازماً شرعياً للمستصحبات ) الثلاثة ( المذكورة ) سابقاً : من برائة الذمة من التّكليف ، وعدم المنع من الفعل ، وعدم استحقاق العقاب عليه ( بل هو من المقارنات ) الاتفاقية لها .

وإنّما يكون الاذن الشرعي والجواز من المقارنات الاتفاقية للمستصحبات

ص: 85


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 .

...

-------------------

الثلاثة لا لازماً شرعياً لها لامكان خلُوّ الفعل عن الاحكام الخمسة ، كما هو الحال في فعل الصغير والمجنون والنائم ، فانّه لا تلازم اصلاً بين البرائة حال الصغر والجنون والنوم ، وبين الجواز ، لانّ البرائة هنا بمعنى : عدم التّكليف ، لا بمعنى الجواز والاذن الشرعيّ .

لا يقال : انّه في حال الصغر كان يجوز له شرب التتن ، والآن بعد الكبر يجوز له ذلك أيضاً .

لانه يقال : حال الصغر لا تكليف عليه ، لا انه كان جائزاً له شرب التتن ، فانّ الجواز هو أحد الاحكام الخمسة لا عدم التكليف فانّ عدم التكليف ليس أحد الأحكام الخمسة ، اذ الصغير ، والمجنون ، والنائم ، لا تكليف عليهم لا أنّه يجوز لهم شرب التتن ، او ترك الدعاء - مثلاً - .

بعبارة اُخرى : انّ البرائة لها لازمان :

1 - عدم التكليف .

2 - الجواز والاذن الشرعيّ .

فاذا اثبتنا البرائة ، لا يثبت الجواز ، لانّه قد يكون المراد من البرائة : عدم التكليف ، كما في الصغير ، والمجنون ، والنائم .

نعم ، يثبت الجواز بواسطة أمر خارجي وهو : علمنا الاجمالي بانّ الفعل حال الكبر ، والافاقة ، واليَقظة ، لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة ، فاذا نَفَينا عدم التّكليف الذي هو أحد لازميّ البرائة بسبب علمنا الاجمالي بذلك ، ثبت اللازم الآخر للبرائة وهو : الجَواز وإلى هذا اشار المصنّف بقوله :

ص: 86

حيث أنّ عدمَ المنع عن الفعل ، بعد العلم إجمالاً بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام اخمسة ، لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه . فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم .

ومن هنا

-------------------

( حيث انّ ) المستصحبات الثلاثة : من ( عدم ) التّكليف ، وعدم العقاب ، وعدم ( المنع عن الفعل ، بعد العلم اجمالاً بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ) في حال ما بعد البلوغ ، وما بعد الجنون والنوم ( لا ينفك ) عقلاً ( عن كونه ) أيّ : عن كون الفعل ( مرخّصاً فيه ) أيّ : جائزاً قد أذن الشارع به .

( فهو ) أي : ترتب الجواز على المستصحبات المذكورة واثبات الاذن الشرعي بها ، يكون حينئذً - حسب ما فصلناه - : ( نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي ) الضد ( الآخر ) نفياً ، ( بأصالة العدم ) فكما ان انتفاء أحد الضدّين مقارن لوجود الضد الآخر ، لا أنّه اثر شرعي للضد الآخر ، كذلك انتفاء عدم التّكليف مقارن لوجود الجواز ، لا أنّه أثر شرعي له ، حتى يثبت بسبب الاستصحاب ، إذ قد عرفت : أنّ اللوازم العقليّة ، واللوازم العرفيّة ، واللوازم العاديّة ، لا يثبت شيء منها بالاستصحاب ، فكيف بالمقارنات فانّها لا تثبت بالاستصحاب حتى عند القائلين بالاصل المثبت .

( ومن هنا ) بدأ المصنّف في الاشكال على كلام صاحب الفصول الآتي ، وتوضيحه : انه قد تبينّ ممّا تقدّم : انّه لو سلّمنا أمرين ، لم نتمكن من اجراء استصحاب عدم التكليف في شرب التتن حال الصغر ، لاثبات جواز شرب التتن وعدم العقاب على شربه حال الكبر :

الأوّل : أنّ الاستصحاب ليس حجّة من باب الظنّ اذ لو كان حجّة من باب الظنّ

ص: 87

تبيّن : أنّ استدلالَ بعض من اعترف : بما ذكرنا - من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم إثباته إلاّ اللوازم الشرعيّة في هذا المقام باستصحاب البراءة - منظورٌ فيه .

-------------------

لكان أمارة ، فنتمكن من اثبات لوازمه العقليّة والعاديّة والعرفيّة به لأن الظنّ كاشف والمكشوف يثبت لوازمه .

الثاني : أنّ الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الأخبار لا يثبت به الاّ اللوازم الشرعية فقط ، كما سيأتي تفصيله انشاء اللّه تعالى في باب الاستصحاب ، وعليه فالذي يسلّم الأمرين لا يتمكن من اثبات الجواز لشرب التتن بسبب استصحاب عدم التكليف حال الصغر ، وصاحب الفصول ممن يسلّم ذلك ، فيكون استدلاله باستصحاب عدم التكليف لاثبات الجواز غير تام .

إنْ قلت : حال الصغر لم يكن عليه تكليف فحال الكبر ايضاً لا تكليف عليه ، وبمجرد انه ثبت عدم التكليف في حال الكبر يثبت عدم العقاب ، لأنّ العقاب تابع للتكليف، فيثبت مطلوب الاُصوليين: من البرائة عن حرمة شرب التتن حال الكبر .

قلت : لا تكليف حال الصغر من باب انّه لا قابليّة له للتكليف ولا تكليف حال الكبر من باب اجازة الشارع ، فالموضوع مختلف ويشترط في الاستصحاب وحدة الموضوع .

وممّا ذكرناه ( تبيّن : انّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا ) وذلك البعض هو صاحب الفُصول ، وما ذكرنا عبارة عن الأمرين المذكورين ( : من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم اثباته ) أيّ : اثبات الاستصحاب الذي هو أصل وليس بأمارة ( الاّ اللوازم الشرعيّة في هذا المقام ) أيّ : مقام البرائة ، استدلالاً

( باستصحاب البرائة ، منظور فيه ) لما عرفت : من أنّ الاستصحاب حجّة من باب

ص: 88

نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ ، او أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه ، بناءا على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب .

-------------------

الروايات ، وعدم العقاب من أحكام العقل ، فلا يكون ثابتاً بعدم التّكليف .

( نعم ، من قال باعتباره ) أيّ : الاستصحاب ( من باب الظنّ ، أو ) قال : ( انّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبد ) أي : من باب الروايات لا من باب الظنّ ( كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ) أي : كان متيقناً بقاؤ ( ولو لم يكن من اللّوازم الشرعيّة ) بأن كان من اللوازم العقليّة ، او العاديّة ، او العرفيّة ، او المقارنات الاتفاقية ، وحينئذٍ ( فلا بأس بتمسّكه به ) أي : تمسك هذا القائل : باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وانّه أمارة ، أو بانّ الاستصحاب وان كان من باب الأخبار يثبت كل اللوازم ، الأعم من المقارنات ، فانّ له ان يتمسك لاثبات البرائة باستصحابها .

( مع انّه يمكن النظر فيه بناءاً على ما سيجيء : من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) وهذا اشكال آخر غير الاشكالين الأولين ، فقد قلنا : أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأخبار لا من باب الظنّ ، وقلنا : ان الاستصحاب الحجّة من باب الأخبار لا يثبت الا اللوازم الشرعيّة ، ونقول ايضاً أنّ من شروط الاستصحاب : وحدة الموضوع في القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، وفي المقام هذا الشرط مفقود ، فلا يجري الاستصحاب فيه لأن الموضوع في حال الصغر وحال الكبر ليس واحداً ، كما أشرنا اليه سابقاً .

ص: 89

وموضوعُ البراءة في السابق ومناطها هو الصغيرُ الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبهُ بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل .

-------------------

( و ) ذلك لان ( موضوع البرائة في السّابق ) حال الصغر ( ومناطها : ) أي : ملاك البرائة في حال الصغر ( هو الصغير غير القابل للتكليف ) وقد تبدل بعد البلوغ بالكبر ( فانسحابها ) أيّ : انسحاب البرائة من حال الصغر ( في القابل ) للتكليف حال الكبر ( أشبه بالقياس من الاستصحاب ) لأنه مثل أن يقال : ان هذا الكبير كان في وقت تراباً ، ولما كان تراباً لم يكن له حكم ، والحال لما تبدل إلى الانسان لم يكن له حكم ، فكما ان مثل ذلك ليس بصحيح ، كذلك استصحاب حال الصغر إلى حال الكبر لا يكون صحيحاً .

( فتأمّل ) لعله اشارة إلى انّ الصبي المراهق قابل للتكليف ، والاستصحاب عند بلوغه واحد لموضوعه السابق حال المراهقة ، ولا نريد نحو استصحاب حال عدم تمييزه ممّا عمره يوم واحد وما أشبه ذلك ، حتّى يقال : هو من إنسحاب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

وإلى هذا أشار من قال : بأنّ الموضوع وأن تبدّل عقلاً الاّ ان العرف يسامحون ويحكمون بان الشخص اليوم عين الشخص في الأمس ، وأن الشخص في ساعة قبل البلوغ عين الشخص في ساعة بعد البلوغ ، وتغييره بالصغر والكبر شرعاً تغيير حال عندَهُم لا تغيير ذات ، ومن الواضح : انّ الخطابات الشرعيّة منزلة على فهم العُرف ولا مانع من الاستصحاب .

لكن هذا إن تمّ ، فانّما يتم في الصغير والكبير لا في المجنون والصاحي كما هو واضح .

ص: 90

وبالجملة ، فأصلُ البراءة أَظهرُ عِندَ القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب .

ومنها : أنّ الاحتياط عَسِرٌ منفيٌّ وجوبُه .

وفيه : أنّ تعسّره ليس إلاّ من حيث كثرة موارده . فهي ممنوعة ، لأنَّ

-------------------

( وبالجملة ، فأصل البرائة أظهر عند القائلين بها ) من الاُصوليين ( والمنكرين لها ) من الأخباريين ( من أن يحتاج إلى الاستصحاب ) لأنّهما متفِقان على دلالة الأدلة الأربعة على البرائة عند عدم البيان من دون الحاجة إلى استصحاب البرائة ، ويفترقان في أنّ الأخباريين يدّعون وجود البَيان من جهة ورود أدلة الاحتياط ، ولذا يعملون بالاحتياط ، والاُصوليين يرون عدم وجود البيان ، وانّ أدلة الاحتياط ليست بياناً بحيث يدفع « قبح العِقاب بلا بيان » ولذا يعملون بالبرائة .

( ومنها ) : أيّ : من الوجوه التي استدلّ بها على البرائة هو : ( انّ الاحتياط عسرٌ منفيٌّ وجوبه ) في الكتاب والسنّة والاجماع ، بل والعقل في الجملة ، فقد قال سبحانه : « ما جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّين مِن حَرَج » (1) وقال تعالى : « يُريد اللّه بكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ...» (2) .

وحيث كان العُسر والحَرج منفيين ، فلا يجب الاحتياط ، وحيث لا يجب الاحتياط يكون مجرى للبرائة .

( وفيه : انّ تعسّره ) أيّ : تعسر الاحتياط ( ليس الاّ من حيث كثرة موارده ) لأنّ موارد الاحتياط لو كانت قليلة لم يكن عُسر أو حرج في الاحتياط ( فهي ) أيّ : الكثرة ( ممنوعة ) فانا لا نسلم كثرة موارد الاحتياط ( لأن

ص: 91


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

مجراها عند الأخباريّين مواردُ فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ،

-------------------

مجراها ) أيّ : محل جريان قاعدة الاحتياط ( عند الأخباريين : موارد فقد النص على الحرمة ) مثل : شرب التتن ، فانه لا نص في حرمته .

أو اجمال النص مثل « يَطهَرن » (1) في الآية المباركة ، حيث لا نعلم هل هو بالتشديد ليكون بمعنى التَطهّر من الحيض بالاغتسال ، أو بالتخفيف ليكون بمعنى النظافة من الدم فحسب ؟ ( وتعارض النّصوص من غير مرجّح منصوص ) مثل ما اذا قلنا بالتعارض بين قوله: «لابَأسَ بِبَيعِ العَذرَة» (2) وقوله «ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحْت» (3) ولم يكن هناك مرجّح منصوص .

وإنّما وصف المصنّف المرجح : بالمنصوص ، لأن الأخباريين لا يرون الترجيح ، الاّ بالمرجّح المنصوص ، بخلاف جملة من الاُصوليين فانّهم يقولون : بانّ كل مرجح يقدم خبراً على خبر ، فيما اذا كان هناك أخبار متعارضة .

وعلى أيّ حال : فقدان النص ، واجماله ، وتعارض النصين من غير مرجّح ( وهي ) أيّ : هذه الموارد ( ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها ) أيّ : في هذه الموارد ( إلى الحرج ) ولذا نرى : ان الأخباريين المحتاطين لا يَقَعُون في عُسرٍ ولا حرج ، وكذلك لايقع في العُسر والحَرج الذين يتبعونهم من المقلدين لهم .

ص: 92


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح3 ، وسائل الشيعة: ج17 ص175 ب40 ح22285 .
3- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

وعند المجتهدين مواردُ فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحَرج .

ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة ، فلابدّ له

-------------------

( و ) مجرى قاعدة الاحتياط ( عند المجتهدين ) الذين لا يقولون بوجوب الاحتياط عند فقد النّص أو إجماله أو تعارض النصوص ( موارد فقد الظنون الخاصة ) وهي قليلة جداً ، فلو عمل المجتهدون بالاحتياط في هذه الموارد القليلة لا يلزم منه عسر ولا حَرج .

والمراد بالظنون الخاصة : ظواهر الكتاب الحكيم ، والأخبار ، والاجماعات المنقولة ، والشهرات ، والأدلة العقلية المورثة للظنّ ( و ) من المعلوم : ( هي ) أيّ : هذه الظنون ( عند الأكثر ) من المجتهدين ( ليست بحيث يؤّي الاقتصار عليها ) أيّ : على هذه الظنون ( والعمل فيما عداها على الاحتياط ) فيها ، فان ذلك لا يؤّي ( إلى الحرج ) .

وبالجملة : المجتهدون يعملون بالظنون الخاصة وهي مستوعبة لأكثر الفقه ، وتبقى موارد قليلة لا ظنون خاصة فيها ، فاذا أراد المجتهدون العمل في هذه الموارد القليلة بالاحتياط لا يستلزم عليهم عُسراً ولا حَرجاً ، كما لا يستلزم على مقلديهم العُسر والحَرج بالاحتياط في هذه الموارد القليلة .

( ولو فرض لبعضهم ) أيّ : لبعض المجتهدين ( قلة الظنون الخاصة ) لانحصار الظنون الخاصة التي هي حجة بخبر العادل الضابط الامامي دون الاجماع والشهرة ونحوهما ( ف- ) لا يلزم أيضاً عليه حرج ، لأنّه يقول : بالانسداد ، وبسبب الانسداد يعمل بكل ظنّ ، فلا تبقى موارد لا ظنّ انسدادي فيها إلاّ قليلاً جداً .

وإنّما يعمل بالظنّ الانسدادي لانّه ( لابدّ له ) أيّ : لهذا البعض الذي فرض قلّة

ص: 93

من العمل بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا من لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدي من الظنون المخصوصة فراجع .

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة .

-------------------

ظنونه الخاصة ( من العمل بالظنّ غير المنصوص على حجّيته ) وهو الظن الانسدادي ( حذراً من لزوم محذور الحرج ) فانّ القائلين بالانسداد يفرّون من الحرج إلى الظنّ المطلق ويجعلونَ من مقدمات الانسداد : لزوم الحرج من عدم العمل بالظنّ المطلق .

( ويتضح ذلك ) أيّ : يعمل بالظنون غير المنصوص على حجيتها ( بما ذكروه ) أي : ذكره المجتهدون ( في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدّي من الظنون المخصوصة ) إلى الظّنون المطلقة ( فراجع ) كلماتهم كما قدّمنا ذلك في بحث الانسداد .

وعلى أيّ حال : فالمجتهدون على قسمين : منهم من يعمل بالظنون الخاصة ، ويراها كافية ، ومنهم من يعمل بالظّنون الخاصة ولا يراها كافيه فيضم اليها الظنون الانسدادية ، وبعد العمل بهذين الظنين ، تبقى موارد الاحتياط قليلة جداً ، بحيث لايلزم من العمل بالاحتياط في هذه الموارد عسر ولا حرج ، وحينئذٍ فلا يكون العسر دليلاً على البرائة كما اراده المستدل .

( ومنها : ) أيّ : من الأدلة التي أقاموها للبرائة : هو ( أنّ الاحتياط قد يتعذّر )

فلا يتمكن الانسان من الاحتياط ( كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة ) بان لم نعلم - مثلاً- هل ان صلاة الجمعة واجبة أو محرَّمة ؟ .

ص: 94

وفيه : ما لا يخفى ، ولم أَرَ ذكره إلاّ في كلام شاذّ لا يُعبأ به .

احتجّ للقول الثاني - وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة - بالأدلّة الثلاثة :

فمن الكتاب طائفتان :

احديهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ،

-------------------

( وفيه : ما لايخفى ) من الاشكال ، لوضوح : ان محل البحث هو ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب : من الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة حيث الاحتياط في مثل هذه الموارد ممكن غير متعذر ( و ) لذا ( لم أَرَ ذكره ) أي : ذكر هذا الدليل للبرائة ( الاّ في كلام شاذّ لا يُعبأ به ) ، هذا تمام الكلام في أدلة القائلين بالبرائة .

وأما أدلة القائلين بالاحتياط :

فقد ( احتج للقول الثاني وهو : وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ) الذي ذهب اليه الأخباريون ( بالأدلّة الثلاثة ) : الكتاب ، والسنة ، والعقل ، ولم يستدلوا بالدليل الرابع وهو الاجماع .

( فمن الكتاب طائفتان ) على ما يلي : ( احديهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ) مثل قوله سبحانه : « قُل ءَ اللّهُ أذِنَ لَكُم أم عَلى اللّهِ تَفتَرُونَ » (1) وقوله سبحانه : « لا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (2) وقوله سبحانه : « وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِن عِلمٍ إن هُم الاّ يَظُنُّونَ » (3) وقوله سبحانه : «وَمَا لَهُم بِه مِن عِلم إن يَتَّبِعُونَ

ص: 95


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - سورة الجاثية : الآية 24 .

فانّ الحكمَ بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قولٌ عَليه بغير علم وافتراءٌ ، حيث انّه لم يؤذن فيه . ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ،

-------------------

إلاّ الظَّنَّ »(1) ، وقوله سبحانه : « أتَقُولُونَ عَلى اللّهِ مَا لا تَعلَمُونَ » (2) الى غير ذلك .

( فانّ الحكمَ بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة ) حيث انّ الاُصوليين يقولون : بأنّ الشارع رخَّصَ في محتمل الحرمة ولذلك يَجرُونَ البرائة ، هو : ( قولٌ عليه ) أي : على الشارع ( بغير علم وافتراءٌ ) عليه ، وذلك غير جائز ( حيث انّه ) أي : هذا الحكم بالبرائة ( لم يؤن فيه ) شرعاً بدلالة الآيات الناهية .

( و ) انّ قلت : إنّ الاخباريين أيضاً كذلك لانهم يقولون بالاحتياط في الشبهة الحكمية من دون علم ، وهو افتراء لأنّ الشارع لم يقل بالاحتياط فيها .

قلت : ( لا يرد ذلك ) الاشكال ( على أهل الاحتياط ) وذلك ( لأنهم لا يحكمون بالحرمة ) حتى يقال بأنّ القول بالحرمة أيضاً افتراء على اللّه ( وانّما يتركون ) الشبهة التحريمية ( لاحتمال الحرمة ) فيها ، فاذا احتملوا الحرمة في التتن - مثلاً - تركوا شربه ، لاأنّهم يقولون بانّه حرام .

( وهذا ) أي : عمل الاخباريين بالترك ( بخلاف الارتكاب ) الذي يعمله

ص: 96


1- - سورة النجم : الآية 28 .
2- - سورة يونس : الآية 68 .

فانّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة ، والعمل على الاباحة .

والاُخرى : مادلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه اللّه ، في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد .

-------------------

الاُصوليون ( فانّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة ، و ) يكون ( العمل ) من الاُصوليين بناءاً ( على الاباحة ) فانّ الاباحة متوقّفة على اجازة الشارع ، بينما الترك وعدم الارتكاب لم يتوقف على إذن الشارع ، اذ يجوز ترك المباح .

لكن ربّما يردُ على ذلك : إنّ الاخباريين يقولون بوجوب الاحتياط ، فيكون قولاً على الشارع بغير علم الاّ أن يقول الأخباريون : بأن دليل الاحتياط هو مستندهم ، فيردّ عليهم الاُصوليون : بأنّ أدلة البرائة هي مستندهم أيضاً .

( و ) الطائفة ( الاُخرى ) من الأدلة التي استدلّ بها الأخباريون من الكتاب العزيز على الاحتياط هو : ( ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع ) والفرق بين هذه الثلاثة وان كان المآل واحداً هو : انّ الاحتياط من احاطة الأمر بشيء بحيث لا يوصل اليه كالحائط حول البيت ، والاتقاء من الوقاية وحفظ النفس من الشيء ، والتورّع هو الاجتناب عن الشيء ، فالاتقاء والتورّع وجهان لشيء واحد .

( مثل ما ذكره الشهيد رحمه اللّه في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة ) أي : ذكرها دليلاً ( على مشروعية الاحتياط في قضاء ما فُعلَت ) بصيغة المجهول ( من الصلاة المحتملة للفساد ) في الواقع ، أي : يجوز للانسان انّ يقضي صلاته التي صلاها واحتمل فسادها وان لم يكن هناك دليلٌ شرعيّ على فسادها .

ص: 97

وهي قوله تعالى : « واتّقُوا اللّه حَقَّ تُقاتِهِ» « وَجاهِدُوا في اللّه حَقَّ جِهادِهِ » .

أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : « فاتّقوا اللّه ما استطعتم » وقوله تعالى : « ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة » وقوله تعالى : « فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرّسول » .

والجواب : أمّا عن الآيات الناهية عن القول

-------------------

واستدل على ذلك بالمُطلَقات ( وهي قوله تعالى : « اتّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ » (1) وقوله تعالى : « وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جهادِهِ » (2) ) .

قال المصنّف : ( أقول : ونحوهما ) أي : نحو الآيتين السابقتين ( في الدلالة على وجوب الاحتياط ) وقضاء ما احتمل فساده من الصلاة للاحتياط قوله سبحانه : (« فاتَّقُوا اللّهَ مااستَطعتُم » (3) وقوله تعالى : « وَلا تُلقُوا بأيدِيكُم الى التَّهلُكَةِ » (4) وقوله تعالى : ( « فان تَنَازَعتُمُ في شيءٍ» ) يعني : تنازعتُم في شيء انّه هل هو حلال أو حرام ؟ ( « فَردُّوه الى اللّه والرَّسول » ) (5) والرّد الى اللّه هو الرجوع الى كتابه ، والرّد الى الرسول هو الرجوع الى سنته ، ومعنى ذلك : أنه لاحق لكم في أن تحكموا بالحلية أو بالحرمة بلا دليل ، وعلى هذا : فلا يجوز للاُصوليين أن يحكموا بالاباحة فيما لم يعلموا انّه حرام أو حلال كشرب التتن - مثلاً - ؟ .

( والجواب أمّا عن ) الطائفة الاولى من الآيات وهي : ( الآيات الناهية عن القول

ص: 98


1- - سورة آل عمران : الآية 102 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة التغابن : الآية 16 .
4- - سورة البقرة : الآية 195 .
5- - سورة النساء : الآية 59 .

بغير علم - مضافا إلى النقض بشبهةِ الوجوب ، والشبهة في الموضوع - فبأنّ فعلَ الشيء المشتبه حكمه ، إتكالاً على قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه بين المجتهدين والاخباريين ، ليسَ من ذلك .

-------------------

بغير علم مضافاً الى النقض ) على الاخباريين المستدلّين بهذه الآيات ، نقضاً ( بشبهة الوجوب ، والشبهة في الموضوع ) فانّ الاخباريين يقولون : بعدم لزوم العمل في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤة الهلال ، ويقولون أيضاً : بعدم لزوم العمل في الشبهة الموضوعية ، سواء كان فعلاً أو تركاً ، فقول الاخباريين بالبرائة في الشبهة الوجوبية وفي الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريمية أيضاً تشريع .

فما أجاب به الاخباريون عن هذه الشبهات الثلاث ، نُجيبُ به نحن عن الشبهة التحريمية ، وذلك لانّ الآيات الناهية مطلقة تشمل الشبهة الوجوبية والتحريمية سواء الموضوعية منها والحكمية .

كما ونجيب الاخباريين بالاضافة الى هذا الجواب النقضي بالجواب الحلي ، وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( فبأنّ فعل الشيء المشتبة حكمه ) كشرب التتن - مثلاً - ( اتكالاً على ) أدلة البرائة : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، مثل ( قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه ) أي : على هذا القبح ( بين المجتهدين والاخباريين ، ليس من ذلك ) أي : ليس قولاً بغير علم ليكون تشريعاً محرماً ، بل هو قول بالعلم ، لأنّ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، هي المستند للقول بالبرائة عند المجتهدين في الشبهات الأربع ، وعند الاخباريين في الشبهات الثلاث أي : الشبهة الموضوعية بقسميها ، والشبهة الحكمية الوجوبية فقط .

ص: 99

وأمّا عمّا عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى والمجاهدَة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرّجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه اللّه .

وأمّا عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلومُ العدم ،

-------------------

( وأما ) الجواب ( عمّا ) تقدّم في الطائفة الثانية من الآيات فنقول : اما ( عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب ) هنا في الشبهة التحريمية ( للتقوى والمجاهدة ) لأنّ التقوى عبارة عن ترك الحرام ، لا ترك المشتبه ، والمجاهدة عبارة عن جهاد النفس في عدم ارتكاب الحرام لا ارتكاب المشتبه ، خصوصاً وقد تقدّمت الأدلة الدالة على انّ الشارع أجاز ارتكاب المشتبه .

( مع انّ ) هناك جواباً ثانياً عمّا عدا آية التهلكة وهو : ان ( غايتها : الدلالة على الرّجحان ) بمعنى : ان الاتقاء والمجاهدة الكاملين مستحبان شرعاً لا انّهما واجبان ، وذلك ( على ما استشهد به الشهيد رحمه اللّه ) فانّ الشهيد الأوّل انّما استشهد بالآيتين على مشروعية القضاء لا على وجوبه ، فلا دلالة في الآيات على ما يذكره الأخباريون : من ان الشبهة التحريمية يحرم ارتكابها .

بل ان في مثل آية : « فَاتَقُوا اللّهَ ما استَطَعتُم » (1) دلالة على الاستحباب ، اذ لو كان المراد بالتقوى هنا : التقوى الواجبة ، كانت واجبة مطلقاً ، لا بقدر الاستطاعة العرفية التي هي ظاهر الآية .

( وأما ) الجواب ( عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى : العقاب معلوم العدم ) لما تقدّم من الأدلة الأربعة التي تدل على انّ الشبهة التحريمية ليست محرّمة العمل ، لوضوح : قبح العقاب من دون بيان .

ص: 100


1- - سورة التغابن : الآية 16 .

وبمعنى غيره تكون الشبهة موضوعيّة لا يجب فيها الاجتنابُ بالاتفاق .

ومن السنّة طوائف :

إحداها : مادلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم

-------------------

( و ) اما الهلاك ( بمعنى غيره ) أي : غير العقاب بان اريد بالتهلكة في الآية المباركة : التهلكة الدنيوية ، كالأضرار التي لا يحرم تحملها ، فانّها وان كانت موجودة إحتمالاً ، الاّ أنّها ( تكون الشبهة موضوعية ) فانّا وان احتملنا الضرر الدنيوي في شرب التتن - مثلاً - لكن الشبهة حينئذٍ موضوعية لا حكمية ، والشبهة الموضوعية ( لا يجب فيها الاجتناب بالاتفاق ) بين الاُصوليين والاخباريين ، فانّهما يقولان بجواز الارتكاب فيها .

( و ) استدل الأخباريون ( من السنة ) لوجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية بأربع ( طوائف ) من الأخبار : ( احداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم ) مثل قوله عليه السلام في عدّ القضاة وانّهم أربعة اصناف ، ثلاثة منهم في النار وواحد في الجنة ، « رَجُلٌ قَضى بجور وهو يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحق وهو لايعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم ، فهو في الجنّة (1) ، فالناجي فقط هو الذي قضى بالحقّ وهو يعلم ، فيكون القاضي بالاباحة بلا علم في النار حتى وان طابق الواقع .

ص: 101


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

وقد ظهرَ جوابها ممّا ذكر في الآيات .

الثانية : ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ، وهي لا تُحصى كثرةً ، وظاهرُ التوقف المطلق السكونُ وعدمُ المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه السلام ، في بعض تلك الأخبار : « الوقوفُ عِندَ الشُبهات خيرٌ مِنَ الاقتحام في الهَلكاتِ » .

-------------------

( و ) كيف كان : فانّه ( قد ظهر جوابها ) أي : جواب هذه الطائفة من السنة ( ممّا ذكر في الآيات ) المتقدّمة ، فانّ القائل بالبرائة انّما يستند الى الأدلة الأربعة ، فلا يكون من قبيل القول والعمل بغير علم .

( الثانية : ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ) عطف على « الشبهة » ( وهي لا تحصى كثرة ، وظاهرُ التوقف المطلق ) في مثل قوله عليه السلام « قِف عِندَ الشُبهَةِ » حيث لم يبين فيه مفعول « قف » وانّه هل يُراد به التوقف في الافتاء بالحكم الواقعي ، أو التوقف في الافتاء بالحكم الظاهري أو التوقف في العمل بمعنى : ( السكون وعدم المضيّ ) فاذا لم يعلم - مثلاً - ان التتن حرام أو حلال ، يقف ولا يمضي في شربه .

والحاصل : ان حذف متعلق « قف » يفيد العموم ( فيكون ) التوقف ( كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو ) أي : عدم الحركة بالارتكاب في الشبهة التحريمية ( محصّل قوله عليه السلام ، في بعض تلك الأخبار : « الوقوف عند الشُبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكاتِ » (1) ) ومعنى الاقتحام : الدخول في الشيء الذي

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .

فلا يَردُ على الاستدلال : أنّ التوقفَ في الحكم الواقعيّ مُسلّمٌ عند كِلا الفريقين ، والافتاء بالحكم الظاهري منعاً وترخيصاً مشترك كذلك ، والتوقف في العمل لا معنى له ،

-------------------

لا يحمد عقباه .

ثمّ إنّ المصنّف أشار الى إشكال أورده الفاضل النراقي وصاحب القوانين على هذه الرواية ، وحاصله : إنّ المراد من التوقف ان كان هو التوقف عن الحكم الواقعي وعدم اختيار الاباحة والحرمة الواقعيين ، فمن المعلوم : إنّ الاصوليين والاخباريين كلاهما متوقفان ، لأن كلاً منهما يقول : لا أعلم بالحكم الواقعي .

وان كان المراد هو التوقف عن الحكم الظاهري فلم يتوقف فيه أحد منهما ، لأنّ الاُصوليين يقولون بالبرائة ، والاخباريين يقولون بالاحتياط .

وإن كان المراد هو التوقف في العمل أي : عدم اختيار الفعل ولا الترك ، فهو غير معقول ، اذ النقيضان لا يمكن ارتفاعهما .

وقد أجاب المصنّف عن هذا الاشكال بقوله : إنّ المراد بالتوقف هوعدم الحركة بارتكاب الفعل على ما هو المحصل من الحديث السابق ( فلا يردُ على الاستدلال ) بهذا الخبر ( :انّ التوقف في الحكم الواقعي مسلّمٌ عند كِلا الفريقين ) من الاخباريين والاُصوليين ( والافتاء بالحكم الظاهري منعاً وترخيصاً مشترك كذلك ) ومسلّم عند كِلا الفريقين ، لأنّ الاخباريين يقولون بالمنع والاُصوليين بالترخيص ( والتوقف في العمل لا معنى له ) لأنّه يوجب رفع النقيضين وهو محال.

ص: 103

فنذكر بعضَ تلك الأخبار تيمّنا :

منها : مقبولة عُمر بن حَنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : « إذا كان كذلك فَأرجهِ حتّى تلقى إمامَك ، فانّ الوقوفَ عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات » .

-------------------

وعلى أي حال : ( فنذكر بعض تلك الأخبار ) الدالة على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ( تيمّناً ) لأنّ ذكر الأخبار يوجب اليُمن والبَركةِ وان كنّا لا نحتاج الى ذكرها هنا ، لأنّها مذكورة في كثير من كتب الأحاديث .

( منها : مقبولة عُمر بن حَنظَلَة ) التي تلقاها الأصحاب بالقبول ، وقد وردت هذه المقبولة في علاج الخبرين المتعارضين الواردين عنهما عليهماالسلام وهي : ( عن

أبي عبداللّه عليه السلام ، وفيها : بعد ذكر المرجّحات : اذا كان كذلك ) أي : لم يوجد مرجّح لهذا الخبر على ذلك الخبر ، ولا لذلك الخبر على هذا الخبر ( فَأرجِهِ ) أي : أخِّر تعيين الحق من الخبرين ( حتى تلقى إمامَك ) .

ومن الواضح : إنّ الرواية مختصةٌ بحال حضور الائمة عليهم السلام ، والشاهد في الجملة الأخيرة من الخبر وهو قوله عليه السلام : ( فان الوقُوفَ عِندَ الشُبهات خَيرٌ منَ الاقتحام في الهَلَكات ) (1) فانّ القول والعمل بغير علم ، اقتحام في الهلكة ، وان كان قوله وعمله مطابقاً للواقع ، كما عرفت ذلك في أصناف القضاة (2) ، أمّا اذا

ص: 104


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب33334 .
2- - التي رواها الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

ونحوها صحيحةُ جَميل بن دَرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وزاد فيها : « إنّ على كل حَقّ حَقيقةً ، وعلى كلّ صَوابٍ نورا ، فَما وافَق كتابَ اللّهِ فخذُوه ، وما

خالَفَ كتابَ اللّهِ فدعُوهُ » .

-------------------

توقف فلم يشرب التتن - مثلاً - فانّه لا محذور فيه عليه .

وقوله : « خير » في الحديث ليس بمعنى « أفضل » ، بل مثل قوله سبحانه وتعالى : « أوْلى لَكَ فأوْلى * ثُمَّ أوْلى لَكَ فأوْلى » (1) وقوله تعالى : « أفَمَن يُلقى في النَّار خَيرٌ أم من يَأتِي آمِناً يَومَ القِيامَةِ » (2) .

( ونحوها ) أي : نحو مقبولة عمر بن حنظلة ( صحيحةُ جَميل بن دَرّاج عن أبي عبداللّه عليه السلام ، وزادَ فيها ) بعد قوله : « انّ الوقوف عند الشبهات خير ...» ( : ان على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فَما وافق كتابَ اللّهِ فَخذُوه ، وما خَالَفَ كتابَ اللّهِ فَدَعُوه ) (3) .

أقول : الحقّ والصواب عبارةٌ عن شيء واحد ، ولعل الفرق بينهما : ان الحقيقة في الأخبار هو الصواب في الانشاء ، فاذا قال : الانبياء معصومون ، كان حقاً ، لأنّ هذا الكلام له حقيقة أيّ واقع في الخارج ، واذا قال « صل » ، كان صواباً ، لأنّه يقرِّب الانسان الى اللّه تعالى ، وان لم يكن أمراً خارجياً حتى يكون له حقيقة أو لا يكون له حقيقة .

وحيث إنّ الحقائق فطريّة يعرف الانسان الحق بما يعرفه من حقيقته ، فيعرف - مثلاً - ان محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم رسولُ اللّه ، للعلائم التي تدلّ على حقيقته صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

ص: 105


1- - سورة القيامة : الآيات 34 - 35 .
2- - سورة فصّلت : الآية 40 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368.

وفي روايات الزهريّ والسَكونيّ وعبد الأعلى : « الوقوفُ عند الشُبهةِ خيرٌ منَ الاقتحامِ في الهَلَكةِ ، وتَرككَ حَديثا لم تَروه خيرٌ من روايتِكَ حديثا لم تحصه » .

-------------------

بينما ليس لمسيلمة الكذاب حقيقة ، ولذا يعرف الانسان انّه ليس بحق وانّه كاذب في إدعائه .

« والنور » : عبارة عن المظهر للأشياء مادياً أو معنوياً ، « والصواب » يظهره نور معنوي يلقى في قلب الانسان بسبب سماعه للصواب ، أو رؤته له أو ما أشبه ذلك .

كما إنّ الظاهر من قول الإمام عليه السلام في آخر الخبر : « فَما وافَق كتابَ اللّهِ فخذُوه ...» انّه من باب بيان بعض الصغريات ، لوضوح : انّ موافق الكتاب حقٌ وصوابٌ ، والكتاب حقيقته ونوره هو المائز بين الحق والباطل ، وأما ما خالف الكتاب فلا حقيقة له ولا نور .

( وفي روايات الزهريّ ، والسكوني ، وعبد الأعلى ) قال عليه السلام : ( الوقوفُ عندَ الشُبهةِ خيرٌ من الاقتِحام في الهَلَكَةِ ، وتَرككَ حَديثاً لم تَروه ) بمعنى : انّك لم تَروه بطريق معتبر ( خيرٌ من روايتكَ حَديثاً لم تُحصِه ) (1) وقوله عليه السلام : « وتركك ...» لعلّه أيضاً من صغريات ما ذكره على نحو الكبرى الكلّية في قوله : « الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَةِ » ومعنى تتمة الحديث : انّ ترك رواية غير معتبرة أفضل من نقل أحاديث لا تحصى ، يريد الانسان بها الاكثار من الحديث ،

ص: 106


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 .

ورواية أبي شَيبة عن أحدهما عليهماالسلام ، وموثّقة سَعد بن زياد عَن جعفر ، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام ، عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّه قال : لا تُجامعُوا في النكاح على الشبهة ، وقِفُوا عندَ الشبهةِ - إلى أن قال - فانّ الوقوفَ عندَ الشبهةِ خيرُ من الاقتحام في الهَلَكة » .

-------------------

ومعنى « خير » : هو الذي تقدَّم ، لا بمعنى الأفضلية .

( ورواية أبي شيبة (1) عن أحدهما عليهماالسلام ) أي : عن الامام الباقر وعن الامام الصادق عليهماالسلام ، فانّه كثيراً ما كان يسمع الراوي رواية عن أحدهما ثم ينسى انّه عن أيّ واحد منهما ، فيقول : عن أحدهما ، كما انه قد يقول الراوي - مثلاً - : عن أحدهم ، وذلك اذا نسي انّه من أي واحد من الائمة الطاهرين عليهم السلام .

( وموثقةِ سعد بن زياد عن جَعفر ) الصادق عليه السلام ( عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : لا تُجامعُوا في النكاح على الشبهة ) أي : لا تقتربُوا من المرأة التي لا تعلمون حليتها وحرمتها ، لشبهة موضوعية ، أو شبهة حكمية ( وقِفُوا عندَ الشُبهة الى أن قال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( : فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهةِ خَيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكةِ ) (2) وقد تقدّم معنى قوله « خير من الاقتحام في الهلكة » .

ثم انّه ربّما يتوهم : انّ هذه الأخبار لا تدل على وجوب الاحتياط ، لأنّ كلمة « خير » في هذه الأخبار ظاهرة في الاستحباب ؛ فاجاب عنه المصنّف

ص: 107


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33476 .
2- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 وفي الجميع عن مسعدة .

وتوهّمُ ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوعٌ بملاحظة أنّ الاقتحام في الهلكة لا خيرَ فيه أصلاً ، مع أنّ جعلَه تعليلاً لوجوب الارجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالفَ الكتاب في الصحيحة قرينةٌ على المطلوب .

-------------------

بقوله ( وتوهّم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع ) لوجهين :

الوجه الأوّل : ( بملاحظة انّ الاقتحام في الهلكة لا خيرَ فيه أصلاً ) فانّ قوله عليه السلام : « الوقوفُ عندَ الشُبهةِ خَيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكَةِ » يدل على ان المراد ب- « الخير » : الوجوب لا الفضل والاستحباب ، لأنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلاً ، فالمراد : انّ تمام الخير وكل الخير انّما هو في الوقوف عند الشبهة ، فيكون واجباً ، مثل قوله سُبحانه : « أوْلى لَكَ فَأوْلى » (1) فانّ ذهاب الكافر الى النار له كلّ الأولوية والتعيّن ، لا انّه أولى من دخوله في الجنّة .

الوجه الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ جعله تعليلاً لوجوب الارجاء في المقبولة ) لقوله عليه السلام : « فأرجه حتى تلقى إمامك ، فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهات خيرٌ منَ الاقتحام في الهَلَكات » (2) ( و ) كذا جعله ( تمهيداً لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة ) حيث قال عليه السلام في صحيحة جَميل : « فَما وافَقَ كتاب اللّه فخُذوه وما خَالَفَ كتابَ اللّهِ فَدَعُوه » (3) ( قرينة على المطلوب ) الذي هو وجوب

ص: 108


1- - سورة القيامة : الآية 34 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368 .

فمساقُهُ مساقُ قول القائل : « أتركُ الأكل يَوما خيرٌ من أن أُمنَعَ منه سنةً ».

وقوله عليه السلام في مقام وجوب الصبر حتّى يتيقن الوقت : « لأن اُصلّي بعد الوقت أحبُّ إليّ من أن اُصلّي قبل الوقت » .

وقوله عليه السلام في مقام التقيّة :

-------------------

الاحتياط لا استحبابه .

وذلك لأنّ أرجهِ ، باعتبار كونه أمراً ، ظاهرٌ في الوجوب ، كما انّ طرح ما خالف الكتاب لمقتضى الأمر : فدعوه واجب ايضاً ، فيكون الوقوف الذي هو علّة للارجاء الواجب واجباً ، اذ لا يمكن أن تكون العلّة مستحبة والمعلول واجباً ، وكذا يكون الوقوف الذي هو مقدمة لطرح ما خالف الكتاب الواجب واجباً ايضاً ، لانّ مقدمة الواجب واجب .

إذن : ( فمساقه ) أي : مساق هذا الكلام ( مساقُ قول القائل : أترُك الأكلَ يَوماً ، خيرٌ من أن أُمنَعَ مِنهُ سنة ) وقوله : « أترُك » بصيغة المتكلِّم ، أي : لأن أمتنع من الأكل في يوم بسبب مرض أو نحوه ، خيرٌ من أن آكل واُبتلى بالمرض حتى يجب عليّ الامتناع من الأكل سنة ( و ) مساق ( قوله عليه السلام في مقام وجوب الصبر حتى يتيقن الوقت ) في أوقات الصلوات ( لأنّ ) - بفتحتين - وهي أن مصدرية ( اُصلي بعد الوقت أحبّ إليّ من أن اُصلي قبل الوقت ) (1) ، مما يكون تأويله بالمصدر : الصلاة بعد الوقت أحبّ اليَّ من الصلاة قبلَ الوقت ، مع وضوح : إنّ المحبوبية كلها في الصلاة في الوقت ، ولا محبوبية في الصلاة قبل الوقت ( و ) مساق ( قوله عليه السلام في مقام التقية ) : حيث كان الامام الصادق عليه السلام قد أفطر آخر يوم من

ص: 109


1- - وسائل الشيعة : ج4 ص169 ب13 ح4820 بالمعنى .

« لأن أفطِرَ يَوما مِن شَهرِ رَمَضانَ فأقضِيَهُ أحبُّ إليّ مِن أن يُضرَبَ عُنُقي » .

ونظيرُه في أخبار الشبهة ، قولُ عليّ عليه السلام ، في وصيّته لابنه : « أمسِك عن طريقٍ إذا خِفتَ ضلاله ، فانّ الكفّ عِندَه خَيرٌ من الضّلال

-------------------

شهر رمضان تقية ، لأنّ العيد ثبت عند المنصور العباسي ولم يثبت عند الإمام ، وعلم انّه اذا لم يفطر موافقة للمنصور ،قتله المنصور : فأفطر وقال : ( لأن ) بالفتحتين وهي أن مصدرية ( أفطر يوماً من ) آخر ( شهر رمضان ، فأقضيه ) بعد ذلك ( أحبُّ اليّ من أن يُضربَ عُنُقي ) (1) واذا أوّلناه بالمصدر صار هكذا : الافطار أحبّ اليّ من القتل .

لكن لا يخفى : انّ جماعة من الفقهاء قالوا بعدم وجوب القضاء ، لأنّه حكم التقية ، كما اذا أفطر قبل الغروب الشرعي تقية ، أو صلى بوضوء منكوس ، أو خالف العامة ، الى غير ذلك ، فانّ الصيام في الاوّل صحيح ، والصلاة في الثاني كذلك ، فقول الامام : « فأقضيه » ، من باب الاستحباب لا من باب الوجوب ، بسبب القرائن الخارجية .

( ونظيرُه في أخبار الشبهة ) أي : نظير الخبر المستفيض القائل : وقفوا عند الشبهة في مساقه مساق الأمثلة المذكورة من الدلالة على وجوب الوقوف ، لا استحبابه ، ( قول عليّ عليه السلام في وصيته لابنه : أمسك عن طريقٍ اذا خِفتَ ضَلاله ) ولعلّ المراد من الطريق : الأعم من الطريق المعنوي والطريق الخارجي .

ثمّ علّل عليه السلام الامساك بقوله : ( فانّ الكفّ ) أي : الوقوف وعدم السلوك ( عنده ) أي : عند ذلك الطريق الذي يخاف الانسان ضلاله ( خيرٌ من الضلال )

ص: 110


1- - الكافي فروع : ج4 ص83 ح9 ، وسائل الشيعة : ج10 ص132 ب57 ح13034 .

وخَيرٌ مِن رُكوب الأهوال » .

ومنها : موثّقةُ حمزة بن الطيّار : « إنّه عَرَضَ على أبي عبد اللّه عليه السلام بعضَ خُطَبِ أبيه عليه السلام ، حتّى إذا بلغ موضعا منها ، قال له : كُفَّ واسكُت ، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّه لا يسعكم فيما نزل عليكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفُّ عَنهُ والتَّثبُّتُ

-------------------

الدنيوي في الطرق البرية والبحرية ، وخيرٌ من الضلال الديني في الطرق الشرعيّة ( وخير من ركوب الأهوال ) (1) والتعرض للمخاوف والأخطار والوقوع فيها ، ومن المعلوم : إنّ الوقوف عن مثل هذا الطريق واجب وليس مستحباً وأفضل .

( ومنها ) أي : من جملة الأخبار الدالة على لزوم الاحتياط ووجوب التوقف مما استدل به الأخباريون ( : موثقة حمزة بن الطيّار : انّه ) أي انّ حمزة ( عرض على أبي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام بعض خُطبَ أبيه ) الباقر ( عليه السلام ) ليرى صحة النسبة من سقمها ، فأخذ يقرءها عليه ( حتى اذا بلغ موضعاً منها ، قال له : كُفَّ واسكُت ) ولعله كان لأجل ان تلك القطعة التي أراد حمزة قرائتها لم تكن صحيحة النسبة الى الامام الباقر عليه السلام .

( ثمّ قال أبو عبداللّه عليه السلام انّه لا يسعكم ) أي : لا يحق لكم ( فيما نزل عليكم مما لا تعلمون ) : أي : في قضية نزلت بكم لا تعلمون ما هو حكمها أو صحتها من سقمها ، فلا يسعكم ( الاّ الكفّ عنه ) أي : التوقف فيه ( والتثبّت ) أي : الفحص

ص: 111


1- - نهج البلاغة : الكتاب 31 ، تحف العقول : ص68 ، وسائل الشيعة : ج27 ص160 ب12 ح33484 بالمعنى .

والرّدُّ إلى أئمة الهدى عليهم السلام ، حتّى يحملوكم فيه إلى القصد ويجلو عنكم فيه العَمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال اللّه تعالى : « فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمُون » .

ومنها : روايةُ جميل عن الصادق عن آبائه عليهم السلام : « إنّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « الامورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بيّنٌ لَكَ رُشدُه فاتّبعه، وأمرٌ بَيّنٌ لَكَ غَيُّهُ فَاجتَنِبهُ، وأمرٌ اختُلِفَ فيه

-------------------

عن حكمه ، وصحته من سقمه ( والرَّدُ الى ائمة الهدى عليهم السلام ) عند التمكن من الوصول اليهم عليهم السلام ، وانّما لا يسعكم الاّ ذلك فلقوله عليه السلام : ( حتى يحملوكم ) ويوقفوكم ( فيه ) أي : فيما لا تعلمون حكمه وانه صحيح أو غير صحيح ( الى القصد ) أي : الطريق المستقيم ببيان الحقّ فيه والصحيح منه ( ويجلو ) أي : يكشف ( عنكم فيه العمى ) حيث انّ الانسان الذي يسلك ما لا يعلم الحقّ فيه من الباطل يكون كالأعمى غير انّ هناك أعمى خارجي ، وهذا اعمى معنوي ( ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال اللّه تعالى : « فاسئَلُوا أهلَ الذِّكر ان كُنتُم لا تَعلَمُونَ » (1) » (2) وأظهر مصاديق اهل الذكر هم الائمة عليهم السلام .

( ومنها روايةُ جميل عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام انّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : الاُمور ثلاثة ، أمرٌ بيّنٌ لكَ رُشده ) كوجوب الصلاة اليومية ،وهذا ( فاتّبعه ) وإعمل به ( وأمر بيّنٌ لكَ غَيُّه ) وانّه غير صحيح كصلاة التراويح وهذا ( فاجتَنبهُ ) ولا تأتِ به ( وأمرٌ اختُلفَ فيهِ ) كشرب التتن - مثلاً - في التوصليات ، وكصلاة خمس ركعات متواليات بسلام واحد - مثلاً - في العبادات ، كما أفتى

ص: 112


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .

فَرُدَّه إلى اللّه عزّ وجلّ».

ومنها : روايةُ جابرُ عن أبي جعفر عليه السلام ، في وصيّته لأصحابه : « إذا اشتَبَه الأمرُ عَلَيكُمُ ، فَقِفُوا عِندَهُ وَرُدُّوهُ إلينا ، حتّى نَشرَحَ لكم مِن ذلك ما شرح اللّه لنا » .

ومنها : روايةُ زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « حَقُّ اللّه عَلى العِبادِ أن يقولوا

-------------------

به العلاّمة فيمن نذّر أن يُصلي كذلك ، فانّ العلامة يرى وجوب مثل هذه الصلاة لمكان النذر ، والمشهور قالوا بعدم جواز مثل هذه الصلاة وبطلان النذر .

وعليه : فاذا اتفق لك أمرٌ مختلف فيه ( فرُدَّهُ الى اللّه عزّ وجلّ ) (1) أي : توقف فيه وراجع الكتاب والسنّة لترى هل فيه ما يؤد ذلك أو ليس فيه ما يؤده ؟ وهذا معنى الرّد الى اللّه، كما انّه قد يكون المراد من قوله عليه السلام في مُوثقة حمزة : «والرّد الى ائمة الهدى»(2) هو هذا المعنى أي : مراجعة سيرتهم وسُنتهم ممّا ثبت انّه سيرتهم ، وسنتهم عليهم السلام.

( ومنها : روايةُ جابر عن أبي جعفر عليه السلام ، في وصيته لأصحابه ) انّه قال : ( اذا اشتبه الأمرُ عليكم ، فقِفُوا عندَهُ ورُدّوه الينا ، حتى نشرَح لكُم من ذلك مَا شرحَ اللّهُ لنا ) (3) ونبيّن لكم حكمه ، وصحته من سقمه .

( ومنها : رواية زُرارة عن أبي جَعفر عليه السلام : حَقُّ اللّهِ على العباد : أن يَقُولوا

ص: 113


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص400 ب2 ح5858 ، الخصال : ص153 ح 189 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص162 ب12 ح33491 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الأمالي للطوسي : ص232 ح410 ، وسائل الشيعة : ج27 ص168 ب12 ح33511 .

ما يَعلَمونَ ، ويَقِفُوا عِندَ ما لا يَعلَمُونَ » .

وقوله عليه السلام ، في رواية المسمعيّ الواردة في اختلاف الحديثين : « وما لم تجدُوا في شَيءٍ من هذهِ الوجُوه فردّوا إلينا عِلمَهُ فَنَحنُ أولى بِذلِكَ ، ولا تَقُولوا فِيهِ بآرائِكُم . وَعَليكُم الكفَّ والتثبّتَ والوقُوفَ ، وأنتم طالِبون باحثُون حتّى يأتيكُم البيانُ مِن عِندِنا » إلى غير ذلك ممّا ظاهره وجوب التوقف .

والجواب :

-------------------

ما يَعلَمون ، وَيقِفُوا عندَ ما لايعلَمُون ) (1) بأن لا يقولوا فيه شيئاً من أنفسهم .

( وقوله عليه السلام ، في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين ) وتعارضهما ، قال : ( وما لم تَجدُوا في شيءٍ من هذهِ الوجُوه ) بان لم يكن في احد الحديثين المتعارضين شيء من المرجحات ( فردّوا الينا علمَهُ ، فنحنُ أولى بذلك ولا تَقُولوا فيه بآرائكم ، وعليكُم الكفَّ ، والتثبّتَ ، والوقُوف ، وأنتُم طالِبون باحثون حتى يأتيكُم البيان من عندنا ) (2) وذلك في صورة التمكن من الوصول الينا ( الى غير ذلك ممّا ظاهره : وجوب التوقف ) كما يقول به الاخباريون في الشبهة التحريمية ، فلا يجوز القول بالبرائة كما يحكم به الاُصوليون .

هذا بعض الكلام في روايات الشبهة الدالة على وجوب الاحتياط .

( والجواب ) عن هذه الطائفة الثانية من الأخبار ، التي استشهد بها الأخباريون على الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية : إن هذه الطائفة على أقسام ثلاثة ،

ص: 114


1- - الكافي اصول : ج1 ص43 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص23 ب4 ح33108 .
2- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33499 .

أنّ بعضَ هذه الأخبار مختصٌّ بما إذا كان المضيُّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة ، ولا يكون ذلك إلاّ مع عدم معذوريّة الفاعل ، لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السلام ، أو إلى الطرق المنصوبة عنه عليه السلام ،

-------------------

وكلها لا دلالة فيها على وجوب الاحتياط :

القسم الأول : ما دلّ على انّ ارتكاب المشتبه يوجب الهلكة .

وفيه : انّه إذا أمكن مراجعة الامام عليه السلام أو الطرق المنصوبة ، فانّه لا يجوز للانسان أن يرتكب المشتبه وكلام الاُصوليين انّما هو فيما اذا لم يكن أحد الأمرين : بان لم يتمكن المكلّف من مراجعة الامام ، ولم تكن هناك طرق منصوبة تدلّ على خلاف البرائة ، فانّه في هذه الصورة يستند في العمل على البرائة .

القسم الثاني : ما دلّ على عدم جواز الاعتماد في أُصول الدين على الظنون المجردة عن الأدلة ، وعلى الاستنباطات الاحتمالية .

وفيه : انّ هذا لا شك في عدم جوازه ، ولا يقول الاُصوليون بجواز مثل ذلك ، وانّما كلامهم في الفروع الفقهية .

القسم الثالث : ما دلّ على استحباب الاحتياط ورجحانه .

وفيه : انّ هذا القسم لا دلالة فيه على مقالة الاخباريين بوجوب الاحتياط .

ثم انّ المصنّف أشار الى القسم الأول وجوابه بقوله : ( انّ بعضَ هذه الأخبار مختصٌّ بما اذا كان المضيُّ في الشبهة اقتحاماً في الهلكة ) بأن كان في مورد يستقل العقل فيه أيضاً بعدم المضي ( ولا يكون ذلك ) أي : من هذا المورد ( الاّ مع عدم معذورية الفاعل ) في المضيّ فيه ، وانّما لايكون معذوراً ( لأجل القدرة على ازالة الشبهة بالرجوع الى الإمام عليه السلام ، أو إلى الطرق المنصوبة عنه عليه السلام ) فانّ الامام اذا كان حاضراً رجع الناس إليه في أحكامهم ، وإذا كان حاضراً أو غائباً وكانت هناك

ص: 115

كما هو ظاهر المقبولة ، وموثّقة حمزة بن الطيّار ، ورواية جابر ، ورواية المسمعيّ ، وبعضَها واردٌ في مقام النهي عن ذلك ، لاتّكاله في الامور العمليّة على الاستنباطات العقليّة الظنّيّة ، أو لكون المسألة من الاعتقاديّات ، كصفات اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ،

-------------------

طرق منصوبة تدل على الأحكام ، وجب الرجوع الى تلك الطرق في استفادة الأحكام منها أيضاً ( كما هو ظاهر المقبولة ) حيث قال عليه السلام : « فأرجه حتى تلقى إمامَكَ » (1) ، ( وموثقة حمزة بن الطيّار ) حيث قال عليه السلام : « التثبت والرّد الى أئمة الهدى » (2) ، ( ورواية جابر ) حيث قال عليه السلام : « ردّوه الينا » (3) ، (ورواية المسمعيّ) حيث قال عليه السلام : « فردّوا إلينا علمه » (4) .

وأشار الى القسم الثاني وجوابه بقوله : ( وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك ) أي : عن المضي في الشبهات ، ومضيّه فيها انّما هو ( لإتكاله ) واعتماده ( في الاُمور العملية على الاستنباطات العقليّة الظنية ) كالقياس والاستحسان في الفروع الفقهية ( أو لكون المسألة من الاعتقاديات كصفات اللّه تعالى ، و ) معرفة ( رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والأئمة ) الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام ، اذ الاعتقاديات يلزم الاستناد فيها الى العلم ، فاذا لم يستند فيها الى العلم وانّما استند فيها الى الظن ،

ص: 116


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الأمالي للطوسي : ص232 ح410 ، وسائل الشيعة : ج27 ص168 ب12 ح33511 .
4- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33499 .

كما يظهر من قوله عليه السلام ، في رواية زُرارة : « لو أنّ العِبادَ إذا جَهِلُوا وَقَفُوا وَلم يَجحَدُوا لم يَكفُرُوا » ، والتوقفُ في هذه المقامات واجبٌ .

-------------------

كان اقتحاماً في الهلكة .

ويظهر الأوّل وهو الاعتماد على الاستنباطات الظنية غير الحجّة من جملة من الروايات ، منها : قول أمير المؤنين عليه السلام في مقام ذم أهل البدع وأتباعهم الذين لا يعتمدون على الكتاب والسنّة، ولا على أئمة الهدى عليهم السلام حيث قال : «لايقتفون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعَمل وصي ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات، المعروفُ منهم ما عَرَّفوا، والمنكرُ عندهم ما انكرُوا، ومفرّهم في المعضلات الى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ...» (1) ، الى آخر الحديث .

و ( كما يظهر ) الثاني وهو الاعتماد في الاعتقاديات على الظنون والشبهات ( من قوله عليه السلام ، في رواية زُرارة : لو أنّ العبادَ اذا جَهِلُوا ) شيئاً من المعتقدات الاُصولية ولم يعرفوا طريق الحق فيها ( وَقَفُوا ولم يَجحَدُوا ) ذلك الشيء الذي لم يعرفوه من صفات اللّه تعالى ورسوله والائمة الطاهرين عليهم السلام ( لم يَكفُرُوا ) (2) لأنّ الكفر انّما يأتي من الجحود والانكار لأُصول الدين .

( و ) من المعلوم : انّ ( التوقف في هذه المقامات ) التي ذكرناها في القسم الثاني من أخبار الاحتياط التي تمسك بها الأخباريون ( واجبٌ ) عقلاً وشرعاً ، فانّه

ص: 117


1- - الكافي روضة : ج8 ص64 ح22 (بالمعنى) ، نهج البلاغة : كتاب 88 ، وسائل الشيعة : ج27 ص160 ب12 ح33483 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 ، المحاسن: ص216 ح103 .

وبعضَها ظاهرٌ في الاستحباب ، مثل قوله عليه السلام : « أورَعُ النّاس مَن وَقَفَ عِندَ الشُبهةِ » ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : « مَن تَرَكَ ما اشتبه عليه مِنَ الاثم فهو لما استبان له أتركُ والمعاصي حِمى اللّه ،

-------------------

لا يجوز للانسان الاعتماد على الظنون المجردة عن الدليل في الفروع ، ولا على الأدلة الظنية في الاعتقاديات .

وأشار الى القسم الثالث وجوابه بقوله : ( وبعضها ظاهرٌ في الاستحباب ) فلا يدل على وجوب الاحتياط الذي يقول به الأخباريون ( مثل قوله عليه السلام : أورعُ الناس مَنْ وَقَفَ عند الشُبهة ) (1) فانّ الأورعيّة مستحبة وليست بواجبة ، وانّما الواجب هو الورع والتجنب عن المحرمات .

( وقول أمير المؤنين عليه السلام : من تَركَ ما اشتبه عليه مِنَ الاثمِ ، فَهُوَ لما استبان لَهُ أترك ) فانّ من يترك المشتبه يترك المستبين من الحرام قطعاً ، وهذا مثل أن يقول عليه السلام من يأتي بالمستحبات يأتي بالواجبات بطريق أولى ، ومن يترك المكروهات يترك المحرمات بطريق أولى ، والى هذا المعنى يُشير ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من انّه قال : « نِعمَ العبد صُهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه » (2) ، أي : فكيف به وهو يخافه فانّه لا يعصيه بطريق أولى ؟ .

ثمّ قال أمير المؤنين عليه السلام : ( والمعاصي حِمى اللّه ) والحمى : هو المكان الذي يحميه ملك أو رئيس أو نحوهما ، ويمنعون دخول الناس فيه ، والاقتراب منه ،

ص: 118


1- - الخصال : ج1 ص16 ح56 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33501 و ص162 ب12 ح33492 .
2- - السيوطي : ج2 ص164 باب لو ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص151 .

فَمن يَرتَع حَولَها يُوشِكُ أن يَدخُلَها » . وفي رواية النعمان بن بشير قال : « سَمِعتُ رَسُولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لِكُلّ مَلِك حِمى ، وحِمى اللّه حلالُهُ وحرامُه والمُشتَبِهاتُ بَينَ ذلِكَ . لو أنّ راعيا رعى إلى جانِبِ الحِمى لم يَثبُت غَنَمُهُ أن يَقَعَ في وَسَطِهِ ، فَدَعُوا المُشتَبِهاتِ » .

وقوله عليه السلام : « مَن اتّقى الشبهات فَقَد استبرأ لدينه » .

-------------------

ويجعلونه منطقة محرّمة و مخطورة ( فمن يَرتَع ) أي : يأتي بأغنامه ( حَولَها ) أي : حول تلك المنطقة المحرّمة : لحمى ( يُوشكُ أن يَدخُلَها ) (1) ويقع فيها .

ومن الواضح : انّ المحرّم هو دخول الحمى لا الرعي حول الحمى ، فاذا لم يعلم الانسان ان ارتكاب هذا الشيء - كشرب التتن مثلاً - معصية للّه سبحانه وتعالى كان من حول الحمى لا من الحمى ، ليكون واجب ا لاجتناب .

( وفي رواية النعمان بن بشير قال : سَمِعتُ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لكُلِّ مَلِك حِمى ، وحِمى اللّه حلالُهُ وحرامُه والمُشتَبهاتُ بَينَ ذلِكَ ) أي :بين الحَلال والحَرام، ومن المعلوم : انّ بين الحرام والحلال ليس حراماً ليكون واجب الاجتناب .

ثم قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحمى لم يَثبُت غَنَمهُ أن يَقَع في وَسَطِهِ ، فَدَعُوا المُشتَبِهاتُ ) (2) والمراد من الوسط هنا : داخله ، لا الوسط الحقيقي ( وقوله عليه السلام : من اتّقى الشبهات فَقَد استَبرأ لدِينه ) (3) بكسر الدال - بمعنى :

ص: 119


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، وسائل الشيعة : ج27 ص161 ب12 ح33490 و ص175 ب12 ح33531 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص323 ، غوالي الئالي : ج3 ص548 ح15 .
2- - الأمالي للطوسي : ص381 ح818 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح41 ، الذكرى : 138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص173 ب12 ح33527.

وملخّصُ الجواب : عن تلك الأخبار أنّه لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للإرشاد ، من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها عدمُ الوقوع في المضارّ ،

-------------------

انّه نزّه دينه عن ارتكاب الحرام .

ومن المعلوم ان تنزيه الدين عن الحرام بمعنى حفظه عن الحرام ، لا ان المشتبه هو الحرام ، ليكون واجب الاجتناب .

( وملخص الجواب عن تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط ونحوه ( : انّهِ لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للارشاد ، من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها : عدم الوقوع في المضارّ ) فانّ الأوامر والنواهي قد تكون مولوية ، وهي ما كانت المصلحة في نفس متعلق التكليف مثل : « أقم الصلاة » ، و « لا تشرب الخمر » ، حيث ان في الصلاة مصلحة ، وفي الخمر مفسدة من جهة الأمر والنهي ، فلو لم يأمر المولى بالصلاة ولم ينه عن شرب الخمر لم يكن هناك مصلحة أو مفسدة من جهة الأمر والنهي ، لانّه لا أمر ولا نهي .

وقد تكون الأوامر والنواهي ارشادية ، فاذا خالف الشخص الأمر والنهي لا يصيبه ، عقاب وانّما الثواب والعقاب في المأمور به سواء كان أمرٌ ونهي أم لا ، مثل أوامر الطبيب ونواهيه ، فاذا قال الطبيب : كُلّ الرّمان واترك أكلَ السمّ ، فانّ المصلحة والمفسدة في نفس الرّمان والسم ، لا في أمر الطبيب ، فانه سواء كان أمرٌ أو لم يكن أمرٌ تكون المصلحة في أكل الرّمان والمفسدة في أكل السم ولا مصلحة ومفسدة في مخالفة الطبيب أو موافقته .

وعليه : فاذا قال المولى : صَل ولا تشرب ، كان في أمره ونهيه مصلحة ومفسدة بحيث لولا أمره ونهيه لم تكن تلك المصلحة والمفسدة ، بخلاف ما اذا قال : احتط فليس في نفس الاحتياط بما هو إحتياط مصلحة حتى اذا طابق الواقع تكون

ص: 120

إذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقف ، ولا يترتّب على مخالفته عقابٌ ، غير ما يترتّب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل فيها ،

-------------------

مصلحتان ، كما ليس في تركه مفسدة حتى اذاصادف الواقع تكون مفسدتان ، وانّما المصلحة فيما يحرز بالاحتياط ، والمفسدة فيما تأتي بسبب ترك الاحتياط .

مثلاً : اذا احتاط بغسل يديه في صورة تنجسّ احداهما ، فانّه لا مصلحة في الاحتياط ، وانّما في غسل اليد النجسة واقعاً ، واذا لم يحتط بترك وطى الزوجتين اللتين احديهما حائض ، فالمفسدة في وطي الحائض لا في ترك الاحتياط بما هو احتياط ، واذا تبين ذلك قلنا : ان الأمر بالاحتياط في هذه الروايات للارشاد لا للمولوية .

وانّما نقول : ان الأمر فيها للارشاد مع ان الأصل في الأوامر هو : المولوية ( اذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقف ، و ) هي النجاة من الهلكة المحتملة ، لأنّ من يترك الاحتياط يحتمل الوقوع في الهلكة ، لا انّه يقطع بها ، وقد عرفت : ان الأمر الارشادي ( لا يترتّب على مخالفته عقابٌ ، غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحياناً ) أي : على تقدير مصادفة الشبهة للواقع ( من الهلاك المحتمل فيها ) قوله : « من » بيان لقوله : « ما يترتب » ، والضمير : « ها » ، في قوله : « فيها » عائد إلى « الشبهة » .

وعليه : فاذا قال المولى : احتط بترك شرب الانائين الذين أحدهما خمر ، فخالف العبد وشرب أحدهما ، فان كان ما شربه خمراً في الواقع ، عوقب لشرب الخمر لا لترك الاحتياط ، وان لم يصادف ما شربه الخمر ، بأن شرب الماء لم يعاقب بشيء ، وانّما كان عمله تجرّياً ، والتجرّي - كما مرّ في الجزء الأول من الكتاب - كاشفٌ عن القبح الفاعلي وليس محرّماً ، اذ ليس فيه قبح فعليّ .

ص: 121

فالمطلوبُ في تلك الأخبار تركُ التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة .

فان كان ذلك الهلاكُ المحتملُ من قبيل : العقاب الاُخرويّ ، كما لو كان التكليفُ متحققا فعلاً في موارد الشبهة المحصورة ونحوها ، أو كان المكلّفُ قادرا على الفحص وإزالة الشبهة بالرجوع إلى الامام عليه السلام ، أو

-------------------

إذن : ( فالمطلوب في تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف وما أشبه ( ترك التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ) وهذا هو الشيء الذي يدل عليه العقل أيضاً بلا حاجة الى الأخبار ، وانّما الأخبار مؤدة للعقل ، فاذا علم الانسان بأنّ أحد الانائين سم ، أمر عقله بالاجتناب عنهما ، لا أن الأمر العقلي هو للمصلحة والمفسدة في ذات الأمر والنهي ، وانّما هو لترك التعرض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ، إذا صادف الواقع بأن شرب السمّ واقعاً .

وعليه : ( فان كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل : العقاب الاُخروي ، كما لو ) أمر الشارع بالاجتناب ، فخالفه وصادف الواقع ، وذلك بأن ( كان التكليف متحققاً فِعلاً في موارد الشبهة المحصورة ) بأن كان هناك اناءان أحدهما خمر ، فشرب أحد الانائين وصادق الخمر ( ونحوها ) أي : نحو موارد الشبهة المحصورة ممّا يلزم الاجتناب ، كالاحتياط الواجب في الأموال ، والفروج ، والدماء ، وان لم تكن الشبهة محصورة .

( أو كان المكلّف قادراً على الفحص ) في الشبهة البدوية الحكمية ، كما لو شك في ان التتن حرام أو حلال ( و ) كان المكلّف قادراً على ( ازالة الشبهة بالرجوع الى الإمام عليه السلام ) كما في زمن الحضور ( أو ) بالرجوع إلى

ص: 122

الطرق المنصوبة، أو كانت الشبهة من العقائد، أو الغوامض التي لم يُرد من الشرع التديّنَ به بغير علم وبصيرة، بل نهى عن ذلك بقوله عليه السلام: « إنّ اللّهَ سَكَتَ عَن أشياء ، لم يَسكُت عنها نِسيانا ، فلا تتكلّفوها ، رحمةً منَ اللّهِ لَكُم » ،

-------------------

( الطرق المنصوبة ) كما اذا تمكن من الرجوع الى الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، أو تمكن المقلد من الرجوع الى رسالة المجتهد ، أو الى المجتهد نفسه .

( أو كانت الشبهة من العقائد ، أو الغوامض ) الاُصولية ، كمسائل الجبر والتفويض ، والقضاء والقدر ، وعدم سهو المعصوم ، فان اللازم على الانسان أن يعتقد بهذه الاُمور اعتقاداً قاطعاً عن علم أو دليل ، فاذا لم يعتقد بها عن علم ، أو دليل علمي كان مخطئاً ، لأن الغوامض من المسائل الاُصولية هي ( التي لم يُرد من الشرع التديّن به بغير علم وبصيرة ) فقد قال سبحانه : « فَاعلَم انَّهُ لا الهَ الاّ اللّه » (1) وغيره من الأدلة الدالةِ على وجوب العلم فيها .

( بل نهى عن ذلك ) أي : عن التدين بها بغير علم ( بقوله عليه السلام : إنّ اللّهَ سَكتَ عن أشياءَ لَم يسكت عَنها نِسياناً ، فَلا تتكلَّفُوها ) أي : لا تلقوا أنفسكم في مشقة معرفتها ( رَحمَةً من اللّهِ لَكُم ) (2) فانه لو وجب على الانسان معرفة خصوصيات المبدء قبل الخلقة وحين الخلقة وبعد الخلقة ، وأسماء الأنبياء وأوصيائهم ، وخصوصياتهم ، وخصوصيات الموت ، والبرزخ ، والقيامة ، والجنّة والنار ، وغيرها ممّا تستوعب ملايين الصفحات ، لوقع الانسان في أعظم مشقة .

ص: 123


1- - سورة محمّد : الآية 19 .
2- - غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

فربّما يوقع تكلّف التديّن فيه بالاعتبارات العقليّة والشواذ النقليّة الى العقاب بل الى الخلود فيه ، إذا وقع التقصيرُ في مقدّمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة : ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقفُ لازما عقلاً وشرعا من باب الارشاد ، كأوامر الطبيب ، بترك المضارّ .

-------------------

بل أكثر من ذلك ، ( فربّما يوقع تكلّف التديّن فيه ) أي : لو تكلف الانسان التدين بتلك الخصوصيات والمزايا ( بالاعتبارات العقليّة ) والاستحسانات الفكرية ، لأنّ غالب ما ذكره بعض الحكماء ليس الاّ استحساناً وتكلفاً ( والشواذ النقلية ) أي : استند في تدينه إلى بعض الروايات الشاذة فإن هذا التكلف ينتهي أحياناً ( إلى العقاب ) في الآخرة ان كان ذلك التدين محرّماً ( بل الى الخلود فيه ) أي : في العقاب الدائم ان كان كفراً .

كما لو انتهى الى التدين بأن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم سهى في صلاته ، إستناداً إلى بعض الروايات الشاذة التي وردت تقيةً ، لأنّ العامّة يقولون بذلك فانّه محرّمٌ قطعاً ، وان انتهى الى التدين بعدم المعاد الجسماني استناداً إلى بعض الاستحسانات العقليّة التي ذكرها بعض الحكماء ، فانه يوجب الكفر الموجب للخلود في العقاب وذلك فيما ( اذا وقع التقصير في مقدمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة ) فلا يمكن أن يقال : انّه علم والعلم حجّة بنفسه ، فانّ العلم اذا وقع التقصير في مقدماته يكون وبالاً على الانسان .

وعليه : ( ففي هذه المقامات ) التي ذكرناها من قولنا : « في موارد الشبهة المحصورة » إلى هنا ( ونحوها ) كالافتاء بالرأي ، والاستحسان ، والقياس ، وما أشبه ذلك ( يكون التوقف لازماً عقلاً وشرعاً ) لكن أوامر الاحتياط في كلام الشارع انّما هو ( من باب الارشاد ، كأوامر الطبيب ، بترك المضارّ ) فلا دلالة

ص: 124

وإن كان الهلاكُ المحتملُ مفسدةً أُخرى غيرَ العقاب ، سواء كانت دينيّة ، كصيرورة المكلّف بارتكاب الشبهة أقربَ إلى ارتكاب المعصية ، كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة ، ام دنيويّة ، كالاحتراز عن أموال الظَلَمة ،

-------------------

في أخبار الاحتياط على الوجوب كما يقوله الأخباريون : بأنّ « احتط » معناه : انه واجب عليك الاحتياط بحيث لو تركت تكون فاعلاً للمحرّم .

(و) أما (إن كان الهلاكُ المحتملُ) في ارتكاب المشتبه (مفسدة اُخرى غير العقاب) الاُخروي فقد اتفق الأخباريون والاُصوليون على جواز الارتكاب في الشبهة الموضوعية، وجوبية كانت أو تحريمية، وفي الشبهة الوجوبية بعد الفحص ، مع انّه يحتمل في هذه الثلاثة المضار الدنيوية ، وكذا المضار الدينية غير العقوبة الاُخروية .

وعليه : فانّه ( سواء كانت ) المفسدة المحتملة ( دينيّة ، كصيرورة المكلّف بإرتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية ) اليقينية ( كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لو انّ راعياً رعى حَولَ الحِمى أوشكَ أن يَقَعَ في وسطه » (1) ، وغير ذلك ، فانّ هذا خطر ديني كما هو واضح .

( أم دنيويّة ، كالإحتراز عن أموال الظلمة ) فانّه مستحسن إذا لم يعلم الانسان انّ هذا المال بنفسه محرّمٌ ، وذلك لأنّ عدم الاحتراز عن مثل هذه الأموال يوجب قسوة القلب ، وقصر العمر ، والذلّة في الحياة الدنيا ، لأن لكل شيء أثره وان لم يكن الانسان يعلم بأنّه ذلك الشيء فان من يشرب الخمر بظن انّه ماء - مثلاً -

ص: 125


1- - الامالي للطوسي : ص381 ح818 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 (بالمعنى) .

فمجرّدُ احتماله لا يوجبُ العقابَ على فعلِه لو فرض حرمتُهُ واقعا .

والمفروضُ أنّ الأمر بالتوقّف في هذه الشبهة لا يفيد إستحقاق العقاب على مخالفته ، لأنّ المفروض كونه للارشاد ، فيكون المقصودُ منه التخويفَ عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة ، فاجتنابُ هذه الشبهة لا يصيرُ واجبا شرعيّا بمعنى ترتّب العقاب على ارتكابه .

-------------------

يصله السكر وان لم يكن معاقباً عليه في الآخرة .

إذن : ( فمجرّدُ إحتماله ) أي : احتمال هذا الفساد الذي تقدّم في قوله : « وان كان الهلاك المحتمل مفسدة اُخرى غير العقاب » ( لا يوجبُ العقاب ) الاُخروي ( على فعله ) أي : فعل ذلك المحتمل فساده ، ( لو فرض حرمتُهُ واقعاً ) فلا يجب التوقف عن أمثال هذه الأشياء ، لوضوح : ان الشبهة من هذه الجهة شبهة موضوعية ، وقد إتفق الاُصوليون والأخباريون على جواز ارتكابها ، لانّه من مصاديق القاعدة الكلية القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، والمفروض انّه لم يكن بيان في الأمر .

( و ) كذالك ( المفروض انّ الأمر بالتوقف في هذه الشبهة ) الموضوعية ( لا يفيد استحقاق العقاب على مخالفته ) لما تقدّم من ان أوامر الاحتياط ليست مولوية ( لأن المفروض كونه للارشاد ) كأوامر الطبيب ( فيكون المقصود منه ) أي : من الأمر بالتوقف في أخبار الاحتياط ( التخويف عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة ) .

وعليه:( فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجباً شرعيّاً بمعنى : ترتب العقاب على ارتكابه ) لا في الشبهة الحكمية الوجوبية ، ولا في الشبهة الموضوعية تحريمية

ص: 126

وما نحنُ فيه ، وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة ، من هذا القبيل ، لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الأُخرويّة باتفاق الأخباريّين ، لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة وإن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقف .

فاذا لم يكن المحتمل فيها

-------------------

كانت أو وجوبية ( وما نحنُ فيه ، وهي : الشبهة الحكميّة التحريميّة من هذا القبيل ) أي : من قبيل الشبهات الثلاث ايضاً ( لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤخذة الاُخرويّة ) أي : العقاب ( باتفاق الأخباريين ) والاُصوليين ( لاعترافهم : بقبح المؤخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة ) فانّ الأخباريين والاُصوليين كلاهما متفقان على هذا الأمر .

والحاصل : إنّ الاخباريين يقولون : بأن التكليف الواقعي حيث لم يصل الى المكلّف بحسب الفرض لم يكن عقاب عليه ، لقبح العقاب بلا بيان ، وانّما يكون العقاب على مخالفة أوامر الاحتياط ، والاُصوليون أجابوا عن ذلك : بأن أوامر الاحتياط ارشادية والأمر الارشادي لا عقاب عليه ، كما تقدّم ، فالاُصوليون والأخباريون متفقون على عدم العقاب على التكليف الواقعي لقبح العقاب ، على المجهول بلا بيان .

هذا ( وإن ) كان الأخباريون ( زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف فيالشبهة ) التحريمية ( بأوامر التوقف ) وأخبار الاحتياط وقوله : « بأوامر » أي : بسبب أوامر التوقف ، فالعقاب عندهم لمخالفة أوامر الاحتياط لا لمخالفة التكاليف الواقعية غير الواصلة .

وعلى ما ذكرناه : ( فاذا لم يكن المحتمل فيها ) أي : في الشبهة التحريمية

ص: 127

هو العقاب الأُخرويّ كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة ، كأموال الظلمة والشبهة الوجوبيّة ، في أنّه لا يحتمل فيها إلاّ غير العقاب من المضارّ والمفروضُ كونُ الأمر بالتوقف فيها للارشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة .

وبالجملة : فمفادُ هذه الأخبار بأسرها التحرّز عن الهلَكة المحتملة ،

-------------------

( هو العقاب الاُخرويّ ) بل كان المحتمل : المضارّ الاُخرى ( كان حالها ) أي : حال الشبهة التحريمية ( حال الشبهة الموضوعية ، كأموال الظلمة ) في المثال المتقدِّم ( والشبهة الوجوبية ، في انّه لا يحتمل فيها ) أي : في هذه الشبهات الثلاث

الموضوعية وجوبية وتحريمية ، والحكمية وجوبية ( إلاّ غير العقاب من المضارّ ) وقوله : « من » بيان لقوله : « غير » .

( و ) من المعلوم : إن احتمال الضرر غير العقاب ، لا يوجب الاجتناب شرعاً ولا عقلاً ، كما لا يوجب العقاب في الآخرة ، لانّ ( المفروض كون الأمر بالتوقف فيها ) أي : في الشبهة التحريمية ( للارشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة ) التي هي ليست بالعقاب الاُخروي الواجب الاجتناب عنه .

( وبالجملة : فمفادُ هذه الأخبار ) أي : اخبار الاحتياط والتوقف ( بأسرها ) أي : بأجمعها ( التحرز عن الهلكة المحتملة ) فاذا دلّ دليل من الخارج على أن الهلكة المحتملة : هو العقاب ، وجب الاجتناب كما في الشبهة المحصورة ، واُصول الدين ، والأموال ، والفروج ، والدماء ، ممّا يجب فيها الاحتياط ، واذا لم يدل دليل على أنّ الهلكة المحتملة هو العقاب ، بل دل قبح العقاب بلا بيان على عدم العقاب ، فكانت الهلكة المحتملة سائر المضرات ، لم يجب الاجتناب ، من غير فرق بين الشبهة الموضوعية أو الحكمية الوجوبية ، أو التحريمية .

ص: 128

فلابدّ من إحراز احتمال الهلكة عقابا كان أو غيره .

وعلى تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكالَ ولا خلافَ في وجوب التحرّز عنه إذا كان المحتمل عقابا ، واستحبابهِ إذا كان غيره ، فهذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه .

فان قلت :

-------------------

وعليه : ( فلابدّ من احراز احتمال الهلكة ) من الخارج لا من نفس دليل الاحتياط ( عقاباً كان ) تلك الهلكة ( أو غيره ) من سائر المضرات .

( وعلى تقدير احراز هذا الاحتمال ) من الخارج ، لا حاجة إلى هذه الأخبار ، لأن الأوامر في هذه الأخبار ليست مولوية .

والحاصل : انّه ( لا إشكالَ ) عقلاً وشرعاً ( ولا خلافَ ) من الاُصوليين والأخباريين ( في وجوب التحرّز عنه ) أي : عن الهلاك المحتمل ( إذا كان المحتمل عقاباً ) في الموارد التي ذكرناها من المحصورة ونحوها ( و ) لا اشكال ولا خلاف أيضاً في ( إستحبابهِ ) أي : في إستحباب التحرز ( إذا كان ) الهلاك المحتمل ( غيره ) أي :غير العقاب .

وعلى هذا : ( فهذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ) وهو : الهلكة ( ولا في حكمه ) وهو وجوب التحرز فيما كان المحتمل عقاباً واستحبابه فيما كان غير العقاب ، وانّما تفيد هذه الأخبار التأكيد فقط .

( فان قلت ) : الظاهر من هذه الأخبار المشتملة على لفظ « الهلكة » : الهلاك الاخروي لا سائر المضرات ، فتدل هذه الأخبار على انّ الشارع يريد التكاليف المجهولة من العبيد وان لم تكن واصلة اليهم ، ولكن حيث يقبح العقاب بلا بيان

ص: 129

إنّ المستفاد منها احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف ، والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة هي الاُخرويّة ، فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة

-------------------

جَعلَ الشارع الاحتياط واجباً طريقياً الى تلك التكاليف ، فتكون حال الشبهة التحريمية حال المعلوم ، بالاجمال المردد بين أطراف محصورة حيث يجب فيها الاحتياط ، وذلك كما قال : ( انّ المستفاد منها ) أي : من أخبار الاحتياط والتوقف ، هو ( احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة ) في مقابل الأحكام الأخلاقية ، مثل أن يقول : « هَلَكَ مَن أكلَ طعامه وحده » (1) ، أو « هَلَكَ من سافر وحده » (2) ، أو « هَلَكَ من نام في سطح بغير محجّر » (3) ، أو ما أشبه ذلك من الأحكام الاخلاقيّة ( هي الاُخروية ) أي : العقاب في الآخرة ، لأنّ عمدة نظر الشارع هو : تجنّب الناس عن العقاب في الآخرة ( فتكشف هذه الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف ( عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة ) .

وانّما لا تسقط ، لأنّ الشارع أمر بالاحتياط ، فاذا خالف الاحتياط وطابق الواقع

ص: 130


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص287 ، مكارم الاخلاق : ص31 ، تحف العقول : ص448 ، بحار الانوار : ج16 ص246 ب9 ح35 و ج77 ص166 ب7 ح2 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج2 ص276 ب2 ح2432 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج11 ص410 ب3 ح15126 (بالمعنى) .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص557 ب2 ح4914 و ج4 ص357 ب2 ح5762 ، وسائل الشيعة : ج5 ص315 ب7 ح6650 بالمعنى و ج15 ص345 ب49 ح20700 .

لأجل الجهل ، ولازم ذلك إيجاب الشارع الاحتياط ، إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهريّ بالاحتياط قبيحٌ .

قلت : إيجابُ الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعيّ

-------------------

كان معاقباً ، وأما إحتمال السقوط فانّه ( لأجل الجهل ) بتلك الأحكام ، لكن هذا الاحتمال مرتفع بايجاب الاحتياط .

( ولازم ذلك ) أي : لازم عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة : هو ( إيجاب الشارع الاحتياط ) حتى اذا لم يعمل العبد بالاحتياط كان غير معذور ( إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح ) فانّ الشارع إمّا أن يبيّن الحكم ويوصله إلى العبد ، وإمّا أن يوجب الاحتياط ، فاذا لم يكن أحد الأمرين لم يكن العقاب في الآخرة .

وإنّما قال : ظاهري ، لوضوح : انّ الاحتياط ليس هو تكليفاً واقعياً ، بل انّه تكليف في الظاهر لأجل التحفّظ على الواقع المجهول .

( قلت ) : لو سلّمنا تبادر خصوص العقاب من لفظ الهلكة ، نقول : انّ أمر الشارع بالاحتياط : هل هو لأجل كون الاحتياط مقدمة للتكليف المجهول ، فيكون العقاب على التكليف لا على ترك الاحتياط ؟ ففيه : انّ الاخباريين يعترفون بأن التكليف المجهول لا عقاب عليه .

أو هو لأجل الاحتياط نفسه ، بأن كان الاحتياط واجباً نفسياً ؟ وفيه : ان لازم هذا أن يكون العقاب على ترك الاحتياط ، والحال ان الأخبار ظاهرة في كون العقاب على ترك التكليف الواقعي لا على ترك الاحتياط .

والى هذا اشار المصنّف ، وقال : ( إيجاب ) الشارع ( الاحتياط ان كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي ) فالاحتياط ليس له شأن إيجاباً ، ولا سلباً ، وإنّما هو

ص: 131

فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، كما اعترف به ، وإن كان حكما ظاهريّا نفسيّا فالهلكة الأُخرويّة مترتّبة على مخالفته ، لا مخالفة الواقع .

وصريحُ الأخبار إرادةُ الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة .

-------------------

وعاء للتحفظ على الواقع ، فاذا ترك الاحتياط ووقع في مخالفة الواقع عوقب على ترك الواقع ( فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، كما اعترف به ) المستشكل حيث قال : « الاقتصار في العقاب على نفس التكليف المختفية قبيح » والاخباريون أيضاً يقولون بأن العقاب ليس على التكليف المجهول ، اذ كيف يمكن العقاب على التكليف المجهول مع أن العقل مستقل بقبحه ؟ .

( وإن كان ) ايجاب الشارع الاحتياط ( حكماً ظاهرياً نفسيّاً ) بأن يكون إيجاب الاحتياط مثل ايجاب الصلاة ، والصوم ، وما أشبه ، فلا يكون ايجاب الاحتياط مقدمياً وارشادياً ، بل يكون حكماً نفسياً مستقلاً ( فالهلكة الاُخرويّة مترتبة على مخالفته ، لا مخالفة الواقع ) أي : ان ايجاب الاحتياط ان كان أمراً نفسياً ، كان لازمه : انه لو ترك الاحتياط ان يعاقبه المولى على انّه ترك الاحتياط ، لا أن يعاقبه على انه تركَ الواقع .

هذا ( و ) الحال إنّ ( صريح الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف وما أشبه ( ارادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة ) وحيث لا يكون العقاب لا على ترك الاحتياط ولا على ترك الواقع المجهول ، فاللازم أن نقول : ان الاحتياط ليس بواجب وانّما هو مستحب والمحكَّم في المقام البرائة كما يقوله

ص: 132

هذا كلّه ، مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على ما ذكرنا وبين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة .

وما ذكرنا أولى .

-------------------

الاُصوليون .

( هذا كله ) هو الجواب عن سؤل ان قلت ( مضافاً إلى ) انّه لو قلنا بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بسبب هذه الأخبار ، لزم تخصيص الأكثر في هذه الأخبار ، وتخصيص الأكثر مستهجن كما لا يخفى ، اذ الأخبار مطلقة تشمل الشبهة بأقسامها الاربعة : الوجوبية والتحريمية ، الموضوعية والحكمية ، فاذا خرج ثلاثة منها ، عن هذه الأخبار وهي : الوجوبية موضوعية أو حكمية ، والموضوعية التحريمية - إذ لا عقاب لهذ الثلاثة باتفاق الكل - فبقاء الشبهة الحكمية التحريمية داخلة في هذه الأخبار يوجب الاستهجان .

وهذا هو مثل أن يقول المولى : « أكرم العلماء » ، والعلماء أربعة ، ثم يخرج منهم ثلاثة ، فبقاء عالم واحد تحت قوله : « أكرم العلماء » مستهجن ، أما إذا حملنا هذه الأخبار على الارشاد فلا يلزم مثل هذا التخصيص المستهجن .

والحاصل : ( دوران الأمر في هذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( بين حملها على ما ذكرنا ) من الارشاد الذي ذهب إليه الاُصوليون حيث قالوا : إن الاحتياط مستحب وانّما المحكَّم هو البرائة ، ( وبين : ارتكاب التخصيص فيها ) أي : في هذه الأخبار ( باخراج الشبهة الوجوبيّة ) مطلقاً من الموضوعية والحكمية ( والموضوعية ) التحريمية ممّا معناه تخصيص الأكثر وهو مستهجن ( و ) عليه : فلا يبقى الاّ ( ما ذكرنا ) : من الحمل على الارشاد وهو ( أولى ) من وجوه :

أولاً : لأنّه يلزم تخصيص الأكثر .

ص: 133

وحينئذٍ : فخيريّةُ الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعمُّ من الرّجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه . فهي قضيّة تستعمل في المقامين ، وقد استعملها الأئمة عليهم السلام ، كذلك .

فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقف : مقبولةُ عُمر بن حَنظَلَة التي جُعلت هذه القضيّةُ فيها علّة لوجوب التوقف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ؛

-------------------

ثانياً : لأنه يلزم اخراج المورد ، فانّ مورد بعضها : الشبهة الموضوعية ، كرواية النكاح على الشبهة ، ومن الواضح : إنّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية .

ثالثاً : هذه الأخبار آبية عن التخصيص ، لأنها في بيان مقام الضابط العقلي ، ولهذا قد مثّل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بمن رعى حَولَ الحِمى .

( وحينئذٍ ) أي : حين ثم أولوية ما ذكرناه من المعنى الارشادي لهذه الأخبار ( فخيرية الوقوف عند الشُبهة مِن الاقتحامِ في الهَلكةِ ) كما ورد في هذه الأخبار ( أعمُّ من الرّجحان المانع من النقيض ) وهو الوجوب ، كما في مورد العلم الاجماليّ ونحوه ممّا ذكرناه سابقاً ( ومن غير المانع منه ) أي : من النقيض وهو الاستحباب ، فيكون المراد بهذه الأحاديث : الأعم من الوجوب والاستحباب .

إذن : ( فهي ) أي : خيرية الوقوف ( قضية تستعمل في المقامين ) أي : في مقام الوجوب ومقام الاستحباب ( وقد إستعملها ) أي : الخيرية ( الائمة عليهم السلام ، كذلك ) في المقامين ( فمن موارد إستعمالها في مقام لزوم التوقف ) أي : الوجوب والمنع من النقيض ( مقبولة عُمر بن حَنظَلة التي جُعلت هذه القضيّةُ فيها علّة لوجوب التوقف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ) حيث قال عليه السلام : « فَأرجِه

ص: 134

وصحيحةُ جميل المتقدّمة التي جُعلت القضيّةُ فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب اللّه .

ومن موارد استعمالها في غير اللازم : روايةُ الزهريّ المتقدّمة ، التي جعلت القضيّةُ فيها تمهيدا لترك رواية الخبر غير المعلوم صدورُه أو دلالته ،

-------------------

حَتى تَلقى إمامَك ، فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكات » (1) إذ من الواضح : ان المتمكن من الوصول الى الامام عليه السلام اذا كان عنده خبران متعارضان من دون مرجح لأحدهما على الآخر ، يلزم عليه التوقف حتى يرى الامام ، فاذا لم يتوقف وعمل بأحدهما وخالف الواقع كان معاقباً .

( وصحيحة جميل المتقدّمة التي جعلت القضية فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب اللّه ) حيث قال عليه السلام في الصحيحة بعد قوله : « الوقوفُ عندَ الشبهات خَير ، إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخُذُوه وما خالفَ كتابَ اللّهِ فدعوه » (2) لأن الإمام عليه السلام جعل خيرية الوقوف عند الشبهة مقدّمة للأخذ بما وافق كتاب اللّه وطرح ما خالف كتاب اللّه ، وحيث ان الأخذ بما وافق كتاب اللّه واجب ، وطرح ما خالف كتاب اللّه واجب ، يكون مقدمته وهو الوقوف أيضاً واجب ( ومن موارد استعمالها ) أي : استعمال خيرية الوقوف ( في غير اللازم ) أي : الارشاد والندب ( رواية الزهريّ المتقدّمة ، التي جعلت القضيّة فيها تمهيداً لترك رواية الخبر غير المعلوم صدوره أو دلالته ) حيث

ص: 135


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368 .

فانّ من المعلوم رجحانُ ذلك لا لزومُه .

وموثّقة سعد بن زياد المتقدّمة التي فيها قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا تُجامِعُوا في النكاح على الشُبهةِ وقفوا عند الشبهة » ، فانّ مولانا الصادق عليه السلام ، فسرّه في تلك الموثّقة بقوله عليه السلام : « إذا بَلَغَكَ أنّك قد رضعتَ من لبنها ، او أنّها لَكَ محرّمة ،

-------------------

قال عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلكَةِ ، وتركك حديثاً لم تروه خَيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه » (1) فان قولَه عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خير » ، ثم قوله : « وتركك حديثاً لم تروه » تفريعاً على الوقوف عند الشبهة ، ودليل على رجحان الخيرية لا وجوبها .

( فان من المعلوم رجحان ذلك ) الترك واستحبابه ( لا لزومه ) واذا كان الترك مستحباً ، فمقدمته وهي قوله : « الوقوف خير » تكون مستحبة أيضاً ، لأنّ مقدمة المستحب مستحب ، فمقدمة صلاة الظهر - مثلاً - واجبة ، أمّا مقدمة صلاة النافلة فمستحبة .

( وموثقة سعد بن زياد المتقدِّمة التي فيها قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : «لاتُجامِعُوا في النكاح على الشبهةِ وقفوا عندَ الشبهة » ، فانّ مولانا الصادق عليه السلام فسره ) أي : فسر لفظ النكاح ( في تلك الموثقة بقوله ) أي : بقول الصادق ( عليه السلام : اذا بَلغَك انّك قد رَضعتَ من لبنها ، أو انها لك محرّمة ) من جهة نسب أو جهة مصاهرة

ص: 136


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 .

وما أشبه ذلك ، فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » الخبر .

ومن المعلوم أنّ الاحترازَ عن نكاح ما في الرواية من النسبة المشتبهة غيرُ لازم باتفاق الاخباريّين ، لكونها شبهة موضوعيّة ولأصالة عدم تحقق مانع النكاح .

وقد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر :

-------------------

(

وما أشبه ذلك ) من محرّمات النكاح مثل : انها بنت أخ ، أو بنت أخت زوجتك أو أنك طلقتها ثلاثاً بدون محلّل ( فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلكة ) (1) الى آخر ( الخبر ) المتقدّم .

( ومن المعلوم : انّ الاحتراز عن نكاح ما في الرواية من النسبة المشتَبهة ) نسبية كانت أو رضاعية ، أو مصاهرة ، أو نحو ذلك ( غير لازم باتفاق الأخباريّين ، لكونها شبهة موضوعية ) والشبهة الموضوعية لا يلتزم الأخباريون بالاحتياط فيها بل ( ولاصالة عدم تحقق مانع النكاح ) لأنّ النكاح جائز الاّ ما خرج ، فاذا لم نعلم بأن المورد المشكوك ممّا خرج ، فاللازم التمسك بالعام .

والحاصل من هذا الجواب : إنّ أخبار البرائة صريحة وأخبار الاحتياط محتملة ، لأن يراد بها الوجوب أو الاستحباب ، فاللازم تقديم الأخبار الصريحة على هذه الأخبار المحتملة .

هذا ( وقد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر ) عندنا .

ص: 137


1- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25537 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

منها : إنّ ظاهرَ أخبار التوقف حرمةُ الحكم والفتوى من غير علم ونحن نقول بمقتضاها ، ولكن ندّعي علمَنا بالحكم الظاهريّ وهي الاباحة لأدلّة البراءة .

وفيه : إنّ المرادَ بالتوقف - كما يشهد سياق تلك الأخبار وموارد أكثرها -

-------------------

( منها : إن ظاهر أخبار التوقف حرمةُ الحكم والفتوى من غير علم ) فالروايات التي تقول : توقف عند الشبهة أو احتط فيها معناها : إنه لا يجوز لَكَ أن تحكم حكماً واقعياً أو ظاهرياً بالبرائة من دون علم ( ونحن ) الاُصوليين ( نقول بمقتضاها ) أي : بمقتضى تلك الأخبار أيضاً ، فنقول يحرم على الشخص الفتوى بالحكم الظاهري أو الواقعيّ من دون علم ، فانّه حرام بالأدلة الأربعة ( ولكن ندّعي : علمَنا بالحكم الظاهريّ وهي الاباحة لأدلة البرائة ) فيكون حكمنا بالبرائة عن علم لا من دون علم .

( وفيه : إنّ ) اختصاص التوقف بالفتوى والحكم ، دون التوقف في العمل لا وجه له ، فانّ ( المراد بالتوقف ) في تلك الأخبار على ما هو المتبادر منه عند اطلاقه عرفاً ( كما يشهد سياق تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط ، والتوقف ، حيث جعل الإمام عليه السلام التوقف مقابلاً للاقتحام بقوله عليه السلام : « فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (1) ( و ) كذا يشهد ( موارد أكثرها ) مثل قولهم عليهم السلام : « بطرح مخالف الكتاب » (2) ، « وترك

ص: 138


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25537 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - صحيحة جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام : انظر الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح23368 .

هو التوقفُ في العمل في مقابل المضيّ فيه على حسب الارادة الذي هو الاقتحام في الهلكة ، لا التوقف في الحكم .

نعم ، قد يشمله من حيث كون الحكم عملاً مشتبها ، لا من حيث كونه حكما في شبهة ،

-------------------

الرواية » (1) ، « وترك النكاح » (2) ، الى غيرذلك ( هو التوقف في العمل ) بمعنى : ان لا يتحرك الانسان نحو المشتبه - كالتتن مثلاً - بالحليّة ، لا قولاً ، ولا كتابة ، ولا ارتكاباً .

وعليه : فيكون التوقف ( في مقابل المضيّ فيه على حسب الارادة ) فلا يمضى في حليّة المشتبه لا بالقول بأن يفتي بالحليّة ، ولا بالكتابة بأن يكتب في رسالته انه حلال ، ولا بالارتكاب بان يشرب التتن - مثلاً - ( الذي هو الاقتحام في الهلكة ) فان الأخبار تدل على حرمة كلّ مضيٍ في ذلك المشتبه ( لا التوقف في الحكم ) والفتوى فقط كما ذكره المستدل .

( نعم ، قد يشمله ) أي : إن التوقف يشمل الحكم أيضاً ( من حيث كون الحكم عملاً مشتبهاً ، لا من حيث كونه حكماً في شبهة ) فانّه لا يجوز أن يعمل الانسان عملاً مشتبهاً ، فشرب التتن عمل مشتبه فهو محرّم ، وكذلك الحكم بالبرائة عمل مشتبَه فهو محرّم وذلك لأنه لا يعرف هل ان حكمه هذا مطابق للواقع ، أو غير مطابق ؟ .

ص: 139


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الاعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 .
2- - كموثقة مسعدة بن زياد ، انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 و ج20 ص259 ب157 ح25573 .

فوجوبُ التوقف عبارةٌ عن ترك العمل المشتبه الحكم .

-------------------

كما انه لا يعلم هل ان شرب التتن عمل جائز في الواقع أو ليس بجائز ؟ والشارع يريد التوقف عن شرب التتن ، سواء كان بالقول أو بالكتابة ، أو بالتدخين .

وعليه : ( فوجوب التوقف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم ) وهذا هو مراد الأخباريين لا خصوص التوقف في الفتوى فقط ، بأن يجوز الشرب ولا يجوز الفتوى ، وهذا هو جواب القوانين وصاحب الفصول الذي لم يرتضه المصنِّف وأشكل عليه بما ذكره .

أقول : لا يخفى : إنّ بعض الأخبار يدل على ما ذكره القوانين والفصول ، وإن كان بعض الأخبار يدل على ما ذكره المصنِّف : - أيضا - حيث التوقف في تلك الأخبار أعمّ من القول والعمل .

أما الأخبار الدالة على كلام المحقق القمي في القوانين فمثل ما روي عن أبي الحسن موسى عليه السلام حيث قال في جملتها : « ومَا لكم والقياس ؟ انّما هَلَكَ من قَبلِكُم بالقياس ، ثمّ قال : اذا جائكم ما تعلمون فقولوا به ، واذا جائكم ما لاتعلمون فَها وأهوى بيده إلى فيه » (1) ومعنى ذلك : اسكتوا ولا تحكموا .

وحسنة هشام بن سالم قال : قلت لابي عبد اللّه عليه السلام : « ما حقّ اللّه على خَلقه ؟ فقال عليه السلام : أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عمّا لا يعلمون ، فاذا فعلوا ذلك فقد أدّوا الى اللّه حقه » (2) فانّ الكفّ في مقابل القول هو عدم الحكم والفتوى .

ص: 140


1- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص118 ب16 ح20 ، المحاسن : ص204 وفيه عن زرارة .

ومنها : أنّها ضعيفة السند .

ومنها : إنّها في مقام المنع عن العمل بالقياس وأنّه يجب التوقف عن القول إذا لم يكن هناك نصّ عن أهل بيت الوحي عليهم السلام .

وفي كلا الجوابين مالا يخفى على من يراجع تلك الأخبار .

-------------------

ورواية زرارة : « لو أن العباد اذا جَهِلوا وَقَفوا وَلَم يَجحَدوا لم يكفروا » (1) ، ومن المعلوم : انّ الجُحُود عبارة عن الانكار بالقول .

( ومنها ) أي : من الأجوبة التي لم يرتَضِها المصنِّف ( انّها ) أي : أخبار الاحتياط والتوقف ( ضعيفة السند ) . فلا يعمل عليها ، لأنّها ليست بحجّة ، فتبقى روايات البرائة خالية عن المعارض ، وسيأتي في الجواب الآتي الاشكال على هذا الجواب انشاء اللّه تعالى .

( ومنها ) أي : من الأجوبة التي لم يرتضها المصنِّف أيضاً ( انّها ) أي : اخبار الاحتياط والتوقف ( في مقام المنع عن العمل بالقياس ، وأنه يجب التوقف عن القول ) فلا يجوز تعيين الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ بسبب القياس ، لأن القياس محرّم عمله في الشريعة ( إذا لم يكن هناك نص عن أهل بيت الوحي عليهم السلام ) سواء كان نصّاً عامّاً أو نصّاً خاصّاً .

وهذان الجوابان ذكرهما المحقق القمي ، فقال المصنِّف في ردّهما : ( وفي كِلا الجوابين ما لا يخفى على من يراجع تلك الأخبار ) الواردة في الاحتياط ، وذلك لما يلي :

ص: 141


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

ومنها : إنّها معارضة بأخبار البراءة ، وهي أقوى سندا ودلالة واعتضادا بالكتاب والسنّة والعقل ، وغايةُ الأمر التكافؤ ،

-------------------

أولاً : لأنها واصلة حدّ التواتر ، وبعد وصول الخبر حدّ التواتر لا يسأل عن سنده ، بالاضافة الى أن في بعض الروايات ما هو صحيح السند أو نحو الصحيح .

ثانياً : لأنّ كون جميع هذه الروايات في مقام المنع عن العمل بالقياس غير صحيح ، فانّ بعض هذه الروايات وإن كان كذلك إلاّ انّ بعضها الآخر ليس في مقام المنع عن العمل بالقياس ، ولعل المحقق القمي أراد البعض في الجوابين لا الكل .

( ومنها ) أي : من الأجوبة عن أخبار التوقف والاحتياط ( انها معارضة بأخبار البرائة وهي ) أي : أخبار البرائة ( أقوى سنداً ) لصحة كثير منها .

( ودلالةً ) لظهورها في البرائة ، بل بعض أخبار البرائة نصّ في الدلالة عليها .

( واعتضاداً بالكتاب ) حيث قد عرفت : إنّ جملة من آيات الكتاب تدلّ على البرائة (والسنّة) الواردة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم كحديث الرفع (1) ، وقد نقلنا أيضاً بعض الروايات الاُخر ، المروية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بطريق الائمة (2) من أهل بيته عليهم السلام .

( والعقل ) لوضوح حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فانّ قُبحَ العِقاب بَلا بَيان يؤد أخبار البرائة .

ثمّ انّ المصنِّف لم يذكر الاجماع ، وذلك لوجود المناقشة في الاجماع ، فانّه

ص: 142


1- - راجع تحف العقول : ص50 .
2- - راجع الاختصاص : ص31 و الخصال : ص417 ، ح27 والتوحيد : ص353 ح24 و وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فيرجع فيها إلى ما تعارض فيه النصّان ، والمختار فيه التخيير ، فيرجع إلى أصل البراءة .

-------------------

لا إجماع في المسألة ، وان تقدّم من بعض : نقل الاجماع على البرائة .

أو لأنه لم يذكر الاجماع لما ذكره بعضهم من انه لو تمّ الاجماع لكان أخبار البرائة محفوفة بالقرينة القطعية ، فلا يبقى مجال لتعارضها بأخبار التوقف حتى يقال : بأنهما متعارضان ، إذ الاجماع يجعل أخبار التوقف مصروفة عن ظاهرها .

( وغايةُ الأمر : التكافؤ) يعني : انّا نقول أولاً : بأنّ أخبار البرائة أقوى ، واذا سلمنا عدم الأقوائية في أخبار البرائة قلنا : بأن الطائفتين من الأخبار متعارضتان من دون ترجيح ( فيرجع فيها ) أي : في المعارضة المذكورَة ( الى ما تعارض فيه النصّان ) أي : الى الادلة التي تدل على انه لو تعارض نصان فالترجيح ان كان هناك مرجّح ، فانّ لم يكن مرجح فالتخيير .

وحيث قد عرفت : بانا نقول أولاً : بترجيح أخبار البرائة ثم على تقدير التكافؤ نقول : ( والمختار فيه ) أي : في مورد تعارض الخبرين وتكافؤما ( التخيير ، فيرجع إلى أصل البرائة ) أي : انّا نختار البرائة حين يجيز الشارع لنا التخيير بين الأخذ بهذه الطائفة أو بتلك الطائفة .

والحاصل : إن القائل بالبرائة يقول : ان بين الطائفتين من أخبار البرائة وأخبار الاحتياط تعارضا فيرجّح أخبار البرائة على أخبار الاحتياط لوجوه :

أولاً : لقوة السند في أخبار البرائة .

ثانيا : لأقوائية الدلالة في اخبار البرائة من دلالة أخبار الاحتياط .

ثالثاً : لأن أخبار البرائة مؤدة بالكتاب والسنّة والعقل ، بل قد عرفت تأييدها بالاجماع أيضاً .

ص: 143

وفيه : أنّ مقتضى أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة - وهي جميع آيات الكتاب والعقل وأكثر السنّة وبعض تقريرات الاجماع

-------------------

ثمّ ان المصنِّف أشكل عليه بما حاصله يرجع إلى ست اشكالات فقال : ( وفيه ) مايلي :

الأوّل : انه لا تعارض بين الطائفتين على الأغلب لأن أغلب أخبار التوقف مقدَّمة على أخبار البرائة ، اذ أخبار البرائة تقول بالبرائة فيما لا حكم ظاهري ولا حكم واقعي في المقام ، وأخبار التوقف تقول : إنّ الحكم الظاهري هو التوقف فيرتفع موضوع البرائة .

الثاني : انّه لا أقوائية لسند أخبار البرائة من أخبار التوقف للتكافؤ السندي بين الطائفتين ، ولو في الجملة .

الثالث : انّه لا أقوائية في دلالة أخبار البرائة على أخبار التوقف ، بل الأقوائية بالعكس كما عرفت في الأشكال الأول .

الرابع : انه على تقدير التعارض لا مجال للتخيير ، بل اللازم الأخذ بأخبار التوقف من جهة انّ هذه الأخبار مخالفة للعامّة ، بينما أخبار البرائة موافقة للعامة .

الخامس : انّ العمل عند التعارض والتساوي ليس التخيير ، بل الاحتياط .

السادس : انّه على تقدير التخيير ، لا يضر الأخباريين ، لأنهم يقولون : انّا نختار الاحتياط كما يقول الاُصوليّون : انّا نختار البرائة ، فلا يكون التعارض والتخيير رداً للأخباريين .

والحاصل : (ان مقتضى أكثر أدلة البرائة المتقدمة وهي) عبارة عن (جميع آيات الكتاب ، والعقل ، وأكثر السنّة ، وبعض تقريرات الاجماع ) وهو التقرير الأول

ص: 144

عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف .

ومن المعلوم أنّ هذا من مستقلاّت العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلّة النقليّة على خلافه ، وإنّما تثبت أخبار التوقف بعد الاعتراف بتماميّتها على ما هو المفروض تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ وترك المضيّ عند الشبهة والأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب ، فتلك الأدلّة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل ، فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما ،

-------------------

من تقريري الاجماع المسمى بالاجماع الفرضي هو : ( عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف ) فان أكثر أدلة البرائة تدل على البرائة فيما اذا لم يوجد البيان عموماً أو خصوصاً .

( ومن المعلوم : انّ هذا ) أي : عدم العقاب على مخالفة التكليف المجهول ( من مستقلات العقل ، الذي لا يدلّ أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلة النقليّة على خلافه ) فانّ أخبار الاحتياط لا تردّ قبح العقاب بلا بيان ( وانّما تثبت أخبار التوقف بعد الاعتراف بتماميّتها على ما هو المفروض ) سنداً ودلالة ( تكليفاً ظاهرياً بوجوب الكفّ ، وترك المضيّ عند الشبهة ) فتكون أخبار التوقف بياناً عامّاً للتكليف ( والأدلة المذكورة ) التي اقاموها للبرائة ( لا تنفي هذا المطلب ) لانّ ادلّة البرائة مشروطة بعدم البيان ، وأخبار التوقف تدل على وجود البيان .

وعليه : ( فتلك الأدلة ) الدالة على البرائة تكون ( بالنسبة إلى هذه الأخبار ) الدالة على التوقف ( من قبيل الأصل بالنسبة الى الدليل ) حيث انّ الدليل يرفع الأصل ، فأخبار البرائة أصل ، وأخبار الاحتياط دليل ( فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما ) أي : بين أدلة البرائة وأدلة الاحتياط بعد ذلك لعدم تعارضهما .

ص: 145

وما يبقى من السنّة من قبيل قوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مطلقٌ » لا تكافيء أخبار التوقف ، لكونها أكثر وأصحّ سندا .

وأمّا قوّةُ الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم ، وظاهر أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوبَ التوقف .

-------------------

لكن عدم التعارض هذا وتقدّم أدلة الاحتياط على أدلة البرائة هو حال الأكثر ( وما يبقى من السنّة ) دليلاً على البرائة ( من قبيل قوله عليه السلام : كلّ شيء مطلق ) (1) فهي وان كانت تعارض أدلة الاحتياط بدون أن يكون أدلة الاحتياط حاكمة عليها الاّ انّها ( لا تكافيء أخبار التوقف لكونها ) أي : أخبار التوقف ( أكثر ) عدداً ( وأصح سنداً ) فتتقدم أخبار التوقف على ما بقي من السنة دليلاً على البرائة كقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ » .

بل يمكن أن يقال : إنّ الجملة الأخيرة من هذا الخبر وهي قوله عليه السلام : « حتى يرد فيه نهي » ، تدل على تقدّم أخبار التوقف ، لانّ من المعلوم : ان النهي أعم من النهي العام أو النهي الخاص ، وأخبار التوقف تدل على النهي ، فتكون أخبار التوقف مقدمة على قوله عليه السلام : « مطلق » من جهة الدلالة أيضاً .

( وأما قوة الدلالة في أخبار البرائة ) على ما ادعاه الاُصوليون ( فلم يعلم ) إذ قد عَرِفتَ : انّ أخبار التوقف واردةٌ على أخبار البرائة ، فأخبار التوقف أقوى دلالة .

( و ) أما ما ذكره الاُصوليون : من اعتضاد أخبار البرائة بالكتاب والعقل ، فهو وان كان تاماً الاّ انه ( ظاهر ) في ( أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوب التوقف ) بعد

ص: 146


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وأمّا ما ذكره من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ ، فيمكن للخصم منعُ التكافؤ ، لأنّ أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة ، لا تفاقهم - كما قيل - على البراءة ومنع التخيير على تقدير التكافؤ ، لأنّ الحكمَ في تعارض النصّين الاحتياطُ مع أنّ التخيير لا يضرّه ، لأنّه يختار أدلّة وجوب الاحتراز عن الشبهات .

-------------------

وجود البيان الحاصل بسبب أخبار التوقف .

( وأمّا ما ذكره ) الاُصوليون في الجواب عن أخبار الاحتياط ( من الرجوع الى التخيير مع ) فرض ( التكافؤ) بين أخبار البرائة وأخبار الاحتياط ( فيمكن للخصم ) من الأخباريين الجواب عنه بما يلي :

أولاً : ( منع التكافؤ فان الخصم يرجّح أخبار التوقف على أخبار البرائة ( لأن أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة ، لاتفاقهم ) أي : اتفاق العامّة ( - كما قيل - على البرائة ) وقد ذكر في أخبار الترجيح : إنّ مخالفة العامة من المرجّحات .

ثانيا : ( ومنع التخيير على تقدير التكافؤ) بين الطائفتين ( لأن الحكم ) عند جمع من العلماء ( في تعارض النصين ) الأخذ بما وافق ( الاحتياط ) وواضح : ان الاحتياط موافق للأخباريين .

ثالثا : ( مع ان التخيير لا يضرّه ) أي : لا يضر الأخباريين ، الذين عبّر عنهم المصنِّف بالخصم ( لأنه يختار أدلة وجوب الاحتراز عن الشبهات ) فلا يتمكن الاُصوليون من رد الأخباريين ، لما عرفت : من أن الأخباريين يقولون للأصولييّن : أنتم تختارون البرائة ، ونحن نختار الاحتياط .

لكن لا يخفى : ان بعضاً ممّا ذكره المصنِّف هنا في تقوية التوقف والاحتياط محل تأمل ، وكأنه رحمه اللّه أراد المناقشة وتقوية ذهن الطالب ، لا الاستدلال ، والاّ فهو

ص: 147

ومنها : أنّ أخبارَ البراءة أخصّ ، لاختصاصها بمجهول الحلّيّة والحرمة ، وأخبار التوقف تشمل كلّ شبهة فتخصّص بأخبار البراءة .

-------------------

أيضاً مخالف لجملة مما ذكره .

( ومنها : ) أي : من الأجوبة التي ذكروها عن أخبار التوقف ما أجاب به الفاضل النراقي وهو : ( إنّ أخبار البرائة أخصّ ) من أخبار التوقف فأخبار البرائة تخصّص أخبار التوقف ( لإختصاصها ) أي : اختصاص أخبار البرائة ( بمجهول الحليّة والحرمة ) أي : الشبهة التحريمية .

مثلاً قوله عليه السلام : « كلّ شيء فِيهِ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهو لَكَ حَلالٌ » (1) .

وقوله « كُلّ شيءٍ مُطلَقُ حَتى يَردَ فِيهِ نَهيٌ » (2) إلى غيرهما ، ظاهرة في الشبهة التحريمية ، بينما قوله « إحتَط لِدينِك » (3) ونحوه أعمّ من الشبهات الأربع : الموضوعية والحكميّة ، والوجوبيّة والتحريميّة ، فأخبار البرائة في الشبهة التحريميّة تخصِّص أخبار التوقف والاحتياط الشاملة للشبهة التحريميّة وغيرها .

( و ) عليه : فان ( أخبارَ التوقف تشمل كلّ شبهة فتُخصِّص ) أخبار التوقف ( بأخبار البرائة ) وقوله : « فتُخَصّص » بصيغة المجهول .

ص: 148


1- - بحار الانوار : ج2 ص274 ، المحاسن : ص495 ح596 بالمعنى .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

وفيه : ما تقدَّم ، من أنّ أكثر أدلّة البراءة بالاضافة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل والدليل ، وما يبقى فإن كان ظاهرُه الاختصاصَ بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ حَتّى يَرِدَ فيهِ نَهيٌ » ،

فيوجد في أدلّة التوقف ما لا يكون أعمّ منه ،

-------------------

( وفيه ما تقدَّم : من أنّ أكثر أدلة البرائة بالاضافة ) وبالنسبة ( إلى هذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( من قبيل الأصل والدليل ) فأخبار التوقف كالدليل ، وأخبار البرائة كالأصل ، والأصل أصيل حيث لا دليل ، فاللازم تقدّم أخبار التوقف على أدلة البرائة .

( وما يبقى ) من أدلة البرائة كقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نَهيٌ » حيث تقدّم سابقاً ، انّ هذا الحديث يعارض أحاديث التوقف ( فان كان ظاهرُه : الاختصاص بالشبهة الحكميّة التحريميّة مثل قوله عليه السلام « كلّ شيء مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نَهي »(1) ) لا مثل الرواية الاُخرى التي ورد فيها : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ ، حَتى يَردَ فِيهِ أمرٌ أو نَهيٌ » حيث ذكرنا : ان هذه الرواية رويت بصورتين ( فيوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعمّ منه ) أي : أعمّ من « كلّ شيء مطلق » حتى يقال : ان كل شيء مطلق يخصّصه ؛ وذلك لأنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ » خاص بالشبهة التحريميّة ، الناشئة من فقدان النص أو إجمالة ، لا ما كانت ناشئة من تعارض النصّين ، بينما في أخبار التوقف ما ورد في باب تعارض النصين فيكون أعم منه فلا يكون قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مطلق » أخصّ منه ، اذ في مورد تعارض النصّين

ص: 149


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

فانّ ما ورد فيه نهيٌ معارضٌ بما دلّ على الاباحة غيرُ داخل في هذا الخبر ويشمله أخبارُ التوقف ، فاذا وجَب التوقف هنا وجب فيما لا نصّ فيه بالاجماع المركّب ،

-------------------

أخبار التوقف يشمله ، « وكل شيء مطلق » لا يشمله ، فلا يكون بين الطائفتين عموم مطلق حتى يكون « كلُّ شَيءٍ مُطلق » أخصّ ممّا ورد في تعارض النصين .

وعليه : فلا يعامل مع أخبار البرائة معاملة الخاص ، ومع أخبار التوقف معاملة العام كما ذكره النراقي ( فانّ ما ورد فيه نهيٌ معارض بما دل على الاباحة ) يعني : انه اذا كان هناك نصّان متعارضان أحدهما يقول بحرمة التتن ، والآخر يقول بحليّة التتن ، فانّه وان كانت الشبهة تحريمية ، الاّ انه ( غير داخل في هذا الخبر ) أي : في خبر « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نهيٌ » ( و ) انّما ( يشمله أخبار التوقف ، فاذا وجب التوقف هنا ) عند تعارض النصّين ( وجب ) التوقف أيضاً ( فيما لا نصّ فيه ) وكذا فيما كان النصّ فيه مُجملاً ، وذلك ( بالاجماع المركّب ) ، فانه لم يفصل احد بين اقسام الشبهة التحريمية ، فاذا وجب التوقف في بعضها ، وجب في جميعها .

والحاصل : إنّ ما ورد فيه « أمر ونهيٌ » متعارضان لا يشمله « كلُّ شيءٍ مطلق » ، ويشمله بعض أخبار التوقف ، فالطائفة الاولى تقول : توقف حيث يتعارض الأمر والنهي ، والطائفة الثانية تقول : أمض حيث إحتملت النهي ، فليست الطائفة الثانية مخصصة للطائفة الاولى ، فكيف يقول النراقي رحمه اللّه : ان « كلّ شيءٍ مُطلقٌ » مخصص لأخبار التوقف ؟ .

إذا عرفت ذلك نقول : اذا وجَبَ التوقف في المتعارضين وجب التوقف فيما لا نص فيه من الشبهة التحريمية بالاجماع المركب ، اذ الاُمّة لم تفصّل بين أنواع

ص: 150

فتأمّل .

-------------------

الشبهات التحريمية ، فان بعضهم يقول بأن الشبهات التحريمية مطلقاً يتوقف فيها كالأخباريين ، وبعضهم يقول بانّ الشبهات التحريمية مطلقاً يمضي فيها كالاُصوليين ، فاذا وجب التوقف في البعض وجب التوقف في الجميع .

( فتأمّل ) اذ يمكن أن يتخذ الاجماع المركب دليلاً للعكس أي : للبرائة بأن يقال : اذا حكم بالبرائة فيما لا نصّ فيه أو فيه إجمال النص لشمول هذه الرواية لهما حكم بالبرائة فيما تعارض فيه النصّان ، لعدم القول بالفصل .

هذا هو الاشكال الأول الذي أشكله المصنّف على النراقي القائل : « بانّ أدلة البرائة أخصّ مطلقاً من أدلة التوقف » ، ثم انّه أشكل عليه باشكال آخر وهو : ان بين « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ » وبين « أخبار التوقف » تبايناً لا عموماً مطلقاً- كما قاله النراقي - وذلك لأنّ « كلّ شيءٍ مطلق » يقول في الشبهة التحريمية : أمض ، واخبار التوقف تقول في محتمل الحرمة : توقف ، فيكون بينهما تعارض .

ثمّ حيث أن مرجع الشبهة الوجوبية والشبهة الاعتقادية الى الشبهة التحريمية ، يقع التعارض بين « كلُّ شيءٍ مُطلق » ، وبين كلّ مورد يشمله أخبار التوقف .

مثلاً : أخبار التوقف تقول : توقف عن عمل يحتمل حرمته ، كشرب التتن ، وكذا عن حكم يحتمل حرمته ، كالحكم بالبرائة في الشبهة الوجوبية ، وكذا عن اعتقاد يحتمل حرمته ، كتوصيف اللّه سبحانه وتعالى بأنه مبتهج ، فانّ قسماً من الحكماء قال : بأنه يوصف بذلك فهو سبحانه في غاية الابتهاج والفرح ، لعلمه بأنه الأله الواحد العالم القادر المتّصف بسائر صفات الكمال ، وقسماً منهم قال : بأنه لايوصف بذلك ، اذ لعل الابتهاج من صفات البشر فلا يوصف به سبحانه كما لايوصف بأنه عاقل ، وعلى هذا فبين الطائفين تباين .

ص: 151

مع أنّ جميع موارد الشبهة التي أمر فيها بالتوقف لا يخلو من أن يكون شيئا محتمل الحرمة ، سواء كان عملاً أم حكما أم إعتقادا ، فتأمّل .

-------------------

وإلى هذا الاشكال أشار المصنِّف بقوله : ( مع ان جميع موارد الشبهة ) أي : الشبهة التحريميّة ، والشبهة الوجوبيّة ، والشبهة الاعتقاديّة ( التي أمر فيها بالتوقف لا يخلو من أن يكون شيئاً محتمل الحرمة ) فطائفة تقول : ان محتمل الحرمة يتوقف فيها وطائفة تقول : ان محتمل الحرمة يجري فيها البرائة ( سواء كان ) محتمل الحرمة ( عملاً ) مثل : شرب التتن الذي يحتمل حرمته وحليته .

( أم حكماً ) مثل : الحكم بالبرائة في الشبهة الوجوبيّة ، لأنّا لا نعلم ان حكمنا بالبرائة في هذه الشبهة يحرم أو يجوز ؟ .

( أم اعتقاداً ) كما عرفت في المثال بتوصيف اللّه سبحانه وتعالى بأنه مبتهج .

( فتأمل ) لعله اشارة الى أن أخبار التوقف منصرفة الى خصوص الشبهة التحريمية ، لا التي مرجعها الى الشبهة التحريمية ، اذ يمكن ارجاع كل شبهة إلى الشبهة التحريمية ، فإنّ دعاء الهلال - مثلاً - شبهة وجوبية مع أنه يمكن ارجاعها الى الشبهة التحريمية ، بأن نقول الدعاء اذا كان واجباً حرم تركه ، لكن مثل الدعاء عند رؤة الهلال المشكوك وجوبه وعدم وجوبه ، لا يسمى شبهة تحريميّة ، فلا يشمله روايات التوقف ، ويمكن أن يكون اشارة إلى ان النراقي رحمه اللّه انّما تكلم في حديث البرائة الذي رواه الشيخ الطوسي رحمه اللّه وهو قوله : « كلّ شيءٍ فيه حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرفَ الحَرام بعَينهِ » (1) لا الحديث الذي رواه

ص: 152


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، المحاسن : ص495 ح596 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

والتحقيق في الجواب ما ذكرنا .

الثالثة : ما دلّ على وجوب الاحتياط وهي كثيرة :

منها : صحيحةُ عبد الرحمن بن الحَجّاج : « قال : سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صَيدا

-------------------

الصدوق عليه الرحمة من قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) فلا يرد عليه اشكال المصنِّف .

وعلى أيّ حال : فحيث عرفت الاشكال في كلام النراقي نقول : ( والتحقيق في الجواب ) عن أخبار التوقف هو ( : ما ذكرنا ) : من حمل تلك الأخبار على الارشاد وقد عرفت تفصيله .

هذا تمام الكلام في الطائفة الثانية من الطوائف الأربع التي ذكرنا : ان الأخباريين استدلوا بها لوجوب التوقف في الشبهة التحريميّة .

وحيث انتهى الكلام من ذلك شرع المصنِّف في بيان الطائفة الثالثة ، فقال :

( الثالثة ) من تلك الطوائف الأربع ( ما دلّ على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة ) جداً .

( منها : صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه السلام ) ، موسى بن جعفر ( عن رجلين أصابا صيداً ) والمراد بالاصابة : إما القتل ، أو الصيد ، فانّ في الحج يحرم الصيد كما يحرم القتل ، وكذلك يحرم التنفير وما اشبه ذلك

ص: 153


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وَهُما محرمانِ ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحدٍ منهما جزاء ؟ قال : بل عليهما أن يَجزيَ كلُّ واحد منهما الصَّيدَ ، فقلتُ : إنّ بعضَ أصحابنا سألني عن ذلك ، فَلَم أدرِ ما عَلَيهِ . قال : إذا أصبتُم بمثل هذا ولم تَدرُوا فَعَلَيكُم الاحتياطَ حتّى تَسألوا وتَعلَمُوا » .

-------------------

ممّا هو مفصَّل في الفقه ( وهما مُحرِمان ، الجزاء بينهما ؟ ) أي : عليهما كفارة واحدة ، كلٌّ يعطي نصف الكفارة ( أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟ ) أي : مستقل ، فهما يعطيان كفارتين .

( قال : بل عليهما أنّ يَجريَ كلُّ واحد منهما الصّيد ) أ ي : عليهما كفارتان ، ويفهم من هذا : انّه اذا كانوا ثلاثة أو أربعه أو خمسة كان كذلك ، فكل واحد منهما يعطي كفارة مستقلة ، وليس مثل القتل ، فانه اذا قتل انسانان شخصاً واحداً كان على_'feكل واحد منهما نصف الدية ، واذا كان القتلة ثلاثة كان على كل واحد منهما ثلث الدية ، وهكذا .

( فقلت : انّ بعض أصحابنا ) من الشيعة التابعين لكم ( سألني عن ذلك فَلَم أدرِ ما عَلَيهِ ) حيث لم أعلم ان عليهما كفارة واحدة أو عليهما كفارتان ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( اذا أصبتم بمثل هذا ) أي : ابتليتم بمثل هذاالسؤل ( ولم تدروا ) ما هو حكمه ( فَعَلَيكُم الاحتياط حتى تسألوا وتَعلَمُوا ) (1) بتقريب : انّ الامام عليه السلام أمر بالاحتياط في كلّ مكان لايدري الانسان حكمه ، والشبهة التحريمية من ذلك ، فان الانسان إذا لم يعلم حرمة شرب التتن وعدم حرمته عليه بالاحتياط ،

ص: 154


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

ومنها : موثّقةُ عبد اللّه بن وضّاح ، على الأقوى : « قال : كتبتُ إلى العبد الصالح : يتوارى عنّا القُرصُ ويُقبِلُ الليلُ ويزيدُ الليلُ ارتفاعا ويستُر عنّا الشمسُ ويرتفعُ فوقَ الجبل حمرةٌ ويؤذّنُ عندنا المؤذّنون ، فأصلّي

-------------------

والاحتياط يقتضي عدم الشرب .

( ومنها : موثقةُ عبداللّه بن وضّاح على الأقوى ) أي : كون هذا الخبر موثقاً أقوى لوثاقة ابن الوضاح وفاقاً للنجاشي ، وخلافاً لابن الضغائري ، حيث ان ابن الغضائري يرى أن عبداللّه بن وضاح ضعيف ، فالرواية تكون ضعيفة .

ولا يخفى : ان ابن الغضائري يطعن في كثير من الرواة ، ولهذا أعرض جماعة كبيرة من العلماء عن تضعيفاته ( قال : كتبتُ الى العبد الصالح ) موسى بن جعفر عليهماالسلام ، وانّما قال : (العبد الصالح) للتقية ، فان التقية كانت من الشدّة بحيث لا يتمكن كثير من الشيعة ان يذكر اسم الامام عليه السلام ، ولهذا كانوا يطلقون عليه العبد الصالح فكتب اليه يسأله :

( يتوارى ) أي : يستتر ( عنّا القُرصُ ) أي : قرص الشمس في جهة المغرب ( ويُقبِلُ الليلُ ) بظلامهِ في الافق ( ويزيد الليل ارتفاعاً ) وظلاماً ( ويستر عنا الشمس ، ويرتفع فوقَ الجبل حمرةٌ ) لأنّ المنطقة كانت جبلية : والشمس اذا استترت وراء الجبل لا يعلم هل أنها غابت عن الافق أو لم تغب عن الافق ؟ وانّما يرى حُمرة فوق الجبل ولم يعلم انّها حمرة الشمس الباقية فوق الاُفق ، أو حُمرة بعد غروب الشمس عن الافق .

ثم كتب : ( ويؤِّن عندنا المؤّنون ) علامة على الغروب ( ف- ) هل ( أصلي

ص: 155

حينئذٍ واُفطِرُ إن كنتُ صائما او أنتظِرُ حتّى تَذهَبَ الحُمرَةُ التي فَوقَ الجَبلِ ؟ فكتَبَ عليه السلام : أرى لك أن تَنتَظِرَ حتّى تَذهَبَ الحُمرَةُ وتَأخُذَ بالحائطة لدينك » .

فان الظاهرَ أنّ قوله عليه السلام : « تأخذ » بيانُ مناط الحكم . كما في قولك للمخاطب : « أرى لك أن توفّي دينك وتخلّصَ نفسك » ؛ فتدلّ على لزوم

-------------------

حينئذٍ ) صلاة المغرب ؟ ( وأُفْطِرُ إن كنتُ صائماً ؟ أو أنتظِر حَتى تَذهَبَ الحُمرَةُ التي فوق الجَبلِ ) وأقطع بأن الشمس نزلت عن الافق ؟ .

( فَكتبَ عليه السلام ، أرى لك أن تَنتَظِر حَتّى تَذهَبَ الحُمرَة وتأخُذَ بالحائطةِ لدينك ) (1) أي : خذ الاحتياط في أمر دينك ، فانه حيث لم يعلم بأن صلاة المغرب يجوز أدائها أو يحرم أدائها - لأنه يحرم إتيان الصلاة قبل وقتها - أمره الإمام بالاحتياط ممّا يدل على ان الشبهة التحريميّة توجب الاحتياط .

( فان الظاهر : ان قوله عليه السلام ) : أرى لك أن ( تأخذ ) بالحائطة ليس معناه : ان تأخذ بالاحتياط في هذه المسألة فقط ، بل ذكر الإمام صغرى من كبرى كلية ، وهو : وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، وحيث ان هذا مصداق من مصاديق الشبهة التحريميّة أمره الامام بالاحتياط فيه .

وعليه : فقول الامام هذا ( بيان مناط الحكم ) فان مناط الحكم الكليّ منطبق على هذه المسألة الجزئية ، فيكون قوله عليه السلام هذا ، نظير محاوراتنا العرفية ( كما في قولك للمخاطب : أرى لك أن توفي دينك وتخلّص نفسك ) فانه ليس خاصاً بهذا المورد ، بل يدل على وجوب وفاء الدين مطلقاً ( فتدل ) الرواية ( على لزوم

ص: 156


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار: ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

الاحتياط مطلقا .

ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ ، بسند كالصحيح ، عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام : « قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام لكُميل بن زياد : أخُوكَ دِينُكَ فَاحتَط لِدينِكَ بما شِئتَ » .

وليس في السند إلاّ عليّ بن محمّد الكاتب الذي روى عنه المفيد .

ومنها : ما عن خطّ الشهيد في حديث طويل عن عنوان البصريّ

-------------------

الاحتياط مطلقاً ) أي : سواء في هذه المسألة أو سائر المسائل من موارد الشبهة التحريمية ، كما يقول به الأخباريون .

( ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ بسند كالصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال : قال أمير المؤنين عليه السلام لكُمَيل بن زياد : أخوكَ دينُكَ فاحتَط لدِينِكَ بما شئتَ ) (1) وانّما قال : « اخوكَ » ؛ لأن الأخ يسند الانسان في الحياة ويحفظه من الأخطار ، وكذلك الدين يسند الانسان ويحفظه ، والانسان الذي لا دين له معرَّض للقلق والأخطار .

هذا ( وليس في السند ) أي : في سند هذه الرواية انسان رمي بالضعف ( الاّ علي بن محمد الكاتب الذي روى عنه المفيد رحمه اللّه ) وهو المفيد الثاني ابن الشيخ الطوسي ، فيدل رواية المفيد عنه انه ثقة ، اذ لا يروي المفيد الثاني الاّ عن الثقة .

( ومنها : ما عن خط الشهيد ) الأول رحمه اللّه ( في حديث طويل عن عنوان البصريّ

ص: 157


1- - الأمالي للطوسي: ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول فيه : « سَل العلماء ما جَهِلتَ وإيّاكَ أن تسألهُم تعنُّتا وتَجربة ، وإيّاك أن تَعمَلَ برأيك شَيئا ، وَخُذِ الاحتياطَ في جميع امورك ما تَجِدُ إليه سَبِيلاً ، وَاهرب مِنَ الفُتيا هَرَبَكَ مِنَ الأسَد ، ولا تجعل

رقبَتك عَتَبَةً لِلنّاسِ » .

ومنها : ما أرسله الشهيد رحمه اللّه ، وحكى عن الفريقين

-------------------

عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول فيه : فاسأَل العلماء ما جَهلتَ ، وَإيّاكَ أن تَسألَهمُ تَعَنُّتاً ) بأن تسألهم لا للتعلّم ، بل لجهة التلبيس عليهم وطلب زلتهم ، كما يفعله الجاهلون بموازين الأخلاق .

( و ) اياك أن تسألهم ( تجربةً ) بان تسألهم لتستظهر أنّه عالم أو ليس بعالم ، فانّما التجربة صالحة بالنسبة الى العلماء الذين يشك في علمهم وعدم علمهم ، وليست بصالحة بالنسبة الى العلماء المعروفين بالعلم .

( وايّاك أن تَعمَل برأيك شيئاً ) رأياً قياسياً كان ، أو رأياً استحسانياً ، أو رأياً مستنداً الى المصالح المرسلة ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا لم يكن من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ( وَخُذ الاحتياط في جميع اُمورك ما تَجِدُ إليه سَبيلاً ) أي : ما دام تجد إلى الاحتياط طريقاً ( واهرَب مِنَ الفُتيا ) أي : الفتيا غير المستندة الى الأدلّة الأربعة ( هَرَبَك مِنَ الأسَد ) فانّ الأسد يفسد دنيا الانسان والفتيا الفاسدة تفسد دنيا الانسان وآخرته ( ولا تجعل رقَبتك عَتَبَة للنّاسِ ) (1) يعبرون عليها إلى الجنّة وانت تكون من أهل النار بسبب فتياك بغير الحق .

( ومنها : ما أرسله الشهيد ) الأوّل ( وحكى عن الفريقين ) السنّة والشيعة

ص: 158


1- - مشكاة الأنوار : ص328 ، وسائل الشيعة : ج27 ص172 ب12 ح33524 .

من قوله : « دَع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك ، فانّك لم تَجِد فَقدَ شيء تركته لِلّهِ عزّ وجلّ » .

ومنها : ما أرسله الشهيد رحمه اللّه ، أيضا من قوله عليه السلام : « لك أن تنظر الجَزمَ وَتأخُذَ بالحائطة لِدينِكَ » .

-------------------

( من قوله ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( دع ما يُريبك ) أي : اترك ما تشك في جوازه وعدم جوازه ( الى ما لا يُريبك ) يعني : اعمل بما لا شك فيه ، فاذا كان - مثلاً - شرب التتن مشكوك الحرمة ، وعدم شربه معلوم الجواز ، فدع شرب التتن المشكوك إلى عدم الشرب المعلوم الجواز .

هذا ، فيما إذا كان الشك وعدم الشك في طرف شيء واحد ، وكذا اذا كان في طرف شيئين ، كما اذا كان الوطي - مثلاً - في أثناء العشرة مشكوكاً فيه لاحتمال كونها في الحيض ، وبعد العشرة معلوم الجواز لإنتفاء ذلك الاحتمال ، فليترك الزوج الوطي في أثناء العشرة الى ما بعد العشرة .

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( فانّك لم تجد فَقدَ شيء تركته للّه عزّ وجلّ ) (1) اذ الشيء الذي يتركه الانسان خوفاً من اللّه عزوجلّ يجده في الدنيا قبل الآخرة ، فانّ اللّه سبحانه وتعالى يعطيه ثواب الدنيا وحُسنَ ثواب الآخرة .

(ومنها : ما أرسله الشهيد) الأوّل ( رحمه اللّه أيضاً من قوله عليه السلام : لك أن تنظر بالجَزمَ ) أي : تعمل بما تقطع بجوازه ( وتأخُذَ بالحائطة لِدينِكَ ) (2) فيما لا جزم لك فيه .

ص: 159


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى : ص138 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، الغارات : ص135 ، بحار الانوار : ج2 ص260 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص395 .

ومنها : ما أرسله عنهم عليهم السلام : « ليسَ بِناكِبٍ عَن الصِّراطِ مَن سَلَكَ سَبيلَ الاحتياط » .

والجواب : أمّا عن « الصحيحة » ، فبعدم الدلالة ،

-------------------

( ومنها : ما أرسله ) الشهيد الأول أيضاً ( عنهم عليهم السلام حيث قالوا : ( ليسَ بناكِبٍ ) أي : بمنحرف ( عن الصِّراط ) السَوي ( من سَلكَ سبيلَ الاحتياط ) (1) .

فانّ مَنْ لم يسلك سبيل الاحتياط يحتمل أن يكون ناكباً عن الصراط ، أما من سلكَ سبيل الاحتياط فانّه على الجادةِ المستقيمة .

( والجواب ) عن هذه الطائفة الثالثة من الأخبار التي استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط هو : إن رواياتهم هذه لا تدلّ على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريميّة ، وذلك كما قال : ( أمّا عن « الصحيحة » ) التي رواها ابن الحجّاج في جزاء الصّيد(2) ( فبعدم الدلالة ) لهذه الرواية على مقصد الأخباريين من الاحتياط ، ومُجمل ما ذكره المصنّف هو : انّه ماذا أراد الإمام عليه السلام من قوله ذلك ؟ هل اراد منه :أنكم ان لم تعلموا بان كفارة الصيد كاملة على كلّ منهما أو نصف كفارة فتكون المسئلة على هذا الاحتمال من الشّك بين الأقل والأكثر ، وفي الشك بين الأقل والأكثر لا احتياط بل يلزم الأقل ويجري البرائة عن الأكثر .

أو أراد عليه السلام : « انكم إنْ سئلتم عن مسألة ولم تَدرُوا جوابها فَعَليكم بالاحتياط » ، وهذا ما لا شك فيه ، فان الانسان لا يجوز له أن يفتي بشيء لا يعلمه ،

ص: 160


1- - بحار الأنوار : ج108 ص119 و ص187 بالمعنى و ص187 (بيان) ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص90 .
2- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

لأنّ المشارَ إليه في قوله عليه السلام : « بمثل هذا » إمّا نفسُ واقعة الصيد ، وإمّا أن يكون السؤال عن حكمها .

وعلى الأوّل : فان جعلنا الموردَ من قبيل الشك في التكليف ، بمعنى أنّ

-------------------

وعلى هذا التقدير تخرج هذه الرواية عن كونها دليلاً على الاحتياط الذي ذكره الأخباريون في الشبهة التحريمية ، وانّما قال : « لا دلالة للصحيحة » ( لأنّ المشار إليه في قوله عليه السلام : « بمثل هذا » ، إما نفسُ واقعة الصيد ) بمعنى : انّه اذا وقعتم في مسألة لا تعلمون ان الواجب فيها هل هو الأقل أو الأكثر ؟ كما اذا لم تعلموا بان عليكم دين خمسة دنانير أو عشرة ، أو عليكم صيام ثلاثة أيام أو سبعة ، أو عليكم صلاة عشرين يوماً أو صلاة ثلاثين ؟ ( وإمّا أن يكون السؤل عن حكمها ) أي : إذا سئلتم عن مسألة لاتدرون حكم المسألة ، كما في مورد الصحيحة حيث ان السائل سأل عن حكم الصيد وهو لا يعلم الحكم .

( وعلى الأول ) : وهو أن يكون المراد : عدم العلم بأن جزاء الصيد هل هو النصف أو كفارة واحدة ؟ فهنا يحتمل أمران :

أولاً : ان يكون شكاً في التّكليف ، بأن كان من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين ، كالأمثلة التي ذكرناها .

ثانياً : أن يكون شكاً في المكلّف به ، بأن كان الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، كما انّه اذا لم يعلم هل فاتته صلاة الصبح حتى تجب عليه ركعتان ، أو صلاة الظهر حتى تجب عليه أربع ركعات ؟ فانّه وان كان شكاً بين الأقل والأكثر ، لأنّ الركعتين والأربع أقل وأكثر ، الاّ انهما من الأقل والأكثر الارتباطيين .

وعليه : ( فان جعلنا الموردَ من قبيل الشك في التكليف ) كما مثلنا له بالأمثلة الثلاثة السابقة في الدَّين والصلاة والصيام ، ( بمعنى : انّ

ص: 161

وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقن ويشكّ في وجوب النصف الآخر عليه ، فيكونُ من قبيل وجوب أداء الدين المردّد بين الأقل والأكثر ، وقضاء الفوائت المردّدة ، والاحتياطُ في مثل هذا غيرُ لازم بالاتفاق ، لأنّه شكّ في الوجوب ، وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة ، لأجل هذه الصحيحة وغيرها ،

-------------------

وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقن ، ويشك في وجوب النصف الآخر عليه ، فيكون ) الحكم في جزاء الصيد ( من قبيل ) الأقل والأكثر الاستقلاليين مثل : ( وجوب اداء الدين المردّد بين الأقل والأكثر ، وقضاء الفوائت المردّدة ) بين الأقل والأكثر ، إلى غير ذلك منَ الأمثلة في باب الشك بين الأقل والأكثر الاستقلايين ، فيكون الأقل يقينياً ، والأكثر شكاً في أصل التكليف .

( و ) من المعلوم عند الاُصوليين والاخباريين جميعاً : ان ( الاحتياط في مثل هذا ) أي : الشك بين الأقل والأكثر الاستقلايين ( غير لازم بالاتفاق ، لأنّه شك في الوجوب ) فقد وجب عليه نصف الصيد ويشك في ان النصف الآخر هل يجب عليه أيضاً ام لا ؟ فالاصل عدم وجوب النصف الآخر عليه .

( وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله مما ثبت التّكليف فيه في الجملة ) بأن قلنا بأنه يجب الاحتياط في الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، فاذا شك - مثلاً - في ان الفائتة منه ثلاثة أو خمسة وجب عليه الخمسة ، أو انّ الصيام الفائت منه يومان أو أربعة وجب عليه أربعة ، أو أنه مديون لزيد ديناراً أو دينارين ؟ وجب عليه ديناران ، وذلك ( لأجل هذه الصحيحة وغيرها ) فانه اذا قلنا بذلك ورد عليه اشكالان :

ص: 162

لم يَكن ما نحن فيه من الشبهة مماثلاً له ، لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا .

وإن جعلنا الموردَ من قبيل الشكّ في متعلّق التكليف ، وهو المكلّف به ،

-------------------

أولاً : ( لم يكن ما نحن فيه من الشبهة مُماثلاً له ) أي : مُماثلاً لمورد الرّواية ، لأن كلامنا في الشبهة التحريميّة ، ومورد الرّواية : الشبهة الوجوبيّة .

ثانيا : انّ كَلامنا في الشبهة التحريميّة شبهة بدوية ، ومورد الرواية الشبهة الوجوبيّة شبهة مقرونة بالعلم الاجماليّ في الجملة .

وانّما لم يكن مشابها لمورد الرواية ( لعدم ثبوت التكليف فيه ) أي : فيما نحن فيه ( رأساً ) واطلاقاً ، فانّ الشك في حرمة التتن شك بدوي محضٌ لا يشمله الصحيحة ، فلا تكون الصحيحة دليلاً على ما نحن فيه .

والحاصل : ان الشبهة التحريمية البدوية التي كلامنا فيها ليست مُماثلة للرواية الدالة على الشبهة الوجوبية المقرونة بالعلم الاجماليّ ، لأنه يعلم إجمالاً بأنّ الواجب عليه إما نصف الجزاء ، أو كل الجزاء ، بينما في شرب التتن لا علم له اطلاقاً بالتحريم ، وانّما الشبهة فيه بدوية .

هذا ( وان جعلنا الموردَ ) أي : مورد الرواية ( من قبيل الشك في متعلق التكليف وهو المكلّف به ) وهذا عطف على قوله : « وعلى الأوّل » ، فان جعلنا المورد من قبيل الشك في التّكليف حيث قسّمنا الاحتمال الأوّل في الرواية الى هذين القسمين : بان يكون شكاً في التّكليف ، وقد عرفت حكمه ، وان يكون شكاً في المكلّف به ، بأن نعلم التكليف ، ولا نعلم ان المكلّف به هل هو هذا أو ذلك ؟ فيكون مورد الرواية كما إذا علم الانسان بوجوب صلاة عليه ظهر الجمعة لكنّه لا يعلم هل انّ الواجب عليه هو الظهر أو الجمعة ؟ .

وانّما يكون مسألة الصيد من الشك في متعلق التكليف أي : المكلّف به

ص: 163

لكون الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر غيرَ واجب بالاستقلال ، نظير وجوب التسليم في الصلاة ، فالاحتياطُ فيها وإن كان مذهبَ جماعة من المجتهدين أيضا ، إلاّ أنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ليس مثلاً لمورد الرواية ، لأنّ الشكّ فيه في أصل التكليف .

-------------------

( لكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال ) لأنه ارتباطي فاذا أعطى نصف الجزاء وكان الواجب عليه جزاءاً كاملاً ، لم يفعل أي شيء ( نظير وجوب التسليم في الصلاة ) فانّه اذا شك في كون الصلاة ذات عشرة أجزاء عاشرها التسليم ، أو ذات تسعة أجزاء ، فلا يجب التسليم ، فهو من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين فاذا أتى بالصلاة ذات التسعة أجزاء وكان الواجب عليه عشرة لم يأت بالصلاة اطلاقاً .

وعليه : ( فالإحتياط فيها ) أي : في هذه الشبهة الدائرة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( وان كان مذهب ) جميع الأخباريين و ( جماعة من المجتهدين أيضاً ) حيث أوجب جماعة من المجتهدين الاحتياط باتيان الأكثر فيما إذا كان الشك بين الأكثر والأقل الارتباطيين . ( إلاّ إنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ) كشرب التتن الذي لا نعلم انه حرام أوليس بحرام ( ليس مثلاً لمورد الرواية ) .

وانّما لا يكون مثلاً لمورد الرواية ( لأن الشك فيه ) أي : فيما نحن فيه ( في أصل التّكليف ) وانه هل يحرم شرب التتن أم لا ؟ بخلاف مورد الرواية فانّ الشك فيه بعد العلم بوجوب شيء حيث يشك في أن الشيء هو الأقل أو الأكثر ؟ فلا تكون الرواية دليلاً على ما نحن فيه من الاحتياط في الشبهة التحريميّة الذي يقول به الاخباريون .

ص: 164

هذا مع أنّ ظاهر الرواية التمكّنُ من استعلام حكم الواقعة بالسؤال والتعلّم فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة ، حتّى يتعلم المسألة لما تستقبل من الوقائع .

ومنه يظهر : أنّه إن كان المشار إليه ب- « هذا » هو السؤال عن حكم الواقعة - كما هو الثاني من شقيّ الترديد -

-------------------

( هذا ) بعض الجواب عن الصحيحة ( مع أن ظاهر الرواية ) حيث قال عليه السلام : حتى تسألوا وتعلموا هو : صورة ( التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسؤل والتعلّم ) من الإمام عليه السلام أو من العلماء العارفين بحكم المسألة ، فالرواية إنّما هي في حق من يتمكن من العلم ( فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصية ) التي يبتلى بها المكلّف ويتمكن من الاستعلام ، فانه قبل الاستعلام يجب عليه الاحتياط (حتى يتعلم المسألة لما تستقبل من الوقائع) .

وعليه : فالرواية لا ترتبط بما نحن فيه ، إذا المفروض في الشبهة التحريميّة : عدم التمكن من التعلم ، فيجري هنا البرائة وان كان الاحتياط هو حكم من يتمكن من التعلم .

( ومنه ) أي : مما ذكرناه : من ان ظاهر الرواية : صورة التمكن من الاستعلام ، فلا ترتبط الرواية بما نحن فيه من صورة عدم التمكن من الاستعلام ( يظهر : انّه إن كان المشار اليه ب- « هذا » ) في قوله عليه السلام : « اذا اصبتم بمثل هذا »(1) ( هو السؤل عن حكم الواقعة ، كما هو الثاني من شقي الترديد ) حيث قال المصنّف : أن المشار اليه في قوله : « بمثل هذا » اما نفس واقعة الصيد ، واما أن يكون السؤل عن حكمها فانه على تقدير السؤل عن الحكم ، ما يكون المراد من الاحتياط الذي أمر

ص: 165


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

فان اريد بالاحتياط فيه الافتاءُ لم ينفع فيما نحن فيه ، وإن اريد من الاحتياط الاحترازُ عن الفتوى فيها أصلاً حتّى بالاحتياط فكذلك .

-------------------

به الإمام عليه السلام ؟ احتمالان ، اشار الى الأول بقوله :

( فانّ اُريد بالاحتياط فيه ) أي : في حكم الواقعة ( الافتاء ) وقوله : « الافتاء » نائب فاعل لقوله : « اريد » بمعنى : إنّه إن كان مراده عليه السلام : انه اذا أصبتم بمثل هذا السؤل الذي لا تدرون جوابه فعليكم أن تفتوا بوجوب الاحتياط ، ومن الواضح : إنّ الاحتياط في مثل المقام هو وجوب كفارة كاملة على كل من الاثنين الذين أصابا بالصيد .

فان كان هذا هو المراد ، فانّه ( لم ينفع فيما نحن فيه ) من حكم الشبهة التحريمية لوضوح : ان الافتاء بالاحتياط في واقعة لا يعلم المسؤل حكمها حتى يتعلم بالرجوع إلى الإمام أو إلى العالم ، حيث أمره الإمام بالاحتياط فيالافتاء ، لايدل على انّ كلّ شبهة تحريميّة وان لم يتمكن من التعلم يجب على الانسان الاحتياط فيها .

هذا ، اذا أريد بالاحتياط : الفتوى بالاحتياط ، يعني : ان يقول للسائل : إحتاطوا باعطاء كل واحد منكما كفارة كاملة .

وأشار الى الاحتمال الثاني بقوله : ( وإن اُريد من الاحتياط : الاحتراز عن الفتوى فيها ) أي : في هذه المسألة ، بمعنى : ان الإمام عليه السلام قال للراوي : عليك أن تحتاط ولا تفتي في المسألة بشيء ( أصلاً ، حتى بالاحتياط ) يعني : إن الإمام قد يقول للراوي : أفتِ بالاحتياط ، وقد يقول للراوي : لا تفتِ بشيء وأمسك حتى عن الفتوى بالاحتياط ، فان كان المراد منه هذا ( فكذلك ) لا ينفعنا لما نحن فيه من حكم الشبهة التحريميّة ، لوضوح : ان وجوب التوقف عن الافتاء عند التمكن من الاستعلام لا يدل على وجوب الاحتياط عند عدم التمكن من الاستعلام ، بل تبقى

ص: 166

وأمّا عن « الموثّقة » : فبأنّ ظاهرها الاستحبابُ .

والظاهرُ أنّ مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعيّة ، لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارةً عليها ،

-------------------

أدلة البرائة خالية عن المعارض ، فيلزم حينئذٍ أن نقول بأن في الشبهة التحريميّة تجري البرائة وليست الصحيحة شاملة لما نحن فيه .

( وأما ) الجواب ( عن المُوثقة ) أي : موثقة عبداللّه بن وَضاح (1) ، الذي سأل عن الشك في استتار القرص ، وانّه هل يجوز له ان يصليّ أو أن يفطر أم لا ؟ ( فبأنّ ظاهرها : ) حيث قال له الإمام عليه السلام : أرى لك أن تنتظر هو : ( الاستحباب ) لأنه إذا كان ذلك واجباً كان الإمام يفتي باللزوم ، فأذا سأل انسان من الإمام عن الدم - مثلا - لا يقول له الإمام : أرى لك أن تجتنب عنه ،وانّما يقول له : الدم نجس .

( والظاهر : انّ مراده ) عليه السلام : ( الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعيّة ) فان السائل لم يكن له شبهة حكمية وان الغروب يحصل بماذا ، وانّما كان شاكاً في الموضوع وانه هل حصل الغروب أم لا ؟ وذلك لحيلولة الجبل بينه وبين الشمس ، حيث قال السائل : ويستر عنا الشمس ويرتفع فوق الجبل حُمرة .

وعليه : فالسائل يعرف الحكم وانّما يشك في الموضوع ( لإحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة ) في طرف المغرب فوق الجبل ( أمارة عليها ) أي : على الشمس وانها باقية فوق الاُفق ، وان النور هو نور الشمس الظاهر في الافق ، كما يحتمل أن تكون الحُمرة هي الحُمرة المغربية الظاهرة بعد غروب

ص: 167


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

لأنّ إرادةَ الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدةٌ عن منصب الإمام عليه السلام ، لأنّه لايقرّر الجاهل بالحكم على جهله .

ولا ريبَ أنّ الانتظار مع الشكّ في الاستتار واجبٌ ، لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة .

-------------------

الشمس ، فان هناك حُمرتان : حُمرة الشمس وحُمرة تظهر بعد غروب الشمس .

وانّما قلنا : ان الشبهة موضوعيّة ( لأنّ ارادة الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدة عن منصب الإمام عليه السلام ) فان الإمام إذا سئل عن الكلب أنجسٌ هو ، أو طاهر ، لا يقول الإمام إحتط ، لكن إذا سئل عن حيوان شرب من الاناء ، لا يعلم انّه شاة أو كلب يقول الإمام : إحتط ، ويكون إحتياطه إستحبابياً ، فسؤل الراوي كان من الشبهة الموضوعية ، وهو : هل تحقق وقت الصلاة أم لا بظهور الحُمرة فوق الجبل ، لا عن الشبهة الحكميّة بانه لا يدري هل وقت الصلاة والافطار المغرب أو الغروب ؟ .

وانّما قلنا: الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيد عن منصب الإمام (لأنّه) أي: الإمام عليه السلام (لا يقرر) أي : لا يبقي (الجاهل بالحكم على جَهلِه) وانّما يُبيّن له الحكم .

والحاصل : انّ الشبهةَ موضوعيّةٌ ، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ، فانّ الاخباريين والاُصوليين متفقان على عدم وجوب الاحتياط في مثل هذه الشبهة ، وحيث ان الاستصحاب هنا مُحكمٌ وليس المقام كالشبهة الموضوعيّة البدوية ، نقول : بوجوب الصَبر حتى يتيقن بالمغرب ، فالإحتياط في هذه الرواية بمعنى الصبر إلى التيقن ، لا الاحتياط الاصطلاحي .

( و ) لهذا قال المصنّف : ( لا ريب ان الانتظار ) حتى يتيقن بدخول المغرب ، والاحتياط ( مع الشك في الاستتار واجب ، لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل ، و ) استصحاب ( الاشتغال بالصوم ، وقاعدة الاشتغال بالصلاة ) فانّه يلزم أن يتيقن

ص: 168

فالمخاطبُ بالأخذ بالحائطة هو الشاكُّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة ، ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقينا ، لا مطلق الشاكّ ،

-------------------

الانسان بالليل حتى يفطر ، ويلزم أن يتيقن بالليل حتى يُصلي المغربين ، فيكون الاحتياط في المقام واجب لمكان الاستصحاب ، وإلاّ فظاهر الرواية لولا ما ذكرناه هو الاستحباب .

وعليه : فقد تبين ان الحديث لا يكون دليلاً على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، وذلك لما يلي :

أولاً : الشبهة موضوعيّة .

ثانياً : انّها وجوبيّة .

ثالثا : ان ظاهر الرواية ، إستحباب الاحتياط ، لولا الاستصحاب .

رابعاً : انّه على تقدير الوجوب انّما هو في مكان يجري فيه الاستصحاب لوجود حالة سابقة في الشبهة البدوية التي هي محلُ الكلام .

إذن : ( فالمخاطب بالأخذ بالحائِطة هو : الشاك في برائة ذمته عن الصوم والصلاة ) لا الشاك شبهة بدوية تحريميّة ، اذ قد عرفت : انّ هناك استصحاباً يقتضي الحكم بالنهار حتى يثبت الليل ( ويتعدى منه ) أي : من مورد هذه الرواية ( إلى كل شاك في برائة ذمته عمّا يجب عليه يقيناً ) بان كان مورداً للاستصحاب ، فانّه لا يجوز نقض الحالة السابقة ، مثلا : اذا شك الرجل في انّ المرأة صارت زوجته ام لا ، أو شكت المرأة في انّ الرجل صار زوجاً لها أم لا ؟ أو شك في ان المكان المغصوب صار مباحاً أم لا ؟ او شك في ان مورثة مات حتى يرثه ام لا ؟ الى غير ذلك مما يجري فيه إستصحاب ( لا مطلق الشاك ) ليشمل ما نحن فيه

ص: 169

لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقن التكليف لا يجبُ عليه الاحتياطُ باتفاق من الاخباريّين أيضا .

-------------------

من الشبهة البدوية التحريميّة ( لأنّ الشاك في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقن التّكليف ) بحيث لم يكن هناك إستصحاب ( لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الاخباريين أيضاً ) كما إتفق عليه الاُصوليون .

والحاصل : ان مورد الرواية خاص بقضية الغروب ، والتعميم المستفاد منها عرفاً انّما هو فيما كان الاستصحاب يقتضي الاحتياط كالأمثلة المتقدمة ، أما اذا لم يكن إستصحاب سابق كالشك في حرمة التتن فهو غير مشمول لهذه الرواية ، فلا يتمكن الأخباريون أن يستدلوا بها للاحتياط في الشبهة التحريميّة .

ثم لا يخفى : ان المشهور عند العامة كفاية استتار القرص في الافطار وصلاة المغرب ، والمشهور بين الشيعة لزوم المغرب في كلا الأمرين ، فان العامة يرون كفاية نزول الشمس عن الاُفق الحسي ، والشيعة يرون لزوم نزولها عن الاُفق الحقيقي أي : نصف الكرة الأرضية .

أمّا علامة نزولها عن الاُفق الحقيقي فهو : ظهور الحُمرة المشرقية من طرف المشرق حتى اذا جازت هذه الحُمرة قمة الرأس إلى طرف المغرب كان ذلك علامة نزول الشمس عن الاُفق الحقيقي وسقوطها تحت الأرض ، فتصح حينئذٍ صلاة المغرب ويجوز إفطار الصائم .

هذا هو المشهور ،لكن بعض الشيعة ذهب إلى رأي العامة في كفاية استتار القرص من الاُفق الحسي ، فبمجرد ان لم ير الانسان الشمس في الصحراء جاز له الافطار والصلاة ، والمصنّف الى الحال يتكلم في توجيه الرواية على مذهب هذا البعض الموافق للعامة ، ومن هنا شرع في معنى الرواية على مذهب مشهور

ص: 170

هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون الحمرة غير الحمرة المشرقيّة ، ويحتمل بعيدا أن يُراد من الحمرة ، الحمرةُ المشرقيّةُ التي لابدّ من زوالها في تحقق الغروب .

وتعليله حينئذٍ بالاحتياط ،

-------------------

الشيعة فقال : ( هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون ) المراد من ( الحُمرة ) في الرواية التي ذكر انّها ترتفع فوق الجبل ( غير الحُمرة المشرقية ) التي تظهر من جانب المشرق وتأتي إلى قمة الرأس ثم تميل نحو المغرب ، فانه عند ميلان الحُمرة المشرقية يتحقق المغرب عند مشهور الشيعة ، وانّما كان المراد من الحُمرة في الرواية : الحمرة المغربية التي ترافق الشمس وهي تغرب .

( ويحتمل بعيداً أنّ يراد من الحُمرة ) في الرواية ( : الحُمرة المشرقية التي لابد من زوالها في تحقق الغروب ) الشرعيّ الذي هو المغرب الحقيقي عند مشهور الشيعة .

ان قلت : ان كان معيار جواز الصلاة والافطار : « الحمرة المشرقية » ، فلماذا أفتى الإمام عليه السلام السائل بالاحتياط ، فانه كان ينبغي له بيان ذلك صريحاً ؟ .

قلت : لعله كان لأجل التقية من العامة حتى اذا استشكلوا على السائل : بانه لماذا تؤر افطارك وصلاتك مع ان القرص قد غاب ؟ أجابهم : بأني غير متيقن بالغروب فاحتاط لديني .

( وتعليله ) أي : تعليل الإمام الانتظار ( حينئذٍ ) أي : حين أراد بالحمرة التي لابدّ من زوالها الحمرة المشرقية ( بالاحتياط ) حيث قال عليه السلام : « أرى لك أن تنتظر

ص: 171

وإن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه السلام ، كما لايخفى ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون هذا النحوُ من التعبير لأجل التقيّة ، لايهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ، لا انّ المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار .

-------------------

حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » (1) ، فان تعليل هذا بالاحتياط ( وان كان بعيداً عن منصب الإمام عليه السلام ) إذ كان من حقّ المطلب أن يبيّن الإمام ان الغروب لايحصل الاّبذهاب الحمرة المشرقيّة ( كما لا يخفى ) لأن الأئمة عليهم السلام انّما نصّبهم اللّه سبحانه وتعالى لبيان الأحكام .

( إلاّ إنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقية ) من المخالفين ( لإيهام ) أي : ان هذا التعبير يوقع في وهم العامة ( انّ الوجه في التأخير هو : حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ) أي :عدم الاستتار ( لا إن ) الوجه في التأخير هو : ان ( المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار ) وانّما يدخل بغروب الشمس من الاُفق الحقيقي .

ويؤد كون الإمام في مقام التقية : انه عليه السلام قال : « أرى لك » ، فان هذا اللفظ ظاهر في الاستحباب ، مع أنه يجب على السائل الانتظار حتى يدخل المغرب اذ بدون زوال الحُمرة المشرقية عن قمه الرأس لا يجوز الافطار والصلاة ، فلولا التقية كان عليه السلام يقول : يجب عليك الانتظار ، فقوله : « أرى لك » في مقام الوجوب مشعر بالتقية حيث ان الإمام ما كان يريد ردّ العامة رداً صريحاً ، فهو مثل أن

ص: 172


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

كما أنّ قوله : « أرى لك » ، يستشمّ منه رائحة الاستحباب ، فلعلّ التعبيرَ به مع وجوب التأخير من جهة التقيّة .

وحينئذٍ : فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلاّ على رجحانه .

-------------------

يقول عليه السلام : أرى لك أن لا تصلي صلاة التراويح ، لأنك تعبان ، فانه تقية من مَنْ يرى صلاة التراويح ولولا التقية لكان يقول : لا يجوز صلاة التراويح .

( كما أن قوله ) عليه السلام : ( « أرى لك » يستشم منه رائحة الاستحباب ( فلعل التعبير به ) أي : بما ظاهره الاستحباب ( مع وجوب التأخير ) كما هو مذهب المشهور عند الشيعة ( من جهة التقية ) على ما عرفت وجهه .

( وحينئذٍ ) أي : إذا كان قوله : « أرى لك » ، ظاهراً في الاستحباب ( فتوجيه الحكم بالاحتياط ) أي : تعليل الإمام إستحباب الانتظار بقوله : وتأخذ بالحائطة ( لا يدل الاّ على رجحانه ) أي : رجحان الاحتياط ، لأنّ علة المستحب مستحب ، فكأن الإمام عليه السلام قال : يستحب الانتظار لأنه إحتياط ، فاذا كان المعلول وهو الانتظار مستحباً ، يكون العلة وهو الاحتياط مستحباً ، فلا يمكن أن يستدل بهذه الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، كما أراده الأخباريون .

وإن شئت قلت : إنّ الاحتياط في مورد الموثقة وإن كان واجباً لاستصحاب النهار على ما عرفت إلاّ ان التعبير به لما كان لاجل التقية لابد أن يراد به الاستحباب لعدم اندفاع التقية إلاّ به ، كما عرفت تفصيله .

وعلى أي حال : فالرواية لا تدل على مذهب الأخباريين ، لانّها اما لبيان حكم الشبهة الموضوعيّة ، وقد تقدّم ان الأخباريين أيضاً يقولون بعدم وجوب الاحتياط فيها ، أو لبيان الشبهة الحكميّة فيرد عليه ما يلي : أولاً : ان الرواية في مورد وجود الاستصحاب لا الشبهة البدوية التحريميه التي هي محل الكلام .

ص: 173

وأمّا عن رواية الأمالي ، فبعدم دلالتها على الوجوب ، للزوم إخراج أكثر موارد الشبهة ، وهي الشبهة الموضوعيّة مطلقا والحكميّة الوجوبيّة .

-------------------

ثانياً : ان ظاهر الرواية : الاستحباب لأجل التقية لا الوجوب ، فلا تدل الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية .

( وأمّا ) الجواب ( عن رواية الأمالي ) المتقدمة حيث قال عليه السلام : « أخُوكَ دينُك فاحتَط لدِينكَ » (1) فانه يلزم حملها على مطلق الرجحان لأننا اذا حملنا هذه الرواية على وجوب الاحتياط خرج منها موارد استحباب الاحتياط ، وان حملناها على الاستحباب خرج منها موارد وجوب الاحتياط ، وذلك ما أشار اليه المصنّف بقوله ( فبعدم دلالتها على الوجوب ، للزوم اخراج أكثر موارد الشبهة ) من تحت الرواية وخروج الأكثر من تحت العام أو المطلق مستهجن .

أمّا خروج أكثر موارد الرواية فهو ما أشار اليه بقوله : ( وهي ) أي : الموارد الخارجة عبارة عن ( الشبهة الموضوعيّة مطلقاً ) وجوبية كانت أو تحريميّة ( والحكميّة الوجوبية ) وقد عرفت : ان الأخباريين والاُصوليين متفقون على خروج هذه الشبهات الثلاث عن وجوب الاحتياط .

هذا ، مضافاً إلى اشكال آخر ذكره بعضهم ، وهو : انّ هذه الرواية آبية عن التخصيص ؛ لوضوح : ان حصر الأخوة في الدين يقتضي الاحتفاظ عليه في كلّ زمان ومكان ، وحياطته من كل زيادة ونقصان وانّما نقول بالحصر ، لأنه قدّم أخوك وذلك مشعر بالحصر فهو مثل قوله : «الشاعر زيد» .

ص: 174


1- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والحملُ على الاستحباب أيضا مستلزمٌ لاخراج موارد وجوب الاحتياط ، فيحمل على الارشاد او على الطلب المشترك بين الوجوب والندب .

وحينئذٍ: فلا ينافي وجوبه في بعض الموارد وعدمَ لزومه في بعض آخر،

-------------------

( والحمل على الاستحباب ) أي : حمل الرواية على إستحباب الاحتياط ( أيضاً مستلزم لاخراج موارد وجوب الاحتياط ) كموارد الشك في المكلّف به ، والشك قبل الفحص ، والشبهة البدوية في الدماء ، والفروج ، والأموال ، ونحو ذلك ، وقد عرفت : أنها آبية عن التخصيص أيضاً .

وحيث لم نتمكن من حمل الرواية على الوجوب فقط ، أو على الاستحباب فقط ( فيحمل على الارشاد ) والارشاد مشترك بين الوجوب والندب ، فنستكشف انه واجب أو ندب من الخارج ، إذ قد عرفت سابقاً : ان الأمر الارشادي ليس فيه ثواب وعقاب بنفسه ، وانّما الثواب والعقاب في متعلقه ، فهو مثل قول الطبيب : « إشرب الدواء » حيث يجب أن نعرف من الخارج هل هذا الدواء واجب شربه أو مستحب شربه ؟ ( أو ) يحمل ( على الطلب ) المولوي لا الارشادي ، ولكن الطلب المولوي ( المشترك بين الوجوب والندب ) فهو مثل قوله : « إغتسل للجمعة والجنابة » حيث انه يميّز من الخارج ان غسل الجمعة مستحب وأن غسل الجنابة واجب .

( وحينئذٍ ) أي : حين حملنا الأمر بالاحتياط في هذه الرواية على الارشاد ، أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ( فلا ينافي ) كل من الارشاد أو الاشتراك . ( وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( في بعض الموارد ) كالموارد التي ذكرناها : من الشك في المكلّف به ، الى آخره ( وعدم لزومه في بعض آخر ) كالشبهة البدوية ، والمقرونة بالعلم الاجمالي التي بعض أطرافها خارج أو مضطر

ص: 175

لأنّ تأكّد الطلب الارشاديّ وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ، لأنّ الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرّة ، فيختلف رضاء المرشد بتركه وعدم رضائه بحسب مراتب المضرّة كما أنّ الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة اللّه ورسوله للارشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات ،

-------------------

اليه أو ما أشبه .

وانّما قلنا : بأنه لا ينافي وجوبه في بعض الموارد وعدم لزومه في بعض آخر ( لأن تأكد الطلب الارشادي ) إلى حد المنع من النقيض ( وعدمه ) أي : عدم التأكد حتى يكون متعلقه مستحباً انّما هو ( بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ) الخارجي الذي هو متعلق الطلب ، فاذا كان الفعل ممنوعاً فنقيضه يكون واجباً ، واذا لم يكن ممنوعاً فنقيضه يكون مستحباً ، ففي التتن مثلاً يستحب الاحتياط لانه من الشبهة البدوية خارجاً ، اما الاناءان المشتبهان فيجب الاحتياط فيهما لانهما في الخارج من المقرون بالعلم الاجمالي .

وإنّما لا يتنافى ( لأن الاحتياط هو الاحتراز عن موارد إحتمال المضرة ، فيختلف رضاء المرشد ) بصيغة اسم الفاعل ( بتركه ) أي : ترك الاحتراز ( وعدم رضائه ) بتركه ( بحسب مراتب المضرة ) فان كانت المضره كثيرة لايرضى المولى بترك الاحتياط ، واذا كانت المضرة قليلة رضي المولى بتركه ، فيكون الأمر بالاحتياط في المشتبهات للارشاد ( كما ان الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة اللّه ورسوله للارشاد ، المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات ) فأوامر طاعة اللّه يراد بها الوجوب فيما كان متعلق الطاعة واجباً ، ويراد بها الندب فيما كان متعلق الطاعة مندوباً .

ص: 176

هذا ، والذي يقتضيه دقيق النظر أنّ الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير الالزاميّ ، لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط لا جميع مراتبها ولا المقدار الواجب .

والمرادُ من قوله : « بما شئت » ، ليس التعميمَ من حيث

-------------------

وحيث تقدّم بعض الكلام في الأوامر الارشادية ، وانه لماذا يكون قوله تعالى : « أطيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرَّسول » (1) أمرا إرشادياً لا مولوياً ، فلا داعي إلى تكراره هنا.

( هذا ) هو الذي قد يستظهر من الرواية وإن المراد من الأمر بالاحتياط : الارشاد ليعم الاحتياط الواجب والمستحب ( و ) لكن ( الذي يقتضيه دقيق النظر : ان الأمر المذكور بالاحتياط ) في قوله عليه السلام : « إحتط لدينك » (2) ، هو ( لخصوص الطلب غير الالزامي ) فهو اما استحبابي ، واما ارشادي إلى المستحب ( لأنّ المقصود منه : بيان أعلى مراتب الاحتياط ) وأعلى المراتب مستحب كما لايخفى.

( لا ) ان المقصود منه بيان ( جميع مراتبها ) أي : مراتب الاحتياط ، فان جميع مراتب الاحتياط مشتمل على الواجب والمستحب ( ولا المقدار الواجب ) الذي هو في أمثال الشك في المكلّف به ، وفي الأموال ، والاعراض ، والدماء ، وما اشبه ذلك ، فان محتملات هذه الرواية ثلاثة : أعلى المراتب وهو المستحب فقط ، وجميع المراتب المشتمل على الواجب والمستحب ، والمقدار الواجب فقط .

( والمراد من قوله : « بما شئت » ) في أخير الرواية ( : ليس التعميم من حيث

ص: 177


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

القلّة والكثرة والتفويض إلى مشيّة الشخص ، لأنّ هذا كلّه مُنافٍ لجعله بمنزلة الأخ ، بل المرادُ أنّ أيّ مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلّها ، وليس هُنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسنُ بالنسبة إلى الدين ، لأنّه بمنزلة الأخ الذي هو لك وليس بمنزلة سائر الامور لايستحسنُ فيها بعضُ مراتب الاحتياط ، كالمال

-------------------

القلّة والكثرة والتفويض الى مشية الشخص ) ليكون بمعنى قوله : من شاء استقل ومن شاء استكثر ، بل المراد منه خصوص المستحب .

وإنّما يكون المراد منه : خصوص الاحتياط المستحب ( لأن هذا كله ) أي : إرادة جميع المراتب ، أو المقدار الواجب والتفويض إلى مشية الشخص قلة وكثرة ( منافٍ لجعله ) أي : لجعل الدين ( بمنزلة الأخ ) في قوله عليه السلام : « أخُوكَ دينُك » فهو بمنزلة أن يقال : أخوك هذا العالم فاحترمه بما شئت ، حيث ان ظاهره : الاحترامات المستحبة ، لا الاحترامات الواجبة ، والاّ لم يقل بما شئت فيكون صدر الحديث قرينة لذيله ( بل المراد انّ أي مرتبة من ) المراتب العالية المستحبة من ( الاحتياط شئتها ) فاعملها ( فهي في محلها ، و ) حَسنة في نفسها .

ان قلت : إنّ بعض مراتب الاحتياط لا يكون مستحباً ولا حسناً فكيف أمر الإمام عليه السلام بالاحتياط مطلقاً ؟ .

قلت : ( ليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين ) فكل مرتبة عالية من الاحتياط مستحسن في الدين ، حتى يحفظ حفظا دقيقا ، وذلك ( لانه ) أي : الدين ( بمنزلة الاخ الذي هو لك ) من اُمك وأبيك ( وليس ) الدين ( بمنزلة سائر الاُمور ) حتى ( لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط ) .

إذن : فليس الدين ( كالمال ) حيث لا يستحسن الدقة الشديدة في حفظه ،

ص: 178

وما عدا الأخ من الرجال ، فهو بمنزلة قوله تعالى : « فَاتّقُوا اللّهَ ما استَطَعتُم » .

وممّا ذكرنا يظهرُ الجوابُ عن سائر الأخبار

-------------------

ومنع حق اللّه والناس منه احتياطاً عليه ، فانه من الخسّة والبخل وحب الدنيا ( و ) كذا لا يشبه ( ما عدا الأخ من الرجال ) لأن رعاية أعلى مراتب الثقة فيما عدا الأخ يكون من التذلل والتخوف والوسوسة ، بينما الدين ليس كذلك بل هو كالأخ يستحب فيه جميع المراتب العالية من الحفظ والاحتياط .

وعليه : ( فهو ) أي : هذا الحديث يكون في حسن الاحتياط ( بمنزلة قوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللّه مَا استَطَعتُم » (1)) ، حيث يستحسن كل مراتب التقوى العالية في الاُمور ، حتى ان عامل البناء لو نفض ملابسه من ذرات جص صاحب الدار عند انتهاء عمله حذراً من بقاء بعض الجص عليها ، الذي هو مال الناس ، كان في محله ، وانّ مشتري اللحم لو لم يمس اللحم ليقول للقصاب : اقطع لي من هذا للحم ، حذراً من التصرف في مقدار قليل من الدسم من مال الناس كان حسناً .

ومن الواضح : انّه لا يراد منه : الاحتياط المنجر إلى الوسوسة ، أو ما كان هو الوسوسة بعينه ، لانه لا يسمى بعد ذلك احتياطاً ، بل هو في طريق الانحراف أو في الانحراف نفسه ، بينما الاحتياط هو الاستقامة فهما متقابلان .

وعلى أي حال : فلا يكون هذا الخبر دليلاً للأخباريين على مطلوبهم لا ينحو أن يراد به و جوب الاحتياط فقط ، ولا بنحو ان يراد به الأعم من الاحتياط الواجب والمستحب .

( وممّا ذكرنا ) في الأجوبة السابقة ( : يظهر الجواب عن سائر الأخبار

ص: 179


1- - سورة التغابن : الآية 16 .

المتقدّمة مع ضعف السند في الجميع .

نعم ، يظهرُ من المحقق ، في المعارج اعتبارُ إسناد النبويّ : « دع ما يريبك » ، حيث اقتصر في ردّه على : « أنّه خبرٌ واحدٌ لا يُعَوَّلُ عليه في الاصول ، وأنّ إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة الريبة » .

-------------------

المتقدِّمة ) من انها تحمل على الارشاد ، أو على القدر المشترك من الأمر المولوي ، هذا ( مع ضعف السند في الجميع ) كما هو واضح ، فان أكثرها مرسل لا يعتمد على اسنادها .

( نعم ، يظهر من المحقق في المعارج : اعتبار اسناد النبويّ ) وقوله : « اسناد » ، بصيغة الجمع ، فكأن له اسناداً متعددة ، والنبويّ هو : ( « دع ما يريبك » (1) حيث ) انّ المحقق لم يضّعف سنده ، بل ( اقتصر في ردّه ) أي : في ردّ دلالة النبويّ والاستدلال به لوجوب الاحتياط ( على ) وجهين :

أحدهما : ( انّه خبرٌ واحد لا يُعَوَّل عليه في الاُصول ) أي : في اُصول الفقه ، لأن الاُصول أهم من الفقه حيث يبنى عليها مسائل فقهية كثيرة ، بينما الرواية الواردة في الفقه لا يبنى عليها مسائل بتلك الكثرة .

( و ) ثانيهما : ( ان إلزام المكلّف بالأثقل ) وهو أن يحتاط بما شاء ، فان الاحتياط الكثير ثقيل على الانسان ، فيكون بنفسه ( مظنة الريبة ) (2) أي : ممّا فيه ريب لاحتمال عدم رضا اللّه سبحانه وتعالى بمشقة عباده بهذه الكيفية ولذا

ص: 180


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى ص138 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح13506 و ص170 ب12 ح33517 ، الغارات : ص135 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج6 ص62.
2- - معارج الاصول : ص217 .

وما ذكره محلُّ تأمّل ، منع كون المسألة اُصوليّة ،

-------------------

قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ان هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق فان المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » (1) ( وما ذكره ) المحقق في الاشكال على هذه الرواية ( محل تأمل ) من عدة وجوه :

أوّلاً : ( منع كون المسألة اُصولية ) وذلك لأن الاحتياط من عوارض فعل المكلّف بلا واسطة ، فيكون البحث فيه من المسائل الفرعية ، لا من القواعد الاُصولية الكلية - على ما ذكر في تعريف المسائل الفقهية والاُصولية - فهو تماماً مثل قوله : « أوفوا بالعقود » (2) وقوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (3) وليس مثل : ان الأمر واجب ، وان النهي دال على الكف ، فقولنا - مثلاً - : الاحتياط في الصلاة مستحب ، هو كقولنا : القنوت في الصلاة مستحب ، وليس كقولنا : كل مشتبه الحكم الواقعي باحتمال كونه حراماً في الواقع يكون حلالاً في الظاهر .

إن قلت : يمكن أن يكون الاحتياط حكماً كليّاً ، ويمكن أن يكون الاحتياط حكماً فرعياً ، وذلك كما ذكرتم في المثال ، فلم جعلتموه من الأحكام الفرعية ، لا من المسائل الكلية الاُصولية ؟ .

قلت : إمكان كونه من الأحكام الفرعية كاف فيما ذكرناه ، فان الاحتياط على أي

ص: 181


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 ، وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 وفيه «متين» بدل «رفيق» .
2- - سورة المائدة : الآية 1 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 وص183 ح11 ، معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 .

ثم منعِ كون النبويّ من الأخبار الآحاد المجرّدة ، لأنّ مضمونه ، وهو ترك الشبهة ، يمكن دعوى تواتره ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاُصوليّة ، وما ذكره : من « أنّ إلزام المكلّف بالأثقل ، الخ » ، فيه :

-------------------

حال من عوارض فعل المكلّف بلا واسطة ، لا من عوارض الأدلة ليكون البحث فيه من الاصول .

ثانياً : ( ثمّ منع كون النبوي من الأخبار الآحاد المجردة ) وذلك ( لأنّ مضمونه وهو ترك الشبهة يمكن دعوى تواتره ) والمتواتر المضمون لا يصطلح عليه : بأنه خبر واحد .

ثالثا : ( ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاُصولية ) لأنّ المسائل الاُصولية ليست من المسائل الاعتقادية حتى يمنع عنها وانّما يمنع عن أخبار الآحاد في المسائل الاعتقادية ، والاّ فانّ : « لا تنقضُ اليقينَ بالشكّ » (1) و « رُفعَ ما لا يَعلَمُون » (2) و « إذن فتخير » (3) كلها تفيد المسائل الاُصولية ، وهي أخبار آحاد يعتمد الاُصوليون عليها في المسائل الاُصولية .

رابعاً : ( وما ذكره ) المحقق ( : « من أنّ الزام المكلّف بالأثقل » إلى آخره ، فيه )

ص: 182


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ب229 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

أنّ الالزام من هذا الأمر، فلا ريب فيه .

الرابعة : أخبار التثليث المرويّة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والوصيّ وبعض

الأئمة عليهم السلام .

-------------------

ما فيه وذلك ( انّ الالزام ) بالاحتياط الأكثر إنّما جاء ( من هذا الأمر ) « دع ما يُريبُك » (1) ( فلا ريب فيه ) أي : في هذا الالزام ، ولا يكون مظنة الرّيبة ، لان الحديث وارد في دفع الريب الذي كان قبل أمره عليه السلام : « دع ما يُريبُك » فلا يشمل نفسه حتى يقال : ان الزام المكلّف بالاثقل الحاصل من الاحتياط ممّا فيه ريب فيلزم تركه الاّ ان يقال : انه يشمل نفسه بالمناط ونحوه ، كما قالوا في مثل : كل خبري صادق وشبهه ، لكن ربما يقال : ان الالزام بالأثقل أفضل بدليل : « أفضل الأعمال أحمزها » (2) ، وفي الجمع بين : « يُريدُ اللّه بكُم اليُسر »(3) ونحوه ، وبين : « أَفضل الأَعمال أَحمَزها » ونحوه ، كلام لا يناسب الشرح .

الطائفة ( الرابعة ) : مما استدلّ به الأخباريون لوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكميّة ( أخبار التثليث ) التي قسمت الامور إلى ثلاثة اقسام ، وهي ( المروية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والوصي ) علي أمير المؤنين ( عليه السلام ، وبعض الأئمة عليهم السلام ) كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

ص: 183


1- - الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 .
2- - مفتاح الفلاح : ص45 ، بحار الانوار : ج7 ص191 ب53 ح2 و ج70 ص237 ب54 ح6 .
3- - سورة البقرة : الآية 185 .

ففي مقبولة عمر بن حنظلة - الواردة في الخبرين المتعارضين - بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما وترك الشاذّ النادر ، معلّلاً بقوله : « فانّ المُجمَعَ عليه لا ريبَ فيه »، وقوله: «إنّما الامورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بَيّنٌ رُشدُهُ فَيُتَّبعُ ، وأمرٌ بَيّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ، وأمرٌ مشكِلٌ يُرَدُّ حُكمُهُ إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ

-------------------

( ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما ) أي : من الخبرين ( وترك الشاذ النادر ، معللاً بقوله : فان المُجمع عليه ) أي : المشهور ( لا رَيب فيه ) لأنه عليه السلام قال : « خُذ بما اشتَهر بين أصحابك ، وَدَع الشّاذَ النادر ، فانّ المُجمعَ عليهِ لا رَيبَ فيه » ( و ) ذلك بعد ( قوله ) عليه السلام : ( انّما الاُمور ثلاثة ) كالتالي : ( أمرٌ بيّنٌ رُشدُه ) وواضح جوازه ( فَيُتّبَع ) ويعمل به ، كالمباحات ونحوها ( وأمرٌ بيّن غيّه ) وواضح فساده والغي ضد الرشد ، كالمحرّمات ونحوها ، ( فيُجتَنَبُ ) عنه ولا يعمل به ، وهذان لا مشكل فيهما .

( وأمرٌ مشكِلٌ ) كالخبر الشاذ الذي لا يعلم هل انه صادر عنهم ، أوليس بصادر عنهم ؟ وشرب التتن الذي لا يعلم هل انه حلال أو حرام فانه ( يرد حكمه إلى اللّه ورسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وذلك : بان يرجع الى كتاب اللّه ليرى هل يوجد حكمه فيه أم لا ؟ فاذا لم يكن في ظاهر كتاب اللّه ردّ إلى سنة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ليرى هل يوجد حكمه في الروايات الواردة قولاً أو فعلاً أو تقريراً ام لا ؟ .

ثم ذكر بعد هاتين الجملتين كمافي المقبولة قوله عليه السلام : ( قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ) وواضح ، والحلال يشمل أحكاماً ثلاثة : المستحب ، والمكروه ، والمباح .

( وحرامٌ بيّن ) وواضح وهو يشمل المحرّم ، كشرب الخمر ، والواجب

ص: 184

وشُبهاتٌ بَينَ ذلك ، فَمنَ تَرَكَ الشُّبَهاتِ نجا مِنَ المُحرَّماتِ ، وَمَن أخذَ بالشُّبهاتِ وقع في المحرمات وهَلَكَ مِن حَيثُ لا يَعلَمُ » .

وجه الدلالة : أنَّ الإمام عليه السلام ، أوجب طرح الشاذّ معلّلاً بأنّ المجمع عليه لاريب فيه ، والمراد أنّ الشاذّ فيه الريبُ ،

-------------------

كالصلاة ، لأن ترك الواجب حرام أيضاً .

( وشُبهَات بين ذلك ) لم يعرف انّها حرام أو حلال ، فكأن هذه الشبهة بين هذا وذاك ، ( فَمن تَركَ الشُبهاتِ نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشُبهاتِ وَقَعَ في المُحرَّماتِ ) الواقعية بدون علم بانّه حرام ( وَهَلكَ من حَيثُ لا يَعلَمُ ) (1) لفرض انه مشتبه عنده وليس مثل الخمر حراماً واضحاً .

إذن : فهذا الخبر يدل على وجوب ترك المشتبه ، وشرب التتن - مثلا - حيث كان مشتبه الحكم فيلزم تركه ، وقول الإمام عليه السلام : « المُجمع عليه من الحلال البيّن يؤذ به ، والشاذ من المشتبه يجب طرحه » دليل على ان كلّ مشتبه واجب الطرح ، ومن المعلوم ان شرب التتن مشتبه الحكم لانه لا يعلم هل هو حلال أو حرام ؟ فالواجب تركه كما يقول به الأخباريون .

وإلى وجه الاستدلال هذا ، اشار المصنِّف بقوله : ( وجه الدلالة ) في هذا الخبر على وجوب ترك الشبهة الحكمية ( انّ الإمام عليه السلام أوجب طرح الشاذ ) من الأخبار التي لم يروها المشهور ( معلّلاً : بأن المُجمَع عليه لا ريب فيه ، والمراد ) من مفهوم هذه الجملة : « فان المُجمع عليه لا ريب فيه » هو : ( ان الشاذ فيه الريب ،

ص: 185


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لا أنّ الشهرة يجعل الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ،

-------------------

لا ) أي : ليس مفهوم هذا : ( انّ الشهرة ) في أحد الخبرين ( يجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ) فهذا الخبر يقول : ان بعض الأخبار مثل : شرب الماء ظاهر الحليّة وهو الخبر المشهور ، وبعض الأخبار مثل : شرب التتن غير ظاهر الحليّة وهو الخبر الشاذ ، لا ان الخبر الشاذ حكمه حكم الخمر ، ظاهر الحرمة .

والحاصل : إنّ الخبر المشهور ليس مقطوع الصحة ، كما ان الخبر الشاذ ليس مقطوع البطلان ، والاّ فلو كان الخبر المشهور مقطوع الصحة لم يبق كلام في ترجيحه على الشاذ ، كما ان الشاذ لو كان مقطوع البطلان لم يبق كلام في احتمال جواز العمل به ، بل الخبر المشهور ، بالنسبة إلى الشاذ مما لا ريب فيه ، والخبر الشاذ بالنسبة الى المشهور مما فيه الريب .

وإلى هذا المعنى أشار بقوله : ( وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية ) فان الإمام عليه السلام ذكر الترجيح بالشهرة بعد المرجحات المذكورة ، فلو كان المشهور مقطوع الصحة ، أو الشاذ مقطوع البطلان ، كان اللازم أن يؤذ بالمشهور أولاً وبالذات ويترك الشاذ أولاً وبالذات ، لا أنه أولا نرجّح أحدهما على الآخر بالأعدلية ، أو الأصدقية ، أو الأورعية ، ثّم اذا لم تكن هذه المرجحات نأخذ بالمشهور من الخبرين .

( ولا ) معنى أيضاً ( لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ) إذ لا يمكن القطع بكلا الخبرين لأنه محال ،بينما الراوي فرض الشهرة في كلا الخبرين حيث قال وهو يسأل الإمام عليه السلام : « فان كان الخبران عنكم مشهورين » .

ص: 186

ولا لتثليث الامور ، ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

والحاصل : أنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذّ ممّا فيه الريب فيجب طرحه ، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ردّه إلى اللّه ورسوله .

فيعلم من ذلك كلّه أنّ الاستشهاد بقول رسول اللّه في التثليث لا يستقيم إلاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ،

-------------------

( ولا ) معنى ( لتثليث الاُمور ) فانّه اذاكان المشهور معلوم الصحة والشاذ معلوم البطلان ، لم يكن وجه لجعل الإمام الامور ثلاثة ، فانّ الإمام جعل الاُمور ثلاثة ليدخل الشاذ فيما فيه الريب ، ولو كان ما فيه الريب ظاهر البطلان ، لم يحتج إلى جعل الاُمور ثلاثة . ( ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وهذا عطف على قوله : « ولا لتثليث الاُمور » ، أي : ولم يكن وجه الاستشهاد الإمام بتثليث النبيّ .

وعليه : فلابدّ أن يقال : بأن الشاذ ممّا فيه ريب ، وانه أمرٌ مشكل ، وان حكمه غير معلوم ، فيلزم أن يترك لأنه ممّا فيه الرّيب .

( والحاصل : إنّ الناظر في الرواية ) المتقدِّمة ( يقطع بأن ) المشهور ممّا لا ريب نسبي فيه ، وان ( الشاذ ممّا فيه الريب ) النسبي ، لا ان المشهور مقطوع الصحة ، والشاذ مقطوع البطلان .

وحيث إنّ الشاذ ممّا فيه الريب ( فيجب طرحه ) كما ذكره الإمام عليه السلام ( وهو ) أي : الشاذ ( الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ) عليه السلام ، في تثليثه للأقسام ، ( ردّه إلى اللّه ورسوله ) ليعلم حكمه منهما ( فيعلم من ذلك كلّه ) أي : يعلم من ان الإمام جعل الشاذ ممّا فيه الريب ومن الأمر المشكل ، وأوجب طرحه ، ورد حكمه إلى اللّه والرسول ( : ان الاستشهاد ) من الإمام عليه السلام ( بقول رسول اللّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في التثليث : لا يستقيم الاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ) كلّها .

ص: 187

مضافا إلى دلالة قوله : « نجى من المحرّمات » ، بناءا على أنّ تخلّص النفس من المحرّمات واجب ، وقوله : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » .

-------------------

إذن : فالقرائن المذكورة في كلام الإمام عليه السلام تدلّ على ان كلام الرسول دال على وجوب ترك الشبهة ، والاّ لم يصح أن يستشهد الإمام بكلام الرسول إذا لم يجب طرح الشاذ الذي فيه الريب والشك ، فيستفاد من كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قاعدة كليّة تقول : انه كل ما لم يكن أمر بيّن رشده وأمرٌ بيّن غيّه ، يجب تركه ، كما يترك الخبر الشاذ ، لأنه ليس بين الرشد ولا بيّن الغي .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأول من الأوجه الثلاثة في هذه الرواية الدالة - بحسب قول الاخباريين - على وجوب الاحتياط بترك الشبهة التحريمية ، وحاصله : إستشهاد الإمام عليه السلام بكلام الرسول .

الوجه الثاني : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مضافاً إلى دلالة قوله : « نجى من المحرمات » ) فانه انّما يدل هذا الكلام على وجوب ترك الشبهة ( بناءاً على ان تخلّص النفس من المحرمات واجب ) .

إن قلت : لا إشكال في وجوب تخلص النفس من المحرمات ، فلماذا قال المصنِّف بناءاً على وجوبه ؟ .

قلت : أراد به المحرمات المحتملة لا المقطوعة ، فتخلص النفس من شرب الخمر واجب قطعاً ، أما تخلص النفس من الاجتناب عن أحد الانائين الذين أحدهما خمر ، فليس بمقطوع الوجوب ، ولذا قال بعض الفقهاء بجواز ارتكاب أحد الانائين .

( و ) الوجه الثالث : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( قوله ) عليه السلام : ( وقع في المحرّمات وهَلَكَ من حيث لا يعلم ) فان هذه الجملة تدل على ان ارتكاب

ص: 188

ودون هذا في الظهور ، النبويُّ المرويُّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ، وكذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام .

-------------------

المشتبه ، وقوع في الهلكة ، والمتبادر من الهلكة : الهلكة الاُخروية والعقاب الاُخروي .

ثم لا يخفى : ان بعض المحشين قال : إنّ قول المصنِّف : لا ان الشهرة يجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه ، هو تعريض بصاحب الفصول الذي قال : ان الخبر المشهور يجعل الشاذ مقطوع البطلان .

ثم إنّ المصنّف تعرّض لبقية أخبار التثليث ، فقال : ( ودون هذا ) الخبر المتقدّم من أخبار التثليث وهو مقبولة عمرو بن حنظلة ( في الظهور ) وجعل هذا الخبر دون الخبر السابق في الظهور ، لعدم انضمام استشهاد الإمام عليه السلام بكلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( النبويّ المروي عن أبي عبداللّه عليه السلام في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ) وهو رواية جميل بن صالح حيث قال عليه السلام فيها : الاُمور ثلاثة : إلى أن قال : « وأمرٌ اختلف فيه فردّه إلى اللّه عز وجل » (1) .

( وكذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤنين عليه السلام ) حيث قال : « حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشبهاتٌ بين ذلك » (2) ، فهذه جملة من روايات التثليث التي

ص: 189


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص400 ب2 ح5858 ، الخصال : ص153 ح189 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص162 ب12 ح33491 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

والجواب عنه : ما ذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشاديٌّ للتحرز عن المضرّة المحتملة فيها ، فقد يكون المضرّة عقابا ، وحينئذٍ فالاجتناب لازم ، وقد يكون مضرّة أُخرى ، فلا عقابَ على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة ،

-------------------

استشهد بها الأخباريون لأجل إيجاب الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية .

( والجواب عنه ) أي : عن خبر التثليث ( ما ذكرنا سابقاً ) في الجواب عن أخبار التوقف ، والاحتياط ( : من أن الأمر بالاجتناب عن الشبهة ارشاديٌ ) أو مولوي : مشترك بين الوجوب والاستحباب : وهو ( للتحرز عن المضرّة المحتملة فيها ) فيكون مثل أمر الطبيب بناءاً على أن يكون ارشادياً ، وأما بناءاً على أن يكون مولوياً مشتركاً فهو ليس دليلاً على التحريم ، إذا الأمر المشترك لا يدل على الالزام ، سواء كان مشتركاً بين الواجب وغير الواجب ، فلا الزام فيه فعلاً ، أو كان مشتركاً بين الحرام وغير الحرام ، فلا الزام فيه تركاً .

وعلى كل حال : فالمصنّف صبّ كلامه على الارشادية ، وقال : ( فقد يكون المضرة ) المحتملة في الأمر الارشادي ( عقاباً ) كما في صورة الشك في المكلّف به ، والشك في التّكليف قبل الفحص الممكن ، والشك في الاُمور المهمة كالدماء ، والفروج والأموال ( وحينئذٍ فالاجتناب لازم ) لأن العقل والشرع متطابقان على الاجتناب عن مثل هذه الاُمور لأن الضرر فيها عبارة عن : العقاب الاُخروي الذي لا طاقة لأحد بتحمل القليل منه ، فكيف بالكثير ؟ اعاذنا اللّه وجميع المؤنين منه .

( وقد يكون مضرة اُخرى ، فلا عقاب على ارتكابها ) أي : على ارتكاب تلك الشبهة ( على تقدير الوقوع في الهلكة ) مثل : المضرات الدنيوية ، أو عدم رفع

ص: 190

كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا ، لقبح العقاب على الحكم الواقعيّ المجهول باعتراف الأخباريين أيضا ، كما تقدّم .

وإذا تبيّن لك أنّ المقصودَ من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوصَ الالزامي ، فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، المسوق للارشاد أنّه إذا كان الاجتنابُ من المشتبه بالحرام راجحا ، تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام ، فكذلك طرح الخبر الشاذّ واجب ،

-------------------

الدرجات في الآخرة ، أو ما أشبه ذلك مما هو بنائهم عليه في الشبهة الوجوبية الحكمية ، والموضوعية وجوبية أو تحريمية ، لأنهم متفقون على انه لا يحتمل فيها عقاب على التكليف المشكوك ، واليه اشار بقوله :

( كالمشتبه بالحرام ) في الشبهة الموضوعية ( حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقاً ) من الأخباريين والاُصوليين على انه لا عقاب في الشبهة الموضوعية التحريمية ( لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضاً كما تقدّم ) الاّ انهم يقولون : إنّ الشبهة إذا كانت حكمية يكون في ارتكابها العقاب بالأدلة الخاصة ( وإذا تبيّن لك إنّ المقصود من الأمر بطرح الشبهات ) في الرواية المتقدّمة ( : ليس خصوص ) الطلب ( الالزامي ) فلا يكون أخبار التثليث دليلاً للأخباريين ( ف- ) نقول : ( يكفي حينئذٍ ) أي : حين لم يكن المقصود خصوص الالزامي ( في مناسبة ذكر ) الإمام عليه السلام ( كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم المسوق للارشاد ) أي : يكفي فيه ( انه ) الضمير للشأن ( اذا كان الاجتناب من المشتبه بالحرام راجحاً ) بنحو الارشاد المشترك بين الالزامي وغيره ( تفصّياً عن الوقوع في مفسدة الحرام ، فكذلك طرح الخبر الشاذ ، واجب ) .

ص: 191

لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعدُ من الريب ، وأقربُ إلى الحقّ ، إذ لو قصّر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريبُ احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكمُ به

-------------------

والحاصل : ان خبر التثليث في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لمطلق الرّجحان ، فلا يكون دليلاً على لزوم التجنب في المشتبه بالحرمة ، بل قد يكون لازماً كما في الشبهة الحكمية التحريمية ، وقد لا يكون لازماً كما في الشبهة الحكمية الوجوبية ، أو الموضوعية التحريمية والوجوبية .

ان قلت : انه إذا كان كذلك ، فلا دلالة في خبر النبي على لزوم طرح الشاذ ، فكيف إستدل الإمام عليه السلام بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لطرح الخبر الشاذ ؟ .

قلت : طرح الخبر الشاذ انّما هو لعلمنا من الخارج : بان الرّجحان في كلام النبيّ أعم من الواجب والمستحب ، فينطبق وجوبه على الخبر الشاذ ، اذ الخبر الذي يؤذ به يلزم أن يكون قطعيّ الحجية ، والخبر الشاذ لا حجية له قطعاً ، فهو مثل : أن يقال : « اغتسل عند كل حدث » ، فانه يشمل الواجب ويشمل المستحب مثل : قتل « السام أبرص » ثم علمنا خارجاً بأن غسل الجنابة واجب ، فانّا نحمل « إغتسل عند كل حدث » على الوجوب ، فيما اذا أجنَب الشخص .

إذن : فاللازم في الخبرين المتعارضين تشخيص الحجّة منهما وذلك ( لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الرَّيب وأقرب إلى الحق ) .

وإنّما يلزم التحري ( اذ لو قصّر في ذلك ) أي : في الفحص عن الحق من الخبرين ( وأخذ بالخبر الذي فيه الرَّيب ) الذي هو شاذ ( احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ) أي : للمكلّف ( فيكون الحكم به ) أي : الحكم على طبق

ص: 192

حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع ، فتأمّل .

ويؤيّد ما ذكرنا من أن النبويّ ليس واردا في مقام الالزام بترك الشبهات امورٌ : أحدها : عمومُ الشبهات

-------------------

هذا الخبر الشاذ ( حكماً من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع ) فيكون الأخذ بالخبر الشاذ محتملاً للعقاب ، ويجب دفع هذا الاحتمال بارشاد العقل وبسبب القرائن الخارجية المذكورة في باب التعادل والتراجيح .

( فتأمّل ) فانه يمكن أن يكون اشارة إلى ان ظاهر خبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : الوجوب الاّ ان الادلة الخارجية تصرفها عن وجوبه في الشبهة الموضوعية وجوبية أو تحريمية ، والحكمية الوجوبية ، فيبقى النبويّ المذكور دليلاً للأخباريين .

( ويؤد ما ذكرنا : من أن النبويّ ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ) وانّما هو في مقام رجحان ترك الشبهات الشامل للرّجحان الواجب والرجحان المندوب ( اُمورٌ ) تالية :

( أحدها : عموم الشبهات ) التي وردت في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « وشُبهاتٌ بين ذلك » فتشمل : الشبهة اللازمة الترك ، والشبهة الراجحة الترك .

لا يقال : الجمع المحلّى يفيد العموم ، مثل : « الرجال » . و « شبهات » في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ليس محلّى باللاّم ، فلا يفيد العموم .

لأنه يقال : انّا ذكرنا في الاُصول : انّه حتى المفرد المجرد من اللام يفيد العموم اذا كان في مقام بيان الطبيعة مثل « حسنة » في قوله تعالى : « رَبّنا آتنا في الدُّنيا حسَنَةً وَفي الآخرةِ حَسَنةً » (1) .

ص: 193


1- - سورة البقرة : الآية 201 .

للشبهة الموضوعيّة التحريميّة التي اعترف الأخباريّون بعدم وجوب الاجتناب عنها ، وتخصيصُه بالشبهة الحكميّة ، مع أنّه إخراج لأكثر الأفراد ، مُنافٍ للسياقَ ، فانّ سياقَ الرواية آبٍ عن التخصيص ، لأنه ظاهر في الحصر ،

-------------------

ومثل : قولهم : « تمرة خير من جرادة » (1) ونحوهما .

وعليه « فالشبهات » في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم عامة شاملة ( للشبهة الموضوعيّة التحريميّة ) كالشيء المردد بين كونه حراماً أو حلالاً ، طاهراً أو نجساً ، كما في الماء الذي يترشّح على الانسان في الشارع حيث لا يعلم انه طاهر أو نجس ، او اللحم الذي لا يعلم الانسان انه حرام أو حلال ، وذلك فيما اذا لم يكن هنالك أصل أو دليل على أحدهما وغير ذلك من الامثلة (التي اعترف الاخباريون بعدم وجوب الاجتناب عنها) مع انّها مشمولة للشبهات التي وردت في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( و ) اّن قلت : ان الأخباريين يقولون بأن الشبهات التي وردت في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم خاصة بالشبهة التحريمية .

قلت : ( تخصيصه ) أي : تخصيص النبوي ( بالشبهة الحكميّة ) التحريميّة ( مع انه اخراج لأكثر الأفراد ) لأنه يوجب خروج الأقسام الثلاثة الاُخر من الشبهات ، التي اتفق الاخباريون والاُصوليون على عدم وجوب الاجتناب فيها ( منافٍ للسياق ) فالتخصيص خلاف الظاهر ، لأن الظاهر محكم بسبب السياق ( فانّ سياق الرواية ) أي : رواية النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( آبٍ عن التخصيص ) .

وإنّما كان السياق آبٍ عن التخصيص ( لأنه ظاهر في الحصر ) ، حيث

ص: 194


1- - وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح172 ، فقه الرضا : ص228 .

وليس الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن .

ولو بنى على كونها منه لأجل أدلّة جواز ارتكابها ، قلنا بمثله في الشبهة الحكميّة .

-------------------

قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّما الاُمور ثلاثة » ( وليس الشبهة الموضوعية من الحلال البيّن ) حتى يقال : ان هذه الشبهة داخلة في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « حلال بيّن » فاذا لم يكن من الشبهات التي بين الأمرين ، تكون الشبهة الموضوعية قسماً رابعاً ، وهو منافٍ لكلمة « انّما » في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم « انّما الاُمور ثلاثة » .

والحاصل : انّه لو قال الأخباريون : نخصّص أخبار التثليث بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، نقول يَردُ عليه محذوران :

الأوّل : انّه مستلزم لتخصيص الأكثر وذلك مستهجنٌ كما عرفت .

الثاني : انّه خلاف لحصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الأقسام في ثلاثة ، لانّا نقول للأخباريين : هل الشبهة الموضوعية داخلة في الحلال البيّن ، أو في الحرام البيّن ؟ وحيث لا يتمكن الأخباريون أن يقولوا : انّها داخلة في واحد منهما ، اذ الشبهة ليست حلالاً بيّناً والاّ لم تكن شبهة ، وليست حراماً بيّنا ؛ لأن الأخباريين لا يقولون بحرمتها ، فيبقى : اما أن تدخل في « شبهات بين ذلك » فيثبت مطلوب الاُصوليين : من وجود شبهة راجحة الترك لا لازمة الترك ، واما أن تكون قسماً رابعاً ، وهو خلاف جعل النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الاُمور على ثلاثة أقسام .

( ولو بنى ) الأخباريون ( على كونها ) أي : الشبهة الموضوعية ( منه ) أي : من الحلال البيّن ( لأجل أدلة جواز ارتكابها ) حيث هناك ما يدل على جواز ارتكاب الشبهة الموضوعية ( قلنا : بمثله في الشبهة الحكمية ) أيضاً ، وذلك لما مرَّ من أدلة

البرائة ، فانّها تدل على ان الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية من الحلال

ص: 195

...

-------------------

البيّن ، فيختص قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « شبهات بين ذلك » بباب الشك في المكلّف به ، والامور المهمة من : الأعراض ، والدماء ، والأموال .

ولا بأس بالاشارة هنا الى ان كثيراً من كلمات المصنّف وكذا من قبله : كصاحبيّ القوانين ، والفصول ومن بعدهم ، انّما هي ردود على قول صاحب الوسائل ، حيث انّه بعد نقل المرسلة المتقدمة قال ما لفظه : أقول : هذا يحتمل وجوها :

أحدها : الحمل على التقية ، لأنّ العامة يقولون بحجّية الأصل ، فيضعف عن مقاومة ما سبق من أخبار الاحتياط مضافاً الى كونه خبراً واحداً لا يعارض المتواتر .

ثانيها : الحمل على الخطاب الشرعيّ خاصة يعني : انّ كل لفظ ورَد في الخطابات الشرعية يتعيّن حمله على اطلاقه ، وعمومه ، حتى يرد فيه نهي يخصّص بعض الأفراد ، أو يقيّد بعض اطلاقه ، فقوله عليه السلام - مثلاً - : « كلُّ ماءٍ طاهر حتى تعلم انّه قذرٌ » (1) يحملُ على اطلاقه ، حتى اذا ورد النهي عن استعمال كل واحد من الانائين ، اذا نجس أحدهما واشتبها تعين تقييده بغير هذه الصورة ، وبهذا استدل الصدوق على جواز القنوت بالفارسية ، لأنّ الأوامر بالقنوت مطلقة عامة ، ولم يرد نهي عن القنوت بالفارسية يخرجها عن اطلاقها .

ثالثها : التخصيص بما ليس من نفس الأحكام الشرعية ، وان كان من

ص: 196


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

...

-------------------

موضوعاتها ومتعلقاتها ، كما اذا شك في جوائز الظالم ، انها مغصوبة ام لا ؟ .

رابعها : انّ النهي يشمل النهي العام والخاص ، والنهي العام بلغنا وهو : النهي عن ارتكاب الشبهات في نفس الأحكام ، والآمر بالتوقف والاحتياط فيها وفي كلّ ما لا نص فيه .

خامسها : أن يكون مخصوصاً بما قبل كمال الشريعة وتمامها ، وأما بعد ذلك فلم يبق شيء على حكم البرائة الأصلية .

سادسها : ان يكون مخصوصاً بمن لم يبلغه أحاديث النهي عن ارتكاب الشبهات والأمر بالاحتياط لما مرّ ، ولاستحالة تكليف الغافل عقلاً ونقلاً .

سابعها : أن يكون مخصوصاً بما لا يحتمل التحريم ، بل علمت اباحته وحصل الشك في وجوبه فهو مطلق حتى يرد فيه نهي عن تركه ، لأنّ المستفاد من الأحاديث هنا : عدم وجوب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب وان كان راجحاً حيث لا يحتمل التحريم .

ثامنها : أن يكون مخصوصاً بالأشياء المبهمة التي يعم بها البلوى ، ويعلم انّه لو كان فيها حكم مخالف للأصل لنقل ، كما يفهم من قول علي عليه السلام : « واعلم يا بنيّ انّه لو كان اله آخر لأتتك رُسُله ولرأيت آثار مملكته » (1) وقد صرّح بنحو ذلك المحقق في المعتبر وغيره ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ص: 197


1- - تحف العقول : ص72 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 بيان ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص77 (بالمعنى) .

الثاني : أنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، رتّب على ارتكاب الشبهات الوقوعَ في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمرادُ منها جنسُ الشبهة ، لأنه في مقام بيان ما تردّد بين الحلال والحرام ،

-------------------

أقول : لا يخفى ما في جملة من احتمالاته المذكورة : من كونها خلاف الظاهر بدون قرينة ، هذا مع الغض عن اشكالات المصنّف وسائر الاُصوليين .

( الثاني ) من مؤدات كون النبوي ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ، بل الأعم من الوجوب والاستحباب : ( انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم رتّب على ارتكاب الشبهات : الوقوعَ في المحرمات ، والهلاك من حيث لا يعلم ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » (1) فنسأل : ما المراد من الشبهات ؟ .

فان كان المراد : مجموع الشبهات فهو لا يعقل لأنه لا يمكن أن يرتكب انسان كلّ الشبهات ، وان كان المراد : جنس الشبهات ، فمن الواضح انّه ليس ارتكاب كل شبهة موجباً للهلاك الاُخروي لوضوح عدم حرمة ارتكاب كثير من الشبهات لعدم مصادفتها للواقع المحرم ، فاللازم أن يحمل النهي على الأعم من الحرمة والندب فلا يكون دليلاً للأخباريين .

( و ) توضيحه : ان ( المراد منها ) أي : من الشبهات في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم هو : ( جنس الشبهة ) وذلك ( لأنّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في مقام بيان ما تردد بين الحلال والحرام ) أي : ما كان مردداً بينهما ، ومن الواضح : ان المراد بكل واحد

ص: 198


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع . مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه السلام .

ومن المعلوم أنّ ارتكابَ جنس الشبهة لا يوجبُ الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلاّ على مجاز المشارفة ،

-------------------

من الحلال والحرام في النّبوي هو الجنس ، فكذلك يكون المراد من الشبهات التي هي واسطة بين الحلال والحرام ، هو : الجنس ايضاً ( لا ) انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ) من حيث المجموع لما تقدّم : من انّه غير معقول .

( مع انّه ) لو كان المراد من الشبهات : المجموع من حيث المجموع ، لكان ( ينافي استشهاد الإمام عليه السلام ) به على وجوب ترك شبهة واحدة ، وهو الخبر الشاذ لأن الإمام عليه السلام استشهد بالنبوي على انّه لو كان هناك خبر شاذ وجب تركه فاذا كان المراد من النبوي : ترك مجموع الشبهات ، لم يكن مناسباً للاستشهاد به .

هذا ( ومن المعلوم : ان ارتكابَ جنس الشبهة ) أي : ايّة شبهة كانت ( لا يوجبُ الوقوع في الحرام ، ولا الهلاك من حيث لا يعلم الاّ على مجاز المشارفة ) . ومجاز المشارفة عبارة عن كو ن الصفة لم تتحقق في الشيء بعد ، ولكنها تطلق على ما سيتصف بها قريباً .

مثلاً : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن قَتَلَ قتيلاً فلَه سلبه » (1) من مجاز المشارفة ، لانّه حيث يشرف ذاك الشخص المقتول على القتل يسمى قتيلاً وان كان بعد حياً ، فيكون معنى حديث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على هذا : انّ الانسان بارتكاب كل فرد من افراد

ص: 199


1- - بحار الانوار : ج41 ص72 ب106 ح3 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص166 .

كما يدلّ عليه بعضُ ما مضى وما يأتي من الأخبار . فالاستدلالُ موقوفٌ على إثبات كبرى ، وهي أنّ الاشرافَ على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرّمٌ من دون سبق علم به أصلاً .

الثالث :

-------------------

الشبهة يكون مشرفاً على الوقوع في الحرام الواقعي ، لأن من كانت عادته ارتكاب الشبهات ، لابدّ وان يرتكب المحرمات الواقعية أيضاً ، لا أن ارتكاب كلّ شبهة مشرف على الحرام ( كما يدل عليه بعضُ ما مضى ) من الحديث كقوله عليه السلام : « المعاصي حمى اللّه فَمن يَرتَع حَولَها يُوشَك أن يدخلها » (1) ، ( وما يأتي من الأخبار ) في هذا المجال في الأمر الثالث .

وعليه : ( فالاستدلال ) من الاخباريين بالنبوي على وجوب اجتناب الشبهة التحريمية ( موقوف على اثبات كبرى ) كليّة ( وهي : ان الاشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرمٌ ) وهذا ما لا يلتزم به حتى الاخباريين في الشبهات الثلاث ، أي : فيما عدا الشبهة الحكمية التحريمية وذلك ( من دون سبق علم به أصلاً ) أي : بأن يكون من الشك البدوي لا المقرون بالعلم الاجماليّ .

وعليه : فاذا لم يمكن حمل النبوي على لزوم الاجتناب ، لابدّ وان يُحمل على الارشاد المشترك بين لازم الترك وراجح الترك ، فلا يكون دليلاً للأخباريين على مطلوبهم .

( الثالث ) : من مؤدات كون النبوي ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ،

ص: 200


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

الأخبار المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها :

منها : قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف .

ومنها : قولُ أمير المؤمنين عليه السلام ، في مرسلة الصدوق أنّه خطب وقال : « حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشُبُهاتٌ بين ذلك . فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبانَ له أترَكُ ، والمعاصي حِمى اللّه ، فَمَن يَرتَع حَولَها يُوشِكُ أن يَدخُلَها » .

-------------------

وانّما هو للأعم من الالزام والاستحباب : ( الأخبار المساوقة ) والمرادفة في اللفظ والمعنى ( لهذا الخبر الشريف ) المتقدم عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( الظاهرة ) أي : تلك الأخبار المساوقة ( في الاستحباب ، لقرائن مذكورة فيها ) أي : في تلك الأخبار .

(منها : قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ) حيث قال : « سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لكلِّ مَلكٍ حِمى وَحِمى اللّه حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحِمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات » (1) .

( ومنها : قول أميرُ المؤنين عليه السلام في مرسلة الصدوق : انّه خطب وقال : حلال بيّنٌ ، وحرام بيّنٌ ، وشبهاتٌ بين ذلك ، فمَن تركَ ما اشتبه عليه من الأثم ، فهو لما استبان له أتركُ ، والمعاصي حمى اللّه ، فمَن يَرتَع حولَها يُوشك أن يدخُلَها ) (2)

ص: 201


1- - الامالي للطوسي : ص381 ح818 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

ومنها : روايةُ أبي جعفر الباقر عليه السلام : « قال : قال جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : مَن رَعى غَنَمَهُ قُربَ الحِمى نازَعَتهُ نَفسُهُ إلى أن يرعاها في الحِمى . ألا وإنّ لكلِّ مَلِكٍ حِمى ، وإنّ حِمَى اللّه مَحارِمُهُ .

ومنها : ماورد من : « أنّ في حَلال الدّنيا حِسابا وفي حَرامها عِقابا وفي الشّبُهاتِ عِتابا » .

-------------------

وحيث قد تقدّم وجه ظهورهما في الاستحباب لا داعي الى تكراره .

( ومنها رواية أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال جدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رَعى غنَمه قُربَ الحِمى نازَعتهُ نَفسُهُ ) أي : طلبت نفسه منه ( الى ان يرعاها ) أي : يرعى غنمه ( في الحِمى ) وقد تقدّم معنى « الحِمى » ، ثم قال : ( ألا وانّ لكل ملكٍ حِمى وان حِمى اللّه محارمه ) (1) فانّه من المعلوم ان الرعي حول الحمى ليس بمحرّم عند الملوك والأمراء ، وانّما المحرّم عندهم هو الرعي في نفس الحمى ، فالنهي عن الرعي حول الحمى للتنزيه ولئلاّ يقع في الحِمى ، لا انّه محرم بنفسه .

( ومنها : ما ورد من انّ في حَلال الدنيا حِساباً ، وفي حرامها عقاباً ، وفي الشُبهات عتاباً ) (2) ومن الواضح : انّ العتاب غير العقاب ، فيدل على انّ ارتكاب الشبهات لا يوجب العقاب .

ص: 202


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح33515 ، كنز الفوائد : ج1 ص352 .
2- - كفاية الأثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ب22 ح6 .

ومنها : روايةُ فضيل بن عياض : « قال : قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : مَنِ الوَرعُ مِنَ النّاسِ ؟ قال : الذي يَتَورّعُ عَن مَحارِمِ اللّهِ وَيَجتَنِبُ هؤلاء ، فاذا لم يتّق الشّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرام وَهُوَ لا يُعرِفُهُ » .

وأمّا العقل فتقريره بوجهين :

اشارة

-------------------

( ومنها : رواية فُضيل بن عياض قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : من الوَرعُ مِنَ النّاسِ ؟ ) وهذا للاستفهام ، بمعنى أي الناس يكونون ورعِين متقين ؟ .

( قال : الذي يَتَورّعُ عن محارِم اللّه ، ويَجتَنبُ هؤاء ) الظلمة وعُمالهم وأموالهم ، لأن في الاختلاف اليهم والتصرف في أموالهم أو تناولها شبهات ( فاذا لم يتّق الشُبهاتَ وَقَعَ في الحرام ) الواقعي ( وهو لايَعرِفُهُ ) (1) أي : من غير علمه بذلك ، وهذا الخبر يدل على ان الشبهة ليست محرّمة بذاتها ، وانّما هي مقدمة للوقوع في الحرام، فلو كانت الشبهة حراماً بنفسها لم يحتج الى ان يستدل الإمام عليه السلام للنهي عنها بأنها تنتهي الى الحرام . وحيث انتهى المصنّف من الدليلين الأولين للأخباريين وهما : الكتاب والسنّة ، شرع في بيان الدليل الثالث لهم وبيان رده فقال :

( وأما العقل ) فان الأخباريين قد استدلوا بالكتاب والسنة فقالوا : بأنهما يدلان على وجوب الاحتياط الشرعيّ ، واستدلوا بالعقل وقالوا : بأنّه يدل على وجوب الاحتياط العقليّ ، وفي الشبهة التحريمية الحكمية قالوا : بانه يجب الاجتناب شرعاً وعقلاً اما انّه كيف يكون ذلك ؟ ( فتقريره بوجهين ) كما قال :

ص: 203


1- - معاني الأخبار : ص252 ح1 ، تفسير العياشي : ج1 ص360 ، وسائل الشيعة : ج16 ص258 ب37 ح21506 و ج27 ص162 ب12 ح33493 .
أحدهما :

انّا نعلمُ إجمالاً قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب -

بمقتضى قوله تعالى : « وما نهيكم عنه فانتهوا » ونحوه ، - الخروجُ عن عهدة تركها

-------------------

( أحدهما ) : قاعدة الاشتغال وذلك ( انا نعلم اجمالاً ) بالضرورة ( قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة : بمحرّمات كثيرة ) فان كلّ مسلم يعرف : انّ في الشرع محرمات كثيرة ( يجب بمقتضى قوله تعالى : « وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فانتَهُوا » (1) ونحوه ) من الآيات والأخبار والعقل ( الخروجُ عن عهدة تركها ) وذلك بأن يترك جميع تلك المحرمات .

هذا ، ولعله كان من الاُولى أن لايذكر المصنّف الآية المباركة ضمن الدليل ، لوضوح : ان الدليل المركب من العقل والشرع لا يسمّى عقلياً كما لا يسمّى شرعياً ايضاً ، بل هو مركب منهما ، كما انّ الباب المركب من الحديد والخشب لا يسمى باحدهما خاصة .

وقد ذكرنا في بعض الشروح السابقة أن قول المشهور : ان النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين غير دقيق ، اذ النتيجة تابعة لكلتا المقدمتين ، فلا تختص بالمقدمة الأخس ولا بالمقدمة الأرفع ، بل هي بينهما .

مثلاً: اذا كان البناء الحديدي يبقى عشر سنوات والبناء الخشبي يبقى أربع سنوات، فاذا ركب البناء منهما على التساوي ، بأن يكون كلّ من الحديد والخشب فيه نصفاً ، يبقى سبع سنوات ، اذ لا وجه لان تكون النتيجة تابعة لهذا وحده أو لذاك وحده .

ص: 204


1- - سورة الحشر : الآية 7 .

على وجه اليقين بالاجتناب او اليقين بعدم العقاب ، لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والأخباريين وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطعُ بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ،

-------------------

وعلى كلّ حال : فحيث نعلم بوجود محرمات كثيرة ، يجب علينا ان نتركها جميعاً ، لوضوح : انّ التكليف كما يتنجّز بالعلم التفصلي كذلك يتنجّز بالعلم الاجمالي ، والخروج عن عهدة الترك يكون على وجهين :

الأول : ( على وجه ) يحصل معه ( اليقين بالاجتناب ) وذلك بأن نترك كل ما يحتمل حرمته حتى نتيقن بأنا اجتنبنا عن تلك المحرمات .

الثاني : ( أو ) تكون على وجه يحصل معه ( اليقين بعدم العقاب ) وذلك بان نرتكب فقط ما قام الدليل المعتبر على حليته : كراهة ، أو استحباباً ، أو اباحة ، فان الكل حلال ، فاذا علمنا بالدليل المعتبر قطعنا بعدم العقاب فيما ارتكبناه .

هذا وانّما نحتاج الى اليقين بالاجتناب ، أو اليقين بعدم العقاب ( لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ) فانّه اذا علم الانسان بأنه كُلِّف لا يكون له مخرج عن ذلك التكليف الاّ اذا علم بالبرائة يقيناً أو قام عنده دليل معتبر ولو لم يتيقن بمضمونه ، وذلك ( باتفاق المجتهدين والأخباريين ) جميعاً ، قوله : « باتفاق » ، متعلق بقوله « الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية » .

( و ) من الواضح : انّه ( بعد مراجعة الأدلة ) الشرعية والاطلاع على جملة من المحرمات ( والعمل بها ) أي : بترك تلك المحرمات المقطوعة ( لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية ) لأنا نحتمل انّ المحرمات - مثلاً - مائة والذي ظفرنا عليها تسعون ، فكيف نقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات ؟ .

ص: 205

فلابد من اجتناب كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حلّيّته ، إذ مع هذا الدليل نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعا .

فان قلت : بعد مراجعة الأدلّة يعلمُ تفصيلاً بحرمة امور كثيرة ولا يعلمُ إجمالاً بوجود ما عداها فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن ، حتّى يجب الاحتياط . وبعبارة أُخرى : العلم الاجماليّ قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجماليّ .

-------------------

وحينئذٍ: ( فلابدّ من ) الاحتياط ب- ( اجتناب كل ما يحتمل أن يكون منها ) أي : من تلك المحرمات ( اذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حليته ) أمّا اذا قام دليل شرعيّ على حليته فلا يلزم الاجتناب عنه ( اذ مع هذا الدليل ) الشرعيّ القائم على حليته ( نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعاً ) فيثبت بهذا مراد الأخباريين القائلين : بلزوم إجتناب محتمل التحريم في الشبهة الحكمية .

( فان قلت ) : اذا علمنا بوجود محرمات واطلعنا على مائة محرم - مثلاً - فمن أين لنا انّ المحرمات التي نحن مكلفون بها أكثر من تلك المائة ؟ فلا اشتغال يقيني بالأكثر حتى يلزم البرائة اليقينية عن ذلك الأكثر ، فانه ( بعد مراجعة الأدلة يعلم تفصيلاً بحرمة اُمور كثيرة ) مثلاً : مائة محرّم ( ولا يعلم اجمالاً بوجود ما عداها ) أي : ما عدا هذه المائة ( فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقن حتى يجب الاحتياط ) في الزائد على تلك المائة - مثلاً - .

( وبعبارة اُخرى : العلم الاجمالي ) إنّما هو ( قبل الرجوع الى الأدلة ) التي حصلنا بسبب تلك الأدلة على مائة محرم ( وأما بعده ) أي : بعد الرجوع الى الأدلة ( فليس هنا علم اجماليّ ) بالأكثر من ذلك الذي علمناه من المائة في المثال ، لانحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بالنسبة الى المائة ، وشك بدوي بالنسبة

ص: 206

قلت : إن اُريدَ من الأدلّة ما يوجب العلم بالحكم الواقعيّ الأوّلي ، فكلّ مراجع في « الفقه » يعلمُ أنّ ذلك غير ميسر ، لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنيّة ،

-------------------

الى الزائد ، فنجري في الزائد البرائة ، فلا يستقيم حينئذٍ دليلكم : من انّ الاشتغال اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية .

( قلت ) : اذا كنا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال من الأدلة تم كلامكم ، لكنا لا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال ، اذ الذي نحصل عليه انّما هو بسبب ظواهر الأدلة الظنيّة ، والأدلة الظنّية لا توجب انحلال العلم ، فهو مثل ان نعلم اّنا مكلفون باعطاء دينار لانسان اسمه عليّ ، ثم حصل الظنّ بأن ذلك الانسان هو علي بن الحسين ، فهل نعلم ان عليّ بن الحسين هو الدائن ؟ كلا ، وانّما نظنّ انّه هو الدائن .

وعليه : فالعلم الاجماليّ باقٍ على حاله ، ولم ينحل باعطاء الدينار لعليّ بن الحسين ، ويجب علينا ان نعمل بهذا الظن لقيام الدليل على وجوب العمل به ، لكن بالاضافة الى هذا المظنون يلزم علينا ان نجتنب كل محتمل الحرمة ، فهو مثل لزوم اعطاء كل عليّ دينارا حتى نتيقن ببرائة الذمة . وكيف كان : فانه ( ان اُريدَ من الأدلة ) التي بسببها ينحل العلم الاجمالي ( : ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأولي ) وبذلك ينحل العلم الاجمالي ؟ .

( ف- ) فيه : ان ( كلّ مُراجع في « الفقه » يعلم : ان ذلك غير ميسر ) لوضوح : ان الأدلة الظنية لا توجب العلم بالمحرمات ، بل الأدلة انّما توجب الظن بها على الأغلب ، فانّه وان كان الظن حجّة لكنّه ليس علماً ( لأن سند الأخبار لو فرض قطعياً ، لكن دلالتها ظنّية ) ومن المعلوم : انّه انّما يحصل العلم بسبب الأخبار

ص: 207

وإن اُريدَ منها ما يعمّ الدليل الظنّيَ المعتبر من الشارع فمراجعتها لا يوجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالاً ، إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلاّ وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلاً كان اللازمُ منه عدَم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات .

وهذا المعنى لا يوجبُ انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلمُ بالبراءة

-------------------

اذا كان قطعي السند ، وقطعي الدلالة ، وقطعي المضمون .

( وان اُريد منها ) أي : من الأدلة التي توجب انحلال العلم ( : ما يعمّ الدليل الظنيّ المعتبر من الشارع ) بأن يقال : ان الظنّ بالمحرمات يوجب انحلال العلم الاجمالي بها ؟ .

( ف- ) فيه : ان ( مراجعتها ) أي : مراجعة تلك الأدلة الظنية المعتبرة عند الشارع ( لايوجب ) انحلال العلم الاجمالي ب- ( اليقين بالبرائة من ذلك التكليف المعلوم اجمالاً ) وإنّما لا يوجب الانحلال ( اذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي الاّ وجوب الأخذ بمضمونه ) والأخذ بمضمون الظنون لا يوجب علماً بالواقع حتى يطرد ذلك العلم الاجمالي بوجود المحرمات ( فان كان ) متعلق الظنّ ( تحريماً ، صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلاً ، كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات ) .

وبالنتيجة : لا يحصل العلم بمتعلق الظن حتى يسبب هذا العلم انحلال العلم الاجماليّ ( و ) ذلك لأنّ ( هذا المعنى ) الذي ذكرناه في الظن المعتبر ( لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعية من مضامين تلك الأدلة حتى يحصل العلم بالبرائة )

ص: 208

بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالاً .

وليس الظنّ التفصيليّ بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيليّ بها ، لأنّ العلمَ التفصيليّ بنفسه منافٍ لذلك العلم الاجماليّ والظنَّ غير منافٍ له ، لا بنفسه

-------------------

عن التكاليف الواقعية علماً بالبرائة ( ب- ) سبب ( موافقتها ) لتلك الأدلة .

وعليه : فالظنّ بالمحرمات لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجود المحرمات الواقعية ( بل ولا يحصل الظنّ بالبرائة عن جميع المحرمات ) الواقعية التي نعلم بانها اجمالاً مائة - مثلاً - لأنا نحتمل وجود محرمات أزيد من المائة .

ومن المعلوم : ان الظنّ لا يطرد الاحتمال ، فاذا وجدت المائة في مؤيات الأمارات المظنونة لا يظن بالبرائة عن جميع المحرمات ، ( المعلومة إجمالاً ) كما لا يظن بالبرائة عن المحرمات المحتملة الأُخر .

( و ) ان قلت : أليس الظن المعتبر كالعلم ، فاذا كان كالعلم كان حال الظن المعتبر حال العلم في انحلال العلم الاجمالي بالمحرمات ؟ .

قلت : ( ليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال ) المحرمة وهي المائة - مثلاً - ( كالعلم التفصيلي بها ) أي : بتلك المائة من المحرمات ( لأن العلم التفصيلي بنفسه منافٍ لذلك العلم الاجمالي ) فانّ المحرمات المعلومة تفصيلاً عين المحرمات المعلومة اجمالاً ، بخلاف الظنّ بالمحرمات ، فانّ الظنّ بالمحرمات تفصيلاً ليس عين المحرمات المعلومة اجمالاً .

والحاصل : ان العلم يطرد العلم ، أما الظنّ فلا يطرد العلم ( و ) ذلك لأن ( الظن غير مناف له ) أي : لذلك المعلوم بالاجمال ( لا بنفسه ) لاحتمال أن يكون هناك

ص: 209

ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور .

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به كان ما عدا ما تضمّنته الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها .

-------------------

محرمات في الواقع لم يصل الظن اليها ( ولا بملاحظة اعتباره شرعاً على الوجه المذكور ) .

والمراد بالوجه المذكور : ما ذكره قبل أسطر بقوله « ليس معنى اعتبار الدليل الظنيّ الاّ وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريماً ، صار ذلك كأنه أحد المحرمات ، وان كان تحليلاً كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات » ، وعلى هذا : فالظن ليس شأنه الاّ ذلك فلا يكون طارداً للعلم الاجمالي .

( نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الادلة ) الظنية على نحو السببية لا الطريقية ، ومعنى السببية ما ذكره المصنّف بقوله : ( بحيث انقلب التكليف ) الواقعي ( الى العمل بمودّاها ) أي : بمودّى هذه الأدلة الظنية عند مخالفتها للواقع ( بحيث يكون هو المكلّف به ) بعد قيام الدليل ، وذلك بأن يسقط سائر الواقعيات عن كونها واقعيات عند عدم قيام الدليل عليها ( كان ما عدا ما تضمّنته الأدلة ) الظنية ( من محتملات التحريم ) حينئذٍ ( خارجاً عن المكلّف به ) بعد عدم قيام الدليل على تلك المحتملات التحريم .

وعليه : ( فلا يجب الاحتياط فيها ) أي : في تلك المحتملات التحريم ، وذلك لأنّ العلم الاجماليّ قد سقط بعد قيام الأدلة ، وبعد فرض كون الشارع لا يريد الواقعيات وانّما يريد هذه الأدلة فقط ، فانّ الشارع قد أثبت في الواقع

ص: 210

وبالجملة : فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالاً بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة ، وبقي الشكّ في جملة ثالثة ، لانّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرمّات .

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص

-------------------

- مثلاً - حرمة الخمر ، والخنزير ، والميتة ، فاذا قام الدليل على حرمة الأولين فقط ، وقال الشارع : كلّما لم يقم عليه دليل ليس حراماً ، فان الميتة تسقط عن الحرمة واقعاً ، وحينئذٍ : يكون الدليل الظني المعتبر سبباً لانحلال العلم الاجمالي ، لكن هذا تصويب لا نقول به .

( وبالجملة : فما نحن فيه ) من التكاليف التي يعلم الانسان بوجود حلال وحرام فيها ( بمنزلة قطيع غنم يعلم اجمالاً بوجود محرمات فيها ) لأنها موطوءات - مثلاً - ( ثم قامت البينة على تحريم جملة منها ) كالأغنام البيض ( وتحليل جملة ) كالأغنام السود ، ( وبقي الشك في جملة ثالثة ) كالأغنام الصفر .

وإنّما يبقى الشك في جملة ثالثة ( لأنّ مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب العلم ، ولا الظن بالبرائة من جميع المحرمات ) فان تكاليف الشريعة لو كانت ألفاً - مثلاً - وعلمنا بأن مائة منها محرمة ، فاذا قام الخبر المعتبر على تحريم مائة خاصة من بين الألف ، لم يوجب ذلك انحلال العلم الاجمالي ، لاحتمال ان بعض هذا الخارج عن المائة محرم أيضاً ، لاشتباه الخبر في التعيين وان كان الخبر معتبراً اذ الخبر لا يوجب أكثر من الظن ، فلم ينحل العلم الاجمالي .

( نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ) أي : قال الشارع : ان المحرمات الواقعية انحصرت في مؤّيات البينة ( بمعنى : انّه ) أي : الشارع ( أمر بتشخيص

ص: 211

المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قام عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعيّ .

والجواب : أوّلاً :

-------------------

المحرّمات المعلومة ) بالعلم الاجمالي ( وجوداً وعدماً بهذا الطريق ) فيكون معنى جعل الشارع البينة حجّة : انّ مؤّيات البينة هو الواقع وما سوى مؤّياتها حلال وهو ما ذكرناه : من انهُ تصويب وباطل عندنا .

فاذا كان كذلك ( رجع التكليف الى وجوب اجتناب ما قام عليه البينة ، لا الحرام الواقعي ) فيكون الشارع حينئذٍ قد رفع يده عن الحرام الواقعي ، وجعل مؤى البينة محرماً فقط ، فاذا علمنا بمؤى البينة حصل لنا اليقين بالبرائة ، لأن ذلك يوجب العلم بأن المحرم هو مؤى البينات فقط وأما غير مؤّى البينات فليس محرّماً .

ولا يخفى : أن قولنا : « نعم » الى آخره ليس على طريق المخطئة بل على طريق المصوبة ، وهو مردود عندنا ،فيكون مردوديته دليلاً مؤداً للأخباريين القائلين بوجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية وان قامت الأدلة على تحريم جملة من الاشياء .

( والجواب ) عن هذا الاشكال بما يلي :

( أولاً ) : ان الشارع حيث جعل الأحكام الواقعية وجعل الطرق للأداء اليها ، فهو يتصور على ثلاثة أقسام :

الأول : ان يريد الواقع فقط .

الثاني : ان يريد الطريق فقط .

الثالث : ان يريد الواقع الذي أدّى اليه الطريق .

ص: 212

منعُ تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّفٌ بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا مؤدى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويبُ أو ما يشبهه ،

-------------------

أمّا الاول : فهو لا يكون اذ التكليف غير الواصل عبث ، واما الثاني : فهو خلاف أدلة اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، فهو تصويب باطل ، فلا يبقى الاّ الثالث .

واذا قلنا بالثالث ، فالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الواقع ينحل بقيام الطريق على جملة من المحرمات ، لانّا لا نعلم بعد قيام هذه الطرق على هذه الجملة ، هل بقي في الواقع شيء حرّمه الشارع ام لا ؟ .

والى هذه الاقسام اشار المصنِّف وقال ب- ( منع تعلق تكليف غير القادر ) أي : من لم يقدر ( على تحصيل العلم ) بالمحرمات الواقعية ( الاّ بما ادّى اليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ) من قبل الشارع ( فهو ) أي : المكلّف العاجز عن الواقع ( مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ) المنصوبة له .

( لا ) ان العاجز مكلّف ( بالواقع من حيث هو ) واقع ، سواء أدّى اليه الطريق أو لم يؤي اليه ، لما عرفت : من أنّ الواقع الذي لم يؤ اليه الطريق اذا كلف به الانسان كان عبثاً .

( ولا ) ان العاجز مكلف بحسب ( مؤى هذه الطرق من حيث هو ) وان لم يصادف الواقع ( حتى يلزم التصويب ) الذي يقول به العامّة ( أو مايشبهه ) أي : يشبه التصويب كقول الاشاعرة : بأن الأحكام الواقعية مختصة بالعالمين ولم تشرّع الاّ لهم ، والمعتزلة : بأن الحكم الواقعي مشترك بين العالم والجاهل ، الاّ أنّ الأمارة ان صادفت الواقع يكون الواقع منجّزاً على الجاهل كالعالم ، وان خالفت الأمارة

ص: 213

لأنّ ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه . وحينئذٍ فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعا .

-------------------

الواقع ينقلب الحكم الواقعي الى المؤى ، وهذا الأخير هو مراد المصنِّف بقوله : « أو ما يشبهه » .

وانّما قلنا : انّ العاجز عن الواقع غير مكلف بالواقع - وهو القسم الاول ممّا يتصور من جعل الأحكام وجعل الطرق - ولا بمؤّى هذه الطرق من حيث هو - وهو القسم الثاني منه - ( لان ما ذكرناه ) من القسم الثالث وهو : ان الانسان مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ( هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ) لما دلت عليه الأدلة من اشتراك العالم والجاهل في الأحكام ، فيبطل التصويب بكلا قسميه .

( و ) هو المتحصّل أيضاً من ( ثبوت التكليف بالعمل بالطرق ) التي جعلها الشارع للتأدية الى تلك الأحكام الواقعية المشتركة بين العالم والجاهل ، المستلزم ذلك لجعل البدل ( وتوضيحه ) أي : توضيح هذا القسم الثالث تمّ ( في محله ) ومكانه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الانسان مكلفاً بالواقع لكن من طريق الأدلة والأمارات لا بالواقع البحت ولا بالطريق البحت ( فلا يكون ما شك في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعاً ) أي : ليس الانسان مكلفاً بالواقع الذي لم يصل اليه .

وعليه : فتنحصر المحرّمات في مؤيات الطرق ، فيكون ما حصل عليه بسبب الظن من المحرمات موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالمحرمات الواقعية ،

ص: 214

وثانيا ، سلّمنا التكليف الفعليّ بالمحرّمات الواقعيّة ، إلاّ أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ، كما سيجيء إنشاء اللّه ، أنّه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوبُ الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الاجماليّ اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ،

-------------------

فلا يحتمل الحرمة بعد ذلك في غير مؤيات الطرق حتى يقول الأخباريون : يلزم الاجتناب عن كل محتمل الحرمة كشرب التتن تحصيلاً للبرائة اليقينية من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعية ، اذ بعد عدم احتمالنا لحرمة خارجة عن الذي ادّى اليه الطرق ينحل العلم الاجمالي المذكور .

هذا تمام الكلام في ان الظن التفصيلي بحرمة جملة من الاُمور ، هو كالعلم التفصيلي بها يوجب انحلال العلم الاجمالي .

( وثانياً : سلمنا ) ان الظن التفصيلي ليس كالعلم التفصيلي موجباً للانحلال ، وذلك لانا نقبل ( التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية ) حتى بعد جعل الأمارات والطرق ( الاّ أنّ ) هذا العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة غير مؤر .

وانّما يكون هذا العلم الاجمالي غير مؤر ، بل هو كالجهل رأساً في انّه لا يوجب احتياطاً ، لأنّ (من المقرر في الشبهة المحصورة كما سيجيء انشاء اللّه) تعالى ( انّه اذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الاجمالي اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ) .

مثلا : اذا كان هناك اناءان أحدهما نجس وهو الاناء الأحمر ، والآخر طاهر وهو الاناء الأبيض ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فانّه لا يوجب الحكم بنجاسة الأبيض اذ لم نعلم بانّ هذه القطرة احدثت لنا تكليفاً جديداً ، وذلك لاحتمال

ص: 215

لاحتمال كون المعلوم الاجماليّ هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلاً ، فأصالةُ الحلّ في البعض الآخر غير معارَضَةٌ بالمثل ،

-------------------

أن تكون تلك القطرة وقعت في الاناء الأحمر النجس سابقاً ، والعلم الاجمالي إنّما يوجب الاجتناب عن جميع اطرافه فيما اذا علمنا انّه أحدث تكليفاً جديداً .

والى ذلك أشار المصنِّف بقوله : ( لاحتمال كون المعلوم الاجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلاً ) بأن ينطبق الحرام الجديد وهو النجاسة بسبب وقوع قطرة نجسة على ذلك الذي علمنا انّه نجس سابقاً .

وعليه : ( فاصالة الحلّ في البعض الآخر ) وهو الاناء الأبيض في المثال ( غير معارَضَةٌ بالمثل ) فان العلم الاجمالي انّما يؤر اذا تعارض اصلان ، أصلٌ في هذا الطرف ، وأصل في ذاك الطرف ، كما اذا كان هناك اناءان كلاهما طاهر ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فان أصل الطهارة في الاناء الأبيض معارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، فيتساقط الأصلان ويلزم الاجتناب عن كلا الانائين تحصيلاً للعلم الاجمالي .

ولكن ليس كذلك اذا علم بنجاسة الاناء الأحمر سابقاً قبل أن تقع القطرة في أحدهما ، لأن أصل الطهارة في الاناء الابيض لا يعارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، لأنّا نعلم ان الاناء الأحمر نجس فكيف يجري فيه أصل الطهارة ؟ .

هذا فيما اذا كان العلم بنجاسة الاناء الأحمر قبل ان تقطر القطرة ، وكذا اذا كان الاناءان طاهرين فقطرت في أحدهما قطرة لم نعلم انها قطرت في أي منهما ، لكن قامت البينة على انها قطرت في الاناء الأحمر ، فانّ قيام البينة يوجب انحلال العلم الاجمالي والحكم بطهارة الاناء الأبيض .

ص: 216

سواء كان ذلك الدليلُ سابقا على العلم الاجماليّ ، كما إذا علم نجاسة أحد الانائين تفصيلاً ، فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلاً ، ام كان لاحقا ، كما في مثال الغنم المذكور ، فانّ العلم الاجماليّ غير ثابت بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إنشاء اللّه تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل .

-------------------

ولهذا وصف المصنّف عدم التعارض بالمثل بقوله ( سواء كان ذلك الدليل ) الآخر الموجب لاجتناب بعض أطراف العلم الاجمالي ( سابقاً على العلم الاجمالي ، كما اذا علم ) أولاً ( نجاسة أحد الانائين تفصيلاً ) كنجاسة الاناء الأحمر في مثالنا ( فوقع ) بعد ذلك ( قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه ) أي : بوقوع هذا القذر في أحدهما المجهول ( لا يجب الاجتناب عن الآخر ) وهو الاناء الأبيض في مثالنا ، وذلك لاصالة الطهارة الجارية في الاناء الأبيض السلمية عن المعارض ، ( لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلاً ) فالعلم الاجمالي غير مؤر على ما عرفت .

( أم كان لاحقاً ، كما في مثال الغنم المذكور ) ومثال الانائين المذكورين ( فان العلم الاجمالي ) الموجود قبل قيام البينة على أن أحدهما نجس ( غير ثابت ) ولا مؤر ( بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها ) كالاناء الأحمر في المثال وذلك ( بواسطة وجوب العمل بالبينة ) الذي أقامها الشارع مقام العلم ( وسيجيء توضيحه انشاء اللّه تعالى ) فيما بعد .

( وما نحن فيه من هذا القبيل ) فانّ ماذكرناه كان على نحو الكبرى الكلية في باب العلم الاجمالي ، وحيث قد عرفت الكبرى نقول في انطباقها على ما نحن فيه من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، ثم قيام الأمارة بتعيين تلك

ص: 217

الوجه الثاني :

انّ الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظرُ . كما نسب إلى طائفة من الاماميّة ، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الاباحة ،

-------------------

المحرمات : انّه كما ذكرناه في مثال : قطرة نجس قطرت في أحد الانائين ، ثم قامت البينة بنجاسة الاناء الأحمر حيث ينحلّ بها العلم الاجمالي .

وانّما قلنا : انّه كمثال القطرة لانّ العلم الاجمالي بحرمة جملة من الاُمور ثابت قبل مراجعة الأدلة ، وبأداء تلك الأدلة الى حرمة الامور المذكورة ينحل العلم الاجمالي في المحرمات بسبب قيام الأدلة عليها الكاشفة عن سبق المحرمات على العلم الاجمالي ، فتكون كالبينة القائمة على حرمة الاناء الأحمر الكاشفة عن سبق حرمة الاناء الأحمر على وقوع قطرة النجس في أحدهما .

( الوجه الثاني ) من الدليلين العقليين الذين أقامهما الأخباريون على وجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية الحكمية : ( انّ الأصل ) أي : القاعدة العقلية ( في الأفعال غير الضرورية ) وقال : غير الضرورية ، لانّ الضرورية سواء كانت تكوينية كالكون في الحيز وكالتنفس ، ام عقلية كالأكل وكالشرب الضروريين حكمها الجواز ، اما غير الضرورية فحكها عند الاخباريين : ( الحظر ) أي : المنع ، لأنّ العقل يرى ان الكون ملك للغير فلا يجوز التصرّف فيه الاّ باذن مالكه .

( كما نسب ) هذا القول بالحظر ( الى طائفة من الإماميّة ) أيضاً ، وقد ذهب اليه جماعة من غير الإماميّة أيضاً .

وعليه : ( فيعمل به ) أي : بهذا الأصل ( حتى يثبت من الشرع الاباحة )

ص: 218

ولم يرد الاباحة فيما لا نصّ فيه . وما ورد على تقدير تسليم دلالته ، مُعارَضٌ بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل .

-------------------

في الموارد الخاصة من قبيل قوله تعالى : « أحَلَّ اللّهُ البَيعَ » (1) .

وقوله تعالى : « وَاُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلِكُم » (2) .

الى غير ذلك من الأدلة الكلية أو الأدلة الجزئية الدالة على الاباحة فالأدلة الجزئية مثل حلية البيع ، والأدلة الكلية مثل : ما دلّ على البرائة في الشبهة الموضوعية تحريمية أو وجوبية ، وما دل على البرائة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، وفي غيرها ممّا لا دليل على البرائة فيه ، يكون التصرّف فيه من التصرف في ملك الغير ، فشرب التتن - مثلاً - تصرف في ملك الغير ويحتمل فيه العقاب الاُخروي ما لم يرد نص باباحته ( ولم يرد الاباحة فيما لا نص فيه ) من الشبهة الحكمية التحريمية - كشرب التتن في المثال - حتى يجوز ارتكابه ، فيبقى تحت الأصل .

( وما ورد ) من أدلة البرائة والاباحة الشاملة للشبهة الحكمية التحريمية ، ففيها ما يلي :

أولاً : لا نسلم دلالة تلك الأدلة على البرائة .

ثانياً : ( على تقدير تسليم دلالته ، معارضٌ بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط ) فيتساقطان ونبقى بلا دليل شرعي خاص على الاباحة ولا على الحظر ( فالمرجع ) حينئذٍ يكون ( الى الأصل ) الذي ذكرناه وهو : الحظر .

ص: 219


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة النساء : الآية 24 .

ولو نزلنا عن ذلك فالوقفُ ، كما عليه الشيخان ، واحتجّ عليه في العدّة بأنّ الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه .

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية ، وإن قال بأصالة

-------------------

ثالثاً : ( ولو نزلنا عن ذلك ) ولم نقل انّ الأصل في الأشياء الحظر ( ف- ) اللازم ان نقول : ب- ( الوقف ) أي : التوقف ( كما عليه ) أي : على الوقف ( الشيخان ) والمراد بهما : الشيخ المفيد والشيخ الطوسي .

ومن المعلوم : ان نتيجة الوقف هو نتيجة الحظر في العمل ، وانّما الفارق بينهما : انّ الأول يقول شرب التتن حرام ، والثاني يقول : شرب التتن لا اعلم انّه حرام أو حلال ، لكن اللازم ان لا نشربه .

( واحتج عليه ) أي : على الحظر الشيخ ( في العدة بأنّ الاقدام على ما لا يؤن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه ) فانّ العقل يرى وجوب الاجتناب عن شيئين :

الأول: الاجتناب عمّا يقطع فيه المفسدة، كالطريق الذي يعلم بأنّ فيه اسداً - مثلاً - .

الثاني : الاجتناب عمّا لا يأمن وجود المفسدة فيه كالطريق الذي لا يعلم هل فيه أسد أو ليس فيه أسد؟ فاذا لم يأمن عدم وجود المفسدة فيه يرى العقل الاجتناب عنه.

( وقد جزم بهذه القضية ) أي : قضية كون الاقدام على محتمل المفسدة ، كالاقدام على مقطوع المفسدة ( السيد أبو المكارم في الغنية ) فانّه متفق مع شيخ الطائفة على هذه القضية أولاً وبالذات ( وان قال بأصالة

ص: 220

الاباحة ، كالسيّد المرتضى ، تعويلاً على قاعدة اللطف وأنّه لو كان في الفعل مفسدةٌ لوجب على الحكيم بيانُه ، لكن ردّها في العدّة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف .

والجواب : بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ،

-------------------

الاباحة ، كالسيد المرتضى ) القائل باصالة الاباحة ثانياً وبالعرض .

وانّما قال بأصالة الاباحة ( تعويلاً على قاعدة اللطف ) فقاعدة اللطف عندهما مخرجة عن أصالة الحظر ، التي يقولان بها أولاً وبالذات ( و ) المراد بقاعدة اللطف : ( انّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه ) فلما لم يبيّن ، دلّ ذلك على عدم وجود المفسدة في الفعل .

( لكن ردها ) أي : رد الشيخ قاعدة اللطف المذكورة هنا ( في العدة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ، ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف ) أي : ان الشارع لا يبيّن لأن في بيانه مفسدة ، فعدم البيان انّما هو لوجود المفسدة في البيان ، لا لعدم المفسدة في الشيء ، فلا يدل عدم البيان على عدم المفسدة .

مثلا : الظالم يريد قتل زيد وفي سفر زيد مفسدة : هي خسارة الف دينار ، لكن المولى لا يقول له : لا تسافر ، لأنه اذا قال له : لا تسافر ، علم الظالم وجود زيد في البلد فيأتي ليلاً ويقتله ، ولذا لا يبين المولى لزوم عدم سفره ، فعدم بيان المولى بوجود المفسدة في السفر لا يكون معناه : انّه لا مفسدة في السفر .

( والجواب : ) أولاً : انّا لا نسلم الحظر ، فانّ العقل يدل على ان المولى في غاية الكرم ، فلا مانع عنده من التصرّف في الكون تصرفاً غير ضار بأحد ، فاذا ثبت عدم تضرر أحد في التصرّف ثبتت الاباحة العقلية .

ثانياً : انا نقول : ( بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ) المحتمل بمعنى :

ص: 221

أنّه إن اُريد ما يتعلقُ بأمر الآخرة من العقاب فيجبُ على الحكيم تعالى بيانُه ، فهو مع عدم البيان مأمونٌ ، وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا ، فوجوبُ دفعها غيرُ لازم عقلاً ، إذ العقلُ لا يحكمُ بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ،

-------------------

ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل كما يرى وجوب دفع الضرر المقطوع به ، ولعل قول المصنِّف بعد التسليم : انّما اراد أن يشير الى ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست كلية ؛ وذلك لما نرى من اقدام العقلاء على الاضرار حتى الكثير منها .

ثمّ بعد التسليم نقول : ( انّه ان اُريد ) بالضرر المحتمل : الواجب الدفع وهو : ( ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب ) بأن احتمل بأنّ في شرب التتن - مثلاً - عذاباً في الآخرة ، ( فيجب على الحكيم تعالى بيانه ) لقبح العقاب بلا بيان عقلاً وشرعا - على ما تقدّم - ( فهو ) أي ، العقاب ( مع عدم البيان مأمونٌ ) فلا احتمال للضرر الاُخروي ( وان اريد غيره ) أي : غير العقاب الاخروي من الضرر المحتمل بان كان ( ممّا لا يدخل في عنوان المؤخذة ) الاُخروية بل كان ( من اللوازم المترتبة ) على المحرمات الواقعية حتى ( مع الجهل أيضاً ) مثل المرض المترتب على شرب الخمر وما أشبه ذلك ( فوجوب دفعها غير لازم عقلاً ) فانّ القاعدة العقلية القائلة بوجوب دفع الضرر المحتمل لا تجري في كل مكان ( اذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع ) به ( اذا كان لبعض الدواعي النفسانية ) والتراجيح العقلائية .

مثلاً : تراهم يركبون البحار مع احتمال الغرق ، لكون ذلك عندهم أهم ، بأن كان

ص: 222

وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد .

وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتب عليه العقاب ، لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ،

-------------------

لأجل التجارة المربحة ، أو لأجل السياحة المفرحة ، أو ما أشبه ذلك ، وهذا بالنسبة الى الاضرار الكثيرة الدنيوية ، فكيف بالأضرار القليلة ؟ ولهذا ترى البعض يمشون في الشمس وان كان يوجب صداع رأسهم ، ويمشون حفاة وان كان يوجب ذلك جرح أرجلهم ، الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( وقد جوّز الشارع ، بل أمر به في بعض الموارد ) فانّ الشارع أمر بكثير مما فيه الضرر ، وذلك من باب الأهم والمهم ، أو ما أشبه ، فقد أمر بالخمس ، والزكاة ، والجهاد ، والقصاص ، والحدود ، والالتزام بالقوانين التي فيها ضرر مالي على الانسان ، مثل نفقة الزوجة والأقرباء ، الى غير ذلك ، والعقل أيضاً يؤده .

( وعلى تقدير الاستقلال ) بأن سلمنا : ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل ( ف- ) نقول : ( ليس ) هذا الحكم العقليّ ( ممّا يترتب عليه العقاب ) في صورة الشك في الضرر ( لكونه من باب الشبهة الموضوعية ) فان في شرب التتن - مثلاً - جهتان :

الجهة الاُولى : احتمال التحريم وهذه شبهة حكمية ، اختلف فيها الأخباريون والاُصوليون ، فالأخباريون على الاحتياط ، والاُصوليون على البرائة .

الجهة الثانية : احتمال الضرر الدنيوي المستلزم لاحتمال الحرمة ، كاحتمال أن يكون ضاراً بصحة الانسان ، أو ضاراً بماله ، أو ما أشبه ذلك ، واحتمال الضرر

ص: 223

لأنّ المحرّم هو مفهوم الاضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك ، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المايع الخاصّ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريّين أيضا ، وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

الدنيوي شبهة موضوعية تحريمية ، وقد تقدّم : ان الشبهة الموضوعية يتفق فيها الأخباريون والاُصوليون على عدم وجوب الاجتناب .

وإنّما لا يترتب عليه العقاب ( لأن المحرّم ) عقلاً ( هو مفهوم الاضرار ، وصدقه) أي : صدق مفهوم الاضرار ( في هذا المقام ) أي : في الأعمال المحتملة الضرر مثل شرب التتن ( مشكوك ) فيه ( ك- ) الشك في ( صدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المايع الخاص ) .

وعليه : فان الاُصوليين والأخباريين وان اتفقوا على تحريم شرب المسكر ، الاّ انّه اذا شك في أن هذا المائع الخاص في هذا الاناء الخاص هل هو مسكر أم ليس بمسكر من باب الشبهة الموضوعية ؟ فلا يقول أحد من الأخباريين والاُصوليين بوجوب الاجتناب عنه ، لأنه شبهة موضوعية ( والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضاً ) أي : كالاصوليين .

( وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعية انشاء اللّه تعالى ) كما وقد ظهر : انّ الدليل الثاني للعقل كالدليل العقليّ الأول للأخباريين لا يقوم أيضاً بالدلالة على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية .

ص: 224

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

المحكيَّ عن المحقق التفصيلُ في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني . ولا بدّ من حكاية كلامه قدس سره ، في المعتبر والمعارج حتّى يتضح حال النسبة .

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) :

الأمر ( الأول ) : قد تقدّم الكلام : بانّ في الشبهة الحكمية التحريمية

قولان :

الأول : البرائة وهو مقالة الاُصوليين .

الثاني : الاحتياط وهو مقالة الأخباريين .

وهناك قول ثالث نسبه بعض الى المحقق ، وهو التفصيل بين ما يعم به البلوى ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، بل يجري فيه البرائة كما يقول به الاُصوليون ، وبين ما لا يعم به البلوى ، فيلزم فيه الاحتياط كما يقول به الأخباريون ، والمصنّف أراد بيان بطلان نسبة هذا القول الى المحقق فقال : ( المحكيّ عن المحقق ) صاحب الشرائع ( : التفصيل في اعتبار أصل البرائة بين ما يعم به البلوى ) أي : يبتلي الانسان به كثيراً ( وغيره ) أ ي : ما لا يبتلي الانسان به كثيراً (فيعتبر) أصل البرائة ( في الأوّل ) وهو ما يعم به البلوى ( دون الثاني ) وهو ما لا يعلم به البلوى .

ثم قال : ( ولابد من حكاية كلامه قدس سره في المعتبر والمعارج حتى يتضح حال النسبة ) وانها نسبة غير صحيحة ، فان المحقق قائل بالبرائة مطلقاً كسائر

ص: 225

قال في المعتبر : « الثالثُ ، يعني من أدلّة العقل ، الاستصحابُ ، وأقسامه ثلاثة :

الأوّلُ : استصحابُ حال العقل ، وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة كما يقال : الوتر ليس واجبا ،

-------------------

الاُصوليين وذلك لأنه ( قال في المعتبر : الثالث : يعني : من أدلة العقل ، الاستصحاب ) .

أقول : ذكر المحقق ان مستند الأحكام خمسة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، ودليل العقل والاستصحاب ، ثمّ اعتبر الكتاب أولاً ، والسنة ثانياً ، وألحق الاجماع بالسنة ، حيث قال : « وأما الاجماع فعندنا هو حجّة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله عليه السلام لما كان حجّة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجّة لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله عليه السلام ، انتهى ، ثم اعتبر دليل العقل ثالثا ، ثم ذكر الاستصحاب وألحقه تارةً بالشرع الذي هو داخل في الكتاب والسنة ، وتارة بالعقل .

فتحصّل : ان الأدلة عند المحقق ثلاثة فقط ، وكأنّ المصنِّف بهذا الاعتبار قال ما قاله ، فلا يستشكل عليه ، بأنّ المحقق جعل مدرك الأحكام خمسة ، فلماذا قال المصنِّف بأنه جعله ثلاثة ؟ وكيف كان : فقد ذكر المحقق الاستصحاب ( و ) جعل ( اقسامه ثلاثة ) على النحو التالي :

( الأول : استصحاب حال العقل ) بأن كان في السابق قد حكم العقل بشيء فنستصحبه ( وهو التمسك بالبرائة الأصلية ) أي : البرائة قبل الشرع ، أو البرائة حال الصغر والجنون ونحوهما ، وذلك ( كما يقال ) عندما نشك في التكليف ( : الوتر ليس واجباً ) علينا ، فيما اذا شك في أن صلاة الوتر هل تجب علينا

ص: 226

لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أنَ يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع - إلى أن قال :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفائه . وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك

-------------------

كما كانت تجب على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ .

فنقول : انّها لا تجب علينا ووجوبها على النبيّ إنّما كان من اختصاصاته صلى اللّه عليه و آله وسلم وذلك ( لأن الأصل ) أي : السابق على الشرع ( برائة الذمة ) من الوتر ، فنستصحب تلك البرائة .

( ومنه ) أي : من استصحاب حال العقل : ما لو تردّد المكلّف بين الأقل والأكثر ، فانّ الأقل واجب قطعاً ، أما الزائد على الأقل فيشك في وجوبه ، فيقال : البرائة كانت اولاً ، فنستصحب البرائة ، مثل ( أن يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابة المترددة ) تلك الدية ( بين النصف ) أي : نصف قيمة الدابة كما قال به بعض ( والربع ) الذي قال به البعض الآخر ، ( الى أن قال ) المحقق :

( الثاني ) من الأقسام الثلاثة للاستصحاب هو : استصحاب حال العقل أيضاً ، وذلك ب- ( أن يقال : عدم الدليل على كذا ) مثلاً : عدم الدليل على حرمة شرب التتن ( فيجب انتفائه ) فلا يكون حراماً .

( وهذا ) أي : كون عدم الدليل دليل على العدم انّما ( يصحّ فيما ) يعم به البلوى بحيث ( يعلم انّه لو كان هنا ) ك ( دليل لظفر به ) عادة ( اما لا مع ذلك ) أي :

ص: 227

فيجب التوقف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالاباحة ، لعدم دليل الوجوب والحظر .

الثالث : استصحاب حال الشرع ،

-------------------

لا مع عموم الابتلاء ، كما اذا شذّ الابتلاء به ( فيجب التوقف ، و ) لكن ( لا يكون ذلك الاستدلال ) بعدم الدليل ( حجة ) فيه حتى يصحّ الاستناد اليه .

( ومنه ) أي : من هذا القسم الثاني من الاستصحاب ( : القول بالاباحة ) عند الشك في التكليف ، سواء كان شكاً في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية ( لعدم دليل الوجوب والحظر ) فيقال : انّه لا دليل على وجوب الدعاء عند رؤة الهلال فهو مباح ، ولا دليل على حرمة شرب التتن فهو مباح ايضاً .

ومن هذا الكلام يظهر : انّ المحقق لا يفصّل في البرائة بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، وانّما يفصل في قاعدة عدم الدليل ، وان عدم الدليل انّما يكون حجّة فيما يعم به البلوى ، وليس حجّة فيما لا يعم به البلوى ، فلا يتمسك بهذا الدليل لأجل البرائة فيما لا يعم به البلوى بل يتمسك بأدلة اُخرى للبرائة فيه ، وعلى أي حال : فهو كسائر الاُصوليين قائل بالبرائة مطلقاً .

ثم قال المحقق في بيانه لأقسام الاستصحاب : ( الثالث : استصحاب حال الشرع ) بأن يكون هناك شيء مشروع في الزمان الأوّل ، ثمّ لا نعلم هل انّه في الزمان الثاني باقٍ أم لا ؟ فنستصحب ذلك ، كما اذا كان في الصباح متطهراً ، ثم شك في انّه هل أحدث أم لا ؟ حيث يستصحب الطهارة ، أو تعلم المرأة بانّها كانت في الصباح حائضاً ، ثم لا تعلم هل الحيض مستمر أم لا ؟ فانها تستصحب الحيض ،

ص: 228

فاختار أنّه ليس بحجة » ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره .

وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : « أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فاذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالةٌ شرعيّة ، لكن ليس كذلك ، فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ

-------------------

وهكذا ( فاختار انّه ليس بحجة ) (1) وسيأتي الكلام حول مذهب المحقق بالنسبة الى الاستصحاب في موضعه انشاء اللّه تعالى .

( انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره ) وقد عرفت : انّه لا يفصّل بين أقسام الشبهة الحكمية التحريمية ، وانّما يجري في الكل البرائة .

هذا ( وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : ان الأصل ) أي : القاعدة ( خلوّ الذمة عن الشواغل الشرعية ) أي : الذمة لا تكون مشغولة بواجب أو محرَّم شرعيّ بدون العلم أ و الدليل على ذلك .

وعليه : ( فاذا ادّعى مدّع حكماً شرعيّاً ) بأن قال - مثلاً - التتن حرام ، أو قال الدعاء عند رؤة الهلال واجب ( جاز لخصمه ) الذي لا يقول بمقالته ( أن يتمسك بالبرائة الأصلية ، فيقول ) التتن ليس بحرام ، والدعاء عند رؤة الهلال ليس بواجب بدليل انّه ( لو كان ذلك الحكم ثابتاً لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك ) أي : ليس هناك دليل على هذا الحكم التحريمي في التتن ، والوجوبي في الدعاء ( فيجب نفيه ) والبرائة منه .

( و ) لكن ( هذا الدليل ) أي : جعل عدم الدليل دليلاً على العدم ( لا يتم

ص: 229


1- - المعتبر : ص6 .

إلاّ ببيان مقدّمتين :

إحديهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وتبيّن عدم دلالتها عليه .

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لكان عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت الدلالات منحصرة فيها ،

-------------------

الاّ ببيان مقدمتين ) على النحو التالي :

( احديهما : انّه لا دلالة عليه شرعاً ) ويكون ذلك ( بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعية ) وينحصر في الكتاب والسنة والاجماع والعقل - مثلاً - ( وتبيّن عدم دلالتها ) أي : تلك الادلة ( عليه ) أي : على حرمة التتن - مثلاً - وحينئذٍ يكون عدم الدليل دليلاً على العدم ، فهو مثل أن يكون للمدرسة غرف أربع بلا وجود مرفق آخر للمدرسة ، فاذا لم يجد الانسان زيداً في تلك الغرف دل ذلك على عدم وجوده في المدرسة أصلاً .

( والثانية : أن يُبيّن انّه لو كان هذا الحكم ثابتاً لكان عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة ) ولم يبين الشارع حرمة للتتن ، ولا وجوباً للدعاء ، لاببيان خاص ولا ببيان عام ( لزم التكليف ) من الشارع ( بما لا طريق للمكلّف الى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ) والتكليف بما لا يطاق لا يصدر من الحكيم قطعاً .

هذا ( ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلة ) التي ذكرناها من الكتاب والسنة والاجماع والعقل والاستصحاب ( لما كانت الدلالات منحصرة فيها ) أي :

ص: 230

لكنّا بينّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلاً على نفي الحكم » ، انتهى .

وحكي عن المحدّث الاستراباديّ في فوائده :

-------------------

في هذه الأدلة التي ذكرناها .

( لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ) الخمسة .

( وعند ذلك ) أي : عند تمام المقدمتين المذكورتين ( يتم كون ذلك ) أي : كون عدم الدليل ( دليلاً على نفي الحكم (1) ، انتهى ) كلام المحقق قدس سره ، وقد تبيّن : ان هذه العبارة من المحقق في المعارج كعبارته في المعتبر لا تدل على تفصيله في الشبهة الحكمية بين ما هو محل الابتلاء فالأصل البرائة ، وما ليس محل الابتلاء فالأصل الاحتياط .

( وحُكي عن المحدّث الاسترابادي في فوائده ) انّه فهم من كلام المحقق التفصيل الذي نسب اليه : من الحكم بالبرائة في الشبهة التحريمية التي تعم بها البلوى دون ما لاتعم بها البلوى ، فانّ فيما لا تعم به البلوى يلزم الاحتياط ، وعلله : بانّه اذا عمّت البلوى به ولم يرد التحريم عنهم عليهم السلام فيه ، دلّ عدم ورود التحريم على العدم ، بخلاف ما لا تعم به البلوى من الشبهات التحريمية .

نعم ، على مسلك العامة لا فرق في البرائة بين كون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، وغيرها ، لأنهم يرون انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بيّن كل الأحكام لكل الأفراد ، فاذا لم نعلم بتحريم شيء معناه : لا تحريم له ، سواء كان ممّا يعم به البلوى أم لا ، بخلاف الشيعة الذي يرون ان جملة من الأحكام بينّها الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام فقط ،

ص: 231


1- - معارج الاُصول : ص212 .

« أنّ تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ، لعموم البلوى بها ، فاذا لم يظفر بحديثٍ دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعاً عادياً بعدمه ،

-------------------

لانّه هو الخليفة من بعده ، وعليه بيان ما لم يبيّنه الرسول للناس .

وأجاب المصنّف عن هذا التفصيل : بأنه لا نسلم حرمة الشبهة التحريمية بعد عدم وصول دليل على تحريمها ، اذ اللازم في التكليف أن يوصل المولى الحكم الى العبد بدليل أو أصل ، فاذا لم يصل ، لم يكن تكليف ، من غير فرق بين أن تكون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، أو غير ما يعم بها البلوى ، كما قال بذلك الاُصوليون فانّهم يجرون البرائة في الشبهة التحريمية مطلقاً .

وعلى أي حال : ففي التفصيل المذكور ما يلي :

أولاً : لم يقل به المحقق - كما عرفت - .

ثانياً : لا دليل عليه ، وان ذكره المحدث الاسترابادي ونسبه الى المحقق .

هذا ، و قد ذكر المحدث المذكور : ( ان تحقيق هذا الكلام ) الذي ذكره المحقق مفصلاً في مسألة البرائة ( هو : ان المحدّث الماهر اذا تتبع الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام في مسألة ) كانت معروفة لدى الناس ومحل ابتلائهم بحيث ( لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ) بين أصحاب الأئمة عليهم السلام وذلك ( لعموم

البلوى بها ) أي : بتلك المسألة .

وعليه : ( فاذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ) المخالف للأصل ( ينبغي أن يحكم قطعاً عادياً بعدمه ) أي: يطمئن الانسان الى انّه لا حكم خلاف الأصل في تلك المسألة، والاّ لبينّوه، ولسأل الرواة عنهم عليهم السلام .

ص: 232

لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه السلام -

كما في المعتبر - كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم السلام ، في مدّة تزيد على ثلثمائة سنة وكان همّهم وهمّ الائمة ، إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّما يسمعون منهم في الاصول ، لئلا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ،

-------------------

وإنّما يقطع بالعدم ( لأن جمّاً غفيراً من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم ) أي : من أولئك الأفاضل هم ( تلامذة الصادق عليه السلام ) والباقون منهم تلامذة سائر الأئمة ، وقد ذكرنا نحن في كتاب : « الحرية الاسلامية » (1) جملة كبيرة من تلامذتهم عليهم السلام.

( كما في المعتبر ) حيث ذكر المحقق فيه ذلك ، فان كثيراً من علمائنا ( كانوا ملازمين لأئمتنا عليهم السلام في مدة ) حضور الائمة عليهم السلام بين الناس ، سواء حضوراً ظاهراً كالامامين الصادقين عليهم السلام ، أو حضوراً مشوباً بشيء من الاستتار ، كما في زمان الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الصغرى ، وتلك المدة ( تزيد على ثلثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الائمة إظهار الدين عندهم ، وتأليفهم ) عطف على « اظهار الدين » ، أي : كان همّ أصحاب الائمة عليهم السلام أن يؤّفوا ويكتبوا ( كلّما يسمعون منهم في الاُصول ) الأربعمائة التي هي مذكورة في كتبنا ، حيث أنهم كتبوا ما سمعوه منهم في أربعمائة كتاب وسموها : ب- « الاُصول الأربعمائة » .

وإنّما كتبوا هذه المؤفات ( لئلا يحتاج الشيعة الى سلوك طريق العامة )

ص: 233


1- - وهو من الكتب التي ألّفها الشارح في العراق عام 1380ه وطبع عام 1409ه من قبل دار الفردوس في لبنان .

وليعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى . فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ، لم يضيّعوا مَن في أصلاب الرجال من شيعتهم ، كما في الروايات المتقدّمة . ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع - إلى أن قال - ولا يجوز التمسّك به

-------------------

من العمل بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والرأي ، وما أشبه ذلك ، مما يؤي الى تمويه الحقّ والانحراف عن الدين .

( وليعمل ) الشيعة ( بما في تلك الاُصول ) الأربعمائة ( في زمان الغيبة الكبرى ) حيث انهم عليهم السلام أخبروا بأن للمهدي عليه السلام غيبتان : غيبة صغرى تربوا على سبعين عاماً ، وغيبة كبرى تمتد طويلاً الى أن يظهره اللّه سبحانه وتعالى ليملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ان ملئت ظلماً وجوراً .

وعليه : ( فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ) عليهم السلام ( لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم كما في الروايات المتقدمة ) عن كتاب الفوائد المدنية ، ولهذا أمروا اصحابهم بكتابة أحاديثهم وبحفظها حتى تصل الى الشيعة في العصور المتأخرة .

إذن : ( ففي مثل تلك الصورة ) أي : صورة عموم البلوى بالشبهة ، ولم يكن من الائمة عليهم السلام شيء خلاف الأصل فيها ( يجوز التمسك ) في اثبات البرائة وعدم الحكم بالتحريم ، تمسكاً ( بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل ) في المسألة العامة البلوى ( دليل ) شرعي ( على عدم ذلك الحكم في الواقع ) فلم يكن في تلك المسألة حكم يخالف الأصل ، فيتمسك بالبرائة فيها .

( الى أن قال ) المحدّث الاسترابادي ( ولا يجوز التمسك به ) أي : بكون عدم

ص: 234

في غير المسألة المفروضة إلاّ عند العامّة القائلين بأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم أظهر عند أصحابه كلّما جاء به وتوفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره وما خصّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أحدا بتعليم شيء لم يُظهِره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به » ،

-------------------

الدليل دليلاً على العدم لأثبات البرائة ( في غير المسألة المفروضة ) وهي الكثيرة الابتلاء ( الاّ عند العامة القائلين : بأنه صلى اللّه عليه و آله وسلم أظهر عند ) جميع ( أصحابه كلما جاء به ) مما يعم به البلوى ، وممّا لا يعم به البلوى .

( و ) القائلين : بأنه قد ( توفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره ) أي : على نشر كلّما جاء به ، وتلك الجهة الواحدة هي جهة كلّ المسلمين .

( و ) القائلين أيضاً : بانه ( ما خصّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أحداً بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ) فمن الممتنع اختفاء أي حكم من الأحكام ، سواء كان مما يعم به البلوى أو مما لم يعم به البلوى .

( و ) القائلين أيضاً : بانه ( لم يقع بعده ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( ما اقتضى اختفاء ما جاء به ) (1) من الأحكام .

بخلاف الشيعة الذين يقولون : بأنه صلى اللّه عليه و آله وسلم خصّ علياً عليه السلام بأحكام كثيرة لم يكن له وقت بيانها واظهارها لجميع الناس ، فقد علمه ألف باب من العلم يفتتح من كل باب ألف باب (2) .

ص: 235


1- - الفوائد المدنية : ص140 .
2- - الخصال : ص647 ح35 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 ، تاريخ ابن عساكر : المجلد الثاني في ترجمة الإمام علي ح1003 .

انتهى .

أقولُ : المرادُ بالدليل المصحّح للتكليف ، حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى

-------------------

كما ان الشيعة يقولون بما يقوله القرآن : « وَمَا مُحمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ ، أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقلَبتُم على أعقابِكُم » (1) من انّه بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم صارت الفتنة مما اقتضى اختفاء كثير مما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم اما عناداً ، وإما خوفاً .

وعليه : فالفرق عند هذا المحدّث بين الشيعة والعامة هو : ان العامة يرون ان كلّ حكم لم يصل من الرسول يجوز فيه البرائة ، بينما الشيعة يخصون ذلك بما يعم به البلوى .

( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي في وجه التفصيل بالبرائة فيما يعم به البلوى من الشبهة الحكمية التحريمية ، وبالاحتياط فيما لا يعم به البلوى منها .

( أقول ) : انّ المحقق لا يريد التفصيل بين الشبهة الحكمية التي تعم بها البلوى ولم يرد فيها نص حيث البرائة ، وبين الشبهة الحكمية التي لا تعم بها البلوى حيث الاحتياط ، بل يريد المحقق التمسك بأصالة البرائة بحكم العقل بقبح العقاب بما لا يطاق ، وقبح العقاب من دون بيان ، فالتكليف عنده غير منجّز مطلقاً سواء كان مما يعم به البلوى بالشبهة أم لا يعم البلوى بها .

وعليه : فان ( المراد بالدليل المصحّح للتكليف ) الذي يصح للمولى ان يكلف العبد بسبب ذلك الدليل ( حتى لا يلزم ) منه ( التكليف بما لا طريق للمكلف الى

ص: 236


1- - سورة آل عمران : الآية 144 .

العلم به ، هو ما تيسّر للمكلّف الوصولُ إليه والاستفادةُ منه ، فلا فرقَ بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني أصلاً او كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه او يمكن لكن بمشقّة رافعة للتكليف ، او تيسّر ولم يتمّ دلالتهُ في نظر المستدلّ ، فانّ الحكم الفعليّ في جميع هذه الصور قبيحٌ على

-------------------

العلم به ) أي : لا يلزم التكليف بما لا يطاق ( هو ) ما يلي :

أولاً : ( ما تيسّر للمكلّف الوصول اليه ) أي : الى ذلك الدليل .

( و ) ثانياً : ماتيسّر للمكلّف ( الاستفادة منه ) بأن تم دلالة ذلك الدليل على مراد المولى .

إذن : ( فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني اصلاً ) حيث لا تكليف ( أو كان ولم يتمكن المكلّف من الوصول اليه ) حيث انه لا تمكن للمكلف من الوصول الى ذلك ، وحينئذٍ اذا كلفه المولى وعاقبه على الترك بدون ايجاب الاحتياط عليه ، كان ذلك من المولى قبيحاً عقلاً .

( أو يمكن ) الوصول اليه ( لكن بمشقة رافعة للتكليف ) فإن المولى رفع مثل هذا الفحص عنه لدليل العُسر والحَرج والضرر وما اشبه .

( أو تيسر ولم يتم دلالته في نظر المستدل ) لما عرفت : من لزوم تمام دلالة الدليل في نظر المستدل .

بل ينبغي أن يقال أيضاً : بعدم التكليف فيما اذا لم يتم جهة صدوره في نظر المستدل وذلك بأن كان نظره بان الحكم صدر تقية .

و عليه : ( فان الحكم الفعلي ) أي : تنجز التكليف على مثل هذا المكلّف ( في جميع هذه الصور ) التي ذكرناها ( قبيح ) عقلاً وشرعاً ، لأنه كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، بالاضافة الى ما تقدّم من الآيات والروايات والاجماع ( على

ص: 237

ما صرّح به المحقق قدس سره ، في كلامه السابق ، سواء قلنا بأنَّ وراء الحكم الفعليّ حكما آخر يسمّى حكما واقعيّا وحكما شأنيّا على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس وراءه حكم آخر ، للاتفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ .

وحينئذٍ : فكلّ ما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره

-------------------

ما صرح به المحقق قدس سره في كلامه السابق ) حيث قال : « ان أهل الشرائع كافة لايخطّئون من بادر الى تناول شيء من المشتبهات » الى آخر كلامه .

إذن : فاللازم في تحقق التكليف الذي ان تركه العبد استحق العقاب هو : وجود دليل جامع للشرائط ، وأما مجرد وجوب التكليف في الواقع فانه لا يسبب تكليفاً على العبد ، ولقد تقدّم منّا : ان التكليف غير الواصل يمكن أن لا يكون تكليفاً اذا لم يكن له أثر ، لأنه لغو ( سواء قلنا : بأن وراء الحكم الفعليّ حكم آخر يسمى حكماً واقعياً وحكماً شأنياً على ما هو مقتضى مذهب المخطئة - ) حيث انهم يقولون : ان للّه سبحانه في كل واقعة حكماً قد يصل اليه المكلّف وقد لا يصل اليه ( أم قلنا : بأنه ليس ورائه حكم آخر ) على ما هو مذهب المصوبة .

وانّما قلنا بأن الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح ( للاتفاق ) من الأخباريين والاُصوليين ( على ان مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو : الحكم الفعليّ ) فحيث لا حكم فعليّ لا تكليف ، وحيث لا تكليف لا ثواب ولا عقاب .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان المدارفي التكليف والثواب والعقاب هو الحكم الفعلي ( فكلّما تتبع المستنبط في الأدلة الشرعيّة ) بأن لاحظ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، وسائر الأدلة الشرعية المعتبرة ( في نظره ) أي : في نظر المتتبع

ص: 238

إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعليّ ، ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ، ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم .

-------------------

( الى ان علم من نفسه : عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبع ) لأنه علم بأنه لا يصل الى شيء ، أ و علم بأن الزائد مشقة لا يريد الشارع منه .

( ولم يجد فيها ما يدل على حكم مخالف للأصل ) الذي هو الاباحة ، كما اذا لم يجد في الأدلة حرمة شرب التتن ، أو لم يجد في الأدلة وجوب الدعاء عند رؤة الهلال ( صح له ) أي : لهذا المتتبع المستنبط ( دعوى ) البرائة وعدم التكليف ، والبرائة تفيد ( القطع بانتفاء الحكم الفعلي ) على هذا المستنبط المتتبع .

( ولا فرق في ذلك ) أي : لعدم التكليف بعد عدم ظفره ( بين العام البلوى وغيره ، ولا بين العامة والخاصة ، ولا بين المخطئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريين ) لأن الجميع متفقون على ان الثواب والعقاب بدون البيان قبيح لا يصدر منه سبحانه غير أن الأخباريين يقولون بوجود البيان : وهو الدليل العام من أخبار التوقف والاحتياط والتثليث الدال على ان الشبهة التحريمية يجب الاجتناب عنها .

( و ) كذلك ( لا ) فرق فيما ذكرناه : من انه لا تكليف فعليّ ( بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع ) السماوية .

( و ) كذا لا فرق بين المولى الحقيقي وهو اللّه سبحانه وتعالى وبين ( سائر الموالي بالنسبة الى عبيدهم ) لأنّ ذلك حكم عقليّ فطري يعترف به الجميع .

ص: 239

هذا ، بالنسبة إلى الحكم الفعليّ . وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ النازل به جبرئيل على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ، فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقق قدس سره ، من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به .

-------------------

ثمّ ان ( هذا ) الذي استدل به المحقق : من ان عدم الدليل دليل على العدم فالمحكم البرائة ، انّما يتم ( بالنسبة الى ) نفي ( الحكم الفعلي ) وانه لا حكم فعليّ بالنسبة الى هذا المكلّف .

( وأما بالنسبة الى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لو سميناه حكماً بالنسبة الى الكل ) وقال المصنّف : لو سميناه حكماً ، لأنه لا يسمّى حكماً بدون الوصول ، فان الشارع لم يحكم به وان كان فيه الاقتضاء ، اذ لو حكم بما لا أثر له لعدم وصوله ، كان لغواً لا يصدر من العاقل فكيف من سيد العقلاء ؟ .

وعليه : ( فلا يجوز الاستدلال على نفيه ) أي : على نفي ذلك الحكم الواقعي الذي ليس بفعلي عن المكلّف ( بما ذكره المحقق قدس سره : من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلف الى العلم به ) ومن انّه تكليف بما لا يطاق وعقاب بلا بيان .

وإنّما لا يجوز ذلك ( لأن المفروض عدم اناطة ) الثواب والعقاب ، والمدح والذم ، و ( التكليف به ) أي بالحكم الواقعي الذي لم يصل الى العبد فان التكليف الواقعي الذي لا يريده المولى من العبد وجوده وعدم وجوده سواء ، فانه لا يلزم من مجرد التكليف الواقعي على القول بالتكليف الواقعي غير الواصل ان يكون تكليفاً بما لا يطاق امتثاله ، أو عقاب بلا بيان ، أو ثواباً بلا وجه .

وممّا تقدّم ظهر : انه ليس وجه البرائة هو : مسألة عموم البلوى ، بل عدم الوصول بشرائطه ، دون ان يختلف فيه عموم البلوى وعدمه .

ص: 240

نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه بعموم البلوى به ، لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع او من خلفائه او من وصل إليه . لكن هذا الظنّ لا دليل على اعتباره ،

-------------------

( نعم ) عموم البلوى بضميمة عدم المانع من نشر الحكم يفيد الظنّ بالعدم ، لكن هذا الظن ليس بحجّة كسائر الظنون التي لا دليل على اعتباره ، فانّ المكلّف ( قد يظن من عدم وجدان الدليل عليه ) أي : على الحكم ( بعدمه ) أي : بعدم الحكم ، فعدم الدليل دليل على العدم ( ب- ) سبب ( عموم البلوى به ) أي : بالحكم ، فانه لو كان لبان .

ومن المعلوم : ان عموم البلوى وحده لا يوجب الظن بعدم الحكم ، ولذا قال المصنّف : ( لا بمجرده ) أي : لا بمجرّد عموم البلوى ( بل مع ظن عدم المانع عن نشره ) أيضاً فعدم الدليل ليس دليلاً ظنياً على العدم ، وانّما له شرطان :

الأول : عموم البلوى .

الثاني : ظن عدم المانع من النشر ( في أول الأمر من الشارع ، أو من خلفائه ، أو من وصل اليه ) الحكم ، بأن نظن بعدم المانع من النشر في أول الاسلام من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وذلك - مثلاً - لمصلحة توجب السكوت ونظن بعدم المانع من النشر بالنسبة الى أوصيائه الاثني عشر عليهم السلام ، وذلك للتقية - مثلاً - وقد يكون المانع من النشر هم الصحابة والتابعون والرواة من جهة الخوف ، أو الخيانه ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : فاذا ظننا بعدم المانع منضماً الى كون الحكم عام البلوى فانا نظن حينئذٍ بعدم الحكم .

( لكن هذا الظن لا دليل على اعتباره ) حتى يستدل به على البرائة .

ص: 241

ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقق ، فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقق ، مع أنّه غير تامّ في نفسه ، أجنبيٌّ عنه بالمرّة .

-------------------

( ولا دخل له ) أي : لهذا الظن ( بأصل البرائة التي هي من الأدلة العقلية ) فان أصل البرائة في المقام من الأدلة العقلية التي تقول بقبح التكليف والمؤخذة عليه بلا بيان ، وهذا الظن بانتفاء التكليف لا دخل له بأصل البرائة .

( ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ) لوضوح : ان الظن بانتفاء التكليف في الواقع إنّما هو من اجل عدم الدليل ، لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي تقدّم من المحقق رحمه اللّه .

( ولا بكلام المحقق ) لأنك قد عرفت : ان المحقق تمسك في البرائة بحكم العقل حيث قال : لأنه لولم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، فالمحقّق تمسك بدليل العقل للبرائة لا بالظن المذكور .

وعلى هذا : ( فما تخيّله المحدِّث ) الاسترابادي ( تحقيقا لكلام المحقق ) وانّ المحقق يفصل بين ما يعم به البلوى فيجري البرائة فيه ، وبين غيره فلا يجري البرائة فيه ( مع انّه غير تام في نفسه ، أجنبي عنه بالمرّة ) لانّه كما عرفت : ليس كلام المحقق تفصيلاً بين ما يعم به البلوى وغيره .

وانّما لم يكن تاما في نفسه ، لانّ فيه ما يلي :

أولاً : انّه يمكن عموم البلوى ولا يظن المكلّف منه بالبرائة ، كما يمكن عدم عموم البلوى ويظن المكلّف بالبرائة ، فلا تلازم بين الأمرين .

ثانيا : انّه قد تقدّم : انّ عموم البلوى لا يفيد الظن إلاّ بضميمة عدم المانع

ص: 242

نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة الظنُّ بها فيما بعد الشرع ، كما سيجيء عن بعضهم . لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقق .

ومن هنا

-------------------

من النشر ، لا أنّه وحده مفيد للظن بالبرائة .

ثالثا : انّه على تقدير حصول الظن ليس بحجّة إذ لا دليل من العقل أو النقل على حجيّة مثل هذا الظن .

( نعم ، قد يستفاد من استصحاب البرائة السابقة ) الذي أشار اليه المحقق في كلامه ، حيث ان الانسان يتمكن من استصحاب البرائة قبل الشرع بأن يقول : ان التتن لم يكن حراماً قبل الشرع ، وبعد الشرع لا نعلم بحرمته ، فالاستصحاب يقتضي عدم حرمته ، أو استصحاب حال الجنون والصغر ، حيث ان التتن في حالهما لم يكن محرماً ، فاذا أفاق المجنون وكبر الصغير يستصحب عدم حرمة التتن ، فانه يستفاد من هذا الاستصحاب ( الظن بها ) أي : بالبرائة ( فيما بعد الشرع ) وفيما بعد البلوغ والافاقة .

( كما سيجيء عن بعضهم ) انشاء اللّه تعالى حيث انهم ذكروا : انّ البرائة مستندة الى هذا الظن الاستصحابي ( لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق ) فان سبب الظن بالبرائة حينئذٍ الاستصحاب ، لا لزوم التكليف بما لا يطاق ( الذي ذكره المحقق ) مستدلاً بهذا الدليل على البرائة .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرناه : من ان الفرق بين عدم الدليل دليل العدم ، وبين استصحاب البرائة ، الذين ذكرهما المحقّق ليس الاّ فرقاً اعتبارياً ، لأنّ في الدليل

الأول لا يلاحظ الحالة السابقة ، وفي الثاني يلاحظ الحالة السابقة ، والحالة السابقة

ص: 243

يُعلَمُ أنّ تغاير القسمين الأوّلين للاستصحاب في كلامه باعتبار كيفيّة الاستدلال ، حيث أنّ مناطَ الاستدلال في هذا القسم الملازمةُ بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

-------------------

وعدم الدليل ، كلاهما موجودان في محل واحد ويفيدان البرائة بتفاوت ملاحظة الحالة السابقة وعدم ملاحظتها .

ولذا قال المصنّف : ومنه ( يعلم ان تغاير القسمين الأولين للأستصحاب في كلامه : باعتبار كيفية الاستدلال ) اذ قد عرفت : ان المحقّق جعل في المعتبر أقسام الاستصحاب الجاري في الأحكام ثلاثة أقسام : استصحاب حال العقل ، وقاعدة عدم الدليل ، واستصحاب حال الشرع .

والأولان مشتركان في الظن بالبرائة في مورد البرائة ، فانّه اذا كان في السابق برائة ، ولم نعلم هل تبدّل الأمر من البرائة الى الاشتغال أو لم يتبدل ؟ نستصحب البرائة ، وقد جعلهما المحقق قسمين لأمرين :

الأول : ان مناط الاستدلال في « عدم الدليل دليل العدم » هو : الملازمة ، ومناط الاستدلال في « الاستصحاب » هو : الحالة السابقة .

الثاني : ان بين الدليلين المذكورين عموماً من وجه ، حيث تجري الملازمة سواء كانت حالة سابقة أم لا ، ويجري الاستصحاب سواء كانت ملازمة ام لا ، فانّه ربّما كانت الحالة السابقة ولا ملازمة ، كما فيما لا يعم به البلوى ، وربّما كانت الملازمة ولا حالة سابقة .

وأشار المصنّف الى الأمر السابق بقوله : ( حيث ان مناط الاستدلال في هذا القسم ) الثاني من الاستصحاب الذي ذكره المحقّق هو ( الملازمة ) عرفاً وعادة ( بين عدم الدليل وعدم الحكم ) في الواقع ( مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

ص: 244

السابقة ، فجعلُه من أقسام الاستصحاب مبنيٌّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ؛ ومناطَ الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظةُ الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم .

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة انّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء

-------------------

السابقة ) .

إن قلت : اذا كان المناط هو الملازمة ، فلماذا جعل المحقق عدم الدليل من أقسام الاستصحاب ؟ .

قلت : ( فجعله ) أي : جعل عدم الدليل في كلام المحقق ( من أقسام الاستصحاب ) مع ما قد عرفت : من أن بينهما عموم من وجه ( مبني على ارادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشك ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة ) فالاستصحاب موجود في المورد وان لم يجعل دليلاً ، وانّما جعل الدليل الملازمة المذكورة .

وكيف كان : ( فيجري ) هذا الدليل وهو الملازمة ( فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ) وفيما علم فيه الحالة السابقة ( ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ) الذي هو الاستصحاب ( ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم ) أ ي : في صورة عدم وجود الملازمة بين كون عدم الدليل دليل العدم .

( ويشهد لما ذكرنا : من المغايرة الاعتبارية ) بين الاستصحاب وبين عدم الدليل دليل العدم ( :ان الشيخ لم يقل بوجوب مضي المتيمم الواجد للماء في أثناء

ص: 245

صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم .

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ، لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين .

-------------------

صلاته ) لم يقل به ( لأجل الاستصحاب ) أي : استصحاب كفاية التيمم الثابت قبل وجدان الماء ( وقال به لأجل ان عدم الدليل ) على انتقاض التيمم ( دليل العدم ) .

فان الشيخ قال : الفاقد للماء اذا وقف للصلاة متيمماً ، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة يتم صلاته ، ولا تنقض صلاته لأجل وجدان الماء ، بدليل انّه لا دليل من الشرع على الانتقاض ، فلم يستدل الشيخ باستصحاب بقاء التيمم ، ممّا يتبين منه : انّهما أمران لا أمر واحد .

هذا تمام الكلام في الأمر الأول من الفارق بين الاستصحاب وبين الملازمة .

وأشار الى الفارق الثاني الذي ذكرناه :من كون النسبة بين الدليلين عموماً من وجه بقوله : ( نعم ، هذا القسم الثاني ) وهو الملازمة يكون ( أعم مورداً من الأوّل ) الذي هو الاستصحاب فان بينهما عموماً من وجه ( لجريانه ) أي : جريان قانون عدم الدليل دليل العدم ( في الأحكام العقلية وغيرها ) أي :غير الأحكام العقلية ( كما ذكره جماعة من الاُصوليين ) حيث انهم قالوا : بجريان قاعدة : عدم الدليل دليل العدم ، في المسائل الفقهية والاُصولية والكلامية .

ثمّ الظاهر : ان مراده ب« الأحكام العقلية » هو من أمثال : عدم الدليل على التخصيص أو التقييد دليل العدم ، وذلك فيما اذا كان عام أو مطلق لم نعلم بأنهما هل قيّدا بشيء أم لا ؟ الى غير ذلك ، فان عدم الدليل دليل العدم ، يجري في امثال هذه الاُمور ، بينما لايجري الاستصحاب فيما لم يكن له حالة سابقة أو لم نعلم هل كان له حالة سابقة أم لا ؟ .

ص: 246

والحاصل : أنّها لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقق ، قدس سره ، على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاواه في المعتبر .

الثاني :

مقتضى الأدلّة المتقدّمة كونُ الحكم الظاهريّ في الفعل المشتبه الحكم

-------------------

( والحاصل : انها ) الضمير للشأن والقصة ( لا ينبغي الشك في ان بناء المحقق قدس سره على التمسك بالبرائة الأصلية مع الشك في الحرمة ) من غير فرق بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، فليس هو على ما قاله المحدّث الاسترابادي : من انّه مفصل بينهما ( كما يظهر من تتبع فتاواه في المعتبر ) فنسبة التفصيل اليه في غير محله . هذا تمام الكلام في التنبيه الأول .

التنبيه ( الثاني : ) ان مفاد ما ذكرناه من أدلة البرائة : الاباحة الظاهرية ، بمعنى الاصل ، فان قوله عليه السلام « كُلّ شَيء مُطلَق » (1) ونحوه ، يفيدها ، سواء ظن بالاباحة الواقعية ، أم ظن بالحرمة الواقعية أم لم يظن بشيء منهما ، اذ الظن لا اعتبار به ، فلا يكون حجّية البرائة لحجّية الظن ليكون أمارة ، بل حجّية البرائة لعدم القطع باشتغال الذمة بالتكليف فيكون اصلاً عملياً ، كما قال :

( مقتضى الأدلة المتقدمة ) مثل « كُلّ شيء مُطلَق » ونحوه ( كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم ) من الشبهة التحريمية حيث انها محل الكلام

ص: 247


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

هي الاباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع .

فهذا الأصلُ يفيدُ القطعَ بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا، إلاّ أنّ الذي يظهر من جماعة كونُه من الأدلّة الظنيّة ،

-------------------

( هي : الاباحة ) الشرعية بمعنى الأصل أي : ( من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ) حتى يكون أمارة ، فانّه وان ظننا بتحريمه واقعاً ، أو ظننا بعدم تحريمه ، أولم نظن بشيء ، فلا اعتبار بهذه الظنون ايجاباً وسلبا في حجّية البرائة حتى تكون البرائة أمارة ، فالبرائة اصل من الاصول العملية .

وعليه : ( فهذا الأصل ) أي : أصل البرائة ( يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة ) فعلاً ، لأنّه التكليف العملي للانسان ، فان حكم البرائة ايضاً تكليف - كما لا يخفى - .

( لا ) انّ اصل البرائة يفيد ( الظن بعدم الحكم واقعاً ) ليكون أمارة وذلك لما عرفت : من انّه قد يظن بعدم الحكم واقعاً ، وقد يظن بالحكم واقعاً ، وقد لا يظن بشيء منهما ( ولو ) فرض انّه قد ( أفاده ) أي : افاد الظن بعدم الحكم واقعاً ( لم يكن معتبراً ) هذا الظن لما تقدّم من : « انَّ الظَّنّ لا يُغنِي مِنَ الحَقّ شَيئاً » (1) كما في القرآن الحكيم ، فلايكون البرائة أمارة ، بل اصلاً .

( الاّ ان الذي يظهر من جماعة ) من الأصحاب اللذين سوف نذكر انشاء اللّه اسماء بعضهم ( كونه ) أي : كون اصل البرائة ( من الأدلة الظنية ) عندهم ، فيكون عندهم أمارة لا أصلا .

ص: 248


1- - سورة النجم : الآية 28 .

منهم صاحب المعالم ، عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجّيّة الخبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائيّ قدس سره .

ولعلّ هذا هو المشهورُ بين الاصوليين ، حيث لا يتمسّكون فيه إلاّ باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقق ، في المعارج الاطباقُ على التمسّك بالبراءة

-------------------

( منهم : صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدمات الدليل الرّابع الذي ذكره لحجيّة الخبر الواحد ) فانّ صاحب المعالم استدل لحجيّة خبر الواحد بآية النفر ، وآية النبأ ، والاجماع ، وجعل دليل الانسداد دليلاً رابعاً ، لافادة حجّية خبر الواحد ، وذكر للانسداد مقدمات جعل أولها : انسداد باب العلم بالأحكام ، واستدل له دفعاً لتوهم الاعتراض : بأن الأدلة لا تفيد الاّ الظن ، فكذااصالة البرائة لاتفيد الاّ الظنّ ممّا يظهر منه : انّه يرى البرائة أمارة لا أصلاً ، على خلاف ما نراه نحن ، حيث نرى البرائة أصلاً .

والحاصل : ان حجيّة البرائة عند صاحب المعالم من باب الظن .

( ومنهم : شيخنا البهائي قدس سره ) فانّه يرى ان حجيّة البرائة من باب الظنّ ، فهي عنده أمارة وليست اصلاً .

( ولعلّ هذا هو المشهور بين الاُصوليين ) القدامى ( حيث لا يتمسكون فيه ) أي : في أصل البرائة ( الاّ باستصحاب البرائة السابقة ) فان الاستصحاب عندهم هو « ابقاء ما ظنّ ببقائه » ، فيكون حجية الاستصحاب عندهم باعتبار حجيّة هذا الظن .

( بل ظاهر المحقق في المعارج الاطباق ) من العلماء ( على التمسك بالبرائة

ص: 249

الأصليّة حتّى يثبت الناقل ، وظاهره ، أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة .

والتحقيقُ : أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والاجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل .

-------------------

الأصلية حتى يثبت الناقل ) من تلك البرائة الى تكليف مخالف للبرائة : من وجوب أو حرمة ، والمراد بالبرائة الأصلية : هي البرائة قبل الشرع ، أو البرائة في حال الصغر والجنون - مثلاً - .

( وظاهره : ان اعتمادهم في الحكم بالبرائة على كونها ) أي : كون البرائة ( هي الحالة السابقة الأصلية ) فيظن ببقاء تلك الحالة الى أن يثبت خلافها ( والتحقيق انّه ) ليس بأمارة لما يلي :

أولاً : انّه لا يحصل الظن بالبقاء في كثير من موارد الاستصحاب .

ثانياً : ( لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة ) لبقاء تلك الحالة الى الحالة اللاحقة ( فلا يعتبر ) هذا الظنّ ، فانّ الظن بالبقاء لا اعتبار به وجوداً ولا عدماً ( والاجماع ) من العقلاء على حجيّة الاستصحاب ( ليس على اعتبار هذا الظن ) ليكون أمارة بدليل أنهم يستصحبون ، ولو لم يحصل لهم ظن ( وانّما هو على ) مجرد ( العمل على طبق الحالة السابقة ) أي : انّ العقلاء مُجمعون على ابقاء الحالة السابقة على ما كان ، سواء حصل لهم ظن أم لا ، وليس اجماعاً منهم على انه لكونه ظناً يكون حجة .

بل ( ولا يحتاج اليه ) أي : الى هذا الظن ، ولا الى الاجماع المذكور من العقلاء ( بعد قيام الأخبار المتقدمة ) الدالة على البرائة ( و ) بعد ( حكم العقل ) بقبح

ص: 250

الثالث :

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلاً ونقلاً ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها .

وهل الأوامر الشرعيّة للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ،

-------------------

العقاب بلا بيان ، فهما دليلان كافيان لأثبات البرائة والاباحة الظاهرية ، فيما لم يصل من الشارع حكم فيه ، سواء كانت شبهة حكمية تحريمية أو حكمية وجوبية أو موضوعية وجوبية أو تحريمية على ما عرفت .

التنبيه ( الثالث ) : هل أوامر الاحتياط ارشادية بحتة ، فلا ثواب في فعلها اطلاقاً ، كمثل أوامر الطبيب ؟ أو مولوية استحبابية ، فاذا وافقها الانسان أُثيب على الموافقة ، وان لم يكن الاحتياط موافقاً للواقع ؟ .

هذا ، ومن المعلوم : انّه ( لا اشكال في رجحان الاحتياط عقلاً ونقلاً كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها ) فان الأخبار والعقل دلاّ على رجحان الاحتياط ( و ) لكن الكلام في انّه ( هل الأوامر الشرعية للإستحباب ؟ ) بعد وضوح : ان الأوامر العقلية ارشادية بحتة ، وانّما الكلام في الأوامر الواردة في الشرع بالإحتياط والتوقف وما أشبه ذلك .

فان كانت تلك الأوامر للاستحباب ( فيثاب عليه ) أي : على امتثال تلك الأوامر الشرعية ( وان لم يحصل به ) أي : بسبب الاحتياط ( الاجتناب عن الحرام الواقعي ) فالإنسان الذي يجتنب عن شرب التتن - مثلاً - هل يثاب عليه لانه أطاع

ص: 251

او غيري ، بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمرُ به إرشاديا لا يترتّبُ على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتبة على الفعل او الترك ، نظير أوامر الطبيب ، ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع

-------------------

امر الاحتياط وان كان التتن في الواقع مباحاً ، أو لا يثاب عليه لأنّه في اطاعة أمر الطبيب لا ثواب في نفس هذه الطاعة ؟ .

( أو غيري ) مقدمي ، و هذا عطف على قوله : « الأوامر الشرعية للاستحباب » ( بمعنى : كونه ) أي : كون الاحتياط ( مطلوباً لأجل التحرز عن الهلكة المحتملة ) وقد تقدّم سابقاً : ان المراد بالهلكة المحتملة غير العقاب ، لأنه لا عقاب على مخالفة أمر الاحتياط ، اذ المحكّم في المسألة : البرائة .

( و ) انّما يكون الاحتياط مطلوباً لاجل ( الاطمئنان بعدم وقوعه فيها ) أي : في الهلكة المحتملة ( فيكون الأمر به ) أي : بالاحتياط ( ارشادياً لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتّبة على الفعل أو الترك ) فهو مثل الذي يوجر في حلقه الدواء حيث يترتّب على ذلك صحته الجسدية ، فيكون أوامر الاحتياط على الارشادية ( نظير أوامر الطبيب ) الذي ليس في الأمر مصلحة ذاتية .

( ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة ، لئلا يقع التنازع ) حيث قال سبحانه : « وأشهِدُوا إذا تَبايَعتُم » (1) فان الاشهاد بنفسه ليس ذا مصلحة ، وانّما المصلحة في متعلقه ، وهو عدم التنازع بعده ، وكذلك حاله حال الكتابة بالنسبة الى المعاملات ، فالكتابة بنفسها لا مصلحة فيها ، وانّما المصلحة في متعلقها .

ص: 252


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

وجهان ، من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ، ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط .

والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط على تقدير كونه إلزاميّا لمحض الاطمئنان ؛ لدفع احتمال العقاب .

وكما إذا تيقّن بالضرر

-------------------

وعليه : فالأوامر الشرعية بالاحتياط يحتمل فيها ( وجهان ) وهذا جواب قوله : « وهل الأوامر الشرعية للاستحباب ... أو غيري ؟ » فانّ هنالك قولين ووجهين :

( من ظاهر الأمر بعد فرض عدم ارادة الوجوب ) فانّ ظاهر الأمر : الوجوب ، فاذا صرفناه عن الوجوب للأدلّة الاُخر ، يلزم أن نحمله على الأقرب الى المعنى الظاهر ، وهو : الاستحباب المولوي ، فيثاب مطيع أمر الاحتياط .

( ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها ) أي : الظاهر من تلك الأخبار ( : كونها مؤدة لحكم العقل بالاحتياط ) فان الأخبار تأكيدية وليست بتأسيسية ، لأنّ العقل قبل هذه الأخبار يقول بحسن الاحتياط .

هذا ( والظاهر : ان حكم العقل بالاحتياط من حيث هو إحتياط على تقدير كونه الزامياً ) أي : على تقدير كون أمر العقل بالاحتياط الزامياً ( لمحض ) الارشاد ، و ( الاطمئنان ، لدفع احتمال العقاب ) فكما ان أمر العقل ارشادي ، كذلك يكون أمر الشرع التابع له ، لأنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع . ( وكما اذا تيقن بالضرر ) هذا مبتدء خبره قوله : « فكذلك طلبه » ، مما حاصله : ان العقل كما يلزم الانسان بالاطاعة حتى لا يقع في العقاب الاُخروي ، كذلك يندب العقل الانسان الى الاطاعة حتى لا يقع في المحذور الدنيوي ، فكلا هذين الأمرين للعقل

ص: 253

يكون إلزامُ العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن ، فكذلك طلبهُ الغير الالزاميُّ إذا احتمل الضرر ، بل وكما أنّ أمر الشارع بالاطاعة في قوله تعالى : « أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول »لمحض الارشاد ، لئلاّ يقع العبدُ في عقاب المعصية ويفوته ثوابُ الطاعة ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك ،

-------------------

ارشادي ، لكن الأول : ارشادي لازم ، والثاني : ارشادي مندوب .

وعليه : فاذا تيقن الانسان بالضرر الاُخروي فيما اذا خالف الواجبات أو المحرمات المعلومة تفصيلاً أ و اجمالاً ( يكون الزام العقل ) بالاطاعة ، حتى لايقع في محذور ، ترك الواجب أو فعل المحرم ؛ وذلك ( لمحض الفرار عن العقاب المتيقن ) في الآخرة ( فكذلك طلبه ) أي : طلب العقل ( غير الالزامي اذا احتمل ) الانسان ( الضرر ) الذي هو ليس بعقاب وإنّما مفسدة دنيوية في فعل شيء أو ترك شيء يكون غير الزامي ، فامر العقل قد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً ( بل ) أمر الشرع كذلك .

واليه أشار المصنِّف بقوله : ( وكما ان أمر الشارع بالاطاعة ) بالواجبات والمحرمات المعلومة اجمالاً أو تفصيلاً ( في قوله تعالى : « أطيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) لمحض الارشاد ، لئلا يقع العبد في عقاب المعصية ) الاُخروية ( ويفوته ثواب الطاعة ) الاُخروية .

هذا ( ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك ) فانّ الانسان الذي يخالف « أطيعُوا اللّه » ليس عليه عقابان : عقاب ترك الصلاة ، وعقاب ترك « أطيعُوا اللّه » كما انّه اذا صلّى لايكون له ثوابان : ثواب « أطيعُوا اللّه » وثواب اتيان الصلاة .

ص: 254


1- - سورة النساء : الآية 59 .

فكذلك أمرُه بالأخذ بما يأمن معه من الضررُ لا يترتبُ على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعيّ على تقدير تحققه .

ويشهدُ لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم

-------------------

( فكذلك أمره ) أي : أمر الشارع في أخبار الاحتياط ( بالأخذ بما يأمن معه من الضرر ) فانّه ( لا يترتب على موافقته سوى الامان المذكور ) أي : انّه لمحض الطلب الارشادي الى ما في متعلق الاحتياط ، فاذا كان في متعلقه ثواب أو عقاب وصل الانسان اليهما ، واذا لم يكن في متعلقه ثواب أو عقاب لم يكن له شيء من الأمان في متعلقه ( ولا ) يترتب ( على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي ) والاّ فأمر الاحتياط لا شأن له اطلاقاً .

وانّما يقع المخالف في الحرام الواقعي ( على تقدير تحققه ) أي : تحقق ذلك الحرام في الواقع ، فالارشاد الشرعي في اوامر الاحتياط الشرعية كالأرشاد العقلي في أوامر الاحتياط العقلية في انّه ، لا ثواب ولا عقاب في فعل الاحتياط ولا في ترك الاحتياط بنفسه .

( ويشهد لما ذكرنا : ) من كون الأوامر الشرعية الاحتياطية للارشاد ( ان ظاهر الأخبار ) الدالة على الاحتياط ( حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة : في التفصّي عن الهلكة الواقعية ) فهي أوامر ارشادية ، فائدتها : النجاة من الهلكة الواقعية ان كانت هناك هلكة في الواقع تترتب على المخالفة .

وانّما كانت حكمة الاجتناب التفصّي ( لئلا يقع ) المكلّف ( فيها ) أي : في تلك الهلكة الواقعية ( من حيث لا يعلم ) لفرض : ان المكلّف لا يعلم ان هناك

ص: 255

واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا .

ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلاّ للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ، وهو الاجتناب عن الحرام او فوتها . فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ،

-------------------

هلكة ، والاّ فاذا علم ان هناك هلكة ، لم يكن من الاحتياط في شيء بل كان من الاطاعة للشيء المعلوم .

( و ) يشهد لكون الأوامر ارشادية أيضاً ( اقترانه ) أي : اقتران الاجتناب عن الشبهة في الروايات ( مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعاً ) فان الشارع جعل اجتناب الشبهة مقارناً لاجتناب الحرام ، فيما تقدّم من حديث فضيل حيث سأل أبي عبداللّه عليه السلام عن الورع من الناس ؟ فقال عليه السلام : الذي يتورع من محارم اللّه ويجتنب هؤاء ، فاذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه .

( ومن المعلوم : ان الأمر باجتناب المحرمات ) المعلومة اجمالاً أو تفصيلاً الوارد ( في هذه الأخبار ) حال هذا الأمر حال الأمر بالاطاعة ( ليس الاّ للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به ) الذي هو شأن الأمر الارشادي ( و ) المراد بالمأمور به : ( هو الاجتناب عن الحرام أو فوتها ) فان أطاع نجا من العقاب ، وان لم يطع وقع في العقاب وفاتته خاصية الاجتناب .

( فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته ) أي : موافقة ذلك الأمر أو مخالفته ( سوى ما يترتب على نفس الاجتناب ) وعدم الاجتناب ( لو لم يأمر به الشارع ) فالحسن وعدم الحسن في ذات الشيء ، سواء أمر به المولى أو لم يأمر به ، كما ان الحسن وعدم الحسن في ذات الدواء سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به .

ص: 256

بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام .

ولا يبعد التزامُ ترتّب الثواب عليه ، من حيث أنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذٍ حال الاحتياط والأمر به حالَ نفس الاطاعة الحقيقيّة ، والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح او الثواب لولا الأمر .

-------------------

وعليه : فالاجتناب في نفسه حسن وان لم يأمر الشارع به ( بل فعله ) أي : فعل ذلك الاجتناب ( المكلّف حذراً من الوقوع في الحرام ) فانه حسن ، وأمر الشارع لا يزيد هذا شيئاً ، كما ان أمر الطبيب لا يزيد الدواء شيئاً ، فالدواء يترتب عليه فائدته اذا شربه الانسان ، سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به الطبيب ( و ) بهذا ظهر : ان أمر الاحتياط ، ارشادي لا مولوي .

نعم ، ( لا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه من حيث انه انقياد واطاعة حكمية ) فيترتب الثواب على هذا الاجتناب كما يترتّب الثواب على ترك شرب الخمر لان كليهما اطاعة ، فكما ان ترك شرب الخمر يوجب صدق الطاعة اطاعة حقيقية ، كذلك ترك شرب التتن يوجب صدق الطاعة لكنه طاعة حكمية .

( فيكون حينئذٍ ) أي : حين كانت الأوامر الشرعية التي وردت في الاحتياط والتوقف وما أشبه للارشاد لا للمولوية ، وقلنا بترتب الثواب على نفس الاحتياط لا على موافقة الأوامر الاحتياطية ( حال الاحتياط والأمر به حال نفس الاطاعة الحقيقية والأمر بها ) .

إذن : فالاحتياط بموازات الاطاعة والأمر بالاحتياط في موازات الأمر بالطاعة ( في كون الأمر ) بالاحتياط ( لا يزيد فيه ) أي : في الاحتياط ( على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لولا الأمر ) فسواء كان أمر أو لم يكن أمر ، يكون الاحتياط حسناً ، والأمر حينئذٍ يكون للارشاد فقط ، فكما انّه لو اجتنب انسان الشبهات يكون

ص: 257

هذا ، ولكنّ الظاهرَ من بعض الأخبار المتقدمة ، مثل قوله عليه السلام : « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات » ،

-------------------

ممدوحاً وان لم يكن أمر بالاحتياط ، كذلك اذا كان أمر بالاحتياط .

وعليه : فلا يكون الأمر بالاحتياط موجباً للثواب ، بل هو للارشاد المحضّ ، وانّما الموجب للثواب هو فعل الاحتياط بنفسه ، فيكون حال المقام حال من يشرب الدواء احتياطاً بدون أمر الطبيب حيث انه ممدوح ، فاذا أمر الطبيب لا يكون اطاعة أمر الطبيب موجباً للمدح ، بل كان ارشاداً محضاً .

وعليه : فالاُمور ثلاثة :

الأول : الأوامر المولوية وفي اطاعتها الثواب .

الثاني : الأوامر الارشادية وليس في اطاعتها الثواب .

الثالث : الاحتياط وفيه الثواب سواء كان له أمر ارشادي أو لم يكن هناك أمر ارشادي .

( هذا ) تمام الكلام في الاحتمالين الأولين وهما : أن يكون الأمر بالاحتياط مولوياً ، أو يكون الأمر بالاحتياط ارشادياً ولا ثواب في الأمر وانّما الثواب في نفس الاحتياط .

( ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة ) وجود الثواب بنفس الأوامر الاحتياطية كسائر الأوامر المولوية ( مثل : قوله عليه السلام : « مَن ارتكبَ الشُّبهات نازعته نَفسه الى أن يَقعَ في المُحرّمات » (1) ) الالهية .

ص: 258


1- - كنز الفوائد : ج1 ص352 ، الاحتجاج : ص355 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح33515 ( بالمعنى) .

وقوله : « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » ، وقوله : « من يرتع حول الحِمى اوشك أن يقع فيه » ، هو كونُ الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه ارتكابُ المحرّمات المعلومة ، ولازمُ ذلك استحقاقُ الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الثواب المترتب على نفسه .

-------------------

( وقوله ) عليه السلام : ( « مَنْ تَرَكَ الشّبهات كان لِما استَبان لَهُ من الاثم أترَك » (1) ) أي : بطريق اولى ، ( وقوله ) عليه السلام : ( « مَن يَرتع حَول الحِمى أو شك أن يَقع فيه » ) الى سائر ما يشبه هذه الروايات (2) ، فان الظاهر منها ( هو كون الأمر به للاستحباب ) المولوي ، مثل سائر الأوامر المولوية التي يكون متعلقها مستحباً .

( وحكمته ) أي : حكمة هذا الأمر المولوي الموجب للثواب في اطاعة الأمر ( : أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة ) فان ارتكاب الشبهات يقرّب الشخص من ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ويهوّنها في نظره ، فيتجرّأ على ارتكابها ، والنفس المتجرّية توجب الانحطاط والتقهقر .

إذن : فيرجح الاحتياط رجحاناً مولوياً لا ارشادياً محضاً ( ولازم ذلك : استحقاق الثواب على اطاعة أوامر الاحتياط ) أيضاً أي : ( مضافاً الى الثّواب المترتب على نفسه ) أي : على نفس الاحتياط ، فاذا احتاط الشخص وصادف الواقع اُثيب ثوابان : ثواب الاحتياط ، وثواب المتعلق .

ص: 259


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 و ص161 ب12 ح33490 بالمعنى .
2- - كرواية أبي جعفر ، انظر وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح13515 وكنز الفوائد : ج1 ص352 .

ثمّ لا فرقَ فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة حتّى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناءا على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة

-------------------

مثلاً : لو اقتضى الاحتياط : الدّعاء عند رؤة الهلال ، فدعا عندها اعطي ثوابان : ثواب الدعاء المفروض انّه الواقع ، وثواب الاحتياط ، اما اذا لم يصادف الواقع ، بأن لم يكن الدعاء عند رؤة الهلال راجحاً في الواقع ، اعطي ثواب واحد وهو ثواب الاحتياط .

( ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة ، حتى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ) أي : مطلقاً فان افراد المسألة سبعة :

الأول : الدوران بين الحرمة والاستحباب .

الثاني : الدوران بين الحرمة والكراهة .

الثالث : الدوران بين الحرمة والاباحة .

الرابع والخامس والسادس : الدوران بين ثلاثة منها ، ولها ثلاث صور .

السابع : الدوران بين كل الأربعة .

لا يقال : ان الدوران بين الاستحباب والتحريم ، يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ الاستحباب راجح الفعل والتحريم راجح الترك .

لأنّه يقال : انّما نقول بحسن الاحتياط في هذه الصورة ( بناءاً على ان دفع المفسدة الملزمة للترك ، أولى من جلب المصلحة غير الملزمة ) فان المفسدة القوية أولى دفعها من جلب المنفعة الضعيفة .

مثلاً : اذا دار الأمر بين أن يكون الغريق انساناً يجب انقاذه ، أو حيواناً مؤذياً

ص: 260

وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا .

و لا يتوهّم : « أنّه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه » ، إذ لا ينفكّ ذلك

-------------------

-

لكن أذيته ليست بحد التحريم - يكره انقاذه ، فانّ الاحتياط في الانقاذ ، وفي عكسه بأن دار الامر بين كون الغريق كافراً محرّم الانقاذ أو حيواناً مستحب الانقاذ ، فان الاحتياط في ترك الانقاذ .

( و ) بناءاً على ( ظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضاً ) أي : ان اخبار الاحتياط شامل لدوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بل وكذلك شامل لدوران الأمر بين الكراهة والوجوب .

( و ) لا يقال : اذا دار أمر العبادة بين التحريم والاستحباب ، كالأذان في بعض الصلوات المستحبة ، وصلاة ليلة الرغائب ، حيث ورد بهما بعض الروايات الضعيفة ، لم يكن الاحتياط في الفعل ، اذ الاتيان بالعبادة غير الواردة قطعاً تشريع محرم .

لأنّه يقال : يأتي بالعبادة رجاءاً ، والرجاء في قِبال التشريع ، اذ التشريع معناه النسبة الى المولى ، والرّجاء معناه : عدم النسبة ، بل يأتي بالعبادة لاحتمال ارادة المولى ، فاذا ذهب زيدا - مثلاً - الى دار عمرو قائلاً له : انك طلبتني يكذبه عمرو ، اما اذا قال : احتملت انك تريدني ، لا يكذبه عمرو ، بل يستحسنه العقلاء .

والى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( لا يتوهم انه يلزم من ذلك ) أي حسن الاحتياط بالترك ( عدم حسن الاحتياط ) بالفعل ( فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة ، بل حسن الاحتياط بتركه ) فيدور امره بين الحرمة والاستحباب ، فيكون الاحتياط في الترك لا في الفعل . ( اذ لا ينفك ذلك ) أي :

ص: 261

عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ، لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه . ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوعُ التشريع . ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات وفي الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادةُ توضيح لذلك إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

احتمال كونه عبادة ( عن احتمال كون فعله تشريعاً محرّماً ) فاللازم الترك لتغليب جانب الحرام على جانب الاستحباب .

وانّما قلنا : لا يتوهم ( لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه ) أي : تحقق موضوع التشريع ، فانّ الاحكام تابعة لموضوعاتها ( و ) التشريع لا يتحقق في المقام ، اذ ( مع اتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال ) ورجاء طلب المولى لها لا جازماً بأن المولى أمر بها ( لا يتحقق موضوع التشريع ) لما عرفت : من ان التشريع هو النسبة الى المولى ، وهذا ليس بنسبة وانّما بالرجاء والاحتمال .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الرجاء في مقابل التشريع فالرجاء لا بأس به ( قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ) أي : مع احتمال الحرمة ( كما في الصلاة الى أربع جهات ) مع وضوح : ان الصلاة الى دبر القبلة محرّمة ( و ) كذا ( في الثوبين المشتبهين وغيرهما ) من موارد العلم الاجمالي الذي احد طرفيه محرّم ، كالصلاة بوضوئين من مائين أحدهما مضاف ، حيث ان الصلاة بلا طهور محرمة ، ففي الحديث ، « أما يَخاف الذي يُصلي من غَير طهور أن يَخسِفَ اللّهُ بهِ الأرضَ » .

هذا ( وسيجيء زيادة توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 262

الرابع :

نسب الوحيد البهبهاني قدس سره ، إلى الأخباريّين مذاهبَ أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة ، فيحتمل رجوعُها إلى معنى واحد وكون اختلافها في التعبير ،

-------------------

نعم ، لو دار الأمر بين واجب وحرام ، فلا احتياط في احد الطرفين بل التخيير .

اللّهم الاّ اذا كان أحدهما أهم لا بحد المنع عن النقيض ، فانّه يحتاط باتيان الأهم ، أما اذا كان على حدّ المنع من النقيض وجب قطعاً ، كما اذا دار امر الغريق بين كونه مرجع تقليد يثلم موته في الاسلام ثلمة ، أو كافر عادي يحرم انقاذه ، لأنه يحارب المسلمين محاربة ضعيفة ، فانّه يقدّم الانقاذ ، وفي عكسه من دوران الأمر بين مسلم عادي ورئيس الكفار الذي يهدم الاسلام لو بقي فيقدم ترك الانقاذ .

التنبيه ( الرابع : نسب الوحيد البهبهاني قدس سره الى الأخباريين مذاهب أربعة فيما لا نص فيه ) من الشبهة الحكمية التحريمية ، لما عرفت سابقاً من ان الاختلاف بين الاُصوليين والأخباريين في هذه الشبهة فقط ، أما في غيرها من الشبهات الثلاث الاُخر : حكمية وجوبية ، أو موضوعية وجوبية ، أو تحريمية ، فالكل متفقون على البرائة فيها .

والمذاهب الأربعة هي : ( التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهرّية ، والحرمة الواقعيّة ) فان كلّ طائفة من الأخباريين عبّر بأحد هذه التعبيرات ( فيحتمل رجوعها الى معنى واحد ) بأن يكون من الاختلاف في اللفظ وارادة الجميع معنى واحداً ( وكون اختلافها في التعبير ) فقط .

ص: 263

لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة : فبعضهمُ ركن إلى أخبار التوقف ، وآخَرُ إلى أخبار الاحتياط ، وثالثٌ إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمةً لتجنّب المحرّمات ، كحديث التثليث ،

-------------------

وانّما اختلفوا في التعبير ( لأجل اختلاف ما ركنوا ) واستندوا ( اليه من ادلة القول بوجوب اجتناب الشبهة ) التحريمية ( فبعضهم ركن الى أخبار التوقف ) كقوله عليه السلام : « الوقوفُ عِندَ الشُّبهةِ خَير من الاقتِحام في الهَلَكةِ» (1) ولذا عبّر بالتوقف ( و ) ركن بعض ( آخر الى أخبار الاحتياط ) ولذا عبّر بالاحتياط لقوله عليه السلام : « أخُوكَ دينُك فاحتَط لدِينكَ بما شِئتَ » (2) .

( و ) ركن بعض ( ثالث الى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنب المحرّمات كحديث التثليث ) في قوله عليه السلام : « مَن تَركَ الشُّبهات نَجى من المُحرَّمات » (3) ، فالترك مقدمة للحرام الواقعي المحتمل ، فيكون حكماً ظاهرياً من الشارع

ص: 264


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 ، وكرواية مسعدة بن زياد في نكاح الشبهة ، انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، و وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ورابعٌ إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث أنّها مشتبهات ، فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعيّ الحرمة .

-------------------

بالوجوب ، مثل : ايجاب الشارع اراقة الانائين الذين أحدهما نجس ، فان اراقة غير النجس الواقعي واجبة ظاهراً لا واقعاً لفرض انّه ليس بنجس ، وكذا وجوب اجتناب امرأتين احديهما ليست زوجته وإحديهما زوجته واشتبهتا ، فانّ وجوب اجتناب الزوجة ظاهري لا واقعي .

( و ) ركن بعض ( رابع الى أوامر ترك المشتبهات من حيث انها مشتبهات ) فيكون التحريم واقعياً ، لأن ظاهر بعض الأخبار كما تقدّم : ان ارتكاب الشبهة اقتحام في الهلكة ، وقد عرفت : انّ المنصرف من الهلكة العقاب الاُخروي ، فيكون مثل هذه الأخبار ظاهرة في الحرمة الواقعية ( فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمهُ الواقعي الحرمة ) .

وإنّما قال هؤاء بالحرمة الواقعية لمثل موثقة حمزة بن الطيّار فانّه عرض على أبي عبد اللّه عليه السلام بعض خُطب أبيه عليه السلام حتى اذا بلغ موضعاً منها قال له : « كُفّ واسكت » ، ثم قال ابو عبداللّه عليه السلام : « انّه لا يسعكم فيما نزل بكم ممّا لا تعلمون الاّ الكف عنه والتثبت ، والرّد الى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه الى القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق ، قال اللّه تعالى : « فاسئَلوا أهلَ الذِّكر إن كُنتُم لا تَعلَمُون » (1) » (2) ، ولمثل قوله عليه السلام : « حَقّ اللّهِ على العبادِ أن يقولوا ما يعلَمُون ويقفوا عندَ ما لا يَعلَمُون » (3) .

ص: 265


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص43 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص23 ب4 ح33108 .

والأظهر أنّ التوقف أعمُّ بحسب المورد من الاحتياط ، لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس

-------------------

والحاصل أنّ الكل أراد معنى واحداً ، ولكن باعتبارات مختلفة ، فان من عبّر بالتوقف ، اعتبر ان الاجتناب : توقف عن الاقتحام في الهلكة .

ومن عبّر بالاحتياط اعتبر ان الاجتناب : أخذ بالأمر الذي لا ريب فيه .

ومن عبّر بالحرمة ظاهراً فباعتبار ان التتن - مثلاً - له حكم واقعي لا يعلمه ، وانّما حكمه الظاهري الاجتناب ، ومن عبّر بالحرمة واقعاً فباعتبار ان المشتبه أيضاً من المحرمات ، فانّ المشتبه وان كان له حكم واقعي على خلافه أولاً وبالذات ، لكن ذلك الحكم الواقعي لعدم وصوله الى المكلّف غير منجّز عليه ، فالحكم الواقعي الثانوي لهذا المكلّف هو التحريم ، كحالة الاضطرار والكراهة ونحوهما ، حيث ان الحكم الواقعي يسقط عندها ويكون الحكم الثانوي واقعياً .

( والاظهر : أن ) هذه الأقوال ليست عبارات شتّى لأمر واحد ، بل هي مختلفة معنى ايضاً ، فانّ بين التوقف والاحتياط - مثلاً - عموم من وجه ، فالتوقف يشمل ما لايمكن فيه الاحتياط كدوران الأمر بين المحذورين ، اذ اللازم في مثل هذا المقام : الصلح أو القرعة في الماليات ونحوها ، كما ان الاحتياط يشمل ما لا يمكن فيه التوقف ، لأن الاحتياط يشمل محتمل التحريم ، ومحتمل الوجوب ، والاخباريون لا يقولون بالتوقف في محتمل الوجوب .

وعليه : فان ( التوقف ) أي : عدم الاقتحام في الهلكة المحتملة ( أعم بحسب المورد من الاحتياط لشموله ) أي : شمول التوقف كل ( الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ) فاذا تردد مال بين أن يكون لزيد أو لعمرو ، أو امرأة بين أن تكون زوجة ز يد أو زوجة عمرو ، أو ولد بين أن يكون ابناً لزيد أو لعمرو ،

ص: 266

ممّا يجب فيها الصلح او القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ .

والاحتياطُ أعمُّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة او وجوب الجزاء

-------------------

فان هذه الموارد كلها لا يمكن الاحتياط فيها ، بينما يمكن التوقف عندها بمعنى : ترك الاقتحام في الهلكة .

فان قلت : فماذا يصنع من تردّد في هذه الموارد ؟ .

قلت : هذه الموارد وأمثالها ( ممّا ) لا يمكن فيها الاحتياط ( يجب فيها الصلح أو القرعة ) بما فيه الصلح القهري الذي قال به الجواهر وغيره .

وربما يقال في بعض الموارد بأمر ثالث وهو : اجبار الحاكم المتنازعين في زوجة ، أو المتنازعتين في زوج على الطلاق ، أو اجبار الحاكم المتنازعين في تولية الوقف بالتقسيم بأن يكون سنة بيد هذا وسنة بيد ذاك ، الى غير ذلك .

إذن : ( فمن عبّر به ) أي : بالتوقف ( أراد وجوب التوقّف ) بعدم المضي وعدم الاقتحام في الهلكة ( في جميع الوقائع الخالية عن النص العام والخاص ) سواء أمكن الاحتياط أم لا ، ومن الواضح : انه يلزم خلوّ الواقعة عن نص عام أو نص خاص ، والاّ لم يكن من المشتبه في شيء .

هذا هو وجه أعميّة التوقف عن الاحتياط .

( والاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به ) أي : بالاحتياط ( أراد : الأعم من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ) فمحتمل الحرمة كالشبهة التحريمية الحكمية ، ومحتمل الوجوب ( مثل وجوب السورة ) في باب الأقل والأكثر الارتباطيين ( أو وجوب الجزاء ) والكفارة على نفرين صادا صيداً واحداً ،

ص: 267

المردّد بين نصف الصيد وكلّه .

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالأُولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعيّ ، فالحرمة ظاهريّة ، والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة ، أو

-------------------

فهل عليهما كفارتان أو كفارة واحدة بالتنصيف ؟ فيكون المقام من الأمر ( المردد بين نصف الصيد وكلّه ) في باب الأقل والأكثر الاستقلاليين .

والحاصل : ان بعض موارد الاحتياط فيه التوقف ، والبعض الآخر ليس فيه التوقف ، فهو أعمّ من التوقف ، فهذا هو وجه اعميّة الاحتياط عن التوقف .

( وأما ) الفرق بين ( الحرمة الظاهرية و ) الحرمة ( الواقعية فيحتمل ) أن يكون ( الفرق بينهما ) على مايلي :

أولاً : ( : بأنّ المعبِّر بالأولى ، قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي ) كما تقدّم : من ان شرب التتن قطعاً محكوم بحكم واقعي ، لكن حيث لا نعلم ذلك الحكم ، جعل الشارع له حكماً ظاهرياً هو : حرمة الاقتحام (فالحرمة ظاهرية) لشرب التتن في قِبال الحكم الواقعي المجهول عندنا.

( والمعبّر بالثانية ) أي : بالحرمة الواقعية ( قد لاحظها ) أي : لاحظ الحرمة ( من حيث عروضها لمشتبه الحكم ) فحكم التتن حكماً ثانوياً هو الحرمة فيما اذا كان التتن مشتبه الحكم ( وهو ) أي : المشتبه الحكم بما هو ( موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعية ) له .

ثانياً : ( أو ) يحتمل ان يكون الفرق بينهما بكون المعبّر بالحرمة الظاهرية من المخطئة القائلين : باحتمال الحلية في الواقع ، والمعبّر بالحرمة الواقعية من

ص: 268

بملاحظة أنّه إذا منع الشارعُ المكلّف ، من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ، لأنّ معنى الاباحة الاذن والترخيص ، فتأمّل .

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكمُ في الواقع هي الاباحة ، إلاّ أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرّف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه .

-------------------

المصوبة القائلين : بامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري وذلك ( بملاحظة : انّه اذا منع الشارع المكلّف من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل اباحته له واقعاً ، لأن معنى الاباحة : الاذن والترخيص ) .

ومن الواضح : ان المنع والترخيص متناقضان ، فالعالم له الاباحة والجاهل له الحرمة ، فهو مثل ما يقال : من أن العالم عليه الجهر في صلاة الصبح ، والجاهل يجوز له الاخفات ، ولهذا لو أخفت الجاهل لم يكن عليه اعادة ولا قضاء .

( فتأمّل ) فانّه خلاف اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل .

ثالثاً : ( ويحتمل الفرق ) بين الحرمة الظاهرية والحرمة الواقعية ( بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون الحكم في الواقع : هي الاباحة ، الاّ أن أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهراً . والقائل بالحرمة الواقعية انّما يتمسك في ذلك باصالة الحظر في الأشياء ) فالقائل بالتحريم واقعاً يذهب الى ان الأصل في الأشياء الحظر ، فيحرم واقعاً ، والقائل بالتحريم ظاهراً يذهب الى أن الأصل في الأشياء الاباحة ، لكن حيث قال الشارع : « احتط » يحرم ظاهراً .

وانّما يكون الأصل في الأشياء الحظر ( من باب قبح التصرف فيما يختص بالغير ، بغير اذنه ) والتتن من مُلك اللّه سبحانه وتعالى الذي له كلّ شيء في

ص: 269

ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع .

والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلاً ، فان كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلاّ فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا ، بل معناه أنّه ليس فيه إلاّ الحرمة الواقعيّة على تقدير

-------------------

الكون ، ولم نعلم انّه اباحة لنا ، فهو محرم علينا واقعاً .

ثمّ ان هذا الاحتمال الثالث من الفرق بين الظاهري والواقعي كان من جهة الدليل ، بينما الاحتمال الأول كان الفرق فيه من جهة الموضوع ، والاحتمال الثاني كان الفرق فيه من حيث المكلّف وتقسيمه الى جاهل وعالم ، وهناك احتمال رابع يكون الفرق فيه من حيث العقاب ، فمن يقول بالحرمة الظاهرية يرى عقاب الشارب وان كان مباحاً واقعاً ، ومن يقول بالحرمة الواقعية يرى عدم العقاب اذا كان مباحاً واقعاً . والى هذا الاحتمال الرابع أشار المصنِّف بقوله : ( ويحتمل الفرق: بانّ معنى الحرمة الظاهرية : حرمة الشيء في الظاهر ، فيعاقب عليه مطلقاً ) أي (وان كان مباحاً في الواقع) وذلك لأن الأخبار أوجبت في المشتبهات الاجتناب ، فاذا لم يجتنبها الانسان عاقبه المولى عليها وان كانت في الواقع مباحاً ، لانّه خالف الأمر المولوي الذي أمره بالاجتناب .

( والقائل بالحرمة الواقعية يقول : بأنّه لا حرمة ظاهراً أصلاً ) وانّما المعيار الواقع (فان كان في الواقع حراماً ، استحق المؤخذة عليه ، والاّ فلا) مؤخذة عليه .

( وليس معناها ) أي : الحرمة الواقعية ( :ان المشتبه حرام واقعاً ) اذ الشيء لا يتغير عمّا عليه في الواقع بالعلم والجهل ( بل معناه ) أي : معنى قول القائل بالحرمة الواقعية ( :انه ليس فيه ) أي : في المشتبه ( الاّ الحرمة الواقعية على تقدير

ص: 270

ثبوتها ، فانّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة ، على ماذكره العلاّمة الوحيد المتقدّم ، في موضع آخر ، حيث قال ، بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم : ب- « أنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ،

-------------------

ثبوتها ) أي : على تقدير ثبوت الحرمة للتتن في الواقع .

وعليه : ( فان هذا ) أي : العقاب على تقدير الحرمة الواقعية لا مطلقاً ( أحد الأقوال للأخباريين في المسألة على ما ذكره العلاّمة الوحيد ) البهبهاني ( المتقدّم ) ذكره ( في موضع آخر ) من كتابه غير الموضع الذي نسب فيه الى الأخباريين مذاهب أربعة ( حيث قال ) الوحيد ( بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم ) الذي جعل الأشياء بين : حَرامٌ بيّن ، وَحَلالٌ بيّن ، وشُبهات بَين ذلكَ (1) ( : بأنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف ) على نحو الأمر الشرعي المولوي ، حتى يكون العقاب على مخالفته مطلقاً .

( بل مقتضاه ) أي : مقتضى خبر التثليث : الارشاد بمعنى : ( أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراماً في الواقع يهلك ، لا مطلقاً ) فانّ مرتكب الشبهة لا يهلك لو ارتكب الشبهة التي لم تكن حراماً في الواقع ، لأنه في الحقيقة مرتكب للحلال وهو لا يعلم انه حلال .

ص: 271


1- - كمقبولة عمر بن حنظلة في الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 و مرسلة الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 و وسائل الشيعة : ج27 ص161 ب12 ح33490 و ص175 ب12 ح33531 .

ويخطر بخاطري أنّ من الاخباريّين من يقول بهذاالمعنى » ، انتهى .

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ماذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر العقليّ والنقليّ بالاحتياط للارشاد ، من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر .

نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ، كما في بعض أوامر الطبيب ،

-------------------

ثمّ قال الوحيد بعد ذلك : ( ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريين من يقول بهذا المعنى ، انتهى ) كلام الوحيد البهبهاني رحمه اللّه .

وكيف كان : فقد قال المصنّف : ( ولعل هذا القائل ) بالحرمة الواقعية من الأخباريين حيث قال : انه بمعنى : ان اتفق كونه حراماً في الواقع يهلك المرتكب ، لا انه يهلك مطلقاً وان كان حلالاً في الواقع .

( اعتمد في ذلك ) أي : في قوله هذا ( على ما ذكرنا سابقا : من ان الامر العقلي والنقلي بالاحتياط : للارشاد ) لا للمولوية .

وعليه : فأوامر الاحتياط انّما هي ( من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها ) أي : على موافقة أوامر الطبيب ( ومخالفتها ، عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به ) أي : شرب الدواء من الصحة - مثلاً - ( أو تركه ) أي : ترك شرب الدواء من بقاء المرض - مثلاً - من دون ان يكون لنفس الامر أثر ، كما قال : ( لو لم يكن أمر ) أصلاً .

( نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص ) من الأخباريين القائل بالحرمة الواقعية بهذا المعنى ، انّما هو ( على وجه اللّزوم كما في بعض أوامر الطبيب ،

ص: 272

لا للأولويّة ، كما اختاره القائلون بالبراءة .

وأمّا ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلاّ التخلّصَ من الهلاك المحتمل في الفعل .

نعم ، فاعلهُ يستحقّ المدحَ من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوعٌ من الانقياد

-------------------

لا للأولوية كما اختاره القائلون بالبرائة ) فانّهم يقولون بانها للارشاد على وجه الرجحان لا على وجه اللزوم .

وان شئت قلت : انّ هذا القائل يرى المرتكب فاعلاً للحرام ان كان التتن - مثلاً - في الواقع حراماً ، أو متجرّياً ان كان التتن في الواقع حلالاً ، بينما الاُصولي يرى المرتكب غيرُ عاصٍ ولا مُتجر اطلاقاً ، وانّما يقول بالثواب فقط للمحتاط بعدم شرب التتن .

ثمّ انّه قد تقدّم : انّ الأمر بالاحتياط ، إمّا ارشاد لزوميّ أو ارشاد استحبابي أو مولوي ، هذا في الأمر نفسه ، أما في الاحتياط نفسه بأن إحتاط الشخص فلم يشرب التتن أو لم يحتط فشربها ، فما لهذا الشخص اذا ترك التتن ؟ وماذا عليه اذا شربه ؟ .

هذا ما أراده المصنّف بقوله : ( وأما ما يترتب على نفس الاحتياط ) بأن ترك شرب التتن - مثلاً - حذراً من الوقوع في الحرام ( فليس الاّ التخلص من الهلاك المحتمل في الفعل ) فاذا كان التتن حرام واقعاً فشربه هلك ، وإذا لم يشربه لم يهلك .

( نعم ، فاعله ) أي : فاعل الاحتياط الذي ترك شرب التتن - مثلاً - ( يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوباً عند المولى ، ففيه ) أي : في الاحتياط ( نوع من الانقياد ) والطاعة .

ص: 273

ويستحقّ عليه المدح والثواب . وأمّا تركه فليس فيه إلاّ التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه .

بل عرفت في مسألة حجّيّة العلم المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظمُ من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب

-------------------

ومن المعلوم : انّ امتثال التكاليف المعلومة ، طاعة حقيقية ، أما امتثال مثل أمر الاحتياط فيما لم يكن التتن حراماً في الواقع فهو انقياد ، والانقياد حسنٌ ( ويستحق عليه المدح ) عند العقلاء ، بل ( والثواب ) أيضاً على ما تقدمت الاشارة اليه .

( وأما تركه ) أي ترك الاحتياط بأن شرب التتن - مثلاً - ( فليس فيه الاّ التجري بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى ) فان التتن اذا كان حلالاً واقعاً ومشتبها ظاهراً فشربه الشخص فقد ارتكب محتمل الحرمة ، ويكون متجرياً ( ولا دليل على حرمة التجري على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه ) أي : على فعل محتمل الحرمة بدون أن يكون حراماً في الواقع لأنّا قد سبق منّا في أول الكتاب أن التجري ليس بحرام .

( بل عرفت في مسألة حجّية العلم ) من مباحث القطع في أول الكتاب ( المناقشة في حرمة التجري بما هو أعظم من ذلك ) فاذا كان التجري الأعظم ليس بمحرّم ولا مسقط عن العدالة - مثلاً - فالتجري الأصغر بطريق أولى ليس بمحرم .

والتجري الأعظم هو ما ذكره بقوله : ( كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركب ) بينما هو لم يكن في الواقع حراماً ، فانّه لو فعله لم يكن مستحقاً للعقاب ، وانّما كان متجرياً وله قبح فاعلي لا فعليّ ، فهو مثل من ينوي السوء

ص: 274

ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا ، وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

ولا يعمله ، فله قبح فاعلي وليس له قبح فعليّ .

ان قلت : بناءاً على قولكم : لا حرمة في التجري بارتكاب محتمل الحرمة الذي هو حلال في الواقع يلزم ان لا يكون في عدم ارتكابه ثواب ، فكيف تقولون : بأن في الاحتياط ثواباً ، مع انّه بين الثواب والعقاب تلازم في طرفيّ أمر واحد ؟ فانّ من صلّى يثاب ومن ترك يعاقَب ، ومن شرب الخمر يعاقب ، ومن ترك الشرب يثاب ، كما ورد في الحديث ، وهكذا .

قلت : ( ولا يلزم من تسليم استحقاق الثّواب على الانقياد بفعل الاحتياط ) وقوله : « بفعل » متعلق بقوله : « الانقياد » ، أي : لو انقاد فاحتاط لا يلزم منه ( استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتّجري ) و « استحقاق » فاعل « لا يلزم » وذلك لعدم التلازم بينهما .

وعليه : فان من يتجرء ( بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضاً ) لا يعاقب عليه ، والسبب هو : انّ الانقياد عنوان غير عنوان الاطاعة ، والتلازم انّما هو بين الطرفين

في عنوان الاطاعة والمعصية ، والانقياد خارج عن مثل ذلك العنوان ، وقد دلّ الدليل على الثواب عليه ، بينما لم يدل الدليل على حرمة التجري والعقاب عليه ، ولا غرابة ، فكثيراً ما يكون ثواب على طرف ولا عقاب على طرفه الآخر ، كالفاعل للمستحب يثاب بينما التارك له لا يعاقب .

هذا ، ( وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 275

الخامس :

-------------------

أما الدليل في الثواب على الانقياد ، فهو التحسين عقلاً الملازم للتحسين شرعاً ، لقاعدة الملازمة وتحسين الشرع هو ثوابه ، قال سبحانه : « لِلّذينَ أحْسَنوا الْحُسنى وَزيادَةٌ » (1) مضافاً الى مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « اِنَّما الأعمالُ بِالنيّات » (2) وما أشبه ذلك ، ممّا هو كثير في الأحاديث الكريمة .

التنبيه ( الخامس ) : لا يخفى : انّه لو كان أصلان في شيئين أحدهما في الموضوع والآخر في الحكم ، قدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، ولا يبقى مجال للأصل الحكمي أصلاً ، فاذا كان هناك ماء لانعلم بانّه طاهر أو نجس وغسلنا به ثوباً نجساً ، فهناك أصلان : الأول : الأصل الجاري في الماء وهو الطهارة ، لفرض : انّه كان سابقاً طاهراً ، فنجري استصحاب الطهارة فيه .

الثاني : الأصل الجاري في الثوب وهو بقائه على النجاسة .

لكن اذا أجرينا الأصل الموضوعي في الماء ثبت كون الماء طاهراً ، ومن المعلوم : انّ الماء الطاهر يطهِّر النجس ، فلا يبقى مجال للشك في طهارة الثوب حتى يمكن التمسك في الثوب ، باستصحاب بقاء نجاسته ، وهذا ما يصطلحون

ص: 276


1- - سورة يونس : الآية 26 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص83 ب4 ح67 و ج4 ص186 ب1 ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص48 ب5 ح89 و ج6 ص5 ب1 ح7197 و ح7198 و ج10 ص13 ب2 ح12713 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص90 ب5 ح58 .

انّ أصالة الاباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعيّ حاكم عليها ، فلو شك في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية

-------------------

عليه : بالأصل السببي والمسببي ، فالأصل السببي جارٍ في الموضوع ، والأصل المسببي جارٍ في الحكم ، وكلّما جري الأصل السببي لا يبقى مجال لجريان الأصل المسببي على ما سيأتي في باب الاستصحاب انشاء اللّه تعالى .

وعلى هذا ، فاذا ذبحنا حيواناً بشرائط الذبح مع علمنا بأن ذلك الحيوان قابل للتذكية ، لا نشك بعد ذلك في طهارة هذا الحيوان الميّت بعد ذبحه ، أما اذا ذبحنا حيواناً ولا نعلم بأنه قابل للتذكية ، أم لا ؟ كما اذا ذبحنا قرداً فانّه لا نتمكن أن نحكم بطهارة ميتته بعد ذبحه ، لأن الحيوان بعد الموت بدون علم بتذكيته نجس ، فأصل النجاسة يبقى ولا حاكم عليه حتى نقول بطهارة ميتة القرد - مثلاً - بعد ذبحه .

وبذلك ظهر : ( انّ اصالة الاباحة في مشتبه الحكم ) أي : في الشبهة الحكمية التحريمية التي هي محل بحثنا في باب البرائة ( انّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها ) أي : على أصالة الاباحة فاذا كان لم يبق مجال للاباحة .

فلو شككنا في حِلّ مال كان سابقاً للغير ولم نعلم بانتقاله الينا ، أو كونه في بيت من تضمنته الآية ، أو ما أشبه ذلك ، لا نحكم بحليته لاصالة بقاء حرمته ، فأصل بقاء الحرمة لا يدع مجالاً للحلّية المستفادة من أدلّة البرائة .

وهكذا ، لو شككنا في حليّة امراة كانت محرّمة علينا من جهة أن الوكيل نكحها أم لا ، كان الأصل حرمتها ، لأنها كانت محرّمة ونشك في حليتها ، واذا جرى هذا الأصل لم يجر اصالة الاباحة ، فأصالة الاباحة متوقفة على عدم جريان أصل الحرمة .

وعلى هذا ( فلو شك في حلّ أكل الحيوان مع العلم بقبوله التذكية ) كخروف

ص: 277

جرى أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكمُ الحرمةُ ، لأصالة عدم التذكية ، لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة .

-------------------

شرب لبن كلب لا نعلم هل انّه حرام بذلك كالجلاّل أو لم يحرم ؟ ( جرى اصالة الحلّ ) لأنه كان حلالاً قبل الشرب ، فلم نعلم بحرمته بسبب الشرب .

( وانّ شك فيه ) أي : في الحِلّ ( من جهة الشك في قبوله للتذكية ) اذ الحيوان على ثلاثة أقسام :

قسم قابل للتذكية كالشاة .

وقسم غير قابل للتذكية كالكلب .

وقسم مشكوك فيه كالحيوان المتولِّد من كلب وشاة ، فان كان يشبه الكلب حكم بعدم صلاحيته للتذكية ، وانّ كان يشبه الشاة حكم بصلاحيته للتذكية ، وان كان شبيهاً بالخنزير فكالأول ، أو شبيهاً بالغزال فكالثاني ، وان لم يشبه شيئاً من الأربعة ( فالحكم الحرمة لاصالة عدم التذكية ) .

وانّما يكون الحكم الحرمة ( لأن من شرائطها ) أي : من شرائط التذكية ( قابلية المحلّ ) للتذكية ، فانّ التذكية انّما تتحقق في الحيوان باُمور : كأن يكون الذابح مسلماً ، وآلة الذبح حديداً ، وأن يوجَّه الحيوان الى القبلة ، وان يُذكر اسم اللّه عليه ، وان يكون قابلاً للتذكية ( وهي ) أي قابليته للتذكية حسب الفرض ( مشكوكة ، فيحكم بعدمها ) أي : بعدم التذكية .

( و ) بذلك يحكم ب- ( كون الحيوان ميتة ) لانّه من الشك في بعض شرائط التذكية ، وكلّما شك في شرط منها ، فالأصل عدم تحقق التذكية ، كما لو شك في انّ الآلة كانت حديداً أو خشباً ، أو انّه ذبح الى القبلة أم لا ، أو انّ الذابح كان مسلماً

ص: 278

ويظهرُ من المحقق والشهيد الثانيين ، فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل ، أنّ الأصلَ فيه الطهارة والحرمة .

-------------------

أم لا ، وهكذا فيكون هذا الحيوان المتولِّد منهما بعد الذبح محكوماً بحرمته ونجاسته .

( ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين فيما اذا شك في حيوان متولّد من طاهر ونجس ) كالمتولِّد من الكلب والشاة في المثال المتقدّم ، و ( لا يتبعهما في الاسم ) بأن لا يسمّى شاة ولا كلباً ( وليس له مماثل ) معلوم الحكم ، فلم يكن كالخنزير المعلوم النجاسة والحرمة ، ولا كالغزال المعلوم الطهارة والحليّة قالا : ( انّ الأصل فيه : الطهارة والحرمة ) فهو لا يؤل لحمه لكنّه طاهر .

قال الشهيد الثاني في مقام عدّ أقسام النجاسات : « الكلب والخنزير البرّيان وأجزائهما وان لم تحلّها الحياة ، وما تولّد منهما وان باينهما في الاسم وأما المتولد من أحدهما وطاهر فانّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فان انتفى المماثل ، فالأقوى طهارته وان حرم لحمه للأصل فيهما » وقريب منه كلام المحقق الثاني .

لكنه لا يخفى : انّ الحرمة والنجاسة هي القاعدة في مثل هذا الحيوان المشكوك التذكية ، لأن الأصل عدم التذكية ، وكل حيوان مات بدون تذكية شرعية حرم لحمه ويكون نجس ، وأصالة عدم التذكية لا تدع مجالاً لاصالة الطهارة ، لأن أصل الطهارة مسببي وأصل عدم التذكية سببي ، وكلّما جرى الأصل السببي لم يكن مجال للأصل المسببي - على ما عرفت - .

ثم الكلام في انّه لماذا الأصل الحرمة ؟ ذكر المصنّف لها وجوهاً أشار الى أوّلها

ص: 279

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فانّما يحسنُ مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلاّ ما خرج ، كما ادّعاه بعض .

وإن كان الوجهُ فيه أصالةَ

-------------------

بقوله : ( وان كان الوجه فيه ) أي : في كون الأصل في هذا الحيوان الحرمة ( اصالة عدم التذكية ) لأنا لا نعلم هل ذكيّ أم لا ؟ ( فانّما يحسن ) هذا الوجه ( مع الشك في قبول التذكية وعدم عموم ) في النص ( يدل على جواز تذكية كل حيوان الاّ ما خرج كما ادعاه ) أي : ادعى هذا العموم ( بعض ) حيث قال بأن الأصل في كل حيوان انّه يذكى الاّ ما خرج بالدليل ، كالكلب والخنزير ، فهذا الحيوان المشتبه داخل في هذا العموم .

ثم انهم استدلوا لذلك ببعض الروايات ، مثل رواية ابن مسلم عن الباقر عليه السلام : انه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القَنافذ والخَفاش والحَمير والبِغال ، فقال : ليس الحرام إلاّ ما حرَّم اللّه في كتابه (1) ، وهذا الحديث يحتمل التقية ، لأنّ العامة يرون حلية كل حيوان الاّ الخنزير ، وحتى في الكلب اختلفوا بين محلّل ومحرّم .

ويحتمل انّ يراد به : نفي تحريم التذكية ، فكل حيوان على هذا ، يصح تذكيته الاّ ما خرج بالدليل ، لأن الكتاب لم يحرم تذكية أي حيوان ، فعند الشك في الحلّ والحرمة تجري اصالة الحل ، ويؤد هذا الاحتمال أصالة عدم التقية .

ثمّ أشار الى ثانيها بقوله : ( وان كان الوجه فيه ) أي : في أصل الحرمة ( اصالة

ص: 280


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص42 ب4 ح176 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص382 ح118 وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج24 ص123 ب5 ح30136 .

حرمة لحمه قبل التذكية ، ففيه ، أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فاذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فيحتاج حرمته الى موضوع آخر ، ولو شكّ في قبول التذكية رجع الى الوجه السابق .

-------------------

حرمة لحمه قبل التذكية ) وذلك لأنّ أكل اللحم قبل الذبح كان حراماً ، فنستصحب تلك الحرمة ، والفرق بين هذا وبين السابق ، أن السابق يقول : لا يُذكّى ، وهذا يقول : لم نعلم انّه ذكّي أم لا ؟ فنستصحب عدم تذكيته .

( ففيه : انّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه ) أي : كون لحم هذا الحيوان ( من الميتة ) فانّ الانسان اذا قَطَعَ لحم حيوان حيّ ، كانت تلك القطعة ميتة ( فاذا فرض ) بسبب العمومات التي تقدّم بعضها ( اثبات جواز تذكيته ) بالشرائط الشرعية ( خرج عن الميتة ) ولا يصح حينئذٍ استصحابه لتغير الموضوع ، فان الحرمة حال الحياة كانت لكونه حياً ، والحرمة حال الممات انّ كانت فهي لأجل انّ الحيوان لا يذكى ، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب كما قرّر في موضعه .

وعليه : ( فيحتاج حرمته الى موضوع آخر ) أي : ان قلنا : انّه بعد الموت حرام لا يمكن الاستناد في حرمته الى الاستصحاب حال الحياة ، بل يلزم أن يكون هناك دليل آخر لحرمته ، مثل انّه غير قابل للتذكية ، ولا دليل آخر عليه .

( ولو شك في قبول التذكية ) أي : وانّ كان استصحاب الحرمة لاجل الشك في قبول التذكية بأن يقال : انّه في حال الحياة لم يذك ، فلا نعلم انّه بما صنعناه من ذبحه ذكّي أم لا ؟ فنستصحب حرمته لعدم ذكاته ( رجع ) استصحاب الحرمة هذا ( الى الوجه السّابق ) أي : الى اصالة عدم قابليته للتذكية ، وقد مرّ جوابه .

ص: 281

وكيف كان ، فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والاباحة .

نعم ، ذكر شارحُ الروضة وجها آخر ، ونقله بعضُ محشّيها عن الشهيد في القواعد ، قال شارح الروضة : « إنّ كلاًّ من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فاذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر » ، انتهى .

ويمكن منعُ حصر المحلّلات بل المحرّمات محصورة ،

-------------------

( وكيف كان : فلا يعرف وجه لرفع اليد عن اصالة الحلّ والاباحة ) في هذا الحيوان المتولد بين طاهر ونجس .

ثمّ أشار المصنّف الى ثالث الوجوه بقوله : ( نعم ، ذكر شارح الروضة ) وهو الفاضل الهندي الذي كتب شرحاً على كتاب شرح اللمعة ، وله كتاب آخر اسمه « كشف اللثام » ويعرف به ، فانّه ذكر ( وجهاً آخر ) ، لحرمة هذا الحيوان المتولد بين الطاهر والنجس ( ونقله ) أي : نقل ذلك الوجه ( بعض محشيها ) أي : بعض محشي الرّوضة ( عن الشهيد ) الأول ( في القواعد ) (1) فان للشهيد الأول كتاباً يسمى : « القواعد » ، والوجه الآخر هو ما يلي :

( قال شارح الروضة : انّ كلاً من النجاسات والمحلّلات محصورة ) بمعنى : انّا لم نجد الاّ نجاسة اُمور معينة كالعشرة مثلاً ، وحليّة اُمور خاصة كالانعام الثلاثة مثلاً ( فاذا ) شككنا في غير هذه الاُمور المعينة ممّا ( لم يدخل في المحصور منها ، كان الأصل : طهارته وحرمة لحمه وهو ظاهر ، انتهى ) .

هذا ، ( ويمكن منع حصر المحلّلات ، بل المحرمات محصورة ) :

ص: 282


1- - تمهيد القواعد : ص37 .

والعقل والنقل دلّ على إباحة مالم يعلم حرمته ، ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة .

ولو قيل : إنّ الحلّ إنّما علّق ، في قوله تعالى : « قل أحِلَّ لكُم الطّيّبات » المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ،

-------------------

قال سبحانه : « اُحلّ لَكُمُ الطيّبات » (1) وقال سبحانه : « خَلَقَ لَكُم ما فِي الأرضِ جَميعاً » (2) وقال سبحانه : « واُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلكُم » (3) الى غيرها من الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اصالة الحلية في كلّ شيء الاّ ما خرج .

نعم ، قوله : « انّ النجاسات محصورة » تام ، فانّ الأصل في الأشياء الطهارة الاّ ما خرج .

والحاصل : انّ النجاسات والمحرمات محصورة في الشريعة وما عدا مابُيّن فيها من النجاسة والحرمة يحكم بطهارته وحليته ، فلا دليل على حرمة هذا الحيوان المتولّد بين الكلب والشاة .

( و ) عليه : فان كلاً من ( العقل والنقل دل على اباحة ما لم يعلم حرمته ولذا ) الذي ذكرناه : من عدم حصر المباحات فيما علم اباحته نرى الفقهاء ( يتمسكون كثيراً بأصالة الحلّ في باب الاطعمة والاشربة ) .

ثم اشار المصنّف الى رابع الوجوه بقوله : ( ولو قيل : انّ الحلّ انّما علق في قوله تعالى : « قُل أُحِلَّ لَكم الطَّيبات » (4) ) على الطيّب ( المفيد ) ذلك التعليق ( للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ) .

ص: 283


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .
3- - سورة النساء : الآية 24 .
4- - سورة المائدة : الآية 4 .

فكلُّ ما شك في كونه طيّبا ، فالأصلُ عدمُ إحلال الشارع له .

قلنا : إنّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش ، فاذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ،

-------------------

فان في الآية استفهام قال سبحانه : « يَسئَلُونَك ماذا أُحلّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطّيّباتُ

» (1) فهو مثل : انّ يقول ماذا أشتري ؟ فيقول : التفاح ، فانّه يدل على الحصر ، فلا يقال : انّه من مفهوم اللقب .

وعليه : ( فكلّما شك في كونه طيباً ، فالأصل عدم احلال الشارع له ) اذ لو قلنا : انّه طيب فهو حلال ، كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فيكون مثل ما اذا قال : اكرم العالم ، ولم نعلم انّ زيداً عالم ، أو ليس بعالم ، فنكرمه تمسكاً بأكرم العالم .

لو قيل ذلك ( قلنا ) : هذا الاستدلال باطل لوجوه ثلاثة :

الأول : ( انّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث ) والمراد بالخبيث : امّا ما ينفّر الطبع ، وإما ما يضر ، ( والفواحش ) ما يكون فاحشاً ومتعدياً في القبح ، حيث قال سبحانه : « وَيُحرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ » (2) .

وقال سبحانه : « قُل انّما حَرَّم ربّي الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ » (3) والحرمة في المقام منحصرة في الخبيث .

وعليه : ( فاذا شك فيه ) أي : في شيء انّه خبيث أم لا ؟ » ( فالاصل عدم التحريم ) فانّه اذا شككنا في شيء انّه خبيث أو ليس بخبيث ، ثم تمسكنا بحرمته

ص: 284


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - سورة الاعراف : الآية 157 .
3- - سورة الاعراف : الآية 33 .

ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الاباحة ، وعموم قوله تعالى : « قل لا أجد فيما أوحِيَ إليّ » ، وقوله عليه السلام : « ليس الحرامُ إلاّ ما حرّم اللّه » ،

-------------------

بقوله سبحانه : « ويُحرِّمُ علَيهم الخَبائِث » (1) كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

( و ) انّ قلت : في المقام يتعارض أصلان ، أصل عدم الحليّة للشك في الطيّب ، وأصل عدم الحرمة للشك في الخباثة ، فلا نتمكن من استعمال هذا الحيوان المردّد بين الشاة والكلب .

قلت : ( مع تعارض الأصلين ) المذكورين ( يرجع الى أصالة الاباحة ) لأنّ الاصلين يتساقطان ، فنرجع الى الأصل الذي هو فوقهما .

( و ) الى ( عموم قوله : « قُل لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ ) مُحرَّماً على طاعِم يَطعَمُه ، إلاّ أن يكُونَ ميتةً ، أو دَماً مسفُوحاً ، أو لحمَ خِنزيرٍ » (2) فالمستثنى منه في الآية المباركة يشمل محل الكلام .

( و ) الى ( قوله عليه السلام : « ليس الحرام الاّ ما حرّم اللّه » ) في كتابه ، وذلك فيما تقدّم من رواية ابن مسلم عن الباقر عليه السلام ، انّه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القنافذ والخفاش والحمير والبغال ، فقال : « ليس الحرام الاّ ما حرّم اللّه في كتابه » (3) بناءاً على ارادة استعماله في الأكل ونحوه ، لا أن يراد به تحريم التذكية

ص: 285


1- - سورة الأعراف : الآية 157 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - تهذيب الأحكام : ج9 ص42 ب4 ح176 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص382 ح118 وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج24 ص123 ب5 ح30136 .

مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا ، بل الطيّب ما لا يستقذر ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشك ، فتدبّر .

-------------------

على المعنى الذي ذكرناه سابقاً .

الوجه الثاني من وجوه بطلان الدليل الرابع : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّه يمكن فرض كَون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّباً ) لأن الطيب والخبيث عنوانان عرفيان علق عليهما الحكم .

فاذا رأينا العرف يقولون : انّ هذا الحيوان طيب يكفي في الحكم بحليته ، فان الموضوعات تؤذ من العرف والأحكام تؤذ من الشرع ، والطيّب سواء كان بمعنى ما لا يتنفّر منه الطبع ، أو بمعنى ما لا يضر فهو شيء يعرفه العرف .

فاذا قال العرف : هذا شيء طيّب كفى في الحكم بحليته ، سواء كان من اللحوم أو غير اللحوم .

الثالث : انّ الطيّب ليس بأمر وجودي حتى لا يمكن احرازه بالأصل ( بل الطيّب ما لا يستقذر ) عرفاً ، أو ما لا يضر - على ما عرفت - ( فهو أمر عدمي يمكن احرازه بالأصل عند الشك ) فاذا شككنا انّ هذا الشيء قذرا أم لا ؟ نقول : انّه ليس بقذر ، لأنّ القذر أمر وجودي ، وفي الاُمور الوجودية لا يجري الاستصحاب ، بخلاف الاُمور العدمية فيجري أصل عدم الخباثة فيحكم بالحل بمقتضى الآية المباركة .

( فتدّبر ) حيث ارجاع كثير من الاُمور الوجودية الى الاُمور العدمية ، فيجري الاستصحاب فيها .

ص: 286

السادس :

حكي عن بعض الاخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو :

« أنه هل يجوّز أحد أن يقف عبدٌ من عباد اللّه تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة . فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما ثبت من المعلوم . فان اشتبه عليّ شيء عملتُ بالاحتياط . فيزلّ قدمُ هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقه الأبرار . هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

-------------------

التنبيه ( السادس : حكي عن بعض الأخباريّين ) وهو السيد نعمة اللّه الجزائري رحمه اللّه ( كلام لا يخلو ايراده عن فائدة ) لأنّه تعرّض لنقد البرائة التي يقول بها الاُصوليون ( وهو انّه هل يجوّز أحد ) من العقلاء ( أن يقف ) في القيامة للحساب ( عبد من عباد اللّه تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية ؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم واقتفي أثره ) أي : اتّبع ما وصل اِليّ من قول المعصوم أو فعله أو تقريره .

( و ) كنت أعمل بكل ( ما ثبت من المعلوم ) فانّ بعض الاشياء بيّن رشده كأكل لحم الشاة فأرتكِبَهُ ، وبعضها بيّن غيّه كأكل لحم الخنزير فأجتنبه ، وبعضها مشتبه ( فان اشتبه عليّ شيء ) كشرب التتن ودعاء الهلال - مثلاً - (عملت بالإحتياط ) في هذا المشتبه ، ومع ذلك ( فيزلّ قدمُ هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط ) لعمله ( فيؤر به الى النار ويحرم مرافقة الأبرار ) .

كلا لا يكون هكذا ( هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

ص: 287

في الدين في الجنّة مخلدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين » ، انتهى كلامه .

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلاً عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة ، وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط ، لاحتمال

-------------------

في الدين ) كالعامل بالبرائة ( في الجنة مخلدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين ، انتهى كلامه ) رفع مقامه .

( أقول ) : ان كان السيد الجزائري يريد بكلامه هذا : حسن العمل بالاحتياط فهو في محله ، لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، وان كان يريد به حسن الفتوى بالاحتياط ، فهو ليس في محله ، لانّ الاحتياط هنا في ترك الفتوى بالاحتياط .

هذا بالاضافة الى ما سيأتي في أخير كلام المصنّف من الالماع الى انّ الأصل في الشريعة اليُسر دون العُسر ، قال تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر وَلا يُريدُ بِكُم العُسْرَ » (1) ومن الواضح : انّ الاحتياط في الموارد المشتبهة من العُسر وليس من اليسر .

وعلى أيّ حال : فانّه ( لا يخفى على العوام فضلاً عن غيرهم انّ أحداً لا يقول بحرمة ) العمل على ( الاحتياط ولا ينكر حسنه وانّه سبيل النّجاة ) لأنّ الاحتياط حَسَنٌ على كل حال .

( وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط ) بمعنى انّ الفقيه يفتي لمقلديه بوجوب الاحتياط ( فلا اشكال في ) عدم حُسنِه و ( انّه غير مطابق للإحتياط ، لاحتمال

ص: 288


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

حرمته ، فان ثبت وجوب الافتاء فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ، وإلاّ فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذٍ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فان التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ،

-------------------

حرمته ) فانّه كيف يفتي الانسان بشيء يحتمل حرمته ؟ واذا أراد الفقيه أن يحتاط فيما لم يعلم انّ الحكم فيه هل هو البرائة ، أو الاحتياط ؟ فعليه أن لا يفتي بشيء ، لا أن يفتي بالاحتياط ، وذلك لأن الافتاء امّا هو واجب على الفقيه ، أو غير واجب ، وفي كلا التقديرين محذور ، أشار الى الاول بقوله :

( فان ثبت وجوب الافتاء ) على الفقيه ( فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ) لأنّ الشارع اِن أوجبَ الاحتياط كان الواجب على الفقيه أن يفتي بالإحتياط ، وان حكم بالبرائة فالواجب على الفقيه أن يفتي بالبرائة ، ويحرم عليه الافتاء بالإحتياط .

ثمّ اشار الى الثاني بقوله : ( والاّ ) بان لم يثبت وجوب الافتاء عليه ، ( فالاحتياط في ترك الفتوى ) بالاحتياط .

وانّ شئت قلت : انّ ثبت لدى المستنبط البرائة أو الاحتياط أفتى به ، وانّ لم يثبت لديه أحدهما ، فان وجب عليه الافتاء كان من دوران الأمر بين المحذورين ويكون من التخيير ، وانّ لم يثبت عليه وجوب الافتاء فالاحتياط أن لا يفتي أصلاً .

( وحينئذٍ ) أي : حين لم يفت الفقيه بشيء ، لأنّه لا يجب عليه الافتاء ( فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ) اذ لا مجال لمن يريد العمل ولا فتوى للمستنبط في المسألة الاّ من الرجوع الى عقله ( فان التفت الى قبح العقاب من غير بيان ) أي : دلّه عقله على ذلك ( لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ) لأن العقل حجّة

ص: 289

وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولاً على الالتزام بتركه . كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سَبُعا .

وعلى كلّ تقدير فلا ينفع قول الأخباريّين له إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصوليّ له إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه .

-------------------

باطنة كما انّ الأنبياء والائمة عليهم السلام حجة ظاهرة (1) .

( وان لم يلتفت اليه ) أي : الى قبح العقاب من غير بيان ( واحتمل العقاب ، كان مجبولاً على الالتزام بتركه ) ومجبولاً أي : محكوماً بالجبلة والفطرة على ذلك ، فهو ( كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعاً ) فانّ فطرته تدله على وجوب الاجتناب عن ذلك الطريق .

( وعلى كل تقدير : فلا ينفع قول الأخباريين له ) أي : للجاهل ( : انّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل ، ولا قول الاُصولي له : انّ العقل يحكم بنفي البأس ) والبرائة ( مع الاشتباه ) وذلك لأنّ المفروض انّ هذا الجاهل لا يتمكن من استفتاء العالم الفرض انّ العالم يمتنع عن الجواب ، فيكون هذا الجاهل مجبوراً الى الرجوع الى عقله .

ومن الواضح : انّه لا فرق بين عقل العالم وعقل الجاهل فيما يرجع فيه الى حكم العقل ، ولا يتعبد أحد بعقل الآخر ، وكون الفقيه أهل خبرة دون الجاهل

ص: 290


1- - اشارة الى الحديث « انّ للّه على الناس حجّتان ، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول » بحار الأنوار : ج1 ص137 ب4 ح30 ، وورد شبيه ذلك في الكافي اصول : ج1 ص16 ح12 .

وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقن من الأمرين في البين ،

-------------------

لا ينفع عند تضارب الفقيهين ، فهو كما اذا سأل الجاهل عن طريق النجف فقال أحد السائقين الخبيرين : انّ الطريق من طرف الشرق ، وقال الآخر : انّه من طرف الغرب ، فهل ينفع قول أحدهما بحجّة انّه عالم وانّ السائل جاهل ؟ .

( وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ) علمه على الاحتياط ما دام لم يستلزم وسوسة ونحو ذلك ( والافتاء بوجوبه من الاخباريين نظير الافتاء بالبرائة من المجتهدين ) فكل من الأخباريين والمجتهدين يفتي بالاحتياط أوبالبرائة من باب الأدلة التي يراها دالة على مذهبه ، ولا يحق لأحد منهما الاشكال على الآخر : بأنّه لماذا يسلك هذا المسلك بعد اقتناعه بوجود الأدلة على مسلكه .

نعم ، لكل واحد منهما البحث مع الآخر حتى يظهر انّ الحق في هذا الجانب أو في ذاك الجانب ولا يصح لاحد منهما انّ يتهم الآخر بالتساهل في الدين ، أو التشدّد فيه .

هذا ( ولا متيقن من الأمرين في البين ) لوضوح : انّه لو كان متيقناً لم يذهب الطائفة الثانية الى خلاف ذلك المتيقن ، وانّما كل طرف يستظهر من الأدلة ما يختاره .

لا يقال : الافتاء بالاحتياط مطابق للاحتياط لأنّه ان كان شرب التتن في الواقع حراماً مثلاً فقد سلم المحتاط من محذور الحرام ، وان كان حلالاً لم يكن في تركه محذور ، لأن الحلال يختار الانسان بين فعله وتركه بمجرد ارادته .

ص: 291

ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقلّ من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لايخفى .

فما ذكره هذا الأخباريّ من الانكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، واللّه العالم وهو الحاكم .

-------------------

لأنه يقال : ( ومفاسد ) الالزام و ( الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه كما لا يخفى ) لما تقدّم : من انّ الشرع مبنيّ على التسهيل .

قال سبحانه : ( ما جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدّينِ مِن حرج ) (1) وقال سبحانه : ( يُريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر ولا يُريدُ بِكُم العُسر ) (2) .

هذا ، مضافاً الى انّ التشديد على الناس يوجب التنفّر عن الدين ، فالتسهيل أقرب ، وفي رواية : « انّ الأمر على شيعَتِنا أوسعُ ممّا بين ذِه وذِه ، وقد أشار الإمام عليه السلام الى السماء والأرض » (3) ، وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « انّ هذا الدِّين رَفيق فأوغل فيهِ برفق ، فانّ المنبتَ لا أرضاً قطع و لا ظهراً أبقى » (4) .

وعليه : ( فما ذكره هذا الأخباري من الانكار ) أي : الاستفهام الانكاري المتقدّم منه بقوله : « هيهات هيهات أن يكون أهل التساهل في الدين في الجنّة مخلّدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين » ، ( لم يعلم توجهه الى أحد ، واللّه العالم وهو الحاكم ) .

ص: 292


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - تأويل الآيات : ص176 بالمعنى ، بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 .
4- - وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 بالمعنى ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 وفيه (متين) بدل (رفيق ) .

المسألة الثانية : ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ

إمّا بأن يكون اللفظُ الدالُّ على الحكم مجملاً ، كالنهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكة لفظا بين الحرمة والكراهة ،

-------------------

« فصل »

هذا ، بالاضافة اِلى نقض كلامه بالشبهة الموضوعيّة وجوبيّة أو تحريميّة ، والشبهة الحكمية الوجوبية ، فاذا قيل له بوجوب الاحتياط في هذه الثلاث ، فما أجاب عنها كان هو جواب الاُصولي في الشبهة الحكمية التحريمية .

قد تقدّم : انّ الشك في الشبهة التحريمية ينقسم الى أربعة مسائل ، لأن الشك امّا من جهة : فقدان النص ، أو اجمال النص ، أو تعارض النصّين ، أو الاُمور الخارجيّة ، وقد تقدّم الكلام في المسألة الاُولى التي هي عبارة عن الشك من جهة فقدان النص ، وبقي الكلام في الأقسام الثلاثة الاُخر فنقول :

اما ( المسألة الثانية ) من المسائل الأربع فهي : ( ما اذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة اجمال النّص ) بأن علمنا انّ هذا الشيء إمّا حرام أو مستحب أو مكروه ، أو مباح ؟ .

والاجمال ( إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم ) والمراد بالحكم : الحرمة وغير الوجوب ( مجملاً ، كالنهي المجرد عن القرينة ) الدالة على انّه هل قصد به الحرمة أو الكراهة - مثلاً - وذلك فيما ( اذا قلنا باشتراكه ) أي : باشتراك النهي ( لفظاً بين الحرمة والكراهة ) فان بعض الاُصوليين يرون النهي مشتركاً بين الحرمة

ص: 293

وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلق الحكم كذلك ، سواء كان الاجمالُ في وضعه كالغناء إذا قلنا باجماله فيكون المشكوك في كونه غناءا محتملَ الحرمة ،

-------------------

والكراهة ، لاستعماله تارةً في الحرمة واُخرى في الكراهة ، فاذا ورد نهي ولم نعرف من القرينة الخارجية انّ المراد به الحرمة أو الكراهة كان مجملاً ، فيدور الأمر بين أن يكون الشيء الفلاني المتعلق بهذا النهي حراماً أو مكروهاً .

وكذلك الحال اذا قلنا بأنّ النهي ليس مشتركاً لفظياً بين الحرمة والكراهة ، وإنّما هو مشترك معنوي بينهما ، أو انّه موضوع للحرمة ويغلب استعماله في الكراهة ، أو موضوع للكراهة ويغلب استعماله في الحرمة .

( وأما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك ) أي : مجملاً ، وذلك بأن لم يكن اللفظ الدال على الحكم مجملاً ، وانّما يكون اللفظ الدال على موضوع الحكم مجملاً مردداً بين أمرين ، فانّه اذا كان المتعلق مجملاً سرى الاجمال منه الى الحكم .

مثلاً : اذا قال : لا تكرم الفاسق ، وشك في انّ المراد منه كلّ أقسام الفسق صغيرة وكبيرة ، أو مرتكب الكبيرة فقط ؟ فيكون حرمة اكرام مرتكب الصغيرة مشكوكاً ، وذلك لاجمال متعلق التكليف وموضوعه ، فيسري اجمال الموضوع الى الحكم ، فيكون الحكم مجملاً مشتبهاً فيه ( سواء كان الاجمال في وضعه ) اللّغوي ( كالغناء اذا قلنا باجماله ) فانّ اللغويين اختلفوا في معناه وانّه هل هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت الجامع لهما ؟ .

وعليه : ( فيكون المشكوك في كونه غناءاً ) وهما المعنيان الأوّلان ( محتمل الحرمة ) لأن المتيقن هو الصوت المطرب المرجّع فيه ، أما الصوت المطرب وحده ، أوالمرجّع فيه وحده فهو محتمل الحرمة ، فيرجع فيه الى البرائة .

ص: 294

أم كان الاجمالُ في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به ، والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاُولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا .

-------------------

والحاصل : انّ الأمر انّما يكون فيما إذا كان هناك قدر متيقن وقدرٌ زائد على ذلك القدر المتيقن ، فالقدر المتيقن يؤذ به ، والقدر الزائد يكون مشكوكاً فيه ويكون حكمه البرائة لا الاحتياط .

( أم كان الاجمال في المراد منه ) من جهة الشك في أنّ المولى هل أراد المعنى الحقيقي والمجازي ، أو الحقيقي فقط ؟ أو المولى أراد المعنى المنقول منه والمنقول اليه ، أو أراد أحدهما فقط ؟ أو كان اللفظ مشككاً ، له أفراد مختلفة في الجَلاء والخَفاء ، فلم يعلم هل المولى أراد الافراد الخفية أيضاً أو أراد الافراد الجلية فقط ؟ .

( كما اذا شك في شمول الخمر للخمر غير المسكر ولم يكن هناك اطلاق يؤذ به ) فانّه اذا كان اطلاق أخذ به قطعاً ، فلو أن خمراً ازيل اسكاره بالشمس أو الهواء أو بالوسائل الطبيّة ، فهل يبقى حراماً أو لا ؟ وذلك فيما اذا لم يكن استصحاب ونحوه ، أما اذا كان استصحاب ونحوه فهو واضح .

والحاصل : إنّ الشك في هذا المقام ناتج من الشك في انّ المولى كم أراد من هذا الموضوع ؟ هل أراد بعض الأفراد ، أو أراد جميع الأفراد ؟ .

( والحكم في ذلك كلّه ) من الاجمال لجهة الاشتراك في اللفظ ، أو الاشتراك في متعلق الحكم ، أو في خفاء المراد ( كما في المسألة الاُولى ) وهو : جريان البرائة عن التحريم في الجميع ( والأدلة المذكورة من الطرفين ) : الأخباري والاُصولي ( جارية هنا ) أيضاً كما كانت جارية في المسألة الاُولى ، وهو :

ص: 295

وربّما يتوهّمُ : أنّ الاجمال إذا كان في متعلّق الحكم ، كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ، كان ذلك داخلاً في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسدٌ .

-------------------

مورد فقدان النص .

( وربّما يتوهم : انّ الاجمال اذا كان في متعلق الحكم ) وموضوعه ( كالغناء ، وشرب الخمر غير المسكر ، كان ذلك داخلاً في الشبهة في طريق الحكم ) أي : شبهة موضوعية وليست شبهة حكمية ، فاللازم أن يذكر ذلك في مسألة الشبهة الموضوعية لا في مسألة الشبهة الحكمية ، فلماذا ذكره المصنّف في هذا المقام الذي هو بحث الشبهة الحكمية ؟ .

( و ) لكن هذا التوهّم ( هو فاسد ) لوضوح : انّ مناط الشبهة الحكمية انّ تكون الشبهة ناشئة من فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، فيحتاج المكلّف فيها الى استطراق باب الشارع ، بينما مناط الشبهة الموضوعية أن تكون الشبهة ناشئة عن اشتباه الاُمور الخارجية والمكلّف محتاج فيها الى استطراق باب العُرف .

ومن المعلوم : إنّ الشبهة في الغناء والخمر محتاج الى استطراق باب الشارع ، لأنا لا نعلم هل الشارع حكم بتحريم كل خمر وكل غناء ، أو حكم بتحريم بعض منهما ؟ .

ولو راجعنا العرف فيهما لم يعرف الجواب ، وانّما الشارع هو الذي يعرف الجواب عنهما ، فالشبهة فيهما شبهة حكمية وليست شبهة موضوعية .

ص: 296

المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما

والأقوى فيه أيضا عدمُ وجوب الاحتياط ، لعدم الدليل عليه ، عداما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها ، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين ،

-------------------

( المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين ) بأن يكون هناك نصان : أحدهما : يدل على الحرمة ، والآخر : يدل على الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ( وعدم ثبوت ما يكون مرجّحاً لأحدهما ) أي : لأحد النصين على الآخر ، بأن لم يكن لأحدهما من حيث السند ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، مزية ملزمة ، اذ المزية اذا لم تكن ملزمة لم تكن مزية في هذا الباب ، فاذا تعارض النصان ولم يكن لأحدهما مرجّح على الآخر ، عملنا بالبرائة فيجوز لنا أن نعمل بهذا أو بذاك .

ولهذا قال المصنّف : ( والأقوى فيه أيضاً عدم وجوب الاحتياط ) والعمل فيه بالبرائة ، وذلك ( لعدم الدليل عليه ) أي : على الاحتياط في تعارض النصين ( عدا ما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها ) من أدلة التوقف عند الشبهة والاحتياط ، وقد تقدّم : عدم دلالتها على الاحتياط الذي يقول به الأخباريون ( و ) عدا ( بعض ما ورد في خصوص تعارض النصين ) حيث انّ بعض الروايات الواردة في تعارض النصين دالّ على الاحتياط .

ص: 297

مثل ما في غوالي اللئالي من مرفوعة العلامة ، إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه السلام ، « قال : قلتُ : جُعِلتُ فداك ! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل ؟ فقال : يا زرارةُ ! خُذ بما اشتَهَرَ بَينَ أصحابك وَاترك الشّاذَّ النادِرِ ،

-------------------

وعليه : فدليل الأخباريين بالاحتياط في المقام منحصر في هذين الأمرين :

الأوّل : الأدلة السابقة التي ذكرناها .

الثاني : بعض الروايات الواردة بالاحتياط في صورة تعارض النصين مع عدم مزية لأحدهما على الآخر .

( مثل : ما في غوالي اللئالي ) والظاهر : انّه بالغين كما هو المشهور لا بالعين كما ذكره المحدِّث النوري رحمه اللّه ( من مرفوعة العلاّمة الى زُرارة عن مولانا ابي جعفر عليه السلام قال : قلت : جُعلتُ فداك يأتي عنكم الخَبران أو الحَديثان ) ولعلّ الفرق بينهما : إنّ الخبر يراد به : النقل عن رسول اللّه ، أو عن الأنبياء والاولياء السابقين أو عن اللّه سبحانه وتعالى .

وانّ الحديث يراد به : ما قاله الائمة المعصومون من الأحكام فان الإمام عليه السلام قد يقول : قال رسول اللّه ، كذا ، فهذا خبر ، وقد يقول : انّ الحكم كذا ، فهذا حديث ، لأنه حادث وجديد وليس بخبر ، فاذا جائنا ( المتعارضان فبايّهما نعمل ؟ فقال ) عليه السلام : ( يا زُرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذ النّادر ) .

والظاهر انّ قوله : « النادر » ، عطف بيان على « الشاذ » ، لا أن المراد « الشاذ » في قِبال « النادر » ، لأنهما قد يطلق أحدهما على الآخر ، وقد يُراد بكل واحد منهما

ص: 298

فقلتُ : يا سيّديّ ! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال : خُذ بما يقول أعدلهُما عِندَك وأوثُقهُما في نفسك فقلتُ : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي فقال : اُنظُر ما وافق منهما مذهبَ العامّة فاتركه وخُذ بما خالفهُم ، فانّ الحقَّ فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيفَ نَصنَعُ ؟ قال : خذ بما فيه الحائطةُ لدينك

-------------------

معنى خاصاً ، كأن يُقال : الشيخ المرتضى عالمٌ نادرٌ في الفقه ، ولا يُقال : انّه شاذ ، وانّما يقال : الشاذ لمن خرج عن الطريقة المستقيمة فيقال : الشلمغاني شاذٌ .

وعلى أي حال : يقول زُرارة : ( فقلت : يا سيدي انّهما معاً مشهوران مروّيان مأثوران عنكم ) فبأيهما نأخذ بعد كونهما مشهورين معاً ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( خُذ بما يقول أعدلهما عندَك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : انّهما معاً عدلان مرضيان موثقان عندي ) فبأيهما نأخذ ؟ .

( فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه ، وخذ بما خالفهم فان الحق فيما خالفهم ) والسّر فيه : انّهم كانوا يتعمدون ما هو خلاف الائمة عليهم السلام - كما لا يخفى على من راجع التاريخ - فكان ما يخالفهم هو قول الائمة عليهم السلام ، وسيأتي الالماع اليه في باب التعادل والتراجيح انشاء اللّه تعالى .

( قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف نصنع ؟ ) مثلاً : خبر يقول بوجوب الجمعة ، وآخر بحرمتها ، والعامة لهم في المسألة أيضاً نفس القولين ، أو أن العامة يقولون بالاستحباب ممّا يخالف الروايتين معاً ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( خُذ بما فيه الحائِطَةِ لدينك ) وهذه الفقرة هي محلّ الكلام بين الاخباريين والاُصوليين في انّه هل يجب الاحتياط حينئذٍ كما يقوله الاخباريون

ص: 299

وَاترُك ما خالفَ الاحتياط ، فقلتُ : إنّهما موافقان للاحتياط او مخالفان ، فكيف أصنَعُ ، قال : إذن فتخيّر أحَدَهُما فَتأخُذُ به وتَدَعُ الآخَرَ » ، الحديث .

وهذه الرواية وإن كانت أخصَّ من أخبار التخيير ،

-------------------

أو العمل على البرائة كما يقوله الاُصوليون ؟ .

ثم اضاف عليه السلام : ( واترك ما خالف الاحتياط ) فاذا قال أحدهما بحرمة شرب التتن - مثلاً - وقال الآخر باباحته ، فانّ الاحتياط في الترك .

( فقلت : انهما موافقان للاحتياط ) بان يدل أحدهما على وجوب الظهر - مثلاً - والآخر على وجوب الجمعة ، فان الاتيان بالظهر احتياط ، لأنّه مقطوع عدم الحرمة ، وكذلك الاتيان بالجمعة احتياط لأنّه مقطوع عدم الحرمة .

( أو مخالفان ) للاحتياط ، بأن يدل أحدهما على استحباب الفعل ، والآخر على كراهته ، مع قيام دليل غير معتبر على وجوبه أو على حرمته ، فالاستحباب والكراهة كلاهما مخالفان للاحتياط الذي هو الاتيان قطعاً لوجوبه ، أو الترك قطعاً لحرمته ، وعليه : ( فكيف أصنع ) حينئذٍ ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( إذن فتخير أحدهُما فتأخذ به وتدعُ الآخر (1) ، الحديث . وهذه الرواية وان كانت أخصّ من ) سائر ( أخبار التخيير ) لذكر الاحتياط في هذا الخبر دون سائر الأخبار ، وكلّما كانت القيود أكثر كان الخبر أخصّ - كما هو واضح - فاذا قال خبر : « أكرم العالم » ، وقال آخر : « أكرم العالم العادل » ، كان الخبر الثاني أخص من الخبر الاول .

ص: 300


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أنّها ضعيفةُ السند : وقد طعن صاحبُ الحدائق فيها وفي كتاب الغوالي وصاحبه ، فقال : « إنّ الرّواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ما هي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور » ، انتهى .

-------------------

وكيف كان : فاذا كان هذا الخبر أخصّ كان اللازم انّ يكون العمل بالاحتياط مقدَّماً على التخيير الذي معناه البرائة ، فيكون ظاهر هذا الخبر مع الأخباريين القائلين بالاحتياط في صورة تعارض النصين اذا أمكن الاحتياط ، لا البرائة الذي يقول به الاُصوليون .

هذا ( الاّ انّها ضعيفة السند ) فلا يمكن العمل بها ( وقد طعن ) المحدّث البحراني ( صاحب الحدائق فيها ) أي : في هذه الرواية ، فصاحب الحدائق وهو اخباري اذا طعن في رواية ، كان طعن غيره من الاُصوليين فيها بطريق أولى ، ممّا يدل على عدم امكان الاعتماد على هذا الخبر .

( و ) كما طعن صاحب الحدائق في الرواية طعن ( في كتاب الغوالي ، و ) في ( صاحبه ) وهو ابن أبي جمهور الأحسائي ( فقال : انّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ماهي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه ) وهو الأحسائي رحمه اللّه ( الى التساهل في نقل الأخبار والاهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها - كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (1) - انتهى ) كلام البحراني .

ص: 301


1- - الحدائق الناظرة : ج1 ص99 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص303 .

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه او كون الحكم الوقف أو التساقط والرجوع إلى الأصل أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر

-------------------

وعليه : فهذا الخبر لا يصلح ان يكون مستنداً للأخباريين القائلين بالاحتياط في مورد تعارض النصين ، لكن التحقيق يدلّ على عدم مثل هذا الضعف الذي ذكره البحراني ، لا في الكتاب ولا في أخباره ، ولا في هذا الخبر بالذات كما يظهر ذلك لمن راجع كتاب المستدرك للحاج نوري وغيره .

( ثمّ اذا لم نقل بوجوب الاحتياط ) في الخبرين المتعارضين كما يقوله الأخباريون ( ففي ) الأمر في باب تعارض الخبرين احتمالات :

الأوّل : ( كون أصل البرائة مرجّحاً لما يوافقه ) فاذا كان هناك خبران أحدهما موافق لأصل البرائة ، والآخر مخالف له ، فالبرائة ترجّح الخبر الموافق لها .

الثاني : ( أو كون الحكم : الوقف ) فلا نحكم لا بمضمون هذا الخبر ولا بمضمون ذلك الخبر ، وانّما نلتمس دليلاً آخر : كالقرعة احياناً ، أو التنصيف للماليات أحياناً ، أو الزام الحاكم بالطلاق ، كمااذا اختلفا في زوجة ، أو اختلف الاختان في انّ أيتهما زوجة هذا الرجل أحياناً ، أو بالصلح الاجباري من الحاكم أحياناً الى غير ذلك من المحتملات الأوّلية .

الثالث : ( أو التساقط والرجوع الى الأصل ) أي : البرائة ، وذلك بأن يحكم بعدم حجيّة شيء من المتعارضين ، وهذا غير ما ذكرناه : من كون البرائة مرجحاً فانّه قد نجعل البرائة مرجحاً وقد نجعلها مرجعاً .

الرابع : ( أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر ) بأن يختار العمل باحدهما ويبقى على ما اختاره أولاً ، فاذا كان هناك خبران أحدهما يقول بوجوب الجمعة

ص: 302

أو دائما وجوهٌ ، ليس هنا محلّ ذكرها ، فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، واللّه العالم .

بقي هنا شيء :

-------------------

-

مثلاً - والآخر بحرمتها ، فاذا اخترنا من الأوّل الوجوب نبقى الى الأخير على الوجوب فنؤّيها ، وإذا اخترنا أولاً الحرمة نبقى الى الأخير على الحرمة ، فلا نؤيها اطلاقاً .

الخامس : ( أو دائما ) بمعنى انّه يجوز له أن يختار العمل بأحدهما تارة ، وبالآخر اُخرى ، ففي يوم جمعة - مثلاً - يصلي الجمعة وفي يوم جمعة اُخرى يصلي الظهر ، وهكذا .

ثم انّ لهذه الاحتمالات ( وجوه ليس هنا محلّ ذكرها ) وانّما محل ذكرها في باب التعادل والتراجيح ( فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ) الذي يقول به الأخباريون واثبات البرائة الذي يقول به الاُصوليون ، لا بيان الوجوه المتقدّمة المحتملة ، كما انّه ليس هذا المكان مبحث تفصيل الكلام في خبر الغوالي المتقدِّم ( واللّه العالم ) بخفايا الاُمور .

ثمّ انّه ( بقي هنا شيء ) في مسألة البرائة والاحتياط ، وهذا الشيء مركب من ثلاثة اُمور :

الأمر الأوّل : انّه لو كان هناك خبران أحدهما موافق للأصل ويسمى بالمقرِّر ، والآخر مخالف للأصل ويسمّى بالناقل ، فالمشهور تقديم المخالف ، وسمّي ب« الناقل » ، لأنه ينقل الأمر من الحكم بالأصل ، الى حكم جديد .

الثاني : انّه لو كان احد الخبرين يدل على الاباحة ، والآخر يدل على الحظر ، فالمشهور قالوا بتقديم الحظر على الاباحة ، ومن المعلوم : انّ المسألة الثانية

ص: 303

وهو أنّ الاصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلافَ في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ، ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل إلى أكثر الاصوليين ، بل إلى جمهورهم منهم العلامة قدس سره ، وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الاباحة على الدالّ على الحظر

-------------------

أخصّ من الاُولى ، لأن الحظر قد يوافق الأصل وقد لا يوافقه ، فالحظر في المرأة المشكوك جواز وطيها - مثلاً - يوافق الأصل ، حيث انّ الأصل حرمة المرأة الاّ ما علم بجواز وطيها بينما قد يكون الحظر ولا يكون الأصل كحظر شرب التتن فانّه لا أصل يوافق هذ الحظر .

الثالث : بيان ما يرد على الجمع بين المسئلتين واقوال الاصوليين من اشكالات وردها.

( و ) اذا عرفت ذلك قلنا : انّ الشيء الباقي هنا بين مسألة البرائة والاحتياط ( هو : ان الاُصوليين ) القائلين بالبرائة ( عنوَنُوا في باب التراجيح ) فيما اذا وافق أحد الخبرين اصل البرائة ، وخالفه أحد الخبرين : ( الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ) وقد عرفت : انّ الموافق للأصل يُسمّى بالمقرر ، لأنه يثبت حكم العقل للبرائة ، ويقرّره .

( ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل ) لما عرفت : من انّه ينقل الحكم عن الاصل الى غير جهة الاصل بسبب الشرع ( الى أكثر الاُصوليين ، بل الى جمهورهم ) أ ي : الى الاكثرية القريبة من الاتفاق ، والذي ( منهم ، العلامة قدس سره ) حيث نسب هذا القول الى أكثر الاصوليين .

( وعنونُوا أيضاً مسألة تقديم الخبر الدال على الاباحة ، على الدّال على الحظر )

ص: 304

والخلاف فيه ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدمُ الخلاف في ذلك .

والخلاف في المسألة الاُولى ينافي الوفاق في الثانية ،

-------------------

اذا تعارضا ، بأن دلّ أحد الخبرين على الاباحة ، والآخر على الحظر ( و ) عنونوا (الخلاف فيه) ايضاً ، بانّه هل يقدَّم الخبر الدال على الاباحة أو يقدم الخبر الدال على الحظر ؟ .

( ونسب تقديم الحاظر على المبيح الى المشهور ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم ، وهو الفاضل الجواد على ما حكي عنه في بعض الحواشي والشروح ( عدم الخلاف في ذلك ) وان كل الاُصوليين يقولون بتقديم الحاظر على المبيح .

( و ) اذا جمعنا بين هاتين المسألتين وأقوال الاُصوليين فيها يرد عليهم ثلاثة ايرادات :

الايراد الأوّل : انّ ( الخلاف في المسألة الاُولى ينافي الوفاق في الثانية ) حيث قد عرفت من الفاضل الجواد : عدم الخلاف في المسألة الثانية ، بينما ثبت الخلاف في الاولى ، مع أن المسألة الثانية من مصاديق المسألة الاُولى - كما عرفت - فكيف يمكن الخلاف في مسألة والاتفاق في مسألة ؟

ووجه المنافاة : انّ الحاظر فرد من الناقل ، والمبيح فرد من المقرر ، فكيف يمكن أن يكون تقديم الحاظر على المبيح وفاقياً ، وتقديم الناقل على المقرر أكثرياً ؟ بل لابدّ أن يكون كل قائل في المسألة الاولى بتقديم الناقل على المقرر ، قائل في المسألة الثانية بتقديم الحاظر على المبيح .

أما الايراد الثاني : فهو أن قول الأكثر في المسألتين المتقدمتين أي : « تقديم الناقل على المقرر » ، و « تقديم الحاظر على المبيح » ينافي عملهم في الفقه ،

ص: 305

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلاّمة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير .

ويمكن أن يقال :

-------------------

حيث انهم في مورد دوران الأمر بين الخبرين يقولون بالتخيير أو بالبرائة ، فلم يقدّموا الناقل والحاظر كما قالوا في الاصول .

والى هذا الايراد الثاني أشار المصنّف بقوله : ( كما انّ قول الأكثر فيهما ) أي : في المسألتين المذكورتين في الاُصول ( مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ) والمخالف للأصل هو المسمّى بالناقل والحاظر ( بل ) انّهم يرَونَ في باب التعارض ( التخيير أو الرجوع الى الاصل ) وفسّر الأصل بقوله : ( الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريين والبرائة عند المجتهدين حتى العلاّمة ) المشتهر بتقديم الناقل على المقرر ، فكيف يرجعون في الفقه الى الأصل ، وفي الاُصول الى خلاف الأصل الذي يسمى بالناقل والحاظر ؟ .

أما الايراد الثالث : فهو انّ جماعة من الاصحاب لم يقولوا في الاُصول بتقديم الناقل والحاظر ، ولا بتقديم المقرر والمبيح ، بل قالوا بالتخيير ، ومن الواضح : انّ هذا منافٍ ما تقدَّم عنهم من الوفاق على تقديم الحاظر .

والى هذا الايراد الثالث أشار بقوله : ( مضافاً الى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين ) المتقدمتين ( الى التخيير ) بين أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، لا أنه يقدّم الناقل والحاظر على المقرر والمبيح .

هذا ( ويمكن أن يقال ) في جواب الاشكال الأوّل : انّه لا منافاة بين المسألتين ،

ص: 306

إنّ مرادَهُم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالةُ البراءة من الوجوب ، لا أصالةُ الاباحة ، فيفارق مسألةَ تعارض المبيح والحاضر ، أو إنّ حكم أصحابُنا بالتخيير او الاحتياط ، لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما فيفارق المسألتين .

-------------------

وذلك لأن مسألة المقرّر والناقل خاص بالشبهة الوجوبية ، ومسألة المبيح والحاظر خاص بالشبهة التحريمية ، فالمسألة الاُولى مختلف فيها ، والمسألة الثانية متفق عليها فلا منافاة بين المسألتين ، وذلك كما قال : ( ان مرادَهُم من الأصل في مسألة الناقل والمقرر : أصالة البرائة من الوجوب ، لا أصالة الاباحة ) في مسألة الحاظر والمبيح ، فمسألة الحاظر والمبيح خاصة بالشبهة التحريمية على ما عرفت ( فيفارق مسألة تعارض ) الناقل والمقرر مسألة تعارض ( المبيح والحاظر ) فلا يكون بين المسألتين عموم وخصوص مطلق كما ذكره المستشكل .

( أو ) يمكن أن يقال في جواب الايراد الثاني : ( ان حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الاخبار الواردة ) في مسألة التعارض ، ولهذا قالوا بذلك في الفقه ، وفي الاُصول قالوا بتقديم الناقل والحاظر لملاحظة الرّجحان الموجودة في نفس مدلول الدليل ، فمسألة الناقل والحاظر بملاحظة نفس مدلول الدليل ، ومسألة التخيير أو الاحتياط بملاحظة الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ( لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما ) .

وعليه : فان لم يكن هناك أخبار بالتخيير أو الاحتياط قلنا : مقتضى نفس مدلول الخبرين من حيث هما تقديم الناقل والحاظر ، فلا منافاة بين قولهم في الاُصول وعملهم في الفروع ( فيفارق المسألتين ) و يرتفع بذلك الايرادات الثلاثة .

ص: 307

لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل .

المسألة الرابعة : دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ، مع كون الشكّ في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة

اشارة

كما إذا شكّ في حرمة شرب مايع أو إباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

-------------------

( لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم ) فأنهم قد استدلوا لترجيح الناقل على المقرّر : بأن الأصل في الكلام التأسيس والناقل تأسيس بخلاف المقرر فانه تأكيد ، ومن الواضح : انّ هذا الاستدلال يشمل ما كان الناقل وجوبياً أو تحريمياً فلا وجه لتخصيص الناقل والمقرر بالشبهة الوجوبية .

كما انهم استدلوا للتخيير : بانّه مقتضى حجيّة الخبرين ، وعدم امكان العمل بهما معاً وعدم جواز تركهما معاً بمعنى : انّ التخيير هو مقتضى الأصل الأوّلي ، لا انّه بمقتضى الأخبار (فلاحظ ، وتأمل) فانّه لا يَبعُد أن يُقال بوقوع شبه تدافع في كلماتهم .

( المسألة الرابعة ) من مسائل البرائة : ( دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ) بأن يدور بين الحرمة وبين واحد من الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ( مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ) غير المرتبط بالشرع بل مرتبط بالعُرف ، حيث يلزم فيه استطراق باب العرف على ما ذكرناه سابقاً في مناط الشبهة الموضوعية .

( كما اذا شك في حرمة شرب مايع أو اباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

ص: 308

وفي حرمة لحم ، لتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب .

والظاهرُ عدمُ الخلاف في أنّ مقتضى الأصل في الاباحة ، للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلالٌ حتّى تعلمَ أنّه حرام ، وكلُّ شيء

-------------------

وفي حرمة لحم ، للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب ) فانّه من الواضح انّ الحكم الكليّ بالنسبة الى شرب الخل أو الخمر ، وبالنسبة الى أكل الشاة أو الأرنب معلوم ، وانّما الشك في هذا الجزئي الخارجي الذي هو مصداق لأحد تلك الكليات ، فانه اذا راجع الشرع فيه وسأله : هل هذا خمرا أو خلّ ، شاة أو أرنب ؟ أجابه الشارع : انّه لا يرتبط بي وانّما يجب عليك تحقيقه من الخارج ، ولو أجاب الشارع ، فانّما هو تفضل منه ، لا أنه تكليفه الأوّلي كما هو في بيان الأحكام .

ومن الواضح : انّ الشبهة الموضوعية ليست منحصرة باللحم والمايع ، بل هي كذلك بالنسبة الى الأُخت من الرّضاعة في انّها هل اكملت الرّضاع حتى تحرم أو لم تكمله ؟ وهل هذا ولد زيد أو ولد عمر ؟ وما أشبه ذلك من الاُمور الجزئية المشتبهة التي كلياتها معلومة من الشرع .

( والظاهر عدم الخلاف ) بين الاُصوليين والأخباريين ( في أن مقتضى الأصل فيه : « الاباحة » ) وان كان يستحسن فيها الاحتياط أيضاً اذا لم ينجر الى الوسوسة ،

أو يسبب اختلال النظام العام ، أو النظام الخاص ، على ما تقدّمت الاشارة اليه . وانّما قال الجميع فيه بالاباحة ( للأخبار الكثيرة في ذلك ) أي : في الشبهة الموضوعية ( مثل قوله عليه السلام : كلّ شيء لَكَ حلالٌ حَتى تعلَم انّه حرامٌ (1) ، وكلّ شيء

ص: 309


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص266 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فيه حلال وحرام فهو لك حلال » .

واستدلّ العلاّمة ، في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة :

« كلُّ شيء لك حَلالٌ حتّى تَعلَمَ أنّه حرامٌ بعينه فَتَدَعَهُ

-------------------

فيه حلالٌ وَحرامٌ فَهو لكَ حَلالَ ) (1) .

وانّما قلنا بحسن الاحتياط فيه أيضاً لاطلاقات جملة من الأدلة المتقدّمة مثل قوله عليه السلام : «دَع ما يُريبُك اِلى ما لا يُريبُك » (2) .

وقوله عليه السلام : « ما اجتمع حَلالٌ وحرامٌ ، الا غلّب اللّهُ الحرامَ على الحَلال » (3) .

( واستدل العلاّمة في التذكرة على ذلك ) أي : على البرائة في الشبهة الموضوعية التحريمية ( برواية مَسعدة بن صدقة ) عن الصادق عليه السلام : ( كلّ شيء لك حلالٌ حتى تعلم انّه حرام بعينه ) فلا يفيد علمك بحرمة شيء في الجملة : كما في الشبهة غير المحصورة حيث يعلم الانسان غالباً بأن بعض أشياء السوق سرقة ، أو نجس ، أو ما أشبه ذلك ، فانّ هذا العلم لا يفيد لزوم الاجتناب .

وأما في الشبهة المحصورة فهناك دليل وارد على رواية مسعدة يدل على لزوم الاجتناب عن الطرفين - مثلا - ، وعليه : فاذا علمت الحرام بعينه ( فتَدَعهُ ) أي :

ص: 310


1- - المحاسن : ص495 ح596 وقريب منه في تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 .
3- - مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 بالمعنى .

مِن قِبَلِ نَفسِكَ ، وذلك مثلُ الثوبِ يكونُ عليك ولعلّه سرقةٌ والعبدِ يكونَ عندك لعلّه حرٌّ قد باع نَفسَه ، او قُهِرَ فَبِيعَ ،

-------------------

تدع ما علمتَ انّه حرام بعينه ( من قِبَلِ نفسِك ) بلا احتياج الى دليل آخر ، فانّ العلم كافٍ في تنجيز الحكم على الانسان .

نعم ، ربّما يُقال في القاضي بأنه لا يتمكن أن يقضي بعلمه ، أما مطلقاً في كل الاُمور أو في الجملة ، كما في حدّ الزنا ونحوه على ما ذكر في موضعه ، ويستدل على ذلك : بان « ما عِز » لما اعترف عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ثلاث مرات بالزّنا وعلمَ الرّسول ذلك منه ، لم يَجرِ عليه الحدّ انتظاراً للاعتراف الرابع ، وكذلك لما

اعترفت تلك المرأة عند علي عليه السلام بالزّنا ، لم يجر عليها الحد الى ثلاث مرات وانّما اجراه عليها في المرّة الرابعة ، الى غير ذلك ، وهذه المسألة مفصلة في محلها في باب القضاء (1) .

( وذلك ) أي : الشيء حلال حتى تعلم انّه حرام ( مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة ) قد سرقه البائع مثلاً فباعه عليك أو سرقه الواهب فوهبه اليك ، الى غير ذلك .

( والعبد يكون عندك ولعله حرٌّ قد باع نَفسَهُ ) فانّ الأحرار ربّما كانوا يبيعون أنفسهم تخلصاً من النفقة التي كانوا يعجزون عنها ، والمسيحيين ربّما كانوا يبيعون أنفسهم ويبذلون ثمنها للكنيسة خدمة لدينهم ، الى غير ذلك ممّا هو مذكور في محله .

( أو قُهِرَ فَبِيعَ ) أي : قهره المولى الظاهري فباعه وهو لم يتمكن من أن يقول

ص: 311


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .

او خُدِعَ فَبِيعَ ، أو امرأةٍ تَحتَكَ وَهِيَ أُختُكَ او رضِيعَتُكَ والأشياءُ كلُّها على هذا حتّى يستبينَ لك غيرُ هذا او تَقُومَ بِهِ البَيِّنَةُ » .

وتبعه عليه جماعةٌ من المتأخرّين ، ولا إشكالَ في ظهور

-------------------

اني لستُ بعبد أو تمكن من ذلك لكنّه لم يسمع منه ، حيث انّ جمعاً من الفقهاء ذهبوا الى انّه لا يقبل قول العبد في انّه حر إذا لم نعلم حريته ورقيته ، وذلك لمثل خبر حمزة بن حمران قال : قلت لابي عبد اللّه عليه السلام : أدخل السوق فأُريد أن اشتري الجارية فتقول انيّ حرّة ؟ فقال : اشترها الاّ أن تكون لها بينة ، والمسألة معنونة مفصلاً في الفقه .

( أو خُدِعَ ) بأن قيل له مثلاً : نبيعك حتى تنتفع بالثمن ثم اهرب أنت بنفسك ، أو ان هذا الشخص من أهل الخير يعتق العبيد فنبيعك وبعد البيع يعتقك ونستفيد من ثمنك ( فَبِيعَ ) أو وهب أو ما أشبه ذلك .

( أو امرأةٍ تحتَك وهي أختُكَ أَو رضيعَتُك ) لأنّ أباهما تزوج امرأتين في بلدين فلم يعرف أحدهما الآخر فتزوجا أمّا مثال الرّضاع فواضح .

( والأشياءُ كلُّها على هذا ) أي : على الحلّ الظاهري ( حتى يَستَبِينَ لَكَ غيرُ هذا ) استبانة علميّة بسبب القرائن ونحوها ( أو تَقُوم به البيّنة ) (1) من الشهود العدول بحسب الموازين الشرعية .

( وتبعه ) أي : تبع العلامة رحمه اللّه ( عليه ) أي : على الاستدلال بهذا الحديث للحل الظاهري ( جماعةٌ من المتأخرين ) عن العلامة . هذا ( ولا اشكالَ في ظهور

ص: 312


1- - فروع الكافي : ج 5 ص 313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 .

صدرها في المدّعى إلاّ انَّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلُّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّيّة ، فانّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حُكِمَ بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصلُ فيهما حرمةَ التصرّف ، لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيّته .

-------------------

صدرها في المدعى ) : من حلية ما شك في حليته ، لأنّ الامام عليه السلام قال : « كُلُّ شَيءٍ لَك حَلالٌ حَتى تَعلَم انَّه حرامٌ بِعَينِه » ، فان جعل الغاية بقوله « حَتى تعلم » ، يدلُّ على انّه قبل العلم يكون حلالاً ظاهرياً ( الاّ ان الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستنداً الى اصالة الحليّة ) بل المنساق من الرواية : ان الحليّة فيها مستندة الى قاعدة اليد ، ولهذا قدمّه المصنّف في شقّي احتمالية بقوله :

( فان الثوب والعبد ، ان لوحظا باعتبار اليد عليهما ، حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد ) لا لأجل أصالة الحل في الشبهة الموضوعية التحريمية ، اذ ظاهر يد البائع كونه صحيح التصرف ، وكذلك الحال ان وهبهما ذو اليد ، أو ما أشبه ذلك .

( وان لوحظا مع قطع النظر عن اليد ) كما اذا باع الرئيس المتنفذ شخصاً أو شيئاً ليس تحت يده فتسلّم المشتري ذلك الشخص أو الشيء وهو لا يعلم ان الرئيس باع مال نفسه أو مال غيره ( كان الأصل فيهما حرمة التصرف ، لاصالة بقاء الثوب على ملك الغير ، وأصالة الحرّية في الانسان المشكوك في رقيّته ) فلا مجرى للأصل الظاهري بالحل حينئذٍ ، لتقدُّم أصل الحرمة على أصل الحِلّ ، لأنهما من السببي والمسببي ، وقد تقدَّم انّ الأصل السببي مقدَّم على الاصل المسببي .

أما كون الأصل في الانسان الحرية ، فلجملة من الروايات ، مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام

ص: 313

وكذا الزوجةُ إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب او الرّضاع . فالحلّيّة مستندة إليه ، وإن قُطِعَ النظرُ عن هذا الأصل فالأصلُ عدمُ تأثير العقد فيها ، فيحرم وطيها .

وبالجملة ، فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّليّ محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيّتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانويّ ،

-------------------

يقول : الناسُ كُلّهم أحرارٌ الاّ من أقرَّ على نفسهِ بالعبوديةِ هو مدرك من عَبدٍ أوأمةٍ ، ومن شهد عليه بالرّق صَغيراً كان أو كبيراً » (1) ، الى غير ذلك .

( وكذا الزوجة ) لا مجال لاصالة الحل فيها ، لأنها ( ان لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع ) اذ النسب والرضاع أمران حادثان ، فاذا شك فيهما فالأصل عدمهما ( فالحليّة مستندة اليه ) أي : الى استصحاب عدم النسب والرضاع ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لاصل الحل .

( وان قُطِعَ النظرُ عن هذا الأصل ) بأن لم يكن اركان الاستصحاب تاماً ولم يجر الاستصحاب السببي ، ( فالأصل عدم تأثير العقد فيها ) أي : في الحليّة ( فيحرم وطيها ) فلا يكون مجال لأصل الحل الذي هو محل كلامنا .

( وبالجملة فهذه الأمثلة الثلاثة ) المذكورة في رواية مَسعدَة بن صَدقَة ( بملاحظة الأصل الأوّلي ) الحاكم على أصالة الحِلّ ( محكومة بالحرمة ) على ما عرفت ( والحكم بحليتها انّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثّانوي ) مثل : « دليل اليد » و « أصالة عدم تحقق مانع من النكاح » .

ص: 314


1- - الكافي فروع : ج6 ص195 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج8 ص235 ب36 ح78 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص141 ب2 ح3515 .

فالحلّ غير مستند إلى أصالة الاباحة في شيء منها .

هذا ، ولكن في الأخبار المتقدمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفايةٌ ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهرة في المدّعى .

-------------------

وعليه : ( فالحل غير مستند الى اصالة الاباحة في شيء منها ) فلا تكون هذه الأمثلة من صغريات : « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ اَنَّه حَرامٌ بِعَينه » (1) الذي ذكره الامام عليه السلام كقاعدة كلّيّة في صدر هذا الحديث ، فاللازم اما أن يُصرف الصدر عن ظاهرة وأما أن يُصرف الذيل عن ظاهره .

أما صرف الصدر عن ظاهره فهو أن يقال : انّ الصدر ليس في مقام بيان أصالة الحِلِّ التي هي محل الكلام ، بل لبيان التكليف العملي في أمثال الموارد الثلاثة ، وأما صرف الذيل فهو ان يقال : انّ الأمثلة المذكورة ليست من باب صغريات القاعدة الكلية في الصدر ، والتمثيل لاصالة الحلّ بل انّها من باب التقريب والتنظير فقط .

( هذا ، ولكن في الأخبار المتقدّمة ) التي ذكرناها في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ( بل جميع الأدلة المتقدّمة من الكتاب والعقل ) بل والاجماع على البرائة بالتقرير الذي ذكرناه هناك ( كفاية ) في الدلالة على البرائة في الشبهة الموضوعية التحريمية ، حتى مع فرض عدم دلالة رواية مَسعَدَة على ذلك . ( مع انّ صدرها ) أي : صدر هذه الرواية وهو قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَل ...» ( وذيلها ) أي : قوله عليه السلام : « والأشياءُ كلّها على ذلك » ( ظاهرة في المدعى ) أي :

ص: 315


1- - الكافي فروع : ج5 ص33 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .

وتوهّمُ : « عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ، نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر ، مثلاً ، فيجب حينئذٍ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدّمة العلميّة ، فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام » ،

-------------------

في دلالة هذه الرواية على أصالة الحل في الشبهات الموضوعية التحريمية ، فتكون الأمثلة المذكورة من باب التقريب والتنظير على ما عرفت .

وقوله : « ظاهرة » بتأنيث الضمير من باب الكسب مثل قول الشاعر : كما شرعت صدر القناة من الدم .

( وتوهمُ ) ان اللاّزم الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية وان لم يجب الاجتناب عن الشبهة التحريمية الحكمية للأدلة المتقدّمة على البرائة في الشبهة التحريمية الحكمية .

وانّما يجب الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية ، ل- ( عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ) في باب الشبهة الموضوعية التحريمية ( نظراً الى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً فيجب حينئذٍ اجتناب ) المكلّف عن ( كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلميّة ) لامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعية ، فان الخمر لما حرمت بكلّ أفرادها وتردد أمرها بين أن تكون في هذه الأواني العشر أو في الأكثر منها وهو الحادي عشر مثلاً كان اللازم بحكم العقل الاجتناب عن هذا الأخير أيضاً حتى يعلم بانّه اجتنب الخمر اطلاقاً ، فالخمر المحتمل على تقدير كونه في الواقع خمراً ، قد بيّن وجوب اجتنابه في النص .

وعليه : ( فالعقل لا يقبح العقاب ) على ارتكاب هذا المشتبه حتى فيما اذا لم يصادف الواقع ، لأنّه تجرأ على المولى ، و (خصوصاً على تقدير مصادفة الحرام)؛

ص: 316

مدفوعٌ

-------------------

فان العبد ارتكب حراماً بعد بيان المولى وجوب الاجتناب عليه من كلّ الاُمور المحتملة ، بل بناء العقلاء على الاجتناب في أمثاله .

فاذا قال الطبيب للمريض مثلا يضرك لحم الإبل فاتركه ، وعلم المريض بأنّ هذه اللحوم الثلاثة لحم الإبل وشك في اللحم الرابع ، فان العقلاء يتجنّبون عنه حذراً من الوقوع في المحذور ، وكذلك فيما إذا علم الانسان بأن هذه الأواني سم وشك في إناء آخر هل انّه سم أم لا ؟ فانّه يتجنبه حذراً من الوقوع في محذوره .

هذا التوهم ( مدفوعٌ ) لأنّ الحكم انّما يتنجَّز على الانسان ، ويصح العقاب على مخالفته بأمرين :

الأول : العلم بالحكم علماً وجدانياً ، أو ان يكون هناك طريق الى الحكم : من الخبر الصحيح ، وما أشبه ذلك .

الثاني : العلم بالموضوع ، أو أن يكون هناك أمارة على الموضوع : من بيّنة ونحوها .

فحينئذٍ يقال مثلاً هذا خمر وكل خمر حرام ، سواء كان العلم بالحكم وكذلك بالموضوع علماً إجمالياً أو علماً تفصيلياً ، وذلك على ما قرّر في باب القطع : من أن العلم الاجمالي أيضاً منجّز بشروطه المذكورة ، وبدون هذين العلمين لا يكون الحكم منجزاً على الانسان سواء علم بالموضوع دون الحكم ، أو بالحكم دون الموضوع .

وعليه : فمن عَرفَ الخمر لكنّه لا يعلم انّه حرام ، ولم يقم عنده طريق معتبر ، لا يحق للعقلاء عقوبته ، وكذا من عرف الحرمة ، لكنّه لا يعلم ان هذا المايع خمر ، ولم يقم على خمريته أَمارة معتبرة ، فالحكم لا يتنجّز على الانسان ولا يصح

ص: 317

بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً المتردد بين محصور .

والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير .

-------------------

عقوبته على المخالفة عندما لم يصله بيان ، سواء في الموضوع أو في الحكم .

نعم ، البيان في الحكم من المولى ، والبيان في الموضوع من الطرق المقرّرة .

وعلى هذا يُمكن أن يقال في جواب الاشكال : ( بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة اجمالاً ) فيما اذا كان العلم الاجمالي منجّزاً ، لا ما اذا كان بعض الأفراد خارجاً عن محل الابتلاء ، أو مضطراً اليه ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا فصل في العلم الاجمالي .

( والعلم الاجمالي انّما يكون منجّزاً ومصححاً للعقوبة على مخالفته ، اذا كان ذلك الفرد المنهي عنه كالخمر في المثال هو ( المتردّد بين محصور ، و ) ذلك لصدق وصول البيان المنجّز على الانسان فيه ، فيكون أفراد الخمر المنهي عنه على قسمين :

( الأول : ) وهو ما اذا كان معلوماً تفصيلاً ، فهو ( لا يحتاج الى مقدمة علميّة ) بل يتجنب عن ذلك الفرد المعلوم .

( والثاني : ) وهو ما اذا كان معلوماً اجمالاً ، فهو ( يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير ) فاذا تردد نجس بين انائين يجب الاجتناب عن ذينك الانائين ، لاعن إناءٍ ثالث يحتمل انّه نجس وليس بطرف للعلم الاجمالي ، فان العلم باجتناب النجس الموجود بين الانائين انّما يتوقف على اجتنابهما فقط دون الإناء الثالث المشكوك في كونه نجساً أم لا ؟ .

ص: 318

وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجماليّ ، فلم يعلم من النهي تحريمُه وليس مقدّمةً للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه ، فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم

-------------------

( و ) عليه : فانّ النهي عن الخمر يُوجب تنجّز حرمة الخمر المعلوم بأحد الوجهين ( أما ما احتمل كونه خمراً من دون علم اجمالي ) منجّز في البين وقد عرفت موازين التنجيز ( فلم يعلم من النهي تحريمُه ) حتى على تقدير كونه خمراً في الواقع ، وذلك لعدم حصول البيان المنجّز على المكلّف ( وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه ) أي: انّه لم يعلم بالتفصيل ولا بالاجمال .

وأما مثال لحم الابل والسم ، فليس ممّا نحن فيه ، لأن الكلام في العقاب الاُخروي لا في الاضرار الدنيوية المحتملة والا فيلزم الاجتناب حتى في الشبهة البدوية ، وهذا ما لا يقول به أحد .

هذا ، بالاضافة الى ان العقلاء لا يجتنبون عن مثل ذلك ، والاّ لزم اجتنابهم عن ركوب البَرّ ، والبَحر ، والجَوّ ، لاحتمال الخطر فيها ، بل الخطر في مثل ركوب الجوّ كثير جداً ، لاحتمال سقوط الطائرة ، ومع ذلك نرى الطائرات وهي مستمرة في حمل المسافرين الى مختلف بلاد العالم ، ولزم اجتنابهم عن كثير من المأكولات لاحتمال الأضرار الجسدية فيها ، واجتنابهم التجارة لاحتمال الأضرار المالية فيها ، والى غير ذلك .

وحيث قد عرفت : انّه لا دليل على الاجتناب اذا لم يكن هناك علم بالموضوع ، أو علم بالحكم تفصيلاً أو أجمالاً ، أو ما يقوم مقام العلم ، من الخبر الصحيح ، أو البينة ، أو ما أشبه ( فلا فرق بعد فرض عدم العلم ) تفصيلاً ( بحرمته ) أي : بحرمة محتمل الخمريّة ( ولا ) أي : عدم العلم اجمالاً ( بتحريم خمر يتوقف العلم

ص: 319

باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّيّ المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه .

وما ذكر من التوهّم جارٍ فيه أيضا ،

-------------------

باجتنابه ) أي : على اجتناب ذلك الخمر ( على اجتنابه ) أي : على اجتناب محتمل الخمريّة .

وعليه : فانّه لا فرق حينئذٍ ( بين هذا الفرد المشتبه ) انّه خمر أو ليس بخمر ولا علم تفصيلي ، ولا اجمالي على انه خمر ( وبين الموضوع الكليّ المشتبه حكمه ) بأن كان مشكوك الحكم وان كان معلوم الموضوع ، والشك في حكمه انّما هو لفقد النّص أو اجماله أو تعارضه ( كشرب التتن في قبح العقاب عليه ) فانّه اذا علم انه تتن لكنه لا يعلم حرمته لا علماً اجماليّاً ولا علماً تفصيلياً وشربه ، قَبُحَ العقاب عليه عند العقلاء ، وقد دلّ على قبح العقاب قوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعذِّبينَ حَتَّى نَبعثَ رَسُولاً» (1) ، وقوله عليه السلام : « والأشياءُ كُلّها على ذلكَ حَتَّى تَستَبينَ ، أَو تَقومَ بِه البيِّنة » (2) بالاضافة الى الاجماع وسائر الادلّة التي تقدمت في الشبهة الحكمية التحريميّة، فانّه لا فرق في قبح العقاب بين أن لا يعلم الحكم أو أن لا يعلم الموضوع .

( وما ذكر من التوهّم ) الّذي تقدّم في قولنا : « وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ..» ( جارٍ فيه ) أي في الموضوع الكليّ المشتبه حكمه كشرب التتن ( أيضاً ) لأن الكلام فيهما واحد ، فكما ان توهم وجوب البيان في الشبهة

ص: 320


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 (بالمعنى) .

لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش « وما نهيكم عَنهُ فَانتَهُوا » يدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها .

ومنشأ التوهّم المذكور ملاحظةُ تعلّق الحكم

-------------------

الموضوعية من جهة قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » لا يدع مجالاً لجريان قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » ، في الخمر المشتبه كذلك توهم وجوب البيان في الشبهة الحكمية من جهة العمومات الدالّة على المحرمات ، لا يدع مجالاً لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الحكمية أيضاً .

وانّما لا تجري القاعدة في الشبهة الحكمية أيضاً ( لأن العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش ) وقوله تعالى : ( « وَما نَهَاكُم عَنهُ فانتَهُوا » (1) ) جارٍ في محتمل التحريم كشرب التتن بالنسبة الى الخبائث ، والتزويج بمن ارتضعت معه عشر رضعات بالنسبة الى الفواحش ، وشرب العصير التمري الذي ليس بخبيث ولا فاحشة ، وانّما يحتمل دخوله في : « وَمَا نَهاكُم عَنه » .

وعليه : فانّ كل واحد من هذه العمومات ( يدل على حرمة اُمور واقعيّة ) من الخبيث الواقعي ، والفاحشة الواقعية ، والمنهي عنه الواقعي ، و ( يحتمل كون شرب التتن منها ) فيجب اجتنابه مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الافراد الواقعيّة وكذلك بالنسبة الى التزويج وشرب العصير على ما ذكرناه .

( ومنشأ التوهّم المذكور ) في الشبهة الحكمية باحتمال دخول هذه الاُمور في تلك العمومات ( ملاحظة تعلّق الحكم ) أي : حكم التحريم والاجتناب والنهي

ص: 321


1- - سورة الحشر : الآية 7 .

بكلّيّ مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف فيجب الاحتياط .

ونظيرُ هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة حيث تخيّل أنّ دوران مافات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجبٌ للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة ،

-------------------

( بكليّ مردّد بين مقدار معلوم ) كالخبائث المعلومة ، والفواحش المعلومة ، والمنهيّات المعلومة ( وبين أكثر منه ) كالتتن والمثالين الآخرين ( فيتخيّل ) أي : المتوهّم ( ان الترديد ) انّما هو ( في المكلّف به مع العلم بالتكليف ) فلا يكون من الشك في التكليف فتجري البرائة بل من الشك في المكلّف به ( فيجب الاحتياط ) لانّ الشكّ في المكلّف به موجبٌ للاحتياط المانع هذا الاحتياط من جريان قاعدة القبح .

لكن قد تقدّم جواب هذا الاشكال : بانّ البيان انّما يحصل بالعلم بالحكم والموضوع معاً علماً اجمالياً أو تفصيلياً ، ولا علم اجمالي ولا تفصيلي في المقام ، كما انّه ليس في المقام ما هو بمنزلة العلم ، كالخبر الواحد الصحيح ، والبيّنة ، وما أشبه ، وحيث لا علم فلا يكون الشك في المكلّف به ، بل انّما هو شك في التكليف ، والشكّ في التكليف مجراه البرائة .

( ونظيرُ هذا التوهّم ) الحاصل في الشبهة التحريمية الحكمية والموضوعية مع سبق الكلام فيهما ( قد وقع في الشبهة الوجوبية ) الموضوعية ، وكذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية ، ففي الموضوعية ( حيث تخيّل ان دوران ما فات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية ) لأن الشارع

ص: 322

وقد عرفت ، وسيأتي اندفاعه .

-------------------

قال في بيان وجوب قضاء ما فات : « مَنْ فَاتَته فَريضةٌ فليقضِها كما فاتته » (1) وهو بيان للحكم الكليّ ، وهذا الحكم الكليّ بيان لجميع الأفراد الواقعيّة .

وعليه : فاذا شك في أنّ الذي فاته خمس أو عشر وجب عليه قضاء العشر ، لأنّ التكليف معلوم ، والمكلّف به مردّد بين الأقل والأكثر ، فيجب الاتيان بالأكثر مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعيّة ، وكذلك بالنسبة الى الشبهة الحكمية الوجوبية ، كما اذا شك في وجوب الدعاء عليه عنه رؤة الهلال بعد ورود العمومات الموجبة للأفراد الواقعية مثل قوله تعالى : « مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذوه » (2) وغير ذلك على التقريب المتقدّم .

( وقد عرفت وسيأتي اندفاعه ) وحاصل الاندفاع : انّه من الشك في التكليف وليس من الشك في المكلّف به ، لأنّا نعلم بالأقل ونشك في الأكثر ، فيكون الأكثر مجرى البرائة ، وذلك لعدم وجود العلم الاجمالي .

أمّا بالنسبة الى قضاء ما فات ، فهناك أقوال :

الأول : وجوب الأكثر .

الثاني : كفاية الأقل .

الثالث : الاتيان بالقدر المظنون الذي يكون في الغالب بين الأقل والأكثر .

الرابع : انّه لو نسى لتسامحه اذا كتب فوائته في ورقة ثم ألقاها في الماء عَمداً ، فاللازم عليه الأكثر : لأن احتمال التكليف المنجّز منجّزٌ والاّ فالأقل .

ص: 323


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 (بالمعنى) .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

فان قلت : انّ الضررَ محتملٌ في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّما ، فيجب دفعه .

قلنا : إن اُريدَ بالضرر العقابُ وما يجري مجراه من الامور الاُخرويّة فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، وإن اُريدَ ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ، كما في المضارّ الدنيويّة ،

-------------------

الخامس : الفرق بين أن يكون القضاء بالأمر الأول فيجب الأكثر ، وأن يكون بأمر جديد فيجب الأقل ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( فان قلت ) : انه يلزم الاتيان بالأكثر في الشبهة الوجوبية ، وترك الأكثر في الشبهة التحريمية ، ل- ( ان الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّماً فيجب دفعه ) في الشبهة التحريمية كشرب محتمل الخمريّة وشرب التتن ولاحتمال كونه واجباً فيجب فعله في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤة الهلال وكالإِتيان بالفائتة المحتملة ، فالبيان الشرعيّ وان لم يكن موجوداً الاّ أن البيان العقليّ موجود باحتمال الضرر ، وكلّما حكم به العقل حكم به الشرع .

( قلنا : ان أُريد بالضّرر : العقاب وما يجري مجراه من الاُمور الاُخرويّة ) كالصعوبات بعد الموت ، وانحطاط الدرجة والوقوع في العِتاب ، وما أشبه ذلك ( فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ) فانا لا نسلم انّ الضرر المحتمل الاُخروي المبيّن عدمه من الشارع يجب دفعه ، فان قاعدة قبح العقاب من غير بيان حاكمة على وجوب دفع الضرر الاُخروي اطلاقاً .

( وان اُريدَ ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان كما في المضار الدنيويّة ) فانها آثار وضعية للأشياء تترتب عليها ، سواء علم بها الانسان أو لو يعلم ، عصى أو لم يعص ؟ فشارب الخمر يتعرّض للسكر سواء شربها عالماً بها أو جاهلاً ، ناسياً

ص: 324

فوجوبُ دفعِه عقلاً لو سُلّم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يُسَلّم وجوبُه شرعا ، لأنّ الشارع صرّح بحلّيّة كلما لم يعلم حرمته ، فلا عقابَ عليه ، كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعيّ الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام .

-------------------

أو شاكاً وحتى لو أُوجِرَ في حلقه ، وكذلك حال تارك الواجب ، حيث تفوته المصلحة أو يقع في المفسدة وان كان تركه عن جهل أو نسيان أو الجاء كمن لم يركب السفينة عند الشاطى ء حيث يرتفع ماء البحر في الليل فيغرقه ، أو يأتي الحيوان فيأكله ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( ف- ) فنقول أولاً : لا يجب دفعه عقلاً ، الاّ اذا كان الضرر كثيراً ولم يعارض بشيءٍ أهمّ منه ، ولذا يخاطر العقلاء بركوب البحر وما أشبه لأرباح هي أهم في نظرهم من هذه الأضرار والمخاطر .

ونقول ثانياً : على فرض التنزّل ( وجوب دفعه عقلاً لو سلم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يُسلّم وجوبُه شرعاً ، لأن الشارع صرّح بحلية كلّما لم يعلم حرمته ، فلا ) أثر شرعي على الارتكاب في محتمل الحرمة ، أو الاجتناب في محتمل الوجوب من ( عقاب ) أو غيره ( عليه ) .

هذا ، و ( كيف ) يكون ممنوعاً شرعاً ، ( و ) الحال ( قد يحكم الشرع ) بملاحظة مصالح اُخروية أو دنيوية أهمّ ( بجواز ارتكاب الضّرر القطعي غير المتعلق بأمر المعاد ) كالجهاد الموجب للجرح والقتل وتسليم النفس للشهادة والقصاص ، وبذل المال خمساً وزكاة وما أشبه ذلك ( كما هو ) أي : كون الضرر دنيوياً ( المفروض في الضرر المحتمل في المقام ) أي : في ارتكاب محتمل الحرمة ، أو في اجتناب محتمل الوجوب .

ص: 325

فان قيل : نختار أوّلاً : احتمالَ الضرر المتعلق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح به في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة ،

-------------------

وعلى أي حال : فلا دليل على لزوم الاتيان بالزائد من المقطوع في الشبهة الوجوبية ، ولا في وجوب الترك بالنسبة الى الزائد في الشبهة التحريمية .

( فان قيل ) : اذا شرب المكلّف محتمل الخمريّة ، قلتم أنتم : حيث لم يبيّن الشارع حرمته ، فلا عقاب عليه ، وذلك لقاعدة قبح العقاب من غير بيان .

قلنا : نحن نحتمل العقاب هنا ، فان الشارع انّما لم يبيّنه لمحذور في البيان وقد أَوكَلَ الشارع الأمرَ فيه الى العقل القائل بدفع الضرر المحتمل ، فيعاقبه يوم القيامة استناداً الى مخالفة عقله .

وعليه : فانّا ( نختار أوّلاً ) : بأن المراد من احتمال الضرر : ليس احتمال الضرر الدنيوي في شرب المايع المحتمل كونه خمراً ، بل ( احتمال الضرر المتعلّق بأمور الآخرة ) .

ان قلت : احتمال الضرر الاُُخروي مشمول أيضاً لقبح العقاب بلا بيان .

قلت : ( والعقل لا يدفع ترتبه ) أي : ترتب الضّرر المتعلّق بأُمور الآخرة ( من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول ) الشارع ( الأمر الى ما يقتضيه العقل ) وحينئذٍ لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فيحكم العقل بلزوم الاحتياط عن هذا الفرد المشكوك حرمته من المايع ، وذلك دفعاً للعقاب المحتمل وان كان العقاب من غير بيان .

( كما صرّح به ) أي : بهذا الذي ذكرناه بقولنا : « احتمال الضّرر المتعلّق باُمور الآخرة ...» الشيخ ( في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة ) فانّ

ص: 326

من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها .

وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا ، لقوله تعالى : « وَلا تُلقُوا بَأيدِيكُم إلى التَهلُكَةِ » ، كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة

على دفع أصالة الاباحة ، وهذا الدليل ومثله

-------------------

جماعة قالوا بأصالة الاباحة في الاشياء مستندين الى قبح العقاب من غير بيان ، وقالوا ( من انّه لو كان هناك ) أي : في مورد الشبهة ( في الفعل مضرّة آجلة ) أي : أخرويّة ( ليبيّنها ) الشارع ، فحيث لم يبيّنها فلا عقاب .

وردّهم الشيخ : بامكان أن يكون محذور في بيان الشارع فقد أَوكَلَ الشارع بيانه الى العقل ، والعقل يدل على التحريم لكونه ضرراً محتملاً ، والضرر المحتمل يرى العقل وجوب دفعه .

( وثانياً : نختار ) بان المراد من احتمال الضّرر في الشبهة ( : المضرّة الدنيوية ، و ) أنتم قلتم ان احتمال هذا الضرر وان كان محرزاً بالعقل ، لكنّه لا يجب دفعه شرعاً ، لأنّ الشارع أذِنَ فيه بقوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً » (1) وبسائر أدلّة البرائة .

قلنا : ذلك ممنوع ، لأنّ ( تحريمه ثابت شرعاً ، لقوله تعالى : « وَلاَ تُلقُوا بِأيديكُم الَى التَّهلُكَةِ » (2) كما استدلّ به الشيخ أيضاً في العدّة : على دفع أصالة الاباحة ) فان الشيخ استدل لردّ القائل بأصالة الاباحة بآية : «ولا تُلْقُوا بِأَيدِيكُم الَى التَّهلُكَةِ »بناءاً على انّ التَهلُكَةِ تشمل الدنيويّة والاخرويّة .

( وهذا الدليل ) أي : الآية المباركة ( ومثله ) من الأدلّة الدالة على تحريم الشارع

ص: 327


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .

رافع للحلّيّة الثابتة بقولهم : « كُلُّ شَيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ أنّه حَرامٌ » .

قلت : لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاُخروي ،

-------------------

القاء النفس في الضرر الدنيوي ( رافع للحليّة الثابتة بقولهم ) عليه السلام : ( كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرف انّه حَرامٌ ) (1) .

( وانّما كانت آية التهلكة رافعة لدليل الحلّ ، لأن دليل الحِلّ مُغَيّا بقوله عليه السلام : « حتى تعرفَ الحرامَ » ومع حكم العقل والشرع بوجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل يعرف الحرمة ، فيرتفع الحلّ لحصول الغاية ، فان حكم الغاية دائماً مخالف لحكم المُغَيّا .

فاذا قال : « سَلامٌ هِي حَتى مَطلَع الفَجرِ » (2) كان معنى ذلك : انّه بعد مطلع الفجر ينتهي الحكم الثابت قبله ، الاّ اذا كان هناك دليل على الدخول مثل قوله : أكلتُ السمكةَ حتى رأسها على ما ذكره الادباء والاصوليون في موضعه .

ان قلت ذلك ؟ ( قلت : ) أوّلاً : لا نسلم جواز عقاب الآخرة بدون البيان وان كان عدم البيان لوجود محذور في البيان ، وذلك للنّصّ في قوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (3) على عدم العقاب اطلاقاً بدون البيان ، سواء كان عدم البيان فيه لمحذور أو بدون محذور ، فان اللّه سبحانه وتعالى لا يعذِّب الاّ بعد البيان .

ثانياً: ( لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاُخروي) من الشارع

ص: 328


1- - وقريب من هذا الحديث في الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 و ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - سورة القدر : الآية 5 .
3- - سورة الاسراء : الآية 15 .

إلاّ أنّ قولَهُم عليهم السلام : « كلُّ شيء لك حلالٌ » بيانٌ لعدم الضرر الاُخرويّ ، وأمّا الضررُ الغير الاُخرويّ ، فوجوبُ دفع المشكوك منه ممنوعٌ ، وآية التهلكة مختصة بمظنّة الهلاك

-------------------

( الاّ ان قولهم عليهم السلام : « كلُّ شيءٍ لَك حلال » بيان لعدم الضرر الاُخروي ) فنطمئن بعدم العقاب الاُخروي ، فقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ينفي التّهلكة ، لا أن آية التهلكة تنفي قوله عليه السلام « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

( وأما الضرر غير الاُخروي ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ) كما تقدّم قبل أسطر ( وآية التهلكة ) الذي زعمه المستشكل رافعة للحل الثابت بقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ( مختصّة بمظنة الهلاك ) فلا تشمل احتمال الهلاك .

وعليه : فاذا علم بالضرر الدنيوي وجب الاجتناب ، وكذا اذا ظنّ به ظناً عقلائياً ، وذلك للاجماع ونحوه ، على أن الظن في باب الضرر قائم مقام العلم ، أما اذا لم يكن علم ولا ظن عقلائي بالضرر فلا حرمة في الارتكاب فيكون مورد « التهلكة » العلم والظن ، ومورد « كلُ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » صورة احتمال الضرر بلا علم ولا ظن وكلامنا الآن في احتمال الضرر ، وذلك بأن نحتمل كون هذا المانع خمراً فلا يجب الاجتناب عنه بحكم رواية : « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

هذا ، ولكن ربّما يُقال : على كلام المصنِّف يلزم أن يكون احتمال الضرر أيضاً مانعاً من ارتكاب المشتبه وان كان وهماً ، ولذا قالوا : بأن الذي يحتمل - مثلاً - ضرر الوضوء ، أو الغسل ، أ و الصوم ، يتيمم ، ويفطر اذا كان الاحتمال عقلائياً ، ولعل الأوثق اشار الى هذا الاشكال حيث قال :

« لعل الوجه في كلام المصنِّف : - مختصة بمظنة الهلاك - هو فهم العلماء لما قيل كما هو ظاهر المصنِّف هنا ايضاً : من استقرار بنائهم على عدم وجوب دفع

ص: 329

وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصيةٌ ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك . وكذا في باب التيمم والافطار لم يرخّصوا إلاّ مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ .

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين انسحاب حكم الافطار والتيمّم مع الشكّ أيضا ،

-------------------

الضرر المحتمل ، والاّ فتعليق الحكم بالهلكة الواقعيّة يقتضي : وجوب الاجتناب عن الهلكة المحتملة أيضاً » (1) .

ثم أن المصنِّف رحمه اللّه أيّد كَون احتمال الضرر ليس محرّم الارتكاب ، بل الظنّ بالضرر هو المحرّم ارتكابه بقوله : ( وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر : بأنّ سلوك الطريق الذي يظن معه العَطَب ) و« العَطَب » على وزن « فَرَس » ، بمعنى الهلاك أما نفساً بأن يقتل ، أو عضواً بأن يقطع يده ، أو قوة بأن يذهب نور بصره - مثلاً - فسلوكه ( معصية ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك ) ، فيكون سفره حراماً عند الظن بالعطب ، لا في صورة مجرد الاحتمال .

( وكذا ) صرّح الفقهاء ( في باب التيمم والافطار ) : بانّ المبيح للتيمم هو الظن بالضرر في الوضوء أو الغسل ، والمبيح للافطار هو الظنّ بالضرر من الصوم ، و ( لم يرخّصوا الاّ مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة ، دون الشك ) والوهم .

( نعم ، ذكر قليل من متأخري المتأخرين انسحاب ) أي : جريان ( حكم الافطار والتيمم مع الشك أيضاً ) بل احتمال الضرر - كما عرفت سابقاً -

ص: 330


1- - أوثق الوسائل : ص288 الحكم بعدم وجوب الاحتياط عقلاً لاينافي حسن الاحتياط .

لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق مع الشكّ ، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا .

لكنّ الانصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه ، كالحكم بدفع الضرر المتيقن كما يعلم بالوجدان عند وجود مايع محتمل السمّيّة إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه ، لكن

-------------------

( لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم ) بوجوب الافطار والتيمم ( في الأدلة بخوف الضرر الصادق مع الشك ، بل بعض أفراد الوهم أيضاً ) وهو الوهم الموجب لتوقف العقلاء عن المسير ، لأن الوهم قد يكون عقلائياً ، فلا يسير العقلاء في مورد الوهم ، وقد لا يكون عقلائياً ، فيسير .

ثمّ انه حيث نفى المصنِّف اعتناء العقلاء بالضرر المشكوك فيه ، اذ العقلاء يرتكِبُونَ مشكوك الضرر ، رجع عن نفيه ذلك بقوله : ( لكنّ الإِنصاف : الزام العقل بدفع الضرر ) الدنيوي ( المشكوك فيه ، كالحكم ) من العقل ( بدفع الضرر المتيقّن ) وذلك للفرق بين الدليل العقلي والدليل الشرعي ، فان الدليل الشرعيّ لا يفيد الاّ وجوب دفع الضرر الدنيوي المقطوع أو المظنون ، أما العقل فيرى وجوب دفع الضرر حتى المشكوك منه .

( كما يعلم بالوجدان عند وجود مايع محتمل السمّية ) فان مجرد احتمال السمّ في المايع وان لم يكن علماً ولا ظناً ، يوجب اجتناب العقلاء عنه ، ففرق بين حكم العقل وحكم الشرع .

وعليه : فانّه ( اذا فُرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه ) في المايع المحتمل وجود السم فيه ، نرى العقلاء يجتنبون عنه ولا يتناولونه .

( لكن ) لا يخفى : انّ ايجاب العقل دفع الضرر المقطوع والمظنون ،

ص: 331

حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيويّ من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الاُخروي كذلك : إلاّ أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيويّ عنوان يترتب

-------------------

أو المشكوك والموهوم انّما هو فيما اذا كان العقلاء يرون دفع الضرر الموهوم كما في الاُمور المهمّة باّن قال الطبيب للمريض - مثلاً - اذا غسلت وجهك احتمل عمى عينك احتمالاً واحداً في عشرة ، فان هذا الاحتمال موهوم لكن العقلاء يعتنون به .

والاعتناء بهذا الاحتمال انّما هو فيما اذا لم يكن نفع يساوي الضرر أو يزيد عليه ، والاّ فقد يبيحه الشارع في كلّ الأقسام الأربعة لذلك النفع المصادف لهذا الضّرر ، فليس حكم العقل بدفع الضرر المشكوك مطلقاً على ما ذكرناه في قولنا : « والانصاف الزام العقل بدفع الضرر . . . » ولذا نقول : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » يشمل الضّرر المشكوك والموهوم ، فلا تشملهما آية التهلكة بخلاف من قال : بان آية التهلكة تدفع رواية « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

وانّما نقول بتقديم « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » على آية التّهلكة في المشكوك والموهوم ، لأنّا لو قدّمنا آية التهلكة لم يبق لقوله « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » موردٌ .

وعليه : فانّ ( حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن ) والمظنون ، أو المشكوك والموهم ( انّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو ) ضرر أي : انا اذا لاحظنا الضرر بما هو ضرر يرى العقل وجوب دفع هذه الاضرار الأربعة ( كما يحكم ) العقل ( بوجوب دفع ) الضرر ( الاُخروي كذلك ) أي : من حيث هو ضرر في كلّ أقسامه الأربعة .

( الاّ انه قد يتّحد مع الضرر الدنيوي ) في كلّ أقسامه الأربعة ( عنوان يترتب

ص: 332

عليه نفع اُخرويّ ، فلا يستقلّ العقلُ بوجوب دفعه ، ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضِها له في الجهاد والاكراه على القتل او على الارتداد .

وحينئذٍ : فالضرر الدنيويّ المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ،

-------------------

عليه ) أي : على ذلك العنوان ( نفع ) دنيوي كالتجارة المربحة ، أو ( اُخروي ) بالفوز بالجنة كفارة الذنوب وارتفاع الدرجة ( فلا يستقل العقل بوجوب دفعه ) أي : دفع هذا الضرر الدنيوي أو الاُخروي ، وذلك للتساوي بين الضرر والربح ، أو زيادة الربح على الضرر ( ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها ) أي : تعريض النفس ( له ) أي : للضرر ( في الجهاد ، والاكراه على القتل أو على الارتداد ) فانّه اذا أُكره الانسان على قتل الغير لا يجوز له قتله ، بل عليه أن يتحمّل الضرر وان كان الضرر هو القتل ، وذلك لأنّه لا تقيّة في الدّماء كما هو المشهور بين الفقهاء ، وكذا لو أُكره على الارتداد ، يجوز له ترك الارتداد وتحمّل الضرر وان كان قتلاً ، ويجوز له ايضاً فعل الارتداد تقية حيث قال سبحانه : « اِلاّ مَنْ أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمئنٌّ بِالإيمانِ »(1) .

( وحينئذٍ ) أي : حين قلنا : بأن ايجاب العقل دفع الضرر انّما هو فيما اذا لم يكن معارض بنفع مساو أو بنفع أهمّ ( فالضرر الدنيوي المقطوع ، يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ) كما تقدّم من الأمثلة المذكورة بل وكذلك العقل قبل الشرع يبيح أيضاً مثل هذا الضّرر المقطوع اذا كان ذلك الضّرر مصادفاً لمصلحة أهمّ أو لمصلحة مساوية للضرر .

ص: 333


1- - سورة النحل : الآية 106 .

فاباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز .

-------------------

وعليه : فان كان بالنسبة الى الضرر المقطوع هكذا ( فاباحته ) أي : الشارع ، بل العقل أيضاً كما ذكرنا ( للضّرر المشكوك ) اباحة ( لمصلحة ) مثل مصلحة : ( الترخيص على العباد ، أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز ) فقد قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لَولاَ أَنْ أَشقَ عَلى اُمتي لأَمَرتهُم بِالسواك » (1) .

وفي رواية مروية عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال مخاطباً لعائشة : « لَولا قومُكِ حَدِيُثوا عَهدٍ بِالإِسلام لَهدَّمتُ الكعبة وَلَجَعَلتُ لَهَا بَابَينِ » (2) .

وقوله الآخر فيما يروى عنه : « ان جماعة من اصحابه تآمروا على قتله في ليلة العقبة لكنّه عفا عنهم ولم يقتلهم لئلا يقول الناس : نصر رسول اللّه قوم حتى اذا قوي أمره قتلهم » (3) ممّا يدل على انّ المصلحة المساوية أو الأهم قد توجب رفع الحكم .

وبذلك تبيّن حال الأقسام الأربعة للضرر العقلي والشرعي ، وكل واحد ربّما ينطبق عليه نفع عقليّ أو شرعي ، فاذا كان ذلك النفع مساوياً للضرر أو أهمّ ، أباح

ص: 334


1- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ج19 ب5 ح1354 .
2- - سفينة البحار : ج6 ص577 باب العين بعده الياء ، العمدة : ص317 ح532 حديث حريق الكعبة بالمعنى ، السيوطي : ص95 باب ابتداء .
3- - للاطلاع على سلوكيات الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله وسلم راجع كتاب « لأوّل مرّة في تاريخ العالم » ، وكتاب « اسلوب حكومة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والإمام أمير المؤمنين عليه السلام » وكتاب «السبيل الى انهاض المسلمين » للشارح .

فان قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة فيظنّ الضرر فيجب دفعه

-------------------

العقل والشرع ذلك الضرر .

ومن الواضح : ان المصالح المنطبقة على الأضرار الجابرة لها ، قد يدركها العقل من دون حاجة الى تذكر الشرع ، كشرب المسكر للتداوي في الأمراض المهلكة ونحوها ، وقد لا يدركه الاّ بتذكير الشرع مثل : اذن الشرع بارتكاب الشبهة مستنداً الى قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ » (1) والى قوله سبحانه :« مَا جَعَلَ عَلَيكُم فَي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (2) وما أشبه ذلك .

هذا ، ولكنّ الكلام الآن في الثبوت لا في مقام الاثبات .

ثمّ انّ المصنِّف ذكر أوّلاً : عدم لزوم دفع الضرر المشكوك ، وبعدها أنصف وقال : « لكن الانصاف وجوب دفع الضرر المشكوك » ثم عدل الآن الى بيان وجه آخر للكلام الأول وانه لا يلزم دفع الضرر المشكوك ، فأشار اليه بقوله :

( فان قلت : ) : أن الضرر المظنون ولو بظن غير معتبر ، واجب الدفع ، وحيث ان حال الشك حال الظنّ ، فاللازم أن يكون الضرر المشكوك واجب الدفع أيضاً ، فانه ( اذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة ) كالخبر الواحد ( على الحرمة ، فيظن الضرر ، فيجب دفعه ) كما إذا قام شاهد واحد بأن هذا الإناء خمر وظننّا صحة قوله ، فانّه لا يلزم الاجتناب عنه شرعاً ، لأنّ الموضوعات تحتاج في اثباتها الى شاهدين ، والمفروض انّه شاهد واحد ، فلا يكون قوله حجّة في كونه خمراً ، لكن مع ذلك يجب الاجتناب عن هذا الاناء من جهة الظن بالضرر .

ص: 335


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .

مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر .

قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخرويّ فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح ، وأمّا الدنيوي فلأنّ الحرمة لا تلازم الضرر الدنيويّ ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ،

-------------------

وعليه : فالظنّ بالضرر كافٍ في وجوب الاجتناب - على ما عرفت - وذلك بضميمة قوله : ( مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشك والظنّ غير المعتبر ) فانه اذا وجب اجتناب الاناء في صورة الظنّ بالضرر وجب اجتنابه في صورة الشك لعدم القول بالفصل .

وإن شئت قلت : الشّك كالظنّ والظنّ واجب الاجتناب ، فالشك أيضاً كذلك والنتيجة : انه اذا شككنا في إناءٍ انّه خمر أم لا ؟ وجب الاجتناب عنه .

هذا هو مدعى من يقول من الأخباريين بوجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، فينفيه الاُصوليون بقولهم : ( قلنا ) : انكم قستم الشك بالضرر على الظنّ بالضرر ، حيث قلتم : ان الظن بالضرر يأتي من الظنّ بأن الاناء خمر ، لكن قولكم هذا غير تامٍ ، اذا الظنّ بانّ الاناء خمر لا يستلزم الظن بالضّرر .

وعليه : فانّ ( الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظن بالضرر ، أمّا ) الضرر ( الاُخروي ، فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح ) العقاب عليه لعدم اعتبار هذا الظنّ في اثبات الحرمة ، فلا بيان في البين ، وحيث لا بيان ، فلا يكون العقاب مظنوناً بل ولا موهوماً لأنه إذا لم يكن بيان فلا عقاب قطعاً .

( وأمّا ) الضرر ( الدنيوي ، فلأن الحرمة لا تلازم الضرر الدنيوي ) اذ لا دليل على التلازم بينهما ( بل القطع بها ) أي : بالحرمة ( أيضاً لا يلازمه ) أي : الضرر

ص: 336

لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالامور الاُخروية .

ولو فرض حصول الظّنّ بالضرر الدنيويّ فلا محيص عن التزام حرمته ، كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيويّ من الحركات والسكنات .

-------------------

الدنيوي ( لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالأُمور الاُخروية ) فلا تلازم بين القطع بالحرمة ، ولا الظنّ بالحرمة ، ولا الشك في الحرمة ، مع الظنّ أو القطع أو الشك في الضرر الدنيوي .

وعليه : فاذا شككنا في الحرمة في الاناء المشكوك خمريته نحتمل الضرر الدنيوي ، لا انه نقطع بالضرر الدنيوي أو نظن به حتى يقال : اذا ظننتم بالحرمة وجب عليكم الترك لظنّكم حيئنذٍ بالضّرر الدنيوي الّذي يجب الاجتناب عنه ، فمن أين تثبتون انّ الاناء المشكوك الخمريّة يجب الاجتناب عنه ؟ .

( ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيوي ) في بعض موارد قيام ظن غير معتبر على الخمرية ( فلا محيصَ عن التزام حرمته ) أي : حرمة ذلك المظنون ضرره ( كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسَكنات ) .

والحاصل : انّه اذا سلّمنا انّ كلّ مظنون الضرريّة ضرراً دنيوياً يجب الاجتناب عنه ، فلا نسلّم انّ كلّ مظنون الحرمة يجب اجتنابه ، لامكان الظنّ بالحرمة دون الظنّ بالضرر الدنيوي ، فاذا لم يجب الاجتناب عن مظنون الحرمة لم يجب الاجتناب عن مشكوك الحرمة بطريق أولى .

ص: 337

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالاباحة ما إذا لم يكن أصلٌ موضوعيٌّ يقضي بالحرمة ، فمثلُ المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارجٌ عن محلّ الكلام ، لأنّ أصالةَ عدم العلاقة الزوجيّة المقتضية للحرمة بل استصحاب الحرمة حاكمةٌ على أصالة الاباحة .

-------------------

هذا : ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تالية :

( الأول : ان محلّ الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالاباحة ) أي : نقول بالاباحة في الشبهة الموضوعية ( ما اذا لم يكن أصل موضوعي ) جارٍ في الموضوع ( يقتضي بالحرمة ) فاذا كان هناك أصل موضوعي يقتضي الحرمة لم يكن محكوماً بالاباحة ، كالمايع المردّد بين الخلّ والخمر فيما لم يكن سابقاً خمراً حتى يستصحب خمريّته أو خلاً حتى يستصحب خليته ، لأنه اذا جرى الاستصحاب لم يكن مجال لبرائته أيضا ، لأنّ الاستصحاب كاشف ولو في الجملة ، بينما البرائة حكم ما ليس له حكم .

وعلى هذا : ( فمثل المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محل الكلام ) فلا تجري أصالة الاباحة فيها حتى يجوز وطيها .

وكذلك المرأة المردّدة بين المحرم وغير المحرم لا يجوز النظر اليها ( لأن أصالة عدم العلاقة الزّوجية ، المقتضية للحرمة ، بل استصحاب ) نفس ( الحرمة حاكمة على اصالة الاباحة ) وذلك ، لأنّ الشك في حليتها مسبّب عن الشك في ارتفاع الحرمة السابقة ، فان هذه المرأة بذاتها كانت محرمة على هذا الرجل قبل

ص: 338

ونحوها المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له .

-------------------

العقد قطعاً ، فيشك في انّه هل عرض العقد حتى حلّت له أم لا ؟ فيجري أصل عدم الزوجية أو يستصحب الحرمة الذي هو استصحاب حكمي ، واذا جرى الاستصحاب الأوّل أو الاستصحاب الثاني لم يكن مجال لأصل الحلّ ، وذلك لأنّ الاستصحاب يرفع موضوع الشبهة فلا مجال للحكم بحلها .

وكذلك المرأة التي لا يعلم هل انّها من ذوات المحرم أم لا ؟ اذ المحرمية في مثل أمّ الزوجة وبنت الزوجة وما أشبه : من زوجة الأب أو زوجة الابن أمرٌ طارىٌ فاذا لم نعلم طروها فالأصل العدم .

وربّمايقال في غيرهن كاحتماله انّها اخته أو اُمه أو من أشبه : بجريان استصحاب العدم الأزلي ، أو يقال : انّ بناء العقلاء في النسب : العدم الاّ ما علم بوجوب النسب فيه ، فاذا قال : اعط كلّ قرشي كذا ، لا يجوز له الاعطاء بدون تحقق قرشيته كما ذكروا في مسألة الحيض ونحوه .

ومثل : جريان الاستصحاب الموضوعي ممّا لا يدع مجالاً لأصل الحلّ ، ما لو شك في جواز اراقة هذا الدّم حيث اشتبه انّه كافر أو مسلم .

وممّا تقدّم ظهر : ان قول المصنِّف اذا لم يكن أصل موضوعي انّما هو من باب المثال ، لأن الأصل الحكمي أيضاً كذلك لا يدع مجالاً لاصالة الحلّ والاباحة .

( ونحوها : المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير ، مع سبق ملك الغير له ) بخلاف ما اذا كان المال مردداً بين المباح وكونه ملك الغير ، فان في الأوّل : لا يجوز أجراء اصالة الحل والبرائة ، اذ الشّك في حله مسبب عن الشك في الشراء والهبة ونحوهما الرافع للحرمة ، فيستصحب عدم الشراء ، أو عدم الهبة ، أو نحوهما ، فاذا جرى هذا الاستصحاب لم يكن مجال لجريان أصالة الحل .

ص: 339

وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق الماليّة .

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتبة في الأدلّة على ماله وملكه فيمكن القولُ به للأصل ،

-------------------

( وأما مع عدم سبق ملك أحد عليه ) كما اذا لا نعلم بانّ هذا المال من المباح أو من ملك الغير ( فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتب أحكام ملكه عليه : من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق المالية ) لأنه « لا بيع الاّ في ملك » كما في النّص ونحوه غيره .

نعم ، يُمكن أن يقال : بجواز أخذه لنفسه ، لاصالة عدم صيرورته ملكاً للغير فيما اذا لم يكن عليه آثار الملكية ، فاذا حازه جاز له بيعه ونحوه .

لا يقال : انّما يجوز حيازة المباح ، ولا يعلم انّ هذا مباح .

لأنّه يقال : كلّ ما ليس ملكاً للغير فهو مباح ، اذ أصل سبب الملك : الحيازة ، فالحيازة تُوجب الدخول في الملك ، كما ان الاعراض عن الشيء يوجب الخروج عن الملك ، فاذا شكّ في انّه هل صار مُلكاً للغير بالحيازة أم لا ؟ فالاصل عدمها ، ويتحقق بذلك موضوع المباح ، فاذا تحقق موضوع المباح جاز له قصد الحيازة ، فاذا قصد حيازته صار ملكه ، واذا صار ملكه جاز له اجراء البيع ، ونحوه عليه .

هذا بالنسبة الى جواز بيع المال المردّد بين كونه مال نفسه ومال الغير ( وأما إباحة التصرّفات غير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه ) مثل شرب الماء والجلوس في الأرض ونحوهما ، حيث ليس هناك دليل على انّه لا يجوز الشرب الاّ من مال نفسه ، ولا يجوز الجلوس الاّ في ملك نفسه ( فيمكن القول به ) أي : بالجواز ، وذلك ( للاصل ) أي : اصل الاباحة والحليّة فيها .

ص: 340

ويمكن عدمُه ، لأنّ الحلّيّة في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ، ولقوله عليه السلام : « لا يَحِلّ مالٌ إلاّ من حَيثُ أحلّه اللّهُ » .

-------------------

وعليه : فالتصرّفات الّتي دلّ الدليل على توقفها على الملك ، كالبيع ، والعتق ، والوطئ ، وما أشبه ، لا تكون جائزة لاصالة عدم تحقق الملك الاّ بالحيازة فيما يصح حيازته وهذا الأصل السببي حاكم على اصالة الحل لما عرفت : من انّه يمنع موضوع اصالة الحل الذي هو المشتبه ، لأنّ جريان الاستصحاب يخرجه عن موضوع المشتبه .

وأما التصرفات التي لا تتوقف على الملك ، كالأكل والجلوس وما أشبه فهي جائزة لأنّ أصالة عدم كونه مُلكاً له لا يضرّ في مثل هذ التصرّفات ، لعدم التلازم بين الملكية ، وأي تصرّف من التصرّفات .

هذا ( ويمكن عدمُه ) أي : عدم جواز هذه التصرفات ، أيضاً ، كما لا يجوز الوطي ونحوه ، وذلك لما يلي :

أوّلاً : ( لأن الحلّية في الأملاك لابدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ) فانّه باستقراء الأحكام الشرعية علمنا : انّ الحلية في التصرف في الأملاك لابدّ لها من سبب ، والأسباب هي عبارة عن البيع ، والرّهن ، والاجارة ، والهبة ، والمزارعة ، والمضاربة، والمساقات وما أشبه ذلك، لا نعلم هنا بوجود شيء من هذه الاسباب.

ثانياً ( ولقوله عليه السلام : لا يَحِلّ مالٌ الاّ مِن حَيثُ أَحلَّهُ اللّهُ ) (1) أي : من سبب أحلّ اللّه ذلك المال بذلك السبب .

ص: 341


1- - الكافي اصول : ج1 ص548 ح25 ، غوالي اللئالي : ج3 ص126 ، وسائل الشيعة : ج27 ص156 ب12 ح33471 وفيه «وبه» بدل «حيث» ، المقنعة : ص283 (بالمعنى) .

ومبنى الوجهين أنّ اباحة التصرّف هي المحتاجةُ إلى السبب

-------------------

فكما انّ الملكية تتوقف على أحد الأسباب المعهودة : من الحيازة ، أو الارث ، أو الانتقال الى الشخص بعقد أو إيقاع أو ما أشبه ذلك ، كذلك حليّة التصرفات تتوقف بمقتضى الاستقراء على أحد الأسباب المعهودة المحلّلة : من حق التحجير - وان احتملنا نحن في الفقه : انّ تحجير الأرض الموات يُوجب الملكية ، لا جواز التصرف فحسب كما هو المشهور (1) ، وحقّ المارّة ، والنثار في الأعراس ، والضِيافة ، وإعراض المالك ، أو إعراض من بيده الإعراض ، كالمتولّي الذي يَحق له الاعراض في مثل الحصير البالي ، والثوب الخَلق ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فلا يحلّ التصرف بدون هذه الأسباب ، وحيث لم نعلم بأحد هذه الأسباب لم يجز التصرف ، كما اذا لم نعلم بأحد أسباب الملك لم يجز التصرفات المتوقفة على الملك من البيع وما أشبه .

لكن ربّما يُقال : انّ قوله عليه السلام « لا يَحِل مالٌ الاّ من حَيث أحلَّه اللّه » لا يدل على المنع ، لأنّه متعرض للحكم ، والدليل على الحكم لا يكون دليلاً على الموضوع وجوداً ولا عدماً ، فاذا قال : «أكرم العالم» لايكون أكرم معيّناً لكون زيد عالماً أو

ليس بعالم ، فالاستدلال بأكرم العالم على انّ زيداً عالم ، أو على ان زيداً ليس بعالم لا وجه له .

( ومبنى الوجهين ) أي : وجه الحليّة حيثُ قلنا « يمكن القول به » ، وعدم الحليّة حيث قلنا : « ويمكن عدمه » ، التحقيق في الأصل الذي هو كبرى كلية لهذه الصغرى الجزئية فهل ( ان اباحة التصرّف هي المحتاجة الى السّبب ) المحلّل :

ص: 342


1- - انظر موسوعة الفقه ج80 كتاب احياء الموات للشارح .

فيحرم مع عدمه ولو بالأصل وأنّ حرمةَ التصرّف محمولةٌ في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة .

ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة اللحمُ المردّدُ بين المذكّى والميتة ، فانّ أصالةَ عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

-------------------

من مختلف الأسباب كالملكية ، أو الاذن من المالك ، والاذن من الشارع كحق المارّة ، وبيوت من تضمنته الآية ، وما أشبه ذلك ( فيحرم مع عدمه ) أي : عدم ذلك السبب ؟ ( ولو ) كان ذلك العدم ( ب- ) سبب ( الأصل ) فاللازم في جواز التصرف أحد الأسباب المحللة .

( وانّ حرمةَ التّصرّف محمولةٌ في الأدلة على ملك الغير ) أو نحوه كالتصرف في الوقف وما أشبه ( فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة ) فيجوز التصرّف في هذا الشيء المردّد بين كونه مال نفسه أو مال غيره .

والحاصل : انّه هل الأصل حرمة التصرف الاّ ما خرج ، أو اباحة التصرف الاّ ما خرج ؟ والمسألة الفرعيّة الجزئية التي ذكرناها : من أنّه لا يعلم هل هو ملكه أو ملك الغير من صغريات هذه الكبرى الكلّية .

أما اذا تردّد في ملك الغير انّه مباح له أم لا : اباحة مالكية ؟ كما اذا لم يعلم هل أنّه من نثار العرس أ م لا ؟ أو اباحة شرعيّة كما اذا لم يعلم هل انّه من موضوع حق المارّة وبيوت من تضمنته الآية أم لا ؟ فالأصل عدم جواز التصرّف لاستصحاب عدم اباحة المالك أو الشارع هذا الشيء له ، ذكر هذا الفقهاء في بابه وأَلمعَ اليها العروة في المجلد الثاني ، والمقصود من ذكره هنا : الاشارة الى الأصل في المسألة لا الخصوصيّات الفقهية .

( ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة ) لوجود الأصل الحاكم عليها ( اللّحم المردّد بين المذكى والميتة ، فان أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

ص: 343

حاكمةٌ على اصالتي الاباحة والطهارة .

وربما يتخيّل خلاف ذلك ، تارةً لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ، واُخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت

-------------------

حاكمة على اصالتي الاباحة والطهارة ) وانّما نقول انّ أصالة عدم التذكية مقتضية للحرمة والنجاسة ، لأنه علم من الشرع التّلازم بينهما ، خلافاً لمَا تقدَّم عن الشهيد

والمحقّق حيث جعلوا التفكيك بينهما ، فقالوا بحرمة اللّحم وبطهارته .

( وربّما يتخيّل خلاف ذلك ) أي : عدم حكومة أصالة عدم التذكية على أصل الاباحة وأصل الطهارة وذلك ( تارةً لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ) كما نقل عن المدارك ، فاذا لم يجر اصالة عدم التذكية كان المقام من الشبهة في الطهارة أو الاباحة ؛ فيجري فيه قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ طَاهِرٌ حَتَّى تَعلم اَنَّه قَذِرٌ » (1) وقوله عليه السلام : « كلّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعرفَ انَّه حَرَامٌ » (2) .

( واُخرى لمعارضة أصالة عدم التّذكية باصالة عدم الموت ) حتف الأنف ، وهذه عبارة مروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ولعلّه لأنّ المذكى تخرج روحه من أوداجه ، وغير المذكى تخرج روحه من أنفه ، وهذا من باب الغالب ، والاّ فالحيوان الذي ذبح بدون الشرائط الشرعيّة أو جرح جرحاً قاتلاً يكون أيضاً ميتة ، كما ان الميتة لا يلزم خروج روحها عن أنفها ، اذ من الممكن سد أنفها والضغط عليها حتى تموت ، كما كان يفعله خلفاء الجَور بأعدائهم ممّا هو مذكور

ص: 344


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
2- - وقريب من هذا الحديث في الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 و ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة .

والأوّلُ : مبنيٌّ على عدم حجّيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة .

-------------------

في التواريخ .

وعلى أي حال : فالموت حتف الأنف كناية عن الموت الطبيعي أي : بدون ذبح أو جرح أو قتل أو ما أشبه ذلك ( والحرمة والنجاسة من أحكام الميّتة ) فاذا تردّد الأمر بين أن يكون ميتة أو مذكى ،لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام الميتة من الحرمة والنجاسة كما لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام المذكى من الحليّة والطهارة ، فيتساقط الأصلان الموضوعيّان ، ونرجع الى الاصل الحكمي وهو : أصالة الحل المستفادة من قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ فِيهِ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ فَهُو لَكَ حَلاَلٌ » (1) وقوله : « كلّ شيءٍ مُطلَقٌ » (2) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم في أدّلة البرائة .

( والأوّل ) : أي : عدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ( مبنيّ على عدم حجيّة الاستصحاب ولو في الاُمور العدميّة ) فانّ جماعة قالوا بعدم حجية الاستصحاب مطلقاً ، لا في الاُمور الوجودية ، ولا في الاُمور العدمية ، وجماعة قالوا بعدم حجيّة الاستصحاب في الاُمور الوجودية فقط ، أما في الاُمور العدميّة فيجري فيها الاستصحاب .

مثلاً : اذا لم يكن زيداً بالغاً وشككنا في بلوغه ، فالأصل عدم البلوغ ، هذا في

ص: 345


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب4 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 ، غوالي اللئالي: ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، بحار الانوار : ج2 ص274 بالمعنى .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

والثاني مدفوعٌ ، أوّلاً : بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ، ولا يتوقف على ثبوت الموت حتّى ينفى

-------------------

الأمر العدمي ، واذا كان زيد حياً وشككنا في بقائه حياً فالأصل بقائه حياً ، وهذا في الأمر الوجودي ، ويترتب على كلّ من الأصلين اُمور شرعية ، فانّه اذا لم يكن بالغاً لا تجب عليه الصلاة والصّيام ونحوهما ، واذا كان حيّاً يترتب عليه وجوب الاتفاق على زوجته ، وعدم جواز تقسيم أمواله ، أو تزويج نسائه ، كما لا يجوز له أن يتزوج فيما اذا شك في موت زوجته باختها أو الخامسة ، أو ما أشبه ذلك .

وكيف كان : فالأول : مبني على عدم حجيّة الاستصحاب وهو غير تامّ ، لأنّ الاستصحاب - كما يأتي - حجّة في الاُمور الوجودية والعدمية ، بل جريان الاستصحاب في الاُمور العدمية مُجمع عليه كما نُسب الى بعضهم وانّما الخلاف في الاستصحاب في الأمر الوجودي .

( والثاني ) : أي : تعارض الاستصحابين الذي ذكره بقوله : « واُخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية باصالة عدم الموت » ( مدفوع ) لما يلي :

( أوّلاً : بأنه يكفي في الحكم بالحرمة ) والنجاسة ( عدم التذكية ولو بالأصل ) فان المستشكل ذكر : « ان حكم الحرمة والنجاسة يتوقف على الموت حتف الأنف » أي : على أمر وجودي ، وحيث نشك في هذا الأمر الوجودي لا نتمكن من استصحابه ، لأنا لا نعلم انه مات حتف أنفه .

وفيه : ان حكم الحرمة والنجاسة لا يتوقف على الموت حتف الأنف بل يتوقف على عدم التذكية ، وعدم التذكية محرز بالأصل ، فاذا شككنا في التذكية نقول : الأصل عدم التذكية واذا أجرينا اصالة عدم التذكية ، ترتب على هذا الاصل الحرمة والنجاسة ( ولا يتوقف على ثبوت الموت ) حتف الأنف ( حتى ينفى )

ص: 346

بانتفائه ولو بحكم الأصل ، والدليلُ عليه استثناء « ما ذكّيتم » من قوله « وما أكَلَ السَّبُعُ » ، فلم يبح الشارعُ إلاّ ما ذُكّي ،

-------------------

الحكم بالحرمة والنجاسة ( بانتفائه ) أي : بانتفاء الموت ( ولو بحكم الاصل ) « لو » : وصلية مرتبطة بقوله : « بانتفائه » .

والحاصل : ان الحلّ والطّهارة ، والحرمة والنجاسة مترتبان على أمرين : أحدهما : وجودي وهو : المذكى المترتّب عليه الحل والطهارة والآخر عدمي وهو : غير المذكى المترتب عليه الحرمة والنجاسة .

ومن الواضح : ان غير المذكى من قبيل الاعدام فيستصحب ، وليس المذكى والميتة من قبيل الضدّين حتى يلزم فيهما التعارض الأصلين وتساقطهما ، فهما من قبيل الأبيض وغير الابيض ، لا من قبيل الأبيض والأسود .

( والدليلُ عليه ) أي : على أن التذكية وجودي ، والموت حتف الأنف عدمي ( استثناء « ما ذكيتم » ) في القرآن الحكيم ، ( من قوله ) تعالى : ( « وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ » (1) فلم يبح الشارع الاّ ما ذكّي ) لوضوح : ان الوجود لا يستثنى الاّ من العدم ، كما ان العدم لا يستثنى الاّ من الوجود ، فيقال : لم يأتني أحد الاّ زيد ، كما يقال : جائني القوم الاّ زيداً ، ولا يستثنى من الوجود وجود ، فلا يقال : جائني عمرو الاّ زيداً ، ومعنى الآية المباركة : يحرم كل حيوان زهق روحه ، الاّ ما ذكّيتم فتدل الآية على أن المذكى وجودي وما قبله وهو المستثنى منه عدمي ، فاذا شكّ في التذكية كان الأصل عدمها .

والحاصل : انّ الميتة هو غير المذكى ، لا أن الميتة عنوان ، والمذكى عنوان

ص: 347


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

وإناطةُ إباحة الأكل بما ذكر اسمُ اللّه عليه وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الأصل انتفت الاباحة .

-------------------

آخر ، حتى يكونا أمرين وجوديين متقابلين كالأبيض والأسود على ما عرفت .

لا يقال : يظهر من بعض الآيات والروايات : ان الموت وجودي أيضاً كقوله سبحانه : « الَّذِي خَلَقَ المَوتَ والحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً » (1) وكقوله عليه السلام على ما جاء في بعض الروايات من ان الموت يؤى به يوم القيامة على صورة كبش فيذبح ما بين النّار والجنّة ، ثم يقال لأهل النار : خلودٌ ولا موت ، ويقال لأهل الجنة خلودٌ ولا موت .

فانّه يقال : كون الموت وجوديّاً على فرض تسليمه بأن لم تكن الآية والرّواية كناية ،لا ينافي ترتب الأحكام الشرعية من النجاسة والحرمة على الأمر العدمي وهو : عدم التذكية ، وكلامنا الآن في الأحكام الشرعية لا في حقيقة الموت والحياة .

هذا ( واناطةُ اباحة الأكل بما ذكر اسم اللّهِ عليه ، وغيره من الاُمور الوجودية المعتبرة في التذكية ) في قوله سبحانه : « وَما لَكُم ألاّ تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللّهِ عَليه » (2) وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما أهريقَ دم وذكرَ اسمُ اللّهِ عَليهِ ، فَكُلُوا منهُ مَاخَلا السّنّ والظّفر » (3) الى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين ( فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الاصل انتفت الاباحة ) إذ تعليق الاباحة بهذه الشروط ظاهر في حرمة ما ليس كذلك ، ولا يهم أن تسمّى ميتة أو لا تسمى به ، وقول المصنِّف :

ص: 348


1- - سورة الملك : الآية 2 .
2- - سورة الانعام : الآية 119 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص457 بالمعنى .

وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ، إذ ليست الميتةُ خصوصَ ما مات حَتفَ أنفه ، بل كلُّ زهاق روح انتفى فيه شرطٌ من شروط التذكية فهي ميتةٌ شرعا .

وتمام الكلام في الفقه .

-------------------

« واناطة » عطف على قوله : « استثناء ما ذكّيتم » .

( وثانياً ) : اذا سلّمنا انّ موضوع الحلّ والطهارة : المذكى ، وموضوع الحرمة والنجاسة : الميتة ، لم ينفع القائل بتعارض الاستصحابين ، اذ ( انّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ) لا أنّه أمر وجودي كما أراده القائل حيث قال : الميتة أمرٌ عدمي والمذكى أمرٌ وجودي فاذا لم نعلم بانّ الحيوان مات بهذه الكيفية أو بهذه الكيفية ، تعارض الاستصحابان وتساقطا ، فلا يمكن اثبات الحرمة والنجاسة كما لا يمكن اثبات الطهارة والحلّية .

( اذ ليست الميتةُ خصوصَ ما مات حتفَ أنفه ) موتاً طبيعياً أو بالسمّ وما أشبه ( بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرطٌ من شروط التذكية فهي ميتةٌ شرعاً ) فالميتة أمرٌ عدمي لا أمرٌ وجودي فيصحّ استصحاب عدم التذكية ، ولا يعارضه استصحاب عدم الموت ، فكلّما حصلت الشرائط حلّت وطهرت ، وكلّما حصلت الشرائط ، وكلّما لم تحصل الشرائط ولو بفقد شرط واحد حرمت ونجست ، سواء مات حتف الأنف أو مات بالذبح بدون بعض الشروط .

وعليه: فقد تحقق مما ذكرناه في الميتة والمذكى: انه كل ما لم يعلم ان الحيوان من أيّهما كان الأصل عدم التذكية، فيترتب على هذا الاصل النّجاسة والحرمة.

نعم ، يشترط أن لا يكون من يد مسلم، أو في أرضه أو في سوق المسلمين، أو ما أشبه ذلك ، مما قرّره الشارع من الأمارات ( وتمام الكلام في الفقه ) .

ص: 349

الثاني :

إنّ الشيخ الحرّ ، أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الاخباريين ، وحاصله أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ،

-------------------

التنبيه ( الثاني ) : لا يخفى ان الاُصوليين قسّموا الشّبهة الى قسمين :

الأول : الشبهة الحكميّة ، وهو الاشتباه في الحكم الكليّ الناشيء من فقدان النصّ ، أو أجماله ، أو تعارضه ، سواء كانت الشبهة بلا واسطة ، كالشكّ في وجوب صلاة الجمعة أو حرمة العصير الزبيبي ، أو مع الواسطة ، كالشكّ في حرمة التتن للشّكّ في دخوله في الخبائث ، وكالشّكّ في وجوب الصوم المنذور في السفر للشك في دخوله في « يوفُون بالنَّذر » (1) لكن الحُرّ رحمه اللّه جعل الشبهة بالواسطة قسماً ثالثاً ، ولم يجعله من الشبهة الحكمية ، بينما هو أيضاً من الشبهة الحكمية ، كما هو واضح .

القسم الثاني : الشبهة الموضوعيّة التي منشؤا اشتباه الاُمور الخارجيّة ، وتحتاج في رفعها الى استطراق باب العرف .

ثمّ إنّ في كلام الحرّ مواضع للتأمّل ذكر المصنّف جملة منهابعد أن ذكر كلام الحرّ بقوله : ( ان الشيخ الحرّ أورد في بعض كلماته اعتراضاً على ) أصحابه ( معاشر الأخباريين ، وحاصله : انّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ؟ ) .

والمراد بالشبهة في نفس الحكم : الشبهة الحكمية ، وبالشبهة في طريق

ص: 350


1- - سورة الانسان : الآية 7 .

حيث أوجبتم الاحتياط في الاوّل دون الثاني ؟ وأجاب بما لفظه :

« إنّ حدَّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ ، أعني الاباحة . وحدَّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه موضوعُ الحكم ، كاللحم المشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بحكم المذكّى والميتة ، ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث الائمة ومن وجوه عقلية مؤيّدة لتلك الأخبار ، ويأتي بعضها إنشاء اللّه تعالى ،

-------------------

الحكم : الشبهة الموضوعيّة ( حيث أوجبتم الاحتياط في الأول دون الثاني ) مع انّ كليهما شبهة تقتضي القاعدة الاحتياط فيهما معاً أو البرائة فيهما معاً ؟ .

( وأجاب بما لفظه : ان حدّ الشبهة في الحكم ) أي : الشبهة الحكمية ( ما إشتبه حكمه الشرعي أعني : الاباحة ) بأن لم نعلم أنّ الشارع هل أباح هذا الشيء أو حرّمه ؟ ( وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعي ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( وما اشتبه موضوع الحكم ) بأن علمنا أنّ هناك حلالاً وحراماً ، لكن لا نعلم هل هذا المصداق من المصداق الحلال أو من المصداق الحرام ؟ ( كاللحم المشترى من السوق لا يعلم انّه مذكى أو ميتة مع العلم بحكم المذكى والميتة ) وانّ المذكى حلال والميتة حرام .

( ويستفاد هذا التقسيم ) أي : وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، وعدمه أي : الحليّة والبرائة في الشبهة الموضوعيّة ( من أحاديث الائمة ) عليهم السلام ( ومن وجوه عقلية مؤدة لتلك الأخبار ) مثل « قُبح العقابِ بلا بيان » بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، ومثل : « دفع الضرر المحتمل » بالنسبة الى الشبهة الحكمية ( ويأتي بعضها ) أي بعض هذه الأحاديث والوجوه العقليّة ( انشاء اللّه تعالى ) فيما بعد .

ص: 351

وقسمٌ متردّدٌ بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيويّة كاختلاط الحلال بالحرام ، بل اشتباهها لأمر ذاتيّ ، أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه انواعه في أفراد يسيرة وبعض افراد الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

-------------------

( وقسمٌ متردّدٌ بين القسمين ) وهذا هو القسم الثالث الذي اضافه الحرّ رحمه اللّه ( وهي ) الشبهة في ( الأفراد التي ليست بظاهرة الفردية لبعض الأنواع ) بأن لم يعلم هل هذا من الحرام أو من الحلال ؟ كالخمر غير المسكر مثلاً حيث لا نعلم هل انّه من مطلقات المايعات المحللّة ، أو من مطلقات الخمر المحرم ؟ ( وليس اشتباهها بسبب شيء من الاُمور الدنيوية كاختلاط الحلال بالحرام ) فانّه ليس كاللحم المشترى من السوق لا نعلم انّه من الحرام الميتة أو من الحلال المذكى .

( بل اشتباهها لأمر ذاتي أعني : اشتباه صنفها في نفسها ) أي :انّ صنف هذا الشيء مشتبه هل هو حلالٌ أو حرامٌ ؟ مثل الخمر غير المسكر ، فانّا نعلم أنّ الخمر المسكر حرام ، ونعلم انّ سائر المايعات مثلاً حلال ، لكن لا نعلم هل انّ الشارع حرَّم الخمر غير المسكر والحَقَهُ بالخمر المسكر ، أو لم يحرِّمه والحقه بسائر المايعات ؟ .

وهكذا في الأمثلة الاُخرى ( كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه ) لأنّا نعلم انّ الغناء في الجملة حرام ( واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة ) كالصوت المطرب فقط ، والصوت المرجّع فيه فقط ، والصوت الجامع لهما ، فانّ الجامع نعلم بحرمته ، أما لو كان مطرباً وحده ، أو مرجّعاً فيه وحده ، فلا نعلم بحرمته .

( وبعض أفراد ) أي : أصناف ( الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

ص: 352

أفراده ، حتى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن .

وهذا النوع يظهرُ من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها .

وهذه التفاصيل يُستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها ، منها قوله عليه السلام : « كلُّ شيء فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ » ،

-------------------

أفراده ) أي : بعض أفراد ذلك النوع ( حتى اختلف العقلاء فيها ) أي في هذه الاصناف ، فلا يعلمون أنّه داخل في الخبائث حتى يحرم ،أو ليس بداخل في الخبائث حتى لا يحرم .

( ومنها ) أي : من تلك الأصناف التي اختلف العقلاء في دخولها في هذا الكليّ أو ذاك الكليّ ( شرب التتن ) حيث لا يعلم انّه خبيث فيحرم ، أو ليس خبيثاً فلا يحرم ( وهذا النوع ) الثالث كما مثّلناه في شرب التتن ( يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها ) فانّ الأخبار الآمرة باجتناب الشبهات تشمل مثل شرب التتن .

( وهذه التفاصيل ) التي ذكرناها وجعلنا في بعضها البرائة ، وفي بعضها الاحتياط ( يُستفاد من مجموع الأحاديث ) الواردة في الباب بعد ضَمّ بعضها الى بعض وملاحظة وجوه الجمع بينها ( ونذكر ممّا يدل على ذلك ) أي : بعض الاحكام التي ذكرناها للأقسام الثلاثة المتقدمة ( وجوهاً ) من الروايات ومن الأدلة العقلية .

( منها : قوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ فيهِ حلالٌ وحرامٌ فهو لَكَ حَلالٌ » (1) ) ،

ص: 353


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، المحاسن: ص495 ح596 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم إلى أن قال وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالاً وحراما » .

أقول : كان مطلبُه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة ، وإلاّ فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية ،

-------------------

فهذا وأشباهه صادقٌ على الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ولهذا حللنا نحن الحرّ الشبهة الموضوعيّة ، فلا يجب الاحتياط فيها ، بل هي مجرى البرائة ( الى انّ قال ) رحمه اللّه في بيان عدم صدق هذا الحديث على الشبهة الحكمية : ( واذا حصل الشك في تحريم الميتة ) فرضاً ( لم يصد ق عليها أن فيها حلالاً وحراماً ) (1) فهذا الحديث يشمل الشبهة الموضوعيّة دون الشبهة الحكمية .

( أقول : كأنّ مطلبه ) أي : الحرّ رحمه اللّه ( ان ) أخبار الاحتياط مطلقة شاملة لجميع أنواع الشبهة : في الحكم ، أو الموضوع ، أو التكليف ، أو المكلّف به ، و ( هذه الرواية وأمثالها ) أي : رواية : « كلُّ شيءٍ فيه حلالٌ وَحرامٌ » ورواية : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلالٌ » وما أشبه ذلك ( مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة ) حيث انّ تلك الأخبار المطلقة قد خصِّصت بهذه الأخبار بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، فالشبهة الموضوعيّة خارجة عن وجوب التوقف والاحتياط .

( والاّ ) أي : وان لم يكن مطلب الحرّ رحمه اللّه ذلك الذي ذكرناه ( فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية ) فلو أنّ

ص: 354


1- - الفوائد الطوسية : ص 518 .

مع أنّ سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقف والاحتياط ، أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة .

-------------------

الحرّ رحمه اللّه اراد انّ « كُلَّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » ونحوه يصدق في الشبهة الموضوعيّة يشكل عليه : بانّه يشمل الشبهة الحكمية أيضا ، فلابدّ وأن يقول بما ذكرناه من انّ أخبار الحليّة تخصص أخبار الاحتياط ، فتكون النتيجة : انّ أخبار الاحتياط للحكمية وأخبار الحلّ للموضوعية .

هذا ( مع أن سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص ) فانّه على قوله ، يلزم أن يكون أخبار الاحتياط أعمّ وأخبار الحلِّ أخص ، وأن أخبار الحلّ مخصِّصة لأخبار الاحتياط ، والحال انّ أخبار الاحتياط لا يمكن تخصيصها عقلاً ( من حيث اشتمالها ) أي : أخبار الاحتياط ( على العلة العقلية لحسن التوقف والاحتياط ، أعني : الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة ) حيث قال عليه السلام : « مَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهات وَقَعَ في المحرمات وَهَلَكَ مِن حَيثُ لاَ يَعلَم » (1) وقوله عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (2) وما اشبه ذلك .

ص: 355


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .
2- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 ، ورواية مسعدة بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 .

فحملها على الاستحباب أولى .

ثم قال : « ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشبهاتٌ ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس

-------------------

ولا يعقل أن يقال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة الاّ في الشبهة الموضوعيّة ، فانّ تعليل الحكم بعلة عقليّة يجعل الحكم جارياً في جميع الأفراد وآبياً عن تخصيص الحكم ببعض الأفراد ، لأنّ ذلك يوجب وقوع التهافت بين العلّة وبين التخصيص ، فهل يصح أن يقال مثلاً الظلم حرام لأنّه خسة النفس الاّ ظلم الانسان جاره؟

أو يقال : الاحسان حسن لأنه يوجب رفعة النفس الاّ إحسان الانسان لأولاده ؟ .

وعلى هذا ( فحملها ) أي : حمل أخبار الاحتياط من أول الأمر ( على الاستحباب أولى ) وذلك بأن يقال : أن أخبار الاحتياط تدلّ على مطلق طلب الاحتياط ، وانّه حسن على كلّ حال ، سواء في الشبهة الحكمية ، أو الشبهة الموضوعيّة ، أو الشبهة البدوية ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، لكن دلّ الدليل من الخارج عقلاً وشرعاً على أن في بعض الموارد يجب هذا الاحتياط مثل موارد العلم الاجمالي ، ومثل الشبهة الحكمية قبل الفحص ، الى غير ذلك .

( ثمّ قال ) الحرّ رحمه اللّه : ( ومنها : ) أي : من الروايات التي يستفاد منها التفاصيل التي ذكرناها ( قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « حلالٌ بيّنٌ ، وحرامٌ بيّنٌ ، وشبهاتٌ » ) بَينَ ذلك ، فَمَن تَرَكَ الشّبُهات نَجَا مِنَ المحرَّمات ، وَمَن ارتكبَ الشُّبُهات وَقعَ فِي المحرَّمات وَهلكَ من حيثُ لاَ يَعلَم » (1) ( وهذا انّما ينطبق على الشبهة في نفس

ص: 356


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح3334 .

الحكم وإلاّ لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ولا يعلم أحدهما من الآخر إلاّ علاّم الغيوب ، وهذا ظاهرٌ واضح » .

أقول :

-------------------

الحكم ) أي : الشبهة الحكمية ، فلا يشمل الشبهة الموضوعيّة ، ولهذا نقول : بأن الشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب فيها .

( والاّ لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر الاّ علاّم الغيوب ) فانّه لو لم يكن المراد بخبر « التثليث » ما ذكرناه من الاختصاص بالشبهة الحكمية ، بل كان لبيان حال الموضوعات أيضاً ، لم يصح تثليث الاُمور لعدم علم احد بالحلال البيّن والحرام البيّن ، وذلك لأنّه ما من جزئي خارجي الاّ ويحتمل فيه الحرمة من جهة من الجهات .

مثلاً : الماء الحلال مشتبه ،لانّه يحتمل أن يكون للناس وقد غصب ، كما يغصب بعض من بعض الأَنهار والآبار وما أشبه ذلك ،وكذلك كون هذه الدار مغصوبة مشتبه أيضاً ، لاحتمال أن يكون الغاصب والمغصوب منه قد تراضيا بجهة من الجهات ، وهكذا في سائر الموضوعات ( وهذا ظاهرٌ واضح ) (1) فاللازم أن نخصِّص احاديث التثليث بالشبهات الحكمية .

( أقول : ) هذا الاستدلال محل نظر من وجهين :

الأوّل : انّ الشبهة الحكمية الوجوبية لا يجب فيها الاحتياط باتفاق العلماء ، فلو التزَمنا من الأوّل بدلالة هذه الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الأعم من الوجوبية والتحريمية ،لزم تخصيصها بالشبهة الحكمية الوجوبية ، ومن

ص: 357


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص أنّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلّتهم ظاهرةٌ في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة : فان كانت عامّةً للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجيّ المردّد بين الحلال والحرام

-------------------

الواضح : انّ أخبار التثليث آبية عن التخصيص ، ولذا اعترض عليه المصنّف بقوله : و ( فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص : ) لأنّ اقتصار أخبار التثليث على الشبهات الحكمية مع ان عِلَلَها شاملةٌ للشبهات الموضوعية مستلزم لتخصيصها ، وذلك غير معقول كما تقدّم فاللازم من أول الأمر أن نقول : انّ المراد بأخبار التثليث حُسن الاحتياط لا وجوبه .

ومن المعلوم : انّ حسن الاحتياط جارٍ في جميع الموارد من الشبهة الحكمية والموضوعيّة ، الوجوبية والتحريمية .

الوجه الثاني : ( انّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلتهم ) أي : أدلة الأخباريين القائلين بالاجتناب في الشبهة الحكمية ( ظاهرة في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة ) اقسام : قسم حلال واضح ، وقسم حرام واضح ، وقسم مشتبه ( فان كانت ) روايات التثليث ( عامة للشبهة الموضوعيّة أيضاً ، صح الحصر ) إذ لايبقى قسمٌ رابع خارجٌ عن أخبار التثليث ، سواء كانت موضوعية أو حكمية ، ووجوبية أو تحريمية .

( وان اختصّت ) روايات التثليث ( بالشبهة الحكمية ) كما ذكره الحرّ رحمه اللّه ، ( كان الفرد الخارجي ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( المردد بين الحلال والحرام ) مثل ما إذا لم يعلم هل أن زوجته جائزة الوطي أو محرمة الوطي للدم الذي تراه

ص: 358

قسما رابعا ، لأنّه ليس حلالاً بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم .

ولو استشهد بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه السلام : « إنّما الامور ثلاثة » ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ، إذ المحصورُ في هذه الفقرة الامورُ التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة .

-------------------

مردداً بين دم البكارة ودم الحيض ؟فانّه يكون هذا الفرد المردّد ( قسماً رابعاً ، لأنّه ليس حلالاً بيّناً ولا حراماً بيّناً ،ولا مشتبه الحكم ) لأن روايات التثليث خاصة على قول الحرّ بالشبهة الحكمية وهذه شبهة موضوعية .

هذا ( ولو استشهد ) الحرّ رحمه اللّه على كون روايات التثليث خاصة بالشبهة الحكمية ( بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه السلام : « انّما الاُمور ثلاثة » ) : أمرٌ بيّن رشده فيتَّبع ، وأمرٌ بيّن غيّه فيجتَنب ، وأمرٌ مُشكل يُردّ حكمه الى اللّه ورسُوله » (1) ( كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية ) لأنّه قد نصّ في هذه الرواية بأنّه يردّ حكمه الى اللّه ورسوله ، فتكون الشبهة حكمية لا موضوعية ( اذ المحصور في هذه الفقرة ) بقرينة « يردّ حكمه الى اللّه ورسوله » خصوص ( الاُمور التي يرجع فيها الى بيان الشارع ) فانّ الأحكام التي يسأل من الشارع ،منها بيّن الرشد ، ومنها بيّن الغي ، ومنها مشتبه ، وقد تقدّم : انّ الشبهات الموضوعيّة لا يرجع فيها الى الشارع ، وإنّما الى العرف .

وعليه : ( فلا يرد اخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمراً رابعاً للثلاثة ) أي :

ص: 359


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .

وأمّا ما ذكره : « من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلاّ علاّم الغيوب » ، ففيه : أنّه إن اريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى ، وإن اريد ندرتهما ، ففيه أنّ الندرة تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله له ،

-------------------

لا يستشكل عليه بما ذكرناه : من انّ الرواية غير حاصرة ، لأنّ له أن يجيب : بأن الرواية بقرينة « يرد حكمه » في صدد الشبهة الحكمية فقط ، بخلاف استدلاله بروايات « التثليث » التي عرفت انّها أعمّ من الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فمن أراد اخراج الشبهة الموضوعيّة منها ،لزمه عدم كون الروايات حاصرة .

( وأما ما ذكره ) الحرّ رحمه اللّه ( من المانع ) العقلي ( لشمول النبوي للشبهة الموضوعيّة : من ) ان الحلال والحرام دائماً مشتبهان ، وانه ليس هناك حلال بيّن ، أو حرام بيّن ، ل- ( انه لا يعلم الحلال من الحرام الاّ علاّم الغيوب ) وقد مثّلنا لذلك سابقاً ( ففيه ) ما اشار اليه بقوله : ( انّه ان اُريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى ) لوضوح أن أشياء كثيرة من الموضوعات محلّلة : كالمياه ، وأراضي الموات ، والأسماك ، والطيور ، والوحوش ، والغابات ، والأتربة ، وغير ذلك من المحللات القطعية الكثيرة ، كما أن هناك الكثير من المحرمات القطعية مثل : الزنا ، والخمر ، والقمار ،وعبادة الاصنام ، وغير ذلك .

( وان اُريد ندرتهما ) أي : ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن ( ففيه ) :

أولاً : عدم الندرة كما عرفت .

ثانياً : ( ان الندرة تمنع من اختصاص النبوي بالنادر ، لا من شموله له ) فانّ النبوي لا يمكن أن يختص بالأمور الموضوعيّة لندرة الحلال البيّن والحرام البينّ ، لا أنه

ص: 360

مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثَر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلةٌ للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّيّة المعلوم تحريمها .

-------------------

لايمكن أن يشمل الموضوعيّة في ضمن شموله للحكمية أيضاً ، فان النبوي شامل لكلتيهما .

مثلاً : اذا كان هناك ألف عالم في الفقه ، وخمسة علماء في الاُصول ، فقال المولى : أكرم العلماء ، لم يختص قول المولى بعلماء الاُصول ، لأن عالم الاُصول نادر ، وحمل كلام المولى على النادر خلاف اسلوب المحاورة ،أما اذا قلنا انّه شامل لكل من علماء الفقه والاُصول فلا محذور فيه .

( مع ) انّ هناك إشكالاً ثالثاً على كلامكم ، فان تخصيصكم رواية التثليث بالشبهات الحكمية من جهة ندرة كون الحلال البيّن والحرام البيّن في الاُمور الموضوعيّة ،ممّا يكون معنى كلامكم : عدم ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن في الاُمور الحكمية غير تام ، بل المحرّمات الموضوعيّة الخارجيّة البيّنة أكثر من المحرّمات الكلية الحكمية البيّنة ،فالمليارات من أفراد القمار ، والخمر ، والزنا ، والسرقة ، والرّبا ، كلّها من المحرّمات الخارجيّة الموضوعيّة البينة ، وليس المحرمات الكلية البينة بهذا المقدار الكثير ، فقد ذكر بعضهم : انّ كلّ المحرّمات الشرعية تقارب السبعمائة فقط .

وعليه : ف- ( ان دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم ، أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع ، قابلة للمنع ) فليس أحدهما نادراً والآخر غير نادر ( بل المحرّمات الخارجيّة ) الموضوعيّة ( المعلومة أكثر بمراتب من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها) أي: من اُصول المحرمات ممّا هي حكمية وليست بموضوعية.

ص: 361

ثم قال : « ومنها : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب تعارض الأدلّة وعدم النصّ ،

-------------------

( ثم قال : ومنها : ) أي : من الأدلة الشرعية ،التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة والاحتياط في غيرها ( ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل : الحرمة : والاباحة بسبب تعارض الادلة ) فانّ في بعض الروايات : بانّه اذا تعارضت الأدلة يحتاط ،كمافي مرفوعة زُرارة حيث يَسأل من الإمام الباقر عليه السلام عن الخبرين المتعارضين ويقول : « قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع ؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر ، قلت : فانّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع ؟ فقال : إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » (1) ، فان هذا الخبر دليل على الاحتياط في الشبهة الحكمية حيث انّ السؤل والجواب منصبّان على الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة ، فان شأن الإمام عليه السلام بيان الأحكام ، والراوي إنّما سأل عن تعارض الخبرين ، وتعارض الخبرين إنّما يكون في الأحكام لا في الموضوعات .

( وعدم النص ) أي : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب عدم النص ، كالأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط حتى يأتي منهم البيان ، مثل قوله عليه السلام : « أَرجِهِ حَتَّى تَلقى إمامَكَ » (2) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم جملة منها .

ص: 362


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ح57 ب29 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ » .

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي ، وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقف والاحتياط ، إلاّ أنّ الانصاف أنّ دلالتها على الاباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب .

-------------------

( وذلك ) الذي ذكرناه في تعارض النصين وفقدان النص ( واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعي ) (1) لأن نفس الحكم هو الذي يكون في مورد فقد النص أو تعارض النصين .

( أقول : ) في الشبهة الحكمية وان ورد الدليل على التوقف والاحتياط مع فقد النص أو تعارض النصين ، كما ذكره الشيخ الحرّ رحمه اللّه ، الاّ انّ ما ورد بالتوقف أو الاحتياط معارض بما دل على التوسعة والبرائة ، والجمع بين الدليلين يوجب حمل التوقف والاحتياط على الاستحباب في غير مورد الشك في المكلّف به ، ونحوه ، ممّا يجب فيه الاحتياط ، فدليل الحّر معارض بأقوى منه .

وعليه : فان ( ما دّل على التخيير والتوسعة مع التعارض ) بين النصين ( وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي ) وهو فقدان النص ( وان لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف والاحتياط ) لأنّ ما دل على أدلة التوقف والاحتياط أكثر عدداً مما دل على التخيير والتوسعة ، ( الاّ أن الانصاف أنّ دلالتها ) أي : دلالة أخبار التخيير والتوسعة ( على الاباحة والرّخصة ، أظهر من دلالة تلك الأخبار ) أي اخبار الاحتياط والتوقف ( على وجوب الاجتناب ) لأنّه مقتضى الجمع بينهما ، اذ لو

ص: 363


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

قال : « ومنها : أنّ ذلك وجهٌ للجمع بين الأخبار لا يكادُ يوجد وجهٌ أقربُ منه » .

أقول : مقتضى الانصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقربُ ممّا ذكره ، ثمّ قال : « ومنها أنّ الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الإمام عليه السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ، لأنّه

-------------------

علمنا بأخبار التوقف لم يبق مجال لأخبار التخيير والتوسعة ، بينما اذا علمنا بأخبار التخيير والتوسعة يمكن حمل أخبار التوقف والاحتياط على الاستحباب .

ثمّ ( قال : ومنها : ) أي : من الادلة التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها ( ان ذلك ) التفصيل المذكور هو ( وجه للجمع بين الأخبار ) المتعارضة الدالّة على الاحتياط والبرائة إذ ( لا يكاد يوجد وجه أقرب منه ) أي : من هذا الجمع .

( أقول : مقتضى الانصاف : انّ حمل أدلة الاحتياط على الرّجحان المطلق أقرب ممّا ذكره ) الشيخ الحرّ من الجمع المذكور .

( ثمّ قال : ومنها : ) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها ( ان الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الإمام عليه السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ، وذلك ( لعدم وجوب السؤل عنه ) أي : عن الإمام عليه السلام في الشبهة الموضوعيّة عند التمكن حتى يجب الاحتياط عند التعذر .

( بل علمهم بجميع أفراده ) أي : أفراد المشتبه من الموضوعات الخارجيّة على كثرتها علماً حضورياً ( غير معلوم ، أو معلوم العدم ، لأنّه ) أي : العلم الحضوري

ص: 364

من علم الغيب فلا يعلمه إلاّ اللّه وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئا علموه » ، انتهى .

أقول : ما ذكره من الفرق لا مدخل له ، فانّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه السلام ولا من غيره من الطرق

-------------------

بجميعها ( من علم الغيب فلا يعلمه الاّ اللّه وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، واذا شاؤوا ان يعلموا شيئاً علموه (1) ، انتهى ) .

ولا يخفى : انّ قول الحرّ رحمه اللّه : وان كانوا أي : النبيّ والائمة صلوات اللّه عليهم أجمعين يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، وكذا قوله : وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئاً علموه ، ينقض قوله : بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم ، أو معلوم العدم ، فانهم عليهم السلام باذن اللّه يعلمون كلّما شاؤا من الغيب لقوله سبحانه : « عالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أحَدا * إلاّ مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ » (2) .

( أقول ) وجوب السؤل عن الإمام عليه السلام في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة وان كان صحيحاً ، الاّ انّه لا يوجب تقييد الطائفتين المطلقتين من الأخبار حتى يقال : انّ أخبار التوقف للحكمية ، وأخبار البرائة للموضوعية ، وذلك لأنّ ( ما ذكره من الفرق لا مدخل له ) في التقسيم الذي ذكره الحرّ .

وعليه : ( فان طريق الحكم لا يجب الفحص عنه ) أي : لايجب على الانسان الفحص في الشبهة الموضوعيّة (و) لا يجب فيه (ازالة الشبهة فيه، لا من الإمام عليه السلام ولا من غيره من الطّرق ) وذلك على مبنى المصنّف ممّا سيأتي في التنبيه الرابع انشاء اللّه تعالى : من انّه لا يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة حتى

ص: 365


1- - الفوائد الطوسية : ص 20 .
2- - سورة الجن : الآيات 26 - 27 .

الممكن منها .

والرجوع إلى الإمام عليه السلام ، إنّما يجب فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم . وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه السلام من حيث العموم والخصوص وكيفيّة علمه بها من حيث توقفه على مشيّتهم أو على التفاتهم إلى نفس الشيء

-------------------

في ( الممكن منها ) .

هذا ، لكن سيأتي منّا : انّه يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة كما يجب الفحص في الشبهة الحكمية ، الاّ ما خرج من الموضوعات : كالطهارة والنجاسة ، والحليّة والحرمة ، ولذا قال جماعة من الفقهاء : يجب على الانسان الفحص عن بلوغ ماله حدّ النصاب وعدمه في باب الزكاة ، وانّه مستطيع أم لا في باب الحج ؟ وان ماله تعلق به الخمس أم لا في باب الخمس ؟ وانّه هل يتمكن من الصوم أم لا في باب الصوم ؟ وانّه هل يضره الماء أم لا في باب الوضوء والغسل ؟ الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( والرجوع الى الإمام عليه السلام انّما يجب فيما ) أي : في الأحكام التي ( تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم ) أو العلميّ ، فانّه إذا أردنا أن نعرف حكم الغراب هل هو حلال أو حرام ؟ أو حكم وجوب صلاة الجمعة وعدم وجوبها ، أو ما أشبه ذلك ، وجب علينا الرجوع الى الإمام انّ كان حاضراً ، والرجوع الى الأخبار والكتاب والاجماع والعقل في حال غيبته عليه السلام.

( وأما مسألة مقدار معلومات الإمام عليه السلام من حيث العموم والخصوص ) وانّها كم هي ؟ وهل هي محيطة بكل الجزئيات أو ببعضها ؟ ( وكيفية علمه بها ) أي : بتلك المعلومات ( من حيث توقفه على مشيتهم ، أو على التفاتهم الى نفس

ص: 366

أو عدم توقفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ، فالأولى وكولُ علم ذلك إليهم ، صلوات اللّه عليهم أجمعين .

-------------------

الشيء ، أو عدم توقفه على ذلك ) بأن يكون علمهم حضوريا حاضرا لديهم دائماً ( فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ) أي : في باب علمهم عليهم السلام ( ما يطمئن به النفس ، فالأولى : وكول علم ذلك اليهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ) فانهم أعلم بمقدار علمهم وبكيفيّته .

لكن قال بعض : بأنّ علمهم محيط بجميع الكليات والجزئيات والكبير والصغير من حيث الكمية ، وهو حاضر لديهم دائماً من حيث الكيفية وكذلك قدرتهم ، فهم كعزرائيل عليه السلام الذي لا يفوته شخص حضر أجله أو لم يحضر ، بل ربّما يقال : انّ لهم عليهم السلام مكانة كونية وقدرة عامّة سارية في جميع ذرات الكون كسريان قوة الجاذبة فيها ، غير انّ الجاذبة ليست مشرفة وقادرة ، وهم عليهم السلام مشرفون قادرون باذن اللّه تعالى ، ولذا ورد في الحديث : « لولا الحجة لساخت الأرض » (1) قيل : وهذا هو مقتضى كون النبيّ والإمام خليفة اللّه سبحانه .

نعم ، من البديهي انّ علم اللّه وقدرته مستندان الى ذاته تعالى ، أمّا علمهم وقدرتهم فهما مستندان الى اللّه تعالى لا من ذواتهم ، وهذا هو مقتضى كونهم شهوداً على الجميع ، ومقتضى ما في الأدعية مثل دعاء أيام رجب حيث جاء فيه : « أسألك بما نطَقَ فيهم من مشيّتك فجعلتهم معادنَ لِكلمَاتِكَ وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتِكَ، الَّتي لاَ تَعطيل لَهَا فِي كُلِّ مَكَان ، يَعرفُكَ بِهَا مَن عَرفك ، لاَ فَرقَ

ص: 367


1- - علل الشرائع : ص198 ، بصائر الدرجات : ص488 ، عيون اخبار الرضا : ص272 ، كمال الدين : ص204 ، غيبة النعماني : ص141 .

ثم قال : « ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمرٌ ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن ، لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البيّن ولزوم تكليف ما لا يطاق .

والاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ،

-------------------

بَينَكَ وَبَينَها إلاَّ أنّهم عِبادُكَ وخلقُك ، فَتقُها وَرتقُهَا بِيدكَ ، بدؤُها مِنكَ وَعَودُها اليكَ ، أعضادٌ وأشهادٌ ومناةٌ وأذوادٌ وحفظةٌ وروّادٌ ، فبهم ملأت سماءكَ وأرضكَ حتّى ظهرَ أنْ لا إلهَ إلاّ أنت » (1) وفي دعاء آخر: «فبكم يجبر المهيض ، ويشفى المريض، وما تزداد الأرحام وما تغيض» (2) الى غير ذلك ممّا موضعه علم الكلام .

( ثمّ قال : ومنها ) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل المذكور : وهو البرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في الحكمية ( : ان اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمرٌ ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة ) فموارد الشبهة الحكمية قليلة كشرب التتن والدّعاء عند الهلال فيمكن الاحتياط فيها ( بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن لما أشرنا اليه من عدم وجود الحلال البيّن ) في كثير من الموضوعات ( ولزوم تكليف ما لا يطاق ) امتثاله ، وقد تقدّم : انّه انّما يكون ممّا لا يطاق : لانّ التكليف بالشيء الذي لا يعلمه الانسان تكليف بما لا يطاق .

( و ) انّ قلت : انّه يرتكب بقدر الضرورة ، ويجتنب ما عدا ذلك في الشبهات الموضوعيّة .

قلت : ( الاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرجٌ عظيم وعُسرٌ شديد

ص: 368


1- - مفاتيح الجنان: ص188 أدعية أيام رجب، ط دار الاضواء، الدعاء والزيارة للشارح : ص281.
2- - مفاتيح الجنان : ص190 الزيارة الرجبية .

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات » ، انتهى .

اقول : لا ريبَ أنّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لا يخلو من أمارات الحلّ والحرمة ، كيد المسلم والسوق وأصالة الطهارة وقول المدّعي بلا معارض والاصول العدميّة

-------------------

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات ) (1) بالمساكن والملابس والمشارب والمطاعم والمراكب والمناكح وغيرها ، وهذا ضروري البطلان عند المتشرعة ، وخلاف سيرة المسلمين منذ فجر الاسلام الى اليوم .

والحاصل : إنّ الاحتياط في الشبهات الحكمية لا يلزم منه محذور لقلة الشبهة ، بخلاف الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة فانها كثيرة جداً ،بل سارية في كلّ الموضوعات على ما ذكره الشيخ الحرّ سابقاً ، فيلزم منه محذور اختلال النظام وأشد أنواع العسر والحَرَج ، ولذا أَوجب الشارع الاحتياط في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة ( إنتهى ) كلامه .

( أقول ) لا نسلِّم كثرة المشتبه في الشبهات الموضوعيّة اذ ( لا ريب انّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لايخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، كيَدِ المسلم ، والسوق ، وأصالة الطهارة ، وقول المدّعيّ بلا معارض ، و ) البينة بلا معارض ، وقول أهل الخبرة ، وما أشبه ذلك ممّا هو كثير .

وكذا لا تخلو عن ( الاُصول العدمية ) مثل : أصالة عدم الزوجية ، وأصالة عدم

ص: 369


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

المجمع عليها عند المجتهدين والاخباريين على ما صرّح به المحدّث الاستراباديّ ، كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ، وبالجملة فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات لقلّتها .

قال : « ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلاً ونقلاً ،

-------------------

الطلاق ، وأصالة عدم الموت ، وأصالة عدم التذكية ، وما أشبه ذلك ممّا هو جارٍ في الفقه من أوّله الى آخره .

ومن المعلوم : انّ الاُصول العدميّة هو ( المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريين على ما صرّح به المحدِّث الاسترابادي كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ) فانّ الكثرة الكبيرة جداً من الشبهات الموضوعيّة واجدة لأمارة الحلّ أو الحرمة ، وهي مقدمة على أصل الاحتياط الذي اختاره الأخباريون ، وعلى البرائة التي اختارها الاُصوليون ، لأنّ الأمارة حاكمة على الاُصول ، كما سيأتي تفصيله انشاء اللّه تعالى .

( وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات ) من الشبهات الموضوعيّة ( لقلتها ) أي : لقلة تلك الموارد ، فلا يتم كلام الحرّ حيث قال : بأنّ الشارع أَباح الشبهة الموضوعيّة لكثرة مواردها وأوجب الاحتياط في الشبهة الحكمية لقلة مواردها .

وعليه : فاللازم أن نقول بالبرائة في كلتا الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة ، أو بالإحتياط في كلتيهما ، وقد عرفت : انّ مقتضى القاعدة : البرائة ، لأن الجمع بين الطائفتين من الأخبار يقتضي ذلك .

( قال : ومنها ) أي : من الشواهد على الجمع الذي ذكرناه بين الشبهة الحكمية فالاحتياط ، والشبهة الموضوعيّة فالبرائة ( : انّ اجتناب الحرام واجب عقلاً ونقلاً )

ص: 370

ولا يتمّ إلاّ باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به وكان مقدورا فهو واجب ، إلى غير ذلك من الوجوه ، وإن امكن المناقشة في بعضها ، فمجموعُها في مثل ذلك كافٍ شافٍ في هذا

-------------------

لأنّ العقل يرى وجوب اطاعة المولى والنقل كذلك ، فقد ورد متواتراً في الآيات والروايات وجوب الاجتناب عن المحرمات ، لأن من لم يجتنب عن المحرّمات يعاقب في الدنيا والآخرة ( ولا يتم ) الاجتناب عن كلّ حرام واقعي ( الاّ باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعي ) كالتتن وكالغُراب حيث لا نعلم هل هو حرام أو حلال ؟ .

( و ) كذا بالاجتناب ( من الأفراد غير الظاهرة الفردية ) وذلك فيما كان الشك بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم من مثال الغناء ، حيث نعلم انّ المطرب المرجّع فيه حرام ، ونشّك في انّ الزائد على ذلك كالمطرب وحده ، والمرجّع فيه وحده ، هل هو حرام أو حلال ؟ فحيث حرّم الشارع الغناء يجب الاجتناب عن جميع أفراده المتيقنة والمشكوك فيها .

والحاصل : انّ الاجتناب عن الحرام واجب ( وما لا يتم الواجب الاّ به وكان مقدوراً فهو واجب ) ومن الواضح : انّه لا يتم الاجتناب عن جميع المحرّمات الاّ بالإجتناب عن المحرّمات المحتملة ، كالتتن والغناء وما أشبه ذلك .

ثم قال الشيخ الحرّ : ( الى غير ذلك من الوجوه ) التي تؤد ما ذكرناه : من تقسيم الشبهة الى الحكمية والموضوعيّة والتفصيل بين حكمهما ، فانّه ( وان أمكن المناقشة في بعضها ) لا يضرنا ذلك ( فمجموعها في مثل ذلك ) التفصيل الذي ذكرناه بين الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة دليل ( كافٍ شافٍ في هذا

ص: 371

المقام واللّه أعلم بحقايق الأحكام » ، انتهى .

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم ،

-------------------

المقام ، واللّه أعلم بحقائق الأحكام (1) ، انتهى ) كلام الحرّ رحمه اللّه تعالى .

( أقول : ) اذا تمَّ ما ذكره : من وجوب الاجتناب عن محتمل الحرمة في الشبهة الحكمية من باب المقدمة لزم عليه أن يقول باجتناب محتمل التحريم في الشبهة الموضوعيّة أيضاً لأنه مقدمة ، فانّ الشارع حيث قال : الخمر حرام ، وكانت هناك افراد محتملة الخمرية ، فانّه لا يحصل لنا العلم باجتناب الخمر الاّ باجتناب كل الأفراد المتيقنة والمحتملة ، بل الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة أولى من الاجتناب في الشبهة الحكمية ، لأنَّا لا نعلم بحرمة التتن أصلاً ، أما الخمر فانّا نعلم بحرمته يقيناً .

وعليه : فلا يوجد في الشبهة الحكمية كالتتن حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة فانّه يوجد فيها حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، فان الحرام المتيقن ما قاله الشارع : من انّ الخمر حرام ، ومقدمته المشكوكة : الأفراد المحتملة الخمرية .

إذن : ف- ( الدليل المذكور ) الذي أقامه الحرّ من وجوب اجتناب محتمل الحرمة من باب المقدمة العلمية لاجتناب كل حرام واقعي اذا كان دليلاً بالنسبة الى الشبهة الحكمية فهو ( أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ، لانّ هناك علم بوجوب اجتناب كلّ حرام واقعي ، وهنا

ص: 372


1- - الفوائد الطوسية : ص520 .

بل لو تمّ لم يتمّ إلاّ فيه ، لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلاّ بدليل حرمة ذلك الشيء او أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ، ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل . فهي كلّها تابعة لتحقق الموضوع ، أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقق النهي .

-------------------

لا علم بوجوب اجتناب التتن مثلاً فللخمر الواقعي مقدّمة علمية وهو محتمل الخمرية ، بينما ليس لشرب التتن حرمة واقعية نعلمها حتى يجب الاجتناب عن أفرادها المحتملة مقدّمة لمحرَّم واقعي .

( بل لو تمّ ) هذا الدليل في نفسه ( لم يتم الاّ فيه ) أي : في الشبهة في طريق الحكم وهي الشبهة الموضوعيّة لا في الشبهة في الحكم ، وذلك ( لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت الاّ بدليل حرمة ذلك الشيء ) كحرمة الخمر ( أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنّواهي ممّا ورد في الشرع ) حيث قال سبحانه : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) وقال سبحانه : « وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا » (2) ( وحكم به العقل ) لأنّ العقل حاكمٌ بوجوب الطاعة والاجتناب عن المعصية .

وعليه : ( فهي ) أي : دليل الحرمة ، والأمر بوجوب الطاعة ( كلّها تابعة لتحقق الموضوع أعني : الأمر والنهي ) بأن نعلم بالأمر كالأمر بالاجتناب عن الخمر ، وأن نعلم بالنهي كالنهي عن شرب الخمر ( و ) الحال انّ ( المفروض الشك في تحقّق النهي ) بالنسبة الى الشبهة الحكمية كشرب التتن ، فانا لا نعلم بحرمته والنهي عنه لا تفصيلاً ولا اجمالاً ، فأين دليل الحرمة والأمر بوجوب طاعة النهي حتى يثبت وجوب اجتناب الحرام ، فيقال : بأنّه يجب اجتناب المشبته وهو التتن من باب

ص: 373


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

وحينئذٍ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها .

نعم ، يمكنُ أن يقالَ في الشبهة في طريق الحكم ، بعد ما قام الدليل على

-------------------

المقدمة لذلك الحرام ؟ .

والحاصل : انّه لا يوجد ذو المقدمة في المقام حتى يُقال بوجوب مقدمته ، بخلاف محتمل الخمرية ، فانّ هناك ذي المقدمة موجود ، وهو ما قاله الشارع من وجوب اجتناب الخمر ، فاذا شككنا في ثالث انّه خمر أو ليس بخمر ، أمكن أن يُقال : انّه يجب الاجتناب عن هذا الفرد المشكوك مقدمة .

( وحينئذٍ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة ) لشرب التتن مثلاً في الشبهة الحكمية فلا حرام حتى يجب الاجتناب عنه كما قال : ( فأين وجوب ذي المقدمة ) أي : وجوب إجتناب الحرام ؟ اذ ليس هناك حرام يجب الاجتناب عنه وأفراد محتملة التحريم ( حتى يثبت وجوبها ) أي : وجوب المقدمة بالاجتناب عن هذه الافراد المحتملة التحريم مقدمة لاجتناب الحرام .

لا يقال : يُمكن تصور المقدمة وذي المقدمة في الشبهة التحريمية أيضاً ، وذلك لانّ الشارع أراد منّا ترك كل حرام ، والعلم بترك كل حرام انّما يحصل لنا إذا تركنا مثل التتن شرباً ، والغُراب أكلاً ، فالشبهة الحكمية تكون مقدّمة للمحرّمات التي يريد الشارع منّا تركها .

لأنّه يقال : ترك كل حرام ، ليس عنواناً خاصاً في الشريعة ، وانّما المراد منّا هو ترك الخمر ، والقمار ، والرّبا ، وما أشبه ذلك ، وترك التتن ليس مقدمة لأي منها .

( نعم ، يمكن أن يقال ) بتمامية الدليل الذي أقامه الحرّ ( في الشبهة في طريق الحكم ) أي : في الشبهة الموضوعيّة ، وذلك بأن يقال ( بعدما قام الدّليل على

ص: 374

حرمة الخمر ، يثبتُ وجوبُ الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلاّ بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته .

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا ، وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلاّ بالعلم التفصيليّ او الاجمالي .

فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة احتمالاً مجرّدا عن العلم الاجماليّ لا يجب نفسا ولا مقدّمةً ،

-------------------

حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية ) سواء المعلومة منها ، أم المجهولة على تقدير وجودها ( ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام ) وهو : الاجتناب عن كل أفراد الخمر الواقعية ( الاّ بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته ) وخمريته ، وبهذا يكون الترك لمحتمل الخمرية مقدمة لترك كلّ أفراد الخمر .

( لكنّك عرفت الجواب عنه سابقاً ) في المسألة الرابعة بما حاصله : انّ التكليف انّما ينجز بالعلم بالصغرى والكبرى معاً ، فاذا علمنا بالكبرى ولم نعلم بالصغرى لم يثبت التكليف ( و ) ذلك ل- ( أن التكليف بذي المقدمة غير محرز الاّ بالعلم التفصيليّ أو الاجماليّ ) يعني : يلزم أن نعلم أنّ هذا خمر فنجتنبه ،أو نعلم انّ الخمر بين هذين الانائين في صورة العلم الاجماليّ فنجتنب هذا وذاك .

وعليه : ( فالإجتناب عمّا يحتمل ) فيه ( الحرمة إحتمالاً مجرّداً عن العلم الاجمالي لا يجب نفساً ) لعدم العلم التفصيلي بحرمته حتى يكون الاجتناب عنه واجباً نفساً ( ولا مقدمة ) لأنه لا علم اجمالي بأنّ الخمر في هذا أو في ذاك ، لفرض انّه شبهة بدوية ، فإنّا اذا علمنا بحرمة عشرة أواني ولم نعلم بحرمة الاناء

ص: 375

واللّهُ العالم .

الثالث :

انّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا ، حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ

-------------------

الحادي عشر ، فلا علم فيه تفصيلاً ولا اجمالاً ، ولما لم يكن لا علم تفصيلي ولا اجماليّ فيه ، لم يجب الاجتناب عنه ( واللّه العالم ) .

وعلى هذا : فأدلة البرائة محكَّمة في مثل هذا الفرد المشكوك خمريته شكاً بدوياً من دون علم اجمالي ولا تفصيليّ .

التنبيه ( الثالث : ) لا ريب في رجحان الاحتياط اذ الاحتياط حسن على كلّ حال ، لكن حيث يلازم الاحتياط التام محذور اختلال النظام وغيره حاولوا الخروج من تلك المحاذير بذكر احتمالات ، فقالوا : نترك الاحتياط فيما يخل بالنظام ونأخذ بالإحتياط فيما لا يخل به ، أو نجعل ذلك بحسب الاحتمالات قوة في الظنّ وضعفاً فيه ، أو بحسب الأهمية واللاأهمية من جهة المحتمل ، أو بحسب اختلاف وجود الأمارة وعدم وجودها ، احتمالات أربعة تعرّض لها المصنّف حيث قال : ( انّه لاشك في حكم العقل والنّقل برجحان الاحتياط مطلقاً حتى فيما كان هناك أمارة على الحلّ ) من يَدٍ وسُوق وغيرهما .

مثلاً : اذا أصاب ثوب الانسان في السوق رَشحٌ من مايع يحتمل انّه بول ويحتمل انّه ليس ببول ، فانّه يشمله قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ طاهرٌ » (1) لكنه من

ص: 376


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

مغنية عن أصالة الاباحة ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام ، كما ذكره المحدّث المتقدّم ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره فلا يجوز الأمر به من الحكيم ، لمنافاته للغرض

-------------------

المستحسن الاحتياط بغسله ، وكذا لو أخذ لحماً من يد مسلم غير ملتزم ممّا يشك في انّه مذكّى أو ليس بمذكى ، فانّه من الأفضل أن يحتاط الانسان بالاجتناب عن مثل هذا اللحم مع وجود قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ حلالٌ » (1) علماً بأنّ الأمارة في الشبهات الموضوعيّة كاليد وسوق المسلمين ( مغنية عن أصالة الاباحة ) لأنك قد عرفت : انّ الأمارة دليلٌ ، والأصل أصيل حيث لا دليل ، فانّه مادامت الأمارة موجودة فلا تصل النوبة الى الاصل .

( الاّ انّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع ) أي : في جميع الموارد من الشبهة الموضوعيّة والحكمية ،الوجوبية منهما والتحريمية ( موجب لاختلال النّظام كما ذكره المحدِّث المتقدِّم ) وهو الشيخ الحرّ العامليّ رحمه اللّه ( بل يلزم أزيد ممّا ذكره ) إذا أراد الانسان الاحتياط التام لأنّه شيء لا يُطاق ( فلا يجوز الأمر به ) أي : باستحباب الاحتياط في الكلّ ( من الحكيم ) تعالى ، كما أن العقل لا يحبِّذ مثل هذا الاحتياط .

وانّما لا يأمر به الحكيم ( لمنافاته للغرض ) وهو بقاء النظام ، كما انّ العقل لا يحبِّذه لأن العقل يرى انّ وجوب حفظ النظام أهم من كلّ شيء ، من غير فرق بين النظام العام لكلّ المجتمع ، أو النظام الخاص لفرد واحد ، فانّ اختلال النظام سواء كان عاماً أو خاصاً منفورمنه شرعاً وعقلاً ، وحيث لا نتمكن من الاحتياط

ص: 377


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

والتبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتى يلزم الاختلال أيضا مشكل لأن تحديده في غاية العُسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكاتُ فضلاً عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياطُ فيها حرج

-------------------

التام فلابدّ من التبعيض في الاحتياط بأحد وجوه أربعة :

الأوّل : التبعيض بحسب الموارد بأن نقول : نحتاط حتى يلزم الاختلال للنظام ، فما قبل الاختلال حسن وما بعد الاختلال ممنوع ( و ) لكن ( التّبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال أيضاً مشكلٌ ) لا يمكن القول به ، فانّه اذا كان هناك ألف احتياط مثلاً وقلنا انّ لكل انسان أن يحتاط الى حدّ اختلال نظامه كان مشكلاً ، وانّما كان هذا مشكلاً ( لأن تحديده ) أي : استحباب الاحتياط بلزوم الاختلال ( في غاية العسر ) لأنا لا نعلم أي حدّ من الاحتياط لا يستلزم الاختلال ؟ هل هو الاحتياط الى حد مائة ، أو الى حدّ مائتين ، أو الى حدّ خمسمائة ، أو الى حدّ تسعمائة ، أو غير ذلك ؟ .

ومن المعلوم أيضاً : اختلاف الناس في مقدار ما يؤي من الاحتياط الى إختلال نظامهم ، فهل هو بهذا القدر أو بذاك القدر ؟ فلا يمكن للشارع ولا للعقل أن يجعل الاختلال ميزاناً لاستحباب الاحتياط وعدم استحبابه .

الثاني : ما أَشار اليه بقوله : ( فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ) قوةً وضعفاً وتوسطاً ( فيحتاط في المظنونات ) أي : في مظنون الحرمة دون غيره ، فالتتن - مثلاً - والغراب ، والبُصاق ، كل هذا محتمل التحريم ، لكن التتن مظنون التحريم ، والغراب مشكوك التحريم ،والبصاق موهوم التحريم ، فيحتاط في الأول دون الباقي .

( وأما المشكوكات فضلاً عن إنضمام الموهومات اليها فالاحتياط فيها حرج

ص: 378

مخلّ بالنظام .

ويدلّ على هذا العقلُ بعد ملاحظةِ حسن الاحتياط مطلقا واستلزامِ كليته الاختلال ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع ، كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق اللّه تعالى يحتاط فيه والا فلا .

-------------------

مخلّ بالنظام ) وهكذا بالنسبة الى الشبهات الموضوعيّة ، فاذا كان هناك مثلاً ثلاث أواني أحدها أبيض مظنون الخمرية ، والآخر أحمر مشكوك الخمرية ، والثالث أصفر موهم الخمرية ، فانّه يترك مظنون الخمرية دون المشكوك والموهوم .

( ويدل على هذا ) التبعيض ( : العقلُ بعد ملاحظةِ حسن الاحتياط مطلقاً ) على ما عرفت ( واستلزام كليته ) أي : كلية الاحتياط ( الاختلال ) في النظام ، مضافاً الى أن الاحتياط في مشكوك الحرمة وموهومها دون مظنونها ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن تقديم مظنون الحرمة على مشكوكها وموهومها ، غير انّه لما كان أصل الاحتياط مستحباً لا واجباً ، كان ترجيح الموهوم والمشكوك على المظنون خلاف الأفضل ، لا أن اللازم ترجيح المظنون على المشكوك والموهوم .

الثالث : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ) من حيث الأهم والمهم ( فالحرام المحتمل إذا كان من الاُمور المهمة في نظر الشارع كالدّماء والفروج ، بل مطلق حقوق النّاس ) مالاً كان أو غير مال ، فانّ حقوق الناس أهم ( بالنسبة الى حقوق اللّه تعالى يحتاط فيه ، والاّ ) بأن لم يكن بتلك الأهمية ( فلا ) يحتاط فيه .

مثلاً : لو كان هناك في صفوف الكفار المحاربين كافر يحتمل كونه ذمياً احتاط بعدم قتله ، ولو كانت هناك امرأة يحتمل كونها رضيعته احتاط بعدم الزواج منها ،

ص: 379

ويدلّ على هذا جميعُ ما ورد من التأكيد في أمر النكاح ، وأنّه شديد ، وأنّه يكون منه الولد .

منها : ما تقدّم من قوله عليه السلام : « لا تجامعوا على النكاح بالشبهة » قال عليه السلام: « فاذا بلغك انّ امرأة أرضعتك إلى أن قال : إنّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » .

-------------------

ولو كان هناك ماء ظاهر في انّه مباح لكن يحتمل كونه مال الناس إحتاط في عدم التصرف فيه ، فانّه يحتاط في هذه الاُمور الثلاثة ويترك الاحتياط فيما لو احتمل أن عليه صلاة أو صوم أو حج حيث انّ هذه الثلاثة الأخيرة من حقوق اللّه سبحانه وتعالى .

وعليه : فاذا دار الأمر بين الاحتياط في حقوق اللّه أو في حقوق الناس ، قدّم الاحتياط في حقوق الناس ، وذلك لأن حق الناس حقان : حق الناس وحق اللّه ، بينما حق اللّه شيء واحد وهو حق اللّه فقط .

( ويدلّ على هذا ) التبعيض بحسب المحتملات من حيث الأهمية وعدمها ( جميع ما ورد من التأكيدات في ) الدّماء ، والأموال ،وكذا التأكيد في ( أمر النكاح ، وانّه شديد ، وانه يكون منه الولد ) والذي ( منها ) أي : من هذه الروايات الواردة في التشديد في أمر النكاح ( ما تقدّم من قوله عليه السلام : « لا تُجامعُوا على النكاح بالشبهة » (1) ، قال عليه السلام : فاذا بلغكَ ) بطريق غير معتبر ( انّ امرأة أرضعتك الى أن قال ) عليه السلام : ( :انّ الوقوفَ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام فِي الهَلكةِ ).

هذا، وإذا تعارض الأمر بين الاحتياط في الدِّماء والأموال والفروج ، قدَّم الاحتياط في

ص: 380


1- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

وقد تُعارَضُ هذه بما دلّ على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدّعي حرمة المعقود مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقةً ، وغير ذلك .

-------------------

الدِّماء عليهما ، واذا تعارض بين الفروج والأموال قدّم الاحتياط في الفروج على الأموال ، أ ما التعارض في الدّماء بين مثل قطع اليد وبين الزّنا ، فهل يقدّم الاحتياط في هذا ، أو وفي ذاك ، أو يتخير ؟ احتمالات ، والبحث فيها مربوط بالفقه .

( وقد تُعارَضُ هذه ) الروايات الدالّة على حسن الاحتياط في النكاح ( بما دل على عدم وجوب السؤال ) من المرأة التي يُراد الزواج منها بأنّهامتزوجة أو ليست متزوجة ، أو ما أشبه ذلك ، بل ( والتّوبيخ عليه ) أي على السؤل من المرأة عند نكاحها ( وعدم قبول قول من يدعي حرمة المعقودة ) فانّه لا يقبل قوله ( مطلقاً ، أو ) لا يقبل قوله ( بشرط عدم كونه ) أي : المدعي ( ثقة ) فانّ بعض الأخبار تقول : بانّه لا يقبل قول من يدَّعي حرمة المعقودة إطلاقاً ، وبعض الأخبار تقول بانّه لا يقبل قول من يدّعي حرمة المعقودة إذا كان المدعي ثقة ( وغير ذلك ) ممّا يدل على عدم الاحتياط في أمر النكاح ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين : طائفة تأمر بالإحتياط وطائفة تأمر بعدم السؤل ، مع وضوح انّ عدم السؤل خلاف الاحتياط ؟ .

واليك جملةٌ من الروايات الواردة في الاحتياط في باب النكاح : « فعن شُعيب الحَداد قال : قلت لأبي عبدِ اللّه عليه السلام : رَجلٌ من مَواليكَ يُقرئُكَ السّلام وقد أرادَ أن يَتَزوج إمراة وقد وافقَته وأعجَبه بعض شأنِها ، وقد كانَ لهَا زوجٌ فطلَّقها على غَير السُّنَّة ، وقد كره أن يُقدم على تزويجها حتى يستأمُركَ فتكون أنتَ تأمره ؟ فقال أبو عبداللّه عليه السلام : هُو الفَرج وأمرُ الفَرج شديد ومنه يكونُ الوَلد ونَحن نحتاطُ فيهِ فلا يَتَزَوّجَها » (1) ، ولا يخفى انّ هذه الرواية بالنسبة الى كون الطلاق واقعاً

ص: 381


1- - الكافي فروع: ج5 ص423 ح2 ، تهذيب الاحكام: ج7 ص470 ب36 ح93 ، الاستبصار: ج3 = = ص293 ب170 ح11 ، وسائل الشيعة : ج20 ص258 ب157 ح25572 .

...

-------------------

من الزوج العامي يكون على سبيل الكراهة ، وأما اذا كان هذا الطلاق من الزوج الامامي ، فالتزويج بمثل هذه المرأة محرّم على ما ذكر تفصيله في الفقه .

« وعن مَسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليهم السلام : انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : لا تُجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة ، يقول : إذا بَلَغَكَ أنت قد رضعت من لبنها وانّها لك محرم وما أشبه ذلك ،فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (1) ، « وعن العَلاء بن سيابة قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يُزوجها من رجل ؟ - الى أن قال - : فقال عليه السلام : انّ النكاح أَحرى وأَحرى ان يحتاط فيه وهو فرج ومنه يكون الولد » (2) الى غير ذلك .

أما روايات النهي عن السؤل عند النكاح ، فمثل ما روي عن الصادق عليه السلام « قلت : اني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي انّ لها زوجاً ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً ، قال : ولم فتشت ؟ » (3) .

وفي رواية اُخرى عنه عليه السلام قال : « قيلَ لَهُ : انّ فلاناً تزوجَ إمراةً متعة فقيلَ لَهُ : انّ

ص: 382


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص215 ب22 ح5 بالمعنى ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص84 ب2 ح3383 ، وسائل الشيعة : ج2 ص259 ب57 ح25574 و ج19 ص163 ب2 ح24364 .
3- - وسائل الشيعة : ج21 ص31 ب10 ح26444 .

وفيه : أنّ مساقَها التسهيلُ و

-------------------

لهَا زوجاً فسأَلَها ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : وَلِمَ سَأَلَها ؟ » (1) .

وفي رواية الأشعري قال : « قُلتُ للرِّضَا عليه السلام : الرَجلُ يتزوج بالمرأة فيقعُ فِي قَلبِهِ أنّ لها زَوجاً ، فقال : ومَا عَلَيهِ ، أَرأيتَ لَو سأَلها البيّنة كان يَجدُ مَن يَشهدُ أن لَيسَ لهَا زَوجٌ ؟ » (2) .

« وعن بن حَنظلة قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : انّي تَزوجتُ امرأةً فسأَلتُ عَنها فقيلَ فِيها ، فقالَ : أَنتَ لم سأَلتَ أيضاً لَيس عَلَيكُم التَفتيش ؟ » (3) .

« وعن سماعة قال : سأَلته عن رَجلٍ تزوجَ جاريةً أو تَمتَعَ بها فحدَّثَه رَجلٌ ثِقةٌ أَو غَير الثقة فقالَ : انّ هذِهِ إمرأتي وَلَيست لي بَيِّنة ، فقال : إن كان ثِقة فلا يَقربها ، وإن كان غَيرُ ثِقة فلا يَقبل منه » (4) .

( وفيه : ) انّا نقول في ردّ توهم التعارض بين الطائفتين : ( ان مساقها ) أي : مساق الروايات الدالة على عدم السؤل ، والتوبيخ عليه ، هو ( التسهيل ) فانّ الأخبار المانعة عن الاحتياط انّما تمنع عن الاحتياط لأجل التسهيل على العباد ( و ) التسهيل حسنٌ في نفسه . قال سبحانه :« يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (5) وقال سبحانه : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (6) فالروايات إذن

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص253 ب21 ح18 ، وسائل الشيعة : ج21 ص31 ب10 ح26445 .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص253 ب21 ح19 ، وسائل الشيعة : ج21 ص32 ب10 ح26446 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .
4- - تهذيب الاحكام : ج7 ص461 ب36 ح53 ، وسائل الشيعة : ج20 ص300 ب23 ح25672 .
5- - سورة البقرة : الآية 185 .
6- - سورة الحج : الآية 78 .

عدمُ وجوب الاحتياط فلا ينافي الاستحبابَ ، ويحتمل التبعيض بين مورد الأمارة على الاباحة وموارد لا يوجد إلاّ أصالة الاباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأوّل ، لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعيّة على الاباحة ، فانّ الأمارات في

-------------------

تدلّ على ( عدم وجوب الاحتياط فلا ينافي الاستحباب ) .

ويُمكن أن يقال : انّ عدم السؤل من جهة انّه خلاف حمل فعل المسلم على الصحيح ، وحمله على الصحيح أولى من الاحتياط ، لأنّ الحمل يوجب قوة ثقة الناس بعضهم ببعض وهي تفيد قوة الاجتماع الذي هو مبعث كل خير ، ولو حسن السؤل عن المرأة لحسن السؤل عن الرجل فيما اذا أراد نكاح امرأة دواماً بانّه متزوج أربعاً أم لا ؟ ولحَسُن السؤل عن البايع والمشتري بانّهما غصباً المثمن والثمن أم لا ؟ ولحَسُن السؤل عن الراهن والمرتهن عن مثل ذلك ، والى غيرها وغيرها ممّا يوجب هدم الاجماع .

الرابع : ما ذكره بقوله : ( ويحتمل التبعيض بين موارد ) توجد فيها ( الأمارة على الاباحة ) من يد ، وسوق ، وأرض مسلم ، ونحو ذلك ( وموارد لا يوجد ) فيها ( الاّ أصالة الاباحة ) وحيث انّ الأصل أضعف من الأمارة ( فيحمل ما ورد من ) استحباب ( الاجتناب عن الشبهات ) الموضوعيّة ( و ) كذا ما ورد من ( الوقوف عند الشبهات على الثاني ) أي : في مورد يوجد فيه أصالة الاباحة ( دون الأوّل ) أي : دون الشبهات التي فيها أمارة الحلّ .

وانّما يحمل على ذلك ( لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشّرعية على الاباحة ، فانّ ) الشارع حيث جعل الأمارة على الحلّ حجة ، لم يَبق معها مجال للعمل بالأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط ، اذ ( الأمارات في

ص: 384

الموضوعات بمنزلة الأدلّة في الأحكام مزيلة للشبهة ، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحيّر في حكمه ، ولا بيانَ من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه ، دونَ مطلق ما فيه الاحتمال ،

-------------------

الموضوعات بمنزلة الأدلة في الأحكام مزيلة للشبهة ) فكما انّ الأدلة في الأحكام من ظاهر الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل تزيل الشبهة بالنسبة الى الأحكام ، كذلك الأمارات القائمة على الموضوعات كاليد ، والسوق ، والأرض ، والبينة ، وما أشبه ذلك تزيل الشبهة بالنسبة الى الموضوعات .

( خصوصاً إذا كان المراد من الشبهة : ما يتحيّر في حكمه ، ولا بيان من الشارع لا عموماً ولا خصوصاً بالنسبة اليه ) لفرض انّه لاتحيّر في الحكم حينئذٍ بعد وجود الأمارة التي هي بيان شرعي ، فاذا قال الشارع : السوق حجة كان ذلك بياناً فلا حاجة الى الاحتياط ، لأن الاحتياط في حال التحيّر وبعد أمارية السوق لا تحيّر.

هذا بالنسبة الى الأمارات التي بيّنها الشارع بَياناً عاماً كالسوق ، واليد ، ونحوهما ، وامّا بالنسبة الى الأمارات التي بينّها الشارع بيانا خاصا فلا يوجد الاّ في عصر الحضور ، كما إذا ورد بطريق زُرارة انّ يُونس بن عبدالرّحمان ثقة ، فانّه لا مجال للاحتياط بترك خبر يونس .

هذا لو كان المُراد بالشبهة : مايتحيّر فيها ( دونَ مطلق ما فيه الاحتمال ) وقوله :

«دون» عطف على قوله : « ما يتحيّر في حكمه » فانّ حمل ما ورد من استحباب الاحتياط في الشبهات على مورد لا يوجد فيه الاّ أصالة الاباحة يكون آكد فيما إذا قلنا : بأنّ الشبهة في الروايات يُراد بها : ما يتحيّر الانسان فيها ، لا ما اذا كان المراد بها : ما يحتمل خلافه ، فانّه لو كان المراد بالشبهة : ما يحتمل خلافه ، فلا آكديّة في إستحباب الاحتياط في مورد الاصل لوجود احتمال الخلاف في مورد الأمارة

ص: 385

وهذا بخلاف أصالة الاباحة ، فانّها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها .

هذا ، ولكن أدلّة الاحتياط لا ينحصر فيما ذكر فيه لفظ الشبهة ، بل العقل مستقلّ بحسن الاحتياط مطلقا .

-------------------

أيضا ، ولذلك قلنا : خصوصاً إذا كان المراد من الشبهة : ما يتحيّر في حكمه ، فانّه على فرض التحيّر يكون الاحتياط في مورد الاصل أولى من الاحتياط في مورد الأمارة ، لأن مورد الأصل فيه تحيّر بخلاف مورد الأمارة حيث لا تحيّر فيه .

ولا يخفى : انّ المراد من التحيّر وعدم التحيّر : النسبيّ منهما ، وإلاّ ففي كلّ من الأصل والأمارة تحيّر في الحكم الواقعي وانّ لم يكن تحير بالنسبة الى الحكم الظاهري .

( و ) عليه : فان ( هذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا إحتياط في مورد الأمارة ، انّما هو لأنّ الأمارة تزيل الشبهة ( بخلاف أصالة الاباحة فانّها حكم ) ظاهري ( في مورد الشبهة لأنّ الشارع يقول : إذا شككت فأجرِ أصل الحل ، أو أصل الطهارة ، أو ما أشبه ، فهي ( لا ) تكون ( مزيلة لها ) أي : للشبهة ، بخلاف الأمارة ، اذ الأمارة تقول : الواقع هكذا فلا شبهة لك ،بينما الأصل يقول : إذا كان لك شك وشبهة في الواقع فابن على العمل بهذا الأصل ، ولهذا يستحسن العمل بالإحتياط في مورد الأصل ولا يستحسن في مورد الأمارة فيما إذا لم يتمكن الانسان من العمل بالاحتياط فيهما ودار الأمر بين ترك الاحتياط في مورد الاصل أو ترك الاحتياط في مورد الأمارة .

( هذا ) هو وجه التفصيل بين الاحتياط في مورد الأصل والاحتياط في مورد الأمارة ( ولكن أدلة الاحتياط لا ينحصر فيما ذكر فيه لفظ الشبهة ) حتى يقال : مورد الأصل فيه شبهة ، ومورد الأمارة ليس فيه شبهة ( بل العقل مستقل بحسن الاحتياط مطلقاً ) وهو يشمل الموضوع الذي عليه الأصل أو الأمارة .

ص: 386

فالأولى الحكمُ برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه الحرام ، وما ذكر من أنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه .

الرابع :

إباحةُ ما يحتمل الحرمة

-------------------

وعليه : ( فالأولى ) من هذه الاحتمالات الأربعة التي ذكرناها في كيفية تبعيض الاحتياط الاستحبابي في الشبهة الموضوعيّة : التبعيض الأول ، وهو : ( الحكم برجحان الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام ) من الوسواس أو اختلال النظام ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) إن قلت : قد ذكرتُم سابقاً انّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فكيف رجعتُم الى تحديده بهذه الصورة ؟ .

قلت : ( ما ذكر من انّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسرٌ ، فهو انّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حُسنه ) لأنّ العسر انّما يرفع الوجوب لا الاستحباب ، فانّا ان ذكرنا أنّه يجب الاحتياط الى الحد المذكور كان عسراً ، والعُسر رافع للحكم الالزامي ، وأما إذا قلنا : انّه يستحب الاحتياط الى حدّ العسر ، فانّه لا عُسر فيه ، ليرفع العُسر الاستحباب ، لأن الاستحباب ليس حكماً إلزامياً اذ التكليف الاستحبابي أمرٌ سهلٌ جعلَه الشارع بيد المكلّف ، فلا وجه لرفعه ، بخلاف التكليف الوجوبي فانّه حَرجٌ منفيّ بالدليل .

التنبيه ( الرّابع : ) في عدم لزوم الفحص لاجراء البرائة في الشبهة الموضوعيّة مع لزومه في اجرائها في الشبهة الحكمية ، كما قال : ( اباحةُ ما يحتمل الحرمة ) في الشبهات الموضوعيّة ، كما اذا لم نعلم هل هذا المايع خمر أو لا ؟ أو هذا الجلد

ص: 387

غيرُ مختصّة بالعاجز عن الاستعلام ، بل يَشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع . لعموم أدلّته من العقل والنقل .

وقوله عليه السلام ، في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : « والأشياءُ كلُّها على هذا حتّى يستبينَ لك غيرُه او تَقُومَ بِهِ البيّنةُ » ،

-------------------

صناعي أو من حيوان غير مذكى ؟ وما أشبه ذلك ( غير مختصة بالعاجز عن الاستعلام ، بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع ) أيضاً فلا يلزم على الانسان أن يفحص لتحصيل العلم بأنّ هذا خمر أو لا ؟ أو هذا مصنوع أو من الحيوان ؟ .

وانّما يشمل القادر على تحصيل العلم أيضاً ( لعموم أَدلّته ) أي : أدلة الاباحة ( من العقل ) الذي يقول بقبح عقاب الجاهل بالموضوع مطلقاً ، لأنّه من العقاب بلا بيان ( والنّقل ) مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ فِيه حلالٌ وحرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعرفَ الحَرام منهُ بعَينِه فَتَدعه » (1) ( وقوله عليه السلام ،في ذيل رواية مَسعدة بن صدقة : والأشياءُ كلّها على هذا ) أي : على الحليّة والجواز ( حَتَّى يَستبينَ لَكَ غَيرُه ) أي : غير الحلّ والجواز من الحرمة والمنع ( أو تَقُومَ بِهِ ) أي : بالحرمة والمنع (البيّنةُ)(2).

أقول : من الممكن أن يُراد بالاستبانة : العلم كما في قوله سبحانه : « حَتَّى يَتَبيَّن لَكم الخَيطُ الأبيَضُ منَ الخَيطِ الأسوَدِ» (3) ولعل الاتيان به من باب الاستفعال لرعاية

ص: 388


1- - من لا يحضره الفقيه: ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، المحاسن : ص495 ح596 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .
3- - سورة البقرة : الآية 187 .

فانّ ظاهره حصول الاستبانة وقيام البيّنة لا بالتحصيل ، وقوله « هو لك حلال حتّى يجيئك شاهدان » ، لكن هذا وأشباهه ، مثل قوله عليه السلام في اللحم المشترى من السوق « كُل وَلا تَسأل » ، وقوله عليه السلام : « ليس عليكم المسألةُ ، إنّ الخوارجَ ضَيَّقُوا ،

-------------------

نكتة أدبية فيه ، وهي : انّ الشيء بنفسه يطلب الظهور ، كناية عن استعداده لذلك من غير احتياج الى الدقة العقلية كما أن المراد بالبينّة : امامعناها الشرعي أي : الشهود أو معناها اللغوي أي : الحجّة .

وعليه : ( فانّ ظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث ، انّ الأشياء حلال الى زمان ( حصول الاستبانة وقيام البينة ) يعني : أن يحصل البيان بنفسه وكذلك الشهود ولو على سبيل الاتفاق ( لا بالتحصيل ) أي : لا يجب تحصيلهما بالفحص وما أشبه .

( وقوله ) عليه السلام في السؤل عن أكل الجُبن : ( « هوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى يَجيئَك شاهدان » ) (1) على سبيل الاتفاق يشهدان لك : بأنّ فيه الميتة ، ممّا يكون معناه : عدم لزوم الفحص والاستعلام عن حرمته ( لكن هذا وأشباهه ) من الرّوايات (مثل قوله عليه السلام في اللحم المشترى من السوق : « كُل ولا تَسأَل » (2) ، وقوله عليه السلام : «ليسَ عليكُم المسألةُ انّ الخوارجَ ضَيَّقُوا » (3) ) أي : على أنفسهم بالفحص والاجتناب

ص: 389


1- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
2- - الاستبصار : ج4 ص75 ب48 ح1 ، قرب الاسناد : ص47 ، وسائل الشيعة : ج24 ص70 ب29 ح30023 بالمعنى .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، قرب = = الاسناد : ص171 ، وسائل الشيعة : ج4 ص456 ب55 ح5706 .

وقوله عليه السلام في حكاية المنقطعة التي تبيّن لها زوج : «لم سألتَ » واردةٌ في موارد وجود الأمارة الشرعيّة على الحلّيّة ، فلا تشمل ما نحن فيه ،

-------------------

عمّا أحلّه اللّه ، كما قال سبحانه : « فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم » (1) ( وقوله عليه السلام في حكاية المنقطعة التي تَبَيَّنَ ) انّ ( لها زوج ) بعد فحص الرجل عن انّها متزوجة أم لا ، قال عليه السلام ( « لم سألت » ؟ ) (2) فانّ هذه كلها ( واردة في موارد وجود الأمارة الشرعّية على الحليّة ) مثل : السوق ، وأصالة الصحة في عمل المسلم ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فلا تشمل ) هذه الأخبار ( ما نحن فيه ) وهو ما لم تكن فيه أمارة شرعية على الحل مع القدرة على الاستعلام ، بل لا يبعد لزوم الاستعلام في غير ما جرت العادة فيه على عدم الاستعلام ممّا يكشف عن وجود سيرة أو مثلها عليه .

مثلاً : الشاب الذي يتعارف احتلامه في كلّ اسبوع مرة ، هل له انّ يصلي بدون استعلام ويصوم شهر رمضان بدونه ؟ وكذا بالنسبة الى المرأة التي تحيض في كل شهر مرة ؟ وبالنسبة الى تاجر يحتمل انّ له أرباحاً ممّا يجب عليه الخمس ،أو تجب عليه الزكاة ،أو الحج ، أو يشك انّ لزيد عليه عشرون أو ثلاثون درهماً وهو يتمكن من الاستعلام ؟ أو يشك أن القنّينة التي أخذها ممّن يبيع الخمر وسائر الشرابت هي خمر أو شربت ؟ الى غير ذلك .

وإنّما قلنا : لا يبعد لزوم الاستعلام لان الأدلة التي ذكروها في باب الفحص في

ص: 390


1- - سورة النساء : الآية 160 .
2- - وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

إلاّ أنّ المسألة غير خلافيّة مع كفاية الاطلاقات .

المطلب الثاني

اشارة

في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه أيضا مسائل :

-------------------

الأحكام بعينها آتية في الموضوعات ، فانّ الفحص الذي هو الطريق العقلائي في باب اطاعة المولى كما هو جارٍ في الأحكام جارٍ في الموضوعات أيضاً .

هذا ( الاّ انّ المسألة ) أي : اجراء البرائة في الشبهات الموضوعية مُجمع عليها ، فهي أولاً : ( غير خلافيّة ) وثانياً : ( مع كفاية الاطلاقات ) دليلاً عليها ، مثل قوله عليه السلام : «كلّ شيء لَكَ حَلال» ، وقوله عليه السلام : «والأشياءُ كلّها على ذلكَ» (1) .

ثم لا يخفى : انّ المصنِّف قد ذكر في ابتداء هذا المبحث :انّه سيبيّن أحكام الشك في ضمن مطالب :

الأول : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية .

الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم من الأحكام الثلاثة الاُخر .

الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم .

المطلب الثاني

وحيث انتهى من المطلب الأوّل شرع في الثاني فقال : ( المطلب الثاني في دوران حكم الفعل بين الوحوب وغير الحرمة من الأحكام ) الثلاثة الباقية : من الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة ( وفيه ايضاً مسائل ) اربع :

ص: 391


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب23 ح12 .
الاولى : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّيّ من جهة عدم النصّ المعتبر

كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، وكالاستهلال في رمضان وغير ذلك ، والمعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط .

-------------------

( الاُولى : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّي من جهة عدم النّص المعتبر ) عليه وذلك ( كما اذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ) أو كانت هناك سيرة محتملة ، أو مناط غير مقطوع به ، أو ما أشبه ذلك ممّا ليس بحجة شرعية الاّ انّها توجب الشبهة (كالدّعاء عند رؤة الهلال ، وكالاستهلال في رمضان وغير ذلك) ممّا ذكر جمع : بأنها واجبات ، وانكر آخرون وجوبها ، فصارت منشأ شبهة للفقيه .

( والمعروف من الأخباريين هنا : موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ) .

فالشبهة التحريمية إنّما يحتاط فيها عند الأخباريين ، وأما الشبهة الوجوبية فلا وجوب للاحتياط فيها ، لان كلّ الفقهاء من الأخباريين والاُصوليين يجرون فيها البرائة ، ويدل على ذلك مقالاتهم التي سنذكر جملة

ص: 392

قال المحدّث الحرّ العامليّ في باب القضاء من الوسائل « إنّهُ لا خلافَ في نفي الوجوب عند الشكّ إلاّ إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة معيّنة وحصل الشكّ بين الفردين ، كالقصر والاتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد للصيد او اثنين ونحو ذلك ، فانّه يجب الجمع بين العبادتين ، لتحريم تركهما معا للنصّ وتحريم الجزم بوجوب أحدهما لا بعينه

-------------------

منها : ( قال المحدّث الحرّ العامليّ في باب القضاء ) أي : كتاب القضاء والشهادات ( من الوسائل : انّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك ) في وجوب فعل ( الاّ اذا ) كان الشك في المكلّف به بأن ( علمنا اشتغال الذّمة بعبادة معينّة وحصل الشك بين الفردين ) هل هذا واجب أو ذاك ؟ ( كالقصر والاتمام ) في بعض موارد السفر ( والظهر والجمعة ) في يوم الجمعة وهذان المثالان من المتباينين ( وجزاء واحد للصّيد أو اثنين ) فيما إذا اصطاد اثنان صيداً واحداً ، فهل الواجب على كلّ واحد منهما نصف الجزاء ، أو جزاء كامل ؟ ( ونحو ذلك ) كوجوب جلسة الاستراحة وعدمه في الصلاة ؟ وهذان المثالان من الأقل والأكثر الاستقلالي في الأوّل والارتباطي في الثاني .

وعليه : ( فانّه يجب الجمع بين العبادتين ) في مثال المتباينين ، والاتيان بالأكثر في مثال الأقل والاكثر، وذلك لانّه من الشك في المكلّف به لا الشك في التكليف ، فانا إنّما نقول بجريان البرائة في الشبهة الوجوبية اذا كان الشك في التكليف .

وانّما قلنا بوجوب الجمع بين العبادتين ( لتحريم تركهما معاً ، للنص ) المُجمل بوجوب احدهما من جهة ( وتحريم الجزم بوجوب احدهما لا بعينه )

ص: 393

عملاً بأحاديث الاحتياط » ، انتهى موضع الحاجة .

وقال المحدّث البحرانيّ في مقدّمات كتابه ، بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين : « أحدهما : أنّها عبارة عن نفي وجوب فعل وجوديّ ، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم دليل على الوجوب .

وهذا القسم لا خلاف في صحّة الاستدلال به ، إذ لم يقل أحد إنّ الأصل الوجوب » ، وقال في محكيّ كتابه المسمّى بالدّرر النجفيّة :

-------------------

من جهة اُخرى فانّه يحرم الحكم بوجوب أحدهما المخيّر ، فنجمع بين العبادتين ( عملاً بأحاديث الاحتياط ، انتهى موضع الحاجة ) من كلام الحرّ في الوسائل .

( وقال المحدّث البحراني ) الشيخ يوسف رحمه اللّه ( في مقدّمات كتابه ) الحدائق ( بعد تقسيم أصل البرائة الى قسمين ) قال : ( أحدهما : انها ) أي : البرائة ( عبارة عن نفي وجوب فعل وجودي بمعنى : انّ الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب ) أي : بأن كانت الشبهة حكمية وجوبية في مقابل القسم الثاني الذي ذكره : بأنّها عبارة عن نفي وجوب الترك بمعنى أصالة عدم الحرمة في الشبهة الحكمية التحريمية .

ثمّ قال : ( وهذا القسم ) الأوّل من قسمي البرائة ( لا خلاف في صحة الاستدلال به ) في الشبهة الوجوبية عند الجميع ( اذ لم يقل أحد انّ الأصل الوجوب ) (1) فالاجماع قائم في هذا المقام على البرائة في الشبهة الوجوبية ، بينما القسم الثاني وهو البرائة من الحرمة محل خلاف بين الأخباريين والاُصوليين .

( وقال ) المحدِّث البحراني أيضاً ( في محكي كتابه المسمى بالدّرر النجفيّة :

ص: 394


1- - الحدائق الناضرة : ج 1 ص 43 .

« إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله لاستلزام التكليف بدون دليل الحرجَ والتكليفَ بما لا يطاق » ، انتهى .

لكنّه قدس سره ، في مسألة وجوب الاحتياط

-------------------

انّ كان الحكم المشكوك دليله ) يعني : نشك في أنّ له دليلاً أو ليس له دليل ، انّ كان ( هو الوجوب ) أي : بأن كانت الشبهة حكمية وجوبية ، لا تحريمية (فلا خلاف ولا اشكال في انتفائه) أي : في انتفاء الوجوب بالأصل ، لأن الأصل عدم الوجوب اذ الوجوب أمر حادث لم نعلم انّه حدث أم لا فنحكم بعدمه طبق الأصل ( حتى يظهر دليله ) .

وانّما نحكم بعدمه طبق الأصل ( لاستلزام التكليف بدون الدّليل : الحرج ) اذ لو أردنا أن نحتاط في الشبهات الوجوبية لزمنا احتياطات كثيرة حيث نحتمل وجوب اُمور عديدة مثل :« التصدق » ، و« حق الحصاد » ، و« زيارة الإمام الحسين عليه السلام » و « الأمر بالمعروف المندوب » و« الاتيان بكل مستحب ولو مرة في العمر » ، الى غير ذلك من محتمل الوجوب في مختلف أبواب الفقه لأجل الأوامر الواردة فيها ممّا ظاهرها الوجوب ، ولم يستظهر العلماء منها الوجوب .

ومن الواضح : انّ الاحتياط في كلّ ذلك يوجب أشد انواع الحرج ( والتكليف بما لا يطاق ) (1) امتثاله ، لأنه كيف يمكن امتثال أمر لم يعلم بوجود ذلك الأمر ( انتهى ) كلام المحدّث البحراني المحكي عنه .

( لكنه قدس سره في مسألة وجوب الاحتياط ) أفتى بالاحتياط في الشبهة الوجوبية

ص: 395


1- - الدّرر النجفيّة : ص 25 .

قال بعد القطع برجحان الاحتياط : « إنّ منه ما يكون واجبا ومنه ما يكون مستحبّا ، فالأوّل كما إذا تردّد المكلّف في الحكم ، إمّا لتعارض الأدلّة ، او لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، او لعدم الدليل بالكلّيّة ، بناءا على نفي البراءة الأصليّة ، او لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكلّيّات المعلومة

-------------------

فانّه ( قال بعد القطع برجحان الاحتياط ) سواء كان واجباً أو مُستحباً ( : ان منه ما يكون واجباً ، ومنه ما يكون مستحباً ، فالأوّل : كما إذا تردد المكلّف في الحكم ) سواء كان حكماً وجوبياً أو تحريمياً .

وأما التردد فهو ( إمّا لتعارض الأدلّة ) بأن يدل أحد الدليلين على الوجوب والدليل الآخر على الحرمة كما حصل مثل : هذا الاختلاف في صلاة الجمعة في عصر الغيبة .

( أو لتشابهها ) أي : تشابه الأدلّة ممّا يسبب اجمالها ( وعدم وضوح دلالتها ) كما اذا كانت مرددة بين المتباينين .

( أو لعدم الدّليل بالكلّية ) كما في صورة فقد النص المعتبر - مثلاً - على الدعاء عند رؤة الهلال في الشبهة الوجوبية ، وعلى شرب التتن في الشبهة التحريمية .

ولا يخفى : انّ هذا الكلام من المحدّث البحراني دال على انّه يلزم الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، وذلك ( بناءاً على نفي البرائة الأصليّة ) أي : اذا لم نقل بأن مثل هذه الصورة الثالثة وهو : فقد الدليل ، مورد للبرائة ، فانّ الانسان كان غير مكلّف قبل الشرع ، فاذا جاء الشرع لم يعلم هل انّه كلّف بشيء أو لم يكلف ، فيستصحب عدم التكليف .

( أو لكون ذلك الفرد مشكوكاً في اندراجه تحت بعض الكليّات المعلومة

ص: 396

الحكم أو نحو ذلك .

-------------------

الحكم ) بأن لم يكن الأمر من المتباينين بل من الأقل والأكثر ، كالمثال السابق الذي ذكرناه : بأنا نعلم بأن الخمر شامل للمسكر قطعاً ، لكن لا نعلم هل انّه يشمل الذي فقد اسكاره أم لا ؟ فانّ هذا الفرد - وهو الخمر الذي لا يسكر - مشكوك في اندراجه تحت حرمة الخمر .

( أو نحو ذلك ) كما اذا كان الحكم على فرد مع احتمال انّ ملاكه آت في الكلي الشامل لذلك الفرد وغيره ، كما اذا قال : أكرم علماء الفقه ، واحتملنا أن ملاكه آت في علماء الكلام .

انتهى الجزء السابع

ويليه الجزء الثامن

في تتمة أقوال الاخباريين

بالبرائة في الشبهة الوجوبية

ونحمده على آلائه ونعمائه

ص: 397

ص: 398

المحتويات

تتمّة استدلال الاُصوليين بالسنّة... 5

الثالث : الاجماع ... 52

الرابع : العقل ... 68

أدلّة اخرى للبرائة ... 81

أدلّة الإخباريين ... 95

الأوّل : الكتاب ... 95

الثاني : السنّة ... 101

الثالث : العقل ... 203

الوجه الأوّل : قاعدة الاشتغال ... 204

الوجه الثاني : القاعدة العقليّة ... 218

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 225

التنبيه الثاني : ... 247

التنبيه الثالث : ... 251

التنبيه الرابع : ... 263

التنبيه الخامس : ... 276

التنبيه السادس : ... 287

ص: 399

المسألة الثانية : اجمال النص ... 293

المسألة الثالثة : تعارض النصّين ... 297

المسألة الرابعة : الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ... 308

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 338

التنبيه الثاني ... 350

التنبيه الثالث : ... 376

التنبيه الرابع : ... 387

المطلب الثاني : دوران الفعل بين الوجوب وغير الحرمة ... 391

المسألة الاولى : عدم النص ... 392

المحتويات ... 398

ص: 400

المجلد 8

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

والثاني : كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعيّ احتمالاً مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعيّ إباحة شيء وحلّيّته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنّه ممّا حرّمه الشارع .

ومنه جوائز الجائر ، ونكاح امرأة بلغك أنّها أرضعت معك الرضاع المحرّم ولم يثبت شرعا .

-------------------

( والثاني ) : أي : مورد الاحتياط المستحب فهو ( كما اذا حصل الشك ) في الحكم ( باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدّليل الشّرعي ) بأن كان هناك دليل شرعيّ على الحليّة ونحتمل وجود دليل آخر على الحرمة ، وانّما نحتمل هذا ( احتمالاً مستنداً الى بعض الأسباب المجوّزة ) للاحتمال عقلاً ( كما اذا كان مقتضى الدّليل الشرعيّ ) من مثل : « يد المسلم » ، « وسوق المسلمين » ، ونحوهما ( اباحة شيء وحليته ، لكن يحتمل قريباً ) نقيضه ( بسبب بعض تلك الأسباب ) المجوزة ( انّه ممّا حرّمه الشارع ) علينا .

( ومنه : جوائز الجائر ) فانّ مقتضى يده : الملكية سواء كان مسلماً أو كافراً ، اذ يد الكافر أيضاً أمارة على ملكيته ، ولذا يجوز لنا الاشتراء من الكفار اذا لم نعلم ان يدهم يد غصب ونحوه ، فيحل للأخذ ما أعطاه الجائر جائزة أو هبة أو ما أشبه ذلك ، ولكن من الواضح : انّه يحتمل فيه عقلاً كونه ممّا أخذه من الناس غصباً ،أو رشوة ، أو نهباً ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا يعتاده الجائرون .

( ونكاح امرأة بلغك انّها أرضعت معك الرّضاع المحرّم ) بان كانت اختك من الرضاعة رضاعة جامعة لشرائط التحريم ( و ) لكن ( لم يثبت شرعاً ) انّها اختك من الرضاعة ، وذلك لعدم شهادة عدلين أو ماأشبه ذلك ، ممّا يوجب الاثبات

ص: 5

ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه .

أمّا إذا لم يحصل ما يوجب الشكّ والرّيبة ، فانّه يعمل على ماظهر له من الأدلّة وإن احتمل النقيض في الواقع ولا يستحبّ له الاحتياط ،

-------------------

الشرعيّ ، فانّ من الواضح : انّه يحل نكاحها بمقتضى أصالة عدم الرضاع المحرّم ، لأنها كانت محللة ونشك في رضاعها الرضاع المحرّم ، فالأصل عدم رضاعها كذلك وانّ احتملنا الحرمة من جهة الرضاع الكامل ، فانّ الشارع لم يوجب لنا الاحتياط في أمثال هذه الشبهات الموضوعية .

وكهذين المثالين : ما لو اشترينا اللحم من مسلم ، أو من سوق المسلمين ، أو وجدناه في أرضهم حيث يحكم بحليته وانّ احتملنا حرمته بسبب عدم جريان الشرائط في تذكيته ، أ و احتملنا انّه لحم غير محلل كلحم الأرنب ونحوه .

( ومنه ) أي : من الثاني الذي يستحب الاحتياط فيه ( أيضاً : الدليل المرجوح في نظر الفقيه ) كما اذا دلّ خبر صحيح على حلية شيء ، وخبر آخر ضعيف بنظر الفقيه على حرمته ، فانّه يجوز له الافتاء والعمل طبق الخبر الأوّل الدال على الحلية وانّ استحب له الاحتياط في الفتوى والعمل ، لكن اذا أفتى بالاحتياط يجب انّ لا يفتي بالاحتياط الوجوبي ، بل يفتي بالاحتياط الاستحبابي - كما هو واضح - .

( أمّا اذا لم يحصل ما يوجب الشك والرّيبة ) بأن لم يكن هناك منشا عقلائي لاحتمال الحرمة اطلاقاً ، وانّ كان احتمال وهمي عليه ( فانه يعمل على ما ظهر له من الأدلة ) على الحلية ( وان احتمل النقيض ) للحلية بأن احتمل الحرمة ( في الواقع ) لكن مثل هذه الاحتمالات الوهمية لا يعتنى بها عقلا ولا شرعاً ( ولا يستحب له الاحتياط ) بمجرد هذا الاحتمال الموهوم

ص: 6

بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين » .

ثم ذكر الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ، أعني اشتباه الدليل وتردّده بين الوجوب والاستحباب وتعارض الدليلين وعدم النصّ ، قال : « ومن هذا القسم ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا يعمّ به البلوى

-------------------

( بل ربما كان ) الاحتياط ( مرجوحاً ) وذلك ( لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤل ) عن الحلية وعن توفر الشرائط ( عند الشراء من سوق المسلمين ) (1) .

هذا ( ثم ذكر ) المحدّث البحراني ( الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ) ممّا يشمل الشبهة الوجوبية ايضاً ، و ( أعني ) : من الاقسام الثلاثة مايلي :

أوّلاً : ( اشتباه الدليل ) بمعنى : اجماله ( وتردده بين الوجوب والاستحباب ) .

ثانياً : ( وتعارض الدليلين ) .

ثالثاً : ( وعدم النّص ) .

ثمّ ( قال : ومن هذا القسم ) أي : القسم الذي يجب فيه الاحتياط ممّا يشمل الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ( ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام ) با ٔ لم يكن هناك نص على الوجوب في الشبهة الوجوبية ، ولا نصّ على التحريم في الشبهة التحريمية ، وهذا ظاهر في انّ المحدّث البحراني يقول بوجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الناشئة من فقد النصّ ، فانّ ما لم يرد فيه نص من الأحكام ( التي لا يعمّ به البلوى ) يجب فيه الاحتياط .

ص: 7


1- - الحدائق الناظرة : ج 1 ص 68 .

عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فانّ الحكم فيه ما ذكرنا ، كما سلف » ، انتهى .

وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا المحدّث الاستراباديّ ، حيث حكي عنه في الفوائد المدنية أنّه قال : « إنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يجوز قبل إكمال الدين .

-------------------

أما ما يعم به البلوى فيستصحب البرائة الاصلية ، لأنه لو كان عام البلوى ولم يرد فيه نص على الوجوب أو على التحريم ، دل عدم النص على أن الشارع لا يريد فيه حكماً الزامياً ، ومن ذلك يظهر عرفاً : انّه مباح للمكلّف .

لكن تخصيص وجوب الاحتياط بصورة عدم عموم البلوى ، إنّما هو ( عند من لم يعتمد على البرائة الأصليّة ) وهم الأخباريون ، أما من يعتمد على البرائة الأصليّة وهم الاُصوليون فانهم يجرون البرائة ،سواء كان الحكم المشكوك فيه ممّا يعم به البلوى ام ممّا لا يعم به البلوى ؟ ( فانّ ) ما لا يعم به البلوى يكون ( الحكم فيه ما ذكرنا ) : من الاحتياط والتوقف ( كما سلف (1) ، انتهى ) كلام المحدِّث البحراني .

( وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة عدم النص المعتبر ( : المحدّث الاسترابادي حيث حكي عنه في ) كتابه ( الفوائد المدنية انّه قال : انّ التمسك بالبرائة الأصليّة انّما يجوز قبل اكمال الدين ) فانّ في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قبل نزول آية : « اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم

ص: 8


1- - الحدائق الناظرة : ج 1 ص 70 .

وأمّا بعد تواتر الأخبار بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها الى يوم القيامة فيها خطاب قطعيّ من اللّه فلا يجوز قطعا .

وكيف يجوز وقد تواترت عنهم عليهم السلام ، وجوبُ التوقّف فيما لا يعلم حكمه معلّلين بأنّه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعيّ وارد من اللّه تعالى ،

-------------------

نِعمَتي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً » (1) اذا لم يعرف مسلم حكماً من الأحكام ، وانه هل هو واجب أو لا ؟ او هل هو محرم أو لا ؟ يجوز له التمسك بالبرائة الأصليّة .

( وأمّا بعد تواتر الأخبار بأن كلّ واقعة يحتاج اليها الى يوم القيامة فيها خطاب قطعي من اللّه ) كما قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما من شيء يقرّبكم الى الجنة ويبعّدكم عن النار الاّ وقَد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم الى النار ويبعّدكم عن الجنة الاّ وقد نهيتكم عنه » (2) ( فلا يجوز ) العمل بالبرائة الأصليّة ( قطعاً ) بلا ريب .

( وكيف يجوز وقد تواترت عنهم عليهم السلام وجوب التّوقف فيما لا يعلم حكمه ؟ ) ممّا هو شامل للشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ( معللين بانّه بعد ان كملت الشّريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من اللّه تعالى ) فاللازم البحث والفحص عنه ، فانّ ظفرنا به علمنا به ، وانّ لم نظفر به وجب علينا التوقف والاحتياط .

ص: 9


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ووسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 وبحار الانوار : ج7 ص96 ب47 ح3 .

ومن حكم بغير ما أنزل اللّه تعالى فاولئك هم الكافرون .

ثم أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريٌّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلاّم ودلالة أهل الذكر عليهم السلام .

فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ،

-------------------

هذا ( و ) قد قال سبحانه : انّ ( من حكم بغير ما أنزل اللّه تعالى فأولئك هم الكافرون ) (1) ، ونص الآية :« وَمَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فأُولئِكَ هُم الكَافرُونَ» (2) وفي آية أخرى : « وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُونَ »(3) .

وفي آية ثالثة : « وَمَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُم الفَاسِقُونَ » (4) .

إذن : فمن يعمل بالبرائة الاصلية في واقعة يكون ممّن لم يحكم بما أنزل اللّه ، أو حكم بغير ما أنزل اللّه .

قال المحدِّث الاسترابادي في تتمة كلامه السابق : ( ثمّ أقول : هذا المقام ) أي : مقام التمسك بالبرائة الأصليّة في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ( ممّا زلّت فيه اقدام أقوام من فحول العلماء فحريّ ) أي : جديرٌ وحقيقٌ ( بنا أن نحقق المقام ونوضحه بتوفيق الملك العلاّم ، ودلالة أهل الذكر عليهم السلام ) ممّا ورد منهم من الأخبار ( فنقول ) : ان ( التمسّك بالبرائة الأصليّة ) في الشبهتين الوجوبية والتحريمية ( انّما يتم عند الاشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذّاتيين ) فليس

ص: 10


1- - الفوائد المدنية : ص 138 .
2- - سورة المائدة : الآية 44 .
3- - سورة المائدة : الآية 45 .
4- - سورة المائدة : الآية 47 .

وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم السلام ، وهو الحقّ عندي .

-------------------

عندهم في الأشياء حسن ذاتي ولا قبح ذاتي ( وكذلك عند من يقول بهما ) أي : بالحسن والقبح الذاتيين ( ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيين ) أي : يقول : لا تلازم بين الحسن والوجوب ولا بين القبح والحرمة ( كما هو ) أي : عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ( المستفاد من كلامهم عليهم السلام ) حيث قالوا : « انّ دينَ اللّهِ لا يُصابُ بِالعقول (1) ، وانّه لا شيء أبعد من دين اللّه من العقل » (2) ( وهو الحق عندي ) .

أقول : هنا ثلاثة مذاهب :

الأوّل : انّه لا حسن عقلاً ولا قُبح كذلك في الأشياء ، بل الحسن ما حسّنه الشارع والقبح ما قبّحه الشارع ، وهذا مذهب الأشاعرة من العامة .

الثاني : انّ في الأشياء حسناً وقبحاً ولكن الأحكام الشرعية لا تتبع الحسن والقبح ، بل الأحكام تابعة لارادة المولى ، فمن الممكن أن يكون في الشيء حسن ويحرِّمه الشارع ،أو قبح ويوجبه الشارع ، وهذا مذهب جماعة من المعتزلة .

الثالث : انّ هناك حسناً وقبحاً ، وانّ الأحكام تابعة للحسن والقبح ، للملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ، فانّه كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل ، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية .

ص: 11


1- - مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، كمال الدين : ص324 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 بالمعنى .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 بالمعنى .

ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لابعده

-------------------

ثم قال المحدِّث الاسترابادي : انّه على القول الأوّل ،يمكن أن يقال بالبرائة في الشبهة الحكمية ، اذ لما لم يرى العقل حسناً ولا قبحاً في شيء فمن أين يحتمل التكليف الالزامي الوجوبي أو التحريمي حتى يحتاط فيه ؟ ، وعلى القول الثاني ، يمكن القول بالبرائة أيضاً ، اذ لا تلازم بين حكم الشرع وحكم العقل ، فمن الممكن أن يكون الشيء حسناً ولا يوجبه الشارع ، أو قبيحاً ولا يحرِّمه الشارع .

أمّا على القول الثالث : فلا يمكن القول بالبرائة ، بل يلزم القول بالاحتياط لاحتمال العقل في مورد الشبهة : حسَّنَهَا أو قَبَّحها ، فيلزم أن يحتاط فيها .

هذا ، لكن انا الاسترابادي أقول بالقول الثاني ، فانّه وانّ كان مقتضاه : البرائة ، الاّ اني أقول : انّ ذلك قبل اكمال الدين ، أما بعد اكماله حسب الآيات والرّوايات في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فلابد من الاحتياط وذلك لوجود الحكم الواقعي قطعاً ، ولكن حيث لا نعلمه يلزم علينا الاحتياط لئلا نخالف الحكم الواقعي بسبب اجراء البرائة .

والى مذهبه هذا اشار بقوله : ( ثمّ على هذين المذهبين ) أي : مذهب من ينفي الحسن والقبح الذاتيين ، ومذهب من يقول بالحسن والقبح الذاتيين ، لكنه يقول لا ملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ( إنّما يتمّ ) التمسك بالبرائة الأصليّة في الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية ( قبل اكمال الدّين لا بعده ) .

وانّما يتم قبله لا بعده لأن كثيراً من الوقائع قبل اكمال الدين لم ينزل اللّه به حكماً شرعياً ، فكان من الممكن أن نقول بانتفاء الحرمة واقعاً في الشبهة الحكمية التحريمية ، أو بانتفاء الوجوب واقعاً في الشبهة الحكمية الوجوبية ، لكن بعد

ص: 12

إلاّ على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم .

لا يقال : بقي هنا أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الوارد في الواقعة موافقا للبراءة الأصليّة .

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيبٌ ،

-------------------

اكمال الدين والنص على ذلك في القران الحكيم : « اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم » (1) والتصريح من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه « ما من شَيء يُقرِّبكم الى الجنة ...» (2) الى آخر الحديث المتقدِّم ، فقد جعل اللّه تعالى الحكم الشرعي لجميع الوقائع وأنزله على الرسول فلا يمكن أن نقول بانتفاء الحرمة أو الوجوب واقعاً ، بل اللازم علينا الاحتياط حتى لا نخالف ذلك الحكم الواقعي على تقديره ( الاّ على مذهب من جوّز من العامة خلو الواقعة عن حكم ) وهذا ما لا نقول به نحن .

( لا يقال : بقي هنا أصل آخر ) غير أصل البرائة - الذي لا نقول به نحن - ونتيجته هو البرائة أيضاً ( وهو : ) أي :هذا الأصل الآخر ( أن يكون الخطاب الوارد في الواقعة موافقاً للبرائة الأصليّة ) فانا نقول : انّ للتتن حكماً لكن مع ذلك لا يلزم الاحتياط لاحتمال أن يكون حكم التتن في الواقع الاباحة والحليّة ، فمجرد وجود الحكم للتتن في الواقع لا يستلزم انّ يكون ذلك الحكم : التحريم ، بل من الممكن أن يكون : الاباحة ، فمن أين يلزم الاحتياط ؟ .

( لأنا نقول : هذا الكلام ) وهو أصل التطابق بين البرائة والحكم الواقعي ( ممّا لا يرضى به لبيب ) فمن أين أن حكم التتن في الواقع :الحل ، حتى تكون البرائة

ص: 13


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 ، وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ووسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 .

لأنّ خطابه تعالى تابع للمصالح والحكم ، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة - إلى أن قال : - هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ، نظير أن يقال : انّ الأصل في الأجسام تساوي أن نسبة طبايعها إلى جهة السفل والعلو ،

-------------------

موافقة لذلك الحكم الواقعي ؟ وذلك ( لأن خطابه تعالى تابع للمصالح والحِكَم ) .

ثمّ اِنّ قوله : « الحكم » جمع حكمة ، والفرق بين المصلحة والحكمة : انّ المصلحة يقصد بها في مثل هذا المقام : المصلحة في ذات الشيء مثل : مصلحة وجوب غسل الميت لتطهيره من نجاسته بالموت ، والحكمة في قِبال المصلحة اذ انّها تطلق بملاحظة الاُمور الخارجية لا بملاحظة ذات الشيء ، مثل غسل جسد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لجريان السنة (1) أي : لضرب القانون مع انّه طاهر مطهر حيّاً وميتاً، وبهذا التعليل علّل عليّ عليه السلام غسل الرسول بعد موته مع انّه طاهر مطهر .

( و ) من المعلوم : انّ ( مقتضيات ) بصيغة اسم المفعول ( الحكم والمصالح مختلفة ) فلا دليل على انّ حكم التتن في الواقع : الحل ،حتى نقول بأصالة تطابق الواقع مع البرائة الأصليّة ، فانّه قد تقتضي الحكمة أو المصلحة الوجوب فلا يمكن اجراء البرائة ، وقد تقتضي الحكمة والمصلحة الحرمة فلا يمكن اجراء أصل البرائة ايضاً ( الى أن قال : هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ) أحد ،والمراد بهذا الكلام : التطابق بين البرائة والحكم الواقعي في كلّ مورد شبهة .

وعليه : فهذا الكلام ( نظير أن يقال : انّ الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبايعها الى جهة السّفل والعلو ) أي : أن الاجسام بطبيعتها لا ميل لها الى جانب

ص: 14


1- - وسائل الشيعة : ج2 ص477 ب1 ح2691 وفيه «وذا سنة» .

ومن المعلوم بطلان هذا المقال .

ثم أقول : هذا الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في الثلاثة ، وحديث « دع ما يريبك إلى مالا يريبك » ، ونظائرهما ، أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها .

-------------------

السفل ولا الى جانب العلو ، فهي لا تميل الى أحد الجانبين ( ومن المعلوم : بطلان هذا المقال ) لوضوح : انّ الجسم اذا كان خفيفاً كان مائلاً الى العلو كالنار والبخار واذا كان ثقيلاً كان مائلاً الى السفل كالحجر والمدر وكذلك في المقام فانّ الفعل انّ اشتمل على المصلحة وجب ، أو المفسدة حرم ،فلا يمكن أن يقال : انّه لا حكم في الواقع حتى يجري أصل البرائة في كلّ شبهة حكمية وجوبية أو تحريمية .

قال المحدّث المذكور : ( ثمّ أقول هذا الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الاُمور في الثلاثة ) أي : في حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك (1) ( وحديث : « دَع ما يريبك الى ما لا يريبك » (2) ونظائرهما ) من أخبار الاحتياط والتوقف قد ( أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّناً ) اخراجاً ( عن البرائة الأصليّة ، وأوجب التوقف فيها ) أي : في كلّ واقعة .

وعليه : فحاصل « أقول » في قول المحدِّث المذكور هو : انّه وانّ سلّمنا تطابق أصل البرائة مع الحكم الواقعي في الشبهتين : الوجوبية والتحريمية ،لكنا نقول :

ص: 15


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 .

ثمّ قال ، بعد أنّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة : « إنّ عادة العامّة والمتأخّرين من الخاصّة جرت بالتمسّك بالبراءة الأصليّة ، ولما أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين ، لعلمنا بأنّ اللّه أكمل لنا ديننا وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعيّ من اللّه خال عن المعارض ،

-------------------

ان الشارع رفع هذا الأصل بايجابه التوقف في الشبهات .

( ثمّ قال بعد ) بيان ( انّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة : ) انّه يلزم علينا استثناء موردين من وجوب الاحتياط ،لأن الاحتياط لا يلزم في مورد يوجد فيه خبر قوي السند ظاهر في الندب ، وكذلك لا يلزم في مورد يوجد فيه خبر ضعيف السند دال على الوجوب ،وذلك لأن الخبر في المورد الأوّل ظاهر في عدم الوجوب والخبر حجّة ، والخبر في المورد الثاني وانّ كان ظاهراً في الوجوب ، الاّ انّ ضعف سنده مانع عن العمل به ، فيعمل في مورده بحديث الحجب ، ويقال أن وجوبه محجوب عنّا ، فالحكم بالوجوب موضوع عنا .

ثمّ قال : ( انّ عادة العامة والمتأخرين من الخاصة ) ويريد المحدّث الاسترابادي بالمتأخرين : الاُصوليين ( جرت بالتمسك بالبرائة الأصليّة ) في الشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية ( ولما أبطلنا جواز التمسك بها ) أي : بالبرائة الأصليّة ( في المقامين ) : من محتمل الوجوب ومحتمل الحرمة ( لعلمنا بأنّ اللّه أكمل لنا ديننا ، وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج اليها ورد فيها خطاب قطعي من اللّه خال عن المعارض ) .

وإنّما قال : « خال عن المعارض » لانّه اذا كان في مورد خبران متعارضان

ص: 16

وبأنّ كلَّ ما جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم مخزونٌ عند العترة الطاهرة عليهم السلام ، ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصليّة ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ مالم يعلم حكمه ، وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره ، فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين ، وسنحقّقه فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

لم يكن من اللّه سبحانه وتعالى فيه بيان لنا .

( و ) كذا لعلمنا ( بأن كلّ ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم مخزون عند العترة الطاهرة عليهم السلام ) وانّ لم يصل الينا فقد قال عليّ عليه السلام : علّمني رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الفَ بَابٍ مِنَ العِلمِ يَفتحُ لِي مِن كلّ بَابٍ ألفَ باب » (1) ( ولم يرخصوا ) عليهم السلام( لنا في التمسك بالبرائة الأصليّة ، بل أوجبوا التّوقف ) والاحتياط بقولهم : « فانّ الوقوفَ عِندَ الشُّبهةِ خَيرٌ مِن الاقتحامِ فِي الهَلَكَةِ » (2) ( في كلّ ما لم يعلم حكمه ) فلا يجوز لنا أن نحكم بشيء ( وأوجبوا الاحتياط ) في العمل ( في بعض صوره ) أي : صور الشك ،كما في صورة الشك في الحكم سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، بخلاف صورة الشك في الموضوع ، حيث انّ الأخباريين يَرون عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريمية .

إذن : ( فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين ) أي : مقام محتمل الوجوب ومقام محتمل الحرمة في الشبهة الحكمية ( وسنحقّقه فيما يأتي انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 17


1- - الخصال : ج2 ص647 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 ، تاريخ ابن عساكر : ج2 ح1003 ، بحار الانوار : ج22 ص462 .
2- - كما جاء في رواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 وكما جاء في موثقة سعد بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح73 .

وذكر هناك ما حاصله : « وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ولو كان ظاهرا في الندب بنى على جواز الترك .

وكذا لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء وتمسّك في ذلك بحديث : « ما حجب اللّه علمه » ، وحديث « رفع التسعة » ،

-------------------

ولا يخفى : انّ كلام المحدّث الاسترابادي من قوله قبل أسطر : « بعد انّ الاحتياط قد يكون ...» تكرار لما سبق منه ، وانّما أعاده المصنّف مقدمة لذكر الموردين السابقين : مورد ضعف السند في الخبر الدال على الوجوب ، ومورد ضعف الدلالة في الخبر القوي السند الذي استثناهما المحدِّث الاسترابادي من وجوب التوقف والاحتياط .

ثمّ الى هذا الاستثناء أشار المصنِّف بقوله : ( وذكر ) المحدِّث الاسترابادي ( هناك ) أي : في كتابه : الفوائد المدنية ( ما حاصله : وجوب الاحتياط عند ) اجمال الدليل بمعنى : ( تساوي احتماليّ الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ) وهذا يجب فيه الاحتياط ( و ) أمّا ( لو كان ) الدليل ( ظاهراً في الندب بنى على جواز التّرك ) أي : ترك الاحتياط في مورده لأنّ الظواهر حجّة عند الاسترابادي ( وكذا ) يبنى على جواز الترك ( لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء ) وهذان موردا الاستثناء ( وتمسَّك في ذلك ) أي : في عدم الاحتياط في مورد الخبرين : الخبر الضعيف السند ، أو الضعيف الدلالة ( بحديث : « ماحَجَبَ اللّهُ علمه ) عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ( وحديث : « رَفع التِسعة » ) حيث قال

ص: 18


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص 163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

قال : وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجوديّ لم يقطع بجوازه بحديث التثليث » .

أقول : قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقق قدس سره ، أنّ التمسّك

-------------------

النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عَن أُمَّتي تِسع : ما لا يعلمون ...» (1) الى آخره .

ثمّ ( قال ) المحدِّث الاسترابادي : ( وخروج عن تحتهما ) أي : خرج من عموم حديث « الحجب » وحديث « الرفع » ( كلّ فعل وجودي ) مشتبه الحرمة أي : ( لم يقطع بجوازه ) .

فلا يقال : أنّ عموم حديث الحجب وحديث الرفع شامل للشبهة التحريمية ، فكيف تقولون أنتم الاخباريون بوجوب الاحتياط فيها ؟ لأنا نقول : بأن الشبهة التحريمية خارجة عن تحت الحديثين المذكورين ( ب- ) سبب ( حديث التثليث ) (2) المتقدِّم حيث جاء فيه : « انّما الاُمور ثلاثة : أمرٌ بيّنٌ رشده فيتبع ، وأمرٌ بيّن غيّه فيجتنب ، وأمرٌ مشكلٌ يردُّ حكمه الى اللّه ورسوله » (3) .

انتهى كلام المحدّث الاسترابادي .

( أقول : ) أن البرائة التي يتمسك بها مشهور الاُصوليين ليست هي البرائة الاصلية كما تصوره المحدّث الاسترابادي ، بل هي أصل تعبدي وحكم ظاهري معناها : القطع بنفي تنجّز التكليف وان ثبت واقعاً ، وقد استدلوا لها بقبح العقاب بلا بيان ، فانّه كما ( قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقق قدس سره : انّ التمسك

ص: 19


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 .
2- - الفوائد المدنية : ص 138 و ص 161 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بأصل البراءة منوط بدليل عقليّ هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به .

وهذا لا دخل له لاكمال الدين وعدمه ، ولكون الحسنُ والقبح أو الوجوب والتحريم عقليّين أو شرعيّين في ذلك ، والعمدة فيما ذكره هذا المحدّث من أوّله إلى آخره تخيّلُه أنّ مذهبَ المجتهدين التمسّك بالبراءة الأصليّة لنفي الحكم الواقعيّ ولم أجد أحدا يستدلّ بها على ذلك .

-------------------

بأصل البرائة منوط بدليل عقلي هو : « قبح التكليف بما لا طريق الى العلم به » ) وذلك لقبح العقاب بلا بيان ، فاذا كان العقاب بلا بيان قبيحاً والمفروض انّه لم يصل البيان الى المكلّف كان له أن يجري البرائة .

( وهذا ) الدليل الذي ذكره المحققّ للبرائة وتبعه عليه غيره ( لا دخل له لاكمال الدين وعدمه ، ولا لكون الحسن والقبح ، أو الوجوب والتحريم عقليين أو شرعيين ) على ما ذكره المحدّث الاسترابادي ، اذ كلّ هذه الاُمور لا ربط لها ( في ذلك ) الذي ذكره الاصوليون من البرائة .

( و ) حينئذٍ لا يكون كلام المحدِّث الاسترابادي مربوطاً بمسألة البرائة ، ولا رداً على المشهور اذ ( العمدة فيما ذكره هذا المحدث من أوله الى آخره : تخيّله أنّ مذهب المجتهدين : التمسك بالبرائة الأصليّة لنفي الحكم الواقعي ) حيث قال في عبارته المتقدّمة : « لعلمنا بأن اللّه أكمل لنا ديننا ، وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج اليها ورد فيها خطاب قطعي من اللّه خال عن المعارض ، وبأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا مخزون عند العترة الطاهرة » ( ولم أجد أحداً يستدل بها ) أي بالبرائة ( على ذلك ) أي : على نفي الحكم واقعاً ، فانّ الاُصوليين لا يريدون نفي الحكم واقعاً ، وانّما يقولون :نتمسك بالبرائة لأنه حكم ظاهري قرّره العقل والشرع .

ص: 20

نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهرَ جماعة من الاماميّة جعل أصالة البراءة من الأدلة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهارُ ذلك من صاحبي المعالم والزبدة ، لكنّ ماذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ، لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب او غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم للبراءة ، وما ذكره من تبعيّة خطاب اللّه تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك .

-------------------

( نعم ، قد عرفت سابقاً : أن ظاهر جماعة من الإمامية جعل أصالة البرائة من الأدلة الظنّيّة ) الكاشفة عن الواقع ( كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزُبدة ) حيث جعلا البرائة أمارة ظنيّة معناها : الظنّ بنفي التكليف واقعاً ، واستدلالها باستصحاب البرائة الاصلية .

( لكن ما ذكره ) المحدّث الاسترابادي في الاعتراض عليهم : ( من اكمال الدين ) لا يتوجه اليهم أيضاً ، لانه ( لا ينفي ) استصحاب البرائة الاصلية في مورد الشك ، لأن اكمال الدين لا يثبت أن الخطاب الصادر في مورد الشك : واجب أو حرام حتى لا يبقى مجال لاستصحاب البرائة الاصلية .

كما أنه لا ينفي ( حصول الظنّ ) بالواقع من طريق استصحاب البرائة الاصلية ( لجواز دعوى : انّ المظنون بالاستصحاب أو غيره ) كقاعدة « عدم الدليل دليل العدم » ، وقاعدة « غلبة المباحات » المستفادتين من العقل والنقل ( موافقة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم للبرائة ) الاصلية ( و ) حينئذٍ : فانّ ( ما ذكره ) هذا المحدِّث (: من) وجود الحُسن والقبح العقليين ، و ( تبعية خطاب اللّه تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك ) الظن الذي هو العمل بالبرائة ، لأنها مورثة للظنّ بالواقع ، فانّ المصلحة كما تكون في التكليف الالزامي وجوبا أو تحريماً في بعض الأفعال ،

ص: 21

لكنّ الانصاف : أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ خصوصا في المقام ، كما سيجيء في محلّه ولا أمارة غيره يفيد الظنّ ، فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ومنع اعتباره على تقدير الحصول ،

-------------------

كذلك تكون في البرائة في بعض الأفعال الاُخر ، وعليه : فالحكم الواقعي محفوظ ، فانّ كان الحكم الواقعي هو البرائة فهو ، وانّ كان الحكم الواقعي غير البرائة ، فمصلحة التسهيل ونحوه جعل التكليف الفعليّ : « البرائة » ، فالحكمان هنا الواقعي والبرائة بمنزلة الأحكام الأولية والأحكام الثانوية في سائر الموارد .

( لكن الانصاف أنّ ) كلام المعالم والزُبدة غير تام عندنا اذ ، ( الاستصحاب لا يفيد الظنّ ) ببقاء الحالة السابقة ، بل قد يظن الانسان بالبقاء ، وقد يظن بخلاف البقاء ، وقد يشك في البقاء وعدم البقاء ، فالظن ليس معياراً ( خصوصاً ) الظنّ الحاصل من الاستصحاب الذي نريد اجرائه ( في المقام ) وهو : استصحاب حال ما قبل الشرع لاثبات البرائة فيما بعد الشرع ( كما سيجيء ) عدم افادة الاستصحاب للظنّ ( في محلّه ) في بحث الاستصحاب انشاء اللّه تعالى .

وعليه : فكلام المعالم والزبدة غير تام ، اذ لا ظن حاصل من الاستصحاب ( ولا أمارة غيره ) أي : غير الاستصحاب ( يفيد الظنّ ) بالبرائة .

وكيف كان : فانّا لا نحتاج الى الظنّ حتى نتكلم حول انّه هل يحصل لنا الظنّ بالبرائة أو لا يحصل ؟ بل انا نجريالبرائة استناداً الى الأدلة الأربعة كما تقدّم الكلام فيها.

إذن : ( فالاعتراض ) من المحدِّث الاسترابادي ( على مثل هؤاء ) المتمسّكين باستصحاب البرائة ، مقدمة للظنّ بعدم التكليف ، وذلك في مورد عدم وجود الدليل على التحريم أو الوجوب ( انّما هو منع حصول الظنّ ) من الاستصحاب ( ومنع اعتباره ) أي : اعتبار مثل هذا الظن ( على تقدير الحصول ) لأنّ الظنّ لا دليل

ص: 22

ولا دخل لاكمال الدين وعدمه ، ولا للحسن والقبح العقليين في هذا المنع .

وكيف كان : فيظهر من المعارج القولُ بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : « الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى لزومه وفصّل آخرون » ، انتهى .

-------------------

على حجيّته ، وانّما يكون البناء على الحالة السابقة ممّا يسمّى بالاستصحاب مستنداً الى بناء العقلاء وبعض الرّوايات كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

هذا ( و ) من الواضح : انّه ( لا دخل لاكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين ) ولا للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، ولا لتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ( في هذ المنع ) أي : في منع قول صاحبي المعالم والزُبدة ، فنحن والمحدِّث الاسترابادي وان كنّا نشترك في الاشكال على المعالم والزُبدة الاّ أنّ اشكالنا من جهة واشكاله من جهه اُخرى ، وقد عرفت : عدم استقامة اشكاله .

( وكيف كان : فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى لزومه ، وفصّل آخرون (1) ، انتهى ) وهو ظاهر في انّ في المسألة ثلاثة أقوال : الأوّل : القول بلزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية وجوبية كانت أو تحريمية ، الثاني : القول بعدم لزوم الاحتياط فيهما ، الثالث : القول بالتفصيل بين الشبهة التحريمية فيجب فيها الاحتياط ، والشبهة الوجوبية فلا يجب فيها الاحتياط .

ص: 23


1- - معارج الاصول : ص 216 .

وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة ، فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ والسيّدين ، التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل ، والأقوى فيه جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا إلى الاجماع المركّب .

-------------------

( وحكي عن المعالم نسبته ) أي : نسبة الاحتياط في محتمل الوجوب ( الى جماعة ) من العلماء أيضاً .

وعليه : ( فالظاهر : انّ المسألة خلافية ،لكن لم يعرف القائل به بعينه وانّ كان يظهر من الشيخ والسّيدين التمسك به ) أي : بالاحتياط في بعض الموارد ( أحياناً ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل ) التي تمسكوا فيها بالبرائة على انهم يقولون بالبرائة .

هذا ( والأقوى فيه ) أي : في المشتبه بالشبهة الوجوبية : ( جريان أصالة البرائة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافاً الى الاجماع المركب ) فانّ كلّ من قال بجريان الاصل اجراه في الشبهتين : التحريمية والوجوبية ، وكلّ من لم يقل بجريان الأصل لا يجريه في الشبهتين ،فالتفصيل بين الشبهتين بجريان الأصل في الشبهة الوجوبية دون الشبهة التحريمية خرق للاجماع المركب .

لا يقال : قد نسب التفصيل في كلامي المعارج والمعالم الى جماعة ، فكيف يكون التفصيل خرقاً للاجماع المركب ؟ .

لأنه يقال : قد تقدّم منّا : انّه لم يعرف أحد بعينه قال بذلك ، والشاذ الذي قال به

لم يعلم هل أنّه من العامة أو الخاصة ؟ ومثله لا يضر الاجماع المركب .

ص: 24

وينبغي التنبيه على اُمور

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسيّ المستقلّ ، وأمّا إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشك في المكلّف به ، وإن كان المختار

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تالية :

( الأوّل : انّ محلّ الكلام في هذه المسألة ) أي : في مسألة الشبهة الوجوبية الناشئة عن فقد النص ( هو احتمال الوجوب النفّسي المستقل ) كوجوب الصلاة على محمّد وآله عند ذكره صلى اللّه عليه و آله وسلم ،وكوجوب الدعاء عند رؤة الهلال ، وما أشبه ذلك من الواجبات النفسية المستقلة التي لم يعلم هل أمر الشارع بها حتى تكون واجبة ، أو ندب اليها حتى تكون مستحبة ؟ .

( وأمّا اذا احتمل كون شيء واجباً ) غيرياً ( لكونه جزءاً ) لواجب آخر كالسورة في الصلاة ،وجلسة الاستراحة ، وما أشبه ذلك ( أو شرطاً لواجب آخر ) كشرطية الوضوء للصلاة والطواف - حيث يشك الانسان اذا كان قد اغتسل غسلاً واجباً غير غُسل الجنابة في شرطية الوضوء لهذه الصلاة والطواف الذي اغتسل المكلّف قبلهما ( فهو داخل في الشك في المكلّف به ) اصطلاحاً ،لأنّ المكلّف به مردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجب عليه الاحتياط باتيانه .

هذا ( وان كان المختار ) عندنا : انّ هذا أيضاً يرجع الى الشك في التكليف لوضوح : انّ الأقل متيقن ، والزائد مشكوك في أصل التكليف فيه ، بينما الشك في المكلّف به خاص في المتباينين كالظهر والجمعة ، وما أشبه ذلك ، فالمختار

ص: 25

جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقيّة .

الثاني :

انّه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتّى فيما احتمل كراهته . والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتى به لداعي احتمال المحبوبيّة ، لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة .

والحكمُ بالثواب هنا

-------------------

في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( جريان أصل البرائة فيه ) أي : في الزائد ( أيضاً ، كما سيجيء انشاء اللّه تعالى ؛ لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقية ) لأنّ الاتقاق حاصل على جريان البرائة في الشبهة الوجوبية المستقلة ،بينما اختلفوا في الشبهة الوجوبية اذا كان المشكوك جزءاً أ و شرطاً .

الأمر : ( الثاني : انّه لا اشكال ) عقلاً ونقلاً ( في رجحان الاحتياط بالفعل ) في مشكوك الوجوب ، وذلك لأنه احراز للواقع والشارع مهتم بأحكامه ( حتى فيما احتمل كراهته ) وذلك لأنّ جلب المنفعة الملزمة أولى من دفع المفسدة غير الملزمة .

نعم ، يظهر من بعض الرّوايات : عدم رجحان الاحتياط في بعض الموارد المستلزم للحرج ، أو اختلال النظام ، أو الوسواس ، أو ما أشبه ذلك ، كما تقدّم الكلام فيه .

( والظاهر : ) في غير الموارد المرجوحة استقلال العقل على ( ترتّب الثواب عليه اذا أتى به لداعي احتمال المحبوبية ، لأنّه انقياد واطاعة حكميّة ) أي : انّ الاحتياط عند العقل والعقلاء في حكم الطاعة كما أنّ الاتيان بالمطلوب المعلوم طاعة حقيقية ( والحكم بالثواب هنا ) في الانقياد باتيان محتمل المحبوبية احتياطاً

ص: 26

أولى من الحكم بالعقل على تارك الاحتياط اللازم ، بناءا على انّه في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا .

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان ، أقواهما العدم ،

-------------------

( أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم ) كترك محتمل التحريم قبل الفحص فيما لم يكن في الواقع حراماً .

وانّما يكون أولى ( بناءاً على أنّه في حكم المعصية ) لأنه تجرٍّ وليس بمعصية ، كما قال : ( وان لم يفعل محرّماً واقعيّاً ) لفرض انّه لم يكن محرّماً في الواقع ، وانّما كان مأموراً بالفحص فلم يفحص وأقدم ، فيكون في حكم المعصية ، والاُولوية من جهة انّ اللّه سبحانه وتعالى سبقت رحمته غضبه ، وانّ الثواب فضل بينما العقاب عدل .

هذا ( وفي جريان ذلك ) أي : رجحان الاحتياط والثواب عليه ( في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ) كالكراهة والاباحة ( وجهان ) أما دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب فهو محبوب على كلّ حال لأنّه أما محبوب مع المنع من النّقيض ممّا يعبّر عنه بالوجوب أو محبوب بدون المنع من النقيض ممّا يعبَّر عنه بالاستحباب .

لكن الاحتياط في العبادات عند دورانها بين الوجوب وغير الاستحباب هل هو راجح أم لا فيه احتمالان : ( أقواهما العدم ) لأنّ الاحتياط معناه : احراز الواقع على تقدير ثبوته ؛ وهذا المعنى لا يتحقق الاّ في التوصليّات فاذا احتمل - مثلاً - وجوب الاستهلال ، فبمجرد الاستهلال يحرز الواقع على تقدير ثبوته ، فيكون الشخص مطيعاً للمولى بهذا الاحتياط ويثاب عليه لأنّه اطاعة حكمية - كما تقدَّم - .

ص: 27

لأنّ العبادة لابدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً او إجمالاً كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ، وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجبُ تعلّق الأمر به ،

-------------------

لكن مثل هذا لا يتحقق في التعبديات ( لأنّ العبادة لابدّ فيها من نية التقرب ) ونية القربة هي ( المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً ) وذلك بأن يعلم أن الظهر واجبة عليه ( أو اجمالاً ) بأن يعلم أن الواجب عليه : الظهر أو الجمعة ( كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ) فانّ الانسان الذي يشتبه في القبلة يحتاط بأربع صلوات الى اربع جهات ، لعلمه بأمر الشارع بالصلاة اجمالاً .

أما في المقام فلا يعلم بأمر الشارع بهذا الشيء لا تفصيلاً ولا اجمالاً ، لفرض دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، فكيف يأتي به بقصد القربة وهو لا يعلم بأن الشارع أمر به حتى يقصد فيه القربة ؟ أم كيف يأتي به بدون قصد القربة مع انّه لو أمر به الشارع لم يقع بدون القربة ما أمر به الشارع من العبادة لأن هيكل العبادة بدون قصد القربة ليست بعبادة ؟ .

( و ) حيث اشكل على القائلين بتحقق الاحتياط في العبادات - بهذا الاشكال - أجابوا عنه بوجوه ستة أشار اليها المصنِّف كما يلي :

الأوّل : نكتشف وجود الأمر بالدليل الاني ، لأنه لو أتى بمحتمل العبادة بقصد الاحتياط كان فيه الثواب ، وكلّ ما كان فيه الثواب فهو مقرّب قد تعلّق به الأمر، لكن هذا الجواب غيرُ تامٍ لما ذكره المصنِّف بقوله : انّ ( ما ذكرنا : من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ) فانّ الثواب انّما يكشف عن الأمر ويدل عليه اذا كان ثواباً ناشئاً عن الأمر ، لا ما إذا كان ثواباً ناشئاً عن الانقياد للشرع .

ص: 28

بل هو لأجل كونه انقيادا للشرع ، والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا .

ودعوى : « أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الاتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا » ، مدفوعةٌ ، لما تقدّم في المطلب الأوّل ، من أنّ الأمر الشرعيَّ بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقيّ والاطاعة

-------------------

ومن الواضح : انّ هذا الثواب ليس ناشئاً عن الأمر ( بل هو لأجل كونه ) أي كون الاحتياط ( انقياداً للشرع ، والعبد معه ) أي مع هذا الانقياد ( في حكم المطيع ) لا انّه مطيع حقيقة اذ الاطاعة الحقيقية انّما هي فيما إذا علم بالأمر ( بل لا يسمى ذلك ثواباً ) وانّما هو تفضّل وتكرّم إذ الثواب هو : ما يستحقه العبد في مقابل امتثال التكاليف المعلومة ، وهذا ليس من التكاليف المعلومة حسب الفرض .

( و ) الثاني : انكم ذكرتم انّ الاحتياط بحكم العقل حسن مطلقاً وهذا الاحتياط في محتمل العبادة ايضاً حسن عقلاً وقد ثبت انّه كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فهذا الاحتياط حسنٌ شرعاً ، واذا ثبت حسنُه الشرعي كان فيه الأمر ، اذ الشارع يأمر بكل حسن كما انّه ينهى عن كلّ قبيح .

لكن هذا الجواب أيضاً غير مستقيم ، لأنّ ( دعوى : انّ العقلّ اذا استقلّ بحسن هذا الاتيان ) بمحتمل العبادة ( ثبت بحكم الملازمة ) بين الشرع والعقل ( الأمر به شرعاً ) .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) بأنّ الحُسن الشرعي من باب الأمر الارشادي لا من باب الأمر المولوي ، والأمر الارشادي لا يوجب اطاعته قُرباً ، ولا معصيته بُعداً ( لما تقدّم في المطلب الأوّل ) أي : البحث حول الشبهة التحريمية ( من أن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد ) الاحتياطي ( كأمره بالانقياد الحقيقي والاطاعة

ص: 29

الواقعيّة في معلوم التكليف إرشاديٌّ محضٌ ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيدُ ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشاديّة ،

-------------------

الواقعية في معلوم التكليف ) مثل قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُول » (1) ( وارشاديّ محض لا يترتب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشادية ) كأوامر الطبيب .

ومن الواضح : انّ الانسان لو أطاع أمر الطبيب وشرب الدواء ، لم يحصل الاّ على الصحة التي هي من توابع شرب الدواء ، لا من توابع اطاعة أمر الطبيب ، كما أنه اذا عصى أمر الطبيب لا يترتب عليه الاّ مضرة عدم شرب الدواء ، لا مضرة عدم اطاعة أمر الطبيب ،وكذا المصلي فانّه ينال منافع الصلاة اذا أتى بها ، كما أن تارك الصلاة يقع في مضرة تركها اذا تركها سواء كان هناك أمر بالطاعة أم لا ؟ يعني سواء قال سبحانه : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ » أم لم يقل ؟ فانّ العبد اذا أتى بالصلاة نال منافعها لا منافع أمر « أطيعوا اللّه » كما أنّه اذا ترك الصلاة نال مضرة تركها لا مضرة ترك « أطيعوا اللّه » .

وكذا بالنسبة الى أوامر الاحتياط : فانّ من يستهل في أول الشهر ينال منافع الاستهلال ، ومن يترك الاستهلال يقع في مضرة ترك الاستهلال على تقدير وجوبه واقعاً ، من غير فرق بين أن يكون أمر شرعي أو عقليّ بالاحتياط ، أم لم يكن أمر عقلي ، أو شرعي به ،كما هو شأن كلّ أمر ارشادي ، سواء كان ارشاداً

ص: 30


1- - سورة النساء : الآية 59 .

فلا إطاعة لهذا الأمر الارشاديّ ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة .

كما أنّ إطاعةَ الأوامر المتحققة لم تصر عبادةً بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : « أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول » .

-------------------

من العقل أو إرشاداً من الشرع .

وعليه : ( فلا إطاعة ) ولا مخالفة ( لهذا الأمر الارشادي ) بحسن الاحتياط ( ولا ينفع ) هذا الأمر الارشادي ( في جعل الشيء عبادة ) فانّ عبادية الدعاء عند رؤة الهلال لا تحصل بالأمر بالاحتياط وانّما إن كان له أمر واقعي كان عبادة ، والاّ لم يكن عبادة ، فكيف يتمكن أن يأتي المكلّف بالدعاء عند الهلال قربة الى اللّه مع انّه لا يعلم بالأمر الواقعي من اللّه سبحانه وتعالى فيه ، فيكون نسبته اليه سبحانه تشريعاً محرّماً .

( كما أن اطاعة الأوامر المتحققّه ) شرعاً ممّا نعلم بوجوبها ، كالأمر بالصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، وما أشبه ( لم تصر عبادةً بسبب الأمر الوارد بها ) أي : بالاطاعة ( في قوله تعالى : « أطِيعُوا اللّهَ وَأطيعوا الرسُول » (1) ) فانّ الأمر بالاطاعة لا بجعل الشيء عبادة ، بل عبادية الصلاة والصيام ونحوهما انّما هي بسبب الأمر بالصلاة كما في قوله سبحانه : « أَقِم الصَّلاةَ لِدلُوكِ الشَّمسِ » (2) والأمر بالصيام كما في قوله سبحانه : « كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ » (3) ونحوهما .

الثالث : انّا لا نحتاج في العبادة الى الأمر ، بل يكفي الحسن ، ولا شكّ في أن الاحتياط حسن كما اعترفتم به ،فالاستهلال لما كان حسناً - لاحتمال وجوبه فرضاً - كان عبادة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

ص: 31


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الاسراء : الآية 78 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

ويحتمل الجريان بناءا على أنّ هذا المقدار من الحسن العقليّ يكفي في العبادة ومنع توقفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا .

ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوىً وعملاً على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة .

-------------------

( ويحتمل الجريان ) أي : جريان الاحتياط في العبادة المحتملة ( بناءاً على أن هذا المقدار من الحسن العقلي ) حيث أن العقل يرى حسن الاحتياط في كلّ ما يحتمل فيه الأمر ، عبادة كان أو غير عبادة ، وهذا ( يكفي في العبادة ، ومنع ) أي: نمنع ( توقفها ) أي : توقف العبادة ( على ورود أمر بها ) أي : بالعبادة .

لكن أشكل على هذا : بأن الحسن العقلي لا يجعل الشيء عبادة ،فانّ الحسن أعمّ من التوصلي والتعبّدي ولا يكون الأعم دليلاً على الأخص .

الرابع : انّا لا نشترط في العبادة قصد الأمر ( بل يكفي الاتيان به ) أي : بالشيء المحتمل العبادية ، وذلك ( لاحتمال كونه مطلوباً ) لدى المولى طلباً عبادياً ( أو كون تركه مبغوضاً ) لديه ، فليس المعتبر في العبادة خصوص قصد الأمر ، بل يكفي قصد احتماله عند الشك كما أنه في التوصليات يكفي احتمال الأمر بها في تحقق الاحتياط ، فانّ العقل يرى حسن ذلك ، وهذا الوجه هو الذي يعتمد عليه المشهور في حسن الاحتياط في العبادة المحتملة ( ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوىً وعملاً على اعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النّصوص غير المعتبرة والفتاوى النّادرة ) .

الخامس : وجود أوامر الاحتياط والاتقاء ، وانّ هذه الأوامر تشمل التوصليات

ص: 32

واستدلّ في الذكرى ، في خاتمة قضاء الفوائت ، على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : « فاتّقوا اللّهَ ما استطعتم » ، و « اتّقوا اللّهَ حَقَّ تقاته » ، وقوله : « والذينَ يُؤتُونَ ما آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أنّهُم إلى رَبِّهِم راجِعُونَ » .

والتحقيق :

-------------------

والتعبديات ( و ) لذا ( استدل ) الشهيد الأوّل ( في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات ) احتياطاً ( لمجرد احتمال خلل فيها موهوم ) ذلك الخلل ، فاستدل له ( بقوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللّهَ مَا استَطَعتُم » (1) و « اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ » (2) وقوله : « وَالَّذِينَ يُؤُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم الَى رَبِّهِم رَاجِعون ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ » (3) الى غير ذلك من الآيات الدالّة على الاحتياط والاتقاء ، بتقريب انّها تدل على أن اتيان العمل خوفاً منه تعالى خير مطلوب .

ومن المعلوم : انّ الذي يقضي الصلاة المحتملة الخلل انّما يقضيها من باب الاتقاء والخوف من انّ تكون صلواته السابقة غير مقبولة ،عند اللّه تعالى .

( والتحقيق ) انّ هذاالجواب بنفسه لا يكفي الاّ اذا ضممنا اليه بعض الأجوبة السابقة ،وحينئذٍ نكون في غنى من هذا الجواب ،لأنّ بعض الأجوبة السابقة كافٍ في الاستدلال .

وانّما نقول : انّ كلام الشهيد وحده لا يكفي ، لأنّه مستلزم للدّور ، فانّ موضوع الاتقاء يلزم أن يثبت من الخارج ،اذ الحكم لا يثبت موضوعه ، فاذا أريد تحقيق

ص: 33


1- - سورة التغابن : الآية 16 .
2- - سورة آل عمران : الآية 102 .
3- - سورة المؤمنون : الآيات 60 - 61 .

أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة - في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية - ولو إجمالاً فهو ، وإلاّ فما أورده قدس سره ، في الذكرى ، كأوامر الاحتياط ، لا يُجدي في صحّتها .

-------------------

الموضوع بسبب نفس أمر الاتقاء كان دوراً .

وبعبارة اُخرى : انّ الأمر موقوف على كونه احتياطاً وكونه احتياطاً ، موقوف على قصد القربة ، فاذا توقف صحة قصد القربة فيه على الأمر كان دوراً ، لتوقف الأمر على الأمر ، فهو مثل أنّ يقال : أكرم العالم ، فانّ العالم يجب أن يعرف من الخارج لا انّ يكون أكرم محققاً للعالم ، فانّه حينئذٍ دورٌ حيث انّ الاكرام يتوقف على كونه عالماً ، فاذا توقف كونه عالماً على أكرم لزم الدور .

وعليه : ف- ( انّه انّ قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة - في صحة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة - ولو اجمالاً ) لأنّه إذا علم الانسان المطلوبية الاجمالية كالصلاة الى أربع جوانب فلا كلام في صحتها ، وانّما الكلام فيما اذا لم يعلم المطلوبية وانّما يحتملها كما في صلاة ليلة الرغائب - مثلاً - حيث لا يعلم مطلوبيتها لأن راويها عامي لا يعتمد عليه ، فاذا قلنا بصحة محتمل المطلوبية في مثل هذه الصلاة ( فهو ) اذ يصح حينئذٍ الاتيان بها بقصد العبادة .

لكن هذا لا يكون جواباً جديداً ، بل هو الجواب السابق الذي ذكرناه بقولنا في « الرابع » من الأجوبة : بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوباً أو كون تركه مبغوضاً .

( والاّ ) بأن لم نقل بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة ( فما أورده ) الشهيد ( قدس سره في الذكرى ،كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها ) أي : في صحة هذه العبادة المحتمل مطلوبيتها .

ص: 34

لأنّ موضوعَ التقوى والاحتياط الذي يتوقف عليه هذه الأوامر لا يتحقّقُ إلاّ بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ، وإلاّ لم يكن احتياطا ، فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشا للقربة المنويّة فيها ، اللّهم إلاّ أن يقالَ - بعد النقض بورود هذا الايراد

-------------------

وانّما لا يجدي لكونه مستلزماً للدور الذي نبهنا عليه ( لأنّ موضوع التّقوى والاحتياط ، الذي يتوقف عليه ) أي : على هذا الموضوع ( هذه الأوامر ، لا يتحقّق الاّ بعد اتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه ) أي : في محتمل العبادة ( جميع ما يعتبر في العبادة ) من الأجزاء والشرائط ، وفقد الموانع والقواطع ( حتى نيّة التقرب ) أيضا .

( وإلاّ لم يكن احتياطاً ) فانّه اذا لم يتحقق الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه مع فقده لجميع الموانع والقواطع لا يكون احتياطا ، فالاحتياط في التطهير - مثلاً - يجب أن يكون بالماء المطلق ، فاذا لم يكن ماء ، أو لم يكن اطلاق ، لم يكن احتياط في التطهير .

وعليه : ( فلا يجوز أن تكون تلك الاوامر منشأً للقربة المنوية فيها ) أي : في هذه الاُمور المحتمل عباديتها ، لما عرفت من أنّه مستلزم للدّور ، فانّ الأمر يتوقف على تحقق موضوعه ، ولو توقف تحقق موضوعه على هذا الأمر لزم الدور .

لكن اشكال الدور غير وارد نقضاً وَحَلاً .

أما نقضاً : فكما قال : ( اللّهم الاّ أن يقال - بعد النقض بورود هذا الايراد

ص: 35

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات ، مثل قوله : « أقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزّكاةَ » ، حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها -

-------------------

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله : « وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ » (1) حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطراً أو شرطاً والمفروض ثبوت مشروعيّتها ) أي : مشروعية هذه العبادة ( بهذا الأمر الوارد فيها - ) اذ لولا الأمر بصلاة الظهر - مثلاً - لم يصح الاتيان بها بقصد القربة ، ولولا قصد القربة الذي هو جزء أو شرط من شروط صلاة الظهر لم يصح تعلق الأمر بها ، فما كان الجواب عن الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عنه في العبادة المحتملة الاحتياطية ؟ .

وان شئت قلت : أنّ قوله : صلّ الظهر - مثلاً - موضوعه : الأركان المخصوصة مع نية القربة بسائر الأجزاء والشرائط وفقد الموانع ، وصدور هذا الأمر من الشارع موقوف على تحقق الموضوع المذكور ، وتحققه موقوف على صدور الأمر المذكور ، اذ لو لم يصدر الأمر المذكور لا يشرّع نية القربة ،فيكون هذا دوراً ، فما كان الجواب عن هذا الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عن الدور في العبادة الاحتمالية ؟ .

وأما حلاً : فلأنا نقول : الأمر بصلاة الظهر ، أو الأمر بصلاة الاحتياط - مثلاً - قد تعلّق بهيكل العبادة : من الأجزاء والشرائط وفقد الموانع والقواطع ، من دون قصد القربة ، فلمّا تعلقّ الأمر بهذا الهيكل لزم أن نأتي به مع قصد القربة ، لأنا علمنا

ص: 36


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إنّ المرادَ مِنَ الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو مجرّدُ الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الاتيانُ بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل .

وحينئذٍ : فيقصد المكلّفُ فيه التقرّبَ باطاعة هذا الأمر .

ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل ،

-------------------

من الخارج أن هذا الهيكل لا يؤى به الاّ بقصد القربة ، فيتوقف الأمر على الموضوع لكن لا يتوقف الموضوع على الأمر حتى يستلزم الدور ، كما قال :

( ان المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر : ) ليس معناهما الحقيقي الشامل لكلّ الأجزاء والشرائط حتى نية القربة ، بل ( هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ) فاذا كانت للصلاة - مثلاً - عشرة أجزاء وشرائط وكان من جملتها نيّة القربة ، فالأمر يتعلق بتسعة منها ولم يتعلقّ بنيّة القربة .

وعليه : ( فمعنى الاحتياط بالصلاة : الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل ) الهيكلي بدون قصد القربة ( وحينئذٍ ) بعد تعلق الأمر به ( فيقصد المكلّف فيه ) أي : في هذا الفعل ( التقرب بأطاعة هذا الأمر ) لأنّ المكلّف يعلم : انّه بدون قصد القربة لا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر الحقيقية أو بصلاة الظهر الاحتياطية على ما عرفت .

( ومن هنا : ) أي : من انا ذكرنا : انّ أمر الاحتياط متعلق بتسعة أجزاء وهو الهيكل فقط بدون الجزء العاشر الذي هو قصد القربة ( يتجه ) من الفقيه ( الفتوى ) لمقلده ( باستحباب هذا الفعل ) من الصلاة الاحتياطية حتى

ص: 37

وإن لم يعلم المقلّد كونَ ذلك الفعل ممّا شكّ في كونها عبادةً ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة .

-------------------

( وان لم يعلم المقلّد كون ذلك الفعل ممّا شك في كونها عبادة ) بل انّه أتى ، بها بقصد العبادة جازما من دون أن يقصد احتمال كونها عبادة ( و ) كذا ان ( لم يأت ) المقلد ( به ) أي : بهذا الفعل الاحتياطي ( بداعي احتمال المطلوبية ) وانّما اتى به جازماً بمطلوبيته لا باحتمال مطلوبيته .

وعليه : فانّه إذا كان نية القربة - مثلاً - جزءاً من الموضوع ، كان على الفقيه أن يقول المقلّده : يستحب الدّعاء عند رؤة الهلال بقصد احتمال كونه عبادة ، لا أنه يطلق استحباب دعاء الهلال بلا ذكر قصد احتمال كونه عبادة ، فانّ اطلاقه للاستحباب يدل على أن نية القربة ليس جزءاً من الموضوع ، بل أمر الاحتياط متعلق بالهيكل فقط .

وانّما نقول ذلك لأنه قد يكون الاتيان بالمركب من الاجزاء التسعة إحتياطا فيقول الفقيه لمقلّده : ائت بهذا المركب ، وقد يكون الاتيان بالأجزاء العشرة إحتياطا فيقول له الفقيه : إئت بهذه الأجزاء التسعة منضمَّة مع احتمال المطلوبية لأن هذه العشرة حينئذٍ إحتياط ، فتسعة أجزاء من المركب متيقن المطلوبية والجزء العاشر محتمل المطلوبية ، فيلزم للمقلّد أن ينوي هنا هكذا ، لا أن ينوي المطلوبية في كلّ الأجزاء العشرة فهو مثل : أن يكون هناك عشر صلوات ، تسعة منها في ذمة الانسان يقيناً والعاشرة محتملة ،فانّه لا يصح أن يقال له : إئت بكل الصلوات العشر المتيقنة الفوت ، بل يقول : إئت بتسعة متيقنة وبعاشرة محتملة .

والحاصل : انّ الاحتياط انّما هو باتيان الهيكل لا انّ الاحتياط باتيان الهيكل

ص: 38

ولو اُريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقيّ ، وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلاّ مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه ، فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي .

-------------------

مع قصد القربة كما قال : ( ولو اُريد بالاحتياط في هذه الأوامر ) الاحتياطية ( : معناه الحقيقي ) أي : معنى الاحتياط حقيقة ( وهو : اتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية ، لم يجز للمجتهد أن يفتي ) لمقلّده ( باستحبابه ) أي : باستحباب هذا المركب من الأجزاء العشرة ( إلاّ مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال ) أي : يقول لمقلده : إئت بالصلاة الاحتياطية بداعي احتمال المطلوبية .

وعليه : فلا يصح للفقيه أن يقول في مثال الدّعاء عند الهلال يستحب الدّعاء عند رؤة الهلال ، بل اللازم أن يقول : يستحب الدّعاء عند الهلال بداعي احتمال الأمر الواقعي الموجب لمطلوبية الدّعاء .

وانّما يلزم على الفقيه أن يقول له بالنحو الثاني ( حتى يصدق عليه ) أي : على الاتيان بداعي الاحتمال ( عنوان الاحتياط ) .

هذا ( مع استقرار سيرة أهل الفتوى ) من الفقهاء ( على خلافه ) إذا لم يأت الفقهاء بلفظ الاحتمال في فتاواهم ، بل يفتون مطلقاً وبلا قيد قائلين : أنّ الدّعاء عند رؤة الهلال مستحب ( فعلم : أنّ المقصود ) بالإحتياط : ( اتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه ) من الأجزاء التسعة ( عدا نيّة الدّاعي ) وهو احتمال المحبوبية فانّ قصد الداعي ينضم إليه من الخارج ، لأنّا نعلم أنّ هذا الهيكل المشتمل على تسعة أجزاء لا يؤى به إحتياطا إلاّ إذا انضم إليه قصد الداعي ، وإلاّ فانّه إذا لم يقصد

ص: 39

ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب ، إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الارشاد العقليّ ، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب .

كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام

-------------------

الداعي لم يأت بشيء اطلاقاً ، اذ بدون قصد الداعي لا يكون الهيكل عبادة إحتياطية .

السادس : كفاية روايات التسامح في أدلة السنن لجعل محتمل العبادة عبادة استحبابية إذا كان هناك فتوى من فقيه ، أو خبر ضعيف يدل عليه من غير حاجة لتصحيحه بالاحتياط ، فقد وردت روايات متعددة تدلّ على التسامح ، واليه اشار المصنِّف بقوله : ( ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً ) أي : انّ الشبهة الوجوبية إذا كانت مستندة الى خبر ضعيف ، أو فتوى فقيه ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك ( فلا حاجة ) في تصحيح محتمل العبادة بالإتيان به إحتياطا ( الى أخبار الاحتياط وإثبات أنّ الأمر فيها للإستحباب الشرّعي دون الارشاد العقليّ ) فانّا أثبتنا سابقاً حُسن الاحتياط في العبادة المحتملة بحمل أوامر الاحتياط فيها على أنها للاستحباب لا للارشاد ، إذ لو كان الأمر للارشاد لم يثبت الاستحباب .

هذا ، لكنا نقول هنا : انّه لا حاجة الى إثبات الأمر الاستحبابي في الاحتياط في الشبهة الوجوبية في العبادة ، وانّما تصحح الاحتياط هنا ( لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّما يحتمل فيه الثواب ) سواء كان في الرواية الواردة أو في فتوى الفقيه تصريح بثواب كذا في طاعة كذا ، أم لم يكن تصريح بذلك وانّما كانت الرواية أو الفتوى تقول باستحباب عمل كذا .

( كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبداللّه عليه السلام

ص: 40

قال : « مَن بلغه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، شيء من الثواب فَعَمِلَه كانَ أجرُ ذلك له وإن كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » .

وعن البحار ، بعد ذكرها : « أنّ هذا الخبر من المشهورات رواه العامّة والخاصّة بأسانيد » .

والظاهر أنّ المراد من « شيء من الثواب » بقرينة ضمير « فعمله » وإضافة الأجر إليه

-------------------

قال : مَن بَلَغَهُ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم شيء من الثّواب فَعَمِلَهُ كانَ أجرُ ذلكَ له وإن كان رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله ) (1) ومن المعلوم : انّ قول النبيّ في الصحيحة من باب المثال فكل الأئمة عليهم السلام قولهم قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم كما ثبت في باب الامامة .

( وعن البحار بعد ذكرها ) أي : ذكر هذه الصحيحة قال : ( « ان هذا الخبر من المشهورات رواه العامّة والخاصة بأسانيد » ) (2) متعددة .

( و ) إن قلت : ظاهر هذاالخبر ونحوه : انّ الشيء المستحب قد ثبت إستحبابه بدليل معتبر وانّما ورد في الرّواية الضعيفة انّ له كذا مقدار من الثواب كقصر في الجنة ونحوه ، لا أنّ الخبر يقول : انّ الشيء الفلاني مستحب ، أو مستحب وله ثواب .

قلت : ( الظاهر : انّ المراد من ) قوله : ( « شيء من الثواب » ، بقرينة ضمير « فعمله » ) إذ الثواب لا يعمل ، وانّما يعمل سبب الثواب وهو : صلاة كذا ، أو حج كذا ، أو صدقة كذا ، أو ما أشبه ذلك ( و ) بقرينة ( إضافة الأجر إليه ) فانّ الثواب لا أجر له ، وانّما الأجر للعمل ، فبهاتين القرينتين نعرف : انّ المراد من قوله

ص: 41


1- - المحاسن : ص25 ح1 بالمعنى ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص341 ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح190 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص256 ب30 ح3 .

هو الفعل المشتمل على الثواب .

وفي عدّة الداعي عن الكلينيّ قدس سره ، أنّه روى بطرقه عن الأئمة عليهم السلام : « أنّه من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله » .

-------------------

« شيء من الثواب » ( هو : الفعل المشتمل على الثواب ) فيكون معنى الحديث : مَن بَلَغَه فعل له ثواب فعمل بذلك الفعل ، كان له أجر ذلك الفعل ، وحيث انّه ليس من المهم ذكر الثواب في الرواية وعدم ذكره ، نقول بأعمّيّة هذا الحديث لما ذكر فيه الثواب ولما لم يذكر .

مثلاً : قد يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : صلّوا صلاة ليلة الرغائب ، وقد يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : من صلّى صلاة ليلة الرغائب فله كذا من الثواب ،فانّ هذا الحديث وشبهه يشمل كليهما .

كما انّه لا فرق بين أن يكون هناك فتوى فقيه على استحباب كذا أو رواية ضعيفة تقول باستحباب كذا ، لأنّ فتوى الفقيه أيضاً كاشفة عن الرواية لولا قرينة خارجية بأنّها من استنباطه لا من الرواية ، وكذلك إذا قامت الشهرة على شيء .

( وفي عدّة الدّاعي عن الكليني قدس سره انّه روى بطرقه عن الأئمة عليهم السلام : « انّه من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله » ) (1) بأن لم يثبت ذلك حقيقة عن الرسول والأئمة عليهم السلام وانّما اشتبه الراوي

أو تعمّد الخطأ .

ص: 42


1- - الكافي اصول : ج2 ص87 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح189 .

وأرسل نحوه السيّد قدس سره ، في الاقبال عن الصادق عليه السلام ، إلاّ أنّ فيه : « كان له ذلك » ، والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة ، إلاّ أنّ ما ذكرناها أوضح دلالةً على ما نحن فيه ، وإن كان يورد عليه أيضا ، تارةً بأنّ ثبوت الأجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعيّ .

-------------------

( وأرسل نحوه ) أي : نحو حديث عدّة الداعي ( السيّد ) ابن طاووس ( قدّس سّره في ) كتاب ( الاقبال عن الصادق عليه السلام ، إلاّ أن فيه : « كان له ذلك » (1) ، والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة ) يأتي ذكر جملة منها في رسالتنا المستقلة في التسامح الملحقة بآخر البحث انشاء اللّه تعالى .

( الاّ أن ما ذكرناها أوضح دلالة على ما نحن فيه ) من تصحيح العمل العباديالاحتياطي بهذه الروايات وذلك بتقريب : انّ أخبار « مَن بَلَغَ » تدلّ بالمطابقة على ثبوت الثواب ، ومن الواضح : انّ الثواب موقوف على وجود الأمر ، فتدل بالإلتزام على وجود أمر مولوي ندبي بإتيان الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، وعلى هذا فيصح اتيان محتمل العبادة بداعي امتثال هذا الأمر ، فانّه إذا قال المولى لعبده : اذا اطعت العالم الفلاني أعطيك ديناراً ، فهم العرف من هذا الكلام انّ إطاعة العالم محبوب للمولى ومأمور به .

هذا ( وان كان يورد عليه ) أي : على الاستدلال بأخبار « مَن بَلَغَ » لتصحيح الاحتياط في العبادة المحتملة ( أيضاً ) أي : كما أورد على أوامر الاحتياط بانها لا تدل على المقصود ( تارةً : بأنّ ثبوت الأجر لا يدل على الاستحباب الشرعي )

ص: 43


1- - اقبال الاعمال : ج3 ص170 ، الاقبال : ص556 ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح189 بالمعنى .

...

-------------------

لإمكان أن يكون الأجر تفضلياً كما في التوصليات .

وحاصل هذا الوجه : انّ هذه الأخبار لا تدل على أن الآتي بمحتمل العبادة امتثالاً للأمر يستحق الثواب ، حتى تدل هذه الأخبار بالالتزام على وجود أمر مولوي بمحتمل العبادة ليقال انّه يصح إتيان محتمل العبادة بداعي امتثاله ، بل غاية ما تدل عليه هذه الأخبار انّ الآتي بمحتمل العبادة من باب الاحتياط ينال ثواباً تفضلاً من اللّه سبحانه وتعالى .

ويؤّد ذلك : : قوله عليه السلام : « فعمله التماس ذلك الثواب » (1) ، وقوله في رواية اُخرى : « فعمله طلباً لقول النبي » (2) ، فلا تشمل هذه الأخبار محتمل العبادة الذي كلامنا فيه ؛ وذلك لعدم امكان الاحتياط في محتمل العبادة للإشكال المتقدِّم .

وان شئت قلت : انّ حاصل هذا الاشكال هو عدم الملازمة بين الثواب وبين الأمر ، فلا يدل وجود الثواب على وجود الأمر ، لجواز كون الثواب على الاطاعة الحكمية .

ثمّ لا يخفى : انّ مرادهم من التسامح في أدلة السنن : عدم اشتراطهم فيها ما اشترطوه في أدلة التكاليف الالزامية ، فانّ التكليف إذا كان الزامياً من واجب أو حرام يحتاج الى دليل معتبر ، أما إذا كان التكليف غير الزامي كالإستحباب والكراهة ، فلا يحتاج الى دليل معتبر ، بل يكفي فيه الخبر الضعيف ، وفتوى الفقيه ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، وما أشبه ذلك .

ص: 44


1- - الاقبال : ص627 ، فلاح السائل : ص12 .
2- - المحاسن : ص25 بالمعنى ونظير ذلك في الوسائل ج1 ص81 ب18 ح185 .

وأُخرى بما تقدّم في أوامر الاحتياط من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون هي المصحّحة لفعله فيختصّ موردها بصورة تحقق الاستحباب وكون البالغ هو الثواب الخاصّ فهو المتسامح فيه دون أصل شرعيّة الفعل .

-------------------

( و ) يورد عليه تارةً ( اخرى : بما تقدّم ) من الدور الذي ذكرناه ( في أوامر الاحتياط : من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون ) الأخبار ( هي المصحّحة لفعله ) أي : لفعل محتمل العبادة ،لأنّه يستلزم الدّور ، فانّه لا قربة قبل أخبار « « مَن بَلَغَ » » لأنه لا أمر؛ فاذا لم يكن أمر لا يكون قربة ، فأخبار « « مَن بَلَغ » » تأتي بالقربة مع أن القربة يلزم أن تكون قبل هذه الأخبار ، اذ القربة مأخوذة في موضوع هذه الأخبار ، فهذه الأخبار متوقفة على وجود الموضوع وجزء من الموضوع هو القربة ،والقربة تتوقف على هذه الأخبار ، فهذه الأخبار تتوقف على هذه الأخبار ، وهو دور على ما تقدّم تقريبه .

وعليه : ( فيختص موردها ) أي : مورد أخبار « مَن بَلَغ » ( بصورة تحقق الاستحباب ) من قبل ، كما ورد : « صلّ صلاة الأعرابي » ( وكون البالغ هو الثواب الخاص ) بدليل آخر بأن قال بعد رواية صلّ صلاة الأعرابي : « من صلّى صلاة الأعرابي فله قصر في الجنة » ( فهو ) أي : ثبوت الثواب الخاص وهو القصر في الجنة في المثال يكون ( المتسامح فيه ) فانّ اللّه سبحانه وتعالى يعطي القصر وان لم يكن هذا الحديث : له قصر في الجنة ، قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا هو المتسامح فيه ( دون أصل شرعيّة الفعل ) فانّ شرعيّة الفعل لا تثبت

ص: 45

وثالثةً بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض لا العقاب محضا أو مع الثواب .

لكن يردّ هذا منعُ الظهور مع إطلاق الخبر ، ويردّ ما قبله ما تقدّم في أوامر الاحتياط .

-------------------

بأحاديث « مَن بَلَغَ » ، وانّما الثواب يثبت بأحاديث « مَن بَلَغَ » فلا يمكن أن يكون أحاديث « مَن بَلَغَ » دليلاً على استحباب ما ورد فيه خبر ضعيف أو فتوى فقيه .

( و ) يورد عليه تارةً ( ثالثة ) : بأنّ هناك في « مَن بَلَغَ » ثلاثة أقسام من الخبر الضعيف ، وفتوى الفقيه ، وما أشبه :

الأوّل : ما قال : من صلّى صلاة الاعرابي - مثلاً - فله قصر في الجنة ، أو قال : صلّ صلاة الاعرابي - مثلاً - .

الثاني : ما قال : من ترك السواك - مثلاً - فعليه عقاب كذا .

الثالث : ما قال : من صلّى صلاة الليل - مثلاً - فله ثواب كذا ، ومن تركها فله عقاب كذا .

هذا ، بينما الايراد الثالث يقول : انّ حديث « مَن بَلَغ » يشمل القسم الأوّل فقط ، لأنّ ظاهره ما أثبت الثواب ، أو قال : إئت بكذا ممّا لازمه : انّ فيه الثواب وذلك ( بظهورها ) أي : ظهور أخبار « مَن بَلَغَ » ( فيما بلغ فيه الثواب المحض ،لا العقاب محضاً ، أو مع الثواب ) فكيف يقول الفقهاء بأن أخبار « مَن بَلَغَ » تشمل الأقسام الثلاثة كلها ؟ .

( لكن يردّ هذا ) الايراد الثالث ( منع الظهور مع اطلاق الخبر ) قوله : « منع » ، فاعل قوله : « يردّ » أي : انّ خبر « مَن بَلَغَ » مُطلق يشمل الأقسام الثلاثة ، فلا وجه لإدعاء ظهور الخبر المذكور في خصوص « مَا بلغ » ، من الثواب المحض ، دون

ص: 46

وأمّا الايرادُ الأوّلُ ، فالانصافُ أنّه لا يخلو عن وجه ، لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل .

-------------------

العقاب محضاً ، أو مع الثواب .

كما ( ويردّ ما قبله ) أي : ما قبل الايراد الثالث من الايرادين الاخرين ( ما تقدّم في أوامر الاحتياط ) : من انّ موضوع هذه الأخبار هو الهيكل فقط من دون قصد القربة ، فاذا انضم إليه الخبر الدال على ثبوت الثواب فيه ، المستلزم للأمر به ، يصير خيراً حقيقياً ، فيمكن اتيانه بنية امتثال هذا الأمر .

( وأمّا الايراد الاوّل ) الذي ذكره المصنِّف بقوله قبل صفحتين : « وان كان يورد عليه تارة بانّ ثبوت الاجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعي » ( فالانصاف انّه لا يخلو عن وجه ) وذلك لأن أوامر « مَن بَلَغَ » للارشاد ، فلا يثبت الاستحباب الشرعي ( لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعاً على البلوغ وكونه ) أي : البلوغ هو ( الدّاعي على العمل ) .

وعليه : فالبلوغ ليس مستند العمل وانّما الأمر العقلي هو مستند العمل ، والبلوغ ارشاد اليه ، فانّ الأمر لمّا كان للإرشاد - لدلالة العقل على الاتيان بما يحتمل كونه أمر المولى لأنّه انقياد - كان الأمر الارشادي مستند العمل لا أدلة « مَن بَلَغَ » ، اذ هنا احتمالان :

الأوّل : انّ يثبت بأخبار « مَن بَلَغَ » أصل الثواب ، وهذا ممّا يدل عليه العقل لأنّه انقياد فلا حاجة الى أخبار « مَن بَلَغَ » .

الثاني : أن يثبت بأخبار « مَن بَلَغَ » خصوصية الثواب : كقصر في الجنة ونحوه ، وهذا وان لم يثبت بالعقل لأنّ العقل لا يدل على الخصوصية ، وانّما يدل على أصل ثواب الانقياد ، الاّ انّ الخصوصيات تفضّل ملزوم للأمر الارشادي

ص: 47

ويؤيّده تقييدُ العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المدحَ والثوابَ ، وحينئذٍ :

-------------------

كما في قوله تعالى : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (1) فيكون حاصل من ذلك : انّ اخبار « مَن بَلَغَ » لا تكون الاّ ارشاداً ، والارشاد لا يثبت الاستحباب الذي ذكره المشهور .

هذا ، وقد أشار المصنِّف الى الاحتمال الأوّل بقوله فيما يأتي : فانّ كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ، كما وأشار الى الاحتمال الثاني بقوله : وان كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ .

( ويؤّده : ) أي : يؤد انّ المراد من اخبار « مَن بَلَغَ » : اتيان محتمل العبادة إحتياطا ، فيكون طاعة حكمية لا طاعة حقيقية حتى يترتب عليه الثواب ويكون الثواب كاشفاً عن الاستحباب بدليل « الإن » ( تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( بطلب قول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والتماس الثواب الموعود ) فهذه الأخبار واردة في موارد إمكان الاحتياط ولا تدل على أن اتيان المحتمل بداعي الأمر يترتب عليه ثواب الامتثال .

( ومن المعلوم : انّ العقل مستقلٌ باستحقاق هذا العامل المدح والثواب ) لأنّه انقياد والمنقاد عقلاً مثاب ، لأنّه ممدوح ،ومدح الشارع هو ثوابه ،كما انّ مدح العقل هو تحسينه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الثواب ثواب الانقياد لا ثواب الاستحباب الكاشف

ص: 48


1- - سورة الانعام : الآية 160 .

فان كان الثابتُ في هذه الأخبار أصلَ الثواب كانت مؤكّدة لحكم العقل بالاستحقاق .

وأمّا طلبُ الشارع لهذا الفعل : فان كان على وجه الارشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود

-------------------

عن الأمر نقول : ( فان كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ) بأن يكون أخبار « مَن بَلَغَ » دالاً على أن من يَعمل بالشيء يُصيب في الجملة ثواباً ( كانت ) أخبار « مَن بَلَغَ » ( مؤدة لحكم العقل بالإستحقاق ) لأنّ العقل يدل على الاستحقاق الانقيادي والشرع أكد ذلك ، فيكون أوامر الشرع إرشادية ، والأوامر الارشادية لا تثبت الاستحباب ، وحيث ثبت أصل الثواب نقول :

ان أُريدَ كشف الأمر الارشادي بسبب هذا الثواب فهو تامٌ ، لكن الأمر الارشادي لا يثبت الاستحباب الذي يقول به المشهور ، لأنّ المشهور يقولون : بأن أوامر « مَن بَلَغَ » تثبت الاستحباب ،بينما هي مثل : « أَطِيعُوا اللّهَ » (1) فانّه أمر ارشادي وليس بمستحب أو واجب اذ لو كان : « أَطِيعُوا اللّهَ » مستحباً أو واجباً لكان له ثواب ، فيلزم أن يكون لمن صلّى ثوابان : ثواب الصلاة ، وثواب الاطاعة ، وهذا ما لا يقولون به .

وان اُريد كشف الأمر المولوي من أصل الثواب قلنا : انّ أصل الثواب ليس كاشفاً عن الأمر المولوي لما عرفت : من انّ الثواب محقق بسبب الانقياد .

والى هذين الوجهين أشار المصنِّف بقوله : ( وأما طلب الشارع لهذا الفعل ، فان كان على وجه الارشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود ) بسبب الاطاعة

ص: 49


1- - سورة النساء : الآية 59 ، سورة آل عمران : الآية 32 و الآية 132 ، سورة المائدة : الآية 92 .

فهو لازمٌ للاستحقاق المذكور وهو عين الأمر بالاحتياط .

وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب فهو غيرُ لازم للحكم بتنجّز الثواب ، لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه ، فيشبه قوله تعالى : « وَمَن يُطع اللّهَ وَرَسولَه يدخله جَنّاتٍ تَجري » ،

-------------------

الحكمية ( فهو ) حقّ ، و ( لازم للاستحقاق المذكور ) فانّ العقل إذا حكم بالثواب ارشد الشرع اليه ( وهو عين الأمر بالاحتياط ) فانّ أمر الاحتياط يثاب عليه بما انّه إنقياد لا لأنّه أمر مولوي .

( وان كان على وجه الطلب الشرعي ) المولوي ( المعبّر عنه بالإستحباب ، فهو غير لازم للحكم بتنجز الثواب ) أي : انّ أوامر الاحتياط لا تدلّ على وجود الطلب الشرعي المولوي حتى يثبت الاستحباب بذلك ، لأنّه لا يستلزم الأمر المولوي تنجز الثواب حتى نقول : كلّما تحقق الثواب تحقق الأمر المولوي ، وذلك ( لأن هذا الحكم ) أي : حكم الشارع بتنجز الثواب حسب ما يستفاد من أخبار « مَن بَلَغَ » ( تصديق لحكم العقل بتنجزه ) أي : بتنجز الثواب ، فانّ العقل يقول بتنجز الثواب بسبب الانقياد ، فيكون الأمر الشرعي إرشاداً ولا يكون أمراً مولوياً .

وعليه : ( فيشبه ) أمر « مَن بَلَغَ » ( قوله تعالى : « وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدخِلهُ جَنَّاتٍ تَجرِي ) مِن تَحتِهَا الأنهَارُ » (1) وذلك من حيث أنّ الأمر بالاطاعة فيه أمر ارشادي الى نيل الثواب ، وكذا يكون الأمر في اخبار « مَن بَلَغَ » أمر ارشادي الى الثواب .

ص: 50


1- - سورة النساء : الآية 13 .

إلاّ أنّ هذا وعد على الاطاعة الحقيقيّة ، وما نحن فيه وعد على الاطاعة الحكميّة ، وهو الفعل الذي يعدّ معه العبد في حكم المطيع ، فهو من باب وعد الثواب على نيّة الخير التي يعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد .

-------------------

( الاّ أنّ هذا وعد ) للثواب ( على الاطاعة الحقيقية ) وهي اطاعة اللّه والرسول ( وما نحن فيه ) من أوامر « مَن بَلَغَ » ( وعد ) للثواب ( على الاطاعة الحكمية ) والفرق بين الطاعة الحقيقية والطاعة الحكمية : انّ الطاعة الحقيقية متيقنة كصلاة الظهر ، بينما الطاعة الحكمية محتملة مثل أوامر « مَن بَلَغَ » .

ثم انّه عرّف الطاعة الحكمية بقوله : ( وهو الفعل الذي يُعدّ معه العبد في حكم المطيع ) فانّ الانسان إذا صلّى يكون مطيعاً حقيقياً ، أمّا إذا عمل حسب أخبار « مَن بَلَغَ » يكون في حكم المطيع ، لاحتمال أن لا يكون هنالك واقع للشيء الذي اثبتته أخبار « مَن بَلَغَ » .

إذن : ( فهو ) أي : وعد الثواب على الفعل الثابت بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » ( من باب وعد الثواب على نية الخير ، التي يُعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد ) فالثواب الذي يناله ثواب إنقياد وليس ثواب إطاعة .

انّ قلت : انّ اخبار « مَن بَلَغَ » اثبتت الثواب ، والثواب كاشفٌ عن الأمر المولوي؛ فاذا قال المولى : من سرّح لحيته كان له قصر في الجنّة - مثلاً - دلّ هذا الثواب على وجود الأمر بتسريح اللحية ، فكذلك بالنسبة الى أخبار « مَن بَلَغَ » فانها تثبت الثواب ، والثواب يدل على وجود الأمر المولوي ، واذا كان هناك امر مولوي كان الاستحباب .

ص: 51

وأمّا ما يتوهّم من : « أنّ استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه . نظيرُ استفادة الاستحباب الشرعيّ من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ، مثل قوله عليه السلام : « من سرّح لحيته فله كذا » ، مدفوعٌ : بأنّ

-------------------

والى هذا الاشكال اشار المصنِّف بقوله :

( وأما ما يتوهم : ) أي : في تقرير دلالة أخبار « مَن بَلَغَ » على الاستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ( من أنّ استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه ) أي : في باب « مَن بَلَغَ » ( نظير استفادة الاستحباب الشرعي من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ) بدون الأمر بتلك الأشياء يعني : انّ مجرد وجود الثواب كاشفٌ عن الأمر ( مثل قوله عليه السلام : من سرّح لحيته فله كذا ) (1) من الأجر ، فانّ الاستحباب كما يُستفاد من الأمر ، كذلك يستفاد من وجود الثواب ، ففي قوله : « مَن سَرّح لحيته » ، يستفاد الأمر من وجود الثواب ، فكذا وجود الثواب في أخبار « مَن بَلغ » يكشف عن وجود الأمر فيها .

هذا التوهم ( مدفوعٌ : بأنّ ) ترتب الثواب على قسمين :

الأوّل : ترتبه على الأمر ،وهذا يكون أمراً مولوياً .

الثاني : ترتبه على احتمال الأمر ، وهذا يكون أمراً ارشادياً .

أما قوله : « من سرّح لحيته » ، فقد رتّب الثواب على الأمر أي : تسريح اللحية فكأنّه قال : تسريح اللحية له ثواب كذا ، بخلاف أخبار « مَن بَلَغَ » فانّه رتّب الثواب

ص: 52


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة: ج2 ص126 ب76 ح169 وفي الجميع (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

الاستفادة هناك باعتبار أنّ ترتّب الثواب لا يكون إلاّ مع الاطاعة حقيقةً أو حكما .

فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ،

-------------------

على احتمال الأمر حيث قال عليه السلام : « التماس ذلك » (1) وقال عليه السلام : « طلب قول النبيّ » (2) ، ففرق بين الثواب في قوله : « مَن سَرّح » ،الكاشف عن الأمر المولوي ، وبين الثواب في قوله : « طلب قول النبي » ، الكاشف عن الأمر الارشادي .

وانّما يكون هذا التوهم مدفوعاً ،لانّه كما قال : ( الاستفادة هناك ) فيما ذكر فيه الثواب (باعتبار انّ ترتّب الثواب لا يكون إلاّ مع الاطاعة حقيقةً أو حكماً) .

ومعلوم : ان الاطاعة الحقيقية في الأوامر ، والاطاعة الحكمية في مورد الانقياد في مثل أخبار « مَن بَلَغَ » ، وحيث كان قوله : « من سرّح لحيته فله كذا » (3) من القسم الأوّل ، كان تسريح اللحية مأموراًبه ، بخلاف « مَن بَلَغَهُ ثواب على عمل » فانّه من القسم الثاني، فتكون طاعة حكمية ، والطاعة الحكمية لا تكشف عن الأمر.

إذن : ( فمرجع تلك الأخبار ) أي : أخبار « مَن سَرَّحَ لحيته » ، وما أشبه ( الى بيان الثواب على اطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل ، فهي ) أي : هذه الأخبار الواردة في مثل : تسريح اللحية ( تكشف عن تعلّق الأمر ) المولوي ( بها ) أي : بتلك الأفعال من قبيل تسريح اللحية ( من الشارع ) الجار متعلق بقوله : « الأمر » .

ص: 53


1- - الاقبال : ص627 ، فلاح السائل : ص12 .
2- - المحاسن : ص25 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج1 ص81 ب18 ح185 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح1 (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالاً إنيّا ، ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل .

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة ،

-------------------

وعليه : ( فالثواب هناك ) في مثل قوله : «من سرّح لحيته» ( لازم للأمر يستدل به ) أي : بوجود الثواب (عليه) ، أي : على وجود الأمر ( إستدلالاً إنّياً ) وهو الانتقال من المعلوم الى العلة كالإستدلال من الدخان على وجود النار ، فاذا ترتب الثواب على الفعل ،يكون الثواب دليلاً على الأمر وان لم يكن أمر ، بأن لم يقل الشارع : سرّح لحيتك ، وانّما قال : مَن سَرّحَ لحيته كان له كذا .

( ومثل ذلك ) أي : مثل استفادة الأمر المولوي والاستحباب ممّا ذكر فيه الثواب ( استفادة الوجوب والتحريم ممّا ) أي : من الأدلة التي ( اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك ) بأن قال : « من ترك الحكم بما أنزل اللّه قذف به في النار » ( أو ) اقتصر فيه على ذكر العقاب على ( الفعل ) بأن قال : « من أكل الربا ملأ اللّه بطنه من النار » (1) ، فانه يكشف بدليل الانّ عن وجود الأمر المولوي بالوجوب في الأوّل ، والحرمة في الثاني .

( وأما الثواب ) عطف على قوله : « فالثواب هناك » : ( الموعود في هذه الأخبار ) أي : أخبار التسامح ( فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة ) لأنّ هذه الأخبار لم تقل : انّ الثواب مترتّب على الشيء الفلاني ، بل تقول : الثواب مترتِّب على الالتماس والطلب ، ومن الواضح : انّ الالتماس والطلب احتمال .

ص: 54


1- - اعلام الدين : ص416 ، جامع الاخبار : ص145 ، وسائل الشيعة : ج18 ص122 ب1 ح23284 .

فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلاً ، فلا يدلّ على طلب شرعيّ آخر .

نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلبٌ إرشاديّ لتحصيل ذلك الموعود .

والغرض من هذه الأوامر ، كأوامر الاحتياط ، تأييد حكم العقل

-------------------

إذن : ( فهو ) أي : الثواب ( لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به ) أي : بذلك العمل ( أمرٌ ) مولوي ، فيكون أمراً إحتياطياً لا أمراً واقعياً ،اذ ليس في المقام أمر واقعي ( آخر ) حتى يكون الثواب مترتّباً على ذلك الأمر الواقعي بل يمكن أن لا يكون في الواقع شيء ( أصلاً فلا يدل ) هذا الثواب التسامحي ( على طلب شرعي آخر ) سوى ما احتملناه بأنّه قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعملناه طلباً لذلك .

( نعم ، يلزم من الوعد على الثواب ) في التماس ذلك الثواب ونحوه من أخبار « مَن بَلَغَ » ( طلب ) من المولى ، ( إرشادي ) الى حكم العقل ( لتحصيل ذلك ) الثواب ( الموعود ،والغرض من هذه الأوامر ، كأوامر الاحتياط ) المتقدّمة في باب الاحتياط مثل : « أَخُوكَ دينُكَ فاحتَط لِدينِكَ » (1) ، وما أَشبه فانّها ليست مولوية ، بل هي : ( تأييد حكم العقل ) بحسن الاحتياط وترتب الثواب على ذلك الاحتياط.

وعليه : فكما أن أوامر الاحتياط ليست مولوية وانّما هي إرشاد الى حكم العقل ، كذلك أوامر « مَن بَلَغَ » ليست مولوية ، وانّما ارشادية ، والأمر الارشادي لا يثبت الاستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ، فأوامر « مَن بَلَغَ » انّما هي

ص: 55


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والترغيب في تحصيل ما وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين .

وإن كان الثابتُ بهذه الأخبار خصوصَ الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو ، وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ، بناءا على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك

-------------------

لتأييد حكم العقل ( والترغيب في تحصيل ما وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين ) فانّ الانقياد نوعٌ من الاطاعة - عقلاً - وقوله « المعدودين » ، صفة لقوله : « المنقادين » .

الى هنا تمّ الكلام عن قوله سابقاً : « فان كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ...» ثم عطف على ذلك قوله : ( وان كان الثابت بهذه الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( خصوص الثواب البالغ ) يعني : انّ الذي يطلب قول النبي يعطى الثواب الذي بلغه بخصوصه ،فاذا بلغه : « انّ مَن سَرّحَ لحيته » (1) - مثلاً - كان له قصر في الجنّة ثبت له خصوص القصر ، لا أصل ثواب الانقياد ( كما هو ظاهر بعضها ) فأنّ بعض هذه الأخبار تقول : كان له من الثواب ما بلغه ، يعني : إذا سَرّح لحيته فانّه يعطى قصراً ،لا انّه يعطى ثواباً في الجملة .

إذن : ( فهو ) أي : هذا الثواب الخاص وهو القصر ( وان كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ) لانّ العقل يدل على أصل الثواب لا على خصوصية القصر ، وأخبار « مَن بَلَغَ » تدلّ على خصوصية القصر ، وذلك ( بناءاً على انّ العقل ) يحكم باستحقاق أصل الثواب ، وانّه ( لا يحكم باستحقاق ذلك

ص: 56


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح169 ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العاملُ لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ، إلاّ أنّ مدلولَ هذه الأخبار إخبار عن تفضّل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعيّ هو الموجب لهذا الثواب ،

-------------------

الثواب المسموع الداعي الى الفعل ) الذي هو القصر في مثالنا .

( بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر : ثواباً ) لأنّ الثواب هو العوض عن العمل الذي قرره الشارع في الواقع ، كالثواب على الصلاة والصوم ، والحج ، والزكاة ؛ وغيرها ، وهنا لم يقرر الشّارع تسرّيح اللحية في الواقع ، وانّما اشتبه الراوي او تعمّد الخطأ ، فما يعطيه الشارع لتسريح اللحية هو نوع من جزاء الانقياد ، لا انّه ثواب كما قال : ( وان كان ) ما يعطيه الشارع بالنسبة الى مَن بَلَغَ ( نوعاً من الجزاء والعوض ) لتعب هذا الانسان طلباً لقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وعلى أي حال : فالثواب الخاص في « مَن بَلَغَ » وان لم يكن مؤداً لحكم العقل لأنّ العقل لا يدل على الثواب الخاص ( الاّ أنّ مدلول هذه الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( إخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل ) لأن العطاء في هذه الصورة تفضل محض ، فاللّه تعالى يتفضّل ( بالثواب المسموع ) وهو القصر - مثلاً - على تسريح اللحية .

( و ) عليه : فانّ هذا الثواب الخاص ( هو ايضاً ) كأصل الثواب ( ليس لازماً لأمر شرعي هوالموجب لهذا الثواب ) أي :كما انّ استحقاق أصل الثواب لا يحتاج الى أمر مولوي بالاحتياط ، وانّما يكون الأمر إرشاداً الى حكم العقل ، كذلك استحقاق الثواب البالغ وهو القصر لا يحتاج الى الأمر المولوي ، فلايدل الثواب الخاص

ص: 57

بل هُوَ نظير قوله تعالى : « مَن جَاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشرُ أمثالِها » ، ملزومٌ لأمر إرشاديّ يستقلّ به العقلُ بتحصيل ذلك الثواب المضاعف .

والحاصلُ : أنّه كان ينبغي للمتوهّم

-------------------

على وجود الأمر المولوي حتى يدل ذلك الأمر المولوي على الاستحباب ( بل هو نظير قوله تعالى : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (1) ) فيكون الثواب الخاص في أخبار « مَن بَلَغَ » ( ملزوم لأمر إرشادي يستقل به

العقلُ ) .

وانّما لم يكن الثواب الخاص لازماً لأمر مولوي ، لأن اللّه يعطي أصل الثواب للإنقياد ، وخصوصية الثواب تفضل محض ، كما انّه يعطي الثواب في الاطاعة للأمر المولوي ويضاعفه عشرة أضعاف تفضلاً محضاً ، فقد قال سبحانه : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (2) .

وكيف كان : فالعقل مستقل ( بتحصيل ذلك الثواب ) اصله للإنقياد ، و ( المضاعف ) منه تفضلاً محضاً ، فلا أصل الثواب يدل على وجود الأمر المولوي ولا خصوصيته تدل على وجود الأمر المولوي ، بل الخصوصية تفضل من اللّه سبحانه وتعالى على أصل الامر الانقيادي والأمر الانقيادي إرشاد وليس بمولوي فلا يدل على الاستحباب كما يقوله المشهور .

( والحاصلُ : ) لا يقاس أخبار « مَن بَلَغَ » بمثل خبر « مَن سَرّح لحيته » ، بل يُقاس بمثل : « أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُول » (3) ومثل : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (4) ف- ( انّه كان ينبغي للمتوهم ) الذي يريد جعل أوامر « مَن بَلَغَ »

ص: 58


1- - سورة الانعام : الآية 160 .
2- - سورة الانعام : الآية 160 .
3- - سورة النساء : الآية 59 .
4- - سورة الانعام : الآية 160 .

أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ماورد من الثواب في بيان المستحبّات .

ثمّ إنّ الثمرَة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعيّ تظهرُ في ترتّب الآثار المترتبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا ،

-------------------

للاستحباب ( أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نية الخير ) اذ وعد الثواب عليها وعدٌ بالثواب على الطاعة الحكمية ،كمافي أخبار « مَن بَلَغَ » فلا يكشف عن وجود أمر مولوي ، فانّ نية الخير كطلب قول النبي مثاب عليها من جهة الطاعة الحكمية لا من جهة الطاعة الحقيقية .

( لا ) انّه يقيس ما نحن فيه ( على ما ورد من الثواب في بيان المستحبات ) التي لا أمر صريح بها مثل قوله : « مَن سرَّح لِحيته فَلَه قَصرٌ فِي الجنة » (1) وغيره من الأمثلة ؛ فتحصل : انّه لا يمكن استفادة الاستحباب من أصل الثواب ،كما لا يمكن استفادة الاستحباب من خصوصية الثواب .

( ثمّ انّ الثمرة بين ما ذكرنا ) : من وجود الأمر الارشادي بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » لا الأمر المولوي ( وبين الاستحباب الشرعي ) الذي يقول به المشهور حيث يقولون بدلالة أخبار « مَن بَلَغَ » على استحباب مُحتمل الوجوب - مثلاً - الثمرة ( تظهر في ترتب الآثار المترتبة على المستحبات الشرعيّة ) .

فعلى قولنا لا تترتب الآثار لكن على قول المشهور تترتب الآثار ( مثل : ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعاً ) فانّه إذا كان أمر بالوضوء ترتب

ص: 59


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح169 ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

فانّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجبُ إلاّ استحقاق الثواب عليه ولا يترتّب عليه رفعُ الحدث ، فتأمّل .

-------------------

عليه رفع الحدث وجاز به الدخول في الصلاة ،اما إذا ثبت الوضوء بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » فانّه لا يترتّب على مثل هذا الوضوء رفع الحدث حتى يجوز الدخول في الصلاة بسبب هذا الوضوء التسامحي .

وعليه : ( فان مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به ) أي : بالأمر بالوضوء - مثلاً - وجبر عدم اعتباره بأخبار « مَن بَلَغَ » ، فنتوضأ لأجل هذه الأخبار ( لا يوجب الاّ استحقاق الثواب عليه ) في الآخرة ثواباً تفضلياً على ما عرفت ( ولا يترتب عليه ) أي : على مثل هذا الوضوء الثابت بأخبار « مَن بَلَغَ » ( رفع الحدث ) فانّ رفع الحدث يترتب على الوضوء المأمور به شرعاً ، وهذا الوضوء التسامحي الوارد بسبب خبر ضعيف لا دليل على رفعه للحدث ، فلا يمكن الدخول في الصلاة بهذا الوضوء .

( فتأمّل ) ولعل الأمر بالتأمّل ، اشارة الى إمكان منع التلازم بين كون كلّ وضوء مستحب شرعاً رافعاً للحدث أيضاً ، اذ قد يتخلف عنه ، كاستحباب الوضوء للحائض ، ولنوم الجنب ونحوهما ، فانّ الأمر الحقيقي بالوضوء الوارد بخبر صحيح ، لا يدل على رفع الحدث ، وانّما يحتاج الى دليل يدل على انّ هذا الوضوء رافع للحدث .

لكن يمكن أن يقال : انّ رافعية الوضوء للحدث لا يحتاج الى دليل ، وانّما عدم رافعيته يحتاج الى الدليل ، ولذا اختار المصنّف في الفقه كون ارتفاع الحدث الأصغر لازم لطبيعة الوضوء في كل محل قابل له ، فاذا ورد دليل على انّ هذا الوضوء لا يرفع الحدث كوضوء الحائض وما أشبه ، فانّ ذلك استثناء .

ص: 60

وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط لا يسوّغ جوازَ المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح - مثلاً - وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ،

-------------------

ثمّ انّ بعضهم ذكر ظهور ثمرة اُخرى بين القول باثبات التسامح للإستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ، وبين عدمه الذي يقول به المصنّف رحمه اللّه وهو انّه :

لو أثبت التسامح الاستحباب الشرعي ، تمكن المكلّف من قصد القربة والاّ لم يتمكن ، بل يلزم الاتيان بقصد الرجاء ، اذ ليس يصح أن يقصد في العمل التسامحي القربة بأن يقول أني أعمل هذا العمل يا مولاي قربة اليك ، إذ القربة انّما تكون فيما إذا أمر المولى وعلم به العبد وهنا لا دليل على الأمر .

( وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية ) أي : الخارج منها عن حد الوجه ، بأن كان الرجل ذا لحية طويلة فانّه يستحب ( في الوضوء ) غسله ( من باب مجرّد الاحتياط ) لقيام دليل ضعيف عليه ، فيغسل المسترسل من باب التسامح ، وغسل المسترسل من باب التسامح ( لا يسوّغ جواز المسح ببلله ) إذا جف ماء يده وأراد المسح ، فانّ له عند الجفاف أن يأخذ للمسح من ببل بعض أعضاء وضوئه ، لكن ليس له حينئذٍ الأخذ من بلل مسترسل لحيته ، هذا على ما نختاره نحن الشيخ .

أما لو أمكن اثبات استحبابه الشرعي بملاحظة أخبار « مَن بَلَغَ » - كمايقول به المشهور - فيجوز المسح ببلل هذا المسترسل .

( بل يحتمل قوياً انّ يمنع من المسح - مثلاً - ) ببل المسترسل ( وان قلنا بصيرورته مستحباً شرعياً ) وذلك لأن استحباب غسله في الوضوء لا يجعله من أجزاء الوضوء، بل يمكن أن يكون حال بلل المسترسل من اللحية حال ماء الفم

ص: 61

فافهم .

-------------------

الباقي من المضمضة للوضوء ، أو ماء الأنف الباقي من الاستنشاق للوضوء فإنّه لا يصح أخذ البلل منه للمسح بل يلزم في صحة المسح به شرطان :

أولاً : إثبات استحباب غسل المسترسل من اللحية .

ثانياً : إثبات انّه جزء من أجزاء الوضوء .

( فافهم ) لعله اشارة الى انّ ظاهر اعتبار شيء في المركب : كونه جزءاً منه ، سواء كان جزءاً وجوبياً أم جزءاً استحبابياً ، فالأمر بغسل مسترسل اللحية دليل على انّه جزء من الوضوء .

هذا ، وقد قال في الأوثق : « يمكن انّ يستدل على كون مفاد أخبار التسامح هو الاستحباب الشرعي دون تأكيد حكم العقل لوجوه :

أحدها : انّ حملها مع كثرتها على ذلك بعيد جداً .

الثاني : انّ أكثر هذه الأخبار مطلقات لا دلالة فيها على اعتبار كون إتيان الفعل بداعي ادراك الثواب البالغ ، وما وقع فيه التقييد بذلك مُجمل لاحتمال كون المراد به : بيان كون الداعي الى العمل والمحرك للمكلف اليه ، لا اعتبار ذلك في كيفية الامتثال بأن يكون غاية مقصودة من الفعل ، والفرق بينهما واضح .

الثالث : انّ ظاهرها : استحقاق الثواب بالعمل ، فلو حملت على بيان حكم العقل وتأكيده لا يكون ترتب الثواب على وجه الاستحقاق ، بل على وجه التفضل من اللّه سبحانه ، لكون العبد معه في حكم المطيع والمنقاد .

الرابع : فهم الفقهاء وحكمهم بالإستحباب الشرعي لأجلها وهم من أهل اللسان .

الخامس : انّ ظاهر بعضها - كما اعترف به المصنّف - هو : استحقاق خصوص

ص: 62

...

-------------------

الثواب البالغ لا مطلقه والعقل لا يستقل به ، وحمله على التفضل أيضاً خلاف الظاهر » (1) .

انتهى وهو كلام متين ، ولذا نحن رأينا في الفقه أيضاً الاستحباب في الأوامر الايجابية ، والكراهة في النواهي السلبية ، واللّه المستعان .

* * *

ص: 63


1- - أوثق الوسائل : ص299 التسامح في أدلة السنن .

ص: 64

الوصائل الى الرسائل

ملحق الشارح : التسامح في أدلّة السنن

اشارة

ص: 65

ص: 66

...

-------------------

ثمّ انّه لا بأس بأن نذكر هنا رسالتنا المستقلة في التسامح .

فنقول وعلى اللّه التكلان :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

والحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين .

وبعد : فقد وردت روايات متعددة تدل على التسامح ،ونحن ننقل هذه الأخبار عن كتاب جامع أحاديث الشيعة ، ونقول :

عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن سَمِعَ شَيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه » (1) .

وعن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « من بَلَغَهُ ثواب من اللّه عزّ وجلّ على عمل فَعَملَ ذَلكَ العمل التماس ذلك الثواب ،أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (2) .

وعن محمد بن يعقوب بطرقه الى الأئمة عليهم السلام : « انّ مَن بلَغَهُ شيء من الخَيرِ فَعَمَلَ بهِ ، كان لَهُ من الثَّواب ما بلغه وان لم يكن الأمر كما نقل اليه » (3) .

و عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « انّ مَن بلَغَه شيء من الخَير فعَمِل بهِ ، كان له أجر ذلك وان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (4) .

وعن هشام بن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن بَلَغَهُ شَيءٌ مِن الثّواب على خَيرِ فَعَمَلَه ، كان لَهُ أجرُ ذلك وان كان رسول اللّه لم يقله » (5) .

ص: 67


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 340 .
2- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص340 .
3- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص340 .
4- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
5- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .

...

-------------------

وفي رواية اُخرى عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، انّه قال : مَن بَلَغَهُ شَيء من الخير فَعَملَ بِه ، كان له أجرُ ذلك وان كان رسول اللّه لم يقله » (1) .

وعن محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن بَلَغَهُ عن النبي شيء فيه الثواب ففعل ذلك طلباً لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان له ذلك الثواب وان كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (2) .

وعن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « مَن بَلَغَهُ عن النبيّ شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (3) .

وعن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن بَلَغَهُ من اللّه فضيلة فأخذ بها وعملَ بما فيها ايماناً باللّه ورجاءَ ثوابه ، أعطاهُ اللّه تعالى ذلك وان لم يكن كذلك » (4) ، لكن هذه الرواية مروية في عدّة الداعي من طرق العامة .

وكيف كان : فالظاهر : صحة ثلاثة من هذه الأخبار ، وحسن خبر واحد منها وبقية الأخبار لم يثبت صحتها وعدم صحتها .

ثم انّ في مسألة التسامح فوائد كثيرة ، وقد ذكر جملة منها الفقهاء والاُصوليون ، ونحن نشير اليها بايجاز :

الأوّل : إنّ كلاً من احتمال الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ممّا ليس له سند معتبر يكون حجة على الحكم وداخلاً في التسامح باطلاق أدلته ، وان منع الاطلاق كفى الملاك ، وهل الاباحة كذلك لا يبعد ، لما ورد : « من انّ اللّه يحب أن

ص: 68


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
2- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
3- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
4- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص 342 .

...

-------------------

يؤذ برخصه ، كما يحب أن يؤذ بعزائمه » (1) ، فاذا أباح خبر ضعيف شيئاً وكان الأصل على اباحته وعمله المكلّف رجاء محبوبيته عند اللّه من باب الأخذ برخصه أثيب ، لأنّ ما هو محبوب عند اللّه سبحانه وتعالى مثاب عليه .

الثاني : لا يشترط في الرواية الضعيفة أو ما أشبهها إفادتها الظن بل حتى ما افادت الشك والوهم فكذلك أيضاً ، فاذا دلّ الخبر على استحباب أخذ الأضفار يوم كذا؛ واحتمل المكلّف ذلك احتمالاً مشكوكاً أو موهوماً لظنه خلافه ، وعمله التماس ثوابه كان داخلاً في التسامح .

الثالث : إذا كانت الرواية في كتب العامة أو غير المسلمين ، فهل يشمله التسامح ؟ يحتمل العدم ،لعدم جريان السيرة على الأخذ بما أخذوه ، وأمّا رواية المشايخ بعض ما نقله أمثال أبي هريرة ومن أشبهه ، فلا يدل على أنهم أخذوه من هذه الجهة ، وإلاّ لأخذوا كلّ ما في كتبهم ، بل لعله كانت هناك قرينة تدل على الصحة ونحوها ، ويؤد ما ذكرناه نهيهم عليهم السلام ، عن الأخذ منهم .

الرابع : فتوى الفقيه ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، والسيرة ، ونحوها كلها داخلة في التسامح .

الخامس : المركوز من الشرع في أذهان المتشرعة المسمى بالإرتكاز لا يبعد شمول التسامح له أيضا لانّه انعكاس عن أقوالهم وأعمالهم وتقريراتهم عليهم السلام ، علماً بأن نسبة الارتكاز الى السيرة نسبة العلة الى المعلول .

السادس : لو علم المقلِّد اشتباه الفقيه في مستنده لم يشمله دليل التسامح ، وكذا

ص: 69


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص108 ب105 ح263 و ج16 ص232 ب29 ح21441 ، بحار الأنوار : ج93 ص5 ب128 .

...

-------------------

إذا كان فتوى المجتهد بالإستحباب والكراهة من جهة قوله بصحة التسامح في الدلالة ، وكان المقلِّد من الأفاضل يرى عدم التسامح في ذلك ، فانّه حينئذٍ لا يجري دليل التسامح بالنسبة إليه .

السابع : لو قال فقيه بشيء ولم نجده في الفقه أصلاً ، أو ذكر رواية لم نجدها في كتب الحديث إطلاقاً ، لا يبعد شمول دليل التسامح له ، وذلك مثل ما ذكره العلامة « بن الأعسم » من آداب شرب الماء في قصيدته ، المبنية على تضمين الروايات فيها بقوله :

لا تعرضن بشربة على أحد *** وإن يكن يعرض عليك لا يرد

فانّ عدم عرض الماء حين شربه على أحد لم نعثر على رواية فيه مع انّا فحصنا عنه فحصاً بليغاً وسألنا أهل الاطلاع والفن عنه .

الثامن : يجوز للمقلِّد إذا كان فاضلاً في العلم الأخذ بقاعدة التسامح فيما لم يفت فيه مجتهده بشيء أو أفتى مجتهده بعدم الحرمة ممّا تيقن عدم الحرمة ورأى بعض الأخبار الضعاف في موردها بالإستحباب .

التاسع : الرواية الضعيفة - القائلة بالوجوب أو الحرمة : يجوز للمجتهد ، الفتوى طبقهما بالاستحباب في مورد رواية الوجوب ،والكراهة في مورد رواية الحرمة ؛ وذلك للتسامح بعد عدم ثبوت الوجوب والحرمة لضعف الرواية - فرضاً - .

العاشر : لو ورد دليل على الكراهة ،لكن كان تقريرهم عليهم السلام على الخلاف ، لم يستبعد عدم شمول التسامح للكراهة مثل : الرواية الضعيفة القائلة : « بأن مسجد المرأة بيتها » ، مع انهن كن يحضرن في المسجد الحرام و مسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم طيلة صلاته في مكة والمدينة المنورة .

ص: 70

...

-------------------

الحادي عشر : لوكان خبران ضعيفان أحدهما يدل على الاستحباب والثاني على عدمه ،فهل يشمل التسامح الأوّل ؟ احتمالان وان كان لا يبعد الشمول على انّه من التسامح في التسامح ، أو نقول بشمول الملاك له على أقل تقدير .

الثاني عشر : هل يشمل التسامح ما ورد عن المعصومين عليهم السلام : من انّ الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه إذا ظهر يعمل كذا أو يأمر بكذا من الأحكام التي ليست موجودة في أيدينا الآن ؟ لا يبعد ذلك للإطلاق ، الاّ إذا علمنا انّه من خصوصياته صلوات اللّه وسلامه عليه .

الثالث عشر : إذا اختلف في انّ الشيء الفلاني وارد عن المعصوم أو لا ؟ كبعض الأشعار المنسوبة الى الامام عليّ عليه أَفضل الصلاة والسلام فهل يشمله التسامح ؟ لا يبعد ولو من التسامح في التسامح أو من باب الملاك .

الرابع عشر : لا يبعد شمول التسامح لسائر ما ورد عن الأنبياء والأوصياء وللأحاديث القدسية أيضاً ؛ أما ما ينقل عن مثل سلمان الفارسي ، وأبي الفضل العباس ، والعقيلة زينب ، عليهم السلام فلا يبعد انصراف الاطلاقات عنها ، الاّ اذا كان كاشفاً عن سنة واردة .

نعم ، يُمكن الأخذ بأقوالهم وأفعالهم من باب التسامح في التسامح أو الملاك .

الخامس عشر : هل يتسامح في القضايا الشخصية المرتبطة بالمعصومين عليهم السلام من باب الأُسوة ، مثل ما ورد : من انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعد خيبر أرسل مالاً الى كفار مكة لإستمالتهم وجلبهم نحو الاسلام ، أو سمح بالماء لمشركي بدر (1) ،

ص: 71


1- - راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص122 .

...

-------------------

أو ما أشبه ذلك ؛ بمعنى : انّ نعمل بعمل مناسب في مثل تلك الواقعة ؟ لا يبعد ذلك وان لم يكن عموم أو اطلاق .

السادس عشر : لو وردت روايتان متعارضتان ، إحداهما تقول بالإستحباب والاُخرى بالكراهة ،لم يبعد صحة العمل بأي منهما من باب التسامح والرجاء .

السابع عشر : العام والخاص ، والمطلق والمقيد غير الالزامي ، يستحب العام والمطلق فيه أيضاً لأن غير الالزامي لا يوجب التقييد والتخصيص ، كما إذا ورد : « زُر الحسين عليه السلام » (1) ، و « زر الحسين يوم عرفة » ، حيث يتسامح باتيان فرد المطلق غير المقيد كزيارة الحسين عليه السلام في غير يوم عرفة ، إتياناً بعنوان التسامح .

الثامن عشر : لو ورد حديثان ضعيفان أحدهما يقول بالاستحباب والآخر بالحرمة أو أحدهما يقول بالكراهة والآخر بالوجوب ،لم يستبعد جريان التسامح في كلا الطرفين .

التاسع عشر : لو وردت فتوى ورواية على طرفي المسألة ، لم يستبعد جريان التسامح فيهما أيضاً ،وكذلك بالنسبة الى الاجماعين المنقولين ، والشهرتين المتخالفتين ، والى غير ذلك .

العشرون : لا يجري التسامح في مثل المنام وفعل أحد الصلحاء بكذا ، كما في العروة الوثقى : من وضع الخاتم تحت لسان الميت لأن الصالح الفلاني فعله .

الواحد والعشرون : لو قال احد الصلحاء : بانّه رأى الحجّة عجل اللّه تعالى

ص: 72


1- - وسائل الشيعة : ج14 ص441 ب441 ح19556 .

...

-------------------

فرجه الشريف وهو يقول له كذا ، الظاهر : عدم جريان التسامح فيه ، لانصراف الأدلة عن مثله ، ولروايات التكذيب التي ظاهرها : التكذيب في نقل الفتاوى عن الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه لا التكذيب لمجرّد ادعاء الرؤة ، والاّ فمن الواضح انّ جماعة من علمائنا الكرام تشرفوا بلقائه عليه السلام .

الثاني والعشرون : لو تردد المستحب الوارد في الرواية بين متباينين كما إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب قص الأظفار مردداً بين يوم الخميس أو يوم الجمعة ممّا لم يعلم منه استحباب أي اليومين ، فاذا اتى به في اليومين فلا اشكال في حصول الثواب ، أما إذا أتى به في أحد اليومين فهل يكون مشمولاً للتسامح ؟ الظاهر : لا .

بمعنى : انّه لا يكون آتياً بالمستحب التسامحي في الوفاء بنذره إذانذر الاتيان بمستحب ؛ لأنّ قوله عليه السلام : « فعمله » (1) ، لا يصدق عليه .

الثالث والعشرون : إذا استفيد الملاك من الرواية الضعيفة ، كان بمنزلة ما فيه الرواية من باب التسامح كما إذا ورد استحباب الوضوء للنوم فانّ لم يكن قد توضأ يتيمم على لحافه ، فاستفيد وجود ملاكه في التيمم على وسادته .

الرابع والعشرون : إذا كانت رواية مُجملة لها قدر متيقن ، كان الاتيان بذلك القدر المتيقن مشمولاً لأدلة التسامح ، أما الاتيان بالزائد عن ذلك إذا كان الزائد مشكوكاً فيه ، فليس مشمولاً لأدلة التسامح .

الخامس والعشرون : احتمال وجود الدليل أو إحتمال المطلوبية ، لايدخل

ص: 73


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص341 .

...

-------------------

المسألة في التسامح الاّ إذا قيل بالتسامح في التسامح .

السادس والعشرون : لا يجري التسامح في الدلالة ، وفي جهة الصدور بل في السند أيضاً ، اللّهم الاّ إذا قيل بالتسامح في التسامح .

السابع والعشرون : قد تقدّم الكلام حول أنّه هل بهذه الأخبار يكون الشيء مستحباً كسائر المستحبات الشرعية أم لا ؟ اختلفوا فيه ، فجماعة على الأوّل ، وصاحب الذخيرة وتبعه آخرون على الثاني ، فقد قال بعد أن ذكر امكان التسامح في أدلة السنن بسبب الأخبار ما لفظه : « لا يخفى انّ هذا الوجه انّما يفيد مجرّد تردد الثواب على ذلك الفعل ، لا أنّه أمر شرعي يترتّب عليه الأحكام الوضعية المترتبة على الأحكام الواقعية » .

أقول : وكذا يأتي الاختلاف والكلام نفسه في باب الكراهة أيضاً .

الثامن والعشرون : لو دلّت رواية ضعيفة على أفضلية شيء على شيء ، كان الفضل أيضاً مشمولاً لأدلة التسامح .

التاسع والعشرون : من المعلوم أنّ الآثار الوضعية كالصحة والمرض - مثلاً - لا تترتب على الروايات الضعيفة ،فاذا ورد : انّ في أكل الجبن - مثلاً - صحة البدن أو ضرر له ، لا تكون الرواية سبباً لذلك ، لأنّه إرشاد محض ،بل الأمر كذلك في الرواية الصحيحة ،لمكان الارشاد كما عرفت ، والتكوين لا يثبت بالتشريع كما لا يثبت التشريع بالتكوين .

الثلاثون : إذا علمنا انّ فلاناً كذّاب وضّاع فهل يثبت الثواب بروايته شيئاً من ذلك للتسامح ، كما يقال بالنسبة الى من كان يضع الأَحاديث في فضل سور القرآن ؟ لا يبعد ذلك فيما لم نعلم بكذبه في هذا الحديث الخاص - مثلاً - فهو

ص: 74

...

-------------------

كأصل الصحة جارٍ حتى فيمن نعلم بفسقه وعدم مبالاته .

الواحد والثلاثون : التسامح كما يجري في الأحكام يجري في الموضوعات ايضاً ، قال الشيخ المرتضى قدس سره في رسالته التي دوّنها في التسامح في أدلة السنن ما لفظه : « هل يجوز التسامح في الرواية غير المعتبرة الدالة على تشخيص مصداق المستحب أو فتوى الفقيه بذلك ، فاذا ذكر بعض الأصحاب انّ هوداً وصالحاً على_'feنبينا وآله وعليهما السلام مدفونان في هذا المقام المتعارف الآن في وادي السلام في النجف الأشرف فهل يحكم باستحباب اتيان ذلك المقام لزيارتهما والحضور عندهما أم لا ؟ وكذا إذا وردت رواية بأنّ مدفن الرأس الشريف عند مرقد أمير المؤنين صلوات اللّه وسلامه عليه فهل يستحب زيارته هناك بالخصوص أم لا ؟.

وكذا لو قال عدلٌ واحد بكون هذا المكان مسجداً ، أو مدفنا لنبيّ أو ولي» (1) ؟.

التحقيق : أن يقال بعد عدم الاشكال في الاستحباب العقلي من باب الاحتياط وجلب المنفعة المحتملة : انّ الأخبار وان كانت ظاهرة في الشبهة الحكمية ، أعني : ما إذا كانت الرواية مثبتة لنفس الاستحباب لا لموضوعه ، الاّ أن الظاهر : جريان الحكم في محل الكلام بتنقيح المناط ، اذ من المعلوم : انّه لا فرق بين أن يعتمد على خبر الشخص في استحباب العمل الفلاني في هذا المكان من مسجد الكوفة - مثلاً - وبين أن يعتمد عليه في أن هذا المكان هو المكان الفلاني الذي علم انّه يستحب فيه العمل الفلاني ، مضافاً الى إمكان أن يقال : انّ الاخبار بالموضوع

ص: 75


1- - رسالة التسامح في أدلة السنن للانصاري .

...

-------------------

مستلزم للإخبار بالحكم ، بل قد يكون الغرض منه هو الاخبار بثبوت الحكم في هذا الموضوع الخاص .

نعم ، لو ترتب على الخبر المذكور حكم آخر غير الاستحباب ، فلا يترتب ذلك عليه لما عرفت ، فلو ثبت - مثلاً - استحباب الصلاة في المكان الذي يقال له مسجد فخبرالاستحباب لا يترتّب عليه ، فلا يجب إزالة النجاسة عنه ، ولا يجري الاعتكاف فيه ، الى غير ذلك ممّا هو واضح من المطالب المتقدّمة .

الثاني والثلاثون : التسامح لا يجري فيما إذا لم يأت المكلّف بشرطٍ أو جزءٍ عمداً ، أو أتى بالشيء لكن مع مانع أو قاطع ، كما إذا أتى بالصلاة المستحبة بدون الركوع أو مع الضحك في اثنائه ، وذلك لوضوح : انّه ليس مصداق بلوغ الثواب على العمل .

نعم ، إذا كان هذا المقدار من الشيء مقدوراً له دون سائر الخصوصيات ممّا يدخله في دليل الميسور ، شمله التسامح فيما كانت الرواية ضعيفة .

الثالث والثلاثون : لا فرق في شمول أدلة التسامح للتعبدي والتوصلي ، سواء المستقل ، كصلاة ركعتين وغير المستقل كالقنوت في الصلاة .

الرابع والثلاثون : هل يشمل أدلة التسامح الكفار ، كما إذا أتى الكافر بشيء مستحب شرعاً لرواية ضعيفة من باب التسامح ؟ لا يبعد ذلك لأن الأدلة تشمل كل مكلّف ، والكافر يخفف عنه كما ورد في باب عمل الخيرات عن الكافر الميت .

الخامس والثلاثون : الظاهر عدم شمول التسامح لكلمات من لا يعرف هل أنهم أنبياء أو أوصياء ، أو لا ؟ كما في كنفوشيوس وبوذا حيث يحتمل انهما من الأنبياء

ص: 76

...

-------------------

الذين حرّف دينهما ، وكذلك بالنسبة الى الكتب المحرّفة كالتوراة والانجيل الرائجين (1) ، فلا تسامح بالنسبة الى الكلمات الموجودة فيهما ، أما بالنسبة الى من عظَّمهم اللّه تعالى كلقمان ، فالظاهر : جريان التسامح بالنسبة اليه .

السادس والثلاثون : الصديقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام كسائر المعصومين في جريان التسامح بالنسبة الى الروايات الواردة في فعلها ، أو قولها ، أو تقريرها ، حتى ولو كانت الروايات في غاية الضعف (2) ، وكذا ما ورد عن السيدة مريم اُم المسيح عليهماالسلام .

السابع والثلاثون : لو قال فقيه بالإستحباب التسامحي برهة من الزمن ثمّ عدل عنه ، فهل يشمله دليل التسامح بعد العدول ؟ احتمالان : من أن عدوله لا يبطل اجتهاده السابق إذ الاحتمال قائم على تغيّر اجتهاده ، ومن انّه بعد تغير الاجتهاد لا مستند لهذا المستحب اطلاقاً ، لكن لا يبعد الاول ،ولو من باب التسامح في التسامح .

الثامن والثلاثون : لا فرق في كون فتوى الفقيه منشئاً للتسامح بين حياته وموته ، لإطلاق الأدلة .

التاسع والثلاثون : لو عارض الاستحباب ضرر ونحوه ، كالغسل التسامحي الموجب للضرر ، لا يشمله أدلة التسامح ، بل من الواضح : انّ أدلة الضرر تسقط

ص: 77


1- - وقد ذكر الشارح بعض الملاحظات على الانجيل في كتابه الموسوم : ماذا في كتب النصارى .
2- - وقد ذكر الشارح بعض الأحكام المستنبطة من كلمات الزهراء وخطبها في كتابه القيّم « من فقه الزهراء » ويتألّف الكتاب من ستّة أجزاء طبع منه الأوّل والثاني .

...

-------------------

الاستحباب المقطوع به .

الأربعون : لا يختص التسامح بفعل الانسان لنفسه ، بل يشمل فعله للمولى عليه مجنوناً أو صغيراً ، وكذا بالنسبة الى ميّته ، كما إذا ورد بخبر ضعيف إستحباب غسل المولود ، أو تلقين الميت الى غير ذلك .

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة التسامحية ، واللّه سبحانه أعلم بحقائق الاُمور .

«سُبحَانَ ربِّكَ رَبِّ العِزّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلاَمٌ على المرسلين ، والحمدُ للّه ربِّ العالمينَ ».

* * *

ص: 78

الثالث :

-------------------

التنبيه ( الثالث ) من تنبيهات مسألة الشبهة الوجوبية لفقدان النصّ ، وفيها على ماذكره المصنّف صورتان ، في الصورة الاُولى منهما قسمان :

القسم الأوّل : ما اذا شك في انّه هل يجب عليه شيء تعيينا أم لا ؟ كما اذا شك في انّ الاستهلال واجب أو ليس بواجب ؟ فالبرائة تقول بعدم الوجوب .

القسم الثاني : ما إذا شك في انّه هل يجب عليه شيء تعيينا أم لا ؟ لكن هذا التعيين على فرض الوجوب ليس من الأوّل ، بل من الأوّل كان عليه واجب مردّد بين شقين تخييرا ثم تعذّر أحد شقّيه ، فيشك هل انّه الآن واجب عليه تعيينا بالعرض أم لا ؟ .

مثلاً : إذا لم يتمكن الآن من العتق فيشك في انّه هل يجب عليه الاطعام من جهة شكه في انّه كان يجب عليه العتق أو الاطعام تخييرا ؟ فالاطعام حينئذٍ ممّا احتمل كونه واجبا تعيينيا عرضيا ، لا تعيينيا أوليا كالاستهلال الذي ذكرناه في القسم الاول .

الصورة الثانية : ما إذا شك - بعد العلم بواجب معيّن عليه - في انّه هل يجب عليه الشيء الفلاني ايضا أو هو مباح ؟ وعلى تقدير وجوبه هل يكون واجبا تخييريا بينه وبين ذلك الشيء المعلوم الوجوب أم لا ؟ فهنا شيئان : شيء معلوم الوجوب ، وشيء آخر مشكوك في انّه عدل لذلك الواجب حتى يكون واجبا تخييريا ، أو ليس عدلاً له حتى يكون مباحا ؟ .

مثلاً : إذا تعمّد الافطار في شهر رمضان ، فالكفارة هنا : الصيام واجب قطعا ، لكن يحتمل ان يكون مخيرا بين الصيام وبين الاطعام ، فيكون الشك في الاطعام هل هو واجب عدلاً ، أو مباح ؟ .

ص: 79

انّ الظاهر اختصاصُ أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعيينيّ ، سواء كان أصليّا او عرضيّا ، كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار . أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والاباحة فلا تجري فيه أدلة البراءة ،

-------------------

أشار المصنِّف الى القسم الأوّل من الصورة الاُولى قائلاً :

( ان الظاهر : اختصاص أدلة البرائة بصورة الشّك في الوجوب التعييني ) بأن يشك الانسان في انّ الشيء الفلاني واجب تعيينا أم لا ؟ فالأصل هو : البرائة من الوجوب ( سواء كان ) التعيين ( أصليّا ) كما تقدّم في مثال الاستهلال حيث يشك الانسان في ان الاستهلال واجب أو ليس بواجب ؟ .

وأشار إلى القسم الثاني من الصورة الاُولى بقوله : ( أو عرضيّا ) أي : كان التعيين بالعرض بعد أن كان في الأصل واجبا تخييريا ، لكن تعذّر شق منه ، فتعيّن الشق الثاني ، فهو على قوله : ( كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ) يعني : كان عليه في الأصل واجب تخييري فتعذر شق منه ، فبقي الشق الآخر واجبا متعينا .

وعلى أي حال : فالشك في هذين القسمين هو مجرى البرائة .

و ( أما ) الصورة الثانية وهي ما ( لو شك في الوجوب التخييري والاباحة ) فشيء واجب قطعا ، لكن شيء آخر يشك في انّه هل يجب حتى يكون عدل الشيء الأوّل ، أو ليس بواجب حتى يكون مباحا ؟ ( فلا تجري فيه أدلة البرائة ) فلا يقال الأصل البرائة عن الوجوب التخييري حتى تكون النتيجة : الوجوب التعييني للشيء الأوّل وعليه : ففي مثال الصيام والاطعام لا يقال : الأصل البرائة عن التخيير بينهما حتى يكون الصيام واجبا تعيينيا ، فإنّ أصل البرائة لا يشمل مثل ذلك .

ص: 80

لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه .

-------------------

وانّما لا تجري أدلة البرائة في المقام ( لظهورها ) أي ظهور أدلة البرائة ( في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف ) يعني : انّ الشيء المجهول الذي لا يعلم انّه واجب أو ليس بواجب ، حرام أو ليس بحرام ؟ هذا الشيء ينفيه البرائة ، فلا يتنجّز ( بحيث يُلتزَم به ) بصيغة المجهول ( ويعاقب عليه ) .

وقول المصنّف : « لظهورها » ، مقدمة أُولى ، وهناك مقدمة ثانية مطويّة في كلام المصنّف وهي : انّ البرائة في رفع التخيير ليست رافعة لوجوب مجهول .

وإن شئت قلت في بيان المقدمتين : ان البرائة ترفع الوجوب المجهول ، والشك في التخيير ليس من الوجوب المجهول ، فانّ المنساق من أدلة البرائة : نفي الضيق عن المكلّف في التكاليف المجهولة ، ولا ريب ان نفي الوجوب عن الفرد المشكوك لا يوجب توسعة على المكلّف ، بل يوجب التضييق عليه لأجل تعيين الاتيان بالفرد الآخر بسبب نفي وجوب الفرد المشكوك .

والحاصل : إنا اذا علمنا : انّ كفارة الافطار - مثلاً - الصيام ، وشككنا في انّ عدل الصيام : الاطعام أم لا ، فلا نتمكن أن نقول بجريان البرائة عن الاطعام ممّا يوجب تعيين الصيام عليه ، إذ لو جرت هذه البرائة أوجب تضييقا على المكلّف لحصر الواجب عليه في الصيام فقط ، والبرائة منّة ، وهي للتوسعة لا للتضييق .

( و ) لا يقال : نسلّم عدم جريان البرائة لرفع وجوب الاطعام في المثال ، لكن يمكن اجراء الاستصحاب بأن يقال : الاطعام لم يكن واجبا ، فاذا شككنا في انّه هل وجب عدلاً للصيام أم لا ؟ نستصحب عدم وجوبه .

ص: 81

وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيلٌ ، لأنّه إذا كان الشكُّ في وجوبه في ضمن كلّيّ مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير

-------------------

لأنه يقال : ( في جريان أصالة عدم الوجوب ) أي : استصحاب عدم الوجوب ( تفصيلٌ ) وهو ان الأقسام في المقام ثلاثة :

الأوّل : إذا علم وجوب الصيام لكن لا يعلم هل وجوبه بالخصوص أو في ضمن كلي يشمل الصيام والاطعام معا ؟ فاذا لم يعلم - مثلاً - بانّ المولى قال : صم أو قال : كفّر ، فانّه إذا قال : كفّر ؛ فالكفارة كلي يشمل الصيام والاطعام ، وهنا لا يجري استصحاب عدم الوجوب؛ إذ الوجوب متيقن؛ وإنّما لا نعلم وجوب الكلي أو الفرد .

الثاني : ان نعلم انّ المولى قال : « صم » ، لكن لا نعلم هل للصوم عدل واجب هو الاطعام وقد أوجبه المولى بأمر آخر أم لا ؟ وهنا يجري استصحاب عدم وجوب الاطعام .

الثالث : ان نعلم انّ الواجب هو الصيام فقط؛ ونعلم بأنّ الاطعام مسقط لهذا الواجب؛ لكن لا نعلم هل الاطعام عدل واجب للصيام أو مباح مسقط للصيام ؟ مثل اسقاط السفر المباح لصوم رمضان ، فالاستصحاب هنا يقول ليس الاطعام بواجب ، كما انّه إذا تعذر الصيام تقول البرائة : « لا يجب عليك الاطعام » .

وإلى القسم الأوّل اشار المصنِّف بقوله : ( لأنّه اذا كان الشك في وجوبه في ضمن كليّ ) شامل - في المثال - للصيام والاطعام كوجوب الكفارة بأن قال المولى : كفِّر ، فهو ( مشترك بينه وبين غيره ) فانّ قول المولى : « كفّر » مشترك بين الاطعام المشكوك وجوبه؛ وبين غيره وهو الصيام المعلوم الوجوب .

( أو وجوب ذلك الغير ) فقط بأن قال المولى : « صم » ولم يقل : « كفّر » ، فان

ص: 82

بالخصوص ، فيشكلُ جريان أصالة عدم الوجوب ، إذ ليس إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّيّ والفرد ، فتعين هنا إجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك .

وأمّا إذا كان الشكُّ في إيجابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعيّ ، وهو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له .

-------------------

الصوم حينئذٍ يكون واجبا ( بالخصوص ) لأنّه ليس له فرد آخر في ضمن الكلي الواجب ( فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ) بالنسبة إلى الاطعام ( إذ ليس الاّ وجوب واحد ) في المقام ( مردّد بين الكلّي ) وهو : « كفِّر » ( والفرد ) وهو :

« صم » ، لأنّا نعلم انّ هناك واجب علينا ، لكن لا نعلم هل هذا الواجب هو الكلي الشامل للفردين أو الفرد الواحد ؟ .

إذن : ( فتعين هنا ) في هذا المثال الذي ذكرناه بقولنا : ان يشك الانسان في انّ المولى قال : « كفّر » ، أو قال : « صم » ، فانّه يتعيّن عليه ( إجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب ) كالصيام ( بفعل هذا المشكوك ) الوجوب كالاطعام .

والى القسم الثاني اشار بقوله : ( وأمّا إذا كان الشك في ايجابه بالخصوص ) بأن علمنا انّ المولى قال : « صم » ، ولم نعلم انّه قال في أمر آخر : « أو أطعم » حتى يكونان واجبين مخيرين ، أو يكون الصيام وحده واجبا معينا ( جرى أصالة عدم الوجوب ) للاطعام ( وأصالة عدم لازمه الوضعيّ ) أي العقلي ( وهو سقوط الواجب المعلوم ) من الصيام بفعل الاطعام المشكوك ( إذا شك في إسقاطه له ) لأنّا نعلم انّا إذا صمنا سقط عنّا الواجب ، لكن إذا أطعمنا نشك في انّه هل سقط عنّا

ص: 83

أمّا إذا قطع بكونه مُسقِطا للواجب المعلوم ، وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، فلا مَجرى للأصل إلاّ بالنسبة إلى طلبه ، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعيينيّ بالعرض إذا فرض لتعذر ذلك الواجب الآخر .

-------------------

الواجب الذي هو الكفارة أم لا ؟ .

والى القسم الثالث أشار المصنِّف بقوله : ( أمّا إذا قطع بكونه مسقِطا للواجب المعلوم ، و ) لكن ( شك في كونه واجبا ) تخييريا - مثلاً - بين الاطعام والصيام ، فالاطعام لكونه واجبا تخييريا يكون ( مسقطا للواجب الآخر ) الذي علم وجوبه ، وهو الصيام في المثال .

( أو مباحا مسقطا لوجوبه ) أي : لوجوب الصيام في المثال المذكور ( نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ) في شهر رمضان ( فلا مجرى للأصل الاّ بالنسبة إلى طلبه ) اي : طلب الاطعام في المثال ، فاذا شككنا في انّ الاطعام أيضا واجب أو ليس بواجب ، نجري اصل عدم الوجوب بالنسبة إليه ، كما (وتجري أصالة البرائة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض) أي : إذا فرض انّ الاطعام تعيّن بالعرض لأنّ الصيام غير مقدور كما قال : ( لتعذر ذلك الواجب الآخر ) الذي هو الصيام في المثال .

والحاصل : انّ الأصل عدم وجوب الاطعام وجوبا تخييريا بينه وبين الصيام ، والأصل عدم اسقاط الاطعام للصيام في صورة القدرة على الصيام ، والأصل عدم كون الاطعام في مقام تعذر الصيام واجبا تعيينيا بالعرض .

ص: 84

وربما يتخيّلُ من هذا القبيل ما لو شكّ في وجوب الايتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناءا على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الايتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة .

فيدفعُ وجوبُه التخييريّ بالأصل .

لكنّ الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ،

-------------------

( وربّما يتخيل من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما ثبت انّه مسقط للواجب ، لكنّه لا يعلم هل انّه واجب مسقط من قبيل الواجبين التخييريين أو انّه مستحب مسقط ؟ ( ما لو شك في وجوب الايتمام على من عجز عن القرائة و ) عجز عن ( تعلّمها ) بأن لم يتمكّن من التعلّم سواء كان العجز عن تعلّم الكل أو عن تعلّم البعض ( بناءا على رجوع المسألة إلى الشك في كون الايتمام ) أي : الصلاة جماعة بلا قراءة يكون ( مستحبا مسقطا ) للصلاة المنفردة مع القراءة ( أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ) .

وعليه : فان كان الايتمام واجبا تخييريا وجب إذا تعذرت القراءة كما هي القاعدة في شقي الواجب التخييري ، فإنه اذا تعذر أحدهما وجب الاتيان بالآخرة ، أما إذا كان الايتمام مستحبا مسقطا لم يجب؛ بل يكفي للجاهل بالقراءة الكاملة أو الجاهل بأصل القراءة؛ أن يأتي بالانفراد بدون قراءة أو بالقراءة الناقصة ( فيدفع وجوبه التخييري بالأصل ) واذا لم يكن الايتمام واجبا تخييريا وانّما كان مستحبا مسقطا ، جاز لهذا الجاهل أن يأتي بالصلاة حسب ما يعرف فقط .

بل ( لكنّ الظاهر : أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما شك في انّه واجب مسقط أو مباح مسقط ، بل الواجب في المقام هو الايتمام لأنّ كل واحد من الانفراد والايتمام فرد من الكلي الواجب من الصلاة الصحيحة التي يريدها

ص: 85

لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ، فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره . فاذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ،

-------------------

الشارع من المكلّف ؛ فاذا تعذرت الصلاة بالقراءة الصحيحة لجهل المصلي بأصل القراءة أو بالقراءة الصحيحة؛ لزم أن يأتي بالفرد الآخر الممكن؛ كما هو الشأن في كل كلي يريده المولى وله أفراد ، فانه اذا تعذّر بعض الأفراد وجب على المكلّف أن يأتي بالبعض الآخر .

إذن ، فالنتيجة : وجوب الايتمام ( لأن صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ) على نحو الكلية ( فتتّصف بالوجوب لا محالة ) فانّ كل أفراد الكلي يتصف بالوجوب على سبيل البدل .

( و ) ان قلت : فلماذا يقولون : انّ الجماعة مستحبة ؟ .

قلت : ( اتصافها بالإستحباب من باب أفضل فردي الواجب ) يعني : انّ الأفراد كلها واجبة ، لكن الجماعة أفضل تلك الأفراد؛ كما ان الصلاة كلها واجبة ، لكن الصلاة في المسجد أفضل تلك الأفراد .

والحاصل : ان صلاة الجماعة ، والصلاة في المسجد ، والصلاة أول الوقت ، واجبة تخييرا بينها وبين سائر الأفراد ؛ لكنّها مستحبة تعيينا بمعنى : أفضلية ثواب هذا الفرد عن سائر الأفراد الأخر ( فيختص ) أي : يختص هذا الاستحباب لصلاة الجماعة ( بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ) من سائر الأفراد بأن تمكّن أن يأتي بالصلاة جماعة أو فرادى صلاة صحيحة ( فاذا عجز ) عن سائر الأفراد ( تعيّن وخرج عن الاستحباب ) .

نعم ، يعطى ثواب الجماعة لهذا الجاهل بالقراءة ، لأنّ التعذر عن صلاة المنفرد

ص: 86

كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا .

لكن يمكن منع تحقق العجز فيما نحن فيه ، فانّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ،

-------------------

وعدم التعذر عنها لا يؤثر في كون الجماعة يثاب عليها ثوابا أكثر من ثواب صلاة المنفرد ؛ فيكون حال هذا الجاهل ( كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا ) بأن كان هناك مكره يقول : إذا صليت منفردا ضربت عنقك ، فانه يجب عليه أن يأتي بالصلاة جماعة ، لما عرفت : من ان الكلي المأمور به اذا تعذر فرد منه قام فرد آخر مكانه .

( لكن يمكن منع تحقق العجز ) عن صلاة المنفرد ( فيما نحن فيه ) فانّه إذا كان المأمور به كلي فتعذر فرد منه لزم فرد آخر ، أما إذا لم يتعذر لم يلزم فرد آخر ، وفي المقام لم يتعذر صلاة المنفرد بالنسبة إلى هذا الجاهل بالقراءة : فانّه يقدر منفردا على الصلاة الاضطرارية بلا قراءة أو بقراءة غير صحيحة ، ولا دليل على تقدّم الصلاة جماعة على الصلاة الاضطرارية .

فهو كما إذا تعذر الوضوء وتمكن من الغسل بأن كان المولى لا يعطيه الماء للوضوء ويعطيه للغسل ، فهل يتيمم هذا الشخص للصلاة تيمما بدلاً عن الوضوء ويصلي ، أو يلزم عليه أن يقرب زوجته حتى يصلي بالطهارة المائية ؟ فانّه من المستبعد أن يفتي أحد بتقدّم الصلاة بالغسل بهذه الكيفية على الصلاة بالتيمم ، لأنّ الصلاة بالطهارة غير متعذرة ، وانّما تنتقل الصلاة من الطهارة المائية الوضوئية إلى الصلاة بالطهارة الترابية ، فهل يقول أحد بأن كلي الطهارة المائية واجبة ، وحيث تتعذر بالوضوء الذي هو فرد منها نلزم بالطهارة المائية الغسلية التي هي فرد آخر ؟ .

وعليه : ( فانّه يتمكن من الصلاة منفردا بلا قراءة ) صحيحة أو بلا قراءة مطلقا

ص: 87

لسقوطها عنه بالتعذّر ، كسقوطها بالايتمام ، فتعيينُ أحدِ المسقطين يحتاجُ إلى دليل .

-------------------

( لسقوطها ) أي : القراءة أو القراءة الصحيحة ( عنه بالتعذر ، كسقوطها ) أي سقوط القراءة ( بالايتمام ) فانّ من يصلي مأموما جماعة أيضا تسقط القراءة عنه .

وعلى أيّ حال : فهذا الشخص لا يتمكن من القراءة سواء صلّى منفردا حيث يجهل القراءة ، أو صلّى جماعة حيث ان الشارع يمنعه عن القراءة في مثل الصلاة الجهرية التي يسمع المأموم صوت الإمام ، ولا دليل لنا على ان سقوط القراءة في الجماعة مقدَّم على سقوطها في صلاة المنفرد ، اذ كل واحد من الائتمام والتعذر مسقط للقراءة ولا دليل على تقدّم أحدهما على الآخر ( فتعيين أحد المسقطين يحتاج إلى دليل ) والدليل منتف في المقام .

وربّما يقال : هناك وجه آخر لعدم لزوم الجماعة على مثل هذا الجاهل بالقراءة وهو : انّه لو كان واجبا على الجاهل الجماعة لبيّنه المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين مع كثرة المسلمين الذين لا يحسنون القراءة من أوّل الاسلام إلى زمان الإمام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، بل قالوا ما يشير إلى الكفاية بدون الالماع إلى لزوم الجماعة ، كما في الكافي مسندا عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال : « انّ الرجل الأعجمي من أمتي ليقرء القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية » (1) .

ويؤيد عدم وجوب الائتمام بالنسبة إلى الجاهل بالقراءة : انّه لو وجب في المقام لوجب ائتمام الأخرس أيضا ، لأنّ صلاة الأخرس بالجماعة أقل نقصا

ص: 88


1- - الكافي اصول : ج2 ص619 ح1 ، الجعفريات : ص227 ، وسائل الشيعة : ج6 ص221 ب30 ح7782.

قال فخر المحققين في الايضاح في شرح قول والده : « والأقرب وجوب الائتمام على الأمّيّ العاجز » : ووجهُ القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة ، ويحتمل عدمه ، لعموم نصّين :

أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم .

-------------------

من صلاته بنفسه ، لأنّ الإمام يتحمل قرائته ، بينما إذا هو صلّى لم يقرء هو ولم يتحمل أحد قرائته .

ثم إنّ المصنّف لمّا ذكر الاحتمالين المتقدمين : من وجوب الائتمام ، وعدم وجوبه بالنسبة إلى العاجز عن القراءة ، ذكر كلام العلامة وولده في هذه المسألة لتوضيح الاحتمالين أكثر فأكثر ، فقال :

( قال فخر المحققين في الايضاح في شرح قول والده ) الذي ذكره في كتاب القواعد ، فانّ العلامة كتب القواعد ، وفخر المحققين شرحه بما سماه : بايضاح القواعد ، قال : ( والأقرب وجوب الائتمام على الامّيّ العاجز ) الذي لا يعرف القراءة ولا يتمكن من تعليمها .

هذا هو كلام العلامة ، وقد شرحه فخر المحققين بقوله : ( ووجه القرب ) في نظر الوالد ( : تمكنه ) أي : تمكن العامي ( من صلاة صحيحة القراءة ) لأنّ المأموم لما يصلي مع الإمام جماعة يتحمل الإمام القرائة عنه ، كما ( ويحتمل ) بالنسبة إلى الاُمّي ( عدمه ) أي : عدم وجوب الائتمام ، بل له أن يأتي بالصلاة منفردا بدون قراءة أو بقراءة غير صحيحة ( لعموم نصّين ) في هذه المسألة :

( أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم ) فان هذا الجاهل بالقراءة والذي لا يتمكن من التعلّم يأتي بالصلاة بما يحسن ، أما إذا تمكن من التعلّم فالواجب عليه التعلّم مقدمة ، كما يلزم عليه تعلم سائر الامور المرتبطة

ص: 89

والثاني : ندبيّة الجماعة .

والأوّل أقوى ، لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعيّن عند الضرورة ، لأنّ كلّ بدل اختياريّ يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول .

ويحتمل العدم ، لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر أيضا مُسقِط ، فاذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ،

-------------------

بالصلاة ، فهذا النص شامل لصورة التمكن من الجماعة وعدم التمكن منها ، فيقتضي انّه لا يلزم على الاُمّي الجماعة .

( والثاني : ندبيّة الجماعة ) فانّ الأدلة الدالة على انّ الجماعة ندب ، شاملة لصورة التمكن من القرائة ولصورة عدم التمكن منها ، ممّا ينتج انّه مع عدم التمكن من القراءة أيضا الجماعة ندب فلا تجب على هذا الشخص الاُمّي .

( والأوّل : أقوى ) أي : وجوب الائتمام على هذا الجاهل بالقرائة أقوى في النظر ( لأنّه ) أي : لانّ الائتمام ( يقوم مقام القراءة اختيارا ) فانّ القادر على القراءة يأتي بالصلاة ولو منفردة ، أما الجاهل بها ( فيتعيّن ) عليه الجماعة ( عند الضرورة ) ، ومنها : عند عدم القدرة على القراءة ( لأنّ كل بدل اختياريّ يجب عينا عند تعذر مبدله ) كما هو شأن الكلي إذا كانت له أفراد يتمكن المكلّف من بعضها ولا يتمكن من بعضها الآخر ( وقد بين ذلك في الاصول ) مفصلاً فلا تصل النوبة إلى الانفراد بلا قراءة أو بقراءة مغلوطة .

( و ) لكن ( يحتمل العدم ) أي : عدم وجوب الائتمام بالنسبة إلى هذا الجاهل ( لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة عن المأموم ، والتعذّر أيضا مسقط ، فاذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب ) المسقط ( الآخر ) كما إذا تمكن المكلَّف من اسقاط صوم رمضان اما بالصيام واما بالسفر ، فانّه لا يجب عليه أن

ص: 90

إذ التقدير أنّ كلاًّ منهما سبب تامّ والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط » ، انتهى .

والمسألة محتاجة إلى التأمّل .

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائيّ ، كوجوب ردّ السلام

-------------------

يأتي بالمسقط الأوّل ؛ بل جاز له أن يأتي بالمسقط الآخر ، وكذا إذا وجب على المتزوج اسقاط نفقة الزوجة عن عاتقه اما بالانفاق عليها أو بطلاقها؛ لم يجب عليه أن يأتي بالانفاق؛ بل له أن يأتي بالمسقط الآخر وهو الطلاق .

( إذ التقدير ) أي : المفروض ( أنّ كلاًّ منهما ) أي : من الائتمام والانفراد ( سبب تام ) لسقوط الصّلاة .

( والمنشأ ) أي : منشأ هذين الاحتمالين : وجوب الائتمام وعدم وجوبه ( انّ قراءة الإمام بدل ، أو مسقط ) (1) فانّ بعض الفقهاء قال : بأنّ قراءة الإمام بدل عن قراءة المأموم ، فيلزم عليه ائتمام الجاهل بالقراءة ، لأنّه إذا لم يتمكن من أحد البدلين وجب البدل الآخر ، وبعضهم قال بأن قراءة الإمام مسقط للقراءة عن المأموم ، فلا يلزم عليه الائتمام بل له أن يأتي بالصلاة منفردا ؛ لأن عجزه مسقط ، فيجوز اتيانه بأحد المسقطين على ما عرفت .

( إنتهى ) كلام فخر المحققين ( والمسألة محتاجة إلى التأمّل ) عند المصنِّف ، وانه هل يجب الائتمام على العاجز أو لا يجب عليه ؟ وحيث انّ المسألة فقهية نتركها للفقه وقد ذكرناها في شرح العروة .

( ثم إنّ الكلام في الشك في الوجوب الكفائي كوجوب ردّ السلام

ص: 91


1- - ايضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص154 .

على المصلّي إذا سُلِّم على جماعة وهو منهم ، يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم .

-------------------

على المصلّي إذا سلّم ) إنسان ، ( على جماعة وهو ) أي : المصلي ( منهم ) أي من تلك الجماعة ( يظهر ممّا ذكرنا ) ه آنفا ، فانّ الكلام من أول التنبيه إلى هنا كان في الوجوب التخييري ، حيث قلنا انه لا يجري أصل البرائة على الوجوب التخييري ، لأنه إذا أجرينا أصل البرائة لزم الوجوب التعييني وهو تضييق على المكلّف ، والبرائة للتوسعة لا للتضييق .

أما الكلام في الوجوب الكفائي فهو مثل : جواب السلام فيما لو سلم انسان على جماعة كان أحدهم مصليا ، فهل يجب على هذا المصلي رد السلام كفاية ، أو انّه لمكان كونه في الصلاة لا يجب عليه الرد ، وانّما يجب الرد على غير المصلي من هؤلاء الجماعة ؟ بمعنى : انّه هل يتمكن المصلي أن يجري البرائة من وجوب الرد عليه ، أو لا يتمكن من ذلك ؟ .

لكن لا يخفى وجود الاختلاف بين المسألتين : التخييري ، والكفائي بما تفضيله يحتاج إلى الشرح ؛ فلا وجه لتنظير أحدهما بالآخر بالنسبة إلى جريان البرائة وعدمه .

ولعل المصنّف أشار الى هذا الفرق بقوله : ( فافهم ) كما ان الثمرة تظهر في بطلان صلاة المصلي إذا أجاب؛ وفي الوجوب على المصلي إذا لم يجبه سائر الجماعة .

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية لفقدان النص ، والكلام الآن في الشبهة الوجوبية لاجمال النص وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله :

ص: 92

المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ

كما إذا قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب أو الاباحة .

والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط . وقد تقدّم عن المحدّث العامليّ في الوسائل أنّه لا خلافَ في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج ، لكن تقدّم من المعارج أيضا عند ذكر الخلاف في وجوب

-------------------

( المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة اجمال اللفظ ) فلا يعلم هل انّه واجب أو ليس بواجب ؟ ( كما اذا قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب أو ) بين الوجوب و ( الاباحة ) فانه لا يعلم هل ان الشيء واجب عليه أو مستحب ؟ أو لا يعلم هل انّ الشيء واجب عليه أو مباح ؟ فهي شبهة حكمية وجوبية ناشئة من اجمال النص ؟ .

( والمعروف هنا ) في هذه المسألة الثانية ( : عدم وجوب الاحتياط ) فلا يجب الاتيان بمحتمل الوجوب ( وقد تقدَّم عن المحدِّث العاملي في الوسائل : انه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في الوجوب ) فانّ اطلاق كلامه يشمل ما كان الشك لفقد النص أو لاجمال النص .

( ويشمله أيضا معقد اجماع المعارج ) حيث ادعى الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المقام ( لكن تقدّم من المعارج أيضا عند ذكر الخلاف في وجوب

ص: 93

الاحتياط وجودُ القائل بوجوبه هنا .

وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الاستراباديّ بوجوب التوقف والاحتياط هنا قال في الحدائق ، بعد ذكر وجوب التوقف : « إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب ، وفيه :

أوّلاً : منعُ جواز الاعتماد على البرائة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة .

-------------------

الاحتياط : وجود القائل بوجوبه ) لكنه حيث كان نادرا لم يعتن بخلافه ، ولذا ادعى المعارج الاجماع على عدم وجوب الاحتياط مع انه نقل وجوب الاحتياط فلما تقدّم ، حيث قال : وصار آخرون إلى لزومه ، فان كلام المعارج هناك يأتي ( هنا ) ايضا في الشبهة الوجوبية من جهة اجمال النص .

( و ) لكن ( قد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدِّث الاسترابادي : بوجوب التوقف والاحتياط هنا ) أي : في صورة احتمال الوجوب في مقابل احتمال الاستحباب ( قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقف ) في مورد الشك في الوجوب ( : إن من يعتمد على اصالة البرائة ) أي : من يقول بحجيّة استصحاب البرائة الثابتة قبل الشرع ، حيث ان بعضهم قال باستصحاب البرائة ، لأنّ قبل الشرع لم يكن وجوب ، فاذا شك في ان الوجوب حدث بعد الشرع أو لم يحدث ؟ استصحب عدم الوجوب .

وعليه : فالمعتمد على البرائة ( يجعلها ) أي يجعل البرائة الأصلية ( هنا ) أي : في مورد اجمال اللفظ المحتمل للوجوب والاستحباب ( مرجّحة للاستحباب ) فلا يقول فيه بالوجوب .

( وفيه أوّلاً : منع جواز الاعتماد على البرائة الأصلية في الاحكام الشرعيّة ) لأنّ الدين قد كمل وكل شيء ورد له حكم في الشريعة ، فلا نتمكن أن نستصحب

ص: 94

وثانيا : أنّ مرجع ذلك إلى أنّ اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة .

ومن المعلوم أنّ أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح والحِكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فانّه رجم بالغيب وجرئة بلا ريب » ،

-------------------

حالة ما قبل الشرع إلى ما بعد الشرع .

( وثانيا : انّ مرجع ذلك ) أي : مرجع ترجيح الاستحباب بسبب البرائة الأصلية على الوجوب ( إلى انّ اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة ) الاستحباب مع ( البرائة ) الأصلية .

( ومن المعلوم : ان ) هذا غير صحيح ، لأنّ ( أحكام اللّه تعالى ) لا تتبع البرائة وعدم البرائة حتى نجعل البرائة موافقة لحكم اللّه ، فانّ أحكامه سبحانه ( تابعة للمصالح والحِكم الخفيّة ) الكامنة في ذوات الأشياء .

ومن المعلوم : انّ المصلحة تارةً توجب الالزام ، وتارةً توجب الاستحباب ، فلا يمكن ان نقول بالاستحباب مطلقا ( ولا يمكن أن يقال انّ مقتضى المصلحة : موافقة البرائة الأصلية ) حتى نقول : انّ المصلحة موافقة للاستحباب ( فانه رجم بالغيب ) ومعنى « الرجم بالغيب » هو : ان الانسان قد يرى الصيد فيرجمه بالحجارة فيصيبه ، وقد يكون الراجم اعمى أو يرجم في ظلام ، فيصيب صيدا ، فهو من الرجم بالغيب ، لانه اصاب ما كان غائبا عن حواسه ( وجرئة ) على المولى ( بلا ريب ) (1) لوضوح انّ المصلحة قد تقتضي الاستحباب وقد تقتضي

ص: 95


1- - الحدائق الناضرة : ج1 ص99 .

انتهى .

وفيه ما لايخفى ، فانّ القائلَ بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجعُ ذلك إلى دعوى كون حكم اللّه هو الاستحباب ، فضلاً عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة ،

-------------------

الوجوب ، فكيف يجوز ان نقول : بأنّ المصلحة موافقة للبرائة الأصلية حتى تنتج الاستحباب .

( انتهى ) كلام صاحب الحدائق ( وفيه : ما لا يخفى ) لأنّ القائل بأصالة البرائة ان كان مستنده حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان؛ فانّه لا يقول بالاستحباب حتى يستشكل عليه الحدائق : بانه يرجح بها الاستحباب ، وإن كان مستنده حجيّة الظن الحاصل من استصحاب حالة ما قبل الشرع ، فاللازم على الحدائق ان يستشكل عليه : بأن هذا الظن ليس بحجّة ؛ لا انْ يستشكل عليه : بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، فانّه أيّ ربط بين كلام ذلك القائل واشكال الحدائق ؟ .

وعليه : ( فانّ القائل بالبرائة الأصلية ) أي : استصحاب عدم التكليف الذي كان قبل الشرع ( إن رجع إليها ) أي : إلى البرائة الأصلية ، ( من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان ) كما سبق ( فلا يرجعُ ذلك ) أي : دليله بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ( إلى دعوى كون حكم اللّه هو الاستحباب ) في المورد المشكوك وجوبه واستحبابه ( فضلاً عن تعليل ذلك بالبرائة الأصلية ) لوضوح : انّ مقصود القائل بالبرائة هو : عدم تنجّز التكليف على هذا الشاك؛ وانّه لا عقاب عليه؛ لا انّه يريد أن يجعل قبح العقاب بلا بيان مرجّحا للاستحباب ويقول باستحباب ذلك

ص: 96

وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ فحديثُ تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ، كما عليه الأشاعرة ، أجنبيٌّ عن ذلك ، إذ الواجب عليه إقامةُ الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم اللّه الواقعيّ الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف .

وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لانصّ فيه وبين ما اُجمل فيه النصُّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ،

-------------------

الشيء المشكوك فيه .

( وإن رجع إليها ) أي : إلى البرائة الاصلية ( بدعوى حصول الظن ) بالبرائة من جهة استصحاب حالة ما قبل الشرع ( فحديث تبعية الأحكام للمصالح ) والمفاسد كما يقول بذلك المعتزلة والشيعة ( وعدم تبعيّتها ) أي : عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ( كما عليه الأشاعرة اجنبيٌ عن ذلك ) أي : عن حصول الظنّ وعدم حصوله ؛ فلا يرد عليه اشكال الحدائق وانّما يرد عليه : انّه من أين هذا الظن حجّة ؟ كما قال :

( اذ الواجب عليه : إقامةُ الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم اللّه الواقعي الصادر عن المصلحة ) كما يقوله المعتزلة ( أو لا عنها ) أي : لا عن المصلحة كما يقوله الأشاعرة ( على الخلاف ) بين المشربين في إنه هل حكم اللّه تابع للمصالح والمفاسد ، أو ليس بتابع للمصالح والمفاسد ؟ .

( وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما أجمل فيه النصُّ ) في جريان البرائة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، فانه ( سواء قلنا باعتبار هذا الأصل ) أي : أصل البرائة ( من باب حكم العقل ) بقبح العقاب بلا بيان ( أو من باب الظن ) واستصحاب البرائة السابقة على الشرع ، فان اللازم : القول بالبرائة

ص: 97

حتّى لو جُعِلَ مَناطُ الظنّ عمومَ البلوى ، فانّ عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور وإلاّ لنقلت مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب ، لعدم توفّر الداعي على نقله .

-------------------

في الشبهة الوجوبية سواء كان منشأ الشبهة فقدان النص أو اجمال النص .

وعليه : فانه ( حتى لو جُعِلَ مناطُ الظنّ عمومَ البلوى ) بأن قيل انّا نجري البرائة في الشبهة الوجوبية من جهة ان عدم الدليل في مسألة يعم بها البلوى دليل على العدم ، إذ لو كان لبان ، لا من جهة استصحاب حال ما قبل الشرع ( فانّ عموم البلوى فيما نحن فيه ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة اجمال النص ( يوجب الظن بعدم قرينة الوجوب ) إذ لو كانت قرينة لبانت ( مع الكلام المجمل المذكور ) الذي هو أمر مردد بين الوجوب والاستحباب وقوله : « مع » متعلق « بعدم قرينة » أي : لا قرينة مع الأمر الذي هو مجمل بين الوجوب والاستحباب .

( وإلاّ ) بأن كانت هناك قرينة ( لنقلت ) إلينا ( مع توفر الدواعي ) الى نقلها وشدة اهتمام المسلمين بنقل القرائن التي لها مدخلية في كلام الرسول أو الإمام عليهم السلام ، حيث انهم كانوا يضبطون الأحكام بكل دقة .

وإن قلت : ينتقض كلامكم هذا : بانّه لو كان يراد من الأمر : الاستحباب ، لكانت هناك قرينة الاستحباب أيضا ولنقله المسلمون إلينا .

قلت : ( بخلاف الاستحباب ، لعدم توفر الدّاعي على نقله ) لأن الاستحباب ليس حكما إلزاميا حتى تتوفر الدواعي على نقل قرائن الاستحباب ، بخلاف الوجوب حيث انّه حكم الزامي ، فاذا كان الأمر للوجوب لابد وان تكون قرينة على الوجوب ؛ واذا كانت قرينة لنقلت إلينا ، لكن لم تنقل القرينة فلا وجوب .

ص: 98

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جارٍ هُنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم .

نعم ، الأخبار المتقدمة فيمن بلغه الثواب لا يجري هنا ، لأنّ الأمر لو دار بين الوجوب والاباحة لم يدخل في مواردها ، لأنّ المفروض احتمال الاباحة ، فلا يعلم بلوغ الثواب .

-------------------

( ثمّ انّ ماذكرنا ) في مسألة الشبهة الوجوبية من جهة فقد النص ( من حسن الاحتياط ) عقلاً ( جارٍ هنا ) في الشبهة الوجوبية الحكمية من جهة اجمال النص ايضا ( والكلام في استحبابه ) أي استحباب الاحتياط ( شرعا ) بأن تكون أوامر الاحتياط الواردة في الشريعة مثل : « احتط لدينك » (1) ، ونحوه ، محمولاً على الاستحباب المولوي ، فهو ( كما تقدّم ) حيث استظهرنا هناك : انّ ظاهر الأوامر : الارشاد ، لا المولوية .

( نعم ، الأخبار المتقدِّمة فيمن بلغه الثواب ) على عمل فعمله رجاء ثوابه فإنه يعطى ذلك الثواب وإن لم يكن كما قاله رسول اللّه ( لا يجري هنا ) في الشبهة الحكمية الوجوبية فيما يدور الأمر بين الوجوب والاباحة ، لا فيما يدور الأمر بين الوجوب والاستحباب ، لأنه إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب فلا شك في الثواب .

وانّما لا يجري هنا ( لأن الأمر لو دار بين الوجوب والاباحة لم يدخل في مواردها ) أي : في موارد أخبار « مَن بلغ » ( لأن المفروض احتمال الاباحة فلا يعلم بلوغ الثواب ) إذ المباح لا ثواب له ، لكنّا ذكرنا هناك : ان العمل بالاباحة

ص: 99


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة ، ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ، واللّه العالم .

المسألة الثالثة : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين

وهنا مقامات ،

-------------------

لأجل ان اللّه سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ، أيضا فيه ثواب ، فيشمله أخبار « مَن بَلَغ » .

( وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة ) لما عرفت : من انّه لا ثواب في الكراهة فلا يكون مصداقا لمن بلغه ثواب على عمل ، وحيث قد ذكرنا الكلام حول دوران الأمر بين الوجوب والكراهة هناك لا حاجة إلى تكراره .

هذا ( ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ) أي : إلى أخبار « مَن بَلَغ » في حصول الثواب ، وذلك لوجود الثواب في اطاعة مثل هذا الأمر اما من جهة الوجوب واما من جهة الاستحباب ، لانّ الطلب متيقن وإن شك في كون الطلب على نحو المنع عن النقيض أو على نحو لا يمنع عن النقيض ( واللّه العالم ) بحقائق الأحكام .

( المسألة الثالثة : في ما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين ) : نص يقول بالوجوب ، ونص يقول بعدم الوجوب ، لأن كلامنا في الشبهة الحكمية الوجوبية ( وهنا مقامات ) من الكلام : مثل انه هل يجب عند تعارض النصّين التوقف والاحتياط ، أو لا يجب ؟ ومثل انه هل الاصل الموافق لاحد المتعارضين

ص: 100

لكنّ المقصودَ هنا إثباتُ عدم وجوب التوقف والاحتياط ، والمعروف عدم وجوبه هنا .

وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آتٍ هنا .

وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان بوجوب التوقف

-------------------

يكون مرجحا أو يلزم الحكم بالتخيير - عقلاً - بين النصين تخييرا بدويا أو تخييرا استمراريا ؟ ومثل انه هل الاخبار تقتضي التخيير شرعا ، او التوقف والاحتياط ؟ فان الكلام في كل هذه المقامات يأتي في باب التعادل والتراجيح انشاء اللّه تعالى.

( لكن المقصود هنا ) في هذا المبحث من الشبهة الوجوبية هو ( : اثبات عدم وجوب التوقف والاحتياط ) فانّه إذا تعارض النصان : نص يدل على الوجوب ، ونص يدل على عدم الوجوب ، فلا يلزم على المكلّف أن يحتاط بالاتيان كما قال : ( والمعروف عدم وجوبه ) أي : الاحتياط ( هنا ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصين .

( وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آتٍ هنا ) أيضا ، فانه يقال : هل الجميع متفقون على عدم وجوب الاحتياط كما نقل المعارج : الاجماع على ذلك ، وكما قال الشيخ الحر : انّه لا خلاف في عدم الوجوب ؟ أو ان العلماء مختلفون في لزوم الاحتياط وعدمه كما ظهر من المعارج وجود هذا الخلاف ، فان بعضهم قال بوجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية ، وكما ظهر وجوب الاحتياط من الاسترابادي وصاحب الحدائق .

هذا ( وقد صرح المحدثان المتقدِّمان ) الاسترابادي وصاحب الحدائق ( بوجوب التوقف ) عن العمل بأحد الخبرين المتعارضين الدال أحدهما

ص: 101

والاحتياط هنا ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقف التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه ، مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير .

وما دلّ على التوقف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد

-------------------

على الوجوب والآخر على عدم الوجوب ( و ) لزوم ( الاحتياط ) في العمل في هذا المورد ( هنا ، ولا مدرك له ) أي : لوجوب التوقف والاحتياط ( سوى أخبار التوقف ) .

وفيه أوّلاً : عدم كفاية دلالتها ، فانّها ( التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه ) لأنّ تلك الأخبار خاصة بصورة التمكن من ازالة الشبهة فانّها وردت في زمن الحضور حيث قال عليه السلام : « أرجِهِ حَتّى تَلقى إمامَك » (1) ، وقد تقدَّم نقل بعض هذه الأخبار .

ثانيا ( مع انّها ) أي : اخبار التوقف والاحتياط ( أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير ) فانّ أخبار الاحتياط على فرض دلالتها على الوجوب حتى في زمن الغيبة تشمل كل صور الشبهة الأعم من فقدان النص أو اجماله أو تعارض النصين ، وأخبار التوسعة والتخيير تقول بالتخيير في مورد تعارض النصين ، فأخبار التخيير مخصصة لأخبار الاحتياط ، فلا يلزم الاحتياط في مورد تعارض النصين ، فتكون النتيجة البرائة .

( و ) ان قلت : انّ بعض أخبار التوقف خاصٌ بالمتعارضين .

قلت : ( ما دلّ على التوقف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

منهما مختصٌّ أيضا بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السلام .

وأمّا رواية غوالي اللئالي المتقدمة الآمِرَة بالاحتياط وإن كان أخصّ منها إلاّ أنك قد عرفتَ ما فيها مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام .

-------------------

منهما مختصٌ أيضا بصورة التمكن من ازالة الشبهة بالرّجوع إلى الإمام عليه السلام ) حيث قال عليه السلام : « أرجه حتّى تلقى امامَك » (1) .

وأما قول المصنّف : « أيضا » فمعناه : ان أخبار التوقف في خصوص المتعارضين حالها حال أخبار التوقف في مطلق الشبهة ، فانها خاصة بزمان الحضور ، أما زمان الغيبة فانه يرجع فيه الى اخبار التوسعة التي نتيجتها البرائة كما يقول به الاصوليون .

وحيث أجاب المصنِّف عن أخبار التوقف وقال : انها لا تدل على لزوم الاحتياط في الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصين ، أجاب عن خبر الغوالي الدال على الاحتياط ، ومن المعلوم : إنّ الاحتياط غير التوقف إذا ذكرا معا ، فإنّ التوقف يكون في الفتوى والاحتياط في العمل فقال : ( وأمّا رواية غوالي اللئالي المتقدمة الآمِرَة بالاحتياط وإن كان أخصّ منها ) أي : من سائر أخبار الاحتياط لوضوح اختصاص خبر الغوالي بالمتعارضين ( إلاّ أنك قد عرفت ما فيها ) من ضعف السند ( مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام ) لكون الزمان زمان الحضور ، فلا يشمل هذا الخبر زمان الغيبة

ص: 103


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص302 ح52 ب22 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ومنه يظهر عدم جواز التمسّك هنا بصحيحة ابن الحجّاج المتقدمة الواردة في جزاء الصيد ، بناءا على استظهار شمولها - باعتبار المناط - لما نحن فيه .

-------------------

بل الحكم في زمان الغيبة هو البرائة .

ثم انه قد يستدل على وجوب الاحتياط في مورد تعارض النصين بصحيحة ابن الحجاج المتقدِّمة ، حيث انّ مناط الصحيحة شامل للمقام ، فان الإمام عليه السلام قال : « إذا أصَبتُم بمثل هذا وَلَم تَدرُوا فَعَليكُم الاحتياط حتى تَسئلوا وَتعلمُوا » (1) فانه جعل مناط الاحتياط : التحيّر الحاصل من عدم العلم بالحكم ، والتحيّر شامل لتعارض النصّين أيضا .

هذا ، لكن المناط غير تام في المقام ، لأنّ الصحيحة مختصة بصورة التمكن من التشرف بلقاء الإمام عليه السلام بقرينة قوله عليه السلام : « حتى تسألوا » ومن المعلوم : ان كلامنا نحن الآن في حال الغيبة حيث يتعارض النصان .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( ومنه ) أي : من الجواب الذي أجبنا عن رواية الغوالي حيث قلنا : مع امكان حملها على صورة التمكن من الاستعلام ( يظهر عدم جواز التمسّك هنا ) في مورد تعارض النصين ( بصحيحة ابن الحجاج المتقدِّمة الواردة في جزاء الصيد ) وانّما يتمسك بها ( بناءا على استظهار شمولها ) أي : شمول صحيحة ابن الحجاج ( باعتبار المناط - لما نحن فيه ) قوله : « لما » ، متعلق بقوله : « شمولها » ، وعلى اي تقدير : فلا دليل في صورة تعارض النصين على التوقف والاحتياط .

ص: 104


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير ، في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة ، التوقيعُ المرويُّ في الاحتجاج عن الحميريّ ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل اللّه فرجه : يسألني بعضُ الفقهاء عن المصلّي إذا قام مِنَ التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجبُ عليه أن يُكبّر ، فانّ بعضَ أصحابنا قال : لا يجبُ عليه تكبيرةٌ ويجوز أن يقول بحولِ اللّه وقوّته أقومُ وأقعدُ ، فكتب عليه السلام الجواب : في ذلك

-------------------

( وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من ) الخبرين المتعارضين عند ( اشتباه الوجوب بغير الحرمة ) من الاستحباب أو الكراهة أو الاباحة أما اشتباه الوجوب بالحرمة فسيأتي الكلام فيه انشاء اللّه تعالى مفصلاً ، فان ممّا يدل عليه هو : ( التوقيع المروي في الاحتجاج عن الحميري ) والمراد بالتوقيع : كلمات الأئمة عليهم السلام في ذيل الرسائل التي كانت ترسل اليهم جوابا عن الاسئلة التي فيها ، فانّه يصطلح عليه : ب- « التوقيع » ( حيث كتب ) الحميري ( إلى الصّاحب ) أي : إلى صاحب الزمان ( عجل اللّه فرجه ) ما يلي : ( يسألني بعضُ الفقهاء عن المصلّي إذا قام مِنَ التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ) والمراد بالوجوب هنا : الثبوت لأنّ الوجوب يستعمل للثبوت وللسقوط معا مثل : زيارة الحسين عليه السلام واجبة حيث يراد ثبوتها ، ومثل قوله سبحانه : « فَاذا وَجَبَت جُنُوبُها » (1) حيث يراد سقوطها ، والمراد : ان الانسان حال الانتقال إلى القيام هل يكبر أو لايكبر ؟ ( فانّ بعضَ أصحابنا قال : لا يجبُ عليه تكبيرة ، ويجوز أن يقول بحول اللّه وقوّته أقومُ وأقعدُ ؟ فكتب عليه السلام : الجواب في ذلك

ص: 105


1- - سورة الحج : الآية 36 .

حديثان .

أمّا أحدُهما : فانّه إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير .

وأمّا الحديثُ الآخَرُ : فانّه روي انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرٌ ، والتشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذتَ من باب التسليم كان صوابا » ، الخبر .

-------------------

حديثان ) شريفان :

( أما أحدُهما : فانّه إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير ) فان اطلاق هذا الحديث يشمل حال الانتقال إلى القيام أيضا ، فاذا أراد القيام يقول : « اللّه اكبر » حسب هذا الحديث .

( وأمّا الحديث الآخر : فانّه روي انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ، ثم جلس ، ثم قام ) إلى الركعة الثانية - مثلاً - ( فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهد الأوّل يجري هذا المجرى ) أي : انّه لا تكبير بعد التشهد الأول لأجل القيام ، فاذا أراد القيام لا يكبر .

وحيث يبدو أن هذين الخبرين متعارضان قال عجل اللّه تعالى فرجه : ( وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (1) ، الخبر ) .

والمراد بالتسليم : التسليم لأمرهم عليهم السلام ، حيث ان في مورد التعارض إذا لم يكن الإمام عليه السلام حاضرا ، يجوز للانسان أن يأخذ بأي من الخبرين المتعارضين ، فهذا التوقيع يدل على التخيير في المتعارضين ويكون في مقابل كلام المحدثين

ص: 106


1- - الاحتجاج : ص483 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 ، الغيبة للطوسي : ص378 .

فانّ الحديث الثاني وإن كان أخصَّ من الأوّل وكان اللازمُ تخصيصَ الأوّل به والحكمَ بعدم وجوب التكبير ، إلاّ أنّ جوابه ، صلوات اللّه وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلُّ على أن الحديث الأوّل نقله الإمام عجل اللّه تعالى فرجه ، بالمعنى

-------------------

المتقدمين : الاسترابادي ، وصاحب الحدائق حيث قالا بوجوب التوقف والاحتياط .

إذن : ( فانّ الحديث الثاني ) وهو قوله : « فانه روي انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ...» ( وإن كان أخصَّ من الأوّل ) لأن الحديث الأول يدل على وجوب التكبير عند كل انتقال ، والحديث الثاني ينفي وجوب التكبير في الانتقال إلى القيام فقط ( وكان اللازم ) حسب ميزان تخصيص المطلق بالمقيد ( تخصيص الأوّل به ) أي : بالثاني ( والحكم بعدم وجوب التكبير ) حال الانتقال إلى القيام فقط ، ولزومه في سائر الانتقالات : من القيام إلى القعود ، أو من القعود إلى السجود ، أو ما أشبه ذلك .

( الاّ انّ جوابه صلوات اللّه وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم ) للتقابل الذي جعله بينهما ( يدلُّ على ان ) النسبة بين الحديثين هو : التباين لا العموم والخصوص المطلق ، ممّا يظهر انه عجّل اللّه تعالى فرجه قد نقل الحديث الأوّل بالمعنى ، فلم يكن الحديث الأوّل عاما والثاني خاصا ، بل كان الاول أيضا خاصا بحيث يتباين مع الحديث الثاني بأن كانت عبارته - مثلاً - هكذا : كل انتقال وحتى الانتقال عن التشهد الاول فيه التكبير .

وعليه : فان ( الحديث الأوّل نقله الإمام عجّل اللّه تعالى فرجه بالمعنى ) لا أنه نقله باللفظ حتى تكون النسبة بينهما كما يبدو : العموم والخصوص المطلق ،

ص: 107

وأراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام ، بحيث لايتمكن إرادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب عليه السلام بالتخيير .

ثمّ : إنّ وظيفة الإمام عليه السلام وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعيّ إلاّ أنّ هذا الجواب لعلّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع

-------------------

بل ( وأراد ) عليه السلام من قوله : « إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير » ( شموله ) لكل الحالات ، و ( لحالة الانتقال من القعود إلى القيام ، بحيث لا يتمكن ارادة ما عدا هذا الفرد منه ) وهذا الفرد هو عبارة عن الانتقال من القعود إلى القيام ، فيكون بين الخبرين تعارض ، ولا يتمكن المكلّف من الجمع بينهما للتباين ( فأجاب عليه السلام : بالتخيير ) وبذلك يظهر : انه ليس في التعارض التوقف وانّما فيه التخيير كما يقول به الاصوليون .

( ثم ) ان قلت : لماذا لم يبيّن الإمام الحكم الواقعي بأن يقول : يكبر أو يقول : لا يكبر ، فانّ التخيير من باب الجمع بين الخبرين هو حكم ظاهري ، والأئمة عليهم السلام شأنهم بيان الأحكام الواقعية ؟ .

قلت : ( انّ وظيفة الإمام عليه السلام وإن كانت ازالة الشبهة عن الحكم الواقعي ) وانه في الواقع هل هنا يلزم التكبير ، أو لا يلزم ؟ فانّ السائل لم يسأل عن الحكم الظاهري الكلي في المتعارضين حتى يجيبه بالتخيير ؛ بل سأل عن الحكم الواقعي المختص بالتكبير بعد التشهد ، فكان على الإمام أولاً وبالذات ان يجيب عن انه هل يكبِّر أو لا يكبِّر ؟ ( الاّ انّ هذا الجواب ) من الإمام عليه السلام : ( لعله تعليم طريق العمل عند التّعارض مع عدم وجوب التكبير عنده ) أي : عند الإمام ( في الواقع ) والحقيقة .

ص: 108

وليس فيه الاغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب فيما ليس بواجب ولعله من جهة كفاية قصد القربة في العمل .

-------------------

( و ) ان قلت : إذن لا يلزم على هذا الانسان التكبير ؛ فكيف خيّره الإمام بين التكبير وعدمه ، مع انه اذا اختار التكبير ، كبّر بقصد الورود والثبوت ، وهو اغراء بالجهل من الإمام والعياذ باللّه ؟ .

قلت : ( ليس فيه الاغراء بالجهل من حيث قصد ) السائل ( الوجوب ) في التكبير ( فيما ليس ) التكبير ( بواجب ) عليه ، فانه إذا اختار المكلّف الخبر الدال على وجوب التكبير وأتى به ، لم يكن من الاغراء بالجهل في شيء وإن قصد به الوجوب ، وذلك لانّ المكلّف امّا ان يقصد القربة بالتكبير بلا ذكر الوجوب أو الاستحباب ، فالتكبير ذكر وهو جائز في أثناء الصلاة ولا يلزم أن يقصد المكلّف في كل جزء جزء انّه واجب أو مستحب وإما ان يقصد الوجوب بالتكبير ، فانّ هذا القصد لا بأس به ، لأنه من باب الاشتباه في التطبيق ، بمعنى : انّ المكلّف يريد الحكم الواقعي ويقصد ذلك فيتوهم انه واجب ، ومثل هذا التوهم ليس بمضر حيث قال : ( ولعله ) أي : لعل عدم لزوم الاغراء بالجهل ( من جهة كفاية قصد القربة في العمل ) .

وإن شئت قلت : ان الإمام عليه السلام رأى : ان يبين حكم كلّي التعارض عوض بيان الحكم الخاص بسؤال السائل ، ولعله كان لتقية أو ما أشبه ، وذلك لانّ العامة كانوا على وتيرة واحدة ، فاذا كانت الخاصة على وتيرة واحدة عرفوا بذلك ، فأراد الإمام عليه السلام ان يفرِّق بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذوا بطريقتهم الخاصة المتخذة ، كما جاء في حديث آخر :

ص: 109

وكيف كان : فاذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئيّة وعدمه ثبت فيما نحن فيه من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ بالاجماع والأولويّة القطعيّة .

-------------------

« انا خالفت بينهم » (1) .

( و ) إن قلت : ان كلامنا في الخبرين المتعارضين في الواجب المستقل فانه هو مورد الاختلاف بين المحدثين وبين الاصوليين في ان العلاج هل هو التوقف كما يقوله المحدثان ، أو البرائة كما يقوله الاصوليون ؟ وخبر الحميري لا يكون دليلاً على كلام الاصوليين ، لأن التعارض فيه بين الخبرين في جزء الواجب ، كالتكبيرة التي هي جزء الصلاة ، فكيف يتعدى من جزء الواجب إلى الواجب المستقل ؟ .

قلت : ( كيف كان ) الجواب عن خبر الحميري نقول به في الجواب عن هذا الاشكال ( فاذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئية وعدمه ) أي : عدم وجوب ذلك الشيء ، كوجوب التكبير وعدم وجوبه ، والتكبير جزء من الصلاة ( ثبت فيما نحن فيه من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقل ) بأن كان هناك خبران : أحدهما : يثبت التكليف المستقل كالدعاء عند رؤية الهلال ، والآخر : ينفيه ويقول بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال .

وعليه : فالتخيير الذي ثبت في خبر الحميري يثبت في الواجب المستقل أيضا ( بالاجماع والاولويّة القطعيّة ) والمراد بالاجماع : الاجماع المركب ، فانّ كل من قال بالبرائة في الجزء ؛ قال بالبرائة في المستقل ، وكل من قال بالتوقف في الجزء ؛ قال بالتوقف في المستقل ، فاذا ثبتت البرائة في الجزء بسبب خبر الحميري ؛ ثبتت

ص: 110


1- - عدّة الاُصول : ج1 ص130 .

ثمّ إنّ جماعة من الاصوليين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل والمقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل

-------------------

البرائة في المستقل أيضا بالاجماع وعدم القول بالفصل ، وهذا ما يقول به الاصوليون ، إذ لا قائلَ بالتفصيل بين الجزء وبين المستقل .

وأما الأولوية : فلأن الشك في جزء الواجب كالتكبير في خبر الحميري أشبه شيء بالشك في المكلّف به ، فاذا كان حكم الشك في المكلّف به التخيير كان الحكم في الشك في الواجب المستقل كالدعاء عند رؤية الهلال التخيير بطريق أولى .

( ثم إنّ جماعة من الاصوليين ذكروا في باب التراجيح ) بين الأخبار أمرين مخالفين لما ذكرتم من التخيير وهما عبارة عما يلي :

اولاً : إنه اذا كان هناك خبران : أحدهما وفق الأصل ويسمّى بالمقرر ، والآخر خلاف الأصل ويسمّى بالناقل ، كان المقدّم الذي هو خلاف الأصل ، وأنتم تقولون في مورد التعارض بالتخيير ، وهذا خلاف قولهم بتقديم الناقل على المقرر ، كما انّه قال جماعة من الاُصوليين .

ثانيا : انه إذا كان هناك خبران : أحدهما يبيح الشيء كالتتن - مثلاً - والآخر يحرمه أو يوجبه ، يقدّم الذي فيه المنع أو الوجوب ، فكيف تقولون أنتم بانّه مخير بينهما ؟ .

والحاصل : هناك وجود ( الخلاف ) بين الاصوليين ( في ترجيح الناقل والمقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل ) لا التخيير الذي ذكرتم أنتم بين الخبرين المتعارضين .

ص: 111

وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للاباحة .

وذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل وذكروا تعارض الخبر المفيد للاباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر ، بل الكلّ تقديمُ الحاظر ، ولعلّ هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار .

-------------------

( وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للاباحة ) واختلفوا فيهما ( و ) بالتالي ( ذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل ) لا التخيير الذي ذكرتم أنتم هنا .

( وذكروا تعارض الخبر المفيد للاباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر ، بل الكلّ تقديم الحاضر ) على المبيح لا التخيير الذي ذكرتم أنتم ، فكيف تجمعون بين قولكم بالتخيير وبين أقوال الاصوليين بتقديم الناقل وتقديم المفيد للوجوب أو الحظر ؟ .

( و ) الجواب عن هذا الاشكال هو : انه يمكن الجمع بين كلامنا وكلام الاصوليين : بأنّ كلامهم في بيان انّ القاعدة الأوّلية ماذا تقتضي إذا كان هناك خبران متعارضان ؟ وكلامنا في أنّه قد وردت الأخبار بالتخيير بين المتعارضين وهي قاعدة ثانوية كما قال : ( لعل هذا ) الذي ذكره الاُصوليون ( كلّه ) : من تقديم الناقل ، وتقديم المفيد للوجوب أو الحظر ، انّما هو ( مع قطع النظر عن الأخبار ) الواردة في علاج المتعارضين وما تقتضيه من التخيير ، فلا تنافي إذن بين كلامنا بالتخيير وكلامهم .

ص: 112

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الوجوب وغيره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم

ويدلّ عليه جميعُ ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكليف .

-------------------

( المسألة الرابعة ) : في ( دوران الأمر بين الوجوب وغيره ) من الأحكام الثلاثة الأُخر ، أي : الاستحباب والكراهة والاباحة ، لا دوران الأمر بين الوجوب والحرمة فانّها مسألة مستقلة .

وانّما يدور الأمر بين الوجوب والأحكام الثلاثة الأُخر ( من جهة الاشتباه في موضوع الحكم ) والموضوع مرتبط بالعرف - وهو واضح - كما لو شك في انّه هل فاتت منه عشر صلوات أو عشرون صلاة ؟ .

( و ) هنا نقول بالبرائة أيضا سواء كان الشك بين الأقل والأكثر كالمثال المتقدّم أو الشك بين المتباينين ؛ كما إذا شك في مضي أربعة أشهر على زوجته حتى يجب وطيها ، أو لا حتى يستحب وطيها ؟ .

وانّما شك من جهة الاشتباه في الامور الخارجية مثل : انه لا يعلم هل صار أول الشهر الرابع أم لا ؟ ففي كلا المقامين تجري البرائة ، لانّه ( يدلّ عليه جميعُ ما تقدّم في الشبهة الموضوعية التحريمية : من أدلة البرائة عند الشك في التكليف ) وهو من الشك في التكليف ، إذ لا يعلم بوجوب الزائد على العشر المتيقنة ، كما لا يعلم بوجوب وطي المرأة .

ص: 113

وتقدّم فيها أيضا اندفاعُ توهّم أنّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم وجب مقدّمةً لامتثال التكليف في جميع أفراده موافقته في كلّ ما يحتمل أن يكون فردا له .

-------------------

وقد تقدَّم الاستدلال للبرائة بالأدلة الأربعة : من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ( وتقدّم فيها ) أي : في الشبهة التحريمية ( أيضا اندفاعُ توهّم : انّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم ) كلي ( وجب مقدّمةً لامتثال التكليف في جميع أفراده ) الواقعية ( موافقته ) أي : موافقة ذلك التكليف ، لانّ الكلي المتعلّق به التكليف يجب على الانسان ان يمتثل كل أفراده من باب المقدمة وقوله « موافقته » فاعل « وجب » وقوله « مقدمة » - بالنصب - أي : وجوبا مقدميا وذلك ( في كل ما يحتمل ان يكون فردا له ) .

حاصل الاشكال : انه يجب علينا قضاء كل الفوائت التي تعلقت بذمتنا ومقدمة للعلم بقضاء كل الفوائت يجب ان نأتي بكل ما يحتمل الفوت ، ومحتمل الفوت هي العشرة في مثالنا ، فنأتي بعشرين صلاة ، وكذا يجب على الزوج وطي زوجته في كل أربعة أشهر مرة ، ومقدمة لعلمه باتيان هذا الواجب يجب عليه وطيها في مورد شك فيه انّه على رأس أربعة أشهر أم لا ؟ .

وحاصل الجواب : ان العقلاء انّما يرون وجوب العمل فيما إذا علم العبد بالحكم وعلم بالموضوع ، علما تفصيليا أو علما اجماليا ، اما اذا لم يعلم بالحكم أو لم يعلم بالموضوع لا علما تفصيليا ولا علما اجماليا ، فالعقلاء يرون معاقبة هذا العبد على الترك قبيحا ، لأنّه عقاب بلا بيان ، وكذلك يرى الشارع ، ولأجله جعل البرائة لمن لم يعلم الموضوع أو الحكم ، بالأدلة العامة التي مرّ ذكرها مثل

ص: 114

ومن ذلك يعلم أنّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا ترددت الفائتة بين الأقلّ والأكثر ، كصلاتين وصلاة واحدة ، بناءا على أنّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزومَ الاتيان بالأكثر من باب المقدّمة .

-------------------

قوله تعالى : « وَمَا كُنا مُعَذبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (1) ومثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فيهِ نَهيٌ » (2) وقوله عليه السلام : « مَا حَجَبَ اللّهُ عِلْمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُمُ » (3) إلى غير ذلك من الأدلة العامة الشاملة للموضوع والحكم .

( ومن ذلك ) أي : من دفع التوهم الذي تقدّم سابقا وبيّنّاه هنا مجملاً ( يعلم : انّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال ) فقد استند إلى قاعدة الاشتغال من جهة علمه الاجمالي بأنه اما فاتته عشر صلوات أو عشرون صلاة ؟ وذلك ( فيما إذا ترددت الفائتة بين الأقل والأكثر ، كصلاتين وصلاة واحدة ) بان لم يعلم هل فاتته الظهران كلاهما ، أو الظهر وحدها ؟ .

وانّما استند إلى قاعدة الاشتغال ( بناءا على انّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا ) من المكلّف ( يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر من باب المقدمة ) وذلك لأنّه إذا أتى بعشر صلوات فقط لا يعلم انّه أتى بكل الفوائت ، فمقدمة لعلمه بالاتيان بكل الفوائت ، يجب عليه الاتيان بالاكثر - وهي العشرين في المثال - وكذا في مثال الوطي المتقدِّم .

وإن شئت قلت : ان الاشتغال اليقيني بحاجة إلى البرائة اليقينية ؛ وهذا الشخص

ص: 115


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 .

توضيحُ ذلك ، مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريميّة ، أنّ قوله : « إقضِ ما فاتَ » ، يوجب العلم التفصيليِّ بوجوب قضاء ما علم فوته ، وهو الأقل ، ولا يدلّ أصلاً على وجوب ما شكّ في فوته ، وليس

-------------------

قد اشتغلت ذمته يقينا بفوائت ، فيلزم عليه أن يحصل البرائة اليقينية ؛ وحصول البرائة اليقينية لا يكون إلاّ باتيان العشرين .

( توضيح ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ هذا التوهم غير صحيح يتم ببيان امرين :

أولاً : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريمية ) فقد مرّ هناك في الشبهة الموضوعية التحريمية مثل هذا التوهم أيضا وذلك فيما إذا علم حرمة الخمر وعلم انّ هذه الأواني العشر خمر ؛ لكنّه شك في الآنية الحادية عشرة انّها خمر أم لا ؟ قلنا هناك : انّه لا يجب الاجتناب عنها ، بل يجري البرائة .

ثانيا : ما أشار اليه : ( انّ قوله ) عليه السلام : ( اقض ما فاتَ ) وهذا هو معنى الحديث ؛ وإلاّ فنصّ الحديث كما يلي : « مَنْ فَاتَتهُ فَريضَةٌ فَليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) ، وعلى كل حال : فانّ هذا الحديث ( يوجب العلم التفصيليّ بوجوب قضاء ما علم فوته ، و ) ما علم الانسان علما تفصيليا بفوته ( هو الأقل ) كعشر صلوات في المثال ( ولا يدلّ أصلاً على وجوب ما شك في فوته ) وهو الزائد على عشر صلوات ( وليس ) ما شك في فواته كالعشر المتممة للعشرين - في المثال - طرفا لعلم اجمالي غير منحل حتى يجب هذه العشر الزائدة من باب العلم الاجمالي .

وعليه : فليس ما نحن فيه من قبيل تردد الفائتة بين الظهر والعصر - مثلاً -

ص: 116


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

فعله مقدّمة لواجب حتّى يجب من باب المقدّمة .

فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلاّ وجوب المعلوم فواته ، لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم حتّى يقال إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ، بل من جهة أنّ الأمر بقضاء الفائت الواقعيّ لا يعدّ دليلاً إلاّ على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج إلى مقدّمة ولا يعلم منه

-------------------

ليكون ( فعله مقدّمة لواجب حتى يجب من باب المقدّمة ) .

والحاصل : انّه لا علم تفصيلي ولا علم اجمالي بذلك الزائد على العشر صلوات المقطوع فوتها ( فالأمر بقضاء ما فات واقعا ) لأنّ الشارع يأمر بقضاء ما فات والألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فالمراد : ما فات واقعا وجب قضائه ، لكن هذا الأمر ( لا يقتضي إلاّ وجوب المعلوم فواته ) وهو الأقل .

( لا ) يقال : مافات عبارة عمّا فات واقعا لا ما هو معلوم الفوات ، فمن أين تقيّدون « ما فات » في كلام الشارع بما علم فواته ؟ .

لأنا نقول : ليس التقييد بالعلم ( من جهة دلالة اللفظ ) أي : لفظ ما فات ( على المعلوم ) فقط ( حتى يقال : إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ) فانّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة فقط ( بل من جهة انّ الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعدّ دليلاً إلاّ على ما علم صدق الفائت عليه ) فما علم المكلّف انّه فائت فهو مكلّف به والأزيد من ذلك لا دليل على انّه مكلّف به فلا يجب عليه ، وانّما البرائة العقلية والشرعية تدل على عدم وجوب ذلك الزائد المشكوك فيه .

( وهذا ) اي : معلوم الفوت ( لا يحتاج إلى مقدّمة ) لأنّه ليس بمجهول مردد بين شيئين كما في تردد الواجب بين الظهر والجمعة ( ولا يعلم منه ) أي :

ص: 117

وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدّمة العلميّة .

والحاصل : أنّ المقدّمة العلميّة المتّصفة بالوجوب لا يكون إلاّ مع العلم الاجماليّ .

نعم ، لو اجرى في المقام أصالةُ عدم الاتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه

-------------------

من قوله : « اقض ما فات » (1) ( وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدمة العلميّة ) فانّه لا يقتضي تنجّز وجوب قضاء الفائت الواقعي معلوما كان أو مشكوكا أو مظنونا أو موهوما حتى يلزم على المكلّف الاتيان بكل المحتملات فيكون الزائد على الأصل من المحتملات فيجب الاتيان به .

( والحاصل : انّ المقدّمة العلمية المتّصفة بالوجوب لا يكون إلاّ مع العلم الاجمالي ) المردد بين متباينين بدون انحلال ، كما إذا تردد الواجب بين الظهر والجمعة فإنّه يكون مجرى قاعدة الاشتغال ، أمّا مانحن فيه فهو من تردد الأمر بين الأقل والأكثر ، والأقل متيقن دون الاكثر فانه مشكوك فيه فيجري فيه البرائة ، وبذلك ينحلّ العلم الاجمالي إلى ما يلزم وهو الأقل ، وإلى ما لايلزم وهو الأكثر .

( نعم ، لو اجرى في المقام ) أي : في مقام تردد الفائتة بين الأقل والأكثر وفي غيرها من الأمثلة ، كما إذا تردد في انّه هل يجب عليه اخراج خُمس مائتين أو اخراج خُمس ثلاثمائة ؟ أو انّه يجب عليه اعطاء زيد دينارا أو دينارين لأنّه استدان منه ، وتردد بين الدينار والدينارين فلو أجرى ( اصالةُ عدم الاتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه ) بأن يقال : وجبت عليه عشرون صلاة في أوقات الصلوات ولم يعلم انّه أتى بتلك العشرين ، فاللازم الاتيان بكل العشرين

ص: 118


1- - مستدرك الوسائل: ج3 ب28 ص144 ح3222 بالمعنى ، المقنعة: ص144 وفيه (يقضي ما فات) .

فله وجهٌ ، وسيجيء الكلام عليه .

هذا ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب ، رضوان اللّه عليهم ، بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني أنّه لو لم يعلم كميّةَ ما فات قضى حتّى يَظُنَّ الفراغَ منها .

-------------------

من باب قاعدة الاشتغال ( فله وجه ) غير وجيه ، لأنّ مقتضى حيلولة الوقت انّه ليس بمكلّف بما ذهب وقته إلاّ بما تيقن انّه لم يأت به في الوقت ( وسيجيء الكلام عليه ) انشاء اللّه تعالى .

وعلى أيّ حال : فلا تجري قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الفوائت : كما لا تجري بالنسبة إلى الدين والخمس وغيرهما من سائر الأمثلة المرددة بين الأقل والاكثر .

نعم ، إذا وجبت عليه مائة صلاة استيجارية ، أو قضاء الأب ، أو ما أشبه ذلك ، وشك في انه هل أدّى منها عشرا - مثلاً - أو لم يؤد شيئا ؟ وجب الاتيان بالأكثر وإن احتمل ، أو ظنّ انّه أتى ببعضها ، وذلك للفرق بين ما نحن فيه من الفائتة حيث يشك في أصل الفوت فلا يجب الأكثر ، وبين قضاء الاب والصلاة الاستجارية حيث تيقن أوّلاً بالجميع وشك في الاتيان فيجب الاكثر ، ففي الفائتة مجرى البرائة وفي قضاء الأب والصلاة الاستيجارية مجرى الاشتغال .

( هذا ) الذي ذكرناه : من الاكتفاء بالأقل في الفائتة المشكوكة بين الأكثر والأقل هو مقتضى القاعدة - على ما عرفت - . ( ولكن المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم ؛ بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني : انه لو لم يعلم كميّة ما فات ، قضى حتى يظنّ الفراغ منها ) فالاعتبار بظن الفراغ لا باتيان المتيقن والبرائة في الزائد عليه .

ص: 119

وظاهرُ ذلك ، خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظنّ رخصةً وأنّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ، كونُ الحكم على القاعدة .

قال في التذكرة : « لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء لاشتغال الذمّة بالفائت ،

-------------------

( وظاهر ذلك ) الذي ذكروه : من لزوم الظن بالفراغ ( خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم ) على لزوم تحصيل الظن بالفراغ ( : من كون الاكتفاء بالظن رخصة ) وذلك فيما اذا كان في تحصيل العلم حرج ، فان الحرج مرفوع ، فاللازم الاكتفاء بالظن ( و ) الاّ فقد علمت : ( انّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ) .

فان ظاهر هذا الاستدلال ( كون الحكم ) بقضاء الأكثر ( على القاعدة ) أي : طبق قاعدة الاشتغال ، فانهم يرون أولاً وبالذات : وجوب الاتيان بكل الفوائت المحتملة أي : العشرين في المثال ليحصل له العلم بالفراغ ، فاذا كان في تحصيل العلم بالفراغ حرج عليه ، اكتفى بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ ، بأن يأتي بخمس عشرة صلاة - مثلاً - لا ان يكتفي بالاقل كما ذكرناه .

( قال ) العلامة ( في التذكرة : لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد ) كما اذا فاتته الصبح في أيام متعددة ، فعين الصلاة معلومة ، غير ان عددها مشكوك بين العشرين أو العشر صلوات ( صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء ) بكل تلك التي فاتته من الصلوات ، فانه قد يكون إذا صلّى خمس عشرة صلاة - مثلاً - ظن بانّه أتى بالقدر الفائت فيكفيه ذلك .

وانّما نقول : بانّه يجب الاتيان إلى الظن بالفراغ ( لاشتغال الذمة بالفائت )

ص: 120

فلا يحصل البراءة قطعا إلاّ بذلك ، ولو كانت واحدةً ولم يعلم العدد صلّى تلك الصلاة مكررا حتّى يظنّ الوفاء ، ثمّ احتمل في المسألة احتمالين آخرين : أحدهما تحصيل العلم ، لعدم البراءة إلاّ باليقين ، والثاني الأخذ بالقدر المعلوم ، لأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يفوّت الصلاة

-------------------

قطعا ( فلا يحصل البرائة قطعا إلاّ بذلك ) أي : الاّ بالاتيان بتلك الفوائت بقدر الظن ، وهذه الكلية التي ذكرها العلامة شاملة للصلوات المتعددة ، كمن فاتته الصلوات اليومية الخمس مكررا ، أو ثلاث صلوات منها ، أو ما أشبه ، كما انها شاملة لما إذا كانت صلاة واحدة على ما مثلناه بصلاة الصبح ، وصرّح به العلامة أيضا بقوله : ( ولو كانت واحدة ) كصلاة المغرب - مثلاً - ( ولم يعلم العدد ) هل فاتته عشرون أو عشرة ؟ ( صلّى تلك الصلاة ) الواحدة ( مكررا حتى يظن الوفاء ) بما فاتته منها ، ممّا يدل على ان العلامة لا يكتفي إلا بالفراغ ، لا بالأقل الذي هو مقتضى البرائة واخترناه نحن المصنِّف .

( ثم احتمل ) العلامة ( في المسألة احتمالين آخرين ) ذكرهما بقوله :

( أحدهما : تحصيل العلم ) فاللازم أن يصلي حتى يعلم بالفراغ قطعا ( لعدم البرائة إلاّ باليقين ) فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البرائة اليقينية ، والبرائة اليقينية لا تكون إلاّ باتيان الأزيد كاملاً .

( والثاني : الأخذ بالقدر المعلوم ) وذلك لعدم جريان الاشتغال ، وانّما تجري البرائة في الزائد فيأتي بالقدر المتيقن ( لأنّ الظاهر : ان المسلم لا يفوّت الصلاة ) فظهور حال المسلم هو الذي يستدعي الاتيان بالأقل فيقدّم الظاهر على الأصل ، فانه اذا تعارض الأصل والظاهر قدمَ المشهورُ الأصلَ ؛ وبعض الفقهاء يقدِّم الظاهر .

ص: 121

ثمّ نسب كِلا الوجهين إلى الشافعيّة » ، انتهى .

وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ، وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الامكان ، وصّرح في الرياض بأن مقتضى الأصل القضاء حتّى يحصل العلم بالوفاء تحصيلاً للبراءة اليقينيّة .

وقد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس سره ، في التهذيب حيث قال : « أمّا ما يدلّ على أنّه يجب أن

-------------------

مثلاً : في الأماكن التي يعتاد البول فيها إذا ترشح على الانسان منها بلل ، فالأصل الطهارة والظاهر النجاسة ، وكذلك فيمن يعتاد الاشتراء بالنقد إذا شك ذات مرة هل انه اشترى من البقال نقدا ودفع له الثمن أو لم يؤدّ له الثمن ؟ فالأصل عدم أداء الثمن والظاهر أدائه ، إلى غير ذلك من الامثلة ( ثم نسب ) العلامة ( كلا الوجهين الى الشافعيّة (1) ، انتهى ) ما في التذكرة .

( وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ) اي : نهاية العلامة ايضا .

( وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الامكان ) فيما اذا لم يكن مانع عقلي كعدم القدرة ، أو مانع شرعي كالحرج ، ممّا ظاهره : ان اللازم اجراء قاعدة الاشتغال ، لا البرائة .

( وصرّح في الرياض : بأن مقتضى الأصل ) أي : مقتضى قاعدة الاشتغال ( القضاء حتى يحصل العلم بالوفاء ) بكل ما فات منه ولو احتمالاً ( تحصيلاً للبرائة اليقينيّة ) التي هي مقتضى الاشتغال اليقيني .

( وقد سبقهم في هذا الاستدلال ) أي في الاستدلال على لزوم قضاء الأكثر بقاعدة الاشتغال ( الشيخ قدس سره في التهذيب حيث قال : أما ما يدل على انّه يجب أن

ص: 122


1- - تذكرة الفقهاء : ج1 .

يكثر منها فهو ما ثبت أنّ قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك إلاّ بأن يستكثر منها وجب » ، انتهى .

وقد عرفت أنّ المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ بالأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، كما لو شكّ في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه أو في أنّ الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، فانّ الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر .

-------------------

يكثر منها ) أي : من صلاة القضاء حتى يعلم بالبرائة اليقينية ( فهو ما ثبت ان قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك ) أي : من الوجوب الثابت عليه ( الاّ بأن يستكثر منها ) أي : من الصلاة ( وجب ) الاكثار ( انتهى ) كلام الشيخ في التهذيب .

هذا ( وقد عرفت : ان المورد ) يعني : مورد كلامنا وهو : « دوران الفائتة بين الأقل والأكثر » ( من موارد جريان اصالة البرائة والأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه ) أي : بين الأقل ( وبين الأكثر ) وذلك لانحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل ، وشك بدوي بوجوب الأكثر ، والشك البدوي دائما مجرى البرائة لعدم البيان ؛ فيشمله دليل قبح العقاب بلا بيان .

مثاله : ( كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضائه ) واداؤه عليه بين الأقل والأكثر ، وكذلك في باب الخمس ، وباب الزكاة ، وباب النفقة ، وما أشبه ( أو في انّ الفائت منه صلاة العصر فقط ، أو هي مع الظهر ، فان الظاهر ) من كلماتهم في أمثال هذه الأبواب ( : عدم افتائهم بلزوم قضاء الظهر ) لأنه انّما يعلم بقضاء العصر فقط ، أما قضاء الظهر فالاصل البرائة عنه بعد كون الوقت حائل .

ص: 123

وكذا ما لو تردّد في ما فات عن أبويه أو في ما تحمّله بالاجارة بين الأقلّ والأكثر .

وربّما يظهر من بعض المحققين الفرقُ بين هذه الأمثلة

-------------------

( وكذا ) لم يفتوا بوجوب الأكثر ( ما لو تردد فيما فات عن أبويه ) إذا كان يجب عليه القضاء عنهما ، كما في الولد الأكبر بالنسبة إلى الأب أو الأبوين ، او كان الاب قد اوصى بقضاء صلواته .

( أو فيما تحمّله بالاجارة ) وتردد ( بين الأقل والأكثر ) كالصلاة في المثال ، او الحج اذا تحمله بالاجارة أو بالنذر أو بهما أو بما أشبه ذلك وتردد بين حجتين أو ثلاث حجج ، أو الصوم بان نذره أياما وشك في انه ثلاثة أيام أو أربعة ؟ أو انه أفطر أياما من رمضان وشك في ان اللازم عليه قضاء خمسة أيام او سبعة ؟ إلى غير ذلك من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فان المشهور قالوا بلزوم الاقل في كل هذه الموارد . وهناك أقوال ثلاثة أخر :

الأوّل : لزوم الأكثر ، ومستنده ما تقدّم : من قاعدة الاشتغال .

الثاني : لزوم الاتيان بقدر الظن ، ومستنده : قيام الظن مقام العلم عند تعذر العلم .

الثالث : التفصيل بين كون التردد ناتجا عن اهماله . كما اذا لم يكتبه ، أو كتبه في ورقة لكن أتلف الورقة عمدا . فانّه يجب عليه الأكثر ، وإلا وجب عليه الأقل ، أو بقدر الظن . ومستنده : انه لو كان الاتلاف عمدا - مثلاً - فهو السبب بعد تنجز التكليف عليه ؛ واحتمال التكليف المنجز منجزٌ ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك .

( وربّما يظهر عن بعض المحققين ) وهو العلامة الطباطبائي في المصابيح قول خامس هو : ( الفرقُ بين هذه الأمثلة ) التي ذكرناها ممّا كان الشك فيها بين الأقل

ص: 124

وبين ما نحن فيه ، حيث حكي عنه ، في رد صاحب الذخيرة القائل بأنّ مقتضى القاعدة في المقام الرجوعُ إلى البراءة ، قال : « إنّ المكلّف حين علم بالفوائت صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا ، وكذا الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا .

-------------------

والأكثر دفعيا ، من دون سبق علم تفصيلي وعروض نسيان أو ما أشبه عليه ( وبين ما نحن فيه ) من الفوائت التي تفوت تدريجيا مع العلم بها تفصيلاً ، ثم عروض النسيان على المكلّف ، وهذا إنّما يكون فيما إذا علم المكلّف بالفائتة تلو الفائتة وإلا بان كان غافلاً او لم يكن يعرف ان عليه واجبا أصلاً ، لأنه كان جاهلاً قاصرا أو مقصرا ، ثم علم دفعة انه يجب عليه فوائت ؛ فانه ليس بمشمول لكلام السيد الطباطبائي : من ايجاب الأكثر أو بقدر الظن .

وإنّما يظهر الفرق من المصابيح ( حيث حكي عنه ، في ردّ ) السيد السبزواري ( صاحب الذخيرة القائل : بأنّ مقتضى القاعدة في المقام ) اي : في الشك بين الأقل والأكثر ( الرّجوع إلى البرائة ) فانّ السبزواري كالمشهور يقول باجراء البرائة عن الأكثر ولزوم الاتيان بالأقل .

( قال ) السيد الطباطبائي في رده ( : ان المكلّف حين علم بالفوائت ) كل في وقتها بأن كان عالما بها عامدا في تركها ( صار مكلفا بقضاء هذه الفائتة ) التي تركها ( قطعا ) لأنه شمله التكليف وقد تركه عمدا ( وكذا الحال في الفائتة الثانية ، والثالثة ، وهكذا ) من غير فرق في ذلك بين فوت عدد الصوم ، أو عدد الصلوات ، أو عدد الدنانير المدنية او غير ذلك .

وعلى كل حال : فالمشكوك على تقدير فوته منجز عليه ويجب عليه قضائه .

ص: 125

ومجرّد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الاطلاقات والاستصحاب بل الاجماع أيضا ؟ وأي شخص يحصل منه التأمّل في أنّه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلّفا ، وبمجرّد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت ؟ وإن أنكر حجيّة الاستصحاب فهو يسلّم أنّ الشغل اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة

-------------------

( ومجرد عروض النسيان كيف يرفع الحكم ) الذي قد تنجّز عليه : من وجوب قضاء العبادة واداء الدين ( الثابت من الاطلاقات ) مثل : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةٌ فَليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) في باب الصلاة والصيام ونحوهما ، ومثل « أدِّ دَينَكَ » فِي بَابِ الدُّيونِ وما أشبه ذلك ( و ) الثابت من ( الاستصحاب ) ايضا ، فانّ الاستصحاب يقتضي بقاء الطلب بعد خروج الوقت ، من غير فرق بين الصوم والصلاة وغيرهما ( بل الاجماع أيضا ) يقتضي ما ذكرناه .

( وأي شخص يحصل منه التأمّل في انه إلى ما قبل صدور النّسيان كان مكلفا ، وبمجرد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت وإن أنكر ) ذلك الشخص ( حجيّة الاستصحاب ) لانه ليس له يقين سابق ، مع انه يلزم أن يكون له حال ارادة الاستصحاب يقين سابق وشك لاحق ؛ فالاستصحاب وإن لم يكن يجري وانّما يجري الاطلاقات والاجماع .

( فهو ) أي : هذا الشخص ( يسلّم أنّ الشغل اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ) .

لكن يمكن أن يقال في ردّ كلام السيد : ان للشخص ان ينكر ما ذكرتم ، لأنه قبل النسيان كان مكلّفا ، وأما بعد النسيان فليس بمكلّف لحديث الرفع ، كما انه

ص: 126


1- - بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح4 (بالمعنى) .

- إلى أن قال - : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجماليّ باشتغال ذمّته بفوائت متعددة يعلم قطعا تعدّدها ، لكن لا يعلم مقدارها ، فانّه يمكن حينئذٍ أن يقال : لا نسلّم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقّنه - إلى أن قال - : والحاصل أنّ المكلّف إذا حصل له القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس عليه ذلك كمّا ، وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ،

-------------------

لو كان عالما بشيء ثم جهله فانّ الجهل يرفعه ، وهكذا في مثل مالو اضطر ، أو أكره ، أو ألجيء ، ممّا يشمله حديث الرفع ونحوه ، مع وضوح وحدة السياق في مقاطع الحديث المذكور ، فكما يختلف قبل الاضطرار وبعده وقبل الاكراه وبعده كذلك يختلف قبل النسيان وبعده .

( إلى أن قال : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجمالي باشتغال ذمته بفوائت متعددة ) دفعة واحدة كما اذا علم بانّه صلّى وهو جنب صلوات متعددة بحيث ( يعلم قطعا تعددها ) أي : تعدد تلك الصلوات الفائتة ( لكن لا يعلم مقدارها فانّه يمكن حينئذٍ أن يقال : لا نسلّم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقنه ) .

وكذلك حال من علم دفعة بعد مرور مدة بوجوب الانفاق على زوجته ، ولم يعلم عدد الأيام التي لم ينفق عليها ، وكذا بالنسبة إلى قضاء صلوات أو صيام أبيه ، أو نذر صوم أيام وغفل عن نذره ثم تذكره دفعه وغير ذلك .

( إلى أن قال والحاصل : ان المكلّف إذا حصل له القطع باشتغال ذمّته ) بالتدريج يوما فيوما حتى علم ( ب- ) تكليف ( متعدد ، والتبس عليه ذلك كمّا ) من حيث العدد ( وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ) : من انّه

ص: 127

وإن لم يحصل ذلك بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث ، وأمّا أزيد من ذلك فلا ، بل احتمال احتمله . فالأمر كما ذكره في الذخيره .

ومن هنا لو لم يعلم أصلاً بمتعدد في فائتة وعلم أنّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظنّ فوته

-------------------

يأتي بالمشكوك بقدر ظنه أو حتى يعلم بالفراغ .

( وإن لم يحصل ذلك ) اي : القطع باشتغال ذمته تدريجيّا بل دفعيا ( بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث ) دفعة كما مثّلنا له ( وأما أزيد من ذلك فلا ) قطع له ( بل احتمال احتمله ، فالأمر كما ذكره في الذخيرة ) من اجراء البرائة عن الأكثر ولزوم الاتيان بالأقل .

ولا يخفى : ان قول السيد الطباطبائي : « كما » مقابل الكيف ، كما اذا شك في ان الذي فاته كان صلاة الصبح أو المغرب ؟ فان الاختلاف بينهما في الكيف لا الكم ، وحينئذٍ يلزم عليه الاتيان بهما لمكان العلم الاجمالي بين المتباينين المقتضي للاحتياط .

وكذا لو شك في ان الذي اصاب ثوبه هو البول أو الدم حيث ان إزالة الأوّل بالتطهير مرتين وإزالة الثاني بالتطهير مرة ، فيلزم عليه التطهير مرتين .

وهكذا إذا شك في انّه نذر أن يقرء سورة يس ، أو سورة التوحيد ؛ فان اللازم عليه قراءة السورتين ، ولا يقال انه اختلاف في الكم لأن آيات سورة يس أكثر من آيات سورة التوحيد ، فاللازم عليه أن يأتي بالأقل .

( ومن هنا ) اي : من أجل ما ذكرناه : من انه لو علم بالفوائت ونحوها دفعة ، لا تدريجا جرت البرائة في الأزيد ، ولزم الاتيان بالأقل ( لو لم يعلم أصلاً بمتعدد في فائتة ، وعلم انّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظن فوته

ص: 128

أصلاً ، فليس عليه إلاّ الفريضة الواحدة دون المحتمل لكونه شكّا بعد خروج الوقت ، والمفروض أنّه ليس عليه قضاؤها ، بل لعلّه المفتى به » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ويظهر النظرُ فيه ممّا ذكرناه سابقا ، ولا يحضرني الآنَ حكمٌ لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام ، بل الظاهر منهم إجراء البراءة في أمثال ما نحن فيه .

-------------------

أصلاً ) كما اذا شك في انّه هل فاتت منه صلاة صبحه أو صلاة صبحه وظهره معا - مثلاً - ؟ ( فليس عليه الاّ الفريضة الواحدة ) لأنها المتيقن ( دون المحتمل لكونه شكّا بعد خروج الوقت والمفروض انه ليس عليه قضائها ؛ بل لعلّه المفتى به ) (1) لأن الوقت حائل كما ذكر في بابه ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

هذا ( ويظهر النَظر فيه ممّا ذكرناه سابقا ) : من ان العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي بوجوب الأكثر ؛ فيكون الأكثر مجرى البرائة كما ان دليل رفع النسيان يشمل صورتي : الدفعية والتدريجية معا .

( ولا يحضرني الآن حكمٌ لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام ) من موارد الشك بين الأقل والأكثر ( بل الظاهر منه : اجراء البرائة ) بالنسبة إلى الزائدة على الأقل المتيقن ( في أمثال ما نحن فيه ) كالشك في تطهير كل ثوبه وبدنه وداره وأثاثه ، لانه يشك في تنجسه كله أو قدر منه ؟ وفي الصوم والنذر ، وفي العهد واليمين ، وفي الدين والنفقة ، وفي الدية : بأن عليه دينارا أو دينارين ؟ وفي الجناية العمدية : بأن زيدا قطع يده وعمرا رجله ، أو زيدا قطع اليد والرجل ؟ وغير ذلك .

ص: 129


1- - ذخيرة المعاد في شرح الارشاد .

وربّما يوجّه الحكم بأنّ الأصل عدم الاتيان بالصلاة الواجبة فيترتب عليه وجوب القضاء إلاّ في صلاة علم الاتيان بها في وقته .

ودعوى : « ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل ، لا مجرّد عدم الاتيان

-------------------

( وربّما يوجّه الحكم ) أي : الحكم بوجوب الاتيان بالأكثر بثلاثة وجوه أخر :

الأوّل : الاستصحاب ، لأن الاستصحاب يقتضي عدم الاتيان بالمشكوك الزائد على المتيقن ، وأشار إليه بقوله : « بأن الأصل عدم الاتيان بالصلاة الواجبة » .

الثاني : قاعدة الاشتغال ، وأشار إليه بقوله : « وإن شئت تطبيق ذلك » .

الثالث : النص الوارد في النافلة ، فان مناطه شامل للمقام ، وأشار إليه بقوله : « وأضعف منه التمسك » .

والى الوجه الأوّل أشار المصنّف حيث قال : ( بأنّ الأصل : عدم الاتيان بالصلاة الواجبة ) فانّ المكلّف لمّا دخل عليه الوقت صباحا ، أو ظهرا ، أو مغربا ، وجبت عليه الصلاة وحيث لا يعلم انه أتى بها فالاستصحاب يقتضي عدم اتيانها ( فيترتب عليه وجوب القضاء ) سواء بالنسبة إلى الصلاة المظنونة الترك أو المظنونة الفعل ، أو المشكوكة الترك أو الفعل ( إلاّ في صلاة علم الاتيان بها في وقته ) أما في غير معلوم الاتيان فالواجب عليه أن يأتي به استصحابا .

( و ) إن قلت : الاستصحاب لا يفيد وجوب القضاء ، لأن القضاء متوقف على صدق الفوت ؛ واستصحاب عدم الاتيان لا يثبت الفوت لأنّه مثبت ، والاستصحاب المثبت ليس بحجّة ، فانّ ( دعوى ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت غير الثابت بالأصل ) لأنّ الأصل يثبت عدم الاتيان لا انه يثبت عنوانا وجوديا هو : الفوت ، فانه ( لا ) يترتب وجوب القضاء على ( مجرّد عدم الاتيان

ص: 130

الثابت بالأصل » ، ممنوعةٌ ، لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بيّناه في الفقه .

وأمّا ما دلّ على أنّ الشكّ في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به فلا يشمل ما نحن فيه .

-------------------

الثابت بالأصل ) أي : باستصحاب عدم الاتيان ، حتى نستصحب عدم الاتيان ، فنرتِّب عليه وجوب القضاء ؟ .

قلت : الدعوى المذكورة ( ممنوعةٌ ) لأنّ القضاء انّما يكون لعدم الاتيان لا انه يتوقّف على صدق الفوت ، وقوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً » (1) يراد بها : عدم الاتيان بالفريضة ، لا انّ الفوت عنوان وجودي ، وانّما نقول بكفاية عدم الاتيان في وجوب القضاء ؛ ولا نحتاج إلى صدق الفوت ( لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب : من ان المراد بالفوت ) الذي هو موضوع وجوب القضاء ( : مجرّد الترك ) ولهذا يجب على الحائض ان تقضي الصوم مع انه لا يصدق الفوت بالنسبة اليها ، فان الفوت انّما يصدق مع وجود المقتضي ، والحائض لا مقتضي لصومها ، وانّما تركها الصيام أوجب القضاء عليها ( كما بيّناه في الفقه ) مفصلاً .

( و ) ان قلت : « الوقت حائل » يقول : ان الانسان اذا شك بعد خروج الوقت في انّه اتى بالصلاة أو لم يأت بها ، لا يعتني بشكه .

قلت : ( اما ما دلّ على ان الشك في اتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به ، فلا يشمل ما نحن فيه ) من موارد العلم الاجمالي .

وعليه : فانّ مَن يقول بوجوب قضاء الزائد على القدر المتيقن يتمسك تارة

ص: 131


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

وإن شئت تطبيق ذلك على قاعدة الاحتياط اللازم ، فتوضيحُه أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد إلاّ أنّ ذلك الأمر

-------------------

باستصحاب عدم الاتيان في الوقت مع انّه يسلم جريان البرائة في نفسها في المقام لكن يقول : ان الاستصحاب حاكم على البرائة .

وأخرى : بأن البرائة لا تجري أصلاً ، لأنّ الأداء والقضاء شيء واحد ، وانّما يكونان من باب تعدد المطلوب ، فالشارع يريد الصلاة على امتداد العمر ، ويريد أيضا ان تكون هذه الصلاة في الوقت ، فاذا صلاها في الوقت فهو ، وإلاّ لزم عليه الاتيان بها خارج الوقت ، وحيث لا يعلم هذا الشاك بين الأقل والأكثر هل انّه صلاها في الوقت أم لا ؟ لزم عليه اتيانها خارج الوقت .

وإلى الوجه الثاني أشار المصنِّف بقوله : ( وإن شئت تطبيق ذلك ) الذي مر : من وجوب قضاء الزائد المشكوك وعدم الاكتفاء بالأقل المتيقن ، اذ المفروض : انّ الأقل متيقن والزائد على الأقل مشكوك فيه تطبيقه ( على قاعدة الاحتياط اللازم ) فانّ الزائد ليس مجرى البرائة ، وانّما هو مجرى لقاعدة الاحتياط فيلزم الاتيان بذلك الزائد .

أما انه كيف يكون الزائد مجرى الاحتياط ؟ ( فتوضيحه : انّ القضاء وإن كان بأمر جديد ) مثل قوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) ( إلاّ ) انّه ليس المراد من الأمر الجديد : انقطاع الأمر الأوّل كاملاً ليكون هناك أمران : أمر بالاداء ، وأمر بالقضاء ، حتى اذا شككنا في الأمر بالقضاء نقول بعدم وجود هذا الأمر الثاني ، بل المراد ( انّ ذلك الأمر ) الجديد الذي أداه بقوله « من فاتته فريضة »

ص: 132


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف .

غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدّد المطلوب بأن يكون الكلّيّ المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا ، وكون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، كما أنّ أداء الدين وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الامكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني وهكذا .

-------------------

( كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصّلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف ) أي : إلى آخر عمره ، فللشارع عندما يأمر بوجوب صلاة الظهر - مثلاً - مطلوبان : مطلوب أوّل : انه يأتي بها بين الحدين أي : بين الظهر والمغرب، ومطلوب ثان : انّه إذا لم يأت بها بين الحدين يأتي بها إلى آخر العمر .

و ( غاية الأمر : كون هذا ) الاستمرار المستفاد من الجمع بين الأمر السابق والأمر الجديد ( على سبيل تعدد المطلوب بأن يكون الكلّي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا ) أولاً وبالذات ( وكون اتيانه في الوقت مطلوبا آخر ) فاذا فات المطلوب الأوّل وهو بين الحدين يأتي بالمطلوب العام الذي هو ممتد إلى آخر العمر .

( كما أنّ أداء الدّين ورد السلام واجب في أول أوقات الامكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني ، وهكذا ) في الآن الثالث والرابع والخامس .

وكذلك الحج : فانّه واجب في عام الاستطاعة ، فان لم يفعل ففي العام الثاني ، فان لم يفعل ففي العام الثالث ، وهكذا .

وكذلك الصوم : فانه واجب في شهر رمضان ، فان لم يفعل ففيما بعده إلى شهر رمضان الثاني ، فان لم يفعل فالى آخر العمر .

ص: 133

وحينئذٍ : فاذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ، فاذا شكّ في براءة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقينيّ للبراءة اليقينيّة وجوب الاتيان ، كما لو شكّ في البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شكّ في أداء الدين الفوريّ ، فلا يقال : إنّ الطلب في الزمان الأوّل قد ارتفع بالعصيان ،

-------------------

وكذلك بالنسبة إلى صلة الرحم ، ووجوب أداء الأمانة ، وإعداد النفس للاقتصاص فيما إذا جنى على الغير بما فيه الاقتصاص ، وغير ذلك .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الأمر الجديد كاشفا عن استمرار الأمر الأوّل إلى آخر العمر ، وان الذي كان بين الحدين كان من باب تعدد المطلوب ( فاذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ) أي : كلي الصلاة التي أوجبها الشارع من أول الوقت إلى وقت الموت ( فاذا شك في برائة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقينيّ للبرائة اليقينيّة : وجوب الاتيان ) بهذه الصلاة خارج الوقت ليتيقن بالبرائة .

إذن : فالشك خارج الوقت يكون ( كما لو شك في البرائة قبل خروج الوقت ) فانه كما يقتضي الامر بالصلاة : الاتيان بها في آخر الوقت اذا شك انه اتى بها في أول الوقت أو لم يأت بها ؟ كذلك بالنسبة إلى خارج الوقت ، فانّه يلزم الاتيان بها إذا شك انّه أتى بها في الوقت أم لا ؟ .

( و ) عليه : فيكون حال الصلاة خارج الوقت ( كما لو شك في أداء الدين الفوري ) فانّه يجب عليه الاتيان بعد انتهاء الفور أيضا .

إذن : ( فلا يقال : إنّ الطلب ) أي : طلب الصلاة ( في الزمان الأوّل ) وهو داخل الوقت ( قد ارتفع بالعصيان ) فانّ العصيان قد يرفع بعض التكاليف ، كما اذا اراد

ص: 134

ووجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه ، وكذلك جواب السلام .

والحاصل : أنّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد لا ينافي جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق فلا يكون المقام مجرى البراءة .

هذا ،

-------------------

المولى شرب الماء فأمر عبده فلم يحضر له الماء حتى شرب المولى الماء بنفسه ، فانّ الأمر سقط بالعصيان ولا يجب على العبد بعد ذلك ان يحضر الماء .

( و ) أيضا لا يقال : ان ( وجوده ) أي : وجود الطلب ( في الزمان الثاني مشكوك فيه ) حتى يكون الاصل عدمه ، فيجري البرائة من وجوب الاتيان بالصلاة خارج الوقت ؟ ( وكذلك ) حال ( جواب السلام ) وأداء الدين ، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم بعض أمثلته .

( والحاصل : انّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد ) حيث أمر المولى أولاً باتيان الصلاة إلى آخر العمر ، وأمر ثانيا بأتيانها بين الحدين ( لا ينافي جريان الاستصحاب ) فلا يقال : لا يجري الاستصحاب لأنّ المتيقن وهو الصلاة في الوقت مقطوع العدم ، ووجوب الصلاة بعد الوقت مشكوك الحدوث ؛ فلا يتم أركان الاستصحاب ؛ بل قد عرفت : ان اللازم اجراء الاستصحاب .

( و ) كذلك لا ينافي ( قاعدة الاشتغال بالنسبة الى المطلق ) لأنّ انقطاع التكليف بالنسبة إلى المقيّد بين الحدين لا ينافي بقاء المطلق الذي أراده المولى بالأمر الأوّل من أول الوقت إلى آخر العمر ( فلا يكون المقام ) الذي هو مجرى استصحاب التكليف ومجرى قاعدة الاشتغال ( مجرى البرائة ) من التكليف .

( هذا ) هو ما استدل به القائل بوجوب الاتيان بالزائد حيث تمسك تارةً

ص: 135

ولكنّ الانصاف : ضعف هذا التوجيه لو سلّم استناد الأصحاب إليه في المقام .

أمّا أوّلاً : فلأنّ من المحتمل بل الظاهر ، على القول بكون القضاء بأمر جديد ، كونُ كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر ،

-------------------

بالاستصحاب ، واخرى باطلاق دليل وجوب الاتيان بالصلاة ( ولكن الانصاف ضعف هذا التوجيه ) لوجوب اتيان الزائد والاشتغال بالأكثر ، فانّه ( لو سلّم استناد الأصحاب إليه ) أي : إلى هذا التوجيه ( في المقام ) أي : في مورد دوران الفائتة بين الأقل والأكثر ، فمع التسليم يرد عليه مايلي :

( أمّا أوّلاً : ) فانه يرد على التوجيه الاخير خاصة ، اذ لا يخفى انّ هذه الايرادات الثلاثة التي أوردها المصنِّف على هذا التوجيه مختلفةٌ ، فالايرادُ الأوّل واردٌ على التوجيه الأخير خاصة ، والتوجيهان الأخيران مشتركان الورود على هذا وعلى سابقه ، فالمختص بالاخير هو ما أشار اليه بقوله : ( فلأنّ من المحتمل بل الظاهر ) من الأدلة ( على القول بكون القضاء بأمر جديد ) لا بالأمر الأوّل ، فانهم اختلفوا في انّ القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأوّل ، فاختار المشهور : انّ القضاء بأمر جديد ، لانه اذا لم يكن أمر جديد لم يدل الدليل الأوّل على وجوب القضاء ، إذ الدليل الأوّل انّما يدل على الموقت والموقت غير المطلق .

وعليه : فالظاهر من الامر الجديد ( كون كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر ) فليس من باب تعدد المطلوب كما كان في هذا التوجيه ، بل من باب الأمرين المتغايرين ، فانّ الأمر الجديد بقوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فَليَقضِها كَما فاتَتهُ » (1) لا يكشف عن استمرار الأمر السابق ، وعن تعدد المطلوب في الأوّل

ص: 136


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

فهو من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته ، كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت .

ويؤيّده بعض ما دلّ على أنّ لكلّ من الفرائض بدلاً وهو قضائه عدا الولاية ،

-------------------

ووحدة المطلوب في القضاء ليمكن اجراء الاشتغال عند الشك ، بل الأمر السابق قد انقطع بخروج الوقت ، والأمر الجديد تكليف حادث بتدارك الفائت .

إذن : ( فهو ) أي : الأداء والقضاء ( من قبيل وجوب الشيء ) مقيدا بوقت خاص ، أو شرط خاص ( ووجوب تداركه بعد فوته ) أي : فوت ذلك الوقت أو ذلك الشرط ، فالأمران في الأداء والقضاء من قبيل وجوب ذبح الشاة في الحج ، فان لم يتمكن صام عشرة أيام ، فهما أمران ، لا أمر واحد بالكلي الجامع بينهما حتى يكون اللازم أولاً الكلي المقيّد بالشاة ، فاذا لم يتحقق هذا الفرد يأتي بالكلي في ضمن الصيام ( كما يكشف عن ذلك : ) أي عن تعدد الأمر ، وانّهما من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته : ( تعلق أمر الأداء ) « أقِم الصَّلاةَ لِدلوكِ الشَّمسِ ...» (1) ( بنفس الفعل ) كالظهر - مثلاً - ( وأمر القضاء به ) أي : بالفعل ( بوصف الفوت ) ولذا قال عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فَليَقضِها كَما فاتَته » (2) فالأمر الجديد تكليف جديد بعد انقطاع التكليف الأوّل .

( ويؤيده : ) أي : يؤيد كونهما أمرين ، لا أمر واحد بالكلي ، ثم أمر آخر بفرد منه في الوقت من باب تعدد المطلوب : ( بعض مادل على انّ لكل من الفرائض ) كالصلاة والصيام والحج وغيرها ( بدلاً وهو قضائه عدا الولاية ) فانّ من لم يصل

ص: 137


1- - سورة الاسراء : الاية 78 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

لا من باب الأمر بالكلّيّ والأمر بفرد خاصّ ، منه كقوله : « صم ، وصم يوم الخميس » أو الأمر بالكلي والامر بتعجيله كردّ السلام ، وقضاء الدين

-------------------

في الوقت قضاها بعد الوقت ، ومن لم يصم رمضان قضاه في سائر الأشهر ، ومن لم يحج عام الاستطاعة أتى بالحج في سائر الأعوام ، ومن لم يأت بمنذوره بخصوصياته أتى به من دون تلك الخصوصيات .

أما الولاية للأئمة الطاهرين عليهم السلام فمن لم يأت بها فلا قضاء لها يتدارك بذلك القضاء ما فاته من الخير والأجر .

وجه التأييد : ان هذا الدليل جعل القضاء بدلاً وتداركا للمبدل الفائت ، ومن المعلوم : ان التدارك ليس نفس الشيء حتى يقال : ان الأداء من باب تعدد المطلوب والقضاء من باب المطلوب العام .

وعليه : فالاداء والقضاء أمران : بدل ومبدل منه ( لا من باب الأمر بالكلّي والأمر بفرد خاص منه ) حتى نستكشف من مثل : صل في الوقت ؛ وصل قضاءا ، كون الأمر السابق دالاً على الصلاة في الوقت من باب تعدد المطلوب ، والأمر الثاني دالاً على طلب الشارع مطلق الصلاة في الوقت وخارج الوقت ، وانّما يريده في الوقت من باب خصوصية في هذا الفرد ( كقوله : « صم ، وصم يوم الخميس » ) ممّا يدل على أنّ اصل الصوم مطلوب ، سواء كان في يوم الخميس أو في غير يوم الخميس ، وصوم يوم الخميس مطلوب مؤكد من باب تعدد المطلوب ، فانّ الأمر بالأداء والقضاء ليس من هذا القبيل .

( أو الأمر بالكلي والأمر بتعجيله كردّ السلام ، وقضاء الدّين ) فانّ رد السلام وأداء الدين مطلوبان مطلقا في أيّ زمان كان ؛ وتعجيلهما مطلوب آخر ، فاذا عجّلهما فورا فهو آتٍ بالمطلوب المتعدد .

ص: 138

فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه .

وأمّا ثانيا : فلأنّ منعَ عموم ما دلَّ على أنّ الشكّ في الاتيان بعد خروج الوقت ، لا يعتدّ به للمقام خال عن السند ،

-------------------

ولا يخفى : ان الفرق بين قول المصنِّف كقوله : صم ، وصم يوم الخميس ، وقوله : أو الأمر بالكلي ، هو : ان في المثال الأوّل : المطلوب الآكد هو الوقت الخاص أي : يوم الخميس ، بينما في المثال الثاني : المطلوب الآكد هو الفور لا زمان خاص .

وعليه : فاذا لم يكن الأداء والقضاء من باب تعدد المطلوب الذي ذكره الموجه لوجوب الأكثر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الفائتة ( فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه ) أي : استصحاب الاشتغال بالنسبة إلى الأكثر ، لأنّ الأمر السابق قد انقطع والأمر الجديد مشكوك فيه ، ومثل ذلك لا يكون مجرى للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال .

( وأمّا ثانيا : ) فلأنك قد عرفت : انّ الشارع بقوله : الوقت حائل ، جعل خروج الوقت حائلاً ، فاذا شك المكلّف بعد الوقت في انه اتى بالصلاة أو لم يأت بها بنى على انّه اتى بها والقائل بوجوب الأكثر يمنع من العمل بقاعدة : الوقت حائل ، مستدلاً بأن عمومها لا يشمل ما نحن فيه ، فيعترضه المصنّف بأن المنع هذا لا دليل عليه ويقول له : ( فلأنّ منعَ عموم مادلّ على ان الشك في الاتيان ) لا يعتنى به ( بعد خروج الوقت ، لا يعتدّ به للمقام ) ليس في محله .

وعليه : فان قولك بمنع شمول هذه القاعدة لما نحن فيه من البرائة في الأكثر ( خالٍ عن السّند ) لأنّ دليل عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت ، يشمل عمومه صورة الشك في أصل الفوت ، والشك في فوت الأكثر ، والشك في انّه اتى به صحيحا أو سقيما ، فبأي دليل اخرجتم منه ما نحن فيه ؟ .

ص: 139

خصوصا مع اعتضاده بما دلّ على أنّ الشك في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ، مثل قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » ، ومع اعتضاده في بعض المقامات

-------------------

إذن : فقاعدة كون الوقت حائلاً حاكم على الاستصحاب وعلى قاعدة الاشتغال بعد خروج الوقت ( خصوصا مع اعتضاده ) أي : اعتضاد قاعدة الوقت حائل ( بما دلّ على انّ الشك في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ) فانّه يعمّ تجاوز المحل وتجاوز الوقت : فيلزم عدم الاعتناء به .

وإنّما لا يعتنى به لانه قد ورد في الشرع ان الشك بعد التجاوز لا يعتنى به ( مثل قوله عليه السلام : « إنّما الشك في شيء لم تجزه » (1) ) فاذا كان الشخص قد تجاوز الشيء كما إذا شك في الحمد وهو راكع ، أو شك في الركوع وهو ساجد ، أو شك في السجود وهو قائم فلا يعتني بشكه ، وانّما يعتني بشكه فيما إذا كان في اثناء الشيء كما إذا كان قائما قبل الركوع وشك في انّه قرء الحمد أم لا فانّه يأتي بالحمد ؛ وهكذا ، فالشك بعد الوقت من قبيل الشك بعد التجاوز ؛ وكما انّه لا يعتنى بالشك بعد التجاوز فكذلك لا يعتنى بالشك بعد خروج الوقت .

ولا يخفى : انّ في المقام ثلاث قواعد :

1 - قاعدة التجاوز وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا جاوزت الشيء .

2 - قاعدة الفراغ وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا فرغت من الشيء .

3 - قاعدة الوقت وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا خرجت من الوقت .

( و ) عليه : فقاعدة : الوقت حائل ، حاكم على الاستصحاب والاشتغال خصوصا ( مع اعتضاده ) أي : اعتضاد : الوقت حائل ( في بعض المقامات ) كمقام

ص: 140


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

بظهور حال المسلم في عدم ترك الصلاة .

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو تمّ ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ، وإن التزموا بأنّه إذا وجب على الميّت لجهله بما فاته

-------------------

احتماله للترك عمدا ( بظهور حال المسلم في عدم ترك الصلاة ) عمدا ، فان مقام احتمال الترك عمدا مناف لظهور حال المسلم .

وانّما قال في بعض المقامات ، لأنه ليس في كل المقامات كذلك ، ففي مثل مقام استناد احتمال الترك إلى النسيان لا ظهور لحال المسلم في عدم النسيان وان كان لدفع احتمال النسيان ظهور آخر ، وهو ظهور حال الانسان في عدم النسيان ، ولهذا يقولون : انّ ظاهر حال الانسان عدم النسيان ، والغلط ، والسهو ، وسبق اللسان ، وما أشبه ذلك .

( وأمّا ثالثا : فلأنّه لو تمّ ذلك ) الاستصحاب والاشتغال بالاكثر فيما نحن فيه من تردده في فائتته بين الأقل والأكثر ( جرى ) الاشتغال بالأكثر أيضا ( فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ) بأنّه هل هو الأقل أو الأكثر ؟ فانّه يلزم عليهم أن يقولوا بوجوب القضاء الأكثر عن الأبوين ( ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ) القول في القضاء عن الأبوين .

وانّما جعلنا التلازم بين المقامين : مقام القضاء عن نفسه ومقام القضاء عن أبويه ؛ لأنّ في كلا المقامين شك بين الأقل والأكثر ؛ فكما انّه في القضاء عن الأبوين لايلزم الأكثر ، كذلك في القضاء عن نفسه لا يلزم الأكثر .

هذا ( وإن إلتزموا بأنّه إذا وجب على الميت لجهله بما فاته ) بأن كان الأب - مثلاً - شاكا في انّه هل فات منه عشر صلوات أو خمس عشرة صلاة ومات قبل

ص: 141

مقدارٌ معيّن يعلم أو يظنّ معه البراءة وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ، لوجوبه ظاهرا على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه .

وكيف كان : فالتوجيه المذكور ضعيف ، وأضعفُ منه التمسّك فيما

-------------------

أن يؤدّي هذه الصلوات ؟ فقد التزموا بأنه يجب على الولي الأكثر ، وذلك بأن يؤدي خمس عشرة صلاة ، فانه اذا وجب على الميت ( مقدار معين يعلم أو يظنّ معه البرائة ) فلم يقضها حتى مات ( وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ) المعيّن الذي يوجب العلم أو الظنّ بالبرائة وهو الاكثر .

وانّما يجب على الولي اتيان الاكثر حينئذٍ ( لوجوبه ) أي : لوجوب ذلك المقدار الأكثر ( ظاهرا على الميت ) الذي شك في حال حياته بأن عليه عشر صلوات أو خمس عشرة صلاة على ما عرفت ؟ .

( بخلاف ما لم يعلم ) الأب الميت ( بوجوبه عليه ) فلا يجب حينئذٍ على الولي قضاء ذلك المقدار الذي يوجب العلم أو الظن بالبرائة ، وذلك لانه قد يعلم الميت بوجوب الفوائت عليه ويشك بين الاقل ، والأكثر ثم لايأتي بالقضاء حتى يموت ، فانّ الولي حينئذٍ يأتي بالأكثر لأنّ الاكثر كان واجبا على الميت حسب رأي هذا القائل بوجوب الأكثر ، وقد لا يعلم الميت بوجوب الفوائت عليه حتى يموت ويشك الولي في انّه هل يجب عليه الأكثر أو الأقل ؟ فانّه حينئذٍ يأتي الولي بالأقل .

( وكيف كان : فالتوجيه المذكور ) . لقاعدة الاشتغال دليلاً على الاتيان بالأكثر ( ضعيف ) لما عرفت : من ان أمر الأداء والقضاء ليس من باب المطلق والمقيد ، بل من باب الأمرين المستقلين .

والى الوجه الثالث اشار المصنِّف بقوله : ( واضعف منه ) اي : واضعف من التوجيه المذكور وهو : الحكم لأجل الاستصحاب والاشتغال بوجوب الاكثر فيما

ص: 142

نحن فيه بالنصّ الوارد في « أنّ من عليه من النافلة ما لايحصيه من كثرته قضى حتّى لا يدري كم صلّى من كثرته » ، بناءا على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة ،

-------------------

اذا كان الشك في الفائتة بين الاقل والاكثر ، هو : ( التمسك فيما نحن فيه بالنصّ الوارد في « أنّ من عليه من النّافلة ما لا يحصيه من كثرته قضى حتى لا يدري كم صلى من كثرته » ) وهي صحيحة عبد اللّه بن سلام ، « عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع ؟ قال : فليصلِّ حتى لا يدري كم صلى من كثرتها ، فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك ...» (1) .

استدل بهذا الخبر جمع على استحباب قضاء ما يغلب على الظن فواته من النوافل ، وقد استدل به ايضا القائلون بإتيان الاكثر في الفرائض ، ومن المعلوم : ان الاستدلال بهذا الخبر على الاتيان بالأكثر في الفريضة مع ان الخبر في النافلة انّما هو ( بناءا على انّ ) المفهوم من هذا الخبر عرفا هو : ان ( ذلك ) أي : القضاء بقدر لايحصى ممّا معناه : كون القضاء ليس بالقدر المتيقّن فقط ( طريق لتدارك ما فات ولم يحص ) وإن كان الفائت الفريضة ( لا انّه مختصّ بالنافلة ) .

والحاصل : انه قد فهم الملاك من هذا الخبر ، لأنه لا تفاوت عند الشك في الاقل والاكثر بين صلاة النافلة وصلاة الفريضة ، فاذا كان الحكم في النافلة ذلك فهو الحكم في الفريضة أيضا .

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص568 ح1573 ، الكافي فروع : ج3 ص454 ح13 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص11 ح25 ، المحاسن : ص315 ح33 ، وسائل الشيعة : ج4 ص76 ب18 ح4553 وفي جميعها (بالمعنى) .

مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل .

-------------------

( مع انّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط ) بالاتيان بالأكثر من القدر المتيقن ( يوجب ذلك ) أي : الاحتياط بالاتيان بأكثر من القدر المتيقن ( في الفريضة بطريق أولى ) لأنّ النافلة مع عدم وجوبها اذا لزم فيها الاتيان بالأزيد من القدر المتيقن ، لزم الاتيان بالأزيد من القدر المتيقن في الفريضة التي هي واجبة بالاولوية .

( فتأمّل ) لأنّ الأولوية ان تمت انّما تثبت الاستحباب في الفرائض دون الوجوب ، فلا يدل هذا الخبر على ماذكره المشهور : من انّه يأتي بالفريضة حتى يظن بالفراغ .

هذا ، بالاضافة إلى ان الرواية تدل على لزوم الاتيان بقدر ما لا يحصى ، لا بقدر الظن كما يدعيه من يشترط حصول الظنّ بالبرائة فيما اذا كان الشك في الفريضة الفائتة بين الأقل والأكثر ، ولا بقدر العلم كما يدّعيه من يشترط العلم بالبرائة في الفريضة الفائتة ، فالرواية على تقدير فهم الملاك منها وسحبها إلى الفريضة ، أيضا أجنبية عن قول من يشترط الظن أو العلم بالبرائة ، فلا يمكن أن تكون الرواية دليلاً لأحد القولين المذكورين .

ثم انّ الشيخ بعد أن ذكر في باب البرائة مطلبين : الأوّل : في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب : من الاستحباب والكراهة والاباحة ، ثم قسم هذا المطلب إلى أربعة أقسام : فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، أو الامور الخارجية ، وهي الشبهة الموضوعية ، وبنى في الجميع على البرائة .

الثاني : في دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام الثلاثة الاخر ،

ص: 144

المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

اشارة

وفيه مسائل :

الاُولى :

في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما ، كما إذا اختلفت الاُمّة على قولين بحيث علم عدم الثالث .

-------------------

وقسمه أيضا إلى الأقسام الأربعة المذكورة ، وبنى في الجميع على البرائة أيضا ، ذكر هنا المطلب الثالث وتعرض فيه إلى دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وقسمه أيضا إلى الأقسام الأربعة فقال :

المطلب الثالث

فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

( المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة ، وفيه ) أي : في هذا المطلب أيضا أربع ( مسائل ) : فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، أو الامور الخارجية .

المسألة ( الأولى : في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما ) بالذات ( بعد قيام الدليل على أحدهما ) على نحو الاجمال ( كما إذا اختلفت الاُمّة على قولين ) بأن ذهب بعض الاُمّة - مثلاً - إلى وجوب صلاة الجمعة وبعضُ الاُمّة إلى حرمتها في زمن الغيبة ( بحيث علم عدم الثالث ) اي : علم بسبب الاجماع المركب ، عدم جواز إحداث قول ثالث .

ص: 145

فلا ينبغي الاشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة بمعنى نفي الآثار

-------------------

اما الدليل على أحد الحكمين للجمعة من الوجوب او الحرمة ، فلانّه قام الاجماع على ان حكم الجمعة ، إمّا الوجوب وإمّا الحرمة .

واما انّه لا يجوز قول سألت ، فلأنّ الحكم الثالث يخالف الاجماع المركب .

وأمّا انّ للجمعة حكما في الواقع من الوجوب أو الحرمة ، فلأنّه لا تخلو الواقعة عن حكم ثابت عند اللّه سبحانه وتعالى حسب قوله سبحانه : « اليَومُ أكمَلتُ لكُمُ دِينكُمُ » (1) وحسب قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَامِن شَيءٍ يُقرِّبُكُمُ إلى الجَنَّةِ وَيُبعِدُكُمُ عَن النَّار إلاّ وَقَد أمَرتُكُمُ بهِ ، وَمَا مِن شَيءٍ يُبعِدُكُم عَن الجَنَّةِ وَيُقَرِّبُكُم إلى النَّارِ إلاّ وَقَد نَهيتُكُمُ عَنهُ » (2) ( فلا ينبغي الاشكال في اجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ) في المسألة المتردّدة بينهما ، لانه لا يعلم الوجوب فلا وجوب ، ولا يعلم الحرمة فلا حرمة من جهة استصحاب عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، ومن جهة قبح العقاب بلا بيان ، فالبرائة الشرعية والعقلية جارية في مانحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين .

ومعنى جريان الأصل في كل واحد منهما ما ذكره بقوله ( بمعنى : نفي الآثار

ص: 146


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 .

المتعلقة بكلّ واحد منهما بالخصوص إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيليّ ، بل ولو استلزم ذلك

-------------------

المتعلِّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص ) فاذا كان أثر خاص بالوجوب لم يترتب ، وإذا كان أثر خاص بالحرمة لم يترتب ، أما إذا كان الأثر مشتركا بين الوجوب والحرمة فهو يترتب .

إذن : فقوله : « بالخصوص » لاخراج ما إذا كان الأثر مترتبا على كل من الوجوب والحرمة ، كما لو نذر انّه إذا كان عليه حكم إلزامي أعطى دينارا للفقير شكرا في الحكم الوجوبي وزجرا في الحكم التحريمي ، فانّه يعلم بلزوم إعطاء الدينار للفقير ، لأنّ إعطاء الدينار للفقير أثر مشترك بين كل من الوجوب والحرمة .

وإنّما يجري الأصلان أصل عدم الوجوب ، وأصل عدم الحرمة في المتردد بين الوجوب والحرمة ، ( إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي ) فانّه قد يتولّد من العلم الاجمالي علم تفصيلي بالمخالفة فلم يجر الاصلان ، كما إذا انذر اعطاء هذا الدرهم المعين لزيد إذا فعل واجبا شكرا للّه تعالى على توفيقه لفعل الواجب ، وإعطاء هذا الدينار المعين لعمرو إذا فعل محرّما زجرا لنفسه بسبب اتيانه الحرام ، ثم علم بوجوب أو حرمة الجمعة ، فاذا أجرى فيها اصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الحرمة كان معنى جريان الأصلين : عدم لزوم اعطاء الدرهم لزيد والدينار لعمرو ، فاذا اشترى بهما جارية علم تفصيلاً بأن الجارية لم تصبح حلالاً عليه بحيث يجوز له وطيها ، لأنّ بعضها لم يدخل في ملكه ، ومن المعلوم : ان الجارية المبعّضة لا يجوز وطيها قطعا فهو عالم تفصيلاً بحرمتها عليه .

هذا ( بل ) يجوز له اجراء الأصلين أصل عدم الوجوب لنفي آثار الوجوب ، واصل عدم الحرمة لنفي آثار الحرمة ( ولو استلزم ذلك ) أي : مخالفة العلم

ص: 147

على وجه تقدّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الاجماليّ .

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة وعدمه ، فانّ في المسألة وجوها ثلاثة : الحكمَ بالاباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، والتوقفَ بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ،

-------------------

التفصيلي ( على وجه تقدَّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الاجمالي ) حيث قلنا هناك بجواز اجراء الأصل ولو استلزم مخالفة العلم التفصيلي ، فانّه قد ورد في الشرع موارد يوهم جواز مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ، كما في درهمي الودعي ووجهنا هناك مخالفة العلم التفصيلي الثابت بالأدلة بتوجيهات ممّا لا داعي إلى تكرارها .

وبالجملة : فليس كلامنا هنا في اجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم الحرمة ، بمعنى : استصحابهما ( وانّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث ) الاصول الأخر ، وانها هل تجري الأصول الأخر في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أو لا تجري ؟ مثلاً : الكلام هنا في ( جريان أصالة البرائة وعدمه ) أي : عدم جريان أصالة البرائة في مورد دوران الأمر بين المحذورين ( فانّ في المسألة وجوها ثلاثة ) :

الأوّل : ( الحكم بالاباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ) من الأحكام الثلاثة الأخر ، بأن يكون المقام مثل الشبهة التحريمية ، فانه كما تجري الاباحة الظاهرية في الشبهة التحريمية فكذلك تجري في مورد دوران الأمر بين المحذورين .

( و ) الثاني : ( التوقف بمعنى : عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ) امّا عدم

ص: 148

ومرجعه الى الغاء الشارع لكلا الاحتمالين فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل والا لزم الترجيح بلا مرجح ووجوب الأخذ باحدهما بعينه او لا بعينه .

-------------------

الحكم ظاهرا ، فلعدم مساعدة الدليل على الاباحة ، وأما عدم الحكم واقعا فلأن الحكم المحتمل في الواقع هو التخيير الواقعي الذي ذهب إليه الشيخ ، ونحن نرى فساد التخيير .

( ومرجعه ) أي : مرجع التوقف ( إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ) : احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ( فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل ) لأنّه إذا لم يثبت من الشارع ترجيح لأحدهما على الآخر ، حكم العقل بأن الشارع لا يريد منه أحدهما بالخصوص ( وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح ) لانّهما متساويان شرعا في عدم الحكم بالوجوب والحرمة ، فكيف يرجح العقل الوجوب على الحرمة أو الحرمة على الوجوب ؟ وانّما العقل يرى في مثل هذا المقام عدم الحرج في الاتيان بأيهما .

( و ) الثالث : ( وجوب الأخذ بأحدهما بعينه ) وهو الحرمة ، فانّ بعضهم قال بتقديم الحرمة على الوجوب ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( أو لا بعينه ) أي : تخييرا بين الوجوب والحرمة ، فان شاء اخذ بالوجوب واتى به وإن شاء اخذ بالحرمة واجتنب عنه .

ثم ان التخيير قد يقال به ابتداءا بمعنى : انّه مخير ابتداءا ، فاذا عمل بأحدهما فعلاً أو تركا وجب الاستمرار على ما عمله أولاً ، وقد يقال بالتخيير استمرارا بمعنى : انّ له أن يأتي - مثلاً - في يوم جمعة بصلاة الجمعة ، وأن لا يأتي بها في يوم جمعة أخرى وهكذا .

ص: 149

ومحلّ هذه الوجوه مالو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، إذ لو كانا تعبديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف

-------------------

هذا ، ولا يخفى : انّ المصنِّف قد أشار طيّ كلماته إلى وجوه ستة على النحو التالي :

الاول : الاباحة الظاهرية .

الثاني : التوقف عن الحكم الظاهري وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر .

الثالث : ترجيح جانب الحرمة .

الرابع : التخيير الابتدائي في الأخذ بأحد الاحتمالين .

الخامس : التخيير الاستمراري في الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقا .

السادس : التخيير الاستمراري بشرط البناء عليه من أول الأمر ، فاذا لم يبن من أوّل الأمر على التخيير الاستمراري لزم عليه أن يأتي مستمرا بما بدء به من فعل أو ترك .

( ومحلّ هذه الوجوه ) التي ذكرناها في دوران الأمر بين المحذورين ( ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليّا ) بحيث لم يحتج إلى قصد القربة ، كما إذا سلّم الصبي على المصلي ، فانّه يحتمل أن يكون رد السّلام عليه واجبا ، ويحتمل أن يكون حراما ، وهو ( بحيث يسقط بمجرد الموافقة ) من دون اعتبار قصد التقرب ، فانّ رد السّلام في المثال لا يحتاج إلى قصد التقرب ، وإنّما هو واجب توصلي يسقط بمجرد موافقته ، فانّ في مثل هذا المقام الدائر بين الوجوب والتحريم تجري الوجوه التي ذكرناها .

وانّما يكون محل الوجوه الستة التوصليين ( إذ لو كانا تعبديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف ) في كل من الفعل والترك كما إذا فرضنا انّ الجهر بالبسملة

ص: 150

أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لأنّه مخالفة قطعيّة في العمل .

وكيف كان : فقد يقال في محلّ الكلام

-------------------

في الصلاة الاخفاتية امّا حرام تعبدا ، وامّا واجب تعبدا ؛ ومعنى الواجب التعبدي : انّ الجهر بالبسملة يجب بقصد القربة حتى يكون المكلّف آتيا بتكليفه ؛ ومعنى الحرام التعبدي : انّ الاخفات بالبسملة يجب بقصد القربة ؛ فانّ بعض الأشياء حرام تعبدا ؛ مثل بعض محرمات الاحرام وبعض مفطرات الصيام كما حقق ذلك في كتابيّ : الصوم (1) والحج (2) .

( أو كان أحدهما المعيّن كذلك ) أي : تعبديا محتاجا إلى قصد القربة ، كما اذا دار أمر الجمعة بين الوجوب والحرمة ، فانها إذا كانت واجبة يلزم الاتيان بها بقصد القربة ، بينما إذا كانت حراما لم يلزم قصد القربة في تركها ، فانّه في هاتين الصورتين : صورة تعبدية كلا الطرفين ، أو توصلية طرف وتعبدية طرف آخر ( لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما ) أي : طرح الوجوب والحرمة ( والرجوع إلى الاباحة ) .

وانّما لا يجوز طرحهما ( لأنه مخالفة قطعيّة في العمل ) فانّه في التعبديين إذا لم يقصد القربة في كل من الفعل أو الترك فهو مخالف عملاً مخالفة قطعية ، لانه لم يأت بالتكليف ، وكذلك إذا أتى بالفعل بدون قصد القربة فلما كان الفعل تعبديا والترك توصليا فانه مخالف قطعا ، اذ لم يأت بالتكليف أيضا ، فلم يجر هذا الوجه من الوجوه الستة في التعبديين .

( وكيف كان ) محل جريان الوجوه ( فقد يقال في محل الكلام ) وهو دوران

ص: 151


1- - راجع موسوعة الفقه ، كتاب الصوم : ج 34 - 37 للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه ، كتاب الحج : ج 38 - 46 للشارح .

بالاباحة ظاهرا ، لعموم أدلّة الاباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : « كلّ شيء لك حلال » ، وقولهم : « ما حجَبَ اللّهُ علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » ، فانّ كلاً من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته ، حتّى قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر » ، على رواية الشيخ ،

-------------------

الأمر بين المحذورين في التوصليين ( بالاباحة ظاهرا ) لأن الاباحة هي الحكم الظاهري للشاك الذي لا يعلم بانّ الشيء الفلاني واجب أو حرام ( لعموم أدلّة الاباحة الظاهريّة ) الواردة في الشرع ممّا تقدّم جملة منها في باب البرائة ( مثل : قولهم ) عليهم السلام : ( « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » (1) ) فانّه يشمل دوران الأمر بين المحذورين أيضا .

( وقولهم ) عليهم السلام ( « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَن العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنْهُمُ » (2) ) وتقريب الاستدلال بهذا الحديث هو ما ذكره بقوله : ( فانّ كلاً من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ) حسب الفرض ، فيكون كُلّ من الوجوب والحرمة موضوع عن العباد .

( وغير ذلك من أدلّته ) أي : أدلة الاباحة الظاهرية ( حتى قوله عليه السلام : كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ أو أمرٌ (3) - على رواية الشيخ - ) فانّ الشيخ روى الرواية على العبارة الثانية ، بخلاف غيره فقد رواها على العبارة الاولى .

ص: 152


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب12 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، غوالي اللئالي: ج3 ص166 ح60 وفيه عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

إذ الظاهر ورود أحدهما تفصيلاً ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي .

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ، فانّ الجهل بأصل الوجوب

-------------------

لا يقال : المكلّف يعلم هنا بورود أمر أو نهي ، فلا يكون قوله : « كل شيء مطلق » شاملاً له .

لأنّه يقال : ليس المراد : ثبوت الحل إلى ورود أحدهما اجمالاً - كما فيما نحن فيه - إذ هذا الشاك لا يعلم انه ورد فيه الأمر أو النهي ( إذ الظاهر ) المنصرف من الحديث ثبوت الحل إلى ( ورود أحدهما ) معيّنا ( تفصيلاً ) لا اجمالاً ( فيصدق هنا ) فيما لم يعلم انّ الوارد هل هو الأمر أو النهي ؟ ( انّه لم يرد أمر ولا نهي ) على نحو التفصيل ، فيحكم بالحل حسب صدر الحديث الذي قال : « كل شيء مطلق » .

نعم ، على رواية الصدوق : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (1) تكون الرواية خاصة بالشبهة التحريميّة لأن الرواية مقيدة حينئذٍ بقوله عليه السلام : حتى يرد فيه نهي .

( هذا كلّه ) هو تقريب الاستدلال بأدلة البرائة الشرعية ( مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ) فيما إذا لم يعلم المكلّف انّ المولى يريد الشيء أو يريد تركه ( فانّ الجهل بأصل الوجوب ) أي : فيما كان الشك في أصل التكليف ، لا ما إذا كان الشك في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف ، كما في مورد دوران الأمر بين الظهر والجمعة ، فانّه إذا دار الأمر بين الظهر والجمعة يكون المكلّف متيقنا بالتكليف الالزامي الايجابي وانّما يشك في مصداق المكلّف به هل هو الظهر أو الجمعة ؟ فانّ في دوران الأمر بين الظهر والجمعة

ص: 153


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

علّة تامّة عقلاً بقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة ، وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة ،

-------------------

يجب الاحتياط باتيانهما .

وكذا فيما إذا علم التحريم وانّما كان الشك في المكلّف به ، كما إذا علم بأن احدى زوجتيه حائض ، فانّه يجب عليه اجتنابهما لأنّه يعلم بالتحريم وانّما يشك في المصداق الخارجي لهذا التحريم .

وكيف كان : فالجهل بأصل الوجوب ( علّة تامّة عقلاً بقبح العقاب على التّرك ) سواء احتمل الحرمة ، كما في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، أو لم يحتمل الحرمة ، كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ولم يحتمل معه حرمة الدعاء ، فيكون شكه في ان الدعاء واجب أو مستحب - مثلاً - علةً لقبح العقاب على تركه ( من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه ) أي : في القبح المذكور وقوله : «من غير» متعلق بقوله : « علة تامة » ( وكذا الجهل بأصل الحرمة ) فانه علة تامة لقبح العقاب على الفعل من دون مدخلية لاحتمال الوجوب في القبح المزبور .

والحاصل : انّه إذا شك في الوجوب كان مخيرا بين الفعل والترك ، وإذا شك في التحريم كان مخيرا بين الفعل والترك سواء احتمل مع الوجوب الحرمة ومع الحرمة الوجوب أو لم يحتمل .

( و ) ان قلت : العالم بأن هذا الشيء أما واجب أو حرام يعلم جنس التكليف وهو الالزام ، فكيف يجري أصل البرائة من الوجوب ومن التحريم معا ؟ إذ معنى أصل البرائة عنهما : انّه لا الزام .

قلت : ( ليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة ) فانّ

ص: 154

كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ، حتّى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالاً .

وأمّا دعوى « وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع » ،

-------------------

الالزام جنس ، والوجوب والحرمة كل واحد منهما نوع لذلك الالزام ، فالوجوب إلزام الفعل ، والحرمة إلزام الترك ، فهو ليس ( كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردد ) كما إذا علم بوجوب صلاة عليه مرددة بين الظهر والجمعة ، أو علم بحرمة امرأة عليه مرددة بين هند وزينب بل بينهما فرق .

وعلى أي حال : فالشك في المكلّف به وجوبا يجب الاتيان بهما ، والشك في المكلّف به تحريما يجب تركهما ، وليس العلم بجنس التكليف المردد كالعلم بنوع التكليف ( حتى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم اجمالاً ) فكيف يجري البرائة عن كل من الوجوب والتحريم ؟ .

وإن شئت قلت : انّ العلم بجنس التكليف لا يفيد إلزاما على المكلّف لا إلزاما بالفعل ولا إلزاما بالترك ، بينما العلم بنوع التكليف يفيد الالزام على المكلّف ، فيجب عليه الاحتياط باتيانين في الشبهة الوجوبية ، وبتركين في الشبهة التحريمية .

( و ) إن قلت : لا يمكن اجراء الأصلين : « أصل عدم الوجوب » و « أصل عدم الحرمة » في ما تردد التوصلي بين الوجوب والحرمة ، لأنه إذا أجرى الأصلين كان معناه : انه لا يلتزم بحكم اللّه مع انّه يلزم الالتزام بحكم اللّه سبحانه وتعالى .

قلت : ( أمّا دعوى وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى ) فانه يجب الالتزام القلبي بحكمه سبحانه ( لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ) حيث ثبت ذلك

ص: 155

ففيها أنّ المراد بوجوب الالتزام : إن أُريد وجوب موافقة حكم اللّه فهو حاصل فيما نحن فيه ، فانّ في الفعل موافقة للوجوب ، وفي الترك موافقة للحرمة ، إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال ؛ وإن أُريد وجوب الانقياد والتديّن

-------------------

من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، قال سبحانه : « فَلا وَرَبِكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجدُوا فِي أنفُسِهِم حَرجا ممّا قَضيتَ وَيُسلِّمُوا تَسليما » (1) إلى غير ذلك من الأدلة المذكورة في كتب الأحاديث وكتب الكلام .

( ففيها : ) أي : في هذه الدعوى : ( انّ المراد بوجوب الالتزام : ان أُريد وجوب موافقة حكم اللّه ) عملاً بأن يكون عمل الانسان موافقا لما أمر به اللّه سبحانه ( فهو حاصل فيما نحن فيه ، فانّ في الفعل موافقة للوجوب ، وفي الترك موافقة للحرمة ) لأنّ المكلّف إما أن يعمل وإما أن يترك .

وعلى أي حال : فالحكم الظاهري للمتردّد بين الوجوب والحرمة : التخيير ؛ وذلك لما سبق : من ان الانسان الذي يتردد عنده الشيء بين الوجوب والحرمة له ان يأخذ بأيهما شاء ، نصا لرواية التخيير ، وعقلاً لقبح العقاب بلا بيان .

لا يقال : انّه كيف يكون موافقا لحكم اللّه مع انّه لا يأتي بالفعل أو بالترك لاطاعة أمر اللّه .

لأنّه يقال : الموافقة هنا بمعنى الانطباق العملي ( إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال ) لأنّه توصلي ، والتوصلي يتحقق بمجرد الفعل بدون قصد القربة .

( وإن أريد وجوب الانقياد والتدين ) قلبا ، بأن يكون الانسان خاضعا راضيا

ص: 156


1- - سورة النساء : الآية 65 .

بحكم اللّه فهو تابع للعلم بالحكم ، فان علم تفصيلاً وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالاً وجب التديّن بثبوته في الواقع ، ولا ينافي ذلك التديّن الحكم بإباحته ظاهرا ، إذ الحكم الظاهريّ لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلاً للحكم الواقعيّ من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به .

-------------------

( بحكم اللّه ، فهو تابع للعلم بالحكم ) من حيث الاجمال والتفصيل .

( فان علم تفصيلاً ) بالحكم الوجوبي ، أو التحريمي ، أو الاستحبابي ، أو الكراهي ، أو الاباحي ( وجب التديّن به كذلك ) أي : تفصيلاً ، فانّه لا يجوز للإنسان أن يلتزم قلبا بعدم وجوب الصلاة ، أو بعدم حرمة الخمر ، أو بعدم كراهة النوم بين الطلوعين ، أو بعدم استحباب صلاة النافلة ، أو بعدم اباحة الماء مثلاً .

( وإن علم اجمالاً ) بأن الحكم إما هذا وإما ذاك ، كما اذا علم اجمالاً بانّ الواجب الظهر أو الجمعة ( وجب التّديّن بثبوته في الواقع ) على ما هو عليه في الواقع ، ففي مثل : صلاة الظهر والجمعة لا يلتزم بوجوب الظهر أو بوجوب الجمعة ، وانّما يلتزم بالوجوب المردد بينهما ، وفي المقام الذي هو من الدوران بين المحذورين يلتزم بأن هناك لزوم في أحد الجانبين ، ولا يلزم عليه أكثر من هذا ، بل التزامه بأنّه واجب أو بأنه حرام خلاف الالتزام بحكم اللّه سبحانه .

( و ) إن قلت : كيف يلتزم بأنه لازم واقعا إلتزاما قلبيا مع بنائه على اباحته الظاهرية عملاً ؟ .

قلت : ( لا ينافي ذلك التديّن ) الاجمالي ( الحكم بإباحته ظاهرا ) .

وانّما لم يكن تناف بينهما ( إذ الحكم الظاهريّ لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلاً للحكم الواقعيّ من حيث العمل لا من حيث التّديّن به ) فانّ العمل المخالف للالتزام فيما لا يمكن العمل على طبق الالتزام ليس بممنوع

ص: 157

...

-------------------

عند العقلاء ، فاذا علم الانسان اجمالاً بأن هذا الشيء إما واجب عليه أو حرام ، ولم يعلم احدهما بالخصوص ، فهو لا يتمكن من العمل على طبق ذلك الحكم الواقعي ، لكنّه يتمكن من الالتزام بأن هنا لازما في الواقع ، اما في ضمن الحرام أو في ضمن الواجب .

هذا ، ولكن لا يخفى : انه قد يستشكل على ذلك بأمرين :

الأوّل : ما ذكرناه سابقا : من انّه لا حكم في الظاهر اطلاقا ، وانّما هو تنجيز واعذار ، وإلاّ لم يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فانَّ الحكم الظاهري وإن لم يكن يصل إلى مرتبة الحكم الواقعي ، لكن الحكم الواقعي يصل إلى مرتبة الحكم الظاهري فيتناقضان في مرحلة الظاهر .

الثاني : انه ما فائدة حكم لا يمكن العمل على طبقه ولو كان عدم الامكان ذلك من جهة جهل المكلّف ، فانّ المكلّف يسأل من المولى : لماذا أوجبت الوطي عليّ - مثلاً - في المرأة المرددة بين واجب الوطي وواجب الترك والحال ان ايجابك الواقعي لا يمكن أن يكون باعثا لي إلى الوطي ، مع العلم بانّه يجب أن يكون الحكم باعثا للعبد ؟ .

ثم انّه قد تقدّم من المصنِّف اشكالات على اجراء البرائة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم :

الأوّل : انّه كيف تجري البرائة وجنس التكليف معلوم ؟ وقد اجاب عنه بقوله : « وليس العلم بجنس التكليف ... كالعلم بنوع التكليف ...» .

الثاني : ان البرائة مخالفة للزوم الالتزام بحكم اللّه ؟ وقد أجاب عنه بقوله : « واما دعوى وجوب الالتزام ... ففيها ...» .

ص: 158

ومنه يظهر اندفاع ما يقال : « أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلاّ أنّ طرحهما والحكم بالاباحة طرح لحكم اللّه الواقعيّ وهو محرّم ، وعليه يبنى عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الاُمّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه السلام في أحدهما » .

-------------------

الثالث : ان التديّن الاجمالي بأن الشيء حرام أو حلال مخالف للحكم بالاباحة ، ولا يخفى : ان هذا غير الاشكال الثاني إذ الاشكال الثاني لبيان السلب أي كيف تجرون البرائة عن الوجوب والحرمة ؟ وهذا الاشكال لبيان الايجاب أي : كيف تحكمون بالاباحة ؟ وقد أجاب عنه بقوله : « ولا ينافي ذلك التدين الحكم باباحته ظاهرا . . . » .

وحيث قد فرغ المصنِّف من الاشكالات الثلاثة شرع في الاشكال الرابع وحاصله : انا نسلم ان الالتزام بالحكم الواقعي ليس بواجب في باب دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، إلاّ ان الحكم بالاباحة بعد طرح الحكمين : الوجوبي والتحريمي ، مع ان أحدهما حكم اللّه في الواقع محرّم .

وإلى الاشكال الرابع هذا اشار المصنِّف بقوله : ( ومنه ) أي : من جواب الاشكال الثالث ( يظهر اندفاع ما يقال ) في وجه الاشكال الرابع : من ( انّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما ) أي : بالوجوب أو بالتحريم ، فيما إذا دار التكليف بين أحدهما ( إلاّ انّ طرحهما والحكم بالاباحة طرح لحكم اللّه الواقعي ، وهو ) أي : طرح حكم اللّه الواقعي ( محرّم ) شرعا .

( وعليه : ) أي : على تحريم طرح حكم اللّه الواقعي ( يبنى عدم جواز احداث القول الثالث إذا اختلفت الاُمّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه السلام في أحدهما ) فانّ عدم جواز احداث القول الثالث كاشف عن تحريم طرح الحكم الواقعي

ص: 159

توضيحُ الاندفاع : إنّ المحرّم ، وهو الطّرح في مقام العمل ، غير متحقّق .

والواجبُ في مقام التديّن الالتزامُ بحكم اللّه على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقق في الواقع ،

-------------------

المردد بين الحكمين ، ولذلك نرى انّ الاجماع قام على حرمة طرح القولين واحداث القول الثالث ، معللين له : بانّه طرح لحكم اللّه الواقعي ، وهذه العلة شاملة لما نحن فيه أيضا ، لأنه إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة وقلنا بالاباحة ، كان معنى ذلك : انا طرحنا الحكمين وأخذنا بحكم ثالث .

( توضيحُ الاندفاع ) للاشكال الرابع يتم ببيان ثلاثة أمور :

الأوّل : طرح حكم اللّه الواقعي في مقام العمل وهذا غير معقول ، لأنّه أمّا فاعل وامّا تارك ، واحدهما مطابق للواقع ، فلم يكن طرح لحكم اللّه الواقعي عملاً .

الثاني : الالتزام بحكم اللّه الواقعي وهو موجود ، لأنّه ملتزم قلبا بما هو حكم اللّه سبحانه وان كان لا يعرف هل انّه الوجوب أو انّه الحرمة .

الثالث : الالتزام بأحد المحتملين ، مثل ان يلتزم بأنه واجب ، أو يلتزم بأنه حرام ، وهذا لا دليل عليه ، فاين الاشكال الذي ذكرتم بأن الاباحة طرح لحكم اللّه ؟.

والى بيان الأمر الأوّل أشار بقوله : ( ان المحرّم وهو الطّرح في مقام العمل ، غير متحقّق ) إذ الانسان امّا يختار الترك فيوافق الحرمة ، أو يختار الفعل فيوافق الوجوب ، وليس هذا طرحا ، وانّما يتحقق الطرح فيما اذا كان هناك ثلاثة وجوه فيطرح وجهين ويأخذ بالوجه الثالث ، والحال ان في المقام ليس الاّ وجهان متقابلان فقط .

والى بيان الامر الثاني اشار بقوله : ( والواجب في مقام التديّن ) هو ( : الالتزام بحكم اللّه على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقّق في الواقع ) لانّه يلتزم

ص: 160

فلم يبق إلاّ وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً .

والحاصلُ : أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم انّه حكم اللّه الواقعيّ ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها من اللوازم العقليّة للعلم العاديّ التفصيليّ يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلاً إلى تلك الكبرى ،

-------------------

بجنس التكليف ، وبأن الشارع الزم عليه شيئا في الواقع .

والى بيان الامر الثالث اشار بقوله : ( فلم يبق ) بعد هذين الاحتمالين المردودين . ( الاّ وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه وإلتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ) بأن يلتزم مثلاً بالوجوب ، أو يلتزم بالحرمة ( وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً ) بل الدليل على خلافه ، فانّه كيف يلتزم بشيء لا يعلم انّه هو حكم اللّه في حقه ؟ .

( والحاصل : ) من قولنا : وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً ، ان نقول في توضيحه : ( ان الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم انه حكم اللّه الواقعي ، و ) الذي لا يعلم بان هذا الشيء واجب أو حرام ، لا يتمكن ان يلتزم فيه بحكم اللّه الواقعي ، إذ ( وجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه ، أو الحرمة بعينها ، من اللوازم العقليّة للعلم العادي التّفصيلي ) فإذا علم المكلّف بأن الصلاة واجبة التزام بوجوبها ، واذا علم بأن الخمر حرام التزم بحرمتها وهذا الالتزام ( يحصل من ضم صغرى معلومة تفصيلاً ) فيما إذا علم وجوب الصلاة أو حرمة الخمر ( إلى تلك الكبرى ) الكلية ، وهي : وجوب الالتزام بحكم اللّه .

وعليه : فيتشكل قياس في الوجوب على هذا النحو : وجوب الصلاة حكم

ص: 161

فلا يعقل وجوده مع انتفائه ، وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتّى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيليّ .

-------------------

اللّه ، وحكم اللّه يجب الالتزام به ، فوجوب الصلاة يجب الالتزام به ، ويتشكل قياس في الحرمة على هذا النحو : حرمة الخمر حكم اللّه ، وحكم اللّه يجب الالتزام به ، فحرمة الخمر يجب الالتزام به .

لكن ما نحن فيه : من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا يمكن القول فيه : بأن الوجوب هو حكم اللّه ، ولا القول : بأن الحرمة هو حكم اللّه ، لأنّه لا يعلم أيهما حكم اللّه ؟ فلا تنضم هنا الكبرى الكلية المتقدمة إلى صغرى معلومة ( فلا يعقل وجوده ) أي : وجود الالتزام التفصيلي ( مع انتفائه ) أي : مع انتفاء إمكان ضم الصغرى المعلومة إلى الكبرى الكلية المذكورة .

( وليس ) وجوب الالتزام التفصيلي ( حكما شرعيا ثابتا في الواقع ) يعني : ان وجوب الالتزام بخصوص الوجوب أو بخصوص الحرمة لو لم يكن تابعا للعلم التفصيلي ، بأن كان واجبا واقعيا في عرض سائر الواجبات الواقعية التي يجب مراعاتها حتى مع الجهل التفصيلي أيضا ، كان اللازم في المقام هو وجوب الالتزام بخصوص أحدهما ، والحال انّه ليس كذلك ، فلا يجب الالتزام بخصوص احدهما .

وعليه : فالالتزام بحكم اللّه تابع للعلم التفصيلي بذلك الحكم ، والمفروض انّه لاعلم تفصيلي بالحكم الدائر بين كونه حراما أو واجبا - مثلاً - ؟ ولذا فلا لزوم للالتزام بأحدهما في صورة لا يعلم ان أيهما هو حكم اللّه ، فلا حكم معلوم في المقام ( حتى يجب مراعاته ) أي : مراعاة ذلك الحكم ( ولو مع الجهل التفصيلي ) لأنّه يجهل تفصيلاً انّه واجب ، كما يجهل تفصيلاً انّه حرام .

ص: 162

ومن هنا يبطل قياسُ ما نحن فيه ، بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدالّ أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين .

ولا يمكنُ أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط وجوب الأخذ بأحد الحكمين

-------------------

وحيث قد عرفت الاشكال الرابع على الاباحة وجواب المصنِّف عنه ، شرع المصنِّف في الاشكال الخامس وهو : انه إذا كان هناك خبران متعارضان كلاهما حجّة لزم الأخذ بأحدهما ، وملاك الأخذ بأحد الخبرين آتٍ في المقام الذي هو دوران الأمر بين المحذورين ، فاذا شك بين الوجوب والحرمة لزم الأخذ بأحدهما ، ومن المعلوم : ان الأخذ بأحدهما ينافي الحكم بالاباحة .

والى الاشكال الخامس هذا وجوابه اشار بقوله : ( ومن هنا ) أي : ممّا تقدّم بيانه : من ان الواجب هو الأخذ بحكم اللّه الواقعي ، لا الأخذ بأحد الحكمين من الوجوب أو التحريم بخصوصه ( يبطل قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ( بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدّال أحدهما على الأمر والآخر على النّهي كما هو ) أي : الأخذ بالتخيير في الخبرين المتعارضين ( مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ) حيث انّ الإمام عليه السلام قد خيّر بين الأخذ بهذا أو الأخذ بذاك ، فنقيس ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين على تعارض الخبرين .

( و ) ايضا ( لا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه ) أي : من بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ( بتنقيح المناط : وجوب الأخذ بأحد الحكمين ) المتعارضين سواء كان في مورد الخبرين أو في مورد دوران الأمر بين المحذورين

ص: 163

وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر .

فانّه يمكنُ أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجيّة ، فاذا لم يمكن الأخذ بهما معا ، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما .

-------------------

حتى ( وإن لم يكن على كل واحد منهما ) أي : من الحكمين ( دليل معتبر معارض بدليل الآخر ) وحينئذ فيشمل أخبار التخيير تعارض الخبرين ، كما يشمل تعارض الحكمين في دوران الأمر بين المحذورين أيضا ، لوحدة الملاك بين الصور الثلاث : من فقد النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين .

وإنما يبطل القياس ولا يمكن ان يقال ذلك ، لأنّ المناط ليس واحدا في الموارد الثلاثة حتى يقال : بأنّ مناط الخبرين آتٍ في دوران الأمر بين المحذورين الناشيء من فقد النص أو اجمال النص أيضا ( فانه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك ) في تعارض الخبرين ( بالأخذ بأحدهما ) بالخصوص ( هو : ان الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجيّة ، فاذا لم يمكن الأخذ بهما معا ) لفرض تعارضهما ( فلا بدّ من الأخذ بأحدهما ) .

وانّما يلزم الأخذ بأحدهما في تعارض الخبرين ، لان كلاً من العقل والنقل دلّ على حجيّة كل خبر جامع للشرائط بخصوصه ، فاذا لم يمكن الأخذ بخصوص هذا أو بخصوص ذاك لتعارضهما ، وجب الأخذ بأحدهما ، فلا يقاس بذلك ما دل على وجوب الأخذ بحكم اللّه تعالى ، فانه انّما يلزم الأخذ بحكم اللّه إذا كان حكمه سبحانه معلوما ، ومن الواضح : انّ في مورد دوران الأمر بين المحذورين لم يكن حكم اللّه واضحا .

ص: 164

وهذا تكليف شرعيّ في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالاً في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولولا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القولُ به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا تكليف إلاّ بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ،

-------------------

( وهذا ) أي : التخيير بين الخبرين ( تكليف شرعي في المسألة الاصوليّة ) أي : حجيّة الخبر ، وهو ( غير التكليف المعلوم تعلّقه اجمالاً في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والتَّرك ) فانّ الحجيّة واللاحجيّة من المسائل الاصولية ، لانّ الاصولي يبحث عن الحجيّة واللاحجيّة ، أما التردد بين الوجوب والتحريم مثل تردد المرأة بين واجب الوطي لانّها طاهرة وقد مضى عليها أربعة أشهر وبين حرام الوطي لأنّها الآن في حالة حيض ، فهي مسألة فرعية ، والتخيير في المسألة الاصولية لا ينسحب إلى المسألة الفرعية التي نحن فيها ، فقياس دوران الأمر بين المحذورين بتعارض الخبرين غير ظاهر الوجه .

( بل ولولا النّص الحاكم هناك ) أي : في باب تعارض الخبرين ( بالتخيير ) شرعا ، حيث دلّ النص على التخيير بين الخبرين المتعارضين ( أمكن القول به ) أي : بالتخيير بين الخبرين عقلاً وذلك ( من هذه الجهة ) أي : من الجهة الاصولية وهي : حجيّة كل من الخبرين المتعارضين ، وحيث لا يمكن الأخذ بهما معا لتعارضهما فلابدّ من الأخذ بأحدهما .

( بخلاف ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ، فانّه لا دليل على أن يأخذ الانسان بطرف خاص من الحرام أو الواجب منهما ( إذ لا تكليف إلاّ بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ) المرددة بين الوجوب والحرمة كوطي الزوجة ، فانّ العقل يرى لزوم الالتزام بأحكام اللّه الواقعية .

ص: 165

والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص .

ويشيرُ إلى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » .

وقوله عليه السلام : « من باب التسليم » إشارة إلى أنّه لمّا وجب

-------------------

هذا ( والالتزام به ) أي : بما صدر واقعا من الحكم ( حاصل ) هنا ، لانّ الزوج بالنسبة الى زوجته المرددة بين واجب الوطي وواجب الترك - مثلاً - يلتزم بما هو حكم اللّه في حقه بالنسبة إليها ، وذلك ( من غير حاجةٍ إلى الأخذ بأحدهما ) أي : بأحد من الوجوب والتحريم ( بالخصوص ) فسواء دلّ الخبر العلاجي أو لم يدل ، نقول بالتخيير في تعارض الخبرين ، أما في دوران الأمر بين المحذورين فلا بدّ من القول بالاباحة عقلاً ل- « قبح العقاب بلا بيان » ، وشرعا لقوله : « كل شيء مطلق » (1) ونحوه من الأخبار السابقة .

( ويشيرُ إلى ما ذكرنا من الوجه ) للتخيير في الخبرين المتعارضين وهو : وثاقة كل خبر في نفسه وكونه مشمولاً لأدلة الحجيّة دون ما نحن فيه ( قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار ) العلاجية : ( « بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك » (2) ) أي : ان كل واحد منهما حجّة على المكلّف لكن حيث لايمكنه الاخذ بهما ، فله ان ياخذ بهذا من باب التسليم أو بذاك ، فانّ في الأخذ بأي منهما تسليم لهم عليهم السلام .

( و ) اما ( قوله عليه السلام : من باب التسليم ) فهو ( اشارة إلى انّه لمّا وجب

ص: 166


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

على المكلّف التسليمُ بجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة عليهم السلام - كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة .

منها قوله : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا » ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا - وجب التسليمُ لأحدهما مخيّرا في تعيينه .

-------------------

على المكلّف التّسليم بجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة عليهم السلام ) وجب عليه التسليم لأحدهما مخيرا لعدم امكانه التسليم لهما معا .

( كما يظهر ذلك ) أي : وجوب التسليم ( من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة ) عليهم السلام ، والتي ( منها قوله ) عليه السلام : ( لا عُذرَ لأحدٍ مِن مَوَالينا فِي التَشكِيكِ فِيما يَرويهِ ) عَنّا ( ثُقاتُنا ) (1) .

وبالجملة : لما وجب على المكلّف التسليم لجميع ما يرد عنهم عليهم السلام ( وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطّرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا ) لأنه حيث لم يتمكن من التسليم لما ورد من الخبرين المتعارضين مثل : « ثمن العَذَرَةِ سُحتٌ » (2) و « لا بَأسَ ببَيعِ العَذُرَةِ » (3) معا ( وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه ) وذلك بعد أن لم يكن هناك مرجح ، فيأخذ بالجواز مطلقا ، أو يأخذ بالتحريم مطلقا .

ص: 167


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ح50 ص318 ب4 ح15 ، رجال الكشي : ص536 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

ثمّ إنّ هذا الوجه ، وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ، إلاّ أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التّعارض ،

-------------------

( ثم إنّ هذا الوجه ) الذي ذكرناه في الفرق بين تعارض الخبرين ، وبين دوران الأمر بين المحذورين ، ولاجله قلنا بأنه لا ينسحب التخيير الذي في الخبرين إلى دوران الأمر بين المحذورين ( وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ) لأنّ الاخبار إذا كانت حجّة من باب الطريقية ، فبناء العقلاء ليس على التخيير في الطريقين المتعارضين ، بل طرح الطريقين والتماس طريق جديد .

( إلاّ انّ مجرّد احتماله ) أي : احتمال اعتبار كل من المتعارضين بالخصوص من باب السببية بأن يكون حجيّة الأخبار لذاتها ، لا بما انّها طريق إلى الواقع ، وإنّما من باب التسليم لأمر الشارع سواء كانت مطابقة للواقع أم لا ، كما أشير إليه في قوله عليه السلام : « بأيِّهما أخَذتَ مِن بابِ التَسليمِ وَسِعَكَ » (1) ( يصلح فارقا بين المقامين ) أي : مقام التعارض ومقام الدوران ، حتى لا يسحب ما في مورد التعارض بين الخبرين إلى مورد الدوران بين المحذورين ، وبذلك يكون مجرد هذا الاحتمال ( مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه ) من الدوران بين المحذورين ( من حكم الشارع بالتّخيير في مقام التّعارض ) بين الخبرين .

والحاصل : انّ الذي يرى عدم جواز التمسك بالاباحة في الدوران بين المحذورين ويقول بوجوب الأخذ بأحدهما ، قاس دوران الامر بين المحذورين بالخبرين المتعارضين حيث لا إباحة بين المتعارضين وانّما يلزم الأخذ بأحدهما ، فقال بلزوم الاخذ باحدهما في الدوران بين المحذورين أيضا ، فاجابه المصنِّف :

ص: 168


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

فافهم .

وبما ذكرنا يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة .

-------------------

بأنه قياس مع الفارق .

( فافهم ) فانّه يمكن القول بتساوي دوران الامر بين المحذورين والخبرين المتعارضين ، إذ المحذوران هما من جهة الكشف عن الواقع وانه هل الواقع حرام أو حلال ؟ والخبران أيضا من جهة الكشف عن الواقع وانه هل هذا الخبر يطابق الواقع أو ذاك الخبر ؟ فما يجري في الخبرين من التخيير والأخذ بأحدهما حسب الروايات العلاجية يجري في المحذورين من التخيير والأخذ بأحدهما أيضا ، لا الحكم بالاباحة الذي ذكره المصنِّف .

ثم انّ المصنّف تعرّض لبيان الاشكال السادس على الاباحة ، وانه يلزم الأخذ بأحد المحذورين فيما إذا دار الأمر بينهما لا بالاباحة ، وذلك بقياس دوران الأمر بين المحذورين على فتوى المجتهدين المختلفين في شيء بين الوجوب والحرمة ، فانه كما يلزم على المقلد الأخذ بفتوى احد المجتهدين لا انّه مباح له أن يفعل أو يترك ، كذلك حال ما إذا دار الأمر بين المحذورين ، فعليه أن يأخذ بأحدهما لا انّه يباح له أن يفعل أو يترك ، فأجاب المصنِّف عنه بالفرق بين مقام التقليد ومقام دوران الأمر بين المحذورين .

والى الاشكال السّادس هذا وجوابه أشار بقوله : ( وبما ذكرنا ) من وجه التخيير في المتعارضين ممّا لا يأتي في الدوران بين الوجوب والحرمة ( يظهر حال قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ( على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين ) المتساويين من جميع الجهات ( في الوجوب والحرمة ) فانهما

ص: 169

و

-------------------

إذا اختلفا لا يحق للمقلِّد الحكم بالاباحة ، وانّما يجب عليه ان يقلد هذا أو يقلد ذاك .

ولا يخفى : ان قياس ما نحن فيه باختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة ، قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ وجوب أخذ المقلد بأحد القولين ليس من جهة رعاية الحكم الواقعي حتى يتعدى منه إلى ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، بل من جهة ان دليل حجيّة الفتوى دل على حجيّة كل من القولين بالخصوص ، وحيث لا يتمكن المقلد أخذ الفتويين معا لاختلافهما ، فلا بدّ من أخذ أحدهما ، أما ما نحن فيه فليس كذلك اذ دليل وجوب الأخذ بحكم اللّه لا يدل إلاّ على وجوب الأخذ بما هو حكم اللّه واقعا ، فاذا علم بالحكم الواقعي أخذ به وإذا لم يعلم بالحكم الواقعي فهو مخيّر ، لقبح العقاب بلا بيان ، وروايات البرائة ، وغيرهما .

لكن ربّما يقال في المجتهدين أيضا بجواز أخذ المقلد بقول هذا تارة وبذاك أخرى ، لأنّ حجيّة قولهما من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة ، فان كان كلاهما أهل خبرة كما هو المفروض جاز له الرجوع إليهما في واقعتين .

( و ) ان قلت : كيف تقولون بالاباحة في دوران الأمر بين المحذورين ، مع ان هذا مخالف لما ذكروه في مسألة اختلاف الاُمّة على قولين ، حيث ذكروا في هذه المسألة : انّه لا يجوز إحداث القول الثالث ؟ وفيما نحن فيه إذا قال بعض الاُمّة : بأن الشيء الفلاني حرام ، وقال البعض الآخر : بانّه حلال ، وقلتم أنتم أيها المصنّف : انّه مباح ، كان من احداث القول الثالث ؟ .

قلت : كلامهم في عدم جواز احداث القول الثالث انّما هو اذا كان في القول

ص: 170

ما ذكروه في مسألة اختلاف الأمَّة لا يعلم شمولُه لما نحن فيه ممّا كان الرجوعُ إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه السلام ، مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتفاقيّا .

-------------------

الثالث مخالفة عملية للقولين ، كما لو قال بعض : بوجوب الجمعة ، والبعض الآخر : باستحبابها ، فانّه لا يجوز احداث القول الثالث بحرمتها ، أمّا إذا لم يكن في القول الثالث مخالفة عملية فلا بأس به ، وما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين من هذا القبيل ، لأنّ القائل بالاباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين لا يخالف أحد القولين من حيث العمل ، لانه على كل حال إمّا أن يأتي بالشيء أو يتركه ، فاذا اتى به كان موافقا للواجب ، وإن لم يأت به كان موافقا للحرام .

وعليه : فان ( ما ذكروه في مسألة اختلاف الامّة ) على قولين : من انّه لا يجوز طرح القولين واحداث القول الثالث وقياس ما نحن فيه عليه ليس في محله لما يلي :

أولاً : انّه ( لا يعلم شموله لما نحن فيه ) من صورة دوران الأمر بين المحذورين ( ممّا كان الرجوعُ إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه السلام ) فان ما ذكروه في مسألة اختلاف الامة خاص بما إذا كان في القول الثالث مخالفة عملية لكلا القولين ، دون ما لم يكن فيه مخالفة لهما .

ثانيا : ( مع انّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتفاقيّا ) فان بعض الفقهاء قال في مورد اختلاف الاُمّة على قولين بجواز ان يطرح الفقيه كِلا القولين ويرجع إلى الأصل ، وما نحن فيه من مورد دوران الأمر بين المحذورين من هذا القبيل ، لأنّه يطرح كلاً من الوجوب والحرمة ويرجع

ص: 171

على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ، كما سيجيء ، هو إرادة التخيير الواقعيّ المخالف لقول الإمام عليه السلام ، في المسألة .

ولذا اعترض عليه المحقق ، بأنّه لا ينفع التخيير فرارا

-------------------

إلى أصل الاباحة لقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ » (1) وما أشبه بالاضافة إلى الدليل العقلي على « قبح العقاب بلا بيان » وهو أصل - كما لا يخفى - .

ثالثا : إنّ قولهم بعدم جواز الرجوع إلى القول الثالث في مورد اختلاف الامة على قولين انّما هو لاعتبار ان هذا القول الثالث هو حكم واقعي ، ونحن لا نقول بأنّ الاباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين هو حكم واقعي ، بل نقول انه حكم ظاهري ، ولا دليل على عدم جواز الرجوع إلى الحكم الظاهري في مورد اختلاف الاُمّة على قولين .

وإلى الجواب الثالث هذا اشار المصنِّف بقوله : ( على أنّ ظاهر كلام الشيخ ) الطوسي رحمه اللّه ( القائل بالتّخيير ) في مورد اختلاف الامة على قولين ( كما سيجيء ، هو : إرادة التّخيير الواقعي المخالف لقول الإمام عليه السلام في المسألة ) فالمشهور الذين قالوا بأنّ التخيير لا يجوز في مورد اختلاف الاُمّة على قولين ، أرادوا به : التخيير الواقعي ، فلا يشمل كلامهم ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّا نقول في المقام بالتخيير الظاهري .

( ولذا ) أي : لأجل ان الشيخ أراد من كلامه : التخيير الواقعي ( اعترض عليه المحقق ) صاحب الشرائع ( : بأنه لا ينفع التخيير فرارا ) أي : لأجل الفرار

ص: 172


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ، لأن التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام ، وإن انتصر للشيخ بعضٌ بأنّ

-------------------

عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ) وانّما لا ينفع ، لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام .

توضيح ذلك : قال بعض الفقهاء في مورد اختلاف الاُمّة على قولين : بأنّ للفقيه ان يطرح القولين ويرجع إلى الأصل ، فاعترض عليهم شيخ الطائفة : بأنّ الإمام عليه السلام مع أحد القولين ، فكيف يجوز طرح القولين والرجوع إلى الأصل مع انه مخالف لقول الإمام قطعا ؟ بل لابدّ من اختيار أحدهما ، بمعنى : ان الفقيه الثالث مخيّر بين أن يأخذ بهذا القول أو بذاك القول .

فاعترض عليه المحقق : بانّه كرٌّ على ما فرّ منه ( لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام ) فانّ الإمام أمّا يقول بالحرمة أو يقول بالحلية ، فاذا قلنا بأنّ الفقيه الثالث مخيّر بين الحرمة والحليّة كان قولاً ثالثا مخالفا لقول الإمام قطعا .

ومن المعلوم : انّ اعتراض المحقق على الشيخ مبني على ارادة الشيخ : التخيير الواقعي لا التخيير الظاهري ، لأنّ معنى التخيير الواقعي : كون الحكم في الواقع مخيرا فيه ، ومعلوم انّه لما كان الإمام مع أحد القولين لم يكن الحكم في الواقع مخيرا فيه ، بخلاف التخيير الظاهري ، فان معنى التخيير الظاهري : انّ المكلّف حيث كان مرددا بين الحكمين كان له اختيار أيهما شاء في مرحلة الظاهر عند جهله بالحكم الواقعي .

هذا ( وإن انتصر للشيخ بعضٌ ) وهو : سلطان العلماء في حاشية المعالم ، وصاحبا الفصول والقوانين ( : بأن ) مراد الشيخ : التخيير الظاهري لا التخيير الواقعي الذي فهمه المحقق من كلام الشيخ ، فقد قال هؤلاء المنتصرون للشيخ :

ص: 173

التخيير بين الحكمين ظاهرا أحدهما هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام .

لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس سره يأبى عن ذلك قال في العدّة :

« إذا اختلفت الاُمّة على قولين فلا يكون إجماعا ، ولأصحابنا في ذلك مذهبان :

منهم من يقول : إذا تكافى ء الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم التفصيلي بأنّ المعصوم عليه السلام ، داخل فيه سقطا ووجب التمسّك

-------------------

ان مراده هو : ( التخيير بين الحكمين ظاهرا ، وأخذ أحدهما ) أي : أحد الحكمين ( هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام ) أي : في مقام اختلاف الاُمّة على قولين .

( لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس سره يأبى عن ذلك ) أي : عن ارادة التخيير الظاهري ، فانّ كلامه ظاهر في التخيير الواقعي ، وننقل كلامه ليظهر : ان ما ذكرناه هو الظاهر من كلامه ( قال في العدة : إذا اختلفت الاُمّة على قولين ) بأن قال بعضهم - مثلاً - بوجوب الجمعة ، وبعضهم : باستحبابها ( فلا يكون اجماعا ) بسيطا لأحد من القولين ، لوضوح : انّ الاُمّة لم تتفق على قول واحد ، بل هو من الاجماع المركب الذي ينفي القول الثالث كالقول بحرمة الجمعة - مثلاً - ( ولأصحابنا في ذلك مذهبان ) أي : طريقان في علاج هذا الاختلاف :

( منهم من يقول : اذا تكافى ء الفريقان ) بأن لم يكن لأحد الفريقين ترجيح على الفريق الآخر بالكثرة - مثلاً - ( ولم يكن مع أحدهما دليل يوجبُ العلم التفصيلي بأنّ المعصوم عليه السلام ، داخل فيه ) أي : في هذا الفريق ( سقطا ) المذهبان ( ووجب ) على المجتهد المتأخر المتردد بين هذين القولين ( التمسك

ص: 174

بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم .

وهذا القول ليس بقويّ ، ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه السلام ، قال : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه السلام تركه والعمل بما في العقل .

-------------------

بمقتضى العقل ) أي : ما يقتضيه العقل ( من حظر أو اباحة ) فاذا كان قول بالحظر في مثل شرب التتن ، وقول بالاباحة ، والفقهاء بين من يقدّم الحظر ومن يقدّم الاباحة ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر ان ايّ القولين يتطابق مع العقل والقاعدة فيقول به .

هذا ، فيما إذا كان القولان حرمة واباحة كما في المثال المتقدِّم ، وأمّا إذا كان القولان الوجوب والاباحة كما في الدعاء عند رؤية الهلال ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر هل انّ العقل والقاعدة مع الاحتياط أو مع البرائة ؟ وأمّا إذا كان القولان الوجوب والحرمة كما في الزوجة المترددة بين واجب الوطي ومحرّم الوطي ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر هل العقل والقاعدة على تقديم الحرمة كما يقول به بعض الفقهاء أو التخيير بينه وبين الوجوب ( على اختلاف مذاهبهم ) في هذه الموارد التي ذكرناها ( وهذا القول ليس بقويّ ) عندنا نحن شيخ الطائفة .

( ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه السلام ) لأنّ اسقاط المجتهد للقولين والأخذ بقول ثالث خلاف قول الإمام ، وذلك ليس بجائز .

( قال : ولو جاز ذلك ) أي : طرح قوله عليه السلام المردد بين القولين ، ( لجاز مع تعيين قول الإمام عليه السلام ) بسبب إحدى الأدلة الأربعة ( تركه والعمل بما في العقل ) فانه أيّ فرق في ترك قول الإمام بين ما إذا علم به تفصيلاً أو علم به إجمالاً ؟ فانّ العقل يرى وجوب اتباع قول الإمام ان كان يعلمه تفصيلاً فتفصيلاً ، وإن كان يعلمه إجمالاً فإجمالاً ، حسب موازين الاحتياط فيأطراف العلم الاجمالي .

ص: 175

ومنهم من يقول : « نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين . وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا » ، انتهى .

ثمّ فرّع « على القول الأوّل جواز اتفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ، معللاً : بأنه يلزم من ذلك

-------------------

( ومنهم من يقول : نحن ) الذين ترددنا بين القولين فيما إذا اختلفت الاُمّة عليهما ( مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا ) (1) فكما انّه إذا تعارض خبران يتخير الانسان بين هذا الخبر وذاك الخبر ، كذلك إذا اختلفت الاُمّة على قولين ، يتخير الفقيه المتأخر بين أن يعمل بهذا القول أو بذاك القول ، ( انتهى ) كلام الشيخ في بيان المذهبين .

( ثم فرّع على القول الأوّل ) وهو : سقوط القولين والتمسك بمقتضى العقل ( جواز اتفاقهم ) أي : العلماء الذين اختلفوا على قولين ( بعد الاختلاف ) ذلك ان يتفقوا ( على قول واحد ) سواء كان ذلك القول الواحد أحد القولين أو قول ثالث ، وذلك لأنّ العمل بحكم العقل والقاعدة انّما هو حكم ظاهري في مقابل الجهل بصحة أحد القولين ، فاذا ظهر صحة أحد القولين وفساد القول الآخر ، رجع إلى قول واحد وتحقق الاجماع البسيط حينئذٍ بعدما كان الاجماع المركب على نفي القول الثالث حين كان في المسألة قولان .

( و ) فرّع ( على القول الثاني ) وهو : القول بالتخيير في العمل بأيّ من القولين ( عدم جواز ذلك ) أي : عدم جواز اتفاقهم على قول واحد بعد اختلافهم على قولين ( معللاً : بأنّه يلزم من ذلك ) أي : من الاتفاق على قول واحد بعد اختلافهم

ص: 176


1- - عدّة الاصول : ص250 .

بطلان القول الآخر ، وقد قلنا انهم مخيّرون في العمل .

ولو كان إجماعهم على أحدهما ، انتقض ذلك ، انتهى .

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد على ارادة التخيير الواقعي ، وإن كان القول به لا يخلو عن الاشكال .

-------------------

على قولين ( بطلان القول الآخر ) الذي تركوه ( وقد قلنا انّهم مخيّرون في العمل ) ومعنى التخيير في العمل : صحة كلا القولين ، فكيف يجوز لهم أن يتفقهوا على ما يستلزم بطلان احد القولين ؟ .

( و ) عليه : فانه ( لو كان ) أي : حصل بعد اختلاف الاُمّة على قولين ( اجماعهم على أحدهما ) أي : احد القولين ( انتقض ذلك ) (1) التخيير الذي ذكرنا : انّه حكم المجتهد الثالث ، وذلك للمحذور المذكور ( انتهى ) ما في العدة .

هذا ( وما ذكره ) الشيخ ( من التّفريع ) على القول الثاني وهو التخيير حيث فرّع عليه : عدم جواز الاجماع على قول بعد الخلاف على قولين ( أقوى شاهد على ارادة التخيير الواقعي ) لأنّه إذا كان التخيير واقعيا لم يجز رفع اليد عنه ، بينما إذا كان التخيير ظاهريا جاز رفع اليد عنه اذا انكشف الواقع ، فالذين وجهوا كلام الشيخ بأن مراده : التخيير الظاهري توجيههم غير تام .

( وإن كان القول به ) أي : بالتخيير الواقعي كما اختاره الشيخ حسب ظاهر كلامه ( لا يخلو عن الاشكال ) لأنّه لا وجه لكون التخيير واقعيا بعد فرضنا موافقة الإمام مع أحد القولين لا على التعيين حيث يستدعي ذلك ان يكون التخيير ظاهريا لا واقعيا .

ولا يخفى : انّ في كلام الشيخ مواضيع للتأمّل ، فانّ مقتضى القاعدة : انّه

ص: 177


1- - عدّة الاصول : ص251 .

وكيف كان : فالظاهرُ بعد التأمّل في كلماتهم في باب الاجماع إرادتهم بطرح قول الإمام عليه السلام ، من حيث العمل ، فتأمّل .

ولكنّ الانصافَ : أنّ أدلّة الاباحة في محتمل الحرمة ينصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب

-------------------

لو اختلفت الاُمّة على قولين وكان للمجتهد المتأخر دليل على أحدهما أو على خلافهما اتبع دليله ، وإن لم يكن له دليل تخيّر بين القولين ، فاذا ظهر له دليل رفع اليد عن التخيير إلى ما ظهر لديه من الدليل .

( وكيف كان : فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الاجماع ، ارادتهم بطرح قول الإمام عليه السلام : من حيث العمل ) الخارجي ، فلا يشمل كلامهم ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين حيث قلنا بالاباحة؛ فانّ العمل بالاباحة لا يستلزم طرح قول الإمام عليه السلام عملاً لأنه ان فعل كان موافقا للوجوب ، وإن ترك كان موافقا للحرمة .

( فتأمّل ) فانّ بناء العقلاء في دوران الأمر بين المحذورين هو : العمل بأحدهما لا القول بالاباحة ، فانهم على الخصوص لا يقولون بالاباحة الاستمرارية ، لأنّ ذلك يسبب العلم بمخالفة الحكم الواقعي ، بينما في الأخذ بأحدهما فقط احتمال المخالفة دون العلم بالمخالفة .

ثم انّه حيث أثبت المصنّف إلى هنا : ان الحكم في الدوران بين المحذورين هو الرجوع إلى الاباحة أراد نقض ذلك فقال : ( ولكن الانصافَ : انّ أدلّة الاباحة في محتمل الحرمة ) من العقل والنقل ( ينصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ) فلا تشمل أدلة الاباحة ما كان دائرا بين الحرمة والوجوب ، فان قوله عليه السلام :

ص: 178

وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا يُفيد إلاّ عدمَ المؤاخذة على الترك والفعل

-------------------

« كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (1) وقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ هُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنَّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (2) وما أشبه ، ظاهرها : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب مثل : دوران الزوجة بين الطاهرة والحائض ، ودوران شرب التتن بين الحرمة والاباحة ، إلى غير ذلك .

أمّا دوران الأمر بين الحرمة والوجوب : كالمرأة المحتملة وجوب وطيها أو وجوب تركها ، والمنذور هو ترك الشاي أو شربه ، أو ما أشبه ذلك ، فليست هي أمثال هذه الفروع حتى تكون مشمولة لأدلة البرائة والاباحة .

( وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف ) ظاهرة في مجرّد عدم العقاب على الفعل والترك ، وذلك كما قال : ( لايفيد الاّ عدم المؤاخذة على الترك والفعل ) دون اثبات الترك أو الفعل في دوران الأمر بين الترك تحريما والفعل وجوبا الذي نحن فيه .

والحاصل : إنّ في المقام نوعين من الأدلة :

الأوّل : ما دلّ على الاباحة مثل : « كلُّ شيء حلالٌ » (3) ، وهذا خاصٌ بالشبهة الدائرة بين الحرمة وبين غير الوجوب من الأحكام الثلاثة الأخر - على ما عرفت - .

الثاني : ما دلّ على نفي التكليف مثل : قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأدلة

ص: 179


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 وفيهم (تعلم) بدل (تعرف) .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 (بالمعنى) .

وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب .

وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه .

نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فاللازم هو التوقف وعدم الالتزام إلاّ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه في الواقع .

-------------------

الحُجب (1) ، والرفع (2) ، والسعة (3) ، وهذا يدل على أمرين : عدم المؤاخذة ( وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ) سواء في الشبهة التحريمية ، أو الشبهة الوجوبية ، أو فيما دار بين الوجوب والتحريم ( وهذا المقدار ) من عدم تعيين الوجوب أو الحرمة ( لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه ) فاللازم القول بالأخذ بأحدهما مخيرا في الدوران بين المحذورين ، لا القول بالاباحة الذي اخترناه سابقا .

( نعم ، هذا الوجوب ) أي : وجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ( يحتاج إلى دليل ) حتى لا يلزم منه القول بلا دليل ( وهو ) أي : الدليل على وجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ( مفقود ، فاللازم ) حين لا دليل على الاباحة ، ولا دليل على التخيير فيما نحن فيه : من مورد دوران الامر بين المحذورين ( هو التوقّف وعدم الالتزام إلاّ بالحكم الواقعي ) إلتزاما قلبيا ( على ما هو عليه في الواقع ) .

هذا في مقام الالتزام ، وأمّا في مقام العمل : فلا حرج في الفعل ولا في الترك ، وذلك لحكم العقل : بأن الشيء ما لم يصل حكمه الى المكلّف لا حرج عليه

ص: 180


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 ، المحاسن : ص452 ح365 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح105 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهريّ إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب .

-------------------

في فعله وتركه ، فالمكلف في سعة من أن يفعل أو أن يترك ، وكون المكلّف في سعة من أن يفعل أو يترك ليس معناه : الاباحة الشرعية الظاهرية ، ولا معناه : وجوب الأخذ بأحد الحكمين تخييرا ، بل هو أمر ثالث غير الاباحة والتخيير .

( و ) إن قلت : على ما ذكرتم : من أنّه لا حكم ظاهري في المسألة ، لا الاباحة الظاهرية ، ولا التخيير الظاهري ، يلزم خلو الواقعة عن الحكم الظاهري .

قلت : لا بأس بذلك لأنه ( لا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه ) أي : الى ذلك الحكم الظاهري ( في العمل ) على أنّا نقول بوجود الحكم الواقعي في دوران الامر بين المحذورين وانّما يلزم عدم خلو الواقعة عن الحكم الواقعي وكذلك عدم خلوها عن الحكم الظاهري ، فيما اذا احتاج إليه في العمل .

بل انّا لانحتاج هنا الى الحكم الظاهري بعد حكم العقل بالسعة ، فالشارع أوكل الحكم في مثل هذا المقام من دوران الأمر بين المحذورين إلى العقل ، والعقل يرى السعة في ان يفعل أو أن يترك ، فمورد دوران الأمر بين المحذورين هو ( نظير مالو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ) فانّه لا يلزم على الشارع بيان انّه واجب أو مستحب ، لكفاية ايكاله الأمر إلى العقل الذي يرى مطلق الرجحان ، فلا حاجة إلى الالتزام بالوجوب أو الاستحباب ظاهرا .

وإلى هنا ظهر : انّ في دوران الأمر بين المحذورين مطلبين :

الأوّل : لزوم الالتزام القلبي بالحكم الواقعي .

الثاني : عدم الحكم بالاباحة ، ولا بوجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ، وانّما يرى

ص: 181

هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع فراجع .

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذُ بالحرمة أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب ؟ وجهان بل قولان :

يستدلّ على الأوّل ، بعد قاعدة الاحتياط حيث يدور الأمرُ بين التخيير والتعيين ،

-------------------

العقل لزوم التوقف عن الفتوى وجواز الأخذ بأيهما شاء .

( هذا ) مجمل الكلام في المسألة ( وقد مضى شطر من الكلام في ذلك ) الذي ذكرناه هنا ( في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع فراجع ) هناك .

( ثم ) انه اذا لم نقل بالاباحة الظاهرية ، ولم نقل باللاحرج العقلي في اختيار أيهما شاء ، فانّه ( على تقدير وجوب الأخذ ) بالتخيير وجوبا شرعيا ظاهريا ( هل يتعين الأخذ بالحرمة ) فقط كما قال به بعض ، أو يتعين الاخذ بالوجوب فقط وهو مالم يقل به أحد لانه لا وجه له ( أو يتخير بينه وبين الأخذ بالوجوب ؟ ) فيه ( وجهان بل قولان ) : قد ( يستدل على الأوّل ) منهما وهو : تعيين الأخذ بالحرمة بأدلة خمسة ، أشار المصنّف الى الأوّل منها بقوله : « بعد قاعدة الاحتياط » ، وإلى الثاني بقوله : « بظاهر ما دلّ على وجوب التوقف » ، وإلى الثالث بقوله : « وبأن دفع المفسدة أولى » ، وإلى الرابع بقوله : « ولأن افضاء الحرمة إلى مقصودها أتم » وإلى الخامس بقوله : « وبالاستقراء ثم بعد الاستدلال بها ردّها جميعا » .

فالأوّل ما ذكره بقوله : ( بعد قاعدة الاحتياط حيث يدور الأمر بين التخيير والتعيين ) فإنه اذا دار الأمر بين تعيين الأخذ بالحرمة وبين التخيير في الأخذ

ص: 182

بظاهر مادلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، فانّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في الشبهة ، وبأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ،

-------------------

بالحرمة أو الوجوب ، كان مقتضى الاحتياط اللازم عند الشك في المكلّف به هو الأخذ بالحرمة ، وذلك لأنّ كفاية الحرمة يقينية ، وكفاية التخيير مشكوكة ، فاذا أخذ بالحرمة ، أخذ امّا بالمعيّن وامّا بأحد شقّي المخيّر ، وامّا إذا اخذ بالوجوب ، فلا يعلم انّه أخذ بما هو تكليفه قطعا .

إذن : فهو كالمريض اذا علم بأنّ المرهم الفلاني دواء جرحه قطعا ، واحتمل ان غيره أيضا دوائه ، فان العقل لا يسمح له بالرجوع من الأوّل إلى الثاني ، وكالسائق اذا علم بأن الشمال طريق إلى مقصده قطعا ، واحتمل ان الشرق يوصله إلى مقصده أيضا ، فانّ العقل يرى لزوم سلوك الشمال لا الشرق ، إلى غير ذلك من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير .

والثاني : ما أشار اليه ( بظاهر ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة ) مثل قوله عليه السلام : « فَانَّ الوُقوفَ عِندَ الشُّبهَةِ خَيرٌ مِنَ الاقتِحامِ في الهَلكَةِ » (1) ( فانّ الظاهر من التوقف : ترك الدّخول في الشبهة ) ومعنى ترك الدخول : عدم العمل ، وعدم العمل يساوق التحريم .

( و ) الثالث : ما ذكره بقوله : ( بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ) فان ما يدور أمره بين الوجوب والتحريم إذا كان واجبا كان فيه منفعة ، وإذا كان حراما كان فيه مفسدة ، فاذا كان دفع المفسدة أولى كان معناه : العمل على طبق التحريم .

ص: 183


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ج27 ص171 ب12 ح33520 وكذا رواية مسعدة بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ووسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

لما عن النهاية : من « أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ ويشهد له ما اُرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام ، من : « انّ اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات » ، وقوله عليه السلام : « أفضل من اكتساب

-------------------

وانّما نقول : بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( لما عن النهاية ) للشيخ ( : من ان الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل ) فالخمر حرام ، لأن في شربها مفسدة ، والزنا حرام لأن في ارتكابه مفسدة ، وهكذا ( وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ) فالصلاة واجبة لما في الصلاة من المصلحة ، والزكاة واجبة لما في الزكاة من المصلحة ، وهكذا .

وانّما قال : الغالب ، لأنّ في الحرمة قد تكون المصلحة في نفس الترك لا ان المفسدة في الفعل ، كترك المسكر - مثلاً - فانّ فيه مصلحة صحة البدن ، كما ان في الوجوب قد تكون المفسدة في الترك لا المصلحة في الفعل كترك غسل الجنابة - مثلاً - فانه يوجب سقم البدن .

وعلى أي حال : ففي مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة يكون الاخذ بالحرمة دفعا لمفسدة فعل الحرام ، أولى من الأخذ بالوجوب جلبا لمصلحة فعل الواجب ، فاذا دار الأمر - مثلاً - : بين وجوب وطي الزوجة وحرمته اجتنب عنه حتى لا يبتلى بمفسدة الوطي ، لا انّه يرتكبه جلبا لمصلحة الوطي ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة عند العقلاء ( و ) ذلك لأنّ ( اهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ ) عندهم من جلب المصلحة .

( ويشهد له ) أي : لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه السلام : من « ان اجتناب السيّئات أولى من اكتساب

ص: 184

الحسنات اجتناب السيئات » .

ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لأنّ مقصود الحرمة يتأتى بالترك ، سواء كان مع قصد ام غفلة ، بخلاف فعل الواجب » ،

-------------------

الحسنات » (1) ، وقوله عليه السلام : « افضلُ من إكتسابِ الحَسَناتِ اجتِنابُ السَّيئات » (2) ) فاذا علم ان في ذهابه الى بيت زيد لصلة الرّحم الواجب - مثلاً - انه سوف يبتلى بالزنا هناك ، كان ترك الذهاب لاجتناب سيئة الزنا أولى من الذهاب لاكتساب حسنة صلة الرحم .

( و ) الرابع : ما أشار اليه بقوله : ( لأن إفضاء الحرمة إلى مقصودها ) وهو الترك ( أتم من افضاء الوجوب إلى مقصوده ) والفعل ، اذ المقصود من التحريم هو الترك ، والمقصود من الايجاب هو الفعل ، والأوّل سهل الحصول بخلاف الثاني .

وانّما يكون أتم ( لأنّ مقصود الحرمة يتأتّى بالترك ) مطلقا ( سواء كان مع قصد أم غفلة ) في نوم أم في يقظة ( بخلاف فعل الواجب ) (3) فانّه يحتاج إلى الالتفات والقصد ، فترك الزنا - مثلاً - يمكن أن يكون عن علم وعمد وقدرة لانه يخاف اللّه تعالى ، ويمكن أن يكون عن غفلة أو شغل ، أو مانع منه ، كما اذا لم يعلم بأنّ هناك امرأة أو لانه مشغول عنها أو لأن نهرا أو جبلاً حائل بينهما ، أو ما اشبه ذلك ، أما فعل النكاح - مثلاً - فلا يقع إلاّ من عالم عامد قاصد خالٍ عن الموانع .

ولايخفى : انّ صورة القياس تكون هكذا : افضاء الحرمة أتم من افضاء الوجوب ، وكل ما كان أتم كان مقدّما في مورد دوران الأمر بينهما ، لأنّ العقلاء

ص: 185


1- - غرر الحكم : ص81 ح1559 .
2- - غرر الحكم : ص196 ح225 .
3- - النهاية : مخطوط .

انتهى .

وبالاستقراء ، بناءا على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّلَ له بأيّام الاستظهار

-------------------

يرجّحون الأتم على غير الأتم ، والشارع بما انّه سيد العقلاء فلابدّ من انه يرجح الأتم على غيره - فالاخذ بالحرمة مقدّم على الوجوب ( انتهى ) الدليل الرابع على تقديم الاخذ بالحرمة .

( و ) الخامس : ما اشار اليه : ( بالاستقراء بناءا على انّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام ) في الشبهات الموضوعية والحكمية ( تغليب الشارع لجانب الحرمة ) على الوجوب ( ومثّل له بأيام الاستظهار ) وهو عبارة عن : طلب المرأة ظهور حالها لتعرف هل انّ دمها حيض أم لا ؟ كما إذا كانت ذات عادة وقتية وعددية بأن ترى - مثلاً - في أول كل شهر خمسة أيام ، فاذا استمر الدم أكثر من خمسة ، فانّ بين الخمسة والعشرة تستظهر المرأة حالها بترك محرمات الحائض والاتيان بواجبات المستحاضة .

وعليه : فان تجاوز الدم عن العشرة تبين انّ الزائد عن الخمسة كان استحاضة ، وإذا انقطع على العشرة أو ما دون العشرة تبين انّ الزائد كان حيضا ، والشارع رجّح جانب الحيض فجعل على المرأة في الأيام الزائدة محرمات الحائض ، فاذا كان لها زوج - مثلاً - وأراد وطيها في أيام الاستظهار كان بالنسبة إليها من دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لأن الواجب على المرأة القبول لمكان حق الزوج ، كما انه يحرم عليها القبول لاحتمال الحيض ، لكن الشارع أمرها بالامتناع عن القبول مما يكون معناه : ان الشارع رجّح التحريم على الوجوب .

ص: 186

وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس .

ويضعّف الأخير بمنع الغلبة ، وما ذكر من الأمثلة مع عدم ثبوت الغلبة بها

-------------------

( و ) مثل له أيضا بمثال : ( تحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس ) حيث انّ الأمر دائر فيه بين الواجب والحرام ، فانّ تحصيل الطهارة للصلاة واجب ، واستعمال الماء النجس في الطهارة محرم ، بمعنى : انّه لا يجوز له الوضوء بهذا الماء للصلاة ، ولذا قال الشارع في الانائين المشتبه أحدهما بالنجس : « يُهريقَهُما وَيَتَيَمَم » (1) ومعنى ذلك : تغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب .

وكذا له أن يمثّل لذلك بأمثلة أخرى : مثل ما إذا لم يعلم الانسان وهو في شهر رمضان بأن الصوم واجب عليه لمكان شهر رمضان ، أو حرام عليه لمكان المرض الذي يخاف منه ؟ فانّ الفقهاء أفتوا بعدم الصوم عليه .

وكذا إذا شك الزوج بأن هذه هي زوجته التي مضى عليها أربعة أشهر حتى يجب عليه وطيها ، أو أجنبية عنه حتى يحرم عليه وطيها ؟ فاللازم عليه عدم وطيها إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في مجال تغليب جانب الحرام على جانب الوجوب .

ثم بدأ المصنّف بردّ الأدلّة الخمسة بقوله : ( ويضعّف الأخير ) وهو الدليل الخامس ( بمنع الغلبة ) لوضوح : ان الغلبة لا تثبت بمورد وموردين وما أشبه ذلك ( وما ذكر من الأمثلة ) الثلاثة فانه يرد عليها مايلي :

أوّلاً : ( مع عدم ثبوت الغلبة بها ) لأنها في موارد معدودة ، والموارد المعدودة لا تثبت غلبة حتى تكون قاعدة كليّة .

ص: 187


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

خارجٌ عن محلّ الكلام ، فانّ ترك العبادة في أيام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، ولو قيل بالوجوب فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة .

وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد الرّؤية فهو للاطلاقات

-------------------

ثانيا : انه ( خارجٌ عن محلّ الكلام ) الذي هو من الدوران بين المحذورين ( فانّ ترك العبادة في أيّام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ) ولذا يقولون : على المرأة ان تحتاط في أيام استظهارها بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة ، وذلك لوجه ذكروه في الفقه لا يهمنا التعرّض له ، كما ان تحريم وطيها على الزوج ، لعله لمكان استصحاب الحيض .

هذا ( ولو قيل بالوجوب ) أي : بوجوب ترك العبادة وترك الوطي ( فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض ) بمعنى : الاستصحاب ، والاستصحاب حجّة كما علم في موقعه ( و ) اصالة ( حرمة العبادة ) عليها بالاستصحاب ايضا ، بل الاصل في العبادة المشكوك تشريعها هو : الحرمة ، إذ العبادة لا تكون إلاّ بقصد القربة وقصد القربة لا يتأتى إلاّ مع العلم بالعبادية ، فاذا قصد القربة بلا علم بالعبادية كان تشريعا ، لأنه قد نسب إلى الشارع ما لم يعلم ان الشارع أمر به .

( و ) ان قلت : انّ الفقهاء قالوا : بأنّ المرأة اذا رأت الدم واحتملت انه حيض - في غير الوقتية - لزم عليها ترتيب أحكام الحيض ، مع انّ الأمر دائر بين وجوب العبادة ان لم يكن الدم حيضا ، وبين حرمة العبادة إذا كان الدم حيضا ، وبذلك فقد قدَّم الشارع الحرام على الواجب .

قلت : ( أما ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرد الرّؤية ) للدم ( فهو ) لما يلي :

أولاً : ( للاطلاقات ) الدالة على ان كل دم تراه المرأة حيض إلاّ ما خرج بالدليل.

ص: 188

وقاعدة كلّما أمكن ، وإلاّ فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع .

وأمّا ترك الانائين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لأنّ الظاهر ، كما ثبت في محلّه ، أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لاذاتيّة ،

-------------------

( و ) ثانيا : لقاعدة الامكان المشهورة بينهم وهي : ( قاعدة : « كلّما أمكن ) أن يكون حيضا فهو حيض » وهذه القاعدة مستفادة من الأخبار .

( وإلاّ ) بأن لم تكن الاطلاقات ، ولم تكن قاعدة الامكان ( فأصالة الطّهارة وعدم الحيض هي المرجع ) هنا .

والحاصل : ان مقتضى الأصل الأولي هنا وهو : استصحاب الطهارة ، واستصحاب عدم الحيض يعيّن الوجوب ، ومقتضى الأصل الثانوي التعبدي بسبب الاطلاقات ، وقاعدة الامكان يعيّن الحرمة ، فلا يكون المثال من الدوران بين المحذورين ، بل هو نظير لما قالوا : من انّ الاصل الأولي في المعاملة البطلان ، والاصل الثانوي هو الصحة فلا يكون الامر في مقامنا هذا من باب تقديم الحرمة على الوجوب .

( وأما ترك الانائين المشتبهين في ) تحصيل ( الطهارة ) للغسل والوضوء ، (ف) الاستدلال به مردود بثلاثة وجوه :

الوجه الأوّل : ان هذا المثال ( ليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ) حتى يكون شاهدا لما نحن فيه ( لأن الظاهر - كما ثبت في محلّه : انّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لا ذاتيّة ) أي : ليس حرمتها لأجل أمر الشارع بالعدم كشرب الخمر ، وانّما حرمتها من أجل عدم أمر الشارع بها ، فتكون الطهارة بالمشتبه تشريع ونسبة ما لم يأمر به الشارع اليه .

ص: 189

وإنّما منع من الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ ،

-------------------

إذن : فليس ترك الطهارة هنا لتقديم الحرمة ، بل لما قال : ( وانّما منع من الطّهارة ) بأحد المائين ( مع الاشتباه ، لأجل النصّ ) على عدم الانتفاع بهذا المشتبه فيما يشترط فيه الطهارة من الصلاة والطواف ونحوهما ، فلا يكون مثالاً لما نحن فيه .

والحاصل : ان حرمة الطهارة بالماء المشتبه بالنجس انّما هو من جهة عدم الأمر ، لا من جهة الأمر بالعدم ، فتكون الطهارة بالمشتبه محتمل الوجوب فقط بدون احتمال الحرمة ، فان تطهر بقصد الأمر كانت الطهارة حراما من جهة التشريع ، وأمّا لو تطهر بسبب احتمال الأمر كان احتياطا راجحا كسائر العبادات المحتملة التي يؤتى بها لاحتمال الأمر ، مثل : الصلاة إلى الجهات الأربع ، فانّ الصلاة باتجاه غير القبلة محرّم أمّا إذا جاء بها باحتمال الأمر كان احتياطا حسنا .

وعليه : فالمقام ليس من تقديم الحرمة على الوجوب وانّما المنع من جهة التشريع المرتفع بقصد الاحتياط ، ولذا ذكر بعض الفقهاء هنا : بانّ للمكلّف في صورة اشتباه الماء الطاهر بالنجس أن يتوضأ بأحد المائين ويصلي ، ثم يطهر مواضع الوضوء بالماء الثاني ويتوضأ به ويصلي ثانيا ، فيعلم انّه أتى بصلاة مع الطهارة المائية .

هذا ، لكن الشارع - كما ورد في الحديث - قال : « يُهريقَهُما وَيَتَيَمَم » (1) ولعله للتسهيل ، والاّ فمقتضى القاعدة ماذكره هؤلاء الفقهاء : من الوضوئين والصلاتين بشرط سعة الوقت وإمكان تطهير مواضع الوضوء بالماء الثاني والتوضي به ،

ص: 190


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3

مع أنّها لو كانت ذاتيّة .

فوجهُ ترك الواجب وهو الوضوء ثبوتُ البدل له وهو التيمّم . كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين .

-------------------

وهكذا يكون الحال إن كان الواجب عليه مثل : غسل الجنابة ، وحيث انّ المسألة فقهية نكلها إلى موضعها .

الوجه الثاني لرد الاستدلال بالانائين ما أشار اليه بقوله : ( مع انها ) أي : ان حرمة الطهارة بالماء النجس ( لو كانت ذاتية ) أي : انّا لو سلّمنا ان حرمة الطهارة بالنجس حرام ذاتي لا حرام تشريعي - كما قلناه في الجواب الأوّل - لكنّا نجيب جوابا ثانيا وهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله :

( فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ) والغسل بالماء المشتبه بالنجس انّما هو لأجل ( ثبوت البدل له وهو : التيمم ) لأنّ الأمر في المقام دائر بين الوضوء بالمشتبه ممّا يسبب تنجيس البدن ، وبين ترك الوضوء وابقاء طهارة البدن ، وحيث ان للوضوء بدل وهو التيمم ، بخلاف طهارة البدن فانّه لا بدل له وجب تقديم الأوّل ، وهذا ليس من تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب كما قاله المستدل .

إذن : فالمشتبه بالنجس بين الانائين يكون ( كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين ) فاذا كان له انائان فيهما ماء ، أحدهما من الذهب ، والآخر من غير الذهب ، فانه يحرم استعمال الماء الذي في اناء الذهب ، وحيث لا يدري ان أيهما اناء الذهب يترك المائين ويتيمم بدل الوضوء ، وليس ذلك من باب تقديم الحرام على الواجب ، بل من باب انّ الواجبَ لهُ بدلٌ والحرامُ ليس له بدلٌ ، وكل ما كان له بدل يتنزّل من ذلك الشيء إلى البدل بخلاف ما ليس له بدل

ص: 191

وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما ، مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ،

-------------------

فانّه يجب البقاء عند ذلك الشيء الذي لا بدل له .

مثلاً : إذا قال المولى : أطعم مسكينا وإذا لم يكن لك طعام فأعطه دينارا ، وقال أيضا : صل رحمَك ، ثم دار الأمر بين الاطعام وصلة الرّحم ، يبقى صلة الرحم على وجوبه ، لانّه لا بدل له ، ويتنزل من وجوب الاطعام الى وجوب بدله وهو : اعطاء الدينار ، إذ في ذلك جمع بين الأمرين : أصل وبدل ، بينما إذا أطعم لم يتمكن من صلة الرحم ، ولا بدل لصلة الرحم ، فلم يبق إلاّ احد التكليفين .

( وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له ، لا يزاحم محرّما ) ولذلك يقدّم الحرمة عليه ، لكن تقديم الحرمة هنا لثبوت البدل للواجب ، وهو لا يدل على تقديم الحرمة فيما لا بدل له ، فالقياس عليه قياس مع الفارق .

الوجه الثالث لرد الاستدلال بالانائين ما اشار اليه بقوله : ( مع أنّ القائل بتغليب

جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب ، لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ) فانّ تغليب جانب الحرام انّما هو فيما اذا كان هناك شيء واحد محتمل التحريم وغير التحريم ، فالحرام فيه يقدّم على غيره للموافقة الاحتمالية ما في مثل الانائين ، فهناك شيئان - لا شيء واحد - والشيئان عبارة عن الحرام القطعي : وهو الوضوء بالنجس ، والواجب القطعي وهو الوضوء بالطاهر ، وترك الوضوء في المثال ليس من جهة تغليب الحرام ، لأن تغليب الحرام هنا غير جائز لما يستلزم من المخالفة القطعية للواجب القطعي ، بل تقديم ترك الوضوء هنا من جهة النص الخاص باهراقهما والتيمم .

ص: 192

لأنّ العلماء والعقلاء متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام .

فهذا المثال أجنبيّ عمّا نحن فيه قطعا .

-------------------

وعليه : فلا يمكن أن يقال : ان في دوران الأمر بين المحذورين يقدّم الحرام كما لا يمكن ان يستدل لذلك بالانائين المشتبهين ( لأنّ العلماء والعقلاء متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام ) فانّه إذا دار الامر بين حرام قطعي وواجب قطعي ، وقد اشتبه أحدهما بالآخر ، فاللازم أن يلاحظ الأهم منهما ويقدّم على المهم ، لا ان يقدّم جانب الحرام على الواجب مطلقا وهذا هو رأي علماء المسلمين ، بل هو رأي عقلاء العالم .

مثلاً : إذا دار الأمر بين حرام قطعي كالتصرّف في ملك الغير ، لأجل واجب قطعي كانقاذ الغريق ، قدم الواجب على الحرام لانّ الواجب هنا أهم ، وإذا دار الأمر بين حرام كالزنا ، وواجب كصلة الرحم وذلك فيما إذا علم بانّه إذا ذهب ليصل رحمه وقع هناك في الزنا قطعا ، قدّم الحرام على الواجب وترك صلة رحمه لانّ الحرام هنا اهم ، واذا دار الأمر بين حرام وواجب متساويين ، او لم يعلم الاهم منهما وإن احتمله في أحدهما ، كما لو دار الامر في التصرف في ملك الغير لانقاذ غريق مردد بين انه مسلم أو كافر حربي فانه يتخيّر في تقديم أيهما شاء ، إذن فلا تقديم للحرام على الواجب مطلقا .

وعليه : ( فهذا المثال ) اي : مثال الانائين المشتبهين بالنجس ( أجنبي عمّا نحن فيه قطعا ) فلا يمكن أن نقول في مورد دوران الأمر بين المحذورين بتقديم الحرام لأنّ الشارع قدّم الحرام في الانائين المشتبهين ، وهذا هو ثالث الوجوه الذي ردّ به المصنِّف تمثيلهم بالانائين المشتبهين في دليلهم الأخير .

ص: 193

ويضعّف ما قبله بأنّه يصلحُ وجها لعدم تعيين الوجوب لا لنفي التخيير .

وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة ،

-------------------

( ويضعّف ما قبله ) وهو دليلهم الرابع على تقديم الحرمة حيث قالوا : انّ افضاء الحرمة الى مقصودها اتم من افضاء الوجوب إلى مقصوده ( بأنّه ) على تقدير تمامية الصغرى ( يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي التخيير ) لوضوح : انّ الأئميّة ليست ملزمة فلا تستطيع أن تنفي التخيير ، فانّ الأتم يوجب الأفضلية ولا يوجب التعيين ، حتى يقدّم الحرمة المحتملة على الوجوب المحتمل .

والحاصل : انّ هذا الدليل يقول : انّ الترك أفضل ، لا انّه يقول : ان الترك متعيّن ، فيبقى الكلام على ما ذكرناه نحن : من التخيير بين الفعل والترك في دوران الأمر بين المحذورين لا على ماذكره المستدل .

( وأمّا ) دليلهم الثالث : وهو ( أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة ) لكن لا على نحو الكلية ، بل في الجملة ، فاذا علم شخص عادي - مثلاً - بانّه لو سافر صفع في سفره صفعة يعوّض عنها بدينار ، لم يكن دفع المفسدة بالنسبة إلى هذا الانسان أولى من جلب المنفعة ، ولذا نراه يسافر لجلب منفعة الدينار ، لا انّه يترك السفر لدفع مفسدة الصفع ، فاطلاق دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة غير ظاهر الوجه ، بل الكبرى : وهي دفع المفسدة أولى ، غير كلية .

هذا ، بالاضافة إلى الاشكال في الصغرى وهي : كون ما نحن فيه صغرى لكليّ دفع المفسدة أولى ، فانّ ما نحن فيه من دوران الأمر بين الواجب والحرام ليس من الدوران بين جلب المنفعة ودفع المفسدة ، حتى يكون صغرى لذلك الكلي

ص: 194

لكنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة وإلاّ لم يصلح للالزام ، إذ مجرّد فوت المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة

-------------------

بل من الدوران بين مفسدتين : مفسدة ارتكاب الحرام ، ومفسدة ترك الواجب ، لأنّ في ترك الواجب مفسدة أيضا ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( لكن المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة ) كمفسدة ارتكاب الحرام ، فالأمر دائر بين مفسدتين ، لا مفسدة ومنفعة حتى يكون من صغريات هذه القاعدة .

( وإلاّ ) بأن لم تكن المصلحة الفائتة بترك الواجب مفسدة ايضا ليدور الأمر بين مفسدتين ، بل كان ترك الواجب مجرد فوات النفع كالمصلحة الفائتة بترك المستحب - مثلاً - لورد عليه ما يلي :

أوّلاً : انه ( لم يصلح للالزام ) اذ الالزام انّما يكون إذا كانت هناك مصلحة يُسبّب فوتها مفسدة للمكلّف ، كما اذا فاته - مثلاً - تحصيل المال فبقي جائعا عاريا ، أو بقي بلا سلاح ممّا يوجب هجوم العدو عليه وجرحه وقتله .

وإنّما يلزم ان يكون في الترك مفسدة أيضا ( إذ مجرّد فوت المنفعة عن الشخص ) عند ترك الفعل ( وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت ) لم يزدد مصلحة ولم ينقصه منفعة كما هو الحال في المستحبات والمكروهات ، فانّ التارك للمستحب والفاعل للمكروه لا يزداد شيئا ولا ينقصه شيء أيضا ، فان مجرّد فوت المنفعة ( لا يصلح ) ان يكون ( وجها ) وسببا ( لالزام شيء ) من قبل الشارع ( على المكلّف مالم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ) وهذا هو الايراد

ص: 195

وإلاّ لكان أصغرُ المحرّمات أعظمَ من ترك اهمّ الفرائض مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر .

-------------------

الأوّل ، وأمّا الايراد الآخر فهو :

ثانيا : انّه يلزم بالاضافة الى ما مرّ من شمول الترك على المفسدة ان تكون هذه المفسدة ملزمة ايضا ( وإلاّ ) بان لم يكن في ترك الفعل مفسدة بل فوت مصلحة فقط ، أو كان في تركه مفسدة لكنّها غير ملزمة ( لكان أصغرُ المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض ) فاذا كان - مثلاً - في ترك الصلاة فوت منفعة فقط بلا أن يكون فيها مفسدة ملزمة ، لزم أن يكون أصغر المحرّمات كحلق اللحية أعظمُ من ترك الصلاة ، لأنّه لم يكن في ترك الصلاة - حسب الفرض - مفسدة ملزمة ، بينما في حلق اللحية مفسدة ملزمة ( مع انه ) الضمير للشأن ( جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر ) كما في الحديث الشريف : « الصَّلاةُ عَمودُ الدِّينِ إنْ قُبِلَت قُبِلَ مَا سِواها وَإن رُدَّت رُدَّ مَا سِواهَا » (1) .

لكن لا يخفى : انه ليس المراد من هذا الحديث : انّه حتى ولو دار الأمر بين الصلاة وبين القتل ، أو هتك العرض ، أو سلب الأموال ، تكون الصلاة مقدَّمة عليها فاذا أمره الجائر - مثلاً - بترك الصلاة أو القتل ، أو بترك الصلاة أو الزنا ، أو بترك الصّلاة أو سلب الاموال ، قدّم ترك الصلاة عليها .

لا يقال : ان القتل والزنا وسلب الاموال حرام وترك الصلاة حرام ، والثاني أهم من الأوّل ، فاللازم على المجبور أن لا يترك الثاني لاجل الأوّل .

لانّه يقال : لا منافاة بين أهمية الصلاة الدائمة وبين فقدها أهميتها ، فيما دار الامر بين فرد من الصلاة وبين فرد من الحرام .

ص: 196


1- - الأمالي للصدوق : ص641 .

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ، فانّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا .

وأمّا الاخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما

-------------------

( وبما ذكر ) : من ان فوت الواجب فيه مفسدة أيضا لا فوات منفعة فقط ( يبطل قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بينَ المحذورين ( على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتب المضرّة الدنيويّة ) كما إذا كان في شرب السكنجبين مثلاً احتمالان : الأوّل : احتمال عدم النفع لو ترك شربه ، بأن لا يصل التارك لشربه إلى مصلحة النشاط في بدنه .

الثاني : احتمال الضرر لو شربه بأن يتعرّض بسبب شربه للحمى - مثلاً - .

هذا ، والعقلاء في مثل هذا المثال يتركون الشرب لرفع احتمال الضرر يعني : انهم يقدمون خوف الضرر على خوف فوات المصلحة ، والذي يقيس ما نحن فيه من دوران الأمر بين الواجب والحرام بهذا المثال يقول : انه يلزم تقديم الترك على الفعل كما في المثال ، لكنه كما عرفت انه قياس باطل .

وانّما يكون هذا القياس باطلاً لما قال : ( فانّ فوات النّفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا ) بينما قد عرفت : ان فوات مصلحة الواجب يوجب الضرر أيضا ، فيدور الأمر بين ضررين : ضرر ترك الواجب ، وضرر فعل الحرام ، بينما في المثال لا يدور الأمر بين ضررين وإنّما يدور بين ضرر وترك نفع .

( وأمّا الأخبار الدّالة على التوقّف ) وهو الدليل الثاني لمن قدم الحرام على الواجب فيما دار الأمر بين المحذورين ( ف- ) انها لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين ، إذ هي ( ظاهرة فيما ) دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ،

ص: 197

لا يحتمل الضرر في تركه ، كما لا يخفى .

وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ، وهو بعيد .

وأمّا قاعدة الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين

-------------------

مثل شرب التتن هل انّه حرام أو مباح بحيث ( لا يحتمل الضّرر في تركه ، كما لايخفى ) ؟ .

وعليه : فاذا احتمل الضرر في تركه أيضا ، كان في كل من الجانبين احتمال الضرر ، فكيف يعلل الأمر بالتوقف في قوله : « فانّ الوُقوفَ عِندَ الشُبهَةِ خَيرٌ منَ الاقتِحام فِي الهَلَكَةِ » (1) ممّا ظاهره ان في أحد الجانبين فقط هلكة وليس في الجانب الآخر هلكة فتختص هذه الأخبار حينئذٍ بما كان في الاقدام هلكة وليس في الترك هلكة ولا تشمل ما نحن فيه هذا هو ما نراه نحن في أخبار التوقف .

( و ) إن كان ( ظاهر كلام السّيّد الشّارح للوافية : جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ) أي : في مقام دوران الأمر بين المحذورين ، كما انّها جارية في مقام دوران الأمر بين الحرام والمباح - مثلاً - ( وهو بعيد ) لوضوح : انّه لا يمكن الاحتياط في الدوران بين المحذورين بينما الشارع قال : بالاحتياط في الدوران بين الحرام والمباح - مثلاً - .

( وأمّا ) الدليل الأوّل لمن يقدّم الحرام على الواجب في الدوران بين المحذورين وهو : ( قاعدة الاحتياط عند الشّك في التّخيير والتّعيين ) على

ص: 198


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح3346 و ص171 ب12 ح33520 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 .

فغيرُ جارٍ في أمثال المقام ، ممّا يكون الحاكم فيه العقل ، فانّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير ، وأمّا أن يستقلّ بالتعيين ، فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الاحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل .

-------------------

التقريب الذي تقدّم ( فغيرُ جارٍ في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل ) لأنّ هذه القاعدة تجري فيما دار الأمر بين الواجب والحرام من جهة اجمال الدليل الشرعي بأن قال الشارع - مثلاً - : كفّر إذا أفطرت ، فانه يحتمل ان يراد بالكفارة :

الاطعام معينا ، ويحتمل ان يراد بها : الاطعام أو الصيام مخيرا ، فاذا دار الأمر بين تعيين الاطعام أو التخيير بينه وبين الصيام ، يُقدم الاطعام ، لأنّه إذا أطعم فقد علم بأنه كفّر ، بينما اذا صام لم يعلم بأنه حصلت الكفارة أم لا ؟ .

هذا ، لكن دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا يكون في الأحكام العقلية ( فان العقل أما أن يستقل بالتّخيير ) فيحكم بأن في فوت المصلحة مفسدة أيضا ، فيكون المكلّف مخيرا بين هذا وذاك ( واما أن يستقل بالتعيين ) فيحكم بأن دفع المفسدة اولى ، فيتعين على المكلّف احدهما ( فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ) لا على تقدير استقلال العقل بالتخيير ، ولا على تقدير استقلال العقل بالتعيين ، وحيث لا يكون العقل شاكا بين التعيين والتخيير ، فلا يكون مجالاً للاحتياط والقول بأن العقل يأخذ بالتعيين في قِبال التخيير .

( وانّما الشّك ) في مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ( في الأحكام التوقيفيّة التي ) ذكرها الشارع حيث ( لا يدركها العقل ) كالمثال الذي تقدّم ، فانّ العقل لا يدرك انّ ما يمحي ذنب الافطار في شهر رمضان هل هو الاطعام معينا . أو الاطعام والصيام مخيّرا بينهما ؟ وعلى المفطر أن يأتي بالاطعام لأنّه يمحو الذنب الذي صار عليه بسبب الافطار ، بينما لا يعلم ان الصوم يمحو ذنبه أم لا ؟ .

ص: 199

إلاّ أن يقال : إنّ احتمالَ أن يرد من الشارع حكمٌ توقيفيّ في ترجيح جانب الحرمة ، ولو لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه ، كافٍ في الاحتياط والأخذ بالحرمة .

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار، أو استمر فله العدول مطلقا أو بشرط البناء على الاستمرار؟ وجوهٌ.

-------------------

( إلاّ أن يقال : إنّ ) العقل لا يتردد في أحكامه المستقلة الّتي لا ترتبط بالشرع اطلاقا ، لكنّه يتردد في احكامه غير المستقلة التي ترتبط بالشرع ، كما في دوران الأمر بين المحذورين حيث يتردد العقل بالنسبة اليه في ان الشارع هل يريد التحريم أو يريد الوجوب ؟ ومع ذلك فان العقل يحكم هنا بالامتثال قطعا اذا ترك ، ولا يحكم بالامتثال اذا فعل .

وإنّما يحكم العقل هنا على تعيين الاخذ بالترك لأجل ( احتمال أن يرد من الشارع حكمٌ توقيفي ) أي : حكم تعبدي ( في ترجيح جانب الحرمة ) على جانب الوجوب ( ولو ) كان ذلك الترجيح ( لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ، فيكون في الترك اطاعة قطعا ، بينما في الفعل لا يحرز ذلك ، وهذا الاحتمال ( كافٍ في الاحتياط والأخذ بالحرمة ) يعني : اذا احتملنا انّ اخبار الاحتياط تشمل دوران الأمر بين المحذورين أيضا كما قاله السيد ، فالعقل يحكم بتقديم الترك على الفعل من باب الاحتياط .

( ثم لو قلنا بالتخيير ) في دوران الأمر بين المحذورين لا يتعيّن الترك مقدما للحرام على الواجب ، كما قاله ذلك المستدلّ المتقدِّم ( فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار ) أوّلاً ( أو استمر ) التخيير ( فله العدول ) إمّا ( مطلقا ، أو بشرط البناء على الاستمرار ؟ وجوهٌ ) ثلاثة : ففي شرب التتن كل يوم

ص: 200

ويستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ،

-------------------

- مثلاً - اذا دار أمره بين الحرمة أو الوجوب ، لاحتمال انّه دوائه الذي يموت بدونه ، ثلاثة اقوال :

الأوّل : انّه إذا اختار الترك أوّل يوم ، لزم عليه الترك إلى الأخير ، وإذا اختار الشرب أوّل يوم لزم عليه الشرب كل يوم إلى الأخير .

الثاني : انّه مخير في كل يوم بأن يترك أو يشرب .

الثالث : انّه إذا فعل أو ترك في أول يوم ، فان كان بانيا على الاستمرار في ذلك الترك أو الفعل الذي اختاره أوّلاً ، أو لم يبن على شيء جاز له العدول ، لانه لم يتعمَّد المخالفة القطعية من الأوّل ، ولا مؤاخذة على المخالفة القطعية الحاصلة فيما بعد ، وان كان بانيا على العدول من الأوّل ، لم يجز له العدول ، لانه قد تعمّد المخالفة القطعية من الأوّل وهو غير جائز ، فعليه الاستمرار على ما بدء به أوّلاً من فعل أو ترك .

( ويستدل للأوّل ) : وهو كون التخيير ابتدائيا ، فلا يجوز له العدول باُمور :

أولاً : ( بقاعدة الاحتياط ) في باب الشك في المكلّف به ، وذلك لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّه يحتمل أن يكون اللازم عليه أن يستمر فيما اختاره أولاً ، ويحتمل أن يكون مخيرا بين الفعل والترك ، فاذا دار الأمر بين التعيين والتخيير كانت قاعدة الاحتياط مع التعيين .

( و ) ثانيا : ( استصحاب الحكم المختار ) فانّه لما اختار أحد الأمرين وشك في المرة الثانية : بانّه هل يجوز له خلاف ما اختاره أوّلاً أم لا ؟ كان مقتضى

ص: 201

واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر .

ويضعّف الأخير بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ،

-------------------

القاعدة : استصحاب ما اختاره أولاً فلا يجوز له العدول .

( و ) ثالثا : ( استلزام العدول للمخالفة القطعيّة ) العملية ، لوضوح : انّه إذا شرب مرة وترك مرة علم بأنه قد خالف الواقع ، بينما إذا استمر على حالة واحدة لم يعلم بانّه خالف الواقع ، والعقلاء يرون انّ المخالفة الاحتمالية مقدَّمة على المخالفة القطعية ( المانعة ) تلك المخالفة القطعية ( عن الرّجوع إلى الاباحة من أوّل الأمر ) فانّه لما كان في التخيير مخالفة قطعية لم نقل بالاباحة من أوّل الأمر ، ولولا هذا المحذور وهو المخالفة القطعية لقلنا بالاباحة من أوّل الأمر ، بمعنى : انّه مخير بين هذا وذاك فيما دار الأمر فيه بين المحذورين .

وعليه : فكما ان محذور المخالفة القطعية يمنع من الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر ، كذلك يمنع هذا المحذور عن استمرار التخيير فيما بعد ، اذ نتيجة الاباحة واستمرار التخيير واحدة ، وذلك لانّ استمرار التخيير هو عبارة أخرى عن الاباحة .

( ويضعَّف الأخير ) وهو الذي ذكرناه بقولنا : وثالثا استلزام العدول للمخالفة القطعية ( بأنّ المخالفة القطعيّة ) العملية ( في مثل ذلك ) من الأمور التدريجية ( لا دليل على حرمتها ) لانّ حرمة المخالفة العملية انّما هي في الامور الدفعية ، كما إذا علم بأن أحد الانائين نجس وفي دفعة واحدة شرب أحدهما ، وأراق الثاني .

وأمّا في الامور التدريجية التي للمكلّف مناص عن اطراف الشبهة فيها ، كما إذا

ص: 202

كما لو بدا للمجتهد في رأيه أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر من موت أو جنون أو فسق أو اختيار على القول بجوازه .

-------------------

علم ان زوجته حائض أول شهر أو وسطه فانّه يتجنبها في كلا الوقتين أما ما ليس كذلك ، مثل : ما نحن فيه من الدوران بين الفعل والترك حيث لا مناص من احدهما فلا دليل على الحرمة من عقل أو نقل ، بل ربّما كانت المخالفة القطعية أولى ، لأنّ فيها موافقة قطعية أيضا ، بخلاف المخالفة الاحتمالية ، ولذا ينصّف درهم الودعي المحتمل كونه لزيد أو لعمرو ، مع انّه مخالفة قطعية في نصف الدرهم ، وهذا يقدمه الشرع والعقل على اعطاء الدرهم لأحدهما مع انّ فيه موافقة احتمالية .

إذن : فالمقام هو ( كما لو بدا ) أي : ظهر الخلاف ( للمجتهد في رأيه ) السابق ، فعدل عنه إلى حكم جديد ، كما اذا كان يرى سابقا وجوب الجمعة ثم رأى حرمتها ( أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر : من موت ، أو جنون ، أو فسق ، أو اختيار ) فيما إذا قلنا بأنّ عدول المقلد عن مجتهد إلى مجتهد آخر اختيارا جائز شرعا ، ولهذا قال المصنِّف : ( على القول بجوازه ) اي : جواز العدول اختيارا .

وعليه : فان في هاتين الصورتين يحصل للمجتهد في تبدل رأيه ، وللمقلّد في تبدل مجتهده ، أو تبدل رأي مجتهده مخالفة قطعية ، لأنّ صلاة الجمعة اما واجبة واقعا ، أو محرمة واقعا ، فاذا عمل مدة بالوجوب ومدة بالحرمة ، فقد علم بالنتيجة انّه خالف الواقع قطعا ، لكن مع ذلك افتى الفقهاء بوجوب العمل بالرأي الجديد وان لزم منه المخالفة القطعية ولا يجوّزون له ان يبقى على الرأي الأوّل ، فما يقال في الجواب عن هاتين الصورتين نقوله في الجواب عمّا نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين إذا قلنا فيه بالتخيير الاستمراري .

ص: 203

ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه .

ويضعّف قاعدة الاحتياط بما تقدّم من أنّ حكم العقل بالتخيير عقليٌّ لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط .

-------------------

( ويضعَّف ) دليلهم الثاني وهو : ( الاستصحاب ) أي : استصحاب الحكم الذي اختاره أوّلاً وعمل به ( بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه ) فانّ الاستصحاب الثاني لحكومته على الاستصحاب الأوّل يقدّم على الاستصحاب الأوّل ، كما قرر في كل استصحابين أحدهما حاكم والآخر محكوم ، وذلك لأنّ الشك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولاً وعدم وجوب البقاء عليه مسبب عن الشك في استمرار التخيير وعدمه ، فاذا جرى استصحاب استمرار التخيير ، لم يبق شك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولاً وعدم وجوبه ، لأنّ استصحاب التخيير سببي واستصحاب البقاء على الحكم الأوّل مسببي ، والاستصحاب السببي مقدَّم على الاستصحاب المسببي .

( ويضعّف ) دليلهم الأوّل وهو : ( قاعدة الاحتياط ) حيث ذكرنا : ان مقتضى الاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين ، فاذا بقي على الحكم الأوّل كان عاملاً بالتعيين ، وإذا رجع إلى حكم ثان كان عاملاً بالتخيير ، وكلّما دار الأمر بين التعيين والتخيير يقدَّم التعيين على التخيير ، فانه يضعّف ( بما تقدّم : من انّ حكم العقل بالتخيير ) انّما هو ( عقليّ ) لا شرعي ، والحكم العقلي ( لا احتمال فيه ) بين التعيين والتخيير ( حتى يجري فيه الاحتياط ) فانّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير انّما يكون في الأحكام الشرعية التوقيفية لا في الأحكام

ص: 204

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ، إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني .

فالأقوى هو التخيير الاستمراريّ ، لا للاستصحاب ، بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزّمان الأوّل .

-------------------

العقلية ، لأنّ العقل لا يتردد بين التعيين والتخيير ، وانّما يحكم جزما بالتعيين أو بالتخيير . ( و ) بعد الذي ذكرناه : من انّ العقل يرى التخيير في أمثال المقام ، لا حاجة إلى أن يقال باجراء استصحاب التخيير ، لأنّه انّما يجري استصحاب التخيير فيما إذا شك في التخيير وعدمه في الآن الثاني ، ونحن لا نشك في التخيير بعد أن العقل قاطعٌ بالتخيير في أمثال المقام .

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( من ذلك ) أي : من عدم الترديد في حكم العقل حتى يحتاج الرجوع فيه إلى الاستصحاب أو نحوه ( يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ) لاثبات استمرار التخيير في الآن الثاني والثالث وهكذا ( إذ لا إهمال في حكم العقل حتى يشك في بقائه في الزّمان الثاني ) والثالث ونحوه فنحتاج إلى استصحاب التخيير .

نعم ، لو قلنا بأنّ التخيير مستفاد من الأخبار وشككنا في الآن الثاني في انّ الاخبار هل تفيد التخيير ام لا ؟ نستصحب التخيير .

إذن : ( فالأقوى ) في صورة دوران الأمر بين المحذورين وتعدد الواقعة في الأزمنة المختلفة ( هو التخيير ) العقلي ( الاستمراري ) وقلنا انّه استمراري ( لا للاستصحاب ) أي : استصحاب التخيير على ما عرفت من انّه ليس هنا مجال الاستصحاب ( بل لحكم العقل في الزّمان الثاني ) والثالث والرابع وهكذا ( كما حكم به في الزّمان الأوّل ) لأنّه لا دليل على انّه إذا أخذ بأحد الحكمين

ص: 205

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ، أمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ،

-------------------

في الآن الأوّل أن يكون ملزما بالأخذ به في الآن الثاني والثالث وهكذا .

هذا تمام الكلام فيمن قال بالتعيين وفيمن قال بالتخيير مطلقا ، أما من قال بالتفصيل الذي أشار إليه المصنِّف سابقا بقوله : أو بشرط البناء على الاستمرار ، فقد استدل له - كما عرفت - بدليل ضعيف ، ولذا لم يتعرّض له ولجوابه المصنِّف ، اذ في دليلهم ذلك ما لا يخفى ، فانّ المخالفة التدريجية مع الالتزام في كل واقعة بأحد الحكمين الذي هو الحكم الواقعي عند اللّه لا دليل على حرمتها ، تعمّد بها من الأوّل أو لم يتعمدها ، بل قد عرفت : انّ المخالفة القطعية عند العقلاء أولى من المخالفة الاحتمالية كما في مسألة « درهمي الودعي » وغيرها ممّا ذكر في الفقه .

( المسألة الثانية ) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين ، فقد كانت المسألة الأولى في دوران الأمر بين المحذورين من جهة فقد النص ، وهذه المسألة فيما ( إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ) بأن كان الحكم مجملاً ، أو الموضوع مجملاً ، بحيث يسري إلى الحكم ؛ لوضوح : انّه إذا كان الموضوع مجملاً سرى إجماله إلى الحكم ، ولذا قال المصنِّف :

( أمّا حكما : كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ) كما في قوله سبحانه : « إعمَلُوا مَاشِئتُمُ » (1) فهل هو أمرٌ بالسعة وانّ لكل انسان أن يعمل ما يشاء ، أو تهديد بانّه لا يجوز له أن يعمل ما يشاء وانّما عليه ان يتقيّد بحدود الشرع ؟ .

ص: 206


1- - سورة فصلت : الآية 40 .

أو موضوعا ، كما لو أمربالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة .

المسألة الثالثة

لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة ، فالحكم هنا التخيير ،

-------------------

( أو موضوعا كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ) بأن قال - مثلاً - : تحرَّز من رغبة النكاح ، فانّ الرغبة اذا عدّيت بكلمة « في » كان معناها ان ينكح ويفيد الوجوب ، وإذا عدّيت بكلمة « عن » كان معناها أن لا ينكح ويفيد التحريم ، وكما إذا قال : « لا تُطلِّق في القُرء » ، ولم يعلم هل المراد : الحيض أو الطهر ، لأنّ اللفظ مشترك بينهما ؟ ( فالحكم فيه كما في المسألة السابقة ) أي : مسألة دوران الأمر بين المحذورين من الوجوب والحرمة لفقد النص ، حيث ذكرنا هناك : انّ الحكم هو : التخيير ابتداءا واستمرارا ، وهنا أيضا كذلك ، لأنّ الأدلة التي ذكرناها هناك تجري هنا أيضا .

( المسألة الثالثة ) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين : ( لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة ) كما إذا وردت رواية تقول : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) ورواية تقول : « لا بَأسَ بِبَيعِ العَذَرَةِ » (2) ( فالحكم هنا التخيير ) إذا لم يكن هناك مرجح لأحد الطرفين .

ص: 207


1- - وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 ، تهديب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

لاطلاق أدلته وخصوص بعض منها الوارد في خبرين ، أحدهما أمر ، والآخر نهي ، خلافاً للعلاّمة رحمه اللّه ،

-------------------

وإنّما يكون الحكم هو التخيير هنا ( لاطلاق أدلته ) أي : أدلة التخيير ، مثل قوله عليه السلام : « إذَن فَتَخَيَّر » (1) فانّ هذا الدليل يشمل صورة تعارض الخبرين ممّا يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب ، أو يدل أحدهما على التحريم والآخر على الكراهة ، أو يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة .

( وخصوص بعض منها ) أي : من تلك الأدلة العلاجية ( الوارد ) ذلك البعض (في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي) أي : ورد فيما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، كما في خبر سماعة بن مهران حيث قال: « قُلت لابي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه ...» (2) فانّ هذا صريح وظاهر في كون احد المحتملين هو الوجوب ، والمحتمل الآخر هو الحرمة.

وعليه : فيدل هذا البعض على ما نحن فيه بالظهور ، لا بالاطلاق الذي ذكرناه في بعض آخر من الاخبار العلاجية كما في خبر زُرارَة ، فانّ من الاخبار العلاجية المطلقة ، ما رواه زُرارَة عَن أبي جَعفر عليه السلام : حيث قال : « فقلتُ لَهُ جُعِلتُ فِداكَ يَأتِي عَنكُم الخَبرانِ وَالحَديثان المُتَعارِضانِ فَبأيِّهما آخذ ؟ الى ان يقول في آخره : فكيفَ أصنعُ ؟ فَقالَ عليه السلام : إذَن فَتَخَيَّر أحَدَهُمَا ...» (3) .

وعليه : فانّا نقول : بأنّ الحكم هنا هو التخيير وذلك ( خلافا للعلاّمة رحمه اللّه

ص: 208


1- - بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

في النهاية وشارح المختصر والآمديّ ، مرجحاً لما ذكرنا سابقاً ولما هو أضعف منه .

وفي كون التخيير هنا بدوياً أو إستمرارّياً ، مطلقاً أو

-------------------

في النهاية ، وشارح المختصر ، والآمدِيّ ، مرجّحا ) كل واحد من هؤلاء ( مادل على النهي ) على غيره ، فلم يقولوا بالتخيير - كما قلنا به - وانّما قالوا بالتعيين لجانب الترك ، ولا يخفى : انّه بلاغيا يجوز ارجاع المفرد إلى الجمع وذلك باعتبار كل واحد ، مثل قوله سبحانه : « والملائكةُ بَعدَ ذلك ظَهيرٌ » (1) .

وانّما رجح هؤلاء جانب الترك ( لما ذكرنا سابقا ) من الوجوه الخمسة التي استدل بها جمع لترجيح جانب النهي على جانب الأمر ( ولما هو أضعف منه ) أي : ممّا ذكرناه من الوجوه المتقدِّمة وذلك باقامة دليل سادس على ترجيح النهي على الأمر ، وهو : انّ دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر ، لأنّ النهي دال على انتفاء جميع الأفراد ، بينما الأمر يقتضي إيجاد فرد واحد ، فيكون النهي في مدلوله أقوى من الأمر في مدلوله فيقدّم .

لكنّك قد عرفت سابقا : ضعف الوجوه الخمسة ، وأمّا الوجه السادس هذا ، فهو أضعف من تلك الوجوه ، وذلك لأنّ كلاً من الأمر والنهي يمكن أن يكون متعلقه فردا ، ويمكن أن يكون متعلقة أفرادا ، وانّما يعرف خلاف ذلك بالقرائن فلا يكون هذا وجه اقوائية النهي .

( و ) لكن بناءا على ما اخترناه من التخيير هنا في باب دوران الأمر بين المحذورين لتعارض النصين - كما اخترناه في فقد النص واجماله - فالكلام ( في كون التخيير هنا ) هل يكون كما كان هناك ( بدويا ، أو استمراريّا مطلقا ، أو )

ص: 209


1- - سورة التحريم : الآية 4 .

مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت ، إلاّ أنه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار .

ويشكل بأنها مسوقه لبيان حكم المتحيّر في اوّل الأمر ، فلا تعرّضَ لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما .

نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ، حيث أنه

-------------------

استمراريا ( مع البناء من أول الأمر على الاستمرار ، وجوهٌ ) ثلاثة قد ( تقدَّمت ) ومقتضى القاعدة فيها : استمرارية التخيير .

( الاّ انّه قد يتمسّك هنا ) في باب دوران الأمر بين المحذورين من جهة تعارض النصين ( للاستمرار ) أي : استمرار التخيير ( باطلاق الأخبار ) العلاجية ، بينما في السابق استدللنا على استمرار التخيير بحكم العقل .

( ويشكل ) هذا التمسك للاستمرار ( بأنّها ) أي : الاخبار العلاجية مجملة من هذه الجهة فليست مطلقة حتى تشمل الابتداء والاستمرار ، وحيث كانت مجملة فانّ القدر المتيقن منها هو : التخيير الابتدائي لا الاستمراري ، لأنها ( مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أول الأمر ) فاذا أخذ المتحير بأحد الطرفين زال تحيره ، فلا يبقى موضوع للأخبار العلاجية في الآن الثاني حتى يتمسك بها .

وعليه : ( فلا تعرّض لها ) أي : لهذه الأخبار العلاجية ( لحكمه ) أي : لحكم المتحير من جهة تعارض النصين ( بعد الأخذ بأحدهما ) أي : بعد ان اختار احد الطرفين من الوجوب أو الحرمة .

( نعم ، يمكن هنا ) في باب الدوران بين المحذورين لتعارض الادلة ( استصحاب التخيير ) فقد كان في أوّل الأمر مخيرا بين الأمر والنهي ، فاذا شك في الآن الثاني هل انّه باقٍ على تخييره ام لا ؟ يستصحب التخيير ( حيث انّه ) أي :

ص: 210

ثبت بحكم الشرع القابل للاستمرار ، إلاّ أن يدّعى انّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمل .

-------------------

التخيير قد ( ثبت بحكم الشرع القابل ) ذلك التخيير ( للاستمرار ) في الآنات الأُخر .

( إلاّ أن يدّعى انّ موضوع المستصحب ) اي التخيير ، اذ الاستصحاب يحتاج إلى موضوع وهو الشاك فيقال : الشاك في بقاء التخيير ، يستصحب التخيير ، فالشاك هو موضوع الاستصحاب ( أو ) يدّعى انّ ( المتيقّن من موضوعه ) اي : موضوع المستصحب هنا ( هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما ) أي : أحد الطرفين من الوجوب أو التحريم ( لا تحيّر ) فينتفي الاستصحاب لانتفاء موضوعه ، اذ من الواضح ان بقاء الموضوع شرطٌ لجريان الاستصحاب ، وموضوع التخيير في الأخبار : اما هو الشاك ، أو المتحيّر ، والمتيقن منه هنا هو المتحير ، وبعد اختيار أحد الحكمين من الوجوب أو التحريم ينتفي التحير ، فاذا انتفى التحيّر فلا موضوع للاستصحاب فلا يمكن الاستصحاب .

( فتأمّل ) فانّه لا معنى لعدم جريان الاستصحاب في المقام ، إذ التحير ليس الاّ عدم العلم بالحكم فهو عبارة اخرى عن الشك ، فالشاك هو المتحير ، ومن المعلوم : إنّ عدم العلم بالحكم باقٍ حتى بعد الأخذ بأحد الطرفين ، فلا وجه لعدم جريان الاستصحاب ، خصوصا مع قوله عليه السلام : « بأيهِما أخَذتَ مِن بَابِ التَسليم وَسِعَكَ » (1) فانّه بعد الآن الأوّل يكون الأخذ بهذا أو بذاك من باب التسليم فكأنّه علّة للأخذ ؛ وهذه العلة كما هي موجودة في أوّل الأزمنة ، موجودة ايضا في

ص: 211


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

وسيتضح هذا في بحث الاستصحاب ، وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار ، لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني .

المسألة الرابعة

لو دار الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ، وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطيُها بالأصالة

-------------------

الأزمنة المتأخرة ( وسيتضح هذا ) البحث من ان التخيير ابتدائي أو استمراري ( في بحث الاستصحاب ) انشاء اللّه تعالى .

( وعليه : ) أي : بناءا على عدم بقاء موضوع التخيير وهو المتحير ( فاللاّزم الاستمرار على ما اختار ) من الفعل أو الترك اولاً ، فاذا اختار الوجوب بقي على الوجوب والفعل ، واذا اختار الحرمة بقي على الحرمة والترك ( لعدم ثبوت التخيير في الزّمان الثاني ) بل لا موضوع للتخيير - حسب الفرض - حتى يستصحب التخيير .

( المسألة الرابعة : لو دار الأمر بين الوجوب و ) بين ( الحرمة ، من جهة اشتباه الموضوع ) لا من جهة اشتباه الحكم ، لأنّه يعلم الحكم - مثلاً - لكنّه لا يعلم بأن هذا الموضوع داخل في هذا الحكم أو في ذاك الحكم .

( وقد مثّل بعضهم له : باشتباه الحليلة الواجب وطيُها بالأصالة ) لأنّ المشهور بين الفقهاء انّه يجب وطي الزوجة في كل أربعة أشهر مرة ، لكنّا أشكلنا في ذلك وقلنا : انّ مقتضى القاعدة : وجوب الوطي حسب ما تقتضيه المعاشرة بالمعروف ، لقوله سبحانه : « وَعَاشِروهُنَّ بِالمَعروفِ » (1) وقوله سبحانه : « فَامساك بِمَعروفٍ

ص: 212


1- - سورة النساء : الآية 19 .

أو لعارض من نذر أو غيره بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر .

ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطي ، لاصالة عدم الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وجوب الوطي .

-------------------

أو تَسرِيحٌ باحسانٍ » (1) على تفصيل ذكرناه في الفقه (2) ( أو ) الواجب وطيها ( لعارض من نذر أو غيره ) كالعهد واليمين ، فاذا اشتبهت ( بالأجنبيّة ) فانّه يدور الأمر في وطي هذه المرأة بين الوجوب والتحريم .

( و ) مثّل له ( بالخَلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر ) حيث لايعلم انّه خَلّ محلوف على شربه فيجب شربه ، أو خمر فيحرم شربه .

( ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو : تحريم الوطي ) وذلك للأصل الموضوعي هنا المقّدم على الحكمي ، وهو ماذكره المصنّف بقوله ( لاصالة عدم الزوجيّة بينهما ) فانها لم تكن في الأوّل زوجة قطعاً ، والآن نشك في أنها صارت زوجة ام لا ، نستصحب عدم الزوجية فينتفي موضوع الزوجية ، وإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم .

( وأصالة عدم وجوب الوطي ) أي نجري الاستصحاب الحكمي لو فرضنا عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ، وذلك لتوارد الحالات المختلفة - مثلا - على الموضوع ، بأن كانت أجنبية ، ثم صارت زوجة ،ثم خرجت عن الزوجية وهكذا ، حيث لايعلم الآن الحالة السابقة وانّها هل هيالزوجية حتى يستصحبها ، أو عدمها حتى يستصحبه ، كما ذكروا مثل ذلك في باب توارد حالات الطهارة

ص: 213


1- - سورة البقرة : الآية 229 .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ح62 - 68 كتاب النكاح للشارح .

وعلى الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، جمعا بين أصالتي : الاباحة وعدم الحلف على شربه .

والأولى فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة

-------------------

والحدث لمن شك فيهما وهو لايعلم السابق على الشك ، فانّه لايتمكن أن يستصحب الطهارة ولا الحدث .

( و ) يرد ( على الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ) أيضا ، ( جمعا بين أصالتي : الاباحة ) الدالة على عدم حرمة الشرب وهو أصل حكمي ( وعدم الحلف على شربه ) الدال على عدم وجوب الشرب وهو اصل موضوعي ، فانّ الجمع بين هذين الأصلين ينتج : الحكم بعدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، لانّ الاصل الموضوعي ينفي الوجوب ، والأصل الحكمي ينفي الحرمة .

هذا ، لكن لايخفى : انّه يمكن تصحيح المثالين على ماذكره ذلك البعض حتى لا يرد عليهما ايراد المصنِّف غير أن المثال ليس بمهم ، ولذا قال المصنِّف : ( والأولى : ) وهذه الكلمة قدتأتي بمعنى الأفضل وقد تأتي بمعنى التعيّن مثل قوله سبحانه : « أولى لك فأولى * ثمّ أولى لك فأولى » (1) حيث المراد منه : التعين هنا .

إذن : فالاولى : ( فرض المثال فيما إذا وجب اكرام العدول وحرم اكرام الفساق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة ) ولم يكن له علم بحالته السابقة حتى يجري الاستصحاب ، كما اذا قال المولى : اكرم العدول من العلماء ، وقال ايضا لاتكرم الفساق من العلماء ، وكان هناك عالم لانعلم هل انّه من العدول حتى يجب

ص: 214


1- - سورة القيامه : الآيات 34 - 35 .

والحكم فيه ، كما في المسألة الأولى من عدم وجوب الاخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ، إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه السلام ، اذ ليس الاشتباه

في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه السلام .

-------------------

اكرامه ، أو من الفساق حتى يحرم اكرامه ؟ فانّ في المقام شبهة موضوعية مردده بين محذورين .

( والحكم ) هنا ( فيه ) أي : فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة لاجل اشتباه الموضوع هو ( كما في المسألة الاولى : من عدم وجوب الأخذ بأحدهما ) على التعيين بل الحكم فيه هو التخيير ( في الظاهر ) إذ لا دليل على هذا معيّنا ولا على ذاك .

هذا ، مع وحدة الواقعة ، أما لو كانت الواقعة متعددة . كما لو نذر بالنسبة الى زوجته نذرا لم يعلم انّه هل نذر وطيها كل ليلة جمعة ، أو نذر عدم وطيها كل ليلة جمعة ؟ فانّ الواقعة متعددة ، وهنا يأتي ما كان هناك من الاحتمالات السابقة من كون التخيير ابتدائيا ، أو استمراريا ، أو يلزم التفصيل مّما قد تقدّم بيانه في المسألة السابقة .

( بل هنا ) في المسألة الرابعة التخيير وعدم الأخذ بأحد الطرفين من الوجوب والتحريم على التعيين ( أولى ) من التخيير في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة لتعارض الأدلة ( إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه السلام ) كما كان هناك ( إذ ) الاشتباه هنا انّما هو في الاُمور الخارجية ، و ( ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه السلام ) فلا يلزم من عدم الالتزام بوجوب اكرام زيد ، أو حرمة اكرام زيد ، طرح وجوب اكرام العدول أوطرح تحريم اكرام الفساق الذي أمر به المولى في قوله : « أكرم العدول من العلماء » وقوله : « لاتكرم الفساق منهم » .

ص: 215

وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالاً ، مع انّ مخالفة المعلوم اجمالاً في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية .

-------------------

وعليه : فاذا جاز التخيير في تعارض الأدلة والحال انّ في التخيير هناك طرح لقول الإمام عليه السلام ، جاز التخيير في الشبهات الموضوعية التي ليس فيها طرح لقول الإمام بطريق أولى .

هذا ( وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالاً ) اذ المخالفة احتمالية لفرض وحدة الواقعة ( مع انّ مخالفة المعلوم اجمالاً في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية ) وهي جائزة ، فكيف بما لم يكن فيه الاّ مخالفة احتمالية ؟ فجوازه بطريق أولى .

والحاصل : انّه لو اكرمنا زيدا أو لم نكرمه في مثال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم لايكون في عملنا هذا الاّ مخالفة احتمالية ، والحال انّ المخالفة القطعية للعلم الاجمالي فيالشبهات الموضوعية كثيرة وجائزة ، فالمخالفة الاحتمالية تكون جائزة بطريق أولى ، وذلك مثل : الوصية حين الاختلاف عليها ، فأنها تنفد بمقدار الربع مع شهادة امرأة واحدة ، وبمقدار النصف مع شهادة امرأتين ، وهكذا ، مع العلم بأنّ في هذه مخالفة عملية قطعيّة ، فانّ الوصية اذا ثبتت ، فاللازم تنفيذ الكل ، وإذا لم تثبت ، فاللازم عدم تنفيذ شئ منها .

ومثل : جواز الاقتداء لكل من واجدي المني بصلاة الآخر حيث يعلم المأموم اجمالاً ببطلان صلاته أو بطلان صلاة إمامه .

ومثل : اعتراف الشخص بالسرقة مرة واحدة حيث لا تقطع يده مع انّه يؤذ منه المال ، فهو مخالفة قطعية ، إذ لو كان سارقا لزم قطع يده وأخذ المال منه ، ولو لم يكن سارقا لزم عدم قطع يده وعدم أخذ المال منه .

ص: 216

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

-------------------

ومثل : طهارة البدن وبقاء الحدث عند التوضوء غفلة بأحد الانائين المشتبه بالنجس ، حيث انّه ان كان بالنجس فقد تنجس بدنه ولا وضوء عنده ، وان كان بالطاهر فقد أصبح على وضوء ، وبدنه طاهر أيضا .

ومثل الاقرار بالعين مرة لهذا ومرة لذاك ، حيث يقول الفقهاء : بانّه يجب عليه أن يعطي العين للأول والقيمة للثاني ، مع انّه خلاف المعلوم اجمالاً ، اذ لو كان اقراره الثاني صحيحا وجب اعطائه العين لا القيمة ، وإن كان باطلاً فلا وجه لاعطائه القيمة .

ومثل وجوب النفقة وحرمة الوطي لمن ادعى زوجية امرأة وانكرت هي ، وكذا اذا ادعت امرأة زوجيتها لرجل وأنكر هو ، فانّه يحرم عليها التزوج لمكان اقرارها ولا نفقة لها عليه ، لأنّ اقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، لا لأنفسم مع انه نعلم اجمالاً ببطلان أحد الأمرين .

ومثل ان يدّعي أحد السيادة مع عدم الثبوت شرعا ، حيث لايعطى من سهم السادة ولا من الزّكاة .

ومثل درهمي الودعي حيث ينصَّف الدرهم الباقي بينهما ، مع انّه إما لهذا أو لذاك .

ومثل : إدعاء شخصين شيئا واحدا حيث ينصَّف في صورة اقامة كل منهما البينة على مدّعاه ، أو الحلف منهما على مدّعاهما مع انّ التنصيف مقطوع العدم ، حيث انّ الشيء المدعى إمّا هو لهذا أو لذاك ، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة .

( هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

ص: 217

الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما .

وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا .

وملخّصه : إنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث .

-------------------

الحرمة ، وعكسه ) وهو : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ( ودوران الأمر بينهما ) أي بين الحرمة والوجوب . ( وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا ) في دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، أوبين الحرمة وغير الوجوب ، أو بين الحرمة والوجوب ، لأن الأدلة هنا كالأدلة هناك .

( وملخّصه : أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين ) فانّ الدوران بين الاستحباب والاباحة هو نظير الشبهة الوجوبية ، والدوران بين الكراهة والاباحة هو نظير الشبهة التحريمية ( ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث ) من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة .

وعليه : فلو دار الأمر بين الاستحباب والاباحة نقول بالاستحباب رجاءا ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الاستحباب ، كما كنا نقول في الدوران بين الوجوب والاباحة بعدم الدليل على الوجوب وان كنا نقول بالاحتياط الاستحبابي هناك .

ولو دار الأمر بين الكراهة والاباحة نقول بالترك رجاءا ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الكراهة ، كما كنا نقوله في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة .

ص: 218

ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلاّ أنّ أجراء أدلة البرائة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلاً وتركا ، قد يستشكل فيه ، لأنّ ظاهر تلك الادلة نفي المؤاخذة والعقاب والمفروض انتفاؤهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر .

-------------------

ولو دار الامر بين الاستحباب والكراهة نقول بالتخيير كما كنا نقول به في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وان كان لقائل أن يقول هنا بتقديم الكراهة ، كما كان يقول بعض هناك بتقديم التحريم ، وقد كنّا أشرنا إلى هذا المبحث في باب التسامح في أدلة السنن أيضا .

هذا ، ( ولا إشكال في أصل هذا الحكم ) بمعنى : انّه لا حرج في نفي الاستحباب والكراهة بأدلة البرائة للشاك بين الاستحباب والاباحة ، أو بين الكراهة والاباحة ، أو بين الاستحباب والكراهة أو التخيير فيها ، كما قلنا سابقا : انّه لاحرج في ذلك على الشاك بين الوجوب وعدمه ، وبين الحرمة وعدمها ، وبين الوجوب والحرمة .

( إلاّ أنّ إجراء أدلة البرائة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلاً وتركا ، قد يستشكل فيه ) فلا يصح أن يكون دليل اللاحرج الذي ذكرناه هناك وهو أدلة البرائة ان يكون هنا دليل اللاحرج أيضا ، بل اللاحرج هنا انّما هو من جهة عدم الالزام في الاستحباب أو في الكراهة ، وذلك : ( لأنّ ظاهر تلك الادلة ) اي : أدلة البرائة هي : ( نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفاؤما ) اي : انتفاء المؤاخذة والعقاب هنا ( في غير الواجب والحرام ) .

( فتدبّر ) ولعله اشارة الى انّ أدلة البرائة شاملة هنا للاستحباب والكراهة أيضا

ص: 219

الموضع الثاني: في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

اشارة

ومطالبه أيضا ثلاثة :

-------------------

مثل قوله عليه السلام : « كلُّ شيء مطلقٌ حتّى يَرِدَ فيه نهيٌ » (1) حيث انّ النهي التنزيهي كالنهي التحريمي مرفوع ، فلا كراهة كما لا حرمة ، وهكذا أدلة البرائة بالنسبة إلى رفع الاستحباب كأدلة البرائة بالنسبة إلى رفع الوجوب .

هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل من مباحث البرائة وهو الشك في التكليف .

الموضع الثاني

في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

( الموضع الثاني في الشك فى المكلّف به مع العلم بنوع التكليف ) فانّ الانسان قد يشك في انّه هل عليه تكليف من وجوب أو حرمة أم لا ؟ كما لو شك بانّ شرب التتن حرام أم لا ؟ أو الدعاء عند رؤة الهلال واجب أم لا ؟ .

وقد يعلم بالحرمة والوجوب وانمّا يشك في المكلّف به كما قال : ( بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب ) وذلك كما اذا علمنا بوجود الخمر في أحد الانائين ولم نعلم بأنّ الخمر في هذا الاناء أو في ذاك الاناء ، أو علم بوجوب وطي احدى زوجتيه هند أو دعد ، لكن لم يعلم بأنّ هند على رأس أربعة أشهر أو دَعَد ؟ .

( ومطالبه أيضا ثلاثة ) : أي : كما أنّ الشك في التكليف كانت مطالبهُ ثلاثة ،

ص: 220


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب22 ح33530 .
المطلب الأوّل: دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع :
المسألة الأولى
اشارة

لو علم التحريم وشك في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي .

وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعّية هنا ، لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة .

-------------------

كذلك تكون مطالب الشك في المكلّف به وهي عبارة عن : الشك بين الحرام وغير الواجب ، والشك بين الواجب وغير الحرام ، والشك بين الواجب والحرام .

( المطلب الأوّل ) في ( دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع ) لأنّ منشأ الشك قد يكون فقد النصّ ، وقد يكون إجماله ، وقد يكون تعارضه ، وقد يكون اشتباهه للأمور الخارجية .

( المسألة الاولى : لو علم التّحريم وشكّ فيالحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي ) كما اذا علم انّ احدى هاتين المرأتين اخته من الرضاعة حيث يحرم عليه نكاحها ، وسبب الاشتباه ليس اجمال النصّ ، أو فقده ، أو تعارض النصين ، وانّما سببه الأمور الخارجية ، لأنّه لايعلم انّ أمه أرضعت هذه أو تلك .

( وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعّية هنا ) في الشك فيالمكلّف به ، بخلاف الشك في التكليف حيث قدّمنا فيه الشبهة الحكمية ( لاشتهار عنوانها ) أي : عنوان الشبهة الموضوعية ( في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة ) حيث انها في الشبهة في المكلّف به ليست مشهورة عندهم ، وقد ذكرها المصنّف في آخر هذا المبحث مجملاً .

ص: 221

ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة ، ويسمى بالشبهة المحصورة وإمّا مشتبه في أمور غير محصورة .

أما الأوّل : فالكلام فيه يقع في مقامين :

أحدُهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور ، وطرح العلم الاجمالي وعدمه ، وبعبارة أُخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وعدمها .

-------------------

( ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة ) كما لو دار أمر الرضيعة بين أمرأتين أو بين عشرين امرأة - مثلاً - ( ويسمّى بالشبهة المحصورة ) اصطلاحا .

( وإمّا مشتبه فيأمور غير محصورة ) لكثرة الأطراف ، كما اذا علم بأن احدى بنات هذا البلد الكبير رضعت معه من أمه فصارت أخته من الرضاعة ، لكنّها غير محصورة لانتشار الاحتمال في مئات النساء .

( أما الأوّل ) : وهو الشبهة المحصورة ( فالكلام فيه يقع في مقامين ) على ما يلي :

( أحدُهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور وطرح العلم الاجمالي ) رأسا ، فكأنّه لا علم اجمالي له أصلاً ، كما اذا انحصرت الرضيعة بين اربع ، فانّه يتمكن من التزويج بكل الأربع ( وعدمه ) اي : انّه لا يجوز له طرح العلم الاجمالي رأسا ( وبعبارة أخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم ) اجمالاً ( وعدمها ) بمعنى عدم حرمة المخالفة القطعية ، فيجوز له المخالفة القطعية .

ص: 222

الثاني :

وجوبُ اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اُخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه .

أمّا المقام الأوّل :

فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعضٍ جوازها .

-------------------

( الثاني : وجوبُ اجتناب الكلّ وعدمه ) فاذا قلنا بوجوب اجتناب الكل لايجوز له التزويج بأي من الأربع ، وإذا قلنا بعدم وجوب اجتناب الكل جاز له التزويج ببعض الأربع لا بكلهنّ ( وبعبارة اُخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه ) أي : عدم وجوب الموافقة القطعية .

والحاصل : هل يجب الاحتياط في جميع الاطراف ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية بالاجتناب عن بعض الاطراف ، وقد تبين أن النتيجة لهذين المقامين ثلاثة أمور :

الأوّل : جواز التزويج بالكل .

الثاني : عدم جواز التزويج بأي من الأربع .

الثالث : جواز التزويج بالبعض دون البعض .

( أما المقام الأوّل ) وهو : جواز ارتكاب أطراف المحصورة وعدمه ( فالحق فيه عدم الجواز ) اي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور في الشبهة المحصورة ( وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعضٍ جوازها ) قال الأوثق : انّ الأقوال في المقامين أربعة :

أحدها : ما اختاره المصنِّف ، وهو المشهور بين الأصحاب .

وثانيها : جواز ارتكاب الكل ، نقله المحقق القمي رحمه اللّه عن العلامة المجلسي

ص: 223

لنا على ذلك : وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها .

أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » ، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الانائين أو أزيد .

-------------------

في أربعينه .

وثالثها : التخيير وأبقاء مايتحقق به ارتكاب الحرام ، ومال إليه المقدّس الأردبيلي ، واختاره جماعة ممّن تأخر عنه ، كصاحب المدارك والذخيرة ، والرّياض ، والقوانين ، والمناهج ، ونُسب أيضا الى الوحيد البهبهاني قدس سرهم .

ورابعها : القرعة واختاره ابن طاووس » (1) .

( لنا على ذلك : ) أي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور المحصورة ( وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها ) وحيث كان المقتضي موجودا بدون مانع أدّى أثره في عدم جواز الارتكاب .

( أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ) فانّ عمومه يشمل اطراف العلم الاجمالي ، كما يشمل المعلوم الخارجي ( فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » ، يشمل الخمر الموجود المعلوم ) تفصيلاً ، او ( المشتبه بين الأنائين أو أزيد ) فيما كانت الاطراف محصورةً ، كما يشمل الخمر المجهول أيضا ، إلاّ انّ الجهل فيه عذر ، وذلك لأنّ الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية كما سيأتي ، والمعاني الواقعية لافرق فيها من جهة علم الانسان بها اجمالاً أو تفصيلاً أو جهل الانسان بها ، لكنّه إذا كان جاهلاً بحيث ليس له حتى العلم الاجمالي يكون معذورا لرفع الجهل وعدم البيان .

ص: 224


1- - أوثق الوسائل : ص323 الشك في المكلّف به وأقسامه .

ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً ، مع أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلاً ، خرج الفرد المعلوم اجمالاً عن كونه حراما واقعيا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ، حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، فانّ الظاهر إرادتهم : الأعم من المعلوم اجمالاً .

وأمّا عدم المانع ، فلأنّ العقل لايمنع من

-------------------

( ولا وجه لتخصيصه ) أي تخصيص دليل « اجتنب عن الخمر » ( بالخمر المعلوم تفصيلاً ) فإنّ العلم والجهل لا مدخلية لهما في معاني الواقعية للألفاظ .

( مع ) أي : مضافا الى ( أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلاً ) بأنّ سلّمنا وقلنا : أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة تفصيلاً ( خرج الفرد المعلوم اجمالاً عن كونه حراما واقعيا ) لأنه يلزم حينئذ أن يكون المعلوم الاجمالي حلالاً واقعيا لخروجه عن الموضوع ، لفرض انّ الخمر موضوع للفرد المعلوم تفصيلاً ( ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ) فيقول أنّ الخمر المشتبه بين طرفين أو أطراف محصورة ممّا يكون فيه العلم الاجمالي لايكون حراما ( حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ) وضعا ، أو أنصرافا ( فإنّ الظاهر إرادتهم : ) أي : إرادة من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، هو ( الأعم من المعلوم اجمالاً ) أو تفصيلاً .

وعلى أيّ حال : فالقائل بجواز المخالفة القطعيّة إنّما يقول بالحليّة الظاهرية من جهة توهم المانع عن الحرمة عقلاً أو نقلاً ، لا أنّه يقول بذلك من جهة عدم المقتضي ، فاللازم أن نتكلّم حول أنّه هل هناك مانع عن اقتضاء المقتضي أو ليس هناك مانع عن ذلك ؟ .

( وأمّا عدم المانع ) فهو أمّا عقلاً أو شرعا ، أمّا عقلاً ( فلأنّ العقل لايمنع من )

ص: 225

التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف .

وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم السلام « كُلُّ شَيءٍ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِه » و

-------------------

تحريم الشارع المعلوم اجمالاً بسبب ( التكليف عموما ) مثل : قوله عليه السلام « ومَن أَخَذَ بالشُبُهات وَقَعَ فِي المُحرَّمات وَهَلَكَ مِن حَيثُ لايَعَلَمُ » (1) وغير ذلك من الأدلّة العامة الدالة على الاجتناب في الشبهات ، فتشمل ما نحن فيه ( أو خصوصا ) مثل قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » المعلوم تفصيلاً أو اجمالاً - مثلاً - فالعقل لايرى مانعا من أن يكلف الشارع ( بالاجتناب عن عنوان الحرام ) كالخمر - مثلاً - ( المشتبه في أمرين أو أمور ) محصورة ( والعقاب على مخالفة هذا التكليف ) .

والحاصل : انّ قاعدة « قُبحِ العِقابِ بَلا بَيان » ، لا تجري في مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لوجود البيان الاجمالي عند العقل والعقلاء .

( وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع ) فانه ليس لنا دليل شرعي على حليّة كلا المشتبهين ، أو المشتبهات في الشبهة المحصورة ، حتى يقال باعتبار العلم التفصيلي في موضوع الحرمة ( عدا ) أخبار البرائة المتقدّمة مثل : ( ما ورد من قولهم عليهم السلام « كُلُّ شَيءٍ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِه (2) » و ) قولهم عليهم السلام :

ص: 226


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 وقريب منه في نفس المصدر ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

« كُلُّ شَيءٍ فِيهِ حَلالٌ وحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى_'feتَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ » ، وغير ذلك .

بناءا على أنّ هذه الأخبار ،

-------------------

( كُلُّ شَيءٍ فِيهِ حَلالٌ وحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ (1) ) .

ولا يخفى : انّ قول المصنِّف « قولهم » انّما يراد الأعم من الفرد أو المجموع ، لانّه قد يطلق الفرد على المجموع وذلك باعتبار كل واحد واحد ، مثل : « فانظُر الى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يتَسَنَّهُ » (2) أي : كل واحد منهما ، وقد يطلق المجموع على الفرد ، وذلك باعتبار ان هذه الجماعة كلامهم ، مثل كلام هذا الفرد ، أو عمل هذا الفرد وكلامه كلام الجماعة وعملهم ، مثل قوله سبحانه : « الذين » وهو النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم « قال لهم الناس » - وهو نعيم بن مسعود الاشجعي - « : انّ الناسَ قد جَمَعوا لكُم فاخشوهم ...(3) » (4) ومثل قول أحدنا : الأطباء نصحوني بترك كذا ، أو بفعل كذا، أو المفسرون يقولون : كذا ، ويراد به فرد واحد من الأطباء ومن المفسرين .

( وغير ذلك ) من الأخبار التي تدل على حلية ما لم يعرف انه حرام ، مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (5) فان مانعيّة هذه الاخبار عن حرمة المعلوم اجمالاً في الشبهة المحصورة انّما هو ( بناءا على انّ هذه الأخبار ،

ص: 227


1- - الكافي : ج5 ص313 ح39 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 .
2- - سورة البقرة : الآية 259 .
3- - سورة آل عمران : الآية 173 .
4- - التذكرة باصول الفقه : ص33 ، كنز الفوائد : ج2 ص19 ، المناقب : ج3 ص5 ، تفسير القمّي : ج1 ص126 .
5- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 ، ج27 ص174 ب12 ح33530 .

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي وان كان محرّما في علم اللّه سبحانه ، كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي .

ويؤيّده اطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات ، مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ، فإنّ إطلاقها

-------------------

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي ) كما في الشبهة البدوية ، والشبهة غير المحصورة - على ما هو المشهور بين العلماء - ( وان كان ) ذلك المشتبه ( محرّما في علم اللّه سبحانه) واقعا ، لكن الأخبار كما دلّت على الحلية هناك ( كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي ) هناك أيضا ، لأن هذه الأخبار تدل على اشتراط العلم التفصيلي في تنجيز التكليف ، والاقسام الثلاثة الأخر : من المحصورة ، وغير المحصورة ، والبدوية ، حيث لاعلم تفصيلي فيها ، فلا يتنجّز فيها التكليف حسب هذه الاخبار.

(ويؤيّده ) أي : يؤيد لزوم العلم التفصيلي في التحريم وأن العلم الاجمالي ليس موجبا للتحريم ( اطلاق الامثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات ) الدالة على الحلية مثل : رواية مسعدة بن صدقة ، فانّ الإمام عليه السلام ذكر بعد قوله : « كُلُّ شَيءٍ هُوَ لك حَلالٌ حَتى تَعلَم أنّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (1) أمثلة لهذه الكبرى الكلية فقال : ( مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ) فانّ هذه الامثلة التي ذكرها الإمام عليه السلام دليل على انّ الاحتمال لافرق فيه بين كونه بدويا أو مقرونا بالعلم الاجمالي ( فانّ اطلاقها ) أي : اطلاق هذه الامثلة

ص: 228


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

يشمل الاشتباه مع العلم الاجمالي بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة .

ولكن هذه الاخبار وأمثالها لايصلح للمنع ، لأنها كما تدل على حليّة كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالاً ، لأنّه شيء علم حرمته .

-------------------

التي ذكرها الإمام ( يشمل الاشتباه ) البدوي والاشتباه ( مع العلم الاجمالي ) سواء كان العلم الاجمالي محصورا ، أو غير محصور .

( بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي ) بوجود سرقة تباع في السوق ، أو مملوك يباع في السوق وهو حر واقعا ، أو امرأة رضيعة للانسان في ضمن نساء الجيران والاقرباء ، وما اشبه ذلك ( لكن مع كون الشبهة غير محصورة ) ثم اذا شملت المعلوم الاجمالي غير المحصور شملت المعلوم الاجمالي المحصور أيضا ، فانه لو كان العلم لا يؤثر في غير المحصور لا يؤثر في المحصور أيضا .

(و) الجواب عن هذا ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( لكن هذه الاخبار وامثالها ) من أخبار البرائة ( لايصلح للمنع ) عن مقتضى العلم الاجمالي ( لأنها كما تدل ) بمنطوقها ( على حلية كل واحد من المشتبهين ) اذ كل واحد من المشتبهين لم يعلم حرمته ، فيكون كالمشكوك بالشبهة البدوية ( كذلك تدلّ ) بمفهومها ( على حرمة ذلك المعلوم اجمالاً ) المردد بين الأمرين ، أو الاُمور المحصورة ( لأنّه شيء علم حرمته ) .

وعليه : فاذا قلنا بشمول أخبار البرائة للشبهة المحصورة ليجوز ارتكاب كِلا المشتبهين ، لزم التعارض بين منطوق هذه الاخبار مع مفهومها ، فمنطوقها يقول : لابأس بالارتكاب لأنك لاتعلم خمرية كل واحد واحد ، ومفهومها يقول :

ص: 229

فان قلت : انّ غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الاجمالي .

قلت : أما قوله عليه السلام : « كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعينه » ، فلا

يدل على ماذكرت ،

-------------------

عليك بأس لأنك تعلم خمرا بينهما ، ولأجل أن لايقع تعارض ، يلزم تخصيص هذه الأخبار بالشبهة البدوية ، فلا تشمل الشبهة المحصورة .

( فإن قلت ) لاتعارض بين المنطوق والمفهوم في أخبار البرائة ، لأن المنطوق يقول : لابأس بارتكاب المشتبه ، والمفهوم يقول : الاّ اذا علمت به تفصيلاً ، ومن المعلوم : انه لاعلم تفصيلي في مورد العلم الاجمالي ، فلا تناقض ، إذ يكون المفهوم خاصا بالعلم التفصيلي دون العلم الاجمالي ، وذلك كما قال : ( انّ غاية الحل ) في هذه الاخبار ( معرفة الحرام بشخصه ) أي : بعينه ، لقوله عليه السلام : « حتى تعلم انه حرام بعينه » ( و ) العلم بشخص الحرام وعينه ( لم يتحقّق في المعلوم الاجمالي ) .

وعليه : فمنطوق هذه الأخبار يدل على حلية المشكوك في الشبهة البدوية ، وحلية المشكوك في الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي ، لوضوح : انتفاء العلم التفصيلي في كلا المشتبهين ، أما شمول هذه الأخبار للشبهة غير المحصورة فلا إشكال فيه ، بل ربمّا يقال : انه من الشبهة البدوية على ماسيأتي تفصيل الكلام فيه .

( قلت : أما قوله عليه السلام: «كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعينه» (1) فلا يدل على ما ذكرت ) : من انّ غاية الحل معرفة الحرام تفصيلاً ، حتى يكون

ص: 230


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .

لانّ قوله عليه السلام : « بعينه » تأكيد للضمير جى ء به للاهتمام في اعتبار العلم . كما يقال : « رأيت زيدا بعينه » ، لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية . وإلاّ فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه .

-------------------

الحرام المشتبه بين انائين حلالاً ( لانّ قوله عليه السلام : « بعينه » تأكيد للضمير ) في قوله : « انه » ، وقد ( جيء به ) أي : بهذا التأكيد هنا ( للاهتمام في إعتبار العلم ) فيكون قوله : « حتى تعلم انه حرام بعينه » بمنزلة قوله : أحدهما المعين حرام ، لا بمنزلة : احدهما حرام عين الحرام .

وعليه : فهذه الجملة تكون : ( كما يقال : رأيت زيدا بعينه ) حيث انّ قيد « بعينه » لتأكيد أنّه رأى زيدا بنفس زيد ( لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية ) حتى لايتوهم السامع انّ المتكلم رأى شخصا آخر واشتبه في انه زيد ، أو رأى ابن زيد وسمّاه زيدا من باب المبالغة لأنهّما بمنزلة شخص واحد ، إذ ربما يقول الانسان : شربت عسلاً ويريد الماء ، لأنّ الماء الحلو بمنزلة العسل فيسميه عسلاً ، لكن اذا قال : شربت عسلاً بعينه ، أفاد انّه لم يشرب الماء ويسميه عسلاً مبالغة ، وانّما شرب عسل النحل .

( وإلاّ) بأن لم يكن المعنى ما ذكرناه : من أن قوله : « بعينه » ، بمنزلة قوله: أحدهما المعين حرام ، بل قلنا : انه بمنزلة أحدهما حرام عين الحرام ، كان الكلام بعيدا عن البلاغة ( فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة ) الشيء ( نفسه ) فانّ كل شيء كان حراما فهو حرام بنفسه ، فما فائدة قوله : « بعينه » في هذه الحال ؟ .

وإن شئت قلت : لو قال أحدهما المعين حرام كان له معنى ، أما لو قال : أحدهما حرام عين الحرام ، فلا يكون له معنى .

ثم إنّ المصنّف لتوضيح ان « بعينه » في الرواية ليس قيدا للحرام ، بل هو قيد

ص: 231

فاذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الانائان ، فاناء زيد شيء علم حرمته بعينه .

نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لابعينه إذا أطلق عليه عنوان أحدهما ، فيقال : أحدهما لابعينه ، في مقابل أحدهما المعين عند القائل .

وأما قوله عليه السلام : «فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعينِهِ » فله ظهور

-------------------

للضمير في قوله :« انه » قال : ( فاذا علم نجاسة اناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الانائان ، فاناء زيد ) الذي علم حرمته ( شيء علم حرمته بعينه ) فلا حاجة الى أن يأتي بلفظ « بعينه » ، اذ بعد الاشتباه يعلم انّ اناء زيد بعينه حرام لكنّه لايعلم انّ أيهما الخارجي حرام ، فاذا كان لفظ « بعينه » لتقييد إناء زيد كان لغوا ، بخلاف ما إذا كان بمنزلة قولنا : أحدهما المعين ، إذ بعد الاشتباه لايعلم حرمة أحدهما المعين .

( نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن ) اجمالاً ، لفرض انه يعلم بأن اناء زيد نجس، يتّصف ( بكونه لابعينه ) فكونه لابعينه وصف ( إذا أطلق عليه عنوان أحدهما) قلنا : أحدهما لابعينه حرام ، فانّه قد يكون أحدهما بعينه حراما ، وقد يكون أحدهما لابعينه حراما ، فاذا كان - مثلاً - اناء أحمر واناء أبيض ، والأحمر حرام ولم يعلم به بخصوصه ( فيقال : أحدهما ) حرام ( لابعينه ) أي : لاعلى التعيين ، ويقال ( في مقابل ) ذلك بأن علم به بخصوصه : ( أحدهما المعين عند القائل ) حرام ، فلا يكون المقصود من الاتصاف بهذا المعنى : انّ الحرمة قسمان : قسم بعينه وقسم لا بعينه ، بل المقصود: قسم متعين وقسم غير متعين .

( وأما قوله عليه السلام : « فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعينِهِ » (1) فله ظهور

ص: 232


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 (بالمعنى) وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 .

فيما ذكر ، حيث انّ قوله « بعينه » قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولايتحقق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه .

وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان ، إلا انّه مجهول باعتبار الاُمور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه .

-------------------

فيما ذكر ) من اشتراط العلم التفصيلي في وجوب الاجتناب ، فاذا لم يكن علم تفصيلي لم يجب الاجتناب حتى وان كان المشتبه محصورا في طرفين ، وهذا الظهور في الحديث الثاني من ( حيث انّ قوله ) عليه السلام ( « بعينه » ، قيد للمعرفة ) فيكون بمنزلة قوله : حتى تعرف الحرام بعين المعرفة ، ومن الواضح : انّ المعرفة بعينها لا تكون الاّ في العلم التفصيلي ، إذ في العلم الاجمالي لاتكون المعرفة بعينها .

وعليه : ( فمؤداه ) أي : مؤدى هذا الحديث ( اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولايتحقق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه ) أي : إلى الحرام ، كما في موارد العلم التفصيلي ، حيث يتمكّن الانسان من الاشارة إلى الحرام بشخص الحرام .

( وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو ) في كون أحدهما نجسا ، كما ( في المثال ) فانه ( وإن كان معلوما بهذا العنوان ) أي : بعنوان اناء زيد أو اناء عمرو ( إلا انّه مجهول باعتبار الاُمور المميّزة له في الخارج عن اناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه ) فيكون ما ذكره المصنّف من الفرق بين قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (1) ، وبين قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ فيه حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ

ص: 233


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

إلاّ انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، ومثل : قوله : « اجتنب عن الخمر » ، لأنّ الاذن في كِلا المشتبهين ينافي

-------------------

لَك حِلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ فَتَدَعَهُ » (1) هو على مايلي : ان لفظ « بعينه » في الرواية الأولى تأكيد للضمير في : « انه » الراجع إلى «الشيء» وقد جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، فلا يدل على اعتبار العلم التفصيلي في تنجيز الحرمة ، لانه بمنزلة قوله : كل شيء لك حلال حتى تعلم انه بعينه حرام ، بينما لفظ « بعينه » في الرواية الثانية قيد« للمعرفة» ، فيكون بمنزلة

«كُلُّ شَيءٍ فَيهَ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ لَك حِلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ بشَخصِهِ» ، ولاتتحقق المعرفة بشخص الحرام إلاّ اذا امكنت الاشارة الحسّية اليه .

ومن المعلوم : انّ في المشتبهين لايمكن الاشارة الحسّية إلى الحرام منهما ، فتدل الرواية بظاهرها على جواز ارتكاب كلا المشتبهين .

وان شئت قلت : إنّ الغاية في الرواية الأولى : معرفة حرمة الشيء وحرمته دائما تكون بعينه حتى المعلوم اجمالاً ، فلا معنى للاحتراز فلا يكون القيد « بعينه » احترازيا ، وأمّا في الرواية الثانية : فان معرفة الحرام قد تكون بعينه وشخصه ، وقد تكون لا بعينه وشخصه ، فيصح ان يكون قيد « بعينه » في الرواية احترازيا .

( إلاّ انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور ) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي في الحرمة ( يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ) بين الانائين ( ومثل : قوله ) عليه السلام : ( « اجتنب عن الخمر » ، لأنّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي

ص: 234


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ح17 ص88 ب4 ح22050 .

المنع عن عنوان مردّد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالاًفي متن الواقع ، وهو مّما يشهد الاتفاق والنص على خلافه حتى نفس هذه الاخبار ، حيث انّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه .

-------------------

المنع عن عنوان مردّد بينهما ) فانّ دليل حرمة الخمر شامل لما إذا كان الخمر معلوما لدى الشخص ، أو مجهولاً في محصور لديه .

( و ) ان قلت : ما هو المانع من ان يكون الخمر المعلوم تفصيلاً حراما ، والخمر المجهول كونه في هذا الاناء أو ذلك الاناء حلالاً ؟ .

قلت : لا مانع عقلي من ذلك ، وانّما المانع الشرعي وقف دون ذلك ، لأنّه (يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالاً ) فيكون الخمر بين الانائين حلالاً ( في متن الواقع، وهو مّما يشهد الاتفاق ) من العلماء ( والنص على خلافه) فإنّ العلماء كافة حتى من يقول بحلية الانائين انّما يقول بحليتها ظاهرا لا واقعا ، مع انه لو كان الحرام هو الخمر المقيد بالعلم لوجب أن يقول بالحلية الواقعية .

وأمّا النص فهو قوله عليه السلام : « يُهرِيقَهُمَا وَيَتَيَمَم » (1) فانه إذا كان الحكم مقيّدا بالعلم لم يكن وجه لاراقتهما ( حتى نفس هذه الاخبار ) الدالة على البرائة المقيدة بالعلم تدل على انّ الخمر الواقعي حرام ، لا انّ الخمر المعلوم بقيد العلم حرام ( حيث انّ مؤدّاها ) أي : مؤدّى هذه الأخبار الدالة على البرائة ( ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه ) فإنّ « الخمر » اسم للخمر الواقعي كسائر الالفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية ، فلا بدّ من كون الخمر الواقعي حراما مع قطع النظر عن العلم والجهل .

بل ظاهر هذه الرواية نفسها مع قطع النظر عن الجهة التي ذكرناها تدل على انّ

ص: 235


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

فإن قلت : مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي ، كما في الشبهة

-------------------

الخمر بما هو خمر حرام ، سواء علم بكونه خمرا أم لا ، لأنّ قوله عليه السلام « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » (1) ظاهر في انّ الأشياء بعضها حلال في الواقع وبعضها حرام في الواقع ، فالمشتبه يكون حلالاً ظاهرا لا واقعا حتى يعلم المكلّف الحرمة ، فيتنجز الواقع عليه .

والحاصل : هنا دليلان على حرمة الخمر المردد بين الانائين :

أولاً : انّ قوله : « الخمر حرام » (2) ظاهر في الحرمة ، سواء علمه تفصيلاً أم اجمالاً .

ثانيا : ان قوله : «حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » ظاهر في وجود الحرام والحلال في الواقع مع قطع النظر عن العلم والجهل ، فلا يكون الخمر المردد حلالاً ، وإذا كان الخمر المردد حراما وجب الاجتناب عن الانائين ( فان قلت : ) انّا نسلّم انّ الخمر الواقعي المردد بين الانائين حرام ، لكن نقول :

انه حرام واقعا وحلال ظاهرا ، ولا منافاة بين الحكمين : الواقعي والظاهري ، اذ (مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي ) فنبقي «الصحيحة » على ظاهرها ، ونقول : انّ الشارع حكم بحلية كلا المشتبهين ظاهرا وان حكم بحرمة الخمر المردد بينهما واقعا .

وعليه : فيكون الأمر في مورد العلم الاجمالي المحصور ( كما في الشبهة

ص: 236


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - دعائم الاسلام : ج2 ص131 ح458 ، فقه الرضا : ص280 .

المجرّدة عن العلم الاجمالي ، مثلاً : قول الشارع : «اجتَنِب عَن الخمر » شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالاً ، وحليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لايكون حراما واقعيا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالاً .

قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم

-------------------

المجرّدة عن العلم الاجمالي ) حيث يجتمع الحكمان : الواقعي بالحرمة ، والظاهري بالحلية ، فكما اذا لم يعلم المكلّف في الشبهة البدوية خمرية هذا الاناء شمله : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » ، فهو حلال ظاهرا مع انه حرام واقعا ، لكونه خمرا حسب الفرض ، فكذلك يكون اذا لم يعلم المكلّف خمرية هذا الاناء في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي في الشبهة المحصورة .

( مثلاً : قول الشارع : « اجتَنِب عَن الخمر » شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالاً ) بأن شك فيه شكا بدويا ( و ) مع ذلك فهو محكومٌ بالحلية ظاهرا بإتفاق الاصوليين والأخباريين ، لأنّ ( حليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لايكون حراما واقعيا ) فيجتمع في الشبهة البدوية الحرمة الواقعية والحليّة الظاهرية ( فلا ضير ) أي : فلا مانع ( في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالاً ) بين انائين أيضا ، فيكون الخمر الذي هو بينهما حرام واقعا وحلال ظاهرا .

( قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته ) عملاً مقابل المخالفة الالتزامية (للحكم الواقعي في نظر الحاكم ) فانه لايقبح عقلاً جعل حكمين مختلفين : ظاهري وواقعي بملاكين ، فالحكم الواقعي بملاك المصلحة الواقعية ، والحكم الظاهري بمعنى مجرد المعذورية عن التكليف واقعا ، ذكرناه في أوّل الكتاب :

ص: 237

مع جهل المحكوم بالمخالفة ، لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البرائة ، وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولاً إليه على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة .

-------------------

من انّ التكاليف الظاهرية انّما : هي تنجيز واعذار ، لا أنّها احكام كالأحكام الواقعية، للتهافت بينهما ، أو بملاك جعل المصلحة السلوكية في الأحكام الظاهرية ليتدارك بها المصالح الواقعية ، كما ذكره المصنِّف في أوّل الكتاب .

وعليه: فلا منافاة بين جعل حكمين من الحاكم ( مع جهل المحكوم بالمخالفة ) أي : بمخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، والاّ لرأى ذلك تناقضا، ولهذا يجعل الحاكم في موارد الشك البدوي أحكاما تخالف الواقع ( لرجوع ذلك ) الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي ( إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البرائة ) في الشبهات البدوية ، وكما في موارد الاستصحاب ، بل في كل موارد مخالفة الاُصول والأمارات للواقع .

ولهذا قال المصنّف : ( وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع ) كما في موارد الأمارات الظنية المعتبرة ، سواء كان في الموضوعات كجعل الشاهدين حجّة ، أو في الأحكام كالأمارات المعتبرة شرعا ، مثل خبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، وما أشبه ذلك ( أو كونه ) أي : الحكم الظاهري (طريقا مجعولاً إليه ) أي: إلى الواقع ( على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة ) .

والوجهان عبارة عن انّه : هل الحكم الظاهري بدلاً عن الحكم الواقعي في مورد المخالفة لأنّ الشارع يعطي لسلوك الطريق الظاهري مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو انه لا يعطي مصلحة للسلوك ، بل يكون السالك معذورا عن مخالفة الواقع ، لأنّ الشارع جعل الحكم الظاهري المخالف لمصلحة الواقع مع انه

ص: 238

وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاهل جعل كلا الحكمين ، لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذنُ الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة .

-------------------

مفوّت لمصلحة الواقع لأجل التسهيل ونحوه ؟ .

ولا يخفى انّ الوجهين جاريان في الاُصول أيضا من غير فرق بين البرائة ، والاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، فتفكيك المصنّف بينهما ، بقوله في مورد البرائة : « لرجوع ذلك الى معذورية المحكوم ... » وفي غير مورد البرائة بقوله : «الى بدلية الحكم الظاهري ... » محل تأمّل .

هذا كله في موارد عدم علم المحكوم بالمخالفة ، كما في الشبهات البدوية ونحوها .

( وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة ) كما في موارد العلم الاجمالي المحصور ، لانّ العلم الاجمالي غير المحصور أيضا ملحق بالشبهات البدوية على ما أشرنا إليه سابقا ، فانّ المكلّف يعلم في هذه الموارد المحصورة انّ الحلية تكون مخالفة للواقع ( فيقبح ) عقلاً ( من الجاهل جعل كلا الحكمين ) فمرة يقول : بأنّ أحد هذين اللحمين حرام مثلاً ، ومرة يقول : انّ كليهما حلال ، وكذلك بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ، وغير ذلك من موارد الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي .

وانّما يقبح عقلاً ( لأنّ العلم بالتحريم يقتضي ) عقلاً ( وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذن الشارع في فعله ) بأن يقول للمكلّف : لا بأس عليك ان ترتكب كلا المشتبهين - مثلاً - ( ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة ) لأنّه يكون اذنا في المعصية وتناقضا من المولى الحكيم .

ص: 239

فان قلت : اذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث أنه اذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها .

والاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك

-------------------

لكن ربّما يقال : إنّ العمدة في الفرق بين مورد العلم الاجمالي ومورد الشبهة البدوية : هو ظواهر الأدلة ، والاّ فما تقدّم في مورد الشبهة البدوية من المصلحة السلوكية - مثلاً - يأتي في مورد العلم الاجمالي أيضا ، وهل هناك مانع من أن يقول الشارع في مورد العلم الاجمالي : لاتجتنب لأني أتدارك مصلحة الواقع ، كما قال الشارع بمثل ذلك في مورد درهمي الودعي ، وتقسيم الابل بين المدعيين في قصة علي أمير المؤمنين عليه السلام ، وارث الخنثى ، وغير ذلك من موارد قاعدة العدل ونحوها ؟ .

( فان قلت : ) أنكم قلتم : الاذن في الحرام مع علم المكلّف بالحرمة حين الارتكاب ، فيه محذور عقلي ، مع انه من الواضح : انّ المكلّف في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي إذا ارتكبها تدريجا لايعلم بفعله للحرام حال ارتكاب كل واحد واحد ، فلا محذور في اذن الشارع ، لأنه حينئذ يكون كالاذن في الشبهة البدوية ، كما قال : ( إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث انه إذن في المعصية والمخالفة ) وقد تقدّم : انه لا يتمكن الشارع من الاذن في المعصية والمخالفة ، لأنّه تناقض ( وهو ) أي إذن الشارع في فعل الحرام ( إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها ) أي : حين ارتكاب المعصية ، ومع ذلك يجوّز الشارع ارتكابها .

هذا ( و ) الحال ان ( الاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك ) أي : إذن بما

ص: 240

إذا كان على التدريج بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها الاّ بعدها ، وليس في العقل ما يقبّح ذلك والاّ يقبح الاذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة أو في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها ،

-------------------

يعلم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها ( إذا كان ) الارتكاب ( على التدرج ) بأن يشرب هذا الاناء مرة وذاك الاناء اخرى ، لا ما إذا إرتكبهما دفعة واحدة ، بأن يشرب أحدهما وفي نفس الحال يصب الآخر في أرض المسجد .

( بل هو ) أي : الاذن في ارتكاب المشتبهين على التدريج ( إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها) أي : بكونها مخالفة ( الاّ بعدها ) أي : الاّ بعد المخالفة ، فانّه بعد أن يشرب المائين تدريجيا يعلم بأنّه قد ارتكب حراما أمّا بشربه الأوّل وأمّا بشربه الثاني ( وليس في العقل ما يقبّح ذلك ) العلم بالمخالفة بعدالارتكاب .

وعلى أي حال : فانه لامانع عقلاً من ابقاء الصحيحة المتقدّمة ، المقيدة بكلمة « بعينه » على ظاهرها ، بأن يكون اذنا في ارتكاب المشتبهين لكن بحملها على صورة التدريج لا على صورة الدفعية .

( والاّ ) بأن كان الاذن في الشيء الذي يعلم المكلّف بعد تحققه انه معصية قبيحا ، لكان ( يقبح الاذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة ) كما إذا علم بأنّ سلعة أحد بقاليّ البلد محرّمة ، فانه يجوز له الاشتراء من أحدهما : في هذا اليوم ، ومن الثاني في يوم ثان ، وهكذا حتى يشتري من جميعهم تدريجيا، فيحصل له العلم بعد الاشتراء من جميعهم بأنّه قد ارتكب حراما ، مع انه لا يقول العلماء بحرمته ، ممّا يكون دليلاً على انّ العلم بالمخالفة بعد ارتكابها ليس بمحرَّم .

( أو ) يقبح الاذن ( في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها) كما إذا علم

ص: 241

وفي ارتكاب الشبهة المجرّدة التي يعلم المولى اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ، وفي الحكم بالتخيير الاستمراريّ بين الخبرين ، أو فتوى المجتهدين .

قلت :

-------------------

في الشبهة غير المحصورة بأنّ خمسة من بقالي البلد بضاعتهم محرّمة ، فاشترى تدريجا من جميعهم الاّ اربعة منهم ، فانّه يقطع بعد الاشتراء من هؤلاء بانّه قد ارتكب محرّما واحدا في هذه الجملة ، ومع ذلك لا يقول الفقهاء بحرمته .

( و ) كذلك يقبح الاذن ( في ارتكاب الشبهة المجرّدة ) عن العلم الاجمالي محصورة وغير محصورة ، كما في الشبهة البدوية ( التي يعلم المولى : اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ) ومع ذلك لا يقولون بقبحه ، كما اذا علم العبد بعد - مثلاً - انّ أكل اللحم - مثلاً - الذي اشتراه من المسلم بأنّه كان مذبوحا بدون الشرائط .

( و ) كذلك يقبح إذن الشارع للمكلّف ( في الحكم بالتخيير الاستمراريّ بين الخبرين ، أو فتوى المجتهدين ) فانّ المجتهد إذا تبدّل رأيه وكذلك مقلده ، أو من تبدّل مجتهده مع تغيّر فتواهما وقد عمل بالأول مدة من الزمن ، ثم عمل بالثاني مدة اخرى ، فانه يعلم بأنّ أحدهما كان مخالفا للواقع ومع ذلك لا يقولون بقبحه .

وكذا يقبح إذن الشارع بالتخيير الاستمراري بين الخبرين ، فانه إذا كان هناك خبران متنافيان وأجاز الشارع العمل بأحدهما مخيرا فانّ المجتهد العامل بهذا تارةً وبذاك اخرى يعلم بأنّه خالف الواقع بعد عمله بالخبرين ، الى غيرها من الموارد المشابهة ومع ذلك لا يقول أحد بأنّ إذن الشارع قبيح في مثل هذه الامور .

( قلت ) : لا نسلم جواز إذن الشارع في التخيير الاستمراري بأن يبيح للمكلّف

ص: 242

إذنُ الشارع في أحد المشتبهين ينافي أيضا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه لايجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين .

-------------------

فعل هذا مرة وذاك اخرى ، فانّ ( إذنُ الشارع في أحد المشتبهين ) على سبيل التخيير الاستمراري ممّا يمكِّن المكلّف من ارتكاب كليهما تدريجا ( ينافي أيضا ) كما في صورة الأذن مع علم المكلَّف بالمخالفة حين الفعل ( حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم ) حرمته ( المتعلّق بالمصداق المشتبه ) فلا فرق عند العقل والعقلاء بين المخالفة المعلومة حين ارتكابها ، وبين المخالفة المعلومة بعد ارتكابها .

وعليه : فلا يمكن أن يأذن الشارع في المشتبه الثاني ، كما لا يمكن أن يأذن في المشتبه الأوّل ، من غير فرق بين أن يكون الاذن بارتكابهما دفعة أو تدريجا ، وذلك ( لايجاب العقل حينئذ ) أي : حين العلم بالتكليف المتعلق بالمصداق المشتبه (الاجتناب عن كلا المشتبهين ) فانّ العقل إذا استقل بوجوب اطاعة التكليف المعلوم اجمالاً ، يستقل بوجوب اجتناب جميع الأطراف مقدمة للتكليف المعلوم بينهما ، سواء كان الارتكاب للطرفين دفعة أو تدريجا .

وأما ما ذكره من الأمثلة : من إذن الشارع بالارتكاب التدريجي في الشبهة البدوية مع علم العبد بعد ذلك احيانا ، أو تغير رأي المجتهد ، أو مجتهد المقلِّد ، أو التخيير الاستمراري في الروايات إلى غير ذلك من الامثلة ، فانه لابد أن يقال فيها: بأنّ الشارع رفع اليد فيهاعن حكمه الواقعي لمصلحة التسهيل ونحو ذلك .

والحاصل من الجواب : هذه الموارد انّما هي بالدليل ، فلا يقاس عليه ما نحن فيه الذي ليس فيه دليل :

ص: 243

نعم ، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلاً عن الواقع « في الاجتزاء » بالاجتناب عنه جاز . فاذن الشارع في أحدهما لايحسن إلاّ بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ، فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير ، وكذا المحلل الظّاهري ،

-------------------

( نعم ) لو ثبت بالدليل انّ الشارع أجاز التخيير الابتدائي ، كان ذلك دليلاً على جعل الشارع الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي بين المشتبهين لمصلحة ، وذلك لايدل على جواز التخيير بينهما استمرارا ، فانه ( لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلاً عن الواقع « في الاجتزاء » بالاجتناب عنه جاز ) وقوله : « في الاجتزاء » ، متعلق بقوله « جعل الآخر بدلاً » ، بمعنى : إنّ الشارع جعل الذي يجتنب المكلّف عنه من بينهما بدلاً عن الحرام الواقعي .

وعليه : فاذا كان هناك انائان : أحدهما أبيض ، والآخر أصفر ، وأجاز الشارع ارتكاب أحدهما فارتكب المكلّف الأبيض ، كان معناه انّ الشارع جعل الأحمر بدلاً عن الحرام الواقعي ، ولو ارتكب الأحمر كان معناه : انّ الشارع جعل الأبيض بدلاً عن الحرام الواقعي ( فاذن الشارع في أحدهما لايحسن ) على سبيل التخيير الاستمراري حتى يشرب من هذا الاناء مرة ومن ذاك الاناء اخرى .

إذن : فالاذن لايحسن ( الاّ بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ) وإنّما جعل أحدهما بدلاً عن الحرام الواقعي لمصلحة التسهيل أو ما أشبه ( فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير ) إبتداءا فقط .

( وكذا المحلل الظّاهري ) الذي أجاز الشارع ارتكابه للمكلَّف في التخيير الابتدائي جعله الشارع بدلاً عن الحلال الواقعي .

ص: 244

ويثبت المطلوب ، وهو حرمة المخالفة القطعيّه بفعل المشتبهين .

وحاصل معنى تلك الصّحيحة «انّ كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف انّ في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام » ، والأوّل في العلم التفصيلي ، والثاني في العلم الاجمالي .

-------------------

هذا ( ويثبت المطلوب: وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل المشتبهين ) تدريجا أو دفعة ، اذ إجازة أحدهما على سبيل البدل تخييرا ابتدائيا لاينافي ماذكرناه من حرمة المخالفة القطعية بارتكاب كليهما ، وعلى هذا ، فالشارع حرَّم شيئين :

الأوّل : الحرام المعلوم معيّنا ، كما إذا علمنا انّ الاناء الأبيض حرام .

الثاني : الحرام المردد الذي يرتكب المكلّف كليهما ، كما إذا علمنا انّ الاناء الأبيض أو الأحمر حرام ثم يشرب المكلّف كلا الانائين ، أمّا الحرام المردد الذي يرتكب المكلّف أحدهما، فلا بأس به إذا جعل الشارع للحرام الواقعي بينهما بدلاً.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( وحاصل معنى تلك الصّحيحة ) المشتملة على كلمة « بعينه » هو ( «انّ كل شيء فيه حلال وحرام ) كالمايع الذي فيه قسم خل، وقسم خمر ، وكان هناك انائان : اناء خمر ، واناء خل ( فهو لك حلال حتى تعرف انّ في ارتكابه فقط) ارتكابا حرام ، كما إذا تميز الخمر عن الخل وكان الخمر في الاناء الأبيض فارتكبه ، وهذا هو مورد العلم التفصيلي .

( أو ) تعرف انّ هذا أو مصاحبه خمر ، فانّ ( في ارتكابه ، المقرون مع ارتكاب غيره ، ارتكابا للحرام» ) أي : إن ارتكبهما جميعا علم بأنّه قد ارتكب الحرام ، وهذا هو مورد العلم الاجمالي كما قال : ( والأوّل في العلم التفصيلي ، والثاني في العلم الاجمالي ) وبهذا ظهر : انه لا يجوز للمكلّف ارتكاب كليهما ممّا يقطع بأنّه

ص: 245

فان قلت : إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما الاّ تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير وهو : ترك أحدهما حاصل مع الاذن في ارتكاب كليهما ،

-------------------

ارتكب الحرام ، سواء ارتكبهما دفعة أو ارتكبهما تدريجا .

( فان قلت ) : إذا سلمتم بأنّه يجوز للشارع جعل البدل عن الواقع ، نقول : إذن يجوز التخيير الاستمراري في الامور التدريجية لذلك أيضا ، كوطي المرأتين اللتين أحديهما زوجته والأخرى أجنبية عنه واشتبهتا ، فانّه عندما يطأ الرجل هندا تكون ميسون بدلاً عن الحرام الواقعي ، وعندما يطأ ميسون بعد ذلك تكون هند بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيجوز التخيير الاستمراري ، كما ذهبتم إلى جواز التخيير الابتدائي .

وعليه : فلا فرق بين إذن الشارع بالتخيير الابتدائي ، أو التخيير الاستمراري، فانه ( إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما الاّ تدريجا ) بأن لايكونا مثل الانائين الذين يمكن صب أحدهما في الآخر وارتكابهما دفعة ، أو مثل الانائين الذين يمكن شرب أحدهما وصب الآخر في المسجد في حالة واحدة ( ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا ) لوضوح : انه لا يمكن وطي المرأتين في آن واحد ( فالمقصود من التخيير ) سواء الابتدائي أو الاستمراري ( وهو : ترك أحدهما ) عند ارتكاب الآخر للاذن فيه ( حاصل ) في التدريجي قهرا ( مع الاذن ) من الشارع ( في ارتكاب كليهما ) وذلك بأستمرار التخيير .

لا يقال : إنّ المكلّف من أول الأمر يقصد وطي كلتا المرأتين ، فلا يكون المتروك بدلاً عن الواقع لعدم قصد امتثال النهي فيه .

ص: 246

إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ، فضلاً عن قصد الامتثال .

قلت : الاذن في فعلهما في هذه الصورة أيضا ينافيالأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ، لما تقدّم من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين ، لايصحّ الاذن في أحدهما ، إلا بعد المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي .

-------------------

فانّه يقال : لا يضر مثل هذا القصد ، فانّه في التوصليات لا حاجة إلى قصد الفعل ولا إلى قصد الترك ، فلا مانع من ان يقصد كلتيهما ، كما لا مقتضي لأن يقصد ترك أحداهما ، فالفعل تدريجي والقصد لا يضر وجوده ولا عدمه ( إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ) والاختبار ( فضلاً عن قصد الامتثال ) فالتارك لشرب الخمر مثلاً لا يحتاج إلى قصد ترك الشرب فضلاً عن ان يقصد الامتثال في ترك الشرب والامتثال عبارة عن : قصد الوجه وما أشبه ذلك .

( قلت ) : ليس المهم عند العقل ان يقدر المكلّف على ارتكابهما دفعة كالانائين ، أو لا يقدر كالمرأتين ، بل العقل يرى حرمة ارتكابهما ، سواء دفعة أو تدريجا ، فانّ ( الاذن في فعلهما في هذه الصورة ) أي : في صورة عدم امكان فعلهما دفعة ، والتمكن من فعلهما تدريجا ( أيضا ) كما في صورة امكان فعلهما دفعة ( ينافيالأمر ) من الشارع ( بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ) .

وعليه : فلا يصح للشارع الاذن في ارتكابهما تدريجا ( لما تقدّم : من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين ) كالمرأة المحرمة المردد بين هند وميسون ( لايصحّ ) عقلاً ( الاذن في أحدهما ، إلاّ بعد المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي ) من غير فرق بين الدفعي والتدريجي .

ص: 247

ومعناه المنع عن فعله بعده ؛ لأنّ هذا هو الذي يمكن أنّ يجعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعي ، حتى لاينافي أمره بالاجتناب عنه ، أمّا تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلاً .

فحينئذ :

-------------------

( ومعناه ) أي : معنى المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي ، هو ( المنع عن فعله بعده ) أبدا ، لا مجرد تركه قهرا زمان فعل الآخر ، فانّ هنا أمرا ونهيا : أمرٌ بجواز ارتكاب أحدهما ، ونهيٌ عن الآخر على سبيل التخيير الابتدائي لا الاستمراري ، ومعنى ذلك : أنّه يجب عليه ترك الآخر أبدا .

وإنّما يكون ذلك معناه ( لأنّ هذا) أي : المنع عن فعل الآخر أبدا ( هو الذي يمكن أنّ يجعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعي ) فلا يتحقق أبدا ( حتى لاينافي ) ارتكاب المكلّف لأحدهما ( أمره ) أي : أمر الشارع ( بالاجتناب عنه ) أي : عن ذلك العنوان الواقعي المردّد بينهما ، فجعلُ البدل لا ينافي الحرام الواقعي ، أمّا اجازة ارتكابهما ولو تدريجا فهو مناف للحرام الواقعي .

وإليه اشار بقوله : (أمّا ) مجرد ( تركه ) أي : ترك المكلّف أحدهما ( في زمان فعل الآخر ) فانّه ( لا يصلح أن يكون بدلاً ) فانّه لا بدلية في الواقع إذا ارتكبهما جميعا ، سواء ارتكبهما دفعة أو تدريجا ، فاذا قال الشارع : اجتنب عن الحرام الواقعي بين هذين المشتبهين ، ثم قال : ارتكب كل واحد منهما تدريجا ؛ حكم العقل التناقض الصريح بين نهيه واذنه ، فانّ التناقض كما يكون بين قوله : هذا أبيض وهو أسود ، كذلك يكون بين قوله : هذا ابيض وكلاهما أسود ؛ نعم لا يكون تناقض بين قوله : أحدهما أسود ، وبين قوله : أحدهما أبيض .

( فحينئذ ) أي : حين لا يجوز إذن الشارع بارتكاب كليهما استمرارا للتناقض

ص: 248

فان منع في هذه الصورة وعن واحد من الأمرين المتدرجين فيالوجود ، لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ، والاّ لغي المنع المذكور .

فان قلت : الاذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ، بأن يرتكبها دفعة ، والمفروض امتناع ذلك فيما نحن فيه

-------------------

( فان منع في هذه الصورة ) التدريجية ( وعن واحد من الأمرين المتدرجين فيالوجود ، لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ، والاّ ) بأن جاز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ( لغي المنع المذكور ) عن الحرام الواقعي المردد بينهما ، لأنّه لو ارتكب كليهما تدريجا كان مخالفة قطعية للحرام الواقعي ، وكان من التناقض الذي يستقل العقل بأنه لا يصدر من مثل الحكيم .

( فان قلت : ) انّه لا يمكن للشارع الاذن بارتكاب كليهما في مورد امكان الارتكاب الدفعي ، كشرب أحدهما وصب الآخر في المسجد ، لكن يمكن له الاذن بارتكاب أحدهما بدلاً عن الواقع ، لأنّه إذا أجاز كليهما كان معناه : أنّه أجاز مخالفة الواقع تفصيلاً ، أما في مورد عدم إمكان الارتكاب الدفعي ، كوطي الزوجتين التي احداهما في حالة العادة ، فانّه يمكن للشارع الاذن بارتكاب كليهما تدريجا، لأنّه إذا ارتكب أحدهما كان الآخر الذي لايتمكن من ارتكابه بدلاً عن الواقع .

وعليه ، فالصحيحة تبقى على ظاهرها ونخصصها بهذا المورد، لأن ( الاذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ) التي يمكن فيها الارتكاب الدفعي ، حتى يبقى الآخر بدلاً عن الواقع ، وذلك ( بأن ) يمنع الشارع من أن ( يرتكبها ) أي : يرتكب الأطراف ( دفعة ) واحدة ( والمفروض امتناع ذلك ) الارتكاب الدفعي ( فيما نحن فيه ) ممّا يتعذَّر ارتكابهما دفعة ، كوطي

ص: 249

من غير حاجة الى المنع ، ولا يتوقف على المنع الآخر بعد ارتكاب الأوّل ، كما في التخيير الظّاهري الاستمراري .

قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا، طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ، والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع .

-------------------

الزوجتين في المثال ( من غير حاجة الى المنع ) عن الآخر الذي جعله الشارع بدلاً عن الواقع .

هذا (ولا يتوقف) الاذن في أحدهما (على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل) لما عرفت : من أنّه إذا ارتكب أحدهما كان الآخر بدلاً عن الواقع تلقائيا ، فإذا ارتكب الثاني في زمان ثانٍ يكون الأوّل بدلاً عن الواقع تلقائيا ، فيكون حال المقام (كما في التخيير الظّاهري الاستمراري ) فكما أجاز الشارع العمل بأحد الخبرين وأحد القولين لمجتهدين استمرارا ، أجاز فيما نحن فيه أيضا وطي المرأتين تدريجا ، فإذا وطي هندا كانت دَعد بدلاً عن الواقع ، وإذا وطي دعدا كانت هندا بدلاً عن الواقع .

( قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا ) بأنّ يأذن الشارع وطي المرأتين من أول الأمر ولكن تدريجا ، بأن يكون وطي هندا قبل وطي دعد - فرضا - فانّه ( طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ) اذ معنى ذلك : انّ الشارع قد أذن في المعصية ، فينافي حكم الشرع بالحرمة لحكم العقل بوجوب الطاعة .

( و ) أمّا النقض بالتخيير الظاهري الاستمراري ، فنقول : ( التخيير الاستمراري في مثل ذلك ) أي : في مورد العلم الاجمالي بالحرمة ( ممنوع ) فلا يكون التخيير الظاهري جائزا ، وذلك لأنّه ينافي حكم العقل بوجوب طاعة التكليف المعلوم

ص: 250

والمسلّم منه ما إذا لم يسبق بالتكليف المعيّن أو يسبق تكليف بالفعل حتى يكون المأتي به في كل دفعة بدلاً عن المتروك على تقدير وجوبه دون العكس ،

-------------------

اجمالاً ، كما ينافي حكم الشرع بأن الواقع أحد الأمرين أيضا ( والمسلّم منه ) أي : من التخيير ( : ما إذا لم يسبق بالتكليف المعيّن ) أي : لم يكن نوع التكليف معيّنا للمكلّف حتى يجب طاعته عقلاً وشرعا ، كما في اختلاف الخبرين أو اختلاف المجتهدين حيث لايعلم المكلّف أنّ هذا المجتهد على حق أو ذاك المجتهد ، وانّ هذا الخبر يطابق الواقع أو ذاك الخبر ، فلا يكون التكليف معيّنا عنده ، بخلاف مثل: وطي المرأة فانّه يعلم قبل وطي أيّ منهما حرمة وطي أحداهما .

( أو يسبق تكليف بالفعل ) لا بالترك ، بأن تكون الشبهة وجوبية ، وذلك مثل : مورد العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين القصر والتمام ، أو الجمعة والظهر ، وقوله « أو يسبق » ، عطف على الجازم والمجزوم أي : ما إذا لم يسبق التكليف .

وعلى أي حال : فهذين الموردين ، وهما : الجهل بنوع التكليف ، والجهل بخصوصية التكليف مع كون التكليف بالفعل لا بالترك ، كما في الشبهة الوجوبية يجوز ارتكابهما تدريجا ، أما لو كان الجهل بخصوصية التكليف مع كون التكليف بالترك كما في الشبهة التحريمية مثل حرمة وطي الحائض المردد بين الزوجتين ، فلا يجوز إذن الشارع بارتكابهما تدريجا ، لأنّه إذن الشارع بارتكاب الحرام .

وعليه : فمع سبق التكليف بفعل أحدهما كما في الشبهة الوجوبية ، يجوز التخيير الاستمراري ، وذلك ( حتى يكون المأتي به في كل دفعة بدلاً عن المتروك على تقدير وجوبه ) أي : وجوب المتروك ( دون العكس ) أي : بأن يسبق تكليف بالترك كما في الشبهة التحريمية ، فلا يصح التخيير في مورد العلم الاجمالي

ص: 251

بأن يكون المتروك في زمان الاتيان بالآخر بدلاً عن المأتي به على تقدير حرمته ، وسيأتي تتمة ذلك في الشبهة غير المحصورة .

-------------------

بالحرمة ، وذلك ( بأن يكون المتروك في زمان الاتيان بالآخر بدلاً عن المأتي به على تقدير حرمته ) أي : حرمة المتروك كما في ترك وطي هند بدلاً عن دعد ، وترك وطي دعد بدلاً عن هند .

إذن : ففي مورد دوران الأمر بين القصر والتمام إذا قصّر يوما وأتمّ يوما آخر قطع بأنّه امتثل للأمر يوما ، وان قطع بأنّه خالفه يوما آخر ، وأما امتثال النهي فهو لايحصل إلاّ بترك الطبيعة المتوقف على الترك دائما ، وذلك لأنّ مجرد ترك الحرام في بعض الأحيان لايكون امتثالاً للنهي ، كما في مثال اشتباه الحائض بين زوجتيه ، فإنّه اذا وطي هذه مرة وتلك اخرى قطع بأنّه خالف النهي ، فظهر من ذلك : ان هناك فرقا بين الأمر بالفعل ، والنهي عن الفعل ، فيصح جعل المأتي به في كل واقعة بدلاً عن الواجب الواقعي في باب الفعل ، ولا يصح جعل المتروك في كل واقعة بدلاً عن الحرام الواقعي في باب الترك ( وسيأتي تتمة ذلك في الشبهة الغير المحصورة ) انشاء اللّه تعالى .

لكن لا يخفى : إنّ هذا الجواب غير كافٍ ، لأنّه إذا وجبت الجمعة أو الظهر ، فانّه يعلم بأنه ترك الواجب إذا أتى بهذه مرة وبتلك اخرى ، وترك الواجب حرام قطعا ، فاللازم أن يقال : في كل مورد ثبت التخيير الاستمراري كشف ذلك عن انّ الشارع رفع يده عن حكمه الواقعي لمصلحة ثانوية ، مثل : رفع الشارع يده عن النجس والحرام بسبب قاعدة الطهارة والحل ، مع وضوح : أنّه كثيرا ما يبتلي الانسان بالحرام والنجس بسبب عمله بهاتين القاعدتين .

ص: 252

فان قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي فوق حد الاحصاء في الشرعيات ، كما في الشبهة غير المحصورة ، وكما لو قال القائل في مقام الاقرار : هذا لزيد ، بل لعمرو فانّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما أخذٌ للمال بالباطل .

وكذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ،

-------------------

( فان قلت : ) المخالفة القطعية بالنسبة الى التكليف المعلوم اجمالاً ، كما في وطي المرأتين تدريجا لا تضر ، اذ ( انّ المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي فوق حد الاحصاء في الشرعيات ، كما في الشبهة الغير المحصورة ) حيث ان جمعا من الفقهاء أفتوا بجواز ارتكاب جميع الاطراف تدريجا ، مع ان المرتكب للجميع يعلم بأنّه خالف الحرام الواقعي قطعا .

( وكما لو قال القائل في مقام الاقرار : هذا ) الشيء ( لزيد ، بل لعمرو ) حيث أنّه اعتراف بالمال لزيد ، وهو لعمرو ، واضرابه لا ينفع ، إذ الانكار بعد الاقرار غير نافع ، لكن مع ذلك ( فانّ الحاكم ) على ما افتى به غير واحد ( يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما) أي : أحد الاخذين ( أخذٌ للمال بالباطل ) لوضوح : ان المال إن كان لزيد فليس قيمته لعمرو ، وإن كان لعمرو فليس لزيد ، فهو مخالفة قطعية من الحاكم المفتي ومن الآخذين اللذين يعلمان بأن أحدهما لا حق له .

( وكذايجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه ) أي : علم الثالث ( بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ) فينقلب علمه الاجمالي الى العلم التفصيلي بالحرمة ، خصوصا إذا اشترى بالعين وبقيمته جارية

ص: 253

ولو قال : هذا لزيد ، بل لعمرو ، بل لخالد ، حيث أنّه يغرم لكل من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا .

وأيّ فرق بين قوله عليه السلام : « إقرارُ العقلاء على أنفسهم جائزٌ » ، وبين أدلّة : حلّ مالم يعرف كونه حراما ؟

-------------------

- مثلاً - فانّه يعلم بحرمة وطيه للجارية ، أو ما أشبه ذلك ممّا اشترى بالمالين شيئا ، وتصرف في ذلك الشيء .

( و ) كما ( لو قال ) المقرّ : ( هذا ) المال ( لزيد ، بل لعمرو ، بل لخالد ، حيث انّه يغرم لكلّ من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا ) .

وهكذا إذا تلف المال واعترف به لهذا مرة ولذاك أُخرى ، حيث يؤخذ منه مثلان : مثلٌ لهذا ، ومثلٌ لذاك في المثلي ، وقيمتان في القيمي ، أو مثل وقيمة ، فيما إذا لم يكن هناك الاّ مثل واحد ، فانّه يعطي المثل للأوّل ، ويعطي القيمة للثاني .

( و ) كما يجوز المخالفة القطعية في باب الاقرار ، كذلك يجوز في باب الحليّة والطهارة وما أشبه ، إذ ( أيّ فرق بين قوله 7 : « إقرارُ العقلاء على أنفسهم جائزٌ » (1) وبين ) قوله 7 : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتَى تَعلَم أنّهُ حَرامٌ»(2) وغيره من (أدلّة: حلّ مالم يعرف كونه حراما؟) مثل: كُلُّ شَيءٍ مُطلَق حَتّى يَرِدَ فَيهِ نَهيٌ»(3)

ص: 254


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 و ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

حتّى أنّ الأوّل يعّم الاقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني لا يعمُّ الشيئين المعلوم حرمةُ أحدهما .

وكذلك لو تداعيا عينا في موضوع ، يحكم بتنصيفها بينهما مع فرض العلم بأنّها ليست إلاّ لأحدهما .

وذكروا أيضا في باب الصّلح : أنّه لو كان لأحد الودعيّين درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعي أحدُ الدراهم ، فانه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ،

-------------------

فانه أيّ فرق بين النصّين : نص « اقرار العقلاء » ، ونص « حلية كل شيء » ( حتّى ان الأوّل ) وهو نص الاقرار ( يعّم الاقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني ) وهو نص الحليّة ( لا يعمّ الشيئين المعلوم حرمة أحدهما ) ؟ .

وعليه : فكما تقولون بشمول الاقرار للمعلوم حرمة أحدهما ، كذلك يلزم عليكم القول بشمول كل شيء حلال لما يعلم حرمة أحدهما كالمرأتين .

( وكذلك لو تداعيا عينا في موضوع ، يحكم بتنصيفها بينهما مع فرض العلم بأنّها ) أي : بأن هذه العين ( ليست إلاّ لأحدهما ) كما إذا ادّعى زيد وعمرو شاة وجاء كل واحد منهما بشاهدين ، أو حلف كل واحد منهما فيما لم يكن لهما شاهد ، أو لم يكن لهما شاهد ولم يحلفا ، فانّه يقسم الشاة بينهما مع انّا نعلم بأن الشاة إمّا لهذا وإمّا لذاك .

( وذكروا أيضا في باب الصّلح ) أي : في كتابه ( انّه لو كان لأحد الودعيّين ) أي: الذين أودعا الشيء عند انسان ثالث ( درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعي ) الذي هو أمين بلا تعدّ ولا تفريط ( أحدُ الدّراهم ) الثلاثة ( فانّه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ) لأنّ درهم واحد من الدرهمين الباقيين

ص: 255

مع العلم الاجمالي بأن دفع أحد النصفين دفع للمال الى غير صاحبه .

وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن ، وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ، فانه يلزم مخالفة العلم الاجمالي ، بل التفصيلي في بعض الفروض ، كما لا يخفى .

-------------------

هو محل النزاع ، فيعطى لصاحب الاثنين درهم ، وينصّف الدرهم الثاني نصفين نصفه لهذا ونصفه لذاك ( مع العلم الاجمالي بأن دفع ) الحاكم أو الودعي « أحد النصّفين » لهذا والنصف الآخر لذاك ( دفع للمال إلى غير صاحبه ) لأنّ الدرهم إمّا لزيد وإمّا لعمرو ، فكيف ينصّفه بينهما ؟ .

وكذلك لو كان لاحد الودعيّين ديناران وللآخر ثلاثة دنانير ، وضاع عند الودعي دينار من الخمسة ، فانّه يعطي لصاحب الاثنين دينارا ، ولصاحب الثلاثة دينارين ، ويبقى الدينار الرابع ، فيقسّمه بينهما بالنسبة ، مع أنَّ الدينار الرابع إمّا لصاحب الاثنين وإمّا لصاحب الثلاثه قطعا .

( وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع ) هل هو فرس أو شاة ؟ ( أو الثمن ) هل هو دينار أو درهم ؟ ولم يكن لأحد الطرفين شاهد ( وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ) فانّهما إذا حلفا انفسخ البيع وردّ مال كل منهما إلى صاحبه ( فانّه يلزم مخالفة العلم الاجمالي ) حيث يعلم الحاكم كما يعلم المتبايعان أنفسهما بأن البيع كان صحيحا وقد انتقل العوضان فكيف استرجع كل منهما ماله الذي انتقل بالبيع الى صاحبه قطعا ؟ .

وكيف كان : ففي جميع هذه الموارد يلزم مخالفة العلم الاجمالي ( بل التفصيلي في بعض الفروض ) كما ذكرنا في مثال انتقال الشيئيين إلى شخص ثالث ومثال الاختلاف في المبيع أو الثمن ( كما لا يخفى ) واذا جاز مخالفة العلم

ص: 256

قلت : أمّا الشبهة غير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها .

-------------------

الاجمالي في هذه الموارد بل التفصيلي ، فلا مانع من جواز مخالفة العلم الاجمالي في مثل مورد الحائض المرددة بين الزوجتين وغير ذلك ممّا ذكرنا : بأنّه يجوز الارتكاب التدريجي فيها .

( قلت : ) أوّلاً : إنّا نناقش في الصغرى في بعض تلك المسائل المتقدِّمة حيث انّا لا نسلّم اعطاء العين لشخص وقيمتها لشخص آخر ، فيما إذا اعترف بالعين لهذا مرة ولذاك اخرى ، بل نقول : مقتضى قاعدة « العدل » تقسيم نفس العين بينهما بالتنصيف ، فانّ قاعدة « الاقرار » لا تشمل مثل هذا المورد .

ثانيا : انّا نقول في كل مورد ثبت خلاف العلم الاجمالي فيه : بأن ذلك المورد استثناء من الشارع من باب الأهم والمهم وما أشبه ذلك ممّا تقدَّم ، وقد مثَّلنا له بالمخالفة في الشبهة البدوية ، حيث يراعي الشارع فيها مصلحة التسهيل على الناس، فلا يتعدّى من المورد الذي استثناه الشارع إلى غيره من الموارد الاخر .

وحينئذ لايمكن أن يقال بجواز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي في أي مورد اطلاقا ، إلاّ فيما استثناه الشارع بنفسه .

هذا ، أمّا أجوبة المصنّف ، ففي بعضها مناقشة ، فقد قال : ( أما الشبهة غير المحصورة : فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها ) مع انّ بعض الفقهاء قالوا : لايجوز المخالفة فيها بارتكاب جميع الأطراف ، وانّما يجوز الارتكاب الا بقدر المعلوم بالاجمال ، فان علم - مثلاً - بأن سلعة أحد بقالي البلد محرّمة ، جاز الاشتراء الاّ من أحدهم ، وإن علم بأن بضاعة اثنين منهم محرّمة جاز الاشتراء الاّ من اثنين ، وهكذا .

ص: 257

وأمّا الحاكمُ فوظيفته أخذُ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظّاهرية ، كالاقرار ، والحلف ، والبيّنة ، وغيرها . فهو قائم مقام المستحق في أخذ حقه ، ولا عبرة بعلمه الاجمالي .

نظير ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد

-------------------

( وأمّا الحاكم فوظيفته ) أمران :

الأوّل : القضاء بين المتخاصمين والاكتفاء ببيان المحقّ منهما من المبطل .

الثاني : ( أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه ) استحقاقا ( بالأسباب الظّاهرية ، كالاقرار ، والحلف ، والبيّنة ، وغيرها ) من مثل : القسامة ، ونكول المترافعين ، والشواهد التي تكتنف بالكلام وبالقضية ، ممّا توجب كشف الحاكم الحق حسب الموازين الشرعية ( فهو ) أي : الحاكم هنا ( قائم مقام المستحق في أخذ حقه ) واعطائه للمستحق شرعا ، كالوكيل الذي يأخذ مال الموكل ويرسله إليه ( ولا عبرة بعلمه ) أي: بعلم الحاكم ( الاجمالي ) بأن أحد الطرفين مبطل .

ولا يخفى : انّ هذا معناه : انّ الشارع رفع اليد عن الواقع من أجل الموازين الظّاهرية - كما ذكرناه نحن - فهو استثناء لأجل النص الشرعي عليه ، فلا يتعدى مورده الى سائر الموارد .

و (نظير ذلك ) أي : نظير حكم القضاء ( ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد ) مع أنّه يعلم أنّ أحدهما جنب وأنّ دخوله في المسجد محرّم في نفسه ، لكن حيث يعلم المفتي بأن لكل منهما أن يجري استصحاب الطهارة لنفسه ، جاز له أن يفتي بأن لكل واحد منهما

ص: 258

فانّه إنمّا يأذن كلاً منهما بملاحظة تكليفه في نفسه ، فلا يقال : إنّه يلزم من ذلك إذنُ الجنب في دخول المسجد وهو حرام .

وأمّا غير الحاكم ممّن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما

-------------------

الحق في دخول المسجد ، كما قال :

( فانّه إنمّا يأذن كلاً منهما بملاحظة تكليفه ) أي : تكليف المستفتي ( في نفسه) من غير نظر الى تكليف المفتي ، حيث ان كل واحد منهما يشك شكا بدويا في جنايته ، وفي حرمة دخوله المسجد ، وحرمة الصلاة والصوم عليه ، وما أشبه ذلك ، فتكليف كل منهما في نفسه الجواز ، لأصالة عدم الجنابة سواء بالنسبة إلى زيد أو بالنسبة إلى عمرو الذين وجدا المني في ثوبهما.

وكذلك الحال إذا علم الحاكم بأن زوجة أحدهما أخته من الرضاعة - مثلاً - أو حائض ، فاستفتاه كل منهما في مقاربة زوجته ، فانّه يفتي لكل واحد منهما بالجواز، لأنّه من الشك البدوي بالنسبة اليهما واستصحاب الحلية أيضا يعطي الجواز بالنسبة إلى كل منهما ، وبعد اجازة الشارع لمثل هذه المخالفة بالنسبة إلى الحاكم ( فلا يقال : أنّه يلزم من ذلك : إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام ) أو اذنه في وطي الزوجة وهي أخته من الرضاعة ، أو في حال الحيض ، أو ما أشبه ذلك .

وهكذا لو شك في مكان خارج عن البلد : بأنّه خارج عن حدّ الترخّص أم لا ، فانّه يفتي بالتمام للمسافر من البلد لاستصحاب التمام ، وبالقصر للراجع إلى البلد لاستصحاب القصر ، مع أنّه لو كان خارجا عن حدّ الترخص كانت صلاة المسافر من البلد باطلة ، ولو كان داخلاً في محل الترخص كان صلاة الراجع إلى البلد باطلة.

هذا ( وأمّا غير الحاكم ممّن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما

ص: 259

في مسألة الاقرار فلا نسلّم جواز أخذه لهما ولا لشيء منهما إلاّ إذا قلنا بأن ما يأخذه منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي ، نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر ، بناءا على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ، كالملكية ، والزوجيّة ، وغيرهما ،

-------------------

في مسألة الاقرار ) أو مسألة الصلح ( فلا نسلّم جواز أخذه لهما ) أي : للمالين ( ولا لشيء منهما ) فانّه قد يأخذ كل المالين ، وقد يأخذ من كل مال بعضه ، ممّا يوجب له العلم الاجمالي بأنّه استولى على الشيء الحرام .

( إلاّ إذا قلنا بأن ما يأخذه منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي ) بأن نقول أنّ الدليل على تقسيم الابل في قضاء علي أمير المؤمنين عليه السلام وشبهه دلّ على انّ حكم الشارع قد جعل المال نصفا بينهما ، ولولا حكم الشارع لكان كل المال لأحدهما، فيجوز حينئذ للثالث أخذ المال منهما ، حيث انّ المال صار ملكا لهما بسبب حكم الشارع ، فيترتَّب على المالين حكم الملك الواقعي ، وكذا إذا ورث أحدهما الآخر أو ورثهما ثالث حيث يجتمع عنده المالان .

وعليه : فيكون ذلك ( نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر ) كما اذا أفتى أحد المجتهدين بصحة العقد بالفارسية ، وأفتى الآخر بعدم الصحة ، فانّ المقلدين الذين أجريا صفقة بيع ، وقد أجراه أحدهما بالعقد الفارسي والآخر بالعقد العربي يصبح المال لهما ويترتّب على المالين أحكام الملك الواقعي ، فهو استثناء عن لزوم موافقة العلم الاجمالي .

وإنّما يكون كذلك ( بناءا على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ، كالملكية ، والزوجيّة ، وغيرهما ) كالرقية ، والحرية ، تكون العبرة

ص: 260

بصحتها عند المتلبس بها ، كالمالك والزوجين ، ما لم يعلم تفصيلاً من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك .

-------------------

( بصحتها ) أي : بصحة تلك الموضوعات ( عند المتلبس بها ) أي : بهذه الموضوعات ( كالمالك والزّوجين ) والعبد الذي استرق ، أو العبد الذي تحرر ، وهكذا .

وعليه : فانّه اذا صحّت الملكية عند المالك والزوجية عند الزوجين ، والرقية عند العبد ، والحرية عند الحر ، وهكذا كل عند نفسه بحسب الاجتهاد أو التقليد ، فللآخر ان يرتِّب على هذه الموضوعات الآثار الشرعية ، مثل : جواز الاشتراء وحرمة التزويج وغير ذلك من الأحكام .

وكذلك الحال فيما اذا أفتى أحد المجتهدين بحرمة الشاة المذبوحة بفري وَدَجٍ واحد، وأفتى الآخر بحليتها ، فانّه يحل لكل منهما أن يأكل من شاة الآخر ، وكذلك اذا اختلف مجتهداه وكان أحدهما يقول بالحرمة والآخر بالحلية فله الأكل منهما اذا كانت الشاة بعد باقية ، وقد ذكر صاحب الفصول في هذا المجال : انّ الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين وهو كلام متين جدا ، وتدل عليه السيرة المستمرة بين المتشرعة مع اختلاف الفقهاء في أمثال هذه الامور اختلافا كثيرا .

ثم إنّ المصنّف قيّد جواز ترتيب الآثار بقوله : ( ما لم يعلم تفصيلاً من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك ) كما ذكرنا في مثال اشتراء شخص ثالث منهما ، وانتقال المال من أحدهما إلى الآخر بسبب بيع أو أرث أو ما أشبه ، حيث يعلم تفصيلاً أنّه لا يحل له المالان .

لكنّك قد عرفت : انّ ظاهر الاستثناء الشرعي أنه يصح للثالث ترتيب الآثار أيضا ، وإلاّ فأي فرق بين المجتهد المفتي بفتويين وهو يعلم عدم مطابقة احداهما

ص: 261

ولذلك قيل بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المني في صلاة واحدة ، بناءا على أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصّحة عند المصلي ، ما لم يعلم تفصيلاً فساده .

-------------------

للواقع ، وبين الشخص الثالث المنتقل إليه المالان ، أو الشخص الثاني الذي انتقل إليه مال الأوّل بارث أو نحوه .

( ولذلك ) الذي ذكرناه بقولنا : « بناءا على ان العبرة في ترتيب آثار الموضوعات ..» ( قيل بجواز الاقتداء في الظهرين ) مثلاً : ( بواجدي المني ) بأن يصلي الظهر مع أحدهما ، والعصر مع الآخر ، فإنّ المأموم حينئذ يعلم بأن صلاة الظهر باطلة أو صلاة عصره لأنّه ترك الحمد والسورة عمدا ، فانّ الإمام إذا كان جُنبا لم تصح إمامته ولم تصح مأمومية المأموم به ، فيكون تركه الحمد والسورة مبطلاً لصلاته . بل ( في صلاة واحدة ) كما إذا صلى مع أحدهما ركعتين ثم مات أو أحدث ، فقام مقامه الآخر ، فإنّ هذه الصلاة مقطوع بأن إمامها واجد للمني في الجملة .

وإنّما قيل بجواز الاقتداء ( بناءا على أنّ المناط في صحّة الاقتداء : الصّحة عند المصلي ) فتصح صلاة الثالث ، ومن المعلوم : انّ صلاة واجد المني صحيح حسب تكليفه ، حيث يستصحب عدم الجنابة بالنسبة إليه ( ما لم يعلم تفصيلاً فساده ) أي : ما لم يعرف الشخص الثالث الجنب منهما تفصيلاً ، فإذا عرف جنابة أحدهما تفصيلاً بأن علم أنّ زيدا هو الجنب منهما ، فإنّه وإن كان زيد لايعرف أنّه جنب ، لا يصح للشخص الثالث الاقتداء بزيد .

نعم ، من يرى اشتراط احراز المأموم صحة صلاة الإمام ولو بالأصل ، فلا يجوز الائتمام بهما ولا بأحدهما إذ العلم بجناية أحدهما يمنع عن اجراء أصالة الصحة

ص: 262

وأما مسألة الصّلح ، فالحكم فيها تعبّدي ، وكأنّه صلح قهريّ بين المالكين ، أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط .

وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرّجوع إلى القرعة .

وبالجملة : فلا بدّ من التّوجيه في جميع ماتوهّم جواز المخالفة القطعية الرّاجعة الى طرح دليل شرعيّ ،

-------------------

في صلاتهما ، لكن بناء الفقهاء على أنّ الصحيح عند الإمام كافٍ في جواز الاقتداء به ( وأما مسألة الصّلح ) في درهمي الودعي التي ورد بها النص وعمل به الفقهاء (فالحكم فيها تعبّدي وكأنّه صلح قهريّ بين المالكين ) بمعنى : ان نصف المال أو ما يقسم بالنسبة قد انتقل إلى غير مالكه بنقل اللّه سبحانه وتعالى فهو صلح من قبل مالك الملوك ، كما قد يكون صلحا من قبل المالك للمال لزيد وعمرو ونحوهما .

( أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط ) فكأنه اشترك الودعيان في مجموع الدراهم على سبيل الاشاعة ، حتى ان ما تلف يكون منهما ، وما بقي يكون منهما ، ومرجع هذين الحملين إلى ما ذكرناه : من الخروج بالدليل ، سواء الدليل الشرعي ام ان الدليل العرفي قام على الاشاعة والشارع قررها .

هذا ( وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرّجوع إلى القرعة ) في الودعيين لا التنصيف ، وبقي هنا ممّا لم يذكره المصنِّف - وإن أشكل عليه في قوله : « ان قلت » - مسألة الاختلاف في الثمن أو المثمن ، فيكون ذلك استثناءا من الشارع ، كما ذكرناه في غيره ، أو انّه أمر عرفي قررّه الشارع .

( وبالجملة : فلا بدّ من التّوجيه في جميع ماتوهّم جواز المخالفة القطعية ) فيه ( الرّاجعة ) تلك المخالفة القطعية ( إلى طرح دليل شرعيّ ) أوّلي مثل قوله تعالى :

ص: 263

لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل والنقل ، خصوصا اذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام ، وهذا ممّا لا تأمّل فيه ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر : أنّه قصد غير هذه الصورة .

ومنه يظهر : ان إلزام - القائل بالجواز - بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ، بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين

-------------------

« وَلاتَأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطل » (1) وغيره من أدلة المحرمات ، فان كل هذه الموارد ، استثناء من الأدلة الأوّلية ، أما استثناء شرعي أولاً وبالذات ، وأمّا استثناء عرفي قررّ الشارع ذلك الاستثناء ( لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل ) فانّ المخالفة القطعية ممنوعة في العقل ( و ) في ( النقل ) من الأدلة الأولية الدالة على لزوم الاجتناب عن المحرمات ( خصوصا اذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام ، وهذا ) قطعي التحريم ، و ( ممّا لا تأمل فيه ) من أحد .

( و ) أما ( من يظهر منه جواز الارتكاب ) للمشتبهين تدريجا ( فالظاهر : أنّه قصد غير هذه الصورة ) أي: صورة قصده ارتكاب المشتبهين للتوصل إلى الحرام .

( ومنه ) أي : من أنّ حرمة المخالفة مع القصد المذكور اتفاقي بين الأصحاب ، وان من يظهر منه جواز الارتكاب لا يقصد هذه الصورة ( يظهر : ان إلزام القائل بالجواز ) أي : من يقول بجواز ارتكاب المشتبهين تدريجا ( بأنّ تجويز ذلك ) الخلاف التدريجي ( يفضي ) وينتهي ( إلى إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ) وذلك ( بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين

ص: 264


1- - سورة البقرة : الآية 188 .

تفصيلاً ، كالخمر والخلّ ، على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما - محلُّ نظر ، خصوصا على ما مثلّ به من الجمع بين الأجنبيّة والزّوجة .

-------------------

تفصيلاً كالخمر والخلّ ) جمعا ( على وجه يوجب الاشتباه ) بينهما بأن لم يعرف الخل من الخمر منهما ( فيرتكبهما ) تدريجا ، فان هذا الالزام ( محلّ النظر ) بل غير لازم للقائل .

وانّما هو محل نظر لما عرفت : من ان أحدا لم يقل بجواز ارتكاب المشتبه بقصد التوصل إلى الحرام ، ( خصوصا على ما مثلّ به ) المستشكل ( من الجمع بين الأجنبيّة والزّوجة ) فإنّ القائل بجواز ارتكاب المشتبهين تدريجا أشكل عليه : بأنه على الجواز ، يجوز لشخص أن يجمع بين زوجته وأجنبية فيطأهما جميعا في ظلام ونحوه حتى لا يعرف عند الوطي أيتهما الزوجة وأيتهما الأجنبية ، كما أنّ له أن يجمع بين الزوجة وغلام ، أو تجمع المرأة بين الزوج والاجنبي ممّا هو بديهي التحريم شرعا .

بل وكذا له أن يجمع بين واجب القتل ومحرّم القتل في مكان لا يميّز بينهما فيقتلهما ، أو بين جائز الذبح في الشاة ومحرّم الذبح كالانسان المحقون الدم فيذبحهما في حال يكون حين الذبح لا يعلم بأن أيهما الانسان ، كما لو كان الذبح بواسطة الماكنة ، إلى غير ذلك من الامور المسلّمة حرمتها شرعا .

وانّما قلنا خصوصا وأنّه لا يرد هذا الاشكال على القائل بجواز الارتكاب التدريجي لما عرفت : من أنّ المخالفة على تقدير جوازها في سائر موارد العلم الاجمالي ، فانّه لايجوز ههنا في مثل هذه الأمثلة ، وذلك من جهة الأهمية في الفروج والدِّماء حتى وإن لم تقصد من الخلط بينهما التوصل إلى الحرام .

ص: 265

هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين أمرين .

وأما إذا كان مردّدا بين عنوانين ؛ كما مثّلنا سابقا بالعلم الاجمالي بأنّ أحد المايعين إمّا خمرٌ أو الآخر مغصوب ، فالظّاهر انّ حكمه كذلك .

إذ لافرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالاجمال ،

-------------------

( هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين أمرين ) كما إذا لم يعلم أنّ الخمر في الاناء الأحمر أو في الاناء الأبيض ( وأما إذا كان مردّدا بين عنوانين كما مثّلنا ) له ( سابقا ) في مبحث القطع ( بالعلم الاجمالي بأنّ أحد المايعين إمّا خمرٌ أو الآخر مغصوب ) حيث انّه ليس المحرّم عنوانا واحدا ، بل دار الأمر بين الخمرية والمغصوبية ، أو دار أمر المرأة بين كونها زوجة بالحيض أو كونها أجنبية ( فالظّاهر انّ حكمه كذلك ) أي : تحرم المخالفة عقلاً وشرعا ، فلا يجوز له شرب الانائين حيث يعلم انّه شرب إمّا الخمر وإما المغصوب ، وكذلك لا يجوز له وطي المرأتين حيث يعلم انه إمّا وطي الزوجة في حالة الحيض وإمّا وطي الاجنبية .

وانّما يكون حكمه التحريم أيضا ( إذ لافرق ) عقلاً وشرعا ( في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل ) مثل : « اجتنب عن الخمر » ، وقوله « للدليل » متعلق « بالمخالفة » (و) بين ( كونه معلوما بالاجمال ) مثل : اجتنب عن الخمر أو اجتنب عن الغصب ، فانّ العقل والعقلاء والمتشرِّعة لايفرِّقون في وجوب الاجتناب عن المشتبه ، سواء كان مشتبها بالخمر وحده ، أم مشتبها إمّا بالخمر وإمّا بالمغصوب ، فيلزم الاجتناب عن كِلا الانائين في كلتا الصورتين .

ص: 266

فان من ارتكب الانائين في المثال يعلم بأنه خالف دليلَ حرمة الخمر أو دليلَ حرمة المغصوب ، ولذا لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ، مع أنه لايلزم منه الاّ مخالفة احد الدليلين لا بعينه ، وليس ذلك إلا من جهة أنّ مخالفة الدليل الشرعي محرّم عقلاً وشرعا ، سواء تعيّن للمكلف

-------------------

وانّما يلزم الاجتناب عنهما لانّه كما قال : ( فان من ارتكب الانائين في المثال ) أي : في مثال ما إذا علم ان أحدهما إمّا خمر وإمّا غصب ( يعلم بأنه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب ) .

ومن الواضح : انه لا فرق عند العقل والعقلاء ولا عند المتشرّعة الذين تلقوا فهمهم من الشرع في وجوب اجتناب الحرام بين الحرمة التفصلية والحرمة الاجمالية ، وفي الاجمالي بين أن يكون الحرام شيئا واحدا مرددا بين شيئين ، أو الحرام أحد أمرين مرددا بين شيئين .

( ولذا ) أي : لأجل عدم الفرق بين الفرضين ( لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ) أيضا لانّه أي فرق بين الاناء الواحد المردّد بين الخمر والمغصوب ، وبين الانائين الذين يعلم المكلّف بأن أحدهما إمّا خمر وإمّا مغصوب ؟ ( مع انه لا يلزم منه الاّ مخالفة أحد الدليلين لا بعينه ) فانه اذا ارتكب المشتبه في المثال الثاني ، وهو ما إذا كان مرددا بين الخمر والمغصوب ، يعلم بأنه خالف إمّا دليل الخمر وإمّا دليل الغصب وهذه المخالفة محرّمة وان كان لا يعلم أنه خالف هذا الدليل أو ذاك الدليل ؟ .

( وليس ذلك ) أي : عدم الجواز بالنسبة إلى محتمل الخمرية والغصبية ( إلاّ من جهة انّ مخالفة الدليل الشرعي محرّم عقلاً وشرعا سواء تعيّن للمكلّف ) بأنّه

ص: 267

أو تردّد بين دليلين .

ويظهر من صاحب الحدائق التفصيلُ في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه وبين كونه مردّدا بين عنوانين فلايجب .

فان أراد عدم وجوب

-------------------

خمر بين الاناء الأحمر أو الأبيض ( أو تردّد بين دليلين ) وان كان أحد الانائين إمّا خمر وإمّا غصب .

هذا حكم ما كان الجامع قريبا كما في مثال المردد بين الخمر والغصب ، وهو : شرب السائل ، فانّه محرّم وكذلك الحال لو كان الجامع بعيدا كما إذا تردد الأمر بين كون ما في الاناء خمرا ، أو ان زوجته في حال الحيض ، فانّه لا يجوز له أن يشرب هذا ويطأ هذه .

وكذا لو كان الجامع ابعد بأن تردد الأمر بين تكليف الزامي لم يعلم انه وجوب الجمعة ، أو حرمة وطي زوجته المحتمل حيضها فانّه إذا قطع بأحد الامرين اجمالاً ، وجب عليه الاتيان بالجمعة وترك الزوجة ، فلا يجوز له ان يترك الجمعة وأن يأتي المرأة ، لأنه يعلم حينئذ بأنّه خالف تكليفا إلزاميا موجها اليه ، وذلك ممّا يمنعه العقل والشرع .

هذا ( ويظهر من صاحب الحدائق ) هنا ( التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان ) كما عرفت من مثال الخمر المردد بين كونه في الاناء الأبيض أو الاناء الأحمر ( فيجب الاجتناب عنه ) أي : عن ذلك العنوان الواحد بالاجتناب عن الانائين ( وبين كونه مرددا بين عنوانين ) كالخمر أو الغصب - مثلاً - ( فلا يجب ) الاجتناب عنه ( فان أراد ) الحدائق ( عدم وجوب

ص: 268

الاجتناب عن شيء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفُه بما ذكرنا ، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه فسيجيء ما فيه .

وأمّا المقام الثاني

فالحق فيه : وجوبُ الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ،

-------------------

الاجتناب عن شيء منهما في الثاني ) بأن يشرب الانائين الذين علم بأن أحدهما إمّا خمر وإمّا غصب ( وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا ) من ان العقل والشرع متطابقان في عدم جواز الارتكاب ، سواء كان عنوانا واحدا أم عنوانين ؟ .

( وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه ) بجواز ارتكاب أحدهما لا بجواز ارتكاب كليهما ( فسيجيء ما فيه ) وانه كما لايجوز ارتكاب كلا الانائين الذين يعلم اجمالاً بأن أحدهما خمر أو غصب ، كذلك لا يجوز ارتكاب أحدهما ، فانه ان طابق الواقع عوقب لأنه ارتكاب عمدي بعد وصول البيان .

ألا ترى انه لو علم العبد بأنّ مولاه أمره بأحد شيئين : إمّا بأن يشتري الطعام ، وإمّا بأن لا ينام ، فارتكب العبد كليهما عوقب قطعا ؛ وان ارتكب أحدهما عوقب أيضا ان خالف كلام المولى ، وليس في الشرع ما يدل على خلافه ، بل المتشرعة يرون أنفسهم ملزمين بوجوب الاطاعة كذلك .

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم اجمالاً وعدمها .

(أما المقام الثاني ) : أي : وجوب الموافقة القطعية للمعلوم إجمالاً وعدمه (فالحق فيه : وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ،

ص: 269

وفي المدارك : أنه مقطوع به في كلام الاصحاب ، ونسبه المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ، وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية دعوى الاجماع صريحا ، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه وحكي عن بعض القرعة .

لنا على ما ذكرنا أنه إذا ثبت كونُ أدلة تحريم المحرّمات شاملة للمعلوم إجمالاً

-------------------

وفي المدارك : انّه مقطوع به في كلام الاصحاب ) ومن المعلوم : إنّ هذه العبارات ظاهرة في الاجماع ( ونسبه المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ) وهذا أصرح في دعوى الاجماع من كلام المدارك .

( وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية : دعوى الاجماع صريحا ) عليه ، فاذا شك في أنّ أي الانائين خمر هذا أو ذاك ؟ وجب الاجتناب عنهما .

( و ) لكن مع ذلك الاجماع الذي عرفته ( ذهب جماعة إلى عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، مما حاصله : أنه لايجب الموافقة القطعية .

( وحكي عن بعض ) قول ثالث وهو : ( القرعة ) فاذا لم يعلم أنّ هذا خمر أو ذاك ، أقرع بينهما فيجتنب عن أحدهما بالقرعة ويرتكب الآخر بها .

( لنا على ما ذكرنا ) من وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وجوه ثلاثة ، ذكر المصنّف هنا وجها وذكر في آخر المبحث وجهين آخرين .

أمّا الوجه الذي ذكره هنا ، فهو : ( انه إذا ثبت كون أدلة تحريم المحرّمات ) مثل : اجتنب عن الخمر ( شاملة للمعلوم إجمالاً ) لأن الجهل انّما يكون بالنسبة إلى الذهن ، والألفاظ لم توضع للمعاني المعلومة ، فاذا قال المولى : اجتنب

ص: 270

ولم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي من تنجيز التكليف به ، لزم بحكم العقل التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين .

وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالاً إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة ، والمفروض في هذا المقام التسالمُ

-------------------

عن الخمر كان معناه : اجتنب عن الخمر الواقعي ، لا الخمر المعلومة الخمرية ، وكذلك اذا قال : صِلْ رحمك ، كان معناه : صِلْ رحمك الواقعي ، لا ان معناه رحمك المعلومة أنّها رحمك .

هذا من جهة وجود المقتضي ، فانّ المقتضي موجود .

( و ) أمّا عدم المانع فانّه ( لم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي من تنجيز التكليف به ) أي بالمعلوم اجمالاً ، فاذا كان المقتضي موجودا والمانع مفقودا اثرت العلة التامة أثرها وهو تنجز التكليف هنا ، وذلك لأن العقل لا يرى مانعا عن تنجز التكليف المعلوم اجمالاً ، وأدلّة البرائة لاتشمل مورد العلم الاجمالي كما سبق في بحث البرائة .

وعليه : فاذا تم هذان الأمران : وجود المقتضي وعدم المانع ( لزم بحكم العقل : التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم) المجهول خصوصيته، المعلوم أصله بالاجمال، ويكون التحرز ( بالاجتناب عن كلا المشتبهين ) : المحرّم الواقعي من باب أنّه حرام ، وغير المحرّم الواقعي ممّا اشتبه به من باب المقدمة العلمية ، إذ لو ارتكب أحدهما وصادف الواقع كان فيه العقاب .

( وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم اجمالاً إن لم يكن ثابتا ) لقصور الأدلة - مثلاً - ( جازت المخالفة القطعيّة ) بأن يرتكب كلا الانائين ( و ) لكن (المفروض في هذا المقام ) الذي نحن فيه من وجوب الموافقة القطعية ( : التسالم

ص: 271

على حرمتها ، وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ، إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي ، فيعاقب عليه ، لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم فلم يقبح العقابُ عليه إذا اتّفق إرتكابه ولو لم يعلم به حين الارتكاب .

-------------------

على حرمتها ) أي : حرمة المخالفة القطعية .

( وإن كان ) التكليف بذلك المعلوم اجمالاً (ثابتا ) لما عرفت : من وجود المقتضي وعدم المانع ( وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ) بالاجتناب عن كِلا المشتبهين .

وانّما يلزم الاجتناب عن كليهما ( إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين ) فيما لو ارتكب أحدهما فقط أن يكون ( هو الحرام الواقعي فيعاقب عليه ) فالعقل يستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل في مورد العلم الاجمالي .

وانّما يعاقب المولى عليه مع المصادفة ( لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم ) لما عرفت : من وجود المقتضي وعدم المانع ( فلم يقبح العقاب عليه ) أي : على ما ارتكبه ( إذا اتّفق ارتكابه ) للحرام الواقعي بأن شرب أحد الانائين فكان في الواقع هو الخمر ( ولو لم يعلم ) المكلّف ( به ) أي : بأن ما يشربه هو ذلك المحرّم ( حين الارتكاب ) ومن المعلوم : إنّ دفع العقاب المحتمل الذي لا مؤّن منه عقلاً أو شرعا واجب عقلاً .

نعم ، إذا ارتكب أحدهما ولم يصادف الخمر في الواقع ، لم يكن عليه عقاب ، لأنه لم يشرب الخمر ، والمفروض إنّ الخمر حرام لا الماء الذي لم يعلم المكلّف انه خمر أو ماء ، الاّ انّه يكون تجريا والشيخ المصنّف قدس سره يرى عدم حرمة التجري كما تقدّم في أول الكتاب .

ص: 272

واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى : « اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الانائين » ، فأنك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط .

ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة الاّ العموم والخصوص .

فان قلت : اصالة الحلّ

-------------------

( واختبر ذلك ) أي : وجوب الاحتياط بالاجتناب عن كلا المشتبهين وأنه اذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع عوقب عليه ( من حال العبد إذا قال له المولى : «اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الانائين ») فيما كان هناك انائان أحدهما خمر ، فقال له المولى : اجتنب عن الخمر الواقعي المردد بينهما ( فانك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط ) في الاجتناب عن كلا الانائان .

هذا ( ولا فرق بين هذا الخطاب ) من المولى لعبده ( وبين أدلة المحرّمات الثابتة في الشريعة ) حيث قال سبحانه : « إنَّما الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَملِ الشَيطانِ فاجتَنِبوُهُ » (1) ( الاّ العموم والخصوص ) المطلق فانّ المولى في هذا المثال حرّم خصوص الخمر المردّد بين هذين الانائين ، والشرع حكم بحرمة كلّي الخمر سواء علم به تفصيلاً أو اجمالاً ، وكما يجب الاحتياط في مثال العبد وخصوص الخمر المردد بين الانائين ، كذلك يجب الاحتياط في الثاني وهو تحريم المولى الخمر الكلي ، إذ لا يرى العرف فرقا بين الأمرين .

(فان قلت : ) انكم ذكرتم وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع من عقل أو شرع عنها ، لكنّا نقول : المانع موجود وهو : وجود أصالة الحل ، فانّ ( أصالة الحلّ

ص: 273


1- - سورة المائدة : الآية 90 .

في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة لولا المعارض ، وغاية ما يلزم في المقام تعارضُ الأصلين ، فيتخيّر في العمل في أحد المشتبهين ، ولا وجه لطرح كليهما .

قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلفا بالاجتناب عنه ، منجّزا على ما هو مقتضى الخطاب بالاجتناب عنه

-------------------

في كلا المشتبهين جارية في نفسها ) أي : جارية لولا المعارض ، فانّ الأصل : حليّة هذا الاناء ، كما ان الأصل : حليّة ذاك الاناء أيضا ، اذ أصالة الحل جارية ( ومعتبرة ) في كل من الانائين ( لولا المعارض ) حيث انّ أصل الحل في هذا ، معارض بأصل الحل في ذاك ، لانّا نعلم اجمالاً بأنّ أحدهما حرام فلا نتمكن من اجراء أصلين فيهما .

( و ) عليه فانّ ( غاية ما يلزم في المقام ) في مورد اشتباه الحرام بين الانائين هو: ( تعارض الأصلين ) لأنّ أصل الحل في هذا الاناء معارض بأصل الحل في الاناء الآخر بعد العلم الاجمالي بحرمة أحدهما ( فيتخيّر في العمل في أحد المشتبهين ) لأنّه اذا لم يتمكن الانسان من العمل بكلا الأصلين ، فلا اقل من أن يعمل بأحدهما ، لأنّه القدر الممكن ( ولا وجه لطرح كليهما ) أي : كلا الاصلين ، فانّ العلم الاجمالي مانع عن جريانهما معا ، لا عن جريان أحدهما .

( قلت : ) ما ذكرتم : من وجود المانع غير صحيح ، لأن ( أصالة الحلّ غير جارية هنا ) أي : في مورد العلم الاجمالي ( بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلّفا بالاجتناب عنه ) تكليفا ( منجّزا ) عقلاً وشرعا كما عرفت ( على ما هو مقتضى الخطاب ) وقوله : « على » متعلق بقوله : « مكلفا » ( بالاجتناب عنه ) أي : عن المحرّم ، فيكون معنى ذلك : انّ مقتضى قوله : « اجتنب عن الخمر » وجوب

ص: 274

لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين ، حتى لا يقع في محذور فعل الحرام . وهو معنى المرسل المرويّ في بعض كتب الفتاوى : « اترك مالا بأسَ به حذرا عمّا به البأسُ » ، فلا يبقى مجال للاذن في فعل أحدهما ،

-------------------

الاجتناب عن الخمر الواقعي ، سواء علم به المكلّف أو تردد بين انائين أو ما أشبه ، وذلك ( لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي ) قوله : «بترك » متعلق « بالاشتغال » ( هو : الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين حتى لا يقع في محذور فعل الحرام ) إذا صادف الواقع .

والحاصل : إنّ أدلة الحلّ ليست مانعة عن مقتضى العلم الاجمالي الذي هو الاجتناب عن كليهما ، بل ( وهو ) أي : الذي ذكرناه : من وجوب الاجتناب عن كليهما ( معنى المرسل المرويّ في بعض كتب الفتاوى ) كسرائر ابن ادريس رحمه اللّه : ( اترك مالا بأس به ) أي : الحلال ( حذرا عمّا به البأسُ ) (1) أي : الحرام ، فاذا اختلف الحرام بالحلال وجب ترك الحلال لئلا يقع في محذور الحرام .

وعليه : ( فلا يبقى مجال للاذن في فعل أحدهما ) كما لا يجوز ارتكاب كليهما، فإنّ ارتكاب كلا المشتبهين منافٍ لتنجز التكليف المعلوم اجمالاً - حسب ما عرفت - واجراء البرائة في أحدهما فقط منافٍ لقاعدة الاشتغال ، فانّ الاشتغال اليقيني بحاجة الى البرائة اليقينية ، والبرائة اليقينية لا تحصل الاّ بالاجتناب عن جميع الأطراف .

ص: 275


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس ، الصراط المستقيم : ج1 ص135 ، وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

وسيجيء في باب الاستصحاب أيضا أن الحكم في تعارض كل أصلين اذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو : التساقط ، لا التخيير .

فان قلت :

-------------------

( وسيجيء ) إنشاء اللّه تعالى ( في باب الاستصحاب أيضا ) كما ذكرنا هنا : من ( ان الحكم في تعارض كلّ أصلين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو : التساقط ، لا التخيير ) فإذا كان هناك استصحابان ليس بينهما سببي أو مسببي يتساقطان ، كما إذا كان هناك انائان كلاهما طاهر ثم وقع نجس في أحدهما المردّد ، فانّه لا يجري استصحاب الطهارة في هذا الاناء ، كما لا يجري استصحاب الطهارة في ذاك الاناء ، بل يتساقط الاستصحابان .

نعم ، إذا كان أحد الأصلين حاكما على الآخر ، بأن كان الشك في مورد سببا للشك في مورد آخر ، فانّه يجري الأصل في الشك السببي ويطرح الآخر الذي هو شك مسببي ، كما إذا كانت يده نجسه فغسلها في حوض مسبوق بالكريّة ، ثم شك في كرّية الماء ، فإنّ استصحاب الكريّة هنا حاكم على استصحاب نجاسة اليد ، فيجري استصحاب كرّية الماء ويسقط بسببه استصحاب نجاسة اليد ، فيحكم بطهارة اليد .

( فان قلت : ) ممّا حاصله على قول الأوثق : « ان ظاهر قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (1) هو : إلغاء احتمال الحرمة فيما يحتملها والحلية ، والبناء على كونه محللاً في الواقع ، وهذا في الشبهات البدوية واضح ، لعدم منافاة البناء على حلية بعضها مع البناء على حلية الباقي ، لاحتمال حلية الجميع في نفس الأمر ، فيحكم

ص: 276


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

...

-------------------

في الجميع بكونها محللاً في الواقع بحسب تنزيل الشارع ، فانّ الشبهات البدوية المتكثرة كل واحد يحكم فيها بالحلية ، ويحتمل أنّ الجميع في نفس الأمر حلال ، وأمّا الشبهة المحصورة : فلأن العلم فيها لمّا كان حاصلاً بحرمة أحد المشتبهين أو الأكثر ما لم يصل إلى حدّ غير المحصور ، فالبناء على كون أحدهما حلالاً في الواقع يستلزم وجوب البناء على كون الآخر حراما لا محالة ، وحيث لا ترجيح للحكم بحلية أحدهما بالخصوص ، يحكم بذلك فيهما على التخيير ، وذلك لأنّ البناء على حلية بعض الأطراف وكونه الموضوع المحلل ، يستلزم عقلاً البناء على كون غيره هو الموضوع المحرّم ، فكل من الحرام والحلال يكون على البدل (1) .

ولا يخفى : ان الفرق بين « ان قلت » هذا وبين « ان قلت » السابق بعد كون مفاد الاثنين : التخيير في ارتكاب أحد المشتبهين على البدل هو : ان جعل البدل هناك مستفاد من الجمع بين أدلة الحل وتعارض الأصلين ، لا من نفس أدلة الحل وجوابه كما عرفت : حكومة الاشتغال على الحل ، وهنا : جعل البدل مستفاد من نفس أدلة الحل وحكومتها على قاعدة الاشتغال ، إذ مفادها: وجوب البناء على ان هذا هو الخل فيترتّب عليه الحلية ، وهذا يشتمل موارد الشبهة البدوية على سبيل الاستيعاب وشمول جميع أطراف الشبهة ، لما عرفت : من امكان البناء على احتمال أن يكون كل واحد من هذه الأواني المرددة بين الخل والخمر : خلاً ، كما يشمل موارد الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي على سبيل التخيير وشمول بعض أفراد الشبهة لأنّ البناء على كون أحدهما خلاً ، مستلزم للبناء على كون الثاني خمرا.

ص: 277


1- - أوثق الوسائل : ص329 لزوم الموافقة القطعية في الشبهة الموضوعية .

قوله « كلُّ شيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ الحَرام » أو نحوه ، يستفاد منه : حليّة المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الاجمالي جميعا ، وحلية المشتبهات المقرونة بالعلم الاجمالي على البدل ، لأن الرّخصة في كل شبهة مجرّدة لا تنافي الرّخصة في غيرها ، لاحتمال كون الجميع حلالاً في الواقع .

فالبناءُ على كون هذا

-------------------

وعليه : فان ( قوله ) عليه السلام: ( «كلُّ شيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ الحَرام» (1) أو نحوه ) من سائر أدلة البرائة مثل : « كلُّ شيء مطلقٌ حتى يَرِدَ فيه نهيٌ » (2)

( يستفاد منه : حليّة المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الاجمالي ) حلاً يشمل اطرافها ( جميعا ) أي : جميع أفراد الشبهة البدوية ( وحليّة المشتبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ) انّما يكون ( على البدل ) فاذا استعملنا أحدهما على انّه حلال ، يحرم استعمال الآخر ، لأنه يكون حينئذ بدلاً عن الحرام الواقعي ، وكذلك إذا عكسنا : بأن استعملنا الثاني على انه حلال ، فانه يحرم الأوّل بناءا على كونه بدلاً عن الحرام الواقعي .

وانّما يستفاد من الأدلة ذلك ( لأن الرّخصة في كل شبهة مجرّدة ) عن العلم الاجمالي ( لا تنافي الرّخصة في غيرها ) بالنسبة إلى باقي الشبهات البدوية المتعددة ( لاحتمال كون الجميع حلالاً في الواقع ) وكذا بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة فيما كانت شبهات بدوية متعددة هنا وهناك ( فالبناء على كون هذا

ص: 278


1- - فروع الكافي : ج5 ص313 ح40 مع تفاوت ، وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 وبحار الانوار : ج2 ص274 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

المشتبه بالخمر خلاً ، لاينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلاً .

وأمّا الرّخصة في شبهة مقرونة بالعلم الاجمالي والبناء على كونه خلاًّ لمّا يستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ، فلا يجوز الرّخصة فيه جميعا .

نعم ، يجوز الرّخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه والبناء على ان المحرّم غيره ، مثلاً الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ،

-------------------

المشتبه بالخمر خلاً ، لاينافي البناء على كون المشتبه الآخر ) أيضا ( خلاً ) وكذلك بالنسبة الى المشتبه الثالث والرابع والخامس فيما كانت الشبهات بدوية .

( وأمّا الرّخصة في شبهة مقرونة بالعلم الاجمالي والبناء على كونه خلاً ) فيما إذا كان هنالك انائان أحدهما خل والآخر خمر ، فانّه ( لمّا ) كان ( يستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ) حتى يكون المشتبه الآخر إمّا خمرا في الواقع ، وإمّا بدلاً عن الخمر الواقعي في تحريم الشارع له ، ( فلا يجوز الرّخصة فيه جميعا ) بأن يأذن في استعمال هذا الاناء وذاك الاناء مع أنّه يعلم بأن أحدهما خمر .

( نعم ، يجوز الرّخصة فيه ) أي : في كل واحد من المشتبهين على سبيل البدل للتخيير ( بمعنى : جواز ارتكابه والبناء على ان المحرّم غيره ) أي : غير الذي ارتكبه ، ليكون المتروك هو البدل عن الحرام ،فاذا ترك الأوّل ( مثلاً ) كان الثاني بدلاً ، وإذا ترك الثاني كان الأوّل بدلاً ، كما في ( الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ) والآخر خلاً أو ماءا .

ص: 279

فانّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ، ولو تردّد بين الأمرين كان معنى الرّخصة في ارتكاب أحدهما الاذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرّم عليه ، وأنّ المحرّم غيره ، فكل منهما حلالٌ ، بمعنى جواز البناء على كون المحرّم غيره .

والحاصل :

-------------------

وعليه : ( فانّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ) لما تقدّم : من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فاذا قال المولى : الخمر حرام كان معناه : الخمر الواقعي حرام ( ولو تردّد بين الأمرين ) فالخمر المردد بين الانائين حرام وإن لم نعلم أنّ الاناء الأبيض خمر أو الاناء الأحمر ، فاذا رخّص أحدهما للتخيير ( كان معنى الرّخصة في ارتكاب أحدهما : الاذن في البناء على عدم كونه ) أي : كون الذي يرتكبه ( هو الخمر المحرّم عليه ، وانّ ) الخمر ( المحرّم ) عليه ( غيره ) أي : غير الذي ارتكبه ( فكل منهما حلال بمعنى : جواز البناء على كون المحرّم غيره ) .

هذا ( و ) لا يقال : إنّ شمول الرواية للشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي استعمال للفظ في أكثر من معنى ، لأنه على ما ذكرتم : من أنّ أدلة الحل تدل على حلّية الشبهات البدوية تعيينا في كل الشبهات البدوية ، وحلية الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي تخييرا في بعضها دون بعض ،مستلزم لاستعمال اللفظي المعنيين وهو أمّا مستحيل كما يقوله الآخوند ، أو خلاف الظاهر كما يقوله المشهور ، ولا يصار إليه إلاّ بالقرينة ولا قرينة في المقام .

لأنّه يقال : ( الحاصل ) من دفع هذا الاشكال هو : أنّ اللفظ قد استعمل في معنى واحد كلّي ، وهو : ألغ احتمال الحرمة ، ولا زمه في الشبهات البدوية : حل

ص: 280

أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار ان يلغى - من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته - احتمال الحرمة ، ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها . ولما كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكٌ واحد ، ولم يكن فيه الاّ احتمالُ كون هذا حلالاً وذاك حراما واحتمال العكس ، كان الغاءُ احتمال الحرمة في أحدهما اعمالاً له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكمُ الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلية كل

-------------------

الجميع لما عرفت : من عدم المنافاة ، وفي المقرون بالعلم الاجمالي : حل بعض الاطراف للتنافي ، كما قال : ( : أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار ) الدالة على الحلية هو ( ان يلغى - من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته - احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها ) أي متيقن الحلية ، فيكون حاصل هذه الأخبار : ألغ احتمال الحرمة .

( و ) عليه : فانّه ( لما كان في المشتبهين ) أو المشتبهات بالشبهة البدوية شك متعدد ، لأنّ كل واحد من أفراد تلك الشبهات البدوية مشكوك الحل والحرمة ، لكن بحيث لايكون البناء على حليّة أحدها منافيا للبناء على حلية الآخر : جرى الحل في جميعها .

بخلاف المشكوك ( بالشبهة المحصورة ) فانّه ( شك واحد ولم يكن فيه الاّ احتمال كون هذا حلالاً وذاك حراما ، واحتمال العكس ) بأن يكون ذاك حلالاً وهذا حراما ( كان الغاء احتمال الحرمة في أحدهما اعمالاً له ) أي : لاحتمال الحرمة ( في الآخر ، وبالعكس ) بأن كان اعمال احتمال الحرمة في أحدهما الغاءا لاحتمال الحرمة في الآخر ( وكان ) معنى ذلك : ان ( الحكم الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، و ) بعبارة اخرى : ( ليس معنى حلية كل

ص: 281

منهما الاّ الاذن في ارتكابه والغاءَ احتمال الحرمة فيه المستلزم لاعماله في الآخر .

فتأمل حتى لا يَتوهم أنّ استعمال قوله « كلُّ شيء لك حلالٌ » بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمالٌ في معنيين .

-------------------

منهما ) أي : من المشتبهين في المقرون بالعلم الاجمالي المحصور ( الاّ الاذن في ارتكابه) أي : ارتكاب أحدهما ( والغاء احتمال الحرمة فيه ، المستلزم لاعماله ) أي : اعمال الحرمة ( في الآخر ) على ان يكون بدلاً عن الحرام الواقعي .

( فتأمل ) في الجواب الذي ذكرناه بقولنا : « والحاصل » ( حتى لا يتوهم ان استعمال قوله ) عليه السلام : ( « كل شيء لك حلال » (1) بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمال في معنيين ) وهو لا يجوز ، اذ قد عرفت : إنّ اللفظ قد استعمل في معنى واحد كلي ، وهو : البناء على ان كل مشتبه موضوعا محلل ، وانّما التخييرية والتعيينية من لوازم خصوص المورد ، فان كان المورد شبهة بدوية ، كان كل واحد واحد حلالاً وإن كان المورد شبهة محصورة بالعلم الاجمالي كان المحلل بعضها دون بعض ، فدلالة الحديث على الحلية في الشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي على نسق واحد ، وانّما فهم التخيير في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي للعلم الخارجي بأن أحدهما حرام ، فيكون لازم الحكم بحلية أحد المشتبهين : الحكم بحرمة الآخر .

ص: 282


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ج9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

قلت : الظاهرُ من الأخبار المذكورة : البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل ، و

-------------------

( قلت ) إنّ الاشكال كان مبنيا على مقدمتين :

الأولى : كون مقتضى الأخبار المذكورة هو : البناء على كون محتمل الحرمة هو الموضوع المحلل الواقعي .

الثانية : كون مقتضى البناء المذكور في أحد المشتبهين هو : البناء على كون المشتبه الآخر هو الموضوع المحرّم الواقعي ، والمصنّف منع كلتا المقدمتين .

أمّا منع المقدمة الأولى : فلانّ مقتضى الأخبار المذكورة هو : مجرد الرخصة في الارتكاب بمعنى عدم الحرمة في الظاهر ، فكأنه قال : محتمل التحريم حلال ، لا انه قال : لا تبن على كون أحد المشتبهين هو الموضوع المحلل حتى يستلزم كون الآخر هو الموضوع المحرم ، فكلام الشارع انّما هو في الحكم لا في الموضوع ، بينما المستشكل جعل كلام الشارع في الموضوع ، واليه أشار المصنّف بقوله : ( الظاهر من الأخبار المذكورة ) أي : أخبار الحل ( : البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه ) أي : في محتمل التحريم ( لا وجوب البناء على كونه ) أي: محتمل التحريم ( هو الموضوع المحلّل ) فالمستشكل حمل أدلة الحل على التصرّف في الموضوع ، وفرّع على ذلك : شمولها لمورد العلم الاجمالي وحكومتها على قاعدة الاشتغال كما بيناه ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل ظاهر هذه الأخبار الدالة على الحل : مجرد الحكم بحلية المشتبه ظاهرا من دون وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل .

( و ) أمّا منع المقدمة الثانية ، فانّه لو سلمنا المقدمة الأولى فلا نسلم المقدمة الثانية ، وذلك لأنّ البناء على كون أحدهما هو الموضوع المحلل انّما يستلزم البناء

ص: 283

لو سلم فظاهرُها البناء على كون كل مشتبه كذلك .

وليس الأمر بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر .

-------------------

على كون الآخر هو الموضوع المحرم ، من باب حكم العقل لأجل وحدة الشك ، والعلم اجمالاً بكون أحدهما حلالاً في الواقع والآخر حراما في الواقع ، لكن سيجيء في مبحث الاستصحاب - انشاء اللّه تعالى - عدم اثبات الاُصول اللوازم العقلية لمؤياتها نظير اثبات أحد الضدين بنفي الآخر .

وعليه : فاللازم في المقام إمّا إلغاء العلم الاجمالي إطلاقا والحكم بحلية كِلا المشتبهين لأجل الأخبار المذكورة الدالّة على الحل ، وأمّا القول بحرمة كل منهما لأجل ما ذكرناه من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة الحل في المشتبهين ، فليس في الروايات التي ذهب إليها المستشكل ما يدل على البدل شيء ، كما قال :

انه ( لو سلم ) كلام المستشكل في المقدمة الاولى ( فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك ) حلالاً .

( و ) من المعلوم : انه ( ليس الأمر بالبناء على كون ) أحد المشتبهين في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي خلاً ، أمرا بالبناء على كون المشتبه ( الآخر هو الخمر ) لوضوح : انّ الملازمة بين حليّة أحدهما وخمرية الآخر عقلية لا شرعية ، وأدلة الحل لا تثبت اللوازم العقلية ، فلا تدل هذه الروايات على انه إذا بنينا على خلية أحدهما يلزم ان نبني على خمرية الآخر بدلاً ( فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ) على ما عرفت ، فأين ما ذكرتم من أنّه يجوز ارتكاب أحد المشتبهين وترك الآخر بدلاً ؟ .

( فتدبّر ) ولعل وجهه : إنّ الأخبار تدل على حلية كلا المشتبهين في المقرونة

ص: 284

إحتجّ مَن جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه بوجهين :
الأوّل :

الأخبارُ الدالّةُ على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها .

وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام وهو

-------------------

بالعلم الاجمالي ، لكنّا نخصص هذه الأخبار بالدليل العقلي هو : استحالة ان يقول الشارع التناقض ، فاللازم أن يكون أحد المشتبهين حراما جمعا بين الدليل الشرعي بالحل ، والدليل العقلي بأنّ الشارع لم يلغ الحرام في البين ، وحيث انه لم يخصص الأحمر للحل والأبيض للحرمة أو بالعكس ، نقول بالبدلية .

( إحتجّ مَن جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه ) أي : عن ذلك المقدار المحرم كما إذا كانت خمس أواني اثنان منها حرام ، ترك الاثنين وارتكب ثلاثة منها ، وإذا كانت الأواني عشرة وأربعة منها محرمة ، ارتكب ستة وترك منها أربعة ، وهكذا ، فقد احتج له ( بوجهين ) على ما يلي :

( الأوّل : الأخبار الدالة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها ) مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لَكَ حلالٌ » (1) فهي تدل على حل الجميع ( وانّما منع من ارتكاب مقدار الحرام : إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام ) كما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه حيث انّه لو ارتكب الاثنين فيما إذا كان أحدهما حراما ، علم بأنه ارتكب الحرام ( وهو ) أي : العلم بارتكاب الحرام

ص: 285


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام .

قال في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ، وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد

-------------------

(حرام) فانه لا يجوز للانسان أن يفعل شيئا يعلم بأنّه ارتكب بذلك الشيء الحرام، سواء كان بالعلم التفصيلي أو بالعلم الاجمالي، لأنه خلاف طريقة العقلاء في الطاعة.

( وإمّا لما ذكره بعضهم ) وهو المحقق النَراقي ( : من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام ) ومعناه : إنّ المجموع المشتمل على جزء محرم يكون محرما ، فقد ( قال ) المحقق النراقي ( في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ) فالخل حلال والخمر حرام في الانائين المشتبهين ( والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ) الذي هو الخمر ( وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ) يكون معلوم الحرمة ( فيجب اجتنابه ) .

ولا يخفى : ان الفرق بين قوله « المجموع من حيث المجموع » ، وبين قوله : «كل منهما بشرط الاجتماع » هو : انّ أطراف الشبهة ان لوحظت مجتمعة ، فتكون مركبا وحراما باعتبار جزئه ، وان لوحظت منفردة لكن بشرط انضمام الآخر ، فتكون مشروطا وحراما باعتبار حرمة واحد من الشرط أو المشروط ، فسواء كان الجزء حراما أم كان الشرط أو المشروط حراما يلزم الاجتناب عن المجموع من حيث المجموع .

( و ) أمّا ان كان ( كل منهما ) أي : من المشتبهين ( بشرط الانفراد ) أي :

ص: 286

مجهول الحرمة فيكون حلالاً ».

والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة على ما عرفت إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين ، وإمّا ان تشملهما جميعا .

-------------------

ارتكاب أحدهما دون الآخر ، وليس المراد بالشرط هنا : الشرط الاصطلاحي بل معناه : ان يعمل أحدهما منفردا ، وهو منفردا ( مجهول الحرمة ) لأنّه لايعلم ان هذا الشيء الذي ارتكبه حرام ( فيكون حلالاً » ) .

وعلى هذا ، يتم ماذكروه : من أن أحد المشتبهين حرام ارتكابه وأحد المشتبهين حلال ارتكابه ، فاذا اشتبه في اثنين يجوز ارتكاب أحدهما .

( والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة ) مثل: « كل شيء فيه حلال وحرام »(1) وما أشبه ، فهو ( على ما عرفت ) في المقام الاوّل : من ان تلك الاخبار اما لاتشمل كلا المشتبهين فكلاهما حلال ، واما لاتشمل المشتبهين أصلاً فكلاهما واجب الاجتناب بمقتضى العلم الاجمالي ، أمّا انه يحل احدهما ويحرم الآخر فلا دليل عليه .

والحاصل : إنّ الاخبار ( إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين ) لأن التكليف بالحرام المردد بينهما منجّز ، فاللازم اجتنابهما معا : اما الحرام فلأنه حرام ، واما الآخر فلأنه مقدمة علمية لاجتناب الحرام ( وإمّا أن تشملهما جميعا ) بناءا على اعتبار العلم التفصيلي في موضوع التكليف شرعا ، أو اشتراط العلم التفصيلي في تنجز التكليف عقلاً ، فتشمل تلك الاخبار كلا طرفي الشبهة ، فالتفصيل بين أحدهما بالحرمة ، وبين الآخر بالحلية ، لا دليل عليه .

ص: 287


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 ، ج9 ص79 ب4 ح72 ، الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغيرُ صالح للمنع .

أمّا « الأوّل » : فلأنه إن أريدَ : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه .

نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام

-------------------

( و ) ان قلت : انّ الوجهين المذكورين عن الميرزا القمي ، والمحقق النراقي يوجبان تخصيص شمول الاخبار لكلا الطرفين .

قلت : ( ما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل فغير صالح للمنع ) عن ارتكاب أحدهما .

( أمّا « الأوّل » ) الذي ذكره المحقق القمي ( فلأنه ) غير تام ، إذ مراد المحقق القمي لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : امّا حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة تفصيلاً ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة مطلقا سواء كانت معلومة تفصيلاً أم اجمالاً ، وكل هذه الوجوه الثلاثة غير صالحة للمنع عن ارتكاب أحد المشتبهين .

والى هذه الوجوه وعدم صلاحيتها للمنع اشار المصنِّف بقوله : ( إن أريد : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه ) دليل ، فإنّ الانسان اذا راجع ما سبق من أعماله ووجد حراما في تلك الاعمال ، فهل تحرم هذه المراجعة المنتهية إلى علمه بأنه فعل حراما ؟ لم يقل أحد بذلك ، لانه لم يدل على حرمته دليل من عقل ولا نقل .

( نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام ) وذلك بأن يفتّش الانسان في أحوال الآخرين حتى يطلّع على ما فعلوه من الحرام ، فتحصيل العلم بذلك

ص: 288

من حيث التجسس المنهي عنه وإن لم يحصل له العلم .

وإن أريدَ أنّ الممنوع عنه عقلاً من مخالفة احكام الشرع ، بل مطلق الموالي ، هي المخالفةُ العلميةُ ، دون الاحتمالية فانّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيانُ الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكابُ المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله منع وجوب المقدّمة العلمية .

-------------------

الحرام ( من حيث التجسس المنهي عنه ) فقد قال سبحانه : « ولا تجَسَسُوا ... » (1) فان التجسّس حرام حتى ( وإن لم يحصل له العلم ) بأنه فعل حراما .

( وان اريد ) من منع ارتكاب أحدهما فقط : حرمة المخالفة المعلومة تفصيلاً لا اجمالاً بتقريب : ( أنّ الممنوع عنه عقلاً من مخالفة احكام الشرع بل مطلق الموالي هي : المخالفة العلمية ، دون الاحتمالية ) وان كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ( فانّها لاتعدّ عصيانا في العرف ) بمعنى : ان العرف يرون : ان الواجب على العبد عدم مخالفة الأحكام المعلومة تفصيلاً ، امّا مخالفة الأحكام المعلومة اجمالاً ، فلا يرون بأسا بها .

وعليه : ( فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكاب المجموع ) فانه إذا ارتكب كلا الانائين علم بأنه خالف ، امّا اذا ارتكب أحدهما فلا يعلم بأنه ارتكب المحرّم ، فالحرام على هذا هو الحرام العلمي ( دون المحرّم الواقعي وان لم يعرف حين الارتكاب ) فانّ ما لم يعرف حرمته لايكون محرما لأنه مخالفة احتمالية ، وقد ذكرنا : انّ المحرم هو المخالفة المعلومة لا المخالفة الاحتمالية .

( وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلمية ) فلا تجري قاعدة الاشتغال

ص: 289


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

ففيه ، مع إطباق العقلاء بل العلماء - كما حكي - على وجوب المقدّمة العلمية ، أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعترافٌ بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لايحصل معه مخالفة معلومة تفصيلاً ،

-------------------

في وجوب الاجتناب عن الطرفين ، بل يحرم عليه أن يأتي بهما معا ، أما انه يأتي بأحدهما ولا يأتي بالآخر فلا بأس به .

( ففيه : ) أوّلاً : ( مع اطباق العقلاء بل العلماء - كما حكي - على وجوب المقدّمة العلمية ) لأنّ العقلاء والعلماء متفقون على تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي بحيث يحرم مخالفته ، ويجب موافقته باجتناب كل الأطراف في الشبهة التحرمية ، وبالاتيان بكل الأطراف في الشبهة الوجوبية إذا لم يكن هناك محذور خارجي ، ألا ترى انه لو قال المولى لعبده : لا يدخل في مزرعتي ذئب وكان هناك ذئب وكلب ، رأى العقلاء وجوب طردهما على العبد إذا لم يشخص الكلب عن الذئب، ولو ترك أحدهما يدخل بستانه وكان في الواقع هو الذئب استحق العقاب، ولا يصح له ان يعتذر بعدم علمه بأنه ذئب بعد علمه الاجمالي بأن أحدهما ذئب .

ثانيا : ( أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية : حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ) بمعنى : إنّ العلم الاجمالي يوجب تنجّز التكليف بحيث يحرم مخالفته تفصيلاً ، وذلك بأن يشرب أحد الانائين ويريق الآخر في المسجد دفعة واحدة ، لا ما اذا ارتكبهما تدريجا، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي ( فهذا اعترافٌ) منه ( بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لايحصل معه مخالفة معلومة تفصيلاً ) لأن المفروض انه عندما يشرب هذا الاناء لا يعلم انه محرم تفصيلاً ، كما انه عندما يشرب ذاك الاناء لا يعلم أيضا انه محرّم تفصيلاً ، والحال ان المحقق القمّي

ص: 290

وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا .

وممّا ذكرنا يظهر فساد « الوجه الثاني » .

فانّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن فضّم الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته .

-------------------

لايقول بجواز ارتكابهما تدريجا .

ثالثا : ( وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ) يعني :

انه يحرم على الانسان ان يعمل عملاً يعلم بحرمته ، سواء كان علمه بالحرمة في وقت العمل أو بعد العمل ، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي ( فمرجعها ) أي : مرجع هذه الارادة ( إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ) لأن هذا الكلام معناه : ان العلم الاجمالي لايوجب تنجز التكليف بالحرمة فلا يحرم مخالفته ، الاّ اذا حصل منه العلم بالمخالفة فهو حرام ( وقد عرفت منع حرمتها ) أي : حرمة المخالفة بهذا المعنى ( جدّا ) لما تقدّم : من انه لا دليل على ان حصول العلم بفعل الحرام من المحرمات .

( وممّا ذكرنا ) في رد الوجه الاول : من انه لا دليل على حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ( يظهر : فساد « الوجه الثاني » ) الذي ذكره النراقي ( فانّ حرمة المجموع

إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن ) كما صرح به النراقي فيما تقدّم (فضّم الجزء الآخر إليه ) أي : إلى الجزء الاول ( لا دخل له في حرمته ) أي : في حرمة المجموع، اذ لا دخل للاجتماع في الحرمة وإنّما الجزء غير المعين المطابق للواقع محرّم سواء علم أو لم يعلم ، والجزء الآخر الذي هو محلل في الواقع يبقى محللاً

ص: 291

نعم ، له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام .

ومن ذلك يظهر فساد جعل الحرام كلاً منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ،

-------------------

سواء علم به أو لم يعلم به .

( نعم ، له ) أي : للجزء الآخر غير المحرم المنضم إلى المحرم ( دخل في كون الحرام معلوم التّحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا ) ان الضم حرام ( لنفسه ) إذليس نفسه حراما حسب الفرض ، فانه لو استعمل كليهما علم بأنه عمل الحرام ، لا ان نفس الضم يكون حراما ، فالضم مقدمة للعلم بالحرام ، لا نفس الحرام .

والحاصل : انّ حكم النراقي بحرمة المجموع غير صحيح ، لوضوح : ان انضمام الجزء الآخر لا دخل له في حرمة الحرام ، وإنّما له دخل في تحقق الحرام خارجا ( فلا وجه لحرمتها ) أي : حرمة المقدمة ( بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام ) فانه قد تقدّم : ان مجرد حصول العلم بارتكاب الحرام ليس بمحرم ، فلا يكون المجموع حراما من جهة انه محصّل للعلم بارتكاب الحرام ، وحينئذ فليس له الحق ان يستعمل أحدهما ويترك الآخر ، بل يلزم الحكم : امّا بوجوب الموافقة القطعية بتركهما ، أو بجواز المخالفة القطعية بارتكابهما .

( ومن ذلك ) أي : من ان ضم الجزء الآخر لا دخل له في حرمة المجموع ، بل الضم له دخل في كون الحرام معلوم التحقق في الخارج ، وهذا كما عرفت : لا دليل على حرمته ( يظهر فساد جعل الحرام كلاً منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ) الذي هو ثاني الاحتمالين في كلام النراقي ، فان حرمة المجموع إذا كان باعتبار حرمة احدهما ، فاشتراط الاجتماع لا دخل له في حرمته وان كان له دخل في كون الحرام

ص: 292

فانّ حرمته وإن كانت معلومة إلاّ أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقق لا لذات الحرام ، فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلاّ إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام .

-------------------

معلوم التحقق في الخارج .

والحاصل : إنّ الحلال لا يكون سببا لحرمة المجموع ولا شرطا أو مشروطا لحرمة المجموع ( فان حرمته ) أي : حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ( وان كانت معلومة ) فان الانسان اذا جمع بين المشتبهين علم بأنه ارتكب حراما قطعا ( إلاّ انّ الشرط ) بالاجتماع ( شرط لوصف كونه ) أي : كون الحرام ( معلوم التحقق ) عند المرتكب ( لا لذات الحرام ) فانّ ذات الحرام إنّما تتحقق بارتكاب المحرم في الواقع ، لا بارتكاب المجتمع من الحرام والحلال ، سواء كان الاجتماع على نحو الجزء أو على نحو الشرط .

وعليه : ( فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلاّ إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق ) حتى يكون العلم بتحقق الحرام حراما ، لا ان ذات الحرام محرمة .

والحاصل : انّ حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، يرجع الى حرمة جعل الحرام معلوم التحقق ، وقد عرفت : انّ ذات الحرام حرام ، لا ان العلم بتحقيق الحرام حرام ، كما قال : ( ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام ) الذي قد عرفت : انه غير ثابت .

نعم ، قد تقدّم : انه لا يجوز تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام ، لأنه داخل في التجسس المنهي عنه في الآية ، وكذلك في الروايات ، مثل : ما رَواه زُرارَة عن أبي جَعفر ، وعن أبي عبداللّه عليهماالسلام قال : « أقربُ ما يكونُ العَبد إلى الكُفر

ص: 293

الثاني :

ما دل ّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

-------------------

أن يُواخِي الرجلَ على الدِّينِ فَيحُصي عليه عَثَرَاتَهُ وَزَلاتَهُ ليُعَنِّفَهُ بها يوما ما » (1) .

وما رواه اسحاق بن عمار قال : « سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : يا معشر من اسلم بلسانه ولم يخلص الايمان إلى قلبه ، لا تذمّوُا المسلمين ولا تَتَبِعُوا عَوراتَهُم ، فانّه مَن تَتَبَّعَ عوراتَهُم تَتَبَّعَ اللّهُ عورتَهُ ، ومَن تتبَّع اللّهُ تعالى عورتَهُ يَفْضَحَهُ ولَو في بيتِهِ » (2) .

وما رواه زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال : « أقرب ما يكون العبد إلى الكفر: أن يواخي الرجلُ الرجلَ على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيّره بها يوما ما»(3)، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ذكروها في باب حرمة التجسس(4)، لكن ذلك لا يرتبط بكلامنا الذي هو جواز أو عدم جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة.

( الثاني ) ممّا استدل به القائل بجواز ارتكاب أحد المشتبهين دون الاخر هو : الجمع بين طائفتين من الاخبار ، احدى الطائفتين ظاهرة في جواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة ، والطائفة الثانية تقول باجتناب الحرام الواقعي سواء علم تفصيلاً أو اجمالاً ، فتخصص الطائفة الاولى ، فتكون النتيجة : جواز ارتكاب البعض وترك البعض الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي المردد بينهما ، وذلك بأن ينظر الى ( ما دل ّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

ص: 294


1- - الاختصاص : ص227 ، المحاسن : ص104 ، مجموعة ورام : ج2 ص208 .
2- - مجموعة ورام : ج2 ص208 وفيه فمن يتبع عورة مؤمن .
3- - منية المريد : ص331 .
4- - وقد المع الشارح الى بعض تلك الروايات في طيات كتبه التالية : لماذا تأخر المسلمون ؟ ، الفقه الدولة الاسلامية ، الفقه المستقبل .

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها .

وهذه الاخبار كثيرة :

منها : موثّقة سماعة : « قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام ، عن رجل أصابَ مالاً من عمّال بني اُمية ،

-------------------

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع ) ولم نقل انها ظاهرة في تناول وارتكاب البعض بل في ارتكاب الجميع ، ليصح التعارض ، فيجمع بينهما ( وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ) جمعا ( بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ) فاذا ترك البعض فقد امتثل ظاهرا الأمر بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

( كما لو اكتفى ) الشارع في الشبهة المحصورة الوجوبية ( بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ) بين الأربع ( ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها ) الآخر، فانّ معنى الترخيص : جعل البدل عن الواقع ، فيكون المكلّف مخيرا في أن يصلي صلاة واحدة الى احدى الجهات الأربع كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ، خلافا للمشهور الذين ذهبوا إلى وجوب صلوات أربع إلى الجهات الأربع ( وهذه الأخبار كثيرة ) في الطائفة الاولى نذكر بعضها :

( منها : موثّقة سماعة : « قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن رجل أصاب مالاً من عمّال بني اُمية ) فالذين كانوا في جهاز بني أمية من ولاة وقضاة وجباة ومن اشبههم كانوا يأخذون المال من الناس بالظلم لعدم مشروعية حكومة بني أمية ،

ص: 295

وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : « ان الحسنات يذهبن السيئات » فقال عليه السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحبط الخطيئة ، ثم قال : ان كان خلط الحرامَ حلالاً فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس » .

-------------------

وقد حصل هذا الرجل على بعض تلك الاموال ( وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب ) من تلك الأموال ( ويقول : « ان الحسنات يذهبن السيئات » (1) ) كما في الآية الكريمة ، فانّه حيث حصل على اموال حصلت عن طريق غير مشروع فهي سيئة بل سيئات ، والتصدق ، وصلة الرحم ، والحج ، حسنات ، فهذه الحسنات تسبب ذهاب تلك السيئات ، فهل هذا صحيح يابن رسول اللّه ؟ ( فقال عليه السلام : إنّ ) التصرف في هذا المال بنفسه أيضا حرام ، فقد عمل هذا الرجل حرامين : حرام الاكتساب ، وحرام الانفاق ، لأنه لايجوز للإنسان أن ينفق ما اكتسبه من الباطل ، فان ( الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ) أي : ان الخطيئة لا تسبب ذهاب الخطيئة ( وانّ الحسنة تحبط الخطيئة ) فالصلاة ، والصوم والحج ، والانفاق من مال الحلال ، يسبب ذهاب سيئات الانسان حسب هذه الآية المباركة وغيرها من الروايات ، اما انه يرتكب خطيئة ليكفّر بها خطيئة أخرى فذلك غير تام ، بل يكون عليه خطيئتان : خطيئة الأخذ وخطيئة العطاء .

( ثم قال ) عليه السلام ( : ان كان ) هذا الرجل ( خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس » ) (2) بتصرفه في بعض تلك الأموال ، كما إذا

ص: 296


1- - سورة هود : الآية 114 .
2- - وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22051 ، الكافي فروع : ج5 ص126 ح9 ( بالمعنى ) ، تهذيب الاحكام : ج6 ص369 ب22 ح189 ( بالمعنى ) ، مستطرفات السرائر : ص589 (بالمعنى) .

فان ظاهره : نفيُ البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع .

ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتضي بنفسه

-------------------

كانت له اموال محللة من نفسه وأموال محرمة من عمله للظلمة واختلطا ، فانّه إذا تصرف في بعض تلك الأموال بقدر الحلال صدقة ، وصلة ، وحجا ، وما أشبه ذلك ، كان هذا التصرف منه جائزا .

ومحل الشاهد في هذا الخبر للمستدلين بجواز ارتكاب بعض المشتبهات دون بعض : الجملة الأخيرة منه ، وهو قوله عليه السلام : « ان كان خلط الحرام حلالاً ...» .

( فان ظاهره : نفيُ البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك ) أي : في هذه النفقات .

هذا ( و ) لكن الحديث ( ليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع ) حتى يقال بأن هذه الرواية دليل من يقول بجواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة ( ولو فرض ظهوره ) أي : ظهور هذا الحديث ( فيه ) أي : في التصرف في جميع الأطراف المحرمة والمحللة ( صرف عنه ) أي : عن ظاهره والتصرف في الجميع ( بما دلّ ) من اخبار الطائفة الثانية ( على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ) لما تقدّم : من ان الحرام الواقعي لا يصير حلالاً بالاختلاط سواء كان الاختلاط عمديا أو من غير عمد فيكون الجمع بين الطائفتين : جواز ارتكاب البعض .

( وهو ) أي : ما دل على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي (مقتضي بنفسه)

ص: 297

لحرمة التصرف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا .

لكن عرفت : أنّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية بجعل بعضها الآخر بدلاً ظاهريا عن ذي المقدمة .

-------------------

أي : مع قطع النظر عن ايجاب العقل الاحتياط في أطرف العلم الاجمالي ( لحرمة التصرف في الكلّ ) المختلط من الحرام والحلال ( فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ) أي : خلاف ما تقتضيه من الحرمة (و) خلاف ما يقتضيه ( من جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرف في البعض المحتمل أيضا ) فلا يجوز التصرف إذن لا في الكل ولا في البعض .

( لكن عرفت : انّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية ) بأن يأذن الشارع بارتكاب البعض دون البعض ، وذلك ( بجعل ) الشارع ( بعضها الآخر بدلاً ظاهريا عن ذي المقدمة ) الذي هو الحرام الواقعي ، فيجمع بين الرواية المتقدمة ، وبين دليل حرمة العنوان المحرم بحملها على البعض وجعل البدل للحرام الواقعي .

ثم إنّ المصنّف ذكر رواية واحدة في هذا الباب ، وهناك روايات أُخر في باب الرّبا نظير هذه الرواية في جواز التصرف في بعض اطراف الشبهة المحصورة دون بعض ، ففي الصحيح أو الحسن ما رواه في الفقيه مرسلاً أيضا : « قال أبو عبداللّه عليه السلام : كلّ ربا أكلهُ الناسُ بجهالة ثمّ تابوا فانه يُقبلُ منهم إذا عُرِفَ منهم التوبة » (1) .

ص: 298


1- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح4 ، الفقيه : ج3 ص275 ب2 ح3997 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص16 ب22 ح69 ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 .

...

-------------------

وقال عليه السلام : لو ان رجلاً وَرَثَ من أبيه مالاً وقد عَرَفَ انّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فانه له حلال طيب فياكله فان عرف منه شيئا معزولاً أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليُردَّ الرِّبا » (1) وزاد في الكافي والفقيه : « وايّما رجل أفاد مالاً كثيرا قد أكثر فيه من الرّبا فجَهَلَ ذلك ثمّ عَرَفَهُ بعد ، فأراد أن ينزعَهُ ، فيما مضى فله ، ويَدَعَهُ فيما يستأنف » (2) .

وعن الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « أتى رجلٌ أبي ، فقال : إنّي ورثت مالاً وقد عَلِمتُ انّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يُرابي وقد اعترف انه فيه ربا فاستيقنتُ ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ؛ وقد سألتُ الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحّلُ من أجل ما فيه ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إن كُنت تعلم ان فيه مالاً معروفا للربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورُدّ ما سوى ذلك ؛ وان كان مختلفا فكُلهُ هنيئا مريئا ، فانّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، وانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قد وضع مامضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهله وسع لهُ جهله حتى يعرفهُ ، فإذا عرف تجريمه حرم عليه ووجبت عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه ، كما يجب على من يأكل الرّبا» (3) .

إلى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين ممّا جعلت جماعة من الفقهاء يذهبون الى حلية التصرف في الجميع : من المختلط بالربا وغيره ، وجماعة

ص: 299


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص16 ب22 ح69 وفيه فليرد الريادة .
2- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص275 ب2 ح3997 ( بالمعنى ) ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 ( بالمعنى ) .
3- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص276 ب2 ح3998 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 ( بالمعنى ) .

والجواب عن هذا الخبر : انّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ، فلا بد إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة ، وإما من صرفه عن ظاهره ، وحينئذٍ فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم

-------------------

من الفقهاء يذهبون إلى جواز التصرف في البعض دون البعض ، فقول الجماعة الاولى هو : دليل لمن أجاز المخالفة القطعية في أطراف الشبهة ، وقول الجماعة الثانية هو : دليل المقام ممّن يقولون بجواز ارتكاب البعض دون البعض .

( والجواب عن هذا الخبر ) أي : عن الموثّقة (1) المتقدِّمة : هو انه كيف استدللتم بها على جواز التصرف في البعض دون الجميع ؟ مع ( انّ ظاهره : جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ) فان تم ظاهر هذه الرواية فهو دليل لمن يقول بجواز ارتكاب جميع الأطراف ، وليس دليلاً لمن يقول بجواز ارتكاب البعض دون البعض كما تقدّم في كلام النراقي والمحقق القمي .

وعليه : ( فلا بد إمّا من الأخذ به ) أي بهذا الحديث ( وتجويز المخالفة القطعيّة) في الشبهة المحصورة ، والفرض ان المحقق القمي والنراقي لا يقولان بجواز المخالفة القطعيّة ( وإما من صرفه ) أي صرف هذا الحديث ( عن ظاهره ، وحينئذٍ ) أي : بعد صرفه عن ظاهره يكون فيه احتمالان : ( فحمله على ) الاحتمال الاول وهو : ( ارادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وان حرم

ص: 300


1- - الكافي فروع : ج5 ص126 ح9 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص369 ب22 ح189 ، مستطرفات السرائر : ص589 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22051 .

عليه امساك مقدار الحرام ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ، كالرّبا ، بناءا على ما ورد في عدّة أخبار : من حليّة الرّبا الذي أخذ جهلاً ، ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط .

وبالجملة فالأخبار الواردة في حليّة ما لم يعلم حرمته على أصناف :

-------------------

عليه امساك مقدار الحرام ) كما فعله المستدل لجواز ارتكاب البعض في كل الشبهات (ليس بأولى من ) الاحتمال الثاني وهو : ( حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ) مما وردت به روايات خاصة ذكرنا بعضا منها فيما سبق ، فيكون جواز ارتكاب البعض خاصا بها ، لا عاما بكل الشبهات .

والحاصل : ان مراد الإمام عليه السلام من المشتبه والحرام الذي لا يمنع من التصرف في جميع اطرافه هو : بعض أنواع المشتبه بالحرام لا كلها ، وهو الذي دلّ عليه دليل خاص ( كالرّبا ، بناءا على ما ورد في عدة أخبار : من حليّة الرّبا الذي أخذ جهلاً ) بالحرمة ( ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط ) بأن يعلم الربا فيه من غير الربا ، فانّه في هذه الصورة يتصرف في الجميع ، فتحمل هذه الرواية على مثل هذا ولا تحمل على انه يجوز التصرف في البعض ويترك البعض ، ويكون المتروك بدلاً عن الحرام الواقعي .

لكن لا يخفى انّ هذه الرواية آبية عن حملها على مثل الربا ، لأن المفروض انه حصل على مال من الظلمة المجتمع من الحرام غالبا ، والأولى حملها على موردها من جوائز الظلمة ونحوها ، حيث أجاز الأئمة عليهم السلام التصرف في الجميع مع الاختلاط ، لا أن يكون الجميع حراما .

( وبالجملة : ف ) الخبر المتقدّم لا دلالة له على ما ذهب إليه القمي والنراقي ، وذلك لأن ( الأخبار الواردة في حليّة ما لم يعلم حرمته على أصناف ) ثلاثة :

ص: 301

منها : ما كان من قبيل قوله عليه السلام « كُلُّ شيء لَكَ حلالٌ حتى تَعرِفَ أنّه حرامٌ » .

وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لايرى جواز ارتكاب المشتبهين، لأن حملَ تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعينة في الشبهة المجرّدة من العلم الاجمالي والشبهة غير المحصورة، متعسّرٌ بل متعذّر ،

-------------------

( منها : ما كان من قبيل قوله عليه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » ) (1) وقوله عليه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) ( وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن ) يرى جواز ارتكاب احد المشتبهين ، و ( لا يرى جواز ارتكاب ) كلا ( المشتبهين ) .

وإنّما لا يجوز لهؤلاء الاستدلال به ( لانّ ) قاعدة الاشتغال في مورد العلم الاجمالي حاكمة على أمثال هذه الروايات - كما سبق - أو لان ( حمل تلك الأخبار على ) حلية ( الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة ، و ) على حلية (الآحاد المعينة ) الشاملة لجميع الأفراد ( في الشبهة المجرّدة من العلم الاجمالي والشبهة غير المحصورة ، متعسّر بل متعذّر ) لأنّه من الجمع بين المعنيين ، فان القول بحلية البعض في الشبهة المحصورة ، وبحلية الجميع في الشبهة البدوية والشبهة غير المحصورة لدليل واحد ، استعمال اللفظ في معنيين ، فمن يقول : بأن استعمال اللفظ في المعنيين متعسر يقول : هنا بالتعسر ، ومن يقول :

ص: 302


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه في نفس المصدر ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي .

ومنها : ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة، مثل الخبر المتقدّم .

وهذا أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ، لأن مورده فيها ، فيجب حمله على أقرب المحتملين ،

-------------------

بأن استعمال اللفظ في المعنيين متعذر كالآخوند يقول هنا بالتعذّر .

وعليه : ( فيجب حملها ) أي هذه الاخبار ( على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي ) كما في الشبهات البدوية وكذلك في الشبهات غير المحصورة ، حيث ان التكليف فيها لم يكن فعليا منجزا ، فيكون هذا الصنف من الروايات لا دلالة له على جواز ارتكاب البعض وترك البعض .

( ومنها : ) وهو الثاني من تلك الأصناف الثلاثة ( ما دلّ على ارتكاب كِلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدم ) الظاهر في جواز ارتكاب جميع الأموال المشتبهة بالحرام ( وهذا ) الصنف ( أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه ) لأن المستدل يقول بجواز ارتكاب أحدهما لا كليهما ، وهذا يدل على جواز ارتكاب كليهما ( ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ) حتى يقال : إنّ هذه الرواية في الشبهة غير المحصورة ممّا يكون الارتكاب فيها على حسب القواعد .

وانّما لايجوز ذلك ( لأن مورده ) أي : مورد هذا الصنف ( فيها ) أي : في الشبهة المحصورة لوضوح : ان اختلاط أموال هذا الرجل بالمال الذي أخذه من الظلمة واعوانهم يجعل أمواله من الشبهة المحصورة ( فيجب حمله ) أي : حمل هذا الصنف من الأخبار هنا ( على أقرب المحتملين ) التاليين :

ص: 303

من ارتكاب البعض مع ابقاء مقدار الحرام ومن وروده في مورد خاصّ ، كالرّبا ونحوه ، ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة .

ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الرّبا من حلّ جميع المال المختلط به .

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم

-------------------

أوّلاً : ( من ارتكاب البعض مع ابقاء مقدار الحرام ) ليصرفه في مجهول المالك، فيكون دليلاً للمستدل الذي يقول بجواز ارتكاب بعض الأطراف .

ثانيا : ( ومن وروده في مورد خاصّ ) بأن يقال : انه خارج عن القاعدة بالدليل ( كالرّبا ونحوه ) كما قالوا في ميتة السمك لو اختلط المذكّى منه بالميتة ، وكما قالوا في مورد أموال عمال الظلمة وما أشبه ذلك ( ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة ) بجهة دليل خاص .

والظاهر : انّ أموال عمّال الظلمة بعد التوبة ومن أخذ منهم ، وجوائز السلطان ، كلها من باب واحد خارجة عن القاعدة ، ولعله لمصلحة التسهيل ولزوم الحرج في وجوب الاجتناب ، فلا تكون الروايات الدالة على ذلك على نحو القاعدة الكلية حتى يستند إليها من قال بجواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه في المحتمل الثاني من خروج بعض موارد الشبهة المحصورة عن القاعدة للدليل الخاص ، وعدم اطراده في جميع موارد الشبهة المحصورة ( يعلم حال ما ورد في الرّبا من حلّ جميع المال المختلط به ) فانّه محمول على انّ الربا في موارد خاصة قد اعتبر فيه العلم التفصيلي ، فلا يكون هذا الجزئي دليلاً للقاعدة الكلية التي استند اليها من قال بجواز الارتكاب في بعض أطراف الشبهة المحصورة .

( ومنها : ) وهو الثالث من تلك الاصناف الثلاثة ( ما دلّ على جواز أخذ ما علم

ص: 304

فيه الحرام اجمالاً ، كأخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان .

وسيجيء حملُ جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ، ومتفرّعا

-------------------

فيه الحرام اجمالاً ) والفرق بين هذا الصنف وسابقه ان ذلك كان يدل على جواز تصرّف صاحب المال الذي اختلط حلاله بحرامه ، وهذا يدل على جواز الأخذ ممّن اختلط حرامه بحلاله ( كأخبار جواز الأخذ من العامل ) للظلمة ( والسارق والسلطان ) مثل : رواية أبي بصير عن أحدهما عليهماالسلام قال : « سألت أحدهما عن شراء السرقة والخيانة ؟ فقال : لا ، إلاّ أن يكون قد اختلط معه غيره، فامّا السرقة بعينها فلا ، إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك » (1) .

ورواية اسحاق بن عمار قال : « سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ؟ قال : يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا » (2) .

ورواية أبي عبيدة عن الباقر عليه السلام قال : « سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنمها وهو يعلم انهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليه ؟ قال عليه السلام : ما الابل والغنم إلاّ مثل : الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه » (3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب ( وسيجيء ) انشاء اللّه تعالى ( حملُ جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى ) أمارة للحلّ ، وهي : ( كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ومتفرّعا

ص: 305


1- - الكافي فروع : ج5 ص228 ح1 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج6 ص374 ب22 ح209 و ج7 ص132 ب22 ح49 ، وسائل الشيعة : ج17 ص335 ب1 ح22695 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص375 ب22 ح214 و ج7 ص131 ب22 ح48 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص228 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص375 ب22 ح215 ، وسائل الشيعة : ج17 ص219 ب52 ح22376 ( مع تفاوت ) .

على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشّك .

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار ، عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعية ، وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين ،

-------------------

على تصرّفه ) أي : تصرف المسلم ( المحمول على الصحّة عند الشّك ) فلا تكون هذه الأخبار دليلاً على جواز التصرف في بعض أطراف الشبهة المحصورة .

وربمّا يقال : انّ وجه جواز التصرف في الأموال المأخوذة من العامل والسارق والسلطان هو كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء والعلم الاجمالي لايكون منجزا إذا خرج بعض أطرافه عن محل الابتلاء .

ولا يخفى : انّ قول المصنّف : من يد المسلم من باب المثال ، وإلاّ فقد ذكرنا سابقا : ان يد الكافر أيضا محكومة بالصحة حسب الأدلة ، وكثيرا ما يكون العامل كافرا ، كما كان ذلك في عمال بني اُمية وبني العباس حيث انّ جمعا منهم كانوا كفارا حسب التواريخ ، أو يكون السارق كافرا ، أو السلطان كافرا ، كما كان في تلك الأزمنة في بلاد الروم ، أو يكون في الحال الحاضر في بلاد الكفار .

وعلى أيّ حال : ( فالخروج بهذه الأصناف ) الثلاثة التي ذكرناها ( من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعية ) مثل : عنوان الخمر ، وعنوان مال الغير ، وعنوان النجس ، وغير ذلك ( وهي : ) أي تلك القاعدة العقلية ( وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب اطاعة التكاليف المعلومة ) وجوبا عقليا وشرعيا ( المتوقفة ) تلك الطاعة ( على الاجتناب عن كلا المشتبهين ،

ص: 306

مشكلٌ جدا، خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب .

أحدهما : الأخبار الدالّة على هذا المعنى .

منها : قوله عليه السلام : « ما اجتمع الحلال والحرام الاّ غلبَ الحرامُ الحلالَ » ، والمرسلُ المتقدّم : « أتركوا مالا بأسَ بهِ حَذرا

-------------------

مشكلٌ جدا ) و « مشكل » خبر لقوله : « فالخروج » .

والحاصل : انّ القاعدة العقلية والشرعية تدل على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة ، فلا يمكن الخروج عن هذه القاعدة بواسطة هذه الاصناف الثلاثة من الاخبار التي منتهى دلالتها هو : انّ مواردها خارجة عن القاعدة العقلية والشرعية بالدليل الخاص ، فلا تكون هذه الطوائف دليلاً على جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة كما ادعاه المستدل (خصوصا مع اعتضاد القاعدة ) العقلية والشرعية ( بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب ) الذي ذكرناه : من وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة مطلقا .

( أحدهما : الأخبار الدالة على هذا المعنى ) أي : على معنى وجوب الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة وهي كثيره نذكر بعضها :

( منها قوله عليه السلام : « ما اجتمع الحلال والحرام الاّ غلبَ الحرامُ الحلالَ » (1) ) حيث يدل على انه إذا كان في شيء حرام وحلال ، وجب على الانسان الاجتناب عن جميع أطرافه ( والمُرْسَلُ المتقدّم ) عن السرائر ( : « أتركوا مالا بأسَ بهِ حَذرا

ص: 307


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 وفيه ما اجتمع الحرام والحلال و ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .

عمّا بهِ البأسُ » ، وضعفُها ينجبر بالشهرة المحقّقة ، والاجماع المدّعى في كلام من تقدّم .

ومنها : رواية ضريس عن السّمن والجُبُن في أرض المشركين قال : « أمّا ما علمتَ أنّه قد خلطه الحرامُ فلا تأكل ، وما لم تعلم فَكُلْ» ،

-------------------

عمّا بهِ البأسُ » ) (1) فانه يجب الاجتناب عن الماء حذرا من الخمر فيما إذا اشتبه الماء بالخمر ، وهكذا في سائر الأمثلة .

ان قلت : الرواية مرسلة ولا يصح الاعتضاد بها .

قلت : ( وضعفُها ) أي : ضعف الرواية الناشيء عن الارسال في سندها ( ينجبر بالشهرة المحقّقة ، والاجماع المدّعى في كلام من تقدّم ) ذكرهم ، وهم : صاحب المدارك ، والبهبهاني ، والكاظمي رحمهم اللّه ، بالاضافة إلى انها موجودة في سرائر ابن ادريس ، وابن ادريس لا يعمل إلاّ بالأخبار المعتبرة ممّا يكشف عن ان هذه المرسلة معتبْرة عنده وكفى به حجة .

( ومنها : رواية ضريس : عن السَّمن والجُبُن في أرض المشركين قال ) عليه السلام : ( « أمّا ما علمت انّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فَكُلْ » (2) ) ونص الرواية هكذا : عن ضريس قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن السمن والجُبن تجده في أرض المشركين والروم أنأكله ؟ فقال : ما علمت انّه خلطه الحرام فلا تأكل وما لم تعلم فكله حتى تعلم انّه حرام » اي : انهم ربّما يخلطون شحوم ذبايحهم

ص: 308


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .
2- - وسائل الشيعة : ج24 ص236 ب64 ح30424 بالمعنى ، السرائر : ج3 ص590 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح71 ( بالمعنى ) .

فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه .

ورواية ابن سنان : « كل شيء حلالٌ ، حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة » ،

-------------------

المحرّمة ، أو دسوم الخنازير بالسمن ، أو يجعلون أنفحتها المحرَّمة في الجبن ، فهل يجوز - مع ذلك - الاكل منها ، أو لايجوز ؟ .

وتقريب الاستدلال بهذا الخبر ماذكره المصنِّف بقوله : ( فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه ) أيضا ، فلا يختص الخلط بالشبهة البدوية ، بأن يكون الشيء مختلطا وممتزجا بالميتة كما في الرواية من مثال الجبن والسمن ، بل يشمل الخلط مورد الاشتباه والترديد ، كما في الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي بان هذا - مثلاً - هو الميتة أو ذاك فيما اذا كان هناك شيئان : أحدهما مذكى والآخر ميتة واشتبها ، فكما انه اذا علم في الشبهة البدوية بالميتة وجب اجتنابه ، كذلك اذا علم بالميتة ثم اشتبه في محصور .

لكن لا يخفى انّ هذا المعنى الذي ذكره المصنِّف خلاف الظاهر ، فانّ المنصرف من الخلط هنا هو : الامتزاج بمعنى الشبهة البدوية ، لا الاشتباه بمعنى الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي .

( ورواية ابن سنان : « كل شيء حلال، حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة » (1) ) .

ولا يخفى : ان ظاهر هذا أيضا كظاهر سابقه منصرف الى الشبهة البدوية ، بمعنى : انّه ممتزج بالميتة ، لا انّه من الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي

ص: 309


1- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار: ج65 ص156 ح30 وفيهم عن (عبد اللّه بن سليمان) .

فانّه يصدق على مجموع قطعات اللحم : أن فيه الميتة .

ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث التثليث : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم » بناءا على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام ،

-------------------

وان قال المصنّف : ( فانّه يصدق على مجموع قطعات اللحم : ان فيه الميتة ) بأن كان هناك مذكى وآخر ميتة ، فاشتبه أحدهما بالآخر ، فانّه كما اذا جاء شاهدان في الشبهة البدوية على انه ميتة وجب اجتنابه ، كذلك اذا جاء شاهدان على ان هذا ميتة ، ثم اشتبه في محصور فانه يجب اجتنابه .

( ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث التثليث « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم » ) فان اخبار التثليث مروية عن النبي وعن الوصي وعن بعض الائمة صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ففي مقبولة عمرو بن حنظلة قال عليه السلام : «انمّا الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ؛ وأمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه ورسوله . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ؛ فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ؛ ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1) » .

وإنّما يشمل الحديث ما نحن فيه ( بناءا على انّ المراد بالهلاكة ) في هذه الأخبار ( ما هو أثر للحرام ) عقابا كان أو ضررا دنيويا ؛ فانّ المراد بالهلاك فيها : ما هو الأعم من الدنيوي والأخروي ، فيشمل الشبهة البدوية حيث يترتب على ارتكاب الحرام في البدوية أثره من الضرر الدنيوي ، إذ للمحرمات غير المنجّزة

ص: 310


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 وفيهم ( ارتكب المحرمات ) ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فان كان الحرام لم يتنجّز التكليف به ، فالهلاك المترتب عليه منقصة ذاتية ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليفُ به ، كما فيما نحن فيه ، كان المترتّبُ عليه : هو العقابَ الأخرويَّ ، وحيث أنّ دفع العقاب المحتمل واجبٌ بحكم العقل وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة .

-------------------

اضرار فردية او اجتماعية دنيوية فقط ، ويشمل المقرونة بالعلم الاجمالي أيضا حيث يترتب على ارتكاب الحرام فيها اثر من الاضرار الدنيوية والعقاب الأخروي لتنجز التكليف فيها .

وعليه : ( فان كان الحرام لم يتنجّز التكليف به ) كما في الشبهة البدوية ، أو المقرونة بالعلم الاجمالي حيث بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء ، أو وما أشبه ذلك ( فالهلاك المترتب عليه : منقصة ذاتية ) فقط ، فان من يفعل الحرام وإن كان شبهة بدوية يترتب عليه المفسدة الكامنة في الحرام ، حتى وإن كان قاطعا بأنه ليس بحرام .

( وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ، كما فيما نحن فيه ) من أطراف الشبهة المحصورة ( كان المترتبُ عليه : هو العقاب الأخرويّ ) بالاضافة إلى الاضرار الدنيوية ، لأنّ الحرام المعلموم اجمالاً أو تفصيلاً عند الفاعل يترتب عليه الضرران : في الدنيا المنقصة والمفسدة ، وفي الآخرة العقاب والمؤاخذة ، ( وحيث انّ دفع العقاب ) الاخروي ( المحتمل ) في اطراف العلم الاجمالي ( واجبٌ بحكم العقل ، وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة ) على ما تقدّم .

نعم ، إذا لم يصادف ما ارتكبه من أطراف الشبهة المحصورة الحرام الواقعي لم يكن إلاّ تجريا .

ص: 311

ولما كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم اجماعا كان الاجتنابُ عن الشبهة المجردة ، غيرَ واجب ، بل مستحبّا .

وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر معارضته لما يفرض من الدليل على جواز

-------------------

هذا ( ولما كان دفع الضرر غير العقاب ) من الأضرار الدنيوية ( غير لازم اجماعا ) كما عرفت في أدلة البرائة ( كان الاجتنابُ عن الشبهة المجردة ، غيرَ واجب ، بل مستحبّا ) فانّه يستحب للانسان الاجتناب عن الشبهات البدوية أيضا لاطلاق أدلة الاحتياط .

ثم لا يخفى : إنّ في المقام ثلاث طوائف من الأخبار :

الاولى : ما دلت على جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة ، وهي الاصناف الثلاثة من الأخبار المتقدّمة التي ذكرها المصنّف بقوله : « وبالجملة فالأخبار ... على أصناف » .

الثانية : ما دلت على عدم الجواز وهي أخبار التثليث ، والنبويان .

الثالثة : ما دلت على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة الشاملة للمعلوم والمجهول مثل : « اجتنب عن الخمر » ، و « لا يحل مال امرء إلاّ بطيب نفسه » ، وما أشبه ذلك .

وحيث يقع التعارض بين الطائفتين الأوليين وتتساقطان بالتعارض ، تبقى الطائفة الثالثة محكمة ، فاللازم الاجتناب عن كل عنوان محرم ، كالخمر والغصب ، ونحوهما ، سواء علم به تفصيلاً أو اجمالاً .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر ) من اخبار التثليث هو : ( معارضته ) أي : خبر التثليث ( لما يفرض : من الدليل على جواز

ص: 312

ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي ، فان مثلَ هذا الدليل لو فرض وجوده حاكمٌ على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ، لكنه مُعارَض بمثل خبر التثليث وبالنَبويَّين

-------------------

ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي ) من الاصناف الثلاثة التي أشار اليها المصنِّف بقوله : « وبالجملة : فالاخبار الواردة في حلية مالم يعلم حرمته على اصناف » .

وعليه : ( فان مثلَ هذا الدليل ) وهو : ماتقدّم من الأصناف الثلاثة ( لو فرض وجوده ) أي : تمامية دلالته على جواز ارتكاب بعض أطراف المحصورة وترك بعض ليكون المتروك بدلاً عن الحرام الواقعي ( حاكمٌ على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ) مثل : « اجتنب عن الخمر » ، و « اجتنب عن المغصوب » ، ونحو ذلك ، فيقع التعارض بين أدلة العناوين المحرمة الواقعية ؛ وبين الاصناف الثلاثة الدالة على جعل البدل عن الواقع بارتكاب بعض الأطراف وترك بعض الأطراف .

( لكنه ) أي : لكن هذا الدليل الذي هو عبارة عن الاصناف الثلاثة الدالة على حلية مالم يعلم حرمته ( معارض بمثل خبر التثليث (1) وبالنَبَويَّين ) المتقدِّمين وهما : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما اجتمع الحلال والحرام ...» (2) وقوله : « ترك ما لابأس به ... » (3) فإذا تعارض معها وتساقطا تصل النوبة إلى ما دل من الأدلة على وجوب

ص: 313


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .
3- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

بل مخصَّص بهما .

لو فرض عمومه للشبهة الابتدائية ، فتسلّم تلك الأدلة .

-------------------

الاجتناب عن العناوين المحرمة الواقعية فتكون هي المحكمة ، فلا يبقى مجال لمن قال بجواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة بسبب الاصناف الثلاثة المتقدمة .

(بل ) هذا الدليل المركب من الاصناف الثلاثة لو خصصناه بالشبهة المحصورة ، فكما عرفت يعارضه خبر التثليث والنبويّان ، وان عمّمنا مادل من الاصناف الثلاثة الى الشبهة البدوية أيضا ، فهو ( مخصَّص بهما ) أي بخبر التثليث والنبويّين المتقدمين ، وذلك ( لو فرض عمومه للشبهة الابتدائية ) أيضا كما بيّناه ( فتسلّم تلك الأدلة ) الدالة على الاجتناب عن عنوان المحرم الواقعي لفرض ان الطائفَتين الأوليين : ما دل من الاصناف الثلاثة وما دل من أخبار التثليث يتعارضان فيتساقطان ، وتبقى أدلة المحرمات سالمة عن المعارض ممّا يقتضي وجوب الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة المحصورة.

والحاصل : انّ ما دل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي من الاصناف الثلاثة التيذكرهاالمصنِّف بقوله : « وبالجملة...» معارض بخبر التثليث : « حرام بيّن ، وحلال بيّن ، وشبهات بين ذلك» وبالنبويين المتقدمين ، بل الاخبار الدالة على جواز ارتكاب أحد المشتبهين لو فرض عمومها للشبهة الابتدائية تكون عاما بالنسبة إلى خبر التثليث والنبويين ، وهما خاصان بالنسبة إليها لاعتبار اختصاصهما بالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فيكونان مخصصين لها بالشبهة الابتدائية ، فيبقى خبر التثليث والنبويان يفيدان الاجتناب عن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي .

ص: 314

والثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمة والشيعة بل العامة أيضا .

بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة .

-------------------

هذا ، وفيبعض نسخ المتن كلمة : « فتأمّل » .

ولعله اشارة إلى انّه يلزم تقديم أخبار جواز الارتكاب لأحد المشتبهين في اطراف العلم الاجمالي على الطائفتين ، أي : ما دل على الاحتياط من خبر التثليث ، وما دل على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة .

( والثاني ) : ممّا يعضد القاعدة العقلية الدالة على وجوب الاجتناب عن اطراف العلم الاجمالي ، فلا يبقى معه مجال للقول بجواز ارتكاب بعض الأطراف بدلاً عن الواقع ( ما يستفاد من ) التعليلات الموجودة في (أخبار كثيرة : من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمة والشيعة، بل العامة أيضا ) فانّ هذه التعليلات تدل على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة اطلاقا .

( بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة) وكأنّه أراد من الاستقراء ما يستفاد العلم منه ، وإلاّ فالاستقراء الذي لايوجب العلم ليس بحجّة ، مضافا إلى انّ فيبعض الموارد خلاف ذلك ممّا يجعل الاستقراء غير تام ، كما ورد في وجوب قضاء ثلاث صلوات على من ترددت فائتته بين الرباعية والثلاثية والثنائية ، فانّه إذا صلى ثلاث صلوات بقصد ما في الذمة لايحصل به مراعاة الاحتياط بالنسبة إلى الجهر والاخفات، ولا بالنسبة إلى قصد الوجه عند من يشترط قصد الوجه والتمييز وما أشبه ذلك .

ص: 315

لكن الانصافَ عدمُ بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلاً ، وإن كان ما يُستشمُّ منها قولاً وتقريرا من الروايات كثيرةٌ :

منها : ما ورد في المائين المشتبهين ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بلاخلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا .

ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين .

-------------------

هذا ، بالاضافة الى ما ذكره المصنِّف بقوله : ( لكن الانصاف عدمُ بلوغ ذلك ) الذي استقرئناه ( حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلاً ) حتى نفتي بوجوب الاحتياط في جميع الموارد مستندا إلى مثل هذا الاستقراء ( وإن كان ما يستشم منها قولاً وتقريرا من الروايات كثيرة ) فان التعليلات الموجودة في هذه الموارد المستقرء فيها ظاهرة فيكون الحكم بوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة من المسلمات وربّما يقطع الفقيه بسبب ذلك بالقاعدة المذكورة .

( منها : ) أي : من تلك الروايات الكثيرة ( ما ورد في المائين المشتبهين ) بأنّه «يهريقهما ويتيمم » (1) ( خصوصا مع فتوى الأصحاب بلاخلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا ) بأن لا يستعمل كليهما ولا يستعمل أحدهما ، لكن قال بعض الفقهاء : بوجوب استعمالهما ، وذلك بأن يتوضأ أو يغتسل بأحدهما مع الامكان ، ثم يصلي ، وبعد ذلك يغسل جسده أو موضع أعضائه ويتوضأ أو يغتسل بالماء الثاني ويصلي صلاة ثانية ، فانّه يقطع حينئذ بأنه أدى صلاة بالطهارة المائية فلا تصل النوبة إلى الطهارة الترابية .

( ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين ) وهي حسنة صفوان حيث

ص: 316


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

ومنها : ماورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلاً بقوله : « حتى يكون على يقين من طهارته » .

-------------------

سأل الإمام عليه السلام عن الصلاة في ثوبين أحدهما نجس واشتبه بالآخر ؟ فأمره الإمام بالصلاة في كل منهما على حدة ؛ فانّ هذا الخبر يدل على وجوب الاحتياط في جميع أطراف الشبهة ، ولو كان يجوز جعل البعض بدلاً عن الواقع ، لأفتاه الإمام باتيان صلاة واحدة في أحد الثوبين وجعل الثوب الآخر بدلاً عن النجس الواقعي ، كما انّه كان يفتيه في مورد الماء بأن يتوضأ بأحد المائين ويجعل الماء الآخر بدلاً عن النجس .

( ومنها : ماورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم باصابة بعضها للنجاسة ) وهي روايات كثيرة مثل ما عن أحدهما عليهماالسلام في حديث : « في المني يصيب الثوب ، فان عرفت مكانه فاغسله ، وان خفي عليك فاغسله كله (1) » .

وعن زُرارة قال : قلت : أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من مني ، إلى أن قال : قلت : فاني قد علمت انّه قد أصابه ولم أدر اين هو فأغسله ؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك (2) » وهذا الحديث رواه زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام أيضا ، وإليه أشار المصنِّف حين قال : ( معلّلاً بقوله : « حتى يكون على يقين من طهارته » ) .

وعن سماعة قال : « سألته عن بول الصبي يصيب الثوب ؟ فقال : اغسله ؛ قلت : فان لم أجد مكانه ؟ قال : اغسل الثوب كلّه (3) » .

ص: 317


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص267 ب12 ح71 ، وسائل الشيعة : ج3 ص402 ب7 ح3977 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، وسائل الشيعة : ج3 ص402 ب7 ح3978 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص251 ب11 ح10 و ص267 ب12 ح72 ، الاستبصار : ج1 ص174 ب104 ح4 وسائل الشيعة : ج3 ص398 ب3 ح3969 .

فانّ وجوبَ تحصيل اليقين بالطهارة على ما يستفاد عن التعليل ، يدلّ على جريان أصالة الطهارة بعد العلم الاجماليّ بالنجاسة .

وهو الذي بَنيْنا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ ، فانّه لو جرى أصالة الطهارة وأصالة الحلّ في بعض المشتبهين لم يكن للأحكام المذكورة وجه ولا للتعليل

-------------------

وعن عنبسة بن مصعب قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن المني يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه ؟ قال : يغسله كلّه ، وان علم مكانه فليغسله (1) » إلى غيرها من الروايات التي ذكرها الوسائل والمستدرك في باب تنجس موضع من الثوب لم يعلم به بخصوصه .

وعليه : ( فانّ وجوبَ تحصيل اليقين بالطهارة على ما يستفاد عن التعليل ، يدلّ على جريان اصالة الطهارة ) في المواضع المشكوكة ( بعد العلم الاجماليّ بالنجاسة ) فلا يكون بعض المواضع بدلاً عن الواقع حتى يكون البعض الآخر محكوما بالطهارة ( و ) كون العلم الاجمالي مانعا عن اجراء الأصل ( هو الذي بَنيْنا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ) بالاجتناب عن جميع الأطراف (وعدم جواز الرجوع فيها) أي: في هذه الشبهة (إلى اصالة الحلّ) أو اصالة الطهارة، أو ما أشبه ذلك.

وإنّما يكون العلم الاجمالي مانعا ، لانه كما قال : ( فانّه لو جرى اصالة الطهارة واصالة الحلّ في بعض المشتبهين ) كما ادعاه المحقق القمي والنَراقي ( لم يكن للأحكام المذكورة وجه ) إذ كان اللازم أن ينبّه الإمام عليه السلام على انّ بعض المواضع يجوز ارتكابه ، وانّما يجب الاجتناب عن بعض المواضع بقدر العلم ( ولا للتعليل

ص: 318


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص252 ب11 ح16 ، وسائل الشيعة : ج3 ص403 ب7 ح3080 و ص424 ب16 ح4056 .

في حكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة .

ومنها: مادلّ على بيع الذبائح المختلط ميتها بمذكّاها من أهل الكتاب ، بناءا على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة ، بأن يقصد بيع المذكى خاصّة أو مع مالا تحلّه الحياة من الميتة .

-------------------

في حكم الأخير ) أي : لم يكن وجه لتعليل الإمام عليه السلام وجوب غسل جميع النواحي المشكوكة ( بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة ) حيث قال عليه السلام : حتى يكون على يقين من طهارته .

( ومنها : ما دلّ على ) جواز ( بيع الذبائح المختلط ميتها بمذكّاها من أهل الكتاب ) وفي حَسنتيالحلبي المروية في باب الأطعمة المحرمة من الوسائل : انّه لو اختلط المذكّى بالميتة يباع ممّن يستحل الميتة (1) ، فانه لو جاز ارتكاب كِلا المشتبهين كما احتمله بعض ، أو أحد المشتبهين ، لم يكن وجه لبيع المشتبه ممّن يستحل الميتة ، وانّما كان الإمام عليه السلام يأذن في أكلهما ، أو أكل أحدهما وجعل الآخر بدلاً عن الواقع .

لا يقال : انه لا يصح العمل بهذه الروايات من جهة منافاتها لعموم حرمة بيع الميتة ، فكيف تباع الميتة ولو للكافر ، مع انّ اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه ؟ .

لأنه يقال : ( بناءا على حملها ) أي : حمل هذه الروايات ( على ما ) أي : على بيعه بنحو ( لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة ) وذلك ( بأن يقصد ) من بيع المجموع ( : بيع المذكّى خاصّة ، أو مع مالا تحلّه الحياة من الميتة ) من الشعر ، والوَبر ، وما أشبه .

لكن يمكن أن يقال : ان بيع الميتة انّما يحرم إذا كان المشتري مسلما ، أمّا إذا

ص: 319


1- - وسائل الشيعة : ج17 ص99 ب7 ح22080 و ج24 ص187 ب36 ح30308 ( بالمعنى ) .

وقد يستأنس له بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه السلام ، لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ، ثمّ أرسلها في الغنم ، حيث قال عليه السلام : يقسّم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه ، قُسِّمَ غيرُه قسمين ، وهكذا حتى يبقى واحد

-------------------

كان كافرا فلا بأس ببيعها له وأكل ثمنها لقاعدة « الالزام » (1) ، ولذا جاز اخذ المرأة المطلّقة بدون شرائط الطلاق إذا طلقها من يرى ان الطلاق كذلك صحيح ، كالعامة، وجاز تقسيم ميراث العامي والمجوسي ومن اشبههما حسب ديانتهم وان كان ذلك غير صحيح في مذهب الشيعة ، وجاز أكل الميراث من العامي في مورد ليس له أكله إذا كان المورّث شيعيا ، كما في مثل العصبة ، ونحو ذلك ، على ما ذكروه في كتاب الميراث .

( وقد يستأنس له ) أي : لوجوب الاجتناب عن الجميع مالم يكن هناك دليل على جواز ارتكاب البعض ( بما ورد : من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ) فانّ القرعة نوع علاج وافراز للحَرام ، ممّا يدل على عدم جواز ارتكاب جميعها أو ارتكاب بعضها قبل القرعة ( وهي : الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه السلام لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ، ثمّ أرسلها في الغنم ) فضاعت بين الشياه ولم يعرفها بعينها ( حيث قال عليه السلام : يقسّم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم ) الدال على الحلية ( عليه ، قُسِّم غيرُه قسمين ، وهكذا حتى يبقى واحد ) فيكون هو

ص: 320


1- - عن هذه القاعدة راجع كتاب القواعد الفقهية للشارح .

ونجى الباقي » ، وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لاتنهض لاثبات حكم مخالف للأصول .

-------------------

المحرَّم ( ونجى الباقي ) (1) بذلك .

مثلاً : لو كانت الشياه مائة يقسمها خمسين خمسين ، فيوقف قسما على يمينه وقسما على يساره ؛ ويكتب في رقعة حلال وفي رقعة حرام ، فيخرج احدى الرقعتين بقصد الجانب الأيمن - مثلاً - فان خرج الحلال قسّم اليسار قسمين ، وان خرج الحرام قسّم اليمين قسمين ، وهكذا حتى لا يبقى الاّ واحد ، وهذا القسم من القرعة هو أحد اقسام القرعة الممكنة وإلاّ أمكن التقسيم بغير هذا النحو كما ذكرناه في الفقه في هذا الباب ( وهي ) أي : هذه الرواية بالاضافة إلى مطلقات أدلة القرعة ، تكون ( حجّة القول بوجوب القرعة ) في هذا المورد .

( لكنّها ) أي : هذه الرواية ( لاتنهض لاثبات ) جواز القرعة في كل شبهة محصورة : كاللحمين المشتبهين ، أو الانائين المشتبهين ، أو المرأتين المشتبهتين، أو ما أشبه ذلك ممّا هو ( حكم مخالف للأصول ) مثل قاعدة الاشتغال ، فان اعتراض المشهور عن الرواية وعدم تعميمها لكل مورد من المشتبهين ، يجعل الرواية خاصة بموردها ، أو بالموارد التي هي من امثالها وبها دليل شرعا ، أو التي عمل بالقرعة فيها الفقهاء .

وانمّا لم يعملوا برواية القرعة ، لأنّ الأئمة عليهم السلام لم يقولوا بها في مثل الانائين المشتبهين ، والثوب الذي تنجس مقدار مجهول منه ، إلى غيرهما، كما لم يقولوا بالقرعة في مورد الماليات كإرث الخنثى ، والعين المتنازع فيها كالابل التي قضى

ص: 321


1- - تحف العقول : ص480 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج24 ص170 ب30 ح30264 ، وفيها عن الإمام الهادي عليهم السلام (بالمعنى) .

نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ، فان التكليف بالاجتناب عن الموطوئة الواقعيّة واجبٌ بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ .

هذا ، ولكنّ الانصافَ أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناءا على حمل القرعة على الاستحباب ، إذ على قول المشهور لابدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها .

-------------------

فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إلى غير ذلك ممّا يَظهر منه : انّ القرعة ليست عامة ، وانمّا خاصة بموارد مخصوصة ذكرها الأئمة عليهم السلام ، أو استفاد الفقهاء من كلماتهم عليهم السلام جريانها في تلك الموارد .

( نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ) فتدل هذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ، ولا بعضها وجعل البعض الآخر بدلاً عن الواقع قبل القرعة ( فان ) ظاهر هذه الرواية : ان ( التكليف بالاجتناب عن الموطوئة الواقعيّة واجب ) وذلك ( بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ ) كالقرعة .

( هذا ) غاية ما يستدل بهذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ولا بعضها في الشبهة المحصورة ( ولكنّ الانصاف : انّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم ) وهو القول بجواز ارتكاب البعض ، من الدلالة على مطلب القائل بعدم الجواز ، وذلك ( بناءا على حمل القرعة على الاستحباب ) كما ذكره بعض ، فانّ رواية القرعة إن حملت على الاستحباب ، دلّت على جواز ارتكاب بعض الأطراف ولو بدون القرعة ، وانّما تكون الرواية أدلّ على الجواز ( اذ على قول المشهور لابدّ من طرح الرواية) لانّها للاستحباب (أو العمل بها في خصوص موردها) وهي افراز

ص: 322

وينبغي التنبيه على امور
الأوّل :

إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ،

-------------------

الشاة المحرّمة وتعيينها بسبب دليل شرعي خارجي ، فالقرعة في هذا المورد تكون مثل الشاهدين إذا قاما على انّ الشاة الفلانية هي الموطوئة .

ثم لا يخفى : انّ المشتبه من موارد المنازعات المالية يكون المحكم فيها قاعدة العدل ، كما ذكرها صاحب الجواهر في كتاب الخمس ، وقد ذكرنا في الفقه تفصيل الكلام في ذلك (1) ، وامّا ما ظفرنا عليه من الروايات دليلاً للقاعدة من الموارد الخاصة في مختلف الأبواب ، فهي أكثر من ثلاث عشرة رواية ، ممّا يستفاد من جميعها قاعدة كلية هي : « قاعدة العدل » في الموارد المالية ، وهذا أيضا خارج عن مقتضى العلم الاجمالي لهذه الأدلة الخاصة .

( وينبغي التنبيه على امور ) راجعة الى بحث العلم الاجمالي ، وهي :

( الأوّل : إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة ) كالمائين المعلوم نجاسة أحدهما حيث انهما مندرجان تحت النجاسة ، والمالين المغصوب أحدهما حيث انهما مندرجان تحت الغصب ( وغير ذلك ) بأن يكونا مندرجين تحت حقيقتين مثل : أن يكون أحدهما غصبا أو نجسا ، حيث انّ النجس والغصب لا يندرجان تحت حقيقة واحدة ، أو تكون المرأة مرددة بين كونها زوجة حائضا أو أجنبية ، فالوطي

ص: 323


1- - راجع موسوعة الفقه ج33 كتاب الخمس للشارح .

لعموم ما تقدّم من الأدلّة .

ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ، فانه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين .

وهو : « إنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيد لما ذكرناه .

-------------------

في الحيض والزنا حقيقتان لا حقيقة واحدة ، بخلاف ما لو شك في ان احدى زوجتيه حائض ، أو احدى هاتين المرأتين أجنبية ، حيث انّهما داخلتان تحت حقيقة واحدة .

وانّما لا يكون في وجوب الاجتناب عن المشتبه فرق بين الحقيقية الواحدة والأكثر من الحقيقة الواحدة ( لعموم ما تقدّم من الأدلّة ) كقاعدة الاشتغال وما أشبه الدالة على وجوب الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة بلا فرق بين كونها من حقيقة واحدة أو اكثر .

( ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ) بين الحقيقة الواحدة والاكثر (فانه ) اي صاحب الحدائق ( ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه ) صاحب المدارك نفسه ( : من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين ) أي : انّ صاحب المدارك قال بعدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ، ثم ذكر تأييدا لمختاره ، فنقل صاحب الحدائق هذا المؤيد في كتابه ( وهو : « انّ المستفاد من قواعد الأصحاب : انّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله ) أي: من استعمال ما في داخل الاناء ( وهو مؤيد لما ذكرناه ) نحن صاحب المدارك : من عدم وجوب الاحتياط في المشتبهين ، إذ لو وجب الاحتياط في المشتبهين كان الواجب الاجتناب عمّا في داخل الاناء .

ص: 324

قال مجيبا عن ذلك :

أولاً : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة .

وثانيا : انّ القاعدة المذكورة انمّا يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

-------------------

ثمّ ( قال ) صاحب الحدائق بعد نقله كلام المدارك هذا حال كونه ( مجيبا عن ذلك ) أي : عن استدلال صاحب المدارك ورادّا له بما يلي :

( أولاً : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة ) وذلك لأنّ خارج الاناء المحتمل وقوع النجاسة فيه ، نقاط كثيرة من المكان فهو خارج من باب كون الشبهة غير محصورة ، أو من باب الخروج عن محل الابتلاء ، فلا يمكن أن يستدل به على عدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ممّا كان محصورا ومحل الابتلاء .

( وثانيا : انّ ) ما ذكره الأصحاب : من عدم وجوب الاحتياط في المثال المذكور وهو : وقوع النجاسة داخل الاناء أو خارجه ، ليس من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، حتى يكون مؤيدا لمختار المدارك ، بل انمّا هو من جهة : ان ( القاعدة المذكورة ) وهي : وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ( انمّا يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ) كالنجاسة في أحد الانائين أو الغصب في احدهما لا ما كانت من ماهيتين مختلفتين .

( و ) عليه : فان ( الجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ) كالمائين الذين أحدهما طاهر والآخر نجس ، وكاللحمين الذين أحدهما حلال والآخر حرام ، وكالزوجتين اللتين احداهما في حال الحيض والاخرى طاهرة ( فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

ص: 325

تضمّنه تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتفق » ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : - بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ،

-------------------

تضمّنه تلك الأخبار ) فالشبهة المحصورة مشمولة لأخبار الاحتياط ، والشبهة غير المحصورة مشمولة لأخبار البرائة ( لا وقوع الاشتباه كيف اتفق» ) (1) بأن لم تكن أطراف الشبهة مندرجة تحت ماهية واحدة ، كما في مثال الاناء وخارجه ، وكالخمر والخل ، وكالمرأة الحائض أو غير الزوجة ، فانه لا يجب الاحتياط في المقام .

ولايخفى: انّ الأصل في هذه المسألة هي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام : « عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب انائه هل يصلح الوضوء منه ؟ فقال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس » (2) ، وقد استدل بها الشيخ على طهارة ما لا يدركها الطرف من النجاسة في المبسوط ، ومن الدم خاصة في الاستبصار ، وأجاب المشهور عن الرواية : بعدم دلالتها على اصابة الدم الماء ، اذ يراد بعدم الاستبانة في الرواية عدم العلم باصابته ، لاعدم ادراك الطرف الدم لأنه قد استهلك في الماء ( انتهى كلامه ) أي : صاحب الحدائق ( رفع مقامه ) وأعلى اللّه درجاته .

( وفيه ) أولاً : ( بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ) بأن كان الشك في وقوع النجاسة في الماء أو في أطرافه ممّا

ص: 326


1- - الحدائق الناضرة : ج 1 ص 517 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ( وفيه عن الإمام الكاظم عليه السلام ) .

بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا .

كما يدلّ عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم غير المستبين في الماء بذلك -

-------------------

يوجب ان تكون الشبهة غير محصورة كما ذكره الحدائق ( بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا ) مع انّه محصور بين داخل الاناء وخارج الاناء ، فحكمهم بها ليس من جهة عدم انحصار الشبهة ؛ ولا من جهة اختلاف الماهية كما ذكرهما الحدائق ؛ ولا من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عند الأصحاب كما ذكره المدارك ، بل من جهة : انّ خارج الاناء خارج عن مورد الابتلاء ، فلا أثر للعلم الاجمالي .

ثم انّ الخارج من محل الابتلاء يتصور تارةً بالخروج القطعي ، كما إذا شك في نجاسة انائه أو نجاسة اناء شخص لا يتمكن من الوصول إليه ممّا هو بعيد عنه ألوف الفراسخ ، وأخرى بأن يكون قادرا عليه ، لكنّه لا يصح خطاب الشارع له من جهة انّه لا يستعمله اطلاقا ، كما لو شك في انّ القطرة وقعت في انائه أو على ورقة شجرة في داره ممّا لايستعمله اطلاقا ، ومثال الاناء وخارجه من قبيل الثاني على ما ذكره بعض .

( كما يدلّ عليه ) أي : على حكمهم بالطهارة ولو فرض الانحصار بين داخل الاناء وخارجه ( تأويلهم لصحيحة (1) علي بن جعفر ) المتقدِّمة ( الواردة في الدم غير المستبين في الماء ) فانهم أوّلوا هذه الصحيحة ( بذلك ) الذي ذكرناه : من انّ

ص: 327


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ( وفيه عن الإمام الكاظم عليه السلام ) .

أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة .

أمّا أوّلاً : فلعموم الأدلّة المذكورة خصوصا عمدتها ، وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة ، كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل .

-------------------

ظاهر الصحيحة الذي علق الحكم على الاستبانة : انّه لو لم يستبين لا حتمال أن الدم اصاب ظاهر الاناء ، فلا يجب الاجتناب عن داخل الاناء .

وفيه ثانيا : ( انه لا وجه لما ذكره ) الحدائق ( من اختصاص القاعدة ) أي : قاعدة وجوب الاحتياط بالافراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، وذلك لما يلي :

( أمّا أوّلاً : فلعموم الأدلّة المذكورة ) لوجوب الاحتياط من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وقد ذكرنا : انّ الكتاب يدل أيضا على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وهو قوله سبحانه : « اجتنبوا كثيرا من الظّنّ انّ بعضَ الظّنّ

اثمٌ » (1) فانّ هذه الأدلة تشمل الأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، أو تحت ماهيتين ، أو ماهيات ، كما إذا اشتبه أحد الانائين بانه نجس ، أو مغصوب ، أو محرّم الشرب ، لأنه - مثلاً - لبن حيوان محرّم اللحم ، وهكذا .

( خصوصا عمدتها ) أي : عمدة أدلة وجوب الاحتياط ( وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك ) كلبن الحيوان المحرّم اللحم ( بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل ) فان قوله عليه السلام : و « اجتنب عن النجس » ، و « اجتنب عن الخمر » ، و «اجتنب عن مال الغير » ، و «اجتنب عن لبن حيوان محرّم الأكل وان كان طاهرا»، يقتضي وجوب الاجتناب عن كل ما احتمل هذه الامور في صورة العلم الاجمالي ، سواء كان

ص: 328


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومايع آخر أو بين مايعين مختلفي الحقيقية وبين تردّده مابين مائين ، أو ثوبين ، أو مايعين متّحدي الحقيقة .

نعم ، هنا شيء آخر :

-------------------

الترديد في ماهية واحدة كمائين يعلم بنجاسة أحدهما ، أم مائين يعلم بأنّ أحدهما إمّا نجس أو مغصوب .

( وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ) اذا لا دليل على مثل هذه الضابطة ، بالاضافة إلى انّه لم يعلم ان الماهية الواحدة يراد بها : الماهية الصنفية ، أو النوعية ، أو الجنسية القريبة ، أو الجنسية البعيدة ؟ (ولم يعلم ) وجه ( الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومايع آخر ) كالخل ( أو بين مايعين مختلفي الحقيقية ) كالخل والدبس ، فانّ في كل هذه الامور يجب بحكم العقل والشرع على ماعرفت: الاجتناب عن جميع الاطراف اذ لا فرق بين ذلك ( وبين تردّده ) أي : تردد النجس ( مابين مائين ، أو ثوبين ، أو مايعين متّحدي الحقيقة ) كالخلين - مثلاً - فانّ العقل والنقل دلاّ على وجوب الاجتناب عن جميع هذه الشبهات المحصورة .

( نعم ، هنا شيء آخر ) وحاصل هذا الشيء هو : انّ الترديد والاشتباه قد يكون تارة في شخص الخطاب ، وأخرى في نوع الخطاب ، وثالثا : في جنس الخطاب ، فالترديد في شخص الخطاب : ما إذا حصل العلم الاجمالي بكون أحد الانائين خمرا ، فانّ خطاب : « اجتنب عن الخمر » معلوم ، لكن الترديد حاصل في شخصه الخارجي بالنسبة إلى هذا الاناء أو ذاك الاناء .

ص: 329

وهو : أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي

-------------------

والترديد في نوع الخطاب : ما إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مكان سجود الانسان ، حيث يشترط في ثوب المصلي وكذا محل سجوده ان يكون طاهرا ، فان جنس الخطاب بوجوب الاجتناب عن النجس معلوم ، وانّما الاجمال في نوعه ، حيث لايعلم ان المحرَّم هو اللبس في حال الصلاة ، أو هو السجود على هذا المكان ، فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في حال الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه فليس في المقام خطاب جامع للنجس الواقعي ، إذ لا خطاب يشمل اللبس والسجدة ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تلبس النجس في الصلاة » ، و « لا تسجد على النجس »، فانّهما إذا ألقيا إلى المكلّف علم : بأن المحرّم هو الجامع الذي تارة يكون في هذاالفرد ، وتارةً في الفرد الآخر .

والترديد في جنس الخطاب : ما إذا دار الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية ، أو كون هذا المايع خمرا ،فانّ جنس الخطاب وهو : « لا تزن » أو : « لا تشرب الخمر » غير معلوم ، وان كان المعلوم من الخطابين لدى العقلاء وجوب الاجتناب عن الزنا وعن شرب الخمر .

ولا يخفى : ان هناك ترديدا رابعا وهو : معلومية أصل اللزوم دون معلومية كونه واجبا أو محرما ، كما لو تردد الأمر بين وجوب الجمعة أو حرمة الرضيعة التي رضعت معه عشر رضعات - مثلاً - .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف عند بيانه الشيء الآخر بقوله : ( وهو : انّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي ) كالخمر مثلاً حيث ان الخمر محرم واقعا

ص: 330

أو النجس الواقعيالمردّد بين المشتبهين أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا ؟ .

مثلاً : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجدا ، حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة ، فليس هنا خطابٌ جامعٌ للنّجس الواقعي ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تَلبس النّجسَ في الصلاة ، ولا تسجُد على النّجس » .

-------------------

( أو النجس الواقعي ) كالبول فانّه نجس واقعا ( المردّد بين المشتبهين ) فيما علم بان أحد الانائين خمر ، أو علم بأن أحد الانائين بول ( أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا ؟ ) فانّه قد يكون هناك خطاب واحد متردد بين أن يكون في هذا الاناء أو ذاك الاناء ، كما إذا علمنا بأنّ أحدهما خمر والآخر ماء ، وقد يكون خطابان تردد التكليف بينهما كما قال :

( مثلاً : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجَدا ) - بفتح الجيم - والمراد به: محل السجود ( حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة ) فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه ( فليس هنا خطابٌ جامعٌ للنّجس الواقعي ) يشمل اللبس والسجود حتى يقبح مخالفة ذلك الخطاب الجامع ( بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تَلبس النّجسَ في الصلاة ، ولا تسجُد على النّجس » ) ، فان العرف يستفيد من هذين الخطابين جامعا ، فكلّما خالف المكلّف أحدهما وطابق الواقع رأى العرف صحة عقوبته .

ومن المعلوم : ، انّ من هذا الباب مثال الاناء وخارجه ، لأنّ داخل الاناء يحرم شربه ان كان نجسا في الواقع ، وخارج الاناء يحرم ملامسته برطوبة في حال

ص: 331

وأولى من ذلك بالاشكال ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره على التّقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب الاجتناب عن النجس بخلاف الثاني ، وأولى من ذلك ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو كون هذا المايع خمرا .

وتوهّمُ إدراج ذلك كلّه

-------------------

الصلاة ان كان هو النجس في الواقع .

( وأولى من ذلك بالاشكال ) في تنجّز العلم الاجمالي ( ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره ) أي : غير ذلك العنوان ( على التّقدير الآخر ) فللحرام عنوانان ( كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا ، وكون الآخر مال الغير ) فانّه وان كان يحرم على كل تقدير ، لكن الحرام على تقدير النجاسة هو عنوان النجاسة ، والحرام على تقدير مال الغير هو عنوان الغصبية .

وانمّا قلنا: انّ هذه الصورة أولى بالاشكال (لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل) وهو تردد الأمر بين اللبس والسجدة (تحت خطاب الاجتناب عن النّجس) الشامل للنجس في الثوب أو في مكان السجود ، فهو عنوان واحد مردد بين الأمرين ( بخلاف ) الفرض ( الثاني ) وهو : كون أحد المايعين نجسا وكون الآخر مال الغير ، لأنّه لا عنوان واحد يجمع النجس والغصب فيهما معا .

( وأولى من ذلك ) في الاشكال ( ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية ) يحرم وطيها ( أو كون هذا المايع خمرا ) فيحرم شربها ، حيث انّه لا جامع بين الوطي والشرب .

هذا ( وتوهّمُ ادراج ذلك كلّه ) أي : كل الفروض المذكورة التي ذكرنا الاشكال

ص: 332

في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوعٌ بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ،

-------------------

فيها حتى مثال المرأة والمايع ( في ) الخطاب التفصيلي وهو : ( وجوب الاجتناب عن الحرام ) فان الارتكاب على كل تقدير حرام ، سواء في المثال الأوّل ، أو الثاني، أو الثالث ، فيحرم المخالفة عقلاً وشرعا ، ( مدفوعٌ : بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة ) وليس اجتنب عن الحرام عنوانا مولويا مستقلاً يشمل جميع الامثلة .

والحاصل : انّه لم يكن هناك من الشارع خطاب مولوي باجتنب عن الحرام ، حتى تكون هذه الأمثلة من باب الخطاب التفصيلي لذلك الخطاب الاجمالي وانّما ورد خطاب الشارع بعناوين مخصوصة مثل : « اجتنب عن النجس » ، و « اجتنب عن الخمر » ، و « اجتنب عن المرأة » ، وهكذا ، حيث انّه لاخطاب واحد وان كان ينتزع من المجموع خطاب واحد باجتنب عن الحرام ، بل وكذلك المثال الذي ذكرناه : من تردد الأمر بين الواجب والحرام ، فانّ الجامع فيه اعتباري وهو : التزم بالترك أو بالفعل ، وحينئذٍ ( فالاعتبار بها ) أي : بتلك الأدلة ( لا به ) أي : لا بالخطاب المنتزع من المجموع .

اللّهم إلاّ أن يقال : بأن هناك جوامع أيضا يمكن شمولها لجميع تلك الأمثلة مثل قوله سبحانه : « ما آتاكم الرّسول فخُذوه وما نهاكُم عنه فانتَهوا » (1) ، ومثل قوله سبحانه : « ثم لا يجدوا في أنفسِهم حرجا ممّا قضيت ويُسلّموا تسليما » (2) ، ومثل قوله سبحانه : « أطيعوا اللّه َ وأطيعوا الرّسولَ » (3) حيث الاطاعة شاملة

ص: 333


1- - سورة الحشر : الآية 7 .
2- - سورة النساء : الآية 65 .
3- - سورة النساء : الآية 59 .

كما لايخفى .

والأقوى أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلاً وعرفا في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين . ألا ترى أنّه لو ارتكب مايعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المايع في المثال الأخير .

-------------------

للأوامر والنواهي ( كما لا يخفى ) .

إذن : فالاحوط ، بل ( والأقوى انّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ) بأن يرتكب الانسان كلا طرفي الحرام ، أو يترك محتمل الوجوب ويأتي بمحتمل الحرمة ( ولا فرق عقلاً وعرفا ) بعد أن كان العرف هم ميزان الاطاعة والمعصية ( في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه ) مثل ارتكاب المائين ، أو المايعين ، أو الثوب ومحل السجود ، فانّه مخالفة للخطاب التفصيلي القائل : لاتشرب النجس أو لاتشرب الخمر ، أو اجتنب عن النجس ( وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين ) كما في مثال التردّد بين النجاسة والغضبيّة ، وبين الأجنبية والخمرية ، بل وبين العلم الاجمالي بمخالفة نهي أو مخالفة أمر .

( ألا ترى : أنّه لو ارتكب مايعا واحدا يعلم ) حرمته ، لكنّه متردّد في ( انّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ) فلو إعتذر عن ارتكابه بأنّه لم يعلم بالخطاب تفصيلاً لم يعذره العقلاء والعرف ( فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المايع في المثال الأخير ) أو ترك الجمعة وتزوج بالرضيعة ، في المثال المتقدّم .

ص: 334

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور .

فكما تقدّم : أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المايعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن فى ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما .

وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها ، لعدم جريان أدلة الحليّة ولا أدلة

-------------------

( والحاصل : انّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور ) وكذا بالنسبة الى الأوامر المتعددة أو بالنسبة إلى أمر ونهي ( فكما تقدّم : انّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المايعين المردّد بينهما الخمر ) لأنّه يستلزم التناقض ( فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما) بأن ينهي عن شرب النجس وعن السجود على النجس - مثلا - ثم يأذن فيهما لو تردد الأمر بين أحدهما وكذلك الحال بالنسبة الى التردد بين أمر ونهي .

هذا كلّه هو تمام الكلام في حرمة المخالفة القطعية .

( وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها) فلا يجوز له ارتكاب أحدهما ( لعدم جريان أدلة الحليّة ) مثل قوله عليه السلام : « كل شيء لَكَ حلال » (1) ( ولا أدلة

ص: 335


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

البرائة عقليّها ونقليّها .

وأما النقلية ، فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ، وابقاؤهما يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، وابقاء واحد علي سبيل البدل

-------------------

البرائة عقليّها ) مثل : قبح العقاب بلابيان ( ونقليّها ) مثل : «رفع ما لايعلمون» (1) ، فانها لا تجري في المقام .

( وأما النقلية فلما تقدّم : من استوائها ) اي : الأدلّة النقليّة ( بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ) فانّ « رُفِعَ ما لا يعلمون » يشمل كلا الانائين ، لأنّ كل واحد منهما لايعلم انّه حرام ، وكذلك « كلّ شيء لَكَ حَلالٌ حَتى تعَرفَ انّه حرامٌ بعينه » (2) يشمل كل واحد منهما حيث لا يعلم الحرام بعينه ، فالدليل يشمل كلا المشتبهين بنسبة متساوية .

( و ) عليه : فاذا تساوت نسبة الأدلة من المشتبهين فما هو العلاج ؟ هل هو (ابقاؤهما) أي : المشتبهين تحت عموم ادلة الحل والبرائة وجريانها في كِلا المشتبهين ؟ ان كان ذلك ، فانّه ( يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، و ) ذلك لانّ المفروض انّا نعلم بوجود أحد تلك العناوين بين المشتبهين ، فان الشارع حيث قال : اجتنب عن النجس وعلمنا بوجود النجس بين الانائين لزم الاجتناب عن النجس منهما ، فاذا أجاز ارتكاب كليهما كان ذلك تناقضا ومستحيلاً .

أو هل العلاج هو : ( ابقاء واحد على سبيل البدل ) بأن ياذن له بارتكاب احد

ص: 336


1- - الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، التوحيد : ص353 ح24 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ( مع تفاوت ) وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 وبحار الانوار : ج2 ص274 .

غير جائز ، اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم .

وأما العقل ، فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

-------------------

المشتبهين وترك الاُخر ، ان كان هذا فهو ( غير جائز ) أيضا ، لانه يكون في نظر المكلّف محتمل التناقض لاحتمال أن يصادف ما يستعمله للنجس الواقعي ، فيكون معناه : انّه قال تارةً : « استعمل » ، واخرى: « اجتنب ولاتستعمل » واحتمال التناقض كالتناقض مستحيل .

وإنّما لا يجوز ابقاء واحد على سبيل البدل ( اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم ) أي : عموم أدلة الحل والبرائة ، مثل : « كلّ شيء لَكَ حَلال » (1) فانّ مثل هذا العموم إنّما يشمل الشبهات البدوية أو غير المحصورة ، أو المحصورة إذا كان بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، ولا يشمل مثل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي إذا كان جميع أطرافها محل الابتلاء ، كما سبق الماع المصنِّف إلى ذلك من ردّ المحققين القميّ والنّراقي .

إذن : فلا يبقى الاّ اخراج المشتبهين من تحت عموم أدلة الحل والبرائة ، والقول بوجوب الموافقة القطعية فيهما .

( وأما العقل ) وهو : قبح العقاب بلا بيان ( فلمنع استقلاله في المقام ) اي : في الشبهة المحصورة عند تردد الخطاب بالاجتناب بين خطابين إمّا للنجاسة وإمّا للغصبية - مثلا - فالعقل لا يحكم ( بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

ص: 337


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

المردد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام - بعد عدم القبح المذكور - بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل فى ارتكاب أحدهما .

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا ان تُجَوّز الاولّى وإمّا ان تُمنع الثانية .

-------------------

المردد بين الأمرين ) فانهّ إذا ارتكب المكلّف احدهما وصادف الحرام الواقعي لم يَرَ العقل قبحا في عقوبته .

( بل الظاهر : استقلال العقل في المقام - بعد عدم القبح المذكور - ) في الحكم ( بوجوب ) الموافقة القطعية ، وذلك بالاجتناب عن كليهما ، لانّ العقل يرى لزوم ( دفع الضرر ، أعني : العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما ) فانّه إذا ارتكب أحدهما احتمل مطابقته للواقع ، وإذا طابق الواقع المحرّم فلا يري العقل قبحا في عقابه ، والعقاب ضرر فيوجب العقل دفعه .

( وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام ) وهو : ترددّ الخطاب بين الخطابين في الشبهة المحصورة ( بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فامّا ان تُجَوّز الاولّى ) فيقال : بجواز المخالفة القطعية ، وذلك بناءا على عدم تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي في صورة تردد الخطاب بين الخطابين ، فيجوز للمكلّف ارتكاب كليهما .

( وإمّا ان تُمنع ) بصيغة المجهول ( الثانية ) فيقال : بعدم جواز المخالفة الاحتمالية أيضا ، وذلك بناءا على تنجز العلم الاجمالي في المقام ، حيث ذكرنا : انّ العقل لا يقبِّح المؤاخذة على من ارتكب احدهما لو صادف الواقع المحرم ، وعين هذا الكلام يأتي أيضا في مورد دوران الأمر بين الوجوب والتحريم كما لا يخفى .

ص: 338

الثاني :

انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ، فلا مؤاخذة الاّ على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث أنّه مشتبه ، فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام .

-------------------

إذن : فلا تفكيك في الشبهة المحصورة بين القول بحرمة المخالفة القطعية وبين القول بوجوب الموافقة القطعية ، وحيث قد عرفت تفصيل ذلك فلا حاجة إلى تكراره .

( الثاني ) من التنبيهات : ( انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو ) ارشادي ( بمعنى : لزوم الاحتراز عنه ) أي : عن كل من المشتبهين ( حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ) فانّه إذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع كان له عقاب الواقع لا عقاب ترك الاحتياط ، ولو لم يصادف الواقع لم يكن له عقاب بل كان تجرياً ، فمَن قال بحرمة التجري يقول بانّه حرام من جهة التجري ، ومن لم يقل بحرمة التجري كالمصنف لا يقول بحرمته ( فلا مؤاخذة ) إذن ( الاّ على تقدير الوقوع في الحرام ) وهذا هو معنى الارشادي .

(أو هو ) وجوب مولوي ولكن ثانوي لاوجوب أوّلي ( بمعنى : لزوم الاحتراز عنه من حيث انّه مشتبه ) ولازمه : حرمة الحلال الواقعي أيضا عند الاشتباه ، لكن لعنوان ثانوي هو : عنوان انّه مشتبه .

وعليه: ( فيستحقّ ) المرتكب لاحدهما العقاب و( المؤاخذة ب ) سبب ( بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام ) الواقعي لانّه قد ارتكب المحرم

ص: 339

ولو ارتكبهما استحق عقابين ، فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الاول ، لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى العقاب المحتمل ، بل المقطوع حكم ارشادي .

وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا » ، لم يكن إلاّ إرشاديّا ،

-------------------

بالعنوان الثانوي وهو المشتبه ( ولو ارتكبهما استحق عقابين ) : عقاب ارتكاب الحرام الواقعي ، وعقاب ارتكاب المشتبه .

( فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الأوّل ) وهو : انّه من باب الارشاد حذرا من الوقوع في الحرام . ( لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى : العقاب المحتمل ) أو العقاب المظنون ( بل المقطوع ، حكم ارشادي ) لا مولوي حتى يكون العقاب على مخالفة ولو لم يصادف الواقع ، بل هو ارشادي ولا عقاب على مخالفته الاّ إذا صادف الواقع ، بأن كان ما ارتكبه حراما واقعيا .

وان شئت قلت : إنّ العقل يوجب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، فاذا ارتكب الشخص أحدهما باحتمال انّه الحرام ، أو بظن انّه الحرام ، أو بقطع انّه الحرام ، ولكن لم يكن ما ارتكبه مصادفاً للحرام الواقعي لم يكن لما ارتكبه عقاب .

( وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل ) أو عقاب مظنون ( أو ) عقاب ( مقطوع ) أمرا ( بقوله : « تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» لم يكن ) هذا الامر ( الاّ ارشاديّاً ) وانّما لم يكن إرشاديا ، لانه لو كان امرا مولوياً لزم أن يكون للمصادف عقابان عقاب الحرام ، وعقاب مخالفة النهي عن الوقوع في الحرام بمخالفة أمر الاحتياط ، ومن البديهي : انّه ليس لكلّ حرام عقابان ،بل عقاب واحد بدليل الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، قال سبحانه :

ص: 340

ولم يترتب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الارشادي ، وإلى هذا المعنى أشار ، صلوات اللّه عليه ، بقوله : « اتركوا ما لا بأسَ به حذرا عمّا به البأسُ » ، وقوله : « من ارتكب الشبهات وقع في المُحرَّمات وهَلك

-------------------

« وَمَن جَاءَ بِالسيّئةِ فَلاَ يُجزَى الاَّ مثلَهَا » (1) .

( و ) معنى كونه إرشاديا : انه ( لم يترتب على موافقته ) أي : موافقة الأمر الاحتياطي ( ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ) من النفع والثواب أو الضرر والعقاب ، فاذا أمر الطبيب - مثلا - المريض بشرب الدواء ، فانّه ان شربه نفعه ، وان لم يشربه ضرّه المرض من دون ان يكون لأمر الطبيب أثر فوق فائدة شرب الدواء وضرر تركه ( كما هو شأن الطّلب الارشادي ) سواء كان من المولى الحقيقي أم من المولى العرفي ، أم من أهل الخبرة في شئون السفر والحَضر، والزراعة والعمارة، والعلاج والدواء ، وغير ذلك .

( وإلى هذا المعنى ) أي : كون الأمر ارشادياً ( أشار صلوات اللّه عليه ، بقوله : « اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس » (2) ) فانّ معنى هذه العبارة : ان البأس منحصر في الحرام الواقعي ، والحذر انمّا هو من جهة الحرام الواقعي ، فاذا خولف ترك من لا بأس به بارتكابه ولم يصادف الحرام لم يكن فيه بأس.

( وقوله ) صلوات اللّه عليه ( « من إرتكب الشبهات وقع في المُحرَّمات وهَلكَ

ص: 341


1- - سورة الانعام : الآية 160 .
2- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 ، وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : 312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

من حيث لا يعلم » .

ومن هنا ظهر انّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط .

-------------------

من حيث لا يعلم » ) (1) فان ظاهر هذه العبارة : ان الهلكة انّما هي في الحرام الواقعي لا في المشتبه به ( ومن هنا ظهر : انّه لافرق في ذلك ) الذي ذكرناه : من ان وجوب الاجتناب عن المشتبهين ارشادي لا فرق فيه ( بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل ) الذي يوجب دفع الضرر المحتمل ( وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط ) وذلك من جهة كونهما للارشاد فان اخبار الاحتياط ايضا ترشد الى عدم الوقوع في الحرام ولا تدل على حرمة المشتبه الذي كان في الواقع حلالاً كما سيأتي الالماع إلى ذلك .

ثم لا يخفى : انّه لم يقل أحد من الاصوليين بأن وجوب الاجتناب عن المشتبهين وجوب شرعي وانّما هو قول بعض الأخباريين فقط وذلك على ما نسبه الوحيد البهبهاني اليهم .

ثم إنّ المصنّف بعد أن ذكر انّ الأمر بالاحتياط ارشادي بمعنى : انّه ان ارتكب أحد المشتبهين ولم يصادف الواقع لم يكن فعله حراما ، أشكل على نفسه : بانّه إذا كان الظّن بالضرر الدنيوي لقوله : « لا ضرر ولا ضرار » (2) يوجب العقاب وان

ص: 342


1- - الكافي : اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، معاني الاخبار : ص281 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح4 .

وأما حكمهم عليهم السلام بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه وان لم يصادف الواقع فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ، لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا .

والمفروض أن الظن في باب الضرر

-------------------

لم يصادف الواقع ، كما ذكره الفقهاء فكيف لا يكون الظن بأن أحد المشتبهين خمر موجبا للعقاب فيما إذا لم يصادف الواقع على ما ذكرتموه أنتم ؟ .

والجواب : إن هناك بين الضرر الدنيوي والضرر الاخروي ، وهو : ان الشارع جعل ظن الضرر الدنيوي محّرما بنفسه أي : موضوع الحرمة ، فيكون النهي عنه مولويا وذلك بملاحظة انّه إذا لم يجعله حراماً وقع الانسان في ضرر كثير ، بخلاف الظنّ بالحرمة الذي هو ضرر اُخروي فليس محرماً بنفسه فيكون النهي عنه ارشادياً.

والى هذا اشارالمصنِّف بقوله : ( وأما حكمهم عليهم السلام ) في الضرر الدنيوي ( بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه ) أي : على ترك دفعه ( وان لم يصادف الواقع ) بأن لم يكن الضرر متحققا في الواقع ( فهو خارج عمّا نحن فيه ) فانه اذا ظنّ بأنّ إستعمال الماء - مثلا - يضره ومع ذلك استعمل الماء ، كان ذلك حراماً وموجباً للعقاب على ما ذكره العلماء حتى وان لم يكن في الواقع ضرر في استعمال الماء عليه .

وانّما كان خارجا عمّا نحن فيه فلا يقاس أحدهما بالأخر ( لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعاً) فاذا علم الانسان بالضرر في استعمال الماء - مثلا - حرم شرعا ارتكابه وان لم يكن في الواقع ضرر بأن كان علمه جهلاً مركبا .

هذا ( والمفروض : ان ) الشارع جعل مطلق ( الظن في باب الضرر ) حجة ،

ص: 343

طريق شرعي إليه . فالمتقدم مع الظن كالمتقدم مع القطع مستحقٌ للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر .

-------------------

فهو ( طريق شرعي إليه ) أي : الى الضرر ( فالمتقدم ) على الضرر ( مع الظن ) بالضرر ( كالمتقدم مع القطع ) كلاهما ( مستحقٌ للعقاب ) في الآخرة .

وعليه : فان مطلق الظن بالضرر الدنيوي يكون في الحكم ( كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر ) من الخبر الواحد ونحوه ، فانه كما جعل الشارع الظن المعتبر بحرمة المرأة الفلانية - مثلا - كالظن الحاصل بسبب الخبر أو الاجماع أو الشهرة أو ما أشبه ، طريقا للوصول الى الحرمة حتى إذا خالف هذا الظن فعل حراما ، وكذلك فيالمقام جعل الشارع مطلق الظن بالضرر طريقا للوصول إلى الحرمة فاذا خالفه فعل حراما .

لكن لا يخفى : انّه يرد عليه مايلي :

أولاً : انّه ليس الموجب للحرمة لمن قال به في باب الضرر : الظن فقط ، بل الاحتمال العقلائيولو كان وهماً ايضاً موجب للحكم الظاهري .

ثانيا : انّه لادليل على ان من ارتكب ما يظن بضرر ، ولو لم يكن ضررا في الواقع ان يكون قد فعل حراماً ، فمن أين قلتم : ان المرتكب لما قطع أو ظن أو احتمل ضرره ولم يطابق الواقع يكون مستحقاً للعقاب وفاعلاً للحرام ؟.

ثالثا : من أين تقولون : انّ من ارتكب ما ظن بحرمته ظناً معتبرا من سائر المحرمات انّه يكون فاعلاً للحرام اذا لم يصادف ظنّه الواقع ؟ .

نعم ، إذا صادف ظنّه الواقع كان فاعلاً للحرام ، لأنّه فعل الحرام المنجز عليه بسبب الظن المعتبر ، لكن لا يقاس الظن بالضرر المخالف للواقع ، بالظن بالحرام الموافق للواقع .

ص: 344

نعم ، لو شك في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الاباحة وعدم الضرر ، لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع ، إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة فيجوز ترخيصه بالاقدام على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته .

وهذا بخلاف الضرر الاُخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعاً يقبح

-------------------

( نعم ، لو شك في هذا الضرر ) الدنيوي ، بان لم يعلم - مثلاً - انّ سلوك طريق بغداد موجب للضرر أو لم يكن موجبا للضرر ، فانّه ( يرجع إلى اصالة الاباحة و ) اصالة ( عدم الضرر ) لأن الضرر أمر حادث ، فاذا شك فيه كان الأصل عدمه ، فيكون مرجعه عموم أدلة الحل والبرائة .

فان قلت : إذا احتمل الضرر فالعقل يرى لزوم الاجتناب في ما كان الاحتمال عقلائيا ، فكيف يرى الشارع جواز الارتكاب بسبب اجراء البرائة ؟ .

قلت : أدلة البرائة مطلقة تشمل المقام ، ولا تلازم بين المنع العقل واجازة الشارع (لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع ) به ، فانّه حتى مع القطع بالضرر يمكن للشارع أن يأذن فيه ( إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة ) فيكون ترخيص الشارع من باب الأهم والمهم ، كما أجاز الصدقات ونحوها ، مع انّ فيها الضرر الدنيوي ، وذلك لما فيها من المصالح الاُخروية .

وعليه : ( فيجوز ) للشارع تطريق اولى ( ترخيصه بالاقدام على المحتمل ) من الضرر بعد ترخيصه في المقطوع منه ( لمصلحة ولو كانت ) تلك المصلحة ( تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته ) فانّه إذا جاز ترخيص الشارع مع القطع بالضرر ، جاز ترخيصه مع احتمال الضرر بطريق اولى .

( وهذا بخلاف الضرر الاُخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعاً يقبح

ص: 345

من الشارع الترخيصُ فيه .

نعم ، وجوب دفعه عقليّ ولو مع الشّك ، لكن لايترتب على ترك دفعه الاّ نفسه ، على تقدير ثبوته واقعا حتى أنّه لو قطع به ثم لم يدفعه واتفق عدمه واقعاً لم يعاقب عليه إلاّ من باب التجرّي ،

-------------------

من الشارع الترخيصُ فيه ) كما في أطراف الشبهة المحصورة ، حيث انّ ما يرتكبه إذا صادف الواقع يترتّب عليه الضرر الاخروي والعقاب ، مما يكون الترخيص فيه محتمل الضرر الدنيوي لا يلازم جواز ترخيص محتمل الضرر الاخروي .

لكن لا يخفى انه ليس معنى عدم ترخيص الشارع محتمل الضرر الاخروي حيث لا يرخص فيه : انّه لو ارتكبه يكون فيه العقاب مطلقاً ، بل يكون فيه العقاب إذا صادف الواقع ، فالنهي عن ارتكاب محتمل الضرر الاخروي ارشادي يدور امره مدار الواقع كأوامر الطبيب ، وقد أشار المصنِّف إلى هذا المعنى بقوله :

( نعم ، وجوب دفعه ) أي : محتمل الضرر الاُخروي ( عقليّ ولو مع الشّك ) كما في أطراف الشبهة المحصورة حيث يشك الانسان في انّ ايّ واحد منها يصادف الواقع .

( لكن ) حُكم العقل بوجوب الدفع هذا : ارشادي محض ( لا يترتب على ترك دفعه الاّ نفسه ) أي : نفس العقاب المحتمل وذلك ( على_'feتقدير ثبوته واقعا ) امّا اذا لم يكن العقاب ثابتا واقعا بأن كان الذي ارتكبه هو الحلال لم يكن عليه شيء .

إذن : فالمرتكب لأحد اطراف الشبهة ( حتى انّه لو قطع به ) اي : بالعقاب ( ثم لم يدفعه واتفق عدمه ) أي : عدم العقاب ( واقعاً لم يعاقب عليه الاّ من باب التجرّي ) لأنّ المفروض انّ العقاب دائر مدار الواقع وقد فرضنا انّه ارتكب الحلال

ص: 346

وقد تقدّم فيالمقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه وسيجيء أيضاً .

فان قلت : قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه السلام ،

-------------------

ولم يرتكب ما يصادف الواقع ( وقد تقدّم فيالمقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه ) أي : في التجري وانّه ليس يمحرم وانّما هو كاشف عن سوء سريرة المرتكب ( وسيجيء أيضاً ) تتمة الكلام انشاء اللّه تعالى .

ولا يخفى : إنّ في قول المصنِّف : « نعم » إلى هنا موارد للنظر نضرب عنها صفحا خوف الخروج عن مقصد الشرح .

( فان قلت : ) قولكم أيها الفقهاء هنا : بأن ارتكاب أحد المشتبهين إذا لم يصادف الحرام في الواقع لا عقاب عليه ، يخالف قول المتكلمين من العدلية ، حيث قالوا : بأنّ تارك شكر المنعم وان لم يصادف الواجب في الواقع ، بأن لم يجب عليه الشكر واقعا يعاقب عليه لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل كما قال :

( قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة ) الاخروية يعني : العقاب وهو دليل عقلي.

( وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه السلام ) أي : ان العدلية قالوا : بوجوب شكر المنعم وان من لم يشكره يستحق العقاب وان لم يصله التكليف الشرعي بوجوبه ، واستدلوا لذلك : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل

ص: 347

فيدل ذلك على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل .

قلت :

-------------------

في ترك الشكر ، كما استدللتم انتم لوجوب اجتناب المشتبه واستحقاق العقاب لمرتكبه مع انه لا وجوب شرعي عليه : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل في ارتكاب المشتبه.

وعليه : ( فيدل ذلك ) الذي استدل به العدلية من حكم العقل بوحوب شكر المنعم ، الشبيه لما استدلتم عليه لوجوب اجتناب المشتبه ،يدل ( على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل ) وان لم يصادف الواقع ، وهنا يتناقض مع ما ذكرتموه سابقاً : من ان الأمر الناشى ء من احتمال الضرر الآخروي ارشادي محض يدور مدار الواقع فلا يوجب ارتكاب المشتبه مطلقا العقاب ، بل يوجبه إذا صادف الواقع ؟ .

والحاصل : انّ العدلية يقولون : من خالف حكم العقل بوجوب شكر المنعم وترك الشكر استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان الشكر في الواقع واجبا ، وكذا من خالف حكم العقل بوجوب اجتناب المشتبه فارتكب احد الاطراف استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان ما ارتكبه في الواقع حراما أو لم يكن كذلك، بينما انتم تقولون انّه إذا لم يصادف الواقع لا عقاب عليه .

( قلت ) : كلا انّ العدلية لا يقولون بالعقاب إذا ترك الشكر وكان الشكر في الواقع غير واجب ، بل يقولون بالعقاب إذا كان الشكر في الواقع واجبا ، فيكون ارتكاب أحد المشتبهين وتارك الشكر كلاهما سيّان من هذه الجهة ، فان كان الشكر واجبا ، والمشتبه خمرا ثبت العقاب على تارك الشكر وعلى مرتكب أحد المشتبهين ، والاّ لا عقاب على أيّ منهما .

ص: 348

حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ، فانّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه . فاذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل صحّ عقابُ تارك الشكر - من أجل إتمام الحجّة عليه - بمخالفة عقلية ، وإلاّ فلا .

-------------------

وعليه : فانّ ( حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر ) الاخروي والعقاب ليس هو ( فيتركه ) أي : ترك الشكر مطلقاً ، بل ( لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ) فانهم يقولون بالعقاب على ترك الشكر إذا صادف الواقع بأن كان الشكر واجباً لا مطلقاً .

أمّا ان الشكر واجب واقعاً أو ليس بواجب واقعاً فيظهر من دليل شرعي ، كما قال: ( فانّ الشكر لمّا علمنا ) من الخارج ( بوجوبه عند الشارع ) وذلك بعد وصول احكامه الينا ( و ) علمنا ( ترتّب العقاب على تركه ) أي : على ترك الشكر ، علمنا : ان الشكر واجب واقعا : وان العقاب ترتب على تاركه .

وعليه : ( فاذا احتمل العاقل ) الذي لم يصله حكم الشارع ( العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل ) كما يقول به العدلية خلافاً للأشاعرة حيث لا يقولون بحكم العقل ( صحّ عقاب تارك الشكر - من أجل إتمام الحجّة عليه - بمخالفة عقلية ) لان الشكر كان واجباً واقعاً ، وقد تمت الحجة على هذا الشخص بدلالة عقله عليه .

( والاّ ) بأن لم يحتمل العاقل العقاب على تركه ( فلا ) عقاب عليه لوضوح : قبح العقاب بلا بيان وإن صادف الواجب الواقعي .

ص: 349

فغرضهُم أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما تُظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع .

لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريّمية شطرٌ من الكلام في ذلك .

-------------------

إذن : ( فغرضهُم ) اي : غرض العدلية من كلامهم هذا هو : ( أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل انّما تُظهرَ ) في صورة المصادفة للواقع ، بأن كان الشكر في الواقع واجباً وقد احتمله العاقل احتمالاً عقلائياً ثم تركه ، فالنتيجة إذن تظهر كما قال : ( في الضرر الثابت شرعا ) أي : واقعا وقد احتمله عقلا ( مع عدم العلم به من طريق الشرع ) لعدم وصول أحكامه إليه ، ( لا ) ان مرادهم ( أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ) .

وعليه : فحكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ارشادي محض ، وليس ممّا يترتب على تركه الضرر مطلقا صادف الواقع أم لم يصادفه ، فما قاله العدلية في وجوب الشكر المنعم ، هو ما قلناه نحن في وجوب اجتناب اطراف الشبهة المحصورة .

هذا ( وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريّمية شطرٌ ) أي جزء ( من الكلام في ذلك ) عندما استدل القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية : بأخبار التوقّف والاحتياط وتثليث الأقسام ، حيث أجاب المصنّف عنها : بأنها للارشاد إلى حكم العقل وليست مولوية ، بمعنى : انه لو صادف الواقع وكان الواقع منجّزا عليه كما في أطراف الشبهة المحصورة فيالعلم الاجمالي وجب الاجتناب، والاّ لم يجب كما في الشبهة البدوية .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجوه التي تمسكوا بها لاثبات حرمة

ص: 350

وقد يتمسّك لاثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلاً فيحرم شرعا ، وقد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلامُ على حرمة التجرّي حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع .

كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت وإن تردّد في النهاية .

-------------------

ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء صادف الواقع أم لم يصادفه ، وكان حاصله : حكم العقل بدفع الضرر المحتمل وقد عرفت جوابه : بانّه ارشادي محض لا مولوي .

وحيث إنتهى المصنّف من الاستدلال بدليلهم الأوّل شرع في استدلال بدليلهم الثاني وهو ما ذكره بقوله : ( وقد يتمسّك لاثبات الحرمة ) لكل من أطراف الشبهة ( في المقام ) من الشبهة المحصورة وان لم يصادف الواقع ( : بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلاً فيحرم شرعا ) للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، فكلّما قبّحه العقل حرّمه الشرع ، وكلّما حرّمه الشرع قبّحه العقل .

هذا ( و ) لكن ( قد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلامُ على حرمة التجرّي ) وذكرنا هناك : بأنّه لا دليل على حرمة التجرّي ( حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفاً للواقع ) فانّه مع المخالفة انّما يكشف عن سوء سريرة المتجري فقط فلا يكون حراماً.

( كما أفتى به ) أي : بعدم الحرمة ( في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر ) الصلاة متجريا ولم يصلّها ( وانكشف بقاء الوقت ) ذلك ، قال العلامة : انّه لا يعاقب عليه ، لأنّه لم يكن الاّ تجرياً محضاً حيث لم يكن مصادفاً للواقع ( وإن تردّد ) العلامة من حيث الحرمة وعدم الحرمة في نفس هذه المسألة ( في ) كتابه ( النهاية ) .

ص: 351

وأضعفُ من ذلك التمسكُ بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط ، لما تقدّم من أنّ الظاهر من مادّة الاحتياط التحرّز عن الوقوع في الحرام .

كما يوضّح ذلك النبويّان السّابقان ، وقولُهم صلوات اللّه عليهم : « إنّ الوقوفَ عندَ الشّبهةِ أولى من الاقتحام في الهلكة » .

-------------------

أمّا ثالث أدلتهم : فقد أشار اليه المصنِّف بقوله : ( وأضعف من ذلك ) الذي ذكرناه : « من التمسك بالتجرّي لحرمة أطراف الشبهة المحصورة ، هو : ( التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط ) .

وانّما يكون أضعف ( لما تقدّم : من أن الظاهر من مادّة الاحتياط ) هو احراز الواقع ، و ( التحرّز عن الوقوع في الحرام ) فيكون التحريم وعدم التحريم دائرا مدار الواقع ، لأنّ معنى الاحتياط من حيث المادة : احراز الواقع ، وهذه المادة تقيّد هيئة الأمر في قوله عليه السلام : « احتط » الظاهرة في الوجوب ، فتصرفها عن الوجوب مطلقا الى الوجوب فيما إذا طابق الواقع ، بأن كان محرّما في الواقع .

( كما يوضّح ذلك ) أي : كون أمر الاحتياط للارشاد حذرا من عقاب الواقع لو صادف الواقع ( النبويّان السّابقان ) : « اتركوا ما لا بأس به » (1) و « من أخذ بالشبهات » (2) على ما ذكرنا هناك وجه كونهما ظاهرين في الارشاد المحض .

( وقولهم صلوات اللّه عليهم : « انّ الوقوفَ عندَ الشّبهة أولى من الاقتحام

ص: 352


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
الثالث :

إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي على كلّ تقدير بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجّزا بالاجتناب ، فلو لم يكن كذلك بأن لم

-------------------

في الهلكة » ) (1) حيث قد تقدّم في أخبار الاحتياط : أنّ مثل هذه العبادة دالة على انّه إذا ارتكب الشبهة ولم يكن في الواقع هلكة لم يكن عليه عقاب .

( الثالث ) من التنبيهات : انّه لو كان أحد أطراف الشبهة المحصورة خارجاً عن محل الابتلاء ، فانه لم يتعلق التكليف بالطرف الداخل في محل الابتلاء ، وذلك لأنّه يكون حينئذ من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به كما قال :

( إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ) من باب المقدمة لامتثال التكليف المنجّز بالعلم الاجمالي كما اخترناه نحن ( انّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي ) المعلوم بالاجمال ( على كل تقدير ) أي : سواء كان الحرام الواقعي في هذا الاناء أم في ذاك الاناء ( بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام ، كان التكليف منجّزا بالاجتناب ) عنه .

مثلا : إذا اشتبه الاناء النجس بالطاهر ، فان كان كل واحد من اطراف الشبهة قابلاً لان يتعلق به تكليف الشارع بالاجتناب عنه ، وإلاّ ، فلايجب الاجتناب عنه .

وعليه : ( فلو لم يكن ) كل واحد من اطراف الشبهة ( كذلك ، بأن لم

ص: 353


1- - وهي رواية سعد بن زياد التي رويت في تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ووسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 وكذا روى الزهري والسكوني وعبد الأعلى شبيه ذلك في الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 ، المحاسن : ص215 ح102 وفي الجميع خير بدل ( أولى ) .

يكلّف به أصلاً ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد انائين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لاينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه لم يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ، إذ لو كان ملاقيها هو الاناء النّجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلاً ، فالشكُّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكٌّ في أصل التكليف ، لا المكلّف به .

-------------------

يكلّف به ) اي: بالاجتناب عنه على أحد التقديرين لعدم قابليته للتكليف ( أصلاً ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في احد انائين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لاينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه ) بحيث لا تؤثر النجاسة فيه شيئاً ، فانّه ( لم يجب الاجتناب عن الآخر ) اذ لو وقعت القطرة في الاناء النجس أو في الكُرّ لم يحدث تكليفاً ، لوضوح : انّ النجس لا يتنجس مرة ثانية ، كما ان الكُرّ لايتنجس بوقوع قطرة من النجس فيه .

وانّما لا يجب الاجتناب عن الآخر ( لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ) فهو من الشك فيالتكليف لا من العلم بالتكليف والشك في المكلّف به ، ومن الواضح : إنّ الشك في التكليف مجرى للبرائة ، بخلاف الشك في المكلّف به ، فانّه مجرى للاحتياط .

وانّما لا علم بحدوث تكليف جديد بالاجتناب عن ملاقي قطرة النجس ( إذ لو كان ملاقيها ) أي : ملاقي قطرة النجس - مثلاً - ( هو الاناء النّجس ) أو الكّر ، أو غير ذلك ممّا ذكرناه في المثال ( لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلاً ) لما عرفت: من أن النجس لايتنجس ، وأن الكرّ لا يتأثر ( فالشك في التكليف بالاجتناب عن الآخر ، شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به ) .

ص: 354

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوماً ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقاً على تمكّن المكلّف منه ، فانّ ما لايمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفاً منجّزا .

-------------------

نعم ، إذا وقعت قطرة بول في هذا الاناء النجس بالدم أو ذاك الاناء الطاهر ، حدث التكليف قطعا ووجب الاجتناب عنهما، إذ النجس بالبول يحتاج إلى التطهير مرتين ، بينما النجس بالدم يحتاج إلى التطهير مرة ، وكذا يجب الاجتناب عنهما لو كان هذا الاناء نجساً بولوغ الخنزير - مثلاً - ثم ولغ كلب ولم يعلم في الطاهر أو في النجس بولوغ الخنزير، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأمثلة - كما لايخفى - .

( وكذا ) لا يجب الاجتناب عن الآخر ( لو كان التكليف في أحدهما معلوماً ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقاً على تمكّن المكلّف منه ) والقدرة على ارتكابه ( فانّ ما لا يمكّن المكلّف من ارتكابه ) فعلاً - عقلاً أو عرفاً - ( لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ) وذلك لأنّ العقل يرى فيه قبح تنجيز النهي على من لايقدر على الارتكاب فعلاً ، وكذلك بالنسبة إلى الاجتناب .

( كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ) لكونه في بلادٍ نائية - مثلاً - أو في كهف بعيد ، أو في بيت شخص لايصل إليه المكلّف اطلاقا ( فلا يجب الاجتناب عن الآخر ) الذي هو عند هذا المكلّف .

وانّما لا يجب الاجتناب عن الذي عنده ( لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفاً منجّزا ) فانه قد يتنجز التكليف ، لكن يكون الشك

ص: 355

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلاً ، لكنّ المكلّف أجنبىّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر لا دخل للمكلّف فيه اصلاً ، فانّ التكليفَ بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلاً غيرُ منجّز عرفاً .

-------------------

في المكلّف به : بأنه هل هو هذا أو ذاك ؟ وقد يكون الشك في انّه هل تنجّز عليه التكليف أم لا ؟ .

مثلاً : لوكان دار زيد إلى جوار دار الملك ، ووقعت قطرة نجس إمّا في اناء زيد وإمّا في اناء الملك الذي لا يصل زيد إليه اصلاً ، فانّه يشك في توجه التكليف إليه بالاجتناب ، لا انّه يقطع بتوجه التكليف إليه ويشك في انّه هل هو الاجتناب عن انائه أو عن اناء الملك ؟ .

( وكذا ) لا يجب الاجتناب عن الآخر الذي هو عند المكلّف ( لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلاً ، لكنّ المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر ) أي : الشخص الآخر الذي ( لا دخل للمكلّف فيه أصلاً ) .

مثلا : إذا وقعت قطرة بول في انائه أو إناء جاره ، وكان إناء جاره ليس محل ابتلائه إطلاقاً وأن تمكن أن يذهب إلى جاره ويطلبه منه ، لكنّه عرفاً غير متمكن منه ، ( فانّ التكليفَ بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلاً ) منه ، غير المتمكن منه عرفاً لخروجه عن محل ابتلائه ، لا يتعلق التكليف الشرعي باجتنابه ، فهو إذن ( غير منجّز عرفاً ) .

والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة : أنّ الصورة السابقة : كان يعدّ فيها المكلّف غير متمكن منه عقلاً لعدم التمكن من الوصول إليه وفي هذه الصورة يعدّ

ص: 356

ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاءُ به .

نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك ، أو اباحة فاجتنب عنه .

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حملُ المكلّف على الترك ، مختصّة بحكم العقل والعرف - بمن يعدّ مبتلىً بالواقعة المنهيّ عنها .

-------------------

فيها المكلّف غير متمكن منه عرفاً ، لخروجه عن محل ابتلائه .

( ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثّوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به ) عقلاً أو عرفاً فلا يقال : اجتنب عن انائك او اناء الملك ، ولا عن انائك أو اناء جارك .

( نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك ) الاناء (بعارية ، أو بملك ، أو اباحة ) أو ما أشبه ذلك ( فاجتنب عنه ) لكنّه ما دام بعض أطراف الشبهة خارجاً عن محل الابتلاء ، امّا لعدم التمكن منه عقلاً وأمّا لعدم التمكن منه عرفاً ، فلا يحسن الأمر بالاجتناب عنه ، فيخل العلم الاجمالي إلى ما لم يتعلق به التكليف وهو الخارج ، والى شك بدوي في الذي عنده ، فيجري فيه البرائة .

( والحاصل : انّ النّواهي المطلوب فيها حملُ المكلّف على الترك ، مختصّة ) تلك النواهي (بحكم العقل والعرف - بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها ) وكذلك في باب الأوامر ، فاذا علم بوجوب إطعام عليه ، لكن لا يعلم هل متعلّق الاطعام زيد أو عمرو ، وهو قادر على اطعام كل منهما في غير موارد ، مثل : « قاعدة العدل التي توجب لتضيف » ، وجب عليه أن يطعم كليهما ؟ .

ص: 357

ولذا يُعدُّ خطابُ غيره بالترك مستهجناً الاّ على وجه التقييد بصورة الابتلاء .

ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

-------------------

أمّا إذا لم يتمكن عقلاً أو عرفاً من اطعام كليهما ، لأن عمرا - مثلاً - كان خارجاً عن متناول يده ، فانّه لا يجب عليه اطعام زيد أيضاً ، لأنّه من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان ما نحن فيه من الشك في التكليف ، لا من الشك في المكلّف به ( يُعدُّ خطابُ غيره ) أي : غير المبتلى ( بالترك مستهجناً ) لايصدر من العقلاء ( الاّ على وجه التقييد بصورة الابتلاء ) كما تقدّم بأن يقول : ان ابتليت بإناء الملك فاجتنب عنه ، أو ان ابتليت بإناء جارك فاجتنب عنه ، وهكذا .

وعليه : فلو علم اجمالاً ، بكون هند أو دعد اخته من الضاعة ، وكانت دعد خارجة عن محل ابتلائه لانّها متزوجة ، جاز له أن يتزوّج بهند لأنّه لا يعلم بتوجه تكليف بالتحريم إليه ، بينما إذا كانتا معا خليّتين وأمكن التزويج من كل واحدة منهما حرم التزويج بكل منهما ، لأنّه من الشك فيالمكلّف به للعلم بتوجه الخطاب إليه بالاجتناب .

( ولعلّ السرّ في ذلك ) الاستهجان ( : انّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه ) بأن لم يعلم المكلّف انّ القطرة وقعت في انائه او اناء الملك - مثلاً - ( لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ) اذ كانت القطرة وقعت في إناء الملك لم يتوجه التكليف إليه اصلاً .

ص: 358

وهذا باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع مثل : ما إذا علم اجمالاً بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ،

-------------------

وعليه : فانّه حيث لم يعلم بتوجه التكليف إليه ، كان الأصل البرائة بالنسبة الى انائه .

وهكذا في كل أمرين كان أحدهما خارجاً عن محل الابتلاء من المرأتين أو المتاعين أحدهما مغصوب ، أوما أشبه ذلك .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من ان شرط التكليف في مورد الاشتباه عدم الخروج عن محل الابتلاء ( باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم : من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ) كثيرة ، فانهم ذكروا عدم وجوب الاجتناب فيها ، لكنّهم اختلفوا في وجه عدم إجتنابها مع أن العلم الاجمالي موجود فيها ، والجواب الصحيح هو : ما ذكرناه ، لا ما ذكره جماعة من وجود الأدلة الخاصة في أمثال هذه المقامات .

( مثل : ما إذا علم اجمالاً بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة ) لا في صلاته من جهة سجدته ، ولا محل تيممه ، ولا باستعماله برطوبة ، ولا بالمشي عليه لأجل تطهير قدميه ، أو ما أشبه ذلك .

( أو ) مثل ما إذا علم إجمالاً ( بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما ) أي : من الشخصين ( من باب الشبهة المحصورة ) وليست من الشبهة غير المحصورة ( مع عدم وجوب اجتنابهما ) للشخصين .

ص: 359

فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ، اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم اجمالاً .

-------------------

وعليه : ( فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة ، لم يعارض بجريانهما ) أي : بجريان أصالة الحل والطهارة ، ( في ثوب غيره ) ولذا يجوز لكل منهما أن يرتّب أثر الطهارة والحلية في محتمل النجاسة والغصبية بالنسبة إلى ثوبه ( اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها ) أي : ترتب تلك الثمرة العملية ( مع العمل بذلك الأصل ) أي : أصل الحل وأصل الطهارة ( طرح تكليف متنجّز ) على المكلّف يتعلق ( بالأمر المعلوم اجمالاً ).

وعليه : فانه وان كان هنا علم اجمالي بالنجاسة ، لكنّه غير منجز للتكليف على أحد منهما ، فيجري أصل الحل والطهارة في كل من الثوبين المشتبهين بلا معارض ، وذلك لوضوح : انّ الأصلين الجاريين في المشتبهين انّما يتعارضان إذا كان لكل منهما أثر ، بحيث إذا أجراهما المكلّف ترتب على اجرائهما طرح تكليف منجّز ، والمقام ليس كذلك ، فانّه لا يترتب من اجرائهما طرح تكليف منجز لما عرفت : من عدم تنجز التكليف هنا .

نعم ، إذا كان كلاهما محل ابتلاء شخص واحد فجريان الأصلين يترتب عليهما طرح تكليف منجز ، فيتساقطان ويكون المرجع هو العلم الاجمالي الذي بسبب الاحتياط .

وهكذا بالنسبة إلى الشبهة الوجوبية ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ، وجب الاحتياط باتيانهما ، امّا إذا علم بفوات صلاة منه أو من صديقه فلا يجب القضاء على أحد منهما لجريان البرائة بالنسبة إلى كل منهما ،

ص: 360

ألا ترى انّ زوجة شخص لو شكّت في انّها هى المطلَّقة أو غيرها من ضرّاتها ؟ جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ولو شك الزّوج هذا الشك لم يجز له النظر إلى إحداهما . وليس ذلك الاّ لأنّ أصالة عدم تطليقه لكّل منهما متعارضان في حق الزوج بخلاف الزوجة ، فانّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا يثمر لها ثمرة عمليّة .

نعم ، لو اتفق ترتب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة

-------------------

لانّه من الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به .

( الا ترى ) تأييدا لما ذكرناه : من عدم تنجّز التكليف في مورد الشك بالنسبة إلى شخصين ( انّ زوجة شخص لو شكّت في انّها هي المطلَّقة أو غيرها من ضرّاتها ؟ جاز لها ) استصحاب عدم طلاقها ، و ( ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ) من المنام مع الزوج ، وأخذ النفقة من كيسه تقاصّاً ، وغير ذلك .

( و ) لكن ( لو شك الزّوج هذا الشك ) بالنسبة إلى زوجتيه بانّه هل طلق هذه أوتلك ؟ ( لم يجز له النظر إلى إحداهما ) بل يلزم عليه ان يحتاط في كلتيهما .

( وليس ذلك الاّ لأنّ أصالة عدم تطليقه لكلّ منهما متعارضان في حق الزوج ) لما يترتب عليهما من طرح التكليف المنجَّز ، فيتساقطان ويكون المرجع العمل حسب العلم الاجمالي .

( بخلاف الزوجة ) فانّه بالنسبة ءاليها لا يتعارض الأصلان حتى يتساقطان ( فانّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا يثمر لها ثمرة عمليّة ) يلزم منه طرح تكليف منجز ، اذ لا تكليف منجَّز هنا لخروج تلك المرأة عن محل ابتلائها من هذه الجهة .

( نعم ، لو اتفق ترتب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة

ص: 361

المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية .

ومما ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك ، من الاستنهاض على ما اختاره : من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بما يستفاد من الأصحاب من عدم وجوب الاجتناب

-------------------

المحصورة ) بالنسبة إلى هذه المرأة الشاكة ، لأنّها تعلم حينئذٍ بتوجه تكليف إليها إمّا من جهة نفسها أو من جهة ضرّتها ، كما لو نذرت الزوجة التصدق بدينار لو طلّقت هي أو طلّقت ضرّتها فانه لا يجوز لها استصحاب زوجيتّها واستصحاب زوجية ضرتها لما يترتب عليهما من طرح التكليف المنجز بسبب علمها بطلاق احداهما الموجب لتصدّقها بدينار بسبب النذر .

( ومثل ذلك ) الذي ذكرناه : من خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ( كثير في الغاية ) ومعياره : انه إذا ترتّب ثمرة عملية على جريان الاصلين : من طرح تكليف منجّز ، فانه يتعارض الأصلان ويتساقطان ، وإذا لم تترتب ثمرة عملية عليهما جرى الأصلان بلا معارض .

مثلاً : إذا علم بأن صلاة الظهر فاتته أو فاتت أباه كان لكل منهما ان يجري اصل البرائة لنفسه .

امّا لو مات الأب وانتقلت فوائته إلى ذمة الابن حيث يجب على الابن الأكبر قضاء صلاة أبيه فانّه يلزم عليه الاتيان بتلك الصلاة بقصد مافي الذمة عن نفسه أو عن أبيه .

( ومما ذكرنا: يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك من الاستنهاض ) والاستدلال ( على ما اختاره : من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ) حيث قد تقدّم : ان صاحب المدارك لا يوجب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة ، وقد استدل لذلك ( بما يستفاد من الأصحاب : من عدم وجوب الاجتناب

ص: 362

عن الاناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ، إذ لا يخفى أنّ خارج الاناء ، سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ، ليس مّما يبتلى به المكلّف عادةً ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا وجوب الاجتناب عنهما ، للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس ، وحرمة السجدة على الأرض النجسة .

ويؤيد ما ذكرنا

-------------------

عن الاناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ) فاستدل بهذا المورد الخاص على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة كلياً .

وانمّا يندفع استدلال المدارك بما ذكرناه ( اذ لا يخفى ) ان عدم وجوب الاجتناب في مثال المدارك ليس من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، بل من جهة الخروج عن محل الابتلاء ، وذلك ( انّ خارج الاناء ، سواء كان ظهره ) أي : ظهر الاناء ( أو الأرض القريبة منه ، ليس ممّا يبتلى به المكلّف عادةً ) فأحدهما خارج عن محل الابتلاء ، والآخر محل الابتلاء ، فيكون الشك بينهما من قبيل الشك في ان قطرة البول قَطَرَت في انائه أو في اناء الملك ؟ .

( و ) على هذا ، فانّه ( لو فرض كون الخارج ، ممّا يسجد عليه المكلّف ) أو مما يتيمم به ، أو يمشي عليه لأجل تطهير قدميه ، أو ما أشبه ذلك ( التزمنا وجوب الاجتناب عنهما ) أي : عن داخل الاناء وعن خارجه ، وذلك ( للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس ، وحرمة السجدة على الأرض النجسة ) أوعدم طهارة قدميه بالمشي عليها ، أو عدم جواز التيمم بها ، الى غير ذلك من الأمثلة .

( ويؤيد ما ذكرنا ) : من انّه لا يجب الاحتياط إذا كان بعض الأطراف خارجاً

ص: 363

صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهماالسلام الواردة فيمن رعف فامتخط فصار الدّمُ قِطَعاً صِغارا فاصابَ انائه ، هل يصح الوضوء منه ؟ فقال عليه السلام : إن لم يكن شيءٌ يستبينُ في الماء فلا بأس به وإن كان شيئاً بيّناً فلا » .

حيث استدل به الشيخ قدس سره ، على العفو عمّا لا يدركه الطّرفُ من الدّم وحملها المشهور على أنّ إصابة الاناء لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء

-------------------

عن محل الابتلاء ( صحيحة علي بن جعفر عن أخيه ) موسى بن جعفر ( عليهماالسلام الواردة فيمن رعف ) بان خرج الدم من أنفه ( فامتخط ) أي : رمى ما في انفه من الدم بعنف ( فصار الدّم قِطَعاً صِغارا فاصابَ انائه، هل يصح الوضوء منه ؟) أي : من هذا الماء الذي يشك في وصول الدم إليه ام لا ؟ .

( فقال عليه السلام : ان لم يكن شيءٌ يستبينُ في الماء ) بأن لم يظهر أثر الدم في الماء ( فلا بأس به ) أي : بالوضوء منه ( وإن كان شيئاً بيّناً ) بان ظهر اثر الدم في الماء ( فلا ) (1) يتوضأ منه ( حيث استدل به ) أي : بهذا الحديث ( الشيخ قدس سره على العفو عمّا لا يدركه الطّرفُ من الدّم ) .

وكيف كان : فانّ الشيخ يري انّ الدم اذا وقع في الماء - مثلا - وكان من القلّة بحيث لا يدركه البصر فهو لاينجّس الماء ، سواء كان من دم الرُّعاف أم من غيره ، فانّ دم الرعاف من باب المثال .

( و ) لكن قد ( حملها ) أي : حمل هذه الصحيحة ( المشهور على أنّ إصابة الاناء ) في فرض المسألة ( لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد : انّه مع عدم تبيّن شيء

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 .

في الماء يحكم بطهارته .

ومعلومٌ أنّ ظهر الاناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة .

وما ذكرناه واضح لمن تدبّر .

إلاّ أنّ الانصاف : أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء إلاّ بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى .

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ، ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه

-------------------

في الماء ) ممّا يجعل المكلّف يشك في ان الدم أصاب الماء أو موضعاً آخر ، ففي هذه الصورة ( يحكم بطهارته ) لخروج الموضع الآخر عن محل ابتلائه .

( ومعلومٌ : انّ ظهر الاناء وباطنه الحاوي للماء ، من الشبهة المحصورة ) فعدم الاجتناب ليس لأنه من الشبهة غير المحصورة ، ولا لما ذكره شيخ الطائفة ، بل لما ذكرناه نحن من خروج ظهر الاناء عن محل الابتلاء ( وما ذكرناه ) هنا : من جواز استعمال الماء ، لأن بعض أطراف الشبهة خارج عن محل الابتلاء (واضح لمن تدبّر) .

نعم ، إذا كان الشك بين الماء وبين خارج الاناء وكان خارج الاناء محل ابتلائه ايضاً ، لانّه يلمسه بيد رطبة أو ما أشبه ذلك ، وجبَ الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فلا يتوضأ بما في الاناء .

( الاّ انّ الانصاف : انّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين ، وعدم الابتلاء إلاّ بواحد معيّن منهما ) أي : من المشتبهين ( كثيرا ما يخفى ) فانّ الكبرى وان كانت مسلّمة ، إلاّ انّ الصغريات قد تكون محل الشك ( ألا ترى انّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ، ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه

ص: 365

لايتّفق منه عادةً ابتلائه بالموضع النّجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب الاجتناب عن الثّوب .

وأما لو كان الطّرف الآخر أرضاً لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلاً ، ففيه تأمّل .

والمعيارُ في ذلك وان كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته ، وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء ، واتفاق صيرورته واقعة له ،

-------------------

لا يتّفق منه عادةً ابتلائه بالموضع النّجس منه ) أي : من ذلك الطائر أو الحيوان كالدجاجة أو كالهرّة فيالبيت ( لم يشك أحد في عدم وجوب الاجتناب عن الثّوب ) لأنّ ظَهر الطائر أو الحيوان خارج عن محل الابتلاء عادة .

( وأما لو كان الطّرف الآخر أرضاً ) فان كان ( لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم ) ولو في المستقبل كصحن الدّار - مثلا - فهو ( وإن لم يحتج إلى ذلك فعلاً ) و إنّما يحتاج إليه مستقبلاً ، ( ففيه تأمّل ) بأنّه هل هو محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب عنهما ، أو ليس محل الابتلاء حتى لايجب الاجتناب عن هذا الاناء الذي هو الطرف للارض ؟ .

( و ) على أيّ حال : فانّ ( المعيار في ذلك ) أي : في كون المشتبه محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب أو خارجاً عن محل الابتلاء حتى لايجب ( وان كان ) هو : ( صحّة التّكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته ، وحسن ذلك ) أيضاً بأن يحسن التكليف بالاجتناب عنه عرفاً ( من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء ، و ) لا بصورة ( اتفاق صيرورته واقعة له ) .

مثلاً : قد يقول المولى : اجتنب عن الشيء الفلاني ولم يقيّد الاجتناب فيه

ص: 366

إلاّ انّ تشخيص ذلك مشكلٌ جدا .

نعم ، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه الاّ معلقا : الأصل البرائة من التكليف المنجّز كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلقا على أمر محقّق العدم ،

-------------------

بشيء ، وقد يقول : اجتنب عن الشيء الفلاني إذا صار محل ابتلائك .

فالأول هو معيار الابتلاء والعلم الاجمالي يكون فيه منجّزا ، دون الثاني ، فانّه معيار الخارج عن محل الابتلاء ولا يكون العلم الاجمالي فيه منجزا .

(إلاّ انّ تشخيص ذلك ) المعيار الذي بيّناه : من صحة التكليف وحسنه عرفاً بلا تقييد ، وعدم صحته ( مشكلٌ جدا ) في بعض الموارد ، وان كان بعض الموارد واضحاً بانّه من محل الابتلاء ، وبعض الموارد واضحا بأنه خارج عن محل الابتلاء.

( نعم ، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه الاّ معلقا : ) بأن شككنا انّه من موارد التنجيز أو من موارد التعليق أن يقال : أنّ ( الأصل : البرائة من التكليف المنجّز ) لأنّا لا نعلم هل تنجيز علينا التكليف بالاجتناب أم لا ؟ فالأصل عدم التنجيز لجريان البرائة عن التكليف ، فيجوز ارتكاب الطرف الآخر الذي هو محل الابتلاء قطعا .

وانّما يجوز حينئذٍ ارتكاب الطرف الآخر الذي هو محل الابتلاء لأنّه لمعونة الأصل يكون المشكوك الخروج خارجا عن محل الابتلاء ، فاذا خرج عن محل الابتلاء جرى في الطرف الآخر البرائة بلا معارض .

( كما هو ) أي : أصل البرائة من التكليف المنجّز يكون ( المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلقا على أمر محقّق العدم ) .

ص: 367

أو علم التعليق على أمر ، لكن شك في تحققه أو كون المتحقق من أفراده ، كما في المقام .

إلاّ أنّ هذا ليس بأوْلى من أن يُقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ،

-------------------

مثلاً : إذا شك في انّ الحج وجب عليه ، أو وجوبه معلق على تخلية السرب المحقق عدمها ، حيث يحتمل احتمالاً عقلائيا بأن من الطريق من يمنعه عن المسير ، أو ما أشبه ذلك يجري البرائة من التكليف المنجز فلا يجب الحج عليه .

( أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه ) أي : تحقق ذلك الأمر ، كما إذا علم بأن التكليف بالحج معلق على الاستطاعة ، لكنّه يشك في انه هل حصلت له الاستطاعة أو لم يحصل له بعد ؟ فيجري البرائة منه .

( أو ) علم التعليق على أمر ، وقد تحقق لكنّه يشك في ( كون المتحقق من أفراده ) أي : من أفراد ذلك الأمر أم لا ( كما في المقام ) فان تنجيز التكليف بالاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة معلّق على كونها محل ابتلائه ، لكنه يشك في أن هذا المحقق أفراد المبتلي به حتى يجب الاجتناب ، أم لا حتى لايجب الاجتناب ؟ فيجري البرائة ولا يجب عليه الاجتناب .

( الاّ انّ هذا ) الذي ذكرناه : من الرجوع إلى أصل البرائة في هذه الموارد ( ليس بأولى من أن يقال : ) ان اطلاقات التكليف تشمل المقام والشك يكون في الخروج ، فاللازم هو : العمل بالاطلاقات ، ولا تصل النوبة إلى أصل البرائة ؛ فانّ الأصل أصيل حيث لا دليل ، وذلك ( إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ) في تنجيزها على شيء مثل : لا تشرب الخمر .

هذا في الخطابات المطلقة ، وأما في الخطابات المعلقة مثل : « لا تُجامع

ص: 368

والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء ، كما لو قال : « إجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قُدّامَ أمير البلد » ، مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو : « لاتصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه » ،

-------------------

زوجَتك ان كانت حائضا فهي وان كانت معلقة الا انّها مطلقة أيضا ، لأن مثل هذا الخطاب يرجع إلى : لا تجامع زوجتك في حال الحيض ، فاذا كانت له زوجتان احداهما محل ابتلائه والاُخرى نائية عنه ولا يصل إليها إلاّ بعد شهر - مثلاً - فانه إن شك في حيضيّة هذه أو تلك أصبحت هذه ممنوعة الوطي عليه ، فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يخرجها منه .

( والمعلوم ) أي : القدر المتيقن من صحة التعليق انّما هو ( تقييدها ) أي : تقييد المطلقات ( بالابتلاء في موضع ) واحد فقط وهو صورة ( العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء ) ففي هذه الصورة فقط يصح تقييد التكليف بالابتلاء ( كما لو قال: «إجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قُدّامَ أمير البلد» ) وهو ممّن لا يصل إلى الأمير اطلاقا لأنّه لا يتمكن من الوصول إليه أما عرفا ، أو (مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ) فانّه يقبح مثل هذا التكليف بدون تقييده .

نعم ، يصح أن يقال له : اجتنب عن ذلك الطعام إذا ابتليت به ، فانه مع التقييد يرتفع قبح التكليف به .

( أو ) كما لو قال : ( « لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو ) لا تتصرّف في ( الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه » ) .

أو كما لو نهى المرأة التي تتوقع الزواج وتشك في انّها إمّا اخت الملك

ص: 369

مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً إلاّ انّه بعيد الاتفاق .

وأما إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الاطلاقات .

فمرجع المسألة إلى أنّ المطلقَ المقيّدَ بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد لتعذر ضبط مفهومه على وجهٍ لا يخفى مصداق من مصاديقه ،

-------------------

من الرضاعة ، أو انّها اخت هذا الخاطب الذي قدم لزواجها .

هذا ( مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً ) أي : ان الابتلاء بالطرف الآخر من الشبهة - في مفروضنا - ليس مستحيلاً عقلاً ، ولا مستحيلاً عادة ( إلاّ انّه بعيد الاتفاق ) والوقوع خارجا ، ومن الواضح : ان بعد الاتفاق غير الاستحالة العادية ففي هذه الصورة يرجع الى اصل البرائة من التكليف المنجّز ( وأما إذا شكّ ) في ان الطرف الآخر من المشتبه هل هو محل ابتلائه ام لا ؟ فمرجع شكّه إلى الشك ( في قبح التنجيز ) وعدم القبح ( فيرجع إلى الاطلاقات ) لأنّ الاطلاقات شاملة لكل فرد ما لم يعلم علما قطعيا بخروجه عن محل الابتلاء ، فلا تصل النوبة إلى أصل البرائة التي ذكرناها أولاً بقولنا : « نعم يمكن ان يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي وعدم حسنه : بالبرائة » .

إذن ( فمرجع المسألة ) فيما نحن فيه وهي : هل انّ طرف المعلوم بالاجمال محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب عن الطرف الآخر المبتلى به ، أو ليس هو ، محل الابتلاء حتى لا يجب الاجتناب عن الطرف المبتلى به ؟ مرجعه ( إلى انّ المطلقَ ) كقوله : « اجتنب عن النجس » ( المقيّدَ بقيد ) الابتلاء الذي هو ( مشكوك التحقق في بعض الموارد ) كالامثلة التي ذكرناها ، يجعله مشكوكا في جواز التمسك باطلاقه .

وانمّا يكون مشكوك التحقق في بعض الموارد ( لتعذر ضبط مفهومه ) أي : مفهوم ذلك القيد ( على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ) على المكلّف

ص: 370

كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية ، هل يجوز التمسكُ به أو لا ؟ .

والأقوى : الجواز ، فيصير الأصلُ في المسألة وجوب الاجتناب ، إلاّ ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام ، إلاّ أن يُقال :

-------------------

( كما هو ) أي : تعذر ضبط المفهوم ( شأن أغلب المفاهيم العرفية ) فانّ الماء وهو أظهر المفاهيم العرفية قد يشك في بعض مصاديقه مثل المياه الزاجية والكبريتية بأنّه هل يسمّى ماءا أم لا ؟ ففي مثله ( هل يجوز التمسك به ) أي : بذلك المطلق حتى يجب الاجتناب ( أو لا ) يجوز لسريان اجمال القيد إليه فيرجع فيه إلى البرائة ؟ .

ولا يخفى : انّ قوله : « هل يجوز » ، متعلق بقوله : «إلى انّ المطلق المقيّد» ؛ وجملة: « لتعذر ضبط مفهومه » إلى قوله : « العرفية » ، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر .

هذا ( والأقوى : الجواز ) أي : جواز التمسك به ؛ لأنّ اجمال القيد لايسري إلى المطلق ، بل اللازم التمسك بالاطلاق حتى يعرف الخروج عنه قطعا ( فيصير الأصل في المسألة ) أي : مسألة الشبهة المحصورة المشكوك خروج بعض طرفيها ( وجوب الاجتناب ) من كلا الطرفين ( إلاّ ) في صورة العلم بالخروج وهو : ( ما ) إذا ( علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين ) بأن كان أحدهما خارجا عن محل الابتلاء قطعا ( على تقدير العلم بكونه الحرام ) وقوله : « على » متعلق بقوله : « علم عدم تنجيز التكليف » .

والحاصل : انّه إذا علمنا بكون طرفه خارجا عن محل الابتلاء ، جاز لنا ارتكاب هذا الطرف المبتلى به ، أمّا إذا شككنا في انّه خارج أم لا ، فلا يجوز لنا ارتكاب هذا الطرف بل يجب اجتنابه ( الاّ ان يُقال : ) وهذا رجوع من المصنّف عن وجوب الاجتناب من جهة شمول إطلاق المنع إلى جواز الارتكاب وذلك لما

ص: 371

إنّ المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الاناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ، اذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ ، فافهم .

-------------------

يفهم من الصحيحة ، فالاطلاق إذن انّما لا يؤخذ به من جهة الصحيحة ، لا انّه لا يؤخذ به من جهة البرائة التي ذكرناها سابقا ، وذلك بتقريب أشار اليه بقوله : ( انّ المستفاد من صحيحة (1) علي بن جعفر المتقدّمة ) فيمن امتخَط فأصاب الدم انائه ( : كون الماء وظاهر الاناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ) لأنّ ظهر الاناء من موارد الشك في الابتلاء لا من موارد القطع بعدم الابتلاء .

( فيكون ذلك ) المستفاد من الصحيحة ( ضابطا في الابتلاء وعدمه ) فكلّما كان احتمال ابتلائه مثل احتمال ابتلاء ظهر الاناء أو أضعف منه ، فهو ملحق بعدم الابتلاء ، وكلّما كان أقوى منه فهو ملحق بالابتلاء .

لا يقال : لا يمكن جعل الصحيحة قاعدة لهذا الأمر الذي ذكرتموه ، لاحتمال أن يكون مورد الصحيحة خارجا من جهة النص الخاص لا من جهة القاعدة الكلية .

لأنّه يقال : ما ذكرتموه ، خلاف ظاهر الصحيحة ( اذ يبعد حملها على خروج ذلك ) أي : خروج موردها ( عن قاعدة الشبهة المحصورة ) خروجا ( لأجل النصّ ) بأن يقال : ان مقتضى القاعدة عند الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء هو الاحتياط ، وقد خرج هذا المورد الخاص وهو : مثال الماء وظهر الاناء من وجوب الاحتياط بسبب تعبّد شرعي وذلك لمكان هذه الصحيحة .

( فافهم ) ولعله اشارة إلى انّه لم يعلم كون المشكوك على ذلك هل هو

ص: 372


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 .
الرابع :

انّ الثابت في كل من المشتبهين لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب ، لأنّه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

أمّا سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام ، فلا يترتب عليهما ، لعدم جريان المقدمة فيها فيرجع فيها إلى الاُصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ،

-------------------

من موارد جريان البرائة ، أو من موارد جريان الاطلاق ، أو من موارد جريان الصحيحة ؟ وبالتالي لم يعلم هل انّه من موارد الشك في التكليف ، أو من موارد الشك في المكلّف به ؟ لكن لا يخفى : انّه في مثل هذا المورد حيث لا نعلم بالتكليف علما يقينيا فهو من موارد الشك في التكليف الذي مجراه البرائة ، واللّه العالم .

( الرابع ) من التنبيهات : ( انّ الثابت في كل ) واحد ( من المشتبهين ) أو من أطراف الشبهة المحصورة ( لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما ) أو فيها ( هو ) الحكم التكليفي دون الوضعي ، أعني : ( وجوب الاجتناب ) فقط لا أكثر من ذلك ( لأنّه اللازم من باب المقدمة ) لزوما ناشئا ( من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ) الذي اشتبه بين الأفراد المحصورة .

( أمّا سائر الآثار الشرعية ) غير التكليفية من الضمان والحدّ والقصاص وغيرها ( المترتبة على ذلك الحرام ، فلا يترتب عليهما ) أي : على كل واحد من المشتبهين أو من المشبتهات ، وذلك ( لعدم جريان المقدمة فيها ) أي : في سائر الآثار ( فيرجع فيها إلى الاُصول ) العملية ( الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ) .

ص: 373

فارتكابُ أحد المشتبهين لا يوجبُ حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ

-------------------

مثلاً : إذا تردّد المحقون الدم بين زيد وعمرو ، فانّه لا يجوز له الارتكاب من باب وجوب الاجتناب في أطراف الشبهة المحصورة ، لكن لو ارتكب قتل احدهما فان لم يطابق الواقع لم يكن الاّ تجريا ، ان طابق الواقع فقد فعل حراما ، لكنه لا يقتل به قودا ، كما انّه ليس عليه الدية إذا بقي على الجهل بأن المقتول كان محقون الدم أو مهدور الدم .

وكذا إذا شك في انّه هل أهاج الطير الذي هو للناس أو طيرا مباحا ، وذلك فيما إذا دار الأمر بين طيرين أحدهما مباح والآخر للناس ؟ فانّه لا يضمن قبل ان يعلم بانّه كان طير الغير .

وكذا إذا كانت امرأة مردّدة بين أن تكون دمية - كما يوجد في بعض بلاد الغرب الآن - أو زوجته ، فوطأ احداهما بلا انزال ، فانّه لا يجب عليه الغسل إذا لم ينكشف انّها امرأته ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

نعم ، إذا فعل الأمرين المشتبهين وجب عليه تلك الآثار ، لأنّه قد حصل له علم تفصيلي بارتكابه ماله تلك الآثار .

وعليه : ( فارتكاب أحد المشتبهين ) بالخمر - مثلاً - بأن شرب أحدهما ، ( لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ) في حقه .

هذا ، ولو اشتبه الخمر والماء بين انائين: أحدهما أبيض والآخر أحمر فشربهما اثنان وذلك بأن شرب احدهما الابيض والآخر الأحمر ، فانّه لا يحدّ ايّ منهما ، أمّا إذا حصل القتل كذلك ، فانّ الحاكم الشرعي يأخذ منهما دية كاملة كل واحد نصف

ص: 374

ووجوبه .

هل يحكم بتنجس ملاقيه وجهان ، بل قولان مبنيّان على ان تنجس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناءا على أنّ الاجتناب عن النجس يُراد به : ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط .

-------------------

الديّة ، وكذلك إذا أهاج الطائرين في المثال المقدّم ، فانّه يقسم بينهما الضمان لقاعدة العدل .

أمّا الحدّ والقصاص ، فلا يثبت بذلك لانّه كما قال : ( ووجوبه ) أي : الحد انّما هو على العالم العامد وهذا لا يصدق على أي منهما في الامثلة المتقدمة .

إذن : فالاحكام الوضعية لا تثبت على كل واحد من المشتبهين ومن الاحكام الوضعية : تنجسّ الملاقي ، والكلام فيه : انّه ( هل يحكم بتنجس ملاقيه ) أي : ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، كاليد التي تلاقي أحدهما أم لا ؟ .

قد يقال بتنجسه لشمول : اجتنب عن النجس له ايضا ، وقد يقال بعدم تنجسه لانّه حكم وضعي ( وجهان ، بل قولان مبنيّان على ) ما يلي :

أولاً : ( ان تنجس الملاقي ) للنجس ( انّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ) بأن كان معنى اجتنب عن النجس - الذي هو حكم تكليفي - : اجتنب عنه وعن ملاقيه ، وذلك ( بناءا على انّ الاجتناب عن النجس يراد به : ما يعمّ الاجتناب) عنه و ( عن ملاقيه ولو بوسائط ) كثيرة ومتعددة .

وعليه : فيكون الاجتناب عن النجس معناه : الابتعاد عنه بجميع انحاء استعماله ، وهو لا يحصل إلاّ بالاجتناب عنه وعن ملاقيه وعن ملاقي ملاقيه وهكذا ، فيكون وجوب اجتناب النجس ملازما لوجوب اجتناب ملاقيه تكليفا ، لا انه حكم وضعي ثبت بدليل خارجي .

ص: 375

ولذا استدل السيّد أبو المكارم في الغُنية على تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة : بما دّل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : «وَالرُّجزَ فَاهجُر» .

ويدلّ عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله ، على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة : ب « أنّ اللّهَ سُبحانَهُ حَرَّمَ الميتَةَ » ، فاذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين

-------------------

( ولذا ) أي : لاجل البناء على ان الاجتناب هو للاعم من النجس وملاقيه ( استدل السيّد أبو المكارم في الغُنية على تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة : بما دّل على وجوب هجر النجاسات فيقوله تعالى : « وَ الرّجزَ فَاهجُر » (1) ) بناءا على انّ المراد من الرّجز : النجاسة ( ويدلّ عليه ) أي : على ان معنى الاجتناب عن النجس هو : الأعم من الاجتناب عنه وعن ملاقيه ولو بوسائط ( ايضا ) أي : مضافا إلى ان دليل وجوب الاجتناب عن النجس ظاهر في وجوب اجتنابه واجتناب ملاقيه ، فانه يدل عليه ( ما في بعض الأخبار من استدلاله ) عليه السلام ( على حرمة الطّعام الذي مات فيه فأرة : ب « أنّ اللّهَ سُبحانَهُ حَرَّمَ الميتَةَ ) (2) فمعنى حرمة الميتة : حرمة الميتة عينها وحرمة ملاقيها وهو الطعام في الخبر .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين ) من باب المقدمة العلمية حيث أمر الشارع بالاحتياط (3) ، وبأن يهريقهما

ص: 376


1- - سورة المدّثر : الآية 5 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص420 ب21 ح46 ، الاستبصار : ج1 ص24 ب11 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص206 ب5 ح528 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص65 ب13 ح20767 .
3- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 وكصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج انظر الكافي = = فروع ج4 ص391 ح1 ووسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه .

وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره في المنتهى على ذلك : بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلاّ فلم يقل أحدٌ انّ كلاً من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره ، وانّ الاجتناب عن النجس لا يُراد به الاّ الاجتناب عن العين ،

-------------------

ويتيمم (1) ، إلى غير ذلك ممّا سبق الاستدلال به لوجوب المقدمة العلمية ( فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه ) أي : لاقى احد المشتبهين ايضا لما عرفت من الملازمة ، فكما انّ حكم الشارع بالاجتناب عن النجس حكم بالاحتناب عن ملاقيه ، كذلك حكمه بالاحتناب عن كل واحد من المشتبهين حكم بالاجتناب عن ملاقي كل واحد منهما ( وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره فيالمنتهى على ذلك ) أي : على تنجس ملاقي أحد المشتبهين ( بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ) فاذا كان الشارع أعطاهما حكم النجس كان معنى ذلك : انّه كما ينجس ملاقي النجس المقطوع به ، كذلك ينجس ملاقي النجس المشتبه به ، فيجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه .

( والاّ ) بأن لم يكن مقصود العلامة ما ذكرناه ( ف ) كلامه لا توجيه له ، اذ ( لم يقل أحدٌ : انّ كلاً من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره ) حتى لا يكون هناك فرق بين النجس المعلوم والنجس المردّد بين هذا وذاك ، فيكون كل واحد من الأطراف حينئذٍ في حكم النجس المعلوم من جميع الجهات .

هذا هو أول القولين في حكم ملاقي النجس وهو نجاسته ( و) أما القول الثاني فهو : عدم نجاسته ، وذلك بناءا على ( انّ الاجتناب عن النجس لا يُراد به : الاّ الاجتناب عن العين ) أي : عين النجس نفسه ، لا عن ملاقيه أيضا لوضوح : انّه

ص: 377


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحدّ للخمر .

فاذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصلُ الطهارة وأصلُ الاباحة .

والأقوى الثاني ،

-------------------

لا ملازمة بين وجوب الاجتناب عن النجس ولزوم الاجتناب عن ملاقيه ، فلا حكم تكليفي بالاجتناب ( و ) ذلك لان ( تنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي ) قد ثبت بدليل خارجي ، فان الشارع كما حكم بالاجتناب عن النجس بدليل مستقل ، حكم ايضا بالاجتناب عن ملاقيه كذلك .

إذن : فالتنجس حكم وضعي ( سببي ) بمعنى : انّ الملاقاة سبب للتنجس لكن هذا التنجس للملاقي ( يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ) لا المشتبه بالنجس ، فانه إذا لاقى النجس شيء تنجّس ذلك الشيء ، وهذا هو حكم ثانٍ ، أمّا الحكم الأوّل : فهو الحكم بنجاسة عين البول - مثلاً - ( نظير وجوب الحدّ للخمر ) فانّه حدّ للخمر بذاتها ، امّا إذا اشتبه الخمر بغير الخمر وشرب أحد المشتبهين ، فلايترتب عليه الحد ، كما تقدّم .

وعليه : ( فاذا شكّ في ثبوته ) أي : ثبوت التنجس ( للملاقي ) - بالكسر - وانّما نشك في ثبوت نجاسة الملاقي للشك في نجاسة الملاقى - بالفتح - لأنّ المفروض : ان الملاقي لاقى أحد المشتبهين لا عين النجس ، فاذا شك ( جري فيه أصل الطهارة وأصل الاباحة ) لأنّه إذا كان نجسا كان حراما فاذا شككنا في النجاسة فالأصل الطهارة ، كما انّ الأصل الاباحة ، لكن لا يخفى : انّ أصل الطهارة لا يدع مجالاً لأصل الاباحة ، لأنّ الأمر بينهما سببي ومسببي .

( والأقوى : الثاني ) من القولين ، وهو : كون تنجس الملاقي حكما وضعيا ،

ص: 378

أمّا أوّلاً ، فلما ذكر .

وحاصله : منع ما في الغنية : من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجسه حينئذٍ ليس إلاّ لمجرد تعبّد خاص .

-------------------

فلا يثبت الاّ بدليل مستقل ، وذلك لانّ نجاسة الملاقى - بالفتح - لاتسري إلى الملاقي - بالكسر - لعدم الملازمة ، بل ان للشارع حكمين : حكم بالنجاسة الملاقى ، وحكم بنجاسة الملاقي ، والشارع انّما يحكم بنجاسة الملاقي - بالكسر - إذا لاقى عين النجس ، لا المشتبه بالنجس وحيث انّ الملاقى - بالفتح - هو أحد المشتبهين، فلا نعلم بانّ الملاقي قد لاقى عين النجس ، لاحتمال انّه قد لاقى الطاهر ، فلم يكن الملاقي - بالكسر - محكوما بالنجاسة ، وذلك لما يلي :

( أمّا أوّلاً : فلما ذكر ) : من ان الاجتناب عن الشيء معناه : الاجتناب عن نفس ذلك الشيء ، لا الاجتناب عنه وعمّا يلاقيه ، فلا تلازم بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، فنجاسة الملاقي انّما هو بدليل خاص ، ولا دليل على النجاسة في مورد الملاقاة مع أحد طرفي الشبهة .

( وحاصله : منع ما في الغنية : من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرّجز إذا لم يكن عليه ) أي : على الملاقي - بالكسر - ( أثر من ذلك الرجز) فانه قد يتعدى الرّجز من الملاقى - بالفتح - إلى الملاقي - بالكسر - وفي هذه الصورة تحصل النجاسة ، كما إذا تعدّت قطرات من الخمر إلى الاناء الآخر حيث يشمل الاناء الآخر دليل : «ان ما يبلّ ميلاً منه ينجّس برميلاً من الماء» .

إذن: ( فتنجسه ) أي : تنجس ملاقي الرّجز ( حينئذٍ ) أي : حين نفي الملازمة بين نجاسة الملاقي ونجاسة الملاقى ( ليس الاّ لمجرد تعبّد خاص ) وهذا التعبّد

ص: 379

فاذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر مايلاقيه .

نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ،

-------------------

الخاص موجود في ملاقاة النجس بعينه لا في ملاقاة أحد المشتبهين .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ) لدليل الاحتياط ، ولحكم العقل بوجوب الاجتناب عن المشتبهين ( فلا يدلّ على وجوب هجر مايلاقيه ) .

وان شئت تصوير القياس قلت : نجاسة الملاقي - بالكسر - حكم تعبدي ، وهذا الحكم التعبدي لا يثبت في ملاقي أحد طرفي الشبهة ، فنجاسة الملاقي لايثبت بملاقاة أحد المشتبهين .

ثم إنّ المصنّف حيث نفى وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - الاّ بدليل خارجي أشكل على نفسه بأنّه إذا خرج من الانسان بعد البول وقبل الاستبراء بلل مشتبه لايعلم بانّه بول أو ليس ببول ، فهو من الشبهة البدوية ومجرى أصل البرائة ، لكنّ الشارع حكم بنجاسته تقديما لظاهر كون هذا البلل هو بقايا البول على اصل كونه طاهرا ، ففي هذه الصورة كيف تقولون بأنّ ملاقي هذا البلل المشتبه نجس مع انه قد لاقى المشتبه ؟ فأجاب عنه بقوله :

( نعم ، قد يدلّ ) وجوب هجر المشتبه على وجوب هجر ملاقيه ولكن لا بالملازمة ، بل ( بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ) وذلك ( كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من ) دليل مستقل هو : ( أمر الشارع بالطهارة عقيبه ) .

ص: 380

من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون

-------------------

إذن : فالشارع حيث قال بوجوب الوضوء والتطهير من البلل الخارج بعد البول وقبل الاستبراء ، إكتشفنا نجاسته ، لكن ( من جهة ) دليل خارجي ، وهو ( استظهار : انّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ) .

والحاصل : إنّ قياس ملاقي البلل المشتبه بملاقي أحد المشتبهين مع الفارق ، وذلك لأنّ البلل قبل الاستبراء ممّا تعارض فيه الأصل والظاهر ، فالأصل يقول بطهارته لانّه من الشبهة البدوية ، والظاهر يقول : بنجاسته لانه من بقايا البول ، فاذا أمر الشارع بالطهارة عقيب هذا البلل يستظهر من هذا الأمر : انّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل فيحكم بنجاسة البلل ، وحيث كان البلل نجسا يكون ملاقيه نجسا أيضا .

إذن : فمثل ما نحن فيه مثل ما إذا قامت البيّنة على نجاسة شيء من طرفي الشبهة المحصورة ، فانه يترتب على ما قامت عليه البيّنة جميع آثار النجس الواقعي ، وهكذا الحال إذا كان نجسا بالاستصحاب .

و عليه : فاذا علمنا علما وجدانيا بالبولية ، أو قال الشارع انّه نجس بسبب البيّنة، أو بسبب الاستصحاب ، أو بسبب تقديم الظاهر على الأصل ، كان ذلك محكوما بأحكام النجس ، ومن أحكام النجس : أن ملاقيه نجس ، وذلك بسبب النص الخاص لا بالملازمة ، وأين هذا من ملاقي أحد المشتبهين حيث لانعلم بنجاسته كما انّه لا دليل على ان الملاقي - بالفتح - نجس وانمّا يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - من جهة العلم الاجمالي .

وعليه : فانّ الشارع قدّم في هذا المورد الظاهر على الأصل ( فحكم بكون

ص: 381

الخارج بولاً ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه .

وبه يندفع تعجّبُ صاحب الحدائق ، من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة .

-------------------

الخارج بولاً ) تعبّدا ( لا انّه ) أي : الشارع ( أوجب خصوص الوضوء بخروجه ) أي : خروج البلل بأن رتب الوضوء على خروج البلل المشتبه ، دون ان يقول بنجاسة البلل حتى يقال : انّ البلل المشتبه ، ليس ببول فلا ينجس ملاقيه .

( وبه ) أي : بهذا الذي ذكرناه : من الفرق بين ملاقي البلل المشتبه وبين ملاقي أحد أطراف الشبهة ( يندفع تعجّبُ صاحب الحدائق من حكمهم ) أي : حكم الفقهاء ( بعدم النجاسة فيما نحن فيه ) من ملاقي أحد أطراف الشبهة ( وحكمهم بها) أي : بالنجاسة ( في البلل ) المشتبه ( مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة ) فقد حكم على البلل بوجوب الوضوء ، وحكم على أحد أطراف الشبهة بوجوب الاجتناب .

وحاصل تعجب صاحب الحدائق هو : انّه لماذا فرّق الأصحاب بين المشتبهين: المشتبه بالبول فحكموا بنجاسة ملاقيه ، والمشتبه في العلم الاجمالي فحكموا بعدم نجاسة ملاقيه ؟ .

وحاصل جواب المصنّف هو : انّ الفرق لأجل انّ الشارع حكم بنجاسة البلل المشتبه ، فملاقيه أيضا محكوم بالنجاسة ، بينما لم يحكم الشارع بنجاسة الطرف المشتبه في العلم الاجمالي ، فلا نقول بنجاسة ملاقية .

ثم انّ المصنّف ذكر عند قوله « والأقوى : الثاني » ما لفظه : « أمّا أوّلاً : فلما

ص: 382

وأمّا الرواية فهي رواية عمر بن شمر ، عن جابر الجعفيّ ، عن أبي جعفر عليه السلام : « أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فارةٌ في خابية فيها سَمنٌ أو زيتٌ ، فما ترى في أكله ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : لا تأكُلهُ ، فقال الرجلُ : الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام : إنّك لم تستخفّ بالفارة، وانّما إستخففت بدينك، إنّ اللّه حرّمَ الميتَةَ مِن كُلِّ شيء » .

وجهُ الدلالة أنّه عليه السلام جعل ترك الاجتناب عن

-------------------

ذكر .. » ولم يذكر ، أمّا ثانيا وكأنّه جعل قوله : ( وأمّا الرواية ) بمنزلة وأمّا ثانيا .

وكيف كان : فالرواية التي توهّم دلالتها على الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، حتى يدل على انّه إذا وجب الاجتناب عن طرفي الشبهة وجب الاجتناب عن ملاقي كل طرف ( فهي رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السلام : « : أنّه أتاه رجل فقال له ) متسائلاً : ( وقعت فارةٌ في خابية ) والخابية : حِبّ كبير يُجعل ( فيها سَمنٌ أو زيتٌ ، فما ترى في أكله ؟ ) أي : أكل ذلك السَمن أو الزَيت هل يجوز إذا كانا مايعين - كما هو واضح - لأنّه إذا كانا جامدين أخذت الفارة وما حولها، وحلّ البقية كما في نصوص اُخر ؟ .

( فقال أبو جعفر عليه السلام : لا تأكُلهُ ، فقال الرجلُ : الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام : انّك لم تستخفّ بالفارة ، وانّما استخففت بدينك ، انّ اللّه حرّمَ الميتَةَ من كُلِّ شيء » (1) ) فانّ هذا الكلام من الامام عليه السلام يدل على الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه كما قال : ( وجهُ الدلالة : انّه عليه السلام جعل ترك الاجتناب عن

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص240 ب21 ح46 ، الاستبصار : ج1 ص24 ب11 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص206 ب5 ح528 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص65 ب13 ح20767 .

الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوبُ الاجتناب عن شيء يستلزمُ وجوب الاجتناب عن ملاقيه .

لكن الرواية ضعيفة سندا ، مع أنّ الظاهر من الحرمة فيها : النجاسة ،

-------------------

الطعام استخفافا ) بالدين ، لاًنّ الدين هو الذي قال ( بتحريم الميتة ولولا استلزامه ) أي : استلزام تحريم الميتة ( لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا ) بالدين الذي قال ( بتحريم الميتة ) .

وعليه : ( فوجوب الاجتناب عن شيء ) حسب هذه الرواية ( يستلزمُ وجوب الاجتناب عن ملاقيه ) أيضا ، وهذه الكبرى الكليّة تأتي فيما نحن فيه ، فاذا وجب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة، وجب الاجتناب عن ملاقي كل طرف أيضا .

( لكن الرواية ضعيفة ) فلا يصح الاستدلال بها ، وذلك من جهات :

أولاً : انّها ضعيفة ( سندا ) فلا يمكن الاستدلال بها لهذا البحث .

ثانيا : ( مع انّ الظاهر من الحرمة فيها : النجاسة ) لأنّه لو لم يكن المراد من الحرمة النجاسة ، لم يصح استدلال الامام عليه السلام بها ، لوضوح : ان ملاقي الحرام لايحرم فالهرة والسبع والتراب وغير ذلك مّما يحرم أكله ، لا يحرم أكل ملاقيه ، فلابد ان يراد من الرواية : انه لما كانت الفارة الميتة نجسة فنجاستها تتعدى إلى السَمن أو الزَيت .

إذن : فالرواية تدل على الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه ، لكن حيث كانت نجاسة الميتة مشكوكة وان كان يحرم شرب المشتبه - من باب الاحتياط - الاّ انّه لايوجب التعدّي الى ملاقيه ، لأنّ التعدي انّما يكون في ملاقي

ص: 384

لأنّ مجرّد التحريم لا يدل على النجاسة فضلاً عن تنجّس الملاقي وارتكاب التخصيص في الرواية باخراج ماعدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ،

-------------------

النجس اليقيني ، أو النحس الذي قام الدليل الشرعي على نجاسته ، من البيّنة أو الاستصحاب أو ما أشبه ذلك - على ماسبق - لا المشتبه بالنجس .

وعليه : فانّ الرواية تدل على النجاسة لا مجرد الحرمة كما عرفت ( لأنّ مجرّد التحريم لا يدل على النجاسة ) اذ كثير من الأشياء حرام وليس بنجس ( فضلاً عن تنجّس الملاقي ) لأنّ الحرام إذا لم يكن بنفسه نجسا فكيف ينجس ملاقيه .

إذن : فلابد من ارادة النجاسة من الحرام في الرواية ، فيكون حاصلها : انّ اللّه سبحانه وتعالى نجّسَ الميتَة ، وحيث انّ النجس ينجّس ملاقيه ، فملاقيه وهو السَمن والزَيت نجسٌ أيضا ، وهذا لا يرتبط بما نحن فيه من ملاقي المشتبه حتى يستدل بالرواية عليه .

ثالثا : انّه لو أخذنا بظاهر الرواية ولم نقل بأنّ المراد من الحرام النجاسة ، لزم التخيصيص المستهجَن في هذا العموم ، وذلك لأنّ المحرّمات كثيرة بينما المحرمات النجسة قليلة ، فلو أراد الإمام عليه السلام من : كل ملاقي الحرام حرام : أن ملاقي الحرام النجس نجس ، لزم تخصيص الأكثر ، لأنّ المحرّمات غير النجسة أكثر من المحرمات النجسة بكثير .

وعليه : فلو اريد من الرواية ذلك ، كان مثل مانحن فيه ، مثل أن يقال : « أكرم كل عالم » ويُراد به علماء النجوم فقط ، مع أنّ سائر العلماء أكثر من علماء النجوم بكثير .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وارتكاب التخصيص في الرواية باخراج ماعدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ) لأنه تخصيص للأكثر ، وهو مستهجن .

ص: 385

فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه .

فان قلت : وجوبُ الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلاّ أنّه يصير كملاقيه في العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة ،

-------------------

وعليه: ( فالملازمة ) المستفادة من الرواية انّما هي ( بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ) ومن الواضح : انّ هذا لا نزاع فيه ( لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ) الذي هو محل البحث حيث انكم قلتم ان طرفي الشبهة لما كان استعمالهما حراما ، حرم استعمال الملاقي لأيّ منهما أيضا .

وهنا حيث انهى المصنّف الكلام عن الدليل الأوّل لمن قال : بأنّ ملاقي طرف الشبهة نجس بدليل الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، وفرغ رحمه اللّه عن جواب هذا الدليل ، شرع في بيان الدّليل الثاني لهم بقوله :

( فان قلت : وجوبُ الاجتناب عن ملاقي المشتبه وان لم يكن من حيث ملاقاته له ) كما ذكرناه في الدليل الأوّل وأجبنا عنه ( إلاّ انّه ) أي : الملاقي ( يصير كملاقيه في العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ) أي : يحصل العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - أو طرف الملاقي - بالفتح - فاذا لاقت اليد - مثلاً - أحد الانائين أصبح للانسان علمان إجماليان :

الأوّل : علمه الاجمالي بنجاسة أحد الانائين .

الثاني : علمه الاجمالي بنجاسة يده أو الاناء الآخر الذي لم تلاقه يده ، فيجب الاجتناب هنا كما كان يجب هناك للعلم الاجمالي .

إذن : ( فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة ) أي :

ص: 386

فهو نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء .

قلتُ : ليس الأمر كذلك ، لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي - بالكسر - سليمٌ عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى - بالفتح - فانّها معارضة بها في المشتبه الآخر .

-------------------

الملاقي - بالكسر - والملاقى - بالفتح - فانّ هناك علمان اجماليان بين الملاقى - بالفتح - وطرفه ، وبين الملاقي - بالكسر - والمشتبه الآخر .

وعليه: ( فهو ) أي : التلاقي حينئذٍ يكون ( نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في ءاناء ) فكما انّه يحدث هناك علمان اجماليان ، فكذلك يحدث هنا بالنسبة إلى الملاقى وطرفه ، والملاقي والمشتبه الآخر .

( قلت ) : إنّا وإنْ سلَّمنا دخول الملاقي - بالكسر - في أطراف الشبهة مع طرف الملاقى - بالفتح - إلاّ انّا نمنع وجوب الاجتناب عن الملاقي ، وذلك لسلامة الأصل الجاري فيه عن المعارض ، فانّه يتعارض الأصلان في أطراف الشبهة - بين الملاقى وطرفه ويتساقطان ، فيبقى أصل الطهارة في الملاقي - بالكسر - بلامحذور ، اذ ليس له مقابل يعارضه .

إذن : ( ليس الأمر ) الذي ذكرتموه من وجود العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - ( كذلك ، لأنّ ) الملاقي وان كان كالملاقى في صيرورته أحد طرفي العلم الاجمالي ، الا انّ ( أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي - بالكسر - سليمٌ عن معارضة أصالة طهارة ) وحلية ( المشتبه الآخر ) وهو طرف الملاقى - بالفتح - ( بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى - بالفتح - فانّها ) أي : أصالة الطهارة وأصالة الحل ( معارضة بها ) أي: بأصالة الطهارة وأصالة الحل ( في المشتبه الآخر) من الانائين .

ص: 387

والسّر في ذلك أنّ الشكَّ في الملاقي - بالكسر - ناشٍ عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ، فالأصلُ فيها أصلٌ في الشك السببيّ ، والأصل فيه أصلٌ في الشكّ المسبّبي .

وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في الشّك

-------------------

( والسّر في ذلك ) أي : في تعارض الأصلين في الملاقى وطرفه وعدم تعارضهما في الملاقي وطرف الملاقى - بالفتح - هو : ( انّ الشكَّ في الملاقي - بالكسر - ناشٍ عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ) فاذا شككنا - مثلاً - في نجاسة اليد الملاقية لأحد الانائين كان الشك فيها ناشئا ومسببا عن الشك في الاناء الذي لاقته اليد ، فاذا جرى الأصل في الاناء سقط الأصل في اليد ، أمّا إذا لم يجر الاصل في الاناء لأنّه سقط بسبب معارضته بالأصل في الاناء الآخر ، جرى أصل الطهارة في اليد ولا معارض له .

والحاصل : ان الأصل في الاناء وفي اليد سببي ومسببي ، فكلّما جرى الأصل السببي لم يجر الأصل المسبّبي ، وكلّما لم يجر الأصل السببي جرى الاصل المسببي ، وحيث انّ الاصل السببي هنا معارض بمثله في الاناء الآخر فهما يتساقطان وبعد تساقطهما يجري الأصل في المسببي الذي هو اليد من دون معارض كما قال : ( فالأصل فيها ) أي : في الشبهة المحصورة بين طرفين - مثلا - ( أصلٌ في الشكّ السببيّ ، والأصل فيه ) أي : في الملاقي - بالكسر - ( أصلٌ في الشكّ المسبّبي ) ومقتضى القاعدة : تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي ، إلاّ اذا كان هناك مانع من جريان الأصل السببي فتصل النوبة إلى الأصل المسبّبي .

هذا ( وقد تقرّر في محلّه ) من بحث تعارض الأصلين ( انّ الأصل في الشّك

ص: 388

السببيّ حاكمٌ على الأصل في الشكّ المسبّب ، سواء كان مخالفا له ، كما في أصالة طهارة الماء ، الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس ، المغسول به ، أم موافقا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب .

-------------------

السببيّ حاكم على الأصل في الشكّ المسبّب ) فانّ الشك السببي إذا جرى فيه الأصل كان رافعا للشك المسبّبي الذي هو موضوع الثاني .

وعليه : فلا يبقى مجال لاجراء الأصل المسبّبي مع وجود الأصل السببي ( سواء كان ) الأصل السببي ( مخالفا له ) أي : للأصل المسبّبي ( كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس ، المغسول به ) أي : بذلك الماء المشكوك ، فانه إذا كان هناك ماء مشكوك طهارته ونجاسته وكان ثوب نجس غسلناه به ، فهنا أصلان :

الأوّل : أصل طهارة الماء لقاعدة كل شيء لك طاهر .

الثاني : أصل نجاسة الثوب لاستصحاب نجاسته .

لكن أصالة طهارة الماء حاكمة على أصالة نجاسة الثوب ، لانّه لو كان الماء طاهرا - حسب ما قاله الشارع - لم يبق الثوب نجسا ، فلا يكون الثوب بعد الغسل بهذا الماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى نستصحب نجاسته فالأصل السببي الطهارة ، والأصل المسبّبي النجاسة ، والاول حاكم على الثاني ، فيكون الثوب طاهرا.

هذا إذا كان السببي مخالفا للمسببي ، وكذا إذا كان موافقا له ، فانه سواء كان السببي مخالفا ( أم موافقا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب ) فاذا كان هناك ماء مشكوك طهارته ونجاسته ، ومشكوك أيضا حليّة شربه

ص: 389

فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ، لأنّ الأوّل رافع شرعي للشكّ المسبّب ، وبمنزلة الدّليل بالنسبة إليه وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله ، زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبّب ، ووجب الرجوع إليه لأنّه

-------------------

وحرمته وجرى أصل الطهارة في الماء لم يبق شك في حليته ، فلا مجال لجريان أصالة الحلية .

وانّما لا مجال لأصالة الحلية لأنّ الأصل السببي الذي هو أصل طهارة الماء لايدع مجالاً للأصل المسبّبي الذي هو اصالة الحل ، فانّ أصل الحل انّما يجري عند الشك في الحلية ومع جريان اصالة طهارة الماء لم يبق شك في الحلية .

وعليه : ( فما دام الأصل الحاكم الموافق ) للأصل المحكوم كما في المثال الثاني ( أو المخالف ) للأصل المحكوم كما في المثال الأوّل ( يكون جاريا ) من دون مانع ( لم يجر الأصل المحكوم ، لأنّ الأوّل ) وهو الحاكم ( رافع شرعي للشّك المسبّب ، وبمنزلة الدّليل بالنسبة إليه ) أي : إلى الأصل المسبب ، فكما انّه إذا كان هناك دليل اجتهادي لا يبقى معه مجال للأصل العملي ، كذلك إذا كان أصل حاكم لم يبق معه مجال للأصل المحكوم .

( و ) لكن ( إذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله ، زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبّب ، ووجب الرجوع إليه ) أي : إلى الشك المسبّب ، وذلك كما نحن فيه ، اذ قد عرفت : عدم جريان أصالة الطهارة في هذا الاناء ولا في ذلك الاناء لتعارضهما ولتساقطهما ، فيبقى أصل الطهارة في الملاقي بلا محذور .

وانّما وجب الرجوع الى الاصل المسبّبي ( لأنّه ) أي : الأصل المسبّبي بعد

ص: 390

كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين .

الا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النّجس كُرا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بمائين مشتبهين بالنجس

-------------------

تعارض الأصلين السبّبيين في الانائين يكون ( كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين ) فكما ان الخبرين المتعارضين يتساقطان ويكون المرجع الأصل في المسالة ، كذلك يتساقط الأصلان في الانائين ويبقى الأصل المسبّبي بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - هو المرجع في العمل .

( ألا ترى ) في صورة تعارض الاستصحابين حيث يكون الرجوع إلى أصل آخر ( انّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النّجس كُرا بطاهر ) .

مثلاً : اذا كان هناك نصف كُرّ طاهر ، أضفناه الى نصف كُرّ نجس ، فصار معا كُرا، فشككنا فيه بأنه هل هو طاهر لاستصحاب طهارة ذاك النصف من الكُرّ ، أو نجس لاستصحاب نجاسة هذا النصف من الكُرّ ؟ فانّه يتعارض الاستصحابان ويكون المرجع اصالة الطهارة ، واصالة الطهارة في المقام مسبّب عن الشك في بقاء طهارة النصف الطاهر على طهارته ، والنصف النجس على نجاسته .

( و ) كذلك ( عند غسل المحلّ النجس بمائين مشتبهين بالنجس ) فانّه إذا كان هناك ماءان : أحدهما طاهر والآخر نجس وغسلنا بهما بالترتيب محلاً نجسا ولم نعلم هل الغسل الأوّل كان بالطاهر حتى يكون المحل نجسا ، أو بالنجس حتى يكون المحل طاهرا ؟ فانّ اصالة عدم تقدّم الغسل بالطاهر ، وعدم تقدّم الغسل بالنجس السببيّان يتساقطان لتعارضهما ، بعد التساقط يرجع إلى الاصل المسبّبي

ص: 391

إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين .

نعم ، ربّما يجعل معاضدا لأحدهما الموافق له

-------------------

أي : ( إلى قاعدة الطهارة ) في المحل ، فتجرى بلا معارض .

و ربّما يقال : انّ المحل صار طاهرا يقينا حين غسله بالماء الطاهر ثم لم نعلم هل صار نجسا أم لا ؟ فنستصحب طهارته .

( و) على أي حال : ( لا تجعل القاعدة ) أي : قاعدة الطهارة ( كأحد المتعارضين ) لأنّ القاعدة ليست في مرتبة المتعارضين بل مرتبتها متأخره عنهما ، ولذا تصل النوبة إلى القاعدة بعد سقوط الأصلين السببيّين بالتعارض .

وهنا لا بأس بأن نقول انّ الفقهاء اختلفوا في تتميم الماء النجس القليل بما يوجب كريّته الى ثلاثة أقوال :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور : من ان تتميم القليل النجس كُرّا سواء كان بالماء الطاهر أم بالماء النجس ، لا يوجب طهارته ، بل قالوا بانحصار طريق تطهيره باتصاله بالكُر ، أو الجاري ، أو المطر ، أو ما أشبه ذلك من المطهّرات .

الثاني : ما ذهب إليه السيد والشيخ على ما نسب اليهما : من كفاية تتميمه كُرّا بالماء الطاهر وعدم كفاية تتميمه بالماء النجس ، فان تمّم بالماء الطاهر طهر ، وإلاّ لم يطهر .

الثالث : ما ذهب إليه ابن ادريس من كفاية التتميم كُرّا مطلقا ، سواء كان التتميم بالماء الطاهر أم بالماء النجس ، وذلك على ما ذكر في محله من الفقه .

( نعم ، ربّما يجعل ) الأصل المسبّبي ( معاضدا ) ومؤيدا ( لأحدهما ) أي : لأحد المتعارضين ( الموافق له ) اي : للمسبّبي ، فاذا كان أحد الأصلين السببيّين موافقا للأصل المسبّبي ، يجعل الأصل المسبّبي معاضدا لذلك الأصل السببي

ص: 392

بزعم كونهما في مرتبة واحدة .

لكنّه توهّمٌ فاسدٌ ، ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي - بالكسر - .

فالتحقيقُ في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما

-------------------

الموافق له ، وذلك ( بزعم كونهما ) أي : السببي والمسبّبي ( في مرتبة واحدة ) .

وعليه : فيجعل أصل الطهارة معاضدا لاستصحاب الطهارة في تتميم الماء النجس كرا بطاهر فيطرح استصحاب النجاسة ، لأنّ استصحاب الطهارة السببي وأصل الطهارة المسبّبي متعاضدان ، فيحكم فيما نحن فيه بطهارة الملاقي - بالكسر - والملاقى - بالفتح - وبنجاسة المشتبه الآخر ، لأنّ أصل الطهارة في الملاقي والملاقى متعاضدان .

( لكنّه توهّمٌ فاسدٌ ) اذ تقدّم : انّ قاعدة الطهارة أصل مسبّبي وهو متأخّر رتبة عن الأصلين السببيّن المتعارضين فينحصر العلاج في اسقاط المتعارضين والرجوع إلى قاعدة الطهارة .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ الأصل السببي والمسبّبي لا يتعاضدان ( لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة : بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي - بالكسر - ) وذلك لأن الأصلين في المشتبهين يتساقطان ويكون المرجع : أصل الطهارة في الملاقي فقط .

وكيف كان : ( فالتحقيقُ في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما ) كما تقدّم في المقام من الأمثلة المذكورة ، والتي منها : تعارض الأصلين في طرفي الشبهة المحصورة هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الملاقي فقط .

ص: 393

لاتحاد الشبهة الموجبة لهما الرجوع إلى ما ورائهما : من الاُصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض ، لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما ، كقاعدة الطهارة في المثالين ،

-------------------

وانّما يتعارض الأصلان مع اتحاد الرتبة ( لاتحاد الشبهة الموجبة لهما ) أي : للأصلين اوالاستصحابين وحينئذٍ فالتحقيق هو ( الرجوع إلى ما ورائهما : من ) قاعدة الطهارة في الملاقي بالنسبة إلى مانحن فيه .

وعليه ، فيكون المرجع بعد تساقط الأصلين المتعارضين إلى ( الاُصول التي لو كان أحدهما ) أي : أحد المتعارضين ( سليما عن المعارض ، لم يرجع إليه ) اي إلى هذا الثالث ، لأن مرتبة هذا الأصل الثالث متأخّر عن مرتبتهما ، فاذا سقط رجع إليه ، أمّا إذا لم يسقطا فلا .

إذن ، فالمرجع عند التعارض هو : الاصل المسبّبي ( سواء كان هذا الأصل ) المسبّبي ( مجانسا لهما ) أي : لذينك الأصلين المتعارضين ، بأن يكون كل من المسبّبي والسببيّان موردا لاصالة الطهارة - مثلاً - كما هو الأمر فيما نحن فيه ، حيث قد عرفت : أنّ الأصل المسبّبي الذي هو أصل الطهارة في الملاقي - بالكسر - موافق لمورد الأصلين السببيّين في الطهارة أيضا، ومع ذلك فانهما يتساقطان للتعارض ويبقى الأمر للأصل المسبّبي .

وكذا يكون المرجع هو الاصل المسبّبي وان لم يتوافق مع الاصلين السببيّين كما قال : ( أو من غير جنسهما ) بأن كان المسبّبي موردا للطهارة والسببيّين أحدهما موردا للنجاسة - مثلاً - وذلك ( كقاعدة الطهارة في المثالين ) الذين ذكرناهما بقولنا « ألا ترى : انه يجب الرجوع عند تعارض اصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النجس كُرّا بطاهر ، وعند غسل المحل النجس بمائين مشتبهين

ص: 394

فافهم واغتنم .

وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إنْ شاء اللّه تعالى .

نعم ، لو حصل الأصل في هذا الملاقي - بالكسر - أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر كانا من الشبهة المحصورة ، ولو كان ملاقاة شيء لاحد المشتبهين قبل العلم الاجماليّ ، وفقد الملاقى - بالفتح - ثم حصل العلم الاجماليّ بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ،

-------------------

بالنجس ، إلى قاعدة الطهارة » ( فافهم واغتنم ) لما في الكلام من الدقّة .

هذا ( وتمام الكلام ) يأتي ( في تعارض الاستصحابين إنْ شاء اللّه تعالى ) باذنه وعونه .

( نعم ) ما ذكرناه من : الرجوع إلى أصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - انّما هو ( لو حصل الأصل ) الجاري ( في هذا الملاقي - بالكسر - أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ) وذلك بأن لاقت اليد اليمنى ، مثلاً الاناء الذي في الطرف الأيمن ، ولاقت اليد اليسرى الاناء الذي في الطرف الأيسر ( كانا من الشبهة المحصورة ) فلا تجري أصالة الطهارة في اليد اليمنى ، لأنها في مرتبتها معارضة بأصالة الطهارة في اليد اليسرى ، فيجب الاجتناب عنهما كما كان يجب الاجتناب عن نفس الانائين .

( و) كذا يجب الاجتناب أيضا ( لو كان ملاقاة شيء ) كاليد - مثلاً - ( لاحد المشتبهين قبل العلم الاجماليّ ، و) بعد ( فقد الملاقى - بالفتح - ثم حصل العلم الاجماليّ بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه ) وهي اليد ( مقامه ) أي :

مقام المفقود ( في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ) .

ص: 395

لأنّ أصالة الطّهارة في الملاقي - بالكسر - معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الاُخر ، لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ، لما أشرنا إليه في الأمر الثالث : من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلي به الملّكف ولا أثر له بالنسبة إليه .

-------------------

مثلاً : إذا كان هناك اناءان : أحدهما أبيض والآخر أحمر ولم يعلم بنجاسة أحدهما فلاقت يده الاناء الابيض فصب الاناء الأبيض في البحر وطهر الاناء ؛ وبعد ذلك علم اجمالاً بأن أحد الانائين إما الأبيض أو الأحمر كان نجسا فانّه يجب الاجتناب عن اليد وعن الاناء الأحمر ، لحصول العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - وبين طرف الملاقى وهو الاناء الأحمر .

وانّما يجب الاجتناب عنهما ( لأنّ أصالة الطّهارة في الملاقي - بالكسر - ) وهي اليد في المثال ( معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الاُخر ، لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ) أي :يعارض جريان : الاصل في المشتبه الآخر، فانّ الاصل انّما يجري إذا كان له ثمر ، و لا ثمر لجريان الأصل في الاناء المفقود الذي صبّ في البحر ، وحيث لا يجري الأصل في المفقود قام الملاقي مقام المفقود في جريان الاصل فيه لكونه أصبح طرفا للعلم الاجمالي فيكون اصل الطهارة في اليد معارضا بأصل الطهارة في المشتبه الآخر ، فيجب الاجتناب عن اليد وعن المشتبه الآخر .

وانّما لا يعارضه ( لما اشرنا إليه في الامر الثالث : من عدم جريان الأصل فيما لايبتلي به المكلّف ) ومن المعلوم : أنّ الاناء المصبوب في البحر لايبتلى به المكلّف ( ولا اثر له ) اي لجريان الاصل في الطرف الذي صبّ في البحر ( بالنسبة إليه ) أي : الى المكلّف .

ص: 396

فمحصّلُ ما ذكرنا : أنّ العبرةَ في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة .

ولو كان العلم الاجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ، فَفُقِدَ ، فالظاهرُ طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولايخفى وجهه ،

-------------------

إذن : ( فمحصّلُ ما ذكرنا ) هناك هو : ( انّ العبرةَ في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة ) عن المعارض كما في صورة بقاء المشتبهين ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي .

( أو معارضة ) بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر كما في صورة فقد الملاقى - بالفتح - قبل العلم الاجمالي فيجري أصالة الطهارة في الملاقي وهي اليد ، وفي المشتبه الآخر وهو : طرف الملاقى فيتعارضان ويتساقطان فيجب الاجتناب عنهما للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

وكذلك الحال فيما إذا لاقت اليد اليمنى الاناء الابيض مثلاً ولاقت اليد اليسرى الاناء الاحمر ، فانه يتعارض الأصلان في اليدين فيتساقطان ويحكم بنجاسة الملاقيين ، كما كان يحكم بنجاسة الاصلين .

هذا لوكان فقد الملاقى - بالفتح - قبل العلم الاجمالي ( و) أما ( لو كان العلم الاجمالي ) بنجاسة احد الانائين ( قبل فقد الملاقى ) - بالفتح - ( والملاقاة ، فَفُقِدَ ) الملاقى - بالفتح - بعد ذلك بصبّه في البحر - مثلاً - ( فالظاهر : طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ولايخفى وجهه ) أي : وجه طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر .

أمّا الحكم بوجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر : فلأنّ وجوب الاجتناب عن طرفي الملاقى قد تنجّز قبل فقد الملاقى - بالفتح - فلا يرتفع بعد فقده لبقاء

ص: 397

فتأمل جيّدا .

-------------------

قاعدة الاشتغال بالنسبة إليه .

وأمّا الحكم بطهارة الملاقي - بالكسر - : فلأنّ وجوب اجتناب طرف الملاقى قبل فقد الملاقى - بالفتح - يوجب انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي تعبّدي بالنسبة إلى طرف الملاقى ، وشك بدوي بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - فتجري قاعدة الطهارة فيه .

( فتأمل جيّدا ) فانّ هذه المسائل مختلف فيها خصوصا ما ذكره : من كون الأصل في الشك السببي حاكم على الاصل المسبّبي فانه قد خالف فيه جماعة كما يظهر من المحقق القمّي في بعض كلماته وغيره ، وحيث ان تفصيل الكلام في هذه المباحث خارج عن مقصد الشرح نتركه إلى محله ، واللّه سبحانه العالم .

انتهى

الجزء الثامن ويليه الجزء

التاسع في تتمة المقام الأوّل في

تنبيهات المسألة الاُولى

وللّه الحمد

ص: 398

المحتويات

تتمّة المسألة الاُولى : عدم النص ... 5

تنبيهات

التنبيه الأوّل :... 25

التنبيه الثاني :... 26

رسالة الشارح في التسامح في أدلّة السنن ... 65

التنبيه الثالث :... 79

المسألة الثانية : اجمال اللفظ ... 93

المسألة الثالثة : تعارض النصّين ... 100

المسألة الرابعة : الاشتباه في موضوع الحكم ... 113

المطلب الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ... 145

المسألة الاُولى : عدم الدليل ... 145

المسألة الثانية : اجمال الدليل ... 206

المسألة الثالثة : تعارض الأدلّة ... 207

المسألة الرابعة : اشتباه الموضوع ... 212

الموضع الثاني : الشك في المكلّف به ... 220

المطلب الأوّل : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ... 221

المسألة الاُولى : اشتباه الموضوع الخارجي ... 221

ص: 399

جواز ارتكاب الامرين ... 222

وجوب اجتناب الكل وعدمه ... 223

عدم جواز ارتكاب أطراف المحصورة ... 223

وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ... 269

أدلّة مجوزين ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ... 285

الدليل الأوّل : الأخبار ... 285

الدليل الثاني : الجمع بين الأخبار ... 294

تنبيهات

التنبيه الأوّل :... 323

التنبيه الثاني :... 339

التنبيه الثالث :... 353

التنبيه الرابع :... 373

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 9

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل إلى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث: «تتمّة البرائة»

اشارة

ص: 4

الخامس :

لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فان كان بعضا معينا ، فالظاهرُ عدمُ وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

-------------------

( الخامس ) من التنبيهات : ( لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات ) من اطراف الشبهة المحصورة ، فانه قد يكون الاضطرار إلى البعض المعيّن ، كما لو كان أحد المشتبهين لبنا والآخر ماءًا واضطر الى اللبن لأنه - مثلاً - قد تسمّم وأمره الطبيب بشرب اللبن حيث يكون الاضطرار هنا الى المعيّن وقد يكون الاضطرار إلى البعض غير المعيّن : كما لو كان كلا المشتبهين لبنا حيث لايختلف اضطراره إلى هذا أو إلى ذاك ، فيكون الاضطرار إلى غير المعيّن .

وعليه : ( فان كان ) المضطر اليه ( بعضا معينا ) كما مثّلنا له ( فالظاهرُ : عدم وجوب الاجتناب عن الباقي ) فيجوز ارتكاب الجميع .

أمّا اللبن : فلأنه مضطر إليه .

وأمّا الماء : فلأنّه لا تكليف منجّز بالنسبة إليه تفصيلاً ولا اجمالاً .

هذا ، فيما ( ان كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه ) بأن اضطر إلى شرب اللبن ثم علم بأن احد الانائين من اللبن أو الماء نجس ، أو كان اضطراره وعلمه بنجاسة أحدهما في وقت واحد .

وانّما قلنا بعدم وجوب الاجتناب عن الباقي وهو الماء في المثال ( لرجوعه ) أي : لرجوع الأمر في هذا المثال ( إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

ص: 5

الواقعي ، لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم .

وان كان بعده ، فالظاهرُ وجوبُ الاجتناب عن الآخر ، لانّ الإذنَ في ترك بعض المقدّمات العلميّة

-------------------

الواقعي ) وذلك ( لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ) فيرتفع التكليف بالنسبة الى المضطر اليه وهو اللبن ، ويبقى الماء مشكوك النجاسة ، فيكون من الشبهة البدوية وهو مجرى البرائة .

هذا ( وقد عرفت توضيحه في الأمر ) الثالث من التنبيهات في البحث ( المتقدّم ) حيث ذكرنا هناك : إنّ التكليف بالاجتناب عن المشتبهين انّما يتنجّز إذا كان كلّ من المشتبهين بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجزا.

وأمّا إذا كان أحدهما كذلك دون الآخر ، وذلك اما للاضطرار أو لخروجه عن محل الابتلاء ، أو لعدم انفعاله كما في مثال الكُرّ والاناء ، فلا يتنجز التكليف فيه بالاجتناب لأنّ المفروض خروج أحدهما عن كونه كذلك ويبقى الآخر مشكوكا بالشك البدوي فتجري فيه البرائة .

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعيّن قبل العلم الاجمالي أو مع العلم الاجمالي ( و ) أما ( ان كان ) الاضطرار الى المعيّن ( بعده ) أي : بعد العلم الاجمالي ، بان علم بنجاسة احد المشتبهين من الماء أو اللبن ، ثم اضطر إلى اللبن ( فالظاهر : وجوب الاجتناب عن الآخر ) وهو الماء في المثال .

وانّما يجب الاجتناب عن الآخر ( لانّ الإذنَ في ترك بعض المقدّمات العلميّة

ص: 6

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجعُ إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات .

ولو كان المضطرُّ اليه بعضا غير معيّن وجب الاجتنابُ عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي ، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

-------------------

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ) بينهما حيث قد كلّف أوّلاً باجتناب الحرام الواقعي المشتبة بين اللبن والماء ، فاذا إذن له في ارتكاب اللبن لأنه صار مضطرا إليه ، فهذا الاذن ( يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات ) لا الترخيص في كل المشتبهات .

وعليه : فانّه بعد تنجّز التكليف بالاجتناب للعلم الاجمالي بوجود النجس بين اللبن والماء إذا أذن له بارتكاب اللبن الذي هو بعض الأطراف لم يكن وجه لسقوط التكليف عن الطرف الآخر الذي هو الماء فيبقى على وجوبه .

هذا تمام الكلام فيما إذا كان الاضطرار الى أحدهما المعيّن .

( و ) أمّا ( لو كان المضطرُّ اليه بعضا غير معيّن ) كما مثلنا له بانائين من لبن حيث لا يختلف الحال في ان يشرب هذا أو ذاك ، فانه إذا اضطر المكلّف إلى أحدهما (وجب الاجتنابُ عن الباقي ) مطلقا سواء كان الاضطرار قبل العلم أم بعد العلم ، ولهذا فسّره بقوله : ( وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي ) بان اضطر الى شرب أحد اللبنين أولاً ، ثم علم بأن أحدهما نجس ، ففي كلتا الصورتين يجب الاجتناب عن الباقي .

وانّما يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ( لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

ص: 7

امور لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه ، وترخيصُ بعضها على البدل موجبٌ لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي .

فان قلت : ترخيصُ ترك بعض المقدّمات دليلٌ على عدم إرادة الحرام الواقعي ، ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي .

قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ،

-------------------

امور لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه ، و ) ذلك لفرض ان الاضطرار يرتفع بارتكاب ذلك البعض غير المعين ، فان ( ترخيص بعضها على البدل موجبٌ لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي ) .

وعليه : فان التكليف بالاجتناب قد تنجز فاذا أذن له بارتكاب البعض غير المعين ، وكان الاجتناب عن البعض الآخر باقيا على وجوبه ، اذ لا وجه لرفع اليد عنه .

( فان قلت : ترخيص ) الشارع في ( ترك بعض المقدّمات ) أذِنَ بارتكاب المضطر إليه المعين أو غير المعين ، معناه : رفع يده عن بعض المقدّمات العلمية للحرام الواقعي ، وهو ( دليلٌ على عدم إرادة ) الشارع اجتناب ( الحرام الواقعي ) وذلك للملازمة بين ارادة الشارع اجتناب الحرام الواقعي و وجوب المقدّمات .

( و ) عليه فاذا كان الترخيص في البعض ملازما لعدم التكليف بالواقع ، فلا تكليف رأسا ، اذ ( لا تكليف بما عداه ) أي : بما عدا الحرام الواقعي ، وحينئذٍ ( فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي ) فمن اين قلتم بوجوب اجتناب الباقي ؟ .

( قلت : المقدمّة العلميّة مقدّمة للعلم ) أي : مقدمة لعلم المكلّف بانّه قد اجتنب عن الحرام الواقعي وليست المقدمة مقدمة لنفس اجتناب الحرام الواقعي ، حتى

ص: 8

واللاّزم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا .

وحيث أنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ، بملاحظة تعلّق الطّلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من

-------------------

يكون رفع اليد عن بعض المقدمات دليلاً على اسقاط الشارع الحرام عن الحرمة .

( و ) عليه : فانّ ( اللاّزم من الترخيص فيها ) أي : في بعض المقدمات ( عدم وجوب تحصيل العلم ) بالاجتناب عن الحرام الواقعي ( لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا ) .

إذن : فالشارع يريد اجتناب الحرام الواقعي بقدر الامكان ، فيبقى الباقي على وجوبه ، لانّ الاذن في ارتكاب أحدهما لا يدلّ على عدم وجوب الاجتناب رأسا، بل يدل على عدم وجوب تحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي والاكتفاء بالاجتناب الظني وهو يحصل بالاجتناب عن احدهما .

هذا ( وحيث انّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم ) باجتناب الحرام الواقعي المتحقق باجتناب كلا المشتبهين ( هو العقل بملاحظة تعلّق الطّلب ) من الشارع بالاجتناب عن الحرام الواقعي ( الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة ) تلك المخالفة (من ترك) اجتناب ( هذا المحتمل ) معيّنا ، أومخيّرا بينه وبين المحتمل الآخر .

ومن المعلوم : إنّ الانسان اذا ترك الاجتناب عن هذا المحتمل أو عن ذاك المحتمل ، احتمل العقاب على هذه المخالفة ، ولذلك ( كان الترخيص المذكور ) من الشارع في ترك الاجتناب عن بعض المقدمات ( موجبا للأمن من

ص: 9

العقاب على المخالفة الحاصلة في ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه .

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ،

-------------------

العقاب على المخالفة الحاصلة ) احتمالاً ( في ترك ) الاجتناب عن ( هذا الذي رخّص في تركه ) الشارع فقط ، دون بقية الاطراف .

وعليه : فانّ الشارع سواء رخَّص في ترك المعين أو رخَّص في ترك أحَدهما على البدل ، فانّه ينحصر احتمال العقاب في المحتمل الآخر ، فيجب اجتنابه لا ان يترك الاجتناب عن كلا المشتبهين لأنّه اضطر الى أحدهما .

والحاصل : ان احتمال الحرام الواقعي باقٍ والعقل يرى لزوم اجتنابه ، لأنّ التكليف بالاجتناب منجّز ، والخارج عن محتمل العقاب هو المضطر إليه فقط ، فلا وجه لارتكاب غير المضطر إليه .

وعليه : ( فيثبت من ذلك ) أي : من تنجّز التكليف من جهة وإذن الشارع في ارتكاب أحدهما من جهة ثانية ( تكليف متوسط بين : نفي التكليف رأسا ) حتى يجوز له ارتكاب كليهما .

( وثبوته ) أي : ثبوت التكليف ( متعلّقا بالواقع على ما هو عليه ) حتى يلزم عليه اجتناب كليهما لا ، وانّما التكليف ثابت في الجملة ، كما انّه منفي في الجملة لا انّ كل التكليف ثابت ولا انّ كل التكليف منفي .

( وحاصله : ) أي : حاصل التكليف المتوسط هو : ( ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله ) أي : امتثال ذلك الواقع ( منه ) أي :

ص: 10

وهو ترك باقي المحتملات .

وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه الى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا ، كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا

-------------------

من ذاك الطريق ( وهو ترك باقي المحتملات ) غير المضطر اليها ، فالمضطر إليه خارج والباقي داخل في التكليف .

( وهذا ) التكليف المتوسط لا بدع فيه ، اذ هو ( نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ) فان الشارع يريد التكاليف الواقعية ، لكن جعل لها طرقا ، فما وافق الطريق ارادة الشارع من المكلّف ، وما لم يوافقها لم يرده على نحو التنجيز ، لاًنّ الشارع يريد الواقع الواصل لا الواقع مطلقا .

وعليه : فانّ معنى حجيّة الخبر - مثلاً - انك اذا احتملت كون الشيء في الواقع حراما أو حلالاً ، ثم قام الخبر على حليته أو حرمته ، كان معنى ذلك : انّ الشارع يريد الواقع من طريق الخبر سواء وافق الخبر الواقع أم لم يوافق الواقع ، وكذلك حال جميع الامور التي هي حجّة من قبل الشارع مثل : الظواهر ، والاجماع ، والشهرة المحققة ، والسيرة ، وغير ذلك ممّا ذكروه في محله .

( ومرجعه ) أي : مرجع التكليف المتوسط ( الى القناعة ) من الشارع ( عن الواقع ببعض محتملاته ) أي : محتملات الواقع ( معيّنا ) كما لو اضطر الى أحد المشتبهين معيّنا ، فانّه يأتي بذلك المشتبه المعين اضطرارا ويترك المشتبه الآخر .

و ( كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ) وترك ما عداها ، فانّ الشارع قنع بها عن الواقع مع امكان أن يكون الواقع فيما عدا ذلك .

( أو مخيّرا ) كما اذا اضطر الى أحد المشتبهين لا على التَعيين ، فانّ الشارع

ص: 11

كما في موارد التخيير .

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالاحكام الشرعية وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها بالاحتياط ،

-------------------

اكتفى بامتثال الواقع بترك أحد المحتملين مخيّرا وارتكاب أحدهما من باب الاضطرار ، فان كان المتروك موافقا للواقع فبها ونعمت ، وان كان مخالفا فقد جعله الشارع بدلاً عن الواقع .

و ( كما في موارد التخيير ) بين الخبرين ، أو المجتهدين ، أو ما اشبه ذلك ، حيث أنّ الشارع اكتفى في امتثال الواقع باختيار أحدهما .

( وممّا ذكرنا ) في وجه ترك الاحتياط في بعض أطراف العلم الاجمالي لأجل الاضطرار ، وانه يلزم ان يكون الترك بقدر الاضطرار وهو لا يوجب سقوط التكليف بالنسبة الى باقي الأطراف ، يرد الاشكال الى الانسداديين القائلين بأنّه اذا لم يتمكن المكلّف من جميع المحتملات يأتي بالمظنون منها فقط ، مع ان مقتضى القاعدة : أن يأتي بالقدر الممكن الأعم من المظنونات .

وانّما يكون مقتضي القاعدة ذلك ، لانك قد عرفت : انّ الاضطرار يرفع الحكم بقدر الاضطرار لا أكثر من ذلك ، فان كانت المحتملات ألف حكم ولم يتمكن الاّ من خمسمائة وكان أربعمائة منها مظنونات ، فالازم أن يأتي بالخمسمائة ، وذلك باضافة مائة من غير المظنونات أيضا بالاربعمائة المظنونات فقط .

وانّما يكون اللازم ذلك لانه قد ( تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعية ، وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها ) أي : في كل تلك الأحكام ( بالاحتياط ) التام ، وذلك باتيان جميع المحتملات ،

ص: 12

لمكان الحرج ، أو قيام الاجماع على عدم وجوبه، أن يرجعَ في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة ، الى الاحتياط .

مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط ووجوب العمل بالظّن مطلقا ، أو في الجملة ، على الخلاف بينهم على الرجوع

-------------------

فانه لايجب ( لمكان الحرج ) الحاصل من الاتيان بجميع المحتملات ( أو ) انه لايجب لاجل ( قيام الاجماع على عدم وجوبه ) أي : على عدم وجوب الاحتياط التام .

إذن : فالمقتضي هو : ( أن يرجعَ ) عند ذلك ( في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ) والمرخّص هو : ما كان مستلزما للعسر أو الخروج أو قام الاجماع على انّه لا يلزم الاحتياط فيه ، كما قال : ( أعني ) من المرخّص فيه : ( موارد الظّن ) بعدم التكليف ، للحرج وما أشبه ( مطلقا ) حيث انه لا تكليف فيما لم يكن بمظنون سواء كان الظن قويا أم ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان الظن بعدمه قويا ، فالمرجع يكون ( الى الاحتياط ) بالنسبة الى القدر الممكن ، لا ان يترك الاحتياط الى المظنونات فقط مع ان المظنونات اقل من القدر الممكن .

هذا ( مع انّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط ) التام في كل المحتملات ( ووجوب العمل بالظّن ) في باب الاحكام ( مطلقا ) سواء كان الظن قويا أم ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان وجوب العمل بالظن القوي فقط ، وذلك ( على الخلاف بينهم ) في انّ دليل الانسداد هل يوجب الاحتياط بالعمل بالظن القوي فقط ، أو بالظن الأعم من القوي والضعيف ؟ هو ( على الرجوع

ص: 13

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط .

نعم ، لو قامَ بعد بطلان وجوب الاحتياط دليلٌ عقلي ، أو إجماع على وجوب كون الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به ، صَحَّ ما جروا عليه

-------------------

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد ) المشكوكة بخصوصها : من البرائة ، أو الاحتياط ، أو الاستصحاب، أو التخيير ( دون الاحتياط ) التام في كل المحتملات الذي أبطلوه .

إذن : فالانسداديون لا يقولون بالزوم الاحتياط بالقدر الممكن ، لأنه اذا كانت المظنونات بالنسبة الى الميسور من الاحتياط أقل من القدر الممكن لكان ينبغي حينئذٍ وجوبه العمل بقدر الميسور الذي هو فوق قدر الظن ، لا ان يعمل المكلّف بقدر الظن وان كان فوق قدر الظن ميسورا.

( نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط ) التام ( دليلٌ عقلي أو اجماع على وجوب كون الظّن مطلقا ) قويا كان أو ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان خصوص الظن القوي - مثلاً - ( حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة ) حتى يكون الظن هو محور الأخذ والرّد والعطاء والمنع .

( أو منعوا اصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به ) بأن أجازوا الرجوع الى البرائة ما لم يؤدّ الى المخالفة القطعية .

وحينئذٍ : فاذا تم أحد الامرين عند القائلين بالانسداد ( صَحَّ ما جروا عليه ) من العمل بالظن فقط دون القدر الميسور من الاحتمالات ، ولكنهم لم يقيموا دليلاً على ذلك .

والحاصل : انّه اذا كان دليل العمل بالظن : عدم لزوم الحرج من العمل بكل

ص: 14

من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق الى الاصول الجارية في مواردها .

لكنّك خبيرٌ بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ بطلان الاحتياط ، مع اعتراف اكثرهم بأنّه الاصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح .

-------------------

المحتملات ، لزم ترك ما يستلزم الحرج فقط لا ترك الأكثر ، بينما الذين يوجبون العمل بالظن فقط يقولون بأنه لا يلزم سائر المحتملات غير المظنونة وان لم يكن في الاتيان بغير المظنونة حرج .

نعم ، لو كان هناك دليل على العمل بالظن فقط بعد ابطال وجوب الاحتياط في جميع المحتملات فانه يصح ما جروا عليه ( من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق ) الظني ( الى الاصول الجارية في مواردها ) من الاستصحاب والبرائة وغيرهما .

هنا ( لكنّك خبيرٌ بأنّه لم يقم ، ولم يقيموا ) اي : القائلون بالانسداد ( على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ ) دليلين فقط ، وهما كالتالي :

أولاً : ( بطلان الاحتياط ) التام في الكل ، ومن المعلوم : انّه لا تلازم بين بطلان الاحتياط في الكل ، وبين حجيّة المظنونات فقط ( مع اعتراف اكثرهم : بانّه ) اي : الاحتياط هو ( الاصل في المسألة ) أي : مسألة العلم الاجمالي ، فان الانسداديين يعترفون : بأن الأصل في مسألة العلم الاجمالي هو الاحتياط .

وعليه : فكيف تتركوا من ذلك الى المظنونات فقط مع انّ الاحتياط أوسع دائرة من المظنونات بعد اخراج مقدار الحرج منها ؟ .

( و ) ثانيا : انهم لم يقيموا على وجوب اتباع المظنونات بعد بطلان الاحتياط الاّ دليل ( عدم جواز ترجيح المرجوح ) على الراجح ، وذلك بان يترك الاحتياط

ص: 15

ومن المعلوم أنّ هذا لايفيد الاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذالزوم الاحتياط في غير المظنونات .

السادس :

لو كان المشتبهاتُ ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجةُ الرجل مضطربةً في حيضها ، بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ،

-------------------

لتوهم عدم التكليف أو احتمال عدمه فانه لا يجوز .

( ومن المعلوم انّ هذا ) الدليل ( لا يفيد الاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون ) فقط فانّه اذا كان التكليف مظنون العدم ، جاز فيه مخالفة الاحتياط وتركه لموافقة الظن بعدم التكلّيف ( دون الموهوم ) فانه لايجوز ترك الاحتياط ومخالفته فيما اذا كان التكليف مشكوك العدم أو موهومه .

وعليه : فاذا دار الأمر بين المظنون والمرهوم اخذ بالمظنون وترك الموهوم ، ولكن ليس الامر كذلك في المشكوك ، فان الاخذ به ليس من ترجيح المرجوح ( و ) بذلك يكون ( مقتضى هذا ) الدليل وسابقه هو : ( لزوم الاحتياط في غير المظنونات ) أيضا على ما عرفت تفصيله .

( السادس ) من التنبيهات : ( لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجةُ الرجل مضطربةً في حيضها ، بأن تنسى وقتها وان حفظت عددها ) وذلك فيما اذا كانت مبتلاة بسيلان الدم في تمام الشهر ، فان بعض هذا الدم حيض وبعض هذا الدم استحاضة بلا اشكال .

ص: 16

فتعلمُ اجمالاً أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام - مثلاً - فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساكُ عن دخول المساجد وقراءة العزيمة تمام الشهر ، أم لا ؟ وكما اذا علم التاجرُ اجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساكُ عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا ؟ .

-------------------

وحينئذٍ : ( فتعلمُ اجمالاً أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام - مثلاً - ) لكنّها لا تعلم هل هو في أول الشهر ، أو في وسط الشهر، أو في آخره ، أو ما بين ذلك ؟ .

وعليه ( فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساكُ عن دخول المساجد وقرائة العزيمة ) ومسّ كتابة القرآن وماأشبه ذلك في ( تمام الشهر ، أم لا ) يجب؟ وهذا البحث إنّما هو لمعرفة الحكم حسب مقتضى الاصل مع غض النظر عن الدليل الخاص، فان احكام المضطربة حتى مثل هذه مذكورة في الفقه حسب الروايات، أو مراجعة الاقران، أو ما اشبه ذلك .

( وكما اذا علم التاجرُ اجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ) أو معاملة غير جائزة كمعاملة الميتة ، أو ما أشبه ذلك ( فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات ) أو لم يعرف موضوعه بان يعلم انه ميتة او مذكاة ، فهل يجب الامساك ( في يومه أو شهره أم لا ) يجب عليه الامساك بل يصح له التعامل طول الشهر ؟ .

في المسألة احتمالات اربعة :

الأول :الامساك طول الشهر وهو مقتضى العلم الاجمالي .

الثاني : الارتكاب طول الشهر وهو مقتضى خروج ما عدا الموجود بالفعل عن محل الابتلاء ، فان اول الشهر - مثلاً - وان كان احد الاطراف الاّ انه ما عدا أول

ص: 17

التحقيقُ أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلاً والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعةً ، وعدمِهِ

-------------------

الشهر خارج عن محل الابتلاء فيجري في اول الشهر أصل البرائة بلا معارض والجريان إنّما هو من الشك البدوي ، وهكذا في بقية أيام الشهر ، فيجوز حينئذٍ ارتكاب الجميع .

الثالث : التخيير الابتدائي أو الاستمراري في حصر الحرام بوقت خاص كأول الشهر - مثلاً - والجريان عليه او تغييره في الاشهر المتعددة ، أو المعاملات المتعددة ، وهو مقتضى الجمع بين حقه في التصرف وحق اللّه سبحانه تعالى في المنع .

الرابع : الارتكاب الى أن تبقي ثلاثة أيّام من الشهر ، او الى ان تبقى معاملة واحدة مجهولة ، حيث يحصل العلم بأن الحرام اما فيما سبق ، او في هذه الاخيرة ، وهو مقتضي كون العلم منجزا للتكليف .

وهناك بعض الاحتمالات الاخر مثل : القرعة والعمل بالظن ، وقاعدة الانصاف في موارده ، الى غير ذلك .

ولا يخفى : ان مثل هذا الأمر يأتي أيضا فيما اذا لم يقدر على القيام في الصلاة الاّ في ركعة واحدة - مثلاً - فهل يأتي بالركعة من قيّام أولاً أو يتخيّر بينها ؟ وكذا اذا لم يتمكن من صيام كل الشهر ، فهل يجوز أن يفطر أوّل الشهر أو اللازم تأخير الافطار الى وقت الاضطرار ؟ .

( التحقيقُ أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلاً ) أي : المجتمعات في الزمان ( والموجودات تدريجا ) أي : المتفرقات في أزمنة متعددة ( في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعةً ، وعدمِهِ ) أي : عدم كون الابتلاء دفعة بل تدريجا ، فانّه لا فرق بين الابتلاء الدفعي والتدريجي في وجوب

ص: 18

لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب .

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعةً في التدريجيات ، كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فانّ قول الشارع : « فَاعتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ وَ لاَ تَقربُوهُنَّ حَتَّى

-------------------

الاجتناب عن الجميع .

وانّما لا فرق بينهما ( لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب ) وهو : العلم الاجمالي وفعلية التكليف على التقديرين ، فانّ العقلاء لا يفرّقون في وجوب الاجتناب بين قول المولى : لا تشرب هذا الماء وتردد بين الماء في الاناء الأبيض أو الماء في الاناء الأحمر ، وبين قول المولى : لا تشرب هذا الماء، وترددّ بين ان قال له : لا تشربه هذا اليوم أو لا تشربه غدا .

كما ان الشأن كذلك في وجوب الاحتياط في باب الأوامر : بأن قال له المولى : صلّ هذا اليوم وتردّد بين الظهر أوالجمعة ، أو قال له : صلّ وتردّد في انّه يجب عليه الصلاة هذا اليوم أو الصلاة غدا ؟ .

وكذلك الحال في القسم الثالث : وهو ما اذا كان امر ونهي وتردّد بينهما هذا اليوم ، أو تردّد بينهما في كون هذا اليوم الأمر وغدا النهي - مثلاً - ؟ .

( نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعةً في التدريجيات ) كمثال الحيض وما أشبه ذلك ، فيقال : بأنه لا يمكن فيها كون التكليف فعليا ، لان فعلية التكلّيف متوقفة على فعلية المكلّف به ولا فعلية للمكلف به ( كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحايض قبل زمان حيضها ممنوع ) فلا تكليف فعليّ به .

وعليه: ( فانّ قول الشارع: « فَاعتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ وَ لاَ تَقربُوهُنَّ حَتَّى

ص: 19

يَطهُرنَ » ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ، اذ التركُ قبل الابتلاء حاصلٌ بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب بهذا الخطاب ، كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ، ولا يشمل العزّاب ، إلاّ على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض .

ويشكل الفرق بين

-------------------

يَطهُرنَ » (1) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحايض ) لا انّه يشمل في الحال الحاضر الحيض المستقبل ، فانه لا يقال للخروج في شهر شعبان : يحرم عليك الوطي ويراد بذلك الوطي في شهر رمضان .

وإنّما يكون ظاهرا في وجوب الكف عند الابتلاء ( اذ التركُ قبل الابتلاء حاصلٌ بنفس عدم الابتلاء ) فانّ عدم وطي المرأة قبل الحيض أمر قهري في أنه لايكون وطيا في حال الحيض ( فلا يطلب بهذا الخطاب ) لأنه اذا طلب كان من تحصيل الحاصل .

والحاصل : ( كما أنّه ) اي : الخطاب بترك وطي الحائض ( مختصّ بذوي الأزواج ، و ) ذلك بان تكون له زوجة وهي حائض ، لا الذي ليس له زوجة ، أو له زوجة لكنها منقطعة - مثلاً - فانه لا يشمله الخطاب بترك وطيها ، وكذلك لا يشمله الخطاب بترك وطيها ان لم تكن حائضا بالفعل .

إذن : فالخطاب بترك وطي الحائض ( لايشمل العزّاب إلاّ على وجه التعليق ) وذلك بأن يقول ان ابتليت بزوجة حائض فاترك وطيها ، فانه كما يختص الخطاب بذوي الازواج ( فكذلك من ) تزوج وهو ( لم يبتل بالمرأة الحائض ) فانّه لايشمله الخطاب : ايضا الاّ على وجه التعليق .

( و ) لكن اذا قلنا بعدم تنجز التكليف بالنسبة الى الحيض ( يشكل الفرق بين

ص: 20


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

هذا وبين ما اذا نذر ، أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليليتن أو أزيد .

ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين .

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية ، فالظاهرُ جواز المخالفة القطعيّة ،

-------------------

هذا وبين ما اذا نذر أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليليتن أو أزيد ) فانّ الفقهاء يوجبون الاحتياط هنا ، مع ان شبهة عدم فعلية التكليف على كل تقدير آت في النذر والحلف ايضا .

هذا ( ولكن الأظهر هنا ) في باب النذر واخويه من العهد واليمين : ( وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين ) وهي مسألة حرمة الرّبا التي يبتلي بها المكلّف في عدة معاملات في يومه او في عدة أيام .

وإنّما فرّق المصنِّف بين الأمرين ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر وحرمة الربّا ليسا متعلقين بزمان في الدليل الشرعي ، بل هما مطلقان ، مثل قوله تعالى « يُوفُونَ بالنَّذْرِ » (1) وقوله سبحانه : « يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا اتَّقوُا اللّهَ وَ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا » (2) بخلاف الوطي في حال الحيض ، فان حرمته مقيدة بالوقت الخاص ومن المعلوم : ان المشروط لا يتقدّم على شرطه .

( وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية ) في مثل وطي الحائض ( فالظاهرُ : جواز المخالفة القطعيّة ) بالنسبة إلى الزوج والزوجة

ص: 21


1- - سورة الانسان : الآية 7 .
2- - سورة البقرة : الآية 278 .

لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري فى خصوص ذلك المشتبه اباحة وتحريما .

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى اصالة الاباحة ، لعدم جريان استصحاب الطهر .

-------------------

( لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنّسبة إليه ) أي : إلى كل من الرجل والمرأة لما عرفت : من عدم كون التكليف فعليا على كل تقدير.

إذن : ( فالواجب : الرّجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه ) وعدّ العلم الاجمالي كأن لم يكن ، فلا يجب الاحتياط البعضي ولا الكلي بل يرجع الى الاصل فيه ( اباحة وتحريما ) أي : سواء كان الاصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه هو : الاباحة أم هو التحريم ، لانّه حيث يسقط مقتضى العلم الاجمالي يكون مسرحا للاصول .

وعليه : ( فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر ) لليقين بالطهر أوّلاً ، والشك في المحيض لاحقا ، فتتم أركان الاستصحاب فيجري الطهر ، ( إلى أن يبقى مقدار الحيض ) وهو الأيام الأخيرة من الشهر ( فيرجع فيه ) اي : في ذلك المقدار الباقي ( إلى اصالة الاباحة ) لا الى اصالة الطهارة وذلك ( لعدم جريان استصحاب الطهر ) لليقين بارتفاع الطهر اما بالدم السابق أو بهذا الدم ، ومثل هذا لايكون مجالاً للاستصحاب .

وكذا لايجري استصحاب الحيض ايضا لعدم اليقين بالحيض ، كما انه لا يكفي استصحاب الطهر الى بقاء مقدار الحيض ، حتى نحكم بكون الباقي حيضا ، لان هذا من اللوازم العقلية، واللوازم العقلية لا تثبت بالاستصحاب كما حقّق في محله.

ص: 22

وفي المثال الثاني الى أصالة الاباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ فى كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها ، وعدم ترتّب الأثر عليها ، لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ، ولذا يفسد في حق القاصر بالجهل

-------------------

( و ) يرجع ( في المثال الثاني ) وهو مثال الربا من حيث التكليف ( الى اصالة الاباحة ) حيث نشك في ان هذا العمل حرام أو حلال فالاصل الاباحة .

( و ) يرجع من حيث الوضع إلى أصالة ( الفساد ) من جهة الشك في الصحة والفساد الوضعيين ، والاصل عدم تحقّق المعاملة حتى يقوم الدليل على تحققها ، فانّ المعاملة أمر حادث اذا شك فيها فالاصل عدمها .

وعليه : ( فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها ) من حيث التكليف ، لجريان اصالة الاباحة ( وعدم ترتّب الأثر عليها ) من حيث الوضع فتكون كأن لم تكن .

وانّما يحكم بذلك ( لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ) حتى اذا قلنا بالاباحة نقول بالصحة ، واذا قلنا بالحرمة نقول بالفساد ، فانّ فساد المعاملة ليس من لوازم حرمتها ، كما ان صحة المعاملة ليست من لوازم اباحتها ، ولهذا نقول بصحة المعاملة وقت النداء وان كانت حراما .

هذا وقد تحقق في باب النواهي : ان تحريم المعاملة لا يدل على فسادها ، وكذلك العكس بالعكس ، لان كل واحد من الصحة والفساد ، والاباحة والحرمة حكم مستقل مستفاد من الدليل ، فلا تلازم بينهما .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من ان فساد الربا ليس دائرا مدار الحرمة ( يفسد ) الربا ولايحرم ( في حق القاصر بالجهل ) اي : اذا كان لا يعرف حرمته لجهله جهلاً

ص: 23

والنسيان والصغر على وجهٍ ، وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود وإن قلنا بجواز التمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه ؛

-------------------

قصوريا ( والنسيان والصغر على وجهٍ ) وهو - كما قال به بعض - مبني على عدم كون الصغر مانعا عن صحة المعاملات .

وعليه : فاذا تعامل الصغير بالربا فسدت معاملته ، لكن لم تحرم عليه ، فان بين الفساد والحرمة عموم من وجه ، فقد يحرم ويفسد كمن عقد على أمّه عالما عامدا، فان نفس الصيغة محّرم اجرائها ، وقد يحرم ولايفسد كالبيع وقت النداء ، وقد يفسد ولا يحرم كالبيع الربوي للجاهل والمكرَه والناسي وما اشبه حسب ما يستفاد من الأدلة .

لا يقال : كيف تقولون بأنّ كل واحد من المعاملات التدريجية المحتملة للربا مباحة ، لكنها فاسدة من جهة استصحاب عدم انعقاد المعاملة مع ان المشهور : انّ الاصل في المعاملات المشكوك صحتها : الصحة لا الفساد ، وذلك لانه يشمله عموم : « أوفوا بالعقود » (1) ولا يعلم بالاستثناء فيه للشك في كونه ربا ، فهو حينئذٍ من التمسك بالعام فيما اذا كانت شبهة مصداقية بالنسبة الى الخاص وهو الاستثناء .

لأنّا نقول : هنا مورد التمسك باستصحاب البطلان لا بعموم « اوفوا بالعقود » ( و ) ذلك لانّه ( ليس هنا مورد التّمسّك بعموم صحة العقود وان قلنا بجواز التّمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه ) مثل ما اذا قال المولى : اكرم العلماء وقال : لا تكرم الفساق منهم ، ثم شك في فرد انه فاسق ام لا مع علمنا بانه عالم ، فانه يتمسك فيه بأكرم العلماء ، لانّ دخوله في اكرم العلماء مقطوع به

ص: 24


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

للعلم بخروج بعض الشّبهات التدريجيّة عن العموم لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد .

اللّهم إلاّ أنّ يقال : أنّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة ، كما لايقدح فى اجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في الاصول اللفظيّة ،

-------------------

وخروجه بسبب الفسق مشكوك .

وإنّما قلنا : انه ليس هنا مورد التمسك بعموم صحة العقود ( للعلم بخروج بعض الشّبهات التّدريجيّة عن العموم ) علما اجماليا ، فالمقام من قبيل اكرم العلماء ولاتكرم الفساق منهم ، ثم علمنا بان زيدا أو عمرا فاسق فانّه لا يجوز التمسك باكرم العلماء لاكرامهما لانه نعلم بخروج أحدهما .

وإنّما نعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية من العموم ( لفرض العلم بفساد بعضها ) اي :بفساد بعض هذه المعاملات التدريجية ( فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها ) اي : الى تلك المشتبهات التي نعلم اجمالاً بوجوب الربّا في بعضها ( ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد ) فانه اذا سقط العام يكون المرجع الاصول ، والاصول هنا هو : استصحاب الفساد .

( اللّهم إلاّ أنّ يقال : انّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في اجراء الاصول العمليّة فيها ) على ماذكرناه ( كذلك لا يقدح في ) اجراء ( الاصول اللّفظيّة ) ايضا ، لانّ المانع عن التمسك بالعام انّما يكون اذا كانت الاطراف دفعية مثل المثال السابق وهو ما لو قال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ثم علمنا ان زيدا أو عمرا فاسق ؛ لا فيما اذا كانت الافراد تدريجيّة كالمعاملة الربوية في المثال .

ص: 25

فيمكن التّمسك فيما نحن فيه لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظية والعمليّة ، فتأمّل .

السابع :

قد عرفتَ أنّ المانع من إجراء الاصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و

-------------------

وعليه: ( فيمكن التّمسك فيما نحن فيه ) من المعاملات التدريجية ( لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ) ومن المعلوم : انّ أصالة العموم مقدمة على الاستصحاب ، لان الاصل أصيل حيث لا دليل .

( لكنّ الظاهر : الفرق بين الاصول اللفظية ) فلا تجري في اطراف الشبهة ( والعمليّة ) فتجري في أطراف الشبهة .

قال بعض المحشين في وجه الفرق : ان مبنى الاصول اللفظية على فهم العرف وامضاء الشارع لهم في فهمهم وهم متوقفون من العمل بالعموم في امثال المقام ، بخلاف الاصول العملية فانها تدور مدار عدم الفرق .

( فتأمّل ) ولعله اشارة الى عدم الفرق ، اذ الفرق المذكور غير تام ، فانه كما لاتجري الاصول اللّفظية في أطراف العلم الاجمالي المخصص للعام لاجل العلم الاجمالي ، كذلك لاتجري الاصول العملية لاجل العلم الاجمالي ايضا ، فانّ العلم الاجمالي مانع عن جريان كلّ من الاصول ، لفظية كانت أو عملية .

( السابع ) من التنبيهات : ( قد عرفتَ : انّ المانع من اجراء الاصل في كلّ من المشتبهين ) أو المشتبهات ( بالشبهة المحصورة هو : العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و ) ذلك لما مرّ : من تنجّز التكليف بسبب العلم ، سواء كان

ص: 26

هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالاً بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه .

وهذا من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو أنّ هذا الثوب مغصوب .

وقد عرفت في الأمر ألاوّل انّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم

-------------------

العلم اجماليا أم تفصيليا ، ويدل على ذلك العقل الحاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل في كل واحد منهما ، والشرع الآمر بالاحتياط فيها.

ثم ان ( هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما ) بأن علم - مثلاً - أنّ احد الانائين خمر ، أو أنّ احدهما نجس، أو أنّ احدهما إمّا خمر وإمّا نجس ، الى غير ذلك .

( وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم اجمالاً بحرمة أحد لباسيّ الرجل والمرأة عليه ) وذلك حسب قول المشهور ، حيث قالوا : بانه يحرم على الرجل لباس المرأة ، ويحرم على المرأة لباس الرجل ، وهذا الخنثى يعلم بحرمة احد اللباسين عليه ، لانه يعلم بتوجه خطاب اليه :بأن لا تلبس ملابس النساء ، اولا تلبسي ملابس الرجال ، فيجب عليه الاحتياط بترك اللباسين .

( وهذا ) في الخنثى ( من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو انّ هذا الثوب مغصوب ) لما مرّ : من انه لا يلزم وحدة نوع التكليف ، فان نوع تكليف المرأة غير نوع تكليف الرجل ، لكن بعد العلم الاجمالي بأحد التكليفين يكون الواجب على الخنثى الاجتناب عنهما ، كما قال :

( وقد عرفت في الأمر الأوّل : انّه لا فرق ) عقلاً ( بين الخطاب الواحد المعلوم

ص: 27

وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين .

وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشفُ كلّ من قبليه ، لأنّ أحدهما عورة قطعا ، والتكلّم مع الرجال والنّساء إلا لضرورة ، وكذا استماع صوتهما ، وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها

-------------------

وجود موضوعه بين المشتبهين ) كالخمر الدائرة بين احد الانائين ( وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين ) كالخمر والغصب الّذين يعلم المكلّف وجود احدهما في موضوع واحد أو في موضوعين .

( وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشفُ كلّ من قبليه ) سواء الرجولية منها أم الانوثية لمن يتخذه زوجا أو زوجة ، لانّ الرجل يحرم كشف قُبله للرجال لا لزوجته ، والمرأة يحرم كشف قُبلها للنساء ، لا لزوجها ، والخنثى يعلم اجمالاً بأنه مكلّف بأحدهما .

إذن : فلايجوز للخنثى كشف كل من قبليه لكل من الرجل وان اتخذه زوجا ، وللمرأة وان اتخذه زوجة ( لأنّ أحدهما عورة قطعا ) فيعلم اجمالاً يتوجه واحد من خطابي : « يَحفَظُوا فُرُوجَهُم » (1) و « يَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ » (2) اليه .

( و ) يحرم ايضا ( التكلّم ) اي : تكلم الخنثى ( مع الرجال والنّساء إلا لضرورة ) ان قلنا بحرمته ، لكن المشهور على عدم الحرمة ، ويدل عليه : تكلم النساء مع الرسول والائمة عليهم السلام وتكلمهم معهن .

( وكذا ) يحرم على الخنثى ( استماع صوتهما ) أي صوت كل من الرجل

ص: 28


1- - سورة النور : الآية 30 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

بل النظر إليها ، لاصالة الحّل ، بناءا على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ، وعدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة على النساء ،

-------------------

والمرأة ان قلنا بالحرمة ، ولكن الشهور لايقولون بالحرمة ايضا .

هذا بالنسبة الى تكليف الخنثى ، وأمّا تكليف الاخرين بالنسبة الى الخنثى ، فكما قال : ( وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها لاصالة الحّل ) وذلك لانهما بالنسبة الى الخنثى كواجدى المني في الثوب المشترك ، فانّ الرجال لايعلمون انّ الخنثى امراة ، والنساء لا يعلمن انه رجل ؛ ولذا كان لكل واحد من الرجل والمرأة اجراء اصل الحل بالنسبة الى استماع صوت الخنثى والنظر اليه .

ثم انّ المصنِّف جاء بلفظ « بل » الاضرابية ، لانّ جواز نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى محل كلام ، امّا بالنسبة للرجل : فلانه اذا قلنا بعموم قوله تعالى : « يَغُضُّوا مِن اَبَصارهِم » لكل منظور اليه الاّ ما خرج ، حرم نظر الرجل الى الخنثى ، لانه لا يعلم ، بخروج الخنثى ، امّا اذا قلنا بأن الآية ليست بهذا الصدد ، وذلك ( بناءا على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ) فلا تشمل النظر الى الخنثى ، اذ القدر المتيقن من دلالة الآية حرمة نظر الرجل الى النساء الاجنبيّات ، فيكون الاصل في النظر بالنسبة الى الخنثى هو الحلية .

( و ) اما بالنسبة للمرأة : فلانه ايضا لايجوز لها النظر الى الخنثى الاّ بناءا على ( عدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة ) واظهارها للخنثى ( على النساء ) فان قوله تعالى : « لاَيُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ » (1) معناه : لايبدين زينتهن للرجال ، ولا تعلم المرأة ان الخنثى رجل فيجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، واذا جاز لها ذلك جاز لها النظر الى الخنثى أيضا .

ص: 29


1- - سورة النور : الآية 31 .

لاشتباه مصادق المخصّص .

-------------------

والحاصل : لايقال : ان النظر لكل من الرجال والمرأة الى الخنثى غير جائز ، امّا عدم جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعموم « يغضّوا » الشامل لغضّ الرجل عن المرأة وعن الخنثى .

وامّا عدم جواز نظر المرأة الى الخنثى ، فلعموم « يغضضن » على التقريب السابق في « يغضّوا » ، ولعموم حرمة ابداء الزينة ، وذلك بتقريب : انّ حرمة ابداء الزينة جاءت من جهة حرمة نظر المرأة الى الغير ؛ فانه كلّما لم يجز لها ابداء الزينة لأحد لم يجز لها النظر اليه ، وحيث ان المرأة لايجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، فلايجوز لها النظر اليه ايضا .

لانّه يقال : يجوز النظر لكل من الرجل والمرأة الى الخنثى .

أمّا جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعدم العموم في « يغضّوا » .

وأمّا جواز نظر للمرأة الى الخنثى : فلعدم عموم « يغضضن » وكذا لعدم جواز التمسك بعموم آية الزينة ، فان آية الزينة تشمل حرمة نظر المرأة الى الرجل ، للتلازم بين حرمة ابداء الزينة وحرمة نظرها اليه ، امّا حرمة ابداء المرأة زينتها للخنثى ، فلا تشمله حتى يكون نظرها الى الخنثى محرّما أيضا .

وانّما لايشمل عموم آية الزينة الخنثى ( لاشتباه مصادق المخصّص ) فانّ المرأة لاتعلم ان الخنثى رجل او امرأة ولعله امرأة ، فلايصح التمسك بالعام عندها ، فيجوز لها ابداء زينتها للخنثى ، كما يجوز لها النظر اليها .

هذا غاية ما وصل فهمنا اليه من كلام المصنِّف في إبداء الزينة .

ثم ان الأوثق ذكر هنا نكتة في اختلاف تعبير المصنِّف بين قوله « بناءا على عدم العموم في آية الغض للرجال » وبين قوله « وعدم جواز التمسك بعموم

ص: 30

...

-------------------

آية حرمة ابداء الزينة على النساء » من قوله سبحانه : « وَ قُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبصَارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنهَا ، وَليَضْرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ، وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبائهنّ أو آباء بعولتهِنَّ أو أبنائِهنَّ أو أبناء بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهنَّ أو بني أخواتهنَّ أَو نِسَائِهِنَّ ، أَو مَا مَلَكَت أَيَمانُهُنَّ... » (1) الى آخر الآية ، ما لفظه :

« ولا يذهب عليك : ان الأمر بوجوب الغض للنساء كآية الأمر بغض البصر للرجال ليس له عموم ، بخلاف النهي عن ابداء الزينة ؛ فانّ له عموما بقرينة الاستثناء ، ولذا غيّر اسلوب العبارة ؛ فبنى الأمر في الآية الاولى على عدم العموم ، وفي هذه على عدم جواز التمسك بالعموم في المقام نظرا الى كون الشبهة مصداقية ، وظاهره : تسليم العموم هنا خاصة . وكذا قد جعل بناء الاستدلال في الاولى على الأمر بالغض ، وهنا على حرمة ابداء الزينة مع الأمر بالغض أيضا ، فمقتضى العموم : حرمة النظر الى النساء على كل من الرجال والنساء ، واذا انضمت اليه حرمة نظر النساء الى الرجال ، كما هو مقتضى صدر الآية - لأنه وإن لم يكن له عموم كما تقدّم الاّ أن هذا متيقن منه - يثبت بمقتضى صدر الآية والمستثنى منه في ذيلها : حرمة نظر كل من الرجال والنساء الى النساء ، ونظر النساء الى الرجال ، وقد استثنى من ذلك جواز نظر النساء الى امثالهن .

وعليه : فاذا نظرت المرأة الى الخنثى ، فان كانت الخنثى مؤنثا في الواقع يكون هذا النظر حلالاً ، وان كان مذكرا كان حراما ، وحيث فرض تردّدهابينهما كانت الشبهة في الحكم لاجل الشبهة في مصداق موضوعه في الخارج ، فلا يجوز

ص: 31


1- - سورة النور : الآية 31 .

وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصلُ عدم تأثير العقد و وجوب حفظ الفرج .

ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ، إمّا لانصرافها إلى غيرها ،

-------------------

التمسك بالعموم حينئذٍ ، وهذا غاية توجيه المقام » (1) الى آخر كلام الاوثق .

( وكذا ) من احكام الخنثى : انه ( يحرم عليه التزويج والتّزوج ) لانه يعلم اجمالاً بحرمة احدهما عليه ، وذلك ( لوجوب احراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصل ) عند الشك في الموضوع يعني : رجولية الزوج أو انوثية الزوجة عدم صحة العقد ، لاحتمال ان يكون العقد بين رجلين ، او بين امرأتين ، فالاصل ( عدم تأثير العقد و وجوب حفظ الفرج ) فانّه لايجوز اباحة الفرج الاّ للزوجين .

ثم ان صاحب الحدائق مع انه يرى الاحتياط في الشبهة المحصورة ، قال بالبرائة في مسألة الخنثى بالنسبة الى التكاليف المختصة بالرجال أو بالنساء ، فلايجب الاحتياط على الخنثى احتياطا من جهة العلم الاجمالي ، وذكر لذلك وجهين :

الاول : انصراف التكاليف المختصة الى غير الخنثى .

الثاني : اشتراط التكاليف المختصة بمن يعلم تفصيلاً توجّه الخطاب اليه .

والى الوجه الاول اشار المصنِّف بقوله : ( ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التّكليفيّة المختصّة ) بالرجال والنساء ( إليها ) اى : الى الخنثى ، وذلك ( امّا لانصرافها ) اي : انصراف تلك الخطابات ( إلى غيرها ) اي : الى غير الخنثى

ص: 32


1- - أوثق الوسائل : ص342 حصول المشتبهات تدريجيا .

خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلاً ، وإن كان مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلاً ، لأنّ الخطابين بشخص واحد

-------------------

من الاشخاص الذين هم معلوم رجولتهم أو انوثتهم ، فانه هو المستفاد في النصوص لكثرة اولئك وقلّة الخناثى .

( خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ) فانه منصرف الى تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال ، امّا الخناثى فلا يشملهنّ تلك الخطابات .

وأشار الى الوجه الثاني بقوله : ( وامّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلاً ) فانه يشترط في تنجّز التكليف ان يعلم المكلّف بأنّ الخطاب موجّه اليه ، فلا يكفي أن يعلم المكلّف اجمالاً بانه مخاطب إمّا بهذا الخطاب ، أو بذاك الخطاب ، كعلم الخنثى بتوجّه احد الخطابين اليه ، فانه لايتنجز التكليف في حقه .

وعليه : فالتكليف مشترط بالعلم بتوجه الخطاب التفصيلي الى المكلّف ( وإن كان ) الخطاب التفصيلي الموجّه الى المكلّف ( مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلاً ) كما اذا علم بأنّه مخاطب إمّا باجتناب الخمر وإمّا باجتناب الغصب ، حيث يعلم ان هذا الاناء خمر أو غصب ، فانه يعلم تفصيلاً بتوجه الخطاب اليه ، وان كان متعلق الخطاب مردّدا بين الخمر والغصب فيتنجّز التكليف عليه .

وانّما يشترط في تنجز التكليف : العلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه وان كان مرددا بين خطابين ، كفاية العلم بالتوجه الاجمالي ( لأنّ الخطابين بشخص واحد

ص: 33

بمنزلة خطاب واحد بشيئين ، اذ لا فرق بين قوله : « اجتنب عن الخمر » و : « اجتنب عن مال الغير » ، وبين قوله : « اجتنب عن كليهما » ، بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما .

لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة

-------------------

بمنزلة خطاب واحد بشيئين ) فاذا تردّد الخطاب بين أمرين فتمسّك المكلّف بالبرائة ، علم بانه خالف خطابا تفصيليا ( اذ لافرق بين قوله : « اجتنب عن الخمر » و « اجتنب عن مال الغير » ، وبين قوله : « اجتنب عن كليهما » ).

وعليه : فكما يجب على المكلّف الاجتناب في الصورة الثانية فيما اذا قال : « اجتنب عن كليهما » حيث يعلم تفصيلاً بتوجه الخطاب اليه ، فكذلك يجب الاجتناب فيما كان الخطاب التفصيلي مردّدا بين خطابين موجّهين اليه كما في الصورة الاولى فيما اذا قال : « اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن مال الغير » فان الخطابين الذين يعلم المكلّف توجههما اليه من الشرع يكونان بمنزلة خطاب واحد .

( بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما ) كالخنثى حيث يعلم المكلّف انه داخل إمّا تحت خطاب الرجل وإمّا تحت خطاب المرأة ، فانه هنا لايرجع الخطابان الى خطاب واحد حتى يلزم مخالفة خطاب تفصيلي فيما لو تمسك الخنثى بالبرائة فيهما .

وعليه : فهو كما اذا قال المولى : العبيد من اهل النوبة يصلّون ، والعبيد من اهل الصقلية يصومون ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل ايّ البلدين ؟ فانه حيث لايعلم بتوجه ايّ الخطابين اليه يجري البرائة من الصلاة والصوم ولا شيء عليه .

هذا ( لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ) التي ذكرها بقوله : « وامّا

ص: 34

ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزّنا والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى .

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ، فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدمُ جواز إجراء أصل الاباحة في المشتبهين ،

-------------------

لاشتراط التكليف بعلم المكلّف ...» ( ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج ) لكل من الرجل والانثى ( عن الزّنا ، والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى ) .

وإنّما قال بضعف كل من الدعويين ، لانه لا وجه للانصراف الذي هو أول دعويين الحدائق ، فان ندرة وجود مجهول الرجولية والانوثية وكثرة معلومهما لايوجب الانصراف ، وإنّما الذي يوجب الانصراف الى بعض الأفراد دون بعض ، هو كثرة الاستعمال وهي منتفية هنا .

ثم انه لوكان ندرة الوجود سببا للانصراف لم يجب على الخنثى ايّ تكليف ، لانّ التكاليف منصرفة الى الرجال والنساء من اول الصلاة الى آخر الديات على ماذكر .

( وكذا ) يكون ضعيفا ( دعوى اشتراط ) تنجّز ( التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ) الى المكلّف بضميمة : ان الخنثى لايعلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه ممّا ذكره في دعواه الثانية ، فلايتنجّز التكليف في حقه .

وإنّما تكون هذه الدعوى ضعيفة ايضا لانه كما قال : ( فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة : عدم جواز اجراء أصل الاباحة في المشتبهين ) وهذا هو الميزان العقلي لوجوب الاطاعة ، ومناطه هو دفع الضرر المحتمل بعد

ص: 35

وهو ثابت فيما نحن فيه ، ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد .

فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ،

-------------------

حكم العقل بتنجز التكليف بالعلم الاجمالي على المكلّف ( وهو ) أي : المناط المذكور ( ثابت فيما نحن فيه ) من مسألة الخنثى .

وإنّما يكون المناط وجوب الاحتياط ثابت في الخنثى ( ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد ) فان الخنثى لايشك أبدا في انه مقصود بخطاب حفظ فرجه إمّا من باب انه رجل ، وإمّا من باب انه امرأة ، ومن المعلوم : ان العقل مستقل بتنجّز التكليف بهذا العلم الاجمالي ؛ فيجب الاحتياط : ولا يجوز له اجراء أصالة الحل .

إذن : فالمقام من قبيل أن يقول المولى : يا أيها العبيد من أهل النوبة احفظوا فروجكم ، ويا أيها العبيد من اهل الصقلية احفظوا فروجكم ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل الصقلية أو من اهل النوبة ؟ فانه لايشك في وجوب حفظ فرجه ، لانّه سواء كان من هذا الصنف أو من ذاك الصنف ، فقد وجب عليه حفظ الفرج بالخطابين الصادرين من المولى .

وعليه : ( فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ) في وجوب جمعه بين القصر والتمام ، لانّ المسافر مخاطب بالقصر ، والحاضر

ص: 36

لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما .

-------------------

مخاطب بالتمام ، والتردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا إنّما حصل له ( لبعض الاشتباهات ) الخارجية ، بأن كانت الشبهة موضوعية .

مثلاً : لو لم يعلم بأن الفاصلة بين بلده ومقصده هل هي ثمانية فراسخ ام لا ؟ فانّه يعلم اجمالاً بتوجه واحد من خطابي الحاضر والمسافر اليه ، فيكون التكليف بالصلاة منجزا عليه ، لكن المكلّف به مشكوك ، والشك في المكلّف به مورد الاحتياط ان امكن الاحتياط فيه ( فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما ) لما عرفت : من ان العقل يلزمه - من باب دفع الضرر المحتمل - بامتثال الخطابين .

هذا ، ولكنّا ألمعنا سابقا في هذا الكتاب وفي كتاب النكاح من الفقه : الى ان الخنثى المشكل ليس قسما ثالثا ، فهو مكلف بأحد التكليفين بعد كونه رجلاً أو امرأة .

إذن : فمختارنا هو : ان الخنثى مخيّر في ان يجعل نفسه من الرجال أو من النساء ، فيجري على نفسه كل تكاليف الرجل ، أو كل تكاليف المرأة .

وعلى غير الخنثى معاملة الخنثى حينئذٍ بما اختاره هو لنفسه من كونه رجلاً او امرأة ، ويدل عليه : « الناس مسلطون على أنفسهم » (1) وقد ذكر ذلك بعض الفقهاء ، كما يظهر من مبسوط الشيخ ، ولو لم نقل بذلك فلا اقل من القرعة الملحقة له بالرجال أو بالنساء .

ص: 37


1- - المستفاد من قوله تعالى : «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» سورة الاحزاب : الآية : 6 .

الثامن :

انّ ظاهر كلام الأصحاب التسويةُ بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ، لأنّ المفروض : عدمُ جريان الأصل فيهما ،

-------------------

( الثامن : ) من التنبيهات انه ربمّا يتوهم : ان الرجوع الى الاحتياط الذي هو مقتضى العلم الاجمالي انّما يكون فيما اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين - مع قطع النظر عن العلم الاجمالي - هو : الحلية ، فانّ في مثل هذا المقام يجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، كما اذا كان هناك اناءان طاهران ثم تنجس احدهما ، ففي هذه الصورة يقتضي العلم الاجمالي الاحتياط عنهما .

وامّا اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين الحرمة ، فيجب اجتنابهما لا للعلم الاجمالي ، بل لأصالة الحرمة فيهما ، كما اذا كان هناك اناءان نجسان ثم طهّر أحدهما ، فانه يستصحب نجاسة هذا الاناء ونجاسة ذاك الاناء فيجب اجتنابهما لمقتضى أصل النجاسة ، لا لمقتضى العلم الاجمالي القاضي بالاحتياط .

لكن هذا التوهم ليس في محله وذلك كما قال : ( انّ ظاهر كلام الأصحاب ) حيث يستدلون للاحتياط بتعارض الأصلين وتساقطهما ( التسويةُ بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه ) مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ( هو الحلّ ) كمائين طاهرين علم بنجاسة أحدهما ، وزوجتين علم بطلاق احداهما وما أشبه ذلك . ( أو الحرمة ) كمائين نجسين علم بطهارة احدهما ، وكامرأتين اجنبيتين علم بتزويج احداهما .

وانّما قال الاصحاب بالتسوية بين كون الاصل : الحل أو الحرمة ( لأنّ المفروض : عدمُ جريان الأصل فيهما ) اي في طرفي العلم الاجمالي في كِلا

ص: 38

لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده كعدمه .

ويمكن الفرقُ من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام وتخصيص الجواز بالصورة الاُولى ، ويحكمون في الثّانية بعدم جواز الارتكاب ، بناءا على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ،

-------------------

الفرعين ، وذلك ( لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده ) أي : الاصل ( كعدمه ) في انه لا اثر في كلا الفرعين ، فيكون الاجتناب فيهما واجبا لقاعدة الاحتياط .

هذا ( ويمكن الفرقُ من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام ) حيث قد تقدّم : ان بعض الفقهاء يجوّزون ارتكاب ما عدا الحرام ، فاذا كان اناءان احدهما خمرا قالوا : بجواز شرب أحدهما ، واذا كانت امرأتان احداهما رضيعته قالوا بجواز التزويج باحداهما ( وتخصيص ) هذا ( الجواز بالصورة الاُولى ) فقط وهو ما كان الاصل فيهما الحل .

( و ) اما في الصورة الثانية : فانهم كما قال : ( يحكمون في الثّانية ) وهو ما كان الاصل فيهما الحرمة ( بعدم جواز الارتكاب ) لكل من المشتبهين .

وإنّما يكون هذا الفرق بينهما ( بناءا على العمل بالأصل فيهما ) أي : في الصورتين لابناءا على ما يقتضيه العلم الاجمالي فيهما .

والحاصل : القائلون بالاحتياط يقولون بالاحتياط في الصورتين : امّا القائلون بارتكاب ما عدا مقدار الحرام لدليل الاصل ، فيفرّقون بين الصورتين ، فيجوّزون الارتكاب لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى عملاً بأصالة الحل والطهارة ويوجبون الاجتناب عن الجميع في الصورة الثانية عملاً بأصالة الحرمة والنجاسة في كلا المشتبهين ( و ) يقولون : انه ( لا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ) اي : لايلزم من اجراء الاصلين في الصورتين مخالفة عملية وذلك واضح .

ص: 39

ولا دليلَ على حرمتها إذا لم يتعلق بالعمل ، خصوصا إذا وافق الاحتياط .

إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

-------------------

هذا من حيث المخالفة العملية هنا ، وأمّا من حيث المخالفة الالتزامية : فكما قال : ( ولا دليل على حرمتها ) اي : حرمة المخالفة ( إذا لم يتعلق بالعمل ) وانّما كان بالالتزام فقط ، فان أحد المشتبهين وان كان حلالاً وطاهرا في الواقع الاّ ان الحلال والطاهر يجوز تركه ، فاذا جاز تركه فاجراء اصالة الحرمة في كل من المشتبهين وتركهما معا لا يكون مخالفة عملية لحكم الشارع حتى يكون حراما ، بل يكون مخالفة التزامية حيث لم يلتزم المكلّف بالحل والطهارة ظاهرا ، ولكن لا دليل على حرمته فيكون جائزا .

وعليه : فالمخالفة الالتزامية جائزة ، كما سبق ايضا ( خصوصا إذا وافق الاحتياط ) كما في الصورة الثانية فانّ الأصل في كل من المشتبهين في الصورة الثانية هو : الحرمة والنجاسة فيكون العمل بالاصل فيها موافقا للاحتياط ، وتكون المخالفة الالتزامية فيها أخفّ مما لم يتوافق الاصل فيه مع الاحتياط كما في الصورة الاولى ، فان الاصل في كل من المشتبهين في الصورة الاولى هو : الحلية والطهارة .

ثم إنّ قول المصنِّف : « بناءاً » ، إنّما هو في قِبال ما اذا استفيد حكم الاحتياط في طرفي العلم الاجمالي من روايات الاحتياط ، لاتفرّق بين المشتبهين المسبوقين بالحل والطهارة ، وبين المسبوقين بالحرمة والنجاسة ، فلا يمكن لمن يستند بالروايات في باب العلم الاجماليان يقول بهذا التفصيل ، كما قال : ( إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب ) لما عدا مقدار الحرام في اطراف العلم الاجمالي ( بالأخبار الدالّة على حليّة المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

ص: 40

التعميم ، وعلى التخصيص، فيخرج عن محلّ النزاع . كمالو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذّبيحتين ميتة ،

-------------------

التعميم ) في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام الى كلتا الصورتين ، سواء صورة أصالة الحلية والطهارة فيهما ، ام صورة أصالة الحرمة والنجاسة فيهما ، فيكون النزاع بينهما في الصورتين .

وأمّا قول المصنّف : « ربما » ، فلعله اشارة الى ان مورد بعض الاخبار هو الصورة الاولى فقط ، وذلك بأن يكون مقتضى الاصل فيهما : الحل والطهارة ، كما هو اذا كان كل من المشتبهين في يد مسلم أو في سوق المسلمين وارضهم .

هذا بناءا على تعميم جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام للصورتين ( و ) اما بناءا ( على التخصيص ) أي : تخصيص جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام بالصورة الاولى ، وهو : ما اذا كان الأصل في اطراف العلم الاجمالي يقتضي الحل والطهارة فقط ( فيخرج ) به ما ذكر من الصورة الثانية وهي صورة كون الاصل في الاطراف يقتضي الحرمة والنجاسة ( عن محلّ النزاع ) .

وعليه : فلا تنازع بين الفريقين في الصورة الثانية ، فانّ كل من يحرّم الارتكاب أو يقول بجوازه لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى ، يرى في الصورة الثانية حرمة الارتكاب .

أمّا امثلة الصورة الثانية فهي ( كما لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ) فانّ الاصل في كل منهما هي الحرمة فيما اذا علم اجمالاً بأن احداهما صارت زوجة له.

( أو إحدى الذّبيحتين ميتة ) فانّ الاصل في كل من اللحمين في نفسه هو الحرمة لعدم كون الحيوان الحي مذكى ، فاذا ذكّيت احدى الذبيحتين واشتبهتا جرى اصالة الحرمة في كلا اللحمين .

ص: 41

أو أحدِ المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين محقونَ الدّم ، أو كان الاناءان معلومي النجاسة سابقا ، فَعُلِمَ طهارةُ أحدهما .

وربّما يقال : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر أنّه لم يقل أحدٌ فيها بجواز الارتكاب ، لانّ المنع في مثل ذلك ضروري .

-------------------

( أو أحد المالين مال الغير ) فانّ الاصل في كل مال : الحرمة فيما اذا كان المالان سابقا لغيره ثم صار احدهما له .

( أو أحد الأسيرين محقون الدّم ) فانّ الاصل في الانسان انه محترم الدم ، الاّ ما خرج عن ذلك بالمحاربة ونحوها ( أو كان الاناءان معلوميّ النجاسة سابقا فعُلِمَ طهارةُ أحدهما ) فانّ الاصل في كل منهما في نفسه هو النجاسة .

إذن : فهذه الموارد ونحوها خارجة عن محل النزاع ، اذ لا نزاع بين الفريقين : بين من يقول بوجوب الاجتناب عن كليهما ، ومن يقول بوحوب الاجتناب عن مقدار الحرام منهما فقط : وانّما النزاع بينهما في صورة جريان اصل الحل والطهارة في الاطراف فقط ( وربّما يقال ) والقائل هو المحقق القمي : ( إنّ الظاهر ) من كلمات العلماء : ( انّ محلّ الكلام ) اي : كلام المجوزين في ارتكاب ما عدا مقدار الحرام وكلام المانعين انّما هو ( في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس ) والميتّة ( لا في الأنفس والأعراض ) والاموال العظيمة ، فان فيها يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ، سواء كان الاصل الحلية فحرم بعضها ، ام الحرمة فحّل بعضها .

وعليه : ( فيستظهر انّه لم يقل أحدٌ فيها ) أي : في الأنفس والأعراض والأموال العظيمة ( بجواز الارتكاب ) لبعض اطرافها ( لانّ المنع في مثل ذلك ضروري ) شرعا وعقلاً .

ص: 42

التاسع :

إنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر .

-------------------

وفيه نظر ؛ لأنّ من يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، كلامه مطلق يشمل حتى الاعراض والدماء ، والاموال العظيمة : فانّ القائل بجواز الارتكاب لايفّرق بين الموارد إطلاقا.

( التاسع ) من التنبيهات ( : انّ المشتبه بأحد المشتبهين ) كما اذا كان هناك اناءان أحدهما أبيض ، والآخر أحمر ، ثم اشتبه الأبيض بأبيض آخر ، فلم يعلم ان ايهما هو المشتبه الاصلي وايهما هو المشتبه الفرعي ، فانه يكون ( حكمه حكمهما ) في وجوب الاجتناب .

وإنّما يكون حكمه كذلك ( لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر ) فان في قياس المساوات يشترط ان تكون المقدمة المطويّة صحيحة ، فيصح القياس فيها ، مثل : مقدمة المقدمة مقدمة ، مثل : جزء الجزء جزء ، وما اشبه ذلك ، بخلاف ما اذا لم تصح المقدمة المطوية مثل : الواحدة نصف الاثنين والاثنان نصف الاربعة ، فلا يصح الواحد نصف الاربعة ، لعدم صحة المقدمة المطوية وهي : نصف النصف نصف .

نعم ، اذا بلغ مورد الاشتباه في بعض الاطراف الى حدّ الشبهة غير المحصورة فانه لايجب الاجتناب فيها ، على ما سيأتي بحثه انشاء اللّه تعالى والحاصل : ان العلم الاجماليالمنجّز للتكليف الذي يتوقف تحصيله على الاجتناب عن المشتبهين اذا اشتبه احد هذين المشتبهين أو كلاهما بشيء آخر ، فانه يتوقف حينئذٍ العلم بالاجتناب عنه على اجتناب كل اطراف الشبهة .

ص: 43

...

-------------------

التنبيه العاشر : اذا اضطر المكلّف أو اكره على ارتكاب احد المشتبهين بين علمين اجماليين ، فان لم يكن أحدهما أهم الى حد المنع عن النقيض كان مخيّرا بينهما ، أمّا اذا كان احدهما أهم الى الحد المذكور ، لزم تقديم الأهم على المهم سواء في التحريم أم في الايجاب .

وعليه : فاذا اشتبه - مثلاً - خمر بين انائين ونجس بين انائين ، فانه يجب الاجتناب عن الاربعة ، لكن اذا اضطر الى ارتكاب اناء واحد منها ، فاللازم اختيار ارتكاب واحد من المشتبه بالنجس ، حيث ان النجس اضعف حرمة عن الخمر ، بدليل : ان في شرب الخمر عمدا الحدّ ، وفي شرب النجس التعزير .

هذا اذا اضطرّ الى واحد من الاربعة ، واما اذا اضطرّ الى اثنين منها ، فهل اللازم ارتكاب اثنين من الطرفين ، او اثنين من طرف النجس فقط ؟ احتمالان :

الأوّل : من جهة انه بعد الارتكاب لايعلم بارتكاب محّرم أصلاً لاحتمال انه ارتكب في كلّ من المشتبهين الحلال منه .

الثاني : من جهة ان احتمال ارتكاب الخمر يقاوم العلم بارتكاب النجس ، وربّما يكون احتمال حرام غليظ اولى بالترك من القطع بارتكاب حرام خفيف ، كما اذا احتمل ان يفترسه السبع لو بقي في الصحراء ، فانه اولى بالترك من الذهاب الى بيت اللصوص وهو يقطع بأنهم يجرحونه جرحا يحرم الاقدام عليه ابتداءاً ، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر ، وفي عكس مسألة التحريم مسألة الايجاب كما لا يخفى .

هذا ، وقد ذكرنا هذا التنبيه لتتميم التنبيهات عشرة كاملة ، واللّه العالم .

ثم ان المصنِّف حيث انتهى من الكلام في المقام الأوّل وهو الشبهة

ص: 44

المقام الثاني: في الشبهة غير المحصورة

اشارة

والمعروف فيها عدمُ وجوب الاجتناب ، ويدلّ عليه ، وجوه :

الأوّل :

الاجماع الظاهر المصّرح به في الرّوض عن جامع المقاصد ، وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه ،

-------------------

المحصورة ، بدأ الكلام في ( المقام الثاني : في الشبهة غير المحصورة ) وهذا اصطلاح اصطلحه الفقهاء على ما كثر اطراف الشبهة فيه ، كما اذا اشتبه النجس الذي علم به بالمكلّف بين كل بقالي المدينة ، فانه يجوز أن يشتري من بعضهم وان كان يعلم بنجاسة احدهم .

هذا ( والمعروف فيها ) اي : في الشبهة غير المحصورة ( : عدمُ وجوب الاجتناب ) فلا تجب الموافقة القطعية باجتناب الجميع ، أمّا المخالفة القطعية بان يشتري من الجميع : فسيأتي الكلام فيه في التنبيهات انشاء اللّه تعالى .

( ويدلّ عليه ) أي : على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ( وجوه ) ذكر المصنِّف منها ستة :

( الأوّل : الاجماع الظاهر ، المصّرح به في الرّوض ) وهو روض الجنان للشهيد الثاني ( عن جامع المقاصد ) للمحقق الثاني ( وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الرّيب فيه ) يعني قال : انّه اجماع بلا ريب ( و ) قال أيضا : ( أنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه ) أي : على عدم وجوب

ص: 45

وتبعه في دعوى الاجماع غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة .

وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كافٍ في المسألة .

الثاني :

ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقّة في الاجتناب ، ولعلّ المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ،

-------------------

الاجتناب في الشبهة غير المحصورة .

( وتبعه ) أي : تبع البهبهاني ( في دعوى الاجماع غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم : دعوى الضرورة عليه في الجملة ) والمراد في الضرورة ضرورة الدين ، لانّ كل المسلمين مع علمهم بوجود بعض المحرمات وبعض النجاسات فيما هو محل ابتلائهم نراهم لايرعوون عن ارتكاب بعض الاطراف .

( وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كافٍ في المسألة ) لانّ هذه الكثرة من الاجماعات توجب الظن الخاص بجواز ارتكاب بعض الاطراف .

( الثاني : ما استدلّ به جماعة ) من الفقهاء والاصوليين ( من لزوم المشقّة في الاجتناب ) فانه اذا اراد الانسان الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة غير المحصورة وقع في مشقة عظيمة ، لكثرة علم الانسان بالنجاسة ، والغصبية ، وما اشبه ذلك في بعض ما هو محل ابتلائه ، فانه كثيرا ما يعلم الانسان بعدم التزام جميع الافراد الذين يذهب الى بيوتهم باخراج خمس اموالهم ، أو بعدم التزام جميعهم بالطهارة ، أو ما اشبه ذلك ، فاذا قلنا بانه يجب الاجتناب لزم الحرج ، والحرج منفي في الدين ( ولعلّ المراد به ) اي : بلزوم المشقة في الاجتناب (لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ) لا أن المراد : ان كل افراد الشبهة يكون

ص: 46

فيشمله عموم قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسرَ» وقوله تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُمَ في الدِّينِ مِن حَرَجِ » بناءا على أنّ المراد أنّ ما كان الغالبُ فيه الحرجَ على الغالب ، فهو يرتفع عن جميع المكلّفين ، حتّى مَن لا حرج بالنسبة إليه .

-------------------

في الاجتناب عنها حرج لكل افراد المكلفين ، لوضوح : انه ليس كل افراد الشبهة محلاً لابتلاء كل افراد المكلفين .

وحيث يلزم من اغلب افراد هذه الشبهة الحرج لأغلب افراد المكلفين ( فيشمله عموم قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (1) وقوله تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (2) ) وقد ذكرنا معنى الآيتين فيما سبق ، فلا حاجة الى تكراره ، ثم انه لمّا كان مقتضى هذا الدليل : رفع الاحتياط في الشبهات غير الحصورة التي يشق فيها الاحتياط بالنسبة الى بعض الناس ، لا في كل الشبهات بالنسبة الى كل الناس ، اشكلوا على هذا الدليل : بانه اخص من المدّعى ، فتصدى المصنِّف للجواب عنه بقوله : ( بناءا على أنّ المراد ) من ادلة نفي الحرج هو : ( أنّ ما كان الغالبُ فيه ) اي في التكليف ( الحرجَ على الغالب ) من الناس سواء كان تكليفا وجوبيا أم تحريميا ، واقعيا ام ظاهريا ( فهو يرتفع عن جميع المكلّفين حتّى مَن لا حرج بالنسبة إليه ) من المكلفين .

ولهذا قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (3) مع وضوح :

ص: 47


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ص19 ب5 ح1354 .

وهذا المعنى وإن كان خلافَ الظاهر ، إلاّ أنّه يتعيّن الحمل عليه ، بمعونة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعُسر والُيسر الغالبين.

-------------------

انّ السواك لايوجب المشقة على كل المكلفين ، بل على غالب المكلفين ، فالحرج على غالب المكلفين أوجب رفع وجوب السواك عن جميع المكلفين .

( وهذا المعنى وإن كان خلافَ الظاهر ) حيث ان المستفاد من رفع الحرج هو : الحرج الشخصي ، لا الحرج النوعي ، بمعنى : ان كل من يشق عليه امتثال تكليف من التكاليف في مورد من الموارد يرتفع عنه ذلك التكليف في ذلك المورد ، لا انّه مرفوع عن عامة المكلفين .

وعليه : فاذا كان في المدينة - مثلاً - مائة انسان وكان الوضوء يشق على خمسة وتسعين منهم ولا يشق على الخمسة الباقين ، وجب على اولئك الخمسة الوضوء ، وهكذا بالنسبة الى الصلاة من قيام ، والصوم ، والغسل ، وغير ذلك ، حتى اشتهر بينهم : ان رفع الحرج شخصي وليس بنوعي ، سوى ما ذكره الشارع بالنص مثل : « لولا أن أشق على اُمّتي » (1) ونحوه ، حيث ان المشقة النوعية فيها أوجبت رفع الشارع بنفسه التكليف عن كل المكلفين .

وعليه : ( الاّ انّه يتعين الحمل عليه ) اي : على النوعي بالاضافة الى الشخصي أيضا ( بمعونة ما ورد : من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعُسر والُيسرالغالبين ) مثل قوله تعالى : « فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهر فَليَصُمهُ ، وَ مَن كَانَ مَريضا أو عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّن أَيَّامٍ أخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسر » (2) فانّه

ص: 48


1- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 ، و ص19 ب5 ح1354 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

...

-------------------

لا ريب ان الصوم في السفر وفي المرض مستلزم للعسر غالبا بالنسبة الى غالب الناس ، ولا كلّية له لا من جهة السفر والمرض ولا من جهة الاشخاص .

وقال سبحانه : « الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُم وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعفا » (1) حيث رفع الحكم عن الجميع بواسطة ضعف البعض .

وفي النبوي المتقدِّم « لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (2) .

وفي صحيحة الفضيل بن يسار : « عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء ؟ فقال : لا بأس « « ما جَعَلَ عَليكم في الدِّينِ من حَرَج » (3) » (4) .

وصحيحة ابي بصير :« عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة والتور فيدخل اصبعه فيه ؟ قال : ان كان يده قذرة فليهرقه وا ن كان لم يصبها قذر فليغسل منه ، هذا ممّا قال اللّه تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرجٍ» (5) » (6) .

وفي رواية أخرى : « عن ابي عبد اللّه عليه السلام : انّا نسافر ، فربمّا بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابة وتروث ؟ فقال عليه السلام : ان عَرَض في قلبك منه شيء فافعل هكذا - يعني

ص: 49


1- - سورة الانفال : الآية 66 .
2- - الكافي ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ص19 ب5 ح1354 .
3- - اشارة الى سورة الحج : الآية 78 .
4- - الكافي فروع : ج3 ص13 ح7 ، وسائل الشيعة : ج1 ص212 ب9 ح543 .
5- - سورة الحج : الآية 78 .
6- - تهذيب الاحكام : ج1 ص38 ب3 ح42 و ص229 ب10 ح44 ، الاستبصار ج1 ص20 ب10 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص154 ب8 ح385 .

وفي هذا الاستدلال نظر ، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلاّ على أنّ ما كان فيه ضيقٌ على مكلّف ، فهو مرتفع عنه .

وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنانٌ على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتّسهيل .

-------------------

أفرج الماء بيدك ثم توضّأ - فانّ الدين ليس بمضيّق وان اللّه عزوجل يقولُ : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (1) » (2) .

مضافا الى قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «بعثت بالحَنيفية السهلة السمحة» (3) وقول الامام عليه السلام : « ان شيعتنا لأوسع ممّا بين ذه وذه ، وأشار بيده الى السماء والأرض » (4) الى غيرها من الآيات والرّوايات .

( وفي هذا الاستدلال نظر، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات ) وكذا الاجماع والعقل قد وردت في مقام الامتنان ، فهي ( لا تدل الاّ على انّ ما كان فيه ضيقٌ على مكلّف ، فهو مرتفع عنه ) وذلك لانه يتدارك بمصلحة التسهيل .

( وامّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو ) اي التكليف ( عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنانٌ على أحد ) لانّ رفع التكليف عن الذي لا عسر فيه عليه بلا تدارك ، لا امتنان فيه له ولا لغيره ، فانه ليس منّة على زيد لو رفع التكليف عن عمرو ، ولذلك قال : ( بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتسهيل )

ص: 50


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص417 ب21 ح35 ، الاستبصار : ج1 ص22 ب10 ح10 ، وسائل الشيعة: ج1 ص163 ب9 ح404 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص494 ح1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج15 ص144 .
4- - تأويل الآيات : ص176 ، بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 بالمعنى .

وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ،

-------------------

اذ ليس الرفع تسهيلاً عليه ، حتى يتدارك مصلحة سقوط التكليف بمصلحة التسهيل .

مثلاً : في الوضوء مصالح ؛ فاذا عسر على انسان ، بدّله الشارع بالتيمّم ، امّا اذا لم يكن على انسان عسرا وتيمّم فاتته مصلحة الوضوء ، ولم يكن في رفع الوضوء عنه تسهيلاً عليه .

( وأمّا ما ورد : من ) الأدلة الدالة على ( دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ) وذلك لان المنساق من تلك الادلة هو : بيان كيفية جعل الشارع الأحكام الكلية الواقعية .

وعليه : فانّ الشارع حين جعل الاحكام الواقعية لموضوعاتها الواقعية لاحظ عدم لزوم عسر على اغلب المكلفين في امتثالها ، وشمول هذه الاخبار للشبهة غير المحصورة انّما يتمّ اذا فرض كون عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا بحسب الواقع لوجوب الاجتناب حتى يلاحظ حينئذٍ في ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع : عدم لزوم عسر على الأغلب في أغلب مواردها ، والحال انّ الأمر ليس كذلك ، بل هذا العنوان انّما هو في كلمات العلماء لموضوعات متعدّدة قد اشتبه كل واحد منها بين أمور غير محصورة .

إذن : فجعل الشبهة غير المحصورة عنوانا في كلمات العلماء لهذه الموضوعات المتعددة ، انّما هو لاجل كونه جامعا لشتات جزئيات هذه الموضوعات ، ليتوصل به الى البحث عن هذه الموضوعات ، الموضوعات المشتبه وليس أكثر .

ص: 51

لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حُكِمَ فيها بحكم ، حتى يدّعى انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسرٌ على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان

-------------------

وعلى ايّ حال : فليس عنوان : الشبهة غير المحصورة من العناوين الموجودة في الآيات ، أو الروايات : أو الاجماع ، أو العقل ، حتى يقال : بانّه كلّما حصلت شبهة غير محصورة يكون التكليف فيها مرفوعا .

هذا ومن الواضح : انّه لايلزم من امتثال هذه الاحكام المتعلقة بالموضوعات المتعدّدة عسر وحرج على الأغلب ، والاّ لزم ذلك فيما لو فرض فيه العلم التفصيلي بهذه الموضوعات أيضا ، وهذا ممّا لا يقول به القائلون بجواز الارتكاب في اطراف الشبهة غير المحصورة .

والى هذا المعنى الذي ذكرناه في عدم نفع تلك الادلة لما نحن فيه اشار المصنّف : ( لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حُكِمَ فيها بحكم ) واحد مثل : ان يقول الشارع : اجتنب في الشبهة غير المحصورة أو يقول : لا تجتنب في الشبهة غير المحصورة ( حتى يدّعى : انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسرٌ على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها ) اي : في كل تلك الموارد ( مطلقا ) أي : حتى في مورد عدم الحرج وبالنسبة الى من لا حرج عليه .

( بل هي ) اي : الشبهة غير المحصورة ( عنوان ) كلي اصطلح عليه الفقهاء وجعلوه قاعدة مصطيدة مثل قاعدة : « مَنْ مَلكَ شيئا ملكَ الاقرار به » ، وقاعدة « الخِراج بالضَمان » ، وقاعدة : « الفراغ » ، وقاعدة : « التجاوز » ، وغيرها من القواعد الفقهية المصطيدة من الروايات .

ص: 52

لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع .

والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ،

-------------------

إذن : فالشبهة غير المحصورة عنوان ( لموضوعات متعدّدة لاحكام متعدّدة ) كالخمر المشتبه بين أواني غير محصورة ، والنجس المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه بين اشياء غير محصورة ، وهكذا الى ما لا يحصى .

( و) عليه : فالشبهة غير المحصورة ليست عنوانا لموضوع واحد يقتضي الاحتياط أو لا يقتضيه ، وإنّما هي عنوان لمواضيع كثيرة ذات احكام متعددة ويكون ( المقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاص التحريمي الموجود في ذلك الموضوع ) بشخصه .

مثلاً : المقتضي للاحتياط في الخمر المشتبه بين أواني غير محصورة هو نفس دليل تحريم الخمر ، مثل قوله سبحانه : « انَّمَا الخمرُ وَ المَيسِرُ وَ الأَنصَابُ وَالأزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ » (1) والمقتضي للاحتياط في النجس المشتبه بين أمور غير محصورة هو قوله سبحانه : « وَ الرُّجزَ فَاهجُر » (2) والمقتضي للاحتياط في الغصب المشتبه بين امور غير محصورة هو قوله عليه السلام : « حرمة ماله كحرمة دمه » (3) الى غير ذلك من المحرمات التي تشتبه في غير المحصور .

هذا ( والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ) للتصريح به في

ص: 53


1- - سورة المائدة : الآية 90 .
2- - سورة المدثر : الآية 5 .
3- - الكافي اصول : ج2 ص359 ح2 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص569 ب2 ح4946 و ج4 ص377 ب2 ح5781 و ص418 ب2 ح5913 ، مجموعة ورام : ج2 ص65 ، اعلام الدين : ص201 ، تحف العقول: ص212 ، تفسير القمّي: ج1 ص291 ، كنز الفوائد: ج1 ص216 ، الاختصاص: ص342.

ولا يرد منه حرجٌ على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر ، فأيّ مدخل للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليُسر والعُسر .

-------------------

الآيات والروايات ونحوهما .

( و ) المفروض أيضا : انّه ( لا يرد منه ) أي : من تحريم ذلك الموضوع ( حرجٌ على الأغلب ) من الناس حتى يرتفع رأسا .

( و ) كذا المفروض ( : انّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر ) .

إذن : فلا عسر في الاجتناب حتى يرتفع التكليف به ، لانّ الغالب انّ الانسان لايبتلى بالشبهة في اطراف غير محصورة .

نعم ، لو لزم العسر أو الحرج في مورد ، يرتفع وجوب الاجتناب في ذلك المورد الخاص ، سواء علم بالحرام تفصيلاً ، كما اذا قطع بأنّ هذا بعينه خمر لكنّه اضطر الى ارتكابه ، أم اشتبه بين امور محصورة ؛ كما اذا كان الخمر بين انائين اضطر لشرب احدهما ؛ ام غير محصورة بأن كان الخمر مشتبها بين الوُف الأواني .

وعليه : ( فايّ مدخل ) مع ذلك ( للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليُسر والعُسر ) وضعا ورفعا حتى يستدلّ بها لرفع الحكم في الشبهة غير المحصورة ؟ .

وان شئت قلت : ان ظاهر ادلة نفي العُسر والحَرج من الآيات والروايات هو : اعتبار العسر الشخصي الملحوظ بالنسبة الى احد المكلفين بالنسبة الى آحاد المسائل المبتلى بها ، فتكون النسبة بينها وبين المدعى عموما من وجه .

وإنّما تكون النسبة بينهما من وجه ، إذ ربّ مورد من موارد العُسر لادخل له في الشبهة غير المحصورة ، وربّ مورد من موارد الشبهة غير المحصورة لايلزم

ص: 54

وكأنّ المستدلّ بذلك جَعَلَ الشبهة غير المحصورة واقعةً واحدةً ، مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لولا العُسر ، لكن لمّا تعسّر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كليّة .

-------------------

من الاحتياط فيه عسر على بعض المكلفين ولو بالنسبة الى بعض حالاته ، فجعل احدهما دليلاً على الآخر غير تام ، فهو مثل جعل وجود انسان في البيت دليلاً على وجود الابيض في البيت .

وعليه : فالدليل يجب ان يكون بقدر المدّعى أو اكبر منه ، بأن يقول - مثلاً - : الانسان في البيت لانّ الناطق في البيت ، أو يقول : الحيوان في البيت بدليل انّ انسان في البيت : امّا المباين فلا يكون دليلاً على مباينه ، كما لايكون احد العامّين من وجه دليلاً على الآخر .

هذا ( وكأنّ المستدلّ بذلك ) اي : كأن الذي استدل لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة : بدوران الاحكام مدار اليسر على الأغلب ، وقد ( جَعَلَ ) عنوان ( الشبهة غير المحصورة واقعةً واحدةً ) نظير نجاسة الخمر ، وحرمة الغصب ، وما اشبه ذلك ، فيكون (مقتضى الدليل فيها : وجوب الاحتياط لولا العُسر ) فكما ان السواك واقعة واحدة أوجب العُسر فيه عدم وجوبه ، كذلك الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة أوجب العُسر عدم وجوب الاحتياط فيها .

إذن : فالاحتياط واجب في الشبهة غير المحصورة اوّلاً وبالذات ( لكن لمّا تعسّر الاحتياط في اغلب الموارد ) من هذه الشبهة ( على اغلب الناس حكم ) الشارع ( بعدم وجوب الاحتياط كليّة ) سواء بالنسبة الى من يعسر عليه الاحتياط

ص: 55

وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ليس الاّ دليلَ حرمة ذلك الموضوع .

نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحّرم الواقعي في خصوص مشتبهاته غير المحصورة على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات كأن يدّعى أنّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحَرج الغالبي أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه .

-------------------

أم بالنسبة الى من لم يعسر الاحتياط عليه .

( و ) لكن ( فيه : انّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ) غير المحصورة ( ليس الاّ دليلَ حرمة ذلك الموضوع ) لما عرفت : من ان الشارع لم يقل إحتط في الشبهة غير المحصورة حتى يكون عنوانا خاصا فيلاحظ فيه العسر واليسر الغالبيان ، بل قال الشارع : اجتنب عن الخمر، اجتنب عن الغصب ، اجتنب عن البول ، وهكذا ، فالشبهة غير المحصورة عنوان كلي لعشرات الاحكام التي يجب فيها الاجتناب بخصوصها .

( نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحّرم الواقعي في خصوص مشتبهاته ) اي : مشتبهات ذلك المحرّم الخاص بأن كانت الشبهة ، ( غير المحصورة ) فيه مما يلزم من اجتنابها الحرج ( على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات ، كأن يدّعى : انّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحَرج الغالبي ، امكن ) عند ذلك ( التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه ) بالبول - مثلاً - دون سائر النجاسات .

ص: 56

لكن لا يتوهم من ذلك اطّرادُ الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبة في ناحية مخصوصة ، الى غير ذلك من المحّرمات .

ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة أراد المورد الخاص

-------------------

وانّما يكون هذا الحكم مختصا بالنجاسة ، المشتبهة ، دون غيرها ، لان نجاسة البول حكم ، ونجاسة الخمر حكم آخر ، ونجاسة الدم حكم ثالث وهكذا ، فالحرج في بعضها وان كان غالبيا لأغلب الناس الاّ انه لايوجب عدم الاحتياط في سائر النجاسات .

هذا ( لكن ) اذا قال الشارع ذلك بالنسبة الى النجاسة مطلقا كما هو ظاهر عبارة المصنِّف ، أو بالنسبة الى خصوص النجاسة المشتبة بالبول - مثلاً - كما لا يبعد ان يكون مراد المصنِّف ذلك ، فيجب ان ( لا يتوهم من ذلك ) اي : من ارتفاع الاحتياط في باب مطلق النجس أو في باب خصوص المشتبه لاجل العسر الغالب لأغلب الناس ( اطّرادُ الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبة في ناحية مخصوصة ) من نواحي بلد كبير .

( الى غير ذلك من المحّرمات ) التي لايلزم من الاجتناب عنها حين اشتباهها في امور غير محصورة عسر وحرج على الأغلب فلا يطّرد الحكم اليها حتى يقال : بأنّ كل غير محصور مرفوع حكمه .

( ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام ) اي : في الشبهة غير المحصورة وقال فيها بعدم الاحتياط متمسكا ( بلزوم المشقة أراد المورد الخاص ) اي : اراد كل مورد مورد ، فان كل مورد يلزم منه المشقة يرتفع فيه الاحتياط ، وكل مورد لايلزم

ص: 57

كما ذكروا ذلك في الطّهارة والنّجاسة .

هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليلُ المتقدّم وجوبَ الاحتياط فيها

-------------------

منه المشقة يكون الاحتياط فيه واجبا ، لا انّ الشبهة اذا صارت غير محصورة يرتفع الاحتياط فيها : مطلقا ولو لم يكن في بعضها عسر وحرج .

( كما ) يشهد لما قلناه : من ان ارادة كثير ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة هو المورد الخاص لا مطلقا ، انهم ( ذكروا ذلك في ) باب ( الطّهارة والنّجاسة ) فقط دون سائر الابواب الفقهية مما يكشف انهم لايريدون تعدية العُسر من باب الطهارة الى باب الرضاع ؛ ومن باب الرضاع الى ابواب اُخر .

( هذا كلّه ) هو الاشكال الأوّل على من استدل بالدليل الثاني أعني : العسر والحرج لرفع وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة رفعا مطلقا أو في خصوص المشتبه .

( مع ) انّ هناك اشكالاً آخر يرد على هذا الاستدلال وهو انه ليس رفع الاحتياط من جهة العُسر والحرج كما استدل به المستدّل ، بل هو : لاّن جملة من الاطراف على الأغلب خارجة عن محل الابتلاء ، وقد عرفت سابقا : انه اذا كان بعض اطراف العلم الاجمالي حتى في المحصور ، خارجا عن محل الابتلاء جاز ارتكاب بعضها الآخر .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف بقوله : ( انّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليلُ المتقدّم ) وهو دليل تحريم الحرام الواقعي المشتبه بينها المقتضي ( وجوب الاحتياط فيها ) اي : في الشبهة غير

ص: 58

ممنوعٌ .

ووجهه : أنّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لايكون جميعُ المحتملات مورد ابتلاء المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وان كانت محصورةٌ كما أوضحناه سابقا .

وبعد إخراج هذا عن محل الكلام فالانصافُ منعُ غلبة التعسّر في الاجتناب .

-------------------

المحصورة ، فان لزوم الحرج فيها ( ممنوع ) اذ لا يلزم من الاجتناب عنها حرج .

( و وجهه : ) اي : وجه المنع من لزوم الحرج هو : ( انّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لايكون جميعُ المحتملات ) من تلك الشبهة ( مورد ابتلاء المكلّف ، و ) من المعلوم : انه ( لا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة ) التي لايكون جميع اطرافها محلاً لابتلاء المكلّف حتى ( وان كانت محصورةٌ ) فكيف بما اذا كانت غير محصورة ( كما اوضحناه سابقا ) حيث اشترطنا تنجز التكليف في المحصورة بكون جميع الاطراف محل الابتلاء .

( وبعد اخراج هذا ) الكثير من اطراف الشبهة غير المحصورة الذي لايكون مورد الابتلاء ( عن محل الكلام فالانصافُ منعُ غلبة التعسّر في الاجتناب ) عن الباقي ، فلا مجال لملاحظة العُسر الغالب لرفع الاحتياط رأسا ، فاذا كانت موارد الشبهة غير المحصورة مائة - مثلاً - وكان خمسة وتسعون منها خارجا عن محل الابتلاء ؛ لم يكن العسر في الخمسة الباقية ، فكيف يمكن الاستدلال بالعُسر لاجل رفع الاحتياط في الخمسة الباقية ؟ .

ص: 59

الثالث :

الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته ، فانّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة الاّ أنّ مقتضى الجمع بينهماوبين ما دّل على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل اخبار المنع على المحصور .

-------------------

( الثالث ) من ادلّة عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : ( الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته ) مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ حَلالٌ ، حتى تَعرف انّه حرامٌ بعينه » (1) و « كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه » (2) وغيرهما من الاخبار التي مرَّت جملة منها ، فانّها تشمل الشبهة البدوية ، والشبهة المحصورة وغير المحصورة كما قال :

( فانّها بظاهرها وان عمّت ) حتى ( الشبهة المحصورة الاّ انّ مقتضى الجمع بينهما وبين ما دّل على وجوب الاجتناب بقول مطلق ) مثل : روايات الاحتياط وما أشبه ( هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل أخبار المنع على المحصور ) لأنّ أخبار الحل تشمل الشبهة المحصورة وغير المحصورة ، وأخبار الاحتياط تشملهما أيضا فيتعارضان ، فيجمع بينهما بحمل كل منهما على القدر المتيقن منه ، فالمحصورة في أخبار الاحتياط ، وغير المحصورة في أخبار الحل .

ص: 60


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ج39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

وفيه أولاً : أنّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل ، وقد تقدّم بما لا مزيد عليه : أنّ أخبار حلّ الشبهة لايشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام .

وثانيا : لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الاجمالي

-------------------

( وفيه أولاً : انّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور : اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك ) اي : لوجوب الاجتناب ، لما تقدّم من ان قوله : اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن الميتة ، واجتنب عن الغصب ، يشمل الموارد المعلومة اجمالاً .

ومن الواضح : ان الحرام معلوم اجمالاً في المحصورة وغير المحصورة ، فيجب الاجتناب عنه فيهما ، وذلك ( بضميمة حكم العقل ) بوجوب دفع الضرر المحتمل الجاري في كليهما .

إذن : فالمستند لوجوب الاحتياط في العلم الاجمالي ليس هو أخبار الاحتياط حتى يقال باختصاصها بالمحصورة في مقابل اختصاص أخبار الحّل بغير المحصورة للجمع بينهما ( و ) ذلك لانّه ( قد تقدّم بما لا مزيد عليه : إنّ أخبار حلّ الشبهة لا يشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام ) اطلاقا لانها لو كانت شاملة لصورة العلم الاجمالي لوقع التعارض بين هذه الاخبار وبين ادلة المحّرمات ، بينما لا تعارض بين الطائفتين .

وإنّما لا تعارض بين الطائفتين لأنّ مقتضى أخبار الاحتياط : وجوب الاحتياط في المحصورة وغير المحصورة على حدّ سواء، ومقتضى أخبار الحل : حليّة الشبهة البدوية فقط على ما ذكرناه سابقا للقرائن الدالة على ذلك .

( وثانيا : لو سلّمنا شمولها ) اي : شمول اخبار الحل ( لصورة العلم الاجمالي

ص: 61

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة ، لكنها تشمل المحصورة أيضا ، وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة بغير الشبهة الابتدائية إجماعا ، فهي على عمومها للشبهة غير المحصورة أيضا أخصُّ مطلقا من أخبار الرّخصة .

-------------------

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة ) التي هي محل الكلام ( لكنها تشمل المحصورة أيضا ) تعمّها فتشمل أخبار الحل شبهات ثلاث : المحصورة وغير المحصورة والبدوية ، بينما ( وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة ) بصورة العلم الاجمالي ، اي : ( بغير الشبهة الابتدائية إجماعا ) فقد قام الاجماع على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة البدوية كما ذكرناه سابقا ، فتختص أخبار الاحتياط بالشبهة المحصورة وغير المحصورة، فتقدّم فيهما على أخبار الحل .

والحاصل : انّه لو سلمنا شمول أخبار الحل لصورة العلم الاجمالي ، سواء الشبهة المحصورة أم غير المحصورة ، فانّ اللازم مع ذلك هو العمل باخبار وجوب الاحتياط وتقديمها على اخبار الحل في مورد العلم الاجمالي في كلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة ، وذلك لانّ أخبار الاحتياط أخص من اخبار الحل ، فان اخبار الحل تشمل المحصورة وغير المحصورة والشبهة البدوية ، واخبار الاحتياط خاصة بالشبهة المحصورة وغير المحصورة ، فالجمع بينهما يقتضي تقديم أخبار الاحتياط في الشبهة المحصورة وغير المحصورة على اخبار الحل .

إذن : ( فهي ) اي : أخبار الاحتياط ( على عمومها ) وشمولها للشبهة المحصورة و ( للشبهة غير المحصورة ) تكون ( أيضا أخصُّ مطلقا من أخبار الرّخصة ) الدالة على الحل ، وذلك لما عرفت : من انّ اخبار الاحتياط تشمل

ص: 62

والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية واخبارالاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة، وكلا الطرفين ظاهران فيالشبهة غير المحصورة ، فاخراجها وادخالها في الآخر ليس جمعا ، بل ترجيحا بلا مرجّح ، الاّ ان يقال : إنّ أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة ،

-------------------

الشبهتين ، واخبار الحل البدوية تشمل الشبهات الثلاث ، فيقدّم الخاص وهو الاحتياط على العام وهو الحل فيعمل بالاحتياط في المحصورة وغير المحصورة ويترك الحل للبدوية .

( والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة غير المحصورة ) وكأنّ هذا الكلام من المصنِّف اضراب عن كلامه السابق حيث قال : « انّ اخبار الاحتياط أخص مطلقا من اخبار الحل » فانّه بقوله : و « الحاصل » جعل بين هاتين الطائفتين من الاخبار عموما من وجه ، فيكون مادة التعارض هو الشبهة غير المحصورة .

وعليه : ( فاخراجها ) اي : عن اخبار الاحتياط ( وادخالها في الآخر ) اي : في اخبار الحل كما صنعه المستدل ( ليس جمعا ) بين الطائفتين ( بل ترجيحا بلا مرجّح ) لانّك قد عرفت : انّ كلاً من الطائفتين تشمل الشبهة غير المحصورة على حد سواء ، فلا وجه لترجيح احدى الطائفتين على الأخرى بالنسبة الى الشبهة غير المحصورة .

( الاّ ان يقال ) في تأييد المستدل لادخال الشبهة غير المحصورة في اخبار الحل : ( انّ أكثر افراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة ) فتكون الشبهة الابتدائية المحضة قليلة جدا .

ص: 63

لأنّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة .

فلو أخرجت هذه الشبهة عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلاّ النادر ، وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار ، فتدبّر .

-------------------

وانّما ترجع الشبهة الابتدائية في الاكثر الى الشبهة غير المحصورة ( لانّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة ) لوضوح : انّا شككنا في نجاسة بدننا ، أو ثوبنا ، أو شككنا في حرمة هذه المرأة اوتلك الذبيحة ، أو ما اشبه ذلك ، فليس شكنا هذا بدويا حاصلاً من دون علم اجمالي ، بل هو على الاغلب بملاحظة علمنا الاجمالي بوجود نجس وحرام كثير في البلاد ، فيكون غير محصورة .

( فلو أخرجت هذه الشبهة ) وهي الشبهة غير المحصورة ( عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلاّ ) الشك البدوي ( النادر ) جدا ( وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار ) الكثيرة الظاهرة في انّ الشبهة متعدّدة وكثيرة ، لا انّها قليلة .

والحاصل انّ القدر المتيقن في أخبار الحل وان كان هو الشك البدوي، إلاّ انه لما كان الشك البدوي الذي لايكون ضمن الشبهة غير المحصورة نادرا جدا، كان من المستبعد ان يراد بأخبار الحل على كثرتها خصوص هذه الافراد النادرة فقط، فاللازم ان نقول بشمول أخبار الحل للشبهة غير المحصورة أيضا كما ذكره المستدل .

( فتدبّر ) ولعل وجهه : ان الشبهة البدوية كثيرة جدا وليست نادرة ، فانا كثيرا ما نشك في انّه هل تنجس ثوبنا أو بدننا أو شيء ممّا يتعلق بنا ابتداءًا ، من دون علم اجمالي، ومع ذلك فانه لو فرضنا ان النسبة بين اخبار الحل واخبار الاحتياط

ص: 64

الرابع :

بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لايوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما .

مثل ما في محاسن البرقي عن أبي الجارود قال : سالتُ أبا جعفر عليه السلام عن الجُبُن ؟ فقلتُ : اخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتةُ ، فقال : أمن أجل مكان واحد يُجعَل فيه الميتةُ ، حُرِّمَ جَميعُ

-------------------

عموم من وجه ، فعند تعارضهما في الشبهة غير المحصورة ، يكون الجمع بينهما بتقديم أخبار الحل فيها كما قاله المستدل ، وحينئدٍ تكون اخبار الحل دليلاً على الحلّية فيالشبهة غير المحصورة .

( الرابع : ) من أدلة الحلية في الشبهة غير المحصورة هو : ( بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات ) الكثيرة غير المحصورة ( لايوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما ) وذلك ( مثل ما في محاسن البرقي عن ابي الجارود قال : سالتُ أبا جعفر ) الباقر ( عليه السلام عن الجُبُن ؟ فقلتُ : إخبرني من رأى ) بعينيه ( انّه يجعل فيه الميتة ) لانّ الجُبن لايصلح الاّ بالأنفِخة .

ثم إنّ الانفخة قد تكون من الحيوان الحلال اللحم :فهو مذّكى وان كان من الميتة ، وقد تكون من الحيوان المحّرم اللحم فهو ميتة وان كان من المذكى ، فالانفخة من الحيوان المحلّل اللحم الذي مات بدون تذكية شرعية محللة كما ذكروا ذلك في محللات الميتة حيث قالوا : بأن الأنفِخة من الميتة من قبيل الشعر ، والعظم ، والقرن ، والظلف ، وغير ذلك .

( فقال ) عليه السلام في جوابه : ( أمن أجل مكان واحد يُجعَل فيه الميتةُ ، حُرِّمَ جَميعُ

ص: 65

ما في الارض ! فما علمتَ فيه ميتة فلا تاكلهُ ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكُل ، واللّهِ اني لأعتَرضُ السُّوقَ وأشتري اللحم والسّمنَ والجُبُن ، واللّهِ ماأظن كُلّهُم يُسَمُّوُنَ ، هذه البريّة وهذه السّودانُ » ، الخبر .

فانّ قوله : « أمن أجلِ مكان واحد » الخبر ، ظاهرٌ في انّ مجرّد العلم بوجود الحرام لايوجب الاجتناب عن محتملاته .

وكذا قوله عليه السلام : « واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون » فانّ الظاهر

-------------------

ما في الارض ؟ ) مّما معناه : انه لا أثر للعلم الاجمالي المذكور في التحريم ، بل ( فما علمتَ ) تفصيلاً ان ( فيه ميتة فلا تأكلهُ ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكُل ) .

ثم انّ الامام عليه السلام أكدّ قوله ذلك بسيرته عليها حيث قال : ( واللّهِ اني لأعتَرضُ السُّوقَ ) اي : ادخل السوق ( وأشتري اللحم والسّمنَ والجُبُنَّ واللّهِ ماأظن كُلّهُم يُسمّوُنَ ) حتى مثل ( هذه البّريّة ) الذين يسكنون البراري بعيدا عن العلم والعلماء ، فلا يعرفون الأحكام ولا يبالون بها اذا عرفوها ( وهذه السّودان ) (1) الذين يعيشون في الصحاري تحت وهج الشمس حتى إسودّت وجوههم منها ، فبقوا لايعلمون الاجام ولا يلتزمون بها ،الى آخر ( الخبر ) .

وعليه : ( فانّ قوله ) عليه السلام : ( « أمن أجلِ مكان واحد » ) الى اخر ( الخبر ، ظاهرٌ في انّ مجرّد العلم ) الاجمالي ( بوجود الحرام ) في امور كثيرة غير محصورة ( لايوجب الاجتناب عن محتملاته ) اي : عن محتملات ذلك العلم الاجمالي الكثير الاطراف .

( وكذا قوله عليه السلام : « واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون » ) ظاهر في ذلك ( فانّ الظاهر

ص: 66


1- - المحاسن : ص495 ح597 ، وسائل الشيعة : ج25 ص119 ب61 ح31380 بالمعنى .

منه إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبّريّة والسودان ، الاّ ان يُدّعى انّ المراد انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لايوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن . ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى .

وامّا قوله : « ما أظنّ كلّهم يسمّون » ، فالمراد منه عدم وجوب الظن ، أو القطع بالحليّة ،

-------------------

منه ) اي : من مثل هذه العبارة عرفا : ( إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبّريّة والسودان ) فهو من قبيل العلم الاجمالي بالنجاسة والحرمة ، لا من قبيل عدم العلم .

( الاّ ان يُدّعى : انّ المراد ) منه هو : تحليل الامام الشبهة البدوية ، أو تحليل الامام الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فيكون مراده عليه السلام منه هو : ( انّ جعل الميتة في الجُبُن في مكان واحد ) كالعراق - مثلاً - ( لايوجب الاجتناب عن جُبن غيره من الأماكن ) كالحجاز - مثلاً - ( ولا كلام في ذلك ) لانّه من الشك البدوي ، فلا يكون الخبر متعرّضا للعلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة ( لا أنّه ) اي : لا ان مراد الامام هو : انّ جعل الميتة في الجبن في مكان ( لا يوجب الاجتناب عن كلّ جُبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ) فالامام عليه السلام في صدد نفي الاحتياط في الشك البدوي ، لا في مورد العلم الاجمالي غير المحصور ( فلا دخل له ) اي : لما ذكره عليه السلام على هذا ( بالمدّعى ) : من حلّية الشبهة غير المحصورة.

( وأمّا قوله ) عليه السلام : ( « ما أظنّ كلّهم يسمّون » فالمراد منه : عدم وجوب الظن، أو القطع بالحليّة ) في مورد يشك الانسان شكا بدويا في الحليّة وعدم الحليّة .

ص: 67

بل يكفي اخذها من سوق المسلمين ، بناءا على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجُبن المأخوذ منه ، ولو من يد مجهول الاسلام . الاّ أن يقال : إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام ، فلا مسوّغ للإرتكاب إلاّ كون الشبهة غير محصورة ، فتأمل .

الخامس :

أصالة البرائة بناءا على انّ المانع من اجرائها

-------------------

( بل يكفي أخذها من سوق المسلمين بناءا على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجُبن المأخوذ منه ) وكذا اللحم المأخوذ منه ، فان الانسان اذا أخذ شيئا من سوق المسلمين ( ولو من يد مجهول الاسلام ) فانّه يحكم عليه بالحلية ، كما ان الحال كذلك اذا أخذها من يد المسلم .

( الاّ أن يقال : انّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام ) فيه ، اذ العلم الاجمالي كما لايدع مجالاً للاصول العلمية كذلك لايدع مجالاً لسائر الأمارات ، كالسوق واليد ونحوهما ( فلا مسوّغ للارتكاب ) حينئذٍ ( الاّ كون الشبهة غير محصورة ) فتكون هذه الرواية دليلاً على عدم وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة .

( فتأمل ) فانّا لانسلم بانّ حصول العلم الاجمالي بحرمة بعض ما في اسواق المسلمين يوجب اسقاط حجيّة السوق ، كما انّ وجود الحرام في يد المسلم لايوجب اسقاط حجيّة يده على ما قرّر في موضعه .

( الخامس ) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة : (أصالة البرائة) الثابتة عقلاً ونقلاً (بناءاا على انّ المانع من اجرائها) اي : من اجراء

ص: 68

ليس الا العلم الاجمالي بوجود الحرام ، ولكنّه انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلمية التّي لايجب الاّ لأجل وجوب دفع الضرر ، وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لايجري في المحتملات غير المحصورة ، ضرورة أنّ كثرة الاحتمال يُوجب عدم الاعتناء بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات .

ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد انائين أو واحد من ألفي إناء ،

-------------------

البرائة ( ليس الاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ) فانّ العلم الاجمالي هو الذي يمنع من اجراء البرائة ، لانّ العلم الاجمالي يصلح ان يكون بيانا ، فلا يكون العقاب معه عقابا من غير بيان .

( ولكنّه ) اي : لكن العلم الاجمالي ( انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته ) اي: محتملات الحرام ( من باب المقدّمة العلمية ) المقدمةُ ( التّي لا يجب ) امتثالها ( الاّ لأجل وجوب دفع الضرر ) المحتمل ( وهو : العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا ) اي : احتمال الضرر ( لايجري في المحتملات غير المحصورة ) .

وإنّما لايجري في محتملات غير المحصورة ( ضرورة ان كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء ) من العقلاء ( بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات ) فدفع الضرر المحتمل لا يكون هنا دليلاً لوجوب الاجتناب .

( الا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد انائين ) أو خمس أوانٍ، أو ما أشبه ذلك حيث ان احتمال السم في كل منها يكون بدرجة يوجب اجتناب العقلاء عن ارتكاب ايّ من اطراف هذا العلم ( أو ) بين ( واحد من ألفي

ص: 69

وكذلك بين قذف أحد الشخصين لابعينه وبين قذف واحد من أهل بلد ، فانّ الشخصين كِلاهما يتأثران بالأوّل ولايتأثر احدٌ من أهل البلد بالثاني .

وكذا الحال لو أُخبرَ شخصٌ بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد ، وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من اهل بلده ، فانّه لايضطرب خاطره في الثاني أصلاً .

وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

-------------------

إناء ) حيث ان احتمال السم فيها ضعيف جدا بحيث لايعتني به العقلاء .

( وكذلك بين قذف أحد الشخصين لابعينه ) بأن قال : أحد ذينك الرجلين زانٍ ( وبين قذف واحد من أهل بلد ) بأن قال واحد من أهالي البلد الفلاني زانٍ ( فانّ الشخصين كِلاهما يتأثران بالأوّل ) لقوة احتمال ان يكون هو الزاني في نظر العرف ( ولايتأثر احدٌ من أهل البلد بالثاني ) لانّ احتمال انطباق الزنّا على كل واحد واحد من مليون انسان - مثلاً - ضعيف جدا .

( وكذا الحال لو اُخبر شخصٌ بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد ) فانّه يتأثر كثيرا ( وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده ، فانّه لايضطرب خاطره في الثاني أصلاً ) لضعف الاحتمال فيه .

ولهذا نرى العقلاء يسافرون بوسائل النقل الحديثة مع انه يحدث لواحد من كل الف منها حادث اصطدام - مثلاً - ونرى العقلاء يأكلون الجُبن مع انّه ما من يوم الاّ وبعض الناس يتسممون بسبب أكل الجبن ، الى غير ذلك من الأمثلة الدالة على ان العقلاء لا يعتنون بالضرر المحتمل اذا كان الاحتمال ضعيفا جدا ، وذلك بأن كان الضار غير منحصر ممّا يسمّى بالشبهة غير المحصورة .

( وان شئت قلت : انّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

ص: 70

عند العقلاء ، إلاّ كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي .

وكأنّ ما ذكره الامام عليه السلام في الرواية المتقدّمة من قوله « أمن أجل مكان واحد » الخبر بناءا على الاستدلال به اشارة الى هذا المعنى ، حيث انّه جعَل كونَ حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة من المنكرات المعلومة عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب ان يقبله ،

-------------------

عند العقلاء إلاّ كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي ) اي الشبهة البدوية ، فانّ احتمال الضرر في الشبهتين عند العقلاء بمنزلة واحدة في عدم الاعتناء بأيّ منهما .

( وكأنّ ما ذكره الامام عليه السلام في الرواية المتقدّمة ) في أكل الجُبن ( من قوله ) عليه السلام : ( أمن أجل مكان واحد ) (1) الى آخر ( الخبر ؟ بناءا على الاستدلال به ) اي : بهذا الحديث للشبهة غير المحصورة الاستدلال به - على ما تقدّم - للشبهة البدوية ، فانه بناءاا على ذلك يكون ما في الرواية تلك ( اشارة الى هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من عدم اعتناء العقلاء بالشبهة اذا كانت الاطراف فيها غير محصورة .

وإنّما يكون فيها اشارة اليه ، لانه كما قال : ( حيث انّه ) اي : الامام عليه السلام بسبب استفهامه الانكاري ( جعَل كونَ حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة ) جعلها ( من المنكرات المعلومة ) والمسلّمة ( عند العقلاء ) ومن المنكرات ( التي لا ينبغي للمخاطب ) وهو السائل ( ان يقبله ) اي : بأن يقبل مثل هذا المنكر حتى يسأل عنه .

ص: 71


1- - المحاسن : ص495 ح597 ، وسائل الشيعة : ج25 ص119 ب61 ح31380 بالمعنى .

كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الانكاري ، لكن عرفت أنّ فيه احتمالاً آخر يتمّ معه الاستفهام الانكاري أيضا .

وحاصلُ هذا الوجه انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ، فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل ، فيكون عقابُه حينئذٍ عقابا من دون برهان .

فعلم من ذلك أنّ الآمر

-------------------

( كما يشهد بذلك ) اي : بكونه من المنكرات المسلّمة لدى العقلاء ( كلمة الاستفهام الانكاري ) من الامام عليه السلام حيث قال : « أمن أجل مكان واحد ... ؟ » ( لكن عرفت انّ فيه ) اي : في الحديث ( احتمالاً آخر ) وهو : ان السائل سأل الامام عليه السلام عن الشبهة البدوية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، و ( يتم معه ) اي : مع هذا الاحتمال الثاني ( الاستفهام الانكاري أيضا ) اي : كان تماما على الاحتمال الأوّل ، فانه كما يستنكر العقلاء جعل حرمة بعض الجُبن في هذا المكان منشئا لحرمة الجُبن المشكوك نجاسته في مكان آخر ممّا يكون الشك فيه بدويا .

( وحاصلُ هذا الوجه ) وهو : الوجه الخامس الذي ذكرناه دليلاً لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، هو : ( انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ) لضعف احتمال العقاب في كل من الاطراف الكثيرة ( فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل ) لانّه غير عقلائي ( فيكون عقابه حينئذٍ عقابا من دون برهان ) فيجري فيه البرائة ، لان وجوب دفع الضرر المحتمل انّما هو في الموارد العقلائية .

وعليه : (فعلم من ذلك) اي : من عدم استقلال العقل بدفع العقاب المحتمل اذا كان في أطراف شبهة في محصورة ( انّ ) الشارع ( الآمر ) بالاجتناب عن الخمر ،

ص: 72

اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه ، فتامّل .

السادس :

انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة فضلاً عن غير المحصورة .

-------------------

والميتة ، وما اشبه ذلك ( اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات : بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه ) اي : انّه يحرم المخالفة القطعية لا انّه يوجب الموافقة القطعية .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة الى « على الفرق دليل » عدم تمامية هذا الدليل ، لانّ العقل لايرى فرقا في وجوب الضرر المحتمل قويا كان الاحتياط أو ضعيفا الاّ اذا دلّ على الفرق دليل .

( السادس ) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة هو : ( انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف الاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ) كما إذا كان واحد من بقالّي البلد يبيع الغصب - وهم مئات - فانّ الغالب عدم ابتلاء الانسان الاّ ببعضهم ( وقد تقدّم : عدم وجوب الاجتناب في مثله ) أي : فيما كان بعضه خارجا عن محل الابتلاء ( مع حصر الشبهة فضلاً عن غير المحصورة ) .

وإنّما قال : « فضلا » لما عرفت : من انّ الدليل على الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة ضعيف ، لانّ العلم الاجمالي في اطرافها لايكون بيانا ،

ص: 73

هذا غايةُ ما يمكن أن يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة ، وقد عرفتَ أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكنّ المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط في الجملة ، والمسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظّن .

-------------------

وذلك من جهة ان احتمال الضرر فيهما غير عقلائي، فلا يكون معتنى به عند العقلاء .

ثم ان ( هذا ) الذي ذكرناه من الأدلة الستة ، هو : ( غاية ما يمكن ان يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة ) وهو : عدم الاجتناب عن اطرافها ( وقد عرفت : أنّ اكثرها لا يخلو من منع أو قصور ) ما عدا الاجماع ، حيث لم يستشكل ، عليه المصنِّف من بين هذه الأدلة الستة .

هذا ( لكنّ المجموع منها ) أي : من تلك الأدلة ( لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط ) فيها ، من المعلوم : ان الظنّ الحاصل من هذه الأدلة يكون كافيا للاستناد اليه ( في الجملة ) أي : مع قطع النظر عن جواز المخالفة القطعيّة وعدم جوازها ، فانّ الكلام الآن في جواز المخالفة الاحتمالية في بعض أطراف الشبهة .

( و ) حيث انّ ( المسألة فرعيّة ) وليست بمسألة اصولية ( يكتفى فيها بالظّن ) لانّ الظن حجّة في المسألة الفرعية أما المسألة الاصولية فقد اختلفوا في حجيّة الظن فيها ، مثل : مسألة الاستصحاب ، والبرائة وما أشبههما من المسائل الاصولية ، وذلك لانّ المسائل الاصولية امور شاملة لكثير من المسائل الفرعية ، فالظنّ لايكون فيها حجّة بخلاف الظن في المسائل الفرعية فانّها حجّة فيها.

لا يقال : فاذا كانت مسألة الشبهةُ غير المحصورة مسئلة فرعية ، فلماذا ذكرتموها في الاصول ؟ .

ص: 74

إلاّ أنّ الكلام يقع في موارد

الأوّل :

في أنّه هل يجوزُ ارتكابُ جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث لايلزم العلم التفصيليّ ، أم يجب إبقاء مقدار الحرام ؟ .

ظاهرُ إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ،

-------------------

لانّه يُقال : ذكرناها من باب الاستطراد ( إلاّ أنّ الكلام يقع في موارد ) تخص الشبهة غير المحصورة وهي كما يلي .

( الأوّل : في أنّه هل يجوزُ ارتكابُ جميع المشتبهات في غير المحصورة ) وذلك ( بحيث لا يلزم العلم التفصيليّ ) منه بارتكاب الحرام ؟ اذ مع لزوم العلم التفصيلي بارتكاب الحرام يكون خارجا عن محل النزاع وممنوع بالاتفاق ، كما اذا اشترى من كل البقالين جبنا لضيوفه ، حيث يعلم تفصيلاً انه أطعم الحرام لضيوفه، وهذا علم تفصيلي لايجوز مثله عند احد ، بخلاف ما اذا لم يحصل له مثل هذا العلم ، كما اذا اشترى تدريجا في كل يوم من بقال حتى علم بعد سنة - مثلاً - بأنه استعمل الحرام يوما ما .

( أم يجب إبقاء مقدار الحرام ؟ ) كان ألف بقال في المدينة يبيع احدهم الحرام - مثلاً - جاز له ان يشتري دفعة أو تدريجا من تسعمائة وتسعة وتسعين منهم فقط دون الأخير ؟ .

( ظاهرُ إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب ) حيث انهم اطلقوا عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : ( هو الأوّل ) اي : انّه يجوز ارتكاب كل الاطراف ، لكن بحيث لايلزم منه العلم التفصيلي - كما ذكرناه - .

ص: 75

لكن يحتمل أن يكون مرادُهم عدمَ وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم ، فحينئذٍ لايعمّ معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكلّ ، الاّ أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز .

-------------------

وعليه : فاذا علم - مثلاً - بأنّ في أغنامه الكثيرة شاة مغضوبة لايجوز له بيعها جميعا في صفقة واحدة ، لانه يعلم حينئذٍ علما تفصيليا بوجود مال حرام مقابل الشاة المغصوبة في أمواله ، لكن يجوز له بيعها تدريجا .

هذا ( لكن يحتمل ان يكون مرادُهم ) من ( عدمَ وجوب الاحتياط فيه ) اي : في غير المحصور ليس هو جواز المخالفة القطعية في غير المحصور ، كما كان يجب الموافقة القطعية في المحصور بل هو ( في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ) اي : بوجوب الاحتياط ، فيكون قولهم : يجوز في غير المحصور مقابلاً لقولهم : لايجوز في المحصور ، وحيث كان في المحصور يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ففي غير المحصور لايجب الاجتناب الاّ عن مقدار الحرام .

( وهذا ) الاحتمال : بأن يكون كلامهم في غير المحصور مقابل كلامهم في المحصور ( غير بعيد عن مساق كلامهم ) واذا كان كذلك ( فحينئذٍ لايعمّ معقد إجماعهم ) اي : اجماع القوم على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ( لحكم ارتكاب الكلّ ) بل الواجب ابقاء مقدار الحرام .

( الاّ انّ الأخبار ) الدالة على حلّية المشتبه ( لو عمّت المقام ) الذي هو مورد العلم الاجمالي ( دلّت على الجواز ) لارتكاب الكل، لانّه يصدق على كل من الاطراف انّه ممّا لم يعلم حرمته ، فيشمله « كلّ شيء لكَ حَلال حَتى تعرف انّه

ص: 76

وأمّا الوجهُ الخامس ، فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه ، فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام ، فيستحق العقاب .

فالأقوى في المسألة عدمُ جواز الارتكاب اذا قصد ذلك من اوّل الأمر ، فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام .

-------------------

حَرام » (1) وما أشبههه .

( وأمّا الوجهُ الخامس ) من الوجوه المتقدّمة لحلية الشبهة غير المحصورة ، وهو: اصالة البرائة على التقريب المتقدم ( فالظاهر : دلالته على جواز الارتكاب ) لكل الاطراف لما عرفت : من ضعف احتمال الضرر في كل واحد ، فلا يجب دفعه في شيء من الاطراف .

( لكن ) انّما يجوز ارتكاب جميع الاطراف ( مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه ) اي : مع العزم عليه ، كما اذا أتى الى بلد فيه مائة بقال فعزم على ان يشتري الجُبن كل يوم من بقال منهم وهو يعلم بأنّ احدهم يبيع الجُبن الذي فيه الميتة ( فالظاهر : صدق المعصية ) عرفا ( عند مصادفة الحرام ) .

وعليه : ( فيستحق العقاب ) عند مصادفة الحرام وان لم يستحق العقاب في صورة عدم المصادفة بل يكون تجريا فقط ، وقد عرفت : انّ التجري ليس بمحرّم.

إذن : ( فالأقوى في المسألة ) على فرض تمامية الدليل وقيامه على جواز ارتكاب الكل ، هو : ( عدمُ جواز الارتكاب ) للكل ( اذا قصد ذلك ) اي: ارتكاب الكل ( من أوّل الأمر ) لانّه قد عزم على ما هو مقطوع الضرر كما قال :

( فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحق العقاب بمصادفة الحرام )

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ( بالمعنى ) .

والتحقيق : عدمُ جواز ارتكاب الكلّ ، لإستلزامه طرح الدليل الواقعي ، الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحّرم الواقعي ، كالخمر في قوله : « اجتنب عن الخمر » ، لانّ هذا التكليفَ لايسقطُ من المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات .

غايةُ ما ثبت في غير المحصور الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات ، فيكون البعضُ المتروك بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ،

-------------------

لأنّه اذا صادف الحرام فقد فعله عالما عامدا ، سواء كان في الفرد الأوّل أم في الفرد الوسط أم في الفرد الأخير .

هذا تمام الكلام في وجه جواز ارتكاب الكّل وعدم جوازه .

( و ) لكن ( التحقيق ) عندنا هو : ( عدمُ جواز ارتكاب الكلّ ) ولزوم ابقاء مقدار الحرام ( لاستلزامه ) اي : ارتكاب الكل ( طرح الدليل الواقعي الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحّرم الواقعي كالخمر ) فيما اذا ترددّت بين ما هو غير محصور حيث نهى عنها ( في قوله ) اي قول الشارع : ( « اجتنب عن الخمر » ) .

وانّما قلنا بعدم جواز ارتكاب الكل ( لانّ هذا التكليف ) بالاجتناب عن الخمر ( لايسقطُ من المكلّف مع علمه ) اي : على المكلّف ( بوجود الخمر بين المشتبهات ) غير المحصورة .

وعليه : فيجب الاحتياط بترك مقدار الحرام وان جاز ارتكاب سائر الاطراف ، وذلك لانّ ( غاية ما ثبت في غير المحصور ) بمقتضى الادلة التي ذكرناها هو : ( الاكتفاء في امتثاله ) اي : في امتثال التكليف ( بترك بعض المحتملات ) الذي ذلك البعض بقدر الحرام ( فيكون البعضُ المتروك بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ) فان صادف الواقع فهو ، وان لم يصادف كان بدلاً عنه .

ص: 78

والاّ فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : « اجتنب عن كلّ خمر » اعتراف بعدم حرمته واقعا وهو معلوم البطلان .

هذا اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لأنفسها ، ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب بناءا على حرمة التّجري ، فصور ارتكاب الكلّ ثلاثة ، عرفت كلّها .

-------------------

( والاّ ) بأن قلنا بجواز ارتكاب الكل الذي معناه ارتكاب الخمر ( فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله ) اي : قول الشارع : ( « اجتنب عن كلّ خمر» اعتراف ) منّا ( بعدم حرمته ) اي : حرمة الخمر ( واقعا وهو معلوم البطلان ) .

وإنّما يكون معلوم البطلان لانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » يشمل كل خمر ويتنجّز اجتنابه على الانسان في صورة علمه ، والمفروض انّه في كلتا الصورتين عالم بالخمر وان كانت أطراف المحصورة قليلة وأطراف غير المحصورة كثيرة ، فانّ مجرد هذا الفرق لايوجب سقوط الخمر عن الحرمة في غير المحصور ، وقد سبق : انّ العلم التفصيلي ليس مقيّدا لحرمة المحّرمات.

( هذا ) تمام الكلام في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ( اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لا نفسها ) اي : لا نفس الخمر ( و ) أمّا ( لو قصد نفس الحرام ) أي : شرب الخمر ( من ارتكاب الجميع ، فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر : استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب ) وان لم يصادف الحرام ولم يرتكب الكلّ ، وذلك ( بناءا على حرمة التّجري ) فانّ أول ما يرتكبه يكون تجريا .

وعليه : ( فصور ارتكاب الكلّ ) تدريجا ( ثلاثة ) ، قد ( عرفت كلّها ) :

ص: 79

الثاني :

اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره .

-------------------

الاولى : ارتكاب الكل تدريجا بدون ان يكون قصده من الأوّل ارتكاب الكل ، وقد عرفت : انّه يجوز بالنسبة الى ما عدا الخمر الواقعي ، فانّه يجب عليه استثناء مقدار الحرام ولو أخيرا.

الثانية : ارتكاب الكل تدريجا مع قصد ارتكاب الكل من أوّل الأمر ، فتتحقق المعصية بمصادفة الحرام وان ترك الباقي .

الثالثة : ارتكاب الكل تدريجا لكن قصده من أوّل الأمر ارتكاب الحرام ، وانّما يأتي بالمشتبهات مقدمة للتوصل الى ذلك الحرام ، فان قلنا بحرمة التجري كان من أوّل الأمر حراما ، وان لم نقل بحرمته كان المصادف للحرام حراما لا غيره وان كان غيره تجرّيا .

لكن ربّما يقال : القصد لا مدخلية له في الحرمة اطلاقا ، فان الذي يجوز له ارتكابه هو غير مقدار الحرام ، فان ارتكب الكل فقد ارتكب مقدار الحرام فيحرم المصادف دون غيره ، وان لم يرتكب الكل لم يفعل الحرام حتى وان صادف الواقع وكان قاصدا له ، فانه قد عرفت سابقا : عدم حرمة التجري عند المصنِّف وهذا هو الذي اخترناه أيضا ، خلافا لصاحب الكفاية الذي يرى حرمة التّجري .

( الثاني ) مما يخص الشبهة غير المحصورة هو : انه قد ( اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره ) فقد ذكر الفقهاء لغير المحصور ضوابط نذكرها مجملاً ، ثم نشرح عبارات المصنِّف فيها :

الأوّل : انّ غير المحصور : ما يعسر عدّهُ ، وزاد فيه بعضٌ : قيد في زمان قليل ، فقال ما يعسر عدّه في زمان قليل .

ص: 80

فعن الشهيد والمحقق الثانيين والميسيّ وصاحب المدارك أنّ المرجع فيه الى العرف ، فما كان غير محصور في العادة بمعنى أنّه يعسرُ عَدُّه ، لا ما امتنع عدّه ، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر .

-------------------

الثاني : انّ غير المحصور : ما بلغ كثرة الاطراف فيه الى حدّ يوجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي فيها .

الثالث : انّ غير المحصور : ما يعسر موافقتها القطعية .

الرابع : انّ غير المحصور : هو كون الشبهة ممّا يصدق عليه عرفا انّه غير محصور .

الخامس : كون كثرة الأطراف الى حدّ لايتمكن المكلّف عادة من ارتكاب جميعها بأكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك .

( فعن الشهيد والمحقق الثانيين، والميسيّ وصاحب المدارك : انّ المرجع فيه ) اي : في غير المحصور ( الى العرف ) فكل ما يراه العرف غير محصور لم يجب الاجتناب عن اطرافها ، وكل ما لم يروه كذلك وجب الاجتناب عن جميع أطرافها، وذلك لانّ غير المحصور ليس من الحقيقة الشرعية أو المتشرعية القديمة مثل الفاظ : الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، ونحوها ، ولا يُراد منه معناه اللغوي أعني : ما لا يمكن عدّه ، لاّن الموجودات كلها قابلة للحصر والعدّ .

إذن : علينا حينئذٍ مراجعة العرف لتحديد معناه بعد ما لم يكن له معنى لغوي ولا شرعي .

وعليه : ( فما كان ) بنظر العرف ( غير محصور في العادة بمعنى : انّه يعسرُ عَدُّه) كان ضابطا لغير المحصور الذي هو محل كلام الفقهاء ( لا ما امتنع عدّه ) .

وانّما قلنا : لا ما كان عدّه ممتنعا ( لانّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر ) اذ الموجودات كلها قابلة لذلك ، الاّ العدد فانّه بنفسه ليس قابلاً للحصر

ص: 81

وفيه : مضافا الى انّه إنّما يتجه اذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب على الاجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور ، أو على تحصيل الاجماع من اتفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم بها ،

-------------------

لانّه كلما تصور الانسان عددا امكن اضافة عدد في الوهم اليه .

( وفيه ) أولاً : ان جعل العرف مرجعا لمعرفة موضوع غير المحصور انّما يصح اذا ورد لفظ غير المحصور في آية أو رواية فنرجع فيه الى العرف لمعرفة موضوعه ، كما نرجع الى العرف لمعرفة موضوع الماء والتراب والشاة والكلب وما اشبه ذلك ممّا وقعت في الآيات والروايات موضوعا للاحكام ، ومن المعلوم انّه لا آية ولا رواية بهذا اللفظ ، نعم ، الاجماع ورد بهذا اللفظ ، لكنّه ليس من القوة بحيث يكون كالآية والرواية .

وفيه ثانيا : انه قد مثّل لغير المحصور بالألف وهو لا ينطبق على الضابط الذي ذكروه ، لوضوح : عدم العسر في عدّ الألف .

والى الاشكال الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( مضافا الى انّه ) اي : جعل العرف هو المرجع ( انّما يتجه اذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب ) في غير المحصور ( على الاجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور ) بأن كان الاجماع يقول : ان غير المحصور يجوز ارتكاب اطرافه فجاء لفظ : غير المحصور في مقعده ( أو على تحصيل الاجماع من اتفاق من عبّر بهذه العبارة ) اي : انّه وان لم يكن لفظ غير المحصور وجواز ارتكابه معقد الاجماع فلا اقل من ان يكون محصّل فتاوى جميع العلماء عليه ( الكاشف ) ذلك الاجماع ( عن إناطة الحكم ) اي : عدم الاجتناب ( في كلام المعصوم بها ) اي : بالشبهة غير المحصورة.

ص: 82

أنّ تعسّر العدّ غير متحقق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف - مثلاً - فانّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا .

وربّما قيّد المحقق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ، قال في فوائد الشرايع ، كما عن حاشية الارشاد ، بعد أن ذكر أنّ غير المحصور من الحقائق العرفيّة : « إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب أنّه اذا اخذ مرتبة عُليا من مراتب العدد كألف - مثلاً - قطع بانّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ، لعسر ذلك في الزمان القصير ،

-------------------

والى الاشكال الثاني أشار المصنِّف بقوله : ( انّ تعسّر العدّ غير متحقق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف - مثلاً - فانّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا ) لدى العرف .

هذا ( وربّما قيّد المحقق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ) فغير المحصور حسب تعريفه : ما يعسر عدّه في زمان قصير ، وبهذا القيد يندفع الاشكال الثاني ، وذلك لعسر عدّ الألف في زمان قصير - كما هو واضح - .

وعليه : فان المحقق الثاني ( قال في فوائد الشرايع كما عن حاشية الارشاد ، بعد ان ذكر انّ غير المحصور ) الذي يصطلح عليه الفقهاء انّما هو ( من الحقائق العرفيّة ) لانّها ليست حقيقة شرعية ، ولا حقيقة لغوية ، ولا حقيقة متشرعية ، بل ولا حقيقة فقهائية ، لانّ الفقهاء المتقدميّن لم يصطلحوا على هذا اللفظ وانّما هو مختص بالفقهاء المتأخرين ، قال ما يلي :

( « إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب انّه اذا اخذ مرتبة عُليا من مراتب العدد كألف - مثلاً - قطع بانّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة، لعسر ذلك في الزمان القصير ) لانّ الانسان لا يتمكن من عدّ الألف واحدا واحدا حتى يصل الى تمامه في زمان قصير جدا .

ص: 83

فيجعل طرفا ، ويؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدّا ، كالثلاثة يقطع بأنّها محصورة ، لسهولة عدّها في الزّمان اليسير .

وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل اُلحِقَ به ، وكذا ما جرى الطرف الثاني اُلحِقَ به ، وما يفرض فيه الشك يعرض على القوانين والنظائر ،

-------------------

وعليه : ( فيجعل ) مثل الألف ( طرفا ) أعلى يقطع بانه غير محصور لعسر عدّه في الزمان القصير ( ويؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدّا ) اي : مرتبة دانية من العدد ( كالثلاثة ، يقطع بانّها محصورة لسهولة عدّها في الزّمان اليسير ) القصير .

هذا بالنسبة الى المرتبتين العليا والدنيا ، وأما بالنسبة الى ما بينهما فكما قال ( وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل ) اي: تشبّه بالألف في عسر العدّ كتسعمائة وثمانمائة وما أشبه ذلك ( اُلِحقَ به ) اي بالطرف الأعلى .

( وكذا ما جرى ) مجرى ( الطرف الثاني ) اي تشبّه بالثلاثة في يسر العدّ كالخمسة ، والتسعة وما أشبه ذلك ( اُلحِقَ به ) اي : بالطرف الأدنى .

( وما يفرض فيه الشك ) بانّه هل هو من المرتبة العليا أو من المرتبة الدّنيا كالاربعمائة والثلاثمائة وما أشبه ذلك ؟ فانّه ( يعرض ) ذلك المشكوك ( على القوانين ) الأولية والأمارات المجعولة شرعا ( والنظائر ) لذلك المشكوك من الامور الواضحة في العُسر واليُسر ، فيحكم في ذلك المشكوك بحكم نظيره عسرا ويسرا .

مثلاً : اذا علم بغصبية شاة واحدة من قطيع فيه مائتا رأس فشك في انّ هذا شبهة محصورة أو غير محصورة ، فانه يلاحظ نظائرها واشباهها ممّا يكون يقدر مائتين ، كاشتباه غصب واحد في مائتي ثوب ، أو مائتي اناء ، أو مائتي درهم

ص: 84

ويرجع فيه الى الغالب ، فان غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذاك ، والاّ عمل فيه بالاستصحاب الى ان يعلم الناقل ، وبهذا ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطّهارة ، والنكاح ، وغيرهما» .

-------------------

أو ما اشبه ذلك ، فيرى بحسب ما يغلب على ظنه : بانه هل يعدّ ذلك في نظر العرف عُسرا أو يسرا فيعمل عليه ، كما قال : ( ويرجع فيه الى الغالب ) اي : الغالب على الظنّ في انّه ملحق بالعُسر أو باليسر.

وانّما فسّرنا الغالب : بما يغلب على الظن ، لقرينة قوله بعد ذلك : ( فان غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين ) من الألف أو الثلاثة ( فذاك ) الذي يجب أن يعمل به في كونه محصورا أو غير محصور .

( والاّ عمل فيه بالاستصحاب ) فان كان كلها حراما ثم حلّ جملة كبيرة منها ، كما اذا كانت أواني نجسة ثم طهرت اكثرها ، أو كان خبازون يبيعون الحرام لانّ الدولة تعطيهم المغصوب من الحنطة ، ثم رفض أغلبهم حنطة الحكومة واشتروا الحنطة من التجار ، فالاستصحاب يقتضي الحرمة بالنسبة الى الفرد المشكوك .

وان كان العكس : بأن كانت الأواني محللة ثم صار بعضها حراما ، والخبازون كانوا يبيعون الحلال ثم صار بعضهم يبيع الحرام ، فالاستصحاب يقتضي الحلّية ( الى ان يعلم الناقل ) من الاستصحاب الى مضادّه .

( وبهذا ) الترتيب الذي ذكرناه ( ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطّهارة ، والنكاح ، وغيرهما ) كما اذا علم اجمالاً نجاسة آنية بين أواني كثيرة ، أو علم حرمة امرأة بين نساء كثيرات ، أو طهارة آنية بين أواني كثيرة ، أو حلية امرأة بين نساء كثيرات ، أو ما أشبه ذلك : من المغصوب والمباح ، والمحقون الدم ومهدور الدم ، ونحو هذه الأمور .

ص: 85

أقول : وللنّظر فيما ذكره قدس سره مجالٌ .

أما أوّلاً : فلأنّ جعل الألف من غير المحصور منافٍ لما عللّوا عدم وجوب الاجتناب به من لزوم العُسر في الاجتناب ، فانّا اذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراع ، وعلم بنجاسة جزء يسير منه يصحّ السجود عليه ، نسبته الى البيت نسبة الواحد الى الألف ، فأيّ عُسر في الاجتناب عن هذا البيت والصّلاة في بيت آخر ؟ وأيّ فرق بين هذا الفرض

-------------------

هذا هو تمام الكلام من المحقق الثاني في ضابط المحصور وغير المحصور .

( أقول : وللنّظر فيما ذكره قدس سره مجالٌ ) واسع :

( أما أوّلاً : فلأنّ جعل الألف من غير المحصور منافٍ لما عللّوا عدم وجوب الاجتناب به : من لزوم العُسر في الاجتناب ، فانّا ) لو اخذنا مثالهم بالالف : وتعليلهم بلزوم الحرج الغالبي ، لوجدناهما متنافيين ، إذ كثيرا ما لا حرج في الاجتناب عن اطراف الألف .

مثلاً : ( اذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراع ) ممّا حاصله اربعمائة ذراع ( وعلم بنجاسة جزء يسير منه ) بقدر ما ( يصحّ السجود عليه ) أو يمكن التيمم به ، ممّا يكون ( نسبته ) اي : نسبة ذلك الجزء ( الى البيت نسبة الواحد الى الألف ) وأحيانا نسبة الواحد الى ألفين ، أو ثلاثة آلاف ومع ذلك لا عسر في الاجتناب عنه كما قال : ( فاي عُسر في الاجتناب عن هذا البيت والصّلاة في بيت آخر ؟ ) لمن لم يسجن في هذا البيت ، فانه اذا سجن فيه ، كان التكليف ساقطا عنه من جهة الحصر والحبس .

( وايّ فرق بين هذا الفرض ) الذي يدخل بحسب كلام المحقق الثاني في غير

ص: 86

وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشّبهة ؟ فانّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالاً ، قليلاً أو كثيرا ، وكذا لو فرضنا أوقيةً من الطعام يبلغ ألفَ حبّة ، بل أزيد ، يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فانّ جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب .

-------------------

المحصور ( وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه ) اي : من هذا البيت ( أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشّبهة ؟ ) في عشرة أو عشرين أو ما اشبه ذلك مّما يدخل في المحصور .

وعليه : (فانّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالاً ، قليلاً) نسبته كجزء من ألف جزء من البيت ( أو كثيرا ) نسبته كذراع أو ذراعين منه ، فانّ كليهما لا عُسر في الاجتناب عنهما ، فلماذا صار الاوّل غير محصور والثاني محصورا ؟ .

( وكذا لو فرضنا أُوقيةً من الطعام يبلغ ألفَ حبّة بل أزيد ، يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فانّ جعل هذا من غير المحصور ) لانّه واحد من الف أو اكثر وهو ممّا يعسر عدّه في زمان قصير ( ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب ) لما عرفت : من انّه لا يتعسر الاجتناب عنه وان تعسر عدّه في زمان قصير ، فلا عسر في ترك هذا الطعام كله وأكل طعام غيره فيما اذا لم يكن مضطرا الى أكل هذا الطعام ، وامّا اذا كان مضطرا اليه فالحكم مرفوع بالاضطرار لا بعدم كونه محصورا .

لكن لا يخفى : انهم لما جعلوا المعيار هو العسر ، ارادوا من مثالهم بالألف كل مورد يكون الاجتناب فيه عن الألف مستلزما للعسر ، مثل : ما إذا كان في البلد الف خباز أو الف بقال وكان واحد من بين كل منهما يبيع الحرام - مثلاً - أو كانت

ص: 87

وأما ثانيا : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر ، أو مجرى غيره لا دليل عليه .

وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة الرّجوع في مورد الشك الى

-------------------

النساء الف امراة وكان من بينهن واحدة هي رضيعته أو زوجة أبيه - مثلاً - أو ما اشبه ذلك ممّا يعسر الاجتناب فيه عن الجميع ، لا ما اذا لم يكن كذلك .

( وأما ثانيا : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر ، أو مجرى غيره ) اي : غير المحصور في عدم سهولة عدّة ( لا دليل عليه ) اي : انّ ماجعله المحقق من المرتبة العليا لغير المحصور ، والمرتبة الدنيا للمحصور ثم جعل ظنّ الفقيه هو المحكّم في الأعداد المتوسطة بين المرتبتين ، كما جعل الظن عند عرض المشكوك منهما على النظائر هو المحكمّ فيها ، غير تام لانّه يرد عليه : انّه لا دليل على حجيّة هذا الظن .

ولكن يمكن الجواب عن هذا الاشكال : بانّه لا اشكال في حجية الظنّ الذي يعمل عليه العقلاء في باب الموضوعات.

مثلاً : نراهم يركبون السيارة والطائرة والباخرة مع انّهم لا يعلمون بأنها توصلهم الى مقصدهم بسلام ، ويراجعون الطبيب مع عدم علمهم بانّه يصيب في معالجتهم ، ويجرون العملية الجراحية كذلك ، ويرسلون أولادهم الى المدارس مع عدم علمهم برجوعهم الى البيت سالمين ، والى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة العرفية ، فاشتراط اكثر من الظنّ في الموضوعات لا دليل عليه .

( وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة ) ما ذكره قدس سره اخر كلامه : من ( الرّجوع في مورد الشك ) العارض للشبهة في انها تلحق بالمحصور أو بغير المحصور ( الى

ص: 88

الاستصحاب حتى يعلم الناقل ، لانّه إن اريد به استصحاب الحلّ والجواز ، كما هو الظاهر من كلامه ، ففيه : إنّ الوجهَ المقتضي لوجوب الاجتناب في المحصور - وهو وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين المشتبهات - قائمٌ بعينه في غير المحصور ، والمانع غيرُ معلوم ، فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب ،

-------------------

الاستصحاب حتى يعلم الناقل ) من الاستصحاب ، وذلك ( لانّه إن اريد به : استصحاب الحلّ والجواز كما هو الظاهر من كلامه ) مما قد تقدّم بيانه ( ففيه ) كما قال : ( أنّ ) الحالة السابقة من الحلّ والجواز التي يراد استصحابها في المورد المشكوك قد انتقضت بالعلم الاجمالي بوجود الحرام بينهما ، ودليل وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي في المورد المشكوك سواء ألحقناه بالمحصور أم بغير بالمحصور منجّز ، وذلك لانّ ( الوجه المقتضي لوجوب الاجتناب في المحصور وهو : وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين المشتبهات ) كالانائين ، والثلاثة والاربعة ، وما أشبه ذلك ( قائم بعينه في غير المحصور ) ايضا .

وعليه : فالمقتضي للاجتناب عن اطراف الشبهة في غير المحصور - كالمحصور - موجود ( والمانع ) عن اقتضائه حتى يصل الامر فيه الى الاستصحاب ( غيرُ معلوم ، فلا وجه ) إذن ( للرجوع إلى الاستصحاب ) في المورد المشكوك .

والحاصل : انّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ، منجّز للتكليف بوجوب الاجتناب عن الاطراف ومانع عن جريان الاستصحاب فيها ، سواء كان العلم الاجمالي في اطراف غير المحصور ، أو في اطراف المحصور ، والمورد

ص: 89

الاّ أن يكون نظره الى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب ، من أنّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل غيرُ موجود .

وحينئذٍ : فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها الى الشك في وجود المقتضي للاجتناب ،

-------------------

المشكوك لايخلو من لحوقه إما بالمحصور أو بغير المحصور ، فيكون العلم الاجمالي فيه مانعا عن جريان الاستصحاب فيه ايضا .

لكن لا يخفى : ان هذا الاشكال ايضا غير تام لما ذكره المصنِّف بقوله : ( الاّ ان يكون نظره ) اي : المحقق الثاني قدّس اللّه سرّه ( الى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب ) في اطراف الشبهة غير المحصورة ( : من انّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، وهو : حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل غير موجود ) .

وإنّما لم يكن المقتضي موجودا لان العلم الاجمالي انّما يوجب الاجتناب عن محتملات الحرام من باب المقدّمة العلمية التي لا تجب الاّ لاجل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل في فعل كل واحد من المحتملات ، وهذا لا يجرى في المحتملات غير المحصورة ، ضرورة ان كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات عند العقل والعقلاء .

( وحينئذٍ ) اي : حين كان نظر المحقق هنا ذلك ( فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها الى الشك في وجود المقتضي للاجتناب ) والمقتضي للاجتناب هو كما - عرفت - : احتمال الضرر في ارتكاب بعض الاطراف .

لكنّ احتمال الضرر هنا موهون في غير المحصور لاجل كثرة الاطراف ،

ص: 90

ومعه يرجع الى أصالة الجواز .

لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ، فالأقوى وجوب الرجوع مع الشك الى أصالة الاحتياط لوجود المقتضي وعدم المانع .

-------------------

فلا يعتني به العقلاء ، فيكون مرجع الشك في المورد المشكوك الى الشك في وجود المقتضي ( ومعه ) أي : مع الشك في وجود المقتضي لوجوب الاحتياط ( يرجع الى أصالة الجواز ) لانّه لا يعلم وجود المقتضي ، وكل ما لم يعلم وجود المقتضي فيه لا يترتب الأثر عليه .

( لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ) اي : الدليل الخامس حيث قد تقدّم : انّ احتمال العقاب يقتضي الاحتياط مطلقا ، سواء في المحصور أو في غير المحصور، فيلزم عند الشك في المورد المشكوك بانه من الشبهة المحصورة أو غير المحصورة أن يعمل بالمقتضي ، كما قال : ( فالأقوى وجوب الرجوع مع الشك الى أصالة الاحتياط ) وذلك بالاجتناب عن جميع الاطراف ، لا الى استصحاب الحل والجواز .

وانّما كان الاقوى الاحتياط ( لوجود المقتضي ) للاحتياط في المورد المشكوك ( وعدم ) العلم بوجود ( المانع ) عن هذا المقتضي ، واذا كان المقتضي للاحتياط وهو : احتمال العقاب موجودا ، ولم نعلم بوجود المانع عن الاحتياط وهو : كثرة الاطراف الموهن لاحتمال العقاب كان اللازم تأثير المقتضي أثره .

إلاّ ان يقال : أن مرجع الشك في المورد المشكوك انه من المحصور أو من غير المحصور ، الى الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به ، وذلك لما تقدّم : من إنّ العقلاء لا يعتنون بالعقاب المحتمل إلاّ اذا كان الاحتمال عقلائيا ، ومع الشك في كونه من المحصور أو من غير المحصور لا يكون الاحتمال عقلائيا .

ص: 91

وكيف كان : فما ذكروه من إحالة غير المحصور وتمييزه عن غيره الى العرف ، لا يوجبُ الاّ زيادة التحيّر في موارد الشك .

وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنّجس : « لعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه الى ترك الصّلاة غالبا ، فهو غير محصور ،

-------------------

( وكيف كان :) فانه سواء قلنا بانّ المرجع عند الشك هو الاستصحاب كما قاله المحقق ، أم الاحتياط كما نراه نحن ( فما ذكروه : من إحالة ) تشخيص (غير المحصور وتمييزه عن غيره الى العرف ، لا يوجبُ الاّ زيادة التحيّر في موارد الشك).

لكن قد عرفت : ان هذا الاشكال غير تام ، اذ شأن مفهوم غير المحصور شأن جميع المفاهيم العرفية للموضوعات الخارجية ، فانه يرجع فيها الى العُرف وان كان يشك مع ذلك في بعض افرادها ، فان الماء وهو اظهر المفاهيم العرفية يشك في بعض أفراده .

ثم هل يوجد هناك موضوع خارجي لا يشك في شيء من أفراده ؟ نعم ، في الامور الرياضية لا يشك في شيء من أفرادها كالعدد والاشكال الهندسية ، وكذا في الامور الاصطلاحية التي جعلوا فيها مايكون حدّا خاصا للاصطلاح ، فانه لايشك فيها .

هذا ، وقد كان على المصنِّف أن يستشكل اشكالاً رابعا على المحقق ويقول : بانّه ما هو المعيار في قصر الزمان وطوله مع انّهما نسبيّان ، فساعة - مثلاً - من الزمان المحدّد بستين دقيقة قصير بالنسبة الى اليوم ، وطويل بالنسبة الى الدقيقة ، وهكذا .

( وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنّجس ) وانّه هل يمكن الصلاة عليه أو التيمم به ؟ أو هل يطهّر باطن القدم أو ما أشبه ذلك ؟ قال ( « لعلّ الضابط : انّ ما يؤدّي اجتنابه الى ترك الصّلاة غالبا ، فهو غير محصور ) فاذا

ص: 92

كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي الى الترك غالبا » ، انتهى واستصوبه في مفتاح الكرامة ، وفيه ما لايخفى من عدم الضبط .

-------------------

كان - مثلاً - في صحراء وسيعة يعلم بغصبية بعض نواحيها ، فانه اذا أراد الخروج منها للصلاة في أرض متيقّنة الحلية تطلع الشمس في صلاة الصبح ، أو تغرب الشمس في صلاة الظهرين ، فهذا غير محصور ( كما انّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الارض يؤدّي الى الترك ) أي: الى ترك أَكل اللحم بالنسبة الى الشاة المشتبهة ، أو ترك الزواج بالنسبة الى المرأة المشتبهة ( غالبا » ، انتهى ) كلام كاشف اللثام ( واستصوبه في مفتاح الكرامة ) .

لكن ، حيث انّ هذا الكلام لا يكون شاملاً لجميع موارد الشبهة غير المحصورة قال بعضٌ مايلي : لعلّ مراده هو : انّ الضابط : بلوغ أطراف الشبهة الى حدّ يلزم غالبا من الاحتياط في اطرافها فوت المنفعة المقصودة من تلك الطبيعة شرعا مما فيه ضررا ، أو حرج ، أو هلاك ، أو فوت واجب ، أو ارتكاب محرّم مثلاً : فوات أكل اللحم اذا اراد الاجتناب عن اللحوم المشتبهة ، وفوات الزواج إذا اراد الاحتياط بترك النساء المحتملات ، أو فوات الصلاة إذا اراد التخلص من تلك الأرض المغصوبة أوفوات شرب الماء اذا اراد الاجتناب عن المياه المحتمل غصبية بعضها ، الى غير ذلك ، فيكون ما ذكره من مثال الشاة أو الامرأة هنا من باب المثال .

( وفيه ما لايخفى : من عدم الضبط ) فانّه وان كان هذا قد يتم فيما ذكرناه من الأمثلة المذكورة ، لكن اكثر الشبهات غير المحصورة تكون خارجة عن هذا الضابط ، وذلك لامكان الاستفادة غالبا من المماثل والمشابه لها الموجود

ص: 93

ويمكن ان يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم الى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كثيرة يعلم بوجود زيد فيها

-------------------

في مناطق اخرى ، أو الاستفادة من فرد آخر في نفس المنطقة لكن خارجا عن اطراف تلك الشبهة غير المحصورة .

وعليه : فلا يلزم في كثير من موارد الشبهة غير المحصورة فوات المنافع أو جلب المضار بسبب الاحتياط في اطرافها فلا يكون الضابط جامعا حينئذٍ .

والحاصل : إنّ التحديد المذكور أخصّ من الشيء الذي يُراد تحديده وهو : غير المحصور ، فهو من قبيل تعريف الحيوان بانّه انسان ، مع انّه يلزم التطابق بين الحدّ والمحدود ( ويمكن ان يقال ) في تحديد ضابط غير المحصور ( بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : انّ غير المحصور ) وقوله « ان » ، نائب فاعل عن « ان يقال » ( ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم الى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها ) ومعلوم : ان عدم اعتنائهم يسقط العلم الاجمالي عن اقتضائه التكليف في اطراف الشبهة .

وعليه : فيكون الشك في اطراف غير المحصور من الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به ، وذلك لأنّ العرف : المعيار في تطبيق المحرّمات مثل : اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن الغصب ، واجتنب عن النجس ، وما أشبه ذلك ، فاذا لم ير العرف شمول تلك الأدلة لاطراف غير المحصور لم يجب الاجتناب عنها .

( الا ترى انّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كثيرة ) الأهل وهو ( يعلم ) اجمالاً ( بوجود زيد فيها ) اي : في تلك

ص: 94

لم يكن ملوما وان صادف زيدا .

وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالاجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ومردّد بين أهل بلدة .

ونحوه ما إذا علم إجمالاً بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ ،

-------------------

القرية ، فانه ( لم يكن ملوما ) من قبل العقلاء ( وان صادف ) طرف معاملته ( زيدا ) وذلك لما عرفت : من عدم اعتناء العقلاء بمثل هذا العلم الاجمالي .

وكذا لو نهاه عن الزواج بمن تزوجها والده ، فتزوّج إمراة من بلدة كثيرة الأَهل واتفق انّ المرأة التي تزوجها كانت زوجة والده سابقا ، لم ير العقلاء انّه خالف نهي المولى .

هذا ( وقد ذكرنا : انّ المعلوم بالاجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ما ) اي : تاثيرا ( لا يؤثره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ) .

وإنّما لا يؤثر العلم الاجمالي مع كثرة الاحتمال لانّه يسقط عن الاقتضاء ، فلا يكون المرتكب مخالفا للنهي ( كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ) حيث انّ كل واحد منهم يتأثر به ( ومردّد بين أهل بلدة ) حيث انه لا يتأثر أحد منهم به ، وذلك لكثرة الاحتمال في الثاني دون الأَول.

( ونحوه ) اي : في عدم التأثير وان لم يكن نهي ( ما اذا علم إجمالاً بوجود بعض القرائن الصّارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب ، والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ ) أو اذا علمنا بأن المولى يريد خلاف الظاهر من بعض كلامه المنتشر في كلامٍ كثير ، أو أشبه ذلك ، فانه لا تأثيرا لهذا العلم الاجمالي لسقوطه عن الاقتضاء .

ص: 95

الى غير ذلك من الموارد التّي لايعتنى فيها بالعلوم الاجمالية المترتّب عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كل مقام .

وليعلم أنّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة بالوقائع التي يقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام ، فاذا علم نجاسة أُرزّ محرّمة أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض أنّ تناول ألف حبّة من الاُرزّ في العادة بعشر لقمات ، فالحرام مردّد بين عشرة محتملات ، لا ألف محتمل ،

-------------------

وعليه : فان العلم الاجمالي بأنّ بعض ظواهر الكتاب ، أو السنة ، أو بعض كلام المولى أُريد منه خلاف ظاهره واختفت القرينة ، أو حصل نقل عن معناه اللغوي الى معنى آخر ، وأمثال ذلك ، فانّ العلم الاجمالي هذا لا يكون عند العقلاء مانعا عن العمل بتلك الظواهر ، بل لو لم يعمل العبد بتلك الظواهر كان ملوما عندهم .

وكذلك الحال فيما تقدَّم من مثال السفر بوسائل النقل ، مراجعة الطبيب ، ونحوهما .

( الى غير ذلك من الموارد ) الكثيرة ( التّي لايعتنى فيها بالعلوم الاجمالية المترتّب عليها ) أي : هذه العلوم الاجمالية ( الآثار المتعلّقة بالمعاش ) كما مثّلنا له بجملة من الأمثلة المتقدمة ( والمعاد ) كما مثّلنا له بظواهر الكتاب والسنة ( في كل مقام ) مّما يدل على ان العلم الاجمالي لا يقتضي العمل على طبقه مع كثرة الأطراف.

( وليعلم : انّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة ) في باب الشبهة غير المحصورة انّما هو (بالوقائع التي يقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام) فليس المعيار بالوحدات المحرمة بسبب العلم الاجمالي وانّما المعيار بالوقائع .

وعليه: ( فاذا علم نجاسة اُرزّ محرّمة ، أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض : أنّ تناول ألف حبّة من الأرزّ في العادة بعشر لقمات ) أو عشرين لقمة - مثلاً - ( فالحرام مردّد بين عشرة محتملات ) أو عشرين محتمل ( لا ألف محتمل ) لما

ص: 96

لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة يحرم أخذها لإشتمالها على مال الغير ، أو مضغها لكونه مضغا للنجس ، فكأنّه علِم إجمالاً بحرمة واحد من عشر لقمات .

نعم ، لو اتفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كلّ حبة واقعة مستقلّة كان له حكم غير المحصور ، وهذا غاية ما ذكروا ، أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوقٌ بشيء منها .

-------------------

عرفت : من ان الميزان : الوقايع لا الأعداد التي فيها الحرام .

وانّما يكون العبرة بالوقائع ( لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة ) تكون تلك اللقمة هي التي ( يحرم أخذها لإشتمالها على مال الغير ) فالحرام مردّد بين عشرة أو عشرين محتمل ( أو ) تكون هي التي يحرم ( مضغها ) وأكلها ( لكونه مضغا ) وأكلاً ( للنجس ) أو الغصب ( فكأنه عَلِمَ اجمالاً بحرمة واحد من عشر لقمات ) فتكون من المحصورة .

وعليه : فاذا انعكس الأمر بأن كانت الأعداد قليلة والوقائع كثيرة كما اذا كان له - مثلاً - عشر قطع من الارض مساحة كل قطعة منها ألف متر وكانت كلها محل ابتلائه فتنجس مقدار متر منها ، فان النجس يكون مردّدا بين عشرة آلاف لا بين عشرة ، فتكون الشبهة هنا من الشبهة غير المحصورة .

( نعم ، لو اتفق تناول الحبوب ) واحدا واحدا لا لقمة لقمة ( في مقام ) كما في تناول التين ونحوه ( يكون تناول كلّ حبة واقعة مستقلّة ) و ( كان له حكم غير المحصور ، وهذا ) كما لايخفى واضح .

هذا ( غاية ما ذكروا ، أو يمكن ان يذكر في ضابط المحصور وغيره ) اي : غير المحصور ( ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوقٌ بشيء منها ) اي : بشيء من هذه

ص: 97

فالأولى : الرجوعُ في موارد الشك الى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الاجمالي الموجود في ذلك المورد ، فانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب

-------------------

الضوابط حتى الضابطة الاخيرة التي جعلنا العبرة فيها بالوقائع ، واشرنا اليها بقولنا : « ويمكن ان يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس » .

وانّما لم يثق المصنِّف بهذا الوجه ايضا بما تقدَّم : من انّ الخامس محل تأملّ عنده رحمه اللّه ، بالاضافة الى بقاء الشك في مقدار ما يعتني به العقلاء ومقدار ما لا يعتنون به مع وجود هذا الضابط ، فيكون الاشكال عليه كبرويا بمعنى : عدم كلية هذا الضابط ، لأن هناك موارد نشك في انّها من المحصور أو من غير بالمحصور .

لكنّا قد أجبنا عن هذا الاشكال فيما سبق : بانّه لابد منه ، للشك حتى في بعض افراد الماء مع انّه من اظهر المفاهيم العرفية فيكون الوجه الاخير حينئذٍ هو المتعيّن ضابطا للمحصور وغير المحصور .

لكن حيث يرى المصنِّف ورود هذا الاشكال قال : ( فالأولى ) بعد ورود الاشكال في الضابط الأَخير هو : الاكتفاء في ترك الاحتياط وجواز ارتكاب الاطراف بموارد نقطع فيها بكون الشبهة غير محصورة ، وأمّا التي نشك فيها ، فيجب ( الرجوعُ في موارد الشك الى حكم ) العقل و ( العقلاء بوجوب مراعاة العلم الاجمالي الموجود في ذلك المورد ) لا باستصحاب الحل والجواز الذي ذكره المحقق الثاني .

وعليه : ( فانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » ) أو اجتنب عن الغصب ، أو اجتنب عن النجس ، أو ما أشبه ذلك ( لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب

ص: 98

عن الخمر بين الخمر المعلوم المردّد بين أمور محصورة ، وبين الموجود المردّد بين أمور غير محصورة .

غايةُ الأمر قيام الدليل في غير المحصور على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا ، فاذا شك فى كون الشبهة محصورة أو غير محصورة شكّ في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ، فيجب ترك جميع المحتملات لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض .

-------------------

عن الخمر ) والنجس والغصب وغير ذلك ( بين الخمر المعلوم المردّد بين أمور محصورة ، وبين الموجود المردّد بين أمور غير محصورة ) لفرض انّ الخمر موجودٌ في الموردين ويجب الاجتناب عنه شرعا في كِلا الموردين .

( غايةُ الأمر قيام الدّليل في غير المحصور على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا ) حيث ذكرنا : انّه لا يجوز ارتكاب الكل وانّما يلزم الابقاء على قدر الحرام .

وعليه : ( فاذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة : شك في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي ) قياما بدليّا ( في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ) وحيث يشك في انّ الشارع جعل له البدل ام لا ( فيجب ترك جميع المحتملات ، لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض ) وذلك لما تقدّم : من انّ العقل والعقلاء يرون وجوب الاجتناب عن الاطراف التي فيها بعض المحرمات .

ص: 99

الثالث :

اذا كان المردّد بين الامور غير المحصورة أفرادا كثيرة ، نسبة مجموعها الى المشتبهات كنسبة الشيء الى الامور المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في الف وخمسمائة شاة ، فانّ نسبة مجموع المحرّمات الى المشتبهات كنسبة الواحد الى الثلاثة ، فالظاهر أنّه ملحق بالشبهة المحصورة ؛

-------------------

هذا ولا يخفى : انّ الأمر في الواجب أيضا كذلك ، فانه اذا قال المولى : صلّ وتردّدت الصلاة بين الظهر والجمعة وجب التيان بهما ، أمّا اذا قال : أضف زيدا ، وتردّد زيد بين أهل قرية فيها ألف انسان ولم يتمكن من تحصيل زيد بشخصه أو تحصيل دائرة ضيقة كالأثنين والثلاثة فيها زيد ، فانه يسقط التكليف ، فلا يكون المقتضي بحيث يؤثر أثره كما ذكرناه في باب التحريم .

( الثالث ) مما يخص الشبهة غير المحصورة هو : انّه ( اذا كان ) الحرام ( المردّد بين الأمور غير المحصورة افرادا كثيرة ، نسبة مجموعها الى المشتبهات كنسبة الشيء ) الواحد ( الى الامور المحصورة ) ويسمّى في الاصطلاح : شبهة الكثير في الكثير .

( كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة شاة ، فانّ نسبة مجموع المحرّمات ) وهي : الخمسائة ( الى المشتبهات ) وهي الألف وخمسمائة ( كنسبة الواحد الى الثلاثة ) لانسبة الواحد الى الألف وخمسمائة ، وذلك لانّه لايلاحظ نسبة كل حرام الى المجموع ، بل يلاحظ نسبة مجموع المحرّمات الى نسبة مجموع الأفراد .

وعليه : ( فالظاهر : انّه ) أي المشتبه الكثير في الكثير ( ملحق بالشبهة المحصورة ) من جهة : إنّ العقلاء يجتنبون عن كل الأفراد في مثل هذه النسبة

ص: 100

لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملاتُ هذا الحرام المتباينة ثلاثةٌ ، فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة .

وأمّا ماعدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

-------------------

( لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، و ) نسبته واحد من ثلاثة ، فيكون من المحصور.

أمّا ( محتملات هذا الحرام ) من المشتبه الكثير في الكثير ، فيكون على قسمين :

الأوّل : محتملاته المتبانية ، وهي التي تحصّص الأطراف الى حصص متناسبة مع مقدار الحرام ومقدار غير الحرام من حيث المجموع ، وهذا لا يكون إلاّ بعد محاسبة النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ثم اخراج العدد حسب تلك النسبة ، ونسبة الخمسمائة فيما نحن فيه الى المجموع وهي : الألف وخمسمائة ، نسبة واحد من ثلاثة - بمعنى : الثلث - فتكون كما قال المصنِّف :

المحتملات ( المتباينة ثلاثةٌ ) فقط ، لانّ احتمال الحرمة في كل واحد من هذه الشياة ، احتمال من ثلاثة احتمالات ، لا احتمال من ألف وخمسمائة احتمال .

إذن : ( فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة ) فيتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر ، لانّ الحرام هو أحد هذه الثلاثة فقط .

الثاني : محتملاته المتداخلة ، وهي التي يكون التحصيص فيها غير متناسب مع مقدار الحرام وغير الحرام من حيث المجموع ، وذلك بأن لايلاحظ النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ولعدم ملاحظة النسبة في التحصيص تصبح المحتملات كثيرة ومشتملة على الحرام، فاذا اشتملت على الحرام فلا يتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر لوجود الحرام في الآخر أيضا ، كما قال : ( وأمّا ماعدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

ص: 101

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة .

-------------------

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة ) في كل منها الاحتمالات الاُخر لوجود الحرام فيها ايضا .

والحاصل : ان الواحد في الثلاثة التي هي نسبة المشتبه الى المجموع في المثال، يكون فيه ثلاثة احتمالات متعارضة ، كل منها خمسمائة ، فخمسمائة بيض، وخمسمائة سود ، وخمسمائة حمر - مثلاً - فيقع التعارض بينها كما يلي :

الأوّل : أن يكون الأبيض حراما دون الأسود والأحمر ، وهو في مثالنا : الخمسمائة البيض دون السود والحمر .

الثاني : ان يكون الأسود حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة السود دون البيض والحمر .

والثالث : ان يكون الأحمر حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة الحمر دون البيض والسود .

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات الثلاثة يكون أحد الثلاثة مفرزا ، لانّ الحرام في مثالنا ليس اكثر من خمسمائة حتى يختلط بغيره .

بخلاف ما اذا لم نلاحظ هذه النسبة ، فانّ الاحتمالات تكون كثيرة مثل تحصيص المجموع الى خمس حصص كل حصة ثلاثمائة ، أو عشر حصص كل حصة مائة وخمسين ، وهكذا ممّا يكثر فيه الاحتمالات .

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات يكون مختلطا ، لانّ الثلاثمائة ، أو المائة وخمسين ، وهكذا ما شابههما ليس مجموع الحرام حتى لا يختلط الحرام بغيره من الحصص ، ولذلك فانّ العقلاء لا يأخذون بهذه الاحتمالات ، بل يأخذون بالاحتمال الأوّل الذي هو احتمال الواحد من الثلاثة ممّا تكون النتيجة : ان

ص: 102

الرابع :

إنّما ذكرنا في « المطلب الأوّل » المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : « أنّ مسائله أربع :

الأولى منها : الشبهة الموضوعية » ، وأمّا الثلاث الاُخر : وهي ما إذا

-------------------

الخمسمائة في الف وخمسمائة من الشبهة المحصورة لا من غير المحصورة .

وبما ذكرناه : من المحصورة وغير المحصورة تبيّن انّ الاقسام في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي اربعة :

الاوّل : القليل في القليل كواحد في ثلاثة .

الثاني : الكثير في الكثير ، كخمسمائة في الف وخمسمائة .

الثالث : القليل في الكثير ، كثلاثة في ثلاثة آلاف .

الرابع : الكثير في القليل ، مثل : عشرة في احد عشر.

هذا ، ولا مناقشة في التسمية ، فلا يقال ان القسم الرابع لا يسمّى بالكثير في القليل ، لانّ المهم : المحتوى لا اللفظ .

( الرابع : ) من الامور الباقية في هذا المبحث والذي به يختم المصنِّف البحث في المطلب الأوّل من المطالب الثلاثة التي قسّم الشك في المكلّف به اليها هو ما أشار اليه بقوله : ( إنّما ذكرنا في « المطلب الأوّل » المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : ان مسائله اربع : ) وقد تناولت المسئلة ( الأولى منها : الشبهة الموضوعية » ) الناشئة عن اشتباه الامور الخارجية ، وذكرنا هناك : بأنّ رفع الشبهة فيها انّما يكون باستطراق باب العرف وهي : امّا محصورة أو غير محصورة ، وقد تقدّم الكلام حولها مفصلاً ، وبقي من المطلب الاول مسائل ثلاث اشار اليها بقوله : ( وأمّا الثلاث الاُخر وهي : ما إذا

ص: 103

اشتبه الحرامُ بغير الواجب ، لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمُها يظهرُ ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية .

لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، فانّ مادّتي الافتراق من هذا القسم .

ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة واختلف في

-------------------

اشتبه الحرام بغير الواجب ) من المستحب أو المكروه أو المباح ( لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمُها يظهرُ ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية ) من الاحتياط وعدمه في المحصورة وغير المحصورة .

( لكن أكثر ما يوجد ) في الفقه ( من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ) وهو إجمال النص ( كما اذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين ) فلم نعلم بانّ المحرّم هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه ؟ .

ومن المعلوم : ان النسبة ( بينهما عموم من وجه ، فانّ ) مادة الاجتماع حرام قطعا وهو الصوت المطرب المرجّع فيه ، فيجب الاجتناب عنه بلا كلام .

وأمّا ( مادّتي الافتراق ) فيكونان ( من هذا القسم ) اي : من القسم الثاني وهو : اجمال النص ، فاذا قلنا بانه يجب الاحتياط في اجمال النص ، لانّ التكليف فيه معلوم ، وانّما الشك في المكلّف به ، فيجب الاحتياط فيهما بتركهما معا ، فيجتنب عن الصوت المطرب وعن الصوت المرجّع فيه ايضا .

( ومثل ما اذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة، واختلف في

ص: 104

تعيينه ، ومثل قوله ، صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن جَدّد قَبرا أو مَثّلَ مثالاً فَقَد خَرَج عن الاسلام » حيث قرء : جدّد بالجيم ، والحاء المهملة ،

-------------------

تعيينه ) فقد ورد في التواريخ : انه اذا كان يوم الجمعة في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان المؤذن يؤذّن أوّلاً أذان الاعلام ثم يؤذّن للصلاة والرسول حاضر في المسجد ؛ ثم تقام الصلاة ، كذلك كان في زمن ابيبكر وعمر ، امّا في زمن عثمان فانّ المؤذن كان يؤذّن أوّلاً أذان الاعلام ، ثم يؤذّن للصلاة ، لكن عثمان لم يخرج الى المسجد حتى يفرغ المؤذن من اذانه ثم كان عثمان يخرج متى شاء فيأمر بأذان آخر ويصلي بعدها ، وجرت عليه عادته حتى كان ذلك من جملة ما أثار نقمة المسلمين عليه لانّه أبدع الأذان الثالث على خلاف الرسول وخلاف من تقدَّمه .

وعليه : فيكون المراد من الأذان الثالث هو : الأذان المتوسّط بين الأذانين ، لكن مع ذلك اختلف في المراد بالأذان الثالث - كما يجده المتتبع في كتب الفقه هل هو أذان صلاة العصر ، أو الأذان الثالث ، أو الأذان الثاني ؟ وحيث كان من اشتباه الحرام بغير الواجب لأنّ الأذان من المستحبات - على المشهور - فيكون من مسألة اشتباه الحكم لاجمال النص .

( ومثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن جَدّد قَبرا أو مَثّلَ مِثالاً فقد خرج عن الاسلام » (1) حيث قرء : جدّد بالجيم ) ومعناه : تجديد القبر وتعميره بعد الاندراس .

( والحاء المهملة ) أي : بالحاء وهو من التحديد ومعناه تسنيم القبر كما كان

ص: 105


1- - المحاسن : ص612 ح33 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص459 ب23 ح142 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص189 ح579 ، وسائل الشيعة : ج5 ص306 ب173 ح66 وفيهم من الاسلام .

والخاء المعجمة ، وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة .

-------------------

يفعله المسيحيون قبل الاسلام .

( والخاء المعجمة ) اي : بالخاء وهو من التخديد ومعناه : خدّ القبر ونبشه .

( وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة ) ومعناه : احداث جدث جديد اي : قبر جديد ممّا يحتمل أن يراد منه اخراج الميت من قبره الأوّل ودفنه في القبر الثاني ، أو دفن ميت ثان في قبر الاول وجعله قبرا ثانيا ، اوايجاد قبر جديد ، فيكون المقام من إجمال النص .

وكيف كان : فقد روى هذه الرواية الشيخ والبرقي على ما حكي عنهما عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقال فيه الوحيد البهبهاني : انه بالجيم عند الصفّار ، والحاء المهملة عند سعد بن عبد اللّه يعني : من سنّم قبرا من التسنيم الذي هو من طريقة العامة ، وبالخاء المعجمة عند المفيد ، وجدّث بالجيم والثاء المثلّثة عند البرقي والصدوق ، وقال : جميع ما ذكر داخل في معنى الحديث سوى قول المفيد .

ومن المحتمل ان يراد به : نبش القبر كما اختاره الصدوق في محكيّ الفقيه قال: « والذي أذهب اليه : ان جدّد بالجيم ، ومعناه : من نبش قبرا فقد جدّده واحوج الى تجديده فقد جعله جدثا محفورا » (1) .

وعن التهذيب : انّ المراد : أن يجُعل دفعة أخرى قبرا لانسان آخر ، فيكون محرّما لاستلزامه النبش (2) .

ص: 106


1- - راجع مَن لايحضره الفقيه : ج1 ص190 ح579 .
2- - راجع تهذيب الاحكام : ج1 ص459 ب23 ح142 .

المطلب الثاني : في اشتباه الواجب بغير الحرام

اشارة

وهو على قسمين : لأنّ الواجبَ امّا مردّد بين أمرين متنافيين ، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، في يوم الجمعة ، وبين القصر والاتمام في بعض المسائل .

-------------------

المطلب الثاني :

في اشتباه الواجب بغير الحرام

( المطلب الثاني ) من مطالب كتاب البرائة والاشتغال : في الشبهة الوجوبية ، فانّ المصنِّف رحمه اللّه ذكر في أَوّل أصالة الاشتغال : انّ البحث في الشك في المكلّف به يُذكر ضمن مطالب ، ثم أشار الى المطلب الأوّل بانّه في الشبهة التحريمة بمعنى : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ثم عقد للمطلب الأوّل أربع مسائل ، تعّرض في واحدة منها للشبهة الموضوعية التحريمية ، وفي ثلاثة منها للشبهة الحكمية التحريمية .

وأمّا هنا في هذا المطلب فيتعرّض المصنِّف لأحكام الشبهة الوجوبية ويجعل الكلام ( في اشتباه الواجب بغير الحرام ) من الأحكام الثلاثة الأخر ، وهي : المستحب والمكروه والمباح ( وهو ) اي : الشبهة هذه ( على قسمين ) وذلك كما يلي:

أوّلاً : ( لأنّ الواجب إمّا مردّد بين أمرين متنافيين ) ومتباينين ( كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظّهر والجمعة في يوم الجمعة ، و ) كما إذا تردّد الواجب ظهرا أو عصرا أو عشاءا ( بين القصر والاتمام في بعض المسائل ) وذلك كما إذا نوى إقامة عشرة أيام في مكان ؛ ثم خرج الى ما دون المسافة ورجع ؛ فهل يصلي القصر أو التمام ؟ فانّ للفقهاء أقوالاً في المسألة : من القصر مطلقا ، والاتمام مطلقا ، والجمع

ص: 107

وأمّا مردّد بين الأقل والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ، للشك في كون السورة جزءا .

وليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر ، كما لا يخفى .

وإعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة الى الشك في أصل التكليف ، لأن الأقل حينئذٍ

-------------------

بين القصر والاتمام احتياطا ، وبعض التفاصيل الأخر .

ثانيا : ( وأمّا ) انّ الواجب ( مردّد بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين ( كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السّورة وفاقدتها ، للشك في كون السّورة جزءا ) حيث قال بعض الفقهاء باستحباب السورة وعدم وجوبها .

( و ) قلت : المثالان الأولان أيضا من الاقل والاكثر ، لانّ الجمعة ركعتان والظهر أربع ركعات وكذا القصر والاتمام .

قلت: ( ليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر كما لا يخفى ) لانّه وان كان بين ركعتين وأربع ركعات أقل واكثر ، والاّ انّ تقييد الاكثر بالاتصال ، والأقل بالانفصال، يجعلهما من المتباينين ، لانّهما حينئذٍ بشرط شيء وبشرط لا .

( وإعلم انّا ) ذكرنا في هذا المقام من الشبهة الوجوبية صور الدوران بين الأقل والاكثر ، بينهما ( لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به ) فيما تعرضنا له سابقا ( صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) وذلك كما إذا لم يعلم الجُنب بأنّ المحرّم عليه هل هو قرائة آية السجدة فقط ، أو تمام السورة لاختلاف الفقهاء في ذلك .

وانّما لم نذكرها هناك ( لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة ) اي : التحريمية ( الى الشك في أصل التكليف ) لا في المكلّف به ( لأن الأقل حينئذٍ )

ص: 108

معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر .

أمّا القسم الأوّل :

اشارة

فالكلامُ فيه يقع في مسائل ، على ما ذكرنا في أوّل الباب ، لانّه إمّا أن يشتبه الواجبُ بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله أو تعارض النصّين أو من جهة اشتباه الموضوع .

أمّا الأولى :

فالكلام فيه إمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

-------------------

أي : في الفرض المذكور ( معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر ) فيجري في الزائد البرائة ، لانه شك في التكليف بينهما كلامنا في الشك في المكلّف به .

وكيف كان : فلنرجع الى أصل التقسيم ، فنقول : ( امّا القسم الأوّل ) وهو دوران الأمر بين المتباينين ( فالكلامُ فيه يقع في مسائل ) أربع ( على ما ذكرنا في أوّل الباب ) من الشبهة التحريمية .

وانّما كانت المسائل اربع ( لانّه إمّا أن يشتبه الواجبُ بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله ، أو تعارض النصين ) وهذه الثلاث من الشبهة الحكمية والتي تحتاج الى استطراق باب الشرع ( أو من جهة اشتباه الموضوع ) للامور الخارجية ممّا يحتاج الى استطراق باب العرف .

( أمّا ) المسألة ( الأولى ) وهي : اشتباه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر : ( فالكلام فيه ) يقع في مقامين :

أوّلاً : ( أمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

ص: 109

حرمتُها ، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع، بل الضرورة ؛ وإمّا في وجوب الموافقة القطعيّة .

أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ، لانّها معصية عند العقلاء ، فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً

-------------------

حرمتها، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع ، بل الضرورة ) فانّه لا يجوز للانسان ان يترك القصر والاتمام معا أو يترك الجمعة والظهر معا في مورد الاشتباه بينهما .

وإنّما لا يجوز تركهما معا لقيام الاجماع ، بل لقيام الضرورة على انّه لا يجوز الخلوّ من الصلاتين في ذينك الموردين ، أمّا في سائر الموارد التي لا إجماع ولا ضرورة ، فيمكن القول بجواز المخالفة القطعية ، ولهذا مال الى الجواز بعضٌ ، كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

ثانيا : ( وامّا ) ان يكون الكلام ( في وجوب الموافقة القطعيّة ) فيكون البحث فيها : بأنّه هل يجب الاتيان بهما معا ، أو يكفي الاتيان بأحدهما فقط ؟ .

( أمّا الأوّل : ) وهو المخالفة القطعية ( فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ) لوجود المقتضي وهو : الخطاب بالتكليف المشترك فيه العالم والجاهل عند المخطّئة ، وعدم المانع عقلاً ولا شرعا منه ، لانّ الجهل لا يكون مانعا عقلاً ، كما انّه لا يكون مانعا شرعا ، اذ لا دليل في الشرع على منع الجهل عن تأثير المقتضي .

وعليه : فالمخالفة القطعيّة بتركهما معا غير جائز ( لانّها معصية عند العقلاء ) وعند الشارع ايضا ، امّا عند الشارع فواضح ، واما عند العقلاء ( فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلاً أوإجمالاً ) في غير المحصورة ، فانهم لا يفرّقون

ص: 110

في حرمة مخالفته ، وفي عدّها معصية .

ويظهر من المحقق الخوانساري دورانُ حرمة المخالفة مدارَ الاجماع ، وأنّ الحرمةَ في مثل الظهر والجمعة من جهته . ويظهر من الفاضل القمّي الميل إليه ، والأقوى : ما عرفت .

وأمّا الثّاني : ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ، لوجود المقتضي وعدم المانع .

-------------------

( في حرمة مخالفته ، وفي عدّها ) اي : عدّ المخالفة ( معصية ) للمولى .

هذا ( ويظهر من المحقق الخوانساري : دوران حرمة المخالفة ) وجودا وعدما ( مدارَ الاجماع ) فان كان هناك اجماع حرُمت المخالفة ( و ) الاّ فلا تحرم المخالفة، وذلك ل- ( أنّ الحرمةَ في مثل الظهر والجمعة من جهته ) اي : من جهة الاجماع على انّه لا يجوز تركهما معا في يوم الجمعة - مثلاً - .

( ويظهر من الفاضل القمّي ) صاحب القوانين ( الميل إليه ) اي : الى قول الخوانساري ، ولعل وجهه : انّ التكليف بالمُجمل غير صحيح عند العقلاء ، فالمولى هو سيد العقلاء لا يكلّف بالمجُمل .

نعم ، اذا قام دليل خارجي على عدم جواز الاهمال رأسا بمعنى : عدم جواز المخالفة القطعية ، قلنا بذلك لأجل الدليل الخارجي ، لا لانّ مقتضي التكليف المجمل : الاتيان بأحدهما أو بهما معا .

هذا ( والأقوى : ما عرفت ) من : انّه لا دليل على جواز المخالفة القطعية .

( وأمّا الثّاني ) وهو : وجوب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، بمعنى : وجوب الموافقة القطعية : ( ففيه قولان : أقواهما : الوجوب ) فانه اذا تردّد الأمر بين شيئين لعدم نص معتبر عليه ، وجب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، وذلك ( لوجود المقتضي وعدم المانع ) كما أوضحناه .

ص: 111

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابتٌ في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادرٌ عن الشّارع واصلٌ الى من علم به تفصيلاً ، اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ، وإلاّ لزم الدّور ، كما ذكره العلاّمة في التحرير ، لأنّ العلمَ بالوجوب موقوفٌ على الوجوب فكيف يتوقف الوجوب عليه ؟ .

-------------------

( امّا الأوّل ) اي: وجود المقتضي ( فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابتٌ في الواقع ) لفرض : انّا نعلم بوجوب أحد الأمرين ، لانّ المولى قال : ائت بالظهر ، أو ائت بالجمعة - مثلاً - ( والأمر به ) اي : بالوجوب المردّد ( على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادرٌ عن الشّارع ) فإنّ الأمر لا يخصّ العالم كما انّه ( واصلٌ الى من علم به تفصيلاً ) فانّ الجاهل انّما لا يعلم الخصوصية ، أمّا أصل الأمر فيعلم به تفصيلاً فيتنجّز عليه .

وانّما قلنا بأن الأمر يعم العالم والجاهل ( اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ) فانّ الأوامر والنواهي ليست مختصة بالعالمين بها ، وإنّما تعمّ العالمين وغير العالمين .

( والاّ ) بأن كانت مختصّة بالعالمين ( لزم الدّور ، كما ذكره العلاّمة ) رحمه اللّه ( في التحرير ) وذلك ( لأنّ العلمَ بالوجوب موقوفٌ على الوجوب ) نفسه ، اذ العلم بالشيء لا يمكن ان يكون بدون ذلك الشيء ، والاّ كان جهلاً مركبا ، لوضوح تبعية العلم للمعلوم ( فكيف يتوقف الوجوب عليه ؟ ) اي : على العلم به ؟ .

وإن شئت قلت : العلم بالتكليف متوقف على وجود التكليف ، فلو كان وجود التكليف متوقفا على العلم بالتكليف لزم الدّور .

لكن ربّما يقال : انّ هذا الدليل غير تام ، لأنّه يمكن رفع الدور بواسطة امرين

ص: 112

وأمّا المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ليس إلاّ الجهل التفصيلي بالواجب وهو غير مانع عقلاً ولا نقلاً .

أمّا العقلُ ، فلأن حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ، فلا استقلالَ للعقل بذلك ،

-------------------

كما صوّره المتأخرون ، وقد ورد في الشرع موارد يختص التكليف بالعالم ، كما في القصر والاتمام ، والجهر والأخفات ، وجملة من مسائل الحج .

وكيف كان: فالتكليف يعم العالِم والجاهل لاطلاق أدلته، فلا خصوصية للعالم، خصوصا وان التكاليف تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، وهما لايختصان بالعالم ، وان الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فاذا قال المولى : وجبت الصلاة ، كان معنى ذلك : انّ الصلاة ثابتة وجوبها سواء علم المكلّف بوجوب الصلاة أم لا ؟ لا أنّ الصلاة المعلومة واجبة ، وقد ألمعنا الى هذا الكلام في أوائل الكتاب .

( وأمّا ) الثاني وهو : عدم ( المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ) اي : من المانع ( ليس إلاّ الجهل التفصيلي بالواجب ) بأن يقال : حيث انّه يجهل بخصوصية الواجب فلا تكليف ( وهو ) اي : الجهل التفصيلي بالواجب ( غير مانع عقلاً ولا نقلاً ) في التكليف .

( أمّا العقل : فلأن حكمه بالعذر ) اي : بمعذورية الجاهل ( إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ) كالقدرة - مثلاً - لانّ من شرائط التكليف القدرة ( ف- ) نقول في جواب هذا :انّه ( لا استقلال للعقل بذلك ) .

وإنّما لا استقلال للعقل بذلك ، لانّ المكلّف قادر على الامتثال بطريق

ص: 113

كما يشهد به جواز التكليف بالمُجمل في الجملة ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي .

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه

-------------------

الاحتياط ، وذلك بأن يأتي بكل الأطراف المحصورة ، فالقدرة موجودة مع الجهل التفصيلي أيضا .

( كما يشهد به ) اي : بعدم استقلال العقل بمعذورية الجاهل في صورة الجهل التفصيلي بخصوصيات الواجب ( جواز التكليف بالمُجمل في الجملة ) فانّا نرى انّ الشارع قد أمر بالصلاة الوسطى ، وبحرمة الغناء ، مع انّهم اختلفوا في انّ المراد بالصلاة الوسطى : هل هي صلاة الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ؟ وكذلك اختلفوا في ان الغناء هل هو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت المطرب ؟ .

وانّما قال المصنّف : في الجملة ، لانّه لا يجوز التكليف بالمُجمل من جميع الجهات بأن يقول - مثلاً - : ائتني بشيء : ولم يقصد به مطلق الشيء حتى ينطبق على كل ما يسّمى شيئا ، أو يقول : اشتر لي ثوبا ولم يرد به ثوبا مطلقا ، بل يريد ثوبا خاصا لم يعرف المكلّف : هل هو الأبيض أو الأحمر أو الأسود أو الأزرق أو غير ذلك ؟ .

( كما اعترف به ) أي : بجواز التكليف بالمُجمل ( غير واحد ممّن قال بالبرائة فيما نحن فيه ) فانّ جماعة من القائلين بالبرائة في مقامنا هذا ، جوّزوا الأمر بالمجمل في مقام آخر فيسأل منهم : بانّه إذا جاز التكليف بالمجمل هناك ، فلماذا لا يجوز التكليف بالمجمل هنا ( كما سيأتي ) الكلام انشاء اللّه تعالى في انّ غير واحد ممّن قال بالبرائة فيما نحن فيه ، وقد اعترف بجواز التكليف بالمُجمل .

هذا ( وان كان ) حكم العقل بمعذورية الجاهل لا من جهة عجزه عن الواقع ، بل ( من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه ) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي

ص: 114

فهو أشدّ منعا ، وإلاّ لجاز إهمال المعلوم إجمالاً رأسا بالمخالفة القطعيّة ، فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ، وَلَقَبُحَ عِقابُ الجاهل المقصّر بترك الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور .

-------------------

لوجود التكليف كاشتراط البلوغ والعقل والاختيار - مثلاً - ( فهو اشدّ منعا ) لانّا نرى ان العقلاء لا يشترطون في توجيه التكليف الى المكلّف علم المكلّف تفصيلاً .

( و إلاّ ) بأن كان العلم التفصيلي شرطا لتوجّه التكليف ( لجاز إهمال المعلوم إجمالاً رأسا بالمخالفة القطعيّة ) لفرض انّ التكليف غير موجّه الى الجاهل اطلاقا ، فيكون حال الجاهل حال الصبي والمجنون ، مع انّ القائل بجواز المخالفة القطعيّة لا يقول بأنّ الجاهل حاله حال الصبي والمجنون .

وعلى هذا : فلو جاز اهمال المعلوم بالاجمال رأسا ( فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ) مع انّ جماعة من الفقهاء يلتزمون بحرمة المخالفة القطعية ولايقولون بجوازها وان قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية .

( وَ لَقَبُحَ عِقابُ الجاهل المقصّر بترك ) ذلك الجاهل المقصّر ( الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات كما هو المشهور ) بانّه معاقب ، فانه لو كان العلم التفصيلي شرطا لتوجه التكليف ، لزم عدم توجه التكليف الى الجاهل ، ولزم قبح عقابه مطلقا قاصرا كان أو مقصرا ، مع انّا نرى انّ المشهور يقولون بجواز عقاب المقصّر ، ولا يعذِروُن الاّ الجاهل القاصر .

ثم انه اشكل على القائلين : بأنّ الجهل في صورة تردّد المكلّف به ، بين أمرين ينافي التكليف ، لانّه تكليف بما لا يطاق . اشكل عليهم : بأنّ الجاهل المقصّر مكلف قطعا ، فاراد بعض دفع هذا الاشكال ومعالجته : لانّ الجاهل المقصّر ليس مكلفا بالواقع ، بل هو مكلف برفع الجهل وذلك كما قال به :

ص: 115

ودعوى : « أنّ مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والاتيان بالواقع ، نظير تكليف الجُنب بالصّلاة حال الجنابة ، لا التكليف باتيانه مع وصف الجهل ، فلا تنافي بين كون الجهل مانعا والتكليف في حاله ، وانّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ، لانّ المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم » ،

-------------------

( ودعوى : « أنّ مرادهم ) أي : مراد المشهور من تكليف الجاهل المقصّر باتيان الواقع حال الجهل انّما هو : ( تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل ، والاتيان بالواقع ) لا انّه مكلف بالواقع .

وعليه : فيكون تكليف الجاهل المقصّر ( نظير تكليف الجُنب بالصّلاة حال الجنابة ) فانّه لا تكليف له باتيان الصلاة في هذه الحال ، بل انّما يكلّف برفع الجنابة ، ثم الاتيان بالصلاة، وكذا الجاهل فان تكليفه برفع الجهل ثم الواقع ( لا التكليف باتيانه) اي : الواقع ( مع وصف الجهل ) حتى يكون تكليفا بما لا يطاق .

وعليه ( فلا تنافي بين كون الجهل مانعا ) عن تنجز التكليف بالواقع من جهة ( والتكليف في حاله ) اي : في حال الجهل من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون مكلّفا برفع الجهل ثم الاتيان بالواقع ، فان هذا لا كلام فيه .

( وانّما الكلام ) فيما نحن فيه : ( في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ) وهذا هو الشيء الذي ندّعي نحن استحالته لانّه تكليف بما لا يطاق .

وإنّما يكون تكليفا بما لا يطاق ( لانّ المفروض فيما نحن فيه : عجزه عن تحصيل العلم ) التفصيلي بالتكليف ، اذ هو انّما يعلم الشيء المردّد بين أمرين ولا يتمكن من تحصيل العلم التفصيلي بذلك الشيء ، فيكون تنجزّ التكليف بالنسبة اليه تكليفا بما لا يطاق .

ص: 116

مدفوعةٌ برجوعها حينئذٍ الى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها .

وأمّا النقلُ ، فليس فيه ما يدلّ على العذر ، لأنّ أدلّة البرائة غير جارية في المقام ، لا ستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها .

-------------------

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) وذلك ( برجوعها ) اي : رجوع هذه الدعوى (حينئذٍ) اي : حين كان الجاهل المقصّر مكلّفا برفع الجهل واتيان الواقع ( الى ما تقدّم : من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به ) وقد أجبنا عنه : بانّ عدم الجهل ليس من شروط وجود المأمور به .

إذن : فليس العلم فيما نحن فيه ( نظير ) عدم ( الجنابة ) التي هي من شروط وجود الصلاة ( وقد تقدّم بطلانها ) اي : بطلان هذه الدعوى حيث قلنا : بان العلم التفصيلي ليس شرطا عقلاً لوجود المأمور به ، وذلك لما تقدَّم : من تمكن اتيان المكلّف بالواقع بسبب الاحتياط .

هذا تمام الكلام في انتفاء المانع عقلاً .

( وأمّا النقل : فليس فيه ما يدلّ على العذر ) وعلى انّه اذا جهل تفصيلاً يكون معذورا ، ولذلك نقول : بانّه يجب عليه الاحتياط ، انّه ليس بمعذور ( لأنّ أدلّة البرائة غير جارية في المقام ) اي : فيما إذا كان جاهلاً تفصيلاً بالحكم مع علمه الاجمالي .

وانّما لا تجري البرائة في المقام ( لا ستلزام إجرائها ) اي : البرائة ( جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام ) إنّما هو ( بعد فرض حرمتها ) اي : حرمة المخالفة القطعية .

ص: 117

بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط .

مثل صحيحة عبد الرّحمان المتقدّمة في جزاء الصيد : « اذا أصبتُم مِثلَ هذا ولم تدروا ، فَعَليكُم بالاحتياط حتى تسألوا عنهُ فتعلمُوا » وغيرها .

فان قلت :

-------------------

إذن : فالبرائة لو شملت مورد العلم الاجمالي لدلّت على جواز ترك كل الأطراف ، اذ يصدق على كل واحد من الأطراف : انّه شيء لم يعلم وجوبه ، فتدل البرائة على جواز المخالفة القطعية ، وانّما يقول بجواز المخالفة الاحتمالية بترك بعض الاطراف دون بعض .

( بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط ) فيما اذا كان هناك علم اجمالي وجهل تفصيلي بالحكم ( مثل : صحيحة عبد الرّحمان المتقدّمة ) الواردة ( في جزاء الصيد ) حيث سئل عن صيدٍ أصابه رجلان محرمان ، فشك في انّه هل عليهما جزاء واحد ، أو على كل واحد منهما جزاء مستقل ؟ فقال له عليه السلام :

( « اذا أصبتُم مِثلَ هذا ولم تدروا ، فَعَليكُم بالاحتياط حتى تسألوا عنهُ فتعلمُوا » (1) ) ( وغيرها ) من أخبار الاحتياط ، فانّها تدل على انّ الجهل التفصيلي مع وجود العلم الاجمالي ليس بمجوّز للترك ، بل اللازم الاحتياط بالاتيان بجميع الاطراف .

( فان قلت ) : لا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، إذ يجوز

ص: 118


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 (وفيه عن علي) و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشفُ عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة لوجوب الاطاعة ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليلٌ على كون العلم التفصيليّ علّة تامة لوجوب الاطاعة .

وحينئذٍ : فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان

-------------------

للمكلّف الاتيان بأحد الاطراف فقط ، وجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع ، وهذا يدل على عدم كون العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، فانه ان كان العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، لزم الاتيان بكل الاطراف وذلك كما قال : ( إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر ) كما يذهب اليه من يقول بحرمة المخالفة القطعية ولا يقول بوجوب الموافقة القطعية ( يكشفُ عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة ) لتنجز التكليف حتى يكون العلم مقتضيا ( لوجوب الاطاعة ، كما انّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليلٌ على كون العلم التفصيليّ علّة تامة ) لتنجّز التكليف، المقتضي (لوجوب الاطاعة).

و عليه : فان هناك فرقا بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي ، حيث يكون العلم التفصيلي علة تامة لتنجّز التكليف ، بينما لم يكن العلم الاجمالي علة تامة له.

( وحينئذٍ ) اي : حين لم يكن العلم الاجمالي علة تامة ( فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ) اذ التلازم انّما يكون لو كان العلم الاجمالي علة تامة بوجوب الاطاعة ، وحيث لا يكون العلم الاجمالي علة تامة ، فلا يكون وجوب الاطاعة .

إذن : ( فيحتاج إثبات الوجوب ) اي : وجوب للاطاعة ، المقتضي للاحتياط باتيان جميع الاطراف ( الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان ) ذلك

ص: 119

مفقودا فاصل البرائة يقتضي عدم وجوب الجمع وقبح العقاب على تركه لعدم البيان .

نعم ، لمّا كان تركُ الكلّ معصية عند العقلاء حكم بتحريمها ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة .

-------------------

الدليل الآخر ( مفقودا ) هنا ، والعلم الاجمالي وحده غير كاف ، لم يجب فيه الموافقة القطعية كما قال :-

( فاصل البرائة يقتضي عدم وجوب الجمع ) بين أطراف العلم الاجمالي ( و ) يقتضي أيضا ( قبح العقاب على تركه ) اي : ترك الجمع ( لعدم البيان ) فانّه حيث لا بيان لا يكون عقاب .

( نعم ، لمّا كان تركُ الكلّ معصية عند العقلاء ) وهو يكشف عن عليّة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية ( حكم بتحريمها ) اي : بتحريم المخالفة القطعية بترك الجميع ( ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة ) إذ حرمة المخالفة القطعية معناه : انّه يحرم ترك كل الاطراف ، وليس معناه : أنه يجب الاتيان بكل الاطراف ، حتى تجب الموافقة القطعية .

والحاصل : انّه لا دليل على وجوب الموافقة القطعية التي اختارها المصنِّف ، اذ وجوب الموافقة القطعية إمّا مستفاد من أدلة المحرّمات الواقعية كالخمر المتردد بين اطراف الشبهة ، وإمّا مستفاد من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية .

وعليه : فان كان مستفادا من أدلة المحرمّات الواقعية : فانه يستلزم الموافقة القطعية ، والحال انّ الأدلة لا تفيد ذلك ، ولذا ذهب غير واحدٍ الى وجوب الموافقة الاحتمالية فقط .

وان كان مستفادا من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية : فانّه لا تلازم

ص: 120

قلت : العلم الاجماليّ كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ، إلاّ أنّ المعلوم اجمالاً يصلح لأن يجعل أحدُ محتمليه بدلاً عنه في الظاهر .

فكلّ مورد حكم الشارعُ بكفاية احد المحتملين للواقع ، إمّا تعيينا كحكمه بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ،

-------------------

بين بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية .

إن قلت ذلك ( قلت : ) انّ أدلة المحرّمات الواقعية هي التي تدل على وجوب الموافقة القطعية ، وانّ العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي ، الاّ انّ الشارع جعل في بعض الاماكن بدلاً عن الواقع باتيان احد الاطراف فقط ، فكلّما جعل الشارع البدل نقول بانّه لا يلزم الموافقة القطعية ، وكلّما لم يجعل الشارع البدل نقول فيه بلزوم الموافقة القطعية .

وعليه : فانّ ( العلم الاجماليّ كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ) عند العقلاء ( إلاّ انّ المعلوم اجمالاً يصلح لأن يجعل أحدُ محتمليه بدلاً عنه ) اي : عن ذلك المعلوم ( في الظاهر ) كما اذا حكم الشارع في بعض الموارد بجعل احد المحتملين بدلاً عن الواقع وأجاز ارتكاب المحتمل الآخر .

إذن : ( فكلّ مورد حكم الشارعُ بكفاية احد المحتملين للواقع ) قلنا فيه بعدم لزوم الموافقة القطعية ، علما بأن حكم الشارع يكون على قسمين :

الأوّل : ( اما تعيينا كحكمه بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ) وذلك فيما اذا كان هناك حالة سابقة فيكون موردا للاستصحاب ، مثل ما تقدّم : من استصحاب القصر لمن جاء من السفر ، واستصحاب التمام لمن خرج الى السفر ، عند الشك في نقطة معينة بأنها خارجة عن حدّ الترخص ام لا ؟ فانّ الشارع جعل احد الاحتمالين بدلاً عن الواقع حيث يشك في ان تكليفه في هذه النقطة القصر مطلقا

ص: 121

وامّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل ، لا الترخيص لترك الواقع - بلا بدل - في الجملة .

فانّ الواقع إذا علم به ، وعلم إرادة المولى بشى ء وصدور الخطاب عنه الى العبيد ، وان لم يصل اليهم ، لم يكن بدٌّ عن موافقته ،

-------------------

ذاهبا وجائيا أو التمام مطلقا ذاهبا وجائيا .

الثاني : ( وامّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين ) كالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، أو التخيير بين المجتهدين المتساويين .

وعليه : ( فهو ) اي : هذا الحكم من الشارع بجعل البدل تعيينا أو تخييرا ( من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل ) الذي قرره الشارع ( لا الترخيص لترك الواقع - بلا بدل - في الجملة ).

والحاصل : ان قوله « بلا بدل » جملة معترضة ، وقوله : في الجملة ، قيد لترك الواقع ، فيكون المعنى : انّ الشارع حين رخّص بترك أحد المحتملين جعل الآخر بدلاً عن الواقع ، لا انّه رخّصَ في ترك الواقع رأسا حتى يُقال : بانّ هذا دليل على عدم عليّة العلم الاجمالي للتنجيز فلا يجب الاحتياط ، بل الاحتياط واجب الاّ اذا جعل الشارع بدلاً عن الواقع .

وعليه : فوجوب الاحتياط متنجز ، للعلم الاجمالي بالتكليف ، فلا يحتاج الى دليل، وانّما المحتاج الى الدليل هو جعل البدل عن الواقع ( فانّ الواقع إذا علم به ، وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه الى العبيد وان لم يصل اليهم ، لم يكن بدٌّ عن موافقته ) اي : موافقة ذلك الواقع الذي علم به إجمالاً وهذا ما يحكم به العقل والعقلاء ، بل الشرع ايضا كما في الروايات المتقدّمة التي دلّت على وجوب الاحتياط.

ص: 122

إمّا حقيقة بالاحتياط ، وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارعُ بدلاً عنه ، وقد تقدّم الاشارة الى ذلك في الشبهة المحصورة .

ومّما ذكرنا يظهر عدمُ جواز التمسك في المقام بأدلّة البرائة، مثل رواية الحجب والتوسعة ونحوهما ،

-------------------

إذن : فلا بدّ من موافقة الواقع ( إمّا حقيقة ) وذلك ( بالاحتياط ) المدرك للواقع قطعا ( وإمّا حكما ) وذلك ( بفعل ما جعله الشارعُ بدلاً عنه ) أي : عن الواقع ( وقد تقدّم الاشارة الى ذلك ) اي : الى لا بدِّية موافقة الواقع بحكم العقل والعقلاء مفصّلاً ( في الشبهة المحصورة ) فلا حاجة الى تكراره .

( ومّما ذكرنا : ) من انّ العلم الاجمالي علّة تامة للاطاعة كالعلم التفصيلي الاّ إذا جعل الشارع بعض الاطراف بدلاً عن الواقع في العلم الاجمالي ( يظهر عدمُ جواز التمسك في المقام ) اي : في نفي وجوب الاحتياط ( بأدلّة البرائة مثل : رواية الحجُب (1) والتوسعة (2) ونحوهما ) .

وقول المصنِّف : « ممّا ذكرنا » شروع في ردّ الدليل الثاني الذي استدل به القائلون على عدم وجوب الاحتياط ، فانّهم استدلوا لذلك بدليلين :

أحدهما : ان العلم الاجمالي ليس علة تامة للطاعة لانّه يستلزم منه تكليف ما لايطاق ، وقد مضى جوابه .

ص: 123


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - المحاسن : ص452 ح365 ، الكافي اصول ج6 ص297 ح2 ، غوالي اللئالي : ج1 ص224 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 .

لأنّ العمل بها في كلّ من الموردين بخصوصه يوجبُ طرحَها بالنسبة الى أحدهما المعيّن عند اللّه المعلوم وجوبه ، فانّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والاتمام ممّا لم يحجب اللّه علمه عنّا ،

-------------------

ثانيهما : انّ اخبار البرائة كرواية الحجب مانعة عن تأثير المقتضي للتكليف ، والمصنِّف بدأ يجيب عنه : بانّ أدلة البرائة لا تكون مانعة ، فلا يجوز التمسك بها .

وإنّما لا يجوز التمسك بها ( لانّ العمل بها ) اي : بأخبار البرائة ( في كلّ من الموردين بخصوصه ) اي : في كلا طرفي الشبهة ( يوجبُ طرحَها ) اي : طرح تلك الأدلة ( بالنسبة الى أحدهما المعيّن عند اللّه المعلوم وجوبه ) إذ وجوب أحدهما معلوم عند اللّه تعالى ، فاذا أعملنا أدلة البرائة في كل مورد من الموردين بخصوصه من غير نظر الى المورد الآخر ، كان معنى ذلك : طرح الحكم الواقعي وعدم لزوم العمل به .

وإنّما لايجوز التمسك هنا بمثل رواية الحجب ، لانه كما قال : ( فانّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة ) في يوم الجمعة ( أو من القصر والاتمام ) في مورد يشتبه بينهما ، فلم يعلم انّ الواجب هذا أو ذلك ، فانه ( ممّا لم يحجب اللّه علمه عنّا ) فكيف نتمسك بأدلة البرائة ، ونقول : بانّه ممّا حجب اللّه علمه عنا ؟ .

نعم ، ان العلم بالخصوصية محجوب عنا ، لا العلم بالجامع فانّه معلوم عندنا ، فلا يمكن طرح الجامع ، فاذا تمسّكنا بأدلة البرائة في كل مورد مورد كان معناه : طرح الجامع ، وهو لا يجوز .

إذن : فانّا وان كنا في سعة من خصوصية هذا الفرد أو ذاك الفرد ، لان خصوصية هذا الفرد أو ذاك الفرد محجوبة عنّا ، الاّ انّ الجامع ليس محجوبا عنّا ، واذا لم يكن

ص: 124

فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ، فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الاخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالاً ، وإمّا من الحكم بانّ شمولها للواحد المعيّن المعلوم وجوبُه ، ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد ، وكونه محمولاً عليهم ، ومأخوذين به وملزمين عليه دليلٌ علميّ بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب

-------------------

محجوبا عنّا ( فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ) .

وعليه : فعند تعارض ترك الخصوصية المحجوبة وعدم ترك الجامع الذي ليس بمحجوب ( فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الاخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالاً ) فتختص الاخبار بجريانها في الشبهة البدوية لانّ كل خبر يوجب التعارض لا يكن الاستدلال به على هذا الطرف ولا على ذاك الطرف .

( وإمّا من الحكم : بانّ شمولها ) اي : شمول هذه الاخبار انّما هو ( للواحد المعيّن ) عند اللّه و ( المعلوم وجوبُه ) لديه تعالى وان كان غير معيّن عندنا .

هذا ، لكن حيث لا يمكن القول بالاول وهو : جريان الاخبار في المقام ، وذلك للزوم التعارض ، يلزم الذهاب الى الثاني وهو القول : بأن أخبار البرائة شاملة للواحد المعيّن عند اللّه ( ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد ، وكونه محمولاً عليهم ، و ) كونهم ( مأخوذين به وملزمين عليه ) وهذا هو ( دليلٌ علميّ ) لنا .

وانّما هو دليل علمي ، لانا قد علمنا هذا الشيء ( بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة ) فانّه عند تنجّز التكليف بسبب العلم بانّ اللّه سبحانه وتعالى يريد احدهما منا ، وضم وجوب المقدمة العلمية اليه يكون دليلاً ( على وجوب

ص: 125

الاتيان بكل من الخصوصيّتين ، فالعلم بوجوب كلّ منهما لنفسه وان كان محجوبا عنّا ، إلاّ أنّ العلمَ بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ، كما لاتنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك .

-------------------

الاتيان بكل من الخصوصيّتين ) احتياطا .

وعليه : فانّ منطوق دليل الحجب يدل على ان اللّه لا يريد الخصوصية لانّها محجوبة عنا ، ومفهومها يدل على وجوب احدهما المردّد لانّه شيء علمناه ، فاذا ضممنا المفهوم الى دليل العقل بوجوب المقدمة العلمية أفاد : وجوب الاحتياط باتيان كل واحد من الخصوصيّتين كما قال : ( فالعلم بوجوب كلّ منهما ) اي: من الخصوصيّتين ( لنفسه وان كان محجوبا عنّا ، الاّ أنّ العلمَ بوجوبه ) اي : بوجوب كل من الخصوصيّتين ( من باب المقدمة ليس محجوبا عنّا ) فالخصوصيته وان لم تكن مرادة للّه سبحانه وتعالى اوّلاً وبالذات ، الا انّها مرادة من جهة حكم العقل بالمقدمة العلميّة من باب الاحتياط .

هذا ( و ) من المعلوم : انّه ( لا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ) وقد قيَّد المصنِّف الجملتين بقوله « ظاهرا » لانّ الكلام في مرحلة الظاهر ، وليس في مرحلة الواقع ، فان الحكم في مرحلة الواقع واحد والمفروض : انا لا نعلمه .

( كما لاتنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك ) اي : واقعا ، وذلك في مثل مقدمات العبادات وغيرها ، فانّها ليست واجبات نفسية بل هي واجبات غيرية .

ص: 126

واعلم أنّ المحقّق القمّي - بعدما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل الى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والاتمام - قال :

« إنّ دقيق النّظر يقتضي خلافه ، فانّ التكليفَ بالمُجمل المحتمل لأفراد متعددة بارادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ، مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، الذي اتفق أهلُ العدل على استحالته ،

-------------------

( واعلم انّ المحقّق القمّي ) رحمه اللّه صاحب القوانين ( بعدما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل الى وجوب الاحتياط ) كما سيأتي انشاء اللّه تعالى نقل كلام الخوانساري ( في مثل الظهر والجمعة والقصر والاتمام - قال ) اي : المحقّق القمي بعد ذلك .

( « انّ دقيق النّظر يقتضي خلافه ) وانّه لا يجب الاحتياط ( فانّ التكليفَ بالمُجمل المحتمل لأفراد متعددة بارادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ) أي : بأن يرُيد الشارع فردا من المجمل لكنّه ليس معلوما عند المخاطب ( مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهلُ العدل على استحالته ) من الحكيم .

وعليه : فانّ الحكيم لا يمكن ان يريد شيئا يوم الجمعة ثم لا يبيّنه الاّ في يوم السبت ، والمقام من هذا القبيل ، لانّ المولى إذا أراد المجُمل ولم يبيّنه ، كان من تأخير البيان عن وقت الحاجة الذي لا يصدر من الحكيم ، فكيف بسيد الحكماء ؟ .

ان قلت : هناك موارد وقع التكليف فيها بالمجمل ، كما في مورد الظهر والجمعة ، والاتمام والقصر .

ص: 127

وكلُّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ، إذ غاية مايسلّم في القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، وأمثالها أنّ الاجماع وقع على أنّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المُبهَم عندنا بان ترك فعلَهما مجتمعين يستحقّ العقاب » .

ونظير ذلك مطلق التكليف بالاحكام الشرعية ، سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحق من التخطئة ،

-------------------

قلت : ( وكلُّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل ) اي : انّه تكليف بالمجُمل ( فيمكن منعه ) لانّ القاعدة العقلية غير قابلة للتخصيص ( إذ غاية ما يسلّم في القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، وأمثالها ) من موارد العلم الاجمالي ( أنّ الاجماع وقع على انّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب ) فالمخالفة القطعية إذن محرّمة .

( لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المُبهَم عندنا بأن ترك فعلَهما مجتمعين يستحقّ العقاب ) اي : انّ المخالفة القطعيّة محرَّمة لا انّ الموافقة القطعيّة واجبة كما ذكره المحقق الخوانساري .

( ونظير ذلك ) اي : القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، في عدم جواز ترك كل الاطراف وان لم يجب فعل كل الاطراف ( مطلق التكليف بالاحكام الشرعية ) بالنسبة الى مطلق اطراف الاحتمال ، ولا ( سيّما في أمثال زماننا ) الذي هو - عندنا نحن المحقق القمي - زمان الانسداد ، فانّا نعمل في المحتملات حسب الظن .

إذن : فنحن لا نترك كل المحتملات ، ولا يلزم أن نأتي بكل المحتملات ، وذلك ( على مذهب أهل الحق من التخطئة ) حيث يقولون : بانّ الحق واحد وانّما

ص: 128

فانّ التحقيق : أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيلُ ما يمكننا تحصيله من الأدلة الظنيّة ، لا تحصيلُ الحكم النفس الأمريّ في كل واقعة ، ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر .

نعم ، لو فرض حصولُ الاجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند اللّه تعالى مردّد عندنا بين أمور من دون اشتراط بالعلم به ،

-------------------

الطرق والأمارات تكون مؤدّية اليه ، بخلاف مذهب المصوّبة حيث يجعلون مؤدّيات الطرق والأمارات احكاما واقعية .

وعليه : ( فانّ التحقيق ) على هذا المذهب الحق ( : أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو : تحصيلُ ما يمكننا تحصيله من الأدلة الظنيّة ) الانسدادية ( لا تحصيل الحكم النفس الأمري في كل واقعة ) حتى يجب علينا الاحتياط بالاتيان بكل الطرق الحتمية في أدائها الى الواقع .

( ولذا ) اي : لأجل ما ذكرناه : من عدم وجوب الاحتياط ، وكفاية تحصيل الظنّ ( لم نقل ) عند الانسداد ( : بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي ) وذلك بأن نترك العمل بالظن الاجتهادي ( من اوّل الأمر ) ونرجع للانسداد الى العمل بالاحتياط رأسا ، بخلاف من يرى وجوب تحصيل الواقع ، فانّه يقول بلزوم الاحتياط لا الرجوع الى الظن ، وإذا قال بالرجوع الى الظن دون الاحتياط ، فانّما هو من باب الحَرج ونحو ذلك .

( نعم ، لو فرض حصولُ الاجماع ، أو ورود النصّ ) أو قيام الضرورة ( على وجوب شيء معيّن عند اللّه تعالى ، مردّد عندنا بين أمور من دون اشتراط بالعلم به ) لانّه قد تعمّد فيه - مثلاً - لمصلحة ، وذلك كما اذا علمنا بأنّ الواجب إمّا الظهر أو الجمعة بالضرورة .

ص: 129

المستلزم ذلك الفرض لاسقاط قصد التعيين في الطاعة ، لتمّ ذلك .

ولكن لا يحسن قوله يعني المحقق الخوانساري - ، فلا يبعُد القول بوجوب الاحتياط حينئذٍ ، بل لابدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ، ولكن من اين هذا الفرضُ وأنّى يمكن اثباته » ،

-------------------

ومن المعلوم : ان الواجب المردّد لا يمكن الجزم به كما قال : ( المستلزم ذلك الفرض ) الذي فرضناه : من الاجماع ، أو ورود النص ، أو الضرورة عليه ( لاسقاط قصد التعيين في الطاعة ) بان لم يرد الشارع منّا تعيين الظهر أو الجمعة بالوجوب في النية ، ففي مثل هذه الصورة لا يكفي الظن باحدهما ، و ( لتمّ ذلك ) اي : وجوب الاحتياط ، لانّ المفروض : انّ الواجب هو الواقع ونحن لا نعلم به ، فيلزم علينا الاحتياط باتيان جميع الاطراف ، وحينئذٍ لا نتمكن من قصد التعيين .

( ولكن ) بناءا على وجود الاجماع ، أو الضرورة ، أو النص على إرادة حكم اللّه الواقعي في موردٍ ( لا يحسن قوله يعني : المحقق الخوانساري ) لعدم جزمه بوجوب الاحتياط حيث قال : ( فلا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذٍ ) اي : حين تردد الوجوب بين امور يريد اللّه الواقع منّا حتما .

( بل لا بدّ ) للمحقق الخوانساري حينئذٍ ( من القول باليقين والجزم بالوجوب) اي : بوجوب الاحتياط ، لا أن يقول : « لا يبعد » .

( ولكن من اين هذا الفرض ؟ ) اي : فرض ارادة اللّه سبحانه وتعالى في شيء مجمل حكمه الواقعي منا ( وأنّى يمكن اثباته ؟ (1) ) فانّه لم ينعقد الاجماع ، وليس هناك نص ولا ضرورة بوجوب شيء مجمل يريده الشارع على كل حال ،

ص: 130


1- - القوانين المحكمة : ص267 .

انتهى كلامه رفع مقامه .

وما ذكره قدس سره ، قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، حيث قال بعد كلام له :

والحاصل : اذا ورد نص أو اجماع على وجوب شيء معيّن عندنا أو ثبوت حكم الى غاية معينة معلومة عندنا ، فلابدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق

-------------------

حتى يجب الاحتياط في جميع الاطراف ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

والحاصل : انّ الخوانساري أوجب الاحتياط في جميع الاطراف ، والقمي اكتفى بالاتيان ببعض الأطراف ، فأشكل على الخوانساري بانّه لا يجب الاحتياط في جميع الاطراف ، الاّ في صورة فرض قيام الاجماع ، أو الضرورة أو النص على ارادة الواقع منا ، وهو مجرّد فرض لا واقع له .

هذا ( وما ذكره ) المحقق القمّي ( قدّس سرّه ) : من لزوم الاتيان ببعض الأطراف دون جميع الأطراف ، الاّ اذا كان هناك ضرورة ، أو اجماع ، أو نص على ارادة اللّه حكمه الواقعي فيجب الاتيان بكل الاطراف ، فانّ كلامه هذا ( قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق ) اي : المحقق الخوانساري وذلك في كلماته ( التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار حيث قال بعد كلام له ) اي : للمحقق الخوانساري ما لفظه : ( والحاصل : اذا ورد نص ، أو اجماع ، على وجوب شيء معيّن عندنا ) كالواجبات المعيّنة مثل صلاة الظهر ، وصلاة العصر ، وما أشبه ذلك في غير يوم الجمعة ( أو ثبوت حكم الى غاية معينة معلومة عندنا ) كوجوب الصوم الى المغرب الحقيقي ( فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن ) المعتبر كشهادة عدلين - مثلاً - ( بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق

ص: 131

الامتثال - الى ان قال - : وكذا اذا ورد نص أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، وعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء مثلاً ، أو على ثبوت حكم الى غاية معينة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا

-------------------

الامتثال ) لأنّ الامتثال متوقف على يقيننا أو ظننا الخاص باتياننا بذلك الشيء الذي أراده الشارع منّا ( الى ان قال : ) اي المحقق الخوانساري :

( وكذا اذا ورد نص أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، وعلم انّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء - مثلاً - ) كما اذا علمنا بأنّ الشارع يريد منّا - مثلاً - الصلاة الواقعية المردّدة بين الظهر والجمعة وعلمنا بان ارادته بالنسبة الينا غير مشروطة بعلمنا بالواقع ، فانّه يجب علينا حينئذٍ الاتيان بجميع الاطراف المحتملة التي نعلم انّ الواقع في احدها ، وذلك بأن نأتي - في المثال - بالجمعة والظهر معا في يوم الجمعة .

وكذا اذا ورد نص ( أو ) اجماع ( على ثبوت حكم الى غاية معينة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم ) كما إذا تردّد غاية الصوم بين استتار الشمس أو زوال الحمرة ، وقد علمنا انّ الشارع يريد الواقع منّا ، فانّه يجب الاحتياط وعدم الافطار الى زوال الحمرة .

وانّما يجب الاحتياط والاتيان بكل الاطراف ، لانّه قد ( وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها ) التكليف الواقعي ( في نظرنا ) وقوله « في » متعلق بقول « المردّد فيها » ، بمعنى : انّ التكليف الواقعي حيث كان مرددا في نظرنا في جملة امور ، فانّه يجب علينا ان نأتي بكل تلك الامور حتى نعلم باتياننا بالحكم الواقعي .

ص: 132

وبقاء ذلك الحكم الى حصول تلك الاشياء .

ولا يكفي الاتيانُ بواحد منها في سقوط التكليف وكذا حصول شيء واحد من الاشياء في ارتفاع الحكم المعيّن - الى ان قال : - وأمّا اذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصٌّ - مثلاً - على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونصٌّ آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعضُ الأمّة الى وجوب شيء

-------------------

( و ) كذا في صورة ارادة الشارع غاية معيّنة ، فانّه يجب علينا ( بقاء ذلك الحكم ) الذي هو الصوم فيالمثال ( الى حصول تلك الاشياء ) التي يكون الواقع مردّدا بينها كالاستتار ، وزوال الحمرة .

هذا ( ولا يكفي الاتيانُ بواحد منها ) اي : من تلك الاشياء بأن يأتي بالظهر في مقابل الجمعة ، أو يأتي بالجمعة في مقابل الظهر في يوم الجمعة ( في سقوط التكليف ) عنا .

( وكذا ) لا يكفي ( حصول شيء واحد من الاشياء ) التي ترددت الغاية بينها بأن يتمّ الصوم الى الاستتار مثلاً ، فانّ ذلك لا يكفي ( في ارتفاع الحكم المعيّن ) لما عرفت : من انّ الشارع يريد الواقع ، سواء بين فردين : كالظهر والجمعة ، أم بين غايتين : كالاستتار والحمرة ، فانّه لا يكون لنا مُؤمِّن اذا لم نعمل بالجميع .

( الى ان قال ) المحقق الخوانساري : ( وأمّا اذا لم يكن كذلك ) اي : بأن لم يكن من باب الشبهة الموضوعية ولا من باب قيام الدليل على وجوب المُجمل غير المشروط بالعلم ( بل ورد نصٌّ - مثلاً - على انّ الواجب : الشيء الفلاني ) كصلاة الظهر في يوم الجمعة ( ونصٌّ آخرُ على انّ هذا الواجب شيء آخر ) كصلاة الجمعة في يوم الجمعة .

( أو ذهب بعضُ الأمّة الى وجوب شيء ) كإطعام عشرة مساكين في كفارة

ص: 133

وبعضٌ آخر الى وجوب شيء آخر دونه ، وظهر بالنّص والاجماع في الصّورتين : ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ، فحينئذٍ لم يظهر وجوبُ الاتيان بهما في تحقق الامتثال ، بل الظاهرُ الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكلّية ، وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

اليمين ( وبعضٌ آخر الى وجوب شيء آخر دونه ) اي : غير الشيء الأوّل كتحرير رقبة ( وظهر بالنّص والاجماع في الصّورتين : ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ) أو قام بذلك الضرورة ( فحينئذٍ لم يظهر وجوبُ الاتيان بهما في تحقق الامتثال ) .

وانّما لم يظهر وجوب الاتيان بهما في صدق الامتثال وتحققه ، لما عرفت : من انّ التكليف في المجُمل قبيحُ ، فلا يجب الاتيان بكلا الشيئين : كالظهر والجمعة ، واطعام عشرة مساكين وتحرير رقبة مؤمنة .

( بل الظاهر : ) من جهة انّ المكلّف به شيء واحد ، منضما الى انّه لا يجب امتثال كليهما هو : ( الاكتفاء بواحد منهما ) إمّا تخييرا ابتدائيا ، وإمّا تخييرا استمراريا ( سواء اشتركا في أمر ) جامع بينهما كالصلاة الجامعة بين الظهر والجمعة ( أو تباينا بالكلّية ) كالاطعام والتحرير حيث لا جامع قريب يجمع بينهم ، فهما من المتباينين .

( وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة » (1) ) في الواقع مردّدة عندنا ، كما مثّلنا له سابقا بالغروب والمغرب بالنسبة الى الصيام ( انتهى كلامه رفع مقامه )

ص: 134


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص77 .

وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر .

أمّا ما ذكره الفاضل القمي - من حديث التكليف بالمجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة - فلا دخل له في المقام ، إذ لا إجمال في الخطاب أصلاً وإنّما طرءَ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن بين أمرين ، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى ، حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ،

-------------------

وقد ظهر من كلام المحقّق الخوانساري هذا : انّ الكلام المتقدّم للفاضل القمي كان مأخوذا منه .

هذا ( وانت خبير بما في هذه الكلمات ) لكلا المحقّقين ( من النظر ) والتأمل :

( أمّا ما ذكره الفاضل القمي : من حديث التكليف بالمجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا دخل له في المقام ) أي : في مسألة تردّد الواجب لفقد النص ( إذ لا إجمال في الخطاب أصلاً ) من جهة الشارع .

وإنّما لا إجمال من جهته ، لانّ الشارع قال : صلّ الجمعة ، أو قال : صلّ الظهر ، وأيّا منهما قاله فهو مبيّن واضح ( وإنّما طرءَ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن ) واقعا ( بين أمرين ) وذلك لفقد النص .

( و ) من المعلوم : ان ( إزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام ) مثل سبب عدم ضبط الرواة سهوهم ، أو ضياع المصادر واحراقها من قبل حكام الجور ، أو ما أشبه ذلك ، فان ازالتها ( غير واجبة على الحكيم تعالى ، حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ) .

كما انه ليس هو السبب في اختفائها ، لانّه تعالى خلق الانسان ومنحه حرية الاختيار للاختبار وجعل الكون دار أسباب لتكون ساحة للعمل ، فمن أخذ

ص: 135

بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوعُ الى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ، وإلاّ فما يقتضيه العقلُ من البرائة والاحتياط ،

-------------------

بالأسباب وعمل تقدّم ، ومن ترك الأسباب واتّكل على الأمل ، تأخر ، والمسلمون حيث انقلبوا على اعقابهم بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ولم يتبعوا أهل بيته عليهم السلام ، وثب المنافقون على الخلافة فحرّفوا وبدّلوا ، حتى اختفت الاحكام بسبب المسلمين انفسهم .

وعليه : ففي هذه الصورة لا يجب البيان عليه سبحانه وتعالى حتى يقال : انّه من تأخير البيان عن وقت الحاجة ليكون قبيحا ، فانّ القبيح هو التكليف بالمجُمل اجمالاً مطلقا ، وامّا التكليف بالمجمل اجمالاً مردّدا بين شيئين فليس بقبيح ، كما انّه ليس هذا المقام من التكليف بالمجُمل ، وانّما التكليف بالمبيّن وقد صار مجُملاً بسبب الامور الخارجية .

إذن : فليس الاختقاء بسببه حتى يجب عليه بيانه ، فلا يصح القول : بانه حيث لا بيان فالمرجع البرائة (بل يجب عند هذا الاختفاء) العرضي بسبب الناس ( الرجوعُ الى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ) فانّ للشارع في مثل هذه الوقائع التي اختفت بسبب الناس قواعد كلية ، كقاعدة البرائة والاحتياط ، فيجب الرجوع اليها .

( وإلاّ ) بأن فرض عدم وجود احكام كلية للشارع في مثل هذه الوقائع المختفية، وفرض احالة الناس الى عقولهم ( ف ) اللازم حينئذٍ ان نرجع الى ( ما يقتضيه العقلُ من البرائة والاحتياط ) العقليين ، فان استقل العقل بعدم تنجّز التكليف الاّ مع العلم التفصيلي ، كان المرجع البرائة ، وان استقل العقل بأن التكليف لايحتاج الى العلم التفصيلي ، بل يكفي فيه العلم الاجمالي ، فاللازم

ص: 136

ونحن ندّعي أنّ العقل حاكم بعد العلم بالوجوب والشّك في الواجب ، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن أو المخيّر والاكتفاء به من الواقع بوجوب الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعي ، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمُجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ؟

-------------------

العمل بالاحتياط .

هذا ( ونحن ندّعي : انّ العقل حاكم بعد العلم بالوجوب والشّك في الواجب ) أي : بأن كان التكليف واضحا وكان الشك في المكلّف به ( و ) بعد ( عدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن ) كما في موارد الاستصحاب ( أو المخيّر ) كما في موارد تعارض الخبرين أو الفتويين ( والاكتفاء به ) اي : بذلك المعيّن أو المخيّر بدلاً ( من الواقع ) فانّه بعد عدم هذه الامور يحكم العقل ( بوجوب الاحتياط ) في الجمع بين الأمرين .

وانّما يحكم العقل بوجوب الاحتياط ( حذرا من ترك الواجب الواقعي ) لانّه اذا أخذ بأحدهما احتمل انطباقه على الواقع ، واحتمل عدم انطباقه على الواقع ، فاذا كان غير منطبق على الواقع كان تاركا للواجب مع وصوله اليه في الجملة بين الأطراف المشتبهة .

وعليه : فلأجل رفع احتمال عدم المطابقة يستقل العقل بتنجّز التكليف بالعلم الاجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط على ما عرفت ، ولا دليل شرعا أو عقلاً على كفاية أحدهما مخيّرا أو معيّنا .

( وأين ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ الاجمال حدث بسبب الناس لا بسبب الشارع ( من مسألة التكليف بالمُجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ؟ ) وعلى ماذكره المحقق القمي ، فانّ التكليف بالمجمل معناه : انّ الشارع أجمل في كلامه ،

ص: 137

مع أنّ التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل ، لا دليل على قبحه ، اذا تمكّن المكلّف من إلاطاعة ولو بالاحتياط .

وأمّا ما ذكره تبعا للمحقق المذكور : « من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليلُ على وجوب شيء معيّن في الواقع

-------------------

وليس معناه : انّ الشارع بيّن كلامه وانّما حدث الاجمال بسبب الامور الخارجية .

هذا ( مع انّ التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل ، لا دليل على قبحه اذا تمكّن المكلّف من إلاطاعة و لو بالاحتياط ) لانّه من الممكن أن تكون المصلحة في التكليف بالمجُمل ، فيكون المكلّف حينئذٍ مأمورا بالاحتياط ، كما إذا قال المولى : صلّ يوم الجمعة ولم يبين ان مراده من الصلاة أو الجمعة ؟ فيلزم على المكلّف حينئذٍ الاحتياط بالاتيان بهما معا .

نعم ، التكليف بالمجُمل من كل وجه كأن يقول المولى : ائتني بشيء والشيء يحتمل عشرات الآلاف من الاحتمالات ، قبيح بالنسبة الى المولى الحكيم ، بل ربّما لا يقبح هذا أيضا إذا علم المولى انّ المكلّف يفهم منه شيئا خاصا ، وان ذلك الشيء الخاص الذي يفهمه المكلّف لم يكن خلاف غرض المولى ، كما ورد من كتابة الإمام عليه السلام لاصحابه « جيم » فَفَهِمَ واحد منهم : الجنون ، وثانيهم : الذهاب الى الجبال ، وثالثهم : جلاء الوطن ، وغير ذلك .

هذا تمام الكلام في الاشكال الأوّل على المحقق القمي ، ثم شرع المصنِّف في الاشكال الثاني عليه بقوله : ( وأمّا ما ذكره تبعا للمحقق المذكور ) الخوانساري رحمه اللّه ( « من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليلُ على وجوب شيء معيّن في الواقع

ص: 138

غير مشروط بالعلم به » .

ففيه : أنّه اذا كان التكليف بالشيء قابلاً لأن يقع مشروطا بالعلم ، ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ، كان ذلك اعترافا بعدم قبح التكليف بالشي المعيّن المجهول ، فلا يكون العلم شرطا عقليّا .

-------------------

غير مشروط بالعلم به » ) علما تفصيليا ( ففيه ) كما قال :

( انّه اذا كان التكليف بالشيء ) المعيّن واقعا ، المجهول عند المكلّف ( قابلاً لأن يقع مشروطا بالعلم ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ) كأن يوجب المولى القرائة في الصلاة غير مشروط بالعلم بها ، ويوجب الجهر في القرائة في الصلاة الجهرية مشروطا بالعلم به - مثلاً - ( كان ذلك ) الاعتراف منهما بكون التكليف قابلاً للاشتراط بالعلم و عدمه ( اعترافا بعدم قبح التكليف بالشي المعيّن ) في الواقع ( المجهول ) عند المكلّف ، واعترافا بوجوب الاحتياط في هذه الصورة والاتيان بجميع الاطراف المشتبة .

وعليه : ( فلا يكون العلم ) التفصيلي باعترافهما ( شرطا عقليّا ) لتنجز التكليف ، فكيف ذهبا مع ذلك الى قبح التكليف بالمجمل ؟ .

والحاصل : انّ العَلَمين قالا أولاً : بأن التكليف بالمجمل قبيح ، ثم اعترافا بعد ذلك بامكان التكليف بالمجمل ، وقالا بانّه إذا كلّف المولى بالمجمل وجبَ على العبد الاحتياط ، ومن المعلوم : انّ كلامهم الثاني هذا يناقض كلامهما الاوّل .

لايقال : انّ كلامهما الثاني إنّما هو تخصيص لكلامهما الأوّل .

لانّه يقال : اذا كان التكليف بالمجمل قبيح عقلاً ، فهو غير قابل للتخصيص ، لانّ القضايا العقلية لا تخصيص فيها - كما قرّر في محله - .

هذا هو الاشكال الثاني على المحقق القمي والخوانساري ، ثم شرع المصنّف

ص: 139

وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول بالنسبة الى الخطاب الواقعي ، فان الخطاب الواقعي في يوم الجمعة ، سواء فرض قوله : « صلّ الظهر » أم فرض قوله : « صلّ الجمعة » لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي .

نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصح ان يَرِدَ

-------------------

في الاشكال الثالث بقوله :

( وأمّا اشتراط التكليف به ) اي : بالعلم ( شرعا ) بأن يكون الشارع حكم بحكم مشروط بالعلم به ( فهو غير معقول بالنسبة الى الخطاب الواقعي ) لانّه مستلزم للدور ، فاذا قال المولى : تجب الصلاة مشروطا بالعلم بها استلزم الدور ، لأنّ العلم بالوجوب لايكون الاّ بعد الوجوب ، والوجوب لا يكون الاّ بعد الموضوع ، فاذا أخذ العلم في الموضوع لزم توقف العلم على العلم كما قال .

( فان الخطاب الواقعي في يوم الجمعة سواء فرض قوله : « صلّ الظهر » ، أم فرض قوله « صلّ الجمعة » ، لا يعقل ان يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي ) أي: علما تفصيليا.

هذا ، ولكن يمكن أن يكون التقييد بالعلم بواسطة خطاب ثان ، كما قرّروه في نتيجة الاطلاق ، أو نتيجة التقييد .

إذن : فما ورد بالنسبة الى مثل الجهر والاخفات ، والقصر والاتمام ، وجملة من مسائل الحج وما سيذكره المصنِّف بقوله : « نعم » هو صغرى من صغريات ماذكرناه : من امكان التقييد بالعلم بخطاب ثان ، لا ان أمر التقييد منحصر فيما ذكره: من اختفاء الخطاب الأوّل فيأتي الخطاب الثاني بالاطلاق أو بالتقييد كما قال :

( نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق ) الذي لم يشترط بالعلم ( يصح ان يَرِدَ

ص: 140

خطاب مطلق ، كقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً ، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم » كما يصحّ أن يرد خطاب مشروط وأنّه : لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة ، وأنّ وجوب امتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلاً . ومرجع الأوّل الى الأمر بالاحتياط ،

-------------------

خطاب ) آخر يقول بتقييد الخطاب الاوّل ، وذلك بأن يقول في الخطاب الثاني : ائت بالخطاب الاوّل اذا علمت .

أو يرد خطاب آخر ( مطلق ) يقول باطلاق الخطاب الاول ، وذلك بأن يقول في الخطاب الثاني ائت به سواء علمت ام لم تعلم ، ومعنى ائت به سواء علمت أم لم تعلم : انّه يجب عليك الاحتياط ( كقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً وائت بما فيه ) أي : بما في ذلك الخطاب ( ولو كان غير معلوم » ) عندك ومعناه : انّه يجب عليك الاحتياط إذا لم تعلم بالخصوصية والتعيين .

( كما يصحّ ان يرد خطاب مشروط ) اي : خطاب دال على شرطية العلم التفصيلي في التنجيز ( و ) ذلك بأن يقول المولى في خطابه الثاني : ( انّه لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة ، وانّ وجوب امتثاله ) أي : التكليف الأوّل ( عليك مشروط بعلمك به تفصيلاً ) اي : انّه اذا لم تعلم بانّ التكليف يوم الجمعة هو الجمعة أو الظهر تفصيلاً ، فلا يجب عليك شيء من الصلاة اطلاقا .

( ومرجع الأوّل : ) وهو ما ذكره بقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً » ( الى الأمر بالاحتياط ) كما هو واضح ، لانّه اذا كان عند مجهولاً لم يتمكن أن يأتي بعينه وانّما يتمكن ان يحتاط بالاتيان بجميع الاطراف .

ص: 141

ومرجع الثاني الى البرائة عن الكلّ إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا ، المستلزم لجواز المخالفة القطعية ، والى نفي ما علم إجمالاً لوجوبه وإن أفاد نفي وجوب القطع باتيانه ، وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه الى جعل البدل للواقع والبرائة عن إتيان الواقع على ما هو عليه .

-------------------

( ومرجع الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : « كما يصح ان يرد خطاب مشروط وانّه لايجب عليك ما اختفى عليك » ( الى البرائة عن الكلّ ) وعدم وجوب صلاة عليه لا الجمعة ولا الظهر إذا لم يعلم بالتكليف تفصيلاً .

وإنّما يكون مرجع الثاني الى البرائة ( ان أفاد ) الخطاب الثاني ( نفي وجوب الواقع رأسا ، المستلزم ) هذا النفي ( لجواز المخالفة القطعية، و ) مرجعه ( الى نفي ما علم اجمالاً لوجوبه ) فاللام متعلق ب- « نفي » و « ما علم اجمالاً » جملة معترضة ، فيكون معناه : « ومرجع الثاني بعبارة اخرى : الى نفي لوجوب ما علم به اجمالاً ، لأن الوجوب مشروط بالعلم التفصيلي ، والمفروض : انه لا علم تفصيلي له بالوجوب » .

( وان أفاد ) الخطاب الثاني ( نفي وجوب ) تحصيل ( القطع باتيانه ، وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه ) اي : مرجع هذا الخطاب الثاني ( الى جعل البدل للواقع والبرائة عن إتيان الواقع على ما هو عليه ) فيكتفي باتيان احد المحتملين معيّنا أو مخيّرا بينهما استمرارا أو ابتداءا على ما عرفت .

و الحاصل : ان الخطاب الثاني يكون على احد وجوه ثلاثة :

الاوّل : ان يقول المولى في خطابه الثاني : يجب عليك الاتيان بذلك المجُمل ، ونتيجه هذا الخطاب : الاحتياط التام .

الثاني : ان يقول في خطابه الثاني : ان التكليف مشروط بالعلم التفصيلي ،

ص: 142

لكن دليل البرائة على الوجه الاوّل ينافي العلم الاجمالي المعتبر بنفس أدلّة البرائة ، المغيّاة بالعلم ، وعلى الوجه الثاني غير موجود ،

-------------------

ونتيجة هذا الخطاب انّه لا يجب عليه شيء إطلاقا ، لفرض انّه لا علم تفصيلي بالتكليف الواقعي .

الثالث : ان يقول في خطابه الثاني ائت بأحد المحتملين ، والنتيجة حينئذٍ : أمر بين الأوّل والثاني وهو : وجوب الموافقة الاحتمالية ، فلا يجب الموافقة القطعية ، ولا يجوز ترك الأمرين لانّه مخالفة قطعية .

( لكن دليل البرائة على الوجه الأوّل ) اي : البرائة عن الكل ( ينافي العلم الاجمالي المعتبر بنفس أدلّة البرائة ، المغيّاة بالعلم ) وقوله : « بنفس » متعلق « بالمعتبر » ، فانّ جميع أدلة البرائة مغيّاة بالعلم مثل : « كُلّ شيء مُطلقٌ حَتّى يَردَ فيهِ نَهيٌ » (1) و « كَلّ شَيء حَلالٌ حَتّى تَعلَم انّهُ حَرامٌ » (2) و « كَلّ شَيء طَاهرٌ حَتّى تَعلَم انّهُ قَذِرٌ » (3) وما اشبه ذلك ، وظاهر الغاية هو : العلم الأعم من التفصيلي والاجمالي .

( و ) ايضا دليل البرائة ( على الوجه الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : « كفاية اتيان بعض ما يحتمله » ( غير موجود ) إذ ليس في أدلة البرائة ما يدل على بدلية

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح5318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، المقنع : ص5 .

فيلزمُ من هذين الأمرين أعني وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالاً أن يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، إذ لا ثالث لذينك الأمرين ، فلا حاجة الى أمر الشارع بالاحتياط . ووجوب الاتيان بالواقع غيرُ مشروط بالعلم التفصيلي به ، مضافا الى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد .

-------------------

أحدهما معيّنا أو مخيّرا عن الواقع .

وحيث سقط هذان الوجهان ، لم يبق الاّ الوجه الثالث وهو وجوب الاحتياط كما قال ( فيلزمُ من هذين الأمرين أعني : وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالاً ) يلزم منهما ( أن يحكم العقل بوجوب الاحتياط ) باتيان جميع الأطراف ( إذ لا ثالث لذينك الأمرين ) وهما : عدم وجوب شيء اطلاقا ، أو وجوب أحدهما بدلاً عن الواقع .

وعليه : ( فلا حاجة الى أمر الشارع بالاحتياط . ووجوب الاتيان بالواقع غيرُ مشروط بالعلم التفصيلي به ) فانّه بعد خطاب الشارع بالتكليف وحكم العقل والعقلاء باتيان جميع الاطراف ، لانّه الطريق العرفي للامتثال ، لم يبق احتياج الى خطاب ثانٍ من الشارع بوجوب الاتيان بجميع الاطراف .

هذا ( مضافا الى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد ) التي علم فيها التكليف واشتبه المكلّف به .

إذن : فهنا دليلان على الاحتياط : الخطاب الأوّل ، وأوامر الاحتياط ، وقد تقدَّم جملة من الموارد التي أمر الشارع فيها بالاحتياط مثل : «يُهرِيقُهُما وَ يَتَيمَّم » (1)

ص: 144


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وأمّا ما ذكره « من استلزم ذلك الفرض أعني تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به لاسقاط قصد التعيين في الطاعة » .

ففيه : أنّ سقوط قصد التّعيين انّما حصل بمجرّد التردّد والاجمال في الواجب ،

-------------------

ورواية عبد الرّحمان (1) في جزاء الصيد وغيرهما ممّا لا حاجة الى تكرارها .

ثم ان المصنِّف حيث انتهى من الاشكال الثالث على المحقق القميّ شرع في بيان الاشكال الرابع بقوله :

( وامّا ما ذكره ) المحقق القمي ( « من استلزم ذلك الفرض أعني : تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ) اي : انّ التكليف بالأمر المردد منجّز على هذا الشخص وان لم يعلم به تفصيلاً ، وتنجّزه عليه مستلزم ( لاسقاط قصد التعيين في الطاعة » ) فانّ المحقق القمي ذكر في كلامه : انّه لو دلّ الاجماع أو النص على وجوب شيء معيّن مجهول ، من دون اشتراط العلم التفصيلي في تنجّزه وجب الاحتياط ، فيسقط قصد التعيين المعتبر في العبادة ، وكلامه هذا ظاهر في انّ سقوط قصد التعيين متفرِّع على تنجّز التكليف فاعترض عليه المصنِّف بقوله :

( ففيه : انّ سقوط قصد التّعيين انّما حصل بمجرّد التّردّد والاجمال في الواجب ) أي : ان سقوط قصد التعيين متفرِّع على مجرد الشك ، بلا حاجة الى تنجزّ التكليف لسقوطه فانه بمجرد ما يشك الانسان في التعيين يسقط قصد

ص: 145


1- - راجع الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 وفيه (عن علي عليه السلام) و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

سواء قلنا بالبرائة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم .

فان قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبايّهما ينوي الوجوب والقربة ؟ .

-------------------

التعيين ، لانّ اعتبار التعيين في العبادة لو سُلم - كما ذكره جملة من العلماء - إنّما هو في صورة التمكن من التعيين ، وحيث لا يتمكن منه فانّه يسقط سواءً تنجز التكليف ام كان مجرّد الشك ، و ( سواء قلنا بالبرائة أو الاحتياط ) .

وعليه : فانّ هناك فرقا بين أن نقول : حيث تنجز التكليف سقط قصد التعيين ، وبين ان نقول حيث ترددنا في التكليف فقط على التردد في التكليف ( وليس ) سقوط قصد التعيين ( لازما ) ومتفرّعا ( لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه ) اي : عدم اشتراط التنجز ( بالعلم ) كما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه .

و الحاصل من الاشكال الرابع هو : انّ سقوط قصد التعيين انّما حصل بمجرد التردد والاجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالاحتياط ام قلنا فيه بالبرائة ، وليس هذا السقوط

لازما لتنجز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم ، كما قاله المحقق المذكور .

ثم انّ المصنّف لما فرغ من الاشكالات الاربعة على المحققين : الخوانساري والقمي ، شرع في اشكال ربّما يورد على المصنِّف حيث اختار الاحتياط في العبادة والاشكال هو : ان الاحتياط يُنافي قصد الوجه والتمييز ، فكيف تقولون بالاحتياط مع انّه مفوّت لقصد الوجه والتمييز المعتبر في العبادة ؟ قال :

( فان قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن ) من قصد التعيين في باب الاحتياط ( فبايّهما ) أي : بأي من المشتبهين ( ينوي الوجوب والقربة ؟ ) فاذا تردّد الأمرين بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة هل ينوي الوجوب والقربة بصلاة الظهر

ص: 146

قلت : له في ذلك طريقان :

أحدُهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ، لكونه بحكم العقل مأمورا بالاتيان بكل منهما .

وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّبا الى اللّه تعالى ، فيفعل كلاً منهما ،

-------------------

أو بصلاة الجمعة ؟ .

( قلت : له في ذلك ) اي : في تحصيل قصد الوجه والتمييز ( طريقان ) على النحو التالي :

( احدُهما : أن ينوي بكلّ منهما ) اي : بكل من صلاتي الظهر والجمعة - مثلاً - ( الوجوب والقربة ، لكونه ) اي : لكون المكلّف ( بحكم العقل ) والشرع ( مأمورا بالاتيان بكل منهما ) امّا بحكم العقل : فمن باب المقدمة العلمية ، فإنّ به احراز الواجب الواقعي حسب ما يأمر به العقل .

وأمّا بحكم الشرع فمن أجل قوله عليه السلام : «احتَط لِدينك » (1) فان به احراز الواجب الواقعي حسب ما يأمر به الشرع .

وعليه : فينوي الصلاة الظهر الوجوب والقربة ، كما ينوي لصلاة الجمعة الوجوب والقربة ايضا .

( وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب ) الواقعي ( به أو بصاحبه ) اي: بالظهر أو بالجمعة ( تقرّبا الى اللّه تعالى ، فيفعل كلاً منهما ) بهذه النية بمعنى :

ص: 147


1- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

حصول الواجب الواقعي وتحصيله لوجوبه والتقرّب به الى اللّه تعالى ، فيقصد : أنّي أُصلّي الظهر ، لاجل تحقّق الفريضة الواقعية به ، أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو فعلتُ قبلها قربة إلى اللّه ، وملخّصُ ذلك أنّي اُصلّي الظهر احتياطا قربة الى اللّه ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد .

ولا يَردُ عليه أنّ المعتبر في العبادة قصدُ التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ، ولا ريب أنّ كلاً

-------------------

انه ينوي حصول الواجب بهذا العمل أو بالعمل الآخر ( فيحصل الواجب الواقعي و ) يتم بذلك ( تحصيله لوجوبه ، والتقرّب به الى اللّه تعالى ) اي : انّ المكلّف يحصل بهذه الصورة على التكليف الواقعي بين الظهر والجمعة ، لانّ التكليف الواقعي واجب ، فيتقرّب به الى اللّه سبحانه .

وعليه : ( فيقصد : انّي أصلي الظهر ، لاجل تحقّق الفريضة الواقعية به ، أو بالجمعة التي أفعل ) تلك الجمعة ( بعدها ) اي : بعد صلاة الظهر ( أو فعلتُ قبلها ) وهذا الذي آتي به وبما بعده أو آتي به وبما قبله انّما يكون ( قربة الى اللّه ) تعالى .

( وملخصُ ذلك ) الذي يلزم أن ينويه هو : ( انّي اصلّي الظّهر احتياطا قربة الى اللّه ) واصلي الجمعة كذلك .

( وهذا الوجه ) أي : الوجه الثاني الذي ذكره المصنّف بقوله : « وثانيهما ان ينوي بكل منهما حصول الواجب » ( هو الذي ينبغي أن يقصد ) حين الاتيان بالصلاتين، لانّ المقصود من وجوبهما هو : احراز اتيان الواجب الواقعي لا الواجب الظاهري الذي كان يقتضيه الوجه الأوّل .

( ولا يَردُ عليه : ) اي : على هذا الوجه الثاني الذي اخترناه : ( انّ المعتبر في العبادة قصدُ التقرّب والتعبّد بها ) اي : بتلك العبادة ( بالخصوص ، ولا ريب انّ كلاً

ص: 148

من الصلاتين عبادةٌ ، فلا معنى لكون الدّاعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحققه به أو بصاحبه .

لأنّ القصد المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدّميّة.

وأمّا الوجه الاوّل ،

-------------------

من الصلاتين عبادةٌ ، فلا معنى لكون الدّاعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحققه به ) اي : بهذا الفرض كالظهر ( أو بصاحبه ) كالجمعة في المثال .

إذن : فانّ كُلاً من الصلاتين عبادة موقوفة على قصد الوجه والتقرب بها بخصوصها ، فاتيان الظهر والجمعة بنية تحقق التقرب والوجوب به أو بصاحبه معناه : عدم الاتيان بالواجب المتقرب به بهذا بالخصوص وبذاك بالخصوص .

وانّما لا يرد هذا الاشكال على ما اخترناه من الوجه الثاني ( لانّ القصد المذكور انّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدّميّة) فانّ العبادة اذا أحرز تعلق الأمر بخصوصها كصلاة المغرب - مثلاً - لزم الاتيان بها بقصد حصول التقرّب بها بالخصوص .

وأمّا اذا احتمل تعلق الأمر بهذه العبادة أو بتلك العبادة كالظهر والجمعة ، كما في موارد الشك والترديد بينهما ، فاللازم الاتيان بينهما بقصد احتمال حصول التقرب ، فيأتي بالظهر والجمعة بقصد حصول التقرب بالظهر أو بالجمعة بالجمعة أو بالظهر ، لانّ النية في هذه الصورة لا تصح الاّ على هذا الوجه .

وعليه : فاذا أراد الشارع من المكلّف الصلاة الواقعية بين الظهر والجمعة ، فلابّد للمكلّف من الاتيان بهما بهذا الوجه الذي ذكرناه ، لانّه لا يتمكن من قصد الوجه والقربة بخصوص هذه وبخصوص تلك .

( وأمّا الوجه الاوّل : ) وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « أحدهما أن ينوي بكل

ص: 149

فيرد عليه : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي ، وهوالوجوب الثابت في أحدهما المعيّن. ولايلزم من نيّة الوجوب المقدميّ قصدُه .

وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما

-------------------

منهما الوجوب والقربة » ( فيرد عليه : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي وهو : الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ) عند اللّه سبحانه ، المجهول عندنا (ولا يلزم) أي : لا يتحقق ( من نيّة الوجوب المقدميّ قصدهُ ) اي : قصد الواجب الواقعي ، وذلك لأنّ هنا وجوبين :

أولاً : وجوب نفسي عبادي متعلّق بأحدهما ، وهذا الوجوب النفسي العبادي لايتأتّى الاّ بالنية التي ذكرناها في الوجه الثاني .

ثانيا : وجوب غيري ارشادي متعلق بكليهما من باب المقدمية والوجوب المقدمي وجوب ظاهري فاتيانهما بقصد خصوص وجوبهما لا يوجب احراز المقصود الذي هو اتيان الواجب الواقعي بقصد وجوبه ، وانّما احراز المقصود ، يكون بقصد الاتيان بالواقع بهذه الصلاة أو تلك الصلاة ، على ما ذكرناه في الوجه الثاني .

( وأيضا ) هنا وجه آخر لعدم صحة الوجه الأوّل وهو : انّ القربة انّما تتحقق لو كانت بداعي الوجوب ، فاذا لم تكن بداعي الوجوب ( فالقربة غير حاصلة بنفس فعل احدهما ) اي : بلا داعي الوجوب ، و هو واضح .

كما ان القربة غير حاصلة لو اتى بفعلهما معا بداعي الوجوب الواقعي ، لانّ المفروض : انّ الواجب الواقعي المردد بينهما ليس اكثر من واجب واحد .

وكذا تكون القربة غير حاصلة لو اتى بفعلهما معا بداعي الوجوب المقدّمي ،

ص: 150

ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ، لانّ هذا الوجوب مقدميّ ، ومرجعه الى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة ، ودفع احتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوبُ إرشاديّ ، لا تقرّب فيه أصلاً ، نظير أوامر الاطاعة ، فانّ امتثالها لايوجبُ تقرّبا ، وانّما المقرّب نفسُ الاطاعة ، والمقرّب هنا أيضا

-------------------

كما قال : ( ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ) المقدّمي ، وذلك ( لانّ هذا الوجوب ) الظاهري هو وجوب ( مقدميّ ، ومرجعه الى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة ، ودفع احتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما ) اي : من المحتملين .

( وهذا الوجوب ) المقدمي سواء استفيد من العقل الحاكم بالاتيان بأطراف المشتبه ، أم من الشرع القاضي بوجوب الاحتياط ( إرشاديّ ) محض ( لا تقرّب فيه أصلاً ) .

وإنّما لا تقرّب فيه لانه نظير أوامر الاطباء ، و ( نظير أوامر الاطاعة ) حيث قال سبحانه : « اَطيعُوا اللّهَ وأطيعوا الرسول » (1) فانّ اطاعة اللّه والرسول في هذا الأمر ارشادي محض ، لما تقدّم : من انه لو لم يكن ارشاديا لزم ان يكون لكل واجب ثوابان ولكل محرّم عقابان ولم يقل به أحد .

وعليه : ( فانّ امتثالها ) اي : امتثال أوامر الطاعة ( لا يوجبُ تقربا ، وانّما المقرّب نفسُ الاطاعة ) فاذا صلّى صلاة الصبح - مثلاً - تكون نفس الصلاة مقرّبة له الى اللّه، لا انّه حيث أطاع أمر « أطيعوا اللّه والرسول » تكون الاطاعة مقرّبة له .

هذا في أوامر الطاعة ( و ) امّا ما نحن فيه : فانّ ( المقرّب هنا أيضا ) في مورد

ص: 151


1- - سورة النساء : الآية 59 ، سورة المائدة : الآية 92 .

نفس الاطاعة الواقعية المردّدة بين الفعلين ، فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

-------------------

الاحتياط باتيان صلاة الظهر والجمعة معا هو : ( نفس الاطاعة الواقعية المردّدة بين الفعلين ) لا الوجوب الظاهري لكل منهما .

و الحاصل : ان حكم العقل والشرع بوجوب الاتيان بكل من المحتملين لدفع الضرر المحتمل في الترك حكم ارشادي لايوجب إطاعته تقرّبا أصلاً ، بخلاف ايجاب الشارع الاحتياط في المقام ، فانّه يمكن ان يكون على الوجه الشرعي الظاهري المتعلّق بموضوع عدم العلم بالواقع .

وعليه : فيلزم فيما نحن فيه ان يقصد العبد :التقرب بالوجه الذي ذكرناه في ثاني الوجهين ، وهو عبارة عن : قصد الوجه الواقعي من الوجوب الثابت في احدهما المعيّن عند اللّه المجهول عندنا .

( فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة ) وذلك لأنّ الوجوب اذا كان مولويا فهو ناشٍ عن مصلحة في نفس الفعل ، فان في نفس صلاة الصبح - مثلاً - مصلحة ، فيكون قصدها مقرّبا الى اللّه سبحانه ، وأمّا اذا كان الوجوب ارشاديا فهو لم ينشأ عن مصلحة في نفس الفعل ، بل انّما هو لمجرد الوصول الى الصلاة الواقعية المردّدة بين الظهر والجمعة ، فلا معنى لقصد التقرب بكل من الظهر والجمعة ، لأنّ هنا تقربا واحدا لا تقرّبين .

الى هنا فرغ المصنِّف عن جواب دليلين من أدلة القائلين بعدم وجوب الموافقة القطعية يعني : عدم وجوب الاحتياط ، بل التخيير فيما دار الامر بين المتباينين لفقد النص ، كما في مثال : الظهر والجمعة ، والقصر والاتمام ، والدليلان هما : منع العلّية ، ووجود المانع الشرعي لأخبار البرائة .

وحيث فرغ المصنِّف من الدليلين المذكورين وأجوبتهما ، شرع رحمه اللّه في بيان

ص: 152

وممّا ذكرنا يندفع توهّمُ أنّ الجمع بين المحتملين مستلزمٌ لاتيان غير الواجب على جهة العبادة ، لانّ قصدَ القربة المعتبر في الواجب الواقعيّ لازمُ المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه في الواجب الواقعي .

ومن المعلوم : أنّ الاتيانَ بكل من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة ،

-------------------

دليلهم الثالث والجواب عنه وهو : وجود المانع العقلي عن الاحتياط بمعنى : لزوم التشريع منه ، فقال في الجواب عنه :

( وممّا ذكرنا ) في الوجه الثاني لكيفية النية حيث قلنا : ان احراز الواقع مع قصد الوجه والقربة إنّما يكون هكذا : بأن ينوي بكل منهما حصول الواجب به أو بصاحبه قربة الى اللّه تعالى ، فيكون المقصود هو المعيّن عند اللّه المجهول عندنا ، ولا يتوقف إذن احراز الواقع على قصد الوجه والقربة في هذه مرة وفي تلك اخرى حتى يكون تشريعا محرما .

وعليه : فانه ( يندفع ) بما ذكرناه دليلهم الثالث وهو : ( توهمُ : انّ الجمع بين المحتملين ) باتيان الظهر والجمعة ( مستلزمٌ لاتيان غير الواجب ) اتيانا ( على جهة العبادة ) وهو تشريع محرّم .

وانّما يستلزم الاحتياط توهمهم : اتيان غير الواجب على جهة العبادة ( لأنّ قصدَ القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازمُ المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه ) اي : باحراز ذلك القصد ( في الواجب الواقعي ) واحرازه إنّما يتم بأن يأتي بالظهر بقصد القربة ، ويأتي بالجمعة بقصد القربة ، مع انّه يعلم انّ احدهما ليس واجبا ومقربا الى اللّه تعالى فيكون تشريعا .

( ومن المعلوم : انّ الاتيان بكل من المحتملين بوصف انّها عبادة مقرّبة ،

ص: 153

يوجبُ التشريع بالنسبة الى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرَّما ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وانّما يمكن في غيرها من جهة أنّ الاتيان بالمحتملين لايعتبر فيهما قصدُ التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره في الواجب المردّد ، فيأتي بكل منهما لاحتمال وجوبه .

ووجهُ اندفاع هذا التوهّم - مضافا الى أنّ غاية ما يلزم من ذلك

-------------------

يوجبُ التشريع بالنسبة الى ما عدا الواجب الواقعي ) فاذا فرضنا انّ صلاة الجمعة هي الواجبة ، فانّه عندما يقصد القربة بصلاة الظهر يكون تشريعا ( فيكون ) هذا القصد ( محرَّما ) .

وعليه: ( فالاحتياط غير ممكن في العبادات ) من جهة التشريع ( وانّما يمكن ) الاحتياط ( في غيرها ) اي : في غير العبادات من التوصّليات كما اذا شك في ان الواجب عليه غَسل هذا الثوب أو غَسل ذاك الثوب فيما إذا اشتبه النجس بين الثوبين وأراد في واحد منهما .

إذن : فالاحتياط انّما يمكن في التوصليات فقط ، وذلك ( من جهة : انّ الاتيان بالمحتملين لايعتبر فيهما قصدُ التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره ) اي : قصد التعيين

والتقرب ( في الواجب الواقعي المردّد ) بين المحتملين التوصليين ، كتطهيرا لنجس بين الثوبين ، فانه يتطهر بالغسل سواء قصد به التطهير أم لا ، بل وحتى اذا أسقطت الريح الثوب في الماء الكُرّ طهر ، لانه توصلي لا يعتبر فيه القصد .

وحيث لم يعتبر قصد القربة في التوصليات ( فيأتي بكل منهما ) اي : من التوصليين ( لاحتمال وجوبه ) بدون قصد قربة أو تعيين .

( و ) أمّا ( وجهُ اندفاع هذا التوهّم ) الذي هو دليلهم الثالث فيتم عبر أمرين :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ( مضافا الى أنّ غاية ما يلزم من ذلك ) اي : من هذا

ص: 154

عدمُ التمكن من تمام الاحتياط في العبادات ، حتى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي من جهة استلزامه للتشريع المحرّم ، فيدور الأمرُ بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الاتيان بهما مهملاً ، لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا شكّ أنّ الثّاني أولى لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الامكان .

فاذا لم يمكن الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواجب الواقعي

-------------------

التوهم هو : ( عدمُ التمكن من تمام الاحتياط في العبادات ) اي : لا يمكن الاحتياط التام في العبادات احتياطا ( حتى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي ) وعدم التمكن من تمام الاحتياط إنّما هو ( من جهة استلزامه) اي : الاحتياط التام ( للتشريع المحرّم ) على ما ذكره المتوهم .

وعليه : فاذا لم يتمكن من الاحتياط التام ، والمفروض : حرمة المخالفة القطعية ( فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين ) من الظهر أو الجمعة والاتيان به بقصد احتمال التقرب ، كما هو مذهب القائلين بعدم وجوب الاحتياط ( وبين ) الاحتياط الناقص الذي هو عبارة عن ( الاتيان بهما ، مهملاً لقصد التقرّب في الكلّ) بأن لا يقصد التقرب لا بالظهر ولا بالجمعة ، فيهمل قصد التقرب فيهما (فرارا عن التشريع ) المحرّم .

( ولا شكّ أنّ الثّاني ) و هو : الاتيان بالصلاتين - مثلاً - مهملاً لقصد التقرب في الكلّ ( اولى ) من الاوّل الذي هو عبارة عن الاتيان بأحد الصلاتين .

وانّما كان الثاني أولى ( لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الامكان ، فاذا لم يمكن الموافقة ) القطعية الكاملة الحاصلة ( بمراعاة جميع ما يعتبر في الواجب الواقعي

ص: 155

في كلّ من المحتملين اكتفى بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما ، أنّ اعتبار قصد التقربّ والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا لايقتضي قصده في كلّ منهما ، كيف وهو غير ممكن ؟ وانّما يقتضي لوجوب قصد التقرّب والتعبّد في الواجب المردّد بينهما

-------------------

في كلّ من المحتملين ) لانه يستلزم التشريع اذا قصد القربة في كل منهما ( اكتفى ) بالموافقة القطعية الناقصة اكتفاءا ( بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما ) اي : ضمن الصلاتين ، فانّه باتيانهما يتحقق ذات الواجب قطعا وان نقص قصد التعيين والقربة .

بخلاف ما إذا اكتفى بأحدهما فانّ الاتيان بذات الواجب يكون مشكوكا ، لاحتمال انّه اذا اتى بالظهر أن يكون الواجب في الواقع هو الجمعة ، واذا أتى بالجمعة أن يكون الواجب في الواقع الظهر .

وان شئت قلت : إنّ الآتي بأحدهما لايحرز انه أتى بذات الواجب ، وأما الآتي بهما معا ، فهو يحرز انه أتي بذات الواجب ، ومن المعلوم لدى العقلاء : ان الثاني أولى من الأوّل .

هذا هو الأمر الأوّل في وجه اندفاع التوهم المذكور .

الثاني : ( أنّ اعتبار قصد التقربّ والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا ، لا يقتضي قصده في كلّ منهما ) وذلك لانّ المكلّف لا يعلم أن هذه عبادة ، وتلك عبادة حتى يقصد القربة في كل منهما ، ففي هذه الصورة ( كيف ) يقصد في كل منهما التقرب ( وهو غير ممكن ، و ) ذلك لعلمه بأنّ احدهما ليس بمقرِّب ؟.

نعم ، ( انّما يقتضي ) اعتبار قصد التقرّب ( لوجوب قصد التقرّب والتعبّد في الواجب ) الواقعي ( المردّد بينهما ) اي : بين المحتملين كالظهر والجمعة فيأتي

ص: 156

بأن يقصد في كلّ منهما : أنّي أفعله ليتحقق به أو بصاحبه التعبّدُ باتيان الواجب الواقعي .

وهذا الكلام بعينه جارٍ في قصد الوجه المعتبر في الواجب ، فانّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة في خصوص كلّ منهما ، بأن يقصد أنّي اُصلّي الظهر لوجوبه ، ثم يقصد أنّي أصلّي الجمعة لوجوبها ، بل يقصد أنّي أصلّي الظهر ، لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك .

-------------------

بهما معا بالطريقة التي ذكرناها سابقا ، وذلك ( بأن يقصد في كلّ منهما : انّي أفعله ليتحقق به أو بصاحبه ) من المشتبه الآخر التقرب و ( التعبّد باتيان الواجب الواقعي ) منهما ، وبذلك يكن قد قصد التقرّب بما هو واجب واقعا .

هذا تمام الكلام في التقرب .

( و ) أمّا قصد الوجه في العبادة من الوجوب أو الاستصحاب : فإنّ ( هذا الكلام بعينه ) سؤالاً وجوابا ( جارٍ في قصد الوجه المعتبر في الواجب ) الواقعي أيضا ، وذلك لان قصد التقرب وقصد الوجه مساقهما واحد من هذه الجهة ( فانّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة ) كالوجوب ( في خصوص كلّ منهما ) أي : كل من الظهر والجمعة - مثلاً - .

وعليه : فاعتبار قصد الوجه لا يقتضي ( بأن يقصد : انّي اُصلّي الظهر لوجوبه ، ثم يقصد : انّي اُصلّي الجمعة لوجوبها ) فانّهما ليسا واجبين حتى يقصد الوجوب في كل واحد منهما ( بل يقصد : انّي اُصلّي الظهر ؛ لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك ) وبهذا يحصل الاحتياط التام باتيان كلا المشتبهين مع قصد القربة وقصد الوجه .

ص: 157

والحاصل : أنّ نيّة الفعل هو قصده على الصّفة التي هو عليها ، التّي هو باعتبارها صار واجبا ، فلابدّ من ملاحظة ذلك في كلّ من المحتملين ، فإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة - التّي هو عليها الموجبة للحكم بوجوبه - هو احتمال تحقق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به الى اللّه تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ،

-------------------

( والحاصل : ) انّ قصد التقرّب ، وكذلك قصد الوجه ، في العبادة المردّدة بين الظهر والجمعة ، لايتوقفان على اتيان كل من المحتملين : الظهر والجمعة ، بوصف كون كل منهما عبادة مقرّبة واجبة ، بل يكفي في ذلك مجرد الاتيان بكل منهما برجاء انّه الواقع المتقرب به لانّه الواجب اذ ليس المراد به الاّ اتيان الفعل بداعي الأمر وبداعي وجوبه ، وهو موجود هنا ، لانّ الأمر بالواجب الواقعي صار سببا لاتيانهما برجاء انّه الواقع ، من غير فرق في ذلك بين قصد الوجه وقصد القربة ،ذلك كما قال :

( انّ نيّة الفعل هو : قصده على الصّفة التي هو عليها ) من الوجوب ، وكونه مقربا ، وغير ذلك من الصفات ( التّي هو ) أي : ذلك الفعل ( باعتبارها ) اي : باعتبار تلك الصفة ( صار واجبا ) .

وعليه : ( فلابدّ من ملاحظة ذلك ) الوصف ( في كلّ من المحتملين ) كالظهر والجمعة ( فإذا لاحظنا ذلك فيه ) اي : في كل من المحتملين ( وجدنا الصفة - التّي هو عليها الموجبة للحكم بوجوبه - هو : احتمال تحقق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به الى اللّه تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ) أي : كون أحدهما واجبا ، وكون أحدهما يتقرب به ، وبذلك يحصل الاحتياط التام ، فانّ هذه الصفة هي التي سببت الوجوب .

ص: 158

والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه ، فلا معنى لقصد التقرّب في كل منهما بخصوصه ، حتى يَرِدَ أنّ التقرّب والتعّبد بما لم يتعبّد به الشارع تشريعٌ محرّمٌ .

نعم ، هذا الايراد متوجّه على ظاهر من اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ، لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك من الأمر الظاهري باتيان كلّ منهما ، فيكون كلّ منهما عبادة واجبة في مرحلة الظاهر .

-------------------

( والزائد على هذا المعنى ) بأن يقصد في كل منهما القربة والوجوب ( غير موجود فيه ) اي : في هذا المحتمل ( فلا معنى لقصد التقرّب في كل منهما ) اي : من الظهر ومن الجمعة ( بخصوصه ) فانّه لا يعقل مثل هذا القصد ( حتى يَرِدَ : انّ التقرّب والتعّبد بما لم يتعبّد به الشارع تشريعٌ محرّمٌ ) اذ لا يأتي اشكال التشريع في فرضنا الذي ذكرناه .

وعليه : فيندفع اشكال من اعترض على القائلين بالاحتياط ووجوب الجمع بينهما : بانّه تشريع محرّم .

( نعم ، هذا الايراد ) اي : لزوم التشريع ( متوجه على ظاهر من ) قال بالوجه الأوّل في كيفية النية بأن ( اعتبر في كل من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ) فقال : انّه يلزم أن يأتي بالظهر بقصد انّه واجب ومتقرب به ، ويأتي بالجمعة بقصد انه واجب ومتقرّب بها ، فانّ أحدهما يكون تشريعا محرّما .

هذا ( لكنّه ) يمكن ان لا يلزم اشكال التشريع حتى على مختار من اعتبر القصد في كل من المحتملين بالخصوص ، و ذلك لانه ( مبنيّ أيضا على لزوم ذلك ) اي : لزوم قصد الوجه والقربة في كل منهما ( من ) جهة ( الأمر الظاهري باتيان كلّ منهما ، فيكون كلّ منهما عبادة واجبة في مرحلة الظاهر ) فانه كما لا يلزم التشريع

ص: 159

كما اذا شك في الوقت أنّه صلّى الظهر أم لا ؟ فانّه يجب عليه فعلها فينوي الوجوب والقربة وان احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع .

فلا يرد عليه ايرادُ التشريع ، إذ التشريع إنّما يلزم لو قصد بكل منهما ، أنّه الواجبُ واقعا ، المتعبّدُ به في نفس الأمر .

-------------------

على مختارنا ، كذلك لايلزم التشريع على مختاره أيضا .

( كما اذا شك في الوقت : انّه صلّى الظهر أم لا ؟ فانّه يجب عليه فعلها ) اي : فعل الظهر ، لاستصحاب الاشتغال أو لأنّ دليل الوجوب يشمله ولا يعلم بسقوطه، فالاشتغال اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية ( فينوي الوجوب والقربة وان احتمل كونها ) أي : الصلاة ( في الواقع لغوا غير مشروع ) إذا قلنا بأنّ تكرار الصلاة لغو وغير مشروع .

و انّما ينوي الشاك في الصلاة وهو في الوقت الوجوب والقربة ، لانّ الظاهر : انّه المكلّف بالصلاة وان كان لايعلم بالواقع ، وما نحن فيه أيضا كذلك ، فانه يعلم بلزوم الاتيان بهاتين الصلاتين : الظهر والجمعة ، فيأتي بهما بقصد الوجوب والقربة ان كان لا يعلم بالواقع ، بل يحتمل ان يكون واحدا من صلاة الظهر أو صلاة الجمعة لغوا أو غير مشروع .

إذن : ( فلا يرد عليه ) أي : على من يعتبر في كل من المشتبهات : قصد الوجه والتقرب ( ايراد التشريع ) فانه ليس بتشريع ، لأنّ التشريع هو ما لا يكون واجبا لا في مرحلة الواقع ولا في مرحلة الظاهر ، والصلاتان واجبتان في مرحلة الظاهر ، كما قال :

( إذ التشريع انّما يلزم لو قصد بكل منهما ، انّه الواجبُ واقعا ، المتعبّد به في نفس الأمر ) والحال انّه لا ينوي هكذا ،انّما ينوي بكل منهما : انّه الواجب

ص: 160

ولكنّك عرفت أن مقتضى النظر الدقيق خلافُ هذا البناء ، وأنّ الامر المقدّمي خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها إلاّ ارشاديا ، لا يوجبُ موافقته التقرّب ولا يصير منشئا لصيرورة الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها .

-------------------

في الظاهر والمتعبّد به في الظاهر ، فيكون حال الصلاتين حال سائر ما يجب في الظاهر .

وحيث قال المصنِّف في دفع اشكال التشريع : لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك ، أراد هنا العدول عنّه والاشارة الى ان هذا المبنى غير تام ، فقال :

( ولكنّك عرفت : ) عند قولنا يرد على الوجه الأوّل من كيفية النيّة كذا ( أن مقتضى النظر الدقيق : خلافُ هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي ) سواء كان مقدمة الوجود ، أم مقدمة الصحة ، أم مقدمة العلم ( خصوصا ) الأمر ( الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها الاّ ارشاديا ) لا دراك الواقع ، والأمر الارشادي ( لا يوجبُ موافقته التقرّب ولا يصير منشئا ) وسببا ( لصيرورة الشيء من العبادات ، اذا لم يكن في نفسه منها ) اي : من العبادات .

وعليه : فالمقدمة قد تكون مقدمة للامر بها بأمر مولوّي عبادي : كالوضوء ، والغسل ، وصلاة الظهر بالنسبة الى صلاة العصر حيث قال عليه السلام : «الاّ ان هذه قبل هذه » (1) فلا شك في صحة قصد التقرب بها ، بل بدون قصد التقرب لا تقع المقدمة وقد تكون المقدمة مقدمة للأمر بها بأمر مولوي غير عبادي مثل : رفع

ص: 161


1- - الكافي فروع : ج3 ص276 ح5 و ص281 ح12 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص27 ب23 ح29 ، الاستبصار: ج1 ص262 ب149 ح2 ، غوالي اللئالي: ج3 ص68 ح17 ، تفسير العياشي : ج2 ص310 ح143 .

وقد تقدّم في مسألة « التسامح في أدلّة السنن » ما يوضح حال الأمر بالاحتياط .

كما أنّه قد استوفينا في بحث « مقدمة الواجب » حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة على كون التيمم من العبادات

-------------------

الخبث للصلاة ، أو مقدمة للأمر بها بأمر ارشادي مثل ما نحن فيه ، ففي هاتين الصورتين الأخيرتين لا يوجب موافقة امرهما التقرب ، ولا يصير سببا لصيرورة الشيء من العبادات .

هذا ( وقد تقدّم في مسألة « التسامح في أدلّة السنن » : ما يوضح حال الأمر بالاحتياط ) حيث ذكرنا هناك مفصلاً : بأنّ الأمر بالمقدمة العلمية ليس الاّ للارشاد .

نعم ، لا اشكال في صحة أن يأتي الانسان بكل شيء غير محرّم ولا مكروه بقصد القربة ، ويثاب عليها حينئذٍ ، كما دلّ على ذلك بعض الروايات فيأكل بقصد القربة ، وينام بقصد القربة ، ويتخلّى بقصد القربة ، ويباشر زوجته بقصد القربة ، ويتنزّه بقصد القربة ، وهكذا ، وذلك لقوله عليه السلام : « ان لبدنك عليك حقا» لكن ذلك لا يوجب ان ينوي الانسان التقرّب العبادي مثل : نية الصلاة والصوم في هذه الامور .

( كما انّه قد استوفينا في بحث « مقدمة الواجب » حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه ) أي : بسبب الأمر المقدّمي ( عبادة ) مقرّبة اليه سبحانه ( وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة ) اي : من جهة عدم تأثير الأمر المقدّمي في صيرورة المقدمة عبادة مقرّبة ( على كون التيمم من العبادات ) فكيف يكون

ص: 162

على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ، فانّه لا منشأ حينئذٍ لكونه منها إلاّ الأمر المقدّمي به من الشّارع .

-------------------

التيمم وهو أمر مقدّميمن العبادات ( على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ) ؟ .

أمّا إذا قلنا بأنّ التيمم راجح في نفسه ويكون حاله حال الوضوء والغسل ، فيكون من العبادات فلا يرد الاشكال على التيمم .

وأما وجه الاشكال : فهو انّه إذا لم يكن التيمم في نفسه من العبادات ، فوجوبه المقدّمي للصلاة والصوم والطواف وما أشبه لا يكفي من حيث قصد القربة ، فلماذا يشترط الفقهاء فيه قصد القربة .

وعليه : ( فانّه لا منشأ حينئذٍ لكونه ) اي : التيمم ( منها ) اي : من العبادات ( إلاّ الأمر المقدّمي به من الشّارع ) والأمر المقدّمي - كما عرفت - لا يكون منشأ للعبادية .

قال في تحر الفوائد: « لا اشكال في استحقاق الثواب بفعل المقدّمة فيما لو كانت عبادة في نفسها وجعلها الشارع من مقدّمات الواجب ، كما في الطهارة المائية من حيث رجحانها الذاتي لا من حيث اطاعة الأمر الغيري المعلق بها .

و أمّا الطهارة الترابية على القول بعدم كونها عبادة في نفسها بحيث يكون فعلها راجحا ومأمورا به من دون ملاحظة غاية من الغايات ، فيكون نقصا لما ذكرنا: من عدم تأثير امتثال الأمر الغيري في القرب واستحقاق الثواب ، فانّ كونها من العبادات ، وعدم سقوط أمرها الاّ بقصد التقرب من المسلّمات عندهم مع عدم تعلق أمر نفسي بها على هذا القول انحصار أمرها في الأمر الغيري .

هذا، ويمكن التفصّي عن الاشكال المذكور بالتزام رجحان ومصلحة نفسية لها

ص: 163

فان قلت : يمكن اثباتُ الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين ، لانّ الاوّل منهما واجب بالاجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعية ، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المُثبت للوجوب الشرعي الظاهري ،

-------------------

لاتبلغ حدّا يؤثر في الأمر بها نفسا ، وانّما هي بمقدار تؤثر في المصلحة الملزمة بالنسبة الى غاياتها وتوجب ارتباطها بها ، كما في الركوع على القول بعدم كونه عبادة في نفسه كالسجود ، فانّ السجود عبادة في نفسه .

أقول : لكن الظاهر : انّ الركوع أيضا عبادة في نفسه لانّه نوع خضوع كالسجود ولهذا كانوا يركعون أمام كبرائهم ممّا ألغاه الاسلام حيث جعل الركوع كالسجود خاصا باللّه سبحانه .

( فان قلت : يمكن اثبات الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين ) فيأتي بكل من الظهرالجمعة بنية القربة والوجوب ( لانّ الأوّل ) الذي يأتي به ( منهما ) اي : من المحتملين سواء كان ظهرا أم جمعة ( واجب بالاجماع ) فانّه يجب ( ولو فرارا عن المخالفة القطعية ) بمعنى : إنّ الشيء الذي يأتي به أولاً يكون فرارا عن المخالفة القطعية ، والفرار من المخالفة القطعية واجب .

إذن : فالذي يأتي به أولاً واجب على كل حال .

( والثاني ) : اي : المحتمل الذي يأتي به ثانيا من ظهر أو جمعة ، فانه ( واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري ) لانّه قبل الاتيان بالصلاة الاولى كانتا الصلاة واجبة عليه ، فاذا أتى بالاولى لم يعلم بكفاية هذه الصلاة عن الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب الصلاة عليه ، فتكون الصلاة الثانية واجبة لمقتضى الاستصحاب ، كما قال :

ص: 164

فان مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الاتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه .

قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولاً فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وانّما وجب لاحتمال تحقق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة ، أو للقطع بالموافقة إذا أتى معه بالمحتمل الآخر . وعلى أيّ تقدير فمرجعه الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالاً .

-------------------

( فان مقتضى الاستصحاب : بقاء الاشتغال ، وعدم الاتيان بالواجب الواقعي ، وبقاء وجوبه ) لفرض انه لا يعلم انّ الصلاة الاولى هل هي الصلاة الواجبة أم لا ؟.

ان قلت ذلك ( قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولاً ، فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ) لان المفروض : انّ الواجب مردّد بينهما وليس معيّنا فيهما ، فما يأتي به اولاً لم يكن لانه وجب عليه بعينه ( وانّما وجب ) عليه ( لاحتمال تحقق الواجب به ، الموجب للفرار عن المخالفة ) القطعية ، كما قال به بعض حيث اكتفوا بالموافقة الاحتمالية .

( أو ) الموجب ( للقطع بالموافقة ) اي الموافقة القطعية كما قال به بعض آخر ، حيث التزموا بوجوب الموافقة القطعية ، وذلك يتم فيما ( اذا أتى معه بالمحتمل الآخر ) فانه باتيانه بالمحتملين يأتي بما أوجب اللّه سبحانه وتعالى عليه .

( وعلى ايّ تقدير ) من التقديرين : حرمة المخالفة القطعية ، او وجوب الموافقة القطعية ( فمرجعه ) اي : مرجع وجوب الأوّل ( الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالاً ) فيكون وجوبا مقدميا ارشاديا لا وجوبا نفسيا مولويا وقد عرفت : انّ الوجوب الارشادي المقدّمي لا قربة فيه .

ص: 165

وأمّا المحتمل الثاني فهو أيضا ليس الاّ بحكم العقل من باب المقدّمة .

وما ذكر من « استصحاب » فيه بعدَ منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من اوّل الأمر بوجوب الجميع ، اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا ، وإلاّ لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ،

-------------------

( وأمّا المحتمل الثاني : فهو أيضا ليس الاّ بحكم العقل من باب المقدّمة ) العلمية ، فان من يرى وجوب الاحتياط يرى وجوب الاتيان بهما معا من باب المقدّمة العلميّة ، وقد عرفت : إنّ المقدمة العلمية لا تكون واجبة نفسا ، بل ارشادا، والواجب الارشادي لا قربة فيه .

( و ) أمّا ( ما ذكر من « استصحاب » ) اي : استصحاب الشغل بالنسبة الى الصلاة الثانية ، فان ( فيه ) ما يلي :

أوّلاً : ( بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام ) منعا ( من جهة حكم العقل من اوّل الأمر : بوجوب الجميع ) اي : جميع المحتملات دفعا للضرر المحتمل ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب .

وانّما لا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب ( اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا ) ولبقاء الحكم العقلي يأتي بالثانّية ، كما كان يأتي بالاولى لنفس الحكم العقلي ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب .

( وإلاّ ) بأن لم يكن حكم العقل باقيا بالنسبة الى الثانية ( لم يكن ) العقل من الاول ( حاكما بوجوب الجميع ، وهو ) اي : عدم حاكمية العقل بوجوب الجميع من الاول ( خلاف الفرض ) .

إذن :فالعقل حاكم بوجوب الجميع من أوّل الأمر ، و هذا الحكم باقٍ الى انتهاء

ص: 166

أنّ مقتضى الاستصحاب وجوبُ البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوبُ تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر اليه .

-------------------

الثاني ، فيكون حكم العقل بعد الاتيان بأحدى الصلاتين باقيا على حاله ، فلا يكون المورد موردا للاستصحاب .

وفيه ثانيا : ( أنّ مقتضى الاستصحاب : وجوبُ البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوبُ تحصيل اليقين ) بفعل المحتمل الثاني للتيقّن ( بارتفاعه ، فلا يدلّ عليه الاستصحاب ) .

وعليه : فانّ مقتضى الاستصحاب : وجوب البناء على بقاء الاشتغال ، ومن المعلوم : انّ بقاء الاشتغال ليس معناه كون المحتمل الثاني واجبا شرعيا الاّ على الأصل المثبت والاصل المثبت ليس بحّجة ، فانّ اثبات بقاء الوجوب لايلزم ان يكون ما يأتي به ثانيا هو الواجب الذي عليه ، فهو مثل أن يقال : يجب اكرام زيد ، ثم يكرم انسانا ويقول : حيث انّ اكرام زيد واجب فاكرام هذا الانسان واجب ايضا.

( وانّما يدل عليه ) اي : يدل على وجوب تحصيل اليقين بفعل المحتمل الثاني ( العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها ) فلا حاجة معه الى الاستصحاب ، لانّ الدليل العقلي الذي يوجب المحتمل الأوّل هو نفسه الدليل الذي يوجب المحتمل الثاني ( وهذا ) اي : الاتيان بالصلاة الثانية لدلالة العقل على وجوب الاتيان بها بعد الاتيان بالاولى هو ( معنى الاحتياط ) .

وعليه : ( فمرجع الأمر اليه ) اي : يكون الى الاحتياط واذا رجع الأمر فيما نحن

ص: 167

وأمّا استصحابُ وجوب ما وجب سابقا في الواقع ، أو استصحاب عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ ، فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا ، الاّ على تقدير القول بالاصول المثبتة

-------------------

فيه الى الاحتياط ، كان وجوب الثاني كوجوب الأوّل مقدّميا ارشاديا ، لا ذاتيا مولويا ، فلا يصح الاتيان بالثانية بقصد القربة المستقلة ، كما لا يصح اتيان الاُولى بقصد القربة المستقلة ، وانّما يأتي بهما بقصد الواقع الذي يتقرّب به بينهما ، كما تقدّم توضيحه .

ثم انّ الاستصحاب الممكن ذكره في المقام على ثلاثة اقسام :

الاوّل : ما ذكره المصنِّف من استصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال .

الثاني : ما اشار اليه بقوله : ( وأمّا استصحاب ) الحكم اي : ( وجوب ما وجب سابقا في الواقع ) فانّه باتيان الصلاة الأولى وهي الظهر - مثلا - لا يعلم بانه قد أتى بما وجب عليه في الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب ما وجب عليه في الواقع ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية .

الثالث : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( أو استصحاب ) الموضوع أي : ( عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ ) فقد نستصحب الوجوب - كما مرّ - وقد نستصحب الواجب - كما نحن فيه - لا ثبات لزوم الاتيان بالمحتمل الثاني ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية .

لكن في هذين الاستصحابين اشكال أشار اليه بقوله : ( فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا ) وذلك بأن نقول الوجوب باقٍ ، فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو نقول الواجب باقٍ ، فهذا الثاني هو الواجب ( الاّ على تقدير القول بالاصول المثبتة ) .

ص: 168

وهي منفيّة ، كما قرّر في محلّه .

ومن هنا ظهر الفرقُ بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ، فانّ الاستصحاب بنفسه مقتضٍ هناك لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما .

-------------------

وانّما لا يثبت ذلك الاّ على القول بالاصل المثبت ، لاّن قولنا : فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو هذا الثاني هو الواجب ليس لازما شرعيا به ، بل هو من اللوازم العقلية ( وهي منفيّة ) لا تثبت بالاستصحاب الاّ على القول بالأصل المثبت والأصول المثبتة غير حجّة ، لانّ الأدلة الشرعية لحجيّة الاستصحاب لا تشملها ( كما قرّر في محلّه ) وسيأتي مفصلاً انشاء اللّه تعالى .

( ومن هنا ) أي : من انّ الاستصحاب المذكور على اقسامه لا يمكنه ان يثبت وجوب المحتمل الثاني بوجوب مولوي ، لما عرفت : من انّه مثبت ، وليس بحجّة ( ظهر الفرقُ بين ما نحن فيه ) من الاستصحاب الذي هو ليس بحجة ( وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ) الذي هو حجة.

والحاصل : انّ الانسان إذا شك في الظهر و هو في الوقت يستصحب بقاء الظهر عليه ، وهذا الاستصحاب حجة ، فيستشكل : بانّه ما هو الفارق بين هذا الاستصحاب الذي تقولون بانّه حجّة ، وبين الاستصحاب السابق ، حيث قلتم بأنّه مثبت وليس بحجّة ؟ .

والى الفارق أشار المصنّف بقوله : ( فانّ الاستصحاب بنفسه مقتضٍ هناك : لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما ) أي : ان المقصود من استصحاب الظهر للشاك فيه

ص: 169

ثم إنّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسالة يأتي في الشبهة

الموضوعيّة إن شاء اللّه تعالى .

المسألة الثانية

ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ ،

-------------------

وهو في الوقت : اثبات نفس المستصحب أعني : عدم الاتيان بالظهر وبقاء وجوبها عليه ، وحيث انّه لم يأت بالظهر يلزم عليه الاتيان بها بمقتضى ما دل من اقامة الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل .

أمّا الاستصحاب فيما نحن فيه بأقسامه الثلاثة ، فليس المقصود به : اثبات نفس المستصحب : الاشتغال بالواجب الواقعي أو عدم اتيانه ، أو بقاء وجوبه ، بل انّما يكون المقصود به : اثبات شيء آخر ملازم عقلاً للمستصحب المذكور أعني : وجوب اتيان بالمحتمل الآخر ، ومن الواضح : انّه فرق بين استصحاب شيء لاثبات شيء آخر ، فانّ الاستصحاب الأوّل حجّة ، بخلاف الاستصحاب الثاني ، فانه لا يكون حجّة ، لانه اصل مثبت .

( ثم انّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسألة ) من ترّدد الواجب بين أمرين، أو اكثر من أمرين ، مع عدم النص على التعيين ( يأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء اللّه تعالى) وذلك لان الكلام في فروع تلك المسألة وهذه المسألة من مساق واحد.

( المسألة الثانية : ) من المسائل الأربع لصور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام في المتباينين هو : ( ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره ) اي : بغير الحرام من المستحب ، والمكروه ، والمباح ، وذلك (من جهة إجمال النصّ)

ص: 170

بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل ، كقوله : « ائتني بعين » ، وقوله تعالى : « حافظوا على الصلواتِ والصّلاة الوُسطى » بناءا على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر .

-------------------

لا من جهة فقد النص كما كان في المسألة الأولى .

و أما مثاله فكما قال ( بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل كقوله : « ائتني بعين » ) ولا يعلم بأنّ المراد من العين : الذهب أو الفضة - مثلاً - ؟.

( و ) مثل ( قوله تعالى : « حافظوا على الصلواتِ والصّلاة الوُسطى » (1) بناءا على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر ) من الروايات ، فانّهم اختلفوا في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال :

الأوّل : ما نقل عن أكثر الامامية وهو المروي عن الباقر والصادق عليهماالسلام : من انّها صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة صلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وسميت بالوسطى لانّها وسط النهار ووقت الحر في أيام الصيف ، فكانت شاقة على المسلمين ، وقد ورد في الحديث : « افضل الاعمال أحمزها» (2) ولأنها وسط بين صلاة الصبح وصلاة العصر .

الثاني : انّها العصر ، وقد قال به السيد المرتضى وإدّعى عليه اجماع الطائفة ، واستدل له بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر اهله وماله » (3)

ص: 171


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - مفتاح الفلاح : ص45 ، بحار الانوار : ج70 ص191 ب53 ح2 و ج70 ص237 ب54 ح6 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص129 ح5 و ج2 ص22 ح46 ، فقه القرآن : ج1 ص114 ، ثواب الاعمال : ص231 ، معاني الأخبار : ص171 ح1 ، بحار الانوار : ج82 ص217 ح34 ب1 وفي الاربعة الأواخر بالمعنى .

والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الاُولى ،

-------------------

وفي رواية أخرى : « حبط عمله » وفي رواية ثالثة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال في يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصلاة الوسطى : صلاة العصر » (1) .

الثالث : انّها صلاة الجمعة يوم الجمعة ، والظهر في سائر الأيام ، نقله الطبرسيفي مجَمع البيان عن علي عليه السلام .

وربمّا قيل : انّها المغرب ، لتوسطها بين صلاتين رباعيّتين .

وقيل : انها العشاء ، لأنها وسط بين صلاتين ثلاثية هي المغرب وثنائية هي الصبح .

وقيل : هي الصبح ، لانّها وسط بين الليل والنهار ، فانّها تكون في ساعة ليست من الليل ولا من النهار .

وأمّا قوله سبحانه آخر الآية : « وقُومُوا للّهِ قانتين » (2) فقد روي عن ابن عباس أنّ معناه : « داعين » ، والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام مع رفع اليدين ، وهذا هو الشائع عند الفقهاء، وهو المروي عن ابي جعفر وأبي عبد اللّه عليهماالسلام كما في مجمع البيان ، والكلام في ذلك طويل خارج عن مقصود الشرح (3) .

( والظاهر : انّ الخلاف هنا ) في المسألة الثانية ( بعينه ) هو ( الخلاف في المسألة الاُولى ) أي : مسألة تردد الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة فقد النص ، فإنّ المشهور فيها : حرمة المخالفة القطعية وان ظهر من المحققين

ص: 172


1- - فقه القرآن : ج1 ص164 ، سعد السعود : ص129 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .
3- - للمزيد راجع مجمع البيان : المجلد الثاني ص343 .

والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى ، لأنّ الخطاب هنا تفصيلاً متوجّهُ الى المكلّفين ، فتأمل .

وخروجُ الجاهل لا دليل عليه ،

-------------------

الخوانساري والقمي جوازها الى المخالفة الاحتمالية ، الاّ ان يقوم الاجماع أو النص أو الضرورة على حرمة ترك المجموع من حيث هو ، فاللازم الاتيان بهما معا.

( والمختار فيها ) هنا ( هو المختار هناك ) : من انّه تجب الموافقة القطعية ( بل هنا ) وجوب الموافقة القطعية ( أولى لأنّ الخطاب هنا تفصيلاً متوجّهُ الى المكلّفين ) كما في قوله تعالى : « « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » (1) » (2) فان الخطاب واضح وان كانت الصلاة الوسطى مردّدة بين مفهومين ، بخلاف مسألة فقد النص ، حيث انّه لا نص في المقام انّما يلزم العمل حسب القاعدة .

( فتأمل ) ولعل وجهه هو : انّ الأولوية هنا ممنوعة، لتساوي المسألتين من جهة علم المكلّف بوجوب تكليف عليه، وعدم علمه بأنّ تكليفه هل هو هذا أو ذاك ؟ .

( و ) ان قلت : الجاهل بالصّلاة الوسطى كيف يكلّف بوجوب الصلاة الوسطى عليه وهو لا يعلم بأنها الظهر أو الجمعة مع انّ تكليف الجاهل قبيح ، كما تقدّم مثل هذا الاشكال عن المحقق القمي في المسألة الأولى ؟.

قلت : ( خروجُ الجاهل لا دليل عليه ) فانّ الجاهل يشمله التكليف أيضا ،

ص: 173


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص282 .

لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل ، فمجرّدُ الجهل لا يقبح توجّه الخطاب .

ودعوى : « قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلاً ، القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات » ، أيضا ممنوعةٌ ، لعدم القبح فيه أصلاً .

وما تقدّم من البعض - من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق « العدلية » على استحالة تأخير البيان - ، قد عرفتَ منع قبحه أولاً ،

-------------------

وذلك ( لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به ) اي : اذا كان جاهلاً بانّ المراد من الصلاة الوسطى - مثلاً - الظهر أو الجمعة ، فانه لا يقبح تكليفه بالوسطى ( إذا كان ) ذلك الجاهل ( قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل ) مثل : الروايات الواردة في بيان المراد من الصلاة الوسطى ( فمجرّد الجهل لا يقبح توجّه الخطاب ) الى الجاهل الذي يتمكن من الاستعلام .

( ودعوى : « قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلاً ) بأن لا يتمكن من ان يعلم خصوصيته المراد ، لكنه ( القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات » ) من الظهر والجمعة معا - مثلاً - فانّ دعوى قبح تكليفه ( أيضا ممنوعةٌ ، لعدم القبح فيه أصلاً ) كما هو واضح ، فانّ القبح انّما هو فيما إذا لم يعلم بشيء اطلاقا أو علم به اجمالاً لكنّه لم يتمكن من الاستعلام ولا من الاحتياط ، ومن الواضح انّ المقام ليس من ذلك .

هذا ( وما تقدّم من البعض ) هو المحقق القمي ( - من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق « العدلية » على استحالة تأخير البيان - ، قد عرفتَ منع قبحه أولاً ) حيث قلنا : بأنّه يتمكن من الاستعلام ، أو على الاقل انه يتمكن من الاحتياط

ص: 174

وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا .

ثم إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي قدس سره ، والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنه ، قدس سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال - في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس ، بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلاّ بما ثبت من أجزائها وشرائطها -

-------------------

( وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا ) فانّ القبح إذا سلّمناه فهو انّما يكون فيما اذا كان إجماله ذاتيا ، لا ما إذا كان اجماله عرضيا بسبب اخفاء المغرضين - مثلاً - وحيث قد تقدَّم تفصيل ذلك في المسألة الأولى فلا حاجة الى تكراره .

( ثم إنّ المخالف في المسألة ) أي : مسألة وجوب الاحتياط فيما إذا اشتبه الواجب بغير الحرام من جهة اجمال النص ( ممّن عثرنا عليه هو : الفاضل القمّي قدس سره ، والمحقّق الخوانساري ) رحمه اللّه ، وذلك ( في ظاهر بعض كلماته ) أي : كلمات المحقق الخوانساري ( لكنه ) اي : المحقق الخوانساري ( قدس سره وافق المختار ) من الاحتياط باتيان كل اطراف الشبهة ( في ظاهر بعضها الآخر ) اي : في بعض كلماته الاخرى وافق مختارنا.

وانّما وافقنا لانه ( قال - في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس ) فيما كانت الشبهة محصورة بأن كان هناك انائان - مثلاً - اشتبه النجس بينهما ، قال ( بعد كلام له في منع التكليف في العبادات الاّ بما ثبت من أجزائها وشرائطها ) اي : انه قال بعدم التكليف بالأجزاء والشرائط المشكوكة في الأقل والأكثر الارتباطيين الاّ بما ثبت من الشارع انه جزء أو شرط .

وعليه : فالجزء المشكوك : كجلسة الاستراحة ، والشرط المشكوك : كاشتراط

ص: 175

ما لفظه : « نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين اُمور ، فلايبعد القولُ بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبرائة » ، انتهى .

ولكن التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ، لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملاً للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو مبيّن ، وامّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

-------------------

عدم البكاء في الصلاة - مثلاً - لا تكليف بها ، لانّها لم تثبت من الشارع .

قال المحقق الخوانساري في عنوان هذه المسألة ( ما لفظه نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين اُمور ) كما إذا قال : ائت بالسورة وشك المكلّف في انّ المراد من السورة سورة قصيرة ، أو سورة طويلة من القرآن ( فلا يبعد القولُ بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبرائة (1) ، انتهى ) كلامه الظاهر في انه يجب على المكلّف حينئذٍ أن يأتي بالسورة القصيرة والسورة الطويلة معا .

( ولكن التأمّل في كلامه ) أي : كلام المحقق الخوانساري ( يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ) لما اخترناه : من وجوب الاحتياط باتيان جميع المحتملات ، وذلك ( لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملاً للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين ) قد كان (بما هو مبيّن ) عندهم، ولذا يجب عليهم الاتيان بالمكلّف به.

( وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

ص: 176


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص282 .

الخطاب ، فمن كلّف به لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الاجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ، لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكنوا من العلم به عينُ الدعوى .

-------------------

الخطاب ) اصلاً ، فلا يجب علينا الاتيان به فكيف بالاحتياط فيه ؟ .

توضيحه : انّ الخطاب الذي هو مجمل في نظرنا نحن الغائبين كان مبيّنا للحاضرين زمن الخطاب ، والخطاب المبيّن للحاضرين يجب عليهم ، امّا اشتراكنا نحن الغائبين معهم في مثل هذا الخطاب الذي صار مجملاً بالنسبة الينا فلا دليل عليه ، فنحن لسنا مكلّفين بذلك الخطاب حتى يجب علينا الاحتياط في أطراف الشبهة المرتبطة بذلك الخطاب .

إذن : ( فمن كلّف به ) أي : بذلك الخطاب من الحاضرين ، فانّه ( لا إجمال فيه عنده ) حتى يحتاط باتيان جميع الأطراف ( ومن عرض له الاجمال ) من الغائبين عن مجلس الخطاب ، فانّه ( لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ) حتى يحتاط باتيان جميع الاطراف ، وذلك لعدم توجّه الخطاب اليه .

وانّما لا دليل على تكليف غير المخاطبين ( لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم ) أي : مع المخاطبين . ( فيما لم يتمكنوا ) اي : غير المخاطبين وهم الغائبون ( من العلم به ) تفصيلاً ( عينُ الدعوى ) لانّ القول : بانّ الغائب محكوم بحكم الحاضر ، فيما إذا كان الحاضر يعلم بالخطاب تفصيلاً ، مع ان الغائب لا يعلم به تفصيلاً هو أول الكلام .

وانّما يكون التكليف للغائبين أوّل الكلام ، لانه لا دليل على الاشتراك في مثل هذه الصورة ، وانّما دليل الاشتراك جار فيما إذا كان الخطاب مجُملاً بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا ، فانه يجب عليهم الاحتياط ، أو كان الخطاب مبيّنا

ص: 177

فالتحقيقُ أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا ؟ .

الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلاً وفهموه من خطابٍ هو مجُمل بالنسبة إلينا معاشِرَ الغائبين : فهل يجبُ علينا تحصيلُ القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر أم لا ؟ . والمحقق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني .

-------------------

بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا فيجب عليهم الاتيان بما هو مبيّن ، امّا إذا كان مبيّنا للحاضرين ومجُملاً للغائبين فلا دليل على اشتراكهم في ذلك حتى يجب على الغائبين الاحتياط فيه .

وعليه : ( فالتحقيقُ : انّ هنا مسألتين : ) كالتالي :

( إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا ؟ ) وهذا هو المورد الذي وافقنا فيه المحقق الخوانساري بوجوب الاحتياط فيه ، وهو يتصور على وجهين : لانه إمّا أن يكون الخطاب مجملاً للمخاطبين والغائبين معا ، وأمّا ان يكون مجملاً للغائبين فقط مع اشتراكهم للمخاطبين في الخطاب .

( الثانية : انّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلاً ) اي : بلا اجمال فيه ( وفهموه من خطابٍ ) كان ذلك الخطاب ( هو مجُمل بالنسبة إلينا معاشِرَ الغائبين : فهل يجبُ علينا ) نحن الغائبين ( تحصيل القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر ، أم لا ؟ ) وذلك مع عدم اشتراك الغائبين مع المخاطبين في الخطاب .

( و ) كيف كان : فانّ ( المحقق ) الخوانساري ( حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل ) أي : في المسألة الاولى فقط ( دون الثاني ) فلم يوافقنا في وجوب الاحتياط في المسألة الثانية ، وبالتالي لم يوافقنا في الجميع .

ص: 178

فظهر من ذلك انّ مسئلة إجمال النص إنّما يغاير المسألة السابقة ، أعني عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ، وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ،

-------------------

وعليه : ( فظهر من ذلك ) التحقيق الذي ذكرناه فيما تقدّم : ( انّ مسئلة إجمال النص ) على صور ثلاث :

الاوُلى : صورة اجمال الخطاب للحاضر ، وهو يستلزم ان يكون مجملاً للغائب ايضا .

الثانية : صورة اجمال الخطاب للغائب دون الحاضر مع الحكم باشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر .

الثالثة : صورة اجمال الخطاب للغائب وعدم اجماله للحاضر مع الحكم بعدم اشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر .

و لا يخفى : إنّ المراد في هذه المسألة من إجمال النصّ : الصورتان الأوليان ، وأمّا الصورة الثانية ، فهي في الحقيقة داخلة في مسئلة عدم النص .

و الى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : انّ مسئلة اجمال النص ( انّما يغاير المسألة السابقة ، اعني : عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف ) وذلك يكون في الصورتين الأوليين فقط على ما سبق :

الصورة الاوُلى : ( اما لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ) وكان نفس الخطاب مجملاً ، فلا يستفيد منه حتى الحاضر شيئا .

الصورة الثانية : ( وإما للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ) مع ان الخطاب مبيّن للحاضرين ومجمل للغائبين .

ص: 179

أما اذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين ، فالمسئلة من قبيل عدم النص لا إجمال النصّ ، إلاّ إنّك قد عرفت أنّ المختار فيهما وجوبُ الاحتياط ، فافهم .

-------------------

( أمّا ) الصورة الثالثة : وهي ما ( اذا كان الخطاب للحاضرين ) اي : مختصا بهم مع كونه مبيّنا لهم ( وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين ) لفقد القرائن الدالة على المراد من الخطاب ( فالمسئلة ) حينئذٍ تكون كما عرفت ( من قبيل عدم النص ، لا إجمال النّص ) .

وعليه : فالمحقق الخوانساري ليس مخالفا لمختارنا في هذه المسألة اعني : مسئلة اجمال النص وانّما مخالفته مختصة بالمسألة السابقة ، وهي مسئلة فقدان النص ، بخلاف المحقق القمي ، فانّه مخالف لمختارنا في كلتا المسئلتين .

( الاّ انّك قد عرفت : انّ المختار فيهما ) أي : في المسئلتين : مسئلة فقد النص ، ومسئلة اجمال النص بأيّ نحو من الأنحاء كان هو : ( وجوب الاحتياط ) وذلك للاشتغال اليقيني المحتاج الى البرائة اليقينية التي لا تحصل تلك البرائة الاّ بالاتيان

بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، أو ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية .

( فافهم ) فانه كما قيل : يحتمل أن يكون اشارة الى ان كلام المحقّقين : القمي والخوانساري ، لم يكن صريحا في المخالفة حتى في المسألة السابقة وهو : عدم النص ، بل يحتمل موافقتهما للاصحاب في كلتا المسألتين ، الاّ أنهما يمنعان من العلم بالتكليف بالنسبة الى غير المخاطبين فيما كان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، فانّه إذا احتملنا ان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، اختص

ص: 180

...

-------------------

بالمخاطب ، ولم يكن الغائب شريكا مع الحاضر في الخطاب حتى يوجب اجمال النص الاحتياط على الغائب ايضا .

وعليه : فانا نعلم تارة باشتراك الخطاب بين الحاضر والغائب كأكثر الاحكام الشرعية ، حيث يشترك فيها الجميع .

وقد نعلم اخرى بعدم الاشتراك ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لعن اللّه من تخلّف عن جيش اسامة » (1) و « نفّذوا جيش اسامة » (2) حيث نعلم بأن ذلك لم يكن تكليفا للغائبين الذين جائوا بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قطعا .

وهناك قسم ثالث : لا يعلم أنّ الخطاب من أيّ القسمين ؟ ففي هذا المقام يكون الأصل عدم تكليف الغائب لاصالة البرائة ، لا انّه مكلّف كالحاضر لكن حيث كان مجملاً بالنسبة اليه وجب عليه الاحتياط ، ولهذا لا يمكن القول بوجوب الاحتياط في صورة اجمال النص مطلقا ، بل انّما يجب الاحتياط في صورة اجمال النص بالنسبة الى الغائب فيما إذا علم انّه شريك مع الحاضر في التكليف ، سواء كان التكليف مبيّنا للحاضر ومجملاً للغائب ، أم كان مجملاً لهما معا ؟ .

نعم ، لو فرض قسم رابع وهو : اجماله بالنسبة الى الحاضر ، ووضوحه بالنسبة الى الغائب ، لم يكن الغائب مكلّفا بالاحتياط لفرض تبيّن التكليف بالنسبة اليه وان كان تكليف الحاضر الاحتياط لفرض كونه مجملاً عنده .

ص: 181


1- - نهج الحق : ص263 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 ، الصراط المستقيم ج2 ص296 بالمعنى ، دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، اثبات الهداة : ج2 ص383 .
2- - المناقب : ج1 ص176 ، دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، اعلام الورى : ص133 ، قصص الانبياء للراوندي : ص358 .
المسألة الثالثة

ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصّين ، كما في بعض مسائل القصر والاتمام فالمشهور فيه التخيير ، لأخبار التخيير السليمة عن المعارض حتى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ، لانّ المفروض عدم موافقة شيء منهما للاحتياط ،

-------------------

(المسألة الثالثة : ) من المسائل الاربع صور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام ( ما إذا اشتبه الواجب بغيره ) اي : بغير الحرام ، المستحب والمباح والمكروه ، وذلك ( لتكافؤ النصّين ، كما في بعض مسائل القصر والاتمام ) .

مثلاً : اذا قصد مكانا يبعد أربعة فراسخ عن بلده فسار اليه وبات فيه أقل من عشرة ايام ، فانّ الاخبار الواردة في حكمه مختلفة ، والمشهور بحسب الفتوى في هذه الصورة : وجوب الاتمام ، بينما المشهور بحسب الرواية : وجوب القصر ، كما ذكر تفصيله في الفقة ، ففي مثل هذا المورد الذي تعارض فيه النصّان ما هو الحكم فيه ؟ .

قال المصنِّف : ( فالمشهور فيه ) اي : فيما اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصين هو : ( التخيير ) بينهما ، وذلك ( لأخبار التخيير ، السليمة عن المعارض ) فانّه إذا لم يكن ترجيح لبعض الاخبار المتعارضة على بعض لزم التخيير لقوله عليه السلام « إذن فتخير » (1) ولا معارض لأخبار التخيير في صورة تعارض الخبرين ( حتى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ) فانه لم يكن معارضا لما دلّ على التخيير ( لانّ المفروض : عدم موافقة شيء منهما للاحتياط ) .

ص: 182


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أن يستظهر من تلك الأدلة مطلوبيّةُ الاحتياط عند تصادم الأدلّة ، لكن قد عرفت فيما تقدّم: انّ اخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لأخبار التخيير.

-------------------

إذن : فالخبر الدال على الأخذ بالاحتياط في صورة تعارض الخبرين ، انّما هو فيما اذا كان أحد المتعارضين موافقا للاحتياط دون الآخر ، فيرجّح ما وافق الاحتياط على ما لم يكن موافقا ، والمفروض : ان ما نحن فيه ليس كذلك ، بل كلاهما موافقان للاحتياط .

( الاّ أن يستظهر من تلك الأدلة ) الدالة على الاحتياط في صورة التعارض استظهارا من جهة الملاك على ( مطلوبيّةُ الاحتياط عند تصادم الأدلّة ) بتقريب : انّه اذا كان احدهما موافقا للاحتياط لزم الأخذ به ، واذا كانا معا على خلاف الاحتياط ، أو كانا معا على وفق الاحتياط ، فالأولى أن يؤخذ بالخبرين معا .

( لكن قد عرفت فيما تقدّم : انّ اخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لأخبار التخيير ) فأخبار التخيير هي المحكمة عند التعارض ، سواء وافق احدهما الاحتياط ام لا ، ويمكن ان يمثل لتعارض الأدلة : بما لو دلّ خبر على وجوب صلاة الجمعة عينا ، ودلّ خبر آخر على استحبابها .

هذا ، وربما يقال : ان هذه المسألة في الحقيقة خارجة عن مسألة البرائة والاشتغال لأن البحث في مسألة البرائة والاشتغال انّما هو من جهة مراعاة العلم الاجمالي وعدم مراعاته ، بينما البحث في هذا المسألة بحث التعارض وهو من مسائل التعادل والتراجيح وذكرها المصنِّف هنا استطرادا لاجل التعرّض لجميع صور الشك في المكلّف به وبيان المسألة هل هي من موارد الاحتياط أو من موارد التخيير ؟ ومن الواضح : انّ التخيير يكون في معنى البرائة ، كما ان الاحتياط يكون

ص: 183

المسألة الرابعة :

ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق ، والاقوى هنا أيضا وجوبُ الاحتياط ، كما في الشبهة المحصورة لعين ما مرّ فيها

-------------------

في معنى الاشتغال .

أمّا سائر ما يذكر في بحث تعارض النصين أعني : عين التخيير من التوقف ، أو التساقط ، أو ما أشبه ذلك ، فالمناسب ان يبحث عنها في مباحث التعادل والتراجيح ، ولذا لم يتعرّض لها المصنِّف هنا .

( المسألة الرابعة ) والأخيرة من المسائل الاربع لصور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام : ( ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ) وقد تقدّم : انّه يلزم فيه استطراق باب العرف ، فانّ العرف اذا عيّن الموضوع فبها ، والاّ لزم الاحتياط ، وذلك ( كما في صورة اشتباه الفائتة ) بين الصبح وأحد الظهرين وأحد المغربين ؟ .

( أو ) صورة اشتباه ( القبلة ) بين كونها ذات اليمين ، أو ذات الشمال ، أو طرف الأمام ، أو طرف الخلف ؟ .

( أو ) اشتباه ( الماء المطلق ) بين كونه في هذا الاناء ، أو في ذلك الاناء ؟ .

( والاقوى هنا أيضا ) في هذه المسألة الرابعة : وجوب الموافقة القطعية بمعنى: ( وجوبُ الاحتياط ) فيأتي بالصلوات كلها ، كما يصلي الى الجهات الاربع ويتوضا أو يغتسل بالمائين، فانه يجب الاحتياط هنا، ( كما في الشبهة المحصورة) التحريمية حيث قلنا بوجوبه هناك ، وذلك ( لعين ما مرّ فيها ) وهو : وجود المقتضي للتكليف وعدم المانع عنه كما قال :

ص: 184

من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا مثلاً ، وإن لم يعلم تفصيلاً ، ومقتضاه ترتّبُ العقاب على تركها ولو مع الجهل .

وقضيّةُ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوبُ المقدّمة العلمية ، والاحتياط بفعل جميع المحتملات .

وقد خالف في ذلك الفاضل القمّي رحمه اللّه ، فمنع وجوبَ الزائد على واحدة من المحتملات

-------------------

( من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا - مثلاً - وان لم يعلم تفصيلاً ) فالمقتضي فيما نحن فيه وهو : علمه الاجمالي بالتكليف موجود والمانع مفقود ، فاللازم عليه ان يأتي بما يعلم برائة ذمته من التكليف ، سواء كان تكليفا مقدميّا كالماء المشتبه بين المطلق والمضاف يغسل بهما ثوبه الذي يريد الصلاة فيه ، أم كان التكليف نفسيا كمثال الفائتة .

( ومقتضاه ) اي : مقتضى وجوب الاحتياط هنا هو ( ترتّبُ العقاب على تركها ) اي ترك الشبهة المحصورة الوجوبية وعدم العمل بالاحتياط فيها ( ولو مع الجهل ) التفصيلي ، لأنّ المفروض : انّ التكليف معلوم ، وانّما الموضوع مشتبه بين هذا وذلك .

( و ) أيضا ( قضيّةُ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ) هو : ( وجوبُ المقدّمة العلمية ، و ) معنى وجوب المقدمة العلمية هو ( الاحتياط بفعل جميع المحتملات ) المحصورة ، فانّ العقل لا يسمح بالمخالفة القطعية ولا بالمخالفة الاحتمالية كما تقدّم الكلام في ذلك في بعض المسائل السابقة .

هذا ( و ) لكن ( قد خالف في ذلك الفاضل القمي رحمه اللّه ، فمنع وجوبَ الزائد على واحدة من المحتملات ) وقال - مثلاً - عليه ان يصلي صلاة واحدة

ص: 185

مستندا في ظاهر كلامه الى ما زعمه جامعا لجميع صور الشك في المكلّف به من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة .

وأنت خبيرٌ بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ؛ لانّ المكلّف به مفهوم معيّن طرء الاشتباه في مصداقه لبعض العوارض الخارجيّة ، كالنسيان ونحوه ،

-------------------

في اشتباه القبلة ، وأن يصلي فائتة واحدة في اشتباه الفوائت ، وان يغسل ثوبه بواحد من الانائين ، ان يتوضأ بأحدهما وهكذا ( مستندا في ظاهر كلامه الى ما زعمه جامعا لجميع صور الشك في المكلّف به : من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ) .

وعليه : فانّ المحقق لقمي تصوّر انّ العقل يمنع عن تنجزّ التكليف بالعلم الاجمالي حتى في الشبهة الموضوعية ، فقال بعدم وجوب الاتيان بكل المحتملات بل اكتفى باتيان احد المحتملات ، لانّ المتيقن من الاجماع هو : حرمة ترك المجموع ، لا انّه يجب المجموع .

( و ) لكن ( أنت خبيرٌ بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ) فانّه على فرض تسليم كفاية اتيان المكلّف بأحد الأطراف فانّما هو فيما اذا كان التكليف مجملاً بينما لم يكن التكليف في الشبهة الموضوعية مجملاً، بل المجمل هو المكلّف به .

وانّما لم يكن من التكليف بالمجمل ( لانّ المكلّف به مفهوم معيّن طرء الاشتباه في مصداقه ) الخارجي ( لبعض العوارض الخارجيّة ، كالنسيان ونحوه ) من الجهل بالقبلة - مثلاً - لانه خرج الى الصحراء ، أو الجهل بالفائتة لانّه قد مضى عليها زمنا طويلاً ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 186

والخطابُ الصادرُ لقضاء الفائتة عامٌ في المعلومة تفصيلاً والمجهولة ، ولا مخصّص له بالمعلومة لا من العقل ولا من النقل ، فيجب قضائها ، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم .

ويؤيّد ما ذكرنا

-------------------

هذا ( والخطابُ الصادرُ لقضاء الفائتة ) مثل قوله عليه السلام : « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (1) ( عامٌ في المعلومة تفصيلاً والمجهولة ، ولامخصّص له بالمعلومة ) تفصيلاً ، لما تقدّم : من انّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فقوله عليه السلام : « من فاتته فريضة » يعني ان فوت الفريضة يوجب القضاء ، سواء علم بها الانسان معيّنا أم لم يعلم بها معيّنا ، فان علم بها قضاها معيّنا ، وان لم يعلم بها قضى كل الاطراف المحتملة .

وإنّما يقضي كل الاطراف المحتملة ، لأنّ وجوب قضاء الفائتة لا مخصّص له بما إذا كانت الفائتة معلومةً ( لا من العقل ولا من النقل ) كما اشرنا اليه في بعض المسائل السابقة ( فيجب قضائها ) اي : تلك الفائتة ( ويعاقب على تركها مع الجهل ) التفصيلي بأن كانت الفائتة مردّدة بين أمور ( كما يعاقب مع العلم ) التفصيلي بالفائتة إذا تركها .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من وجوب قضاء كل المحتملات في صورة العلم الاجمالي ما ورد من الخبر في هذا المجال ، وقال : « يؤيّد » ولم يقل : « بدل » ، لانّ الخبر الآتي إنّما هو في موضوع خاص وتعميمه لجميع موارد الشبهة يكون

ص: 187


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 وما عدا الأوّل بالمعنى .

ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضةٌ ، معلّلاً ذلك ببرائة الذمة على كل تقدير ،

-------------------

من جهة الملاك .

وربّما يقال : انّ وجه كونه مؤيّدا لا دليلاً : انّ الموافق للاحتياط هو القول بوجوب قضاء خمس صلوات من باب المقدمة ، كما اختاره أيضا بعض الفقهاء ، لا الاتيان بثلاث صلوات ، فالخبر أقرب الى_'feما ذكره المحقّق القمي مّما ذكره المصنِّف .

وكيف كان : فان المؤيّد لما ذكرناه هو : ( ما ورد من : وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضةٌ ، معلّلاً ذلك ) في كلام الإمام عليه السلام ( ببرائة الذمة على كل تقدير ) (1) فقد روى المحاسن عن ابي عبد اللّه عليه السلام ما يلي :

انه سئل عن رجل نسي صلاة من الصلوات الخمس لا يدري أيّها هي ؟ قال عليه السلام : يصلي ثلاث ، وأربع ، وركعتين ، فان كانت الظهر والعصر والعشاء كان قد صلّى ؛ وان كان المغرب والغداة فقد صلّى (2) .

ومن المعلوم : انّ الشارع قد قنع في الاربع بواحدة ، وظاهر ذلك : التخيير بين الجهر والاخفات ، ولولا هذا النص لكان الواجب ان نقول بقضاء خمس أو اربع صلوات ، أمّا الخمس فمن جهة الوجه ، وأمّا الأربع فمن جهة عدم إشتراط الوجه مع إشتراط الجهر والاخفات .

وعليه : فان فهمنا الملاك من هذه الرواية جاز التعدّي منها الى الصلاة الفائتة

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص197 ب23 ح79 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص276 ب11 ح10646 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص276 ب11 ح10646 .

فانّ ظاهر التعليل يفيد عموم مراعاة ذلك في كل مقام اشتبه عليه الواجب .

ولذا تعدّى المشهورُ عن مورد النص - وهو تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثية وثنائيّة - الى الفريضةِ الفائتةِ من المسافر المردّدةِ بين ثنائية وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين .

-------------------

عن المسافر ، المردّدة بين الثنائية والثلاثية ، فيصلّي صلاتين : ثنائية لكونها احدى الأربع ، وثلاثية لكونها مكان المغرب الفائتة احتمالاً ، وذلك كما قال :

( فانّ ظاهر التعليل ) في كلام الإمام عليه السلام بكفاية الثلاث لتفريغ الذمة ( يفيد عموم مراعاة ذلك ) اي : الاحتياط ( في كل مقام اشتبه عليه الواجب ) ولو في غير باب الصلاة ، كما إذا شك في انّه هل نذر صوم أول رجب أو أول شعبان ؟ فاللازم أن يصومهما .

( ولذا ) اي : لعموم التعليل ( تعدّى المشهور عن مورد النص ، وهو : تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثية وثنائيّة ، الى الفريضةِ الفائتةِ من المسافر المردّدة بين ثنائية وثلاثية ، فاكتفوا فيها ) أي : في هذه الفائتة المرددة ( بصلاتين ) فقط على نحو ما ذكرناه .

كما ويتعدى الى موارد اُخر ، كالشك في انّه نذر صيام يوم أو صلاة الليل ، فانّه يجب عليه كلاهما ، أو شك في انّه نذر الحج أو نذر الاعتكاف ، فعليه أن يأتي بهما معا ، وهكذا .

ص: 189

وينبغي التنبيه على اُمور
الاوّل :

انّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة واللباس وما يصح السجود عليه وشبهها ، بناءا على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ،

-------------------

( و ) هنا ( ينبغي التنبيه على امور ) ترتبط بالبحث وهي عبارة عمّا يلي :

( الاوّل ) : قد يتوهّم عدم وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية فيما كان الشك في الشرائط والموانع مثل : القبلة ، وما يصح السجود عليه ، وما أشبه ذلك ، بدعوى : سقوط الشرط ونحوه عند عدم العلم به تفصيلاً ، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط أو واجدا للمانع ، وذلك كما قال :

( انّه يمكن القول : بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ، ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة ، واللباس ، وما يصح السجود عليه وشبهها ) من الشرائط والموانع ( بناءا على دعوى : سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ) فيها .

وعليه : فان شرطية القبلة - مثلاً - في الصلاة انّما هي في مورد العلم بها تفصيلاً ؛ فتسقط الشرطية عند التردّد ، فيصح للمصلي الجاهل بجهة القبلة أن يصلي الى أحد الجهات .

نعم ، لا يمكن القول بذلك في مثل الطهارة : من الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، التي ثبتت شرطيتها للصلاة على الاطلاق عالما كان المكلّف بها أم جاهلاً .

ص: 190

ولذا أسقط الحلّي وجوبَ الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحَكَمَ بالصلاة عاريا بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه ، فانّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها الى القبلة

-------------------

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في أمثال الشرط والمانع ( أسقط الحلّي) ابن إدريس رحمه اللّه ( وجوبَ الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس ) وذلك فيما اذا كان له ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ، فانّه قال : ليس الستر بشرط حينئذٍ ( وحَكَمَ بالصلاة عاريا ) بدون ستر اطلاقا .

لكن حيث كان النزاع في اصل الصلاة من كفاية الاتيان بأحد المحتملات وعدم كفايته ، وليس في الشروط والموانع ، أضرب عنه المصنِّف بقوله : ( بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ، ينبغي أن يكون على هذا الوجه ) اي : ان النزاع إذا كان في موارد العلم الاجمالي في اصل الصلاة كتردّد الفائتة ، وجب تحريره في وجوب الاحتياط وعدمه ، أمّا اذا كان في الشرائط والموانع كتردّد القبلة و الساتر ، فينبغي أن يحرّر النزاع في انّه هل الشرط يسقط مع عدم العلم التفصيلي به أو لا يسقط ؟ .

وعليه : ( فانّ ) النزاع لمّا كان في سقوط الشرط وعدمه ، نقول : ان مَن قال بوجوب الاحتياط في مسئلة اشتباه القبلة ونحوها ، لابد ان يقول بعدم سقوط الشروط هنا ، كما ان ( القائل بعدم وجوب الاحتياط ) هناك ( ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ) بها هنا ( لا بكفاية الفعل مع احتمال ) تحقق ( الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها الى القبلة ) .

ص: 191

بدلاً عن القبلة الواقعيّة .

ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول ، إما انصرافُ أدلّته الى صورة العلم به تفصيلاً ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتيب بين الفوائت ،

-------------------

إذن : فالقائل بالتخيير في باب الشروط والموانع ينبغي له ان يقول بسقوط القبلة ونحوها عند تردّدها في امور محصورة ، لا أن يقول بشرطيتها ثم يقول بكفاية الموافقة الاحتمالية واتيان صلاة واحدة الى جهة محتملة لأن تكون هي القبلة ، أو تكون ( بدلاً عن القبلة الواقعيّة ) .

قال الأوثق : انّه لا فرق في الاشتباه بين أن يكون في اصل الصلاة أو في مثل القبلة ، الاّ انّ المصنِّف قد إدّعى : انّ ما كان من قبيل الثاني ينبغي ان يقرّر النزاع في أصل ثبوت الشرطية وعدمه ؛ معلّلاً ذلك : بأنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي ان يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، ولعل الوجه فيه : انّ مرجع القول بالتخيير لاشتباه بعض الشروط : الى نفي الشرطية ، لعدم ترتب أثر على أحدهما بالخصوص ، بخلاف ما لو جهل أصل المكلّف به ، كالفائتة المردّدة بين الظهر والعصر ، فانّ أثر القول بالتخيير فيه هو : عدم جواز المخالفة القطعية (1) .

( ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول ) بأن علم إجمالاً بأصل الشرط وجهل الخصوصية ، هو أحد وجهين :

الأوّل : ( إما انصراف أدلته ) اي : أدلة الشرط ( الى صورة العلم به ) اي : بالشرط ( تفصيلاً ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتيب بين الفوائت )

ص: 192


1- - أوثق الوسائل : ص356 فيما اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع .

وإما دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله .

وهذا يتحقق مع القول بسقوط الشرط المجهول ،

-------------------

فانّ اشتراط الترتيب بين الفوائت انّما هو فيما إذا علم المكلّف بترتيب فوائته علما تفصيلاً ، امّا إذا جهل الترتيب فالشرط ساقط على ما ذكره غير واحد .

بخلاف من قال برعاية هذا الشرط حتى مع الجهل به ، فانه اوجب تكرار الصلاة بصورة يعلم منها تفصيلاً حصول الترتيب ، فاذا علم - مثلاً - بفوت صبح وظُهر منه ، ولم يعلم الترتيب ، قال : يأتي بثلاث صلوات : بصبحين وظهر وسطهما، أو بظهرين وصبح وسطهما ، وهكذا في سائر الفروض حتى يعلم بحصول الترتيب .

الثاني : ( وأمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول ) المردّد بين فردين، كما إذا تردّد الثوب النجس بين ثوبين ، فيدور امره بين ان يهمل شرط طهارة الساتر في الصلاة ويأتي بصلاة واحدة مجزوم بنيّتها ( و ) بين ( اهمال شرط آخر وهو : وجوب ) قصد التعيين والجزم بالنية ، فلا يلزم ( مقارنة العمل لوجهه ) من وجوب أو ندب أو ما أشبه ذلك ( بحيث يعلم بوجوب الواجب، وندب المندوب حين فعله ) اي : فعل الصلاة - مثلاً - .

( وهذا ) أي : وجوب مقارنة العمل لوجهه ، وبعبارة اخرى : احراز الشرط الآخر وهو : الجزم بالنية ( يتحقق مع القول بسقوط الشرط المجهول ) لانّه مع عدم سقوطه لا بّد من تكرار العمل ، ومع تكرار العمل ينتفي الجزم بالنية .

والحاصل : انّه إذا أراد الصلاة وكان له ثوبان اشتبه النجس بينهما ، فاللازم

ص: 193

وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي .

وكلا الوجهين ضعيفان .

أمّا الاوّل : فلأنّ مفروض الكلام ما اذا ثبت الوجوب

-------------------

أمّا ان نقول : بأن شرط الطهارة في الساتر انّما هو مع العلم بالطهارة تفصيلاً ، لا مع تردّدها بين ثوبين ، وهنا حيث تردّدت يسقط شرط الطهارة ، وعليه أن يأتي بصلاة واحدة في احد الثوبين .

واما ان نقول : بأنّ شرط الطهارة في السّاتر واجب سواء علم بها تفصيلاً ، ام كانت مردّدة بين ثوبين ، وهنا حيث تردّدت يدور الامر بين احد شرطين : شرط الطهارة ، وشرط الجزم بالنية ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما لزم اهمال احدهما .

وعليه : فاذا أهملنا شرط الطهارة ، كان عليه أن يصلي صلاة واحدة في أحد الثوبين ، ليحرز شرط الجزم بالنية ، واذا أهملنا شرط الجزم بالنية ، كان عليه ان يصلي صلاتين ليحرز شرط الطهارة .

( وهذا ) الوجه الثاني وهو : سقوط الشرط المجهول لاجل إحراز شرط الجزم بالنية ( هو الذي يظهر من كلام الحلّي ) ابن ادريس رحمه اللّه .

( و ) لكن ( كلا الوجهين ) لتوجيه دعوى سقوط الشرط المجهول : من انصراف الادلة ، ودوران الامر بين اهمال احد شرطين ( ضعيفان ) لانّا نقول : لا إنصراف للأدلة ، ولا دوران للأمر بين اسقاط أحد شرطين ، بل اللازم الاتيان بصلاتين في الثوبين .

( أمّا ) ضعف الوجه ( الاوّل : ) وهو انصراف الأدلة ( فلانّ مفروض الكلام ) في التردّد في باب الشبهة الموضوعية كالساتر في المثال ( ما اذا ثبت الوجوب

ص: 194

الواقعي للفعل بهذا الشرط ، وإلاّ لم يكن من الشك في المكلّف به ، للعلم حينئذٍ بعدم وجوب الصلاة الى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة الى الجاهل .

وأمّا الثاني : فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النية

-------------------

الواقعي للفعل ) اي : لفعل الصلاة ( بهذا الشرط ) وهو شرط طهارة الساتر .

( والاّ لم يكن من الشك في المكلّف به ) فانّ كلامنا بعد ثبوت التكليف بوجوب الصلاة مع طهارة الساتر ، غير ان الساتر الطاهر اشتبه بين ثوبين ، فلم نعلم هل المكلّف به : الصلاة بهذا الثوب أو بذاك الثوب ؟ وكذا الكلام في اشتباه القبلة ، فانّه بعد ثبوت التكليف بوجوب الصلاة نحو القبلة ، لكن القبلة اشتبهت بين أطراف أربعة ، فلم نعلم هل المكلّف به : الصلاة الى هذه الجهة أو الى تلك الجهة ؟ وهكذا .

وعليه : فلا معنى لانصراف أدلة القبلة والساتر - مثلاً - الى صورة العلم بالقبلة والساتر ، وذلك ( للعلم حينئذٍ ) أي : حين القول بانصراف أدلة الشرط الى صورة العلم بالشرط تفصيلاً ( بعدم وجوب الصلاة الى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة الى الجاهل ) لفرض انصراف شرط القبلة الى العلم بالقبلة ، فلا يكون المقام من الشك في المكلّف به ، وهو : خلاف الفرض .

( وأمّا ) ضعف الوجه ( الثاني : ) وهو دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط : طهارة الساتر ، أو شرط آخر : الجزم بالنية ( فلانّ ما دلّ ) من بناء العقلاء في تحقق الطاعة ( على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النية ) به ، فانما هو بشرط القدرة عليه ، لا حتى مع العجز عنه .

ص: 195

إنّما يدلّ عليه مع التمكّن .

ومعنى التمكّن القدرةُ على الاتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه من الوجوب والندب حين الفعل ، أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة .

والسرّ في تعيينه للسقوط هو أنّه إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه

-------------------

وعليه : فانّ العقلاء بنوا على ان أوامر الموالي لا تتحقق اطاعتها الاّ باتيانها مع الجزم بالنية لكن ( إنّما يدلّ عليه ) اي : على وجوب مقارنة العمل بقصد الوجه والجزم به ( مع التمكّن ) من قصد الوجه كذلك ( ومعنى التمكّن : القدرةُ على الاتيان به ) اي بالعمل ( مستجمعا للشرائط جازما بوجهه من الوجوب والندب حين الفعل ) فيأتي الانسان بالعمل الجامع للشرائط بهذا القصد جازما .

و ( أمّا مع العجز عن ذلك ) اي : عن الاتيان بالعمل مستجمعا للشرائط مع الجزم بالنية ، وذلك لدورانه بين أن يأتي به مستجمعا للشرائط دون الجزم بالنية ، أو ياتي به جازما بالنية دون الشرائط ، ففي هذه الصورة يقدّم وجوب استجماع الشرائط على الجزم بالنية فيتعيّن سقوط الجزم بالنيّة ، كما قال :

( فهو المتعيّن للسقوط ) اي : شرط الجزم بالنية ( دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة ) فلا تسقط الطهارة ، وانّما يسقط الجزم بالنية ، فيأتي بصلاتين في الثوبين وان لم يجزم حين الاتيان بكل صلاة انّها هي الواجبة .

( والسرّ في تعيينه ) اي : تعيين الجزم بالنية ( للسقوط هو : انّه ) اي : الجزم بالنية ( إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ) بمعنى : انّ مرحلة الجزم بالنية بعد مرحلة استجماع الفعل للشرائط ( وليس اشتراطه ) أي : اشتراط الجزم

ص: 196

في مرتبة سائر الشرائط ، بل متأخر عنه ، فاذا قيّد إعتباره بحال التمكّن سقط حالَ العجز ، يعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به .

-------------------

بالنية ( في مرتبة سائر الشرائط ) كشرط القبلة وشرط الطهارة وما أشبه ( بل ) الجزم بالنية ( متأخر عنه ) وعن سائر الشرائط فيكون هو المتعين للسقوط .

وبعبارة اخرى : ان شرائط العبادة على قسمين :

الاوّل : ما لاحظها الشارع قبل الأمر بأن قال - مثلاً - : الصلاة ذات الاجزاء والشرائط ائت بها ، ويقُال لهذا القسم من الشرائط : شرائط المأمور به ، كالقبلة والستر ، والطهارة ، وما أشبه ذلك ، فانّ الشارع لاحظ الصلاة الجامعة لهذه الشرائط ثم أمر بها .

الثاني : الشرائط التي تكون متأخرة عن الأمر وتابعة له ، لانّها من آثار الأمر ، كقصد التعيين ، والوجه ، وما أشبه ذلك ، فانّه يلزم اتيان الصلاة الواجبة للشرائط بهذه القصود .

وعليه: ( فاذا قيّد إعتباره ) أي: اعتبار القسم الثاني من الشرائط ( بحال التمكّن ) من الاتيان بذات العبادة بشرائطها الأولية ( سقط ) ما ذكرناه : من الشرائط الثانوية والقصود التابعة للأمر ( حال العجز ، يعني : العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به ) فاذا عجز الانسان عن الاتيان بالصلاة الجامعة للشرائط مجزوما بتلك الصلاة سقط الجزم ، ولم تسقط تلك الشرائط .

وبهذا ظهر : انّه لا انصراف في أدلة شرط الطهارة الى صورة العلم بها تفصيلاً ، ولا دوران للأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه ، بل هناك وجه واحد يلزم أن نقول به وهو : الاتيان بصلاتين في مثال الثوبين وإن لم يتمكن من قصد الجزم حين الاتيان بكل واحدة من هاتين الصلاتين .

ص: 197

الثاني :

إنّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة .

وحاصله : أنّه ينوي في كل منهما فعلهما احتياطا لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّبا الى اللّه ، على أن يكون القرب علّة للاحراز الذي جعل غاية للفعل .

-------------------

التنبيه ( الثاني : ) إذا تردد الواجب بين أمرين متباينين كالظهر والجمعة في يوم الجمعة - مثلاً - فقد تقدّم فيه القول بوجوب الاحتياط وانّ للنية فيه طريقين : أن ينوي بكل واحد منهما الوجوب والقربة ، أو ينوي الوجوب الواقعي المردّد بينهما، بان يقصد ما هو الثابت في نفس الأمر ، الحاصل في ضمن هذين الفعلين تقرّبا الى اللّه تعالى ، وقد ذكر المصنِّف هناك بطلان الطريق الأوّل وان المتعيّن هو الطريق الثاني .

اذا عرفت ذلك قلنا : ( انّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة ) فيما اذا اشتبهت القبلة الى جهتين واكثر ، او اشتبه الساتر في ثوبين واكثر ، أو ما أشبه ذلك انّما هو ( على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة ) وذلك بأن يأتي بها جميعا بقصد ما هو الواقع منها.

( وحاصله : انّه ينوي في كل منهما فعلها احتياطا لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها ) اي : بين هذه الصلاة التي يصليها الى جهة اليمين - مثلاً - ( وبين صاحبها ) كالصلاة التي يصليها الى جهة الشمال ، وذلك فيما إذا تردّدت القبلة بين اليمين والشمال ، فيأتي بالصلاتين لاحراز الواجب الواقعي ( تقرّبا الى اللّه ) تعالى ( على ان يكون القرب علّة ) غائية ( للاحراز الذي جعل غاية للفعل ) فيقصد انّه

ص: 198

ويترتّب على هذا أنّه لا بدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ، إذ النية المذكورة لا تتحقق بدون ذلك ، فانّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لإمتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ، نعم ، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا ، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها .

-------------------

يأتي بهاتين الصلاتين لاحراز الواقع بينهما ، وإحراز الواقع انّما هو لحصول القرب اليه سبحانه .

( ويترتّب على هذا ) اي : على انّه يلزم ان تكون التي بهذه الكيفية ( انّه لا بّد من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ، إذ النية المذكورة ) في الطريقة الثانية ( لا تتحقق بدون ذلك ) اي : بدون قصد الاتيان بكلا الصلاتين من الاول ، لانّ من لم يعزم على اتيان الصلاة الثانية حين اتيان الأولى لم يكن عازما لاحراز الواقع ولا جازما بالتقرب .

وعليه : فاذا عصى وأتى بأحدهما باحتمال الأمر والتقرّب من دون عزم على اتيان الآخر بعد ذلك ، لم يكف في حصول الاحتياط ورفع العصيان كما قال : ( فانّ من قصد الاقتصار على احد الفعلين ) فهو ( ليس قاصدا لإمتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ) بينما يجب أن يكون قصده امتثال الواقع على كل تقدير .

( نعم ، هو قاصد لامتثاله ) اي : لامتثال الواقع ( على تقدير مصادفة هذا المحتمل له ) اي : للواقع ( لا مطلقا ) فانه حين يقصد الاقتصار على احد الفعلين لم يكن عازما على امتثال الواقع على كل تقدير بل على تقدير المصادفة ( وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها ) علما اجماليا .

لكن يكون هذا كافيا عند من يقول بجواز اتيان كل واحد من المحتملين بقصد

ص: 199

نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة كغُسل الجنابة إن احتمل الجنابة اكتفي فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقق الأمر به ، لكن ليس هنا تقدير آخر يُراد منه التعبّد على ذلك التقدير .

-------------------

الوجه والقربة ، وذلك بأن يقصد من الاول الاتيان بأحدهما دون الآخر ، فيأتي به قاصدا للوجه والقربة غير عازم على الاتيان بالآخر ، فان انكشف بعد الاتيان به انه كان مصادفا للواقع كفاه ، وان انكشف عدم مصادفته للواقع لم يكفه .

و كذا لم يكفه لو بقي الأمر مجهولاً فيلزمه الاتيان بالآخر ، وكذا لو إنتقل من ذلك المكان الى مكان كانت القبلة فيه معلومة ، فانه يلزمه الاتيان بصلاة الى القبلة، لانّه لم يحرز بتلك الصلاة اتيانه بالصلاة الواجبة عليه .

وحيث قال المصنِّف هنا : بعدم كفاية الاقتصار على أحد الفعلين في امتثال الواجب الواقعي ، كان محلاً لتوهم ورود نقض عليه : وهو انه كيف يكفي حينئذٍ لامتثال الواجب الواقعي بالاقتصار على اتيان غسل واحد في احتمال الجنابة - مثلاً - ؟ فأخذ المصنِّف في بيان هذا التوهم بقوله :

( نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة ) من دون علم اجمالي ( كغُسل الجنابة إن احتمل الجنابة ) - مثلاً - فانه يكفي الاتيان بغسل واحد قربة الى اللّه تعالى ، اي : ( اكتفي فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقق الأمر به ) اي : بهذا الغسل الواحد ، بينما هناك لم يكف صلاة واحدة ؟ .

فأجاب عنه بقوله : ( لكن ) كفاية الغسل الواحد هنا من جهة انّه ( ليس هنا تقدير آخر يُراد منه ) اي : من ذلك التقدير الآخر ( التعبّد على ذلك التقدير ) ففي مثل : غسل الجنابة المحتملة تقدير واحد ، امّا في مثل القبلة المشتبهة أو الساتر المشتبه تقديران .

ص: 200

فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبّد على طريق الاحتمال ، بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ، فانّه لابّد فيه من الجزم بالتعبّد .

-------------------

إذن : ( فغاية ما يمكن قصده هنا ) في الجنابة المحتملة ( هو التعبّد على طريق الاحتمال ) وذلك بأن يقصد : انّي امتثل بهذا الغسل أمر اللّه سبحانه وتعالى على تقدير تحقق الجنابة وفرض وقوعها .

( بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ) كصلاتين الى القبلة المشتبهة ، أو في ثوبين مشتبهين ( فانّه لابّد فيه من الجزم بالتعبّد ) ومن المعلوم : ان الجزم بالتعبّد لا يحصل الاّ بأن ينوي الاتيان بهما من أول الأمر ، فان لم يقصد ذلك بل قصد الاتيان بواحد لم يصح .

و على هذا : فالمصنف مفصّل بين الشبهات البدوية والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية ، بتقرير : انّه إذا كان مورد الشبهُة من العبادات لا من التوصليات ، فانّه يكفي فيها مجرد قصد احتمال الأمر والمحبوبية ، هذا بالنسبة الى الشبهات البدوية ، وأمّا بالنسبة الى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فلايكفي ذلك فيها ، بل لابّد من قصد امتثال الأمر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، وذلك يتوقف على ان يكون المكلّف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر .

لكن قد يقال : بعدم الفرق بين الشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي من هذه الجهة ، فكما يأتي بالغسل في احتمال الجنابة بقصد الامتثال على تقدير تحقق الجنابة ، كذلك يأتي بالغسل في العلم بالجنابة بماء أحد الانائين المشتبه احدهما بالمضاف بقصد الامتثال على تقدير تحقق الغسل بالماء المطلق ، فاذا

ص: 201

الثالث :

الظاهر أنّ وجوبَ كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعيّ ؛ لانّ الحاكم بوجوبه ليس إلاّ العقل ، من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ، حتى أنّه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط أو الخبر المتقدّم في الفائتة على وجوب ذلك كان وجوبُه من باب الارشاد ،

-------------------

صادف الواقع كان مطيعا ، وإذا خالف الواقع كان عاصيا ، فلا وجه للقول ببطلان هذا الغسل إذا كان مطابقا للواقع .

التنبيه ( الثالث ) : في بيان إنّ وجوب الاحتياط والاتيان بالمحتملات ارشادي عقلي ، وليس بمولوي شرعي كما قال : -

( الظاهر: أنّ وجوبَ كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعيّ، لانّ الحاكم بوجوبه ) أي : بوجوب كل من المحتملات ( ليس إلاّ العقل ) وذلك ( من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ) أوالمحتملات بعدما تقدّم : من وجود المقتضي لتنجّز التكليف بالعلم الاجمالي وهو : الخطاب بتحريم الخمر أو الميتة ، أو وجوب الصلاة أو الصوم ، أو ما اشبه ذلك ، و عدم المانع عنه .

ان قلت : كيف يكون وجوب الاحتياط عقليا لا شرعيا ، مع وجود أخبار الاحتياط ؟ .

قلت : لا نسلم دلالة أخبار الاحتياط على الوجوب ، ثم ( حتى انّه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط ، أو الخبر المتقدّم في الفائتة ) حيث تقدّم : من انّه إذا علم بفوات احدى فرائضه الخمس ، فعليه أن يأتي بثلاث صلوات : ثنائية ، وثلا ثية ، ورباعية ، فانّه يدل ( على وجوب ذلك ) اي : الاحتياط، قلنا: ( كان وجوبُه من باب الارشاد ) الى حكم العقل ، وليس مولويا .

ص: 202

وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشك في التكليف .

وأمّا اثبات وجوب التكرار شرعا في ما نحن فيه بالاستصحاب وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد

-------------------

وإنّما كان ذلك ارشادا الى حكم العقل ، لانّ كل ما حكم به العقل وأمر به الشرع ولم يكن ثواب على الأمر الشرعي ولا عقاب في تركه ، كان ذلك الأمر الشرعي ارشاديا ، فهو مثل أوامر الطاعة حيث لا ثواب عليها ولا عقاب في تركها ، وإنّما الثواب والعقاب على أمر الصلاة والصوم وما أشبه ذلك فعلاً أو تركا .

هذا ، وقد عرفت في باب الشبهة المحصورة : انّه لو أتى بالمحتملين - مثلاً - فهو انّما يثاب على التكليف الواقعي ، لا على الاحتمال الآخر الذي يأتي به احتياطا .

نعم ، له ثواب الانقياد ، لكن ثواب الانقياد هذا ليس من باب الثواب على نفس الشيء ، الذي هو المعيار لكون الشيء مولويا لا إرشاديا .

هذا ( وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشك في التكليف ) حيث مرّ انّه لا فرق في كون أوامر الاحتياط ، أوامر عقلية لا شرعية ، والشرعية منها ارشادية محضة بين ان يكون مورد الاحتياط من الشك في التكليف أو الشك في المكلّف به .

( و ) ان قلت : سلّمنا انّ أوامر الاحتياط ارشادية ، لكنّا نقول : انّ وجوب تكرار الصلاة - مثلاً - باستصحاب شغل الذمة بعد الاتيان بالصلاة الاولى ، يجعل الامر بالاحتياط مولويا .

قلت : ( أمّا اثبات وجوب التكرار شرعا فيما نحن فيه بالاستصحاب ، وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد ) سبق انّه لا يجعل أمر الاحتياط شرعيا

ص: 203

تقدّم في المسألة الاُولى عدم دلالة الاستصحاب على ذلك ، الاّ بناءا على أنّ المستصحب يترتّب عليه الامور الاتفاقية المقارنة معه ، وقد تقدّم إجمالاً ضعفُه ، وسيأتي تفصيلاً .

وعلى ما ذكرنا ، فلو ترك المصلّي المتحيّر في القبلة أو الناسي لفائتة جميع المحتملات لم يستحق إلاّ عقابا واحدا ، وكذا لو ترك أحد المحتملات واتفق مصادفتهة للواجب الواقعي ،

-------------------

فكيف به مولويا ؟ وذلك لما ( تقدّم في المسألة الاُولى ) : من ( عدم دلالة الاستصحاب على ذلك ) أي : على وجوب الاحتياط بتكرار الصلاة ( الاّ بناءا على ) الاصل المثبت ، وهو : ( انّ المستصحب يترتّب عليه الامور الاتفاقية المقارنة ) عقلاً ( معه ) أي : مع المستصحب ، فلم يترتب عليه أمر شرعي ، حتى يكون الاستصحاب فيه حجة .

هذا ( وقد تقدّم إجمالاً ضعفُه ، وسيأتي تفصيلاً ) انشاء اللّه تعالى في بحث الاستصحاب : بأن أدلة الاستصحاب لا تدل على حجيّة الاستصحاب المثبت ، وما نحن فيه منه ، لانّ وجوب الاتيان بالآخر ليس حكما شرعيا مترتبا على بقاء الشغل ، بل هو حكم عقلي ثابت بمجرد الاشتغال .

( وعلى ما ذكرنا ) : من أن أمر الاحتياط ارشادي محض ( فلو ترك المصلي المتحيّر في القبلة ، أو الناسي لفائتة ) من الفرائض الخمس ( جميع المحتملات ) عالما عامدا عصيانا ( لم يستحق إلاّ عقابا واحدا ) على ذلك ، لانّه ترك واجبا واحدا فقط .

( وكذا لو ترك أحد المحتملات واتفق مصادفته للواجب الواقعي ) فان الاتيان ببقيّة المحتملات كالثلاث بالنسبة الى القبلة ، و الاثنين بالنسبة الى ترك الفوائت ،

ص: 204

ولو لم يصادف لم يستحق عقابا من جهة مخالفة الأمر به ، نعم ، قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة التجرّي ، وتمام الكلام فيه قد تقدّم .

الرابع :

لو انكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزء عنها ، لانّه صلّى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرّب بها الى اللّه

-------------------

حيث لم تصادف الواقع ، لم توجب له ثوابا يدفع عقاب ترك المحتمل الاخير الذي صادف تركه ترك الواجب الواقعي ( ولو ) ترك كل الاحتمالات الاّ أحدها ، واتفق ان الذي أتى به قد صادف الواقع، فانه حيث ( لم يصادف ) ما تركه من بقية الاحتمالات ترك الواقع ( لم يستحق عقابا من جهة مخالفة الأمر به ) اي : بالاحتياط ، لفرض انّه اتى بما يجب عليه ولم يخالف الواقع ، فان المتروك كان غير الواقع .

( نعم ، قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة التجرّي ) لانّ تكليفه العقلي كان الاتيان بكل الأطراف ، وهو لم يأت الاّ بأحدها ، فتركه لسائر الاطراف يكون تجريا على المولى .

هذا ( وتمام الكلام فيه ) اي : في التجري ( قد تقدّم ) في بحث القطع حيث ذكرنا هناك : ان التجري ليس بمحّرم ، وانّما يكشف عن خبث نية الفاعل ، فله قبح فاعلي وليس له قبح فعلي .

التنبيه ( الرابع : ) في بيان كفاية ما أتي به من المحتملات لو انكشف مطابقته للواقع ، قال : ( لو انكشف مطابقة ما اتى به للواقع قبل فعل الباقي ) كما لو صلّى الى جهةٍ وبعد الصلاة انكشف انّ صلاته التي أتى بها كانت باتجاه القبلة ( أجزء عنها) اي : عن الصلوات الأخر (لانّه صلّى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرّب بها الى اللّه)

ص: 205

وإن لم يعلم حين الفعل أنّ المقرّب هو هذا الفعل ، إذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل أو ناشئا عن انكشاف الحال .

-------------------

عزّوجل ، ولم يكن تكليفه الواقعي اكثرمن ذلك .

وإنّما لم يكن تكليفه اكثر من ذلك لانّ الصلوات الأُخر كانت مقدَّمة علمية في حال الجهل ، فلما انكشف الواقع سقطت المقدمة العلمية ، سواء كان الانكشاف علما بأن علم وجدانا ، ام علميا بأن قامت الشهود على ان صلاته كانت باتجاه القبلة .

وعليه : فان هذه الصلاة تُجزيه عن البقية ( وإن لم يعلم حين الفعل انّ المقرّب هو هذا الفعل ) لانّ العلم حال الفعل لا مدخلية له في التأثير في الواقع سلبا أو ايجابا .

وإنّما يجزي عنها ، لانه كما قال ( اذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل ، أو ناشئا عن انكشاف الحال ) ولهذا لو انكشف في اثناء الصلاة - مثلاً - انّ غيرها هو الواجب جاز له ابطالها : وفي اثناء الصوم - مثلاً - جاز له ابطاله ولو كان بعد الظهر في محتمل قضاء شهر رمضان .

اما الحج فلا يجور له ابطاله في الاثناء ، لانّ الحج يجب اتمامه حتى وان كان مستحبا ، فكيف به لو كان واجبا ؟ ولذا فلو نذر الحج هذا العام أو العام الآتي ، ثم شك وذهب في العامين الى الحج ، وفي اثناء احدهما علم بأن هذا ليس هو المنذور ، فلا يجوز له أن يبطله .

نعم ، ربّما يقال : بجواز ابطاله ايضا ان كان قد حجّ على وجه التقييد ، اذ بالانكشاف يظهر : ان الحجّ هذا لم ينعقد من الاول رأسا ، فليس دفع اليه عنه في هذه الصورة ابطالاً للحج حتى يشمله دليل : « أتمُّوا الحَجَ والعُمرَةَ للّه » (1) .

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 196 .
الخامس :

لو فرض محتملات الواجب غير محصورة لم يسقط الامتثال في الواجب المردّد باعتبار شرطه ، كالصلاة الى القبلة المجهولة

-------------------

ومنه يظهر : ما لو انكشف أثناء الاعتكاف انه لم يكن هو المنذور ، وكان الانكشاف في اليوم الثالث - مثلاً - فانه ان كان على وجه التقييد جاز رفع اليد عنه، والاّ لم يكن ذلك جائزا .

التنبيه ( الخامس ) في الشبهة الموضوعية الوجوبية : قد سبق في الشبهة الموضوعية التحريمية القول بعدم تأثير العلم الاجمالي فيها اذا كانت غير محصورة ، بخلاف الشبهة الموضوعية الوجوبية إذا كانت غير محصورة ، فانّ من اشتبه عليه الستر - مثلاً - وتردّد بين ثياب غير محصورة ، فليس له ان يترك الصلاة مطلقا ، أو يترك الصلاة مع الساتر مطلقا ، بل عليه ان يصلي ببعض هذه الثياب ، أمّا صلاة واحدة على الاحتمال ، أو صلوات متعدّدة ، بأن يبلغ حد العُسر والحَرج .

نعم ، لا تجب الموافقة القطعيّة بفعل جميع المحتملات الكثيرة الخارجة عن القدرة، فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط والاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات .

والى هذا الذي ذكرناه اشار المصنِّف حيث قال : ( لو فرض محتملات الواجب غير محصورة ، لم يسقط الامتثال في الواجب المردّد باعتبار شرطه ، كالصلاة الى القبلة المجهولة ) فيما لو فرض انّ محتملات الصلاة الواجبة عند اشتباه القبلة غير محصورة - مثلاً - لفرض عدم حصر الجهات في الدائرة التي يقف الانسان في نقطة منها ويريد التوجّه الى النقاط الموجودة في محيط الدائرة .

ص: 207

وشبهها قطعا ، اذ غاية الأمر سقوط الشرط ، فلا وجه لترك المشروط رأسا.

وأمّا في غيره ممّا كان نفسُ الواجب مردّدا ، فالظاهرُ أيضا عدم سقوطه ولو قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة غير المحصورة ؛

-------------------

لا يقال : انّه يكتفي بالاربع .

لانّه يقال : انّما هو للنص الخاص والمفروض انّه لا نص في المقام .

( وشبهها ) اي : شبه الصلاة الى القبلة المجهولة ، كالصلاة في الثياب المتعددة بأن كان له - مثلاً - ألف ثوب ، واحد منها فقط طاهر وقد اشتبه بينها ، فانه لا يكون ذلك سببا لسقوط الامتثال فيها ( قطعا ، اذ غاية الأمر : سقوط الشرط ) من ذلك المشروط ، فتسقط القبلة من الصلاة ، فيصلي بأيّ اتجاه شاء ، والطهارة من الساتر، فيصلي في واحد من تلك الثياب ، كما قال :

( فلا وجه لترك المشروط رأسا ) بأن يقال : انّه لا تكليف له بالصلاة بعد اشتباه القبلة ، أو اشتباه الساتر في غير المحصور .

و كذلك حال ما إذا كان له الف آنية أحدها نجس ، فليس له ان يترك الصلاة رأسا ، بل عليه أن يصلي مع الوضوء ببعض تلك الأواني .

هذا كله اذا كان الجهل بالشرط .

( وامّا في غيره ) بأن كان الجهل في غير الشرط ( ممّا كان نفسُ الواجب مردّدا ) كما اذا نذر صوم يوم معيّن فنسيه مع احتماله ذلك في كل ايام السنة ( فالظاهرُ أيضا : عدم سقوطه ) أي : عدم سقوط هذا الواجب المردّد في غير المحصور ، بل يجب عليه أن يصوم بعض ايام السنة .

وعليه : فان الواجب لا يجوز تركه هنا في الشبهة الوجوبية غير المحصورة ، حتى ( ولو قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة ) التحريمية ( غير المحصورة )

ص: 208

لانّ فعل الحرام لا يعلم هناك به إلاّ بعد الارتكاب ، بخلاف ترك الكلّ هنا ، فانّه يعلم به مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة .

-------------------

وذلك ( لانّ فعل الحرام لا يعلم هناك ) في الشبهة التحريمية ( به ) اي : بارتكاب الكل ( إلاّ بعد الارتكاب ) فلو شرب الاواني الألف كلّها علم بعد ذلك بانّه شرب الحرام .

( بخلاف ترك الكلّ هنا ) في الشبهة الوجوبية بان لا يصلي عند اشتباه الثوب الطاهر بين الف ثوب - مثلاً - ( فانّه يعلم به ) أي : بترك الكل وعدم الصلاة رأسا (مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة) .

والحاصل : انّ المخالفة القطعية في الشبهةُ التحريمية تكون تدريجية ، لانّ ارتكاب الكل يحصل تدريجا ، والمخالفة القطعيّة التدريجية لا يعلم بها الاّ بعد مخالفة الكل ، كما مثلنا له بشرب الأواني الألف تدريجيا ، فانّه بعد شرب الجميع يعلم بانّه قد خالف أمر : اجتنب الخمر - مثلاً - .

و امّا المخالفة القطعيّة في الشبهة الوجوبية ، فانّها تكون تفصيلية ، لانّ ترك الكل يحصل في آن واحد ، فاذا وجب عليه - مثلاً - شرب أحد تلك الأواني الألف ، فانّه حيث يترك الشرب في الآن الاوّل يتحقق ترك الكل ، ومن المعلوم : ان ترك الكل مخالفة تفصيلية وهو غير جائز عقلاً للعلم بالمخالفة حين المخالفة .

لكن لايخفى : انّ ما ذكره المصنِّف انّما يجري فيما إذا كانت الأفراد في الواجب المشكوك دفعية ، كمثال الأواني التي نذر أن يشرب أحدها فاشتبه بين الألف .

وأما اذا كانت الافراد في الواجب المشكوك تدريجية ، فانه لا يجري ما ذكره المصنِّف فيها ، وذلك كمثال من نذر صوم يوم معيّن من أيام السنة ، فاشتبه انه ايّ يوم كان ذلك ؟ فانه اذا ترك الصوم كل السنة ، لم يعلم بانّه خالف قطعا

ص: 209

وهل يجوز الاقتصار على واحد ، إذ به يندفع محذور المخالفة أم يجب الاتيان بما تيسّر من المحتملات ؟ وجهان : من أنّ التكليف باتيان الواقع ساقط ، فلا مقتضى لايجاب مقدّماته العلمية ، وانّما وجوب الاتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعية ؛ ومن أنّ اللازمَ بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع ، مراعاتُه مهما أمكن ،

-------------------

الاّ بعد انتهاء العام كله وذلك في اليوم الأخير من السنة .

( و ) كيف كان فلنرجع الى اصل البحث فنقول : ( هل يجوز الاقتصار على واحد ) من محتملات الوجوب ( اذ به ) اي : بذلك الواحد ( يندفع محذور المخالفة ) القطعية ؟ ( أم يجب الاتيان بما تيسّر من المحتملات ) ؟ .

مثلاً : اذا تردّد الثوب الطاهر في الف ثوب واراد الصلاة ، فهل يصلي صلاة واحدة فقط ، أو يصلي الى أن يصل الى حد العُسر والحرج ؟ ( وجهان ) .

أمّا الوجه الأوّل : وهو كفاية الواحدة فكما ذكره بقوله : ( من أنّ التكليف باتيان الواقع ساقط ) وذلك لما عرفت : من ان المقتضي لوجوب الاحتياط وان كان موجودا ، الاّ ان عدم الحصر يمنع عقلاً أو نقلاً عن وجوب احراز الواقع بالاحتياط باتيان جميع الاطراف .

وعليه : ( فلا مقتضى لايجاب مقدّماته العلمية ) أي : مقدمات الواقع ( وانّما وجوب الاتيان بواحد ) من الأطراف فقط وذلك ( فرارا من المخالفة القطعية ) فانه إذا أتى بصلاة واحدة لايقطع بالمخالفة ، فيكفي الاتيان بصلاة واحدة .

وامّا الوجه الثاني : وهو عدم كفاية الفرد الواحد ، بل وجوب الاتيان بما تيسّر من المحتملات الى حد العُسر والحرج ، فقد أشار اليه بقوله : ( ومن أنّ اللازم بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع ، مراعاتُه ) أي مراعاة الواقع ، وذلك ( مهما أمكن )

ص: 210

وعليه بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة ، والاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع انّما يكون مع نصّ الشارع عليه ، وأمّا مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواجب فيجب مراعاته حتى يقطع بعدم العقاب ، إمّا لحصول الواجب وإمّا

-------------------

أي : بأن يأتي به ما لم يقع في العسر والحرج .

وإنّما كان اللازم ذلك لانّ العلم بالتكليف يقتضي الاتيان بجميع الاطراف ، وانّما الرافع للتكليف هو العسر ، فاللازم الاتيان بما تيسّر من الأفراد وترك ما تعسّر ، فلا يقتصر على الفرد الواحد بل يأتي بما تيسّر له .

( وعليه ) أي : على الوجه الثاني وهو : لزوم الاتيان بالواقع حسب القدرة وترك مقدار العسر ، قام ( بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة ) فاذا قال المولى - مثلاً - : جئني بكتاب الرسائل من المكتبة ، وتردّد الكتاب عند العبد بين الف كتاب ولم يمكنه الاستعلام ، كان اللازم ان يأتي بما يقدر عليه من الكتب - اذا لم يكن هناك محذور خارجي في الاتيان بكتب كثيرة - لا أن يأتي بكتاب واحد فقط.

( و ) امّا ( الاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع ) فهو ( انّما يكون مع نصّ الشارع عليه ) اي : على كفاية الواحد مخيّرا ، والاّ فلا يكتفى به كما قال :

( وامّا مع عدمه ) اي مع عدم النص من الشارع على الاكتفاء بالواحد كما هو المفروض في المقام ، اذ لا دليل هنا على الاكتفاء بالواحد ، هذا من جهة ( وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواجب ) لوجود المقتضي وعدم المانع من جهة اخرى ( فيجب مراعاته ) اي : الواجب من باب المقدمة العلمية ( حتى يقطع بعدم العقاب ) .

والقطع بعدم العقاب ( إمّا لحصول الواجب ) كما اذا امكن الاحتياط التام ( وإمّا

ص: 211

لسقوطه بعدم تيسّر الفعل ، وهذا لا يحصل الاّ بعد الاتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى .

-------------------

لسقوطه ) اي : سقوط الواجب ، وذلك ( بعدم تيسّر الفعل ) كما فيما نحن فيه حيث يعسر الاحتياط التام ، والعسر مسقط للتكليف .

إذن : فاللازم على العبد حينئذٍ تحصيل احد أمرين :

الاول : اما القطع بعدم العقاب من جهة ان الواجب قد حصل بسبب الاحتياط في جميع الاطراف .

الثاني : واما القطع بعدم العقاب من جهة ان الواجب قد سقط بالعسر ، والعسر مسقط للتكليف ( وهذا ) اي : سقوط التكليف بسبب العسر ( لا يحصل الاّ بعد الاتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى ) .

لكن ربّما يقال : ان اللازم هنا هو الاتيان بواحد منها فقط ، وذلك لانّ التكليف وضع حسب اليُسر العرفي ، كما ورد في روايات وجوب خمس صلوات مع انه قادر على الاكثر ، وصيام شهر واحد مع انه قادر على الاكثر ، وحج عام واحد مع انه قادر على الأكثر وما أشبه ذلك .

إذن : فالتكرار وان لم يكن عسرا شديدا ، الاّ انّه خلاف اليُسر العرفي ، ولذا قال جمع بكفاية صلاة واحدة فيما اشتبهت القبلة الى جهات اربع وقال الشارع : « يهريقهما ويتيمم » (1) مع انّه قادر على صلاتين بوضوئين ، كما ذكرناه سابقا وأفتى به بعض الفقهاء ، الى غير ذلك ، ومحل التفصيل : الفقه .

و ربّما يقال باحتمال ثالث هنا وهو : الاتيان بقدر الظن ، كما ذكر الفقهاء ذلك

ص: 212


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد المانع من الاتيان ببعضٍ غير معيّنٍ من المحتملات ، ولو طرء المانع من بعضٍ معيّن منها ،

-------------------

فيمن عليه فوائت لا يحصي عددها ، وكما دل عليه ايضا بعض الأدلة .

هذا ، ولا يخفى : انّ الزيادة على الواحد لو قلنا بها ، فهي ليست في الماليات ، اذ في الماليات يلزم التقسيم ، كما إذا نذر ان يعطي دينارا لسيد خاص ، فاشتبه بين ألف سيد فعليه ان يقسمه بينهم ، كما ذكره الجواهر في كتاب الخمس ، وذكرناه نحن في مختلف أبواب الفقه بالمناسبة (1) .

( و ) كيف كان : فان ( هذا الحكم ) الذي ذكره المصنِّف وهو : وجوب الاتيان بما تيسّر ( مطّرد في كلّ مورد وجد المانع ) علما بأن المانع على قسمين : مانع عن بعض معيّن ، ومانع عن بعض غير معيّن .

اما لو طرء المانع ( من الاتيان ببعضٍ غير معيّنٍ من المحتملات ) فانه سواء كان المانع من الاتيان : العسر والحرج ، كما اذا تردّد الثوب الطاهر في الف ثوب وأراد الصلاة ، ام كان المانع شيئا آخر ، كما اذا منع الظالم عن الصلاة الاّ عن صلاة واحدة، تاركا اختيار هذه الصلاة الواحدة الى المصلّي ، فانّه يجب عليه الاتيان بالباقي غير المعيّن ، سواء كان طروّ المانع قبل العلم الاجمالي ام بعده .

وإنّما يجب عليه الاتيان بالباقي ، لأن التكليف قد تنجّز بسبب العلم الاجمالي بوجوب واحد منها ، وترخيص الشارع ترك بعضها ، يدل على اكتفائه باتيان الباقي غير المعيّن بدلاً عن الواقع .

( و ) اما ( لو طرء المانع من بعض معيّن منها ) لا عن بعض غير معيّن كما كان

ص: 213


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه للشارح .

ففي الوجوب كما هو المشهور اشكالٌ من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ، والأصل البرائة .

السادس :

هل يشترط في تحصيل العلم

-------------------

في القسم الأوّل ، وذلك بأن منع الظالم من الاتيان بالحج ، ثم علم العبد بأن عليه اما الحج أو الصيام ( ففي الوجوب كما هو المشهور ) للباقي غير الممنوع وهو الصوم في المثال ( اشكالٌ ) .

وإنّما في وجوبه اشكال ، لانّه من جهة : كون بناء العقلاء على مراعاة الواجب مهما امكن ، وبناؤهم متبع في باب الطاعة والمعصية ، فيجب إذن الاتيان بالباقي غير الممنوع.

و لانه ( من ) جهة : ( عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ) لاحتمال كون الممنوع هو الواجب ، فيكون الباقي من مورد الشك في التكليف ( والأصل ) عند الشك فيالتكليف : ( البرائة ) فلا يجب عليه إذن الاتيان بالباقي غير الممنوع .

هذا اذا كان طروّ المانع في البعض المعيّن قبل حصول العلم الاجمالي ، واما اذا كان العلم الاجمالي حاصلاً قبل طروّ المانع ، فاللازم عليه : ان يأتي بالباقي غير الممنوع ، لانّ ترخيص الشارع في ترك الممنوع بعد العلم الاجمالي بوجوب واحد منها ، يدل على اكتفائه بالبدل .

التنبيه ( السادس ) : في بيان انه هل يكفي الامتثال الاجمالي عند العلم الاجمالي بالتكليف ، أو يشترط الامتثال التفصيلي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، أو القدرة على اختيار الامتثال التفصيلي .

و الى هذا المعنى اشار المصنِّف بقوله : ( هل يشترط في تحصيل العلم

ص: 214

الاجمالي بالبرائة بالجمع بين المشتبهين عدمُ التمكّن من الامتثال التفصيلي بازالة الشبهة أو اختياره ما يعلم به البرائة تفصيلاً ، أم يجوز الاكتفاء به وإن تمكّن من ذلك ، فلايجوز إن قدر على تحصيل العلم

-------------------

الاجمالي بالبرائة ) وذلك عن طريق الامتثال الاجمالي وهو : الاحتياط ( بالجمع بين المشتبهين ) هل يشترط فيه ( عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ) وذلك ( بازالة الشبهة ) غير تحصيل العلم او الظن المعتبر ؟ .

وعليه : فيحتاط حينئذٍ لانه لا طريق له الى العلم التفصيلي ، حتى يتمكن من الامتثال التفصيلي ؟ .

( أو ) يشترط فيه عدم التمكن من ( اختياره ) اي : عدم تمكنه من اختيار الامتثال التفصيلي ، وذلك بتحصيل ( ما يعلم به البرائة تفصيلاً ) بأن يطهّر احد الثوبين المشتبهين ، فيصلّي فيه ، أو يصلّي في ثوب ثالث طاهر .

وعليه : فيحتاط حينئدٍ لا من أجل انه لا طريق له الى الامتثال التفصيلي ، بل من أجل انه غير متمكن من اختيار الامتثال التفصيلي ، بسبب انه - مثلاً - لا ثوب ثالث له ، أو لا ماء له حتى يطهّر به أحد الثوبين المشتبهين .

( أم ) لا يشترط فيه شيء من ذلك ، بل ( يجوز الاكتفاء به ) اي : بالعلم الاجمالي بالبرائة ، فيحتاط حينئذٍ ( وان تمكّن من ذلك ) اي : من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر ، حتى يتمكن على آخره من الامتثال التفصيلي ؟ .

وعليه : فاذا قلنا بأنّ جواز الاحتياط مشروط بعدم التمكن من الامتثال التفصيلي ، وبعدم التمكن من اختيار الامتثال التفصيلي ( فلا يجوز ) له تحصيل العلم الاجمالي بالبرائة ( ان قدر على تحصيل العلم ) التفصيلي ، أو الظن المعتبر

ص: 215

بالقبلة أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والاتمام أو الظهر والجمعة الامتثالُ بالجمع بين المشتبهات ؟ وجهان ، بل قولان ، ظاهرُ الأكثر الأوّل ، لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الأمر .

-------------------

( بالقبلة ، أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والاتمام ، أو الظهر والجمعة ) بالاجتهاد ، أو بالرجوع الى المجتهد أو الى الرسالة العملية ، فيأتي بالامتثال التفصيلي .

إذن : فلا يجوز للمتمكن من الامتثال التفصيلي الاحتياط أي : ( الامتثالُ بالجمع بين المشتبهات ) .

هذا ولا يخفى : ان المسألة انّما هي بالنسبة الى التعبّديات كالصلاة والصيام ، والوضوء والغسل ، وما اشبه ذلك ، امّا التوصليات فلا يشك احد في كفاية الاحتياط والامتثال الاجمالي وان تمكن من العلم التفصيلي فيها .

وعليه : ففي المسألة ، ( وجهان : ) كما قال : ( بل قولان : ) فانّ بعضهم أجاز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي ، وبعضهم لم يكتف به الاّ في صورة تعذّر الامتثال التفصيلي .

هذا ولكن ( ظاهرُ الاكثر : الاوّل ) اي : اشتراط جواز الاحتياط بعدم التمكن من العلم التفصيلي ، فلا يكفي الامتثال الاجمالي الذي هو عبارة اخرى عن الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، بل ربّما ادعى الاجمال على عدم كفاية الاحتياط في العبادات فيما يتوقّف على التكرار مع التمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر .

وإنّما قال الاكثر بعدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن من التفصيلي ( لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الأمر ) فحيث يتمكن المكلّف

ص: 216

وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البرائة والاحتياط إن شاء اللّه .

ويتفرّع على ذلك انّه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات ، وعجز عنه من جهة أُخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من تلك الجهة فلا يجوز لِمَن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن وعجز عن تعيين القبلة تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين الى اربع جهات ، لتمكنه من العلم التفصيلي

-------------------

من قصد الوجه ، لا يجوز له أن يأتي بما لا يتمكن من قصد الوجه فيه ( وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البرائة والاحتياط إن شاء اللّه ) تعالى .

( ويتفرّع على ذلك ) أي : القول الأوّل : من لزوم الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ( انّه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات ، وعجز عنه من جهة أُخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من تلك الجهة ) .

مثلاً : اذا اشتبهت القبلة بين اربع جهات ، واشتبه الثوب الطاهر بين ثوبين ، وهو يتمكن من الثوب الطاهر ولا يتمكن من العلم بالقبلة ، وجب عليه على هذا القول ان يصلي بالثوب الطاهر أربع صلوات فقط ، لا أن يحتاط في الثوبين المشتبهين فيصلي اربع صلوات في هذا المشتبه واربع صلوات في المشتبه الآخر.

وعليه : ( فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن ) تفصيلاً ، وذلك اما بتطهير احد الثوبين المشتبهين والصلاة فيه ، وامّا بالصلاة في ثوب طاهر ثالث ( و ) إن ( عجز عن تعيين القبلة ) المشتبهة عنده في اربع جهات ، فانه لا يجوز له ( تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين الى أربع جهات ) .

وإنّما لا يجوز له تكرار الصلاة في الثوبين ( لتمكنه من العلم التفصيلي

ص: 217

بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وان لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الاطلاق .

السابع :

لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والاتمام أو بين الجهات الأربع ، فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات

-------------------

بالمأمور به من حيث طهارة الثوب ) فيجب عليه مراعاة هذا المقدار ( وان لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الاطلاق ) حتى من جهة القبلة .

هذا مع العلم بأنّ القائل بجواز الاحتياط مطلقا ، والقائل بجوازه مع عدم التمكن من العلم التفصيلي لا يفرّقان بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، وذلك لوحدة الملاك عند كل منهما في كلتا المسألتين .

التنبيه ( السابع ) : لوكان المعلوم بالاجمال امرين يترتب احدهما على الآخر شرعا ، كالظهر والعصر ، فاذا تردّد الأمر فيهما بين القصر والاتمام ، أو تردّد الأمر فيهما بين الجهات الاربع عند اشتباه القبلة - مثلاً - فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات العصر أن يكون بعد استيفاء جميع محتملات الظهر ، أو انّه لا يعتبر ذلك ، فيجوز له الاتيان بظهر ثم عصر الى اليمين ، ثم بظهر وعصر الى اليسار وهكذا ؟ وجهان ، بل قولان ، والى هذا المبحث اشار المصنِّف بقوله :

( لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والاتمام ، أو بين الجهات الأربع ) أو بين جهتين - مثلاً - كما إذا علم ان القبلة ذات اليمين أو ذات اليسار ( فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات

ص: 218

الواجب اللاحق الفراغُ اليقيني من الاوّل باتيان جميع محتملاته ، كما صرح به في الموجز، وشرحه والمسالك والروض والمقاصد العليّة ، أم يكفي فيه فعلُ بعض محتملات الاوّل ، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ،

-------------------

الواجب اللاحق ) كالعصر في المثال ( الفراغُ اليقيني من الاوّل ) ام لا ؟.

و من المعلوم : ان الفراغ اليقيني إنّمايحصل ( باتيان جميع محتملاته ) أي : محتملات الظهر ، فاللازم عليه ان يصلي أولاً الظهر قصرا وتماما ، ثم يأتي بالعصر كذلك في اشتباه القصر والتمام ، وأن يأتي أولاً بالظهر في الجهات الأربع ثم بالعصر كذلك في اشتباه القبلة ، وذلك ( كما صرح به في الموجز ، وشرحه ، والمسالك والروض والمقاصد العليّة ) وغيرها من كتب الاصحاب .

( أم يكفي فيه ) أي : في الدخول في محتملات الواجب اللاحق ( فعلُ بعض محتملات الاوّل ، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ) كما تقدَّم في مثالنا : من انّه يصلي الظهر والعصر معا الى جهة اليمين ،

ثم يصلي الظهر والعصر معا الى جهة الشمال ، وهكذا .

أمّا انه يصلي الظهر الى جهة اليمين والعصر الى جهة الشمال ، فانه لم يقل بجوازه أحد لانه حينئذٍ يعلم بفساد العصر على كل حال ، فانّ القبلة اذا كانت ذات اليمين فسد العصر ، لانّه كان الى خلاف القبلة ، واذا كان ذات الشمال فسد العصر أيضا ، لانّه لم يقع على الترتيب المقرّر في تقديم الظهر عليه ، لفرض فساد الظهر الذي صلاه الى ذات اليمين .

إذن : فالكلام ليس في هذا ، بل الكلام في كفاية ما مثلنا له من الاتيان بالظهرين

ص: 219

كما عن نهاية الاحكام والمدارك، فيأتي بظهر وعصر قصرا ، ثم بهما تماما قولان ، متفرّعان على القول المتقدّم في الأمر السادس ، من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الامكان ، مبنيّان على انّه هل يجب مراعاة ذلك من جهة نفس الواجب ؟ .

-------------------

معا ( كما عن نهاية الاحكام والمدارك ، فيأتي بظهر وعصر قصرا ، ثم بهما تماما ) وكذا بالنسبة الى الجهات الاربع في اشتباه القبلة .

وعليه : ففي المسئلة ( قولان ) وهذان القولان ( متفرّعان على القول المتقدّم في الأمر السادس : من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الامكان ) وعدم جواز الامتثال الاجمالي .

أما اذا قلنا بعدم وجوب مراعاته وكفاية الامتثال الاجمالي مع امكان التفصيلي ، فلا اشكال في انه يجوز الترتيب فيما نحن فيه، كما يجوز خلاف الترتيب، بمعنى : الاتيان بظهر وعصر الى جهة ، ثم الاتيان بظهر وعصر الى جهة ثانية ، وهكذا ، وذلك لانّه يحصل الامتثال الاجمالي بكلتا الصورتين : صورة التفريق ، وصورة الترتيب .

إذن : فالقولان مفرّعان على وجوب مراعاة العلم التفصيلي ، كما انهما ( مبنيّان على انّه هل يجب مراعاة ذلك ) اي : العلم التفصيلي ( من جهة نفس الواجب ؟ ) فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان تقليل محتملات الواجب بقلة التكرار مهما امكن مطلوب .

أو أنه يجب مراعاة ذلك لا من جهة نفس الواجب ، وإنّما من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة ، فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان العلم بخصوصيات الواجب مهما امكن حتى وان لم يلزم من العلم التفصيلي تقليل محتملات الواجب مطلوب .

ص: 220

فلا يجب إلاّ اذا أوجب إهماله تردّدا في اصل الواجب ، كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين على اربع جهات ، فانّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل من جهة إشتباه القبلة ، فكما يجب دفع التردّد مع الامكان كذلك يجب تقليله .

أمّا إذا لم يوجب إهماله تردّدا زائدا في الواجب ، فلا يجب ، كما في ما نحن فيه ، فانّ الاتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة

-------------------

فعلى القول بانّه يجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الواجب ، وذلك لتقليل محتملاته مهما امكن نقول : ( فلا يجب ) مراعاة العلم التفصيلي ( إلاّ اذا أوجب إهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ازدياد محتملات نفس الواجب وكثرة تكراره بأن اوجب ( تردّدا في اصل الواجب ) .

و امّا مثاله : فهو ما ذكره المصنِّف بقوله : ( كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين على اربع جهات ) حيث يستلزم ثمان صلوات ( فانّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل من جهة إشتباه القبلة ) لوضوح : انّ اشتباه القبلة يوجب تردّد الواجب بين أربع صلوات ، فاذا انضم الى تلك الأربع ، اشتباه الساتر في ثوبين ، أوجب تردّد الواجب بين ثمان صلوات .

وعليه : ( فكما يجب دفع التردّد ) في الامتثال رأسا ، وتحصيل الامتثال التفصيلي ( مع الامكان ) وذلك بأن يطهّر أحد ثوبيه المشتبهين حتى لا يكرّر الصلاة ( كذلك يجب تقليله ) أي : تقليل التردّد وقلة التكرار مهما امكن .

( أمّا إذا لم يوجب إهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ( تردّدا زائدا في الواجب ) وكثرة تكراره ( فلا يجب ) حينئذٍ مراعاته ( كما في ما نحن فيه ) من الظهرين ( فانّ الاتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة ) الى كل جهة جهة ،

ص: 221

لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والاتمام ، لانّ العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واحدة لشرطها ، وهو الترتّب على الظهر ، وإن كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعُها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ؛ لأنّ الترتّب انّما هو بين الواجبين واقعا .

-------------------

فيصلي ظهرا وعصرا الى اليمين ، وظهرا وعصرا الى الشمال ، و هكذا ( لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والاتمام ) لانّه بالنتيجة يأتي بالظهر اربع مرات ، وبالعصر اربع مرات بلا زيادة .

وعليه : فانّ الاشتباه بين القصر والاتمام قد أوجب تردّد الظهر وكذلك العصر بين محتملين ، بينما الاشتباه في الترتيب لا يوجب زيادة المحتملات حتى يجب رفعه ، فلا يجب إذن مراعاته فيه .

وانّما لايجب مراعاته فيه ( لانّ العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع ، كانت واحدة لشرطها ، وهو الترتّب على الظهر ) فاذا فرضنا إن القبلة في نقطةُ الجنوب - مثلاً - وصلّى صلاتين الى نقطة الجنوب ظهرا وعصرا ، فان العصر تقع صحيحة بعد الظهر الصحيحة .

هذا ( وان كانت مخالفة للواقع ) بأن كانت القبلة طرف الشمال - مثلاً - ( لم ينفع وقوعُها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ) فانّه سواء صلّى الظهر قصرا ام تماما ، أولاً أم وسطا أم أخيرا، فانّ الصلاة الى جهة الشمال باطلة ، فالعصر ايضا تقع باطلة .

وانّما لا ينفع وقوعها هنا مترتبة ( لأنّ الترتّب ) النافع في أداء التكليف ( انّما هو بين الواجبين واقعا ) كما مثلّنا له بصلاة الظهر والعصر الى طرف الجنوب ، لا بين الواجبين ظاهرا من باب وجوب المقدمة العلمية .

ص: 222

ومن ذلك يظهر عدمُ جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي .

وذلك لانّ المترتبَ على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب ، عدمُ جواز الاتيان بالعصر الواقعي ، وهو مسلّم ، ولذا لايجوز الاتيان حينئذٍ بجميع محتملات العصر .

-------------------

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه في كون الترتب المقرّر شرعا هو : الترتب بين الواجبين الواقعييّن ، لا بين الواجبين الظاهريّين من باب المقدمة ( يظهر : عدمُ جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي ) الذي هو الظهر في المثال ، فانه لا يصح التمسك به لا بطال صلاة العصر .

و بعبارة اخرى : ان الدخول في العصر قبل اتيان الظهر غير مشروع ، ومقتضى استصحاب عدم الاتيان بالظهر - لانّه لا يعلم هل ان الظهر الى هذه الجهة ، وقعت صحيحة أو غير صحيحة ؟ - هو : عدم الاتيان بالظهر ، وهذا الاستصحاب يقتضي أن لا يأتي بالعصر وذلك رعاية للترتيب بينهما .

و الجواب : ان الترتيب هنا من باب الوجوب المقدمي ، وليس واجبا واقعيا حتى يصح فيه التمسك بالاستصحاب ( وذلك ) كما قال :

( لانّ المترتب على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب : عدمُ جواز الاتيان بالعصر الواقعي ) فانّ العصر الواقعي لا يقع بعد الظهر الذي هو غير واقعي ( وهو ) أي : عدم جواز الاتيان بالعصر الواقعي قبل الاتيان بالظهر الواقعي ( مسلّم ) لا نزاع فيه ، فانّ أحدا لا يتوهم بانّه يجوز الاتيان بالعصر الواقعي عقيب الظهر غير الواقعي .

( ولذا لا يجوز الاتيان حينئذٍ ) اي : حين الاتيان بأحد محتملات الظهر ثم الاتيان ( بجميع محتملات العصر ) وذلك بأن يصلي الظهر مرة الى جهة واحدة ،

ص: 223

وهذا المحتمل غير معلوم أنّه العصر الواقعي ، والمصحّح لإتيان به هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر المشترك معه في الشك وجريان الأصلين فيه ، أو ان الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة ، وإن لم يوجب اهماله تردّدا في الواجب ،

-------------------

ثم يأتي بالعصر اربع مرات الى الجهات الاربع ، فانه لا يجوز قطعا .

( و ) لكن ( هذا المحتمل ) الواحد من العصر الذي صلاه الى جهة واحدة بعد أن صلّى الظهر اليها ( غير معلوم انّه العصر الواقعي ، و ) انّما هو عصر ظاهري ترتب على الظهر الظاهري ، لا انّه عصر واقعي ترتب على الظهر الظاهري حتى يقال باستصحاب عدم الاتيان بالظهر .

وعليه : فان ( المصحّح للأتيان به ) اي : بهذا العصر الظاهري ( هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر ) من احتمال كون هذه الجهة جهة القبلة ( المشترك ) ذلك المحتمل الظهرية ( معه ) اي : مع المحتمل العصرية ( في الشك ) في انّه هل هو الى جهة القبلة أم لا ؟ ( و ) كذا المشترك معه أيضا من حيث ( وجريان الأصلين فيه ) اي : أصالة بقاء الاشتغال ، وأصالة عدم فعل الواجب الواقعي .

هذا تمام الكلام في الشق الأوّل من قول المصنِّف : « قولان ... مبنيان » واما الكلام في شقه الثاني فهو ما اشار اليه المصنِّف بقوله :

( أو ان الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة ) فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان المطلوب هو : العلم بخصوصيّات الواجب مهما أمكن ، حتى ( وان لم يوجب اهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ازدياد محتملات نفس الواجب وكثرة تكراره ، بان لم يوجب ( تردّدا في الواجب ) .

ص: 224

فيجب على المكلّف العلم التفصيليُّ عند الاتيان بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي .

فاذا تعذّر ذلك من بعض الجهات لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكّنة .

فالواحب على العاجز عن تعيّن كون الصلاة قصرا أو اتماما العلم التفصيليُّ ، بكون المأتي به مترتّبا على الظهر ،

-------------------

وعليه : فان المكلّف فيما نحن فيه ، سواء اتى بالظهر والعصر معا الى كل جهةُ من الجهات الاربع ، ام اتى بالظهر الى اربع جهات ، ثم اتى بالعصر كذلك ، فانه بعد كل من هاتين الصورتين ، يعلم بأنه اتى بالعصر الواقعي بعد ظهر واقعي ، إلاّ ان في الصورة الاولى كان مراعاة العلم التفصيلي فيها من جهة نفس الواجب بايقاعه الى القبلة ، وفي الصورة الثانية كان مراعاته من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة بايقاعها مترتبة ايضا .

إذن : فعلى القول بوجوب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة ، يجب الاتيان بالصلاة - كما في المثال - على الصورة الثانية ، ولا يكفي اتيانها على الصورة الاولى .

ولذلك قال : ( فيجب على المكلّف : العلم التفصيليّ عند الاتيان ، بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي ) بلاتردد في خصوصياته ( فاذا تعذّر ذلك ) أي: تعذّر العلم التفصيلي ( من بعض الجهات ) كجهة القبلة ( لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكّنة ) كجهة الترتيب بين الظهرين ، فانه يمكن رفع الترديد منها باتيان الظهر أولاً الى اربع جهات ، ثم الاتيان بالعصر كذلك .

إذن : ( فالواحب على العاجز عن تعيّن كون الصلاة قصرا أو اتماما : العلم التفصيليّ بكون المأتي به مترتّبا على الظهر ) وذلك بأن يأتي باحتمالي الظهر

ص: 225

ولا يكفي العلم بترتبه على تقدير صحته .

هذا كله مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعةً واحدةً في الوقت المشترك.

أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال بعدم الجواز نظرا الى الشك في تحقّق الأمر بالعصر، فكيف يُقدّم على محتملاتها التي لا تجب الاّ مقدمة لها ،

-------------------

تماما وقصرا ، ثم باحتمالي العصر تماما وقصرا ( ولا يكفي العلم بترتبه ) اي : العصر لا علما تفصيليا ، بل احتمالاً ( على تقدير صحته ) كما اذا اتى بظهر تمام وعصر تمام ، ثم بظهر قصر وعصر قصر ، فانه حينئذٍ لا يقطع بالترتيب بينهما .

( هذا كله مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعةً واحدةً ) كما ( في الوقت المشترك ) بين الظهر والعصر ، بأن لم تكن الصلاتان في أول الوقت ولا في آخر الوقت ، ففيه كان الكلام: من وجوب مراعاة الواجب وخصوصياته او عدم وجوبه.

( أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط ) كما ( في الوقت المختصّ ، ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال بعدم الجواز ) اي : عدم جواز الدخول في محتمل العصر اطلاقا .

وإنّما يقال بعدم الجواز ( نظرا الى الشك في تحقّق الأمر بالعصر ، فكيف يُقدّم على محتملاتها التي لا تجب ) تلك المحتملات ( الاّ مقدمة لها ؟ ) اي : للعصر الواقعي ، فانّ العصر انّما يتحقق الأمر بها بعد دخول وقتها ، ولا يدخل وقتها الاّ بعد امكان الاتيان بالظهر بجميع مقدمات الظهر ، كالطهارة ، وتحصيل القبلة ، وما أشبه ذلك ، ومن تلك المقدمات : المقدمات العقلية أعني : الاحتياط باتيان جميع المشتبهات .

وعليه : فاذا لم يفرغ من الظهر بكل مقدماتها : من القصر والاتمام عند الشك فيهما ، او التكرار الى جهات أربع عند الاشتباه في القبلة ، أو غير ذلك ،

ص: 226

بل الأصل عدم الأمر ، فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل .

ويمكن أن يقال : إنّ أصالة عدم الأمر إنّما يقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعا ، كما اذا صلّى العصر الى غير الجهة التي صلّى الظهر ، وأمّا ما لا يحتمله الاّ على تقدير وجود الأمر ، فلا يقتضي الأصل المنع عنه ، كما لا يخفى .

-------------------

لم يدخل وقت العصر ، فاذا أتى بالعصر حينئذٍ وقعت باطلة ، لانّها في الوقت المختص بالظهر وليس في الوقت المشترك .

( بل ) حتى اذا شككنا في انّ وقت العصر دخل أو لم يدخل ، كان ( الأصل عدم الأمر ) بالعصر ( فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل ) اي : في مقدمات صلاة العصر بأن يأتي بأحد العصرين بعد احد الظهرين .

ثم ان المصنِّف بعد أن انتهى من قوله : فيمكن ان يقال ، شرع في الردّ عليه بقوله : ( ويمكن أن يقال : ) بانّه إذا صلّى الظهر تماما - مثلاً - وكان في الواقع صحيحا لان تكليفه كان هو التمام ، فقد دخل وقت العصر لانّه فرغ من الظهر ، فاذا صلّى_'feالعصر تماما كان في وقته ، فلا يكون العصر باطلاً وذلك كما قال :

( انّ أصالة عدم الأمر ) بالعصر ( انّما يقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله : على تقدير عدم الأمر واقعا ) فاذا لم يكن امر واقعا لم يصح الدخول لا في العصر ولا في محتملاته من باب العلم الاجمالي والمقدمة العلمية ( كما اذا صلّى العصر الى غير الجهة التي صلى الظهر ) اليها .

( وأمّا ما لا يحتمله الاّ على تقدير وجود الأمر ) كما إذا صلّى العصر للجهة التي صلّى الظهر اليها ( فلا يقتضي الأصل المنع عنه ) حتى يكون العصر باطلاً ( كما لايخفى ) .

ص: 227

الثاني :

-------------------

وعلى هذا : فيجوز أن يأتي بالعصر بعد الظهر في أول الوقت حتى ولو كان الواجب عليه تكرار الصلاة ، كما في صورة اشتباه القبلة ، فيأتي بالظهرين الى كل جهة جهة ، وكما في صورة اشتباه التكليف بين القصر والتمام ، فيأتي بالعصر تماما بعد الظهر تماما ، وبالعصر قصرا بعد الظهر قصرا في أول الوقت ، وهكذا .

إذن : فلا فرق على هذا ، بين الوقت المختص والوقت المشترك .

المقام ( الثاني ) : من بحث الشبهة الوجوبية في الشك بين الاقل والأكثر ، ولايخفى انّ الأقل والأكثر على قسمين :

الأوّل : الأقل والأكثر الاستقلاليين .

الثاني : الأقل والأكثر الارتباطيين .

والفرق بينهما : ان الاقل والاكثر الاستقلاليين هو : ما لم يكن امتثال بعضه مرتبطا بامتثال البعض الآخر ، كالشك في انّه هل فاته صوم خمسة أيام من شهر رمضان أو اربعة ؟ أو هل فاتته خمس صلوات أو أربع صلوات ؟ وكالشك في انّه هل هو مديون لزيد اربعة دنانير أو خمسة دنانير ؟ أو هل انّه مديون لكل بقّالي البلد او لعدد معيّن منهم فقط - مثلاً - ؟ .

وعلى هذا : فينحل الواجب في الاقل والاكثر الاستقلاليين الى واجبات متعددة غير مرتبطة بعضها ببعض ، فاذا أتى - مثلاً - ببعض وأخلّ ببعض ، فقد امتثل بالنسبة الى ما أتى به وان عصى بالنسبة الى ما أخلّ به .

أمّا الأقل والأكثر الارتباطيين : فهو ما كان امتثال بعضه مرتبطا بامتثال البعض الآخر ، وذلك بأن كان المطلوب فيه هو المجموع من حيث المجموع بحيث إذا أتى بالجميع دون جزء واحد أو شرط واحد لم يمتثل أصلاً ، من غير فرق بين

ص: 228

فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والأكثر ، ومرجعه الى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها ،

-------------------

ان يكون أبعاضه أُمورا وجودية : كالتكبير والركوع والسجود وما أشبه ذلك بالنسبة الى الصلاة .

أو يكون أبعاضه أمورا عدمية : كالكف عن الأكل والشرب وما أشبه ذلك بالنسبة الى الصيام .

أو يكون أبعاضه مركبا من امور وجودية وعدمية معا كالنية ولبس الثوب والتلبية ، فانها امور وجودية ، كالكف عن الصيد والطِيب و النساء فانّها امور عدمية بالنسبة الى الاحرام - مثلاً - .

و بذلك ظهر : انّ الأقل والاكثر الارتباطيين يجري في الوجودي وفي العدمي وفي المركب منهما ، كما ان الاستقلاليين أيضا كذلك ، فقد يكون بعض المحرمات غير مرتبط بعضها ببعض كالزّنا وشرب الخمر والغيبة ، وقد يكون بعضها مرتبط ببعض ، كما في النهي عن الغناء إذا دار أمره بنحو الشبهة الحكمية بين كونه هو الصوت المطرب مع الترجيع ، أو بلا ترجيع ، أو بلا طرب .

ثم ان الواجب الارتباطي يكون الأقل فيه معلوم الوجوب والأكثر مشكوك الوجوب ، أما الحرام الارتباطي فيكون الاكثر فيه معلوم الحرمة والأقل غير معلوم الحرمة .

هذا ، لكن المصنِّف لم يتعرّض لحال الحرام الارتباطي ، كما لم يتعرّض لحال بقية اقسام الأقل والأكثر ، وانّما اقتصر ( فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والاكثر ) الارتباطيين فقال : ( ومرجعه الى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها ) اي : عدم جزئيّته له يعني : انّ الجزء المشكوك هل هو جزء أو ليس بجزء ؟ .

ص: 229

وهو على قسمين : لأنّ الجزء المشكوك إمّا جزء خارجي ، أو جزء ذهنيّ وهو القيد ، وهو على قسمين : لأنّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجيّ مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبارُ ذلك القيد الى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة ، المقيّد بها الصلاة ،

-------------------

( وهو ) اي الجزء المشكوك ( على قسمين : ) كالتالي : -

أولاً : ( لانّ الجزء المشكوك إمّا جزء خارجي ) كجلسة الاستراحة والاستعاذة فيأوّل الصلاة .

ثانيا : ( أو جزء ذهنيّ وهو القيد ) ثم ان القيد قد يكون قيدا وجوديا كتقيّد الصلاة بالطهارة ، وتقيّد الرقبة بالايمان ، وهذا يسمّى شرطا ، وقد يكون قيدا عدميا : كتقيّد الصلاة بعدم غصبية المكان ، وعدم نجاسة الساتر ، وهذا يسمّى مانعا ، أو كتقيّد الصلاة بعدم الضحك ، وعدم البكاء ، وهذا يسمّى قاطعا .

(وهو) اي : القيد كما عرفت يكون (على قسمين) ايضا ، وذلك (لأنّ القيد) كما قال :

أولاً : ( امّا منتزع من أمر خارجيّ مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ) مثل : انتزاع الطهارة من الوضوء ، فالصلاة مقيّدة بالطهارة ، والطهارة منتزعة من الوضوء الذي هو أمر خارجي مغاير للصلاة ( فمرجع اعتبارُ ذلك القيد ) يكون ( الى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ) من قبل الشارع ( كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة ، المقيّد بها ) اي : بتلك الطهارة ( الصلاة ) ولذا ورد : « اذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (1) .

ص: 230


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 وفيهم وجب الطهور والصلاة .

وإمّا خصوصيّةٌ متحدة في الوجود مع المأمور به ، كما اذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة ، أو رقبة خاصة ، ومن ذلك دوران الامر بين إحدى الخصال وبين واحدة معيّنة منها .

والكلام في كلّ من القسمين في أربع مسائل :

-------------------

ثانيا : ( وامّا خصوصيّةٌ ) وكيفية ( متحدة في الوجود مع المأمور به ) وذلك كالصلاة الى القبلة ، أو الصلاة في الثوب المباح ، أو ( كما اذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة ، أو رقبة خاصة ) كالرقبة المؤمنة في كفارة الصيام - مثلاً - .

و من المعلوم : انّ الصلاة باتجاه القبلة ، والصلاة بالثوب الطاهر ، والرقبة المؤمنة ، هذه القيود كلّها كيفيّات متحدة في الوجود الخارجي مع المأمور به ، وليست مغايرة له .

( ومن ذلك ) اي : من القيد المتحد مع المأمور به : ( دوران الامر بين إحدى الخصال ، وبين واحدة معيّنة منها ) كما إذا شككنا في ان كفارة الصوم - مثلاً - هل هي مقيّدة بخصوص العتق ، أو انّها مخيّرة بين الثلاث : العتق والصيام والاطعام ؟ فيكون الشك فيها من الشك في القيد بمعنى : هل ان للعتق خصوصية في الكفارة ام لا ؟ .

و منه يظهر : ان الدوران بين التعيين والتخيير في كلامهم يرجع الى الشك الجزء الذهني المتحد مع المأمور به في الوجود الخارجي .

هذا ( والكلام في كلّ من القسمين ) المذكورين للجزء وفيما يتفرع على الثاني من قسمين أيضا حيث يكون المجموع بعد اسقاط المقسم ثلاثة اقسام ، فالكلام يقع في كل منها( في اربع مسائل ) وهي ما يشك فيه من جهة : عدم النص ،

ص: 231

أمّا مسائل القسم الاوّل: وهو الشك في الجزء الخارجيّ

فالاُولى منها :

أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة فيكون ناشئا من ذهاب جماعة الى جزئية الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل القرائة في الركعة الاُولى مثلاً ، على ما ذهب اليه بعض فقهائنا .

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه ، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد والشيخ ،

-------------------

أو اجمال النص ، أو تعارض النصين ، أو اشتباه الموضوع الخارجي ، فالمسائل إذن اثنتا عشرة مسئلة .

( أمّا مسائل القسم الاوّل : وهو الشك في الجزء الخارجيّ ) فكما قال :

( فالاُولى منها: ان يكون ذلك ) اي: الشك ( مع عدم النصّ المعتبر في المسألة ، فيكون ) الشك ( ناشئا من ذهاب جماعة الى جزئية الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل القرائة في الركعة الاُولى مثلاً ، على ما ذهب اليه بعض فقهائنا ) فانّ بعضهم أوجب الاستعاذة قبل القرائة ، وبعضهم لم يوجبها قبل القرائة ، وحيث ان النص مفقود في هذا المجال ، فنشك هل انّ الاستعاذة واجبة أو ليست بواجبة ؟ .

هذا من جهة منشاء الشك ( و ) أمّا من حيث الحكم : فانه ( قد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ) اي : فيما كان الشك في جزئيته من جهة عدم النص ( فصرّح بعض متأخّري المتأخرين بوجوبه ) بل ( وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد والشيخ ) : انّه واجب .

ص: 232

لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأُخَر خلافه ، وصريح جماعة إجراء أصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور بين العامّة والخاصّة المتقدّمين منهم والمتاخّرين ، كما يظهر من تتبّع كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخّر عنهم .

بل الانصاف : أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم

-------------------

( لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ) أي : للسيد والشيخ ، لاحتمال انّهما استطرادا ذكرا الاحتياط لتأييد الدليل لمن قال بالوجوب ( بل ظاهر كلماتهم الأُخر : خلافه ) وانّه ليس بواجب ، ولذا احتملنا انّه ليس مذهبا لهما .

هذا ( وصريح جماعة ) آخرين : ( إجراء أصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ) فلا يجب الاتيان بالاستعاذة - مثلاً - في الصلاة .

( والظاهر : انّه ) اي : عدم الوجوب هو ( المشهور بين العامّة والخاصّة ، المتقدّمين منهم والمتأخرين ، كما يظهر ) ذلك ( من تتبع كتب القوم ، كالخلاف ) للشيخ الطوسي ( والسرائر ) لابن ادريس الحلي ( وكتب الفاضلين ) المحقق والعلامة ( والشهيدين ) : الأوّل والثاني ( والمحقق الثاني ) صاحب جامع المقاصد ( ومن تأخّر عنهم ) من العلماء .

( بل الانصاف : انّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري ) الذي كان قبل اربعمائة عام تقريبا ، لم أعثر فيهم ( على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ) المشكوك فيها ( وان كان فيهم ) اي : في العلماء

ص: 233

من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيّد والشيخ بل الشهيدين ، وكيف كان فالمختار جريان أصل البرائة .

لنا على ذلك حكمُ العقل وما ورد من النقل .

أمّا العقل :

فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء ، ويشك في أنّه هو هذا أو له جزء آخر ، وهو الشيء الفلاني ثم بذل جهده في طلب الدّليل على جزئية ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى

-------------------

المتقدّمين ( من يختلف كلامه في ذلك ) ويتردّد في الوجوب وعدمه ( كالسيّد ) المرتضى ( والشيخ ) الطوسي ( بل الشهيدين ) ايضا .

( وكيف كان : فالمختار : جريان أصل البرائة ) فيما اذا شككنا في جزئية شيء للمأمور به من جهة عدم النص ، كما في الاستعاذة - مثلاً - .

( لنا على ذلك ) اي : دليلنا على جريان البرائة في الجزء المشكوك من الواجب الذي يدور امره بين الأقل والاكثر الارتباطيين : ( حكمُ العقل ، وما ورد من النقل ) فانّهما يدلان على البرائة .

( امّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء ، ويشك في انّه هو هذا ) أي : المركب التام ( أو له جزء آخر ، وهو الشيء الفلاني ) كما مثّلنا له بالاستعاذة قبل البسملة بالنسبة الى الصلاة .

( ثم ) ان هذا المكلّف الشاك في أجزاء المركب ( بذل جهده ) بالمقدار المطلوب ، لانّ للفحص مقدارا عقلائيا ، فاجتهد ( في طلب الدّليل على جزئية ذلك الأمر ) المشكوك ( فلم يقتدر ) أي : لم يعثر على ما يدل على جزئيته ( فأتى

ص: 234

بما علم وترك المشكوك ، خصوصا مع اعتراف المولى بانّي مانصبت لك عليه دلالة ، فانّ القائل بوجوب الاحتياط لاينبغي ان يفرّق في وجوبه بين ان يكون الآمِرُ لم ينصب دليلاً أو نصب واختفى ،

-------------------

بما علم وترك المشكوك ) وكان ذلك المشكوك في الواقع جزءا لكنّه لم يصل اليه ، فانه يقبح مؤاخذته به سواء نصب له المولى دليلاً ولم يصل اليه ، أم لم ينصب له المولى دليلاً أصلاً .

هذا ( خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي مانصبت لك عليه دلالة ، فانّ ) قبح مؤاخذته على ترك هذا الجزء في هذه الصورة أوضح من صورة النصب والاختفاء .

وعليه : فتكون الصورتان مجرى للبرائة ، وذلك لانّ المعيار في تنجز التكليف هو الوصول الى العبد ، وفي كلتا الصورتين لم يصل الى العبد ، ولو أراده المولى منه لقال له : يجب عليك الاحتياط في كل جزء شككت في جزئيّته وان لم يصل اليك جزئيته ، لكن المولى لم يفعل ذلك إيضا ، فتثبت البرائة في كلتا الصورتين .

كما ان ( القائل بوجوب الاحتياط ، لا ينبغي ان يفرّق في وجوبه ) اي : وجوب الاحتياط في كلتا الصورتين أيضا اي : ( بين ان يكون الآمِرُ لم ينصب دليلاً ، أو نصب واختفى ) وذلك للعلم الاجمالي منّا بأن عدم وجود الدليل على الجزئية إمّا للاختفاء ، أو لعدم النصب ، والعلم الاجمالي هذا يقتضي الاحتياط في كلتا الصورتين .

ان قلت : سلّمنا قبح المؤاخذة على تقدير عدم النصب ، لكنّا لا نسلمه على تقدير النصب والاختفاء عنا ، فيلزم التفصيل بين الصورتين ، يعني : القول بوجوب الاحتياط في صورة النصب والاختفاء ، وجريان البرائة في صورة عدم النصب .

ص: 235

غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمِر قبيح ، وهذا لايرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف .

فان قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطباء أو الموالي ،

-------------------

إذن : فلا يلزم من القول بالبرائة في احدى الصورتين ، القول بها في الصورة الاخرى ، كما لا يلزم من القول بالاحتياط في احدى الصورتين ، القول به في الصورة الاخرى .

قلت : التفصيل بين الصورتين غير تام ، لانّ مرجع الشك في كلتا الصورتين الى فقد الدليل على الجزئية واذا كان كذلك لزم ان تكون الصورتان متساويتين من حيث الحكم ، يعني : القول بالبرائة ، أو القول بالاحتياط .

نعم ( غاية الأمر ) انّه يرد على القول بالاحتياط في صورة عدم نصب الدليل : ( انّ ترك النصب من الآمِر قبيح ، و ) لكن بعد ما عرفت : من منجّزية التكليف بسبب العلم الاجمالي بكون فقد الدليل على الجزئية إمّا للاختفاء ، أو لعدم النصب ، وهو يقتضي الاحتياط ، فانّ ( هذا ) القبح لترك النصب على ما مرّ ( لايرفع التكليف بالاحتياط ) في هذه الصورة ( عن المكلّف ) .

هذا من جهة تساوي الصورتين بالنسبة الى القول بالاحتياط .

وأمّا تساويهما من جهة القول بالبرائة ، وهو الذي نقول به : فلأن العقل حاكم بقبح التكليف فيما إذا لم يصل الى المكلّف دليل على جزئية الجزء المشكوك - مثلاً - ، سواء كان عدم الوصول لعدم النصب ، أم للاختفاء ؟ .

( فان قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط ) عند الشك في الجزء ، بل وكذلك عند الشك في الشرط ( في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطباء أو الموالي )

ص: 236

فانّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون ، فشك في جزئية شيء له مع العلم بانّه غير ضارّ له فتركه المريض مع قدرته عليه استحق اللومَ ، وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك .

قلت : أمّا أوامر الطبيب فهي ارشادية ، ليس المطلوبُ فيها إلاّ احراز الخاصيّة المترتبة على ذلك المأمور به ، ولا يتكلم فيها

-------------------

الى المرضى أو العبيد ( فانّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون ، فشك في جزئية شيء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له ) فليس له أن يتركه .

وإنّما قلنا مع العلم بأنه لا يضره ، لانّ المفروض : عدم اضرار الجزء المشكوك بالمأمور به ، فالاستعاذة - مثلاً - لا تضر بالصلاة قطعا ، فاذا كان كذلك ( فتركه المريض مع قدرته عليه ، استحق اللوم ) اذا كان ذلك الذي تركه جزءا أو شرطا في الواقع يسبّب - مثلاً - عدم علاجه ، أو زيادة مرضه ، أو تلف عضوه ، أو موته .

( وكذا المولى اذا أمر عبده بذلك ) التركيب ، فشك العبد لكنّه لم يأت بذلك الجزء المشكوك ، فانّ الناس يذمّونه مع احتماله الجزئية .

وعليه : فاذا كان المتعارف من أوامر الطبيب وأوامر المولى هو هذا ، فالمتبع في أحكام الشرع هو ذلك أيضا ، لانّ طريقة الاطاعة الشرعية هي طريقة الاطاعة العرفية ، فيجب عند الشك في جزئية شيء الاتيان بذلك الجزء المشكوك .

ان قلت ذلك ( قلت : أمّا أوامر الطبيب ، فهي ارشادية ليس المطلوبُ فيها إلاّ احراز الخاصّية ) كإسهال الصفراء - مثلاً - على ما يأتي من مثال الشيخ له ، أو سائر الأدوية الموجبة لمعالجة الأمراض المختلفة ( المترتبة ) تلك الخاصية ( على ذلك المأمور به ) من الدواء المركب ( ولا يتكلم فيها ) اي : في أوامر

ص: 237

من حيث الاطاعة والمعصية ، ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبريّة غير طلبيّة

-------------------

الطبيب ( من حيث الاطاعة والمعصية ) كما يتكلم في أوامر المولى .

إذن : بين أوامر المولى الحقيقي وبين أوامر الأطباء فرق وهو : ان البحث في البرائة والاحتياط عند الشك في الجزء أو في الشرط ، انّما يكون في الأمر المولوي الذي قصد به إطاعة المولى باتيان المأمور به ، فانّ امتثال هذا الأمر طاعة وتركه معصية ، فيكون الكلام في ان هذا الجزء المشكوك هل يصح العقاب على تركه أم لا يصح ؟ .

بينما الأمر الارشادي الذي هو صادر عن الطبيب ، لا يقصد به طاعة لأحد بل يقصد به الوصول الى نتيجة ذلك المركّب المأمور به وهي صحة المريض ، وهذا خارج عن محل بحثنا ، اذ ليس امتثال الطبيب طاعة وتركه معصية حتى يبحث في أن الجزء المشكوك فيه يصح العقاب على تركه أم لا يصح .

وعليه : فالكلام في المولويّة هو : انّه هل العقلاء يوجبون الاتيان بالجزء المشكوك ام لا ؟ .

والكلام في الارشادية هو : انّه لو اُريد حصول غرض خاص من الأمر بمركب ، فهل العقلاء يحكمون بلزوم الاتيان بالجزء المشكوك جزئيته لذلك المركب أم لا ؟ .

وعليه : ففي الارشاديّة يرى العقل والعقلاء : لزوم الاحتياط والاتيان بالجزء المشكوك ، لانّ الغرض مترتب على الكامل إحتمالاً بينما هذا الكلام لا يأتي في المولوية ، فلا يقاس المولوية بالارشادية في وجوب الاتيان بالجزء المشكوك .

( ولذا ) اي : لانّ المقصود في الأوامر الارشادية هو : احراز خاصيّة مترتبة على المركب ، لا الطاعة للمولى فانه ( لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبرية غير طلبيّة )

ص: 238

كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب .

والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

وأمّا أوامرُ المولى الصادرة بقصد الاطاعة ، فيلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء ، فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ،

-------------------

كما لو قال الطبيب : هذا المركب مسهل للصفراء أو نجد مثل هذه العبارة في كتاب ابن سينا ( كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها ، وان لم يترتّب على مخالفته ) أي : مخالفة الخبر ( وموافقته ثواب أو عقاب ) .

وعليه : فاذا عدّد ابن سينا في كتابه القانون - مثلاً - : خمسة أجزاء لمسهل الصفراء ، وكان بعده اضطراب في الخط مما يورث الشك بوجود جزء سادس غير ضار اضافته الى الخمسة الأخر ، فان العقل يحكم هنا بوجوب ضمّه الى المركب لمن أراد معالجة الصفراء .

هذا ( و ) الحال انّ ( الكلام في المسألة ) اي : مسألة ما نحن فيه : من الشك في الجزء لفقد النص ليس من هذا البحث ، بل ( من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة ) الجزء ( المجهول وعدمه ) أي : عدم العقاب ، ومن المعلوم : انّ العقاب وعدمه مختصٌ بالأوامر المولوية لا الأوامر الارشادية .

إذن : فقياس المستشكل ما نحن فيه : من الأوامر المولوية بالأوامر الارشادية غير تام.

ولهذا قال المصنِّف : ( وأمّا أوامر المولى الصادرة بقصد الاطاعة ، فيلتزم فيها بقبح المؤاخذة ) على ترك ذلك الجزء ( إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء ، فاطّلع عليه ) اي : على ذلك العجز ( المولى وقدر على رفع جهله ) اي : جهل

ص: 239

ولو على بعض الوجوه غير المتعارفة ، إلاّ انّه اكتفى بالبيان المتعارف ، فاختفى على العبد لبعض العوارض .

نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله اذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو

-------------------

العبد ( ولو على بعض الوجوه غير المتعارفة ) كأن يلقي في قلبه القاءا ، أو ما أشبه ذلك ( الاّ انّه اكتفى بالبيان المتعارف ، فاختفى على العبد لبعض العوارض ) كالنسيان - مثلاً - ففي هذه الصورة نلتزم بقبح المؤاخذة على تركه .

( نعم ) إذا كان الشيء المأمور به من قبل المولى من قبيل : العنوان والمحصّل ، وكان الشك في أجزاء المحصّل لذلك العنوان ، وجب الاحتياط بالاتيان بذلك الجزء المشكوك .

وإنّما يجب الاحتياط لو كان الشك في المحصل ، لانه يكون حينئذٍ من قبيل الشك في المكلّف به لا من قبيل الشك في أصل التكليف ، وذلك كما إذا علمنا : بأنّ مراد المولى من الصلاة : انارة النفس واحتملنا انّ الانارة لا تحصل الاّ بعشرة أجزاء بما فيها الجزء المشكوك كالاستعاذة في المثال ، فانّه يلزم علينا الاتيان بالاستعاذة ، لانّه حينئذٍ يكون من قبيل جزء الدواء المشكوك في أوامر الطبيب .

وعليه : فانه ( قد يأمر المولى ) أمرا كأمر الطبيب ( بمركّب يعلم انّ المقصود منه ) هو الارشاد الى ( تحصيل عنوان ) اي : خاصيّة وغرض ( يشك في حصوله ) أي : حصول ذلك العنوان ( اذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ) فهنا يلزم الاتيان به حتى يحصل له العلم باتيان المأمور به .

( كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه : إسهال الصفراء بحيث كان هو )

ص: 240

المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فانّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء فيالمسألة الرابعة .

فان قلت :

-------------------

اي : اسهال الصفراء ( المأمور به في الحقيقة ) بمعنى : انّه لم يكن الأمر حقيقة بهذه الأجزاء التي هي السبب ، وإنّما الأمر بالمسبّب وهو : تحصيل اسهال الصفراء.

( أو علم انّه ) اي : اسهال الصفراء هو الغاية و ( الغرض من المأمور به ) اي : من تركيب المعجون .

وعليه : فان اعلم بأن أحد الامرين هو مراد المولى من المأمور به ( فانّ تحصيل العلم ) حينئذٍ بتحقيق مقصود المولى وحصول غرضه الذي لايعلم الاّ ( بإتيان المأمور به ) في الحقيقة وهو اسهال الصفراء ( لازم كما سيجيء فيالمسألة الرابعة ) انشاء اللّه تعالى .

و على هذا : فاذا كان الشك في الجزء من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، لم يجب الاتيان بالجزء المشكوك ، وإذا كان من قبيل العنوان والمحصل فانّه يجب الاتيان به .

( فان قلت ) : كل الأوامر الشرعية من قبيل العنوان والمحصل ، اذ الشارع أمر بالعناوين مثل : عنوان الصلاة ، وعنوان الوضوء ، و عنوان الحج ، وما أشبه ، ولا نعلم حصول ذلك العنوان بدون الجزء المشكوك ، فيجب الاتيان بالمشكوك في كل الأوامر الشرعية .

أو قل : إنّ كل الأوامر الشرعية من قبيل ما يقصد به حصول غرض خاص ، كالنهي عن المنكر في الصلاة حيث قال سبحانه : «إنَّ الصَّلاَةَ تَنهَى عَن الفَحشَاءِ

ص: 241

إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لإبتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض .

وبتقرير آخر : المشهور بين العدلية

-------------------

وَالمُنكَر » (1) وكالتقوى في الصوم حيث قال سبحانه : «كُتِبَ عَلَيكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعلّكُم تَتَّقُونَ » (2) ولا نعلم حصول ذلك الغرض بدون اتيان بالجزء المشكوك ، فاللازم اجزاء الاحتياط في الجزء المشكوك لا البرائة .

والحاصل : انّ الاصل في الأوامر الشرعية كونها من قبيل العنوان والمحصل ومن قبيل ما يراد به غرض خاص ، وهو مجرى الاحتياط ، لا مجرى البرائة كما في باب الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك ( إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل ) الذي ذكرناه .

وإنّما تكون الأوامر الشرعية من ذلك ( لإبتنائها ) اي : الأوامر الشرعية ( على مصالح ) دنيوية وأخروية ( في المأمور به ) وتلك المصالح لا تتأتى الاّ باتيان جميع الأجزاء .

وعليه : ( فالمصلحة فيها ) اي : في الأوامر الشرعية على أحد وجوهين :

( إمّا من قبيل العنوان في المأمور به ) بأن يكون المأمور به في الحقيقة هو العنوان ، والأجزاء محصلة لذلك العنوان .

( أو من قبيل الغرض ) بأن يكون مراد المولى : العلة الغائية لهذه الاجزاء .

( وبتقرير آخر ) لهذا الاشكال ( المشهور بين العدلية ) من الشيعة والمعتزلة

ص: 242


1- - سورة العنكبوت : الآية 45 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .

أنّ الواجبات الشرعية إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ، فاللّطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرضٌ للآمِر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف ، ولا يحصل إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته .

قلت : أوّلاً : مسألة البرائة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف

-------------------

هو : ( انّ الواجبات الشرعية انّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ) وقوله : في الواجبات العقلية يعني بالنسبة الى الواجبات العقلية ، فانّ العقل يُلزم الانسان بالاتيان بما فيه صلاح دنياه وآخرته ، وحيث انّ العقل لا يصل بنفسه الى تلك المصالح ، فالشرع تلطّف على الانسان ببيان الأشياء التي توجب الوصول الى تلك المصالح .

إذن : ( فاللّطف ) اي : تحصيل الواجب الشرعيالمنطبق على الواجب العقلي ( إمّا هو المأمور به حقيقة ) كعنوان الصلاة ، لا الاجزاء الخارجية من التكبير الى التسليم ، وانّما الاجزاء الخارجية طريق لتحصيل العنوان الذي هو واجب عقلي وقد كشف عنه الشارع .

( أو غرضٌ للآمِر ) كالانارة الحاصلة من الصلاة ، فانها هي الغاية من الامر بهذه الاجزاء والشرائط المحققة لهذا المركب وهو الصلاة.

وعلى أي حال : ( فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف ، و ) العلم به ( لا يحصل الاّ بإتيان كل ّ ما شك في مدخليّته ) للمأمور به جزءا كان أو شرطا ، فيلزم الاتيان بالأكثر بمعنى : الاتيان بكل الاجزاء والشرائط متيقنها ومشكوكها ، وذلك لأنّ الاتيان بالعنوان أو بالغرض لا يحصل الاّ بالأكثر .

إن قلت ذلك ( قلت : أوّلاً : مسألة البرائة والاحتياط ) في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة ، وهو لطف

ص: 243

في غيره ، فنحن نتكلم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحُسن والقُبح ، أو على مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به .

-------------------

في غيره ) بمعنى : ان المسئلة ليست مبنيّة على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد حتى يشك انّ المصلحة تتأتى بالاقل أو بالاكثر ، وإنّما المسئلة مبنيّة على الطاعة والمعصية ، وان ترك الجزء المشكوك ممّا يستحق عليه العقاب أم لا ، فالكلام فيما نحن فيه : من البرائة والاحتياط مبني على الثاني لا على الاول .

و لهذا ( فنحن نتكلم فيها ) أي : في مسألة الشك في الأقل والاكثر الارتباطيين ( على مذهب الأشاعرة المنكرين للحُسن والقُبح ) العقليين ، فانّهم يقولون انّ التكاليف ليست معلولة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، بل الأوامر والنواهي من اقتراح المولى ليمتحن عباده أيّهم يطيع وأيّهم يعصي ، فليس علينا ان نحصّل العنوان كما ليس علينا أن نحصّل الغرض .

( أو على مذهب بعض العدليّة ) كالمحقق الخوانساري ، والسيد الصدر ، وصاحب الفصول ، ومن تبعهم ( المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وان لم يكن في المأمور به ) مصلحة ، كالتواضع للمولى ، والانقياد له ، وتوطين النفس على تحمل المشاق لنيل السعادة الأبدية والتقرّب اليه سبحانه ، وما اشبه ذلك .

و الحاصل : انّ في مسألة تبعيّة الاحكام للمصالح والمفاسد ثلاثة القوال :

الاوّل : قول الأشاعرة : بانّه لا مصلحة ولا مفسدة لا في الأمر ولا في المأمور به اطلاقا .

الثاني : انّ المصلحة والمفسدة موجودة في نفس الأمر فعلاً أو تركا ، لا في المأمور به .

ص: 244

وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ، ولذا لو اُتي به لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر

-------------------

الثالث : المصلحة والمفسدة موجودتان في المأمور به دون الامر .

هذا والاشكال وارد على القول الثالث ، لا على القولين الأولين ، فان المستشكل لا يتمكن ان يستشكل عليهما ، وانّما يتمكن ان يستشكل على المشهور القائلين بالقول الثالث ، وإذا استشكل عليهم قلنا في جوابه :

( وثانيا ) : انكم تقولون بلزوم الاتيان بالاكثر لتحصيل الغرض ، بينما الغرض المعلوم في المقام لا يمكن تحصيل القطع به على كل تقدير ، سواء على تقدير الاتيان بالأقل أم على تقدير الاتيان بالاكثر .

امّا على تقدير الاتيان بالاقل فلاحتمال دخل الأكثر في حصول الغرض .

وامّا على تقدير الاتيان بالاكثر : فلأن الاتيان بالزائد ان كان مع قصد الجزم بأمره تعالى ، فهو تشريع محرَّم ، والتشريع لا يفي بغرض المولى ، وان كان بدون هذا القصد ، فلا يقطع معه بحصول الغرض ، لاحتمال اعتبار قصد الوجه في تحقق الغرض وحصوله .

وعليه : فلا يجب علينا تحصيل اليقين بالغرض قطعا ، بل يجب علينا التحرّز من العقاب ، والتحرّز من العقاب يحصل بالاتيان بالأقل للعلم بوجوب الأقل ، وامّا الاكثر فاحتمال العقاب على تركه يدفع بأصل البرائة العقلية و الشرعية وذلك كما قال :

( انّ نفس الفعل ) بدون قصد الامتثال ( من حيث هو ، ليس لطفا ) في الواجب العقلي ( ولذا لو اُتي به ) أي : بنفس الفعل ( لا على وجه الامتثال ) لأمر المولى ، ( لم يصح ) عبادة ( ولم يترتّب عليه لطف ) فيالواجب العقلي ( ولا أثر آخر

ص: 245

من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الاتيان به على وجه الامتثال ، وحينئذٍ فيحتمل ان يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ، فانّ من صرحّ من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، قد صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به .

وهذا متعذِّر فيما نحن فيه ،

-------------------

من آثار العبادة الصحيحة ) فانه لا يترتب شيء منها على ذات الفعل بلا قصد الامتثال كالثواب ، وارتفاع الدرجة ، والمحبوبية عند المولى ، وغير ذلك .

( بل اللطف ) على ما عرفت ( انّما هو في الاتيان به ) اي : بنفس العمل ( على وجه الامتثال ، وحينئذٍ ) اي : حين كان اللطف منحصرا في الاتيان بالفعل على وجه الامتثال ( فيحتمل ان يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي ) ايضا، اي : ( مع معرفة وجه الفعل ) تفصيلاً بانّه واجب أو مستحب أو ما اشبه ، وذلك ( ليوقع الفعل على وجهه ) .

هذا ، وقد فرض فيما نحن فيه امتناع الامتثال التفصيلي ، لانّه لا يعلم هل انّ هذا الجزء المشكوك جزء أو ليس بجزء ؟ وإذا كان جزءا فهل هو واجب أو مستحب ؟ فيتنافى شرط الوجه مع الاتيان بالاكثر .

وعليه : ( فانّ من صرحّ من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ) على المعنى الذي تقدّم لهذه الجملة ( قد صرّح ) أيضا ( بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ، ووجوب اقترانه ) أي : العبادة ( به ) اي : بالوجه ( وهذا متعذِّر فيما نحن فيه ) .

وإنّما يكون متعذرا لان مع الاتيان بالجزء المشكوك لا يتمكن من القطع بأن

ص: 246

لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقل المتحقق في ضمه .

ولذا صرّح بعضهم كالعلامة ، ويظهر من آخر منهم وجوبُ تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبات ليوقع كلاً على وجهه .

وبالجملة : فحصول اللطف بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه إلاّ التخلّصُ من تبعة مخالفة الأمر الموجّه اليه ، فانّ هذا واجب عقليّ في مقام الاطاعة والمعصية ، ولادخل له بمسألة اللطف ،

-------------------

المجموع واجب ، وذلك للشك في جزئية الاستعاذة - مثلاً - كما قال : ( لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم انّه الواجب أو ) ان الواجب هو ( الأقل المتحقق في ضمه ) اي : في ضمن الاكثر ؟ .

( ولذا ) اي : لاجل انّ الغرض لا يحصل الاّ مع قصد الوجه تفصيلاً ( صرّح بعضهم كالعلامة ، ويظهر من آخر منهم : وجوبُ تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبات ، ليوقع كلاً ) من الأجزاء ( على وجهه ) بأن ينوي بالاستعاذة - مثلاً - الاستحباب ، وبالركوع الوجوب ، وهكذا .

( وبالجملة : فحصول اللطف ) وذلك ( بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه ، غير معلوم ) فانّ اتيانه الاكثر بمجرده من دون قصد الوجه تفصيلاً لالطف فيه.

( بل ظاهرهم : عدمه ) اي : عدم حصول اللطف بذلك ، حيث صرّحوا باعتبار القصد التفصيلي ، وقد عرفت : انّه غير ميسور فيما نحن فيه .

و على هذا : ( فلم يبق عليه ) اي : على المكلّف ( إلاّ التخلّصُ من تبعة مخالفة الأمر الموجّه اليه ، فانّ هذا ) التخلص هنا ( واجب عقليّ في مقام الاطاعة والمعصية ، ولا دخل له ) اي : للتخلص ( بمسألة اللطف ) فانّ الواجب علينا هو :

ص: 247

بل هو جارٍ على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا .

وهذا التخلّصُ يحصل بالاتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة ، وامّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان .

فان قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود ، وهو أنّ المقتضي وهو تعلّق الوجوب الواقعيّ بالأمر الواقعي المردّد بين الاقل والأكثر

-------------------

الاطاعة لا الحصول على اللطف .

( بل هو ) اي : الوجوب العقلي بالتخلص من تبعة مخالفة الأمر الموجه الى المكلّف ( جارٍ على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ) كما قال به الأشعري ، أو بعض علمائنا الذين سبقت أسمائهم (1) .

( و ) من المعلوم : انّ ( هذا التخلصُ ) من العقاب ( يحصل بالاتيان بما يعلم انّ مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة ) وهو الأقل ( وأمّا الزائد ) على المتيقن وهو الجزء المشكوك ( ف ) قد عرفت : انّه ( يقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان ) والمفروض : انّه لا بيان بالنسبة الى الجزء المشكوك سواء كان في الواقع بيان ولم يصل الينا ، أم لم يكن في الواقع اصلاً .

( فان قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود ، وهو : انّ المقتضي ) لوجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة الاحتمالية الموجب للاحتياط موجود هنا أيضا ( و هو : تعلّق الوجوب الواقعيّ بالأمر الواقعي ) اي : بالواجب الواقعي ( المردّد بين الأقل والأكثر ) ولاحراز الواجب الواقعي يلزم الاتيان بالاكثر .

ص: 248


1- - الخوانساري والسيد الصدر وصاحب الفصول قدس سرهم .

موجود ، والجهل التفصيلي به لايصلح مانعا ، لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر ، كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف .

قلت : يختار هنا أنّ الجهل مانع عقليّ

-------------------

وعليه : فالمقتضي للاحتياط هنا في الاقل والاكثر ( موجود ) قطعا ، لان الوجوب فيه قد تعلق بالواجب الواقعي ، ولم يتعلق بالواجب المعلوم حتى يجري في الجزء المشكوك منه البرائة ، وقلنا : بأن الوجوب متعلّق بالواقع لا بالمعلوم ، لان تقييده بالعلم مستلزم للدّور الاّ أن يكون بأمرين ، والأمر الثاني ليس بموجود هنا .

هذا من طرف المقتضي وأمّا من طرف المانع فكما قال : ( والجهل التفصيلي به ) اي بخصوصية هذا الجانب أو الجانب الآخر من الأقل والأكثر ( لا يصلح مانعا، لا عن المأمور به ) حتى لا يمكن الاتيان بالمأمور به ( ولا عن توجّه الأمر ) حتى لا يمكن توجيه المولى الأمر الى عبده .

وعليه : فالمقتضي موجود والمانع مفقود ( كما تقدّم ) بيانه ( في المتباينين حرفا بحرف ) فيلزم الاتيان بالأكثر ، لانّه إذا أتى بالأكثر فقد أتى بالأقل أيضا ، امّا انّه إذا أتى بالأقل لم يأت بالأكثر ، فيكون من الموافقة الاحتمالية ، وقد عرفت : لزوم الموافقة القطعية .

ان قلت ذلك ( قلت : ) ليس الأقل والاكثر كالمتباينين بل بينهما فرق ، فانّ الجهل في المتباينين لم يكن مانعا على ما عرفت ، بينما الجهل في الأقل والأكثر مانع عن وجوب الأكثر ، لانّ العقل مستقل بقبح توجيه التكليف بالأكثر الى المكلّف مع جريان قبح العقاب بلا بيان ، لانّ الاكثر لا بيان له كما قال :

انه ( يختار هنا ) في باب الأقل والاكثر الارتباطيين ( : أنّ الجهل مانع عقليّ

ص: 249

عن توجّه التكليف بالمجهول الى المكلّف ، لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو من دون بيان ، اذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلمُ التفصيلي ، بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ، ومع هذا العلم لايقبح المؤاخذة .

-------------------

عن توجّه التكليف بالمجهول ) الذي هو الأكثر ( الى المكلّف ) فيكون الشك في الزائد على الأقل ، من الشك البدوي وذلك ( لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب ) ذلك الترك ( عن ترك الجزء المشكوك ) فيكون مؤاخذة ( من دون بيان ) وهو قبيح .

ان قلت : ان الأقل من حيث الأقل لم يبيّن ايضا ، والاّ لم يقع طرفا للشك ، فيتعارض الطرفان ويتساقطان ، ويكون اللازم الاتيان بالأكثر ، كما ذكرناه في الأصلين المتعارضين في باب المتباينين .

قلت : ( ولا يعارض ) قبح المؤاخذة على ترك الاكثر ، ( بقبح المؤاخذة على ترك الأقل ، من حيث هو من دون بيان ) اي : انه لا تعارض هنا ، لانّ الاقل وان وقع طرفا للاكثر من حيث الترديد في انه واجب نفسي مستقل أو غيري في ضمن الأكثر ، الاّ انه مبيّن من حيث كونه مطلوبا للشارع على كل حال ، وهذا المقدار من البيان كافٍ كما قال :

( اذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه : العلم التفصيلي بانّه مطلوب للشارع ) على كل حال : اما ( بالاستقلال ، أو في ضمن الاكثر ) .

وعليه : فالأقل مطلوب للشارع على كل حال ( ومع هذا العلم ) التفصيلي بوجوب الأقل ( لا يقبح المؤاخذة ) على تركه ، فاذا ترك الاقل حينئذٍ كان تاركا

ص: 250

وما ذُكِرَ في المتباينين - سندا لمنع كون الجهل مانعا من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة ، وقبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة الى الواقع ، مع أنّه خلاف المشهور ، أو المتفق عليه - غيرُ جارٍ فيما نحن فيه .

أمّا الاوّل :

-------------------

للواجب ، وليس الاكثر كذلك .

( و ) أمّا ( ما ذُكر في المتباينين ) من الآثار الفاسدة ليكون ( سندا لمنع كون الجهل مانعا ) عن توجه التكليف الى المكلّف ، وتلك الاثار الفاسدة : ( من ) قبيل ( استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة ، و ) كذا استلزامه ( قبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة الى الواقع ، مع انّه ) اي : الجاهل المقصّر معذور ( خلاف المشهور أو المتفق عليه ) لانّ الجهل لا يكون عذرا في المتباينين على ما عرفت .

وعليه : فانّ ما ذكر من المفاسد المترتّبة على كون الجهل مانعا عن التنجيز في باب المتباينين ( غيرُ جارٍ فيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر .

إذن : فالجهل في الأقل والاكثر مانع وليس في المتباينين مانعا .

و الحاصل : انّ الجهل لا يكون عذرا بالنسبة الى المتباينين ، لانّه لو كان عذرا ، لزم منه جواز المخالفة القطعيّة وهو خلاف المقطوع به ، ولزم منه قبح عقاب الجاهل المقصّر وهو خلاف المتفق عليه الذي دلّ عليه الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، بينمايكون الجهل عذرا فيما نحن فيه من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث لا يلزم منه شيء من المحذورين المذكورين .

( امّا ) المحذور ( الاوّل ) وهو : استلزامه جواز المخالفة القطعية ، فانه لايستلزم

ص: 251

فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعية ، لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ، فانّ وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلاً وإن لم يعلم أنّ العقاب لاجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الاكثر .

فانّ هذا العلم غير معتبر

-------------------

جريان أصل البرائة فيما نحن فيه من الاقل والاكثر : مخالفة قطعية ، وذلك لانّ الاصل انّما يجري في الاكثر فقط ، ولا يجري في الاقل ، لانّ الاقل متيقن الوجوب على كل تقدير ، فلا يستلزم جريان الاصل في المشكوك فقط وهو الاكثر مخالفة قطعية .

بخلاف المتباينين : فانّ الاصل جار في كلا الطرفين ، فيستلزم جواز المخالفة القطعية ، وجريانه في أحد طرفي المتباينين ترجيح بلا مرجع ، ولذلك لا يجري الاصل في المتباينين ، ويجري في الاكثر عند الشك بين الاقل والاكثر لعدم استلزامه شيئا من المحذورين .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف حيث قال : ( فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعية لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ) فإنه لو اجرينا الأصل في أحد الطرفين وهو الأقل ، كان مخالفة معلومة بالتفصيل ، إذ الأقل واجب على كل تقدير ، فالأصل لايجري في الأقل ، واذا لم يجر الاصل في الاقل ، جرى في الاكثر محذور .

وعليه : ( فانّ وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلاً وإن لم يعلم إنّ العقاب لاجل ترك نفسه ) فيما إذا كان الأقل واجبا نفسيا ( أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الاكثر ) فيما إذا كان الأقل واجبا غيريا .

وعليه : ( فانّ هذا العلم ) بوجه العقاب فيما لو ترك الاقل ، وهل انه لاجل ترك الوجوب النفسي للأقل ، أو لترك الوجوب الغيري للأقل ، هذا العلم ( غير معتبر

ص: 252

في إلزام العقل بوجوب الاتيان ، اذ مناطُ تحريك العقل الى فعل الواجبات وترك المحرّمات دفعُ العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند اليه .

وأمّا عدمُ معذوريّة الجاهل المقصّر ،

-------------------

في إلزام العقل بوجوب الاتيان ) بالاقل ، فان العقل يحكم بوجوب الاقل علمنا بجهة العقاب على تركه أو لم نعلم .

وإنّما كان العلم بجهة العقاب على ترك الاقل غير معتبر في وجوب الاقل ( اذ مناطُ تحريك العقل الى فعل الواجبات وترك المحرّمات : دفعُ العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه ) اي : تحريك العقل للتخلص من العقاب ( بين علمه ) اي : علم المكلّف ( بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء ) لنفسه ( أو لما هو مستند اليه ) .

والحاصل : انّ احد طرفي الشبهة قطعي وجوب الاتيان به وهو الأقل ، فيكون الجهل بالطرف الآخر وهو الاكثر مانعا عن وجوبه ومسرحا لجريان البرائة العقليّة والشرعيّة فيه ، وليس كذلك حال الشبهة في المتباينين ، فلا يقاس باب الأقل والأكثر بباب المتباينين .

( وأمّا ) المحذور الثاني وهو : استلزامه قبح خطاب الجاهل المقصّر وكونه معذورا ، بينما ( عدمُ معذوريّة الجاهل المقصّر ) متفق عليه ، فانّه لايستلزم جريان أصل البرائة فيما نحن فيه من الاقل والاكثر : قبح خطاب الجاهل المقصّر وإعذاره على جهله ، وذلك لوجود القدر المتيقن في الاقل والاكثر ، وهو : الاقل ، فينحلّ العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بينهما ، الى علم تفصيلي بوجوب الاقل ، وشك بدوي في الاكثر ، فيجري الاصل في الاكثر بلا محذور .

بخلاف العلم الاجمالي بوجود تكليفٍ مردّد بين متباينين ، فانّه لا ينحلّ العلم

ص: 253

فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقلّ ، وهو العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وانّه لولاه لزم إخلال الشريعة ، لا العلم الاجمالي الموجود في المقام ،

-------------------

الاجمالي فيه ، كما لا ينحل العلم الاجمالي بالنسبة الى من يعلم اجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في الواقع عليه ، وذلك لعدم وجود قدر متيقن فيهما ، فاذا لم يكن قدر متيقن فيهما ، استلزم جريان اصل البرائة فيهما محذور : اعذار الجاهل المقصّر المتفق على خلافه .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف حيث قال : ( فهو ) اي : الجاهل المقصّر غير معذور ( للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل ، و ) ذلك الوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل ( هو : العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ) والعلم الاجمالي مقتضٍ للتكليف ولا مانع عنه ، بينما المانع في الاقل والاكثر موجود .

هذا ، بالاضافة الى ان لعدم معذورية الجاهل المقصّر وجها آخر ، ليس ذلك الوجه جاريا في الأقل والاكثر ( و ) هو : ( انّه لولاه ) اي : لولا عدم معذورية الجاهل المقصّر ( لزم إخلال الشريعة ) ليترك العمل بالأحكام رأسا ، فكل انسان يترك تعلم الاحكام ويكون معذورا ، فتنهدم الشريعة .

هذا ولكن العلم الاجمالي بالنسبة الى المتباينين ، وكذا بالنسبة الى وجود تكاليف كثيرة في الشريعة مما يؤدّي اجراء البرائة فيهما الى محذور : إعذار الجاهل المقصّر ( لا ) يكون مثل ( العلم الاجمالي الموجود في المقام ) بين الأقل والاكثر للفرق بينهما .

إذن : فلا يقاس العلم الاجمالي الموجود في المقام ، بالعلم الاجمالي الموجود هناك.

ص: 254

إذ الموجود في المقام علمٌ تفصيليّ ، وهو وجوب الأقلّ ، بمعنى ترتب العقاب على تركه وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة .

وبالجملة : فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه معلوم الالزام تفصيلاً ، والآخر مشكوك الالزام رأسا .

ودورانُ الالزام في الأقل بين كونه مقدّميّا أو نفسيّا لا يقدحُ في كونه معلوما بالتفصيل ، لما ذكرنا من أنّ العقل

-------------------

وإنّما لا يقاس به ( إذ الموجود في المقام علمٌ تفصيليّ وهو : وجوب الأقلّ بمعنى : ترتب العقاب على تركه ) لانّه يعلم انّ الأقل واجب على كل حال كما عرفت ( وشك في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة ) فانّ وجوب الزائد بالوجوب الذاتي مقطوع العدم ، وبالوجوب الغيري مشكوك فيه ، فيكون شكا في اصل وجوب الزائد يعني : شكا في التكليف ، والشك في التكليف مجرى البرائة .

( وبالجملة : فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه ) وهو الأقل ( معلوم الالزام تفصيلاً ، والآخر ) وهو الاكثر ( مشكوك الالزام رأسا ) فيكون ما نحن فيه من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين ، لا من قبيل القطع بالتكليف بين المتباينين .

( و ) من الواضح : انّ ( دورانُ الالزام في الأقل بين كونه مقدّميّا ) اذا كان الاكثر واجبا ايضا ( أو نفسيّا ) إذا كان الأقل فقط واجبا ( لا يقدحُ في كونه معلوما بالتفصيل ) وأنّه يجب الاتيان به .

وانّما لا يقدح ذلك في كون الاقل معلوما بالتفصيل ( لما ذكرنا : من انّ العقل

ص: 255

يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالاً أو تفصيلاً إلزام المولى به على أيّ وجه كان ، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه .

والمعلوم إلزامه تفصيلاً هو الأقل ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم الزامه اجمالاً هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والاكثر .

ولا عبرة به بعد انحلاله الى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك ، كما لو علم إجمالاً بكون أحد من الانائين الّذين احدهما المعيّن نجس خمرا ، فانّه يحكم

-------------------

يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالاً ) كالمردّد بين المتباينين ( أو تفصيلاً ) كالأقل فيما نحن فيه ، فانّ العقل يحكم بوجوب ما علم ( إلزام المولى به ، على ايّ وجه كان ) ذلك الالزام سواء كان مقدّميا أم نفسيا ، وقول المصنِّف : « الزام المولى» مفعول لقوله : « علم اجمالاً » .

كما ( ويحكم ) العقل ( بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه ) كالاكثر فيما نحن فيه ، والاكثر في غير الارتباطيين وكالشبهة البدوية .

هذا ( والمعلوم إلزامه تفصيلاً هو الأقل ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، و ) كون ( المعلوم الزامه اجمالاً هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والاكثر ) غير ضار ( ولا عبرة به بعد انحلاله الى معلوم تفصيلي ) هو الأقل ( ومشكوك ) بدوي هو الأكثر ( كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك ) اي : مردّد بين الأقل المعلوم والاكثر المشكوك .

( كما لو علم اجمالاً بكون أحد من الانائين الّذين احدهما المعيّن نجس : خمرا ) فاذا كان هناك انائان نعلم تفصيلاً بأن هذا نجس وذاك طاهر ، ثم علمنا اجمالاً بخمرية احدهما ( فانّه ) يجب الاجتناب عن المتيقن نجاسته ، و ( يحكم

ص: 256

بحلية الطاهر منهما ، والعلم الاجمالي بالخمر لا يؤثر في وجوب الاجتناب عنه .

ومّما ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسك في عدم وجوب الاكثر

-------------------

بحلية الطاهر منهما ، و العلم الاجمالي بالخمر ) في احد الانائين ( لا يؤثر في وجوب الاجتناب عنه ) اي : عن الطاهر وذلك لانّه مشكوك بدوا .

ولا يخفى : ان مثال المصنّف يجب ان يقرّر بهذه الصورة وهي : انا نعلم انّ الاناء الابيض طاهر وان الاناء الاحمر نجس نجاسة خمرية ، ثم علمنا علما ثانيا بأنّ احدهما خمر ، فانّ هذا العلم الثاني لا يؤثر في الاجتناب عن الاناء الابيض .

وإنّما قررنا المثال بهذه الصورة لانّه لو كانت النجاسة بغير الخمر كالبول - مثلاً - كان للعلم الثاني أثرا زائدا على مطلق النجاسة ، فيكون العلم الاجمالي المذكور مؤثر على كل تقدير ، سواء كان في ضمن الاناء النجس بالنجاسة البولية أم في ضمن الاناء الآخر الطاهر ، ولا مسرح للرجوع الى اصل البرائة في واحد منهما .

وعلى ايّ حال : فكما لا أثر للعلم الاجمالي بالنسبة الى الانائين لمعلومية أحدهما، كذلك لا أثر للعلم الاجمالي في الأقل والاكثر لمعلومية احدهما وهو الأقل .

( ومّما ذكرنا ) : من انّ الأقل متيقن وانّما المشكوك هو الاكثر ، فتجري أصالة عدم الاكثر من غير معارضته بعدم الأقل ( يظهر : انّه يمكن التمسك في عدم وجوب الاكثر ) باستصحاب نفي الحكم ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب غير البرائة .

ص: 257

بأصالة عدم وجوبه ، فانّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ؛ لانّ وجوب الأقل معلوم تفصيلاً فلا يجري فيه الأصل ، وتردّدُ وجوبه بين الوجوب النفسيّ والغيري مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي بوجوبه بقوله : « وَرَبَّكَ فَكَبِّر » « وَ قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ »

-------------------

وعليه : فنتمسك في عدم وجوب الاكثر ( بأصالة عدم وجوبه ، فانّها ) أي أصالة عدم الوجوب ( سليمة في هذا المقام ) اي : في باب الاقل والاكثر ( عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ) فليس هما كالمتباينين حيث انّ الاستصحاب في كل واحد منهما معارض بالاستصحاب في الآخر .

وانّما يجري الاصل فيالاكثر بلا معارض ( لانّ وجوب الأقل معلوم تفصيلاً ) وان كان وجه وجوبه مجهولاً ، فلا نعلم هل انّه لنفسه ، أو لانّه مقدمة لغيره ، ومع ذلك ( فلا يجري فيه ) اي : في الأقل ( الاصل ) اي : استصحاب عدم وجوب الأقل حتى يقال : بانّ استصحاب عدم وجوب الاكثر معارض باستصحاب عدم وجوب الأقل فيتساقطان .

( و ) عليه : فانّ ( تردّد وجوبه ) اي : وجوب الأقل ( بين الوجوب النفسيّ ) إذا كان الأقل فقط واجبا ( والغيري ) إذا كان الأقل واجبا في ضمن الاكثر ( مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي بوجوبه ) اي : بوجوب الاقل من الآيات والروايات الدالة على الاجزاء في الصلاة ( بقوله : « وَ رَبَّكَ فَكَبِّر » (1) ) للتكبير ، ( « وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ » (2) ) للقنوت .

ص: 258


1- - سورة المدثر : الآية 3 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .

وقوله : « فَاقرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ » وقوله : « اركَعُوا وَاسجُدُوا » وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء لايُوجبُ جريان أصالة عدم الوجوب ، وأصالة البرائة .

لكنّ الانصاف أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ، لانّه إن قُصِدَ به نفيُ أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه ،

-------------------

( وقوله : «فَاقرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ » (1) ) ، للقرائة .

( وقوله : « اركَعُوا وَ اسجُدُوا » (2) ) للركوع والسجود .

( وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء ) المتيقنة ، فانّه ( لايُوجبُ ) تردّد وجوب الاقل بين كونه نفسيا أو غيريا ( جريان ) الاستصحاب اي : ( أصالة عدم الوجوب ، و ) جريان ( أصالة البرائة ) العقلية والنقلية في الاقل .

إذن : فلا استصحاب بالنسبة الى الأقل ولا برائة ، اذ ليس هنا ما يعارض استصحاب عدم الاكثر ، ولا البرائة عن الاكثر من شيء .

( لكنّ الانصاف : أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر لا ينفع في المقام ) . فلا أثر في استصحاب نفي الأكثر حتى يتمسك به ( بل هو ) اي : التمسك بأصالة عدم وجوب الاكثر هنا ( قليل الفائدة ) في نفسه ، وذلك لانّ الاحتمالات في فائدة هذا الاستصحاب هنا ثلاثة ، وكلّها غير مؤثرة :

أمّا الاحتمال الأوّل : فهو ما ذكره بقوله : ( لانّه ان قُصِدَ به ) اي : بالتمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر : ( نفي أثر الوجوب الذي هو : استحقاق العقاب بتركه )

ص: 259


1- - سورة المزمل : الآية 20 .
2- - سورة الحج : الآية 77 .

فهو ، وان كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقل كما ذكرنا .

إلاّ أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشك في التكليف أنّ استصحاب عدم التكليف المستقل وجوبا أو تحريما لاينفع في دفع استحقاق العقاب على الترك أو الفعل ، لانّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيين حتى يحتاج الى إحرازهما بالاستصحاب ، بل يكفي فيه عدم العلم بهما ،

-------------------

أي : بترك الاكثر ( فهو ، وان كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقل ) لوضوح: وجود العقاب بترك الأقل لان ّ الأقل متيقن ( كما ذكرنا ) سابقا : من انّ الأقل متيقن

فلا يجري استصحاب عدمه .

( إلاّ أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشك في التكليف : انّ استصحاب عدم التكليف المستقل وجوبا ) مثل : استصحاب عدم وجو ب الدعاء عند رؤية الهلال ( أو تحريما ) مثل : استصحاب عدم حرمة شرب التتن ( لاينفع في دفع استحقاق العقاب على الترك ) في مشتبه الوجوب ( أو الفعل ) في مشتبه الحرمة .

وانّما لا ينفع ذلك في دفعه ( لانّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيين حتى يحتاج ) في اثبات عدم استحقاق العقاب ( الى إحرازهما ) اي : احراز عدم الوجوب واحراز عدم الحرمة ( بالاستصحاب ، بل يكفي فيه ) اي: في عدم الا ستحقاق ( عدم العلم بهما ) اي : بالوجوب والحرمة .

ص: 260

فمجرّد الشك فيهما كافٍ في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع ، وقد أشرنا الى ذلك عند التمسّك في حرمة العمل بالظّن بأصالة عدم حجيّته ، وقلنا إنّ الشك في حجيّته كافٍ في التحريم ، ولا يحتاج الى إحراز عدمها بالأصل .

وإن قُصِد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقل ،

-------------------

إذن : ( فمجرّد الشك فيهما ) اي : في الوجوب والحرمة ( كافٍ في عدم استحقاق العقاب ) كفاية ( بحكم العقل القاطع ) فان العقل يحكم قاطعا بعدم استحقاق العقاب على ترك التكليف بمجرّد الشك فيه ، من دون حاجة الى استصحاب عدم التكليف ، والشك في وجوب الأكثر شك في التكليف فيكون الحكم فيه كذلك .

هذا ( وقد أشرنا الى ذلك ) أي : الى أنّ الأثر للشك فلا حاجة الى الاستصحاب ، وذلك في اوّل مباحث الظن ( عند التمسّك في حرمة العمل بالظّن بأصالة عدم حجيّته ) اي : عدم حجية الظن ( وقلنا ) هناك : ( انّ ) مجرد ( الشك في حجيّته كافٍ في التحريم ولا يحتاج ) التحريم ( الى إحراز عدمها ) اي : عدم الحجيّة احرازا ( بالأصل ) .

والحاصل : انّه إن أريد من اجراء استصحاب عدم وجوب الأكثر : نفي أثر الوجوب أعني : استحقاق العقاب ؟ فالاستصحاب غير جارٍ ، لكون عدم الاستحقاق مترتبا على مجرّد الشك في الوجوب ، فلا يحتاج في نفيه الى احراز عدمه حتى يتمسك باستصحاب العدم لنفي العقاب .

وأما الاحتمال الثاني للاستصحاب هنا فهو ما ذكره بقوله: ( وإن قُصِد به ) أي: بأصالة عدم وجوب الأكثر ( نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقل )

ص: 261

فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقل ، فلا يبقى لهذا الأصل فائدة إلاّ في نفي ما عدا العقاب من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري .

-------------------

بأن نجري استصحاب عدم وجوب الأكثر حتى لا يترتب الأثر المترتب على الوجوب النفسي المستقل .

مثلاً : لو كان أثر وجوب الجمعة وجوبا نفسيا مستقلاً : عدم وجوب الظهر ، فنجري استصحاب عدم الأكثر في الجمعة حيث نشك في أن الخطبة جزء من الجمعة أو ليست بجزء؟ حتى يترتب على هذا الاستصحاب : نفي ترتب اسقاط الظهر عليه ، فهذا الاستصحاب وان كان تاما إلاّ أنه معارض باستصحاب آخر ، كما أشار اليه بقوله : ( فأصالة عدم هذا الوجوب ) الذاتي الواقعي ( في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقل ) أيضا ، وإذا تعارض الاستصحابان فلا فائدة في جريان شيء منهما لأنّهما يتساقطان بالتعارض .

وبعبارة اُخرى : اسقاط الظهر من آثار الجمعة الواجبة واقعا وبالذات ، فاذا فرضنا دوران الجمعة بين الأقل والأكثر بأن احتملنا أن تكون الخطبة جزءا واحتملنا أن لا تكون الخطبة جزءا ، فاذا كانت الخطبة جزءا كان المأمور به هو الأكثر ، واذا لم تكن الخطبة جزءا كان المأمور به هو الأقل ، فيترتب على اجراء اصالة عدم وجوب الأكثر نفي ترتب اسقاط الظهر عليه ، لكنّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، فلا فائدة في جريانه .

وأما الاحتمال الثالث من احتمالات الاستصحاب هنا : فهو ما ذكره بقوله : ( فلا يبقى لهذا الأصل ) أي : استصحاب العدم ( فائدة إلاّ في نفي ما عدا العقاب : من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري ) فاذا نذر - مثلاً -

ص: 262

ثم بما ذكرنا : من منع جريان الدليل العقلي - المتقدم في المتباينين - فيما نحن فيه تُقَدَرُ على منع سائر مايتمسك به ، لوجوب الاحتياط في هذا المقام : مثلُ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ ،

-------------------

التصدق بدينار عند اتيان الواجب ، معيّنا كان أو غير معيّن ، جاز اجراء اصالة عدم وجوب الأكثر لنفي ترتب الأثر المذكور عليه ، وهذا لا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، لأن وجوب الأقل متيقن وان تردد بين النفسي والغيري .

إلاّ ان هذا الأثر ليس بأثر فيما نحن فيه ، وإنما هو أثر في باب النذر والعهد واليمين وما أشبه مما لا يرتبط بمقامنا ، ولهذا قال المصنِّف في أوّل البحث انه قليل الفائدة .

( ثم بما ذكرنا : من منع جريان الدليل العقلي - المتقدم في المتباينين - فيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر ، وذلك لأن الدليل العقلي المتقدّم في المتباينين كان يقول : انا مكلفون بالواجب ، ولا نعلم بالبرائة إلاّ بالاتيان بهما معا كما في مثال الظهر والجمعة ، فيلزم الاحتياط باتيانهما معا ، لكن نمنع هذا الدليل العقلي بين الأقل والأكثر ، لأن الأقل متيقن والأكثر مشكوك ، فيجري في المشكوك البرائة بدون معارضة بالأقل ، بينما في المتباينين كان الأصل في كل طرف معارض بالأصل في الطرف الآخر .

وعليه : فانه من منع الدليل العقلي القائل بالاحتياط هناك ( تُقَدَرُ على منع سائر ما يتمسك به لوجوب الاحتياط في هذا المقام ) أي : في مقام الأقل والأكثر ، وماتمسك به لوجوب الاحتياط هي أمور أشار اليها المصنِّف ليجيب عنها بقوله :

( مثل استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ ) بتقريب : انه قبل الاتيان بالأقل كان مشغول الذمة بالتكليف ، فيستصحب هذا الاشتغال بعد الاتيان بالأقل ، فيلزم

ص: 263

وأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبرائة .

ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا مَعاشِرَ الغائبين مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلاً .

ومثل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل قطعا ، وبعبارة اُخرى ، وجوب المقدّمة العلمية للواجب .

-------------------

على المكلّف الاتيان بالأكثر ليعلم برائة ذمته .

( و ) مثل قاعدة الاشتغال وهي : ( أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبرائة ) ومن الواضح : ان قاعدة الاشتغال غير استصحاب الاشتغال ، لان استصحاب الاشتغال سحب الحالة السابقة إلى الحال ، امّا الاشتغال فهو عبارة عما يترتب على مجرد الشك من دون ملاحظة الحالة السابقة .

( ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية ) تلك الأدلة ( لاشتراكنا مَعاشِرَ الغائبين مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلاً ) فاذا كانوا عالمين تفصيلاً وجب عليهم الاتيان بالواجب الواقعي لعلمهم به تفصيلاً ، ونحن أيضا يجب علينا الاتيان بالواجب الواقعي ولا نعلم بأنا أتينا بالواجب الواقعي إلاّ إذا أتينا بالأكثر .

( ومثل وجوب دفع الضرر ) المحتمل ( وهو العقاب المحتمل ) فان دفعه واجب ( قطعا ) عقلاً ونقلاً ، والدفع لا يكون إلاّ بالاتيان بكلا المحتملين من الأقل والأكثر ، وإلاّ فلو أتينا بالأقل ، كان احتمال العقاب لتركنا الأكثر باقيا بعد احتمالنا إن الأكثر هو الواجب الواقعي .

( وبعبارة اُخرى : وجوب المقدمة العلمية للواجب ) الواقعي ، فيكون حال الأقل والأكثر في وجوب الاتيان بهما حال المتباينين ، حيث يجب الاتيان بهما مقدمة لاحراز الواجب المردّد بينهما .

ص: 264

ومثلُ أنّ قصد القربة غير ممكن بالاتيان بالأقل لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات ، بل لابدّ من الاتيان بالجزء المشكوك .

فان الأوّل مندفعٌ - مضافا إلى منع جريانه حتى في مورد وجوب الاحتياط ، كما تقدّم في المتباينين - بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب لايُجدي بعد فرض كون وجود المتيقن قبل الشك غيرَ مُجدٍ في الاحتياط .

-------------------

( ومثلُ أنّ قصد القربة غير ممكن ) منه فيما لو عزم المكلّف ( بالاتيان بالأقل ) فقط ، لأن الذمة مشغولة قطعا بالعبادة ، ولا فراغ لها إلاّ باتيان تلك العبادة بقصد القربة ، والاتيان بالأقل بقصد القربة غير كاف ( لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فلايجوز الاقتصار عليه في العبادات ) بأن يأتي بالأقل فقط بقصد القربة ( بل لابدّ من الاتيان بالجزء المشكوك ) أيضا حتى يتمكن من قصد التقرب به .

ثم بدأ المصنِّف في الجواب عنها بقوله : ( فان الأوّل ) وهو استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل ( مندفعٌ - مضافا إلى منع جريانه ) أي : جريان استصحاب الاشتغال ( حتى في مورد وجوب الاحتياط كما تقدّم في المتباينين - ) حيث قلنا هناك : بأنه لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال ، إذ العقل حاكم من أول الأمر بوجوب اتيان الكل ، فلا شك في المقام حتى يجري فيه الاستصحاب لعدم تمامية أركانه .

وعليه : فان استصحاب الاشتغال مندفع لقوله : ( بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب ) هنا ( لا يُجدي ) ولا ينفع في وجوب الاحتياط ( بعد فرض كون وجود المتيقن قبل الشك غير مجدٍ في الاحتياط ) فان وجوب

ص: 265

نعم ، لو قلنا بالأصل المُثبت وأنّ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل يُثبت كون الواجب هو الأكثر ، فيجب الاتيان به ، أمكن الاستدلال بالاستصحاب .

لكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في الزّمان السابق وجوب الأكثر لقبح المؤاخذة من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال بالأقل ، فهو منفي في الزمان السابق فكيف يثبت في الزّمان اللاّحق .

-------------------

الأمر المردد بين الأقل والأكثر كان قبل الاتيان بالأقل متيقنا ومع ذلك لم يكن مقتضيا لوجوب الاحتياط - لما سبق من إن الأقل متيقن والأكثر مشكوك - فكيف يصير مقتضيا للاحتياط بعد صيرورته مشكوكا بالاتيان بالأقل .

( نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت و ) ذلك بتقريب : ( انّ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل يثبت كون الواجب ) واقعا ( هو الأكثر ، فيجب الاتيان به ) أي : بالأكثر ، فاذا قلنا بالأصل المثبت ( أمكن الاستدلال بالاستصحاب ) وذلك بأن يقال : نستصحب الاشتغال ، فيجب الاتيان بالأكثر خروجا عن الاشتغال .

( لكن يمكن أن يقال ) : ان الاستدلال بالاستصحاب حتى على القول بالأصل المثبت غير تام ، وذلك ( إنّا نفينا في الزّمان السابق ) أي : قبل الاتيان بالأقل ( وجوب الأكثر ) وإنما نفيناه ( لقبح المؤاخذة من دون بيان ) إذ كان الأكثر مشكوكا من أوّل الأمر والأقل متيقنا من أوّل الأمر ( فتعيّن الاشتغال بالأقل ) .

إذن : ( فهو ) أي : وجوب الأكثر ( منفي في الزمان السابق ) قبل الاتيان بالأقل ( فكيف يثبت ) وجوب الأكثر ( في الزّمان اللاّحق ) بعد الاتيان بالأقل ؟ فما لم يكن واجبا في السابق كيف يكون واجبا في اللاحق ؟ .

ص: 266

وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل المتقدّم في المتباينين المتوهّم جريانه في المقام ، وقد عرفت الجواب ، وأنّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقل ، وغيره مشكوك فيه .

وأما الثالثُ ، ففيه أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه عين الدعوى .

-------------------

( وأمّا الثاني ) : أي : قاعدة الاشتغال ( فهو حاصل الدليل ) العقلي ( المتقدّم في المتباينين ) بتقريب : ان الأمر بالواقع المردد ثابت ، والمانع مفقود ، ولا يمكن الاتيان بالواقع المردد إلاّ بالاتيان بالمتباينين معا ( المتوهّم ) ذلك الدليل ( جريانه في المقام ) أي : في الشك بين الأقل والأكثر .

هذا ( وقد عرفت الجواب ) عنه ( وانّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقل ، وغيره ) أي : غير الأقل وهو الأكثر ( مشكوك فيه ) فلا دليل من العقل على وجوب كل من الأكثر والأقل بعد جريان البرائة من الأكثر ، فليس المقام كالمتباينين ، إذ لا وجود للمقتضي فيه .

( وأما الثالث ) : وهو أدلة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام ( ففيه : انّ مقتضى ) أدلة ( الاشتراك : كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد ، مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ) يعني : ان الغائب الجاهل كالحاضر الجاهل ، والغائب العالم كالحاضر العالم سيّان في الحكم .

( ولا ريب انّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه ) أي : في الأقل والأكثر ( عين الدعوى ) إذ لا دليل على وجوب الأكثر للحاضر الجاهل حتى نقول : بأن الغائب يكون كالحاضر محكوما بالأكثر ، بل الحاضر

ص: 267

وأمّا الرابع ، فلأن وجوب المقدّمة فرع وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد بين الأقل والأكثر ، وقد تقدّم أنّ وجوب المعلوم اجمالاً مع كون أحد طرفيه متيقّن الالزام من الشارع ولو بالالزام المقدميّ ، غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون الطرف غير المتيقّن وهو الأكثر فيما نحن فيه موردا لقاعدة البرائة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين الانائين أحدهما المعيّن نجسٌ .

نعم ، لو ثبت أنّ ذلك ، أعني تيقّن أحد طرفي المعلوم بالاجمال

-------------------

لو شك بين الأقل والأكثر كان حكمه الأقل لأدلة البرائة ، فالغائب أيضا يكون مثل الحاضر من هذه الجهة .

( وأمّا الرابع ) : وهو وجوب المقدمة العلمية للواجب الواقعي حيث ان الأقل والأكثر كالمتباينين ، وكما يجب الاتيان بالمتباينين كذلك يجب الاتيان بالأكثر ، لانّ به يحصل الاتيان بكل من الأقل والأكثر كما قال : ( فلأن وجوب المقدّمة ) العلمية ( فرع وجوب ذي المقدمة وهو ) أي : وجوب ذي المقدمة ( : الأمر المتردّد بين الأقل والأكثر ، وقد تقدّم : انّ وجوب المعلوم اجمالاً مع كون أحد طرفيه متيقّن الالزام من الشارع ) تيقنا قبل العلم الاجمالي ( ولو بالالزام المقدميّ ) أي : الزاما بالالزام المقدمي ( غير مؤثر في وجوب الاحتياط ) لاحراز الواقع .

وإنما كان غير مؤثر ( لكون الطرف غير المتيقّن وهو الأكثر فيما نحن فيه موردا لقاعدة البرائة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين الانائين أحدهما المعيّن نجسٌ ) وقد ذكرنا هناك ان المثال ليس على اطلاقه .

( نعم ، لو ثبت ) فرضا ( انّ ذلك ، أعني : تيقّن أحد طرفي المعلوم بالاجمال )

ص: 268

تفصيلاً وترتّب أثره عليه ، لايقدحُ في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط ، فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الانائين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله بتناول أيّ الانائين اتفق كونه خمرا ، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه .

والدليل العقلي على البرائة من هذه الجهة يحتاجُ إلى مزيد تأمّل .

-------------------

تيقنا ( تفصيلاً ) بأن تيقن نجاسة هذا الاناء - مثلاً - ( وترتّب أثره عليه ) أي : ترتب أثر أحد الطرفين على الطرف الآخر ، كوجوب الاجتناب الذي هو أثر النجاسة ، فانه ( لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه ) المعلوم بالاجمال ( من الاحتياط ) أي : ان تنجز أحد الطرفين لا يمنع من الاحتياط ، بل يجب الاحتياط حتى مع تيقّن أحد الطرفين .

وعليه : ( فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الانائين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله ) أي : تناول هذا الخمر المردّد ( بتناول أيّ الانائين اتفق كونه خمرا ) في الواقع ( فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه ) من الشك في وجوب الأقل والأكثر ، لكن قد عرفت : ان هذا مجرد فرض .

( و ) أمّا ( الدليل العقلي على البرائة ) وهو قبح العقاب بلا بيان ( من هذه الجهة ) أي : من جهة ان تيقن أحد الطرفين قبل العلم الاجمالي يوجب الاجتناب عنهما معا ، أو لايوجب الاجتناب عنهما معا فانه ( يحتاج إلى مزيد تأمّل ) حيث ذكرنا سابقا : ان التيقن السابق من جهة أحد الطرفين ، يوجب عدم تنجّز العلم الاجمالي ، لأنا نشك في التكليف الجديد شكا بدويا ، فالأصل عدمه .

كما إذا كان الاناء الأحمر خمرا والأبيض ماءا ، ثم وقعت قطرة خمر

ص: 269

وأمّا الخامس ، فلأنه يكفي في قصد القربة الاتيانُ بما علم من الشارع الالزامُ به ، وأداء تركه إلى استحقاق العقاب لأجل التخلص عن العقاب ، فانّ هذا المقدار كافٍ في نيّة القربة المعتبرة في العبادات ، حتى لو علم بأجزائها تفصيلاً .

بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة باتيان الأقل ، مع عدم العلم بكونه مقرّبا

-------------------

في أحدهما ، فانا حيث نشك في ان هذه القطرة أوجبت لنا تكليفا جديدا أم لا ، لأنا نحتمل سقوطها في الاناء الأحمر الذي هو خمر ، فالأصل عدم التكليف الجديد ، ولذا يجوز لنا استعمال الاناء الأبيض .

( وامّا الخامس : ) وهو : انّ قصد القربة غير متمكن منه عند الاتيان بالأقل فقط ، وذلك لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فانه يدفع بقوله :

( فلأنه يكفي في قصد القربة الاتيان بما علم من الشارع الالزام به ، و ) الاتيان بما علم ( أداء تركه إلى استحقاق العقاب ) فيكفي في قصد القربة : اتيان ما تيقن وجوبه وهو الأقل ، فيأتي بالأقل ( لأجل التخلص عن العقاب ، فانّ ) من المعلوم بأن ( هذا المقدار كافٍ في نيّة القربة المعتبرة في العبادات حتى لو علم بأجزائها تفصيلاً ) .

إذن : فلا يتوقف قصد القربة على العلم بكونه مطلوبا نفسيا متعلقا بالأمر الأصلي ، لما عرفت : من كفاية العلم بمطلوبيته في الجملة ، وأداء تركه إلى استحقاق العقاب قطعا .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف مكررا حيث قال : ( بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة باتيان الأقل ، مع عدم العلم بكونه ) أي : الأقل ( مقرّبا ؟ ) وذلك

ص: 270

لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب والمقدّمي غير المقرّب ، فنقول : يكفي في قصد القربة ، قصد التخلصُ من العقاب ، فانها إحدى الغايات المذكورة في العبادات .

-------------------

( لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب ) ان كان الوجوب قد تعلق بالأقل فقط ( والمقدّمي غير المقرّب ) ان كان وجوب الأقل ضمن الأكثر ( فنقول : يكفي في قصد القربة ، قصد التخلصُ من العقاب : فانها ) أي : نيّة التخلص من العقاب ( إحدى الغايات المذكورة في العبادات ) فانّ للقربة مراتب كالتالي :

الاولى : خوف النار .

الثانية : طمع الجنة .

الثالثة : إرادة تكميل النفس حتى إذا لم تكن جنة ولا نار ، فانّ العبادات تكمّل النفس .

الرابعة : إرادة جلب رضا اللّه سبحانه وتعالى .

الخامسة : ان يرى الانسان ان اللّه سبحانه وتعالى أهلاً للعبادة فيعبده حتى إذا لم تكن إحدى المراتب الأربع السابقة .

مثلاً : ان الانسان قد يعدو فرارا من الأسد ، وقد يعدو لأجل صيد غزال ، وقد يعدو لأجل تقوية عضلاته ، وقد يعدو لأجل أن يرضى عنه مولاه حيث أمره بالعدو ولم يكن إحدى الثلاثة السابقة ، وقد يعدو لأجل إنه يرى مولاه أهلاً لأن يعدو أمامه احتراما لمقامه .

ولا يخفى : انّ المرتبة الخامسة هي أعلى المراتب ، وقد أشار اليها الامام أمير المؤمنين عليه السلام في الكلمة المنسوبة اليه : «ما عبدتك طمعا في جنتك ، ولا خوفا

ص: 271

وأمّا الدليل النقليّ :

فهو الأخبار الدالّة على البرائة الواضحة سندا ودلالة . ولذا عوّل عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط بناءا على وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وإن كان الالزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل ،

-------------------

من نارك ، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك » (1) ولا يخفى : ان كلمة الامام هذه لا تنافي قوله سبحانه : « يدعوننا رغبا ورهبا » (2) لان الامام يريد بيان انه لاتفوته عبادة اللّه حتى إذا لم تكن رغبة أو رهبة .

هذا تمام الكلام في الدليل العقلي على البرائة عن الأكثر في الأقل والأكثر الارتباطيين .

( وأمّّا الدليل النقليّ ) على ذلك ( فهو : الأخبار الدالّة على البرائة الواضحة سندا ) من جهة الحجيّة ( ودلالة ) من حيث ظهور الدلالة ( ولذا عوّل عليها ) أي : على هذه الأخبار ( في المسألة ) أي : مسألة البرائة من الأكثر ( من جعل مقتضى العقل فيها ) أي : في هذه المسألة ( وجوب الاحتياط ) .

وإنّما أوجب الاحتياط فيها من جهة العقل ( بناءا على وجوب مراعاة العلم الاجمالي ) عقلاً ( وإن كان الالزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل ) فان هؤلاء يقولون : إنّ معلومية أحد الطرفين لا توجب انحلال العلم الاجمالي ، ولذا يجب عقلاً الاتيان بكلا الطرفين ، إلاّ ان هذه الأخبار لما كانت موجودة نقول بالبرائة عن الأكثر .

ص: 272


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج10 ص157 بالمعنى وقريب منه في غوالي اللئالي : ج2 ص11 ح18 والالفين : ص128 .
2- - سورة الأنبياء : الآية 90 .

وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي :

منها قوله عليه السلام : «ما حَجبَ اللّه ُ علمَهُ عن العباد ، فهو موضوعٌ عنهم» .

فانّ وجوب الجزء المشكوك محجوبٌ علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم ، فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه ، غير واجب على الجاهل ، كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل .

ويمكن تقريبُ الاستدلال بأنّ وجوب الأكثر

-------------------

( وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي ) أي: الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ، لأنا قد ذكرنا هناك : ان الأصل في الشبهتين : البرائة .

( منها : ) أي : من تلك الأخبار المتقدمة ( قوله عليه السلام : «ما حَجبَ اللّه ُ علمَهُ عن العباد ، فهو موضوعٌ عنهم » (1) ؛ فانّ ) الاستدلال بهذه الرواية يكون بتقريب : ان ( وجوب الجزء المشكوك ) كالاستعاذة قبل القرائة - مثلاً - ( محجوبٌ علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم . فدلّ ) هذا الحديث ( على انّ الجزء المشكوك وجوبه ، غير واجب على الجاهل ) الذي لا يعلم انه واجب أم لا ؟ .

( كما دلّ ) هذا الحديث ( على ان الشيء المشكوك وجوبه النفسي ) كالدعاء عند رؤية الهلال ( غير واجب في الظاهر على الجاهل ) فالحديث يشمل البرائة في الوجوب النفسي والوجوب الغيري معا .

( ويمكن تقريب الاستدلال ) بهذا الحديث : ( بأنّ وجوب الأكثر ) وهو

ص: 273


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

مما حجب علمه فهو موضوع ، ولا يعارض بأنّ وجوب الأقل كذلك ، لانّ العلم بوجوبه المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عن أُمتي .. ما لايَعلمُونَ » ، فانّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم، فهو مرفوع عن المكلفين ، أو إنّ العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمّد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكلّ مرفوعٌ

-------------------

الوجوب النفسي المشكوك فيه ( مما حجب علمه ، فهو موضوع ) عن العباد ( ولا يعارض بانّ وجوب الأقل كذلك ) أي : محجوب علمه أيضا ، فيكون موضوعا عنهم لأنهم لا يعلمون بوجوب الأقل بما هو أقل .

وإنما لا يعارض به ( لانّ العلم بوجوبه ) أي : بوجوب الأقل ( المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع ) عن العباد لعلمهم بوجوب اجزاء تسعة للصلاة ، وإنّما الشك في الجزء العاشر .

( وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رُفِعَ عن أُمتي .. ما لايَعلمُونَ » (1) ) بتقريب أشار اليه بقوله : ( فانّ وجوب الجزء المشكوك ) وهو وجوب الأكثر ( ممّا لم يعلم، فهو مرفوع عن المكلفين ) بناءا على ان المرفوع هو الحكم ، أو الأعم من الحكم والموضوع والوضع .

( أو إنّ ) المرفوع هو ( العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمّد ترك ) الأكثر بترك ( الجزء المشكوك ) فيه ( الذي هو سبب لترك الكلّ ) لأن المفروض انهما ارتباطيان فاذا ترك جزءا منه فكأنما ترك الكل ، فان العقاب ( مرفوعٌ

ص: 274


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

عن الجاهل ، إلى غير ذلك من أخبار البرائة الجارية في الشبهة الوجوبية .

وكان بعض مشايخنا قدس اللّه نفسه يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري .

ولا يخفى على المتأمّل عدمُ الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ، لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشئا لترك الواجب النفسي .

-------------------

عن الجاهل ) وذلك بناءا على ان المرفوع في حديث الرفع هو المؤاخذة فقط ، فيكون مرجع رفع المؤاخذة إلى رفع الحكم ، لأنّ الحكم لو كان كانت المؤاخذة ، فاذا لم تكن مؤاخذة كان دليلاً على عدم الحكم .

( إلى غير ذلك من أخبار البرائة الجارية في الشبهة الوجوبية ، و ) التي قد تقدَّمت حيث ( كان بعض مشايخنا قدس اللّه نفسه ) وهو شريف العلماء ( يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك ) مثل : دعاء رؤية الهلال ( وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري ) مثل ما نحن فيه ، لأنه من الشك في وجوب الجزء ، ووجوب الجزء غيري .

( ولا يخفى على المتأمّل : عدم الفرق بين الوجوبين ) : النفسي والغيري ( في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ) فان الحديث يدل على ان من ترك الواجب المشكوك فيه لا يستحق العقاب ، واطلاقه يشمل الواجب النفسي والواجب الغيري ( لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ) أيضا ، كما ان ترك الواجب النفسي يوجب العقاب ( ولو من جهة كونه منشئا لترك الواجب النفسي ) فان من يترك الواجب الغيري الذي هو مقدمة للواجب النفسي يكون تاركا للواجب النفسي حقيقة .

ص: 275

نعم ، لو كان الظاهرُ من الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها فيما ادّعى ، مع إمكان أن يقال: إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ، لانّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فافهم .

-------------------

وعليه : فان مفاد هذه الأخبار هو نفي العقاب لمن يترك الواجب النفسي ، وترك الواجب الغيري يؤدي أيضا إلى ترك الواجب النفسي ، لان من لم يأت في الصلاة بجزء من أجزائها كان كتارك الصلاة نفسها ، فيصح التمسك بهذا الخبر لنفي وجوب الجزء ، وذلك امّا لأنه تارك للوجوب الغيري كما استقر بناه ، أو أنه تارك للوجوب النفسي على ما ذكره شريف العلماء .

( نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار ) أي : أخبار البرائة ( نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ) أي : من حيث كونه واجبا نفسيا ( أمكن دعوى ظهورها ) أي : ظهور تلك الأخبار ( فيما ادّعى ) واستظهره شريف العلماء ، غير انك عرفت : ان الأخبار أعم من الواجب النفسي والواجب الغيري .

( مع امكان ان يقال : إنّ ) الظهور المزبور أيضا لا ينفع شريف العلماء ، لأن ( العقاب على ترك الجزء ) يكون ( أيضا من حيث خصوص ذاته ) فان ترك الجزء أيضا ترك للواجب النفسي لما ذكره المصنِّف بقوله : ( لانّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ) إذ الوجوب النفسي منتشر على الأجزاء فكل جزء له حصة من الوجوب النفسي ، فيصح التمسك في نفي وجوبه بظهور أخبار البرائة في نفي العقاب المترتب على ترك الشيء بما هو هو .

( فافهم ) فان شريف العلماء يريد بالوجوب النفسي : الوجوب النفسي الكلي، لا الوجوب النفسي الجزئي ، الذي اكتسبه كل جزء جزء من ذلك الوجوب .

ص: 276

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة .

وأمّا لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح ،

-------------------

( هذا كلّه ) : من عدم الفرق بين الواجب النفسي والغيري في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ، ومن دعوى شريف العلماء ظهور أخبار البرائة في نفي الوجوب النفسي المشكوك ، لا الأعم من الوجوب النفسي والوجوب الغيري ( إن جعلنا المرفوع ) في قوله : رفع ( والموضوع ) في قوله : « وضع » ، فان المرفوع والموضوع يؤدّيان معنى واحدا ، وهو : عدم التكليف ، وقد ذكرنا الفرق بينهما في أوائل الشرح .

وعليه : فان ذلك كله إنّما يكون لو جعلنا الرفع والوضع ( في الروايات خصوص المؤاخذة ) فانه قد تقدّم في أوّل بحث البرائة في مسألة الشبهة التحريمية البدوية : ان المقدّر في هذه الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء أحد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون المقدر جميع الآثار في كل واحد من التسعة .

الثاني : أن يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه .

الثالث : تقدير المؤاخذة في الكل .

هذا ( وامّا لو عمّمناه ) أي : عمّمنا المرفوع أو الموضوع في الرواية ( لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول ) من الجزئية ، والشرطية ، وفساد الصلاة ، والصوم ، ووجوب الاعادة ، وسائر الآثار المجعولة شرعا ( كانت الدلالة أوضح ) لأن مدلول الرواية حينئذ رفع جميع الآثار الشرعية ، ومن الواضح : ان من جملة تلك الآثار الشرعية الوجوب الغيري المبحوث عنه في المقام .

ص: 277

لكن سيأتي ما في ذلك .

ثم إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدّليل العقلي المتقدّم ، بل كان العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب ، حاكمة على ذلك الدليل العقلي ، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل .

-------------------

( لكن سيأتي ما في ذلك ) من منع العموم ، وان ظاهر الرواية هو : منع المؤاخذة فقط ، لكنّا كما عرفت قد ذكرنا في أول بحث البرائة : ان مقتضى القاعدة هو العموم .

( ثم انّه لو فرضنا عدم تماميّة الدّليل العقلي المتقدّم ) لجريان البرائة عن الأكثر، والدليل هو : قبح العقاب بلا بيان ( بل كان العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر ) لتوهم ان التردد بين الأقل والأكثر كالتردد بين المتباينين ، فانه مع ذلك ( كانت هذه الأخبار ) الدالة على البرائة ( كافية في المطلب ) أي : في البرائة ، و ( حاكمة ) أيضا ( على ذلك الدليل العقلي ) القائل بالاحتياط .

وإنما تكون أخبار البرائة حاكمة عليه ، ( لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان ) الأكثر ( واجبا في الواقع ) .

وعليه : ( فلا يقتضي العقل وجوبه ) أي : وجوب الأكثر ( من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل ) لأن العقل إنما يوجب الاتيان بالأكثر من باب دفع العقاب المحتمل ، والشارع بسبب هذه الأخبار يقول : انه لا عقاب

ص: 278

وقد توهّم بعضُ المعاصرين عكس ذلك ، وحكومة أدلة الاحتياط على هذه الأخبار ، فقال : « لا نسلّم حجب العلم في المقام لوجود الدليل في المقام ، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة .

-------------------

محتمل في ترك الأكثر .

إذن : فحال المقام حال ما إذا تردّد النجس بين ثوبين ، فقامت البينة على طهارة أحدهما ، فان هذه البينة وهو دليل شرعي يمنع احتمال العقاب في هذا الثوب الذي قامت البينة على طهارته ، وفي المقام أيضا كذلك ، فانّ إذن الشارع في إرتكاب الأكثر بقوله : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) وما أشبه ، يرفع احتمال العقاب فينتفي موضوع حكم العقل ويبقى الواجب منحصرا في الأقل .

هذا ( وقد توهّم بعضُ المعاصرين ) وهو صاحب الفصول قدس سره ( عكس ذلك ) الذي ذكرناه : من حكومة روايات البرائة على الدليل العقلي القائل بوجوب الأكثر ( و ) العكس هو ما بيّنه : من ( حكومة أدلة الاحتياط على هذه الأخبار ) فأدلة البرائة تقول : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » ، ودليل الاحتياط يقول : « لم يحجب اللّه العلم » ، حيث قد أوجب الاحتياط ( فقال : «لا نسلّم حجب العلم في المقام ) أي : عند التردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين .

وإنّما قال ذلك ( لوجود الدليل في المقام ) على الاحتياط ( وهي : أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة ) والاشتغال اليقيني بالمركب من الأجزاء والشرائط يقتضي البرائة اليقينية باتيان كل الأجزاء والشرائط المشكوكة ،

ص: 279


1- - وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27، التوحيد : ص353 ح24 .

ثم قال : لأنّ ما كان لنا طريق إليه في الظاهر لايصدق في حقّه الحجب قطعا وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجيّة الأدلة الظنّية ، كخبر الواحد وشهادة العدلين ، وغيرهما .

قال : ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجيّة تلك الطرق ،

-------------------

فلا حجب حتى يكون مشمولاً لما حجب اللّه .

( ثم قال : لأنّ ما كان لنا طريق إليه في الظاهر، لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ) فان الوجوب الواقعي وان كان مشكوكا في انه الأقل أو الأكثر ، إلاّ ان الوجوب الظاهري للأكثر بسبب دليل الاشتغال طريق إلى الواقع ، فيثبت به الوجوب الظاهري للأكثر ، فلا يصدق معه الحجب يقينا .

( وإلاّ ) بأن صدق الحجب مع الطريق الظاهري فرضا ( لدلّت هذه الرواية ) أي: رواية الحجب ( على عدم حجيّة الأدلة الظنّية كخبر الواحد ، وشهادة العدلين ، وغيرهما ) من الاجماع المنقول ، والشهرة ، وظواهر الألفاظ ، وما أشبه ذلك .

وإنّما يستلزم ذلك لأن خبر الواحد - مثلاً - إنما هو حجة في صورة عدم العلم بالواقع والمفروض : ان الاشتغال طريق إلى الواقع ، فاذا قام خبر واحد على اباحة التتن - مثلاً - لا يمكننا أن نأخذ به ، بل يلزم ان نأخذ بالاشتغال لأنه طريق إلى الواقع بحرمة التتن ، ومعه لا يبقى مجال للأخذ بالخبر المبيح له ، لأن الخبر المبيح له إنما يكون حجّة فيما إذا لم يكن طريق إلى الواقع ، وقد فرض ان الاشتغال طريق إلى الواقع .

ولذلك ( قال : ولو التزم ) القائل بتقديم أدلة البرائة على دليل الاحتياط ( تخصيصها ) أي : تخصيص أدلة البرائة ( بما دلّ على حجيّة تلك الطرق ) كآية

ص: 280

تعيّن تخصيصها أيضا بما دلّ على حجيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ، ووجوب المقدمة العلميّة .

ثم قال : والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار

-------------------

النبأ الدالة على حجية خبر العادل (1) ، وحديث : « دع الشاذ النادر ، فان المجمع عليه لا ريب فيه » (2) الدال على حجية الاجماع والشهرة ، إلى غيرهما من الأدلة الدالة على حجية الطرق الخاصة فانه ان التزم بتخصيصها هناك ( تعيّن تخصيصها ) هنا( أيضا بما دلّ على حجيّة اصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ، و ) من ( وجوب المقدمة العلميّة ) .

وإنّما يلزم تخصيص أدلة البرائة بما دل على حجية الاشتغال وبما دل على وجوب المقدمة العلمية أيضا ، لأنّ أدلة حجية الاستصحاب عامة أو مطلقة فتفيد حجية استصحاب الاشتغال في كل مكان ، سواء كان قبل الاتيان بالأقل أم بعد الاتيان بالأقل ، كما ان ما دل على وجوب المقدمة العلمية يدل على لزوم الاتيان بالأكثر حتى بعد الاتيان بالأقل فيلزم تخصيص أدلة البرائة بهما أيضا .

والحاصل : انه كما تخصص أخبار البرائة بأدلة الأمارات والطرق ، كذلك يلزم أن تخصص أدلة البرائة بما دل على حجية الاشتغال : من استصحاب الاشتغال ، ومن وجوب المقدمة العلمية ، وغير ذلك .

( ثم قال ) صاحب الفصول : ( والتحقيق : التمسّك بهذه الأخبار ) أي : أخبار

ص: 281


1- - اشارة الى سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

على نفي الحكم الوضعيّ وهي الجزئية والشرطيّة » ، انتهى .

-------------------

البرائة ( على نفي الحكم الوضعيّ وهي الجزئية والشرطيّة ) (1) ونحوهما كالمانعية والقاطعية .

وعليه : فانه وان لم يصحّح التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم التكليفي حيث ان الجزء المشكوك مشكوك من جهة الحكم التكليفي وهو الوجوب ومن جهة الحكم الوضعي وهو الجزئية ، واخبار البرائة وان لم تنفع من جهة نفي الوجوب ، لأن أصالة الاشتغال المقتضية للوجوب حاكمة على أخبار البرائة ، إلاّ ان أخبار البرائة تنفع من جهة نفي الجزئية عن الجزء المشكوك لعدم معارضتها من جهة الجزئية مع دليل الاشتغال ، إذ الاشتغال مقتضاه : مجرد الوجوب دون الجزئية ، فاخبار البرائة تكون حاكمة عليها من هذه الجهة ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

ولا بأس ان ننقل هنا كلام صاحب الفصول الذي ذكره في الصحيح والأعم زيادة للفائدة واليك نصه : «السابع من أدلة البرائة : عموم قوله عليه السلام في الموثق : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) وغير ذلك مما يفيد مفاده كالصحيح : « رفع عن أُمتي تسعة » (3) وعدّ منها « ما لا يعلمون » ومثله قوله عليه السلام : « من عمل بما علم كفي ما لم يعلم » (4) ، فان لفظة : ما ، للعموم ، فيتناول حكم

ص: 282


1- - الفصول الفردية : ص50 ، بحر الفوائد : ج2 ص161 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 ، التوحيد : ص413 ح9 .
3- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769، التوحيد : ص353 ح24 .
4- - ثواب الاعمال : ص133 ، التوحيد : ص416 ح17 ، مشكاة الانوار : ص139 ، اعلام الدين : = = ص389 ، وسائل الشيعة : ج27 ص164 ب12 ح33498 .

...

-------------------

الجزء والشرط أيضا .

لا يقال : لا نسلم حجب العلم في المقام ، لقيام الدليل وهو : أصل الاشتغال على وجوب الاتيان بالأجزاء والشرائط المشكوكة .

لأنا نقول : المراد : حجب العلم بالحكم الواقعي ، وإلاّ فلا حجب في الحكم الظاهري .

وفيه نظر : لأن ما كان لنا اليه طريق ولو في الظاهر لا يصدق في حقه حجب العلم قطعا ، وإلاّ لدلت هذه الرواية على عدم حجية الأدلة الظاهرية ، كخبر الواحد، وشهادة العدلين ، والاستصحاب ، وغير ذلك مما يفيد العلم في الظاهر فقط ، ولو التزم تخصيصها بما دل على حجية تلك الطرق تعيّن تخصيصها أيضا بما دل على حجية اصالة بقاء الاشتغال من عمومات أدلة الاستصحاب ، ووجوب المقدمة العلمية .

بل التحقيق عندي ان يتمسك بالروايات المذكورة باعتبار دلالتها على نفي الحكم الوضعي نظرا إلى حجب العلم وانتفائه بالنسبة إلى جزئية الجزء المشكوك وشرطية الشرط المشكوك ، فيكون بمقتضى النص موضوعا ومرفوعا عنا في الظاهر ونكون مكفيّين عنه ، فلا تكليف به لأن ما ثبت عدم جزئيته أو عدم شرطيته في الظاهر لا يجب الاتيان به في الظاهر قطعا ، كما لو قام عليه نص بالخصوص ، فأصل الاشتغال ووجوب المقدمة العلمية لا يثبتان الجزئية والشرطية في الظاهر ، بل مجرد بقاء الاشتغال وعدم البرائة في الظاهر يثبتانهما .

ص: 283

أقول :

-------------------

وبالجملة : فمقتضى عموم هذه الروايات : ان ماهية العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن موارد التكليف ويرتفع عنه الابهام والاجمال وينتفي الاشكال ، ولو تشبث مانع بضعف عموم الموصولة وادعى : إن المتبادر منها بقرينة ظاهر الوضع والرفع ، إنما هو الحكم التكليفي فقط ، أمكن دفعه بما يلي :

أولاً : بأن الوضع والرفع لا اختصاص لهما بالحكم التكليفي فان المراد رفع فعلية الحكم ووضعها ، وهو صالح للتعميم إلى القسمين ، فيكون التخصيص تهكما .

وثانيا : بأن من الاصول المتداولة المعروفة ما يعبّرون عنه : بأصالة العدم ، وعدم الدليل دليل العدم ، فيستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ، ونحن قد تصفّحنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا غير عموم هذه الأخبار ، فيتعين تعميمها إلى الحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، وحينئذ فيتناول الجزئية والشرطية المبحوث عنهما في المقام .

ولك أن تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة التي كادت أن تكون اجماعا على ما حكاه الفاضل المعاصر ، وربما يظهر أيضا بالتصفح في مصنفاتهم والتتبع في مطاوي كلماتهم ، إلى ان قال : ولنا في المقام كلام آخر يأتي بيانه في الأدلة العقلية » (1) انتهى كلام الفصول .

( أقول ) : قد عرفت : ان صاحب الفصول قال بحكومة دليل الاشتغال على

ص: 284


1- - الفصول الفردية : ص50 .

قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه أنّ استصحاب الاشتغال لا يُثبت لزومَ الاحتياط، إلاّ على القول باعتبار الأصل المُثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل ، وأنّ العمدة في وجوب الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد اثبات تنجّز التكليف وأنّه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به ، وتردّده بين متباينين ، أو الأقلّ أو الأكثر .

-------------------

دليل البرائة ، ونحن نقول : دليل الاشتغال لا يجري في المقام أصلاً ، لأنه ( قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر ( أنّ استصحاب الاشتغال لايُثبت لزوم الاحتياط ) وذلك لان الاستصحاب إنما يثبت اللوازم الشرعية ووجوب تحصيل اليقين بالبرائة من اللوازم العقلية للاشتغال فلا يثبت بالاستصحاب ، ( إلاّ على القول باعتبار الأصل المُثبت الذي لا نقول به وفاقا ) منّا ( لهذا الفاضل ) وهو صاحب الفصول ، فانه أيضا لا يقول بالأصل المثبت .

هذا ( و ) قد ذكرنا أيضا : ( أن العمدة في وجوب الاحتياط ) في المتباينين قطعا ، وفي الأقل والأكثر عند من يقول بلزوم الاحتياط فيه باتيان الأكثر ( هو ) قاعدة الاشتغال ، لا استصحاب الاشتغال ، وقد تقدّم الفرق بين القاعدة وبين الاستصحاب .

أما قاعدة الاشتغال فهي : ( حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد اثبات تنجّز التكليف ) بسبب العلم الاجمالي ( وأنّه ) أي : الواجب الواقعي ( والمؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل ) التفصيلي ( به ) أي : بذلك الواجب الواقعي ( وتردّده ) أي : تردد ذلك الواجب الواقعي ( بين متباينين ، أو الأقلّ أو الأكثر ) عند من يرى لزوم الاحتياط بالاتيان بالأكثر .

ص: 285

ولا ريب أنّ ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف .

وحينئذٍ : فاذا أخبر الشارع - في قوله : « ما حجب اللّه » وقوله : « رُفِعَ عن أمتي » وغيرهما - بأنّ اللّه سبحانه لا يُعاقِبُ على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك وحصل الأمن منه ،

-------------------

( و ) إنما نقول بعدم جريان قاعدة الاشتغال في الأقل والأكثر ، لانه ( لا ريب أنّ ذلك الحكم ) أي : الاشتغال ( مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف ) من الأكثر .

( وحينئذ ) أي : حين كان مبناه ذلك ( فاذا أخبر الشارع - في قوله : « ما حجب اللّه » ) عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ( وقوله : « رُفِعَ عن أمتي » ) ما لايعلمون » (2) ( وغيرهما - ) مثل : « الناس في سعة ما لايعلمون » (3) حيث أخبر فيها ( بأنّ اللّه سبحانه لا يُعاقِبُ على ترك ما لم يعلم جزئيّته ) أو شرطيته ( فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك ) جزئيته أو شرطيته (وحصل الأمن منه ) أي : من العقاب على تركه .

ص: 286


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 وفيهما ما لم يعلموا ونظير ذلك ورد في الكافي ( فروع ) : ج6 ص297 ح2 ، المحاسن : ص452 ح365 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 .

فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل .

نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعية ، فانّه يخرج بذلك عن باب المقدمة ، لانّ المفروض أنّ تركها لايفضي إلى العقاب .

-------------------

وعليه : ( فلا يجري فيه ) أي : في هذا الجزء أو الشرط المشكوك ( حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ) ويكون ( نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات ) فانه إذا تردد أمر القبلة بين أربع جهات ، وجب عليه من باب المقدمة العلمية ان يأتي بأربع صلوات ، لكن اذا قامت البينة على ان جهة الجنوب ليست قبلة قطعا صلّى إلى ثلاث جهات آخر فقط ولم يجب عليه الاتيان بالصلاة إلى جهة الجنوب حتى ( لو فرض كونها القبلة الواقعية ) وذلك لأن الشارع جعل البينة حجة ، وقد قامت على خلافه .

وعليه : ( فانّه ) أي الاتيان بالصلاة إلى الجهة الخاصة ( يخرج بذلك عن باب المقدمة ، لانّ المفروض ان تركها ) أي : ترك الصلاة إلى الجهة الخاصة التي قامت بالبينة على عدم كونها قبلة ( لا يفضي إلى العقاب ) لحصول المؤمّن حيث جعل الشارع البينة - مثلاً - حجة بقوله عليه السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة » (1) .

والحاصل : ان العقل يحكم بوجوب احراز محتملات الواجب الواقعي المردد بين الأقل والأكثر ، أو المردد بين المتباينين كاحراز محتملات القبلة عند اشتباهها،

ص: 287


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط كان لحكومة تلك الاخبار على أخبار البرائة وجهٌ أشرنا اليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف .

-------------------

وهذا الوجوب مبني على وجوب دفع العقاب المحتمل في ترك كل من هذه الجهات ، فاذا فرض ترخيص الشارع في ترك بعضها ، كان هذا الترخيص واردا على حكم العقل ، لارتفاع احتمال العقاب من هذه الجهة .

وكذلك لما قال الشارع : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) كان الأكثر المحتمل مأمون الجانب ، فلا عقاب عليه ، فلا يلزم الاتيان بالأكثر وإنما يجب الاتيان بالأقل للقطع بأنّه المكلّف به .

( نعم ، لو كان مستند الاحتياط اخبار الاحتياط ) مثل : «احتط لدينك» لا الدليل العقلي الدال على الاحتياط ( كان لحكومة تلك الاخبار ) أي : اخبار الاحتياط ( على اخبار البرائة وجهٌ أشرنا اليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف ) لكن صاحب الفصول لم يقل بحكومة اخبار الاحتياط على اخبار البرائة ، وإنّما قال بحكومة الدليل العقلي للاحتياط على اخبار البرائة .

وعليه : فان مستند الاحتياط ان كان هو استصحاب الاشتغال ، فقد عرفت : انه مثبت والاستصحاب المثبت ليس بحجة حتى باعتراف من الفصول نفسه ، وان كان هو قاعدة الاشتغال ، فقد مرّ : ان قاعدة الاشتغال محكومة في مقابل أخبار البرائة .

وإن كان هو اخبار الاحتياط فقد سبق : ان اخبار الاحتياط إرشادية تؤكد حكم

ص: 288


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الاخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المُثبِت أيضا ، كما أشرنا اليه سابقا ، لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه

-------------------

العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، فهي أيضا محكومة في مقابل اخبار البرائة الدالة على ان الشارع لا يؤاخذ بالشيء المجهول ، ( وممّا ذكرنا ) من حكومة اخبار البرائة على قاعدة الاشتغال في باب الشك بين الأقل والأكثر ، وانّه مسرح لقاعدة الاشتغال مع اخبار البرائة ( يظهر حكومة هذه الاخبار ) أي : اخبار البرائة ( على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا ، كما أشرنا اليه سابقا ) حيث قلنا : بأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على استصحاب الاشتغال ، لانّ الاشتغال المعلوم اجمالاً قد تعيّن في الأقل وانتفى عن الأكثر ، فلا اشتغال يشك في بقائه بعد الاتيان بالأقل حتى يستصحب ذلك الاشتغال ؟ .

إذن : فاستصحاب الاشتغال لا يمكن الاعتماد عليه في ايجاب الأكثر من جهتين :

الاُولى : من جهة إنّ استصحاب الاشتغال مثبت ، والأصل المثبت ليس بحجة .

الثانية : من جهة ان اخبار البرائة حاكمة على استصحاب الاشتغال حتى على فرض تسليم حجية الأصل المثبت .

وعليه : فالمرجع في الأكثر عند الشك يكون هو البرائة لا الاشتغال ( لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه ) لقوله : «ما حجب اللّه علمه عن العباد»(1) ولقوله: «رفع... ما لا يعلمون»(2) وما أشبه ذلك

ص: 289


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال ، ص417 ح24 ، وسائل الشيعة : = = ج15 ص369 ب56 ح20769 .

كان المستصحبُ ، وهو الاشتغال المعلوم سابقا ، غيرَ متيقن إلاّ بالنسبة إلى الأقل ، وقد ارتفع باتيانه ، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة الأكثر منفي بحكم هذه الأخبار .

وبالجملة : فما ذكره من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الأخبار ضعيف جدا ، نظرا إلى ما تقدّم .

وأضعف من ذلك أنّه رحمه اللّه عدلَ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلة الاحتياط على هذه

-------------------

( كان المستصحب ، وهو الاشتغال المعلوم سابقا ، غير متيقن إلاّ بالنسبة إلى الأقل ) فيكون الأقل من أول الأمر هو الواجب فقط لتعيّن الاشتغال به ( وقد ارتفع باتيانه ) فلا اشتغال حتى يستصحب ( و ) ان قلت : بعد الاتيان بالأقل يحتمل بقاء الاشتغال بالأكثر ، لاحتمال وجوبه ، فيلزم الاتيان بالأكثر .

قلت : ( احتمال بقاء الاشتغال حينئذ ) أي : بعد الاتيان بالأقل اشتغالاً ( من جهة الأكثر ، منفي ) من أول الأمر ( بحكم هذه الأخبار ) الدالة على البرائة .

( وبالجملة : فما ذكره ) صاحب الفصول : ( من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الأخبار ) الدالة على البرائة ( ضعيف جدا ، نظرا إلى ما تقدّم ) : من ان الأمر بالعكس وهو : ان أدلة البرائة حاكمة على أدلة الاشتغال .

( وأضعف من ذلك ) الذي ذكره : من حكومة دليل الاشتغال على أخبار البرائة ( انّه رحمه اللّه عدلَ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلة الاحتياط على هذه

ص: 290

الاخبار ، عن الاستدلال بها لمذهب المشهور ، من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسك بها في نفي الحكم الوضعي ، أعني : جزئية الشيء المشكوك أو شرطيته ، وزعم أنّ ماهيّة المأمور به تبيّن ظاهرا كونها الأقل بضميمة نفي جزئية المشكوك ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال .

قال في توضيح ذلك : « إنّ مقتضى هذه الروايات أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة

-------------------

الاخبار ) كما عرفت : من انه تصور أنّ أدلة الاحتياط بيان ، ومع وجود البيان لايصدق الحجب ونحوه .

ثم انه لأجل تصوره هذا ، عدل ( عن الاستدلال بها ) أي : باخبار البرائة ( لمذهب المشهور ) القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط المشكوكة لاخبار البرائة ، فانه عدل عن الاستدلال بها ( من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسك بها ) أي : بأخبار البرائة ( في نفي الحكم الوضعي ، أعني : جزئية الشيء المشكوك ) وقوله : « المشكوك » ، صفة لقوله : « جزئية » يعني : الجزء المشكوك ( أو شرطيته ) .

وعليه : فان المشهور استدلوا بأخبار البرائة على البرائة من طريق نفي الحكم التكليفي ، بينما صاحب الفصول عدل عن ذلك واستدل باخبار البرائة على البرائة من طريق نفي الحكم الوضعي ( وزعم انّ ماهيّة المأمور به تبيّن ظاهرا كونها الأقل بضميمة نفي جزئية المشكوك ) فلا مجرى للاشتغال ( ويحكم بذلك ) أي : بدليل البرائة بعد تبيّن الماهية ( على أصالة الاشتغال ) فتكون أدلة البرائة حاكمة على أصل الاشتغال .

ثمّ ( قال في توضيح ذلك : « إنّ مقتضى هذه الروايات ) أي روايات البرائة ( : أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة ) لا الأجزاء المشكوكة كالأكثر

ص: 291

بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها الاجمال والابهام » .

ثم أيّد هذا المعنى ، بل استدلّ عليه بفهم العلماء منها ذلك حيث قال : « انّ من الاصول المعروفة عندهم

-------------------

( بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ) وهو الأقل ( ويرتفع منها ) أي : من ماهية العبادات ( الاجمال والابهام » ) (1) بذلك .

( ثم أيّد هذا المعنى ) الذي ذكره : من انّ اخبار البرائة حاكمة على دليل الاشتغال من جهة نفيها للحكم الوضعي من الجزئية والشرطية بفهم الأصحاب .

( بل استدل عليه بفهم العلماء منها ذلك ) أي : نفي الحكم الوضعي حيث قال في عبارته المتقدمة من الفصول : « ولك ان تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة » إلى آخر كلامه .

والحاصل من كلام الفصول هو : انّ العلماء كما فهموا من هذه الروايات نفي الحكم التكليفي وجوبيا كان كالدعاء عند رؤية الهلال ، أو تحريميا كشرب التتن ، كذلك فهموا من هذه الروايات نفي الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية .

ثم انّ ترديد المصنِّف في قوله : ثم أيد هذا المعنى ، بل استدل عليه ، إنما هو للترديد في كلام صاحب الفصول ، فانه قد جعل فهم العلماء في بعض كلامه مؤيدا ، وفي بعض كلامه الآخر دليلاً مستقلاً ( حيث قال ) رحمه اللّه : ( انّ من الاصول المعروفة عندهم ) أي : عند العلماء الأصلين التاليين :

ص: 292


1- - الفصول الغروية : ص50 .

ما يعبّر عنه بأصالة العدم ، وعدم الدليل دليل العدم ، ويستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ، ونحن قد تصفحنا ، فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسكُ له غير عموم هذه الأخبار ، فتعيّن تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، فيتناول

-------------------

الأوّل : ( ما يعبّر عنه : بأصالة العدم ) فكل شيء حادث إنما يكون حدوثه بعد عدمه ، فاذا شككنا في شيء انه قد حدث أم لا ، كان الأصل العدم .

( و ) الثاني : ( عدم الدليل دليل العدم ) فاذا لم نجد دليلاً على شيء مع انه لو كان لبان ، كان عدم وجداننا دليلاً على عدم وجوده .

هذا ( ويستعملونه ) أي : كلاً من الأصلين المذكورين ( في نفي الحكم التكليفي ) فيقولون - مثلاً - : الأصل عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو الأصل عدم حرمة شرب التتن لأنهما حادثان لم يدل عليهما دليل ، أو لأنه لو كان عليهما دليل لبان ، لكن حيث لا دليل واضح عليهما فلا وجوب لهما .

( و ) كذا يستعملونه في نفي الحكم ( الوضعي ) فيقولون - مثلاً - : الأصل عدم جزئية جلسة الاستراحة للصلاة ، أو الأصل عدم ناقضية المذي للوضوء ، لأنهما حادثان لا دليل عليهما ، أو لأنه لو كانت الجلسة جزءا أو المذي ناقضا لكان على ذلك دليل ، لكنّا لم نجد دليلاً فلا يكون المذي ناقضا ، ولا الجلسة واجبة .

( ونحن قد تصفحنا ، فلم نجد لهذا الأصل ) أي : لكل واحد من الأصلين المذكورين ( مستندا يمكن التمسك له غير عموم هذه الأخبار ) أي : أخبار البرائة، فأخبار البرائة هي المستند لهذين الأصلين ( فتعيّن تعميمها ) أي : تعميم أخبار البرائة ( للحكم الوضعي ) اضافة إلى شمولها للحكم التكليفي .

وعليه : فيكون التعميم للحكم الوضعي ( ولو بمساعدة افهامهم ، فيتناول

ص: 293

الجزئي المبحوث عنها في المقام » ، انتهى .

أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي ، فلولا عدوله عنه في باب البرائة والاحتياط من الأدلة العقلية لذكرنا بعضَ ما فيه من منع العموم أولاً ، ومنع كون الجزئية أمرا مجعولاً شرعيا غير الحكم التكليفيّ وهو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء ثانيا .

-------------------

الجزئي المبحوث عنها في المقام ) (1) أي : في باب الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

( أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي ) أي : لنفي الحكم الوضعي ( فلولا عدوله عنه في باب البرائة والاحتياط من الأدلة العقلية ) حيث قد تقدّم كلام صاحب الفصول رحمه اللّه ، وانه عدل عن ادعائه هذا ، فلولا ذلك ( لذكرنا بعض ما فيه : من منع العموم أولاً ) كما اعترف هو به .

( ومنع كون الجزئية أمرا مجعولاً شرعيا غير الحكم التكليفيّ ) فان المصنِّف يرى ان الأحكام الوضعية ليست أمرا مجعولاً كالأحكام التكليفية ، بل يرى الأحكام الواردة من الشارع هي الأحكام الخمسة المعروفة فقط ، والأحكام الوضعية يراها اُمورا منتزعة منها ، فالجزئية - مثلاً - منتزعة من حكم تكليفي ( وهو : إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء ) فاذا قال الشارع - مثلاً - : الصلاة تكبيرة وقرائة وركوع وسجود ، انتزع من هذا الأمر المركب ، الجزئية لكل واحد من هذه الاُمور ، فلا يتم كلام الفصول ذلك ( ثانيا ) .

ص: 294


1- - الفصول الغروية : ص50 .

وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفح ، ففيه، أنّ : ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار .

أمّا أصل العدم ، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعية أيضا من الأحكام اللفظية ، كأصالة عدم القرينة وغيرها فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدمة ؟ .

وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ،

-------------------

هذا ( وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفح ) في كلماتهم ( ففيه : أنّ ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام ) أي : مقام كلماتهم حول الأصلين الذين ذكرهما ( أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار ) أي : إلى أخبار البرائة حتى يقال بأنهم فهموا من هذه الأخبار العموم .

( أمّا أصل العدم : فهو الجاري عندهم في ) نفي الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية عند من يرى الأصالة في الأحكام الوضعية ، و ( غير الأحكام الشرعية أيضا : من الأحكام اللفظية كأصالة عدم القرينة وغيرها ) من أصالة عدم النقل ، وأصالة عدم الاضمار ، وما أشبه ذلك .

وعليه : ( فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدمة ؟ ) أي بأخبار البرائة ، مع ان أصل عدم القرينة ، أو أصل عدم المجازية ، أو أصل عدم الاشتراك ، أو ما أشبه ذلك ، لاربط لها بالتكليف حتى يقال : ان الأصل البرائة ، ولا يبعد ان يكون أصل العدم مستندا عندهم إلى أدلة الاستصحاب في باب الأحكام ، وإلى بناء العقلاء في باب الألفاظ .

( وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ) غير اخبار

ص: 295

ذكره كلّ مَن تعرّض لهذه القاعدة ، كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي .

وبالجملة : فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين : أمّا روايةُ الحجب ونظائرها ، فظاهرٌ .

-------------------

البرائة وهو حصول القطع في باب اُصول الدين ، فانهم يقولون بأن مدّعي النبوة إذا لم يأت بمعجزة تدل على صدقه ، فانه يحصل من عدم الدليل على نبوته القطع بعدم نبوته ، ويقولون بمثل ذلك في بعض الأحكام مما يكون المناط فيه الظن ، فيقولون : ان عدم الدليل يوجب الظن بالعدم .

وعليه : فان عدم الدليل دليل العدم ، قد ( ذكره كلّ مَن تعرّض لهذه القاعدة ) أي: قاعدة عدم الدليل دليل العدم ( كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي ) وذلك لأنه يعمهما ويعمّ غيرهما .

( وبالجملة : فلم نعثر على مَن يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين ) الذين ذكر صاحب الفصول إن مستندهما هو أخبار البرائة .

( أمّا روايةُ الحجب (1) ونظائرها ) كرواية السعة (2) ( فظاهرٌ ) أي : في عدم تمسك الأصحاب بها للمقام ، وذلك لأنهم لم يفهموا منها ما ذكره من رفع الحكم الوضعي ، بل انهم استدلوا بها على رفع الحكم التكليفي فقط .

ص: 296


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - الكافي اصول : ج6 ص297 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، المحاسن : ص425 ح365 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

وأمّا النبويُّ المتضمّنُ لرفع الخطأ والنّسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ، كأخواته من رواية الحجب وغيرها ، وهو المحكيّ عن أكثر الاصوليين ، وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام غير التكليفيّة ، لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين ، بحيث لولا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم .

-------------------

( وامّا النبويّ (1) المتضمّن لرفع الخطأ والنّسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ) كالمصنف رحمه اللّه ( ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ) لانه إذا لم تكن مؤاخذة لم يكن حكم تكليفي ، فيكون النبوي عندهم ( كأخواته من رواية الحجب وغيرها ) مما تقدّم ( و ) دلالتها على رفع المؤاخذة ( هو المحكيّ عن أكثر الاصوليين ) .

وعليه : فأصحابنا بين مدّع ظهور الاخبار في نفي الحكم التكليفي فقط ( وبين من يتعدى عن ذلك ) أي : عن كونها رافعة للحكم التكليفي فقط ( إلى ) نفي ( الأحكام غير التكليفيّة ) أيضا كنفي الجزئية والشرطية ، والحدود والقصاص ، وغير ذلك .

( لكن ) ذلك إنما يكون منهم ( في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم ) غير التكليفي ( وعدم جريان الأصلين المذكورين ) فيه .

وعليه : فمورد النبوي ما إذا كان هناك دليل عام شامل لهذه الاُمور التسعة وغيرها ( بحيث لولا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم ) فقوله سبحانه :

ص: 297


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

ونظرهم في ذلك إلى أنّ النبويّ ، بناءا على عمومه لنفي الحكم الوضعي، حاكمٌ على تلك الأدلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي .

ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين

-------------------

« وجزاء سيئة سيئة مثلها » (1) شامل للعامد والخاطئوالناسي ، غير ان حديث الرفع يرفع هذا الحكم عن الناسي والخاطئ، وقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (2) شامل لكل الصور ، غير ان الناسي مرفوع الحكم بسبب حديث الرفع ، إلى غير ذلك .

وبذلك تبيّن : ان النبوي لا يكون دليلاً على الأصلين المذكورين ، لأنّ بين النبوي وبين الأصلين المذكورين تباينا ، إذ مورد الأصلين هو ما لا يكون فيه دليل، ومورد حديث الرفع هو ما كان هناك فيه دليل ، لكن حديث الرفع يرفعه .

( ونظرهم في ذلك ) أي : فيما ذكروه : من انه يلزم أن يكون هناك دليل بحيث لولا حديث الرفع لكان ذلك الدليل محكما ، فيؤخذ - مثلاً - بدليل : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» غير ان حديث الرفع يرفع ذلك في مورد النسيان فنظرهم ( إلى انّ النبويّ بناءا على عمومه لنفي الحكم الوضعي ) ورفعه لجزئية السورة في الصلاة ( حاكمٌ على تلك الأدلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي ) القائلة بأن الفاتحة جزء الصلاة : وما أشبه ذلك .

( ومع ما عرفت ) من تباين المورد بين حديث الرفع ، وبين الأصلين المذكورين ( كيف يدّعي ) صاحب الفصول ( انّ مستند الأصلين المذكورين

ص: 298


1- - سورة الشورى : الآية 40 .
2- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

المتّفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة .

نعم ، يمكن التمسّكُ بها أيضا في مورد جريان الأصلين المذكورين ، بناءا على أنّ صدق رفع أثر هذه الاُمور ، أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ، كما يحصلُ بوجود المقتضي لذلك الأمر تحقيقا ، كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر ، الشامل لصورة الخطأ والنسيان ، كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي ،

-------------------

المتّفق عليهما هو هذه الروايات ) أي : روايات الرفع ( التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة ) فقط ؟ ومن الواضح : انه لا يكون المباين دليلاً لمباينه .

( نعم ، يمكن التمسّك بها ) أي : بروايات الرفع ( أيضا ) كما يتمسك بها في رفع الحكم ورفع الوضع ( في مورد جريان الأصلين المذكورين ) فيكون لبعض الموارد دليلان : دليل الرفع ، ودليل أصل العدم .

وإنّما يمكن التمسك بها أيضا ( بناءا على أنّ صدق رفع أثر هذه الاُمور أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ، كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأمر تحقيقا ) أي : وجودا تحقيقيا ، بأن يكون هناك مقتضي كامل للحكم ، غير ان الخطأ والنسيان وأخواتهما يرفع ذلك المقتضي .

( كما في موارد ثبوت الدليل ، المثبت لذلك الأثر ، الشامل لصورة الخطأ والنسيان ) وأخواتهما ، فالمقتضي لأن تكون الفاتحة - مثلاً - جزءا من الصلاة موجود ، لكن حديث الرفع يرفع هذا المقتضي بالنسبة إلى الناسي وشبهه .

إذن : فكما يحصل صدق الرفع بوجود المقتضي لذلك الأمر ( كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي ) له ، بأن لم يكن هناك مقتضي أصلاً ، وإنما يتوهم وجود

ص: 299

ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق ،

-------------------

المقتضي لما يراه العقل من صحة تنجيز الشارع للتكليف بملاحظة المصالح والمفاسد الموجودة في تلك الأفعال .

مثلاً : يرى العقل صحة تنجيز التكليف على الخاطئوالناسي لأجل إيجاب التحفّظ ، أو لأجل إيجاب الاحتياط ، أو لأجل إثبات القضاء والاعادة والكفارة وما أشبه ذلك ، إلاّ ان الشارع بسبب هذه الرواية رفع الأثر عن هذه الاُمور ، فيتحقق بذلك فيما نحن فيه دليل : « رفع... ما لايعلمون » ، و « عدم الدليل دليل العدم » كلاهما .

والحاصل : ان « رفع ... ما لا يعلمون » يشمل ما لولا الرفع لكان ثابتا بالدليل ، كما مثّلنا له بقوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» ويشمل أيضا ما لولا الرفع لم يكن ثابتا مثل : وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فان الدعاء ليس بواجب حتى لو لم يرد حديث الرفع .

لا يقال : فكيف تقولون انه مرفوع مع ان ظاهر الرفع : هو رفع الشيء الثابت ؟ .

لأنه يقال : المراد بالرفع ما كان له مقتضٍ للاثبات ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، فان له مقتضٍ ، لأنه شكر للّه سبحانه على الشهر الجديد ، فيكون موردا لاجتماع الدليلين فيه : حديث الرفع ، وأصالة العدم .

إذن : فالدعاء عند رؤية الهلال مرفوع الوجوب حتى ( ولو لم يكن عليه دليل ) يدل على اثباته ( ولا له مقتض محقّق ) في الخارج بسبب دليل ، إذ لا دليل خارجا على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال يشمل إطلاقه الناسي وغير الناسي حتى يقال: انه رفع بدليل رفع النسيان .

ص: 300

لكن تصادقَ بعض موارد الأصلين والرواية مع تباينهما الجزئي لا يدلّ على استناد لهما بها ، بل يدلّ على العدم .

-------------------

( لكن تصادق بعض موارد الأصلين والرواية ) وذلك في موارد توهم ثبوت المقتضي كما ذكرناه ( مع تباينهما الجزئي ) من جهة وجود مادة الافتراق في هذه الجهة ومادة الافتراق في تلك الجهة ( لا يدل على استناد لهما ) أي : للأصلين ( بها ) أي : بأحاديث الرفع ( بل يدلّ على العدم ) أي : عدم استناد أحد الأمرين إلى الآخر .

والحاصل : ان النسبة بين الأصلين وبين روايات الرفع إمّا التباين ، والمتباينان لا يمكن أن يكون أحدهما دليلاً على الآخر ، وإمّا عموم من وجه ، والعامان من وجه أيضا لا يمكن أن يكون أحدهما دليلاً على الآخر ، فلا يصح أن يقال في البيت أبيض لأنّ فيه انسانا ، أو ان في البيت انسانا لأنّ فيه أبيض ، مع انه بين الانسان والأبيض عموم من وجه ، فيلزم أن يكون هناك دليل بحيث لولا حديث الرفع لكان ذلك الدليل محكما .

وأمّا تصوير نسبة العموم من وجه هنا ، فكما يلي : أما مادة اجتماع الأصلين فهو: مورد توهم المقتضي - مثلاً - كالدعاء عند رؤية الهلال على ما عرفت ، وأما مادة الافتراق من جهة دليل الرفع فهو : مورد «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» - مثلاً - حيث يشمل الناسي للقرائة دليل الرفع ، ولا يشمله أصل العدم ، إذ لا أصل للعدم بعد قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) وأما مادة الافتراق من جهة عدم الدليل فهو: مورد الاصول اللفظية - مثلاً - كأصالة عدم القرينة ، وعدم النقل ، وعدم

ص: 301


1- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

ثمّ إنّ في الملازمة - التي صرّح بها في قوله : «وإلاّ لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنيّة كخبر الواحد وغيره» - منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ، فافهم .

-------------------

التخصيص ، وغير ذلك ، حيث يشملها دليل العدم ولا يشملها دليل الرفع .

( ثمّ إنّ في الملازمة - التي صرّح بها ) الفصول ( في قوله : « وإلاّ لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنيّة : كخبر الواحد وغيره» - منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ) فان صاحب الفصول بعد أن ذكر تقديم أدلة الاحتياط على أدلة البرائة ، قال : ولو كانت أدلة البرائة مقدمة على أدلة الاحتياط ، لكانت مقدمة على الأمارات الظنية أيضا ، والتالي فاسد ، فالمقدّم مثله ، فرده الشيخ بالفرق بين أدلة الاحتياط والأمارات الظنية بما حاصله : إنّ دليل الأمارات يكشف عن الواقع ، فاذا قام الدليل على وجوب صلاة الجمعة لم يبق مجال للشك في صلاة الجمعة ، فلا يكون محلاً لدليل البرائة ، إذ دليل البرائة إنما هو في الشك ، والخبر الواحد قد يرفع الشك بينما دليل الاحتياط لايكشف عن الواقع ، وإنما يوجب الاحتياط لدفع العقاب المحتمل ، وأدلة البرائة تقول لا عقاب محتمل فلا يكون محلاً لدليل الاحتياط ، ولذا يكون دليل البرائة محكوما بدليل الأمارات ، وحاكما على دليل الاحتياط ، فلا يقاس أحدهما بالآخر كما فعله الفصول .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان ظاهر حديث الرفع : رفع جميع الآثار ، فان حذف المتعلق يفيد العموم ، لا خصوص المؤاخذة ، أو إشارة إلى ان ظاهر الرفع : الرفع حقيقة لا الرفع للتوهم كما ذكره بقوله : كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي .

ثم ان الذي نستظهره في الرفع - بعد القول بشمول جميع الآثار على ما نراه -

ص: 302

واعلم أنّ هنا اُصولاً ربما يتمسك بها على المختار :

منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها.

ومنها : أصالة عدم وجوب شيء المشكوك في جزئيته ،

-------------------

هو : إمّا بملاحظة ما كان على الاُمم السابقة فرفع عن هذه الاُمة ، وأمّا بملاحظة اقتضاء المقتضي كما ذكره المصنِّف ، وإمّا بملاحظة اثبات القلم التكليف في حق المكلفين حتى إذا وصل إلى الناسي والجاهل ومن أشبههما رفع عنهم تشبيها للمعقول بالمحسوس ، من قبيل : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ » (1) ومحل الكلام فيه غير هذا المكان .

( واعلم أنّ هنا ) في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( اصولاً ربما يتمسك بها على المختار ) أي : القول بالبرائة عن الأكثر لكنها غير تامة .

( منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها ) باسهاب حين قال المصنِّف ما خلاصته : لكن الانصاف انّ التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر غير نافع في المقام ، بل هو قليل الفائدة لأنّ نفي العقاب لا يحتاج إلى هذا الأصل ، بل يكفي فيه مجرد الشك في وجوب الأكثر ، مضافا إلى ان الاستصحاب لا ينفي الأثر العقلي لانه مثبت ، ونفي الأثر الشرعي المترتب على خصوص وجوبه النفسي معارض بأصالة عدم كون الأقل واجبا نفسيا ، والأثر الشرعي المترتب على مطلق وجوبه نادر جدا ، فأصالة عدم وجوب الأكثر قليل الفائدة بل غير نافع .

( ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته ) فاذا شككنا - مثلاً -

ص: 303


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، بحار الانوار : ج5 ص303 ب14 ح13 ، غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 بالمعنى .

حاله حال سابقه بل أردء ، لأنّ الحادث المجعول هو وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ، ووجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّية لازم له غير حادث بحدوث مغاير ، كزوجيّة الأربعة ،

-------------------

بأن الاستعاذة قبل القرائة جزء من الصلاة أم لا ، فالأصل عدم جزئيته ( وحاله ) أي: حال هذا الأصل ( حال سابقه ) في البطلان ( بل أردء ، لأنّ الحادث المجعول هو : وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ) إذ ليس للجزء وجوب آخر غير وجوب الكل ، فمرجعه إلى أصالة عدم وجوب الأكثر وهو الأصل السابق وقد عرفت جوابه .

( و ) ان قلت : لا نريد بأصالة عدم وجوب الجزء المشكوك الوجوب النفسي الذي هو عين الكل ، بل نريد وجوبه المقدمي .

قلت : ( وجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّية ، لازم له غير حادث بحدوث مغاير ) فان الوجوب المقدمي وغير النفسي له معنيان :

الأوّل : الوجوب اللغوي بمعنى اللابدية الواقعية وهو : إنّ ذا المقدمة إذا اريد حصوله فلابد أن يحصل من طريق المقدمة ، وهذا من لوازم المقدمية ، بل من مقوماتها ( كزوجيّة الأربعة ) فإنّ وجوب الجزء بهذا المعنى لا يجري فيه أصل العدم ، لانه تابع للمقدمة ، فان حصلت حصل ، وان لم تحصل لم يحصل ، فكما لا يجري الأصل في عدم زوجية الأربعة كذلك لا يجري الأصل في لابدّية المقدمة.

الثاني : الوجوب العقلي بمعنى الملازمة العقلية وهو : ان الأمر بالشيء يدل على وجوب مقدمته بالدلالة الالتزامية فان وجوب الجزء بهذا المعنى وان كان

ص: 304

وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير، لكن لايترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه ، إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ، ليثبت بذلك كون الماهية هي الأوّل .

ومنها : أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك .

-------------------

حادثا إلاّ أنّ الأصل لا يجري فيه ، لأنه مثبت ، كما قال المصنِّف : ( وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ) فيمكن أن يكون مسرحا للأصل ( لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه ، إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ، ليثبت بذلك ) أي : بجريان الأصل بهذا المعنى ( كون الماهية هي الأوّل ) ومن المعلوم : إنّ الأصل المثبت ليس بحجة كما ثبت في موضعه .

إذن : فأصالة عدم وجوب هذا الجزء كالاستعاذة - مثلاً - لا يترتب عليه أثر فيما نحن فيه من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، إلاّ تعيين الماهية في الأقل ، وهو: أثر عقلي يتوقف اثباته على حجية الأصل المثبت ، وقد عرفت : انه ليس بحجة .

وانّما قال المصنِّف : انه أردء ، لان وجوب الأكثر من الحوادث المسبوقة بالعدم ، بينما وجوب الجزء على بعض المعاني يكون من اللوازم الذاتية كزوجية الأربعة ، وهي كما عرفت : ليست من الحوادث المسبوقة بالعدم .

( ومنها : أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك ) والمراد بالجزئية هنا ، هو : المعنى المعروف بالحكم الوضعي الذي اختلف في كونه مجعولاً بجعل على حدة كما هو المشهور ، أو منتزع من الحكم التكليفي كما يراه المصنِّف ، فيكون المراد بالأصل هنا : أصالة عدم هذا المعنى .

ولا يخفى : إنّ الفرق بين ما ذكره المصنِّف هنا بقوله : أصالة عدم جزئية الشيء

ص: 305

وفيه : أنّ جزئية الشيء المشكوك ، كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم .

-------------------

المشكوك ، وبين ما تقدّم من قوله : اصالة عدم وجوب الشيء المشكوك هو : إنّ ما تقدّم كان في صدد استصحاب عدم الوجوب وهو : عدم الحكم ، وهذا في صدد استصحاب عدم ذات الجزء وهو : عدم الموضوع .

هذا ، وقد شقّق المصنِّف فيما تقدّم الوجوب وهو الحكم في الجزء إلى احتمالات ثلاثة :

الأوّل : وجوبه حال كونه جزءا من الكل .

الثاني : وجوبه المقدمي بمعنى اللابدية الواقعية في الاتيان بالكل .

الثالث : وجوبه الغيري العارض له مع ملاحظته في نفسه وكونه مقدمة للاتيان بالكل ، وقد عرفت جواب هذه الاحتمالات الثلاثة .

ثم ان المصنِّف بعد ذلك شقق ذات الجزء وهو : الموضوع فيما نحن فيه إلى احتمالات ثلاثة أيضا ، فأشار إلى الاحتمال الأوّل حين قال : ومنها : اصالة عدم جزئية الشيء المشكوك وقد مضى شرحه ، ثم أجاب عنه بما يلي :

( وفيه : إنّ جزئية الشيء المشكوك ، كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم ) يعني : انه ان اريد باصالة عدم الجزئية : اصالة عدم كون المشكوك من أجزاء المركب فهو غير تام على كل تقدير ، لان الجزئية قبل جعل المركب يقيني الانتفاء بسبب انتفاء المركب ، فلا معنى لاستصحابه بعد جعل المركب ، والجزئية بعد جعل المركب ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم حتى تنفى بالأصل عند الشك فيها ، بل هي منتزعة من وجوب المركّب ، فان وجب الأكثر فالاستعاذة جزء ، وإلاّ فليست جزءا ، فلا مورد للاستصحاب بهذا المعنى

ص: 306

وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزءً المركب المأمور به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزءا منه ؛ ففيه : ما مرّ من انّه أصل مثبت .

وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه

-------------------

على التقديرين .

ثم أشار إلى الاحتمال الثاني بقوله : ( وإن اريد : أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركب المأمور به ) بمعنى : ان الأصل عدم تعلق أمر الشارع بالمركب الذي تكون السورة جزءا منه ، فلم يتعلق الوجوب بهذا الجزء وهو السورة منضما إلى سائر الأجزاء ( ليثبت بذلك ) أي : بأصالة العدم ( خلوّ المركّب المأمور به منه ) أي: من هذا الجزء المشكوك ، كخلوّ الصلاة من السورة - مثلاً - فيما إذا شك في ان السورة واجبة في الصلاة أم لا ؟ .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الأصل ( إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزءا منه ) بما يرجع إلى أصالة عدم وجوب الأكثر ، فانا إذا علمنا اجمالاً تعلق أمر الشارع امّا بمركب مشتمل على السورة ، وامّا بمركب خال من السورة ، فاصالة عدم الأوّل يثبت الثاني .

( ففيه : ما مرّ من انّه أصل مثبت ) مضافا إلى ان مثل هذا الأصل معارض بالمثل، فالأصلان فيهما من قبيل ان يقال : الأصل عدم الليل فهو نهار ، أو الأصل عدم النهار فهو ليل ، وذلك فيما إذا شك في انه ليل أو نهار حيث ان أصل عدم كونه ليلاً معارض بأصل عدم كونه نهارا .

ثم أشار المصنِّف إلى الاحتمال الثالث بقوله : ( وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك ) جزئيته ، كالسورة فيما مثلنا له من الصلاة ( في المركّب عند اختراعه )

ص: 307

له ، الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة الأجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركب المأمور به شيئا واحدا ، فانّ الماهيّات المركّبة لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلاً بالاعتبار ، وإلاّ فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة يجمعها إلاّ باعتبار معتبر ،

-------------------

أي : عند اختراع الشارع - مثلاً - ( له ) أي : لهذا المركب ( الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة الأجزاء غير المرتبطة في نفسها شيئا واحدا ) فالشارع جعل الصلاة - مثلاً - عبارة عن عدة أجزاء : من تكبيرة الأحرام إلى السلام ، وهي أمور غير مرتبطة بعضها ببعض ، فالتكبيرة والقرائة ، والركوع والسجود ، والتشهد والسلام ، وما أشبه ذلك » امور متفرقة قد اعتبرها الشارع شيئا واحدا .

( و ) هذه الأصالة يكون ( مرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركب المأمور به شيئا واحدا ) إذ من الواضح : ان الملاحظة شيء مسبوق بالعدم ، ونحن نعلم بملاحظة تسعة أشياء ولا نعلم ملاحظة الشيء العاشر بل نشك فيه ، والأصل هو عدم ملاحظته .

وعليه : ( فانّ الماهيّات المركّبة ) بجعل الشارع كأجزاء العبادات ونحوها ( لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلاً بالاعتبار ، وإلاّ ) بأن لم يحصل فيها تركيب اعتباري ( فهي أجزاء ) متفرقة متشتة ( لا ارتباط بينها في أنفسها ، ولا وحدة يجمعها إلاّ باعتبار معتبر ) وهذا هو حال كل المركبات الاعتبارية التي ليس لها مدخلية في واقع الأمر ، فانّ المركب قد يكون مركبا واقعيا كأجزاء الدواء المسبّب للصحة ، وقد يكون مركبا اعتباريا كأجزاء اعتبارية جمعها المعتبر فجعلها شيئا واحدا مؤثرا أثر كذا .

ص: 308

توقّف جزئيّة شيء لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا ، فمعنى جزئية السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيات وكونها مجعولة .

فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث الحكم

-------------------

مثلاً : ورق النقد الذي يجمع الألوان المختلفة : من الأخضر والأحمر والأصفر بكيفية خاصة ، ليست اُمورا واقعية تؤثر في قيمة الورق الذي يسمى دينارا - مثلاً - بازاء الأشياء العينية الخارجية ، وإنّما هي مجرد اعتبار ، فيصح للمعتبر أن يجعل مكان الأخضر الأزرق ، ومكان الأحمر البنفسجي ، ومكان الأصفر الأبيض ، وهكذا ، كما يصح للشارع أن يجعل مكان القرائة الدعاء ، ومكان الركوع السجود ، ومكان التشهد السلام ، وهكذا .

وعليه : فانه حيث كانت المركبات الاعتبارية بالجعل فقد ( توقّف جزئيّة شيء لها ) أي : لتلك المركبات ( على ملاحظته ) أي : ملاحظة ذلك الشيء ( معها واعتبارها ) أي تلك الأجزاء ( مع هذا الشيء أمرا واحدا ، فمعنى جزئية السورة للصلاة : ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيات وكونها مجعولة ) .

إذن : ( فالجعل والاختراع فيها ) أي : في المركبات الاعتبارية إنما هو ( من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث ) جعل ( الحكم ) فان الشارع لا يقول - مثلاً - : جعلت التكبيرة جزء الصلاة ، وإنما تكون التكبيرة جزءا باعتبار أمره بهذا المركب الخاص .

إذن : فجعل المركب إنّما هو عبارة عن اعتبار الوحدة بين امور لا ربط بينها ،

ص: 309

حتى يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة ، إلاّ ان يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى .

وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفيّة .

ثم إنّه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور ، فالأصل عدمها ، فاذا ثبت عدمها

-------------------

لا أنه عبارة عن الحكم بجزئية هذا وذاك ( حتى يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة ) من ان الحكم إمّا وضعي أو تكليفي ، وقد عرفت : ان المصنّف إنّما يقول بالحكم التكليفي فقط وينتزع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي .

( إلاّ ان يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من التصور وملاحظة المعتبر ، لا شيئا في مقابل الحكم التكليفي ، فمرادهم بالحكم الوضعي : مجرد اعتبار الوحدة بين أشياء متفرقة ، لا الحكم بجزئية السورة وجزئية الركوع وجزئية السلام - مثلاً - .

هذا ( وتمام الكلام ) في انه هل الحكم الوضعي مجعول أم لا؟ ( يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفيّة ) ان شاء اللّه تعالى .

( ثم انّه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور ، فالأصل عدمها ) أي : الأصل عدم ملاحظة هذا الجزء المشكوك كالسورة - مثلاً - عند اعتبار الوحدة ، فانا نعلم إنّ الشارع اعتبر الوحدة بين تسعة أجزاء ولا نعلم هل جعل الوحدة أيضا لهذا الجزء العاشر المشكوك الجزئية كالسورة في المثال أم لا ؟ ( فاذا ثبت عدمها

ص: 310

في الظاهر يترتب عليه كون الماهية المأمور بها في الأقل ؛ لأن تعيين الماهيّة في الأقل يحتاج إلى جنس وجودي ، وهي الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي ، هو عدم جزئية غيرها وعدم ملاحظته معها ، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجهٌ .

-------------------

في الظاهر ) بسبب الاستصحاب فانه ( يترتب عليه ) أي : على عدم كون هذا المشكوك جزءا ( كون الماهية المأمور بها في الأقل ) .

لا يقال : ان هذا أصل مثبت ( لأن ) تعيين الماهية في الأقل بأصالة عدم جزئية المشكوك لا يتم إلاّ على القول بالأصل المثبت .

لانه يقال : ( تعيين الماهيّة في الأقل يحتاج إلى جنس وجودي ، وهي : الأجزاء المعلومة ) الوجوب ، كالتسعة في المثال ( وفصل عدمي ، هو : عدم جزئية غيرها) أي : غير الأجزاء التسعة وهو الجزء العاشر المشكوك ( وعدم ملاحظته معها ) أي: مع الاجزاء التسعة عند الاعتبار .

هذا ( والجنس موجود بالفرض ، والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ) في تسعة أجزاء ، فتكون هذه التسعة معلومة بالوجدان ، والجزء العاشر منفي بالأصل ، فيكون المأمور به هو الأقل دون أن يكون مثبتا ، وذلك لان المقصود من استصحاب عدم الجزئية هو نفي الجزئية فقط لا اثبات كون المأمور به هو الأقل حتى يكون أصلاً مثبتا .

وعليه : فان أريد من اصالة عدم الجزئية : عدم ملاحظة هذا المشكوك في المركب ( فله وجه ) لانه إذا ثبت عدم جزئية المشكوك بالأصل وانضم إلى هذا الأصل جزئية سائر الأجزاء المعلومة وجدانا ، تم كون المأمور به هو الأقل .

ولا يخفى : ان الفرق بين الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنِّف من قوله :

ص: 311

إلاّ أن يقال : جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئية الشيء وكلية المركب المشتمل عليه مجعولٌ بجعل واحد ،

-------------------

« أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك » ، وقوله : « وان اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركب » ، وقوله : « وان اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركب » هو مايلي :

الأوّل معناه : ان المشكوك ليس بجزء .

الثاني معناه : ان المشكوك لم يتعلق الأمر به منضما إلى سائر الأجزاء .

الثالث معناه : ان المشكوك لم يعتبر الشارع الوحدة بينه وبين سائر الاجزاء .

( إلاّ أن يقال ) في رد قوله : فله وجه بما حاصله : ان ما ذكرتموه للتخلص من الأصل المثبت في تعيين الأقل حيث قلتم : ان المركب فيما نحن فيه عبارة عن أمر وجودي هو الأمر بالتسعة - مثلاً - وقد ثبت بالوجدان ، وأمر عدمي هو عدم الجزء العاشر وقد ثبت بالأصل فيتعيّن الأمر بالتسعة ، فانه ليس تاما ، وذلك لأن المركب من التسعة عبارة عن ملاحظة الشارع التسعة شيئا واحدا ، فاذا أردتم اثبات هذا بالأصل كان من الأصل المثبت كما قال :

( جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة ) المشرّع ( المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ) وذلك بأن يلاحظ العشرة - مثلاً - شيئا واحدا ( كما أنّ عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ) أي : من دون هذا العاشر المشكوك ، وذلك بأن يلاحظ التسعة شيئا واحدا ( فجزئية الشيء وكلية المركب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ) وهو ملاحظة العشرة شيئا واحدا ، فانه إذا لاحظ العشرة شيئا واحدا انتزع من هذه الملاحظة : كلية العشرة ، وجزئية السورة .

ص: 312

فالشك في جزئية الشيء شك في كليّة الأكثر ، ونفي جزئية الشيء نفي لكلّيته ، فاثباتُ كلّية الأقل بذلك اثباتٌ لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس أولى من العكس .

ومنه يظهر عدمُ جواز التمسك بأصالة عدم التفات الآمِر حين تصوّر المركب إلى هذا الجزء حتى يكون بالملاحظة شيئا واحدا مركبا من ذلك

-------------------

إذن : ( فالشك في جزئية الشيء شك في كلّية الأكثر ، ونفي جزئية الشيء ) بالأصل كما ذكرتم ( نفي لكلّيته ) أي : لكلية الأكثر ، فليس هناك جنس وفصل تتخلصون بهما من الأصل المثبت ، بل يرد عليه ما يلي :

أولاً : انه مثبت ، كما قال : ( فاثبات كليّة الأقل بذلك ) أي : بالأصل النافي للأكثر ( اثباتٌ لأحد الضدّين بنفي الآخر ) لانه عبارة اُخرى عن انه : ليس الأكثر ، إذن فهو الأقل ، وهذا مثبت .

( و ) ثانيا : ان هذا ( ليس أولى من العكس ) بأن يقال : انه ليس الأقل ، إذن فهو الأكثر ، لانه كما يمكن أن يقال : الأصل عدم ملاحظة العشرة شيئا واحدا فيتعين كلية الأقل ، كذلك يمكن أن يقال : الأصل عدم ملاحظة التسعة شيئا واحدا ، فيتعين كلية الأكثر ، وكلاهما من اثبات الضد بنفي الضد الآخر ، وقد عرفت : انه مثبت ومعارض أيضا .

( ومنه ) أي : مما ذكرناه في رد الوجه من الاحتمال الثالث بقولنا : إلاّ أن يقال جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ( يظهر : عدم جواز التمسك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركب إلى هذا الجزء ) العاشر المشكوك فيه ( حتى يكون بالملاحظة شيئا واحدا مركبا من ذلك ) الجزء

ص: 313

ومن باقي الاجزاء ، لأنّ هذا أيضا لا يثبت أنّه اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء .

هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا فيما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبا

-------------------

المشكوك ( ومن باقي الاجزاء ) المعلومة .

ولا يخفى : ان هذا هو احتمال رابع احتمله المصنِّف مضافا إلى الاحتمالات الثلاثة التي احتملها في تشقيق ذات الجزء ، وهو الموضوع فيما نحن فيه ، وذلك لما قد عرفت : من ان الترتيب في الاعتباريات عبارة عن : اعتبره ، فأمر به ، فصار جزءا ، ولكن قبل هذه الاُمور الثلاثة أمر رابع وهو كما قيل : التفت اليه ، فاعتبره ، فأمر به ، فصار جزءا ، فاذا شككنا في التفات المعتبر وعدم التفاته فالأصل عدم الالتفات .

وإنما ظهر من الاشكال على الاحتمال الثالث الاشكال على الاحتمال الرابع ( لأنّ هذا أيضا لا يثبت انّه ) أي : ان المعتبر التفت و ( اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء ) إلاّ على القول بالأصل المثبت ، وذلك لأن الجزئية مرجعها إلى ان المعتبر قد التفت إلى العشرة ، والشك فيها شك في التفاته إلى العشرة ونفيها بالأصل نفي للالتفات إلى العشرة فهو إذن التفت إلى التسعة ، ومن المعلوم : ان اثبات الالتفات إلى التسعة بنفي الالتفات إلى العشرة اثبات لأحد الضدين بنفي الضد الآخر ، وهو مثبت .

( هذا ، مع ) انه يرد عليه إشكال آخر وهو : ( أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا ) حتى بالنسبة إلى غير الشارع ( فيما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبا ) لانه لا اشكال

ص: 314

لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل .

المسألة الثانية :

ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد بأحد أسباب الاجمال

-------------------

في ان الاستعاذة قبل القرائة ، والسورة بعد الفاتحة ، وجلسة الاستراحة بعد السجدة ، كلّها أما مستحبة أو واجبة ، ومن المعلوم : تنافي فرض جزء واجبا أو مستحبا مع عدم الالتفات اليه .

إذن : فلا يمكن اجراء أصل عدم الالتفات إلى الجزء المشكوك حتى بالنسبة إلى غير الشارع ( لحصول الالتفات فيه قطعا ) فلا مسرح للأصل .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى عدم ورود الاشكال الأخير على الاحتمال الرابع ، وذلك لأن البحث الاصولي كالبحث المنطقي يكون على نحو الكلية ، فليس الكلام خاصا بما يعتبره الشارع ، بل الكلام يعم كل معتبر ، وإذا عمّ كل معتبر كان الاشكال الأخير غير وارد لاحتمال الغفلة عن الجزء العاشر وعدم الالتفات اليه مستقلاً ، نعم ، نستثني الشارع المقدس من هذه الكلية للأدلة العقلية والنقلية القائمة على ذلك .

وحيث انتهى المصنِّف من الكلام في المسألة الاُولى وهي الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين من جهة فقد النص ، شرع في بيان الثانية فقال :

( المسألة الثانية ) وهي : ( ما إذا كان الشكّ في الجزئية ناشئا من اجمال الدليل ) وذلك ( كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد بأحد أسباب الاجمال ) فانّ الاجمال قد يكون بسبب النقل أو الاشتراك ، وقد يكون بسبب

ص: 315

بين مركّبين يدخل أقلّهما جزءا تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقل .

والاجمال قد يكون في المعنى العرفي ، كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشك في أنّ الجزء الفلاني كباطن الاُذن أو عكنة البطن من الظاهر أو الباطن ،

-------------------

الاختلاف في المعنى ، كالاجمال ( بين مركّبين يدخل أقلّهما جزءا تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقل ) .

والحاصل : ان الترديد بين الأقل والأكثر يكون على نحوين :

الأوّل : على نحو التباين ، كالقصر والاتمام ، والاحتياط فيه باتيانهما جميعا ، لانّ القصر هو الركعتان بشرط لا ، والاتمام هو الركعتان بشرط شيء ، فالآتي بالتمام لا يكون آتيا بالقصر ، فيكون الاحتياط في اتيانهما معا .

الثاني : على نحو التداخل كتردد الصلاة بين عشرة أجزاء أو تسعة والاحتياط فيه باتيان الأكثر ، لأن الجزء العاشر كالاستعاذة - مثلاً - سواء كان واجبا أم كان مستحبا لم يكن ضارا بالصلاة حتى ولو كانت الصلاة ذات تسعة أجزاء ، فانّ الآتي بالأكثر يكون آتيا بالأقل في ضمن الأكثر أيضا .

هذا ( والاجمال قد يكون في المعنى العرفي ) أي : في غير الاُمور الشرعية ( كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشك في ان الجزء الفلاني كباطن الاُذُن ) الذي يرى بالعين ، هل هو من الظاهر أو الباطن؟ ( أو عكنة البطن ) وهي التلافيف التي تقع بعضها على بعض في بطن بعض الناس هل هي ( من الظاهر أو الباطن ) فاذا كان من الظاهر وجب غسله عند الغسل ، وإذا كان من الباطن لم يجب غسله عند الغسل .

ص: 316

وقد يكون في المعنى الشرعي ، كالأوامر المتعلّقة ، في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ، بناءا على أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة الصحيحة يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعية .

والأقوى هنا أيضا جريان أصالة البرائة ، لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل .

وربّما يتخيّل جريانُ قاعدة الاشتغال هنا

-------------------

( وقد يكون ) الاجمال ( في المعنى الشرعي ، كالأوامر المتعلّقة ، في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ) ومن المعلوم : ان الاجمال إنّما يكون فيها ( بناءا على أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهية الصحيحة يعني : الجامعة لجميع الأجزاء الواقعية ) فان الصحيحي يرى ان الأجزاء الواقعية هي التي تسمى بالصلاة ، فاذا شك الصحيحي في ان ماهية الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء أو من عشرة أجزاء ، فالشك في جزئية الشيء شك في صدق الصلاة على فاقد الجزء ، وأمّا بناءا على الأعمى فلا اجمال في فاقد الجزء العاشر ، لانه يسمى صلاة على كل حال ، سواء كانت صحيحة أم باطلة .

هذا ( والأقوى هنا أيضا ) فيما كان الشك في الجزئية ناشئا من اجمال الدليل و ( جريان أصالة البرائة ، لعين ما أسلفناه في سابقه ) من مورد فقد النص الذي ذكرنا تفصيله في المسألة الاُولى واستدللنا عليه فيها ( من العقل والنقل ) فانّ العقل يرى قبح العقاب بلا بيان ، كما ان النقل يقول «رفع ... ما لا يعلمون» (1) .

( وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا ) أي : في مورد اجمال النص

ص: 317


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وإن جرت أصالة البرائة في المسألة المتقدمة ، لفقد الخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المجمل في تلك المسألة ، ووجوده هنا ، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ،

-------------------

( وإن جرت أصالة البرائة في المسألة المتقدمة ) أي : مسألة فقد النص ، وذلك ( لفقد الخطاب التفصيلي المتعلّق بالأمر المجمل في تلك المسألة ، ووجوده هنا ) أي: وجود الخطاب التفصيلي هنا فاذا اختلفت الأمة - مثلاً - على قولين ، وكان النص مجملاً بين الأقل والأكثر الارتباطيين جرى أصل الاشتغال ، بخلاف ما إذا لم يكن نص حيث تجري البرائة ، لان الخطاب التفصيلي المتعلق بما هو مجمل عندنا مفقود في مسألة فقد النص .

وعليه : فان في مسألة اجمال النص ، مثل قوله تعالى : «أقيموا الصلاة» (1) النص موجود ، غير انا نشك مثلاً في ان الصلاة هل هي ذات أجزاء عشرة أو ذات أجزاء تسعة ؟ (فيجب الاحتياط) فيها (بالجمع بين محتملات الواجب المجمل) .

وعليه : فيلزم ان نأتي بالصلاة ذات الأجزاء العشرة ، وذلك لأن الخطاب التفصيلي الموجود هنا : « أقيموا الصلاة » قاطع للعذر إذا لم نأت بالجزء العاشر ، لوضوح: ان العقل لا يحكم هنا بقبح العقاب ، ولا يصدق : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (2) كما لا يصدق : « رفع ... ما لا يعلمون » (3) إلى غير

ص: 318


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل .

ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ، كما هو المشهور ، وجوبَ الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البرائة فيها .

وفيه : أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوعٌ ، لأنّ المتيقنَ من مدلول هذا

-------------------

ذلك من أدلة البرائة .

( كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل ) سواء تردد بين متباينين ، أم تردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فانه يجب على المكلّف الاتيان بهما جميعا ، بلا فرق بين الموردين .

( ولذا ) أي : لوجوب الاحتياط في كل خطاب تفصيلي تعلق بمجمل كالأقل والأكثر ( فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ) فان الألفاظ إذا كانت موضوعة للصحيح من المعاني لزم اجمال خطاب العبادات ( كما هو المشهور ) حيث ذهبوا إلى القول بالصحيح لا الأعم فانهم فرّعوا عليه ( وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات ، وعدم جواز اجراء أصل البرائة فيها ) أي : في الأجزاء المشكوك في جزئيتها .

( وفيه : ) ان هناك فرقا بين المتباينين وبين الأقل والأكثر ، حيث يجب الاحتياط في المتباينين بخلاف الأقل والأكثر ، فانه مجرى البرائة ، وذلك ( أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوعٌ ) لانحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل ، وشك بدوي في الأكثر ، فيكون الجزء العاشر المشكوك موردا للبرائة .

وإنما يكون وجوب الاحتياط هنا ممنوعا ( لان المتيقنَ من مدلول هذا

ص: 319

الخطاب وجوبُ الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدمي ، فلا محيص عن الاتيان به ، لأنّ تركه مستلزم للعقاب .

وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا ، فيجيء فيه مامرّ من الدليل العقلي والنقليّ .

والحاصل : أنّ مناط وجوب الاحتياط عدمُ جريان أدلّة البرائة في واحد معيّن من المحتملين ،

-------------------

الخطاب ) مثل خطاب : « أقيموا الصلاة » (1) حيث تردد بين أجزاء عشرة واجزاء تسعة ( وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدمي ) فاذا كان الواجب هو تسعة فقط فوجوب التسعة نفسي ، وإذا كان الواجب هو عشرة أجزاء فوجوب التسعة وجوب مقدمي .

وعليه : فالتسعة وهو الأقل معلوم الوجوب على كل حال ، وإذا كان كذلك ( فلا محيص عن الاتيان به ) أي : بالأقل ( لأنّ تركه مستلزم للعقاب ) على كل حال سواء كان الواجب هو الأقل أم هو الأكثر ( وامّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب ) أي : من خطاب : « أقيموا الصلاة » (2) - مثلاً - ( فيبقى مشكوكا ، فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقليّ ) الدال على البرائة فيه .

( والحاصل : انّ مناط وجوب الاحتياط ) ليس هو الخطاب وعدمه حتى يقال في المسألة السابقة وهي فقد النص : لا خطاب ، فلذا يكون البرائة ، وفي مسألة اجمال النص الخطاب موجود فلذا يكون الاحتياط .

بل المناط هو : ( عدم جريان أدلّة البرائة في واحد معيّن من المحتملين )

ص: 320


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى يخرج المسألة بذلك عن مورد البرائة ، ويجب الاحتياط فيها ، لأجل تردّد الواجب المستحق على تركه العقابُ بين أمرين لا تعيّن لأحدهما ، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد بين خطابين ، وإذا فقد المناطُ المذكورُ

-------------------

وذلك للتعارض والتساقط كما في المتباينين حيث قال المصنِّف فيه : ( لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى يخرج المسألة بذلك ) أي : بسبب مانعية العلم الاجمالي الموجب للتعارض في طرفي المتباينين ( عن مورد البرائة ، ويجب الاحتياط فيها ) أي : في تلك المسألة الدائرة بين المتباينين ( لأجل تردّد الواجب المستحق على تركه العقاب بين أمرين لا تعيّن لأحدهما ) .

ثم انه كلّما تحقق مثل ذلك ، لزم فيه الاحتياط ( من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلق بالمجمل ) مثل وجود : « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » (1) بعد تردد صلاة الوسطى مثلاً بين الظهر والعصر ( وبين وجود خطاب مردد بين خطابين ) مثل مورد فقد النص الذي ذكرناه في المسألة السابقة ، حيث ان هناك خطابا عاما لكنه لا ينفع لفقد النص في ان هذه المسألة من هذا الخطاب أو من خطاب آخر .

مثلاً : إذا شك في حرمة التتن لأجل فقد النص ، فالخطاب العام بقوله : «لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » (2) لا ينفع بعد فقد النص الخاص في خصوص التتن .

( و ) عليه : فانه ( إذا فقد المناط المذكور ) وهو مناط وجوب الاحتياط

ص: 321


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .

وأمكن البرائة في واحد معيّن لم يجب الاحتياط ، من غير فرق بين الخطاب التفصيليّ وغيره .

فان قلت :

-------------------

( وأمكن البرائة في واحد معيّن ) من الطرفين ، وذلك لانحلال العلم الاجمالي كما في الأقل والأكثر الارتباطيين فانه ( لم يجب الاحتياط ) وإنما يأخذ بالأقل ويترك الأكثر ( من غير فرق بين الخطاب التفصيليّ ) كقوله تعالى : « أقيموا الصلاة »(1) ( وغيره ) كما في صورة فقد النص على ما عرفت .

فتحصّل من جواب المصنِّف : ان مناط الاحتياط هو : عدم جريان أدلة البرائة في أحد المحتملين أو المحتملات لتعارض الاُصول فيها كما في المتباينين ، فانه إذا شك بين الظهر والجمعة وكان هناك خطاب ، لم يكن مما حجب اللّه علمه عن العباد حتى يكون موضوعا عنهم ، فلا يجري البرائة ، لان البرائة في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وفي كليهما مخالفة قطعية بالنسبة إلى الخطاب التفصيلي المتعلّق بأحدهما ، فيجب الاحتياط باتيان كلا الجانبين لأجل تردد الواجب بين الطرفين .

أما إذا لم يكن الأمر كذلك ، كما في الشبهة بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجري البرائة ، لان جريان البرائة في الأكثر غير معارض بجريان البرائة في الأقل ، إذ لا تجري البرائة في الأقل بعد علمنا بوجوب الأقل على كل حال ، فلا يجب الاحتياط من غير فرق بين وجود الخطاب كما فيما نحن فيه ، أو عدم وجود الخطاب كما في المسألة السابقة التي هي عبارة عن فقد النص .

( فان قلت : ) ان الشارع يريد منا الصلاة قطعا ، وقد تردد مصداقه بين الأقل

ص: 322


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إذا كان متعلّقُ الخطاب مجملاً ، فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالاتيان بمراده واستحق العقاب على تركه مع وصف كونه مجملاً ،

-------------------

والأكثر ولا نعلم انه يتحقق بالأقل ، فاللازم ان نحتاط ونأتي بالأكثر ، كما إذا أراد المريض ان يشرب الدواء الجامع وتردد الدواء بين الأقل والأكثر ، فانه إذا أتى بالأقل لا يعلم بانه شرب الدواء الجامع .

وبعبارة اُخرى : انه يلزم الاحتياط فيما إذا كان هناك خطاب متعلق بما كان بحسب المفهوم مبيّنا ، لكن متعلقه مجمل مردد بين الأقل والأكثر ، فيلزم الاتيان بالأكثر لتحصيل اليقين بالبرائة ، لان المفروض : تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحققه في الخارج بالأقل ، فمقتضى عدم تحققه إلاّ بالأكثر ، بقاء الاشتغال وعدم الاكتفاء بالأقل .

ومنه يظهر : الفرق بين مسألة عدم النص ، فالبرائة ، ومسألة اجمال النص ، فالاحتياط .

وعليه : فانه ( إذا كان متعلّق الخطاب مجملاً ، فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ) لانا نعلم إنه يلزم علينا الاتيان بمراد الشارع .

إذن : ( فيجب القطع بالاتيان بمراده ) ولا يكفي الاحتمال باتيانه ، وكلما كان النص مجملاً كان من هذا القبيل ، لان الشارع أراد من لفظ الصلاة - مثلاً - معنى خاصا وقد أمر بذلك المعنى ، فالمأمور به هو عنوان المراد من الصلاة ، وهو مفهوم مبيّن، فاذا شككنا في ان محصله هو الأقل أو الأكثر ، وجب علينا الاحتياط باتيان الأكثر حتى نقطع باتياننا بالمراد .

( و ) كذا قد ( استحق العقاب على تركه ) أي : ترك المراد ( مع وصف كونه مجملاً )

ص: 323

وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب .

قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن ، المشتبه مصداقه بين أمرين ، حتى يجب الاحتياط فيه

-------------------

من حيث المحصّل ، حيث لا نعلم ان المحصل لهذا المراد هو الأقل أو الأكثر ( و ) ذلك بعد ( عدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب ) فانه يلزم بعد تنجز التكليف بالمراد ، القطع بتحصيل المراد ، والقطع بالخروج عن استحقاق العقاب ، وذلك لا يكون إلاّ بالاحتياط والاتيان بالأكثر ، وقوله : « وعدم القناعة » ، عطف على قوله : « بالاتيان بمراده » .

إن قلت ذلك ( قلت : ) ان التكليف لم يتعلق بمفهوم الألفاظ حتى يقال : ان متعلق التكليف مبيّن مفهوما وهو المراد للشارع ، ومجمل مصداقا وهو المتردد بين الأقل والأكثر ، فتكون الشبهة شبهة مصداقية في الأقل والأكثر الارتباطيين فيجب فيها الاحتياط ، بل نفس المأمور به في المقام مردد بين الأقل والأكثر ، ومن المعلوم : ان المرجع في كون المأمور به هو الأقل أو الأكثر : البرائة من الأكثر ، لما تقدّم من الأدلة العقلية والنقلية على ذلك ، كما قال : إنّ ( التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد ) بأن يقول الشارع - مثلاً - : أئت بمرادي ( من اللفظ ) أي : من لفظ الصلاة ( ومدلوله ) أي : مدلول اللفظ ( حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن ، المشتبه مصداقه بين أمرين حتى يجب الاحتياط فيه ) فانه ليس ما نحن فيه من قبيل الصلاة الوسطى حيث مفهومه مبيّن ، ومصداقه مشتبه - مثلاً - بين الظهر والعصر ، حتى يقال : بأنه يجب الاحتياط حيثما

ص: 324

ولو كان المصداق مردّدا بين الأقلّ والأكثر نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ، وإنّما هو متعلق بمصداق المراد والمدلول ، لأنه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه واتصافه بمفهوم المراد

-------------------

كان المفهوم مبيّنا ( ولو كان المصداق مرددا بين الأقل والأكثر ) .

وإنما يجب الاحتياط في التكليف المبيّن ، المشتبه المصداق ( نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ) ان شاء اللّه تعالى من بحث العنوان والمحصل ، فانه كلما تعلق الأمر بالعنوان وشك في محصله بين كونه هو الأقل أو الأكثر وجب الاتيان بالأكثر ، حتى يعلم بتحقق العنوان المطلوب .

لكن التكليف فيما نحن فيه لم يكن متعلقا بمفهوم المراد ومدلوله ( وإنما هو ) أي : التكليف ( متعلق بمصداق المراد والمدلول ) وهو الفعل الخارجي الخاص المردد بين الأقل والأكثر ( لأنه ) أي : المصداق هو ( الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ) فاللفظ موضوع للمصداق الخارجي ومستعمل فيه ، لا انه موضوع للمراد ومستعمل فيه .

وعليه : فلا يكون ما نحن فيه من قبيل الخطاب بالمبيّن ، المردد مصداقه بين المتباينين ، أو بين الأقل والأكثر ، لوضوح : ان معنى الصلاة ليس هو عنوان المراد حتى يكون مفهوما مبيّنا ، بل معنى الصلاة هو الفعل الخارجي الخاص الذي تردد بين الأقل والأكثر ، وحيثما تردد بين الأقل والأكثر يكون الاتيان بالأقل كافيا ، لأنه المتيقن بعد انحلال العلم الاجمالي .

( و ) اما ( اتصافه ) أي اتصاف هذا الفعل الخاص الخارجي ( بمفهوم المراد )

ص: 325

والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلق التكليف مردد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه .

ونظير هذا ، توهّم أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط ، ويندفع بانّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ،

-------------------

حيث يقال : ان الصلاة الخارجية مراد الشارع ( و ) اتصافه بمفهوم ( المدلول ) أيضا ، فانما هو ( بعد الوضع والاستعمال ) .

وعليه : فانه إذا وضع لفظ لمعنى ، اتصف ذلك المعنى بمفهوم الموضوع له ، وإذا استعمل فيه اتصف بمفهوم المستعمل فيه ، وإذا كان مرادا اتصف بمفهوم المراد ، والترتيب بين الثلاثة هكذا : موضوع له ، فمراد ، فمستعمل فيه ، لانه يوضع أولاً ، ثم يريده المتكلم ، ثم يستعمل اللفظ فيه ، وحينئذ ( فنفس متعلّق التكليف مردد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه ) فلا يجب فيه الاحتياط ، بل يجري فيه البرائة من الأكثر .

( ونظير هذا ) الذي صورناه من توهم ان المأمور به هو عنوان المراد ، مما يوجب الاحتياط عند الشك في الأقل والأكثر ( توهّم انّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح ) مفهوم مبيّن عند العرف ( مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط ) باتيان الأكثر .

( ويندفع ) هذا التوهم الأخير في باب الصحيح والأعم : ( بانّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ) فان لفظ الصلاة - مثلاً - المردّد بين الأقل والأكثر لم يوضع لمفهوم الصحيح حتى يجب الاتيان بكل شيء نحتمل ان له دخل في صحته ، بل هو موضوع لمصداق الصحيح من الصلاة وهو الفعل الخاص الخارجي ، ويتصف

ص: 326

فافهم .

وأمّا ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين من أنّه «الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعم » ،

-------------------

ذلك الفعل الخارجي بالصحة بملاحظة تمامية الأجزاء ، وبالفساد بالنقص فيها ، فاذا كان موضوعا للفعل الخاص الخارجي وشككنا فيه بين الأقل والأكثر ، أتينا بالأقل لجريان البرائة عن الزائد .

( فافهم ) حتى لا تستشكل بانه لا يمكن وضع اللفظ لمصداق الصحيح ، معلّلاً ذلك بأن الصحة متأخرة عن الوضع والأمر والامتثال ، لانّ الصحة بمعنى : موافقة الأمر أو اسقاط القضاء ، فلا يعقل أخذها في مفهوم اللفظ ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لا يستشكل بذلك ، لانّ المقصود من الصحة هنا : كون الماهية على النحو الذي قررها الشارع عليه : من الترتيب بين أجزائها واشتمالها على كيفياتها الحاصلة من الشرائط ، وهذه الماهية إذا تعلق الأمر بها وأتى بها المكلّف على الترتيب والشرائط والكيفية ، اتّصفت بالصحة بمعناها المصطلح عليه .

ثم انه لما ذكر المصنِّف ان الوضع للصحيح لا يستلزم الاحتياط ، وإنما يجري البرائة عند الشك فيه بين الأقل والأكثر ، كان محلاً لان يرد عليه ما قاله المحقق البهبهاني : من ان لازم الوضع للصحيح هو القول بالاحتياط لا بالبرائة فأجاب عنه بقوله : ( وأمّا ما ذكره بعض متأخري المتأخّرين ) وهو البهبهاني رحمه اللّه ( من إنّه ) أي: الاحتياط واللا احتياط هو ( «الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح ، وبين وضعها للأعم» ) فتكون الثمرة على القول بالصحيح المستلزم لاجمال الخطاب : وجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر ، وعلى القول بالأعم المستلزم لاطلاق الخطاب : اجراء البرائة فيه ، وهذا ما ينافي قول المصنِّف

ص: 327

فغرضه بيان الثمرة على مختاره من وجوب الاحتياط في الشك في الجزئية ، لا أنّ كل من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائلٌ بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البرائة في أجزاء العبادات .

كيف ! والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من اجراء الأصل عند الشك في الجزئية والشرطيّة ، بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادَهم بالأصل غير أصالة البرائة ؟ .

-------------------

بأن الوضع للصحيح لا يستلزم الاحتياط ، ولذلك أجاب عنه بقوله :

( فغرضه ) أي : غرض البهبهاني مما ذكره إنما هو ( بيان الثمرة على مختاره : من وجوب الاحتياط ) فان البهبهاني يرى انّ القول بالصحيح ، يستلزم القول بالاحتياط ( في الشك في الجزئية ) والشرطية ، لانه يراه من الشك في العنوان والمحصل ، فيجب احراز العنوان ولا يكون إلاّ بالاحتياط .

( لا انّ كل من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائلٌ بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البرائة في أجزاء العبادات ) وشرائطها ، حتى يكون كلام البهبهاني هذا بالنتيجة شاهدا على وجوب الاحتياط عند اجمال النص والخطاب .

و ( كيف ) يقول البهبهاني بذلك ( و ) الحال ان ( المشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من اجراء الأصل عند الشك في الجزئية والشرطيّة ) والمانعية والقاطعية ( بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادهم بالأصل غير أصالة البرائة ) فقد قال تلميذه المحقق القمي رحمه اللّه ما مفاده : انه يظهر من كلمات المتقدّمين من العلماء وكذلك المتأخرين منهم : انه لا خلاف في اجراء أصل البرائة في الاجزاء عند الشك في الزيادة والنقيصة .

ص: 328

والتحقيق : أنّ ما ذكروه ثمرةً للقولين من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ، وعدمه على القول بوضعها للأعم محلُّ نظر .

أمّا الأوّل : فلما عرفت : أن غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح كون هذه الألفاظ مجملة ، وقد عرفت أن المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر عدم وجوب الاحتياط .

وأمّا الثاني : فوجه النظر

-------------------

( والتحقيق ) عندنا : ( انّ ما ذكروه ثمرةً للقولين : من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ) الموجب لاجمال اللفظ ( وعدمه ) أي : عدم وجوب الاحتياط ( على القول بوضعها للأعم ) الموجب لعدم الاجمال ، لان اللفظ يكون حينئذ مطلقا ، فان ما ذكروه من الثمرة ( محلُّ نظر ) في كلا شقّيه .

( أمّا الأوّل : ) وهو وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ( فلما عرفت : ان غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح : كون هذه الألفاظ ) للعبادات ( مجملة ، وقد عرفت : ان المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر : عدم وجوب الاحتياط ) .

والحاصل : ان المناط في وجوب الاحتياط على ما تقدّم إنما هو انتفاء القدر المتيقن مثل : تعلق الأمر بمفهوم مردّد بين فردين كالمتباينين ، أو ما في حكم المتباينين كالقصر والتمام ، أو مثل تعلق الأمر بالعنوان مما لا يعرف حصوله إلاّ باتيان جميع الخصوصيات ، وهو المعبر عنه في كلامهم : بالعنوان والمحصل ، وما نحن فيه ليس من أحد الأمرين .

( وأمّا الثاني : ) وهو البرائة على القول بوضع الألفاظ للأعم ( فوجه النظر

ص: 329

موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ، وهو أنّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح ، كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ الصلاة ، فالشكُّ في جزئية شيء شك في صدق الصلاة ، فلا إطلاق للفظ الصلاة على هذا القول بالنسبة إلى واجد الأجزاء وفاقد بعضها ، لأنّ الفاقد ليست بصلاة ، فالشكّ في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا شكٌّ في كونها صلاة أو ليست بها .

-------------------

موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني : عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ) فاذا أوضحنا ذلك بحثنا حول وجه النظر فيه .

هذا ( و ) التوضيح ( هو : انّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو : الصحيح ) أي : الجامع للأجزاء والشرائط ( كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ الصلاة ) فانه لا يطلق لفظ الصلاة حينئذ إطلاقا حقيقيا على فاقد شيء من الأجزاء والشرائط ، فاللازم أن تجتمع كل الأجزاء والشرائط حتى يطلق عليها لفظ الصلاة .

إذن : ( فالشكّ في جزئية شيء ) أو شرطية شيء للصلاة ( شك في صدق الصلاة ) من دون ذلك الجزء أو الشرط المشكوك ( فلا إطلاق للفظ الصلاة على هذا القول ) الصحيحي ( بالنسبة إلى واجد ) جميع ( الأجزاء وفاقد بعضها ، لأنّ الفاقد ليست بصلاة ) عند الصحيحي، ( فالشك في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا) للجزء والشرط ( شك في كونها صلاة أو ليست بها ) أي : بصلاة ، فيتوهم انه يجب الاحتياط في كل جزء وشرط ايجابا ، وعن كل مانع وقاطع سلبا حتى يحرز

ص: 330

وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجد لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها نظير السرير الموضوع للأعم من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها غير المقوّم لحقيقته ، بحيث لا يخل فقده لصدق اسم السرير على الباقي - كان لفظُ الصلاة من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة .

-------------------

عنوان المأمور به .

لكن قد عرفت دفع هذا التوهم : بأن الواجب ليس هو عنوان المأمور به ، أو عنوان المراد ، أو ما أشبه ذلك ، حتى يجب الاتيان بكل محتمل المدخلية من الشرائط والأجزاء ، وترك كل محتمل الضرر من الموانع والقواطع .

( وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو ) معظم الأجزاء ، كما عن المحقق الاصفهاني أو الأركان المخصوصة ، كما عن المحقق القمي ( القدر المشترك بين ) الصحيح ( الواجد لجميع الأجزاء ) والشرائط ( و ) الفاسد ( الفاقد لبعضها ) فتكون الماهيات المخترعة الاعتبارية ذات الأجزاء والشرائط حينئذ ( نظير السرير الموضوع للأعم من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها ) الذي ذلك البعض ( غير المقوّم لحقيقته ) أي : حقيقة السرير ( بحيث لا يخل فقده ) أي : فقد ذلك البعض ( لصدق اسم السرير على الباقي ) .

مثلاً : إذا فقد السرير بعض الأعواد ، والعضادة ، أو ما أشبه ذلك فان هذه المفقودات لا تضر بصدق اسم السرير ، بخلاف ما إذا فقد المقعد ، أو القوائم ، أو ما أشبه ذلك .

وعلى هذا : ان قلنا بوضع اللفظ للأعم ( كان لفظ الصلاة من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة ) التامة الأجزاء والشرائط ( والفاسدة ) الفاقدة لبعض

ص: 331

فاذا أريد بقوله : « أقيموا الصلاة » فردٌ مشتملٌ على جزء زائد على مسمّى الصلاة ، كالصلاة مع السورة كان ذلك تقييدا للمطلق .

وهكذا إذا أريد المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ، فارادة الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء تحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة على ما يتوقف عليها صدقُ مسمّى الصلاة .

-------------------

الأجزاء والشرائط ، فتكون الصلاة حينئذ حالها حال السرير الذي يطلق على الصحيح والمعيب معا .

وعليه : ( فاذا أريد بقوله : « أقيموا الصلاة » (1) فردٌ مشتملٌ على جزء زائد على مسمّى الصلاة ) أي : زائد على الأركان ( كالصلاة مع السورة ) حيث ان السورة ليست من مقوّمات الصلاة وأركانها ( كان ذلك تقييدا للمطلق ) لأن الصلاة على القول بالأعم تشمل الواجدة للسورة والفاقدة لها .

( وهكذا إذا أريد ) من الصلاة ( المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ) لان المفروض ان الصلاة تصدق على الصلاة من قيام والصلاة من جلوس وهكذا ( فارادة الصلاة ) الصحيحة أي : ( الجامعة لجميع الأجزاء ) والشرائط ( تحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة ) زيادة ( على ما يتوقف عليها صدق مسمّى الصلاة ) .

إذن : فمسمّى الصلاة هو : ما يصدق على الأركان أو على معظم الأجزاء ، فاذا أريد زيادة جزء ، أو شرط ، أو ما أشبه ذلك ، كان بحاجة إلى تقييد ، فتكون الصلاة مثل الرقبة الصادقة على العبد عالما أو جاهلاً ، مؤمنا أو كافرا ، كبيرا أو صغيرا ،

ص: 332


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

أما القدرُ الذي يتوقف عليه صدق الصلاة ، فهي من مقومات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له .

وحينئذ : فاذا شك في جزئية شيء للصلاة، فان شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق ، فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق اسم الصلاة ، ولايجوز فيه اجراء البرائة ، لوجوب القطع بتحقيق

-------------------

رجلاً أو امرأة ، فكلّما زيد قيد كان تقييدا لاطلاق الرقبة ، لا ان ذلك القيد له مدخلية في صدق اسم الرقبة ، وهكذا تكون الصلاة ، فاذا شككنا في زيادة تقييد وعدمه ، فالأصل عدمه .

( أما القدر الذي يتوقف عليه صدق الصلاة ) من الأركان المخصوصة ، أو معظم الأجزاء ( فهي من مقومات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له ) أي : للصلاة ، فالركوع والسجود في الصلاة - مثلاً - من مقومات معنى الصلاة ، إذ بدونهما لا تصح الصلاة ، أمّا مثل السورة وذكر الركوع فهما من القيود المقسّمة للصلاة ، لان الصلاة تنقسم إلى ذات السورة وبدون السورة ، كما انها تنقسم إلى ذات الذكر في الركوع وبدون الذكر في الركوع وهكذا ، كالمملوكية فانها مقوّم لمعنى الرقية ، امّا الايمان ، والذكورة وما أشبه ذلك ، فهي قيود مقسّمة للرقبة إلى مؤمنة وكافرة ، ورجل وامرأة ، وغير ذلك .

( وحينئذ ) أي : حين كان بعض الأجزاء والشرائط مقوّما وبعضها مقسّما ( فاذا شك في جزئية شيء للصلاة ) أو شرطية شيء للصلاة ( فان شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق ) كالركوع والسجود ، أو شرطا مقوما له كالطهارة والقبلة ( فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق اسم الصلاة ، ولا يجوز فيه ) أي : في هذا الجزء أو الشرط المشكوك ( اجراء البرائة ، لوجوب القطع بتحقيق

ص: 333

مفهوم الصلاة - كما أشرنا اليه فيما سبق - ولا إجراءُ أصالة إطلاق اللفظ وعدم تقييده ، لانّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك .

-------------------

مفهوم الصلاة ، كما أشرنا اليه فيما سبق ) قبل أسطر حيث قلنا :

ان المعنى الموضوع له اللفظ ان قلنا هو الصحيح ، كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق معنى لفظ الصلاة حقيقة ، فيكون الشك في جزئية شيء شك في صدق الصلاة ، فيجب الاحتياط ليتحقق مفهوم الصلاة كما اختاره المحقق البهبهاني هناك .

( و ) إن قلت : إذا لم يجز التمسك بالأصل العملي كالبرائة بالنسبة إلى هذا الجزء أو الشرط الذي له مدخلية في تحقق الاسم ، تمسكنا بالأصل اللفظي كالاطلاق لنفي الجزء أو الشرط المشكوك .

قلت : ( لا ) يجوز أيضا ، ( اجراء ) الأصل اللفظي مثل : ( أصالة إطلاق اللفظ ) أي : لفظ الصلاة في الرواية والآية ( وعدم تقييده ) بقيد زائد على الأركان ، أو على معظم الأجزاء .

وإنّما لا يجوز اجراء الأصل اللفظي ( لانّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك ) فلا يجوز التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) إذا شك في صدق الصلاة على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط ، كالصلاة الفاقدة للركوع والسجود ، أو الطهارة والقبلة ، وإنما يجوز التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » إذا أحرز انه صلاة وشك في تقييده ببعض القيود ، مثل : الشك في وجوب الاستعاذة ، أو وجوب جلسة الاستراحة ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 334


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

فحكم هذا المشكوك عند القائل بالأعمّ ، حكمُ جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح .

وأمّا إن عُلِمَ أنّه ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلاّ من الأجزاء التي يقيّد معنى اللفظ بها ، لكون اللفظ موضوعا للأعم من واجده وفاقده .

-------------------

وعليه : فحال : « أقيموا الصلاة » حال : « اعتق رقبة » في انه يجوز التمسك باطلاق اعتق رقبة إذا أحرز مملوكية شخص وشك في تقييده بالايمان أو الذكورة أو ما أشبه ذلك ، دون ما إذا شك في أصل مملوكيته وهل انه حر أو عبد ؟ .

إذن : ( فحكم هذا المشكوك ) جزءا أو شرطا حيث يكون دخيلاً في صدق الاسم ( عند القائل بالأعمّ ، حكمُ جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح ) فكما ان القائل بالصحيح إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته كان شكه في صدق الصلاة على فاقده ، إذ كل جزء وشرط يكون مقوّما عنده ، فلا يتمكن من اجراء اصالة البرائة ، ولا اصالة الاطلاق ، لان الصلاة عنده عنوان ، وشكه في المحصل فيجب عليه الاحتياط ليحرز حصول عنوان الصلاة ، كذلك الأعمّي فانه إذا شك في جزء مقوّم أو شرط مقوّم فلا يتمكن من اجراء البرائة ولا التمسك بالاطلاق فيه .

( وامّا إن عُلِمَ انّه ) أي : ان مشكوك الجزئية أو مشكوك الشرطية ( ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا ) أو شرطا ( في الواقع ليس إلاّ من الأجزاء ) أو من الشرائط ( التي يقيّد معنى اللفظ بها ، لكون اللفظ موضوعا للأعم من واجده وفاقده ) فيجري فيه أصل عدم كون المطلوب مقيدا بهذا المشكوك .

وعليه : فاذا لم يكن للجزء أو الشرط المشكوك مدخلية في صدق اسم الصلاة،

ص: 335

وحينئذٍ : فالشكّ في اعتباره وجزئيّته راجع إلى الشك في تقييد إطلاق الصلاة في: « أقيموا الصلاة » بهذا الشيء ، بأن يراد منه مثلاً : أقيموا الصلاة المشتملةَ على جلسة الاستراحة .

ومن المعلوم : أنّ الشك في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الاطلاق وعدم التقييد ، فيحكم بأنّ مطلوب الآمر غير مقيد بوجود هذا المشكوك ، وبأنّ الامتثال يحصل بدونه ،

-------------------

كالاستعاذة جزءا ، أو التدقيق في القبلة شرطا ، فانه على تقدير اعتباره ليس مقوّما لماهية الصلاة عند الأعمّي بل هو مقيّد لها ، لان الأعمّي يرى ان الصلاة اسم للأعم من واجدها وفاقدها ، فتكون الاستعاذة ، وكذا التدقيق في القبلة من قبيل الايمان في الرقبة لا من قبيل الملكية .

( وحينئذ ) أي : حين لم يكن الجزء أو الشرط من مقومات حقيقة الصلاة ( فالشك في اعتباره وجزئيّته ) أو الشك في شرطيته ( راجع إلى الشك في تقييد اطلاق الصلاة في: « أقيموا الصلاة » (1) بهذا الشيء ) المشكوك . ( بأن يراد منه مثلاً: أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة ) أو على التدقيق في القبلة ( ومن المعلوم : انّ الشك في التقييد يرجع فيه إلى اصالة الاطلاق وعدم التقييد ) لانّ التقييد خلاف الأصل ، وكل ما شك فيه فالأصل عدمه .

وعليه : ( فيحكم بأنّ مطلوب الآمر : غير مقيد بوجود هذا المشكوك ) من جلسة الاستراحة أو التدقيق في القبلة .

( وبأن الامتثال يحصل بدونه ) أي : بدون هذا الجزء أو الشرط المشكوك الذي

ص: 336


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وأنّ هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال ، وهذا معنى نفي جزئيّته بمقتضى الاطلاق .

نعم ، هنا توهّمٌ ، نظير ما ذكرناه سابقا ، من الخلط بين المفهوم والمصداق ، وهو توهّم : «أنّه إذا قام الاجماعُ بل الضرورةُ على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ؛ لأنّ الفاسد ما خالف المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به ؟ فقد ثبت تقييدُ الصلاة

-------------------

ليس له مدخلية في صدق اسم الصلاة .

( وأنّ هذا المشكوك ) جزءا أو شرطا ( غير معتبر في الامتثال وهذا معنى نفي جزئيته ) ونفي شرطيته ( بمقتضى الاطلاق ) على القول بالأعم .

( نعم ، هنا ) بناءا على القول بأن الفاظ العبادة أسامي للأعم ( توّهم نظير ما ذكرناه سابقا : من الخلط بين المفهوم والمصداق ) حيث توهم هناك بناءا على القول بأن الألفاظ موضوعة للصحيح ما بيّناه بقولنا : فان قلت إذا كان متعلق الخطاب مجملاً ، فقد تنجز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالاتيان بمراده ، وأجبنا عنه بقولنا : قلت التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله ، وإنما هو متعلق بمصداق المراد ومدلوله .

( و ) ذلك التوهم هنا على القول بالأعم ( هو توهّم : أنّه إذا قام الاجماع بل الضرورة ) من المسلمين كافة ( على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ، لانّ الفاسد ما خالف المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به ؟ ) فان من المعلوم : ان الفاسد لا يكون مأمورا به حتى وأن قلنا بان أسامي العبادات للأعم .

إذن : ( فقد ثبت ) بالاجماع والضرورة حيث قاما على ( تقييد الصلاة ) التي هي

ص: 337

دفعةً واحدةً بكونها صحيحةً جامعةً لجميع الأجزاء .

فكلّما شكّ في جزئية شيء كان راجعا إلى الشك في تحقق العنوان المقيد المأمور به ، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقق ذلك العنوان على تقييده ؛ لانّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ، فلابد من إتيان

-------------------

مراد الشارع في : « أقيموا الصلاة » (1) ونحوه ( دفعةً واحدةً ) بقيد واحد مبيّن بسبب الاجماع ونحوه ( بكونها صحيحة جامعة لجميع الأجزاء ) والشرائط ، فاقدة لجميع الموانع والقواطع .

مثلاً : الصلاة وان كانت اسما للأعم إلاّ انها حيث وقعت مأمورا بها تكون مقيدة بالصحة ، فأقيموا الصلاة : مأخوذ من الكتاب ، وكونها صحيحة : مأخوذ من الاجماع والضرورة ، فيلزم الاتيان بالصلاة الصحيحة سواء قلنا بأن ألفاظ العبادات أسامي للصحيح ، أم للأعم .

وعليه : ( فكلّما شكّ في جزئية شيء ) أو شرطيته ( كان راجعا إلى الشك في تحقق العنوان المقيد المأمور به ) وهو في مثالنا : الصلاة الصحيحة المأمور بها على الأعم ( فيجب الاحتياط ) باتيان ذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، وعدم الاتيان بذلك المانع أو القاطع .

وإنّما يجب الاحتياط ( ليقطع ) المكلّف ( بتحقق ذلك العنوان على تقييده ) أي : عنوان الصلاة المقيّد بوصف الصحة ، وذلك ( لانّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ) عند المحقق البهبهاني ومن تبعه ( فلابد من إتيان

ص: 338


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

كلّ ما يحتمل دخله في تحققها كما أشرنا اليه ، كذلك يجب القطعُ بتحصيل القيد المعلوم الذي قيّد به العنوان .

كما لو قال : «اعتِق مَملوكا مؤمنا» ، فانّه يجب القطعُ بحصول الايمان ، كما يقطع بكونه مملوكا» .

ودفعه : يظهر مما ذكرناه ، من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الأجزاء ، وإنّما قيّد بما علم من الأدلة الخارجية اعتبارُه ،

-------------------

كلّ ما يحتمل دخله في تحققها ، كما أشرنا اليه ) سابقا .

وعليه : فكما ان الصلاة بناءا على القول بالصحيح من قبيل العنوان والمحصل ، ولا يحصل العنوان إلاّ بالاتيان بكل ما له دخل من جزء أو شرط مشكوك فيه ، فيجب الاحتياط للقطع بتحصيل عنوان الصلاة ( كذلك يجب القطع بتحصيل القيد المعلوم ) وهو الصحة ( الذي قيّد به العنوان ) أي : عنوان الصلاة بناءا على القول بالأعم .

( كما لو قال : «اعتق مملوكا مؤمنا» ، فانّه يجب القَطعُ بحصول الايمان ) حتى يكون ممتثلاً لأمر : اعتق ، وذلك ( كما يقطع بكونه مملوكا ) أي : كما ان المملوكية يلزم القطع بها لتحقق العنوان ، كذلك الايمان يلزم القطع به لتحقق قيد العنوان .

( ودفعه ) أي : دفع هذا التوهم ( يظهر مما ذكرناه : من انّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة ) فان المولى لم يقل : ائت بالصلاة الصحيحة ( وهو الجامع لجميع الأجزاء ) والشرائط ( وإنّما قيّد بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ) أي : ان اعتبار تلك الأجزاء والشرائط وفقد الموانع والقواطع إنّما ثبت تقيّد الصلاة بها من الأدلة الخارجية ، لا من مفهوم الصلاة .

إذن : فليس القيد هو مفهوم الصحيحة حتى يقال : بأن مفهوم الصحيحة أمر

ص: 339

فالعلم بعدم إرادة الفاسد يراد به العلمُ بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للاُمور التي دلّ الدليلُ على تقييد الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلّما شكّ في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوعُ إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة .

وهذه المغالطة

-------------------

مبيّن يجب احرازه بالاحتياط ، بل القيد مما قام الدليل الخارجي على اعتباره ، كقرائة السورة ، وجلسة الاستراحة ، والاستعاذة ، وغيرها ، فاذا كان هذا القيد نفسه مرددا بين الأقل والأكثر ، كان اللازم الاتيان بالأقل ، لانه واجب على كل تقدير ، امّا الأكثر فيرجع فيه إلى اصالة البرائة إذا فرض عدم الاطلاق ، وإلى الاطلاق إذا فرض وجوده .

وعليه : ( فالعلم بعدم إرادة الفاسد يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق ) من الصلاة ( الفاقدة للاُمور ) المذكورة ، كالسورة والاستعاذة ، وجلسة الاستراحة ، وغيرها من الاُمور ( التي دلّ الدليل على تقييد الصلاة بها ) من الأدلة الخارجية الدالة على كل جزء جزء ، وشرط شرط ، وكذا الدالة على الموانع والقواطع .

( لا انّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ) داخلاً في المطلق المأمور به ، وهو مفهوم مبيّن مردد مصداقه بين الأقل والأكثر ، حتى يجب الاتيان بالأكثر لاحراز المفهوم كما قال : ( فكلّما شكّ في صدق الصحيحة والفاسدة ، وجب الرجوع إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة ) لكن ليس الأمر كذلك حتى يكون كل ما شك في صدق الصحيحة وجب الاحتياط لاحرازها .

( وهذه المغالطة ) أي : الخلط بين مفهوم الصحيحة ومصداق الصحيحة حيث قلنا: ان مفهوم الصحيحة ليس هو الواجب ، وإنما مصداق الصحيحة هو الذي

ص: 340

جاريةٌ في جميع المطلقات ، بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : « إعتِق رَقَبَةً » ليس إلاّ الجامع لشروط الصحة ، لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا .

فكلّما شك في شرطية شيء كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ، فيجبُ الاحتياطُ، للقطع باحرازه .

وبالجملة : فاندفاعُ هذا التوهّم غيرُ خفيّ بأدنى التفات ،

-------------------

يجب الاتيان به ( جاريةٌ في جميع المطلقات ) ووجه جريان المغالطة في كل المطلقات هو ما ذكره بقوله :

( بأن يقال : انّ المراد بالمأمور به في قوله : « اعتق رقبةً » ليس إلاّ الجامع لشروط الصحة ) فيلزم الاتيان بالرقبة الصحيحة الجامعة للشرائط ( لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا ) ومفهوم الصحيح مبيّن غير انه لما تردد مصداقه بين الأقل والأكثر، لزم الاتيان بالأكثر .

وعليه : ( فكلّما شك في شرطية شيء ) في الرقبة كالايمان والذكورة وما أشبه ذلك من الشروط المشكوكة ( كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ) فاذا لم نراع تلك الشروط لم نعلم بتحقق ذلك العنوان المأمور به ( فيجب الاحتياط ) بعتق رقبة جامعة لكل الشروط المشكوكة ، وذلك ( للقطع باحرازه ) أي : احراز تحقق ذلك العنوان ، لانه من العنوان والمحصل .

( وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات ) إلى ما ذكرناه ، لان القيد في العتق ليس هو مفهوم الصحيح حتى يقال : بأن الصحيح عنوان ، فيلزم ان نأتي به، بل القيد في العتق من الايمان والذكورة ، وما أشبه ذلك ، قد ثبت بالأدلة الخارجية فرضا ، فاذا كان نفس هذا القيد مجملاً مرددا بين الأقل والأكثر جرى

ص: 341

فنرجع إلى المقصود ، ونقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ،

-------------------

فيه البرائة عن الأكثر ولزم الاتيان بالأقل .

هذا هو توضيح ما ذكرناه قبل صفحة من الرسائل تقريبا حيث قلنا : وامّا الثاني : فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتب تلك الثمرة أعني : عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ، وحيث أوضحنا ذلك ( فنرجع إلى المقصود ) منه هنا ، وهو : البحث حول وجه النظر في الثمرة على القولين : الصحيح والأعم مع ان البرائة عن الأكثر نتيجة كلا القولين لا الاحتياط وان ذكر المحقق البهبهاني الاحتياط على القول بالصحيح في كلامه المتقدّم .

وحاصل ما بحثه المصنِّف في الثمرة بين الصحيح والأعم ، هو ما أشار اليه في أخير هذه المسألة : من لزوم الاجمال على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح ، وأمّا على القول بكونها اسامي للأعم فليست مجملة ، بل يمكن القول بأنها مبيّنة ، فعلى الصحيح يتمسك بالبرائة أو الاحتياط على الاختلاف ، حيث ان بعضهم مع قوله بالصحيح يتمسك بالبرائة وبعضهم يتمسك بالاحتياط ، وامّا على الأعم فيتمسك بالبرائة مطلقا ، إلاّ في الأجزاء والشرائط التي لها دخل في صدق اسم العبادة .

( و ) عليه : فانا ( نقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعم كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ) فيكون القياس هكذا : لفظ العبادة من المطلقات ، والمطلق له حكمه ، وحكمه هو التمسك بالاطلاق بشروط ثلاثة :

الاول : أن لا يكون المولى في مقام الاهمال والاجمال ، بل في مقام البيان .

الثاني : ان لا يكون هناك في المسألة قدر متيقن .

ص: 342

ومن المعلوم أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسكُ به باطلاقه ، بل له شروط ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقامُ مقامَ بيان ، ألا ترى أنّه لو راجع المريضُ الطبيبَ ، فقال له في غير وقت الحاجة : « لابدّ لك من شرب الدواء والمسهل » ، فهل يجوز للمريض أن يأخذ باطلاق الدواء والمسهل ؟ .

-------------------

الثالث : ان لا ينصب المولى قرينة على الخلاف .

وإلى الشروط الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( ومن المعلوم : أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسك به ) أي : بالمطلق ( باطلاقه ) تمسكا لنفي كل جزء وشرط مشكوك ( بل له ) أي : للتمسك باطلاق المطلق ( شروط ) مذكورة في باب المطلق والمقيد وهي الشروط الثلاثة التي أشرنا اليها هنا : ( كأن لا يكون واردا في مقام ) بيان ( حكم القضيّة المهملة ) أي : لا يكون المولى في مقام الاجمال والاهمال ( بحيث لا يكون المقام مقام بيان ) فانه إذا كان المولى في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان لم يصح التمسك باطلاق المطلق في نفي شرط أو جزء مشكوك .

( ألا ترى انّه لو راجع المريض الطبيب ، فقال له في غير وقت الحاجة ) إلى الدواء ، كما إذا راجعه يوم الجمعة - مثلاً - وكان عليه ان يشرب الدواء يوم السبت لئلا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة فقال له الطبيب : ( « لابدّ لك من شرب الدواء والمسهل » ، فهل يجوز للمريض ان يأخذ باطلاق الدواء والمسهل ؟ ) ويشرب أيّ دواء كان ، أو أيّ مسهل شاء؟ فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء محتجّين: بأن الطبيب كان في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان حتى يجوز له الأخذ باطلاقه .

ص: 343

وكذا لو قال المولى لعبده : « يجب عليك المسافرة غدا » .

وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلّم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه إلاّ في مقام هذا المقدار من البيان ، لا يجوزُ أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يُثْبِتُ الاطلاق وعدم إرادة القيد ، إلاّ بضميمة أنّه إذا فرض - ولو بحكم الأصل - عدم ذكر القيد وجب إرادةُ الأعمّ من المقيّد وإلاّ قبُح التكليف ، لعدم البيان ،

-------------------

( وكذا لو قال المولى لعبده : « يجب عليك المسافرة غدا » ) فانه لا يجوز للعبد الأخذ بالاطلاق والسفر إلى أيّ مكان شاء ، وبأية وسيلة أراد ، فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء قائلين : بأن المولى لم يكن في مقام البيان حتى يجوز ذلك الأخذ باطلاق كلامه .

( وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه ) أي : المتكلم ( إلاّ في مقام هذا المقدار من البيان ) الاهمالي أو الاجمالي ، فانه ( لا يجوز ان يدفع القيود المحتملة للمطلق ) دفعا ( بالأصل ) فانّ الأصل العقلائي غير جارٍ في المقام ، لا أصل الاطلاق ، ولا أصل عدم القيد ، وذلك ( لانّ جريان الأصل لا يُثِبتُ الاطلاق ) حتى يتمسك به في دفع القيود والخصوصيات المشكوك فيها .

( و ) كذا جريان الأصل لا يثبت ( عدم إرادة القيد ، إلاّ بضميمة انّه إذا فرض - ولو بحكم الأصل - عدم ذكر القيد : وجب إرادة الأعم من المقيّد ، وإلاّ ) بأن لم يكن كذلك ، كان من التكليف بلا بيان ، وقد عرفت : ( قبح التكليف ) حسب الفرض ( لعدم البيان ) وذلك لأنّ أصالة عدم ذكر القيد بمنزلة الصغرى ، ولا يثبت بمجردها إرادة الاطلاق ، بل لابد من ضم الكبرى اليها وهي : قبح التكليف

ص: 344

فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الاخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع .

والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في مقام الأمر بالعبادة كونُها في غير مقام بيان كيفية الصلاة .

فان قوله تعالى: « أقيموا الصلاة »

-------------------

بلا بيان، فان المتكلّم يقبح منه ارادة شيء مع عدم بيانه له ، لانه تكليف بما لا يطاق .

ومن الواضح : ان هذه الكبرى إنما تتم إذا كان المتكلم في مقام البيان ، لا أن يكون في مقام الاهمال والاجمال .

وعليه : ( فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح ) من المولى ( الاخلال بذكر القيد مع إرادته ) أي : مع إرادة المولى القيد ( في الواقع ) فاذا تحققت هذه الكلية التي ذكرناها وهي : ان المولى إذا لم يكن في مقام البيان لايجوز التمسك باطلاق كلامه، قلنا: من صغريات هذه الكلية، ان المولى الحقيقي لم يكن في مقام البيان عند ذكره لألفاظ العبادات ، فلا يجوز إذن التمسك باطلاق ماورد من ألفاظ العبادات في الكتاب والسنة .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات ) والعمومات ( الواردة في الكتاب ) والسنة ( في مقام الأمر بالعبادة ) من الصلاة والصيام والحج وغيرها ( كونها في غير مقام بيان كيفية الصلاة ) ولا كيفية الصيام ، والحج ، وسائر العبادات ، وإنما هي في مقام بيان أصل التشريع وتأكيد الأمر بها .

ويدل على ذلك ما نذكره من الأمثلة : ( فان قوله تعالى : « أقيموا الصلاة »(1)

ص: 345


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إنّما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ، نظير قوله : « مَن تَركَ الصلاةَ فهو كذا وكذا » ، و « أنّ صلاةً فريضةً خيرٌ من عشرينَ أو ألف حِجّة » .

نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ، إمّا قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وإمّا بعد البيان له حتى يكون إشارةً إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب .

-------------------

إنما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ) فالآية المباركة تكون ( نظير قوله ) عليه السلام : ( «مَن تَركَ الصلاةَ فهو كذا وكذا» (1) ، و ) نظير قوله عليه السلام : ( « أنّ صلاة فريضة خيرٌ من عشرين (2) أو ألف حجّة (3) » ) .

إذن : فالآية والرواية هما ( نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ) مثل أن يقول الطبيب للمريض : لابد لك من شرب الدواء ، فهذا القول من الطبيب سواء كان قبل بيانه لجزئيات الدواء أم بعد بيانه لها ، ليس له اطلاق كما قال : ( امّا قبل بيانه ) أي : بيان الدواء ( له ) أي : للمريض ( حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وامّا بعد البيان له حتى يكون إشارةً إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب ) .

والأوامرُ الواردة بالعبادات فيه ، كالصلاة والصوم والحجّ ، كلُّها على

ص: 346


1- - لقد ورد في الكافي اصول : ج2 ص287 ح24 ومن لا يحضره الفقيه : ج3 ص564 ب2 ح4932 ووسائل الشيعة : ج15 ص320 ب46 ح20629 «من ترك الصلاة متعمدا فقد بريء من ذمّة اللّه وذمة رسوله» .
2- - انظر الكافي فروع : ج3 ص260 ح7 ، غوالي اللئالي : ج1 ص319 ح47 ، روضة الواعظين : ص318 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص236 ب12 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص209 ح630 و ص221 ب2 ح2237 .
3- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص240 ب12 ح22 ، وسائل الشيعة : ج4 ص40 ب10 ح4460 .

أحد الوجهين ، والغالب فيها الثاني .

-------------------

مثلاً : راجع المريض الطبيب صباح يوم الجمعة فقال له الطبيب : لابد لك من شرب الدواء ، وراجعه عصر يوم الجمعة فقال له : اشرب العنّاب الأحمر والعنّاب الأسود والبنفسج والنّبات مخلوطا ثم راجعه صباح يوم السبت فقال له : لابد من ان تشرب الدواء ، فان ما قاله صباح يوم الجمعة كان إشارة إلى ما سوف يفصله عصرا ، وما قاله صباح يوم السبت كان إشارة إلى ما فصله عصر أمس .

وعلى كلا التقديرين فقوله قبل العصر وبعد العصر ليس اشارة إجمالية إلى الدواء بدون ان يكون له تفصيل حتى يتمسك المريض باطلاقه .

( و ) عليه : فاذا عرفت ذلك في الدواء نقول : ( الأوامر الواردة بالعبادات فيه ) أي : في الشرع ( كالصلاة والصوم والحجّ ، كلُّها على أحد الوجهين ) السابقين ، فانها وردت إمّا قبل البيان ، وإمّا بعد البيان ( والغالب فيها الثاني ) بأن كان ورود الأوامر بالعبادات بعد بيان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لها .

إذن : فلا يمكن التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » (1) ولا باطلاق : « وللّه على الناس حج البيت » (2) ولا باطلاق : « كتب عليكم الصيام»(3) ولا باطلاق سائر آيات الأحكام ، لانها كما قلنا : ليست في مقام بيان الكيفية ، بل في مقام أصل التشريع والتأكيد عليها ، وإنما أوكل بيان الكيفية فيها إلى رسوله ومن بعده إلى أهل بيت رسوله صلوات اللّه عليهم أجمعين ، حتى تواتر

ص: 347


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة آل عمران : الآية 97 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

وقد ذكر موانعُ اُخَر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها باصالة الاطلاق وعدم التقييد ، ولكنها قابلة للدفع

-------------------

عن الفريقين قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «اني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» (1) وفي زمان الغيبة إلى الفقهاء المراجع حسب التوقيع الشريف : « أما الحوادث الواقعة » (2) .

هذا ( وقد ذكر موانع اُخُر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها ) غير الموانع الثلاثة التي ذكرناها : وقالوا : بأن هذه الموانع الاُخر تمنع من التمسك في العبادات ( باصالة الاطلاق ، و ) من التمسك بأصالة ( عدم التقييد ) فمع وجود أحدها لايمكن التمسك بهما ( ولكنها ) أي: تلك الموانع المذكورة (قابلة للدفع ) فانها ليست كما ذكر تمنع من التمسك باطلاقات ، وإنما التي تمنع منه هي الثلاثة التي ذكرناها فقط .

ثم ان من الموانع التي ذكروها هي : ان ألفاظ العبادات منصرفة إلى خصوص الصحيحة ، فتكون بالنسبة إلى الأعم مجملة لا إطلاق لها حتى يتمسك به .

ومن الموانع : ان إطلاقات الكتاب ورد فيها تقييدات كثيرة ، وذلك يسبّب سقوطها عن الحجية .

ومن الموانع : كونه في مقام بيان جهة خاصة فقط كما في قوله سبحانه : « فكُلُوا ممّا أمسكن عليكُم » (3) فانه في مقام بيان حلّية الصيد فقط ، فلا يمكن التمسّك

ص: 348


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون اخبار الرضا : ص62 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص35 ، الارشاد : ج1 ص180 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 ، ارشاد القلوب : ص340 .
2- - كمال الدين : ص440 ب45 ح4 ، منتخب الانوار المضيئة : ص122 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 .
3- - سورة المائدة : الآية 4 .

أو غير مطّردة في جميع المقامات ، وعمدةُ الوهن لها ما ذكرناه .

فحينئذٍ : إذا شك في جزئية شيء لعبادة لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية من أصالة عدم التقييد ، بل الحكمُ هنا هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط

-------------------

باطلاق الآية لاثبات طهارة موضع العض ، وغير ذلك من الموانع التي ذكروها لعدم التمسك بالاطلاق ، لكنها كما لا يخفى امّا قابلة للدفع ( أو غير مطّردة في جميع المقامات ) فالعمدة من الموانع هي الثلاثة التي ذكرناها فقط ، وقد ذكرت في الكتب الاصولية في باب الاطلاق والتقييد .

( و ) كيف كان : فان ( عمدة الوهن لها ) أي : للاطلاقات هو ( ما ذكرناه ) من قولنا قبل عدة صفحات : ومن المعلوم ان المطلق ليس يجوز دائما التمسك به باطلاقه، بل له شروط، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضية المهملة ، إلى آخره .

( فحينئذٍ ) أي : حين كان واردا في مقام الاهمال والاجمال كألفاظ العبادات في الكتاب والسنة ، فانه ( إذا شك في جزئية شيء لعبادة ) كجلسة الاستراحة للصلاة مثلاً ( لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية : من أصالة عدم التقييد ) لانّ الألفاظ

مجملة ، فلا يجري فيها أصالة عدم التقييد ، إذ أصالة عدم التقييد إنّما تجري في المطلق لا في المجمل .

( بل الحكم هنا ) فيما ورد من ألفاظ العبادات في الآيات والروايات على مذهب الأعمّي : ( هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح : في رجوعه إلى وجوب الاحتياط ) والاتيان بالأكثر ، وذلك على ما قاله البهبهاني وجماعة لاحراز العنوان واليقين بالفراغ فيما إذا كان الشك في جزء أو شرط في باب العبادات .

ص: 349

أو أصالة البرائة ، على الخلاف في المسألة .

فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الاجمال على القول بالصحيح ، وحكم المجمل هو مبنيٌ على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البرائة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية ، لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم ،

-------------------

( أو ) الرجوع إلى ( أصالة البرائة ) كما هو مختار مشهور القائلين بالصحيح ، وذلك ( على الخلاف في المسألة ) أي : مسألة الشك في وجوب الأقل أو الأكثر .

والحاصل : إنّ الأعمّي كالصحيحي في باب الشك في الجزء والشرط ، فبعض من الطائفتين قال بجريان اصالة الاشتغال ووجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، وبعض من الطائفتين قال بجريان أصالة البرائة وعدم وجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، فلا ثمرة إذن بين الصحيحي والأعمّي .

ثم بعد ان عرفت بطلان هذه الثمرة نقول : ( فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو : لزوم الاجمال على القول بالصحيح ) في باب ألفاظ العبادات ( وحكم المجمل هو ) كما عرفت : ( مبنيٌ على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البرائة ) .

هذا على القول بالصحيح ، وأمّا على القول بالأعم ، فكما قال : ( وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم ) أي : ان الأعمى يقول : ان ألفاظ العبادات ليست مجملة ، بل يمكن أن يقال : انها مبيّنة لان الشارع أراد ما يصدق عليه الصلاة ، فاذا صدقت الصلاة على الفاقدة للجزء أو الشرط

ص: 350

فافهم .

-------------------

المشكوك ، كفى في التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) لدفع ما شك في جزئيته أو شرطيته .

وان شئت بيان الثمرة ، قلت : ان القول بالصحيح مستلزم قطعا لاجمال الخطاب ، وإذا كان الخطاب مجملاً ، فحكمه الاحتياط أو البرائة على الخلاف بين القائلين بالصحيح كما عرفت ، واما على القول بالأعم فلا يستلزم كون الاطلاقات واردة في مقام الاجمال حتى يمنع من التمسك بالاطلاق ، فيجوز للأعمي التمسك بالاطلاق في نفي الجزء أو الشرط المشكوك فيكون الصحيحي قولان ، بينما للأعمّي قول واحد فقط وهو البرائة .

( فافهم ) فان المصنِّف قال على الصحيح فاجمال وحكمه الخلاف بين الاحتياط والبرائة ، وعلى الأعم فامكان البيان وحكمه البرائة ، ومن المعلوم : أن مجرد الامكان لا ينفع الواقع ، فما ذكره من الثمرة ليست بثمرة عملية بل مجرد فرق علمي .

وقال بعض المحشين : ان قوله : « فافهم » إشارة إلى ان هذه الثمرة ليست ثمرة مثمرة في الفقه ، ومجرد الثمرة العلمية لا يناسبه عنوان هذا المبحث الطويل في اصول الفقه مع عدم كونه مفيدا في مقام استنباط مسائله أصلاً .

هذا ، ولا يخفى انهم قد ذكروا للثمرة بين الصحيح والأعم وجوها :

منها : ان الألفاظ على القول بوضعها للماهيات الصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، تكون مدلولاتها مجملة ، فلابد عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته بعد اليأس عن الدليل من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي من البرائة أو الاشتغال .

ص: 351


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

المسألة الثالثة :

فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخرُ على عدمها .

ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القولَ بالتخيير بعد التكافؤ

-------------------

وإنما يرجع فيها إلى الأصل العملي لانها حينئذ تجري مجرى الأدلة اللبية في عدم اطلاقها ، وكما ان المرجع في الأدلة اللبية : الاُصول العملية ، فكذلك في المقام ، بينما على القول بوضعها للأعم تكون كألفاظ المعاملات مدلولاتها أمور بيّنة من حيث الصدق العرفي ، فيرجع إلى اطلاقها عند الشك في شرط أو جزء بعد احراز صدق الماهية .

ومنها : جواز اجراء الأصل في الجزء والشرط المشكوك فيهما على القول بالأعم وعدمه ، ووجوب الاحتياط فقط على القول بالصحيح .

ومنها : ما ذكره المحقق القمي من ان الثمرة تظهر في النذر ، فلو نذر أحد ان يعطي شيئا لمن يراه يصلي فرأى من يصلي ، جاز اعطاء النذر له وبرئت ذمته ، لصدق الصلاة عليها سواء كانت صحيحة أم فاسدة؟ بينما على القول بالصحيح لايجوز اعطاؤه إلاّ إذا علم بصحة صلاته ، وغير ذلك من الثمرات التي ذكروها بين الصحيح والأعم ، لكن غالبها لا يخلو عن مناقشة .

( المسألة الثالثة ) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : ( فيما إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها ) بالنسبة إلى الصلاة ( ومقتضى اطلاق أكثرالأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ ) بين النصين سندا ، ودلالة ، وجهة

ص: 352

ثبوتُ التخيير هنا .

لكن ينبغي ان يُحمَل هذا الحكمُ منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاقٌ يقتضي أصالة عدم تقييده عدمَ جزئية هذا المشكوك ، كأن يكون هناك اطلاقٌ معتبرٌ للأمر بالصلاة بقول مطلق ، وإلاّ فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ،

-------------------

صدور هو : ( ثبوت التخيير هنا ) أيضا ، لان المقام من صغريات تلك الكبرى الكلية ، وقوله : « ثبوت التخيير » خبر لقوله : « ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب » .

( لكن ينبغي ان يُحمَل هذا الحكم ) أي : حكم التخيير ( منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاقٌ ) معتبر ( يقتضي أصالة عدم تقييده : عدمَ جزئية هذا المشكوك) في انه من العبادة أو ليس من العبادة ( كأن يكون هناك اطلاقٌ معتبرٌ للأمر بالصلاة بقول مطلق ) وإنما كان هناك خبران فقط أحدهما يدل على جزئية السورة ، والآخر يدل على عدم جزئيتها ولم يكن عندنا اطلاق معتبر .

( وإلاّ ) بأن كان هناك إطلاق معتبر ( فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ) لأن المتكافئين يتساقطان فيرجع في الحكم إلى دليل ثالث وهو الاطلاق في المقام ، لانّ الشك في الأقل والأكثر قد يكون مع خلو المسألة من اطلاق معتبر ، وقد يكون مع وجود اطلاق معتبر ، فاذا قبلنا : إن قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) في مقام الاطلاق ، ثم ورد دليلان : أحدهما يقول : بان السورة جزء ، والآخر يقول: بان السورة ليست بجزء ، فانهما بعد تعارضهما يتساقطان ، ويكون المرجع دليل: « أقيموا الصلاة » ممّا تكون النتيجة : انه لا احتياج للسورة .

ص: 353


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء مايصح لتقيده بمعارض مكافيء .

وهذا الفرضُ خارجٌ عن موضوع المسألة ، لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد مفروضةٌ فيما إذا لم يكن دليلٌ اجتهاديٌ سليمٌ عن المعارض متكفّلاً لحكم المسألة حتى تكون موردا للاُصول العمليّة .

-------------------

لا يقال : بعد فرض دليل خاص مقيّد للصلاة بالسورة يلزم تقييد المطلق ، فكيف يكون المطلق مرجعا ؟ .

لأنه يقال : المفروض ان المقيّد مبتلى بالمعارض فيتساقطان؛ ويبقى المطلق سالما عن التقييد ، فنأخذ به كما قال :

( لسلامته ) أي : المطلق ( عن المقيّد بعد ابتلاء مايصح لتقيده ) أي : لتقيد المطلق وهو الخبر القائل : بان السورة جزء من الصلاة ( بمعارض مكافيء ) وهو الخبر القائل بأنّ السورة ليست بجزء ، فانه بعد تعارض الدال على الجزئية الصالح في نفسه لتقييد « أقيموا الصلاة » مع الخبر الدال على عدم جزئية السورة وتساقطهما يبقى المطلق سليما عن التقييد .

( وهذا الفرض ) وهو وجود اطلاق معتبر فيما نحن فيه ( خارجٌ عن موضوع المسألة ) أي : مسألة الشك في الأقل والأكثر .

وإنما يكون خارجا عن المسألة ( لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد ) الواردة في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( مفروضةٌ فيما إذا لم يكن دليلٌ اجتهاديٌ سليمٌ عن المعارض متكفّلاً لحكم المسألة حتى تكون موردا للاُصول العمليّة ) فإنّ مبحثنا في الاصول العملية ، وإذا كان في المقام دليل اجتهادي يكون خارجا عن مبحثنا .

ومن الواضح : ان الاطلاق المعتبر هو من الأدلة الاجتهادية ، فلا مسرح معه

ص: 354

فان قلت : فايُّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه ؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا ؟ كما لو لم يكن مطلقٌ .

-------------------

للاصول العملية كالتخيير بين المتعارضين .

وحيث قد تقدَّم : من اطلاق حكم التخيير فيما لو كان هناك نصّان متعارضان يقول أحدهما : بأنّ السورة جزء ، وثانيهما : بأنّ السورة ليست بجزء ، أشكل عليه المصنِّف : بأنّ الحكم بالتخيير صحيح ، لكن لا على إطلاقه ، بل بشرط عدم وجود مطلق في البين ، وإلاّ فلا تخيير .

ثم أعقبه بقوله : ان قلت ، ليشير إلى ان هذا التقييد غير صحيح ، لأنه ان كان حكم المتكافئين التساقط : فالمكلف مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها؛ إذ المطلق لازمه التخيير بين الخصوصيات؛ فاذا قال الشارع : « أقيموا الصلاة » تخيّر المكلّف بين أن يأتي بالصلاة مع السورة أو بدونها .

وإن كان حكم المتكافئين التخيير لا التساقط ، فالمكلف أيضا مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها سواء وجد المطلق أم لا ، إذ لو أخذنا بالمطلق كان معناه : إنّا قدّمنا الخبر الموافق للمطلق ، وهو خلاف الفرض القائل بأنّ الخبرين الخاصين لا يقدّم أحدهما على الآخر .

والحاصل : ان تقييد المصنِّف حكم التخيير بين الخبرين المتعارضين بعدم وجود مطلق في المسألة غير تام .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( فان قلت : فايُّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ ) أي : عدم وجود المطلق ( وما المانع من الحكم بالتخيير هنا؟ ) أي : مع وجود اطلاق معتبر ( كما لو لم يكن مطلقٌ ) معتبر رأسا ، فوجود المطلق وعدمه سيّان كما قال :

ص: 355

فانّ حكم المتكافئين إن كان هو التساقطَ ، حتى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما ، كان اللازمُ في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير هو التساقطَ والرجوعَ إلى الأصل المؤسّس فيما لا نصّ فيه واجماله من البرائة أو الاحتياط على الخلاف .

-------------------

( فانّ حكم المتكافئين ان كان هو التساقط ) كما قاله بعض في باب تعارض الخبرين المتكافئين ، فاللازم اسقاطهما معا والرجوع إلى غيرهما ( حتى أنّ المقيّد ) بصيغة اسم الفاعل ( المبتلى بمثله ) لفرض ان أحد الخبرين يقول بوجوب السورة فيقيّد اطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) وأحد الخبرين لا يقول بوجوب السورة فينفي تقييده ، فيكون المقيّد والنافي ( بمنزلة العدم ) لانهما يتساقطان حسب الفرض ( فيبقى المطلق سالما ) من التعارض فيرجع اليه .

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى أصالة الاطلاق يوجب كون الحكم أيضا : التخيير بين الاتيان بالسورة ، وعدم الاتيان بها .

وعليه : فان كان حكم المتكافئين التساقط ( كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق ) أيضا ( التي حكم فيها بالتخيير ) لانه إذا لم يكن مطلقٌ ، فالخبران يتعارضان ويتخير المكلّف بينهما فيكون اللازم فيها أيضا ( هو التساقط والرجوع إلى الأصل ) العملي ( المؤسّس ) بصيغة اسم المفعول بمعنى : الأصل الذي أسس ( فيما لا نصّ فيه و ) كذا في ( اجماله ) أي : في اجمال النص ، فيرجع فيهما إلى الأصل العملي ( من البرائة أو الاحتياط على الخلاف ) الموجود بين العلماء في الأصل المؤسس .

ص: 356


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وان كان حكمُهما التخييرَ ، كما هو المشهور نصّا وفتوىً ، كان اللازمُ عند تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله الحكم بالتخيير هنا ، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.

قلتُ :

-------------------

والحاصل : انه كما يرجع في مسألة ما لا نص فيه ومسألة اجمال النص إلى الأصل العملي ، كذلك يرجع إلى الأصل العملي في مسألة تعارض النصين .

هذا ( وان كان حكمهما ) أي : الخبران المتكافئان ( : التخيير ، كما هو المشهور نصّا وفتوىً ، كان اللازم عند تعارض المقيّد ) وهو الخبر الدال على جزئية السورة ( للمطلق الموجود ) أعني : « أقيموا الصلاة »(1) ( بمثله ) أي : بمثل الخبر المقيّد ، وهو الخبر النافي لجزئية السورة ( الحكم بالتخيير هنا ، لا ) التساقط و ( تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو ) أي : الرجوع إلى المطلق ( بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد ) .

وإنّما كان اللازم الحكم بالتخيير هنا أيضا لوضوح : انه لو تمسكنا باطلاق الخطاب في : « أقيموا الصلاة » كان معناه : عدم لزوم الاتيان بالسورة ، فيكون قد قدّمنا الخبر النافي على الخبر المثبت ، وهو خلاف فرض انهما متكافئان لا يؤخذ لا بهذا ولا بذاك .

ولا يخفى : ان في عبارة المصنِّف نوعا من الغموض حتى قال بعض المحشين بالتشويش في العبارة لكنّا فسرناها كما استظهرنا ، واللّه العالم .

ان قلت ذلك ( قلت ) : ان الاشكال على المصنِّف : بأنّ تقييده لحكم التخيير

ص: 357


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غيرُ متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجحٌ له ، فيؤخذ به ويطرح الآخرُ ، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محل الكلام .

-------------------

غير تام ، ليس في محله ، بل هو تام لانّه : إمّا ان نقول : بان وجود المطلق يوجب عدم تكافؤ الخبرين وانه يجب ان يؤخذ بالخبر الموافق للمطلق ، فلا تخيير ، وامّا ان نقول : بأنّ الخبرين يتكافئان ، والمطلق مرجح ، فلا تخيير أيضا .

وإنّما نقول في صورة وجود المطلق المعتبر بأنّ المطلق مرجّح ، لانصراف أدلة التخيير في الخبرين المتكافئين إلى صورة عدم وجود دليل شرعي ، ومن المعلوم: ان المطلق دليل شرعي ، فيكون تقييد المصنِّف حكمهم بالتخيير في الخبرين المتعارضين الدال أحدهما على جزئية السورة - مثلاً - والآخر على عدم جزئيتها تقييدا بشرط عدم وجود مطلق في البين تام ، كما قال : ( امّا لو قلنا : بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق ) المعتبر يجعل الأدلة الواردة ثلاثة: مطلق وخبران متعارضان ، فيكونان معه ( غير متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجح له ، فيؤخذ به ) أي : بالخبر الموافق للمطلق ( ويطرح الآخر ) وهو الخبر المخالف للمطلق .

وعليه : ( فلا اشكال في الحكم ) الذي ذكرناه : من التمسك بالمطلق وعدم التخيير بين المتكافئين .

( و ) كذلك لا اشكال ( في خروج مورده ) أي : مورد هذا الفرض ( عن محل الكلام ) إذ البحث إنما هو في المتعارضين المتكافئين ، وإذا كان المطلق يسند أحدهما؛ فالمتعارضان ليسا متكافئين لما عرفت : من ان الخبر الموافق للمطلق راجح على الخبر الذي يخالف المطلق .

ص: 358

وإن قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجعٌ لا مرجّحٌ ، نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديا ، لا من باب الظهور النوعيّ ؛

-------------------

هذا ( وان قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجعٌ ) بعد تساقطهما ( لا مرجّحٌ ) لأحدهما على الآخر ، وذلك ( نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد ) إنّما يكون أصلاً ( تعبّديّا ) من العقلاء ( لا من باب ) الظن و ( الظهور النوعي ) لاختلافهم في ان حجيّة أصالة الاطلاق هل هي من باب حصول الظن النوعي بارادة ظاهر اللفظ ، لانّ نوع السامعين يحصل لهم من ظاهر لفظ المطلق : الظن بأنّ المتكلم أراد الاطلاق ، أو من باب التعبد العقلائي وان لم يحصل هناك ظن نوعي وإنما بنى العقلاء على ذلك لتمشية أمورهم في المكالمات والمفاهمات؟ .

فعلى الأوّل وهو : كون حجيّة الاطلاق من باب الظن النوعي ، يكون الخطاب الذي يظن من ظاهره ارادة الاطلاق ، مؤيدا للخبر النافي للجزئية ، لانّ الخبر النافي للجزئية يقول : انه ليس بجزء ، والاطلاق يقول : انه يجوز الاتيان به بدون ذلك الجزء ، فيكون الخبر النافي للجزئية لأجل موافقة الاطلاق راجحا على الخبر الدال على الجزئية لانّ خبر الجزئية حينئذ ينافي الاطلاق ، فلا تكافؤ إذن بين الخبرين الخاصين حتى يحكم بالتخيير .

وعلى الثاني وهو : كون حجية الاطلاق تعبّد عقلائي ، لا يكون المطلق مؤيدا للخبر ، النافي للجزئية ، إذ الأصل التعبدي لا يكون مرجحا لأحد الخبرين على الآخر ، كما سيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض ان شاء اللّه تعالى ، بل يكون الاطلاق حينئذ حاكما على أخبار التخيير ، لانّ أخبار التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي ، وحيث ان في المقام دليلاً اجتهاديا وهو المطلق ، فلا يكون محلاً لاخبار التخيير ، بل يكون المطلق

ص: 359

فوجهُ عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ، وأنّها مسوقةٌ لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاُصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها .

والمفروض وجودُ قول الشارع هنا ، ولو بضميمة أصالة الاطلاق

-------------------

هو المرجع بعد تساقط الخبرين الخاصين الدال أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدم جزئيتها .

إذن : ( فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين ) وهما : المتكافئان مع وجود مطلق بينهما ، هو : ( دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار ) أي : أخبار التخيير ( بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ) التي تعارض فيها خبران متكافئان ( وانّها ) أي : اخبار التخيير ( مسوقةٌ لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاُصول العقليّة والنقليّة ) العملية ( المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها ) أي : في تلك الواقعة ولو كالمطلق - مثلاً - .

وعليه : فإنّ أخبار التخيير خاصة بصورة عدم وجود قول من الشارع في المسألة (والمفروض وجود قول الشارع هنا ) لان المفروض وجود المطلق مثل قوله سبحانه: « أقيموا الصلاة » (1) فلا مسرح معه للتخيير بين الخبرين الخاصين، بل يسقط الخبران ويكون المطلق هو المرجع ( ولو بضميمة أصالة الاطلاق

ص: 360


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد .

والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاُصول الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين ، هُو أنّ تلك الاُصول عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ، وهذا الأصل مقرّرٌ لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلاً وحجّة عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك .

-------------------

المتعبّد بها ) أي : بهذه الأصالة ( عند الشك في المقيّد ) حيث قد تقدّم : من التعبد العقلائي في حجية أصالة الاطلاق .

( و ) لا يقال : انكم تقدِّمون أخبار التخيير على الاُصول العملية فيما إذا دار الأمر بينهما ، مع انكم إذا دار الأمر بين أخبار التخيير وبين الاُصول اللفظية ، تقدِّمون الاُصول اللفظية كأصالة الاطلاق على أخبار التخيير ، فهذا الفرق لماذا ؟

لانه يقال : ( الفرق بين هذا الأصل ) اللفظي ( وبين تلك الاُصول ) العملية ( الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع اليها وترك المتكافئين ) حيث انه لا نعتمد على الاُصول العملية ونقول بتساقط الخبرين المتكافئين ( هو ) ما أشار اليه بقوله : ( أنّ تلك الاُصول ) العملية كالبرائة والاحتياط والاستصحاب وما أشبه ( عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ) فاذا لم يكن هناك دليل شرعي في مسألة عملية كانت الاُصول العملية هي المرجع ( و ) ليس الأمر مع وجود ( هذا الأصل ) اللفظي كذلك ، فانه ( مقرّرٌ لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلاً وحجّة ) شرعية ( عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك ) الاطلاق من الأدلة المقيدة .

والحاصل : ان الاُصول العملية لا تجري إلاّ مع فقد الدليل الاجتهادي ، وأخبار

ص: 361

فالتخييرُ مع جريان هذا الأصل تخييرٌ مع وجود الدليل الشرعي المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان . بخلاف التخيير مع جريان تلك الاُصول ، فانّه تخييرٌ بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما .

هذا ، ولكن الانصاف : إنّ أخبار التخيير حاكمةٌ على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاُصولية ،

-------------------

التخيير تجعل أحد الخبرين المتعارضين دليلاً اجتهاديا ، ومعلوم انه لا يبقى مع الدليل الاجتهادي مسرح للاُصول العملية ، بينما الاطلاق اللفظي هو بنفسه دليل اجتهادي ، فلا يبقى معه مسرح لأخبار التخيير ، لأنّ أخبار التخيير إنما هي حكم المتحير والاطلاق بنفسه يزيل التحيّر .

إذن : ( فالتخيير مع جريان هذا الأصل ) اللفظي وهو الاطلاق ( تخييرٌ مع وجود الدليل الشرعي ) المخرج عن التحيّر ، وحيث لا تحيّر لم يكن التخيير مرجعا ، بل المرجع هو الاطلاق ( المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصان ) فيلزم اسقاط النصين والرجوع إلى المطلق .

( بخلاف التخيير مع جريان تلك الاُصول ) العملية ( فانّه تخييرٌ بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث ) كالاطلاق - مثلاً - ( في موردهما ) فيلزم فيه تقديم التخيير على تلك الاصول العملية .

وان شئت قلت : ان الاُصول العملية ليست في مرتبة الخبرين المتكافئين ، فلابد من العمل بأحدهما الذي هو التخيير .

( هذا ) تمام الكلام في وجه تقديم المطلق على الخبرين المتكافئين .

( ولكن الانصاف : أنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل ) أيضا وهو أصالة الاطلاق ( وإن كان ) هذا الأصل اللفظي ( جاريا في المسألة الاُصولية ) لا الفرعية .

ص: 362

كما أنّها حاكمة على تلك الاُصول الجارية في المسألة الفرعية ؛ لأنّ مؤداها بيانُ حجية أحد المتعارضين كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار ، فهي دلالة على مسألة اصولية ، وليس مضمونُها حكما عمليّا صرفا ، ومن المعلوم حكومتها

-------------------

وإنّما يجري هذا الأصل اللفظي في الاُصول لانه يثبت كون المطلق دليلاً وحجة ، ومسألة الحجية وعدم الحجية من المسائل الاُصولية لا الفرعية ، ومع ذلك فان أخبار التخيير تكون حاكمة عليه ( كما أنّها ) أي : اخبار التخيير كانت ( حاكمة على تلك الاُصول ) العملية ( الجارية في المسألة الفرعية ) فان الاُصول العملية تجري عند الشك في الفروع كحلية وحرمة شرب التتن - مثلاً - ووجوب وعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وما أشبه ذلك من المسائل الفرعية التي لا دليل عليها .

والحاصل : إنّ أخبار التخيير حاكمة على الاُصول العملية والاُصول اللفظية معا، فتكون أخبار التخيير مقدَّمة على المطلقات ، لا ان المطلقات مقدَّمة على أخبار التخيير .

وإنما تكون أخبار التخيير مقدمة على المطلقات ( لأنّ مؤداها ) أي : مؤدى أخبار التخيير ( بيان حجية أحد المتعارضين ) فيكون مؤدّاها ( كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار ) وكما ان ما دلّ على حجية الخبر الواحد يكون مقدَّما على المطلق ، ولذا يقيّدون المطلق بالخبر الواحد ، كذلك ما دل على التخيير يكون مقدَّما على المطلق ، فاذا كان مطلق وكان خبران متعارضان يقدِّمون التخيير بين الخبرين على ذلك المطلق .

إذن : ( فهي ) أي : اخبار التخيير يكون لمؤدّاها ( دلالة على مسألة اصولية ) لانها تثبت حجية أحد الخبرين ، واثبات الحجية وعدم الحجية مسألة اُصولية ، فليست أخبار التخيير مسألة فرعية بحتة ( وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا ) حتى يقدّم المطلق عليها ( ومن المعلوم : حكومتها ) أي : حكومة أخبار التخيير

ص: 363

على مثل هذا الأصل .

فلا فرق بين أن يَرد في مورد هذا الدليل المطلق : « إعمل بالخبر الفلاني المُقَيِّد لهذا المطلق » وبين قوله : « إعمل بأحد هذين المُقَيِّد أحدُهما له » .

فالظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، وعدم التخيير

-------------------

حينئذ ( على مثل هذا الأصل ) اللفظي وهو الاطلاق .

وعليه : فان أصالة الاطلاق وان كانت تثبت حجية المطلق إلاّ انها مشروطة بعدم وجود المقيّد ، فاذا كان هناك خبر يقيّد المطلق قدّم على المطلق ، كذلك أخبار التخيير إذا تعارض خبران وكان هناك مطلق ، قدمت على المطلق .

إذن : ( فلا فرق بين أن يَرد في مورد هذا الدليل المطلق ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) دليل يقول : ( « إعمل بالخبر الفلاني المُقَيِّد لهذا المطلق » ) مثل : خبر زرارة الدالّ على وجوب جلسة الاستراحة المقيّد لاطلاق الصلاة ( وبين قوله : « إعمل بأحد هذين ) الخبرين ( المُقَيِّد أحدهما له » ) أي : لاطلاق الصلاة ، وذلك بأن يقول : اعمل بأحد هذين الخبرين المتكافئين الدال أحدهما على وجوب السورة والآخر على عدم وجوب السورة .

( ف ) ان قلت : إذن يلزم على قولكم هذا تقديم المتعارضين على المطلق ، فكيف يقول المشهور بسقوط المتعارضين والأخذ بالاطلاق ؟ .

قلت : ( الظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام ) أي : فيما إذا كان في مسألة خبران متكافئان وكان هناك مطلق أيضا ، فان حكمهم ( بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير ) بين الخبرين المتكافئين ، لم يكن من باب سقوط المتعارضين

ص: 364


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

مبنيٌّ على ما هو المشهور فتوىً ونصّا من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى .

وسيأتي توضيحُ ما هو الحقّ من المسلكين في باب التعادل والترجيح إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

والأخذ بالاطلاق ، بل انه ( مبنيٌّ على ما هو المشهور فتوىً ونصّا : من ترجيح أحد المتعارضين ب ) سبب ( المطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة ) فيكون المطلق ، أو العام ، مرجحا لا مرجعا ( كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى ).

والحاصل من الاشكال والجواب هو : ان أخبار التخيير حاكمة على اصالة الاطلاق وبعد حكومتها عليها لا وجه لحكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، فانه لا مسرح لأصل الاطلاق بعد وجود أخبار التخيير .

والجواب : ان حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم عملهم بأخبار التخيير ، مبني على ما هو مشهور بينهم : من ترجيح أحد المتعارضين بسبب مطلق أو عام موجود في تلك المسألة ، فيكون الخبر الموافق للمطلق أو العام راجحا على الخبر المخالف لهما ، فيؤخذ به لارجحيته على المخالف ، فيكون الرجوع إلى المطلق ، أو العام من باب المرجحية ، فلا يبقى معهما مورد لأخبار التخيير ، لأن أخبار التخيير إنما تكون حاكمة في مورد عدم المرجح والمفروض وجود المرجح في المقام .

( وسيأتي توضيح ما هو الحق من المسلكين ) أي : كون المطلق هل هو مرجع عند تعارض الخبرين ، أو مرجّح لأحدهما على الآخر ، وذلك ( في باب التعادل والترجيح ان شاء اللّه تعالى ) وهو البحث الأخير من الكتاب .

ص: 365

المسألة الرابعة :

فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقُه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي - وهو ما بين الهلالين - فشك في أنّه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين .

-------------------

( المسألة الرابعة ) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : ( فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ) الذي يلزم فيه استطراق باب العرف ، لا باب الشرع كالذي كان في المسائل الثلاث المتقدمة : من فقدان النص أو اجماله أو تعارضه ، وذلك ( كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين .

( ومنه ) أي : من هذا القسم من الشك ( ما إذا وجب صوم شهر هلالي ) بسبب النذر - مثلاً - ( وهو ) أي : الشهر الهلالي مفهوم مبيّن لانه ( ما بين الهلالين ، فشك في ) مصداقه الخارجي لوجود السحاب في السماء ( انّه ثلاثون أو ناقص ) فلم يعلم انتهاء الشهر بتسعة وعشرين يوما حتى يفطر غدا ، أو بثلاثين حتى يصوم غدا ، والمفروض : ان الواجب ارتباطي لانّ نذره وحدة واحدة بحيث إذا لم يصم آخر الشهر على تقدير كون الشهر ثلاثين يوما ، لم يف بنذره ويلزمه الحنث والكفارة .

( ومثل : ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ) فانه مفهوم مبيّن ( أعني : الفعل الرافع للحدث ، أو المبيح للصلاة ، فشكّ ) في مصداقه الخارجي هل هو الأقل أو الأكثر؟ لانه اشتبه ( في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين ) بالشبهة الموضوعية ،

ص: 366

واللازم في المقام الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّزُ التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم تحققه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر .

ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي والنقلي

-------------------

كما إذا شك في ان اصبعه الزائدة جزء من اليد أم لا ؟ أو ان جلدة متدلية في بدنه جزء من البدن أم لا ؟ .

أمّا من استشكل على المصنِّف : بأنّ ما ذكره من مثال الطهور لأجل الصلاة إنما هو مثال للشبهة الحكمية ، فانه مستبعد جدا ان يذكر المصنِّف مثالاً للشبهة الحكمية في محل الشبهة الموضوعية .

( و ) كيف كان : فان ( اللازم في المقام الاحتياط ) والاتيان بالأكثر ( لانّ المفروض: تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحققه بالأقلّ ) فان مفهوم الشهر في المثال الأوّل مبيّن ، كما ان مفهوم الطهور في المثال الثاني مبيّن أيضا ، وإنما الشك في الاُمور الخارجية الطارئة التي يستطرق فيها باب العرف .

وعليه : ( فمقتضى أصالة عدم تحققه ) أي : تحقق ذلك المفهوم المبيّن ( وبقاء الاشتغال ) إذا لم يصم اليوم المشكوك ولم يغسل الجلدة الزائدة بعد تنجّز التكليف هو : ( عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر ) لانه يكون نظير كما تقدّم : من أمر الطبيب بشرب مسهل الصفراء ، فشك المريض في ان المسهل مركب من خمسة أجزاء أو ستة؟ حيث يرى العقل والعقلاء لزوم الاحتياط بالاتيان بالسادس، لانه بدون السادس لم يعلم انه أتى بمسهل الصفراء .

هذا ( ولا يجري هنا ما تقدّم ) في الشبهة الحكمية ( من الدليل العقلي والنقلي

ص: 367

الدالّ على البرائة ، لانّ البيانَ الذي لابدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلاً ، فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصلُ عدمُه ، والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبُه تفصيلاً ، أعني : المفهوم المعيّن المأمور به ، ألا ترى أنّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة ، كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوبَ الاتيان بها .

-------------------

الدالّ على البرائة ) .

وإنما لا يجري دليل البرائة هنا ( لانّ البيان الذي لابدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ) فالمفهوم حسب الفرض مبيّن ، وإنّما الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ( فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلاً ) إذا لم يأت بالأكثر .

وعليه : ( فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصل عدمه ) أي : عدم تحقق ذلك المفهوم المبيّن خارجا لو أتى بالأقل .

هذا ( والعقل أيضا ) أي : كالاستصحاب وقاعدة الاشتغال ( يحكم ) حكما بالاستقلال ( بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبه تفصيلاً ) وما علم وجوبه هو ما فسره المصنِّف بقوله : ( أعني : المفهوم المعيّن المأمور به ) فيلزم حينئذ الاحتياط والاتيان بالأكثر لاحراز ما علم وجوبه .

( ألا ترى : انّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة كأن لم يعلم انّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب : وجوب الاتيان بها ) أي : بتلك الأجزاء المعلومة ، فكذا الأجزاء المشكوكة .

وعليه : فاذا لم يعلم انه صام تسعة وعشرين يوما أو أقل ، أو شك في انه مسح رأسه أم لا ، فانه كما يجب الاتيان بالتاسع والعشرين ، وبمسح الرأس الذين هما

ص: 368

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبرائة ، هو أنّ نفس التكليف فيها مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلاً وبين تعلقه بالمشكوك .

وهذا الترديدُ لا حكمَ له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي قبيحة بحكم العقل .

فالعقلُ والنقل الدالاّن على البرائة ، مبيّنان لتعلّق التكليف لما عداه من أول الأمر في مرحلة الظاهر .

-------------------

من الأجزاء المعلومة كذلك يجب الاتيان بما إذا شك في الثلاثين وفي غسل الجلدة الزائدة الذين هما من الأجزاء المشكوكة .

( والفارق بين ما نحن فيه ) من الشبهة الموضوعية حيث قلنا بوجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر فيها ( وبين الشبهة الحكميّة ) حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط والاتيان بالأقل فيها ، وذلك فيما مرّ ( من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبرائة ) من فقد النص أو اجماله أو تعارض النصين ( هو ) ما يلي :

( أنّ نفس التكليف فيها ) أي : في الشبهة الحكمية ( مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلاً وبين تعلقه بالمشكوك ، وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه ) إذا قيل بوجوب الاحتياط فيه ( إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي ) أي : المؤاخذة هنا ( قبيحة بحكم العقل ) والنقل .

وإنما تقبح المؤاخذة لانه كما قال : ( فالعقل والنقل الدالان على البرائة ، مبيّنان لتعلق التكليف لما عداه ) أي : لما عدا المشكوك في باب الشبهة الحكمية ( من أول الأمر ) وذلك ( في مرحلة الظاهر ) لانّه لما كان نفس المكلّف به من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر ، حكم العقل والنقل بتعيّن الأقل من الأوّل تعيّنا ظاهريا ،

ص: 369

وأمّا ما نحن فيه فمتعلّقُ التكليف فيه مبيّنٌ معلوم تفصيلاً ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحققه في الخارج ، بل الأصل عدم تحققه ، والعقل أيضا مستقلٌّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق .

-------------------

والتكليف هو العمل بهذا الظاهر فيأتي في الشبهة الحكمية بالأقل ويجري البرائة عن الزائد المشكوك فيه .

( وأمّا ما نحن فيه ) من الشبهة الموضوعية : ( فمتعلّق التكليف فيه مبيّن ) من أول الأمر ( معلوم تفصيلاً ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ) فلا موضع للأصل العقلي أو النقلي بالبرائة عن الزائد في باب الشبهة الموضوعية ( وإنما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة ) إذ بعد الاتيان بالأجزاء المعلومة من دون ذلك الجزء المشكوك فيه يشك انه هل تحقق المكلّف به أم لم يتحقق ؟ .

هذا ( والعقل والنقل المذكوران ) الدالان على البرائة ( لا يثبتان تحققه ) أي : المكلّف به ( في الخارج ) لانه مثبت .

وعليه : فنفي المؤاخذة على ترك المشكوك فيما نحن فيه لا يثبت تحقق المأمور به بالأقل إلاّ على القول بالأصل المثبت لعدم كونه من الآثار الشرعية له ، وذلك لما قد عرفت : من انه من الشك في المكلّف به لا الشك في التكليف .

( بل الأصل عدم تحققه ) أي : المكلّف به عند الاتيان بالأقل ( والعقل أيضا مستقلٌّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق ) في باب المكلّف به ، فيلزم فيه الاتيان بالأكثر .

ثم ان المصنِّف جعل الشك في الأقل والأكثر على قسمين : الشك في الجزء ، والشك في القيد ، فقال في صدر المسألة ما لفظه : الثاني : فيما إذا دار الأمر

ص: 370

وأمّا القسم الثاني: وهو الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به

اشارة

فقد عرفت أنّه على قسمين ، لأن القيد قد يكون منشأه فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجيّ .

-------------------

في الواجب بين الأقل والأكثر ، ومرجعه إلى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها، وهو على قسمين : لان جزء المشكوك إمّا جزء خارجي ، أو جزء ذهني وهو القيد ، وهو على قسمين لانّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبار ذلك القيد إلى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة المقيّد بها الصلاة ، وامّا خصوصية متحدة في الوجود مع المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصة ، وحيث فرغ عن القسم الأوّل قال : ( وأمّا القسم الثاني : وهو الشك في ) الجزء الذهني ، ولا يراد به كون الجزء في الذهن فقط بلا انطباق على الخارج ، بل المراد : ( كون الشيء قيدا للمأمور به ، فقد عرفت : أنّه على قسمين ) :

الأوّل : ( لأن القيد قد يكون منشأه فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ) فان الوضوء أمر خارجي وتشترط الصلاة بهذه الطهارة الناتجة من هذا الوضوء .

الثاني : ( وقد يكون قيدا متحدا معه ) أي : مع المقيّد ( في الوجود الخارجيّ ) كالإيمان في الرقبة ، حيث ان الايمان في الرقبة ليس شيئا خارجيا ، وإنما هو صفة من صفات الرقبة .

ص: 371

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ، فلا نطيل بالاعادة .

وأمّا الثاني فالظاهرُ اتحادُ حكمهما .

-------------------

هذا ، ولا يخفى : ان الأوثق قال : ان الشروط على أقسام ، ثم ذكر القسمين المذكورين في المتن إلى أن قال : « وثالثها : ما كان خصوصية متحدة مع المأمور به كما في القسم الثاني ، إلاّ ان الخصوصية هناك مذكورة في ذاتها ، وهنا ناشئة من تضادّ المأمور به لتكليف نفسي ، كحرمة لبس الحرير للرجال ، لأنّ شرطية عدم كون اللباس حرير في الصلاة ناشئة من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو مع تعدد الجهة ، وهذا القسم خارج عن محل النزاع كما سيصرّح به » (1) .

( امّا الأوّل ) وهو : ما كان منشأ القيد فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد خارجا ، كالطهارة في الصلاة ( فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ) لانه من الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البرائة من الأكثر ، لانحلال العلم الاجمالي إلى أقل متيقن وأكثر مشكوك فيه ، ولذلك ( فلا نطيل بالاعادة ) فيه لعدم وجود شيء جديد هنا خارجا عن المبحث المتقدم في الأقل والأكثر .

( وامّا الثاني ) وهو : ما كان القيد متحدا مع المقيّد خارجا كالايمان في الرقبة ، وفيه قولان، المصنِّف على انه كالقسم الأوّل في جريان البرائة، ولذا قال: ( فالظاهر اتحاد حكمهما ) فحكم الثاني في البرائة عند المصنِّف يكون كالأوّل ، لأن الشك في القيد بكلا قسميه داخل في الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البرائة .

ص: 372


1- - أوثق الوسائل : ص374 الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به على قسمين بتصرف .

وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشك في الجزئية دون الثاني ، نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ، فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض أنّ الشرط الشرعي إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ،

-------------------

لكن المحكي عن العلامة وتبعه المحقق القمي هو التفصيل بينهما ، وذلك بإلحاق الأوّل بالأقل والأكثر حيث يجري فيه البرائة عن الأكثر ، وإلحاق الثاني بالمتباينين حيث يجب فيه الاتيان بالأكثر .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل ) كالطهارة في الصلاة إذا شككنا في انها واجبة أم لا ( بالشك في الجزئية ) حيث تجري البرائة فيه ( دون الثاني ) كالايمان في الرقبة حيث يجري فيه الاشتغال .

ثم استدل لهذا التفصيل بما ذكره المصنِّف بقوله : ( نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ) كالطهارة في الصلاة ( فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة ) للطهارة الواقعية التي يحتمل أن يكون شرطا للصلاة ( منفيّا بحكم العقل والنقل ) لقبح العقاب بلا بيان ، ولجريان أدلة البرائة ، فان المتيقن وهو الصلاة يجب الاتيان بها وامّا المشكوك وهو الوضوء فتجري فيه البرائة .

هذا ( والمفروض : أنّ الشرط الشرعي ) هنا وهو الطهارة في الصلاة ( إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ) حيث قال سبحانه : « فاغسلوا وجوهكم

ص: 373

فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر .

وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة ، فليس مما يتعلّق به وجوبٌ وإلزامٌ مغايرٌ لوجوب أصل الفعل ولو مقدمة ، فلا يندرج فيما حجب اللّه علمه عن العباد .

-------------------

وأيديكم إلى المرافق » (1) فالطهارة في الصلاة منتزعة من هذا الشرط ( فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر ) فاذا أجرينا البرائة عن الوضوء وسقط الوضوء عن الوجوب لا تكون الطهارة شرطا في الصلاة .

( وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة ) وذلك كما إذا شككنا في ان الرقبة الواجب عتقها هل يشترط أن تكون مؤمنة أم لا ؟ ( فليس مما يتعلّق به وجوبٌ وإلزامٌ مغايرٌ لوجوب أصل الفعل ) الذي هو العتق .

وإنما لايتعلق به وجوب مغاير للأصل لأنّ الايمان ليس شيئا مغايرا للرقبة خارجا، بل هو صفة من صفات الرقبة متحد معها ، فيكون الحكم متعلقا بنفس المقيّد دون القيد ، أما القيد وهو الايمان فلا يتعلق به وجوب مغاير لوجوب العتق ( ولو مقدمة ) أي : ان الايمان لا يتعلق به وجوب مقدمي ، كما لا يتعلق به وجوب ذاتي أيضا .

وعليه : ( فلا يندرج ) القيد المذكور عند الشك في وجوب المطلق من عتق الرقبة أو المقيّد بكونها مؤمنة ( فيما حجب اللّه علمه عن العباد ) (2) حتى يقال :

ص: 374


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

والحاصل : إنّ أدلة البرائه من العقل والنقل إنما ينفي الكلفةَ الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتب على تركه ، مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلاً ، فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذورٌ في ترك التسليم لجهله . وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلاً حتى

-------------------

باجراء البرائة عن القيد ولزوم المقيّد ، وذلك لما عرفت : من ان الواجب هو نفس المقيد بما هو هو لا مع قيده حتى يتصور هنا متيقن هو المقيّد ، ومشكوك هو القيد ، فيقال : بأن القيد مندرج فيما « حجب عمله » و « فيما لا يعلمون » وما أشبه ذلك من أدلة ، البرائة فينفى بها .

( والحاصل : انّ أدلة البرائة من العقل والنقل إنما ينفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك ) كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة إذا شككنا في وجوبه وعدم وجوبه ( و ) ينفي ( العقاب المترتب على تركه مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلاً ) فيما إذا كان له وجود منحاز عن وجود المتيقن ( فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله ) لان هناك أمرين : الصلاة بدون التسليم ، والتسليم ، أمّا الصلاة فهي متيقنة بخلاف التسليم فانه مشكوك ، فيأتي بما علم وجوبه تفصيلاً ويترك مشكوك الوجوب .

وهكذا حال الوضوء والصلاة ، وما أشبه ذلك .

( وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلاً حتى

ص: 375

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تاركٌ للمأمور به رأسا .

وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، لا الأقل والأكثر .

وكان هذا هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبرائة عند الشك في الشرطية والجزئية ، كالمحقق القمّي قدس سره في باب المطلق والمقيّد ، من تأييد استدلال العلامة قدس سره في النهاية - على وجوبِ حمل المطلق على المقيّد

-------------------

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تاركٌ للمأمور به رأسا ) إذ على تقدير وجوب المقيّد ليس الواجب مركبا من قدر متيقن هو الرقبة وشرط مشكوك هو الايمان حتى يكون الآتي بالرقبة الكافرة آتيا بالمتيقن وتاركا للمشكوك بل الواجب هو نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء أصلاً ، لا انه أتى بالمتيقن وترك المشكوك .

( وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ) حيث لا قدر مشترك بينهما، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء ، واذا أتى بالرقبة المؤمنة أتى بكل شيء ، فاذا شككنا في انه هل يشترط الايمان أم لا؟ يلزم ان نأتي بالرقبة المؤمنة حتى نتيقن باتيان التكليف ( لا ) انه من قبيل ( الأقل والأكثر ) الارتباطيين حتى يكون الواجب فيه مركبا من متيقن ومشكوك .

( وكان هذا ) أي : كون المطلق والمقيد من قبيل المتباينين لا الأقل والأكثر ( هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبرائة عند الشك في الشرطية والجزئية ) علما بأن المراد من الشرط هو الشرط الخارج ، كالوضوء الخارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يشمل كلام ذلك البعض مثل شرط الايمان لأنّ هذا يسمّى قيدا .

وعليه : فما ذكره ذلك البعض ( كالمحقق القمّي قدس سره في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلامة قدس سره في النهاية - على وجوب حمل المطلق على المقيّد

ص: 376

بقاعدة الاشتغال ، وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبرائة بقوله :

« وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد بين كونه نفس المقيد أو المطلق ،

-------------------

بقاعدة الاشتغال ، و ) القول بتماميته ، فهو لأجل جعله من المتباينين لا من الأقل والأكثر .

والحاصل : قال العلامة في باب المطلق والمقيّد عند الشك في انه هل يكفي الاتيان بالمطلق ، أو يلزم الاتيان بالمقيّد؟ انه يلزم الاتيان بالمقيد لوجوب الاحتياط بحمل المطلق على المقيّد ، مستدلاً لذلك : بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البرائة اليقينية ، فانه إذا أتى بالمطلق لم يعلم بالبرائة اليقينية ، بخلاف ما إذا أتى بالمقيّد ، فوافقه المحقق القمي رحمه اللّه في قوله ذلك في باب المطلق والمقيد ، مع انه يقول بالبرائة في باب الجزء والشرط .

ثم ( ردّ ما اعترض عليه ) أي : على استدلال العلامة من الاشكال : ( بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبرائة ) فان بعض المعترضين على العلامة قال مستشكلاً : بأن اليقين بالاشتغال إنما هو بالنسبة إلى المطلق وهو الرقبة في المثال ، لا الايمان حتى يجب العلم بالبرائة عنه ، فرده المحقق القمي ( بقوله : « وفيه ) مايلي :

( ان المكلّف به حينئذ ) أي : حين دار الأمر بين المطلق والمقيد ( هو المردد بين كونه نفس المقيد أو المطلق ) بمعنى : انه على تقدير كون الواجب هو المقيد ، فالواجب : نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، لا الرقبة والايمان حتى يكون حالهما حال الصلاة والوضوء ، بأن يكون هناك متيقن ومشكوك ويكون الآتي بالرقبة

ص: 377

ونعلم أنّا مكلفون بأحدهما ، لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البرائة إلاّ بالمقيد - إلى أن قال : - وليس هنا قدرٌ مشتركٌ يقينيٌّ يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لانّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفك عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمل » انتهى .

-------------------

الكافرة آت بالمتيقن ، بل هو على تقدير لزوم الايمان آت بالمباين ( و ) ذلك لانّا ( نعلم انا مكلفون بأحدهما ) إمّا المطلق المباين ، أو المقيّد المباين ( لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البرائة إلاّ بالمقيد ) فاذا أعتقنا رقبة كافرة لم نعلم بأنّا أتينا بشيء من الواجب ( إلى أن قال : وليس هنا ) فيما فرضناه من المطلق والمقيد ( قدرٌ مشتركٌ ) بين المطلق والمقيد ( يقينيٌّ ) حتى ( يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ) فانه ليس الواجب هو الرقبة والايمان ، حتى يكون الرقبة كالصلاة والايمان كالوضوء ، فيكون الرقبة المشتركة بين المؤمنة والكافرة متيقنة ، والايمان مشكوكا ، فيلزم الاتيان بالقدر المتيقن ، وينفى المشكوك بالأصل .

وإنما لا يكون هنا قدرا مشتركا ( لانّ الجنس ) وهو الرقبة ( الموجود في ضمن المقيّد ) أي : في ضمن الرقبة المؤمنة ( لا ينفك عن الفصل ) الذي هو الايمان ( ولا تفارق لهما ) حتى يجعل ذلك قدرا مشتركا متيقنا .

( فليتأمل » (1) ) حتى لا يتوهم ان الرقبة المؤمنة حالها حال الصلاة مع الطهارة ، فينحل العلم الاجمالي فيها إلى يقين تفصيلي وشك بدوي .

( انتهى ) كلام المحقق القمي في تأييد العلامة الحلي قدس سرهما .

ص: 378


1- - القوانين المحكمة : ص175 .

هذا ، ولكن الانصاف : عدمُ خلوّ المذكور عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البرائة من العقل والنقل ، لأن المنفيَّ فيها الالزامُ بما لا يعلم ورفعُ كلفته .

ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتملٌ على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ، وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ،

-------------------

( هذا ) تمام الكلام من المحقق القمي في تقريب وجوب الاتيان بالأكثر في مثل الرقبة المؤمنة .

( ولكن الانصاف عدم خلوّ المذكور ) في كلامه رحمه اللّه ( عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البرائة من العقل والنقل ) فالذي يعتق رقبة كافرة يحق له ان يقول للمولى : انك لم تبيّن لزوم كون الرقبة مؤمنة ، ولذا لا أستحِق العقاب ، لأنه من العقاب بلا بيان ، ويشملني أيضا أدلة البرائة : من « رفع ما لا يعلمون » و « ما حجب اللّه » بالنسبة إلى ايمان الرقبة ( لأن المنفيّ فيها ) أي : في أدلة البرائة هو : ( الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته ) أي : كلفة المشكوك ومشقته .

هذا ( ولا ريب : إنّ التكليف بالمقيّد مشتملٌ على كلفة زائدة والزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ) لوضوح : ان القيد كلفة زائدة حتى ( وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ) شيئا ، لأنّ المطلق متحقق في ضمن الرقبة ، كما ان المقيد متحقق في ضمن الرقبة ، فليس هناك أقل وأكثر كمي وإنما أقل وأكثر كيفي ولكن حتى هذا المقدار من وجوب المقيد فيه ضيق وكلفة ولو من باب كل ما كثر قيوده قلّ وجوده ، فيرفعها أدلة البرائة .

ولهذا نرى ان العرف يحكم في المقيد بوجوب شيئين : الرقبة ، والايمان ،

ص: 379

ولا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء .

مع أنّ ما ذكره - من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة - كلام ظاهريّ ، فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط .

-------------------

بينما في المطلق يحكم بوجوب شيء واحد ، ومن المعلوم : ان العرف هو المعيار في فهم هذه الاُمور ، لا الدقة الفلسفية .

( و ) حينئذ : ( لا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء ) فكما ان الطهارة زيادة في الصلاة ومع ذلك قال المحقق القمي بنفيها عند الشك فيها ، فكذلك الايمان زيادة في الرقبة ، فاللازم ان يقول بنفيها عند الشك فيها أيضا .

وان شئت قلت : انه ان كان مناط الأقل والأكثر هو الكم ، فالمثالان كلاهما من المتباينين لا الأقل والأكثر ، وان كان هو الأعم من الكم والكيف فهما معا من الأقل والأكثر الكيفي ، فلا فرق بين الطهارة والايمان فيما ذكره .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( مع أنّ ما ذكره ) المحقق القمي ( : من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة ، كلام ظاهريّ ) لا حقيقة له ( فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا ) خارجا بمعنى : انهما ( في مقابل الفرد الفاقد للشرط ) من الصلاة بلا وضوء أو الرقبة بلا ايمان .

بل يمكن أن يقال : إنّ الطهارة منشؤها الوضوء الخارجي ، والايمان منشؤه

ص: 380

وأمّا وجوب ايجاد الوضوء مقدمةً لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة .

ونظيره قد يتفقُ في الرقبة المؤمنة حيث انّه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها في الخارج ،

-------------------

الشهادتين ، ومن المعلوم : ان الشهادتين أمر خارجي أيضا ، فمن حيث المنشأ كلاهما خارج ، ومن حيث الصفة كلاهما داخل ، لانّ الصلاة ملونة بلون الطهارة ، والرقبة ملونة بلون الايمان ، فأي فرق بينهما حتى نجري البرائة بالنسبة إلى الطهارة ، ولا نجريها بالنسبة إلى الايمان ؟ .

لا يقال : الوضوء خارجا واجب مقدمة ليتلوّن الصلاة بلون الطهارة ، وهذا يكشف عن ان الوضوء أمر زائد فاذا شك فيه كان الأصل عدمه ، بخلاف تلون الرقبة بالايمان ، فليس هناك شيء خارجي زائد حتى تجري البرائة من ذلك الشيء الخارجي عند الشك فيه .

لأنّه يقال : إذا لم يكن للشخص وضوء وجب يتوضأ ، وإذا كان له وضوء لم يجب ، كذلك الرقبة ، فانه إذا كان للرقبة إيمان لم يجب شيء آخر ، وإذا لم يكن له إيمان وجب هدايته حتى يؤمن .

وإلى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( وامّا وجوب ايجاد الوضوء مقدمةً لتحصيل ذلك المقيّد ) من الصلاة بطهارة ( في الخارج ، فهو أمر ) قد ( يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ) فلا يستلزم دائما ان يتوضأ الانسان مقدمة للصلاة ، لانه ربما كان متوضئا قبل الصلاة فيؤمر بالصلاة بدون ان يؤمر بالوضوء .

( ونظيره قد يتفق في الرقبة المؤمنة حيث انّه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها ) أي : لتحصيل الرقبة المؤمنة ( في الخارج ) مثل تحصيل الثمن وغير

ص: 381

بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الايمان مع التمكن ، إذا لم يوجد غيرُها وانحصر الواجب في العتق .

وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشيء لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ، بل قد يتفق وقد لا يتفق ، وأمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له .

فالفرقُ

-------------------

ذلك ( بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الايمان مع التمكن ) من هدايته .

ومن الواضح : إنّ السعي في هداية الرقبة الكافرة مقدمة لحصول الايمان بالنسبة إلى الرقبة الفاقدة ، وذلك فيما ( إذا لم يوجد غيرها ) أي : غير الرقبة الكافرة ( وانحصر الواجب في العتق ) فقط بأن لم يكن له بدل من صوم أو اطعام أو نحوهما .

( وبالجملة ) نقول : ( فالأمر بالمشروط بشيء ) كالصلاة بشرط الطهارة والرقبة بشرط الايمان ( لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ) كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، والسعي لهداية الرقبة بالنسبة إلى الكافرة ( بل قد يتفق وقد لا يتفق ) كما ذكرنا مثالهما .

هذا بالنسبة إلى الفاقد للشرط ( وأما الواجد للشرط ) بأن كان الانسان متطهرا قبلاً ، والرقبة كانت مؤمنة قبلاً ( فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له ) لوضوح : ان الصلاة مع الطهارة والصلاة من دون طهارة متساويان من حيث العمل الخارجي ، كما ان عتق الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة أيضا متساويان من حيث العمل الخارجي وإذا كانا متساويين ( فالفرق ) الذي ذكره المحقق القمّي

ص: 382

بين الشروط فاسدٌ جدا ؛ فالتحقيق : أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد ، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين .

وأمّا ما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه ، فلا ينطبق على ما ذكره في باب البرائة والاحتياط ، من إجراء البرائة حتى في المتباينين

-------------------

( بين الشروط ) كشرط الطهارة وشرط الايمان ( فاسد جدا ) إذ لا معنى محصل له.

إذن : ( فالتحقيق : إنّ حكم الشرط بجميع أقسامه ) الثلاثة على ما نقلناه أول المبحث عن الأوثق ( واحد ، سواء الحقناه ) أي : الشرط ( بالجزء أم بالمتباينين ) .

وعليه : فاذا كان مناط القلة والكثرة : الكم الخارجي فهما مفقودان في كِلا المثالين : الصلاة والرقبة ، فيلحقان بالمتباينين في وجوب الاحتياط والاتيان بالوضوء وبالرقبة المؤمنة ، فلا تجري البرائة فيهما ، وان كان مناط القلة والكثرة بحسب الكيف فهما موجودان في كليهما ، فيلزم جريان البرائة فيهما بلا فرق بين المثالين وان فرّق بينهما المحقق القمي .

ثم إنّ المصنّف شرع بعد ذلك في بيان اشكال آخر على المحقق القمي وهو : ان مختاره رحمه اللّه في الشك في المكلّف به - على ما تقدّم نقله عنه - هو : البرائة حتى في المتباينين ، وغاية ما يمكن هنا في القسم الثاني من الشروط كالايمان في الرقبة هو الحاقه من حيث الحكم بالمتباينين ، فلا يجتمع حينئذ قول المحقق القمي بالاشتغال في هذا القسم من الشرط مع قوله بالبرائة في المتباينين ، فان بينهما تدافعا واضحا .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وامّا ما ذكره المحقق القمي قدس سره ) : من ان مقتضى قاعدة الاشتغال : اتيان المقيد في مثل الرقبة المؤمنة . ( فلا ينطبق على ما ذكره في باب البرائة والاحتياط : من اجراء البرائة حتى في المتباينين ) كما ذكرنا

ص: 383

فضلاً عن غيره ، فراجع .

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه ، وبين إحدى الخصال الثلاث .

-------------------

تفصيل كلامه هناك ( فضلاً عن غيره ) أي : المطلق والمقيد ( فراجع ) كلامه وكلامنا هناك حتى تعرف التدافع بين كلاميه .

ثم لا يخفى : انه قد تكلمنا إلى هنا في امور ثلاثة :

الأوّل : الشك في الجزئية .

الثاني : الشك في الشرطية التي لها منشأ انتزاع في الخارج كالصلاة والوضوء .

الثالث : الشك في الشرطية التي ليس لها منشأ انتزاع في الخارج بأن كان متحدا مع المأمور به ، كالرقبة والايمان مما يكون متعلق الوجوب فيها كلي الرقبة ويكون تعلقه في المقام الامتثال بالفرد المؤمن تعيينا ، أو بأيّ فرد شاء تخييرا من باب العقل ، فيكون الشك في التعيين والتخيير فيها عقليا .

هذا ويبقى الكلام في أمر رابع وهو : ما كان الشك فيه أشار المصنِّف بقوله :

( وممّا ذكرنا ) في الأمر الثالث وهو الشك في انه هل يشترط عتق الرقبة بالايمان أم لا ؟ بمعنى التخيير والتعيين العقلي ( يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ) الشرعي ( كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه ، وبين إحدى الخصال الثلاث ) من العتق والاطعام والصيام ، فإنّ متعلق الوجوب في باب عتق الرقبة كلي ، وتعلقه في مقام الامتثال بالفرد المؤمن من الرقبة - مثلاً - عقلي ، بخلاف المقام ، فان المتعلق فيه نفس الفرد دون الكلي ، لانا نعلم بأن الكلي واجب وإنما نشك في ان الشارع أوجب

ص: 384

فانّ في الحاق ذلك بالأقل والأكثر ، فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد أو بالمتباينين وجهين ، بل قولين :

-------------------

خصوص هذا الفرد من الكلي أو أي فرد من أفراده الثلاثة ؟ .

أما الأوّل : وهو قول الشارع : اعتق رقبة ، فحيث نشك في وجوب عتق المؤمن من الرقبة أو ان كلي الرقبة باق على حقيقته ومع بقائه يجوز عتق أيّ فرد من افراده، فاذا شككنا فان الأصل فيه : انّ كلي الرقبة باق على حاله ، إلاّ إذا دلّ دليل على خصوص المؤمن منها .

وأمّا الثاني : وهو قول الشارع بوجوب الكفارة من الخصال الثلاث فانا نعلم بأنّ الشارع عيّن افراد الكلي : من الصيام والاطعام والعتق ، لكنا نشك في انه هل يلزم عين أحدها وهي الرقبة للقادر ، أو يجوز حتى للقادر ما شاء من الثلاثة ؟ فاذا شككنا فالأصل فيه ان كلاً من الخصال الثلاثة جائز أيضا ، إلاّ إذا دل الدليل على خصوص أحدها .

وعليه : ( فإنّ في الحاق ذلك ) الذي دار الأمر فيه بين التخيير والتعيين الشرعي مثل خصال الكفارة ( بالأقل والأكثر ) فنقول : ان في التعيين كلفة زائدة على الكلفة في التخيير ، فالأصل التخيير لانه القدر المتيقن ، إلاّ إذا دل على التعيين دليل ( فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد ) في زيادة الكلفة في المقيّد وقلتها في المطلق فيجري فيه البرائة من الزائد .

( أو ) الحاق ذلك ( بالمتباينين ) فنقول : بعدم وجود قدر مشترك معلوم حتى يجب على كل حال ، وزائد مشكوك حتى ينفى بالأصل ، فيلزم فيه الاحتياط والاتيان بخصوص العتق للقادر عليه ، فان فيه ( وجهين بل قولين ) كما قال :

ص: 385

من عدم جريان أدلة البرائة فيالمعيّن ، لانّه معارضٌ بجريانها في الواحد المخيّر ، وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يُعْلَم تفصيلاً وجوبه فَيُشَكُّ في جزء زائد خارجي أو ذهني .

-------------------

( من عدم جريان أدلة البرائة في المعيّن ) وهو العتق في المثال ( لانه معارضٌ بجريانها في الواحد المخيّر ) فان أصالة عدم ايجاب الشارع خصوص العتق معارض بأصالة عدم إيجابه إحدى الخصال الثلاث ، لأنّ الايجاب شيء حادث لم نعلم هل تعلق بالفرد أو بالخصال؟ فأصالة عدم تعلقه بهذا يعارض أصالة عدم تعلقه بالآخر .

هذا ( وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يُعْلَم تفصيلاً وجوبه ) أي : وجوب ذلك القدر المشترك ( فَيُشَكُّ في جزء زائد خارجي أو ذهني ) على ذلك القدر المشترك ، فيجري أصل العدم بالنسبة إلى ذلك الجزء الخارجي أو الذهني الزائد ، فانه كما قال ليس بينهما قدر مشترك حتى يجري في الزائد البرائة .

وإنّما لم يكن بينهما قدر مشترك لأن اختيار العتق يباين اختيار الاطعام أو الصيام تباينا في الخارج وفي الذهن معا ، وليس مثل الصلاة مع السورة والصلاة بدون السورة ، لوضوح : إنّ الأجزاء التسعة المتيقنة قدر مشترك بين الصلاتين اشتراكا خارجيا ، وهذا القدر المشترك معلوم الوجوب ، والسورة أمر زائد خارجي مشكوك فيه فيجري أصل البرائة بالنسبة إلى السورة ويؤتى بالأجزاء التسعة المتيقنة .

كما ان العتق في مقابل الصيام والاطعام من الخصال ليس من قبيل الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة ، حتى يقال : الرقبة جنس معلوم الوجوب مشترك اشتراكا ذهنيا بين الرقبتين فيجب لانه القدر المتيقن ، والايمان أمر زائد ذهني مشكوك

ص: 386

ومن أنّ الالزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الالزام بأحدهما في الجملة ، وهو ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلّف بحكم « ما حجب اللّه علمه عن العِباد » وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه ، بحكم : « الناسُ في سعة

-------------------

فيه ، فيجري البرائة منه ، فانّ ما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو ملحق بالمتباينين لانتفاء القدر المشترك بينهما ، فلا يكون الشيء المشكوك زائدا خارجيا أو ذهنيا حتى يجري فيه البرائة .

هذا وجه إلحاق ما دار أمره بين التخيير والتعيين شرعا بالمتباينين ، وأمّا وجه إلحاقه بالأقل والأكثر فهو ما أشار اليه بقوله : ( ومن أنّ الالزام بخصوص أحدهما ) أي : العتق في قبال الصيام والاطعام ( كلفة زائدة على الالزام بأحدهما في الجملة ) أي : بواحد من الثلاثة : العتق والصيام والاطعام ، ( وهو ) أي : الالزام بخصوص أحدهما ( ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة ) لان المتيقن هو الجامع بين الخصال الثلاث ( فهي ) أي : هذه الكلفة الزائدة المشكوكة ( موضوعة عن المكلّف بحكم: « ما حجب اللّه علمه عن العِباد » (1) ) وبحكم : « رفع ... ما لا يعلمون » (2) وما أشبه ذلك .

( وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه ، بحكم : « الناس في سعة

ص: 387


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

ما لم يعلموا » .

وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته ، والمسألة في غاية الاشكال ، لعدم الجزم باستقلال العقل بالبرائة عن التعيين بعد العلم الاجمالي وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ،

-------------------

ما لم يعلموا » (1) ) فتنفى الكلفة الزائدة بالأصل ويبقى الجامع .

(وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه) بمعنى: وجوب أحدهما على سبيل التخيير ( فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ) لانّ الموضوع عن العبد هو ما لا يعلم ، وهذا ما يعلمه ( ولا هو في سعة من جهته ) أيضا لفرض علمه به .

وعلى ما ذكرناه من الوجهين المتكافئين حيث قلنا : من عدم جريان أدلة البرائة، وقلنا : ومن ان الالزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة ( والمسألة في غاية الاشكال ، لعدم الجزم باستقلال العقل بالبرائة عن التعيين بعد العلم الاجمالي ) بوجوب الأمر المردّد بين المعيّن والمخيّر .

هذا من جهة ( وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ) من جهة اُخرى ، والشطر : هو الجزء ، والشرط : هو ما يكون المكلّف به ، مشروطا به كالطهارة في الصلاة ، وكالايمان في الرقبة ، فان العتق ليس كالسورة خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على نحو الجزئية ، كما انه ليس كالطهارة خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على نحو

ص: 388


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

بل هو على تقديره عينُ المكلّف به ، والاخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين ؛ لأنه في معنى نفي الواحد المعيّن ، فيعارضُ بنفي الواحد المخيّر.

فلعل الحكم بوجوب الاحتياط والحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوة ، بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن اشكال ، لكن الأقوى فيه الالحاقُ .

-------------------

الشرطية ( بل هو ) أي : العتق ( على تقديره ) أي : على تقدير التعيين ( عين المكلّف به ) ولذلك فالمسألة مشكلة جدا .

هذا كله حكم العقل في التعيين والتخيير عند المصنِّف ( و ) أما حكم الشرع في التعيين والتخيير ، فان ( الأخبار ) الدالة على البرائة ( غير منصرفة إلى نفي التعيين ) أي : لا تشمل ذلك ( لأنّه ) أي : نفي التعيين ( في معنى : نفي الواحد المعيّن ) فاذا انتفى الواحد المعيّن كان المكلّف مخيّرا ( فيعارض بنفي الواحد المخيّر ) وإذا تعارض الأمران تساقطا .

وحينئذ : ( فلعل الحكم بوجوب الاحتياط والحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوة ) فيلزم الاتيان بالواحد المعيّن لما تقدّم : من ان اختيار العتق يباين اختيار الاطعام أو الصيام ( بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن اشكال ) فاللازم : الاحتياط .

( لكن الأقوى فيه : الالحاق ) بالجزء لما عرفت : من وجود قدر مشترك متيقن يجب على كل حال ، وزائد مشكوك فيه ينفى بالأصل ، وذلك من غير فرق بين أن يكون الزائد خارجيا كالسورة ، أو ذهنيا كالايمان .

والحاصل : إنّ الكلفة الزائدة في كل من الجزء والشرط منفية بالأصل

ص: 389

فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء ، فراجع .

ثمّ إنّ مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه .

-------------------

عقلاً ونقلاً ( فالمسائل الأربع في الشرط ) : من فقد النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، أو كون الشك من جهة الاُمور الخارجية ( حكمها حكم مسائل الجزء ) من غير تفاوت اطلاقا ( فراجع ) مسائل الجزء حتى تعرف إنّ مسائل الشرط مثلها طابق النعل بالنعل .

هذا تمام الكلام في الشك في الشرط .

أمّا الشك في المانع كالحدث ، أو القاطع كالبكاء بدون صوت ، فهو كما إذا شككنا بأنّه هل يشترطان في صلاة الميت - مثلاً - أو ان الأصل ينفيهما بان لا يكون الحدث مانعا أو البكاء قاطعا لصلاة الميت؟ احتمالان وان كان مقتضى القاعدة : أصالة عدم المانعية ، وعدم القاطعية ، والفرق بين المانع والقاطع - كما قيل - هو : ان عدم الشيء ان كان بنفسه شرطا في المركب كالحدث بالنسبة إلى الصلاة فهو مانع ، وان كان اعتباره من جهة ان وجوده مخل بالهيئة الاتصالية التي هي من شرائط الصلاة فهو قاطع .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( ثم ان مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه ) من حيث جريان البرائة فيهما ، فاذا قلنا : الحدث مانع عن الصلاة كان معناه : ان عدم الحدث شرط للصلاة ، فيكون الشك في مانعية شيء - كالشك في شرطية شيء - مرجعه الى البرائة ، وهذا الكلام من المصنِّف دفع لما ربما يتوهم في المقام من الفرق بين الشك في الشرط ووجوب احرازه بالاحتياط ، وبين الشك في المانع ودفعه بأصل العدم ، فيمكن للقائل بالاحتياط في الشرط أن يقول بعدم وجوب الاحتياط في المانع ، لتمسكه فيه بأصالة البرائة .

ص: 390

وأمّا الشك في القاطعية ، بان يعلم أنّ عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلاّ من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابلية صيرورتها أجزاءا فعلية ؛ وسيتضح بعد ذلك إن شاء اللّه .

ثم إنّ الشك في الجزئية أو الشرطية

-------------------

( وأمّا الشك في القاطعية ، بأن يعلم ان عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلاّ من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع ) في مثل الصلاة ، وقد قال بعض المحشين : ان القاطع فرد من المانع في الحقيقة ، إلاّ ان المانع يقال لما يمنع أصل الفعل ، والقاطع لما يمنع الهيئة الاتصالية التي قررها الشارع .

وعلى أي حال : فلازم المانعية : انه لابد من احراز عدمه قبل الدخول في العمل، بخلاف القاطعية فانها لا تتحقق إلاّ بعد الدخول في العمل .

وكيف كان : فاذا شككنا في القاطع ( فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابلية صيرورتها أجزاءا فعلية ) فان الأجزاء السابقة لولا هذا المحتمل القاطعية ، كانت صالحة لان تكون أجزاءا فعلية للصلاة بلحوق سائر الأجزاء بها ، فاذا شككنا في قاطعية شيء نستصحب تلك الصلاحية للأجزاء السابقة .

إذن : فالاستصحاب يجري عند الشك في القاطع ، لكن الاستصحاب لا يجري عند الشك في المانع ( وسيتضح بعد ذلك ان شاء اللّه ) تعالى ، فانه حيث لا مجال للشرح في تحقيق هذه الاُمور هنا بأكثر من هذا ندعها لموضعها .

( ثم ان الشك في الجزئية أو الشرطية ) على قسمين : الاول : ما ينشأ عن فقدان النص أو اجماله أو تعارضه أو اشتباه الموضوع على ما سبق .

ص: 391

قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسيّ ، فيصير أصالة البرائة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطية والجزئية ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبرائة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته أو عدم وجوبه .

-------------------

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسيّ ) كما إذا شك في كون عدم شيء شرطا للصلاة أم لا من جهة شكه في حرمته ، فاذا نفينا الحرمة بالأصل انتفت الشرطية لانّ الشك في الشرطية مسبب عن ذلك الشك في الحكم التكليفي .

مثلاً : الغصب ولبس الحرير والتزيّن بالذهب للرجال وغيرها من المحرمات النفسية عدمها شرط للصلاة ، وذلك من باب امتناع اجتماع الأمر والنهي ، لكن إذا شك - مثلاً - في لبس الحرير عند الخوف الشديد - في غير الحرب - مما يوجب تقوية القلب ، فالشك في الحرمة يكون منشئا للشك في ان عدمه شرط في الصلاة أم لا؟ ( فيصير أصالة البرائة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطية والجزئية ) لتقدم الأصل في الشك السببي على الأصل في الشك المسببي كما علم في موضعه .

وعليه : ( فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبرائة ) إذ لا وجه للبحث في أنّ الأصل في هذا الشرط هو البرائة أو الاحتياط بعد جريان الأمر في السبب ، بل اللازم التكلم في نفس السبب المشكوك والبحث في انه حرام أم لا ؟ .

وحينئذ : ( فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم ) هنا : ( من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته ) أي : وجوب ترك الحرير في حال شدة الخوف - مثلاً - كما يقول به الاخباريون ( أو عدم وجوبه ) كما هو مذهب الاصوليين ، وحيث لم

ص: 392

وينبغي التنبيه على امور متعلقة بالجزء والشرط

الأوّل :

إذا ثبت جزئيّة شيء وشك في ركنيّته ، فهل الأصلُ كونُه ركنا أو عدم كونه كذلك ، أو مبنيٌّ على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ، أو التبعيض بين أحكام الركن فيحكم ببعضها وينفى بعضها الآخر ؟ وجوهٌ ،

-------------------

يكن تركه واجبا لا يكون عدمه شرطا للصلاة فتصح الصلاة فيه .

هذا ( وينبغي التنبيه على امور متعلقة بالجزء والشرط ) سواء كان وجوده شرطا أم وجوده مانعا على ما تقدّم :

( الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شيء وشك في ركنيّته ، فهل الأصل كونه ركنا؟ ) والركن في اصطلاحهم ما يوجب زيادته أو نقصه بطلان العمل ، عمدا كان أو سهوا ، جهلاً تقصيريا كان أو قصوريا ، وغير ذلك ؟ .

( أو عدم كونه كذلك ) أي : ركنا؟ .

( أو مبنيّ على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ) فما نقوله هناك نقول به هنا ؟ ( أو التبعيض بين أحكام الركن فيحكم ببعضها وينفى بعضها الآخر؟ وجوهٌ ) :

الأوّل : هو ما اختاره المصنِّف : من كون مقتضى الأصل الركنية على ما سيأتي .

الثاني : هو ما اختاره بعض : من كون الأصل عدم الركنية .

الثالث : هو ما نقل عن صاحب المطالع : من ابتناء الأصل في المقام على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ، لأنّ النزاع في المقام يرجع في الحقيقة

ص: 393

لا نعرف الحق منها إلاّ بعد معرفة معنى الركن ، فنقول :

إنّ الركن في اللغة والعرف معروفٌ ، وليس له في الأخبار ذكرٌ حتى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ،

-------------------

إلى ان ذلك الجزء جزء في حال الغفلة والنسيان أم لا ، فمن بنى في تلك المسألة على البرائة فمقتضى الأصل عدم الركنية ، ومن بنى في تلك المسألة على الاحتياط فمقتضى الأصل هو الركنية .

الرابع : هو ما حكي عن المفاتيح : من التفصيل بين ما كان لدليل العبادة التي شك في ركنية جزئها اطلاق مع كون دليل الجزء مجملاً ، فالأصل عدم الركنية ، لأنّ المرجع عند الشك اطلاق المطلق ، والمفروض ان دليل الجزء مجمل ، وبين ما لم يكن له اطلاق فالأصل هو الركنية .

الخامس : هو ما فصّله بعض : من التبعيض بين أحكام الركن بالنسبة إلى الزيادة والنقيصة .

وهذه الوجوه ( لا نعرف الحق منها إلاّ بعد معرفة معنى الركن ) إذ التحقيق في الحكم لا يمكن إلاّ بعد التحقيق في موضوعه ( فنقول : ان الركن في اللغة والعرف معروفٌ ) فإنّ الركن فيهما يطلق على ما به قوام الشيء كالحائط بالنسبة إلى السقف ، واللحم بالنسبة إلى ماء اللحم ، وما أشبه ذلك ( وليس له في الأخبار ) المرتبطة بما نحن فيه ( ذكرٌ حتى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ) وما ورد في بعض الأخبار من ذكر الركن مثل ما ورد في زيارة وارث : « أشهد أنك من دعائم الدين وأركان المؤمنين » (1) فليس من محل البحث .

ص: 394


1- - بحار الانوار : ج101 ص200 ب18 ح32 ، الدعاء والزيارة : ص697 للشارح .

بل هو اصطلاحٌ خاصٌ للفقهاء ، وقد اختلفوا في تعريفه بين من قال : بأنّه ما تبطل العبادةُ بنقصه عمدا وسهوا ، وبين من عطف على النقص زيادتَه ، والأولُ أوفق بالمعنى اللغوي والعرفي .

وحينئذٍ : فكلُّ جزء ثبت في الشرع بطلانُ العبادة بالاخلال في طرف النقيصة

-------------------

( بل هو اصطلاح ) جديد ( خاص للفقهاء ) والاصوليين ( وقد اختلفوا في تعريفه بين من قال : بأنّه ما تبطل العبادة بنقصه عمدا وسهوا ) فالمدار النقص ، أما الزيادة فلم يتعرّض له هذا القائل ( وبين من عطف على النقص زيادته ) فعرّف الركن : بانه ما تبطل العبادة بزيادته أو نقيصته عمدا وسهوا .

قال في الأوثق : قد حكي هنا تعريفان آخران : أحدهما : ان الركن ما تقوّمت به المهية وهو المطابق لمعناه العرفي ، وعليه : فغير الركن بقرينة المقابلة : ما لم تنتف المهية بانتفائه .

الثاني : ان الركن هو ما كان مدار صدق اسم المركب على وجوده (1) .

قال المصنِّف : ( والأوّل ) وهو ما تبطل العبادة بنقصه عمدا أو سهوا ( أوفق بالمعنى اللغوي والعرفي ) لوضوح : انه لا يبطل السقف - مثلاً - بزيادة أركانه ، وإنما البطلان يكون بالنقيصة فقط .

( وحينئذ ) أي : حين كان للركن هذان التعريفان ( فكلُّ جزء ثبت في الشرع ) بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع أو عقل مع ثبوت الملازمة بين العقل والشرع ( بطلان العبادة بالاخلال ) به عمدا أو سهوا ( في طرف النقيصة ) على القول

ص: 395


1- - أوثق الوسائل : ص376 و ص377 حكم الاختلال بالجزء الثابت شرعا وما يقتضيه الاصل .

أو فيه وفي طرف الزيادة ، فهو ركنٌ .

فالمهمّ بيانُ حكم الاخلال بالجزء في طرف النقيصة أو الزيادة ، وأنّه إذا ثبت جزئيته ، فهل الأصلُ يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما يبطل عمدا وإلاّ لم يكن جزءا ؟ .

-------------------

الاوّل ( أو فيه وفي طرف الزيادة ) على القول الثاني ( فهو ركنٌ ) .

ولازم ذلك : ان كل جزء ثبت بالدليل عدم بطلان العبادة بالاخلال به نقصا أو زيادة ، فهو ليس بركن .

أمّا كل جزء لم يثبت فيه أحد الأمرين بالدليل يعني : لم يثبت ان زيادته ونقيصته مخل أو ليس بمخل فهو مشكوك الركنية ، فلابد في ذلك المشكوك من الرجوع إلى القواعد الأولية لمعرفته ، فيكون البحث في الركن على ذلك ليس مهما ، وإنما المهم أن نذكر موازين الشرع في أن الاختلال بالجزء بعد ثبوت جزئيته هل يضر أو لا يضر؟ كما قال :

( فالمهمّ : بيان حكم الاخلال بالجزء في طرف النقيصة ، أو الزيادة ) ومن الواضح : انه إذا كان النقص أو الزيادة موجبا للبطلان ، فالجمع بينهما يوجبه بطريق أولى .

وكيف كان : فالمهم هنا بيان حكم الاخلال بالجزء ( وأنّه إذا ثبت جزئيته فهل الأصل يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما يبطل عمدا ؟ ) لوضوح إبطال النقيصة العمدية ( وإلاّ لم يكن جزءا ؟ ) فان كل شيء جعل جزءا لشيء عبادة أو معاملة ، أو حتى في الاُمور العرفية إذا لم يؤت به لم يتحقق ذلك الشيء المركب .

ص: 396

فهنا مسائل ثلاث : بطلان العبادة بتركه سهوا ، وبطلانها بزيادته عمدا، وبطلانها بزيادته سهوا .

-------------------

إذن : ( فهنا مسائل ثلاث ) كما يلي :

( بطلان العبادة بتركه سهوا ) امّا تركه عمدا فقد عرفت : انه مبطل قطعا .

( وبطلانها بزيادته عمدا ) لا سهوا .

( وبطلانها بزيادته سهوا ) والمراد بالسهو كما تقدّم : أعم من الجهل والغفلة والنسيان وما أشبه ذلك .

انتهى الجزء التاسع

ويليه الجزء العاشر في المسألة الاولى

في بطلان العبادة بترك الجزء سهوا

وله الحمد والشكر

ص: 397

ص: 398

المحتويات

التنبيه الخامس : ... 5

التنبيه السادس : ... 16

التنبيه السابع : ... 26

التنبيه الثامن : ... 38

التنبيه التاسع : ... 43

المقام الثاني في الشبهة غير المحصورة... 45

أدلة عدم وجوب الاجتناب

الدليل الأوّل : الاجماع ... 45

الدليل الثاني : لزوم المشقّة في الاجتناب ... 46

الدليل الثالث : الأخبار الدالّة على الحليّة ... 60

الدليل الرابع : الأخبار الأخرى 65

الدليل الخامس : أصالة البرائة ... 68

الدليل السادس : عدم ابتلاء المكلّف ... 73

بحوث في الشبهة غير المحصورة

الأوّل : ارتكاب جميع المشتبهات ... 75

الثاني : تعيين الضابط في المحصورة ... 80

الثالث : شبهة الكثير في الكثير ... 100

الرابع : مسائل الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة ... 103

المطلب الثاني في اشتباه الواجب بغير الحرام... 107

القسم الأوّل : دوران الأمر بين المتباينين ... 109

ص: 399

المسألة الاُولى : الاشتباه من جهة عدم النص ... 109

المسألة الثانية : الاشتباه من جهة اجمال النص ... 170

المسألة الثالثة : الاشتباه من جهة تكافؤ النصّين ... 182

المسألة الرابعة : الاشتباه من جهة اشتباه الموضوع ... 184

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 190

التنبيه الثاني : ... 198

التنبيه الثالث : ... 202

التنبيه الرابع : ... 205

التنبيه الخامس : ... 207

التنبيه السادس : ... 214

التنبيه السابع : ... 218

دوران الواجب بين الأقل والأكثر ... 228

مسائل القسم الأوّل

المسألة الاُولى : ... 232

الدليل الأوّل لجريان البرائة في الجزء المشكوك ... 234

الدليل الثاني لجريان البرائة في الجزء المشكوك ... 272

المسألة الثانية : ... 315

المسألة الثالثة : ... 352

المسألة الرابعة : ... 366

القسم الثاني : الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به ... 371

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 393

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 10

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

أمّا الاُولى

فالأقوى فيها أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلاّ أن يقوم دليل عامّ أو خاص على الصحة ، لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ، فاذا انتفى انتفى المركب ، فلم يكن المأتيُّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده .

أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة ،

-------------------

( أمّا الاُولى : فالأقوى فيها : اصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلاّ أن يقوم دليل عام ) على الصحة ، مثل ما ورد : « من وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة » (1) ، حيث ان هذا الدليل الثانوي يدل على ان نقص الجزء السهوي لا يكون ضارا ( أو ) يقوم دليل ( خاص على الصحة ) كما إذا ورد - مثلاً - ان من ترك السورة سهوا فلا شيء عليه .

وإنّما قلنا بالبطلان إلاّ ان يقوم دليل ( لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ) لان اطلاق دليل الجزئية يقتضي الجزئية في كلا الحالين ( فاذا انتفى ) الجزء ( انتفى المركب ، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده ) فان الفساد في الاُمور الخارجية كالتفاح وما أشبه معناه : عدم سلامته لنقص كالتعفن وما أشبه ، امّا في الاُمور الاعتبارية فمعنى الفساد : عدم تحقق المركب في الخارج أصلاً ، إذ ما أتى به ناقصا لم يكن من ذلك الكلي المأمور به .

( أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة ) فلأن الخطاب لا يختلف بملاحظة العلم

ص: 5


1- - اشارة الى مرسلة سفيان ، انظر نزهة الناظر ص40 ، تهذيب الاحكام : ح2 ص155 ب23 ح66 ، الوافي : ج2 ص149 ، وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه اليه قبل الغفلة ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته .

-------------------

والجهل إذا كان الخطاب واحدا ، فلا يكون خطاب العالم الملتفت هو : وجوب الصلاة مع السورة ، وخطاب الجاهل الغافل هو : وجوب الصلاة بلا سورة ، لان ذلك مستلزم للدور كما مرّ في موضعه .

نعم ، لا بأس بذلك إذا كان بخطابين ، كما ورد بالنسبة إلى الجاهل بالجهر والقصر ، وكما ورد من الدليل العام أو الخاص بالنسبة إلى الغافل عن الحمد والسورة في الصلاة ، ولكن الكلام حسب الفرض إنّما هو في مقام لا يوجد فيه خطابان ، وإلاّ لم يكن مجال للبحث عن البطلان وعدمه بسبب النقيصة غفلة أو جهلاً .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال ما يلي : ( فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجه اليه قبل الغفلة ) فان تكليفه قبل الغفلة هو نفس تكليفه بعد الغفلة ( ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته ) إذ تنجّز كل تكليف موقوف على احراز موضوعه ، فلو وجبت الصلاة بلا سورة على الغافل توقف تنجز هذا التكليف على توجه المكلّف إلى الموضوع وهو : الغفلة عن السورة ، ومن الواضح : ان الغافل عن الشيء غافل عن غفلته أيضا ولو نبّهه أحد على غفلته زال عنه الغفلة وصار ملتفتا .

نعم ، يستثنى من ذلك اُمور ثلاثة :

الأوّل : ما إذا كان في المسألة خطابان - على ما عرفت - .

ص: 6

فالصلاةُ المأتي بها من غير سورة غيرُ مأمور بها بأمر أصلاً ، غايةُ الأمر عدمُ توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه ، لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليفُ ساقطٌ عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فاذا التفت اليها والوقتُ باق وجبَ عليه الاتيانُ به بمقتضى الأمر الأوّل .

-------------------

الثاني : ما إذا خوطب بعنوان آخر مثل ان يقول له : أيها المرتدي للثوب الأبيض .

الثالث : ما إذا خوطب بعبارة الغفلة بدون ذكر متعلق الغفلة ، كما إذا قال : أيها الغافل عليك كذا ، دون ان يلتفت إلى غفلته عن السورة حتى يصير ملتفتا .

لكن من دون هذه الاُمور الثلاثة لا طريق إلى تنجّز التكليف على الغافل ، فلا يبقى إلاّ ان يكون مشتركا في التكليف مع الملتفت .

وعليه : ( فالصلاة المأتي بها من غير سورة ، غير مأمور بها بأمر أصلاً ) لا بالأمر الأوّل لأنّ المفروض : ان متعلقه عام يشمل كل مكلّف من العالم والجاهل ، والملتفت والغافل ، ولا بأمر جديد لعدم امكان حدوث أمر آخر حال الغفلة بعنوان الغفلة مع ذكر متعلق الغفلة كما عرفت .

( غاية الأمر : عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه ) أي : إلى الغافل ( لاستحالة تكليف الغافل ) لانه غير قادر ، وغير القادر لا يمكن توجيه التكليف اليه.

إذن : ( فالتكليف ساقط عنه ) بالمرة ( ما دام الغفلة ) باقيةً ( نظير من غفل عن الصلاة رأسا ، أو نام عنها ) أو اُغمي عليه ، أو ما أشبه ذلك ممّا يسلب فيه عقله أو التفاته ( فاذا التفت اليها ) أي : إلى الصلاة بعد ذلك ( والوقت باق ) مع بقاء سائر الشرائط ( وجب عليه الاتيان به بمقتضى الأمر الأوّل ) كما انه إذا التفت اليها

ص: 7

فان قلت : عمومُ جزئية الجزء لحال النسيان يتمُّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » دون ما لو قام الاجماع مثلاً على جزئيّة شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر ،

-------------------

والوقت خارج وكان أمر جديد بالقضاء وجب عليه القضاء ، وكذلك بدون أمر جديد عند من يرى القضاء بالأمر الأوّل .

( فان قلت : ) شمول التكليف بجزئية الجزء لمثل الناسي والغافل إنّما يتم إذا ثبتت للجزئية عمومٌ ، بدليل لفظي مثل : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) أو كان له معقد اجماع حتى يكون بحكم الدليل اللفظي ، دون ما إذا ثبت بدليل لبّي لا إطلاق له ، مثل ما إذا قام إجماع على جزئية شيء في الجملة واحتملنا اختصاصه بحال الالتفات فقط .

وعليه : فما ثبت جزئيته بدليل لبي ، فانه لا يكون له عموم ليشمل الغافل والناسي حتى يرجع اليه حال النسيان والغفلة فيحكم ببطلان العبادة ، بل يرجع شكه في صحة العبادة وفسادها لأجل النسيان والغفلة عن الجزء إلى الشك في الجزئية وعدمها ، فيكون مرجعها البرائة أو الاحتياط على ما تقدّم من الخلاف في الأقل والأكثر الارتباطيين .

وعليه : فان ( عموم جزئية الجزء لحال النسيان ) ونحو النسيان إنّما ( يتمّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » دون ما لو قام الاجماع ) الذي ليس له معقد ممّا هو دليل لبّي ( مثلاً على جزئية شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر ) والالتفات ، فاذا احتمل ذلك لم يثبت جزئيته لحال

ص: 8


1- - مفتاح الفلاح ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعضُ الأجزاء على وجه يظهر من الدليل كونُ صلاته تامة .

مثل قوله عليه السلام : « تمت صلاته و لا يعيد » وحينئذ ، فمرجع الشك

-------------------

النسيان والغفلة ، وإذا شك في الجزئية ، فالأصل العدم .

( كما ) لو ( انكشف ذلك ) أي : الاختصاص بحال الالتفات ( بالدليل ، في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ) وذلك بأن كان التخصيص ( على وجه يظهر من الدليل : كون صلاته تامة ، مثل قوله عليه السلام: « تمت صلاته و لا يعيد » ) فقد روي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام : « فمن نسي القرائة فقد تمت صلاته ولا شيء عليه » (1) وغيره مما يثبت صحة هذه العبادة ، وينفي احتمال عموم الجزئية للغافل والناسي وعدم اختصاصها بحال الالتفات والذكر .

إذن : فالقول : بأنّ الجزء أعمّ من حال الالتفات وحال النسيان ، وإنّما جعل الشارع الناقص بدلاً عن الكامل تعبدا غير تام .

( وحينئذ ) أي : حين كان الدليل مجملاً مع احتمال اختصاصه بحال الالتفات ولا عموم يرجع اليه ، ينتفي جزئية الجزء في حال الغفلة والنسيان ، وعندئذ ( فمرجع الشك ) في الصحة والفساد بالنسبة إلى هذه الصلاة الفاقدة ، يكون

ص: 9


1- - وسائل الشيعة : ج6 ص87 ب27 ح7415 وقريب منه في الكافي فروع : ج3 ص347 ح1 وتهذيب الاحكام : ج2 ص145 ب23 ح27 والاستبصار: ج1 ص353 ب206 ح1 و بحار الانوار : ج88 ص142 ب5 ح1 .

إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البرائة والاحتياط على الخلاف .

وكذا لو كان الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر ، وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ، فانه يقتصر في تقييده على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني حال الذكر ، إذ لا تكليفَ حالَ الغفلة ، فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي

-------------------

( إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البرائة والاحتياط على الخلاف ) المتقدّم في الشك في الجزء : من ان مجراه هو البرائة كما يقول به المشهور ، أو الاحتياط كما يقول به جمع .

( وكذا ) عموم جزئية الجزء لا يتم ( لو كان ) الدليل ( الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر ) كما إذا قال سبحانه : « فاقرأوا ما تيسّر منه » (1) فانه يستفاد من هذه الآية التكليف بالقرائة ، ومن التكليف بها يستفاد الجزئية ( وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ) مثل قوله : « أقيموا الصلاة » (2) ( فانه يقتصر في تقييده ) أي : في تقييد مثل : « أقيموا الصلاة » ( على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني : حال الذكر ) والالتفات .

وإنّما يقتصر فيه على ذلك ، لانه كما قال : ( إذ لا تكليف حال الغفلة ) والنسيان ، فيحكم بأنّ الجزء إنّما هو جزء حال الالتفات ، وأمّا حال النسيان والغفلة فليس بجزء فيتمسك فيها باطلاق دليل العبادة ، فيحكم بصحتها .

وعلى هذا : ( فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي ) كما مثلنا له بانتزاع جزئية

ص: 10


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه بحال الذكر ، كلِبس الحرير ونحوه .

قلت :

-------------------

القرائة من التكليف بقوله سبحانه : « فاقرئوا ما تيسّر منه » يكون ( نظير الشرط المنتزع منه ) أي : من التكليف مثل : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق » (1) ( في اختصاصه بحال الذكر ) والالتفات .

امّا مثال الشرط المنتزع فهو : ( كلبس الحرير ) فان شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة منتزع من أدلة حرمة الحرير ، لقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم مشيرا إلى الذهب والحرير : « إن هذين محرّمان على ذكور اُمتي » (2) وقد تقدّم : انه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي ، فلبس الحرير في الصلاة غير جائز ، لكن التكليف لمّا لم يكن في حال النسيان ، فلا شرطية لعدم لبس الحرير في الصلاة .

( ونحوه ) أي : نحو لبس الحرير في الحكم سائر الأمثلة المنتزعة ، كانتزاع شرطية اباحة المكان من حرمة الغصب حيث قال عليه السلام : « ياكميل انظر فيم تصلّي وعلى ما تصلي » (3) ونحو ذلك .

إن قلت ذلك ( قلت ) : توجه الخطاب بالتام الأجزاء إلى الغافل غير ممكن لما عرفت : من انه في حال الغفلة لا يتمكن من الاتيان بذلك الجزء المغفول عنه ،

ص: 11


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - بحار الأنوار : ج83 ص248 ب5 ح9 وقريب منه في ج66 ص553 ب5 ح56 و ج77 ص167 ب7 ح2 .
3- - بحار الانوار : ج77 ص275 ب11 ح1 ، بشارة المصطفى : ص28 بالمعنى .

إن اُريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيته في الجملة في حق الناسي إيجابُ العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ، فهو غيرُ قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا .

-------------------

وتوجه الخطاب بالناقص عن ذلك الجزء المجهول وان كان ممكنا ، لكنه لا يمكن ان يكون بالعنوان بأن يقول : ياأيها الغافل عن السورة عليك بتسعة أجزاء الصلاة .

وأمّا إذا أمضى الشارع ما أتى به الناسي من العبادة الفاقدة للجزء ، وذلك بأن اكتفى منه بتسعة أجزاء وجعلها بدلاً عن العبادة الواقعية ذات الأجزاء العشرة فهو تام ، لأنّ الشارع قد حكم في حقه بعد زوال غفلته .

هذا ، ولكن عدم الجزئية بهذا المعنى عند الشك ، مما لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ، لوضوح : ان هذا المعنى من البدلية واسقاط جزئية العاشر حكم وضعي لا يجري فيه أدلة البرائة ، بل الأصل عدم البدلية وعدم الاسقاط باتفاق العلماء ، إذ معنى بطلان العبادة الفاقدة للجزء نسيانا هو : عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا للمأمور به .

وعليه : فانه ( ان اُريد بعدم جزئية ما ثبت جزئيته ) عندنا ، لكن لا بالدليل اللفظي ، بل بالاجماع على ما ذكرناه ، وذلك ( في الجملة ) أي : بان لم يكن للاجماع معقد حتى يلحق بالدليل اللفظي ، فيكون ما اريد به ( في حق الناسي : إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ) بان يوجّه المولى الخطاب إلى المكلّف باتيان تسعة أجزاء ( فهو غير قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا ) فانه كما يمتنع إيجاب الجزء العاشر يمتنع اسقاطه بالخطاب لما عرفت من انه يلزم ان يقول : ياأيها الغافل يجب عليك الجزء العاشر، أو لا يجب عليك الجزء العاشر ، ومثل هذا الخطاب ممتنع .

ص: 12

وان اُريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلاً عن العبادة الواقعية ، فهو حسن ، لأنّه حكم في حقّه بعد زوال غفلته ، لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى عند الشك ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ، لأنّ هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البرائة ، بل الأصلُ فيه العدمُ بالاتفاق .

-------------------

( وان اُريد به : امضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلاً عن العبادة الواقعية ) بأن أمضى الشارع الأجزاء التسعة بدلاً عن الأجزاء العشرة ( فهو حسن ) ويكون نظير جعل الشارع الجهر مكان الاخفات أو العكس ، أو جعل الاتمام موضع القصر بالنسبة إلى الجاهل .

وإنّما يكون بمعنى البدل حسنا ( لأنّه ) أي : جعل البدل ( حكم ) وضعي ( في حقّه بعد زوال غفلته ) فلا يحكم عليه بالأجزاء العشرة أو بالأجزاء التسعة حكما تكليفيا ، وإنّما يقول له بعد زوال غفلته : قد جعلت الأجزاء التسعة بدلاً لك عن الأجزاء العشرة .

( لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى ) المذكور : من بدلية التسعة عن العشرة ( عند الشك ) في جزئية الجزء العاشر ( ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ) .

أما على رأي القائلين بالاحتياط فواضح ، لأنهم يقولون بالاجزاء العشرة لا بالتسعة .

وأما على رأي القائلين بالبرائة ، فانهم إنّما يقولون بالبرائة بالنسبة إلى التكليف لا بالنسبة إلى اثبات الوضع للأجزاء التسعة كما قال : ( لأنّ هذا المعنى ) أي : البدلية ( حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البرائة ) فان البرائة إنّما تجري في التكليف لا في الوضع ( بل الأصل فيه ) أي : في الحكم الوضعي ( العدم بالاتفاق )

ص: 13

وهذا معنى ما اخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه .

وممّا ذكرناه ظهر أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء ، لأنّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي ، كالصلاة مع التيمم أو بالطهارة

-------------------

فلا يكون التسعة بدلاً عن العشرة على نحو الحكم الوضعي .

( وهذا معنى ما اخترناه : من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى : عدم كونها مأمورا بها ) لما عرفت : من امتناع الاختلاف في التكليف ، بأن يكون تكليف الملتفت عشرة ، وتكليف الناسي تسعة ( ولا مسقطا عنه ) أي : عن المأمور بها لعدم ثبوت الاسقاط بالبرائة على ما عرفت .

( وممّا ذكرناه ) : من ان هذه الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا غير مأمور بها بأمر أصلاً ، لا بأمر التكليف خطابا ، ولا بأمر الوضع بدلاً ( ظهر : أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء ) فلا يمكن ان يقال : ان هذه الأجزاء التسعة مجزية عن الأجزاء العشرة ، حتى يكون حال المقام حال الصلاة مع التيمم، المجزية عن الصلاة مع الوضوء حال عدم الامكان من الماء .

وانّما لم تكن المسألة من تلك ( لانّ تلك المسألة ) أي : مسألة الاجزاء ( مفروضةٌ فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي ) سواء كان أمرا اضطراريا ، بأن خاطب المولى العبد بالصلاة مع التيمم لقوله سبحانه : « فتيمّموا صعيدا طيبا » (1) فقال ( كالصلاة مع التيمم أو ) كان أمرا ظاهريا فقال : كالصلاة ( بالطهارة

ص: 14


1- - سورة النساء : الآية 43 ، سورة المائدة : الآية 6 .

المظنونة ، وليس في المقام أمرٌ بما أتى به الناسي أصلاً .

وقد يتوهّمُ : « أن في المقام أمرا عقليّا ، لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في إتيان المأمور به بالأمر العقلي » .

وهو فاسد جدا ،

-------------------

المظنونة ) وذلك إذا قلنا بان الظن حجّة في باب الطهارة عن الحدث ، كما قلنا به في باب الطهارة عن الخبث .

هذا ( وليس في المقام ) أي : مقام الغفلة عن الجزء العاشر ( أمر بما أتى به الناسي أصلاً ) لا أمرا اضطراريا ولا أمرا ظاهريا لما عرفت : من استحالة ذلك .

( وقد يتوهّم : ) فيقال : بأن عدم الأمر بالتكليف أو بالوضع بالنسبة إلى الغافل عن الجزء وان كان مسلّما ، إلاّ ( « أن في المقام أمرا عقليّا ) بهذه الأجزاء التسعة .

وإنّما يتوهم ذلك ( لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي ) للجزء العاشر ( هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في اتيان المأمور به بالأمر العقلي » ) وكلّما كان فيه أمر عقلي كان مجزيا ، فان بعض الفقهاء حكم لوجود الأمر العقلي في مثل الغافل : بأنّ واجبه هو ما أتى به من الاجزاء التسعة ، فيكون مندرجا في اتيان المأمور به بالأمر العقلي وان لم يكن هناك أمر شرعي به .

( و ) لكن هذا التوهم ( هو فاسد جدا ) وذلك لأنّ العقل إنّما ينفي التكليف بالجزء المغفول عنه لعدم امكان مثل هذا التكليف ، لا ان العقل يثبت التكليف بما عدا الجزء المغفول عنه ، وهي : الأجزاء التسعة الباقية يدّعي لاتيان هذه الأجزاء التسعة الأمر بالعبادة الواقعية وان غفل عن عدم كون المأتي به هي العبادة الواقعية ، فانه كيف يمكن التكليف والحال ان التكليف سواء كان عقليا أم شرعيا يحتاج

ص: 15

لأنّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ ولا يُثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء .

وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها .

كيف والتكليفُ عقليا كان أو شرعيا ، يحتاجُ إلى الالتفات ، وهذا الشخصُ غير ملتفت إلى أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه .

ونظيرُ هذا التوهّم توهّم أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي ،

-------------------

إلى الالتفات والتوجه ، وهذا الشخص الغافل أو الناسي غير ملتفت إلى انه ناس للجزء أو غافل عنه حتى يكلّف بما عداه ؟ .

وإلى هذا المعنى من فساد التوهم أشار المصنِّف حيث قال : ( لانّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ ) والمغفول عنه حال نسيانه أو غفلته أو ما أشبه ذلك ( ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء ) التسعة ( وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها ) أي : عدم كون هذا المأتي به تلك العبادة الواقعية .

وعليه : فانه ( كيف ) يمكن كون الصلاة بلا سورة واجبة على الغافل وجوبا عقليا ؟ كما قاله هذا المتوهم ، أو وجوبا شرعيا ، كما قاله بعض ممّن تقدّم ( و ) الحال ان ( التكليف عقليا كان أو شرعيا ، يحتاج إلى الالتفات ) إلى الموضوع والحكم معا ( وهذا الشخص غير ملتفت إلى ) الموضوع ، لأنه ليس بملتفت إلى ( أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه ) كما عرفت تفصيل ذلك .

( ونظير هذا التوهّم ) المذكور وهو استقلال العقل بوجوب المأتي به ( توهّم : أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي ) فاذا قطع بأنّ السورة مثلاً ليست جزءا للصلاة قطعا ، وذلك بأن كان

ص: 16

وفسادُه يظهرُ مما ذكرنا بعينه .

وأمّا ما ذكره : « من أن دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ، وهو لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ إلاّ بقدر مورده ، وهو غير الغافل ،

-------------------

جاهلاً مركبا وأتى بتسعة أجزاء ، فهذه التسعة قالوا بأنها مأمور بها بالأمر العقلي .

وفيه ما عرفت : من ان العقل يحكم بعدم جزئية السورة مع الجهل المركب ، لا بوجوب الصلاة ذات الأجزاء التسعة ، كما قال : ( وفسادُه يظهر مما ذكرنا ) في فساد التوهم الأوّل ( بعينه ) بلا زيادة ولا نقيصة .

هذا تمام الكلام في رد ما تقدّم من الجزء الأوّل من ان قلت وهو : ان عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزء بمثل قوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) دون ما لو قام الاجماع - مثلاً - على جزئية في الجملة .

ثم شرع المصنِّف في رد الجزء الثاني من ان قلت وهو : عدم عموم جزئية الجزء لحال النسيان لو كان الدال على الجزء حكما تكليفيا مختصا بحال الالتفات ومثّلنا له بقوله سبحانه : « فاقرأوا ما تيسر منه » (2) فقال : ( وأمّا ما ذكره ) في ان قلت : ( من أنّ دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ) مثل : « فاقرأوا ما تيسر منه » فانّه يدل على وجوب القرائة بالحكم التكليفي ( وهو ) أي : هذا التكليف ( لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ ) في مثل : « أقيموا الصلاة » ( إلاّ بقدر مورده ، و ) مورده ( هو غير الغافل )

ص: 17


1- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .
2- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء له بالنسبة إلى الغافل بحاله » .

ففيه : أنّ التكليف المذكور إن كان تكليفا نفسيا فلا يدل على كون متعلّقه جزءا للمأمور به حتى يقيّد به الأمر بالكلّ .

وإن كان تكليفا غيريّا ، فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا ، لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة ،

-------------------

عن وجوب القرائة .

إذن : ( فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء ) وهو القرائة ( له ) أي : للكل وهو الصلاة في المثال ، يبقى ( بالنسبة إلى الغافل بحاله » ) سالما عن التقييد بالقرائة .

هذا هو تمام المراد من الجزء الثاني في ان قلت ، ثم اعترض عليه المصنِّف بقوله : ( ففيه : أن التكليف المذكور ) بالجزء العاشر كالقرائة - مثلاً - ( إن كان تكليفا نفسيا ) بأن كانت القرائة واجبا نفسيا ( فلا يدل على كون متعلّقه ) وهو القرائة ( جزءا للمأمور به ) الذي هو الصلاة ( حتى يقيّد به الأمر بالكل ) في مثل قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) .

( وإن كان تكليفا غيريّا ) بأن كان الأمر بالقرائة من باب الجزئية للصلاة ( فهو كاشف عن كون متعلّقه ) وهو القرائة ( جزءا ) للصلاة ، وذلك ( لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة ) والغفلة عنها توجب انتفاء تنجّز الأمر بالنسبة إلى الغافل ، لكنها لا توجب انتفاء الجزئية كما قال :

ص: 18


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وانتفاؤه بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيّته في حقّه ، لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه ، بل هو مسبب عنها .

ومن ذلك

-------------------

( وانتفاؤه ) أي : انتفاء الأمر الغيري ( بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيتّه في حقّه ) بل يبقى جزءا حتى بالنسبة اليه ، وذلك لما قد عرفت : من ان الغفلة لا توجب انتفاء الجزئية ( لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه ) أي : عن الأمر ( بل هو ) أي : الأمر ( مسبب عنها ) أي : عن الجزئية ، فان الجزئية ليست بتابعة للأمر حتى تنتفي بانتفاء الأمر ، بل الأمر تابع للجزئية على ما ذكرناه .

والحاصل : ان التكليف بالقرائة ان كان نفسيا فلا ربط للقرائة بالصلاة ، لان الكلام في الجزء لا في أمر خارج عن الصلاة ، وان كان التكليف بالقرائة غيريّا ، فالقرائة جزء غفل عنها أم لم يغفل ، فكيف يقال : بأنها ليست جزءا إذا غفل المكلّف عنها ؟ .

نعم ، غاية الأمر : انه لا أمر بالقرائة حال الغفلة ، لكن عدم الأمر من جهة الغفلة لايوجب عدم الجزئية ، إذ الأمر تابع للجزء لا ان الجزء تابع للأمر ، وذلك لما قد سبق : من ان المولى يتصور الاجزاء، ثم يعتبرها اجزاءا ، ثم يأمر بها ، فالأمر تابع وليس بمتبوع.

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : من ان ارتفاع الأمر لا يوجب ارتفاع الجزء ، ظهر الفرق بين الجزء الذي فهم من الأمر وبين الشرط الذي فهم كذلك ، فان الشرط يرتفع بارتفاع الأمر ، بينما لا ترتفع الجزئية فيما لو فهم الجزء من التكليف بارتفاع أمره ، كما في فهم جزئية القرائة من قوله سبحانه : « فاقرأوا ما تيسّر منه » (1) .

ص: 19


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

يُعلم الفرق بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير فانّ الشرطيّة مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه ، فتنتفي بانتفائه .

-------------------

وهنا أراد المصنِّف بيان ان الشرط الذي يفهم من التكليف ليس كالجزء الذي يفهم منه ، فانه إذا ارتفع التكليف ارتفع الشرط بخلاف الجزء ، فاذا اشترط - مثلاً - عدم الغصبية في لباس المصلي من باب ان الغصب حرام منهي عنه ولا يجتمع الأمر والنهي ، فعدم الغصبية شرط ، لكن إذا غفل المكلّف عن كونه غصبا لم يكن نهي ، لانه لا يمكن نهي الغافل ، وإذا ارتفع النهي فلا شرطية ، فلا يتحقق حينئذ اجتماع الأمر والنهي .

وبذلك ( يُعلم الفرق بين ما نحن فيه ) من الجزء الذي فهم من التكليف ( وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير ) وارتداء الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، حيث تشترط الصلاة بعدم كون الساتر فيها حريرا للرجال ، وعدم كونه غصبا للرجال وللنساء ، وذلك لانه كما قال :

( فانّ الشرطية مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه ) من الجزئية ( فتنتفي ) الشرطية ( بانتفائه ) أي : بانتفاء التكليف بينما لا تنتفي الجزئية بانتفاء التكليف ، وذلك لأن التكليف تابع للجزئية على ما عرفت ، لا أن الجزئية تابعة للتكليف ، فانه ما دام لم يعتبر الشارع الوحدة بين أمور متعددة منها القرائة - مثلاً - لا معنى لتعلق الأمر الغيري بالقرائة ، فعند الغفلة ينتفي الأمر الغيري ولا يلزم من انتفائه انتفاء الجزئية .

بينما لا يكون الأمر كذلك في الشرط المفهوم من التكليف ، فان الشرطية تكون تابعة للتكليف لا ان التكليف تابع للشرطية ، فانه ما دام لم يكن الحرير

ص: 20

والحاصل : أنّ الأمر الغيري بشيء ، لكونه جزءا ، وإن انتفى في حق الغافل عنه من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقه ، إلاّ أنّ الجزئية لا تنتفي بذلك .

-------------------

حراما لم يلزم من الصلاة في الحرير اجتماع الأمر والنهي حتى يكون اجتناب الحرير من شرائط الصلاة ، فعند الغفلة عن النهي عن الحرير أو عن الغصب ترتفع الحرمة ، وإذا ارتفعت الحرمة ارتفعت الشرطية .

( والحاصل : ان الأمر الغيري بشيء ، لكونه جزءا ) كالقرائة المنكشف جزئيتها من قوله سبحانه : « فاقرأوا ماتيسّر منه » (1) ( وان انتفى في حق الغافل عنه ) أي عن الأمر الغيري ، لانه لا أمر بالنسبة إلى الغافل ( من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقه ) أي : في حق الغافل ( إلاّ أنّ الجزئية لا تنتفي بذلك ) أي : بانتفاء الأمر بالكل في حقه ، بينما الشرطية ليست كذلك ، فان الشرطية المستفادة من التكليف تنتفي بانتفاء التكليف ، وانتفاء التكليف إنّما يكون بالغفلة .

هذا ولا يخفى : ان الشرط على قسمين :

الأوّل : ما يكون شرطا معتبرا في المأمور به مأخوذا في موضوع الأمر ، فيكون حاله حال الجزء .

الثاني : ما يكون معتبرا في امتثال الأمر المتعلق بالمأمور به بحيث لا يكون له ارتباط بالمهية أصلاً ، وإنّما فهم هذا الشرط من التكليف .

ومن الواضح : ان كلام المصنِّف إنّما هو في القسم الثاني من الشرط لا في القسم الأوّل ، لانّ القسم الأوّل والجزء متساويان فيما ذكر دون القسم الثاني ،

ص: 21


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

وقد يتخيّل : أنّ أصالة العدم على الوجه المتقدّم وإن اقتضت ما ذكر ، إلاّ أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها .

وفيه ما سيجيء في المسألة الآتية من فساد التمسك به في هذه المقامات ، وكذا

-------------------

وهذا هو سرّ ما ذكره الفقهاء : من عدم بطلان الصلاة إذا صلّى بالغصب جاهلاً بالغصبية أو ناسيا لها .

( وقد يتخيّل أنّ أصالة العدم ) أي : عدم الجزئية ( على الوجه المتقدّم ) أي : على ما ذكرناه قبل أسطر في جواب ان قلت مما خلاصته : عدم بدلية الناقص ذات الأجزاء التسعة عن الكامل ذات الأجزاء العشرة ، فانه ( وإن اقتضت ما ذكر ) من فساد العبادة لان العبادة التي يريدها اللّه سبحانه وتعالى ذات أجزاء عشرة ، ولا دليل على بدلية ذات الأجزاء التسعة عنها .

( إلاّ أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها ) فان الأجزاء التي أتى بها من تكبيرة الاحرام والقرائة والركوع والسجود وما أشبه ، كانت صحيحة ولا نعلم هل بطلت بسبب فقدان الجزء العاشر الذي هو جلسة الاستراحة - مثلاً - أم لا؟ فالاستصحاب يقوّل بصحة تلك الأجزاء ، وهذا الاستصحاب حاكم على أصل عدم بدلية الناقص عن الكامل فيؤخذ به ، لأنّ الاستصحاب عرش الاصول ، فلا يبقى معه مجال للبرائة والاشتغال والتخيير .

( وفيه ما سيجيء في المسألة الآتية : من فساد التمسك به ) أي : بالاستصحاب ( في هذه المقامات ) لوضوح : ان الأجزاء الفاقدة للجزء المغفول عنه لم يثبت صحتها حتى تستصحب ، كما ان صحة الأجزاء المتقدمة على الجزء المفقود ، لاينفع استصحابها لصحة الاجزاء المتأخرة عنه ، بل ( وكذا ) سيجيء فساد

ص: 22

التمسك بغيره مما سيذكر هناك .

فان قلت : إنّ الأصل الاوّلي وإن كان ما ذكرت ، إلاّ أنّ هنا أصلاً ثانويا يقتضي إمضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط المنسي عنه ، وهو قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عن اُمتي تسعةٌ : الخطأ والنسيانُ .. » ، بناءا على أنّ المقدّر ليس خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعية المترتّبة على الشيء المنسيّ لولا النسيان ،

-------------------

( التمسك بغيره ) أي : بغير استصحاب الصحة لتصحيح الفاقدة ( مما سيذكر هناك ) ان شاء اللّه تعالى .

( فان قلت : ان الأصل الاوّلي وان كان ما ذكرت ) : من عدم كون الناقص ذات الاجزاء التسعة بدلاً عن الكامل ذات الاجزاء العشرة في مثل الصلاة ( إلاّ أنّ هنا أصلاً ثانويا يقتضي امضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط المنسي عنه ) أي : الشرط الذي هو من باب الامتثال ، لا الشرط الذي له دخل في المهية .

( و ) ذلك الأصل الثانوي ( هو قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رُفِعَ عن اُمتي تسعةٌ : الخطأ والنسيانُ .. » (1) ، بناءا على أنّ المقدّر ليس خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعية المترتّبة على الشيء المنسيّ ) ترتبا ( لولا النسيان ) فانه قد تقدّم ان في الحديث ثلاثة احتمالات :

الأوّل : رفع جميع الآثار .

الثاني : رفع المؤاخذة فقط .

ص: 23


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فانّه لو ترك السورة لا للنسيان يترتّبُ حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الاعادة ، وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا .

وإن شئت قلت : إنّ جزئية السورة مرتفعة حال النسيان .

-------------------

الثالث : رفع الأثر المناسب لكل واحد واحد من التسعة المرفوعة .

أمّا على الاحتمال الثاني والثالث فلا ينفع الحديث لما نحن فيه ، إذ لا منازعة في عدم مؤاخذة الناسي ، كما لا منازعة في رفع الأثر المناسب ، وإنّما النزاع في وجوب الاعادة ، وعدم المؤاخذة ، والاحتمالان لا يثبتان عدم وجوب الاعادة حتى يمكن التمسك بالحديث لنفي وجوب الاعادة .

نعم ، ينفع ما نحن فيه على الاحتمال الاول وذلك كما قال : ( فانّه لو ترك السورة لا للنسيان ) وإنّما تركها عالما عامدا ، فانه ( يترتّبُ حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الاعادة ) في الوقت ، والقضاء خارج الوقت ( وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا ) لمكان حديث الرفع .

( وان شئت قلت : انّ جزئية السورة مرتفعة حال النسيان ) فان الحديث يرفع الجزئية عند النسيان ، فيرتفع القضاء والاعادة المترتبان على ترك الجزء كالسورة مثلاً ، فتكون النتيجة صحة هذه الصلاة المنسيّ جزؤها .

والحاصل : ان الأصل الاوّلي وان كان هو البطلان ، لكن مقتضى الأصل الثانوي هو الصحة ، وقد نقل هذا أيضا عن الشيخ والحلي والمحقق الثاني وغيرهم .

والأصل الثانوي هو حديث الرفع الحاكم على الأدلة الاوّلية مما يدل على اختصاص جزئية السورة بحال الالتفات ، وعدم جزئيتها في حال النسيان ، ولازم ذلك : كون المأتي به في حال النسيان الفاقد للجزء المنسي هو تمام المأمور به ، ومعلوم: ان الاتيان بالشيء تاما لا يجب معه الاعادة داخل الوقت ولا القضاء خارجه .

ص: 24

قلت : بعد تسليم إرادة رفع جميع الآثار إنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا ، بل هي ككلّية الكلّ .

وإنّما المجعول الشرعي وجوبُ الكلّ

-------------------

( قلت : بعد تسليم ارادة رفع جميع الآثار ) من حديث الرفع ، فقد مرّ في أصل البرائة من المصنِّف عدم تسليمه دلالة حديث الرفع على رفع جميع الآثار ، وإنّما على رفع المؤاخذة فقط حيث قال ما لفظه : ان المقدّر في الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل ان يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي ، وان يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه ، بأن يقدّر المؤاخذة في الكل ، وهذا أقرب عرفا من الاوّل وأظهر من الثاني أيضا ، لانّ الظاهر : ان نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد ، فاذا اُريد من الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما اضطروا المؤاخذة على نفسها ، كان الظاهر « فيما لايعلمون » ذلك أيضا ، انتهى .

وعلى كل حال : فانه بعد تسليم رفع جميع الآثار نقول : ( إنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها ) أي : للسورة ( شرعا ، بل هي ككلّية الكلّ ) أمر انتزاعي ، فقولكم : ان جزئية السورة مرتفعة حال النسيان غير تام .

وإنّما لم يكن تاما ، لان الجزئية والكلية أمران انتزاعيان لا ربط لهما بالجعل ، ولذلك لم نجد الشارع يقول ذات مرة : حكمت بجزئية السورة أو بكلية الصلاة ذات الأجزاء العشرة ، وإنّما يعتبر الشارع الوحدة بين اُمور متعددة ، فينتزع من هذا الاعتبار : كلية المجموع ، وجزئية الأبعاض .

وعليه : فلا ترتفع جزئية السورة بحديث الرفع لانها ليست مجعولاً شرعيا ( وإنّما المجعول الشرعي وجوب الكلّ ) ومن جعل الكل مأمورا به ينتزع وجوب

ص: 25

والوجوبُ مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ، ووجوبُ الاعادة بعد التذكير يترتّب على الأمر الأوّل لا على ترك السورة .

ودعوى : « أنّ ترك السورة سببٌ لترك الكلّ الذي هو سبب وجود الأمر الأوّل ، لأنّ عدم الرافع من أسباب البقاء ، وهو من المجعولات القابلة

-------------------

الكل مطابقة ، ووجوب الأجزاء تضمنا ( والوجوبُ مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ) دون الجزئية ، فان الجزئية ليست حكما شرعيا حتى ترتفع .

هذا ( ووجوبُ الاعادة بعد التذكير يترتّب على الأمر الأوّل ) فان الأمر الاول يقتضي الاتيان بالشيء كاملاً ، فاذا لم يأت به لكونه فاقدا لبعض الأجزاء وجب عليه الاتيان به ، وهذا الاتيان يسمّى بالاعادة ( لا ) ان وجوب الاعادة مترتّب ( على ترك السورة ) حتى يرتفع عند النسيان .

وعليه : فالأمر الأوّل متوجه إلى الكل ولما تعذّر توجهه إلى المكلّف حال نسيانه كان معذورا ، فهو كما لو لم يتمكن من اتيان الكل ، أو نام عنه ، أو ما أشبه ذلك ، فاذا ارتفع العذر وزال المانع توجه الأمر اليه مع بقاء الوقت ، أو دلالة الدليل على القضاء إذا قلنا بأن القضاء بأمر جديد .

( ودعوى ) : ان النسيان سبب ترك السورة ، وترك السورة سبب بقاء الأمر الاول ، فاذا رفع النسيان رفع ما يتبعه من الأثر الشرعي الذي هو بقاء الأمر الاول ، فلا أمر حتى يجب الاعادة أو القضاء كما قال : ( « أنّ ترك السورة سبب لترك الكلّ الذي هو ) أي : ترك الكل ( سبب وجود الأمر الأوّل ) القائل بوجوب الصلاة - مثلاً - ( لانّ عدم الرافع ) الذي هو عدم الاتيان بالكل ( من أسباب البقاء ) للأمر الأوّل بالكل ، فانه إذا لم يأت بما يرفع وجوب الصلاة كان معناه : بقاء الأمر الأوّل بالوجوب ( و ) الأمر الأوّل بالوجوب ( هو من المجعولات القابلة

ص: 26

للارتفاع في الزمان الثاني .

فمعنى رفع النسيان رفعُ ما يترتب عليه وهو ترك الجزء ، ومعنى رفعه رفعُ ما يترتب عليه وهو ترك الكلّ ، ومعنى رفعه رفعُ مايترتب عليه وهو وجود الأمر في الزمان الثاني » .

مدفوعةٌ بما تقدّم ، في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريمية في الشك في أصل التكليف ، من أنّ المرفوع في الرواية الآثار الشرعية الثابتة لولا النسيان ، لا الآثار غير الشرعية

-------------------

للارتفاع في الزمان الثاني ) كما لا يخفى .

وعليه : ( فمعنى رفع النسيان ) في الحديث : ( رفع ما يترتب عليه وهو ترك الجزء ) فكأن الجزء لم يترك ( ومعنى رفعه ) أي : رفع ترك الجزء ( رفع ما يترتب عليه وهو ترك الكلّ ) فكأن الكل لم يترك ( ومعنى رفعه ) أي : رفع ترك الكل حتى كأن الكل لم يترك ( رفع ما يترتب عليه ) أي : على ترك الكل ( وهو : وجود الأمر في الزمان الثاني » ) فلا أمر في الزمان الثاني حينئذ حتى يلزم الاعادة أو القضاء .

هذه الدعوى ( مدفوعة بما تقدّم ، في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريمية في الشك في أصل التكليف ) حيث كان ما تقدّم هو عبارة عما ذكره بقوله : ( من أنّ المرفوع في الرواية : الآثار الشرعية الثابتة لولا النسيان ) فالافطار - مثلاً - لا عن نسيان يوجب الكفارة ، وهذا الافطار نفسه عن نسيان لا يوجب شيئا .

( لا ) ان المرفوع في الرواية : ( الآثار غير الشرعية ) مما نحن فيه : من ترك الجزء ، وترك الكل ، فانهما مترتبان عقلاً على نسيان السورة وليسا من الآثار الشرعية لنسيان السورة .

ص: 27

ولا ما يترتب على هذه الآثار من الآثار الشرعية .

فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم اخبار الاستصحاب ،

-------------------

( ولا ) ان المرفوع في الرواية : ( ما يترتب على هذه الآثار من الآثار الشرعية ) كبقاء الأمر فانّ بقاء الأمر تابع لترك الكل الذي هو تابع لترك الجزء ، ومن المعلوم : ان ترك الكل موجب للاعادة فانه أثر شرعي مترتب على ترك الكل الذي هو أثر عقلي مترتب على النسيان .

والحاصل : ان الآثار التي يمكن رفعها بحديث الرفع على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الآثار الشرعية .

الثاني : الآثار العقلية مثل كون الانسان في الحيّز ، والعادية مثل الالتحاء إذا مضى على الانسان من عمره عشرين سنة .

الثالث : الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية أو الآثار العادية .

هذا ، وحديث الرفع إنّما يرفع القسم الأوّل من الآثار دون الثاني والثالث .

إذن : ( فالآثار المرفوعة في هذه الرواية ) أي : في حديث الرفع ( نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم اخبار الاستصحاب ) فان الاستصحاب إنّما يثبت الآثار الشرعية المباشرة ، لا الآثار العقلية والعادية ، ولا الآثار الشرعية المترتبة على العقلية والعادية ، فاذا غاب زيد عشر سنوات فاستصحاب بقائه له ثلاثة أقسام من الآثار :

الأوّل : الآثار الشرعية مثل وجوب الانفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله .

الثاني : الآثار العقلية والعادية مثل كونه في الحيّز ، ونبات لحيته .

الثالث : الآثار الشرعية لهذين القسمين من العقلية والعادية ، كما إذا نذر

ص: 28

في أنّها هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع دون الآثار العقليّة والعاديّة ، ودون ما يترتب عليها من الآثار الشرعية .

نعم ،

-------------------

والد زيد ان يذبح كل شهر شاة ما دام زيد في الحيّز ، أو نذر انه إذا التحى زيد ان يعطي دينارا للفقير .

ومن المعلوم : انه إنّما يثبت باستصحاب بقاء زيد : الأثر الأوّل فقط ، دون الأثرين الآخرين : العقلي والعادي ، ولا ما يترتب عليهما من الآثار الشرعية .

هذا ، وحديث الرفع مثل : الاستصحاب ( في أنّها ) أي : في ان الآثار المرفوعة بها ( هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع ) ابتداءا وبلا واسطة .

( دون الآثار العقلية ) مثل : ترك الجزء وترك الكلّ المترتبين على النسيان ( والعادية ) كالسكر المترتب على شرب الخمر غفلة .

( ودون ما يترتب عليها ) أي : على الآثار العقلية والعادية ( من الآثار الشرعية ) فللاثر الشرعي المترتب على الأثر العادي مثل : انتقاض الطهارة المترتب على السكر ، والأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي مثل : بقاء الأمر الأوّل المترتب على ترك الكل ، المترتب ذلك الترك على ترك الجزء ، فان ترك الجزء يسبّب ترك الكل ، وترك الكل يسبّب بقاء الأمر الأوّل .

( نعم ) لو لم يكن للرفع أثر شرعي مباشر وكان له أثر شرعي غير مباشر بان كان الأثر الشرعي مترتبا على أثر عقلي أو عادي ، فاللازم ان نقول : بأن دليل الرفع يرفع ذلك الأثر الشرعي ، إذ لو لم يرفعه دليل الرفع كان كلام الشارع لغوا ، فلصون كلام الشارع من اللغوية نقول برفع ذلك الأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي أو العادي .

ص: 29

لو صرّح الشارع بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع ، أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه ، أو أنّه لا حكمَ لنسيان السورة - مثلاً - وجب حمله ، تصحيحا للكلام ، على رفع الاعادة وإن لم يكن أثرا شرعيا ، فافهم .

-------------------

مثلاً : ( لو صرّح الشارع : بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع ، أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه ، أو أنّه لا حكم لنسيان السورة - مثلاً - ) أو قال : ان جهل الجزء الفلاني مرفوع ، أو غير ذلك ( وجب حمله ) أي : حمل الرفع ( تصحيحا للكلام ) الصادر من الشارع حتى لا يكون بلا فائدة ( على رفع الاعادة وإن لم يكن أثرا شرعيا ) له .

وعليه : فإنّ هناك فرقا بين دليل الرفع العام القائل : « رفع عن امتي النسيان » وذلك بناءا على رفع جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة ، وبين دليل الرفع الخاصّ القائل: رفع نسيان السورة مثلاً ، وذلك من جهة دعوى ظهور الدليل العام وكذا أخبار الاستصحاب في خصوص الآثار الشرعية ، دون الآثار العقلية والعادية، ودون الآثار الشرعية مع الواسطة .

بخلاف الدليل الخاص الوارد في مورد لا أثر للرفع فيه إلاّ الأثر الشرعي مع الواسطة ، فانه يتعيّن إرادته بدلالة الاقتضاء ، ففرق بين الدليلين : العام والخاص ، ولذلك يحمل العام على رفع الآثار الشرعية فقط لانه المتبادر منه ، ويحمل الخاص على رفع الأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي لانّه لو لم نحمله على ذلك لزم لغوية الكلام .

( فافهم ) فانه لا فرق بين دليل الرفع العام والخاص في رفع جميع الآثار : الشرعية وغير الشرعية ، المترتبة مع الواسطة أو بلا واسطة .

ص: 30

وزعم بعض المعاصرين الفرق بينهما حيث حكم في مسألة البرائة والاشتغال في الشك في الجزئية بأنّ أصالة عدم الجزئية ، لايثبت بها مايترتب عليه من كون المأمور به هو الأقلّ ، لأنّه لازم غير شرعيّ ، أمّا رفعُ الجزئية الثابتة بالنبويّ فيثبتُ به كون المأمور به هو الأقل .

وذكر في وجه الفرق ما لا يصلح له

-------------------

هذا ( وزعم بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( الفرق بينهما ) أي : بين الاستصحاب ، وحديث الرفع ، وذلك باثبات الاستصحاب الآثار الشرعية فقط ونفي دليل الرفع جميع الآثار ( حيث حكم في مسألة البرائة والاشتغال في الشك في الجزئية بأنّ ) الشك هل يقتضي البرائة عن الجزء المشكوك ، أو ان الأمر يقتضي الاشتغال ؟ قال : ان الاستصحاب وهو ( أصالة عدم الجزئية ، لا يثبت بها ما يترتب عليه ) أي : على هذا العدم ( من كون المأمور به هو الأقلّ ، لانّه لازم غير شرعيّ ) أي : انه لازم عقلي لعدم وجوب الأكثر ، فهو من نفي الضد لاثبات ضده الآخر ، وهو أمر عقلي فلا يثبت بالاستصحاب .

وقال : ( أمّا رفع الجزئية الثابتة بالنبويّ ) وهو لازم غير شرعي ، فانه إذا شككنا في ان السورة هل هي جزء الصلاة أم لا ؟ ورفعنا جزئيتها ، بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رفع... ما لايعلمون » (1) ( فيثبت به ) ما يترتب عليه : من ( كون المأمور به هو الأقل ) وهي - مثلاً - الاجزاء التسعة الباقية للصلاة .

( وذكر في وجه الفرق ) بين الاستصحاب والنبوي ( ما لا يصلح له ) أي :

ص: 31


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

من اراده راجعة فيما ذكره في أصالة العدم ، وكيف كان ، فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة .

-------------------

ما لايصلح للفرق بنظرنا ، و ( من اراده ) أي : أراد أن يعرف وجه الفرق الذي ذكره الفصول بينهما ( راجعة فيما ذكره في أصالة العدم ) حيث ذكر هناك في وجه الفرق ما حاصله : ان أصل العدم المستفاد من الاستصحاب يجري في نفي ما يحتمل اعتباره شطرا أو شرطا ، لكنه لا يصلح لتعيين الماهية كذلك .

وأمّا أصل العدم المستفاد من أخبار الوضع والرفع ، فيكون دائرته أوسع ، لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام الوضع حتى الجزئية منها والشرطية والمانعية ، لانّ المفهوم من اخبار هذا الباب هو : رفع الحكم المجهول واثبات مايترتب عليه من الأحكام الشرعية وغيرها مما يترتب عليه أحكام شرعية ، وذلك عملاً بظاهر الاطلاق السالم عما يقتضي هنا صرفه عنه ، إذ الوجه الذي قرّرناه في منع إطلاق اخبار الاستصحاب ، وبيان ان المستفاد منها هو : ابقاء ما من شأنه البقاء لولا المانع المشكوك فيه ، واثبات أحكامه الشرعية خاصة غير متطرق إلى إطلاق هذه الاخبار .

هذا ، ولكن فيه ما عرفت سابقا : من ان الجزئية ليست حكما شرعيا حتى ترتفع بحديث الرفع ويوجب رفعها ذلك ، رفع جميع آثارها العقلية والعادية والشرعية المترتبة على الآثار العقلية والعادية ، فالاستصحاب والحديث النبوي في هذا المجال من مساق واحد .

( وكيف كان ) الأمر في الفرق الذي ذكره الفصول بين النبوي والاستصحاب صحة وسقما ، فانه لا يهمنا التعرّض له ، وإنّما نقول : ( فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة ) علما بأن القاعدة الثانوية هي القائلة بعدم وجوب القضاء

ص: 32

نعم ، يمكن دعوى القاعدة الثانوية في خصوص الصلاة من جهة قوله عليه السلام : « لاتُعاد الصلاةُ إلاّ من خمسةٍ ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » .

وقوله عليه السلام في مرسلة سفيان : « يسجد سجدتي السهو في كل زيادة ونقيصة » .

-------------------

والاعادة بسبب نسيان جزء من الصلاة ، أو من أي مركب آخر أمر به الشارع ، فهي مقابل القاعدة الأوّلية القائلة بوجوب الاعادة والقضاء ، لانه لم يأت بالمركب المطلوب .

( نعم ، يمكن دعوى القاعدة الثانوية ) والقول بكفاية الناقص وعدم لزوم الاتيان بالكامل ثانيا اعادة أو قضاءا ( في خصوص الصلاة ) وذلك ( من جهة قوله عليه السلام : « لاتعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (1) ) فاذا توفّرت هذه الاُمور الخمسة في الصلاة ، فلا يلزم إعادة الصلاة لترك جزء أو شرط آخر غيرها .

( وقوله عليه السلام في مرسلة سفيان : «يسجد سجدتي السهو في كل زيادة ونقيصة » (2) ) حيث ان ظاهر هذا الحديث والذي عمل به غير واحد من الفقهاء : ان الزيادة والنقيصة لا توجب بطلان الصلاة ، لان ظاهر قوله : «يسجد سجدتي

ص: 33


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 ، الخصال : ص285 ح35 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، نزهة الناظر : ص40 ، الوافي : ج2 ص149 ، وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

وقوله عليه السلام في مَن نسي الفاتحة : «أليس قد أتممتَ الركوع والسجود ؟ » ، وغيره .

ثم إنّ الكلام في الشرط كالكلام في الجزء ، في الأصل الاوّلي والثانوي المزيّف والمقبول ،

-------------------

السهو» كفاية سجدة السهو في تكميل الصلاة الناقصة جزءا أو شرطا .

( وقوله عليه السلام في مَن نسي الفاتحة : «أليس قد أتممت الركوع والسجود ؟ » (1) ) مما يكون معناه : انه لا حاجة إلى اعادة الصلاة بسبب نسيان الفاتحة .

( وغيره ) من الأخبار الخاصة الدالة على عدم بطلان الصلاة بالزيادة والنقيصة لجزء أو شرط سهوا أو نسيانا فيما عدا تلك الاُمور الخمسة .

( ثم ان الكلام في الشرط ) المنسي ( كالكلام في الجزء ، في الأصل الاوّلي ) وهو البطلان ( والثانوي ) بكلا قسميه : ( المزيّف ) والمردود منه ، وهو جعل الناقص بدلاً عن الكامل لدليل الرفع العام ( والمقبول ) منه ، وهو جعل الناقص بدلاً عن الكامل في خصوص الصلاة لدليل الرفع الخاص .

ولا يخفى : ان كلام المصنِّف هذا ليس مناقضا لكلامه السابق ، حيث ان مراده من الشرط الذي جعل حكمه حكم الجزء هنا هو : شرط المهية لا شرط الامتثال ، فقد تقدّم من المصنِّف : التصريح بمخالفة حكم نسيان شرط الامتثال لحكم نسيان الجزء ، فاشكال بعض المحشين على المصنِّف بمناقضة كلامه هذا لكلامه

ص: 34


1- - الكافي فروع : ج3 ص348 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص146 ب23 ح28 ، الاستبصار : ج1 ص353 ب206 ح2 ، وسائل الشيعة : ج6 ص90 ب29 ح7424 .

وهو غاية المسؤول .

-------------------

السابق في الشرط ، غير تام ( و ) اللّه سبحانه ( هو غاية المسؤول ) لأن يأخذ بأيدينا إلى الحق وإلى سواء السبيل .

هذا ، ولكن الظاهر من إطلاق حديث الرفع ونحوه : رفع جميع الآثار الشرعية سواء كانت لواسطة أم بغير واسطة ، عن نسيان كانت أم عن جهل ، أم غير ذلك ، قصورا كانت أم تقصيرا وان كان المقصر معاقبا على تقصيره .

ويؤيّده : « حديث لا تعاد » (1) ، وما دل على رفع النسيان في باب الصوم ، وقوله عليه السلام في باب الحج : «أي امرء ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (2) وقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في باب الحج : « لا حرج ، لا حرج » (3) مكررا ، وغير ذلك من الروايات في هذا المجال ، ولو ثبت عدم الرفع في مكان ، كان ذلك تخصيصا لأدلة الرفع ، وحيث ان تفصيل الكلام في ذلك خارج عن وضع الشرح نكله إلى موضعه .

ثم ان المصنِّف رحمه اللّه عقد في أول التنبيه حين قال : وينبغي التنبيه على اُمور متعلقة بالجزء والشرط مسائل ثلاث لبيان حكم الاخلال بالجزء نقيصة وزيادة ،

المسألة الثانية

ص: 35


1- - الخصال : ص285 ح35 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 و ج13 ب8 ص158 ح17474 وفي تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ب1 ح47 «رجل» .
3- - الكافي فروع : ج4 ص504 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص236 ب16 ح135 ، الاستبصار: ج2 ص284 ب195 ح3 وسائل الشيعة : ج14 ص157 ب39 ح18859 .

في زيادة الجزء عمدا وإنّما تتحقق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ، فلو أخذ بشرطه فالزيادةُ عليه موجبٌ لاختلاله

-------------------

وذكر الشرط أيضا تبعا :

احداها : نقيصة الجزء سهوا .

ثانيتها : زيادة الجزء عمدا .

ثالثتها : زيادة الجزء سهوا .

هذا ، وقد تعرّض في المسألة الاُولى لنقيصة الجزء سهوا ، - على ما تقدّم - فاختار فيها بطلان العبادة مطلقا في كل العبادات ، إلاّ ان يقوم دليل عام أو خاص على الصحة ، مثل: « حديث لاتعاد » ونحوه ، ولما فرغ منها تعرض لذكر ما يليها فقال : ( المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا ) ويمكن تقسيم الجزء إلى ما يشترط زيادته : كالسجدة حيث يشترط الحاق السجدة الاُولى بالسجدة الثانية ، وإلى ما يشترط عدم زيادته : كالركوع فانه يشترط عدم الحاقه بركوع ثان ، وإلى ما يكون بلا شرط لانه لوحظ فيه الاطلاق فله ان يزيد منه أو ينقص : كالذكر في الركوع والسجود ، وهذه الأقسام لا كلام فيها لوضوحها كما لا يخفى .

( وإنّما ) الكلام في الزيادة العمدية التي وصفها المصنِّف بأنّها : ( تتحقق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ) .

وعليه : ( فلو أخذ بشرطه ) أي : بشرط عدم الزيادة ( فالزيادة عليه موجب لاختلاله ) أي : لاختلال ذلك الجزء بلا كلام ، وذلك لان الشارع قد اعتبر جزئيته

ص: 36

من حيث النقيصة ، لانّ فاقد الشرط كالمتروك ، كما أنّه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد فلا إشكال في عدم الفساد .

ويشترط في صدق الزيادة قصدُ كونه من الأجزاء ، أمّا زيادةُ صورة الجزء لا بقصدها كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ، لم يعدّ زيادة في الجزء .

نعم ، ربما ورد في بعض الأخبار : « أنّها زيادة في المكتوبة » ،

-------------------

بشرط عدم الزيادة عليه ، فالزيادة فيه مخلّة ( من حيث النقيصة ) فان الجزء الذي قد زيد عليه ما يشابهه يكون ك- لا جزء ، فتكون الصلاة ناقصة الجزء .

وإنّما يكون الزائد كالناقص ( لانّ فاقد الشرط كالمتروك ) فاذا قال المولى - مثلاً - : يشترط في التسبيح ان لا يكون معه تسبيح آخر ، فسبّح المصلي تسبيحتين فهو ، كأن لم يسبّح أصلاً ، لان تسبيحه فاقد للشرط .

( كما انه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد ، فلا إشكال في عدم الفساد ) أي : عدم فساد ذلك الجزء بلا كلام أيضا ، وذلك سواء اتى به واحدا أم متعددا ، وقد مثلنا له بذكر الركوع والسجود وما أشبه ذلك .

هذا ( ويشترط في صدق الزيادة : قصد كونه من الأجزاء ، امّا زيادة صورة الجزء لا بقصدها ) أي : لا بقصد الجزئية ( كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ، لم يعدّ زيادة في الجزء ) لان الجزئية في الاُمور القصدية إنّما تتحقق بالقصد ، فبدون القصد لا يعدّ جزءا .

( نعم ، ربما ورد في بعض الأخبار : « أنّها ) أي : سجدة العزيمة في الصلاة ( زيادة في المكتوبة » (1) ) وظاهر هذا الحديث : ان الاتيان بأي شيء يشبه جزءا

ص: 37


1- - الكافي فروع : ج3 ص318 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص96 ب23 ح129(بالمعنى)، وسائل = = الشيعة : ج6 ص105 ب40 ح7460 .

وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة .

ثمّ الزيادة العمديّة تتصور على وجوه :

أحدها : أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلاً ، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود .

-------------------

من أجزاء الصلاة ، يكون زيادة في الصلاة وان لم يقصد جزئيته ، فاذا انحنى في الصلاة إلى حدّ الركوع احتراما للقرآن - مثلاً - عدّ زيادة في المكتوبة ، وان لم يقصد به الركوع، وهكذا غيره ممّا يشبه أجزاء الصلاة .

( وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة ) تنقيحا له ، فان تنقيح الموضوع مهم في المقام ، لما قد ورد في جملة من الاخبار : بطلان الصلاة والطواف بالزيادة ، فلابد من معرفة ما يتحقق به الزيادة ليعرف بها صحيح العبادة من باطلها ، غير ان ظاهر الزيادة المخلّة بالعبادة هو : ان يكون الزائد من سنخ المزيد عليه امّا مثل اللعب بالأصابع ، والعبث باللحية في الصلاة فلا يصدق عليه الزيادة ، وأن يكون قد قصد جزئيته لانّ الأعمال القصدية لا تتحقق بدون القصد ، إلاّ ما أخرجه الدليل كسجدة العزيمة وكقول آمين .

( ثم الزيادة العمديّة تتصور على وجوه ) كالتالي :

( أحدها : ان يزيد جزءا من اجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلاً ، كما لو اعتقد شرعا ) بسبب الجهل المركب من غير تقصير ( أو تشريعا ) بسبب الجهل المركب مع التقصير في البحث ومراجعة غير الحجة ، حتى اعتقد على أثرها : ( أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود ) فكان يصلي مدة من الزمان صلاة

ص: 38

الثاني : أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، كما لو اعتقد أنّ الواجب في الركوع الجنسُ الصادقُ على الواحد والمتعدد .

الثالث : أن يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد بعد رفع اليد عنه ، إمّا

-------------------

ذات ركوعين في كل ركعة .

قال في بحر الفوائد عند قوله : كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا : المراد من الاعتقاد التشريعي هو الاعتقاد الحاصل لأكثر العوام الذين لا يرتدعون عنه مع نهيهم عن العمل به ، وتنبيههم على فساد سلوك الطريق الذي يسلكونه من جهة عدم اعتنائهم بقول الناهي ، فيقلدون سلفهم أو من يحذو حذوهم بجبلّتهم العوامية المنحرفة عن الحق ، المائلة إلى الباطل ، كما نشاهد بالوجدان في حق أهل البوادي ، بل البلدان ، بل ربما نشاهد في حق بعض من يدّعي كونه من الخواص وأهل الاجتهاد في الأحكام ، فانه لا يرتدع بردع غيره عن سلوك ما ليس أهلاً له ، عصمنا اللّه واخواننا من الأهواء الباطلة والنفس الأمارة بالسوء ، انتهى .

( الثاني : ان يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ) لتصوره انه مأمور بالمهيّة الصادقة بالقليل والكثير ( كما لو اعتقد ) شرعا عن قصور ، أو تشريعا عن تقصير ( أنّ الواجب في الركوع : الجنس الصادق على الواحد والمتعدد ) لتصوره انه نظير الذكر في الركوع والسجود ، فأتى بركوعين ، أو بأربع سجدات ، أو ما أشبه ذلك .

( الثالث : ان يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد ) عليه ( بعد رفع اليد عنه ، امّا ) رفعا

ص: 39

اقتراحا ، كما لو قرء سورة ، ثم بدا له في الأثناء أو بعد الفراغ ، وقرء سورة اُخرى لغرض ديني كالفضيلة ، أو دنيوي كالاستعجال ، وأمّا لإيقاع الأوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض الأجزاء رياءا ، أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ، ثم يبدو له في إعادته على وجه صحيح .

أمّا الزيادة على الوجه الأوّل ، فلا إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة

-------------------

( اقتراحا ) والمراد بالاقتراح هنا تركه من غير علة توجبه ( كما لو قرء سورة ، ثم بدا له ) أي : ظهر له تركها ( في الأثناء ) أي أثناء السورة ( أو بعد الفراغ ) منها فرفع يده عن السورة التي قرأها ( وقرء سورة اُخرى لغرض ديني كالفضيلة ، أو دنيوي كالاستعجال ) لأنّ السورة الاُولى كانت - مثلاً - سورة طويلة فرفع يده عنها في الأثناء ليقرء سورة اُخرى قصيرة .

ولا يخفى : انه يمكن قياس ذلك بالاُمور العرفية وذلك فيما إذا أمره المولى باتيان الماء فأتى بالماء في ظرف ، ثم بدا له تبديله لان هذا الظرف - مثلاً - لا يليق بالمولى ، فبدّل الظرف وأتى بماء ثان .

( وأمّا لإيقاع الاوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض الأجزاء رياءا ، أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ) أو انه أتى بسورة اخفاتا ، ثم تنبّه ان الموضع موضع جهر فأتى بسورة ثانية جهرا ( ثم يبدو له في إعادته على وجه صحيح ) أي : بدون قصد الرياء ، ومع الطمأنينة ، ومع الجهر في مكان الجهر، إلى غير ذلك .

( أمّا الزيادة على الوجه الأوّل ) وهو : ان يزيد جزءا في العبادة بقصد انها جزء مستقل ( فلا إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة

ص: 40

أو في الأثناء ، لأن ما أتى به وقصد الامتثال به ، وهو المجموع المشتمل على الزيادة غيرُ مأمور به ، وما أمر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثالُ به .

وأمّا الأخيران فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما ، لأن مرجع الشكّ إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها إلى الشك في شرطية عدمها ، وقد تقدّم أن مقتضى الأصل فيه البرائة .

-------------------

أو في الأثناء ) بخلاف ما لو نوى ذلك بعد العمل ، فانه لا يؤثر في الفساد بالعنوان المذكور ، لعدم مجيء التعليل الذي ذكره المصنِّف للفساد في هذا القسم بقوله : ( لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع المشتمل على الزيادة غير مأمور به ، وما أمر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به ) وحيث ان عمل العبادة أمر قصدي يكون قصد الخلاف وعدم قصد الوفاق مبطل ، فهو مثل أن يقصد بقرائة الحمد في الصلاة : الحمد لأجل الأموات ، أو يقصد بالسجود في الصلاة سجود التلاوة ، أو لم يقصد بالركوع والسجود والقرائة الصلاة ولا غير الصلاة .

( وأمّا الأخيران ) وهما : الاتيان بالزائد بقصد كون الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، والاتيان بالزائد بدلاً عن المزيد عليه اما اقتراحا أو لايقاع الأوّل فاسدا ، فقد استدل على الصحة فيهما بوجوه خمسة كالتالي :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ( فمقتضى الأصل : عدم بطلان العبادة فيهما ) أي : في هذين الأخيرين ، وذلك ( لان مرجع الشكّ ) في الصحة فيهما ( إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها ) أي : مرجع مانعية الزيادة ( إلى الشك في شرطية عدمها ) أي : شرطية عدم الزيادة ( وقد تقدّم : ان مقتضى الأصل فيه البرائة ) .

ص: 41

وقد يستدلّ على البطلان بأنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة ، وقد احتجّ به في المعتبر على بطلان الصلاة بالزيادة .

وفيه نظر : لأنّه إن اريد : تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة فالصغرى ممنوعة ، لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة

-------------------

وعليه : فكلّما شككنا في ان الشيء الفلاني وجوده شرط للصحة ، أو عدمه شرط للصحة ، فالأصل عدمه ، لأنّ الشرط شيء ، يحتاج إلى الدليل ، فاذا لم يكن عليه دليل كان الأصل عدمه .

هذا ( وقد يستدلّ على البطلان ) في الأخيرين : ( بأنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة ) وقد قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أُصلي » (1) مما يدل على ان للصلاة صورة خاصة موظفة ، والزيادة تضرّ بتلك الصورة ( فتكون ) الزيادة لأجل التغيير ( مبطلة ) كسائر القواطع ، مثل النوم والحدث ، والبكاء والضحك ، وما أشبه ذلك .

( وقد احتج به ) أي : بهذا الدليل الذي ذكرناه بقولنا : وقد يستدل على البطلان : المحقق ( في المعتبر على بطلان الصلاة ب ) سبب ( الزيادة ) المغيّرة للهيئة .

( وفيه نظر : لأنّه إن أريد : تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة ) شرعا ( فالصغرى ممنوعة ) فان دليل صاحب المعتبر مركب من صغرى وهي : هذه الزيادة تغيير ، وكبرى وهي : كل تغيير مبطل .

وإنّما نمنع الصغرى ، لأنّا لا نسلم تغيير الهيئة الشرعية بالزيادة بنحو الوجهين الأخيرين : الثاني والثالث ، وذلك ( لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة

ص: 42


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص198 ح8 ، بحار الانوار : ج85 ص279 ب34 .

أوّل الدعوى ، فاذا شك فيه فالأصل البرائة .

وإن أريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلاً .

ونظيرُ الاستدلال - بهذا للبطلان - في الضعف الاستدلال للصحة باستصحابها ،

-------------------

أوّل الدعوى ) إذ لا دليل على ان الشارع اعتبر الهيئة الكذائية ، وحيث لا دليل ( فاذا شك فيه ) أي : في اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة ( فالأصل البرائة ) عنه لأن الاعتبار أمر نشك فيه ، وكلّما شككنا فيه فالأصل عدمه .

( وإن أريد : أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة ، فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلاً ) فانا لا نسلم ان تغيير الهيئة العرفية موجبا للبطلان ، وذلك لانا مأمورون بالهيئة الشرعية لا الهيئة العرفية .

لا يقال : الوجه الثاني من الزيادة كان عبارة عن زيادة الركوع ، ومن المعلوم : ان زيادة الركوع مبطل للصلاة .

لانه يقال : بطلان الصلاة بزيادة الركوع إنّما هو لوجود الدليل الخارجي على ذلك ، وكلامنا فيما لا دليل على البطلان من الخارج ، وأما ذكر المصنِّف زيادة الركوع في الوجه الثاني فهو من باب المثال فقط ، كما ان ذكره زيادة السورة في الوجه الثالث من باب المثال أيضا ، والأصحّ التمثيل للوجه الثالث بما لو أتى بركوعين وجعل الركوع الثاني بدلاً عن الركوع الأوّل .

الثاني من الوجوه الخمسة للاستدلال على الصحة فيهما : ما أشار اليه بقوله : ( ونظير الاستدلال - بهذا ) أي : بالذي استدل به المعتبر ( للبطلان - في الضعف : الاستدلال للصحة باستصحابها ) أي : باستصحاب الصحة ، فانه كما يكون

ص: 43

بناءا على أن العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة ، والأصلُ بقائها وعدم عروض البطلان لها .

وفيه : أنّ المستصحب إن كان صحة مجموع الصلاة ، فلم يتحقق بعدُ ، وإن كان صحة الأجزاء السابقة منها فهي غير مُجدية ، لأنّ صحة تلك الأجزاء ،

-------------------

الاستدلال للبطلان بتغيير الزيادة للهيئة ضعيفا ، كذلك يكون الاستدلال للصحة باستصحاب الصحة ضعيفا أيضا ، وذلك ( بناءا على ان العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة ، والأصل بقائها ) أي : بقاء الصحة بعد زيادة هذا الجزء ( وعدم عروض البطلان لها ) أي : للعبادة بعد زيادة الجزء .

( وفيه : إنّ المستصحب إن كان صحة مجموع الصلاة ، فلم يتحقق بعد ) لانه لم يأت بالمجموع فكيف يستصحب صحة المجموع ؟ وبعد الاتيان بالمجموع يشك في انه هل بقيت الصحة أو لم تبق ، لانه قد أتى فيه بزيادة مثل : تكرار الركوع في مثال المصنِّف ؟ .

( وان كان صحة الأجزاء السابقة منها ) أي : من العبادة ، بأن كان التكبير والقرائة والركوع - مثلاً - التي قد جاء بها صحيحة ثم جاء بزيادة يشك بعدها في انه هل بطلت تلك الاجزاء السابقة أم لا ؟ فيستصحب تلك الصحة ، فان كان المستصحب هذه الصحة ( فهي غير مجدية ) لتصحيح العبادة ، لان هذه الصحة بما يأتي لها من معنى متيقّنة للأجزاء السابقة ، فلا حاجة لاستصحابها .

وإنّما لا تجدي هذه الصحة المتيقنة في تصحيح العبادة ، لان الكلام في صحة المجموع بعد الاتمام ، لا في صحة الأجزاء السابقة على الزيادة فقط ، وصحة المجموع بعد الاتمام محل اشكال ، وذلك ( لأنّ صحة تلك الأجزاء ) السابقة

ص: 44

إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها ، وإمّا ترتّب الأثر عليها .

والمراد بالأثر المترتب عليها حصول المركّب بها منضمّة مع باقي الأجزاء والشرائط ، إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحته إلاّ حصول الكلّ به منضما إلى تمام غيره مما يعتبر في الكلّ .

ولا يخفى أنّ الصحة بكلا المعنيين ثابتة للأجزاء السابقة ، لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها ، لا تنقلبُ عمّا

-------------------

يتصور لها أحد معنيين :

( إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها ) لانّ هناك عدة أوامر متعلقة بأجزاء الصلاة مثل : كبّر ، واقرء ، واركع ، واسجد ، وما أشبه ذلك .

( وإمّا ) عبارة عن ( ترتّب الأثر عليها ) أي على تلك الأجزاء السابقة على الزائد.

( والمراد بالأثر المترتب عليها ) أي : على تلك الأجزاء السابقة على الزائد هو : ( حصول المركب بها ) أي : بتلك الأجزاء ( منضمّة مع باقي الأجزاء والشرائط ) بمعنى : ان المركب من الأجزاء السابقة على الزائد ، والأجزاء اللاحقة على الزائد ، كلّها تؤثر أثرا خاصا ، وهو الامتثال وسقوط القضاء والاعادة .

وإنّما يكون المراد بالأثر حصول المركب ( إذ ليس أثر الجزء المنوط به ) أي : بالأثر : ( صحته ) أي : صحة ذلك الجزء ( إلاّ حصول الكلّ به منضما إلى تمام غيره مما يعتبر في الكلّ ) فان معنى كون الجزء ذا أثر: انه منضما إلى بقية الأجزاء ذو أثر.

( ولا يخفى : ان الصحة بكلا المعنيين ) المذكورين : من كون الجزء مطابقا للأمر ، وكون الأثر مترتبا على الجزء مع الانضمام ( ثابتة للأجزاء السابقة ) على الزائد ، فلا يجدي استصحابها .

أمّا مطابقة الجزء للأمر فهي ( لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها ، لا تنقلب عمّا

ص: 45

وقعت عليه ، وهي بَعدُ على وجه لو انضمّ اليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلُّ ، فعدم حصول الكلّ لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ إلى تلك الأجزاء لا يُخلّ بصحتها .

ألا ترى أن صحة الخلّ من حيث كونه جزءا للسكنجبين لا يرادُ بها إلاّ كونه على صفة لو انضم اليه تمام ما يعتبر في تحقق السكنجبين لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ اليه تمام ما يعتبر فلم يحصل ذلك الكلّ ، لم يقدح ذلك

-------------------

وقعت عليه ) لأنّ الانقلاب غير معقول .

( و ) اما ترتب الأثر عليها ، فلأنها ( هي ) أي : الاجزاء السابقة على الزيادة ( بَعدُ ) أي : بعد الاتيان بهذه الزيادة في التأثير ، باقية ( على وجه لو انضمّ اليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلّ ) إذ لا دليل على انه إذا وقعت زيادة بين الأجزاء السابقة ، والأجزاء اللاحقة ان تسبّب عدم حصول الكل في الأثر وهو الامتثال .

وعليه : ( فعدم حصول الكلّ لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ ) إنضماما ( إلى تلك الأجزاء ) السابقة على الزيادة ( لا يخلّ بصحتها ) أي : بصحة الأجزاء السابقة على الزيادة .

( ألا ترى : أن صحة الخلّ من حيث كونه جزءا للسكنجبين لا يراد بها ) أي : بالصحة ( إلاّ كونه على صفة لو انضم اليه تمام ما يعتبر في تحقق السكنجبين ) من السكّر ، ومن جعله على النار حتى يحصل له الامتزاج والقوام ، فانه لو انضم اليه ذلك ( لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ اليه ) أي : إلى الخل ( تمام ما يعتبر ) في تحقق السكنجبين ( فلم يحصل ذلك الكلّ ، لم يقدح ذلك ) أي : عدم حصول الكل

ص: 46

في اتصاف الخل بالصحة في مرتبة جزئيته ، فاذا كان عدم حصول الكلّ يقينا لعدم تمام ما يعتبر في الكلّ غير قادح في صحة الجزء ، فكيف إذا شك في حصول الكلّ من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه .

فإنّ الشك في صحة الصلاة بعد تحقق الزيادة المذكورة

-------------------

( في اتصاف الخل بالصحة في مرتبة جزئيته ) .

وإنّما لا يقدح في صحة جزئيته لان الخل في نفسه جزء صحيح ، سواء انضم اليه بقية الأجزاء حتى يحصل السكنجبين أو لم ينضم اليه .

وعليه : ( فاذا كان عدم حصول الكلّ يقينا ) وذلك ( لعدم ) انضمام ( تمام ما يعتبر في الكلّ ) كما إذا علمنا بعدم الانضمام ، فانّ علمنا بذلك ( غير قادح في صحة الجزء ) أو الأجزاء السابقة على الزيادة ( فكيف إذا ) لم يكن لنا علم ، بل كان لنا ( شك في حصول الكلّ ، من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه ) من زيادة جزء أثناء العبادة ، فانه غير مخلّ بصحة ما سبق من الأجزاء بطريق أولى؟ .

والحاصل : انه إذا كان الجزء باقيا على وصف الصحة مع القطع بعدم حصول الكل لعدم انضمام سائر الأجزاء إلى الجزء السابق ، فبقاء الجزء على وصف الصحة مع الشك في تحقق الكل للشك في انضمام سائر الأجزاء اليه يكون بطريق أولى ، فاذا شككنا في صحة الأجزاء السابقة وعدم صحتها بعد تلك الزيادة، لم يكن وجه للقول ببطلان تلك الأجزاء .

إذن : فالاجزاء السابقة متيقنة الصحة ، لكنها لا تنفي الشك في صحة الصلاة وذلك كما قال : ( فان الشك في صحة الصلاة بعد تحقق الزيادة المذكورة )

ص: 47

من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر إلى الأجزاء ، لعدم كون عدم الزيادة شرطا ، وعدم انضمامه ، لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقق ، فلا يتحقق الكلّ .

ومن المعلوم أنّ هذا الشك لا ينافي القطع بصحة الاجزاء السابقة ، فاستصحاب صحة تلك الاجزاء غير محتاج اليه ، لأنا نقطع ببقاء صحتها ، لكنه لا يجدي في صحة الصلاة بمعنى استجماعها لما عداها

-------------------

في أثنائها إنّما هو ( من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر إلى الأجزاء ) أي : ان الشك فيه إنّما هو لاحتمال انضمامه ، وذلك ( لعدم كون عدم الزيادة شرطا ، و ) لاحتمال ( عدم انضمامه ) وذلك ( لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقق ) شرط عدم الزيادة ( فلا يتحقق الكلّ ) .

وعليه : فان هنا احتمالين : احتمال انضمام بقية الاجزاء إلى الاجزاء السابقة ، وذلك بأن لا يكون عدم الزيادة من الشرائط ، واحتمال عدم انضمام بقية الاجزاء إلى الاجزاء السابقة ، وذلك بأن يكون عدم الزيادة من الشرائط ، ومع هذين الاحتمالين يشك في تحقق الصلاة أو العبادة التي وقعت الزيادة في أثنائها .

هذا ( ومن المعلوم : انّ هذا الشك لا ينافي القطع بصحة الاجزاء السابقة ) على الزيادة ( فاستصحاب صحة تلك الاجزاء غير محتاج اليه ) أصلاً ، لانّ الاستصحاب إنّما يكون مع الشك ، وهنا لا شك في صحة الاجزاء السابقة ( لأنّا نقطع ببقاء صحتها ) أي : صحة الاجزاء السابقة على الزيادة .

( لكنه ) أي : لكن هذا القطع ببقاء الاجزاء السابقة على صحتها ( لا يجدي في صحة الصلاة بمعنى : استجماعها ) أي : استجماع الصلاة ( لما عداها ) أي :

ص: 48

من الاجزاء والشرائط الباقية .

فان قلت : فعلى ما ذكرت فلا يفرض البطلان للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحة بالمعنى المذكور إلى أبد الدهر وإن وقع بعدها ما وقع من الموانع ، مع أنّ من الشايع في النصوص والفتاوى إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة .

-------------------

لما عدا الاجزاء السابقة ( من الاجزاء والشرائط الباقية ) فانّ قطعنا بصحة الاجزاء السابقة ، لا يفيدنا في انا صلينا صلاة صحيحة ، لاحتمال ان الصلاة مشروطة بعدم الزيادة .

وعليه : فاستصحاب الصحة لتصحيح العبادة غير تام لوجهين :

أولاً : لأنه لا مجال لاستصحاب الصحة مع القطع بالصحة .

ثانيا : لأنه لو صح الاستصحاب لم ينفع في كفاية هذه الصلاة في باب الامتثال .

( فان قلت : فعلى ما ذكرت ) : من كون الأجزاء السابقة لا تنقلب عن الصحة الذاتية ولا عن الصحة التأهلية ( فلا يفرض البطلان للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحة بالمعنى المذكور ) : من الصحة الذاتية التي وقعت عليه ، والتأهلية لأن تكون جزءا من الصلاة الصحيحة إذا التحق بها سائر الأجزاء والشرائط اللاحقة ( إلى أبد الدهر وان وقع بعدها ما وقع من الموانع ) كالحدث والنوم والضحك وما أشبه .

هذا ( مع أنّ من الشايع في النصوص والفتاوى : إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة ) فكيف تقولون ببقاء الصحة للأجزاء السابقة مع ان ظاهر النصوص والفتاوى تقول : بانه إذا عرض شيء من الموانع والقواطع كالحدث ونحوه يكون مبطلاً وناقضا للأجزاء السابقة ؟ .

ص: 49

قلت : نعم ولا ضير في التزام ذلك ، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ، لعدم التمكّن من ضمّ تمام الباقي اليها ، فيجب استيناف الصلاة امتثالاً للأمر .

نعم ، إنّ حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة أو ناقضا ، يكشف عن أنّ لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتصالية

-------------------

( قلت : نعم ) الأجزاء السابقة باقية على صحتها أبد الدهر ( ولا ضير في التزام ذلك ) من بقائها على صحتها الذاتية والتأهلية ( و ) لكن ( معنى بطلانها ) بعروض الموانع والقواطع ممّا اشتهر في النصوص والفتاوى إنّما هو : ( عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ) وذلك ( لعدم التمكّن من ضم تمام الباقي اليها ) .

مثلاً : الحدث بين الأجزاء السابقة والاجزاء اللاحقة لايخرج الأجزاء السابقة عن الصحة ، وإنّما يمنع من انضمام الأجزاء اللاحقة إلى الأجزاء السابقة ( فيجب استيناف الصلاة امتثالاً للأمر ) القائل بوجوب الصلاة - مثلاً - كما في قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) كذا غيره من سائر الأوامر ، فبالحدث لا تنقلب الأجزاء السابقة إلى البطلان .

( نعم ) انه قد يفرّق بين ما حكم الشارع بكونه قاطعا فيجري استصحاب الصحة في الشك فيه ، وبين ما حكم بكونه مانعا فلا يجري استصحاب الصحة في الشك فيه ، وذلك لأجل ( انّ حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة أو ناقضا ، يكشف عن أنّ لاجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتصالية

ص: 50


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

ترتفعُ ببعض الأشياء دون بعض ، فانّ الحدث يقطع ذلك الاتصال والتجشّأ لا يقطعه ، والقطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ، وهما في ما نحن فيه الاجزاء السابقة ، والاجزاء التي يلحقها بعد تخلل ذلك القاطع . فكلّ من السابق واللاحق يسقط عن قابلية ضمه إلى الآخر وضمّ الآخر اليه .

ومن المعلوم أنّ الاجزاء السابقة كانت قابلة للضم اليها وصيرورتها اجزاءا فعليّة للمركّب ،

-------------------

ترتفع ببعض الأشياء ) كالحدث ( دون بعض ) كالتجشّأ ( فان الحدث يقطع ذلك الاتصال ) الذي اعتبره الشارع بين اجزاء الصلاة - مثلاً - ( والتجشّأ لا يقطعه ) .

هذا ( والقطع ) بسبب الحدث - مثلاً ليس كالمانع بسبب النجاسة - مثلاً - فان المانع لا يوجب فساد الاجزاء السابقة ، بينما القاطع يوجب فساد الطرفين ، لانه ( يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ) من الطرفين فتنفصل الأجزاء السابقة عن الاجزاء اللاحقة ، ويكون الانفصال قائما بالسابق على الزائد ، واللاحق عليه كما قال : ( وهما ) أي : المنفصلان ( في ما نحن فيه ) أي : في العبادة المركبة عبارة عن ( الاجزاء السابقة ، والاجزاء التي يلحقها بعد تخلل ذلك القاطع ) كالحدث ( فكلّ من السابق واللاحق ) لاجزاء الصلاة بسبب هذا الانفصال الحدثي ( يسقط عن قابلية ضمه إلى الآخر وضمّ الآخر اليه ) .

وعليه : فيكون حينئذ مثل الأجزاء السابقة واللاحقة للصلاة كمثل أجزاء من الحديد فصل بينها التراب ، فان التراب يمنع من وصول الحرارة من طرف إلى طرف آخر مع ان كلا الطرفين من أجزاء الحديد لها صلاحية ذاتية للاتصال بحيث لولا هذا التراب لاتصلت الحرارة من جانب إلى جانب كما قال : ( ومن المعلوم : أنّ الاجزاء السابقة كانت قابلة للضم اليها وصيرورتها اجزاءا فعليّة للمركّب )

ص: 51

والأصل بقاء تلك القابلية وتلك الهيئة الاتصالية بينها وبين ما يلحقها ، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية الموجود .

ولكن هذا مختص بما إذا شك في القاطعية ، وليس مطلق الشك في مانعية الشيء - كالزيادة في مانحن فيه - شكا في القاطعية .

وحاصل الفرق بينهما أنّ عدم الشيء في جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ،

-------------------

وذلك فيما إذا لم يكن هذا القاطع حاصلاً بين الأجزاء السابقة والأجزاء اللاحقة .

لكن هذا إنّما هو في القاطع القطعي : كالحدث وما أشبه ذلك ، امّا إذا كان شيء مشكوك قاطعيته : كالزيادة التي لا نعلم انها قاطعة أو ليست بقاطعة ، فالأصل هو المحكّم ، ولذا قال المصنِّف :

( والأصل ) على فرض الشك في ابطال الزيادة ( بقاء تلك القابلية ) أي : قابلية انضمام الاجزاء السابقة إلى اللاحقة ( و ) بقاء ( تلك الهيئة الاتصالية بينها ) أي : بين الاجزاء السابقة ( وبين ما يلحقها ، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية الموجود ) فاذا شككنا في شيء انه قاطع أو ليس بقاطع نستصحب عدم القاطعية .

( ولكن ) قد عرفت : ان ( هذا ) الاستصحاب ( مختص بما إذا شك في القاطعيّة ، و ) معلوم انه ( ليس مطلق الشك في مانعية الشيء - كالزيادة في مانحن فيه - ) يكون ( شكا في القاطعية ) حتى يجري استصحاب الصحة فيه .

( و ) عليه : فان ( حاصل ) ما ذكره من ( الفرق بينهما ) أي : بين المانع والقاطع: انه لا يتمسك باستصحاب الصحة عند الشك في المانع ، وإنّما يتمسك باستصحاب الصحة في الشك في القاطع كما قال : ( أنّ عدم الشيء في جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ) أي: لا من جهة اخلاله

ص: 52

فاذا وجدنا ما فقد انتفى الشرط على وجه لا يمكن تداركه ، فلا يتحقق المركب من هذه الجهة . وهذا لا يجدي فيه القطع بصحة الاجزاء السابقة فضلاً عن استصحابها ، وقد يكون اعتباره من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الاجزاء ، فاذا شك في رافعيته لها

-------------------

بالاتصال ، وقد ذكرنا سابقا : ان العدم ليس بشيء ، فلا يمكن ان يكون شرطا أو نحوه ، فالمراد من كون العدم شرطا : ما يرجع إلى الوجود .

وعليه : ( فاذا وجدنا ) ما اشترط عدمه في الصلاة ( ما فقد انتفى الشرط على وجه لا يمكن تداركه ) لانه بانتفاء الشرط ينتفي المشروط ( فلا يتحقق المركب ) وهو الصلاة - مثلاً - ( من هذه الجهة ) أي : من جهة انتفاء الشرط .

( و ) لا يخفى : ان ( هذا ) القسم إذا شك في مانعيته فانه ( لا يجدي فيه القطع بصحة الاجزاء السابقة ) لانّ صحة الاجزاء السابقة مع تحقق هذا المانع لا ينفع في صحة المركب ( فضلاً عن استصحابها ) أي : استصحاب الصحة في الاجزاء السابقة .

وإنّما لا يجدي فيه ذلك لأنه لا تلازم بين صحة الاجزاء السابقة وبين عدم مانعية الزائد المشكوك في مانعيته ، فلا يستلزم صحة ما مضى أن يكون الزائد المشكوك غير مانع من انضمام الاجزاء الباقية إلى الاجزاء السابقة ، حتى يثبت الانضمام .

( وقد يكون اعتباره ) أي : اعتبار عدم الشيء لا من حيث انه بنفسه من جملة الشروط ، بل ( من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الاجزاء ) كما إذا اعتبر الشارع الحدث - مثلاً - قاطعا ( فاذا شك في رافعيته ) أي : في رافعية شيء ( لها ) أي: للهيئة الاتصالية، بأن شككنا في ان شرب

ص: 53

حَكَمَ ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الاجزاء السابقة عمّا يلحقها من سائر الاجزاء .

وربما يُرَدُّ استصحابُ الصحة

-------------------

الماء القليل أو الأكل القليل - مثلاً - يقطع الاتصال أم لا ؟ ( حكم ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الاجزاء السابقة عمّا يلحقها من سائر الاجزاء ) بسبب الاستصحاب .

وعليه : فنحكم لأجل الاستصحاب ببقاء الأجزاء السابقة على قابليتها للانضمام مع الأجزاء اللاحقة ، كما نحكم ببقاء الاجزاء اللاحقة على صلاحيتها للالتحاق بالأجزاء السابقة ، وبذلك يصح اتصال الطرفين وتتحقق الهيئة الاتصالية الموجبة لصحة المركّب .

وحاصل الفرق كما ذكرنا : ان المانع هو ما يمنع أصل الفعل أوّلاً وبالذات ، فيكون عدمه شرطا في عرض سائر الشروط المعتبرة في المأمور به كالطهارة والقبلة والساتر وما أشبه ، بينما القاطع هو ما يقطع الهيئة الاتصالية أولاً وبالذات فلا يكون عدمه في عرض سائر الشروط المعتبرة في المأمور به ، وإنّما لقطعه الهيئة الاتصالية المعتبرة في المأمور به يمنع وجود الفعل على النحو الصحيح ، ولذا لا يتحقق المركب .

وعليه : فاذا أردنا تشبيه القاطع والمانع في المركب الاعتباري بالامور التكوينية نقول : الخشب الذي يحمل السقف قد يقطعه شيء من الوسط ، فيكون هذا هو القاطع الذي يوجب فقد الخشب صلاحيته لحمل السقف ، وقد لا يقطعه شيء ، وإنّما يكون الخشب واهيا، فلا يكون لذلك صالحا لحمل السقف وهذا هو المانع.

( وربما يُرَدُّ استصحاب الصحة ) كما هو المحكي عن الفصول حيث ادعى

ص: 54

بأنّه : « إن اُريد صحة الاجزاء المأتي بها بعد طروّ المانع الاجمالي فغير مُجد ، لأن البرائة إنّما تتحقق بفعل الكلّ دون البعض ، وإن اُريد اثبات عدم مانعية الطاريء ، أو صحة بقية الأجزاء فساقط ، لعدم التعويل على الاصول المثبتة » ، انتهى .

وفيه نظر يظهر مما ذكرنا ، وحاصله :

-------------------

وهن التمسك بالاستصحاب مستدلاً له : ( بأنّه : « إن اُريد صحة الاجزاء المأتيّ بها بعد طروّ المانع الاجمالي ، ف ) هذا الاستصحاب للصحة ( غير مُجد ، لأن البرائة إنّما تتحقق بفعل الكلّ دون البعض ) فانا نحتاج إلى البرائة من التكليف ، والبرائة من التكليف إنّما تكون بصحة كل الاجزاء لا بعض الاجزاء السابقة على المانع الاجمالي فقط .

( وإن اُريد اثبات عدم مانعية الطارئ، أو صحة بقية الأجزاء ، ف ) الاستصحاب ( ساقط ، لعدم التعويل على الاصول المثبتة » ) فان القول بأنّ الاجزاء السابقة صحيحة بالاستصحاب إذن : فالطارئ المشكوك ليس مانعا ، أو القول بان الاجزاء السابقة صحيحة بالاستصحاب إذن : فالأجزاء اللاحقة صحيحة ، مثبت ، لان كلاً من عدم مانعية الطارئالمشكوك ، وصحة الاجزاء اللاحقة ، من اللوازم العقلية لصحة الاجزاء السابقة ، فلا تثبت بالاستصحاب لما قرر في محله : من ان مثبت الاستصحاب ليس بحجة ( انتهى ) الكلام المحكي عن الفصول .

( وفيه نظر يظهر مما ذكرنا ، وحاصله ) : انه ان أراد بالأصل المذكور : ما يجري في الشك في المانع ، فقد تقدّم : ان هذا ساقط من أصله فلا يجري أصلاً حتى يبحث عن كونه مثبتا أو ليس بمثبت ، وان أراد به : ما يجري في الشك في القاطع ، فهو ليس من الاُصول المثبتة حتى يعترض عليه كما قال :

ص: 55

أنّ الشك إن كان في مانعية شيء وشرطية عدمه للصلاة ، فصحة الاجزاء السابقة لا يستلزم عدمها ظاهرا ولا واقعا ، حتى يكون الاستصحاب بالنسبة اليها من الاُصول المثبتة ، وإن كان في قاطعية الشيء ورفعه للاتصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ، فاستصحاب بقاء الاتصال كاف ، إذ لا يقصد في المقام سوى بقاء تلك الهيئة الاتصاليّة ، والشك إنّما هو فيه ، لا في ثبوت شرط أو مانع آخر حتى يقصد بالاستصحاب دفعة ، ولا في صحة بقية الاجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتصالية بينها وبين الاجزاء السابقة ،

-------------------

( أنّ الشك إن كان في مانعية شيء وشرطية عدمه للصلاة ، فصحة الاجزاء السابقة لا يستلزم عدمها ) أي : عدم المانعية ( ظاهرا ولا واقعا ) أي : لا في مرحلة الظاهر ولا في مرحلة الواقع فلا يجري فيها الاستصحاب أصلاً ( حتى يكون الاستصحاب بالنسبة اليها ) أي : بالنسبة إلى المانعية ( من الاُصول المثبتة ) غير الحجة ، فلا يصح قول الفصول انه تعويل على الاُصول المثبتة .

( وإن كان ) الشك ( في قاطعية الشيء ورفعه للاتصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ) حيث ان للصلاة - مثلاً - هيئة اتصالية يجب ان لا تقطع ( فاستصحاب بقاء الاتصال كاف ) في الحكم بالصحة وليس بمثبت ( إذ لا يقصد في المقام ) أي : في مقام الشك في القاطعية ( سوى بقاء تلك الهيئة الاتصاليّة ، والشك إنّما هو فيه ) أي : في بقاء تلك الهيئة فلا يكون استصحابه مثبتا .

وعليه : فالشك في نفس البقاء ( لا في ثبوت شرط أو مانع آخر حتى يقصد بالاستصحاب دفعة ) فيكون مثبتا ( ولا في صحة بقية الاجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتصالية بينها وبين الاجزاء السابقة ) حتى يكون مثبتا أيضا ، وذلك لان

ص: 56

والمفروض إحرازُ عدم زوالها بالاستصحاب .

وبما ذكرنا يظهر سرُّ ما أشرنا اليه في المسألة السابقة ، من عدم الجدوى في استصحاب الصحة لاثبات صحة العبادة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ، عند الشك في جزئية المنسي حال النسيان .

-------------------

المقصود من استصحاب الهيئة الاتصالية إنّما هو اثبات نفس المستصحب ؛ وهو الهيئة الاتصالية ، لفرض ان الشك في هذه الهيئة لا في شيء آخر؛ فلا يكون الاستصحاب مثبتا .

هذا ( والمفروض : إحراز عدم زوالها ) أي : عدم زوال الهيئة الاتصالية احرازا ( بالاستصحاب ) وهذا بخلاف استصحاب الصحة ؛ حيث قد عرفت : انه مثبت ، لانه لا يراد باستصحاب الصحة : صحة الاجزاء السابقة ، بل يراد به إثبات شيء آخر وهو : نفي المانعية ، وصحة الكل ، وكلاهما بالنسبة إلى استصحاب الصحة من اللوازم العقلية لا من اللوازم الشرعية على ما عرفت .

( وبما ذكرنا ) : من عدم الملازمة بين صحة الاجزاء السابقة وبين نفي المانعية ، أو بين صحة الكل ( يظهر سرّ ما أشرنا اليه في المسألة السابقة ، من ) قول المصنِّف: وفيه ما سيجئفي المسألة الآتية من فساد التمسك به في هذه المقامات ، وما أشار اليه هو : ( عدم الجدوى في استصحاب الصحة لاثبات صحة العبادة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ، عند الشك في جزئية المنسي حال النسيان ) .

مثلاً : إذا علمنا بأنّ القرائة جزء حال الالتفات وشككنا في انها جزء حال النسيان أم لا ؟ فاستصحاب الصحة لا يثبت لمن نسي القرائة عدم جزئية القرائة حال النسيان حتى يكون المأتي به مطابقا للمأمور به غير محتاج إلى الاعادة والقضاء .

إلى هنا صحّح المصنِّف استصحاب عدم القاطع عند الشك فيه ، والآن يريد

ص: 57

هذا ، ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب : بأن المراد بالاتصال والهيئة الاتصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة بعضها مع بعض فهو باق لا ينفع ، وإن كان ما بينها وبين ما لحقها من الاجزاء الآتية ، فالشك في وجودها لا بقائها .

وأمّا أصالة بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الحاق الباقي بها ، فلا يبعدُ كونها من الاُصول المثبتة .

-------------------

الخدشة في هذا الاستصحاب بقوله : ( هذا ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب : ) أي : استصحاب عدم القاطع وبقاء الهيئة الاتصالية ( بأن المراد بالاتصال والهيئة الاتصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة ) نفسها أي : ( بعضها مع بعض فهو باق ) يقينا ولا يحتاج اثباته إلى الاستصحاب ، غير انه ( لا ينفع ) أي : ان بقاء الهيئة الاتصالية بين الاجزاء السابقة لا ينفع لمطلوبنا نحن ، لان مطلوبنا هو الهيئة الاتصالية بين الكل ، لا بين الاجزاء السابقة فقط .

( وإن كان ) المراد بالهيئة الاتصالية : الاتصال ( ما بينها وبين ما لحقها من الاجزاء الآتية ، فالشك في وجودها ) أي : وجود الهيئة الاتصالية ( لا بقائها ) حتى تستصحب ، وذلك لان المفروض انّ الزيادة - على فرض قاطعيتها - قد قطعت الهيئة الاتصالية بين الاجزاء السابقة مع الاجزاء اللاحقة ، فلا اتصال حتى يشك في بقائه .

ان قلت : ان لم نستطع استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في وجودها ، نستصحب بقاء الاجزاء السابقة على قابليتها لاتصال الباقي بها .

قلت : ( وأمّا أصالة بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الحاق الباقي بها ، فلا يبعد كونها من الاُصول المثبتة ) وذلك لان بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال لايترتّب عليه أثر شرعي ، وإنّما يترتّب عليه : عدم كون الزيادة قاطعة للهيئة

ص: 58

اللّهم إلاّ أن يقال : استصحابَ الهيئة الاتصالية من الاستصحابات العرفية غير المبنيّة على التدقيق ، نظير استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية .

-------------------

الاتصالية ، وعدم القاطعية أثر عقلي ، فيكون من الاُصول المثبتة ، وقد ثبت في محله ان الأصل المثبت ليس بحجة .

وربّما يقرّر كون الأصل مثبتا ببيان آخر وهو : ان الحكم بصحة الصلاة مترتب على فعلية اتصال الاجزاء السابقة بالاجزاء اللاحقة ، لا على قابلية الاتصال ، فاثبات الحكم المذكور بالاستصحاب موقوف على ثبوت الفعلية بمجرد استصحاب القابلية ، لانه لو كان قابلاً كان فعلاً ، والتلازم بين القابلية والفعلية تلازم عقلي أو عادي ، فهو مثل ان نقول : نستصحب بقاء زيد فنثبت عليه انبات اللحية لانه كان قابلاً فيكون فعلاً ، وهذا واضح كونه من الاُصول المثبتة .

( اللّهم إلاّ أن يقال ) في تصحيح استصحاب الهيئة الاتصالية بحيث لا يكون مثبتا : ان ( استصحاب الهيئة الاتصالية من الاستصحابات العرفية غير المبنيّة على التدقيق ) فهو ( نظير استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية ) من حيث التسامح العرفي ، فيكون المستصحب فيما نحن فيه هو : مطلق الاتصال من غير نظر إلى تقوّمه في السابق بالاجزاء السابقة ، كما يكون المستصحب في الماء المسبوق بالكرية هو : مطلق الكرية من غير نظر إلى تقوّمها في السابق بالماء السابق .

ويمكن تقرير الاستصحاب بادعاء : ان الاتصال الثابت في السابق والباقي فلا اللاحق هو : شيء واحد في نظر العرف ، كما ان الكرية الثابتة في الماء السابق والباقية في الماء اللاحق هي شيء واحد في نظر العرف ، فاذا شككنا في ان هذا

ص: 59

ويقال في بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع وعدمه هو لزومَ استيناف الأجزاء السابقة وعدمه ،

-------------------

الشيء الواحد أزيل أم لا ؟ استصحبنا بقائه .

لا يقال : استصحاب الكرية لا معنى له ، وذلك لان الماء الموجود سابقا وكان كرا قد انعدم قطعا ، والماء الموجود الآن يشك في كونه كرا ، فكيف يحكم باستصحاب كريته ؟ .

لأنه يقال : انا نستصحب الصفة دون الموصوف فنقول : ان الكر الكلي الذي كان موجودا في الحوض لا نعلم انه قد أزيل يأخذ بعض الماء منه أو لم يزل ، فنحكم لأجل الاستصحاب ببقائه ، فيكون البقاء حينئذ بالنسبة إلى الكر الكلي لابالنسبة إلى الماء حتى يرد عليه : ان الماء السابق قد انعدم قطعا ، والماء اللاحق لا يعلم كرّيته .

كما ويمكن تقرير المسامحة العرفية في الكر : بأن الموضوع أعني : هذا الماء منزّل بالمسامحة العرفية منزلة الماء السابق وكان في السابق كرا ، فنستصحب كريته ، وكذا نقول في تصحيح الاستصحاب فيما نحن فيه ، فان الموضوع : أعني : الاجزاء السابقة منزّل بالمسامحة العرفية منزلة المجموع وكان في السابق قابلاً ، فنستصحب قابليته .

( و ) عليه : فانه ( يقال في ) تصحيح استصحاب ( بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع ) للهيئة الاتصالية (وعدمه) أي : عدم القطع لها ( هو : لزوم استيناف الاجزاء السابقة وعدمه ) لان الزائد إذا قطع الهيئة الاتصالية وجب استيناف الاجزاء السابقة ، وإذا لم يقطعها لم يلزم

ص: 60

وكان الحكم بقابليّتها لالحاق الباقي بها في قوة الحكم بعدم وجوب استينافها ، خرج من الاُصول المثبتة التي ذكر في محلّه : عدمُ الاعتداد بها في الاثبات ، فافهم .

-------------------

الاستيناف ، فالمقصود من استصحاب قابلية الاتصال ليس هو أثرها المباشر أعني: عدم قاطعية الزيادة الذي هو أثر عقلي ، وإنّما عدم القاطعية واسطة لاثبات أثر شرعي وهو : عدم وجوب الاستيناف ، وحيث ان هذه الواسطة خفية بنظر العرف رتّب الحكم المزبور على الاستصحاب المذكور .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وكان الحكم بقابليّتها ) أي : قابلية الاجزاء السابقة ( لالحاق الباقي ) من الاجزاء ( بها ) أي : بالاجزاء السابقة كان بالمسامحة العرفية لخفاء الواسطة ( في قوة الحكم بعدم وجوب استينافها ) فانه لما كان كذلك ( خرج ) الاستصحاب ( من الاُصول المثبتة التي ذكر في محلّه : عدم الاعتداد بها في الاثبات ) وصار حجة ومعتدا به .

والحاصل : انا نستصحب قابلية الاتصال في الأجزاء السابقة إلى المجموع ، لأنّ كلا طرفي الزيادة من الاجزاء اللاحقة والاجزاء السابقة شيء واحد في نظر العرف ، أو نستصحب الاتصال الذي هو الصفة لا الموصوف ، كما نستصحب الكرية للماء لرؤية العرف رؤية مسامحية بان كلا المائين شيء واحد .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى انه لو قلنا بمثل هذه المسامحات العرفية ، لزم حجية غالب الاستصحابات المثبتة ، وهذا ما لا يقول به المحققون من الاُصوليين .

ثم لا يخفى : ان الكلام إلى هنا كان في الصورتين : الثانية والثالثة من صور الزيادة العمدية التي ذكرها المصنِّف بقوله : الثاني : ان يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، والثالث : ان يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد عليه ،

ص: 61

وقد يتمسّك لاثبات صحة العبادة عند الشك في طروّ المانع بقوله تعالى : « ولا تُبطلوا أعمالكُم »

-------------------

واستدل على الصحة فيهما بوجهين : أولهما : ما ذكره بقول : فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما وثانيهما : ما ذكره بقوله : واستصحاب الصحة بناءا على ان العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة .

هذا ، وحيث أتم المصنِّف الكلام في الوجهين السابقين؛ شرع في بيان وجه ثالث لصحة العبادة التي تخلّلتها الزيادة فقال :

( وقد يتمسك لاثبات صحة العبادة عند الشك في طروّ المانع ) فيها ، كتعمّد الزيادة فيما نحن فيه من الصورتين : الثانية والثالثة ، فيتمسك لصحتها ( بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » ) وبهذا بدأ المصنِّف بعد فراغه من تأسيس الأصل الاوّلي في الصحة والاشكال على ذلك الأصل ، بدأ في تأسيس الأصل الثانوي بسبب الآية الشريفة من سورة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث يقول سبحانه :« إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه وشاقّوا الرسول من بعد ما تبينَ لهم الهُدى لن يضرّوا اللّه شيئا وسيحبِط أعمالهم * يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) .

ولا يخفى : ان الشاهد في الجزء الأخير من الآية الثانية ، والمشهور بين الفقهاء هو التمسك بهذه الآية وان تأمل في الاستدلال بها المقدس الأردبيلي في محكي شرح الارشاد ، وكذا صاحب الحدائق فانه بعد نقل الاحتجاج بها قال : ان الآية لا تخلو من الاجمال المانع عن الاستدلال ، وتبعه الفاضل النراقي في عوائده

ص: 62


1- - سورة محمد : الآيات 32 - 33 .

فان حرمة الابطال : إيجابٌ للمُضي فيها ، وهو مستلزم لصحّتها ولو بالاجماع المركب ، أو عدم القول بالتفكيك بينهما

-------------------

حيث قال : ويمكن أن يكون وجه تأمل المحقق الاردبيلي ، وسبب الاجمال الذي ذكره صاحب الحدائق أحد الاُمور التالية :

الأوّل : التأمل في افادة النهي للحرمة .

الثاني : عدم بقاء الأعمال على عمومه قطعا ، لوجوب القطع في بعض الأحيان في الصلاة ، وجوازه مطلقا في بعض الأعمال كالوضوء والغسل والصوم المستحب ونحو ذلك .

الثالث : اعتبار الاجمال في الابطال .

هذا ، وسيأتي وجه الاجمال في كلام المصنِّف ، فانه قد استدل بهذه الآية على ان الشيء الزائد لا يوجب الابطال بتقريب أشار اليه بقوله :

( فان حرمة الابطال : إيجابٌ للمضي فيها ) أي في الصلاة ( وهو ) أي : ايجاب المضي في الصلاة ( مستلزم لصحّتها ) لانها لو لم تكن صحيحة لما وجب المضي فيها ، وهذا التلازم عرفي وثابت ( ولو بالاجماع المركب ، أو عدم القول بالتفكيك بينهما ) .

وعليه : فقد ذكر المصنِّف في كلامه الأخير وجوها ثلاثة للتلازم بين إيجاب المضي وصحة العمل ، وهي :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ولو ، فان في مفهومه ما يدل على ان ايجاب المضي يستلزم الصحة بالدلالة اللفظية وذلك للملازمة بينهما عرفا ، فان العرف يفهم من وجوب المضي : الصحة .

الثاني : ما ذكره بقوله : بالاجماع المركب ، فانه ان أنكرنا الاستلزام اللفظي

ص: 63

في غير الصوم والحجّ .

وقد استدلّ بهذه الآية غيرُ واحد تبعا للشيخ قدس سره .

وهو لا يخلو عن نظر يتوقف على بيان ما تحتمله الآية الشريفة من المعاني .

-------------------

قلنا بالتلازم بين ايجاب المضي وصحة العمل للاجماع المركب ، وذلك لأن الأصحاب بين من يقول بعدم وجوب المضي وفساد العمل ، وبين من يقول بوجوب المضي وصحة العمل ، فاذا قال أحد بوجوب المضي وفساد العمل ، كان احداثا لقول ثالث ، وهو كما ترى خرق للاجماع المركب .

الثالث : ما أشار اليه بقوله : أو عدم القول بالتفكيك بينهما ، بتقريب : ان الأصحاب لم يفرّقوا بين حكم المضي وحكم العمل ، فان وجب الأوّل صح الثاني، وان لم يصح الثاني لم يجب الأوّل ، فاذا قيل بوجوب المضي كما يظهر من الآية وفساد العمل ، كان تفكيكا بين الموضوعين وهو خلاف الاجماع .

وعلى أيّ حال : فالتلازم بين الأمرين ثابت ( في غير الصوم والحجّ ) وذلك لما دلّ من الدليل على وجوب المضي فيهما حتى إذا فسدا ، فان الصائم في شهر رمضان إذا أفسد صومه بالافطار لا يحق له الافساد ثانيا وثالثا ، بل يجب عليه المضي فيه إلى المغرب ، وكذلك الحاج إذا أفسد حجه بالجماع ونحوه ، فانه لايجوز له رفع اليد عن حجه ، بل يجب عليه المضي في الحج إلى الأخير وان وجبت عليه الكفارة في الصوم والحج ووجب قضائهما بعد ذلك .

هذا ( وقد استدلّ بهذه الآية غير واحد ) من الفقهاء ( تبعا للشيخ قدس سره وهو ) أي : الاستدلال المذكور بالآية ( لا يخلو عن نظر ) غير انه ( يتوقف ) توضيح ذلك النظر ( على بيان ما تحتمله الآية الشريفة من المعاني ) الثلاثة الآتية

ص: 64

فنقول : أنّ حقيقة الابطال بمقتضى وضع باب الأفعال ، إحداثُ البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلاً ، نظير قولك : أقمتُ زيدا ، أو أجلستُه ، أو أغنيتُه ، والآية بهذا المعنى راجعٌ إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتب عليه أثر كالمعدوم ، بعد أن لم يكن كذلك .

فالإبطال هنا نظير الابطال في قوله تعالى : « لا تبطلوا صدقاتِكم بالمنّ

-------------------

( فنقول ) : المعنى الأوّل : ( انّ حقيقة الابطال بمقتضى وضع باب الأفعال ) حيث يدل على احداث الفعل المجرد مثل : « أكرم » أي : احدث الكرم ، و «أفهم» أي : أحدث الفهم و « أعلمَ » أي : احدث العلم وهكذا ، غير ان ذلك فيما إذا لم يكن هناك قرينة خارجية، وإلاّ فالمعنى يكون بحسب القرينة الخارجية مثل : « أنجد » أي : دخل النجد إلى غير ذلك ممّا ذكروه في الصرف .

وعليه : فمقتضى الوضع هنا هو : ( إحداثُ البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلاً ) وذلك بابطاله بعد العمل بمثل العجب ، والكفر ، والشرك ، وما أشبه ذلك .

وعلى هذا المعنى يكون ما نحن فيه ( نظير قولك : أقمت زيدا ) بمعنى : أحدثت فيه القيام بعد ان لم يكن قائما ( أو أجلسته ) أي : احدثت فيه الجلوس بعد أن لم يكن جالسا ( أو أغنيته ) أي : أحدثت فيه الغنى بعد أن كان فقيرا .

( والآية بهذا المعنى راجعٌ إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتب عليه أثر ) في الدنيا ولا ثواب في الآخرة ، وذلك بان يجعله ( كالمعدوم ، بعد أن لم يكن كذلك ) أي : لم يكن معدوما ، والمراد من جعله كالمعدوم بعد أن كان موجودا هو: إذهاب فوائده وآثاره بسبب ارتكاب بعض الأعمال المبطلة للعمل بعد الاتيان به .

إذن : ( فالإبطال هنا نظير الابطال في قوله تعالى : « لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ

ص: 65

والأذى » ، بناءا على أنّ النهي عن تعقيبها بهما ، بشهادة قوله تعالى : « ثمّ لايُتبِعون ما أنفقوا منّا ولا أذى » ، الآية .

الثاني : أن يراد به ايجاد العمل على وجه باطل ، من قبيل قوله : « ضَيّق فَمَ الركيّة » ، يعني أحدِثه ضيّقا ، لا أحدِث فيه الضِيق بعد السَعة ،

-------------------

والأذى » (1) بناءا على أنّ النهي ) في « لا تبطلوا صدقاتكم » نهي ( عن تعقيبها ) أي : تعقيب الصدقات ( بهما ) أي : بالمنّ والأذى ، وذلك ( بشهادة قوله تعالى ) : « الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ( ثمّ لا يُتبِعون ما أنفقوا منّا ولا أذى » ) (2) إلى آخر ( الآية ) .

هذا كله بناءا على ان المراد من الابطال : أنّ يأتي الانسان بالعمل تاما ، ثم يأتي بعد ذلك بما يبطله من كفر أو شرك أو ما أشبه ذلك .

المعنى ( الثاني : أن يراد به ) أي : بالابطال في الآية المباركة : « ولا تبطلوا أعمالكم » (3) ( ايجاد العمل على وجه باطل ) بأن يكون فاقدا للشرط ، أو واجدا للمانع ، كأن يدخل في الصلاة بلا طهارة ، وفي الصيام بلا نية ، وما أشبه ذلك ، فيكون ( من قبيل قوله : « ضيّق فم الركيّة » ، يعني : أحدِثه ضيّقا ، لا أحدِث فيه الضيق بعد السَعة ) فان قوله : ضيّق فم الركيّة ، يحتمل المعنيين ، فربما تكون الركيّة وهي البئر، واسعة الفم فيريد تضييقها ، وربما يريد انشاء البئر فيقول له : ضيّق فمها أي : لا توسّعه ، بل انشئه ضيّقا .

ص: 66


1- - سورة البقرة : الآية 264 .
2- - سورة البقرة : الآية 262 .
3- - سورة محمد : الآية 33 .

والآية بهذا المعنى نهيٌ عن اتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة عن صحتها أو فاقدةً للاُمور المقتضية للصحة ، والنهيُ على هذين الوجهين ظاهرُه الارشاد ، إذ لا يترتب على إحداث البطلان في العمل ، أو ايجاده باطلاً، عدا فوتِ مصلحة العمل الصحيح .

-------------------

( والآية بهذا المعنى ، نهيٌ عن اتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة عن صحتها) كالصلاة في اللباس المغصوب ، أو في المكان المغصوب ، أو ما أشبه ذلك ( أو فاقدة للاُمور المقتضية للصحة ) كالصلاة بدون طهارة حدثية أو بدون طهارة خبثية .

هذا ( و ) لا يخفى : ان ( النهي على هذين الوجهين ) أي : الوجه الأوّل والوجه الثاني ( ظاهره الارشاد ) لا المولوية .

وإنّما كان ظاهرا في الارشاد ( إذ لا يترتب على إحداث البطلان في العمل ، أو ايجاده باطلاً ، عدا فوتِ مصلحة العمل الصحيح ) فاذا أتى بالعمل صحيحا كاملاً ثم أبطله بشرك أو كفر ، أو لم يوجده من أوله إلاّ باطلاً بسبب عدم الطهارة - مثلاً - لم يكن لذلك الاّ عقاب واحد وهو العقاب المترتب على عدم الاتيان بالعمل الصحيح .

وعليه : فيكون : « لا تبطلوا أعمالكم » (1) من قبيل « أطيعوا اللّه » (2) ارشاديا ، وقد تقدّم : ان الأوامر الارشادية لا يترتب على معصيتها إلاّ فوت مصلحة الواقع ، فيكون العقاب على ترك الواقع لا على مخالفة الأمر ، لانها من قبيل أوامر الطبيب .

هذا ، ومن المعلوم : ان المعنيين المذكورين أولاً وثانيا للآية لا ربط لهما

ص: 67


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - سورة محمد : الآية 33 .

الثالث : أن يراد من إبطال العمل قطعُه ورفعُ اليد عنه ، كقطع الصلاة والصوم والحجّ ، وقد اشتهر التمسّك بحرمة قطع العمل بها .

ويمكن ارجاع هذا إلى المعنى الأوّل ، بأن يراد من الأعمال ما يعمّ الجزء المتقدّم من العمل ،

-------------------

بما نحن فيه : من الزيادة في أثناء العبادة ، إذ الحكم بمانعية الزيادة وقطع العمل غير احداث البطلان في العمل المأتي به صحيحا بعد اتمام العمل ، كما انه غير ايجاد العمل من الأوّل باطلاً .

المعنى ( الثالث : أن يراد من ابطال العمل قطعُه ) في أثنائه ( ورفعُ اليد عنه ) بعد الدخول فيه ( كقطع الصلاة ) بعد ركعتين ( و ) قطع ( الصوم ) أثناء النهار ( والحجّ ) بعد الدخول في الاحرام ، وإذا كان النهي عن الابطال بهذا المعنى أمكن ان يكون ارشادا إلى حفظ العمل ، وأمكن أن يكون للتحريم .

هذا ( وقد اشتهر التمسّك لحرمة قطع العمل ) في أثناء العمل ( بها ) أي : بهذه الآية ( و ) لكن مع ذلك ( يمكن ارجاع هذا إلى المعنى الأوّل ، بان يراد من الأعمال ) في قوله سبحانه : « ولا تبطلوا أعمالكم » (1) جميع العمل فيكون ابطاله بعده بشرك ونحوه ، أو بعض العمل فيكون ابطاله في الاثناء بضحك ونحوه .

وعليه : فالمراد هنا بالاعمال كما قال : ( ما يعمّ الجزء المتقدّم من العمل ) لصدق أعمالكم عليه ، فان الانسان كما يمكنه ابطال عمله بعد اتمامه ، كذلك يمكنه ابطال عمله في الأثناء ، فاذا أحرم للصلاة وصلّى ركعتين - مثلاً - فهو عمل له ، فاذا أبطل الصلاة في الأثناء ، فقد أبطل الركعتين ، وعلى هذا فهناك في الآية

ص: 68


1- - سورة محمد : الآية 33 .

لأنّه أيضا عملٌ لغةً ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر وصيرورته جزءا فعليا للمركب ، فلا يجوز جعله باطلاً ساقطا عن قابليّة كونه جزءا فعليا ، فجعل هذا المعنى متغايرا للأول مبنيٌّ على كون المراد من العمل : مجموع المركب الذي وقع

-------------------

معنيان للابطال فقط :

الاول : المعنى الذي ذكره بقوله : الثاني وهو ان يراد به : ايجاد العمل على وجه باطل .

الثاني : المعنى الأوّل لكن الأعم من الذي ذكره بقوله : الثالث ، يشمل المعنى الأوّل وهو : ابطال العمل بعد تحققه كاملاً ويشمل المعنى الثالث وهو : ابطال العمل في أثنائه .

وإنّما يعم المعنى الأوّل المعنى الثالث ( لأنّه أيضا عمل لغةً ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر ) عليه ( وصيرورته جزءا فعليا للمركب ) فان الانسان إذا صلّى ركعتين ، كانتا قابلتين لترتب الأثر عليهما ، كما لو أن الركعتين صارتا جزءا فعليا للصلاة المركبة منهما ومن بقية الركعات ( فلا يجوز جعله باطلاً ساقطا عن قابليّة كونه جزءا فعليا ) للعبادة ، ومن المعلوم : ان اسقاطه إنّما يكون باتيان المبطل في الأثناء .

وعليه : فان كان المقصود من ابطال العمل مجموع العمل ، فللابطال ثلاثة معاني - كما مرّ - وان كان المقصود منه ما يعم مجموع العمل وبعض العمل فللابطال معنيان ، وهذا هو السرّ في تثليث الأقسام وتثنيتها كما قال :

( فجعل هذا المعنى ) أي : المعنى الثالث للابطال معنى مستقلاً وكذلك ( متغايرا للأول مبنيٌّ على كون المراد من العمل : مجموع المركب الذي وقع

ص: 69

الابطالُ في أثنائه .

وكيف كان : فالمعنى الأوّل أظهر ، لكونه المعنى الحقيقي ، ولموافقته لمعنى الابطال في الآية الاُخرى المتقدمة ،

-------------------

الابطالُ في أثنائه ) لا الأعم من مجموع المركب ومن بعض أجزاء المركب ، فانه على الأعم يكون للابطال معنيان .

هذا ، ومن المحتمل : ان يكون للآية المباركة معنى رابعا وهو : جميع المعاني الثلاثة على نحو العموم ، لأنّ كلها ابطال ، ولعل هذا أقرب ، والسياق لا يدل على التخصيص بعد أن كان العموم دليلاً على الآية السابقة ، فالآيتان من قبيل : لاتضرب زيدا ، فان اهانة المؤمن حرام .

( وكيف كان ) أي : سواء رجع المعنى الثالث إلى المعنى الأوّل ، أم كانا معنيين مستقلين ( فالمعنى الأوّل أظهر ) عند المصنِّف ، فلا ظهور للآية في خصوص المعنى الثاني بمعنى ايجاد العمل باطلاً ، ولا للمعنى الثالث بمعنى الابطال أثناء العمل .

وإنّما يكون المعنى الأوّل أظهر لوجوه تالية :

أولاً : ( لكونه ) أي : المعنى الأوّل هو ( المعنى الحقيقي ) للابطال حيث تقدّم : انه يدل على ذلك مقتضى وضع باب الافعال ، كما علم من نظائره مثل : أقمت زيدا ، أو أجلسته ، أو أغنيته ، أو ما أشبه ذلك .

ثانيا : ( ولموافقته لمعنى الابطال في الآية الاُخرى المتقدِّمة ) في حرمة ابطال الصدقات حيث قال سبحانه : « ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى » (1) فان الظاهر من هذه الآية : التصدّق ثم ابطاله بالمنّ أو الأذى .

ص: 70


1- - سورة محمد : الآية 33 .

ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : « ياأيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » ، فانّ تعقيب اطاعة اللّه واطاعة الرسول بالنهي عن الابطال يُناسب الاحباط ، لا إتيانَ العمل على الوجه الباطل ، لأنّها مخالفة للّه وللرسول .

-------------------

ثالثا : ( ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : « ياأيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) ) والتناسب بين الجمل نوع قرينة تهدي غالبا إلى المعنى المراد كما قال :

( فانّ تعقيب اطاعة اللّه واطاعة الرسول بالنهي عن الابطال يُناسب الاحباط ) الذي هو المعنى الأوّل ، وذلك لان مقتضى وقوع النهي عن الابطال عقيب الأمر بالاطاعة هو : ان يكون المعنى : اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول ، ولا تسبّبوا بطلان أعمالكم بالكفر ، والصد عن سبيل اللّه ، ومشاقة الرسول وغير ذلك مما ذكر في الآية السابقة سببا لحبط الأعمال .

لكن قد عرفت : ان هذه المؤيدات الثلاثة لا يمكنها ان تصرف الآية عن العموم، فابقائها على عمومها بما يشمل المقام من الزيادة العمدية في أثناء الصلاة هو الأوفق بالظاهر .

هذا ، غير انّ المصنِّف يرى ظهور الآية في المعنى الأوّل ( لا ) في المعنى الثاني الذي هو : ( إتيان العمل على الوجه الباطل ) فان الاتيان بالعبادة على وجه باطل ليس هو معنى الآية حتى يقال بحرمتها ، وإنّما يقال بحرمتها ( لأنّها مخالفة للّه وللرسول ) بينما لا مخالفة هنا بنظر المصنِّف لانه لا يرى في الآية نهيا عن ايجاد

ص: 71


1- - سورة محمّد : الآية 33 .

هذا كلّه مع ظهور الآية في حرمة إبطال الجميع ، فيناسب الاحباط بمثل الكفر ، لا ابطال شيء من الأعمال الذي هو المطلوب .

ويشهد لما ذكرنا - مضافا إلى ما ذكرنا - ما ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ، فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن قال : سُبحان اللّه ،

-------------------

العمل على الوجه الباطل حتى يقال بحرمة الشروع في العبادة بلا نيّة - مثلاً - أو الاعتكاف في غير المسجد ، أو الوضوء بالماء المضاف ، أو ما أشبه ذلك من صور ايجاد العمل باطلاً .

( هذا كلّه ) وجه عدم ارادة المعنى الثاني من الآية ، كما انه لا يراد من الآية المعنى الثالث لما ذكره بقوله : ( مع ظهور الآية في حرمة ابطال الجميع ) أي : ابطال مجموع العبادة بعد الاتيان بها كاملة ( فيناسب الاحباط ) الذي هو احداث البطلان في العمل ( بمثل الكفر ) والشرك ، ومشاقة الرسول ، وما أشبه ، وذلك يكون بعد العمل ( لا ابطال شيء ) أي : جزء ( من الأعمال ) في الأثناء ( الذي هو المطلوب ) في مقامنا حيث ان المطلوب في المقام وجود دليل يدل على بطلان العبادة بالزيادة في أثنائها .

( ويشهد لما ذكرنا ) : من ان الآية ظاهرة في المعنى الأوّل وهو : احداث البطلان في العمل التام بما يوجب احباطه ( مضافا إلى ما ذكرنا ) سابقا : من المؤيدات الثلاثة ( ما ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ) في رواياتنا :

( فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : مَن قال : سبحان اللّه ، غرس اللّه ُ لهُ بها شجرة في الجنة ، ومَن قال : الحمد للّه ،

ص: 72

غَرس اللّه ُ لهُ بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال : الحمدُ للّه ، غرس اللّه لهُ بها شجرةً في الجنّة ، ومَن قال : لا اله إلاّ اللّه ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، فقال رجل من قريش : إنّ شجرَنا في الجنّة لكثيرٌ ، قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : نعم ، ولكن إيّاكم أن تُرسِلوا إليها نارا فتُحرقوها ، إنّ اللّه عزّوجلّ يقول : « يا أيّها الذين آمنُوا أطيعوا اللّه َ وأطيعُوا الرّسولَ ولا تُبطلُوا أعمالَكُم » .

-------------------

غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، ومَن قال : لا اله إلاّ اللّه ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، ومَن قال اللّه أكبر ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، فقال له رجل من قريش : إنّ شجرَنا في الجنة لكثيرٌ ) يريد بذلك انه كثيرا ما يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه ، ف ( قال ) له صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( نعم ، ولكن إيّاكم ان تُرسِلوا إليها نارا فتُحرقوها ) والمراد من احراقها بالنار ارتكاب ما يبطل العمل بعد الاتيان به تاما .

وإنّما يكون المراد منه ذلك ، لان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم استدل بعدها بقوله : ( إنّ اللّه عزّوجلّ يقول : « ياأيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) ) (2) .

ولا يخفى : ان هذه الرواية لا تكون دليلاً على اختصاص الآية بالمعنى الأوّل ، لانه كثيرا ما يستدل الانسان بالعموم على الخصوص ، كما هو الحال في كثير

ص: 73


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - الأمالي للصدوق : ص486 ح14 ، وسائل الشيعة : ج7 ص186 ب31 ح9074 بالمعنى ، بحار الانوار : ج8 ص186 ب23 ح154 .

...

-------------------

من الآيات والروايات .

ثم ان هنا بحثا لا بأس بالتعرض له وهو : ان كلاً من الاُمور الحسنة وكذلك السيئة يمكن تغييرها إلى ضدّها كما يمكن تعقيبها بالضدّ بما يفسدها أو يصلحها، فانه يمكن جعل العنب خمرا ، والخمر خلاً - مثلاً - كما يمكن خلط الخل بالعسل حتى يفسد العسل ، أو ذرّ المسك على المكان المتعفّن حتى يطيب ريحه - مثلاً - .

هذا ، ولا يبعد استفادة كل هذه الاُمور الأربعة من الأخبار والآيات بالنسبة إلى أعمالنا الحسنة والسيئة أيضا .

أمّا في مجال التغيير إلى الضد الحسن ، فقد قال سبحانه : « فاُولئك يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات » (1) .

وأما ما يدل على عكسه : فكما ورد في حق الزوج الذي ينوي حين النكاح تضييع مهر زوجته : بانّه يكتب عند اللّه زان ، مع ان النكاح شيء حسن في نفسه .

وأما في مجال التعقيب بالضد السيءّ ، فقد قال سبحانه : « سيحبط أعمالهم » (2) وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم كما في الحديث المتقدِّم : « ان لم ترسلوا اليها نارا فتحرقوها » (3) ، وأمّا ما يدل على عكسه : فكما في حديث الجب (4) وغيره من الآيات والروايات الدالة على الغفران ، والبحث في ذلك طويل نكتفي منه بهذا المقدار .

ص: 74


1- - سورة الفرقان : الآية 70 .
2- - سورة محمد : الآية 32 .
3- - الأمالي للصدوق : ص486 ح14 ، بحار الانوار : ج8 ص186 ب31 ح9074 ، وسائل الشيعة : ج7 ص186 ب31 ح9074 .
4- - اشارة الى الحديث الوارد « الاسلام يجب ما قبله » ، انظر غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح154 .

هذا إن قلنا بالاحباط مطلقا أو بالنسبة إلى بعض المعاصي .

وإن لم نقل به وطرحنا الخبر ، لعدم اعتبار مثله في مثل المسألة ، كان المراد في الآية الابطالَ بالكفر ،

-------------------

وعلى كل حال : فان ( هذا ) المعنى الأوّل الذي ذكرناه للآية : من حمل الابطال على احداث البطلان في العمل بعد الاتيان به تاما ، إنّما هو ( إن قلنا بالاحباط مطلقا ) أي : بكل معصية ( أو بالنسبة إلى بعض المعاصي ) لا بكل معصية .

( و ) لكن ( إن لم نقل به ) أي : بالاحباط رأسا ، بل قلنا بالمجازات ( وطرحنا الخبر ) المتقدم المنقول عن الباقر عليه السلام في غرس الأشجار الدالّ على حبط الأعمال ، فنطرحه ( لعدم اعتبار مثله ) أي : مثل هذا الخبر الواحد ( في مثل المسألة ) الاعتقادية التي نحن فيها ، فانه ان لم نقل بالاحباط ( كان المراد في الآية ) من الاحباط حينئذ هو : ( الابطالَ بالكفر ) .

ولا يخفى : ان في مسألة الاحباط ، التي هي مسألة كلامية ثلاثة مذاهب وأقوال :

الأوّل : بطلان الاحباط مطلقا ، إلاّ في مقام قام الاجماع عليه ، مثل الاحباط بالشرك والكفر ، وهذا ما ذهب اليه المحققون من الامامية وغيرهم .

الثاني التفصيل بين ما قام على الاحباط دليل من كتاب أو سنة أو اجماع فصحيح وبين ما لم يقم عليه شيء من ذلك فباطل ، وهذا هو مختار العلامة المجلسي كما حكي عنه .

الثالث : صحة الاحباط مطلقا بمعنى : ان المكلّف يسقط ثواب عمله المتقدِّم بسبب معصيته المتأخرة ، وهذا ما ذهب اليه جماعة من المعتزلة ، وتفصيل

ص: 75

لأن الاحباط به اتفاقي ، وببالي أنّي وجدتُ أو سمعتُ ورود الرواية في تفسير الآية : « ولا تبطلوا أعمالكم » بالشرك .

هذا كلّه ، مع أنّ إرادة المعنى الثالث الذي يمكن الاستدلال به موجبٌ لتخصيص الأكثر ،

-------------------

هذه الموارد موكول إلى علم الكلام (1) .

وإنّما قلنا بأن المراد من الاحباط في الآية - ان لم نقل بالاحباط رأسا - هو الابطال بسبب الكفر ( لأنّ الاحباط به ) أي : بسبب الكفر ( اتفاقي ) بين الجميع (وببالي انّي وجدت أو سمعت ورود الرواية في تفسير الآية : « ولا تبطلوا أعمالكم » (2) بالشرك ) .

قال في الأوثق : عن العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار المنقولة باسناده قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : اختاروا الجنة على النار ، ولا تبطلوا أعمالكم فتقذفوا في النار منكبّين خالدين فيها أبدا » (3) قال : وظاهره كون بطلان الأعمال لأجل الشرك لانه السبب للخلود في النار وفسّره أبو علي أيضا بالنفاق والشك (4) .

( هذا كلّه ) في تقريب عدم دلالة الآية على المعنى الثالث ( مع إنّ إرادة المعنى الثالث الذي ) هو : ابطال العبادة وقطعها بسبب الزيادة في الأثناء مما ( يمكن الاستدلال به ) أي : الاستدلال بالمعنى الثالث لتحريم القطع لكنه مبتلى باشكال آخر وهو : انه ( موجبٌ لتخصيص الأكثر ) وتخصيص الأكثر مستهجن ، فيدل

ص: 76


1- - للتفصيل راجع الكتب الكلامية للشارح أمثال القول السديد في شرح التجديد وشرح منظومة السبزواري قسم الفلسفة ، وكتاب الفقه العقائد وما أشبه .
2- - سورة محمد : الآية 33 .
3- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص32 ح52 .
4- - أوثق الوسائل : ص383 دلالة الاخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة العمدية .

فانّ ما يحرمُ قطعهُ من الأعمال بالنسبة إلى ما لا يحرم في غاية القلّة .

فاذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ؛ فان كان المراد بالأعمال ما يعمّ بعض العمل المتقدم ، كان دليلاً - أيضا - على حرمة القطع في الأثناء .

إلاّ أنّه لا ينفع فيما نحن فيه ،

-------------------

على ان قوله : « لا تبطلوا أعمالكم » لا يراد به رفع اليد عن العبادة وقطعها للزيادة في الأثناء .

وإنّما يوجب تخصيص الأكثر لانه كما قال : ( فانّ ما يحرم قطعه من الأعمال ) خاص ببعض الواجبات كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والاعتكاف ، وما أشبه ، مما هي ( بالنسبة إلى ما لا يحرم ) قطعه كجميع المستحبات إلاّ ما ندر مثل الحج المستحب ، وكأغلب الواجبات مثل الوضوء والغسل والتيمم وغيرها ممّا لا يحرم قطعها في الأثناء ( في غاية القلّة ) .

وعليه : ( فاذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ) الذي هو احداث البطلان بعد تمام العمل ( فان كان المراد بالأعمال : ما يعمّ بعض العمل المتقدم ، كان دليلاً - أيضا - على حرمة القطع في الأثناء ) وذلك لما تقدّم : من ان المعنى الأوّل شامل للمعنى الثالث ، فكما انه لو كان الابطال بمعنى القطع كانت الآية دليلاً على حرمة القطع ، فكذلك لو كان بمعنى احداث البطلان بعد تمام العمل وقلنا بأنّ العمل أعم من التام والناقص كانت الآية دليلاً على حرمة القطع أيضا .

( إلاّ أنّه لا ينفع فيما نحن فيه ) لأنّ الآية على هذا المعنى وان كانت ظاهرة في حرمة القطع ، لكن في المقام إذا رفع المصلي يده عن الصلاة بعد الزيادة التي أتى بها في الأثناء لم يحرز كونه قطعا للصلاة ، لأن العمل يحتمل أن يكون قد انقطع بالزيادة ، فلا يحرز الموضوع الذي هو القطع بسبب رفع اليد عنه حتى يثبت

ص: 77

لأن المدّعى فيما نحن فيه هو انقطاعُ العمل بسبب الزيادة الواقعة فيه ، كانقطاعه بالحدث الواقع فيه لا عن اختيار . فرفع اليد عنه بعد ذلك لا يُعلم كونه قطعا له وإبطالاً ، ولا معنى لقطع المنقطع وابطال الباطل .

وممّا ذكرنا يظهر ضعفُ الاستدلال على الصحة فيما نحن فيه باستصحاب حرمة القطع ، لمنع كون رفع اليد - بعد وقوع الزيادة -

-------------------

له الحكم الذي هو الحرمة .

وإنّما لا ينفع في المقام ( لأن المدعى فيما نحن فيه هو : انقطاع العمل بسبب الزيادة الواقعة فيه ) أي : في أثناء العمل ( كانقطاعه بالحدث الواقع فيه ) وذلك انقطاعا ( لا عن اختيار ، فرفعُ اليد عنه ) أي : عن العمل ( بعد ذلك ) الذي أتى به من الزيادة ( لا يعلم كونه قطعا له ) أي : للعمل ( وابطالاً ، و ) ذلك لاحتمال كون العمل منقطعا ، فانه بعدها ( لا معنى لقطع المنقطع وابطال الباطل ) .

إذن : فلا دليل في الآية على وجوب المضي في هذا العمل الذي لا يعلم صدق القطع عليه برفع اليد عنه ، وإنّما يلزم ان نلتمس دليلاً آخر يدلّنا على انه هل يجوز رفع اليد عن مثل هذه الصلاة أو لا يجوز ؟ .

( وممّا ذكرنا ) في ضعف الوجه الثالث من الاستدلال بالآية على الصحة وحرمة قطع العبادة وذلك لعدم احراز صدق القطع برفع اليد عن العبادة بعد الاتيان بالزائد في الأثناء ( يظهر ضعف الاستدلال ) بوجه رابع ( على الصحة فيما نحن فيه ) أي : في العبادة التي توسّطت الزيادة فيها ، استدلالاً ( باستصحاب حرمة القطع ) إذ قبل الزيادة كان يحرم قطعها ، والآن حيث نشك بسبب الزيادة في حرمة القطع وعدم حرمته نستصحب حرمة القطع .

وإنّما ظهر ضعف هذا الاستدلال ( لمنع كون رفع اليد - بعد وقوع الزيادة -

ص: 78

قطعا لاحتمال حصول الانقطاع ، فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع حتى يُحكَم عليه بالحرمة .

وأضعفُ منه استصحاب وجوب اتمام العمل للشك في الزّمان اللاحق في القدرة على اتمامه ، وفي أنّ مجرد الحاق باقي الأجزاء اتمام له ، فلعلّ عدم الزيادة من الشروط ، والاتيان بما عداه من الأجزاء والشرائط ، تحصيلٌ لبعض الباقي لاتمامه حتى يصدق إتمام العمل .

-------------------

قطعا ) للعبادة ، فانا لا نعلم انه قطع يقينا ( لاحتمال حصول الانقطاع ) بسبب الزيادة ( فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع حتى يحكم عليه بالحرمة ) فكيف يحكم باستصحابها بها ؟.

( وأضعف منه ) أي : من الوجه الرابع الذي ذكرناه التقريب صحة الصلاة ووجوب المضي فيها : التمسك بوجه خامس وهو : ( استصحاب وجوب اتمام العمل ) فانه كان يجب اتمام العمل قبل هذه الزيادة ، وبعد الاتيان بالزيادة نشك في انه هل بقي هذا الوجوب أو لم يبق؟ فنستصحب الوجوب .

وإنّما قلنا بأن هذا الوجه أضعف مما كان قبله لما يلي :

أولاً : ( للشك في الزّمان اللاحق في القدرة على اتمامه ) لاحتمال انه قد انقطع فلا يكون الاتيان ببقية الأجزاء اتماما .

ثانيا ( و ) للشك ( في أنّ مجرد الحاق باقي الأجزاء اتمام له ) أي : للعمل ( فلعلّ عدم الزيادة من الشروط ، والاتيان بما عداه ) أي : بما عدا هذا الشرط ( من الأجزاء والشرائط ، تحصيلٌ لبعض الباقي ) أمّا البعض الآخر وهو : تحقق الشرط فقد فات بسبب الزيادة ، فلا يمكن حينئذ تحصيل تمام الباقي ، كما قال : ( لاتمامه حتى يصدق اتمام العمل ) وحيث لا يصدق عليه اتمام العمل لا يصح استصحاب

ص: 79

ألا ترى أنّه إذا شك بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ، لم يحكم على الحاق ما عداها إلى الأجزاء السابقة أنّه إتمام للعمل .

-------------------

وجوبه لعدم تمامية أركان الاستصحاب .

( ألا ترى أنّه إذا شك بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ) وذلك للخلاف في انه هل تجب السورة أم لا ؟ ( لم يحكم على الحاق ما عداها ) أي : ما عدا السورة ( إلى الاجزاء السابقة ) على السورة من الحمد والتكبير والنية ، لم يحكم عليه : ( أنّه إتمام للعمل ) وذلك لاحتمال ان السورة جزء العمل ومع عدمها يكون الحاق ما عداها تحصيل بعض العمل وليس اتماما للعمل .

وعليه : فاتمام العمل لا يكون موجبا لالحاق ما بعد السورة بما قبلها ، ولذا لايجب التمسك في صحة الصلاة بدون السورة المشكوكة باستصحاب حرمة القطع ، وباستصحاب وجوب الاتمام ، بل الذي ينفع في المقام هو أصالة البرائة عن السورة .

والحاصل : انه لا يمكن استصحاب حرمة القطع كما لا يمكن استصحاب وجوب الاتمام ، وذلك لاحتمال انه انقطاع وليس بقطع ، ولاحتمال انه استيناف وليس باتمام بعد وقوع هذه الزيادة .

قال في الأوثق : ثم ان الوجه في كون الاستصحاب الثاني أضعف من الأوّل : ان وجوب الاتمام ليس تكليفا مستقلاً مغايرا لحرمة القطع ، بل هو منتزع منها ، فلا يكون موردا للأصل وعلى تقديره فهو تابع له ، وعلى تقدير كونه موردا له بنفسه فقد عرفت ضعفه (1) .

ص: 80


1- - أوثق الوسائل : ص383 دلالة الاخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة العمدية .

وربّما يجابُ عن حرمة الابطال ووجوب الاتمام الثابتين بالأصل بأنّهما لا يدلاّن على صحة العمل ، فيجمع بينهما وبين أصالة الاشتغال بوجوب إتمام العمل ثم إعادته ،

-------------------

أقول : ان كان الشيء واجبا ، كان معناه : حرمة تركه ، وان كان حراما ، كان معناه: وجوب تركه ، فلا يكون أحدهما إذن تابعا للآخر لأنهما في عرض واحد ، وتفصيل الكلام فيه في محلّه .

( وربّما يجاب ) عن استصحاب حرمة القطع واستصحاب وجوب الاتمام بما قاله صاحب الرياض حيث أجاب ( عن حرمة الابطال ووجوب الاتمام الثابتين بالأصل ) أجاب : ( بأنّهما لا يدلاّن على صحة العمل ) وإنّما يدلاّن على حرمة القطع ، ووجوب الاتمام فقط .

وعليه : فالاستصحابان بنظر الرياض يجريان فيثبتان الوجوب والحرمة ، ولايثبتان صحة العمل وعدم وجوب الاعادة والقضاء ، وهذا خلاف ما تقدّم : من جواب المصنِّف عن الاستصحابين حيث قال : انهما لا يجريان أصلاً ، لعدم احراز صدق القطع ، وعدم احراز صدق الاتمام بعد الزيادة .

ثم على فرض جريان الاستصحابين لاثبات وجوب الاتمام ، وحرمة القطع - كما هو رأي الرياض - فانه يثبت وجوب اتمام الصلاة ، ويحرم قطعها ، أمّا صحة الصلاة وعدم صحتها ، ووجوب الاعادة والقضاء وعدم وجوبهما ، فيلزم مراجعة دليل آخر ، ولا دليل هنا - بنظر الرياض - سوى الاشتغال .

وعليه : ( فيجمع بينهما ) أي : بين الاستصحابين ( وبين أصالة الاشتغال ) فيحكم لذلك ( بوجوب اتمام العمل ) لأنّ الاتمام هو مقتضى الأصلين ( ثم اعادته ) لانه مقتضى العمل بالاشتغال .

ص: 81

للشك في أنّ التكليف هو إتمام هذا العمل ، أو عمل آخر مستأنف .

وفيه نظر : فانّ البرائة اليقينية تحصل بالاعادة من دون الاتمام .

-------------------

وإنّما نحكم بوجوب الاتمام ثم الاعادة ( للشك في انّ التكليف هو : اتمام هذا العمل ، أو عمل آخر مستأنف ) فيكون من العلم الاجمالي ، فيجب الجمع بين الأمرين : الاتمام ، والعمل المستأنف ، لانه المقتضى للعلم الاجمالي .

والحاصل : إنّ غاية ما يدل عليه الاستصحابان المذكوران هو : وجوب الاتمام وحرمة القطع ، دون الصحة وعدم وجوب الاعادة والقضاء ، فانه يرجع فيهما إلى الاشتغال ، فيجمع بين الاستصحابين وبين أصالة الاشتغال ، فيحكم بوجوب اتمام العمل تمسكا بالاستصحابين ، وبوجوب الاعادة تمسكا بقاعدة الاشتغال حيث يدور الأمر بين المتباينين : من وجوب الاتمام ووجوب عمل آخر مستأنف .

( وفيه نظر : ) وذلك لأن جواب الرياض لا يكون دليلاً على وجوب الجمع بين الأمرين ، لأنا إن بنينا على جريان استصحاب وجوب الاتمام ، فالبرائة يقينية تحصل بالاتمام من دون حاجة إلى الاعادة ، إذ وجوب الاتمام معناه : ايجاب امتثال الأمر بكليّ الصلاة في ضمن هذا الفرد ، وإذا تحقق الفرد كانت البرائة يقينية فلا مجال لأصالة الاشتغال ، لأنّه لا احتمال للضرر .

وإن بنينا على عدم جريان استصحاب وجوب الاتمام فمقتضى الاشتغال هو الاستيناف والاعادة ، فلا يجب الاتمام ، واحتمال وجوب الاتمام مدفوع بأصل البرائة ، إذ الشك في وجوب الاتمام وحرمة القطع على هذا يكون شكا في أصل التكليف ومرجعه البرائة ، لا شكا في المكلّف به حتى يلزم الاحتياط بالاتمام والاعادة معا .

وعليه : ( فإنّ البرائة اليقينية تحصل بالاعادة من دون الاتمام ) فلا حاجة إلى

ص: 82

واحتمال وجوبه وحرمة القطع مدفوع بالأصل ، لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي ، بل لا احتياط في الاتمام مراعاة لاحتمال وجوبه وحرمة القطع ، لأنّه موجبٌ لالغاء الاحتياط من جهة أُخرى ، وهي مراعاة نيّة الوجه التفصيلي في العبادة ،

-------------------

الاتمام لأنا نشك في وجوب الاتمام بعد الزيادة ( و ) مع الشك في وجوب الاتمام، ينتفي القطع بوجوبه ويبقى الاحتمال ، والاحتمال يدفع بالأصل كما قال :

وأما ( احتمال وجوبه ) أي : وجوب الاتمام ( وحرمة القطع ) فموجود وهو يستدعي الاتمام والإعادة ، غير ان هذا الاحتمال ( مدفوع بالأصل ، لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي ) والشبهة في أصل التكليف مجرى للبرائة .

( بل لا احتياط في الاتمام ) أي : في اتمام العمل ، وذلك ( مراعاة لاحتمال وجوبه ) أي : وجوب الاتمام ( و ) كذا مراعاة لاحتمال ( حرمة القطع ، لأنه ) أي : الاحتياط هنا ( موجب لالغاء الاحتياط من جهة أُخرى وهي : مراعاة نيّة الوجه التفصيلي في العبادة ) فيكون عندنا احتياطان متعارضان أحدهما أقوى من الآخر ، فيترك الأضعف للأقوى ، علما بأنّ الاحتياطين هما عبارة عمّا يلي :

الأوّل : الاحتياط بالاتمام .

الثاني : الاحتياط بقصد الوجه .

وعليهما : فاذا أتم الصلاة سقط الاحتياط الثاني لانه لم يتمكن من قصد الوجه عند الاعادة ، لاحتمال ان الذي أتمه كان هو الواجب ، بخلاف ما إذا ترك الصلاة التي زاد فيها ، فانه يتيقن بأنّ الواجب هي المعادة فينوي فيها الوجه ، فالاحتياط بالاتمام الغاء للاحتياط من جهة اُخرى ، فيكون الاحتياط في ترك الاحتياط .

ص: 83

فانه لو قطع العمل المشكوك فيه واستأنفه نوى الوجوب على وجه الجزم ، فان أتمّه ثم أعاد فاتت منه نية الوجوب فيما هو الواجب عليه .

ولا شك أنّ هذا الاحتياط على تقدير عدم وجوبه أولى من الاحتياط المتقدّم ، لأنّه كان الشك فيه في أصل التكليف ، وهذا شك في المكلّف به .

-------------------

وعليه : ( فانه لو قطع العمل المشكوك فيه ) بسبب الزيادة ( واستأنفه ، نوى الوجوب على وجه الجزم ) لانه يعلم ان هذه الصلاة هي الصلاة التي يريدها المولى منه ، بينما ليس كذلك لو أتمّ ثم أعاد كما قال : ( فان أتمّه ثم أعاد فاتت منه نية الوجوب فيما هو الواجب عليه ) لانه بعد اتمام العبادة المشكوكة يحتمل حصول الواجب الواقعي بتلك العبادة ، فاذا شرع في الثانية شرع فيها من دون جزم بوجوبها عليه ، فلا يتمكن حينئذ من نية الوجه فيها جزما .

إذن : فالاحتياطان متعارضان ( ولا شك ان هذا الاحتياط ) وهو : ابطال العمل الأوّل والاتيان بالثاني بنيّة الجزم فانه حتى ( على تقدير عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الجزم - كما هو كذلك - يكون ( أولى من الاحتياط المتقدّم ) وهو : اتمام العبادة المشكوكة ثم اعادتها .

وإنّما يكون ذلك أولى ( لأنّه كان الشك فيه ) أي : في الاحتياط المتقدّم بالاتمام شكا ( في أصل التكليف ، و ) ذلك للشك في انه هل كلّف بالاتمام أم لا؟ وإذا كان الشك في أصل التكليف كان محلاً للبرائة .

بينما ( هذا ) أي : الشك في وجوب الجزم بالنية ( شك في المكلّف به ) لانّ التكليف متيقن ، وإنّما يشك في ان المكلّف به ، هل هو العمل بدون نية الجزم أو معها؟ فاللازم ان يأتي به معها حتى يكون فارغا يقينا مما اشتغلت به ذمته ، ولايكون ذلك إلاّ بالاستيناف .

ص: 84

والحاصل : أنّ الفقيه إذا كان مترددا بين الاتمام والاستيناف ، فالأولى له الحكمُ بالقطع ، ثم الأمر بالاعادة بنيّة الوجوب .

-------------------

وعليه : فان الشك في اعتبار قصد الوجه شك في المكلّف به وهو مورد لقاعدة الاحتياط ، ومن المعلوم : كون هذا شكا في المكلّف به إنّما هو بحسب الظاهر ، وإلاّ فهو من الشك في التكليف لانه من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد تقدّم من المصنِّف : الرجوع الى البرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّ الشك فيهما راجع إلى الشك في أصل التكليف .

( والحاصل : إنّ الفقيه إذا كان مترددا بين الاتمام والاستيناف ) بان لم يعلم هل المقدّم هو الاحتياط بالاتمام والاعادة ، أو المقدّم هو الابطال والاستيناف حتى يجزم بالنية ؟ ( فالأولى له : الحكم بالقطع ) وبرفع اليد عن العمل ( ثم الأمر بالاعادة بنيّة الوجوب ) .

وإنّما كان الاُولى له ذلك لترجيح الاحتياط الذي فيه نية الوجه لانه بحسب الظاهر من الشك في المكلّف به ، على الاحتياط الذي فيه الاتمام والاعادة لانه من الشك في التكليف .

هذا ما يخص الفقيه ، أمّا المقلّد : فان التفت إلى هذه المسألة قبل الدخول في الصلاة ، فعليه ان يسأل حكمها من مرجعه وما يجب عليه من الاتمام أو الاستيناف ، وان كان في الصلاة وابتلى بهذه المسألة ، فعليه السؤال ان تمكن في وقتها ولو بالاشارة ، والعمل عليه .

وإلاّ بأن لم يمكنه شيء من ذلك ، فان حصل له ظن بأحد الطرفين : من الاتمام ، أو الابطال وجب عليه البناء على ما يظنه ، لأنّ الامتثال الظني مقدّم على الامتثال الوهمي مع البناء منه على السؤال بعد العمل ، وهذا نوع احتياط بالنسبة

ص: 85

ثم إنّ ما ذكرناه من حكم الزيادة وأنّ مقتضى أصل البرائة عدمُ مانعيّتها إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأولي ، وإلاّ فقد يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات البطلان ، كما في الصلاة ، حيث دلّت الأخبار المستفيضةُ على بطلان الفريضة بالزيادة فيها.

مثل قوله عليه السلام : « مَن زاد في صلاته فعليه الاعادة ».

وقوله عليه السلام : « وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبةِ فليستَقبل

-------------------

اليه ، وان لم يحصل له ظن بأحد الطرفين : من الاتمام أو الابطال ، فانه يتم الصلاة احتياطا، ثم يسأل عمّا يجب عليه، فان قال مرجعه بكفاية تلك الصلاة فهو ، وإلاّ أعادها.

( ثم إنّ ما ذكرناه : من حكم الزيادة وانّ مقتضى أصل البرائة : عدم مانعيّتها ) فيما إذا وقعت أثناء العبادة ( إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأولي ) مما تقتضيه القواعد مع غض النظر عن وجود دليل في المسألة يدل على ان التكليف هو البرائة أو غيرها .

( وإلاّ ) بأن كان هناك دليل ، فلابد من العمل بما يقتضيه الدليل ( فقد يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات ) العبادية ( البطلان ، كما في الصلاة ، حيث دلّت الأخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة فيها ) وكذلك الطواف إذا زاد فيه ، وقد لا يقتضي الدليل البطلان ، فلابد من ملاحظة الأدلة والحكم بالصحة أو البطلان بحسبها .

أمّا ما يقتضي البطلان فهو ( مثل قوله عليه السلام : « مَن زاد في صلاته فعليه الاعادة » (1) وقوله عليه السلام : « وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستَقبل

ص: 86


1- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

صلاتَه » .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما حكى عن تفسير العياشي في مَن أتمّ في السفر : « أنّه يُعيده ، قال عليه السلام : « لأنّه زاد في فرض اللّه عزّوجل» ،

-------------------

صلاته » (1) وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في ما حكى عن تفسير العياشي في مَن أتمّ في السفر : « أنّه يُعيده ) ، قال عليه السلام : ( لأنّه زاد في فرض اللّه عزّ وجل » (2) ) حيث أن الركعتين الاوليين فرض اللّه سبحانه وتعالى، والركعة الثالثة في المغرب والأخيرتين من الظهرين والعشاء سنّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم كما دلّت عليه الأخبار والأحاديث .

ولا يخفى : ان الجمع بين الأحاديث في باب فريضة اللّه وسنة النبي لعله يكون بما يلي: وهو: ان اللّه فرض علينا أولاً : خمسين صلاة ثم أرجعها بشفاعة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى خمس صلوات ذات ركعتين ، فكان مجموعها عشر ركعات ، فأضاف اليها النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم سبع ركعات فقررها اللّه سبحانه له ، فصارت سبع عشرة ركعة .

هذا ، ولا يخفى ما في ذلك من الحكمة : فان في فرضها أولاً خمسين صلاة ، اشارة إلى جهة الاقتضاء الأوّلي فيها ، وفي ارجاعها بشفاعة النبي إلى خمس صلوات ، اظهار لمنزلة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في الشفاعة وفي تقريره ما أضافه النبي من الركعات ، بيان لمكانة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في العصمة وانه لا ينطق عن الهوى ، والتفصيل في هذا موكول إلى محله ، وإنّما أردنا الالماع إلى ما ذكره المصنّف

ص: 87


1- - الكافي فروع : ج3 ص354 ح2 ، غوالي اللئالي : ج3 ص94 ح106 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10508 (بالمعنى) .
2- - الخصال : ص604 ح9 ، بحار الانوار : ج89 ص59 ب1 ح26 .

ودلّ بعموم التعليل على وجوب الاعادة بكلّ زيادة في فرض اللّه عزوجل .

وما ورد في النهي عن قرائة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله عليه السلام : « لأنّ السّجود زيادةٌ في المكتوبة » .

وما ورد في الطواف : « لأنّه مثلُ الصلاةِ المفروضةِ في أنّ الزيادةَ فيه مُبطلةً له » .

-------------------

من التعليل في قوله عليه السلام : لانه زاد في فرض اللّه عزّوجل .

( و ) عليه : فقد ( دلّ ) خبر العياشي ( بعموم التعليل ) في قوله : « لانّه زاد في فرض اللّه » ( على وجوب الاعادة بكلّ زيادة في فرض اللّه عزوجل ) فيشمل هذا الحديث كل زيادة في كل فرائض اللّه .

( و ) قد دل على وجوب الاعادة أيضا ( ما ورد في النهي عن قرائة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله عليه السلام : « لأنّ السجود زيادة في المكتوبة » (1) ) فانّه إن لم يسجد للتلاوة في الصلاة لزم تأخير السجود وهو محرّم ، وان سجد كانت سجدة التلاوة زيادة في المكتوبة وهو ليس بجائز ، وهذا الحديث بهذا التعليل يدل على ان كل زيادة في الفريضة موجب للاعادة . ( و ) كذا يدل على وجوب الاعادة (ما ورد في ) النهي عن زيادة ( الطواف ) الواجب في الحج بقوله عليه السلام : ( « لانّه مثل الصلاة المفروضة في أنّ الزيادة فيه ) أي: في الطواف ( مُبطلة له » (2) ) فيدل على ان الزيادة في الصلاة المفروضة مبطلة وموجبة للاعادة .

ص: 88


1- - الكافي (الفروع) : ج3 ص318 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص96 ب23 ح129 ، وسائل الشيعة : ج6 ص105 ب40 ح7460 .
2- - تهذيب الاحكام : ج5 ص151 ب1 ح23 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج13 ص366 ب34 ح17967 (بالمعنى) .

ولبيان معنى الزيادة ، وأنّ سجود العزيمة كيف يكون زيادة في المكتوبة مقامٌ آخر ، وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة ، إلاّ أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة أهم من ذكر مايناسب .

-------------------

هذا ( ولبيان معنى الزيادة ، وأنّ سجود العزيمة كيف يكون زيادة في المكتوبة ) مع انه يقصد الاتيان للعزيمة لا للصلاة؟ ( مقامٌ آخر ) فلا يهمّنا التعرّض له في المقام ( وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة ، إلاّ أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة ) حيث وضعناها لمباحث الشك في التكليف والمكلّف به ، يكون ( أهم من ذكر ما يناسب ) المقام .

ثم انه لا يبعد القول : بأنّ كل ما رآه المتشرعة زيادة في العبادة حسب تلقّيهم من الشرع تكون مبطلة لها ، سواء كان من سنخ المزيد عليه كالركوع والسجود وما أشبه ، أم لم يكن من سنخ المزيد عليه ، وسواء كان بقصد الجزئية أم لا بقصدها ، وسواء كان لعمل خارجي كسجود التلاوة أم لا ، كل ذلك لاطلاق الزيادة .

نعم ، يلزم ان لا يكون هناك دليل يدل على الصحة أو البطلان ، كالدليل الدال على ان كل ذكر وقرآن ودعاء في الصلاة فهو لا بأس به ، وكالدليل الدال على ان السكوت الطويل ماح لصورة الصلاة ، فان سكت طويلاً ولو عن قربة وذلك باعتبار ان الصمت من المستحبات الشرعية بطلت صلاته .

ص: 89

المسألة الثالثة :

في ذكر الزيادة سهوا التي تقدح عمدا وإلاّ فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح والكلام هنا كما في النقص نسيانا ، لأنّ مرجعه إلى الاخلال بالشرط

-------------------

( المسألة الثالثة : في ذكر الزيادة سهوا ) وقد تقدّم من المصنِّف ذكر الزيادة العمدية وذكر أحكامها المترتبة على أقسامها الثلاثة ، التي هي عبارة عن انه : قد يأتي بالزائد بقصد كونه جزءا مستقلاً ، وقد يأتي بالزائد بقصد كون الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، وقد يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد عليه امّا اقتراحا أو لايقاع الأوّل فاسدا .

هذا ، والآن حيث قد فرغ منها شرع في بيان قسم آخر من الزيادة وهي الزيادة السهوية ( التي تقدح ) ان صدرت ( عمدا ) فاذا كانت الزيادة عمدها قادحا ، فهل إذا وقعت سهوا تقدح أم لا ؟ .

( وإلاّ فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح ) فاذا أتى بقل هو اللّه أحد - مثلاً - في الركوع ، أو في حال التشهد ، أو ما أشبه ذلك ، فزيادة قل هو اللّه أحد عمدا لا تضر ، حيث ان القرآن في الصلاة غير ضار ، فاذا أتى بها سهوا فهي بعدم القدح أولى .

( والكلام هنا ) أي : في الزيادة سهوا يكون ( كما في النقص نسيانا ) فانه كما إذا نقص من المركب جزءا نسيانا بطل المركب لانه لم يأت بالمركب المطلوب ، كذلك يكون إذا زاد في المركب جزءا نسيانا فانه لم يأت بالمركب المطلوب .

وإنّما يكون الكلام في الزيادة كالكلام في النقص ( لأنّ مرجعه ) أي : مرجع الاتيان بالزيادة نسيانا ( إلى الاخلال بالشرط ) أي : شرط عدم الزيادة اخلالاً

ص: 90

نسيانا ، وقد عرفت أنّ حكمه البطلان ووجوب الاعادة .

فيثبت من جميع المسائل الثلاث أنّ الأصل في الجزء أن يكون نقصه مخلاً ومفسدا دون زيادته ، إلاّ ان يدلّ دليل

-------------------

( نسيانا ، وقد عرفت : ان حكمه ) أي : حكم الاخلال بالشرط سواء بالزيادة أو بالنقيصة هو ( البطلان ووجوب الاعادة ) .

والحاصل : ان كل زيادة أو نقيصة سهوية يوجب بطلان العبادة ، لانه لم يأت بالعبادة المطلوبة المحدودة بأجزاء خاصة ، وفي عدم الاتيان بها إمّا من جهة الزيادة ، وإمّا من جهة النقيصة .

وعليه : ( فيثبت من جميع المسائل الثلاث ) التي هي عبارة عن : نقيصة الجزء سهوا ، وزيادة الجزء عمدا ، وزيادة الجزء سهوا ( إنّ الأصل في الجزء ان يكون نقصه مخلاً ومفسدا ) سواء كان عمدا أم سهوا ، وذلك لانه لم يأت بالمركب المطلوب ، فيكون النقص عمدا مبطلاً ، لأن من لوازم وجوب الاتيان بالمركب انه إذا نقص منه جزءا كان باطلاً ، ويكون النقص سهوا مبطلاً ، لان الجزء حال النسيان جزء أيضا فنقصه مبطل أيضا ، فلا فرق إذن في النقص بين العمد والسهو .

( دون زيادته ) أي : زيادة الجزء عمدا وسهوا ، فانه لا يوجب البطلان إلاّ إذا كان عدم الزيادة شرطا ، وقد عرفت في المسألة الثانية من تنبيهات الجزء والشرط: ان عدم الزيادة إذا كان شرطا كان مرجع الزيادة إلى النقصان ، فيكون مبطلاً من جهة النقص لا من جهة الزيادة ، والكلام الآن فيما لا يكون عدم الزيادة شرطا ، فلا يكون الزائد مبطلاً ، لا عمدا لأنّ الأصل عدم كونه قاطعا ومبطلاً للصلاة ، ولا سهوا لأنّ العمد إذا لم يكن مبطلاً فالسهو لا يكون مبطلاً بطريق أولى .

إذن : فالزيادة إذا لم يشترط عدمها لم تكن مبطلة ( إلاّ ان يدلّ دليل )

ص: 91

على خلافه .

مثل قوله عليه السلام : « لا تُعاد الصلاة إلاّ مِن خمسةٍ » بناءا على شموله لمطلق الاخلال الشامل للزيادة .

وقوله عليه السلام في المرسلة : « تسجُد سجدتي السهو لكُلِّ زيادة ونقيصة

-------------------

من الخارج من كتاب أو سنة أو اجماع ( على خلافه ) أي : خلاف ما قلناه : من ان الأصل في الجزء ان يكون نقصه مخلاً دون زيادته ، فانه إذا دلّ دليل على ان النقص غير مخل بالعمل ، وعلى ان الزيادة مخلة به ، كان هذا الاخلال وعدم الاخلال بالأصل الثانوي ، وإلاّ فالنقص بالأصل الأوّلي مخلّ ومبطل ، كما ان الزيادة بالأصل الاوّلي ليست مخلة ولا مبطلة .

وأمّا ما دلَّ على خلاف الأصل الأوّلي زيادة ونقصا فهو : ( مثل قوله عليه السلام : لا تُعاد الصلاة إلاّ من خمسة ) (1) والخمسة عبارة عن : القبلة والطهور والوقت والركوع والسجود ( بناءا على شموله ) أي : شمول لا تعاد ( لمطلق الاخلال ) بالصلاة ( الشامل ) ذلك الاخلال ( للزيادة ) والنقيصة .

وعليه : فيكون معنى لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : انّ نقص شيء من هذه الخمسة وكذلك زيادتها مخلّ بالصلاة ، كما ان زيادة أو نقص غير هذه الخمسة لا يخل بالصلاة ، فاذا توفرت هذه الخمسة في الصلاة صحّت الصلاة سواء زاد فيها أم نقص منها ، وهو خلاف ما بنينا عليه من الأصل .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام في المرسلة : تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة

ص: 92


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .

تدخُل عليكَ » .

نعم ، لو دلّ دليل على قدح زيادته عمدا ، كان مقتضى القاعدة البطلانَ بها سهوا .

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : إنّ الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيته الركنيّة إنْ فُسِّرَ الركنُ بما يَبطُل الصلاة بنقصه .

وإن عُطِفَ على النقص الزيادة عمدا وسهوا ،

-------------------

تدخل عليك ) (1) فانه يدل على صحة الصلاة مع الزيادة والنقيصة غير انّه بحاجة إلى سجدتي السهو ليتلافى بهما ما زاد وما نقص من الصلاة ، وهذا أيضا خلاف ما قلناه من الأصل في الزيادة والنقيصة .

( نعم ، لو دلّ دليل على قدح زيادته عمدا ، كان مقتضى القاعدة : البطلان بها ) أي : بالزيادة ( سهوا ) أيضا ، لان حال العمد وحال السهو واحد إذا كان الدليل شاملاً لهما .

إذن : ( فتلخّص من جميع ما ذكرنا ) في قولنا : وينبغي التنبيه على اُمور متعلقة بالجزء والشرط بما فيها من المسائل الثلاث : ( ان الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيته : الركنيّة ان فسّر الركن بما يبطل الصلاة بنقصه ) سواء كان النقص عن عمد أم عن سهو، لأن الأصل يقتضي قدح النقص بالمركب المطلوب مطلقا، فيكون مبطلاً له .

هذا ( وان عطف على النقص الزيادة عمدا وسهوا ) بان قلنا : ان الركن هو

ص: 93


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، نزهة الناظر : ص40 ، الوافي : ج2 ص149 وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة عمدا وسهوا ، لكنّ التفصيل بينهما غير موجود في الصلاة ، إذ كلّ ما تبطل الصلاة بالاخلال به سهوا تبطلُ بزيادته عمدا وسهوا .

فأصالة البرائة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة معارضةٌ - بضميمة عدم القول بالفصل - باصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا .

-------------------

الذي يبطل الصلاة بنقصه عمدا وسهوا ، ويبطل أيضا بزيادته عمدا وسهوا فان فسّرنا الركن بذلك ( فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة عمدا وسهوا ) وذلك بأن يكون النقص قادحا عمدا وسهوا ، والزيادة غير قادحة لا عمدا ولا سهوا .

( لكنّ التفصيل بينهما ) أي : بين النقص والزيادة ( غير موجود في الصلاة ) فان مقتضى الأصل الأوّلي في طرف النقيصة وان كان هو الركنية ، وفي طرف الزيادة عدم الركنية ، إلاّ ان هذا التفصيل لم يقل به أحد في الصلاة ، فالاجماع المركب قائم على ان الزيادة والنقيصة في الصلاة بمنزلة واحدة ( إذ كلّ ما تبطل الصلاة بالاخلال به ) عمدا و ( سهوا تبطل بزيادته عمدا وسهوا ) .

إن قلت : ان أصل البرائة هنا حاكم بعدم البأس بالزيادة ، فيلزم التفصيل .

قلت : ( فأصالة البرائة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة ) على ما ذكرناه سابقا ( معارضة - بضميمة عدم القول بالفصل - بأصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا ) فان أصالة الاشتغال تقول بقدح النقص ، وإذا ضممنا إلى هذا الأصل عدم القول بالفصل كان ذلك مقتضى لقدح الزيادة أيضا ، مع ان أصالة

ص: 94

فان جوّزنا الفصل في الحكم الظاهري الذي تقتضيه الاُصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي ، فيعمل بكلّ واحد من الأصلين ،

-------------------

البرائة كما عرفت تقتضي عدم قدح الزيادة ، فيتعارض الأصلان : أصل البرائة وأصل الاشتغال معا في الزيادة .

وعليه : ( فان جوّزنا الفصل في الحكم الظاهري الذي تقتضيه الاُصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي ، فيعمل بكلّ واحد من الأصلين ) في مورده بلا محذور ، ولذلك ذهب جماعة من الفقهاء والاُصوليين إلى جواز الفصل في الحكم الظاهري .

وإنّما ذهبوا إلى ذلك لانهم قالوا : ان الدليل إنّما دل على عدم جواز الفصل في الحكم الواقعي ، لا في الحكم الظاهري وما نحن فيه من الحكم الظاهري ، فيجوز فيه الفصل بين الأصلين ، لانه على تقدير جواز الفصل لا تعارض ولا تنافي بينهما.

ولا يخفى : انه قد ورد كثيرا في الشريعة : الفصل بين المتلازمين في الحكم الظاهري مع ان الحكم الواقعي يقتضي وحدة الحكم ، مثل : اعطاء ربع الوصية ونصفها وثلثها بسبب شهادة امرأة أو اثنتين أو ثلاث ، مع ان الوصية ان كانت ثابتة لزم تنفيذ جميعها ، وإلاّ فلا تنفيذ لها أصلاً .

ومثل اعطاء الجَمل منصّفا لنفرين حيث ادعى كل واحد منهما كله ، فقسّمه أمير المؤمنين عليه السلام بينهما نصفين مع ان الجمل إمّا كله لهذا أو كله لذاك .

ومثل إعطاء ثلاثة أرباع الارث للخنثى ، مع انه إمّا ذكر وإمّا أنثى ، فيجب ان يكون إمّا الكل وإمّا النصف .

ومثل أخذ المال من السارق دون القطع إذا اعترف مرة ، مع انه ان كان سارقا لزم الحكمان ، وان لم يكن سارقا سقط الحكمان ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

ص: 95

وإلاّ فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البرائة ، كما لا يخفى .

هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الاُصول ، وأمّا بملاحظتها فمقتضى : « لاتُعاد الصلاةُ إلاّ من خمسة » والمرسلة المذكورة ،

-------------------

ومن هنا قال الفقهاء بمثل هذا التفكيك في الاُصول أيضا .

( وإلاّ ) بأن لم نجوّز الفصل بين الأصلين في الحكم الظاهري ، لانه مخالفة عملية للحكم الواقعي ولو اجمالاً وهو لا يجوز ( فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البرائة ) وذلك لأنّ دفع المخالفة العملية الاجمالية إنّما يكون باتحاد حكم الزيادة والنقيصة ، ويتم بالقول بالبرائة فيهما معا ، أو الاشتغال فيهما معا ، وحيث لا تجري البرائة فيهما معا حسب الفرض جرى الاشتغال فيهما معا ، لاستقلال العقل بذلك دفعا للمخالفة العملية الاجمالية .

وعليه : فيكون المحكّم فيهما معا هو الاشتغال ( كما لا يخفى ) فيحكم ببطلان الصلاة بالزيادة عمدا وسهوا .

( هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الاُصول ) الاوّلية ( وامّا بملاحظتها ) أي : بملاحظة القواعد الحاكمة ( فمقتضى « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » (1) والمرسلة (2) المذكورة ) الحاكمة بسجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة

ص: 96


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، الوافي : ج2 ص149 ، نزهة الناظر : ص40 وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

عدم قدح النقص سهوا ، أو الزيادة سهوا ، ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة قدحُ الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارضُ العموم من وجه في الزيادة السهوية بناءا على اختصاص « لاتُعاد » بالسهو .

والظاهر حكومة قوله « لاتعاد » ، على أخبار الزيادة ،

-------------------

هو : ( عدم قدح النقص سهوا ، أو الزيادة سهوا ) .

هذا ( ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة ) الحاكمة بالاعادة كقوله عليه السلام لمن زاد في صلاته فعليه الاعادة (1) هو : ( قدح الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارض العموم من وجه في الزيادة السهوية ) لان أخبار لا تعاد تشمل النقص والزيادة ، وأخبار من زاد في صلاته تشمل الزيادة عمدا وسهوا ، فيكون التعارض في الزيادة سهوا ، لانّ خبر لا تعاد يقول بعدم الاعادة ، وخبر من زاد يقول بالاعادة .

وإنّما يكون التعارض في الزيادة سهوا فقط لانه ( بناءا على اختصاص « لا تعاد » بالسهو ) وعدم عمومه للعمد وان كان يحتمل عمومه للعمد أيضا ، لان اطلاقه يشمل العمد والسهو ، زيادة ونقيصة .

هذا ( والظاهر : حكومة قوله ) عليه السلام : ( لا تعاد (2) ، على اخبار الزيادة (3) ) لأنّ

ص: 97


1- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

لأنها كأدلة سائر مايخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم ، وترك الفاتحة .

وقوله : «لاتعاد» يفيد أنّ الاخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الاخلال به إذا وقع سهوا لا يوجب الاعادة ،

-------------------

مقتضى اطلاق لا تعاد : عدم البطلان في هذه الصورة ، ومقتضى اطلاق الاعادة للزيادة : بطلان هذه الصورة ، فيتعارضان فيها ، غير ان هذا التعارض صوري بدائي لحكومة لا تعاد على اخبار البطلان .

وإنّما يكون هذا التعارض صوريا لأنّ الظاهر من أخبار « لا تعاد » كونها بيانا ومفسرا للاخبار الأوّلية ، فهي كقاعدة الضرر والحرج والعسر وما أشبه ذلك ، والظاهر من أخبار الزيادة انها في مقام الجعل والتأسيس فهي كسائر أدلة الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع .

وعليه : فحديث « لا تعاد » يدل على ان الاخلال الذي دل الدليل على عدم جوازه إذا وقع سهوا ، فهو لا يوجب الاعادة وان كان من حقه ايجاب الاعادة لولا حديث لا تعاد ، فتخرج الزيادة السهوية بذلك عن عموم اخبار الزيادة الدالة على البطلان إلى اخبار لا تعاد .

إذن : فاخبار « لا تعاد » حاكمة على اخبار الزيادة وذلك ( لانها ) أي : اخبار الزيادة ( كأدلة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ) وترك ذكر الركوع والسجود وما أشبه ذلك ( وقوله : « لا تعاد » يفيد : انّ الاخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الاخلال به إذا وقع سهوا لا يوجب الاعادة ) .

هذا ، والجمع بين الدليلين : حديث لا تعاد ، واخبار الزيادة ، يقتضي : اعطاء

ص: 98

وإن كان من حقه أن يوجبها .

والحاصل : أنّ هذه الصحيحة مسوقة لبيان عدم قدح الاخلال سهوا بما ثبت قدح الاخلال به في الجملة .

ثمّ لو دلّ دليل على قدح الاخلال بشيء سهوا ، كان أخصّ من الصحيحة

-------------------

الزيادة السهوية لحديث لا تعاد ، لا لأخبار الزيادة التي توجب البطلان ( وان كان من حقه ان يوجبها ) أي : من حق الاخلال أن يوجب الاعادة لولا خبر لا تعاد .

( والحاصل ) من بيان حكومة حديث « لا تعاد » على اخبار الزيادة في الزيادة السهوية : ( انّ هذه الصحيحة ) وهي صحيحة لا تعاد (1) ( مسوقة لبيان عدم قدح الاخلال سهوا بما ) أي : بشرط أو جزء ( ثبت قدح الاخلال به في الجملة ) فانه لو لم يكن حديث لا تعاد لكانت الزيادة في الجملة قادحة ، فجاء حديث لا تعاد وأخرج الزيادة السهوية عن القدح ، وبذلك أصبح حديث لا يعاد محكما في الزيادة السهوية .

وعليه : فقد تبيّن من كل ما قاله المصنِّف إلى هنا : ان الزيادة عمدا مبطلة ، وذلك لاخبار الزيادة ، والزيادة سهوا ليست مبطلة لاخبار لا تعاد ، والآن شرع في بيان ان الزيادة السهوية قد تكون مبطلة أيضا للدليل ، فما يكون نسبتها من حديث لا تعاد ؟ فبيّنها بقول :

( ثم لو دلّ دليل على قدح الاخلال بشيء سهوا ) أيضا ، كدلالة الدليل على ان الاخلال بتكبيرة الاحرام سهوا مبطل ( كان أخصّ من الصحيحة ) أي :

ص: 99


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 ج5 ص471 ب1 ح7090 .

إن اختصّت بالنسيان ، وعمّمت بالزيادة والنقصان .

والظاهر أنّ بعض أدلة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله : « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته » .

-------------------

من صحيحة لا تعاد ، وذلك ( ان اختصّت ) تلك الرواية الدالة على قدح الاخلال بشيء سهوا ( بالنسيان ، وعمّمت ) الصحيحة ( بالزيادة والنقصان ) معا ، بان قلنا : ان الصحيحة تشمل الزيادة والنقصان ، وذلك الدليل مختص بصورة النسيان ، فيكون ذلك الدليل أخص من الصحيحة .

ولا يخفى إنّ قول المصنِّف قبل قليل : ثم لو دل دليل ، كبرى كلية ، وقوله الآن : ( والظاهر ) صغرى لتلك الكبرى الكلية ، وهي : ( انّ بعض أدلة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله ) عليه السلام : ( «إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته » (1) ) فان ظاهر استيقن : حصوله بعد النسيان .

وعليه : فيكون هذا الحديث أخص من الصحيحة ، كما ان الصحيحة كانت أخص من أخبار الزيادة ، فالجمع بين الأدلة الثلاثة يكون هكذا : كلما زاد بطل إلاّ إذا كانت الزيادة سهوية ، وكلما زاد سهوا لم يكن مبطلاً إلاّ إذا كان في تكبيرة الاحرام - مثلاً - .

هذا ، ومن المعلوم : إنّ الزيادة السهوية في تكبيرة الاحرام إذا خرجت من تحت لا تعاد ، دخلت تحت كلي كلما زاد أعاد ، فيدل الدليل الأوّل من اخبار الزيادة وهو قوله عليه السلام : «من زاد في صلاته فعليه الاعادة » (2) على بطلان الصلاة

ص: 100


1- - الكافي فروع : ج3 ص354 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10508 ، غوالي اللئالي: ج3 ص94 ح106 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

الأمر الثاني :

إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيته وشرطيّته المطلقتين ، حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ أو المشروط

-------------------

بزيادة تكبيرة الاحرام سهوا ، والكلام في المقام طويل جدا مذكور في الفقه اكتفينا هنا بالشرح فقط لتوضيح العبارة .

( الأمر الثاني ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها هو : انه إذا تعذر بعض ما له دخل في المأمور به وجودا : كالجزء والشرط ، بأن اضطر - مثلاً - إلى ترك السورة ، أو ترك الاستقبال وعدما : كالمانع والقاطع ، بأن اضطر - مثلاً - إلى الغصب أو الضحك ، ففي سقوط التكليف بأن لا يكلّف بالصلاة أصلاً ، وعدم سقوطه بان يكلف بالصلاة مع فقد الجزء أو الشرط أو مع وجود المانع أو القاطع ، قولان بين الفقهاء ، مبنيّان على ثبوت ذلك الجزء والشرط ، أو عدم المانع والقاطع حتى في حال التعذر ، أو اختصاصها بحال التمكن فقط .

إذن : فانّه ( إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيته في الجملة ) بان لم يكن الدليل دالاً على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، لأنه إذا دل الدليل على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، فمن المعلوم : انه مع التعذر يسقط التكليف رأسا ، ومن الواضح: ان الكلام ليس في هذا ، وإنّما فيما إذا ثبت في الجملة ، كما أشار اليه المصنِّف آنفا.

وعليه : ( فهل يقتضي الأصل ) الأوّلي ( جزئيته وشرطيّته المطلقتين ) أي : الشامل لحال التمكن والتعذر ، فمع التعذر لا يجب الاتيان بالباقي كما قال : ( حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ ) رأسا من حيث تعذّر الأجزاء ( أو ) سقط (المشروط ) رأسا من حيث تعذّر الشروط .

ص: 101

أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف ؟ وجهان ، بل قولان :

للأوّل : أصالة البرائة من الفاقد وعدم ما يصلح لاثبات التكليف به ، كما سنبيّن .

ولايعارضها استصحابُ وجوب الباقي ، لأنّ وجوبه كان مقدمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه ، وثبوت الوجوب النفسي له مفروض الانتفاء .

-------------------

( أو ) يقتضي الأصل الأولي ( اختصاص اعتبارهما ) أي : الشرط والجزء ( بحال التمكّن ) فقط ، ومع التعذر يجب الاتيان بالعبادة الفاقدة للجزء والشرط أو الواجدة للمانع والقاطع ، كما قال : ( فلو تعذر لم يسقط التكليف ) بالباقي؟ فيه ( وجهان ، بل قولان ) :

استدل ( للأوّل ) وهو سقوط التكليف رأسا ، بدليل : ( اصالة البرائة من الفاقد ) لوضوح : انه إذا شك في وجوب الفاقد ، كان شكا في أصل التكليف والشك في أصل التكليف مجرى للبرائة ( و ) من المعلوم : ان المفروض هنا هو : ( عدم ) وجود ( ما يصلح لاثبات التكليف به ) أي : بالفاقد حتى يمنع من جريان البرائة فيه .

( كما سنبيّن ) بعد قليل تلك الاُمور التي تقتضي وجوب الباقي وان فقدت الأجزاء والشرائط أو وجدت الموانع والقواطع .

هذا ( ولا يعارضها ) أي : البرائة ( استصحاب وجوب الباقي ) بعد تعذّر الشرط والجزء ، أو وجود المانع والقاطع ( لانّ وجوبه ) أي : وجوب الباقي الفاقد للشرط والجزء ، أو الواجد للمانع والقاطع ( كان مقدمة لوجوب الكلّ فينتفي بانتفائه ) فلا وجوب مقدمي للباقي ( و ) أما ( ثبوت الوجوب النفسي له ) أي : للباقي فهو ( مفروض الانتفاء ) لانا لا نعلم بالوجوب النفسي للباقي .

ص: 102

نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة - مثلاً - وقلنا بكونها اسما للأعم كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه من قبيل التقييد ، فاذا لم يكن للمقيّد إطلاق

-------------------

والحاصل : ان الوجوب المقدمي الثابت للباقي حال التمكن من الكل قد ارتفع قطعا ، إذ لا وجوب مقدمي بعد تعذر بعض الأجزاء والشرائط أو بعد وجود بعض الموانع والقواطع ، والوجوب النفسي لم يكن ثابتا للباقي حال التمكن من الأجزاء والشرائط ، وحال التمكن من الفاقد للموانع والقواطع ، بل الوجوب النفسي كان للكل وقد ارتفع بالتعذر ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب ، لانه إمّا لا يقين في السابق وإمّا لا شك في اللاحق .

هذا ، وحيث بيّن المصنِّف اصالة عدم الوجوب لفاقد الشرط والجزء ، أو لواجد المانع والقاطع استثنى من عدم الوجوب صورة اطلاق دليل الوجوب مما يشمل فاقد الجزء والشرط ، أو واجد المانع والقاطع ، فقال :

( نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة - مثلاً - ) كما في قوله : « أقيموا الصلاة » (1) ( وقلنا بكونها اسما للأعم ) من واجد الأجزاء والشرائط وفاقدهما ( كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه ) بأن لم تكن الأجزاء مقوّمة للاسم ( من قبيل التقييد ) لاطلاق الصلاة ، ومعلوم : ان دليل هذا القيد قد يكون له اطلاق بحيث إذا تعذّر يسقط المقيّد رأسا فلا وجوب للباقي ، وقد لا يكون كذلك بحيث إذا تعذر لم يسقط المقيد رأسا ، فيبقى وجوب الباقي كما قال : ( فاذا لم يكن للمقيّد اطلاق

ص: 103


1- - سورة البقرة : الآيات 43 و 83 و 110 ، سورة النساء : الآية 77 ، سورة الانعام : 72 ، سورة يونس : 87 .

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه ، كان القدرُ المتيقنُ منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر .

أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة بالنسبة اليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط .

نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط ، كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما انتفاء الأمر ولا أمر

-------------------

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة ) أي : لا على جزئيته مطلقا عند القدرة وعدم القدرة ( أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه ) فقط ، كما إذا قال المولى - مثلاً - : صلّ ، وقلنا : بأن الصلاة اسم للأعم من الصحيحة والفاسدة ثم قام الاجماع وهو دليل لبي على اشتراط الصلاة بالقرائة ، فاذا كان كذلك ( كان القدر المتيقن منه ) أي : من دليل القيد ( ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر ) على القرائة فقط .

( أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة ) الشاملة للواجدة والفاقدة ( بالنسبة اليه) أي : إلى العاجز ، وإذا بقي الاطلاق ( سليما عن المقيّد ) والمقيّد بصيغة اسم الفاعل أي : ما يقيّد الصلاة بهذا الجزء المتعذّر ، فانه يكفيه الصلاة بلا قرائة مثلاً .

( ومثل ذلك الكلام ) الذي ذكرناه في الجزء موجود ( في الشروط ) أيضا ، لان الشرط والجزء كلاهما في الملاك واحد .

( نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط ) أي : ثبت الجزء والشرط بعين دليل المركب ( كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما ) أي : الجزء والشرط ( انتفاء الأمر ) بالكل ، أو بالمشروط رأسا ( ولا أمر

ص: 104

آخر بالعاري عن المفقود ، وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة ، فان كلاً منها أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة ،

-------------------

آخر ) غير الأمر بالكل أو بالمشروط يأمرنا ( بالعاري عن ) الجزء أو الشرط ( المفقود ) حتى يجب الباقي ، فيسقط التكليف رأسا .

وعليه : فاذا ثبت الجزء أو الشرط بدليل المركب نفسه كما لو قال : صلّ قائما ، أو صلّ متطهرا ، فان الصلاة وان وضعت للأعم على قول الأعمي ، فلم تقيّد الصلاة وضعا بالطهارة ولا بالقيام ، إلاّ ان الصلاة قيّدت بهذه القيود حين الأمر بها ، فاذا انتفى القيد انتفى المقيّد رأسا .

وهكذا الحال فيما إذا قلنا بأن أسامي العبادات وضعت للصحيح ، فان التقييد بجميع الشروط والأجزاء يكون دفعة واحدة ، فاذا لم يكن جزء أو شرط لم يصدق على الفاقد الصلاة ، لفرض كون الصلاة موضوعة للصحيح ، والفاقدة ليست بصحيحة .

( وكذلك ) يلزم من انتفاء الجزء والشرط انتفاء الأمر رأسا ( لو ثبت اجزاء المركب من أوامر متعددة ) بأن كان المركب ثابتا بعين دليل الأجزاء ( فان كلاً منها) أي : من تلك الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط ( أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة ) .

مثلاً : إذا كان هناك عشرة أوامر بالنية ، والتكبيرة ، والقيام ، والركوع ، والسجود ، وغير ذلك ، من دون أمر بالصلاة وانتزع من المجموع أمرا واحدا بالمركب منها ، فانه إذا انتفى بعض الأجزاء أو الشرائط لتعذر أو تعسر ، انتفى الأمر المنتزع منها ، فاذا شككنا في وجود الأوامر الغيرية بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط الباقية جرى

ص: 105

فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا .

ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين ، أعني المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء بالنسبة إلى القادر .

لأنّ المطلق ، كما بيّن في موضعه ، موضوع للماهية المهملة الصادقة

-------------------

فيها البرائة .

وعلى هذا ( فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي ) بعد تعذّر بعض الاجزاء والشرائط ( في الفرض الأوّل كما ذكرنا ) وهو ما ذكره المصنِّف بقوله : نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة مثلاً وقلنا بكونها اسما للأعم .

وإنّما قال في الفرض الأوّل ليكون في مقابل الفرضين الأخيرين الذين أشار إلى أولهما بقوله : نعم لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل ، وإلى ثانيهما بقوله : وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة فان فيهما يسقط التكليف رأسا .

لا يقال : على الفرض الأوّل يستلزم استعمال الصلاة في معنيين المعنى التام للأجزاء والشرائط للقادر ، والمعنى الناقص من الأجزاء والشرائط للعاجز ، واستعمال اللفظ في معنيين غير جائز عقلاً كما يقوله الآخوند ، أو ظهورا حيث لم تكن قرينة كما يقوله آخرون .

لأنّه يقال : ( ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين أعني : المجرّد عن ذلك الجزء ) أو الشرط ( بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء ) أو الشرط ( بالنسبة إلى القادر ) عليهما .

وإنّما لا يلزم ذلك ( لانّ المطلق كما بيّن في موضعه موضوع للماهية المهملة ) أي : للطبيعة بما هي طبيعة ، فالصلاة - مثلاً - وضعت لطبيعة الصلاة ( الصادقة

ص: 106

على المجرّد عن القيد والمقيّد ، كيف ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات مستعملاً كذلك .

فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر والصحة والمرض ، وغير ذلك ، وكذا غير الصلاة من الواجبات .

-------------------

على المجرد عن القيد ، والمقيّد ) بالقيد ، سواء كان القيد جزءا أم شرطا .

( كيف ولو كان كذلك ) أي : لو لزم من اطلاق الصلاة على التامة والناقصة ، استعمال اللفظ في معنيين ( كان كثير من المطلقات مستعملاً كذلك ) في معنيين أو أكثر ، لوضوح : ان افراد المطلق مختلفة من حيث الخصوصيات كما قال :

( فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين ) وقت الخطاب ( أو مطلقا ) ليعمّ الموجودين وغير الموجودين ( مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ، والصحة والمرض ، وغير ذلك ) كالمتمكن من القرائة وعدم المتمكن منها ، فان الصلاة لم تستعمل في هذه الخصوصيات حتى يقال : بأن الصلاة استعملت في معاني كثيرة ، بل الصلاة استعملت في القدر المشترك بينها وهي الطبيعة السارية في كل تلك الأفراد المختلفة .

( وكذا غير الصلاة من ) سائر ( الواجبات ) كالصوم والحج والاعتكاف والوضوء والغسل وغيرها ، فلكل من هذه الواجبات افراد متشتة مختلفة زيادة ونقيصة من حيث الكم والكيف ، ومع ذلك فان ألفاظ هذه العبادات لم تستعمل فيها باعتبارها معاني متعددة ، وإنّما استعملت في الطبيعة السارية في جميعها ، كالانسان المستعمل في طبيعة الانسان السارية في زيد وعمرو ، وبكر وخالد ،

ص: 107

وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة ، بناءا على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب ، بمعنى لزوم الفعل، من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ،

-------------------

وان كان بعضهم عالما وبعضهم جاهلاً ، وبعضهم غنيا وبعضهم فقيرا ، وبعضهم كاملاً وبعضهم ناقصا ، إلى غير ذلك من الخصوصيات في الافراد .

هذا تمام الكلام في الاستدلال للقول الأوّل وهو : سقوط التكليف رأسا عند تعذر شرط أو جزء من الواجب المركّب .

( و ) استدل ( للقول الثاني : ) وهو : اختصاص اعتبار الاجزاء والشرائط بحال التمكن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف رأسا ، بل يبقى الباقي على وجوبه ، فانه يدل عليه ( استصحاب وجوب الباقي ) من الاجزاء والشرائط بعد فقد بعض الاجزاء والشرائط .

وإنّما يدل عليه الاستصحاب فيما ( إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة ) لا ما إذا بلغ وهو غير قادر إلاّ على بعض الاجزاء والشرائط ، أو أفاق من جنونه وحين افاقته لم يقدر إلاّ على البعض ، إذ في هذه الصورة لا يجري الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب في صورة مسبوقية المكلّف بالقدرة .

إن قلت : الوجوب كان في السابق نفسيا ، والآن الوجوب غيري ، والوجوب النفسي غير الوجوب الغيري ، فما كان متيقنا زال يقينا ، وما هو باق لم يكن سابقا .

قلت : إنّا نستصحب كلي الوجوب ، لان الوجوب النفسي والوجوب الغيري لهما جامع هو : كلي اللزوم ، فاذا شككنا في زوال هذا الكلي حتى لا يجب الباقي ، أو عدم زواله حتى يجب الباقي ، استصحبنا بقائه ، لتمامية أركان الاستصحاب ، فيجب الباقي ، وذلك كما قال : ( بناءا على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب بمعنى : لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ) أي : نستصحب

ص: 108

أو الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ، فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها .

-------------------

مطلق الوجوب مجردا عن الخصوصية النفسية أو الغيرية .

( أو ) نستصحب ( الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع ، الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ) فانه يمكن استصحاب الوجوب النفسي بعناية المسامحة العرفية في الموضوع ، وذلك ( بدعوى : صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ ، الموجود في ) السابق و ( اللاحق ولو مسامحة ) .

وإنّما يصدق الموضوع بالتسامح العرفي ، لان العرف يرى الوحدة بين هذه الصلاة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط ، وبين تلك الصلاة الواجدة لكل الأجزاء والشرائط مثل : زيد الناقص وزيد الكامل ، فهو من قبيل تبدّل الحالات لا تبدل الموضوعات .

والشاهد على ذلك ما ذكره بقوله : ( فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : انّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة، و ) الأصل الآن بقاء الصلاة على وجوبها ، مع انه ( لا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها ) أي : عن السورة ، مما يكشف ذلك : عن ان الموضوع عند العرف هو الأعم من الصلاة الواجدة للسورة والفاقدة لها .

ومن المعلوم : ان كلامهم هذا يدل على ان الموضوع عندهم في الحال هو الموضوع عندهم سابقا ، وفقد بعض الأجزاء أو فقد بعض الشرائط لا يؤثر

ص: 109

ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته ، فان الماء المعيّن الذي اُخِذَ بعضُه أو زيد عليه ، يقال إنّه كان كثيرا أو قليلاً ، والأصل بقاء ما كان ، مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ، وإلاّ لم يحتمل الشك فيه ، فليس الموضوع فيه إلاّ أعم من هذا الماء

-------------------

في صدق الاسم عندهم .

هذا ( ولو لم يكف هذا المقدار ) من التسامح العرفي ( في الاستصحاب ) وصحته ( لاختلّ جريانه ) أي: جريان الاستصحاب ( في كثير من الاستصحابات ) لوضوح : ان الشك في البقاء كثيرا ما ينشأ عن حصول تغيّر في الموضوع كما أو كيفا ، وقليلاً ما يكون الموضوع هو الموضوع السابق بعينه وإنّما يكون التغيّر في الزمان فقط .

( مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته ) مع ان الماء سابقا كان كثيرا ، والحال بعد ان اخذ منه صار قليلاً ، أو بالعكس كما قال :

( فان الماء المعيّن ) الموجود فعلاً في الحوض - مثلاً - ( الذي أخذ بعضه ، أو زيد عليه ) علما بأنّ الزيادة أيضا تسبب تغيير الموضوع بالدقة العقلية فانه مع ذلك ( يقال : انّه كان كثيرا ، أو قليلاً ، والأصل بقاء ما كان ، مع انّ هذا الماء الموجود ) الآن حين نريد استصحابه ( لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ) بل كان سابقا متيقن الكثرة ، أو متيقن القلة ، والآن زيد عليه أو نقص منه .

( وإلاّ ) بان كان باقيا على حالته السابقة لم ينقص ولم يزد ( لم يحتمل الشك فيه ) فان الشك ناشئعن الزيادة أو القلة التي حدثت فيه .

وهكذا بالنسبة إلى التغيير الكيفي كما إذا كان وسخا فصار نظيفا ، أو بالعكس .

إذن : ( فليس الموضوع فيه ) عند العرف ( إلاّ أعم من هذا الماء )

ص: 110

مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد في المشار اليه ، ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته ونقيصته .

ويدل على المطلب أيضا : النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي .

-------------------

الموجود الآن ، والموجود سابقا ، وذلك ( مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد ) وكذا في مدخلية الكيف زيادة ونقيصة ( في المشار اليه ) من الماء أو الصلاة - مثلاً - وهذا المقدار من الزيادة والنقيصة في الجزء ، أو الكيف ، إنّما هو من تبدل الحالات في نظرهم لا من تبدل الموضوع .

( ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا ) أي : كان كرا - مثلاً - ( وشكّ في صيرورته كذا ) أي : ناقصا عن الكر - مثلاً - ( من غير ملاحظة زيادته ونقيصته ) كما ولا زيادته ونقيصته كيفا ، وهكذا يكون الحال في سائر الاستصحابات .

مثلاً : إذا استصحبنا بقاء زيد بعد سنة ، فان اجزائه قد تغيرت كلية ، فليس زيد هذا هو نفس زيد السابق من حيث الاجزاء ، ولا هو زيد السابق من حيث الصفات ، فيما إذا تغيرت صفاته كلية .

وهكذا إذا استصحبنا الزمان فان الزمان الثاني ليس هو الزمان الأوّل ، كما انه كذلك يكون استصحاب الليل والنهار ، والدم الجاري من المرأة ، والماء الجاري في النهر ، وغير ذلك من الأمثلة التي حالها حال ماء الكرّ في المثال الذي ذكره المصنِّف .

( ويدل على المطلب ) الذي قلناه وهو : وجوب الباقي وعدم سقوط التكليف رأسا إذا تعذر بعض الأجزاء والشرائط ( أيضا ) أي : بالاضافة إلى ما تقدّم من دليل الاستصحاب فانّه يدل عليه : ( النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي )

ص: 111

« فعن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أمرتُكُم بشيء فأتوا منه ما استطعتُم» ، وعن علي عليه السلام : «الميسور لا يسقُط بالمعسُور» . و «ما لايُدرك كلّه لا يُترك كلّه» .

وضعف إسنادها مجبورٌ باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع ، نعم ، قد يناقش في دلالتها :

أمّا الاُولى ،

-------------------

على النحو التالي : ( «فعن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (1) ، وعن علي عليه السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) و « ما لايُدرك كلّه لا يُترك كلّه » (3) وضعف إسنادها مجبورٌ باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ) قديما وحديثا ( كما لا يخفى على المتتبّع ) .

بل يستدلون بها في غير أبواب العبادات أيضا ، كما إذا لم يتمكن إلاّ من بعض النفقة الواجبة عليه ، أو من بعض الواجب عليه من معاشرة الزوجة أو الزوج ، وكذا من تربية الأولاد ، ومن صلة الرحم ، ومن الوفاء بالنذر ، أو بالعهد ، أو باليمين، أو بالشرط ، أو غير ذلك من الاُمور المذكورة في محلها .

( نعم ، قد يناقش في دلالتها ) على المقصود فيما نحن فيه وهو : وجوب الباقي من الشرائط والاجزاء في العبادة بعد تعذر بعضها ، بمناقشات كالتالي :

( أمّا ) المناقشة ( الاُولى : ) فهي : إنّ النبوي إنّما يستدل به على وجوب الباقي

ص: 112


1- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح205 بالمعنى ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

فلاحتمال كون « من » بمعنى الباء أو بيانيّا ، و « ما » مصدرية زمانية .

-------------------

اذا قدّرنا فيه « من » تبعيضية ، و « ما » موصولة ، فيكون المعنى : ائتوا ببعضه المقدور إذا كان ذلك البعض يصدق عليه : انه بعضه عرفا ، لا مثل ما إذا أمره بالمرق فقدر على مائِه فقط ، فانه لا يسمى : المقدور من المرق ، فالاستدلال بالنبوي إنّما يكون لو كان على هذا التقدير ، وهذا التقدير غير ثابت حتى يستدل به على وجوب الباقي ، فالمناقشة فيه إذن لوجود تقادير واحتمالات اُخر فيه كما قال : ( فلاحتمال كون « من » بمعنى الباء ) التي هي للتعدية ( أو بيانيّا ، و ) على الاحتمالين تكون ( « ما » مصدرية زمانية ) فيكون المعنى : ائتوا بالمأمور به زمان استطاعتكم ، أو : إئتوا الذي هو واجب عليكم زمان استطاعتكم ، وعلى هذين التقديرين لا يدل النبوي على وجوب الباقي وإنّما يدل على ان تنجّز المأمور به مشروط بالاستطاعة فاذا لم يستطع من الصوم - مثلاً - حال الشيخوخة ، أو من القيام بحقوق الزوجية في بعض الأزمان - مثلاً - فانه لا يجب عليه ذلك .

ويؤيد هذا المعنى : مورد الحديث ، فقد روي في دعائم الاسلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انه خطب فقال : «ان اللّه كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يارسول اللّه ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، واللّه ولو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (1) .

ص: 113


1- - بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .

وفيه : أنّ كون « من » بمعنى الباء مطلقا وبيانيّة في خصوصية المقام مخالفٌ للظاهر بعيدٌ ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام .

والعجب معارضة هذا الظاهر بلزوم تقييد الشيء بناءا على المعنى المشهور بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لايجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ،

-------------------

( وفيه : انّ كون « من » بمعنى الباء ) للتعدية ( مطلقا ، وبيانيّة في خصوصية المقام ، مخالف للظاهر بعيدٌ ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ) عند العرب ، فان كون « من » بمعنى الباء خلاف الموضوع له ، فليس من معاني « من » الباء ، وامّا كون « من » بيانا : فانه وان كان من جملة معاني « من » - كما ذكره الأدباء - إلاّ انه إنّما يستعمل للبيان فيما إذا كان هناك كلام مبهم ، وليس في المقام مبهم حتى يبيّنه « من » .

( والعجب معارضة هذا الظاهر ) من صاحب الفصول ( بلزوم تقييد الشيء بناءا على المعنى المشهور ) وهو : كون « من » تبعيضية ( بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر اتيان جميعه ) لتعذر بعضه ( ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ) فان صاحب الفصول وان سلّم ظهور الحديث في المعنى المشهور ، إلاّ انه ضعّفه بلزوم كثرة التقييدات فيه ، لانه كما تصوّر يلزم تقدير الحديث هكذا :

إذا أمرتكم بشيء ذي اجزاء ولم تقدروا على اتيان جميعه فأتوا ببعضه المقدور.

وهذا كما لا يخفى مخصص أيضا بجملة اُمور : كالصوم إذا تمكن ان يصوم

ص: 114

كما في كثير من المواضع ، إذ لا يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله : «فأتوا منه» ، إلى آخره ، وظهوره حاكم عليهما .

نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد .

-------------------

بعض النهار دون بعض ، وكالحج إذا تمكن ان يأتي ببعض الأعمال دون بعض ، وكالصلاة إذا تمكن ان يصلّي الظهر ثلاث ركعات دون أربع ، وكالاعتكاف إذا تمكن ان يصوم يومين ونصف دون ثلاثة أيام - مثلاً - ، وهكذا ( كما في كثير من المواضع ) .

وعليه : فحيث يستلزم المعنى المشهور للنبوي بنظر الفصول المحذورات المذكورة ، قال : نحمل « من » فيه على معنى الباء ، أو التبيين .

وانّما كان كلام الفصول هذا موجبا للتعجب ( إذ لا يخفى : انّ التقييدين الأوّلين ) من الفصول للنبوي بكونه ذا أجزاء ، وتعذر بعضه ( يستفادان من قوله : «فأتوا منه» إلى آخره ) لوضوح : ان وجوب البعض المقدور لا يعقل إلاّ في شيء ذي أجزاء تعذر بعضه وتمكن المكلّف من بعضه الآخر بشرط أن يكون البعض الباقي مقوّما لذلك الشيء، لا مثل الماء بالنسبة إلى المرق كما مرّ في المثال السابق.

هذا ( وظهوره ) أي : ظهور النبوي في المعنى المشهور ( حاكم عليهما ) أي : على ذينك القيدين لوضوح : ان الاحتياج إلى القيدين موقوف على عدم ظهور « من » في التبعيض ، فاذا كان « من » ظاهرا في التبعيض لم يحتج إلى تقدير القيدين، بل الكلام بنفسه يدل على القيدين المذكورين .

( نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد ) الذي ارتكبه صاحب الفصول : من حمل « من » على معنى الباء أو التبيين .

هذا اضافةً إلى ان التخصيص ليس كثيرا ، بل كل من الصلاة والحج والخمس

ص: 115

والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة .

-------------------

والزكاة والكفارات وسائر الواجبات يؤتى بها بقدر المستطاع ، فما يبقى على وجوبه من الواجبات بعد تعذّر بعض الأجزاء والشرائط أكثر مما يسقط منها لتعذر بعض الأجزاء والشرائط إلاّ في مثل الصوم فانه على الأغلب لا يبعّض في غير ذي العطاش ، ومن يفطر عند الغروب تقية ، وما أشبه ذلك .

( والحاصل : إنّ المناقشة في ظهور الرواية ) في المعنى المشهور ( من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة ) والمحاورات المتداولة عند أهل اللسان .

ثم انه إذا قلنا : بان «ما استطعتم» أعمّ من الزماني والاجزائي ، شمل الحديث كليهما، فيكون المعنى : ائتوا بالحج قدر الاستطاعة الزمانية وقدر الاستطاعة الاجزائية .

لا يقال : إنّ الحج لا يجب على الانسان كل عام حتى يجب الاتيان به قدر الاستطاعة الزمانية .

لانّه يقال : الحج على جميع المسلمين من حيث المجموع واجب كل عام ، إذ يجب ان لا يترك الحج في عام من الأعوام - كما ذكره الفقهاء - حتى انه إذا لم يكن في بعض الأعوام مستطيع ، وجب على الوالي إرسال جماعة من المسلمين على نفقة بيت المال إلى « الحج » حتى لا تبقى تلك المشاهد المكرمة خالية عن الحاج والزائرين (1) .

ص: 116


1- - وقد ذكر الشارح بعض اقتراحاته لتطوير مناسك هذا الركن الاساسي من أركان الاسلام في كتابه « لكي يستوعب الحج عشرة ملايين » وكتابه « الحج بين الأمس واليوم والغد » وكتابه «ليحج خمسون مليونا كلّ عام » .

وأمّا الثانية : فلِما قيل : من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور لا يسقط بسبب سقوط المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لانّ سقوط حكم شيء

-------------------

( وأمّا ) المناقشة ( الثانية : ) فهي : ان الاستدلال برواية الميسور لوجوب الباقي إنّما يكون لو حملنا الميسور والمعسور في الرواية على اجزاء المركب ، فيكون المعنى : ان وجوب ما تيسر من اجزاء المركب ، لا يسقط بسقوط وجوب ما تعذر منه ، ومن المعلوم : ان هذا ليس بصحيح إذ وجوب الاجزاء الميسورة من المركب غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب حتى يتمسك به لوجوب الباقي فيلزم حينئذ حمل الميسور والمعسور في الرواية على الاُمور المستقلة كما قال :

أما المناقشة في رواية الميسور ( فلما قيل : من إنّ معناه : ان الحكم الثابت للميسور ) المستقل لا الميسور من اجزاء المركب ( لا يسقط بسبب سقوط المعسور ) المستقل دون المعسور من اجزاء المركب فانه يسقط بسقوطه ، وذلك لأن اجزاء المركب وجوبها غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب للباقي الميسور كما عرفت .

وحاصل المناقشة : ان وجوب الباقي إنّما يكون في العموم الافرادي دون الاجزائي ، فاذا كان هناك عموم له افراد وكان وجوب بعضها مستقلاً عن وجوب بعض ولم يتمكن المكلّف من بعضها ، سقط ذلك البعض ووجب الباقي ، كما إذا وجب عليه صيام شهر رمضان فلم يتمكن من صوم بعض الأيام فانه يصوم الباقي منه ، وهكذا بالنسبة إلى النفقات الواجبة ، والأخماس ، والزكوات ونحوها مما لها افراد مستقلة .

( ولا كلام في ذلك ) المعنى الذي ذكرناه ( لانّ سقوط حكم شيء ) مستقل

ص: 117

لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر .

فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في أكرم العلماء .

وفيه : أولاً ، أنّ عدم السقوط محمولٌ على نفس الميسور لا على حكمه .

-------------------

( لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر ) المستقل وهو واضح .

وعليه : ( فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في اكرم العلماء ) فانه إذا لم يتمكن من اكرام بعض العلماء وجب عليه اكرام الباقي ، إذ وجوب افراد الاكرام بالنسبة إلى افراد العلماء واجبات مستقلة لا يرتبط بعضها ببعض ، فاذا لم يتمكن من بعضها وتمكن من الباقي ، وجب الباقي .

ولا يخفى : ان هذه المناقشة وهي المناقشة الثانية محكية عن صاحبي الفصول والعوائد وهي تفيد ، أمرين :

الأوّل : ان المراد من الميسور والمعسور في الرواية ليس هو نفس الميسور والمعسور ، بل حكمها ، لان شأن الشارع بيان الأحكام لا بيان الموضوعات .

الثاني : ان المراد من الرواية الأفراد لا الأجزاء .

وعلى هذا لا يكون الحديث دليلاً على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأجزاء أو الشرائط .

( وفيه : أولاً ، ان عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه ) لأن الامام عليه السلام لم يقل حكم الميسور لا يسقط بسبب حكم المعسور حتى يقال : بأن هذا إنّما يتم في الأفعال المستقلة لان حكمها نفسي ، دون الأجزاء، لانّ الأجزاء حكمها مقدمي يسقط بسقوط ذي المقدمة فلابد ان يكون الظاهر من الرواية :

ص: 118

فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب المعسور ، يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط بسبب تعسره .

وبعبارة اُخرى ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره .

وهذا الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء بالتّمكن

-------------------

الأحكام النفسية لا المقدمية ، فانه ليس كذلك حتى يقال بذلك .

إذن : ( فالمراد به ) أي : بعدم السقوط في الرواية هو : ( عدم سقوط ) نفس ( الفعل الميسور ) من الصوم والصلاة والخمس والزكاة ، وما أشبه ذلك ( بسبب ) سقوط الفعل ( المعسور ) منها ( يعني : أنّ الفعل الميسور ) نفسه سواء كان اجزاءا أم افرادا ( إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء ، فلا يسقط بسبب تعسره ) أي : تعسر ذلك الشيء ، فكأن الشارع قال : الميسور باق ، وحيث كان كلامه انشاءا لا إخبارا كان معناه : أبقه على حالته السابقة ، فأت به سواء كان ميسور الأجزاء أم ميسور الافراد .

( وبعبارة اُخرى : ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره ) أي : عند تعذر الشيء الآخر ، فالاجزاء التسعة من الصلاة - مثلاً - كانت واجبة عند تيسر الجزء العاشر ، فلا تسقط هذه التسعة عن الوجوب عند تعذر الجزء العاشر ، وكذا اكرام خمسة من العلماء كان واجبا عند التمكن من اكرام كل العلماء ، فلايسقط اكرام هذه الخمسة عن الوجوب عند تعذر اكرام سائر العلماء .

( وهذا الكلام ) أي : الميسور لا يسقط بالمعسور ( إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء ) كالجزء والشرط الميسورين ( بالتمكّن

ص: 119

من ذلك الشيء الآخر محققا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم أفراديّ .

وثانيا : أنّ ما ذُكِرَ من عدم سقوط الحكم الثابث للميسور بسبب سقوط

-------------------

من ذلك الشيء الآخر ) من الجزء والشرط المعسورين ( محققا ثابتا من دليله ) أي : دليل الوجوب ( كما في الأمر بالكلّ ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) فان وجوب اجزاء الصلاة وشرائطها مرتبط بعضها ببعض ارتباطا محققا في الخارج ، لان وجوب الكل مرتبط بالتمكن من الاجزاء والشرائط ، ووجوب الاجزاء والشرائط المتمكن منهما مرتبط بوجوب الكل .

( أو ) يكون ارتباط وجوب الشيء ( متوهّما ) بان لم يكن الارتباط متحققا في الخارج ، بل الارتباط متوهم ( كما في الأمر بما له عموم افراديّ ) مثل : اكرم العلماء ، فان كل فرد من افراد الاكرام وان كان موضوعا مستقلاً للوجوب ، إلاّ ان وحدة دليل اكرم يوجب توهم كون المجموع موضوعا واحدا للوجوب .

وعليه : ففي مقام يكون الارتباط محققا أو متوهما ، إذا تعذّر شيء منها لزم ان ينتفي الكل ويسقط وجوب الباقي ، في مثل هذا المقام تقول الرواية بوجوب الباقي ، وإذا تعذر البعض لم يسقط الكل بسبب تعذر ذلك البعض ، فيكون الميسور سواء من الأجزاء والشرائط ، أم من الجزئي والافراد باقيا على حكمه السابق من الوجوب بعد تعذر المعسور وسقوط وجوبه بسبب العسر ، فيجب على المكلّف الاتيان بالباقي .

( و ) فيه ( ثانيا : انّ ما ذكر ) في المناقشة الثانية : ( من عدم سقوط

ص: 120


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

الحكم الثابت للمعسور ، كاف في اثبات المطلوب ، بناءا على ما ذكرنا في توجيه الاستصحاب ، من أنّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الاجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها ، وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه ، لعدم مداقتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريا ، وهذا الوجوب الذي يتكلم في ثبوته وعدمه نفسي ،

-------------------

الحكم الثابث للميسور بسبب سقوط الحكم الثابت للمعسور ) إذا سلمناه ، فهو ( كاف في اثبات المطلوب ) : من ان الرواية تشمل عدم السقوط في الكل والكلي ، لا انها خاصة بالكلي كما ذكره المناقش حيث ناقش في وجوب الباقي : بان حكم الاجزاء مقدمي تابع لحكم الكل فيسقط بسقوط الكل فلا وجوب حينئذ للباقي الميسور بعد تعذر المعسور .

وإنّما يكون ما ذكره المناقش كافيا لاثبات المطلوب لانه كما قال : ( بناءا على ما ذكرنا في توجيه الاستصحاب ) في المسألة السابقة ( من انّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الاجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ) يعبّرون ( ببقاء وجوبها ) تسامحا ( و ) يعبّرون ( عن عدم وجوبها : بارتفاع وجوبها وسقوطه ) أي : سقوط الوجوب تسامحا أيضا .

إذن : فأهل العرف يرون وجوب باقي الاجزاء هو نفس الوجوب الذي كان للكل ، فيحكمون ببقاء وجوب الباقي بعد تعذّر البعض ، وذلك امّا من جهة ان الوجوب شامل للنفسي والمقدمي ، لانه جنس لهما والجنس باق وان تعذر بعض أنواعه ، وإمّا من جهة الوجوب النفسي شامل للكل والجزء .

وانّما يرون وحدة ذلك ( لعدم مداقتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريا ، وهذا الوجوب الذي يتكلم في ثبوته وعدمه نفسي ) إذ بالنظر الدقي لم يكن

ص: 121

فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع ، فكما يصدق هذه الرواية لو شكّ بعد ورود الأمر باكرم العلماء بالاستغراق الافرادي

-------------------

الوجوبان شيئا واحدا ، بل شيئان ، وإذا كانا شيئين ( فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع ) كما عبّر عنه العرف تسامحا .

ولا يخفى : ان حمل البقاء لوجوب الباقي الميسور في الرواية على الأعم من البقاء الحقيقي كما في الكلي وافراده ، والمسامحي كما في الكل واجزائه يكون كما يلي :

أولاً : انه ظاهر الحديث وانه الذي يستفاد منه عرفا .

ثانيا : انا لو حملناه على ما ذكره الفصول : من البقاء الحقيقي ، يكون تأكيدا لما هو بديهي ، لانّ كلّ واحد يعلم ان الافراد الواجبة إذا لم يمكن فرد منها ، وجب الفرد الآخر ، بخلاف ما إذا قلنا بانه أعم من الكل والكلي ، فانه يكون تأسيسا ، لأن بقاء وجوب بعض الأجزاء بعد سقوط البعض الآخر يكون محتاجا إلى دليل خاص غير دليل أصل وجوب الكل .

إذن : فعلى ما ذكره الفصول تكون الرواية تأكيدا ، وعلى ما ذكرناه تكون تأسيسا ، ومن الواضح : ان حملها على التأسيس خير من حملها على التأكيد.

والعمدة في ذلك ما ذكرناه : من الظهور ، وإلاّ فان الوجوه الاعتبارية لا تصحح الظهور كما لا تسقطه .

وعليه : ( فكما يصدق هذه الرواية ) أي : رواية الميسور على وجوب الباقي ( لو شكّ بعد ورود الأمر باكرم العلماء بالاستغراق الافرادي ) بأن علمنا انّ المولى يريد اكرام كل عالم عالم يعني : كل جزئي من جزئيات الكلي بحيث لم يكن

ص: 122

في ثبوت حكم إكرام البعض الممكن الاكرام ، وسقوطه بسقوط حكم اكرام من يتعذّر إكرامه ، كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركب في وجوب الاجزاء بعد تعذر بعضه ، كما لايخفى .

-------------------

الواجب اكرام مجموع العلماء بما هو مجموع ، بل كان الواجب اكرام زيد مستقلاً ، واكرام عمرو مستقلاً وهكذا ، فانه كما يصدق رواية الميسور لو شككنا ( في ثبوت حكم اكرام البعض الممكن الاكرام ، وسقوطه ) أي : سقوط حكم الباقي ( بسقوط حكم اكرام من يتعذّر اكرامه ) كما في مثال اكرم العلماء ( كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركب في وجوب الاجزاء ) الباقية ( بعد تعذر بعضه ) كما في أقم الصلاة .

إذن : فالاجزاء في الكل كالجزئيات في الكلي بالنظر المسامحي العرفي ( كما لا يخفى ) فتكون الرواية شاملةً لكليهما .

ثم لا يخفى : انه إنّما تجري قاعدة الميسور فيما إذا لم يكن الجزء المتعذر من الأجزاء المقوّمة ، لانه إذا كان من الاجزاء المقوّمة تغيّر نظر العرف بالنسبة اليه ، فلا يرى التسامح فيه كما تقدّم في مثال الماء لمن تعذّر عليه المرق ، فيلزم في وجوب الباقي بالنسبة إلى الاجزاء صدق الاسم على الميسور من الاجزاء عرفا .

بخلاف الميسور من الافراد ، فانه إذا لم يتمكن إلاّ عن فرد واحد ، وجب عليه ذلك الفرد الواحد وان كان أضعف الافراد في نظر العرف ، لان الوجوب هنا مستقل لا يرتبط بعضه ببعض بينما الوجوب في الأجزاء مرتبط بعضه ببعض .

ثم إنّ صاحب الفصول كما تقدّم حمل دليل الميسور على إرادة الحكم لا الموضوع فكان معناه ان حكم الميسور لا يسقط بحكم المعسور ، ولم يحمله على نفس الميسور والمعسور حتى يكون معناه : الميسور لا يسقط بالمعسور .

ص: 123

وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى جريان الايراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن يقال : إنّ سقوط المقدّمة لمّا كان لازما لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر

-------------------

والمصنّف أخذ بظاهر الرواية من ارادة نفس الميسور والمعسور ، فلقائل ان يقول: ان حملكم الرواية على نفس الميسور والمعسور يرفع المناقشة ، إذ مناقشة الفصول جارية حتى على ارادة نفس الميسور والمعسور لا حكمها .

وإنّما تكون جارية لأنّ الاجزاء نفسها إنّما هي مقدمة لتحقق الكل ، فتكون تابعة للكل نفيا واثباتا ، فاذا تعذر بعض الاجزاء انتفى الكل ، فتنتفي المقدمة للتلازم بينهما ، فلا يمكن الحكم بعدم سقوط المقدمة ، ولذا لا يمكن حمل الرواية على الجزء والكل ، لأنه مستلزم للحكم بغير المعقول .

إذن : فلابد من حمل الرواية على ما له عموم افرادي مثل : اكرم العلماء دفعا لتوهم سقوط الباقي من أجل تعذر البعض فان في العموم الافرادي لا يسقط الباقي لاجل تعذر البعض ، بينما في الكل الاجزائي السقوط قطعي للتلازم العقلي بينهما ، فاذا حملنا الرواية على الكل الاجزائي وردت مناقشة الفصول .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( وبمثل ذلك ) الذي قلناه : من التسامح العرفي في دفع ايراد الفصول على القول : بأن المراد من الميسور في الرواية ، حكم الميسور لا نفسه ( يقال في دفع دعوى جريان الايراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور ، لا بحكمه ) .

أما تصوير ايراد الفصول على القول : بان المراد من الميسور والمعسور في الرواية نفسهما ، لا حكمهما ، فهو : ( بان يقال : انّ سقوط المقدّمة لمّا كان لازما لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر ) حيث قال : بأن الميسور لا يسقط

ص: 124

لابد أن يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب ، لدفع توهم السقوط الناشيء عن ايجابها بخطاب واحد .

وأمّا في الثالثة :

-------------------

بسقوط المعسور ، يكون بالنسبة إلى الاجزاء غير معقول ، ولصونه من ذلك ( لابد ان يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب ) كاكرام افراد العلماء لا كأجزاء الصلاة .

وإنّما يحمل على الافراد المستقلة دون الاجزاء مع انه لا ملازمة بين الافراد ( لدفع توهم السقوط ) أي : سقوط الميسور من الافراد بسقوط المعسور منها ( الناشيء ) ذلك التوهم في الافراد ( عن ايجابها ) أي : ايجاب العموم الافرادي ( بخطاب واحد ) كما مرّ تفصيله .

إذن : فلا يمكن حمل الميسور في الرواية على الاجزاء حتى لو قلنا : بان المراد بالميسور في الرواية نفس الميسور ، لا حكمه .

هذا هو تصوير مناقشة الفصول ، واما دفعه فهو : بأن يقال : ان الاجزاء الباقية بعد تعذر البعض هي نفس الاجزاء قبل تعذر البعض عرفا ، فاذا كان الموضوع بنظر العرف واحدا ، ترتب عليه الحكم ، وهو الوجوب ، فلا يسقط الميسور من الاجزاء بسقوط المعسور منها .

والحاصل : ان المراد بعدم السقوط الذي هو بمعنى البقاء : عدم السقوط والبقاء الأعم من الحقيقي والمسامحي ، ومن المعلوم : ان البقاء المسامحي موجود في الجزء بالنسبة إلى الكل كما هو موجود في الفرد بالنسبة إلى الكلي ، لأنّ عرف العقلاء يتسامحون في ذلك فيحكمون بالبقاء وان كان بحسب الدقة العقلية غير باق .

( وأمّا ) المناقشة الثالثة ( في ) الرواية ( الثالثة ) ونصّها : «ما لا يدرك كله لا يترك

ص: 125

...

-------------------

كلّه » (1) وهي : ان الاستدلال بها لوجوب الباقي إنّما يكون لو حملنا الموصول في « ما لا يدرك كله » بقرينة « كله » على الكل الاجزائي ، وحملنا النهي في : « لا يترك كله » على انشاء التحريم ، لا على الاخبار ، فاذا لم يكن كذلك لم يصح الاستدلال بالرواية على وجوب الباقي ، ولذا أشكلوا في دلالة الرواية المذكورة على ما نحن فيه بأربعة اشكالات :

الأوّل : إنّ جملة « لا يترك » خبرية ، والجملة الخبرية لا تفيد إلاّ الرجحان لا الحرمة ، فلا تدل على ما هو المطلوب من وجوب الاتيان بالباقي .

الثاني : انه لو سلم ظهور جملة « لا يترك » في الحرمة ، فالأمر دائر بين حملها على مطلق المرجوحية لتلائم الجملة عموم الموصول الشامل للواجبات والمندوبات جميعا ، وبين تخصيص الموصول بالواجبات ليلائم الموصول ظهور الجملة الخبرية في الحرمة ، وحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلا يمكن الاستدلال بالرواية على بقاء الوجوب بعد سقوط بعض الأجزاء .

الثالث : انه لم يعلم من جملة « لا يترك » ان تكون انشاءا ، إذ من الممكن ان تكون اخبارا عن طريقة الناس وان طبيعتهم عدم ترك جميع الشيء بمجرد عدم درك مجموعه ، فلا يكون حينئذ في الرواية دلالة على الحكم الشرعي .

الرابع : انه من الممكن ان يكون لفظ « كل » في قوله : «ما لا يدرك كله» للعموم الافرادي لا للاجزائي ، فيختص بمثل : افراد العلماء لا بمثل اجزاء الصلاة ، فيكون

ص: 126


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

فما قيل من أنّ جملة « لايترك » خبرية لا تفيد إلاّ الرجحان ، مع أنّه لو اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ، إمّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة ، أو اخراج المندوبات ولا رجحان للتخصيص .

مع أنّه قد يمنع كون الجملة

-------------------

المعنى : انه إذا تعذر اكرام عالم وجب اكرام بقية العلماء ، لا إذا تعذر جزء من الصلاة وجب الاتيان ببقية الصلاة .

وإلى الاشكال الأوّل أشار بقوله : ( فما قيل من ان جملة « لا يترك » خبرية ) والجملة الخبرية التيتستعمل في مقام الطلب ( لا تفيد إلاّ الرجحان ) المطلق وهو أعم من الواجب والمستحب ، فلا تدل الرواية حينئذ على وجوب الميسور من اجزاء الصلاة بعد عدم التمكن من بعض اجزائها الاُخر .

وإلى الاشكال الثاني أشار بقوله : ( مع انّه لو اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ) بأحد نحوين ( امّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة ، أو اخراج المندوبات ) لأنا إذا سلّمنا ان ظاهر الرواية الحرمة ، فالحرمة لا تتم في المندوبات وهو واضح ، وحينئذ فلابد من مخالفة أحد الظاهرين على ما عرفت .

هذا ( ولا رجحان للتخصيص ) أي : تخصيص الموصول هنا بالواجبات حتى نحتفظ ببقاء لا يترك على ظاهره من الحرمة ، يعني : لا رجحان للتصرف في : الموصول على التصرف في « لا يترك » حتى يثبت مطلوبنا من وجوب الباقي بعد تعسر بعض الاجزاء أو تعذرّها .

إذن : فغاية ما تدل عليه هذه الرواية : استحباب الاتيان بالقدر الميسور لا وجوبه كما هو المطلوب .

وإلى الاشكال الثالث أشار بقوله : ( مع انّه قد يمنع كون ) هذه ( الجملة )

ص: 127

إنشاءا ، لإمكان كونه إخبارا عن طريقة الناس وأنّهم لايتركون الشيء بمجرد عدم إدراك بعضه .

مع احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ،

-------------------

الخبرية : لا يترك في قوله عليه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » يمنع ان تكون ( انشاءا ) للحرمة ، أو انشاءا لمطلق المرجوحية الأعم من الحرمة والكراهة ، وذلك ( لامكان كونه ) أي : كون لا يترك ( اخبارا عن طريقة الناس ، وانّهم ) في اُمورهم العرفية ( لا يتركون الشيء بمجرد عدم ادراك بعضه ) .

وإنّما يمكن ان يكون « لا يترك » اخبارا لا انشاءا ، لان النبي والأئمة من أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين اضافة إلى بيانهم للأحكام الشرعية من الواجبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات والمباحات كانوا يخبرون عن أحوال الناس وكيفية معاشرتهم الاجتماعية وغيرها ، مثل ما ورد من قوله عليه السلام :

ومَن هابَ الرِّجالَ تهيّبوه

ومَن وَهَنَ الرِّجالَ فَلنْ يهابا (1)

ومثل قوله عليه السلام : « من دخل مداخل السوء اتُّهم » (2) إلى غير ذلك .

ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على وجوب الباقي من الأجزاء بعد تعسّر البعض أو تعذره .

وإلى الاشكال الرابع أشار بقوله : ( مع احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي) دون الاجزائي ، فيكون المقصود من قوله : «ما لا يدرك كله» يعني : كل افراده لا كل اجزائه ، فيختص بالعموم الذي له افراد ، فاذا تعذر بعض هذه الافراد ، وأمكن بعضها

ص: 128


1- - الخصال : ص73 ح111 بالمعنى ، ديوان الإمام علي عليه السلام : ص25 .
2- - وسائل الشيعة : ج12 ص38 ب19 ح15578 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص264 ب355 و ص265 .

لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكلّ المجموعي ، ولا مشتركا معنويا بينه وبين الأفرادي ، فلعله مشترك لفظي أو حقيقة خاصة في الافرادي ، فيدلّ على أنّ الحكم الثابت لموضوع عام بالعموم الافرادي ، إذا لم يمكن الاتيان به على وجه العموم لايترك موافقته فيما أمكن من الافراد .

ويرد على الأوّل : ظهور الجملة في الانشاء الالزامي ، كما ثبت في محله ،

-------------------

الآخر فالأفراد الممكنة يجب الاتيان بها ولا يجوز تركها لأجل تلك الافراد المتعذرة .

وإنّما يحتمل اختصاص « كل » بالعموم الافرادي ( لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكّل المجموعي ) ذي الأجزاء ( ولا مشتركا معنويا بينه ) أي : بين الكل المجموعي ( وبين الأفرادي ) حتى يشمل الكل والكلي ويكون على هذين التقديرين دليلاً على وجوب الاجزاء الباقية من المركب المتعسر بعض اجزائه .

وإنّما لم يثبت كون كل كذلك لانه كما قال : ( فلعله ) أي : لفظ كل في الرواية ( مشترك لفظي ) بين الافرادي والمجموعي فيكون مجملاً فلا يمكن التمسك به .

( أو ) لعله ( حقيقة خاصة في الافرادي ) فقط ( فيدلّ على انّ الحكم الثابت لموضوع عام بالعموم الافرادي ) مثل : اكرم الفقهاء ( إذا لم يمكن الاتيان به على وجه العموم ) بان لم يتمكن من اكرام كل واحد واحد من العلماء ( لا يترك موافقته فيما أمكن من الافراد ) .

وبهذه الاشكالات الأربعة ظهر : انه لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية لوجوب الباقي من الاجزاء بعد تعذّر البعض أو تعسره .

هذا ( ويرد على الأوّل : ) من الاشكالات وهو : ان جملة لا يترك خبرية ما يلي :

أولاً ( ظهور الجملة في الانشاء الالزامي ) لا مطلق الرجحان واضح ( كما ثبت في محله ) من مباحث الألفاظ حتى قال بعض العلماء : ان الجملة الخبرية

ص: 129

مع أنّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب ، لعدم القول بالفصل في المسألة الفرعيّة .

وأمّا دوران الأمر بين تخصيص الموصول والتجوّز في الجملة ، فممنوع ، لأن المراد بالموصول في نفسه ليس هو العموم قطعا ،

-------------------

المستعملة للطلب أقوى دلالة من الأمر والنهي ، فقول المولى لعبده : تدخل السوق وتشتري اللحم ، أقوى دلالة من قوله : ادخل السوق واشتر اللحم ، وكذلك قول المولى : لا يشرب أحد من عبيدي الخمر ، أقوى دلالة من لا تشربوا الخمر .

ثانيا : ( مع انّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب ، لعدم القول بالفصل ) فان كل من قال بالرجحان في الواجبات ، قال بالوجوب فيها ، فاذا دلت الرواية على الرجحان دلت على الوجوب أيضا ، لأن الفقهاء ( في ) هذه ( المسألة الفرعيّة ) التي هي محل الكلام ، اتفقوا على ان الاتيان بالميسور من اجزاء الواجب إذا كان راجحا كان واجبا ، فليس هناك قول بانه راجح وليس بواجب .

( وامّا ) الاشكال الثاني الذي ذكره المستدل وهو : ( دوران الأمر بين تخصيص الموصول ، والتجوّز في الجملة ، فممنوع ) إذ لا دوران بين الأمرين ، فانه لو كان الموصول شاملاً للمستحبات كان الأمر يدور بين الشيئين الذين ذكرهما المستشكل ، بينما الموصول ليس بشامل للمستحبات من أول الأمر بقرينة لا يترك الظاهر في تحريم الترك كما قال : ( لان المراد بالموصول في نفسه ) أي : من أول الأمر ( ليس هو العموم ) الشامل للواجبات والمستحبات ( قطعا ) وذلك لما عرفت : من قرينة « لا يترك » الظاهرة في تحريم الترك .

وإنّما قلنا بأنّ الموصول ليس للعموم ، لأنه بالاضافة إلى قرينة « لا يترك » :

ص: 130

لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ، فكما يتعيّن حمله على الأفعال الراجحة بقرينة قوله : « لايترك » ، كذلك يتعيّن حمله على الواجبات بنفس هذه القرينة ، الظاهرة في الوجوب .

وأمّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس ، فمدفوع بلزوم الكذب

-------------------

انه لو كان للعموم كان غير صحيح قطعا ، وذلك ( لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ) أيضا لان لفظ « ما » بنفسه شامل لكل الأفعال من الواجب والمستحب والمكروه والمباح والمحرّم .

إذن : ( فكما يتعيّن حمله ) أي : حمل لفظ « ما » من أول الأمر ( على الأفعال الراجحة ) فلا يشمل المباح والمكروه والمحرّم ( بقرينة قوله ) عليه السلام : ( « لايترك » ، كذلك يتعيّن حمله ) من أول الأمر ( على الواجبات بنفس هذه القرينة ، الظاهرة في الوجوب ) .

لا يقال : العموم الشامل للأحكام الخمسة في الموصول هنا مقطوع العدم ، لكن على الظاهر لا مانع هنا من حمل الموصول هذا على الواجب والمستحب ، فيكون لا يترك أيضا محمول عليهما ؛ لأنّه يقال : هذا خلاف ظاهر « لا يترك » ، فظهور « لا يترك » يوجب حمل الموصول أيضا على الوجوب .

أقول : لا يبعد ان يكون الموصول في الرواية ظاهرا في الأعم من الواجب والمستحب ، ويكون لا يترك واجبا في الواجب ، ومستحبا في المستحب ، فان هذا هو المستفاد عرفا من هذه الرواية .

( وامّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس ) لا انشاءا للحكم الشرعي ، وهذا هو الاشكال الثالث على دلالة الرواية ( فمدفوع بلزوم الكذب ) فان الناس كثيرا

ص: 131

أو اخراج أكثر وقايعهم .

وأمّا احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ، فلا وجه له ، لأن المراد بالموصول هو فعل المكلّف .

وكلّه عبارة عن مجموعه .

-------------------

مايتركون الميسور بسبب المعسور ( أو اخراج أكثر وقايعهم ) وهو تخصيص مستهجن وكلاهما مقطوع العدم .

وهنا جواب آخر لعله أولى من هذا الجواب وهو : ان الأصل في كلماتهم عليهم السلام هو : بيان الأحكام لا التاريخ والحكاية وما أشبه ، لان بيان الأحكام هو شأنهم ، فانهم وان كانوا ربّما يتكلمون في غيره لكنه يحتاج إلى قرينة ، والقرينة مفقودة في مثل المقام ، ولذا حمل العلماء : «ومن هاب الرجال إلى آخره » (1) على انه بيان لاستحباب تهيّب الناس وكراهة وهنهم ، وحملوا : «من دخل مداخل السوء اتُّهم » (2) على انه بيان لكراهة ذلك .

( وأمّا ) الاشكال الرابع وهو : ( احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ) دون الكل المجموعي الذي هو عبارة عن المركب ( فلا وجه له ، لان المراد بالموصول هو فعل المكلّف ) لا افعال المكلّف ، إذ الموصول عندهم من قبيل المطلقات لا من قبيل العمومات حتى يختص بالعموم الافرادي .

( و ) عليه : فيكون المراد من لفظ ( كلّه ) في الرواية : ( عبارة عن مجموعه ) أي : مجموع اجزائه ، لا كل فرد فرد منه ، فيكون المعنى : ما لا يدرك مجموعه

ص: 132


1- - الخصال : ص73 ح111 بالمعنى ، ديوان الإمام علي عليه السلام : ص25 .
2- - وسائل الشيعة : ج12 ص38 ب19 ح15578 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص264 ب355 و ص265 .

نعم ، لو قام قرينةٌ على إرادة المتعدّد من الموصول بأن اريد : أنّ الافعال التي لا يدرك كلّها ، كاكرام زيد ، وإكرام عمرو ، وإكرام بكر ، لايترك كلّها ، كان لما احتمله وجهٌ ، لكن لفظ الكلّ حينئذٍ أيضا مجموعيّ لا افراديّ ، إذ لو حمل على الافرادي كان المراد: « ما لايدرك شيء منها لا يترك شيء منها » ، ولا معنى له ،

-------------------

من حيث المجموع لا يترك جميعه .

( نعم ، لو قام قرينة ) خارجية ( على ارادة المتعدّد من الموصول بان اريد : انّ الافعال التي لا يدرك كلّها كاكرام زيد ، واكرام عمرو ، واكرام بكر ، لا يترك كلّها ، كان لما احتمله ) من ارادة كل فرد فرد من العام ، لا كل جزء جزء من المركب ( وجه ) وجيه .

( لكن لفظ الكلّ حينئذ ) أي : حين قيام القرينة ( أيضا مجموعيّ لا افراديّ ) فيكون المعنى : ان الأعم من الأجزاء في المركب والأفراد في العام إذا لم يدرك كله المجموعي لا يترك كله ، بل يأتي بما تيسر منه ، فيكون لفظ الكل مجموعيا على كلا التقديرين ، سواء كان المراد الفعل الذي لا يدرك كله فيما كان ذا أجزاء كالصلاة ، أم كان المراد الأفعال التي لا يدرك كلها فيما كان ذا أفراد كالعلماء .

وإنّما يكون لفظ الكل مجموعيا حتى مع قيام القرينة على ان الموصول للمتعدد ( إذ لو حمل ) لفظ الكل ( على الافرادي كان المراد ) حسب ظاهر العبارة ( ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها ، و ) من الواضح : ان هذا ( لا معنى له ) فان مثل هذا الكلام ليس بصحيح .

لكن الأوثق وغيره اشكلوا على المصنِّف بقولهم : وفيه ما لا يخفى : لانه لو حمل لفظ كل على العموم الافرادي كان النفي في القضيتين مفيدا لسلب

ص: 133

فما ارتكبه في احتمال العموم الافرادي مما لاينبغي له ، لم ينفعه في شيء .

فثبت ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى الانصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات ، ولذا شاع بين العلماء بل جميع الناس الاستدلالُ بها في المطالب ، حتى أنّه يعرفه العوامّ بل النسوان والأطفال .

-------------------

العموم الصادق مع السالبة الجزئية ، وما ذكره إنّما يتم لو كان مقتضاه عموم السلب فتدبر (1) .

وكيف كان : ( فما ارتكبه ) المستشكل ( في احتمال العموم الافرادي مما لا ينبغي له ) ارتكابه ، لانه لا معنى له .

وإنّما لا ينبغي له ارتكابه ، لانه ( لم ينفعه في شيء ) مما أراد اثباته ، وذلك لما قد تقدّم : من ان المراد بالموصول هو : فعل المكلّف لا افعال المكلّف ، لان الموصول هنا ظاهر في المطلق لا في العموم ، فيتناسب مع ذي الاجزاء لا مع ذي الافراد .

وعليه : ( فثبت ممّا ذكرنا : انّ مقتضى الانصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات ) الثلاث من النبوي والعلويين لافادة وجوب الباقي من الاجزاء عند تعسّر البعض أو تعذره .

( ولذا شاع بين العلماء ، بل جميع الناس الاستدلال بها ) أي : بهذه الروايات ( في المطالب ) المشابهة لما نحن فيه ( حتى انّه يعرفه العوامّ بل النسوان والأطفال ) الذين يميّزون مثل هذه الاُمور .

ص: 134


1- - أوثق الوسائل : ص391 دفع ما أورد على دلالة العلويين على وجوب الباقي المتيسّر .

ثم إنّ الرواية الاُولى والثالثة وإن كانتا ظاهرتين في الواجبات إلاّ أنّه يعلم جريانهما في المستحبّات بتنقيح المناط العرفيّ ، مع كفاية الرواية الثانية في ذلك .

-------------------

( ثم إنّ الرواية الاُولى ) وهي قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « فأتوا منه ما استطعتم » (1) ( والثالثة ) وهي قوله عليه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (2) ( وان كانتا ظاهرتين في الواجبات ) ما كان : « فأتوا » و « لا يترك » ( إلاّ انّه يعلم جريانهما في المستحبّات بتنقيح المناط العرفيّ ) فان العرف يفهم من مثل هذه العبارات ان مناطها موجود في المستحبات أيضا .

لكن ربما يقال : بأن ظاهر الروايتين هو الأعم من الواجب والمستحب ، فلا حاجة إلى المناط ، كما لا تحتاج الرواية الثانية إلى المناط على ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مع كفاية الرواية الثانية في ذلك ) أي : في شمولها للواجب والمستحب بلا حاجة إلى المناط ، وذلك لان قول أمير المؤمنين عليه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (3) بنفسه يشمل الواجب والمستحب معا .

ولا يخفى : ان هذه الروايات كما تشمل الواجب والمستحب تشمل الحرام والمكروه أيضا ولو بالمناط يعني : بغض النظر عن الأدلة الموجودة في المقام فان هذه الروايات تشملهما أيضا ، فاذا كان شيء حراما ، واضطر إلى ارتكاب بعضه لا جميعه حرم عليه ارتكاب الباقي ، وكذلك إذا كان شيء مكروها ، كأكل الجبن ،

ص: 135


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح205 ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .

...

-------------------

أو النوم بين الطلوعين - مثلاً - .

بقي هنا شيء وهو : انه قد تقدّم في مباحث الألفاظ : ان العموم على ثلاثة أقسام : استغراقي ، ومجموعي ، وبدلي .

أمّا الأوّل وهو العام الاستغراقي : فيلاحظ فيه كل فرد من أفراده موضوعا مستقلاً للحكم ، كاكرم كل عالم إذا لوحظ كل فرد من افراد هذا العام موضوعا مستقلاً لوجوب الاكرام بحيث لا يرتبط أيّ فرد منه بفرد آخر ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة والمعصية بفعل كل واحد وترك كل واحد من افراده .

وأما الثاني وهو العام المجموعي : فيلاحظ فيه جميع الافراد موضوعا واحدا للحكم ، بحيث يكون كل فرد من الأفراد جزءا من الموضوع ، فيكون الاتيان بالمجموع من حيث المجموع مطلوبا واحدا قد ارتبط امتثال بعضه ببعضه الآخر على نحو لو أتى بالجميع إلاّ واحدا لم يتحقق الامتثال ، وذلك كما إذا قال المولى : كُن يقظا كل ساعات الليل ، لان السارق يترصّد غفوته ليسرق المتاع ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة بفعل الجميع ، والعصيان ولو بترك فرد واحد من أفراده .

وأمّا الثالث : وهو العام البدلي : فيلاحظ فيه واحد من الافراد على البدل موضوعا للحكم ، كاكرام عالما من العلماء ، فانه يحصل الامتثال باكرام أي واحد شاء من العلماء ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة بفعل واحد من الافراد ، والعصيان بترك الجميع .

هذا هو تمام الكلام فيما ينبغي التنبيه عليه في الجزء .

ص: 136

وأما الكلام في الشروط

فنقول : إنّ الأصل فيها ما مرّ في الأجزاء من كون دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عام لصورة التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق ، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكن من الشرط .

-------------------

( وأما الكلام في الشروط ) علما بأنّ الفرق بين الجزء والشرط يكون واضحا ، لان الجزء : ما كان داخلاً في المهية ومعتبرا في عرض سائر الأجزاء كالركوع والسجود وما أشبه بالنسبة إلى الصلاة ، والشرط : ما كان خارجا عن حقيقة المركب وليس من اجزائه الخارجية بل من كيفياته ، فيكون المركب مقيّدا به بحيث يكون التقييد داخلاً والقيد خارجا ، كالطهارة والقبلة وما أشبه في الصلاة .

ولهذا فقد عرّف بعضهم الشرط : بأنّه ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ، كالوضوء - مثلاً - فانه إذا كان معدوما لم تكن صلاة ، امّا إذا كان موجودا لا يلزم ان تكون صلاة .

وربما عرّف الشرط : بانه ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون مقوّما له ، ومن المعلوم: ان الشرط في كلامنا يشمل الشرط المتقدّم ، والشرط المتأخر ، والشرط المقارن ، لأنّ كل هذه الأقسام من الشروط تعطي لونا للمشروط .

وعليه : ( فنقول : انّ الأصل فيها ) أي : في الشروط ( ما مرّ في الأجزاء : من كون دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عام لصورة التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكن من الشرط ) فاذا كان للمركب إطلاق معتبر ولم يكن للشرط مثل ذلك الاطلاق ، اختص الشرط بصورة التمكن ، إذ عند تعذر الشرط يتمسك باطلاق دليل المشروط ، فلا يسقط المشروط بتعذّر الشرط .

ص: 137

وأمّا القاعدة المستفادةُ من الروايات المتقدمة ، فالظاهرُ عدم جريانها .

-------------------

أمّا في غير هذه الصورة من الصور الاُخر فيسقط المشروط عند تعذر الشرط فيها ، وذلك لأصالة البرائة من المشروط .

لكن لا يخفى : ان في عبارة المصنِّف نوع تسامح ، ولذا قال في بحر الفوائد :

« إنّ حق التحرير في المقام ان يقول قدس سره : ان الأصل فيها ما مر من الرجوع إلى البرائة ، أو الاستصحاب على الوجهين ، فيرجع اليه إذا لم يكن لدليل المشروط إطلاق يرجع اليه ، أو كان له إطلاق لا يرجع اليه من جهة إطلاق دليل الشرط ، فانه لا يرجع إلى الأصل في الصورتين ، فان ما أفاده بقوله : من كون دليل الشرط إلى آخره ، لا يمكن أن يجعل بيانا للأصل ، إلاّ ان يجعل المراد من الأصل : الأصل الثانوي المستفاد من دليل المشروط ، فلابد ان يراد بالأصل : الثانوي» ، انتهى .

وان شئت قلت : انه إذا كانت هناك قاعدة مستفادة من الروايات بالنسبة إلى الشرط أخذ بتلك القاعدة ، وإذا لم تكن قاعدة أخذ بالأصل اللفظي ، وإذا لم يكن الأمران فالأصل هو أحد ما تقدّم : من البرائة ، أو الاستصحاب ، كما ذكر تفصيله في الكلام عن الجزء .

( وأمّا القاعدة المستفادة من الروايات المتقدمة ، ) يعني بها قاعدة الميسور ( فالظاهر : عدم جريانها ) عند تعذر بعض الشروط .

لكن لا يخفى ان هذا هو ما يراه المصنِّف ، وإلاّ فالظاهر : إنّ العرف يفهم من جميع تلك الروايات عدم الفرق بين الجزء والشرط والمانع والقاطع بالنسبة اليها ولا منافاة بين الدقة العقلية التي ذكرها ، والفهم العرفي الذي نراه ، ومن المعلوم :

ص: 138

أمّا الاُولى والثالثة : فاختصاصهما بالمركب الخارجي واضحٌ .

وأمّا الثانية : فلاختصاصها - كما عرفت سابقا - بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت حتى ينفي كون المعسور سببا لسقوطه .

ومن المعلوم : أن العمل الفاقد للشرط ، كالرقبة الكافرة - مثلاً - لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا

-------------------

إنّ المعيار هو الثاني لا الأوّل .

وكيف كان : فالمصنّف يناقش في دلالة الروايات على وجوب الباقي عند تعذر بعض الشروط وذلك بقوله : ( أمّا الاُولى والثالثة : ) وهما : « فأتوا منه ما استطعتم » (1) و « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (2) ( فاختصاصهما بالمركب الخارجي واضح ) وذلك بقرينة التبعيض في الاُولى ولفظ الكل في الثالثة ، فلا يشملان الشرط .

( وأمّا الثانية : فلاختصاصها - كما عرفت سابقا - بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت ) وذلك بان يكون الميسور في نظر العرف هو المأمور به النفسي مسامحة ( حتى ينفي كون المعسور سببا لسقوطه ) أي : سقوط الميسور ، فالميسور بنظر العرف باق على وجوبه عند تعذر بعض الاجزاء لوجود المقتضي لثبوته ، دون الميسور بعد تعذر بعض الشروط فانه كما قال :

( ومن المعلوم : ان العمل الفاقد للشرط كالرقبة الكافرة - مثلاً - لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا ) وذلك لان الرقبة الكافرة مباينة في نظر العرف

ص: 139


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح208 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

حتى لا يسقط بتعسر الشرط ، وهو الايمان .

هذا ، ولكن الانصاف جريانُها في بعض الشروط التي يحكم العرفُ ، ولو مسامحة باتحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها .

ألا ترى : أنّ الصلاة المشروطة بالقبلة ، أو الستر ، أو الطهارة ، إذا لم يكن فيها هذه الشروط كانت عند العرف هي التي فيها هذه الشروط ؛ فاذا تعذرّت احدى هذه صدق الميسور على الفاقد لها ، ولولا هذه المسامحة

-------------------

للرقبة المؤمنة ، وكذا الصلاة مع الطهارة مباينة للصلاة بلا طهارة ، فليست هي حينئذ المأمور به النفسي مسامحة ( حتى لا يسقط ) الميسور الباقي منها ( بتعسر الشرط ، وهو الايمان ) في الرقبة والطهارة في الصلاة مثلاً .

( هذا ، ولكن الانصاف جريانها ) أي : جريان الرواية الثانية وهي رواية الميسور ( في بعض الشروط التي يحكم العرف ، ولو مسامحة باتحاد المشروط الفاقد لها ) أي : للشروط ( مع الواجد لها ) فهما عند العرف شيء واحد ، إلاّ ان أحدهما ميسور والآخر معسور .

( ألا ترى : انّ الصلاة المشروطة بالقبلة ، أو الستر ، أو الطهارة ، إذا لم يكن فيها هذه الشروط كانت عند العرف ) بالنظر المسامحي ( هي التي فيها هذه الشروط ، فاذا تعذّرت احدى هذه ) الشروط ( صدق الميسور على الفاقد لها ) أيضا ، لأن أهل العرف يرون الصلاة صلاة سواء كانت مع الشرط أم بدون الشرط .

نعم ، يرون من اللازم أولاً : الاتيان بها مع الشروط المذكورة ، فاذا تعذر شيء من تلك الشروط رأوا من اللازم : الاتيان بها بحسب المقدور من تلك الشروط .

( و ) عليه : فانه ( لولا هذه المسامحة ) العرفية لم تجر قاعدة الميسور هنا ،

ص: 140

لم يجر الاستصحاب بالتقرير المتقدّم .

نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغايرٌ كلّي في العرف ، نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ،

-------------------

كما ( لم يجر الاستصحاب ) فيما نحن فيه أيضا ولا في كثير من الاُمور .

أما تصور المسامحة العرفية هنا فيكون ( بالتقرير المتقدّم ) وهو : ان الجامع للشروط مع الفاقد للبعض يكون بنظر العرف واحدا ، لانه عندهم من تبدل الحالات لا من تبدل الموضوع ، وكما يجوز في أمثال هذه الموارد المشكوكة التمسك باستصحاب وجوب المشروط ، كذلك يجوز فيما نحن فيه التمسك بدليل الميسور ، لان العرف يرى ان الباقي هو الميسور من المعسور الذي لايتمكن المكلّف منه إطلاقا ، أو يتمكن منه لكن بعسر مرفوع شرعا .

( نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغاير كلّي في العرف ، نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ) فان بينهما تغاير كلي ، وقد أشار تعالى إلى المغايرة هذه وهو يصف الكفار بقوله : « يأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوىً لهم » (1) .

وقال جلّ ذكره : « ان هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل » (2) .

وقال عزّ من قال : « فمثله كمثل الكلب » (3) .

وقال سبحانه تعالى : « مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا » (4) إلى غير ذلك .

ص: 141


1- - سورة محمد : الآية 12 .
2- - سورة الفرقان : الآية 44 .
3- - سورة الاعراف : الآية 176 .
4- - سورة الجمعة : الآية 5 .

أو الحيوان الناهق بالنسبة إلى الناطق ، وكذا ماء غير الرمان بالنسبة إلى ماء الرمان ، لم تجر القاعدةُ المذكورة .

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الرياض ، حيث بنى وجوب غسل الميت بالماء القَراح ، بدلَ ماء السدر ،

-------------------

( أو ) كان التغاير الكلي نظير ( الحيوان الناهق بالنسبة إلى الناطق ) كما إذا قال المولى : جئني بحيوان ناطق ، فلم يتمكن من الناطق ، فهل يأتي بالحيوان الناهق لوجود الجنس فيهما معا ؟ .

( وكذا ) لو كان التغاير الكلي نظير تغاير ( ماء غير الرمان بالنسبة إلى ماء الرمان ) فانه إذا قال المولى : جئني بماء الرمان ، لا يكفي ان يأتي له باللبن ، أو بماء العنب ، أو بالماء القراح - مثلاً - لانّ أهل العرف لا يرون هذا الممكن ميسور ذلك الفاقد .

وعليه : فاذا كان التغاير بين الواجد والفاقد كليا كما مثلنا له ( لم تجر القاعدة المذكورة ) أي : قاعدة الميسور ، كما لا يجري الاستصحاب حينئذ أيضا .

نعم ، ربما يفهم من كلام المولى بسبب القرائن الخارجية ان الأمثلة المذكورة هي من الميسور أيضا ، كما إذا أراد المولى الطواف وهو لا يقدر على المشي .

فقال لعبده : ائتني بحيوان ناطق ليحمله في الطواف ، فان الناهق هنا يكون ميسورا منه ، وكذا إذا غصّ المولى بلقمته وأراد تليين اللقمة ليزدردها فقال : أئتني

بماء الرمان ، فان غيره من المضاف ، أو القراح يكون ميسورا عنه عرفا وهكذا .

( ومما ذكرنا ) : من التفصيل في الشروط ، وانّ فقد بعض الشروط لا يوجب سقوط المشروط للمسامحة العرفية بين الواجد للشرط وفاقده ، وان فقد بعضها الآخر يوجب سقوط المشروط لعدم المسامحة العرفية فيها ( يظهر ما في كلام صاحب الرياض ، حيث بنى وجوب غسل الميت بالماء القراح ، بدل ماء السدر )

ص: 142

على أن ليس الموجودُ في الرواية الأمرَ بالغسل بماء السدر على وجه التقييد ، وإنّما الموجود : « وليكن في الماء شيء من السدر » .

-------------------

أو بدل ماء الكافور على انه ليس من المقيد .

وإنّما أوجب الغسل بالماء عند تعذر السدر أو الكافور لانه قال : ان الأمر هنا ليس من قبيل القيد والمقيّد حتى ينتفي الغسل بتعذر السدر أو الكافور ، وإنّما من قبيل الجزء والكل فلا ينتفي الغسل عند تعذر السدر أو الكافور ، مع انه ليس كذلك ، فقد عرفت : انه حتى لو كان من القيد والمقيّد لم ينتف الغسل للتسامح العرفي بين الواجد للسدر وفاقده ، والواجد للكافور وفاقده .

وعليه : فعند تعذّر السدر والكافور ، هل يكتفي الغاسل بتغسيله غسلاً واحدا لتعذر السدر والكافور ، أو يغسله ثلاثة أغسال بالماء القراح ، أحدها : ميسور ماء السدر ، وثانيها : ميسور ماء الكافور ، وثالثها : نفس الماء القراح؟ قال صاحب الرياض بوجوب الثلاثة .

هذا ، وقد استدل لوجوب الثلاثة بناءا ( على ان ليس الموجود في الرواية الأمر بالغسل بماء السدر على وجه التقييد ) فلم تقل الرواية : اغسله بماء السدر والكافور لتفيد تقييد ماء الغسل بالسدر والكافور ، حتى ينتفي المقيّد وهو : الغسل بانتفاء القيد وهو : السدر والكافور ( وإنّما الموجود ) في الرواية : ( « وليكن في الماء شيء من السدر » (1) ) ولأجله قال صاحب الرياض : إنّ هنا مطلوبين مستقلين : الأوّل : الغسل .

ص: 143


1- - الكافي فروع : ج3 ص139 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص108 ب5 ح14 و ص300 ب13 ح43، وسائل الشيعة : ج2 ص483 ب2 ح2699 .

توضيح ما فيه : أنّه لا فرق بين العبارتين ، فانه إن جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد ، كان قوله : « وليكن فيه شيء من السدر » كذلك ، وإن كان من اضافة الشيء إلى بعض أجزائه كان الحكم فيها واحدا .

-------------------

الثاني : خلطه بشيء من السدر ، أو بشيء من الكافور ، ولا يسقط الأوّل بتعذر الثاني .

لكن لا يخفى : ان كلام الرياض في بدلية الماء عن الخليطين تام ، فانه يجب غسل الميت بثلاثة مياه ، إلاّ ان طريقة استدلاله لذلك غير تام ، فبدأ المصنِّف في ( توضيح ما فيه ) أي : ما في الاستدلال بقوله : ( انّه لا فرق بين العبارتين ) فسواء قال : اغسله بماء السدر ، أم قال : ليكن في الماء شيء من السدر كان الحكم فيها واحدا كما قال : ( فانه ان جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد كان قوله : وليكن فيه شيء من السدر كذلك ) من القيد والمقيّد ( وان كان من اضافة الشيء إلى بعض اجزائه كان الحكم فيها ) أي : في عبارة : وليكن فيه شيء من السدر أيضا كذلك ، فيكون حكم العبارتين المذكورتين ( واحدا ) غير ان فهم عبارة الرواية في انها من القيد والمقيّد، أو من اضافة الشيء إلى بعض أجزائه موكول إلى العرف .

وعلى أي حال : فالعبارتان المذكورتان ، امّا تفيدان الشرطية ، فعند تعذر السدر سقط وجوب الغسل اطلاقا لوضوح مباينة ماء السدر مع الماء القراح ، فلا يكون الماء القراح ميسورا لماء السدر ، كما انه لا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع ، وامّا تفيدان الجزئية فعند تعذر الجزء لا يسقط الغسل رأسا لجريان القاعدتين : قاعدة الميسور ، والاستصحاب .

أقول : لكنك قد عرفت : عدم الفرق بين الجزء والشرط في جريان قاعدة الميسور فيهما معا .

ص: 144

ودعوى : « أنّه من المقيّد ، لكن لما كان الأمرُ الواردُ بالمقيد مستقلاً ، فيختصّ بحال التمكن ، ويسقط حالَ الضرورة ، ويبقى المطلقات غيرَ مقيّدة بالنسبة إلى الفاقد » ،

-------------------

نعم ، ربما يستشكل هنا : بأنّ الماء القراح ليس من ميسور ماء السدر ، كما لم يكن الماء الخالص من ميسور المرق في المثال السابق ، وذلك لما تقدّم : من انه لا يصدق عليه عرفا انه ميسوره ، لانّ المتعذر كان مقوّما للاسم وبانتفائه انتفى الاسم، فسقط الباقي عن الوجوب .

ثم لا يخفى : ان هذا الكلام من صاحب الرياض إنّما هو إشكال منه على المحقق ، حيث انه عند شرح قول المحقق هنا قال :

«ولو تعذر السدر والكافور كفت المرة بالقراح عند المصنِّف وجماعة ، لفقد المأمور به بفقد جزئه بعد تسليمه ، وهو كذلك إذا دلت الأخبار على الأمر بالمركب ، وليس كذلك لدلالة أكثرها وفيها الصحيح وغيره على الأمر بتغسيله بماء وسدر ، فالمأمور به شيئان متمايزان وان امتزجا في الخارج ، وليس الاعتماد في ايجاب الخليطين على ما دل على الأمر بتغسيله بماء السدر خاصة حتى يرتفع الأمر بارتفاع خليطه ، وبعد تسليمه لا نسلم فوات الكل بفوات الجزء بعد قيام المعتبرة باتيان الميسور وعدم سقوطه بالمعسور ، وضعفها بعمل الأصحاب طرا مجبور ، فاذن : الأقوى وجوب الثلاثة بالقراح وفاقا لجماعة» .

هذا ( ودعوى : « أنّه من ) القيد و ( المقيّد ، لكن لما كان الأمر الوارد بالمقيد مستقلاً ) بأن كان هنا أمران : أمر بالغسل ، وأمر بكونه بماء السدر ، فانه إذا كان كذلك ( فيختصّ ) كونه بماء السدر ( بحال التمكن ، ويسقط حال الضرورة ، ويبقى المطلقات ) الآمرة بالغسل ( غير مقيّدة ) بالسدر ( بالنسبة إلى الفاقد » )

ص: 145

...

-------------------

للسدر ، وكذا بالنسبة إلى الكافور .

والحاصل : ان الدعوى وان تسلّم ان السدر والكافور في ماء الغسل من الشرط والمشروط على التعبيرين ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، إلاّ انها تحاول التخلص فيما نحن فيه بجعل الأمر بالشرط مستقلاً بحيث إذا تعذر الشرط سقط الشرط وحده والحال ان هذا التخلص ليس بصحيح لان الشرط فيما نحن فيه ليس بأمر مستقل ، بل هو والمشروط بأمر واحد مثل : اغسله بماء السدر واغسله بماء الكافور ، وفي مثله إذا انتفى الشرط ينتفي المشروط ، لوضوح : ان المشروط وغير المشروط أمران متباينان ، فليس أحدهما ميسورا من الآخر .

نعم ، إذا ثبت كل من المركب واجزائه ، والمشروط وشروطه ، بدليل مستقل ، فان كان لدليل المركب أو المشروط اطلاق معتبر لم يكن دليل الجزء والشرط كذلك ، تقيّد الاشتراط والتركيب بحال التمكن من الشرط والجزء ، فعند تعذر الشرط والجزء يتمسك باطلاق دليل المركب والمشروط لفرض ان دليلهما مطلق يشمل حال التمكن من الشرط والجزء وحال العدم .

وعليه : فيكون ما نحن فيه حينئذ من قبيل قوله : أنفق على زوجتك ، مع قوله فيكلام آخر : ليكن الانفاق على النحو المتعارف ، فانّ اطلاق الأمر الأوّل : يقتضي وجوب الانفاق بالنحو غير المتعارف إذا تعذر الانفاق على النحو المتعارف .

وإنّما يقتضي ذلك لان للأمر الأوّل اطلاق فيتمسك به عند تعذر المتعارف من الانفاق ، بخلاف الأمر الثاني فانه يسقط بالتعذّر ولا يستطيع ان يقيّد اطلاق الأمر الأوّل حتى في حال التعذر حتى يكون نتيجة التقييد : سقوط الانفاق رأسا عند تعذر الانفاق بالنحو المتعارف .

ص: 146

مدفوعةٌ : بأنّ الأمر في هذا المقيّد للارشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذر ، وليس مسوقا لبيان التكليف ، إذ التكليف المتصورُ هنا هو التكليف المقدّمي ، لأن جعل السدر في الماء ، مقدمةٌ للغسل بماء السدر

-------------------

وكيف كان : فالدعوى ( مدفوعة : بأنّ الأمر في هذا المقيّد ) - بالكسر - على فرض استقلاله إنّما هو ( للارشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذر ) .

والحاصل : انا وان سلمنا ان الشرط بأمر ثان مستقل ، إلاّ ان هذا الأمر الثاني بالشرط أمر ارشادي كاشف عن تقيّد الواجب به وان لم يذكر معه في كلام واحد ، فيكون الأمر الأوّل مقيّدا بالثاني وجودا أو عدما فاذا تعذر القيد سقط المقيّد رأسا فلا تكليف بالأمر الأوّل .

( و ) ان قلت : الأمر الثاني تكليف مستقل ، فاذا تعذر سقط وحده وبقي الأمر الأوّل بالغسل .

قلت : ( ليس ) الأمر الثاني المقيّد للأول ( مسوقا لبيان التكليف ) مستقلاً حتى يكون هناك تكليفان أحدهما مستقل عن الآخر ، فاذا سقط التكليف الثاني بالتعذر، بقي التكليف الأوّل على وجوبه ( إذ التكليف المتصور هنا ) أي : في الأمر الثاني على رأي المصنِّف قدس سره ( هو التكليف المقدّمي ) .

وعليه : فالأمر الثاني لا يخلو من أحد وجهين : فهو إمّا ان يكون ارشاديا محضا، كما قال : الأمر في هذا المقيّد للارشاد ، وإمّا ان يكون مولويا مقدّميا ، وذلك ( لأن جعل السدر في الماء ، مقدمة للغسل بماء السدر ) كجعل التطهر مقدمة للصلاة مع الطهارة .

وعلى كل من الوجهين : فانه سواء جعلنا الأمر الثاني تكليفيا مقدّميا ، أم ارشاديا محضا ، فالأمر الثاني يكون مقيّدا للأمر الأوّل ولا يسقط وحده بالتعذر ،

ص: 147

المفروض فيه عدم التركيب الخارجي له ، لا جزء خارجي له حتى يسقط عند التعذّر .

وتقييده بحال التمكّن ناشٍ من تقييد وجوب ذيها ، فلا معنى لاطلاق أحدهما وتقيّد الآخر كما لايخفى على المتأمّل .

-------------------

بل إذا تعذّر السدر سقط الأمر بالغسل أيضا .

وإنّما جعل الأمر الثاني هنا من القيد والمقيّد لا من الجزء والكل ، لان ( المفروض فيه عدم التركيب الخارجي له ) كما اعترف به المدّعي في الدعوى أيضا، فالأمر الثاني إذن من المقيّد ( لا ) ( جزء خارجي له ) ليكون من الجزء والكل ( حتى يسقط عند التعذّر ) أي : تعذر الجزء ويبقى الأمر الأوّل بالغسل على وجوبه لقاعدة الميسور .

والحاصل : ان الأمر بالسدر ، سواء قلنا : انه أمر تكليفي مقدمي ، أم أمر ارشادي محض ، فانه لا يسقط بالتعذر ، بل يكون الاشتراط باقيا حال التعذر أيضا ، فاذا لم يتمكن من السدر سقط الغسل رأسا ، لا انه يسقط السدر ويبقى الغسل بالماء القراح .

( و ) إنّما قال : لا يسقط الأمر الثاني وحده حال التعذر ، لان ( تقييده بحال التمكّن ) حتى يسقط وحده عند التعذر ، أو عدم تقييده بحال التمكن حتى لا يسقط وحده عند التعذر ( ناشٍ من تقييد ) أو عدم تقييد ( وجوب ذيها ) أي : تابع في وجوده وسقوطه لذي المقدمة .

إذن : ( فلا معنى لاطلاق أحدهما وتقيّد الآخر ) أي : لا معنى لأن نقول : بأن الأمر بالغسل مطلق يشمل حال التمكن والتعذر عن السدر والأمر بالسدر مقيّد بحال التمكن منه فقط ( كما لا يخفى على المتأمّل ) .

ص: 148

ويمكن أن يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه برواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : « قلت لأبي عبداللّه عليه السلام عثرتُ فانقطع ظفري

-------------------

وان شئت قلت : إنّ المحقق قال : انه إذا تعذر الخليط كفاه غسل واحد ، والرياض أشكل عليه : بأنّ قاعدة الميسور تقتضي ثلاثة أغسال ، والمصنِّف وغيره أشكلوا على الرياض بأُمور :

الأوّل : انه لا فرق بين العبارتين فسواء قال المولى : اغسله بماء السدر ، أم قال : وليكن في الماء شيء من السدر ، فان الحكم فيهما يكون واحدا .

الثاني : ان احتمال الاستقلال في العطف بالواو ، إنّما هو فيما إذا لم يدل قرينة على خلافه ، وهنا قرينة تدل على ارتباط الماء بالسدر والسدر بالماء ، فلا استقلال لكل منهما ، لان اللازم هو الماء الخليط .

الثالث : انه على فرض الاستقلال ، فان الأمر الثاني هنا إمّا للارشاد المحض ، فيدل على ان الغسل الواجب مشروط بهذه الكيفية ، فلا يسقط الشرط بالتعذر ويبقى أصل الغسل ، وإمّا للتكليف المقدمي ، فيدل على ان جعل السدر في الماء مقدمة للغسل بماء السدر ، فاذا تعذر السدر سقط الغسل رأسا ، لانه من القيد والمقيد ، لا من الجزء والكل حتى يسقط الجزء عند التعذر ، ويبقى أصل الغسل .

هذا ، ولا يخفى : ان الكلام في المقام طويل لا يقتضيه الشرح وان كان الأظهر هو ما قاله الرياض : من وجوب الأغسال الثلاثة إذا تعذر السدر والكافور .

( ويمكن ان يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه ) بعد ان استدل عليه بالبرائة والاستصحاب على اشكال فيهما ( برواية عبدالأعلى مولى آل سام ) وهي كما يلي :

( قال : « قلت لأبي عبداللّه عليه السلام عثرت ) أي : زلّت قدمي ( فانقطع ظفري ) أي :

ص: 149

فجعلتُ على اصبعي مرارةً ، فكيف أصنعُ بالوضوء ؟ قال : يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزوجل : « ما جعلَ عليكُمْ في الدِّين من حَرَجٍ » إمسح عليه » .

فانّ معرفة حكم المسألة ، أعني : المسح على المرارة من آية نفي الحرج ، متوقفةٌ على كون تعسر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ، بأن يكون المنفيُّ بسبب

-------------------

ظفر أصابع رجله ( فجعلت على اصبعي مرارةً فكيف اصنع بالوضوء ) مع تعذر المسح على نفس الاظفر والاصبع ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزوجل ) حيث قال سبحانه : ( « ما جعل عليكم في الدين من حرجٍ » (1) ) ثم قال : ( امسح عليه ) (2) أي : على ما جعله على اصبعه من المرارة ، فإنّ المسح على نفس الاصبع حرج ، ولذا كان مرفوعا .

وإنّما يكون هذا الحديث دليلاً على عدم سقوط المشروط مع تعذر شرطه لما ذكره المصنِّف بقوله :

( فإنّ معرفة حكم المسألة ، أعني : المسح على المرارة من آية نفي الحرج ، متوقفةٌ على ) مقدمة خارجية وهي : ( كون تعسر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ) فالمسح واجب ويشترط ان يكون بمباشرة اليد للرجل ، وحيث ان سقوط الشرط لا يوجب سقوط المشروط ، أمر الامام ( بأن يكون المنفيّ بسبب

ص: 150


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

الحرج مباشرةَ اليد الماسحة للرجل الممسوحة ، ولا ينتفي بانتفائه أصل المسح المستفاد وجوبُه من آية الوضوء .

إذ لو كان سقوطُ المعسور ، وهي المباشرة ، موجبة لسقوط أصل المسح ، لم يكن معرفة وجوب المسح على المرارة من مجرّد نفي الحرج ، لأنّ نفي الحرج ، حينئذ يدلّ على سقوط المسح في هذه الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب المسح على المرارة إلى دليل خارجي .

-------------------

الحرج مباشرة اليد الماسحة للرجل الممسوحة ولا ينتفي بانتفائه ) أي : بانتفاء الشرط الذي هو المباشرة ( أصل المسح المستفاد وجوبه من آية الوضوء ) (1) ومن سائر الروايات الدالة على وجوب المسح .

( إذ لو كان سقوط ) الشرط ( المعسور وهي المباشرة ، موجبة لسقوط ) المشروط وهو ( أصل المسح ، لم يكن معرفة وجوب المسح على المرارة ) مستفادا ( من مجرّد نفي الحرج ) في الآية ( لان نفي الحرج حينئذ ) أي : حين تعذر المباشرة ( يدلّ على سقوط المسح في هذه الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب المسح على المرارة إلى دليل خارجي ) .

والحاصل : ان حكم المسألة وهو المسح على المرارة لا يمكن استفادته من آية : نفي الحرج وحدها إلاّ بعد ضم قاعدة الميسور المستفادة من الروايات اليها .

وإنّما لا يمكن ذلك إلاّ مع ضم القاعدة لأن نفي الحرج في الآية أعم من المسح على المرارة ، فلولا قاعدة الميسور كانت المسألة مجملة في انه هل المراد من نفي

ص: 151


1- - اشارة الى الآية 6 من سورة المائدة «يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم الى الكعبين » .

فرعان

الأوّل : لو دار الأمرُ بين ترك الجزء وترك الشرط - كما في ما إذا لم يتمكّن من الاتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها في مجلس واحد ، على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه - فالظاهرُ تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس ، وترك الشرط باتيان جميع الأجزاء

-------------------

الحرج سقوط أصل المسح ، أو سقوط المباشرة؟ فبمعونة قاعدة الميسور تتعيّن دلالة الآية على سقوط المباشرة دون أصل المسح ، فيمسح على المرارة .

ومن المعلوم : إنّ أشباه ذلك من أحكام الجبائر في الوضوء والغسل والتيمم بالنسبة للاحياء والأموات يفهم أيضا من هذه الآية بمعونة قاعدة الميسور - كما عرفت - .

( فرعان : الأوّل : لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط ) بان لم يتمكن من الاتيان بهما معا ( - كما في ما إذا لم يتمكّن من الاتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها في مجلس واحد ، على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه - ) فانه إذا اشترط ذلك ودار الأمر بين ان يأتي بكل الأجزاء في مجلسين مما يوجب فقد الشرط وهو : المجلس الواحد ، وبين أن يأتي ببعض الاجزاء في مجلس واحد فيوجب فقد الجزء ، وكذا لو دار الأمر - مثلاً - بين ترك الاستقبال في الصلاة أو ترك الحمد .

( فالظاهر ) عند المصنِّف ( تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس ) الواحد .

هذا ( وترك الشرط ) يكون بأحد وجهين: إمّا (باتيان جميع الأجزاء ) بلاشرط، وذلك بأن لا يكون الشرط في جزء من الاجزاء ، كالاتيان بأجزاء الصلاة جميعها

ص: 152

أو بعضها بغير شرط ، لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ، ويحتمل التخيير .

-------------------

إلى غير القبلة .

( أو ) باتيان ( بعضها بغير شرط ) كما إنه إذا أراد الاحتفاظ بقرائة الحمد الذي هو جزء الصلاة طالت صلاته ، فرآه الظالم وأجبره على الانحراف من القبلة حيث يقع بعض أجزاء الصلاة فاقدا للشرط فيما إذا أراد الاحتفاظ بالجزء وهو قرائة الحمد ، فيدور أمره بين ترك الحمد واتيان جميع الصلاة إلى القبلة ، وبين قرائة الحمد واتيان بعض الصلاة إلى غير القبلة .

هذا ، وفي كلا الوجهين قال المصنِّف بتقديم ترك الشرط .

وإنّما قال المصنِّف بتقديم ترك الشرط بوجهيه على ترك الجزء ( لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ) وذلك لأن الوصف متأخر عن الأصل ، والجزء يعدّ من الأصل ، فالجزء سابق على الشرط ، والسابق أولى بالمراعاة ، فاللازم الاتيان بالجزء لأنّ تقدّم رتبة الجزء على الشرط في مقام تأليف المهية يعطي للجزء أهمية أكثر .

( ويحتمل التخيير ) فيما لو دار الأمر بين ترك الشرط أو الجزء ، وذلك لأن مجرد تأخر رتبة الشرط في التصور لا يوجب تعيّن فوات الشرط عند الدوران بين فواته وفوات الجزء .

هذا ، لكن الظاهر في المسألة هو : التفصيل بين ما إذا أحرز الأهمية في أحدهما إلى حد المنع عن النقيض ، فيقدم الأهم ، وبين ما لم يحرز ذلك فيتخيّر .

وأمّا ما ذكره المصنِّف قدس سره في وجه تقديم الجزء ، فهو وجه اعتباري لا يوجب الجزم ، فإنّ تقدّم لحاظ الجزء في مقام التأليف لايقتضي ترجيحه على الشرط

ص: 153

الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلاً اضطراريا ، كالتيمم ، ففي تقديمه على الناقص وجهان :

-------------------

عند وقوع التزاحم بينهما ، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فربما يقدّم الجزء وربما يقدّم الشرط .

هذا ، ولا يخفى : ان المصنِّف رحمه اللّه تبع الدروس في هذا الأمر حيث قد سبقه الدروس في الاستدلال بأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف على ما حكي عنه .

ومما ذكرنا : من ان اللازم مراعاة أهم الأمرين ان كان ، وإلاّ فالتخيير ، يعلم حال ما إذا دار الأمر بين شرطين ، أو بين جزئين ، أو بين مانعين ، أو بين قاطعين ، أو بالاختلاف مثل شرط ومانع إلى غير ذلك .

نعم ، ربما يقال : ان اللازم مراعاة المقدّم زمانا وان تساويا ، فاذا دار الأمر - مثلاً - بين ان يقوم في الركعة الاُولى أو الثانية ، فانه يلزم تقديم القيام في الركعة الاُولى على القيام في الركعة الثانية ، لانه قادر الآن ولا وجه لحفظ القدرة للركعة الثانية بدون الاضطرار إلى ذلك ، وكذا إذا دار الأمر بين الصيام أول يوم من شهر رمضان أو ثاني يوم منه ، وهكذا .

ومن المعلوم : ان تقديم المقدّم زمانا هو نوع من الترجيح الذي ذكرنا انه من مقتضيات التزاحم فيما إذا كان راجح هناك .

الفرع ( الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلاً اضطراريا كالتيمم ) الذي هو بدل اضطراري عن الوضوء والغسل ( ففي تقديمه على الناقص ) من المبدل منه ، كما إذا دار الأمر بين الوضوء الناقص أو التيمم ، أو دار الأمر بين الغسل الناقص أو التيمم ( وجهان ) :

ص: 154

من أنّ مقتضى البدليّة : كونُه بدلاً عن التام ، فيقدّم على الناقص كالمُبدل .

ومن أنّ الناقص حال الاضطرار تام ، لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم على البدل كالتام ويدلّ عليه رواية عبد الأعلى المتقدّمة .

-------------------

أمّا وجه تقديم البدل فهو قوله : ( من أنّ مقتضى البدليّة : كونه بدلاً عن التام ، فيقدّم على الناقص كالمبدل ) وهو التام حيث يقدّم على الناقص ، وذلك لان التيمم في قوة الوضوء التام حال تعذر الوضوء لانه مقتضى البدلية ، وكما يقدّم الوضوء التام على الوضوء الناقص ، كذلك يقدّم التيمم الذي هو بدله على الوضوء الناقص .

وأمّا وجه تقديم الناقص فهو قوله : ( ومن انّ الناقص حال الاضطرار تام ، لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم ) الناقص ( على البدل كالتام ) أي : كما يقدّم الوضوء التام على التيمم ، كذلك يقدّم الوضوء الناقص على التيمم ، لانّ الناقص في حال تعذّر الجزء بمنزلة التام .

( ويدلّ عليه ) أي : على تقديم الناقص من المبدل على التام من البدل الاضطراري ، اضافة إلى قاعدة الميسور : ( رواية عبدالأعلى المتقدّمة ) حيث أمره الامام عليه السلام فيها، بوضوء ناقص ، وذلك بأن يمسح على الجبيرة (1) ، ولو كان التيمم مقدّما على الوضوء الناقص لكان تكليفه التيمم، فلأمره بالتيمم لا بالوضوء الناقص .

ص: 155


1- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

الأمر الثالث

لو دار الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة ،

-------------------

لكن لا يخفى انه يشترط هنا كما ذكرنا فيما سبق : لزوم ان يصدق الميسور على الناقص ، فاذا لم يصدق عليه كان اللازم البدل ، كما إذا تعذّر عليه غسل وجهه في الوضوء وتمكن من غسل اليدين والمسحين فقط ، فان اللازم تقديم التيمم ، لا الوضوء الفاقد لغسل الوجه ، وكذا إذا تمكن من الصيام مع شرب الدواء في اليوم مرات لمكان مرضه ، فانه ينتقل إلى البدل وهو القضاء ، لا الناقص من صوم شهر رمضان .

( الأمر الثالث ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها : ( لو دار الأمر بين الشرطية والجزئية ) بان علمنا إنّ الشيء الفلاني واجب ، لكن لم نعلم هل انه شرط أو جزء ؟ وذلك كما تقدّم في مثال السدر والكافور حيث لم نعلم ان الواجب هو الماء، والسدر والكافور من شرطه ، أو ان الواجب هو ماء السدر وماء الكافور ، بان يكون هناك جزئان : ماء وسدر ، أو ماء وكافور ؟ .

وكذا حال النية في الصلاة بان لم نعلم هل النية جزء أو شرط ؟ .

وهكذا الطمأنينة بين السجدتين حيث لم نعلم هل انها جزء من الصلاة أو شرط وهكذا ؟ .

وعليه : فهل هناك أصل يدل على ان هذا جزء أو شرط ، أو انه لا أصل في المقام ؟ .

ثم لا بأس هنا بعد ان ذكرنا في المباحث القريبة الفرق بين الجزء والشرط ، ان نشير الآن إلى الثمرة المترتبة على كون الشيء جزءا أو شرطا ، فانهم ذكروا الثمرة في امور هي : مثل ما لو نذر ان يعطي لمن صلى الصبح - مثلاً - دراهم بعدد أجزاء

ص: 156

فليس في المقام أصل كليّ يتعيّن به أحدهما ، فلابد من ملاحظة كل حكم يترتب على أحدهما وأنّه موافق للأصل أو مخالف له .

-------------------

صلاته ، فهل يجب أن يعطيه درهما بازاء النية أم لا؟ فعلى الجزئية يجب ان يعطيه درهما بازائها ، وعلى الشرطية لا .

ومثل ما لو نذر وقوع عمل في وقت خاص ، وكان ذلك الوقت لا يسع لأداء العمل مع الاتيان بالشيء المشكوك في انه جزء أو شرط لذلك العمل ، فانه إذا كان ذلك المشكوك شرطا إنعقد النذر ، بينما لو كان جزءا لم ينعقد ، وذلك فيما إذا كان النذر خاصا بالأجزاء دون الشروط .

ومثل ما لو قلنا بجريان قاعدة الميسور في الأجزاء دون الشروط ، فانه يجب الاتيان بالميسور عند تعذر المشكوك بناءا على كونه جزءا ، بخلاف ما إذا كان شرطا .

ومثل ما لو آجر نفسه لعمل مشتمل على شيء مردد بين الشرط والجزء وأخل به ، فان كان شرطا لم يقسّط الثمن عليه لبنائهم على انه ليس للشرط ثمن ، بينما إذا كان جزءا قسّط الثمن عليه بمقداره .

وكيف كان : ( فليس في المقام أصل كلي يتعيّن به أحدهما ، فلابد من ملاحظة كل حكم يترتب على ) خصوص ( أحدهما ) من الشرط أو الجزء ( وانه موافق للأصل أو مخالف له ) فاذا شك في شيء انه جزء للصلاة أو شرط فيها وقلنا : بان الرياء في الجزء مبطل للعمل دون الشرط ، كان مقتضى الأصل : عدم ابطال الرياء فيه ، لانه لم يحرز كونه جزءا حتى يبطله الرياء .

قال : في الأوثق : « ربما يمكن تمييز الجزئية أو الشرطية بحسب تعبيرات الشارع في الأدلة اللفظية ، فان قال الشارع : لا صلاة إلاّ بطهور ، أو بستر ،

ص: 157

الأمر الرابع

لو دار الأمرُ بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا أو كونه زيادة مبطلة .

ففي التخيير هنا ، لأنّه من دوران الأمر في ذلك

-------------------

أو باستقبال ، أو ما يؤدي هذا المعنى ، يستفاد منه كون هذه الاُمور خارجة عن حقيقة الصلاة معتبرة في كيفيتها وهو معنى الشرطية ، وان قال : تطهّر ، وتستّر ، واستقبل مثل قوله : اركع واسجد في الصلاة استفيد منه كونها داخلة في المهية » (1) .

( الأمر الرابع ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها : ( لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ) كالجهر بالقرائة في ظهر يوم الجمعة - مثلاً - حيث لا نعلم هل انه شرط في صحة القرائة ، أو مانع عن صحتها حتى يكون الاجهار بها مبطلاً للصلاة ؟ .

( أو ) دار الأمر ( بين كونه جزءا أو كونه زيادة مبطلة ) كتدارك الحمد - مثلاً - عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ، حيث لا نعلم هل انه جزء فيجب الاتيان به ، أو زيادة مبطلة فيحرم الاتيان به ؟ .

وعليه : فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير ، لانه من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، أو انه لابد من الاحتياط والاتيان بالعمل مرتين : مرة مع ذلك الشيء المشكوك ، ومرة مع عدمه لانه من العلم الاجمالي ؟ .

إذن : ( ففي التخيير هنا ) بين الفعل والترك ( لأنه من دوران الأمر في ذلك

ص: 158


1- - أوثق الوسائل : ص 394 دوران الأمر بين ترك الجزء وبين ترك الشرط .

الشيء بين الوجوب والتحريم ، أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة وفعلها مرّةً مع ذلك الشيء ، واُخرى بدونه ، وجهان .

مثاله الجهرُ بالقرائة في ظهر الجمعة حيث قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر ، وكالجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ، وكتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة .

-------------------

الشيء بين الوجوب والتحريم ) ولا دليل على أحدهما ، ولذلك ان شاء فعل وان شاء ترك .

( أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة وفعلها مرّة مع ذلك الشيء ، واُخرى بدونه ؟ ) أي : بدون ذلك الشيء؟ ( وجهان ) .

ومن المعلوم : ان الاحتمال الثاني وهو لزوم الجمع بينهما احتياطا إنّما هو مع القدرة عليه ، وإلاّ فبدونها كما إذا ضاق الوقت فلم يسع لصلاتين ، فاللازم القول بالتخيير .

أما ( مثاله ) أي : مثال الدوران بين الشرطية والمانعية فهو : ( الجهر بالقرائة في ظهر ) يوم ( الجمعة حيث قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر ، وكالجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ) لمن يريد قرائة الفاتحة فيهما، فهل عليه ان يجهر بها أو يخفت ، لان في المسألة قولين ؟ .

( و ) أما مثال الدوران بين الجزئية والزيادة المبطلة فهو ( كتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ) حيث قد عرفت : انه يحتمل كون الحمد واجبا ، فاللازم الاتيان به ، فيكون تركه مبطلاً ، ويحتمل انه قد تجاوز محله ، فلايجوز الاتيان به ، فيكون الاتيان به مبطلاً .

ص: 159

فقد يُرجَّح الأوّل .

أمّا بناءا على ما اخترناه : من أصالة البرائة مع الشك في الشرطية والجزئية ،

-------------------

وعليه : فان هنا وجهين : التخيير ، والاحتياط ، ومع ذلك قال : ( فقد يُرجَّح الأوّل ) وهو : التخيير ، فيكون المكلّف الشاك في ان الجهر بالقرائة في ظهر الجمعة - مثلاً - شرط أو مانع ، مخيرا بين الجهر والاخفات ، فله ان يجهر بالقرائة في ظهر الجمعة وله ان يخفت بها .

هذا ، ولكن لما كانت هذه المسألة مرتبطة بمسألة الشك في الشرط والجزء ، كان الحكم فيها مبتنيا على الحكم في تلك المسألة ، وقد كان في تلك المسألة قولان : قول بالبرائة ، وآخر بالاحتياط ، فكيف قال بالتخيير ورجّحه في هذه المسألة مع ابتنائها في الحكم على تلك المسألة؟ فلابد إذن من تصحيح التخيير هنا على القولين هناك :

أمّا أول القولين في مسألة الشرط والجزء وهو : البرائة ، فقد قال به المصنِّف، ولذلك بدأ يشرح كيفية جريان البرائة هنا ليبني عليه التخيير فقال :

( أمّا بناءا على ما اخترناه : من أصالة البرائة مع الشك في الشرطية والجزئية ) فان المصنِّف قد اختار البرائة هناك في مسألة الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، وبنى عليها هنا التخيير ، وذلك لان البرائة هنا تقتضي عدم وجوب احدى الخصوصيتين من الجهر والاخفات على الشاك في الجهر والاخفات - مثلاً - فيكون مخيرا بين الاتيان بالقرائة جهرا ، وبين الاتيان بها اخفاتا .

إن قلت : كيف تجري البرائة هنا مع انها تستلزم المخالفة القطعية ، فيلزم القول بالاحتياط ، وحينئذ فلا تخيير .

ص: 160

فلأنّ المانع من اجراء البرائه عن اللزوم الغيري في كلّ من الفعل والترك ، ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة ، لأنها لاتتعلق بالعمل ، لأنّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروريّ مع العبادة ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنةٌ ، كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة .

وبتقرير آخر : إذا أتى بالعبادة مع واحد منهما

-------------------

قلت : صحيح ان البرائة هنا تستلزم المخالفة القطعية ، لكنها مخالفة التزامية وليست عملية حتى تكون قادحة كما قال : ( فلانّ المانع من اجراء البرائة عن اللزوم الغيري ) المقدمي للمشكوك جزئيته أو شرطيته ( في كل من الفعل والترك) الذي تردد المكلّف بينهما ( ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة ) في المقام ( لانها ) أي : المخالفة القطعية إنّما تتعلق بالالتزام و ( لا تتعلق بالعمل ) .

وإنّما لا تتعلق بالعمل ( لانّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروري مع العبادة ) لعدم خلو المكلّف من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب ، أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة ( فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنة ) حتى يقال بوجوب التكرار دفعا للعقاب ، وإنّما يلزم منه المخالفة الالتزامية ، والمخالفة الالتزامية غير قادحة كما تقدّم في باب القطع وغيره .

وعليه : فلا يلزم هنا مخالفة قطعية عملية ( كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة ) لان اجراء الأصل في الظهر والجمعة معا يوجب مخالفة قطعية عملية ولهذا يجب الاتيان بهما ، بينما هنا ليس الأمر كذلك فيجري الأصل فيهما .

( وبتقرير آخر ) للمصنف أوضح فيه جريان البرائة عن كلا المحتملين في هذه المسألة ، وهو : انه ( إذا أتى ) المكلّف ( بالعبادة مع واحد منهما ) فقد أتى

ص: 161

قبح العقابُ من جهة اعتبار الآخر في الواقع لو كان معتبرا ، لعدم الدليل عليه وقبح المؤاخذة من دون بيان .

فالأجزاء المعلومة مما يعلم كونُ تركها منشئا للعقاب ، وأمّا هذا المردّد بين الفعل والترك ، فلا يصح استناد العقاب اليه لعدم العلم به ، وتركهما جميعا غير ممكن ، حتى يقال : إنّ العقابَ على تركهما معا ثابتٌ،

-------------------

بالموافقة الاحتمالية وبقي الطرف الآخر مشكوكا ، وإذا كان مشكوكا ( قبح العقاب) عليه ، والعقاب إنّما يكون ( من جهة اعتبار ) الطرف ( الآخر في الواقع ، لو كان معتبرا ) فرضا ، فيكون العقاب عليه قبيحا ( لعدم الدليل عليه ) أي : على اعتبار الطرف الآخر ( و ) إذا لم يكن دليل عليه دل على نفيه ( قبح المؤاخذة من دون بيان ) .

والحاصل: ان العلم الاجمالي باعتبار وجوب شيء أو عدمه، لا أثر له بعد عدم تمكن المكلّف من المخالفة العملية القطعية ، لان الأمر دائر بين الفعل والترك ، فلم يبق إلاّ الشك في الاعتبار وهو مورد لاصالة البرائة .

إذن : ( فالأجزاء المعلومة مما يعلم كون تركها منشئا للعقاب ) يؤاخذ على تركها ، فلا يجوز له ان يترك شيئا منها ( وامّا هذا ) الواجب ( المردّد بين الفعل والترك ) لفرض ان المكلّف يعلم ان الجهر - مثلاً اما واجب الفعل أو واجب الترك ( فلا يصح استناد العقاب اليه ) سواء فعله أو تركه ، وذلك ( لعدم العلم به ) تفصيلاً .

( و ) اما ( تركهما جميعا ) بان يترك الفعل ويترك الترك ، فهو هنا ( غير ممكن حتى يقال : انّ العقاب على تركهما معا ثابت ) فانه في مكان يمكن تركهما معا

ص: 162

فلا وجه لنفيه عن كلّ منهما .

وأمّا ، بناءا على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية ،

-------------------

يثبت العقاب على تركهما ( فلا وجه لنفيه ) أي : لنفي العقاب حينئذ ( عن كلّ منهما ) بالأصل ، ومعلوم : ان ما نحن فيه ليس كذلك .

نعم ، من يقول بعدم جريان الأصلين في مكان علم ان جريان أحدهما فيه ليس بصحيح ، وذلك لانه يرى عدم شمول دليل الأصل لمثلهما وان لم يستلزم مخالفة عملية فانه يقول بعدم جريان الأصلين هنا أيضا .

وأما ثاني القولين في مسألة الشرط والجزء وهو الاحتياط، فقد قال به جماعة ، ولذلك بدأ المصنِّف بشرح كيفية جريان الاحتياط هنا ليبني عليه التخيير، وقال : فقال : ( وأمّا بناءا على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية ) فان جماعة قالوا بالاحتياط في مسألة الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، وبنى المصنِّف عليه التخيير هنا .

وإنّما بنى المصنِّف على الاحتياط هناك حكم التخيير هنا ، لان الاحتياط هناك إنّما يجب لتدارك ما هو جزء أو شرط واقعا ، وحيث ان تداركه هناك لايستلزم تكرار العبادة جاز ، لانه لا يضر بالجزم بالنية ، بينما الاحتياط هنا لتدارك ما هو شرط أو مانع واقعا يستلزم تكرار العبادة ، وذلك بأن يصلي مرة بقرائة جهرية ، ويصلي ثانية بقرائة اخفاتية ، وهذا التكرار هنا لا يجوز ، لانه يضر بالجزم بالنية .

وعليه : فيدور الأمر هنا بين بقاء وجوب الجزم بالنية فيحرم التكرار لانه مضر بالجزم في النية ، وبين بقاء وجوب ذلك المشكوك انه شرط أو مانع واقعا فيجب التكرار لاحراز ما هو واجب واقعا .

ومن المعلوم : ان وجوب الاحتياط بالجزم بالنية لتنجزه بسبب العلم به مقدّم

ص: 163

فلأن وجوب الاحتياط فرعُ بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، وايجابَهُ مع الجهل مستلزمٌ لالغاء شرطيّة الجزم بالنية واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به بالخصوص مع التمكّن ،

-------------------

على وجوب الاحتياط بالتكرار ، لعدم تنجزه بسبب الجهل بما هو واجب واقعا لتردده بين وجوب فعله أو وجوب تركه ، فيكون المكلّف حينئذ حتى بناءا على الاحتياط في تلك المسألة ، مخيّرا هنا بين الجهر والاخفات في القرائة ، فيصلي صلاة واحدة بقرائة جهرية ، أو اخفاتية - مثلاً - ليحرز الجزم بالنية .

وإلى هذا المعنى: من ترتيب حكم التخيير على الاحتياط أشار المصنِّف قائلاً :

واما حكم التخيير هنا بناءا على وجوب الاحتياط هناك ( فلان وجوب الاحتياط فرع ) ناشئمن الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به فرع ناشيء من ( بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك ) كما في مثال القرائة في ظهر الجمعة حيث لا يعلم ان الجهر فيها شرط أو مانع واقعا ( وايجابه ) أي : ايجاب ما هو شرط أو مانع واقعا ( مع الجهل ) به لتردده بين الفعل والترك ( مستلزم لالغاء شرطيّة الجزم بالنية ) لانه مستلزم لتكرار الصلاة مرة مع الجهر ، واُخرى مع الاخفات - مثلاً - فلا يمكن الجزم بالنية .

هذا ( واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به ) أي : بذلك الواجب ( بالخصوص مع التمكّن ) من نية الاطاعة بالخصوص وهو الجزم بالنية يمنع من ايجاب ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك على المكلّف ، إذ لو كان واجبا لما تمكن من الجزم بالنية ، فالجزم بالنية إذن مستلزم لالغاء شرطية الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك .

ص: 164

فيدور الأمرُ بين مراعاة ذلك الشرط المردّد وبين مراعاة شرط الجزم بالنية .

وبالجملة : فعدم وجوب الاحتياط في المقام لمنع اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام ، نظير

-------------------

وعليه : ( فيدور الأمر بين ) وجوب ( مراعاة ذلك الشرط المردّد ) بين الفعل والترك ( وبين مراعاة شرط الجزم بالنية ) وقد عرفت : ان الجزم بالنية مقدّم على ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك فيتخير أحدهما : الفعل أو الترك ليجزم بالنية .

( وبالجملة : ) فان الجزم بالنية لما كان منجزّا على المكلّف للعلم باعتبار موجبه ، قدّم على الاحتياط بتكرار العبادة لعدم تنجزّه على المكلّف وذلك للجهل باعتبار موجبه لفرض تردده بين الفعل والترك .

وبعبارة اُخرى : يشك المكلّف في ان ذلك الشيء المردد بين الفعل والترك، هل بقي على وجوبه بعد استلزامه فقد الجزم بالنية ، أم لم يبق على وجوبه ؟ والشك في أصل بقاء الوجوب شك في التكليف وهو مجرى البرائة ، لا ان وجوب ذلك الشيء محرز والواجب فيه مردّد بين الفعل والترك ، حتى يكون من الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط فيلزم التكرار .

إذن : ( فعدم وجوب الاحتياط ) المستلزم لتكرار العبادة ( في المقام ) أي : في مقام مزاحمته للجزم بالنية ، إنّما هو ( لمنع ) تنجز ( اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام ) فانه بعد تنجزّ الجزم بالنية ، لم يبق مجال لتنجّز الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة .

وعليه : فيكون المقام ( نظير ) ما إذا شك في جهة القبلة إلى أربع جهات

ص: 165

القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ، لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل ، لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به .

هذا ، وقد يُرجّح الثاني ، وإن قلنا بعدم وجوبه في الشك في الشرطية والجزئية ، لأن مرجع الشك هنا

-------------------

حيث يقال بوجوب صلاة واحدة فقط وترك الاحتياط ، لانه إذا أتى بواحدة جزم بالنية فيها ، بخلاف ما إذا أتى بأربع ، فانه لا يتمكن من الجزم بالنية فيها ، والجزم بالنية مقدّم على الاحتياط المستلزم للتكرار ، فيجب الاتيان بواحدة .

إذن : فالقول بعدم وجوب الاحتياط هنا يشبه ( القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ) إلى أربع جهات ، فان عدم الوجوب فيها إنّما هو ( لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل ) بجهة القبلة ( لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به ) فان الاحتياط عند الشك في المكلّف به واجب ، لكنه إذا دار الأمر بين التكرار وبين الجزم ، قدّم الجزم على التكرار .

( هذا ) هو تمام الكلام في ترجيح الوجه الأوّل من وجهي الأمر الرابع وهو : التخيير فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا مع ابتنائه على القولين : البرائة والاحتياط في المسألة المتقدمة عليه من الشك في الشرطية والجزئية .

وأمّا الكلام في الوجه الثاني من وجهي الأمر الرابع وهو الاحتياط فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فهو ما أشار اليه بقوله :

( وقد يُرجّح الثاني ) أي : الاحتياط بأن يأتي بصلاتين - مثلاً - مرة مع فعل الشرط ، واُخرى مع تركه ، فانه ( وان قلنا بعدم وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( في ) المسألة المتقدمة عليه وهي مسألة ، ( الشك في الشرطية والجزئية ) إلاّ انا نقول هنا بوجوبه ( لان مرجع الشك هنا ) أي : فيما دار الأمر بين كون الشيء

ص: 166

لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل .

وما ذُكِر : من « أنّ إيجابَ الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزمٌ لالغاء الجزم بالنية » ، مدفوعٌ بالتزام ذلك ولا ضير فيه .

ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمايعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ،

-------------------

شرطا أو مانعا وليس إلى الأقل والأكثر كما كان في الشك في الشرطية والجزئية حتى نقول فيه بالبرائة .

وإنّما لم نقل بالبرائة هنا كما قلنا بها هناك ( لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل ) لان الشك في الشرط أو الجزء شك في التكليف ، وفي المقام شك في المكلّف به ، ومن المعلوم : ان الشك في التكليف مجرى البرائة بخلاف الشك في المكلّف به فانه مجرى الاحتياط .

هذا ( وما ذكر : « من أنّ إيجاب الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزم لالغاء الجزم بالنية ) والجزم بالنية مقدم على الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، فيلزم ترك الاحتياط رعاية للجزم بالنية ، فان هذا الذي ذكر ( مدفوعٌ بالتزام ذلك ) فانا نلتزم القول بالاحتياط هنا وان كان مستلزما لالغاء الجزم بالنية ( ولا ضير فيه ) أي : في التزامنا هذا ، وذلك لما قد سبق : من انه لو دار الأمر بين الجزم بالنية وبين الاحتياط - مثلاً - لزم ترك الجزم بالنية رعاية للاحتياط .

( ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمايعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ) بأن كان هناك ماء مطلق وماء مضاف ، ولا نعلم أيهما المطلق وأيهما المضاف ؟ .

ص: 167

والجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما ، مع أنّ ما ذكرنا في نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ، إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا على تقدير الاعتبار ، وإلاّ فيلزم

-------------------

( و ) كذا ( الجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما ) أي : أحد الانائين المردد بين المطلق والمضاف أو كان هناك ماء واحد مردّد بين كونه مطلقا أو مضافا ، أو دار أمره بين الوضوء الناقص أو التيمم التام ، وغير ذلك من الأمثلة التي يستلزم الاحتياط فيها تكرار العبادة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط فيها مع استلزامه فقد الجزم بالنية ، مما يدل على ترجيح القول بالاحتياط وان أدّى إلى سقوط الجزم بالنية .

هذا ( مع انّ ما ذكرنا في ) أول وجهي الأمر الرابع عند ( نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل ) أي : بأصل البرائة لنرتّب عليه التخيير وذلك في قولنا قبل عدة صفحات : ( فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ) أي : مخالفة عملية فان عدم استلزامه ذلك ( إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا ) لا تعبديا .

كما إذا شككنا في أنّه هل يجب تكفين الرجل بالحرير حيث لا كفن سواه ، حتى يكفّن بالحرير ، أو يحرم حتى يدفن عاريا، فان فعله ( على تقدير الاعتبار ) للتكفين - مثلاً - توصلي ، كما ان تركه على تقدير اعتبار ترك التكفين توصلي أيضا ، فينفى كل منهما بالأصل دون أن يلزم منه مخالفة عملية ، وذلك لان فعل التكفين أو تركه توصلي وقد تحقق ، فان تحققه غير مرتبط بقصد القربة .

( وإلاّ ) بأن لم يكن توصليا ، بل كان تعبديا محتاجا إلى قصد القربة ( فيلزم

ص: 168

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة ، كما لا يخفى .

والتحقيق : أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن عمليّة ،

-------------------

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة كما لا يخفى ) والمخالفة العملية ممنوعة على ما عرفت في مبحث القطع .

اما انه كيف يستلزم منه مخالفة عملية ، فلانه - مثلاً - إذا شك في ان الجهر بالقرائة شرط حتى يجب فعله ، أو زيادة مبطلة حتى يجب تركه ، فانه لا يجري الاصلان فيه ، لان الجهر بالقرائة على تقدير وجوب فعله ، أو وجوب تركه تعبدي، والتعبدي يحتاج في تحققه إلى قصد القربة ، وقصد القربة متعذر بعد اجراء أصل عدم وجوب فعل الجهر ، وأصل عدم وجوب ترك الجهر ، وحينئذ سواء أتى بالجهر أم تركه فقد علم بالمخالفة العملية ، لانه قد أتى بالجهر أو تركه بلا قصد القربة مع انّ التعبدي لا يتحقق فعله أو تركه إلاّ بقصد القربة ، فلا يجري الأصلان إذن في التعبدي ، بل يختص بالتوصلي فقط .

هذا ( والتحقيق ) في المقام هو القول بالتفصيل ، وهذا قول ثالث بعد القولين : حيث كان الأوّل يقول بالتخيير هنا في الأمر الرابع مطلقا ، سواء بنينا هناك في الأمر الثالث على البرائة أم الاحتياط ، والقول الثاني يقول بالاحتياط هنا مطلقا ، سواء بنينا هناك على البرائة أم الاحتياط ، وهذا التفصيل هو قول ثالث يقول بالتخيير هنا لو بنينا على البرائة هناك ، وبالاحتياط هنا لو بنينا على الاحتياط هناك ، وذلك كما قال : ( انّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط ) هناك أي : ( في الشّك في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن ) مخالفة ( عمليّة ،

ص: 169

فالأقوى التخيير هنا ، وإلاّ تعيّن الجمع بتكرار العبادة ، ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.

المطلب الثالث: في اشتباه الواجب بالحرام

-------------------

فالأقوى التخيير ) بين الفعل والترك ( هنا ) أي : في الشك بين كون الشيء شرطا أو مانعا وكون الشيء جزءا أو زيادة مبطلة .

( وإلاّ ) بأن قلنا بوجوب الاحتياط هناك ( تعيّن الجمع بتكرار العبادة ) ووجوب الاحتياط هنا ، وذلك بأن يصلي مرة مع الجهر بالقرائة ، واُخرى بدون الجهر بالقرائة .

( ووجهه ) أي : وجه هذا التفصيل ( يظهر ممّا ذكرنا ) سابقا : من ان المسألة هنا مبتنية على المسألة هناك ، فان قلنا بالبرائة هناك ، قلنا بالبرائة هنا أيضا ورتّبنا عليه التخيير ، وان قلنا بالاحتياط هناك ، قلنا بالاحتياط هنا ورتبنا عليه تكرار العبادة مرة بفعله واُخرى بتركه .

أقول : لكن لا يبعد الفرق بين الأمر الثالث وبين الأمر الرابع ، فنقول بالبرائة هناك لانه كما عرفت من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فالشك فيه شك في التكليف وهو مجرى البرائة ، ونقول بالاحتياط هنا ، لانه من دوران الأمر بين المتباينين ، فان الصلاة مع الجهر بالقرائة - مثلاً - صلاة بشرط شيء ، والصلاة بدون الجهر بالقرائة صلاة بشرط لا ، فيكون الشك فيه شكا في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، فيلزم تكرار العبادة .

( المطلب الثالث ) من مطالب الشك في المكلّف به ( في اشتباه الواجب بالحرام ) فقد تقدّم من المصنِّف عند البحث في الشك في المكلّف به مطلبان :

ص: 170

بأن يُعلم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدُهما بالآخر.

وأمّا لو عُلِمَ أنّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ، فهو خارجٌ عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف .

والحكم في ما نحن فيه

-------------------

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب .

المطلب الثاني : في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام .

إذن : فلم يبق من أقسام الشك في المكلّف به إلاّ دوران الأمر بين الواجب والحرام ، وذلك ( بأن يعلم انّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدهما بالآخر ) كما إذا كان لشخص زوجتان فحلف على وطي احداهما وترك وطي الاُخرى ، ثم اشتبهتا .

( وأمّا لو علم انّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ) كما إذا كان لشخص زوجة وحلف ، فلم يعلم انه حلف على وطيها أو على تركه ( فهو خارج عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف ) .

وعليه : فالدوران هنا فيما نحن فيه في أمرين ، بينما الدوران هناك في أمر واحد ، ففي الأمر الواحد لا يلزم منه لو بنى فيه على الوجوب وفعل ، أو على التحريم وترك ، مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية ، بخلاف ما نحن فيه ، فانه لايجوز ترك وطي المرأتين معا أو وطيهما معا ، لان في كلتا الصورتين مخالفة قطعية لعلمه بان إحداهما محرمة واحداهما واجبة .

( و ) لذلك قالوا : ان ( الحكم في ما نحن فيه ) وهو دوران الأمر بين شيئين

ص: 171

وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك .

لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر .

ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسنُ بارتكاب الضرر المقطوع ،

-------------------

أحدهما واجب ، والآخر حرام مع اشتباه أحدهما بالآخر هو : ( وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك ) فللمكلف في المثال ان يطأ هندا ويترك وطي دعد ، كما ان له يطأ دعدا ويترك وطي هند .

وإنّما قال : له ان يختار أحدهما ويترك الآخر دون فعلهما معا أو تركهما معا ( لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر ) فانه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر احتمل الموافقة لكلا التكليفين ، بينما إذا أتى بكليهما قطع بالموافقة للواجب والمخالفة للحرام ، وإذا ترك كليهما قطع بالموافقة للحرام والمخالفة للواجب ، فالموافقة الاحتمالية حينئذ تكون أولى .

هذا ، ولكنهم قالوا في درهمي الودعي وما أشبه بالتقسيم ، لا باعطائه كله لأحدهما ، مع انه يحصل من التقسيم العلم بمخالفة قطعية في النصف ، وبموافقة قطعية في النصف الآخر ، امّا اعطائه كله لأحدهما ففيه موافقة احتمالية .

( و ) كيف كان : فان ( منشأ ذلك ) الحكم الذي ذكرناه : من وجوب الموافقة الاحتمالية هو : ( انّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ) به ، فانه إذا وطئ كلتيهما قطع بالضرر ، كما انه إذا ترك وطي كلتيهما قطع بالضرر أيضا ، بخلاف ما إذا وطئاحداهما وترك الاُخرى ، فانه لا يقطع بالضرر.

ص: 172

واللّه أعلم .

خاتمة: في ما يعتبر في العمل بالأصل

والكلام تارة في البرائة ، واُخرى في الاحتياط .

أمّا الاحتياط :

فالظاهر أنّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه ،

-------------------

لكن ربما يقال بالتفصيل : بين ما إذا تساوى الحكمين فيهما : فكما ذكره المصنِّف ، وبين ما إذا اختلفا : فاللازم ترجيح الأهم ، فاذا كانت عنده - مثلاً - امرأتان : احداهما زوجته وهي على رأس أربعة أشهر حيث يجب وطيها . والاُخرى أجنبية حيث يحرم وطيها فنشك في ان أيتهما الزوجة وأيتهما الأجنبية ، فانه يلزم عليه ترك وطيهما ، إذ وجوب وطي الزوجة مهم ، وحرمة وطي الأجنبية أهم ، فيقدم الأهم على المهم ( واللّه أعلم ) بحقايق الأحكام وهو الموفق المستعان .

( خاتمة : في ما يعتبر في العمل بالأصل ، والكلام تارة في البرائة ، واُخرى في الاحتياط ) وذلك من غير فرق بين أن يكون الاحتياط لازما ، كما في الشك في المكلّف به ، والشك قبل الفحص ، وبين أن يكون راجحا كما في الشك في التكليف ، والشك في الشبهة البدوية ، وفي كل ذلك لا فرق بين الشك في الوجوب أو في الحرمة ، وبين الشك في الموضوع أو في الحكم .

( أمّا الاحتياط : فالظاهر : انّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه) فانه كلما تحقق انه احتياط ، كان العمل به حسنا إذا لم تكن وسوسة

ص: 173

ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به ، ولو كان على خلافه دليل اجتهادي بالنسبة اليه ، فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط ،

-------------------

وما أشبه كما ذكرناه في أوائل الكتاب .

( ويكفي في موضوعه احراز الواقع المشكوك فيه ) احرازا ( به ) أي : بالاحتياط ، فاذا كان هناك متباينان حصل الاحتياط فيه بالتكرار ، وإذا كان هناك أقل وأكثر سواء كان الأكثر جزءا أو شرطا حصل الاحتياط فيه باتيان الأكثر ، وإذا كان شكا بدويا حصل الاحتياط فيه باتيان المحتمل ، امّا إذا عارض احتياط احتياطا فاللازم الأخذ بأهمهما ، كما إذا دار الأمر بين قرائة السورة وخروج بعض الصلاة من الوقت ، فانه يقدم الاحتياط الأهم على الاحتياط المهم .

وعليه : فانه إذا تحقق موضوع الاحتياط ، فالاحتياط حسن ، حتى ( ولو كان على خلافه ) أي : على خلاف الاحتياط ( دليل اجتهادي بالنسبة اليه ) أي : بالنسبة إلى ذلك الاحتياط مثل : وجود ظاهر الكتاب ، وخبر العادل ، وكذا إذا كان هناك أصل عملي على خلافه كالبرائة - مثلاً - فانه يكون حسنا أيضا .

وإنّما يكون الاحتياط حسنا حتى مع الدليل على خلافه ، لانه كما قال : ( فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء ) من الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ( لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط ) عقلاً ونقلاً ، مثل قوله عليه السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (1) .

ص: 174


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط ، وهذا مما لاخلاف فيه ولا اشكال .

إنّما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة تحقق موضوع الاحتياط واحراز الواقع ، كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه ،

-------------------

( غاية الأمر : عدم وجوب الاحتياط ) مع وجود الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي على خلافه ( وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال ) فان الكل متفقون عليه .

( إنّما الكلام يقع في بعض الموارد ) وذلك ( من جهة تحقق موضوع الاحتياط و ) عدم تحققه ، وانه هل يصح ( احراز الواقع ) فيه بالاحتياط أم لا؟ ( كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه ) فان التوصليات لا تحتاج إلى النية ، ولهذا يصح الاحتياط فيها بدون خلاف ، بينما التعبديات التي تحتاج إلى النية فقد اشترط بعض صحة الاحتياط فيها بان يكون بعد الفحص والتأكد من تحقق موضوع الاحتياط .

بل ربما يقال : بعدم مشروعية الاحتياط في العبادات المتوقفة على النية حتى بعد الفحص ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، فلا يجوز - مثلاً - لمن يتمكن من الصلاة الواحدة في ثوب طاهر ان يأتي بصلاتين في ثوبين قد اشتبه أحدهما بالنجس ، وهكذا بالنسبة إلى القبلة وسائر الخصوصيات .

ومن الواضح : ان الكلام في التعبديات ليس في الكبرى فان الاحتياط حسن على كل حال ، وإنّما الكلام في الصغرى وهو : انه هل يتحقق الاحتياط فيها قبل الفحص أم لا ؟ .

ص: 175

فانّ المشهور أنّ الاحتياط فيها غير متحقق إلاّ بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل وعدم عثوره على طريق منها ، لأن نيّة الوجه حينئذٍ ساقطة قطعا .

فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه أو في وجوب السورة واستحبابها ، فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية ، لأنه يتمكن من الفعل بنية الوجه ،

-------------------

وعليه : ( فانّ المشهور ) قالوا في التعبديات : ( انّ الاحتياط فيها غير متحقق إلاّ بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل ) وذلك بان يفحص المجتهد - مثلاً - عن صلاة الجمعة هل هي الواجبة يوم الجمعة أو صلاة الظهر ، ليأتي بها بنية الوجه؟ وكذا حال البسملة في الركعتين الأخيرتين وانه هل يجب الجهر فيها أو الاخفات؟ وهكذا ، فانه بعد الفحص ( وعدم عثوره على طريق منها) أي : من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل يجوز له الاحتياط .

وإنّما يجوز له الاحتياط بعد ذلك مع ان الاحتياط يستلزم ترك نية الوجه ( لانّ نيّة الوجه حينئذ ) أي : حين الفحص وعدم العثور على طريق اجتهادي يثبتها ( ساقطة قطعا ) كما سبق الالماع اليه .

وعليه : ( فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه ) وهذا من الشك في التكليف المستقل ( أو في وجوب السورة واستحبابها ) وهذا من الشك في التكليف الضمني ( فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية ) وذلك بان يأتي بغسل الجمعة وبالسورة احتياطا دون ان ينوي الوجه فيهما .

وإنّما لا يصح له الاحتياط قبل الفحص ( لانه يتمكن من الفعل بنية الوجه )

ص: 176

والفعل بدونها غيرُ مُجد ، بناءا على اعتبار نية الوجه لفقد الشرط ، فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع .

فاذا تفحّص ، فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه واستحبابه ، وإن لم يعثر عليه ، فله أن يعمل بالاحتياط ، لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه ، لعدم تمكّنه منها ، وكذا لا يجوز للمقلّد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده .

-------------------

بأن يفحص حتى يعلم ان غسل الجمعة واجب أو مستحب ، فيأتي به بنية وجوبه أو استحبابه ، وهكذا بالنسبة إلى السورة ، وغير ذلك .

( و ) من المعلوم : ان ( الفعل بدونها ) أي : بدون نية الوجه ، بأن لم يعلم انّ مايأتي به واجب أو مستحب - مثلاً - ( غير مجد ، بناءا على اعتبار نية الوجه ) في العبادات .

وإنّما لم يكن مجديا بدون نية الوجه ( لفقد الشرط ) الذي هو قصد الوجه في العبادة ( فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع ) لو أتى بها احتياطا .

وعليه : ( فاذا تفحّص فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو استحبابه ، وان لم يعثر عليه ، فله ان يعمل بالاحتياط ) بان يأتي بغسل الجمعة بما يريده اللّه سبحانه وتعالى من الوجوب أو الاستحباب ، وكذلك بالنسبة إلى السورة ( لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه لعدم تمكّنه منها ) فانه إنّما يشترط نية الوجه لو كان متمكنا منها والمفروض : ان المجتهد لم يتمكن منها في هذه الصورة .

هذا بالنسبة إلى المجتهد ( وكذا ) بالنسبه إلى المقلد ، فانه ( لا يجوز للمقلّد الاحتياط ) في العبادات ( قبل الفحص عن مذهب مجتهده ) الذي يجب عليه تقليده .

ص: 177

نعم ، يجوز له بعد الفحص ، ومن هنا اشتهر بين أصحابنا : « أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن عَلِمَ إجمالاً بمطابقتها للواقع ، بل يجب أخذُ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد » .

ثم إنّ هذه المسألة ، أعني : بطلان عبادة تارك الطريقين ، يقع الكلام فيها في مقامين ، لأن العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد ، إمّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع ،

-------------------

( نعم ، يجوز له بعد الفحص ) وعدم عثوره على فتواه ان يأتي بالشيء المشكوك بين الوجوب والاستحباب بقصد الاحتياط .

( ومن هنا ) أي : بناءا على اعتبار نية الوجه في العبادة ، وعدم جواز العمل بالاحتياط قبل الفحص ( اشتهر بين أصحابنا : « أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن ) عمل بالاحتياط ولم يكن في الاحتياط محذور ، و ( علم اجمالاً بمطابقتها للواقع ) وذلك لأنه وان علم ان غسل الجمعة مراد للّه سبحانه وتعالى ، لكنه لا يعلم هل انه مراد على نحو المنع من النقيض ، أو لا على نحو المنع من النقيض ؟ فلا يمكنه نيّة الوجه فيه مع قدرته على العلم بالوجه عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، ولذلك قالوا : ( بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد » ) فيما إذا تمكن المجتهد من الاجتهاد في المسألة ، والمقلد من التقليد فيها .

( ثم إنّ هذه المسألة ، أعني : بطلان عبادة تارك الطريقين ) : الاجتهاد والتقليد ( يقع الكلام فيها في مقامين ، لان العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد ) لا يخلو من أحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( امّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع )

ص: 178

وإمّا أن لايكون كذلك ، فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وأمّا الثاني : فسيجيء الكلام فيه في شروط البرائة ، فنقول : إنّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل ، كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية ؛

-------------------

وذلك بأن يأتي بالشيء المشكوك احتياطا ليحرز الواقع عن طريقه .

الوجه الثاني : ( وامّا ان لا يكون كذلك ) بل كان بانيا على البرائة عند الشك في التكليف ، ومكتفيا ببعض المحتملات عند الشك في المكلّف به .

هذا ، ومن المعلوم : ان كلامنا الآن في الاحتياط لا في البرائة كما قال : ( فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وامّا الثاني : فسيجئ الكلام فيه في شروط البرائة ) لانه من مبحث البرائة - كما هو واضح - .

ومن المعلوم أيضا : ان الكلام في الاحتياط إنّما هو في العبادات ، اما المعاملات ، فلا اشكال عند المشهور في جواز الاحتياط فيها ، بل ربما ادعي عليه الاجماع ، كما ان المراد بالعبادات : العبادات التي تتحقق بالايجاد ، امّا العبادات التي تتحقق بالترك ، كتروك الاحرام والصوم ، فلا كلام فيها أيضا إلاّ بناءا على اعتبار نية الوجه والتمييز وهو غير معتبر كما عرفت .

وعليه : ( فنقول : انّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط ) في عباداته يكون ( على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل ) كما في غير المتباينين مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، والصلاة على النبي عند ذكره صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وكذا في مثل الشك بين الأقل والأكثر ( كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية ) حيث ان المحتاط يأتي بهما

ص: 179

واُخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ والجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه .

أمّا الاوّل ، فالأقوى فيه الصحة ، بناءا على عدم اعتبار نية الوجه في العمل ، والكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء .

-------------------

في أثناء العبادة ، لا مستقلاً .

( واُخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ ) ذهابا وايابا ، فان فيه خلافا مّا ، اما انه إذا قصد ثمانية فراسخ ، فلا اشكال في وجوب القصر عليه ، كما انه إذا قصد دون الثمانية مستقيما أو ملفقا ، فلا اشكال أيضا في وجوب الاتمام عليه .

( و ) كذا مثل ( الجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ) في ظهر يوم الجمعة - وغير ذلك - مما يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار، فيكرره احتياطا لادراك الواقع .

( أمّا الاوّل ) وهو ما لا يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار : ( فالأقوى فيه الصحة ) لأن العقل يحكم بحصول الامتثال بالاحتياط ، وكذلك العقلاء ، لكن بشرط ان لم يكن محتاجا إلى التكرار ، ولم يثبت من الشارع منع عنه ، ولم يكن المقام من احتمال اللعب بأمر المولى ، أو من احتمال الوسوسة ، كما يحتمل ذلك في التكرار.

نعم ، قد يعارض الاحتياط احتياط آخر ، فيقدّم الأقوى منهما إذا كان أحدهما أقوى ، ومع التساوي يكون مخيرا .

وإنّما يكون الأقوى في هذا القسم من الاحتياط هو الصحة ( بناءا على عدم اعتبار نية الوجه ) والتمييز ( في العمل ) على ما سبق الالماع اليه ( و ) حيث ان ( الكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء ) فلا حاجة إلى تكراره هنا.

ص: 180

نعم ، لو شك في اعتبارها ، ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقق الاطاعة بدونها ، كان مقتضى الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ،

-------------------

والحاصل : ان العقل مستقل ، وكذا العقلاء بكفاية الاحتياط غير المستلزم للتكرار قبل الفحص عن وجه الفعل بالنسبة إلى المجتهد القادر على الفحص ، وبكفاية الاحتياط قبل الرجوع إلى المجتهد بالنسبة إلى المقلد ، والشارع لم يغيّر هذه الطريقة العقلية والعقلائية .

( نعم ، لو ) فرض تردد العقل في كفاية الاحتياط في مقام امتثال أحكام الشرع ، وذلك بأن ( شك في اعتبارها ) أي : اعتبار نية الوجه ( ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم ) أي : لا عرف عادي ، بل العرف الذي يكون ميزانا للحكم ثبوتا وسقوطا ، فانه إذا لم يثبت شيء منهما يدل على انه ( بتحقق الاطاعة بدونها) أي : بدون نية الوجه والتمييز ( كان مقتضى الاحتياط اللازم ) بحكم العقل : ( الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ) بنية الوجه سواء كان مجتهدا ولم يفرغ وسعه في الفحص ، أو مقلدا ولم يرجع إلى مجتهده في الحكم .

هذا ، ولا يخفى : ان العرف ميزان وحاكم في ثلاثة اُمور :

الأوّل : في معنى الموضوع وحدوده .

الثاني : في معنى الحكم وحدوده .

الثالث : في تحقق الامتثال وعدمه .

وعليه : فاذا ورد مثلاً : الكلب نجس فاجتنبه ، فانه يرجع إلى العرف في معنى الكلب وحدوده ، وفي معنى النجس وحدوده ، وفي معنى الاجتناب وحدوده ، وهل ان الامتثال يتحقق بالاجتناب عنه مطلقا حتى عن النظر اليه ، أو هو الاجتناب

ص: 181

حتى على المختار من اجراء البرائة في الشك في الشرطيّة .

لأن هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ،

-------------------

بنوع خاص ؟ فانه يرجع فيه إلى العرف للحكم بان هذا العمل فعلاً كان أم تركا امتثال أو ليس بامتثال ، وذلك فيما إذا شك في انه امتثل أم لا ، من جهة فقد بعض الخصوصيات ، أو زيادة بعض اُمور لا ترتبط بالتكليف .

هذا ، ولكن الظاهر : ان قوله : « نعم لو شك في اعتبار نية الوجه » ، انه مجرد فرض إذ لا يحصل مثل هذا الشك بعد القطع بحصول الامتثال عقلاً وعرفا باتيان المأمور به بقصد أمره الواقعي وان لم يعلم انه واجب أو مستحب ، فيكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة وان لم يعلم انه على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب .

هذا من جهة العقل والعقلاء والعرف ، وامّا من جهة الشرع فانه حيث لم يدل على اعتبار مثل نية الوجه في العبادة دليل مع ان المسألة مما يعمّ بها البلوى وتتكرر الحاجة اليها ليلاً ونهارا لكل مكلف ، فهو دليل على عدم اعتبارها ، من باب انه لو كان لبان ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم .

نعم ، لو فرض الشك لزم الاحتياط ( حتى على المختار ) عند المصنِّف : ( من اجراء البرائة في الشك في الشرطيّة ) كما تجري البرائة في الشك في الجزئية ( لان هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ) وداخله ، بأن وقع الأمر عليها ، فان الشرط على قسمين :

الأوّل : شرائط المأمور به التي يقع الأمر عليها مثل : شرط الطهارة والقبلة والستر وما أشبه في الصلاة ، وهذا القسم إذا شك فيه ، فأصل البرائة محكم فيه ،

ص: 182

حتى إذا شك في تعلق الالزام به من الشارع حَكَمَ العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلّف، بل هو على تقدير اعتباره شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة .

-------------------

وذلك لانه من الشك في التكليف .

الثاني : شرائط الامتثال التي تأتي بعد الأمر مثل : نية الوجه والتمييز وما أشبه في الصلاة ، فانه إذا صدر الأمر بالصلاة - مثلاً - استلزم اتيانها بهذا النحو من النية والتمييز وغير ذلك ، وهذا القسم إذا شك فيه لزم الاتيان به ، لأنه من الشك في المكلّف به والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط .

إذن : فليس هذا القسم الثاني من الشرط كالقسم الأوّل ( حتى إذا شك ) المكلّف ( في تعلق الالزام به من الشارع حَكَمَ العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة ) تلك المؤاخذة ( عن تركه ) أي : ترك هذا القسم من الشرط المأخوذ في المأمور به ( و ) حكم ( النقل ) أيضا ( بكونه مرفوعا عن المكلّف ) فانه ليس من شروط المأمور به حتى يحكم العقل والنقل فيه بالبرائة ويجري فيه : « رفع ما لا يعلمون » (1) و « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) .

( بل هو ) أي : هذا القسم الثاني من الشرط ( على تقدير اعتباره : شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة ) فهو من شروط الامتثال ، لا من شروط المأمور به .

ص: 183


1- - تحف العقول ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
2- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ومن المعلوم : أنّ مع الشك في ذلك لابد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة .

وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء غيرُ حكم الشك في أنّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط أو به بشرط كذا .

والمختار في الثاني البرائة ، والمتعيّن في الأوّل الاحتياط .

-------------------

( ومن المعلوم : انّ مع الشك في ذلك ) أي : في شرط الامتثال ( لابد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه ) أي : من ذلك الوجه ( بالخروج عن العهدة ) فلا يكون موردا للبرائة حتى إذا لم يأت به يأمن العقاب على تركه .

( وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء ) المشكوك مثل : قصد الوجه والتمييز ونحوهما من الاُمور المترتبة على الأمر ، لا الاُمور السابقة على الأمر ( غير حكم الشك في انّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به ) أي : بالفعل ( بشرط كذا ) الذي هو من شروط المأمور به وسابق على الأمر حيث يأتي الأمر عليه ، كما مثّلنا له بالطهارة والستر والقبلة وما أشبه .

هذا ( والمختار في الثاني ) أي : في شروط المأمور به وهو ما ذكره بقوله : الشك في ان أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به بشرط كذا ، هو : ( البرائة ، والمتعيّن في الأوّل ) أي : في شروط الامتثال وهو ما ذكره بقوله : ومن المعلوم : ان مع الشك في ذلك لابد من الاتيان به ، هو : ( الاحتياط ) وذلك لما عرفت : من أن باب الاطاعة وعدمها عرفي ، والعرف يوجبون الاحتياط عند الشك في مثل الوجه والتمييز ، ولا دليل من الشرع على عدم لزومه ، فاذا لم يأت

ص: 184

لكن الانصاف : أنّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق ، لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه تفصيلاً ، بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل اجمالاً .

وتفصيل ذلك في « الفقه » ، إلاّ أنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ،

-------------------

به لا يكون مأمونا من العقاب .

( لكن الانصاف : انّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق ) فان العرف لا يشكون في تحقق العبادة وان لم ينو المكلّف الوجه فيها ، وذلك ( لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع ) بأن ينوي : اني آتي بهذا الشيء على وجهه الواقعي سواء كان واجبا أم مستحبا ، فانه يعدّ ( مطيعا وان لم يعرفه تفصيلاً ) بانه واجب أو مستحب .

( بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير ان يقصد الوجه الواقعي ) فانه قد ينوي : اني آتي بهذا العمل على وجهه الواقعي من الوجوب والندب ، وقد ينوي : اني آتي به قربة إلى اللّه تعالى من دون ان يجعل في نيته انه يأتي به على وجهه الواقعي ( المعلوم للفعل إجمالاً ) من انه اما واجب واما مستحب ( وتفصيل ذلك في «الفقه» ) فلا حاجة إلى تكراره .

( إلاّ انّ الأحوط ) احتياطا استحبابيا ( عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ) وإنّما عليه أن يفحص حتى يعلم هل هو واجب أو مستحب ؟ فحصا اجتهاديا بالنسبة إلى المجتهد وتقليديا بالنسبة إلى المقلد .

ص: 185

لشهرة القول بذلك بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاقَ المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما .

ونقل السيد الرضي قدس سره : اجماعَ أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلَمُ أحكامها ، وتقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس سره له على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر .

بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول والمنقول

-------------------

وإنّما قال : الأحوط ترك الاحتياط قبل الفحص ( لشهرة القول بذلك ) أي : بعدم كفاية العمل الاحتياطي ( بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاق المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه ) بان ينوي : اني آتي بصلاة الظهر لوجوبها ، أو آتي بصلاة النافلة لندبها ( أو لوجههما ) أي : وجه الوجوب ووجه الندب علما بأن الوجه في الوجوب هو المصلحة الملزمة وفي الندب هو المصلحة غير الملزمة .

( ونقل السيد الرضي قدس سره : اجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ) وإطلاقه يشمل الاحتياط ، كما انه يشمل ما إذا كان العمل الذي أتى به مطابقا للواقع أيضا ، وليس ذلك إلاّ لعدم نية الوجه في مثل هذه الصلاة .

( و ) كذا ( تقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس سره له على ذلك ) الاجماع ( في مسألة الجاهل بالقصر ) فانه إذا جهل بالقصر وصلّى صلاتين : قصرا وتماما لم يكف ، كما إنه إذا جهل بالقصر لكنه صلّى قصرا وكان ما صلاّه مطابقا للواقع لم يكف أيضا ، وما ذلك إلاّ للاخلال بنية الوجه .

( بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول ) من المتكلمين ( والمنقول ) عن الرضي والمرتضى حيث ادعيا الاجماع

ص: 186

المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلاً في المسألة ، فضلاً عن كونهما منشئا للشك الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا .

وأمّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة ،

-------------------

من الأصحاب ( المعتضدان بالشهرة العظيمة ) في كتب الفقه ( دليلاً في المسألة ) على لزوم نيّة الوجه ( فضلاً عن كونهما منشئا للشك ) بالنحو ( الملزم للاحتياط كما ذكرنا ) عند قولنا : « نعم لو شك في اعتبارها » إلى آخره .

ولا يخفى : ان المصنِّف يظهر منه : انه متردد في المسألة ، فقد رجح في مبحث القطع جواز العمل بالاحتياط ، بل رجحانه حتى في صورة التمكن من الظن الخاص فضلاً عن الظن المطلق في صورة عدم التكرار ، وصرّح هناك : بان شبهة اعتبار نية الوجه ضعيفة ، كما انه صرح بعدم حجية الاجماع المنقول في المسائل التعبدية فكيف في المسائل العقلية؟ وهنا مال إلى الوجوب وجعل الاجماع مستندا .

هذا ، ولعل العمدة في وجه تردده قدس سره هو تردّده بين الأدلة الصناعية المقتضية لعدم لزومه ، وبين الشهرة ونقل الاجماع الدالين على لزومه ، والظاهر : ان الأدلة الصناعية مقدمة ، إلاّ إذا قيل بالاحتياط الاستحبابي .

( وامّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ) سواء كانت العبادة من جنس واحد كالصلاة في ثوبين أحدهما نجس ، أم من جنسين كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ( فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين ) : من الاجتهاد والتقليد ( فيه ) أي : في هذا القسم الثاني ( إلى الاحتياط بتكرار العبادة ) وذلك لما عرفت : من حصول الطاعة بالاحتياط عرفا إذا لم يكن هناك محذور

ص: 187

بناءا على عدم اعتبار نيّة الوجه .

لكن الانصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة ، وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة ، بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه .

-------------------

الوسوسة وما أشبه ذلك من المحاذير التي تقدمت الاشارة اليها .

وإنّما قال : قد يقوى جواز الاحتياط هنا أيضا ( بناءا على عدم اعتبار نيّة الوجه ) على ما ذكرناه آنفا، لأنه إذا قلنا باعتبار نية الوجه، فاعتبارها ينافي تكرار العبادة بالنسبة إلى من يقدر على تحصيل الوجه بالاجتهاد أو التقليد .

هذا ( لكن الانصاف ) عدم كفاية الاحتياط بتكرار العبادة قبل الفحص لوجوه ثلاثة ذكرها المصنِّف :

الأوّل : ( عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة ) لأن الاطاعة الاجمالية تستلزم فقد النية، والمفروض : اعتبار نية الوجه، فيقوى بسبب اعتبارها اشتراط الاطاعة التفصيلية كما قال : ( وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة ) مع التمكن منها .

هذا ، والاطاعة التفصيلية إنّما تحصل ( بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه ) بعينه، لا انه مردد بين الواجب وغير الواجب .

وفيه : ان المشهور بين الأصحاب جوازه، لأنه لا دليل على لزوم قصد الوجه مؤيدا ذلك بمكاتبة صفوان بن يحيى، في الحسن عن أبي الحسن عليه السلام : يسأله عن الرجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو؟ وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع ؟ قال : يصلي فيهما جميعا (1) .

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص225 ب23 ح95 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص249 ح756 .

ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به أجنبيا عن سيرة المتشرعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة ، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب ، أحدُها طاهرٌ ، ساجدا على خمسة أشياء : أحدُها ما يصح السجود عليه ، مائة

-------------------

كذا قيل ، لكن ظاهر هذه الرواية : عدم التمكن من العلم التفصيلي، فهي تصلح في ردّ ابن إدريس الحلي القائل بالصلاة عاريا في مفروض المسألة، ولا تصلح لرد من يقول بلزوم العلم في صورة التمكن منه .

الثاني : السيرة على عدم كفاية الاطاعة الاجمالية كما قال رحمه اللّه : ( ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به ) أو الظن التفصيلي المعتبر به، كشهادة أهل الخبرة - مثلاً - بالنسبة إلى القبلة ونحوها، يعدّ ( أجنبيا عن سيرة المتشرعة ) فان سيرتهم على تحصيل العلم أو الظن المعتبر، لا الاحتياط .

لكن أورد على السيرة : بعدم الحجية، إلاّ إذا كانت متصلة بزمان المعصوم، وعلم تقرير المعصوم لها ولو من جهة عدم إنكارها، وكلا الأمرين في المقام محل نظر .

الثالث : من وجوه عدم كفاية الاحتياط قبل الفحص المستلزم للتكرار : لزوم اللعب بأمر المولى ، كما أشار اليه المصنِّف بقوله :

( بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدُها طاهرٌ ساجدا على خمسة أشياء : أحدُها ما يصح السجود عليه ) فيكون مجموع ما يصلّيه ( مائة )

ص: 189

مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلاً اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى .

والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لايرجع إلى محصّل .

-------------------

صلاة مكان صلاة واحدة ( مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلاً اجتماع الشروط الثلاثة ) من القبلة، والثوب الطاهر، وما يصح السجود عليه ، فان المحتاط هذا ( يعدّ في الشرع والعرف : لاعبا بأمر المولى ) وهو واضح .

( و ) ان قلت : هناك فرق بين صورة استلزام الاحتياط : التكرار الكثير، وعدمه، فالتكرار في ثوبين مشتبهين - مثلاً - لا يعد لعبا بأمر المولى .

قلت : ( الفرق بين الصلوات الكثيرة ) كما في مثال الاحتياط بمائة صلاة ( وصلاتين ) كما في مثال الثوبين المشتبه أحدهما بالنجس ( لا يرجع إلى محصّل ) لأن المعيار هو : التكرار وعدم التكرار ، فاذا تحقق التكرار فلا فرق فيه بين القليل والكثير .

لكن لا يخفى : وضوح الفرق بينهما عند العرف، فانه إذا قال المولى : أئتني بكتاب الرسائل فجاء العبد بكتابين أحدهما الرسائل لا يوبّخه العرف، بينما إذا جاء بمائة كتاب احدها الرسائل ونحوه على انه لماذا يلعب بأمر المولى، وذلك على فرض تسليم كونه لعبا بأمر المولى ؟ .

وكيف كان : فقد أجاب عن هذا الاشكال جمع، منهم صاحب الكفاية حيث قال : وامّا كون التكرار لعبا وعبثا، فمع انه ربما يكون لداع عقلائي، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقة وكلفة، أو بذل مال، أو ذل سؤال، ونحو ذلك ، إنّما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي اليها .

ص: 190

نعم ، لو كان ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي ، كان ذلك منه محمودا مشكورا .

وببالي : أنّ صاحب الحدائق قدس سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي .

ولقد بالغ الحلّي قدس سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط المجهول تفصيلاً ولم يجوّز التكرار المحرز له ، فأوجب الصلاة عاريا على من عنده ثوبان مشتبهان ، ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به ، لكن من طريق الآحاد ،

-------------------

( نعم ، لو كان ) العبد ( ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي ) فاحتاط وأتى بالشيء مكررا لتحصيل الواقع ( كان ذلك ) التكرار ( منه محمودا مشكورا ) لكن بشرط ان لا يكون فيه عسر أو حرج أو ضرر منهي عنه شرعا .

هذا ( وببالي : انّ صاحب الحدائق قدس سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي ، ولقد بالغ الحلّي ) ابن إدريس ( قدس سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط ) كالستر ( المجهول تفصيلاً ولم يجوّز التكرار المحرز له ) أي : لذلك الشرط المعلوم اجمالاً .

وعليه : فاذا كان للمكلف - مثلاً - ثوبان اشتبه أحدهما بالنجس ولم يتمكن من تطهيره أو تحصيل الثوب الطاهر ( فأوجب الصلاة عاريا ) عليه أي : ( على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به ) وهو النص الذي تقدّم من مكاتبة صفوان بن يحيى .

( لكن ) إنّما أسقط الحلي الشرط المجهول ولم يعمل بالنص فيه ، لأن النص قد ثبت ( من طريق ) الخبر ( الآحاد ) والحلي لا يعمل بالخبر الواحد ، ولذا يرى

ص: 191

مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه .

وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار ، كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع وإلاّ أعاده .

ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ، ثم اتفق له ما يوجب تردّده في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف ،

-------------------

لزوم العمل حسب القواعد ، لأن الخبر الواحد ليس بحجة عنده ( مستندا في ذلك ) أي : في عدم جواز التكرار ( إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه ) ومعلوم انّ التكرار ينافي قصد الوجه .

( و ) عليه : فانه ( كما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار ) على رأي المصنِّف للوجوه الثلاثة التي ذكرها ( كذا لا يجوز ) على رأيه الدخول في العمل ( بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع ) فهو ( وإلاّ أعاده ) .

كما إذا صلى في أحد الثوبين المشتبهين مع تمكنه من ثوب طاهر ، بانيا على الفحص عن هذا الثوب بعد الصلاة ، فان كان طاهرا اكتفى بتلك الصلاة ، وان كان نجسا أعادها في ثوب طاهر ، فانه جعل هذا التكرار الأوّل في عدم الجواز .

وإنّما يكون الحكم هنا مثل حكم التكرار هناك في عدم الجواز ، لأن هذا المصلي قد أخل بقصد الوجه هنا أيضا مع انه قادر على الصلاة مع قصد الوجه .

هذا ( ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ) بالصحة ، وذلك بأن كان حين الدخول فيه غير متردد في وجه العمل ( ثم اتفق له ما يوجب تردّده ) بين الصحة والبطلان ، وذلك للشك ( في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف ) .

كما إذا علا صوته بالبكاء ، أو تأوّه في الصلاة ، مما جعله يتردد بين الاتمام

ص: 192

ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة وعدمه ، وجهان : من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا ، ولذا لم يجوّز هذا من أوّل الأمر .

وبعبارة اُخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء ، ومن أنّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله بعد الفراغ ، محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته واقعا

-------------------

أو الاستيناف ( ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة) ان ظهر مخالفة ما أتى به للواقع ( وعدمه ) أي : عدم جواز الاتمام لأنه فقد الجزم بالوجه ( وجهان ) :

أشار المصنِّف إلى أول الوجهين وهو : وجه البطلان بقوله : ( من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا ) آنفا من يعلم اعتبار قصد الوجه والتمييز ( ولذا لم يجوّز هذا ) أي : التردد في الصحة ( من أوّل الأمر ) أي : قبل الدخول في العمل ، فاذا أراد الدخول في الصلاة ولم يعلم ان هذه الصلاة صحيحة أو ليست بصحيحة لم يجز الدخول فيها ، كذلك إذا تردد في الأثناء لم يجز اتمامها .

( وبعبارة اُخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء ) فكما انه لا يصح الدخول في الصلاة بلا جزم بالنية ابتداءً ، كذلك لا يصح البقاء في الصلاة بلا جزم بالنية استدامة .

وأشار إلى ثاني الوجهين وهو : وجه الصحة بقوله : ( ومن انّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله ) أي : حال العمل ( بعد الفراغ ) منه ، وذلك البناء ( محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته ) أي : حرمة إبطاله ( واقعا

ص: 193

على تقدير صحته ، ليس بأدون من الاطاعة التفصيليّة ولا يأباه العرفُ ولاسيرةُ المتشرّعة .

وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام .

ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب

-------------------

على تقدير صحته ، ليس بادون ) وأنزل ( من الاطاعة التفصيليّة ) حتى نقول بابطال صلاته ، واستئناف صلاة جديدة .

هذا ( ولا يأباه ) أي : المضي في العمل والبناء على السؤال ( العرف ) الذين هم المخاطبون بالاحكام الشرعية فتلقيهم كاشف عن ارادة الشارع .

( ولا ) يأباه أيضا ( سيرة المتشرّعة ) في أمثال هذه الاُمور ، فانهم إذا ترددوا في صحة الصلاة وعدمه أثناء الصلاة أتموها بانين على السؤال بعد ذلك .

( وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام ) وهو ما إذا حصل التردد في أثناء العمل .

وأولى بالمضي ما إذا تردد في أثناء صوم شهر رمضان ، أو الحج ، أو صوم الاعتكاف في اليوم الثالث ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه إذا كان صحيحا كان واجبا عليه إتمامه قطعا ، وإذا وجب عليه إتمامه حرم قطعه يقينا بخلاف ما إذا رفع يده عن الصلاة ، فان وجوب الاتمام في الصلاة ليس مقطوعا به بمثل القطع بوجوب إتمام صوم شهر رمضان وإتمام الحج وما أشبههما .

( ويمكن التفصيل ) هنا وهذا وجه ثالث في المسألة ، ويبدو انه مختار المصنِّف كما يظهر من عدم ردّه له وهو : التفصيل ( بين كون الحادث الموجب

ص: 194

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّمُ حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم البلوى ، كأحكام الخلل الشايع وقوعها وابتلاء المكلّف بها .

فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ، لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ، فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا ، وبين كونه ممّا لا يتفق إلاّ نادرا .

ولأجل ذلك لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول ، للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ،

-------------------

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة ) ووجوب تعلم حكمه ( لعموم البلوى ) وكثرة الابتلاء به ( كأحكام الخلل الشايع وقوعها ) مثل الشك بين الاثنتين والثلاث وما أشبه ذلك ( وابتلاء المكلّف بها ) كثيرا ، فان عموم البلوى موجب للتعلم ، وذلك لاطلاق أدلة التعلم .

وعليه: فاذا كان الحادث الموجب للتردد من هذا القبيل ( فلايجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ) .

وإنّما لا يجوز المضي ( لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ) حيث لم يتعلم قبل الصلاة مع وجوب التعلم عليه (فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا ) وكما لايجوز الدخول في العمل مترددا كذلك لا يجوز استدامة العمل مترددا .

إذن : فالتفصيل بين عموم البلوى فلا يجوز المضي ( وبين كونه ممّا لا يتفق إلاّ نادرا ) مثل : انقاذ الغريق ، واطفاء الحريق ، وما أشبه ذلك ( ولأجل ذلك ) أي : ندرة وقوعه ( لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول ) في الصلاة ، وعدم وجوب تعلم حكمه إنّماهو ( للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ) به ، فلا يشمله أدلة التعليم والتعلم .

ص: 195

فيجوز هنا المضيّ في العمل على الوجه المذكور ، هذا بعض الكلام في الاحتياط .

وأمّا البرائة

فان كان الشك الموجبُ للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها ،

-------------------

وعليه : ( فيجوز هنا ) فيما إذا تردد في الأثناء ( المضيّ في العمل على الوجه المذكور ) بأن يمضي في العمل ويبني على الفحص والسؤال بعد الاتمام ، فان صح فهو وإلاّ أعاده ( هذا بعض الكلام في الاحتياط ) .

ولا يخفى : ان المصنِّف ذكر في هذا المبحث ان الكلام تارة في الاحتياط ، واُخرى في البرائة ، وأهمل ذكر التخيير في المقام مع انه من الاُصول أيضا ، ولعله لاتحاد حكم التخيير مع البرائة ، مضافا إلى أنه صرّح بعد ذلك بعدم الفرق بينهما حيث قال : ثم أن في حكم أصل البرائة كل أصل عملي خالف الاحتياط ، وقوله : هذا يشمل التخيير والاستصحاب ، وان كان لو أبدل قوله : خالف الاحتياط بقوله : غير الاحتياط لكان أولى ، كما ألمع اليه الآشتياني .

( وأمّا ) الكلام في ( البرائة : فان كان الشك الموجب للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع ) كما إذا شك في ان هذا الماء نجس أم لا ، أو ان هذا المايع خمر أم لا ، إلى غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يستطرق فيها باب العرف من غير مدخلية للشرع فيها ( فقد تقدّم انّها ) أي : البرائة ( غير مشروطة بالفحص عن الدليل ) فلا يلزم سؤال أهل الخبرة وما أشبه ذلك ( المزيل لها ) أي : لهذه الشبهة .

ص: 196

وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعي .

-------------------

هذا ، ولكنا ذكرنا سابقا كما عرفت وذكرنا في الفقه أيضا : ان الواجب هو الفحص ، إلاّ فيما علم من الشارع عدم لزوم الفحص فيه ، كالشك في الطهارة والنجاسة ، والشك في المرأة التي يريد أن يتزوجها بأن لها زوج أم لا ، وغير ذلك مما صرح الشارع بعدم لزوم الفحص فيه .

وإنّما نقول بالفحص في الشبهات الموضوعية أيضا إلاّ ما استثني ، لأن الفحص في الموضوعات أيضا كالأحكام ، هو طريق الطاعة عرفا ، وعليه بناء العقلاء والسيرة المستمرة من المتشرعة ، ولذا اشتهر بينهم فتوىً أو احتياطا : الفحص عن بلوغ النصاب في الزكاة ، والزيادة عن المؤنة في الخمس ، وحصول الاستطاعة في الحج ، وغير ذلك .

نعم ، ورد عدم الفحص في بعض مسائل الحلال والحرام ، لكنه يحتمل ان يكون ذلك من جهة الاُصول المصححة مثل : السوق ونحوه ، فقد جاء في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البينة » (1) وقوله عليه السلام : «حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة » (2) إلى ما يشبههما ممّا تعرضوا له في الفقه .

( وإن كان ) الشك الموجب للرجوع إلى البرائة ( من جهة الشبهة في الحكم الشرعي ) وجوبا : كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو حرمة : كحرمة شرب

ص: 197


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .

فالتحقيقُ : أنه ليس لها إلاّ شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية .

والكلامُ يقع تارةً في أصل الفحص ، واُخرى في مقداره .

أمّا وجوبُ أصل الفحص

وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصِّر في التعلّم ، فيدل عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البرائة قبل استفراغ الوسع في الأدلة .

-------------------

التتن ( فالتحقيق انه ليس لها ) أي : للبرائة ( إلاّ شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية ) في مضامينها ، غير انه ربما يتوهم ان هناك شرطا آخر للبرائة ، لكن سيأتي الكلام في عدم تماميته .

هذا ( والكلام ) هنا في وجوب الفحص قبل اجراء البرائة ( يقع تارة في أصل الفحص ، واُخرى في مقداره ) أي : في مقدار الفحص .

( أمّا وجوبُ أصل الفحص ) عن الدليل حتى يجوز له اجراء البرائة إذا لم يظفر بدليل ( وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم ) إذا خالف الواقع ( فيدل عليه وجوه ) خمسة :

( الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البرائة قبل استفراغ الوسع في الأدلة ) اللّهم إلاّ أن يقال : ان هذا الاجماع محتمل الاستناد ، والاجماع المحتمل الاستناد ليس بحجة ، كما تقدّم الكلام في ذلك في باب الاجماع ، فلا يكون حينئذ كاشفا عن قول المعصوم حتى يكون دليلاً على المطلب .

ص: 198

الثاني : الأدلة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، مثل آيتي : النفر للتفقّه وسؤال أهل الذكر ، والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذمّ على ترك السؤال .

-------------------

( الثاني : الأدلّة الدالة على وجوب تحصيل العلم ) من الآيات والروايات ( مثل آيتي : النفر للتفقّه ، وسؤال أهل الذكر ) فقد قال سبحانه : « فلولا نَفَرَ من كلّ فرقَةٍ منهم طائفة ليتَفَقَهُوا في الدّين ولينذرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إليهم » (1) وقال سبحانه : « فسئلوا أهل الذّكر إن كُنتُم لا تَعلَمون » (2) .

( والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذّم على ترك السؤال ) مثل : ما روي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام ، انه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « طلب العلم فريضة على كل مسلم » (3) وفي بعض الروايات : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » (4) .

وفي رواية اُخرى عنه عليه السلام أيضا انه قال لحمران بن أعين : «إنّما يهلك الناس لأنهم لا يسألون » (5) فان إيجاب التعلم يدل على عدم جواز اجراء البرائة قبل الفحص .

ثم لا يخفى : انّ الظاهر من العلم الواجب في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «طلب العلم

ص: 199


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة النحل : الآية 43 ، سورة الانبياء : الآية 7 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح1 ، الأمالي للمفيد : ص28 ، دعائم الاسلام : ج1 ص83 ، مجموعة ورام : ج2 ص14 ، روضة الواعظين : ص10 ، ارشاد القلوب : ص165 ، بصائر الدرجات : ص2 ، المحاسن : ص225 ، اعلام الدين : ص81 ، مشكاة الانوار : ص133 ، منية المريد : ص99 .
4- - مجموعة ورام : ج2 ص176 ، غوالي اللئالي : ج4 ص70 ح36 ، كنز الفوائد : ج2 ص107 ، مشكاة الانوار : ص133 ، عدة الداعي : ص72 ، مصباح الشريعة : ص22 .
5- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح2 .

الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذمّ بفعل المعاصي المجهولة ، المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب .

مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيمن غسل مجدورا أصابته جنابة ، فكزّ ، فمات : « قتلوه ، قتلهم اللّه ُ ، ألاّ سألوا ، ألا يَمَّمُوهُ » ؟ .

-------------------

فريضة » هو : علم اُصول الدين ، وعلم الفروع التي هي محل الابتلاء ، وعلم ما يتوقف عليه نظام المعاش والمعاد : من سياسة ، واقتصاد ، وطب ، وهندسة ، وصناعة ، واجتماع، وزراعة ، وعمارة ، وغيرها مما يتوقف عليها نظام المعاش والمعاد توقفا أوليا ، أو بحيث لا يغلب بسببها أهل الباطل أهل الحق فيكون توقفه عليه توقفا ثانويا .

هذا ، ومن الواضح : انه حتى إذا لم يكن في الحديث كلمة : « أو مسلمة » كان قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « فريضة على كل مسلم » شامل للصنفين أيضا .

( الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذّم بفعل المعاصي المجهولة ) كونها معصية ( المستلزم ) ذلك ( لوجوب تحصيل العلم ) إذ لولا وجوبه لما ذم عليه .

إذن : فالاخبار هذه تستلزم وجوب تحصيل العلم ، وذلك ( لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب ) ومعلوم : ان التحرز لا يكون إلاّ بالعلم ، فيجب تحصيله .

أما تلك الأخبار فهي ( مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا ) وهو المبتلى بالجدري حيث ( اصابته جنابة ، فكزّ ) والكزّ : داء أو رعدة متولدة من شدة البرد ، فغسله ( فمات ) فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « قتلوه قتلهم اللّه ُ ، ألاّ سألوا ؟ ألاّ يَمَّمُوهُ ؟ ) (1) .

ص: 200


1- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ) : ج3 ص68 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 .

وقوله عليه السلام : لمن أطالَ الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغِناء : « ما كان أسوء حالَك لو مُتَّ

-------------------

« فعن الفقيه والكافي : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور ، فغسلوه ، فمات ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ ان شفاء العيّ السؤال » (1) .

وفي رواية الجعفري عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال : «ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ذكر له ان رجلاً أصابته جنابة على جرح كان به ، فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : قتلوه قتلهم اللّه ، إنّما كان دواء العيّ السؤال » والعيّ هنا هو الجهل ، والسؤال دواؤه .

هذا ، ولا يخفى : ان تشديد النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين أحيانا في الكلام كما في الرواية السابقة لبيان أهمية الأمر ، كأهمية العلم والسؤال من أهل العلم من جهة ، ولبيان طريقة الاسلام في تقويم المجتمع واصلاحه من جهة اُخرى ، فانهم حيث أرادوا الجمع بين النهي الأكيد عن المنكر لتقويم المجتمع وبين عدم استعمال السيف والسوط والسجن والتعذيب ومصادرة الأموال وما أشبه ذلك مما جرت عليه عادة الحكام غالبا ، شدّدوا في الكلام من باب دوران الأمر بين الأهم والمهم .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام : لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ) حيث كان جاهلاً بحرمة الاستماع فقال له عليه السلام : ( ما كان أسوء حالك لو متّ

ص: 201


1- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و ج3 ( فروع ) ص68 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص40 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 .

على هذهِ الحالةِ » ، ثم أمره بالتوبة وغسلها .

وما ورد في تفسير قوله تعالى : « فللّه الحجة البالغة » من أنّه :

-------------------

على هذه الحالة ، ثم أمره بالتوبة وغسلها ) (1) أي : غسل التوبة فقد روي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام ما يلي :

« ان رجلاً جاء اليه فقال : ان لي جيرانا لهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربما دخلت الكنيف فاُطيل الجلوس استماعا مني لهن ، فقال له : لا تفعل ، فقال : واللّه ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع اسمعه باُذني فقال عليه السلام : أما سمعت اللّه عزّ وجل يقول : « إن السمع والبصر والفؤاد كل اُولئك كان عنه مسئولاً » (2) فقال الرجل : كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه عزوجل من عربي ولا عجمي، لاجرم اني قد تركتها واني أستغفر اللّه ، فقال له عليه السلام قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوء حالك لو مت على ذلك ، استغفر اللّه واسأله التوبة من كل ما يكره ، فانه لا يكره إلاّ القبيح ، والقبيح دعه لأهله فان لكل أهلاً » (3) .

إذن : فالروايات كما عرفت تدل على مؤاخذة الجهال والذم على ما يفعلونه من المعاصي وان كان عن جهل ، وهو يستلزم وجوب تحصيل العلم لما تقدّم من حكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب .

( و ) مثل ( ما ورد في تفسير قوله تعالى : « فللّه الحجة البالغة » (4) من أنّه:

ص: 202


1- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، فقه الرضا : ص281 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
4- - سورة الانعام : الآية 149 .

« يقال للعبد يوم القيامة : هل علِمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلاّ عَمِلْتَ ؟ وإن قال : لا ، قيل له : هَلاّ تعلّمت حتى تعمَل » ؟ .

وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : « الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » « نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتل معه » « قالوا فيم كنتم قالوا : كُنّا مستضعفين في الأرض » أي : لم نعلم من الحق ،

-------------------

« يقال للعبد يوم القيامة : هل علِمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلاّ عَمِلْتَ ) وهلاّ للتحضيض ، يعني : لماذا لم تعمل بما علمت؟ ( وإن قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلّمت حتى تعمل ؟ ) (1) مما يدل على ان التعلم واجب .

( و ) مثل ( ما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : « الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » ) أي : بسبب المعاصي لان الانسان إذا لم يطع اللّه كان ظالما لنفسه ، فقال القمي ( « نزلت ) هذه الآية والمراد من نزولها : التأويل لا التنزيل كما هو واضح ، فانه قد يطلق على التأويل التنزيل باعتبار انه نزل مرادا به هذه التأويل ، فتأويلها ( فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتل معه ) الناكثين والقاسطين والمارقين .

وعليه : فالآية تشير إلى ما يجري بين الملائكة واُولئك الظالمين الذين تخلّفوا عن أمير المؤمنين عليه السلام وذلك أرواحهم وتقول :

( « قالوا : ) أي : الملائكة لاُولئك الظالمين ( فيم كنتم ) كناية عن انه لماذا لم تنصروا الحق وتكونوا بجانب أمير المؤمنين عليه السلام ضد أعدائه ( « قالوا كُنّا مستضعفين في الأرض » (2) أي : لم نعلم من ) هو ( الحق ) ومن هو الباطل

ص: 203


1- - الأمالي للمفيد : ص292 ح1 .
2- - سورة النساء : الآية 97 .

فقال اللّه تعالى : « ألم تكن أرضُ اللّه واسعةً فتهاجروا فيها » ؟ أي : دينُ اللّه وكتابه واضحا متسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق .

الرابع : انّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الاستعلام في المقام ، الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى ، وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها ،

-------------------

( فقال اللّه تعالى : « ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها » (1) ؟ أي : دين اللّه وكتابه واضحا متسعا ) لمن أراد النظر فيهما حتى يعرف الحق من الباطل ( فتنظروا فيه فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق » ) (2) .

إذن : فالحديث هذا وان كان لمكان دلالته أقرب إلى اُصول الدين ، إلاّ انه لمكان علّته شامل للجاهل بالفروع عن تقصير أيضا فيكون دليلاً على ما نحن فيه.

( الرابع : انّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام الذي ) نحن فيه من الشبهة الحكمية مع استطاعته من تحصيل العلم بالحكم عن طريق الفحص ، فانه إذا لم يفحص لم يحرز اللابيان ، الذي هو موضوع البرائة ، وإذا لم يتحقق الموضوع لم يثبت الحكم فلا يستقل العقل بقبح عقابه ان أجرى البرائة وخالف الواقع .

هذا ، و ( نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى وأتى ) وجاء معه ( بطومار ) أي : صحيفة وكتاب ( يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها ) إلى الطومار ويفحص عن صدقه وكذبه ، فانه إذا كان ذلك المدعي صادقا وكان في طوماره ما يدل على صدقه كان للمولى معاقبة هذا العبد ،

ص: 204


1- - سورة النساء : الآية 97 .
2- - تفسير القمي : ج1 ص149 بالمعنى .

فتأمل .

والنقل الدالّ على البرائة في الشبهة الحكميّة ، مُعارضٌ بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة ، كما في صحيحة عبدالرحمان المتقدمة ،

-------------------

وليس للعبد الاعتذار بعدم العلم ، لأن العقل لا يعذر الجاهل بما في الطومار مع تمكنه من الفحص عنه والعلم بما فيه .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى بيان الفرق بين النظر في الأحكام والنظر في الطومار ، إذ لا يحصل العلم من الأوّل غالبا بل الظن بينما يحصل العلم من الثاني غالبا ، فيقال بعدم معذورية الجاهل المجري للبرائة وهو قادر على الفحص فيما إذا أورث النظر العلم ، ومعذوريته فيما إذا لم يورثه .

لكن الظاهر : ضعف هذا الفرق ، لأن مبنى المسألتين على وجوب دفع الضرر المحتمل ، من دون مدخلية للعلم أو الظن المعتبر في ذلك أصلاً .

( و ) ان قلت : ان النقل يدل على البرائة ، وذلك لما تقدّم من اخبارها مثل : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ومثل : « رفع ما لا يعلمون » (2) وما أشبه ذلك .

قلت : ( النقل الدالّ على البرائة في الشبهة الحكميّة ، معارض بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة كما في صحيحة عبدالرحمان المتقدّمة ) حيث قال عليه السلام : في مسألة الصيد : « إذا أصبتم بمثل هذا

ص: 205


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وما دلّ على وجوب التوقف بناءا على الجمع بينها وبين أدلة البرائة ، بحملها على صورة التمكّن من ازالة الشبهة .

الخامس :

-------------------

فلم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا » (1) .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الحديث ليس خاصا بمسألة الصيد في هذا المورد الخاص لقوله : «بمثل هذا» والعرف يفهم منه : انه لا فرق بين الشبهة الحكمية في جميع المسائل ( وما ) أي : ومعارض أيضا بما ( دلّ على وجوب التوقف ) عند الشبهة ( بناءا على الجمع بينها ) أي : بين اخبار التوقف ( وبين أدلة البرائة بحملها) أي : بحمل اخبار التوقف ( على صورة التمكّن من ازالة الشبهة ) وحمل اخبار البرائة على صورة اليأس من إزالتها .

وإنّما نجمع بهذا بين الطائفتين لأن الاخبار الدالة على مؤاخذة ترك التعلم ، المقتضية لوجوب الفحص ، تعطي الأولوية لاخبار الاحتياط والتوقف على اخبار البرائة ، فيؤخذ بظهور هذه الاخبار الدالة على الاحتياط والتوقف ، ويقيد بها إطلاق حديث الرفع والحجب ونحوهما ، فيكون مورد حديث الرفع ونحوه ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل .

( الخامس : ) من أدلة وجوب الفحص : العلم الاجمالي لكل مسلم بوجود تكاليف في الشريعة ، وكما ان العلم الاجمالي بوجوب إتيان الظهر أو الجمعة ، أو اجتناب هذا الاناء أو ذاك ، يمنع عن البرائة ، فكذلك العلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة يمنع عن البرائة .

ص: 206


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصح التمسك بأصل البرائة ، لما تقدّم : من أنّ مجراه الشك في أصل التكليف ، لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف .

فان قلت : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البرائة

-------------------

إذن : فمما يدل على وجوب الفحص هو : ( حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد) من المسلمين ( قبل الأخذ في استعلام المسائل ) علما إجماليا ( بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ) الاسلامية ( ومعه ) أي : مع العلم الاجمالي ( لايصح التمسك بأصل البرائة ) وذلك لأن العلم الاجمالي في المكلّف به يوجب الاحتياط ، إلاّ إذا انحل العلم الاجمالي فيه بسبب الفحص .

إذن : فلا يجوز اجراء البرائة قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، لعدم انحلال العلم الاجمالي بسبب الفحص إلى معلوم تفصيلي ، وشك بدوي في باقي المحتملات حتى يكون باقي المحتملات مجرى لأصل البرائة ، وذلك ( لما تقدّم: من انّ مجراه ) أي : مجرى أصل البرائة هو : ( الشك في أصل التكليف ) كالشك في باقي المحتملات بعد الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، فان مع الشك في الباقي يكون من الشك في التكليف وهو مجرى البرائة .

( لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف ) كما فيما نحن فيه قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، حيث إنا نعلم بالتكليف ، لكن نشك في المكلّف به هل هو هذا أو فيه ذاك ؟ والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط .

( فان قلت : هذا ) أي : الوجه الخامس ( يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البرائة

ص: 207

ولو بعد الفحص ، لأن الفحص لا يوجب جريان البرائة مع العلم الاجمالي .

فان قلت : إذا علم المكلفُ تفصيلاً بعدّة اُمور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها ، كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته شكا في أصل التكليف .

وبتقرير آخر : إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلاً موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البرائة ،

-------------------

ولو بعد الفحص ) وذلك ( لأن الفحص لا يوجب جريان البرائة مع العلم الاجمالي ) منا ببقاء واجبات ومحرمات بين الأحكام ، فانه بعد الفحص والظفر بألف حكم - مثلاً - لم ينحل العلم الاجمالي ، لاحتمال ان الأحكام أكثر من ألف ، فاللازم الاحتياط في الباقي أيضا .

هذا ، وفي نسخة اُخرى جاء التعبير عن « ان قلت » بما يلي : ( فان قلت : إذا علم ) المكلّف تفصيلاً بعدّة اُمور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها ) أي : في هذا الذي علمه تفصيلاً ( كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته ) الباقية ( شكا في أصل التكليف ) فيجري فيها البرائة بلا حاجة إلى الفحص فيها ، مما يدل على صحة إجراء البرائة وعدم وجوب الفحص من الأوّل .

( وبتقرير آخر : ان كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلاً ) بسبب الفحص ( موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ) والشك في أصل التكليف مجرى البرائة ( فلا مقتضي ) حينئذ ( لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البرائة ) من الأوّل .

ص: 208

وإلاّ لم يجز الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ، إذ الشك في المكلّف به لايرجع فيه إلى البرائة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي .

قلت : المعلومُ إجمالاً قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقايع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقايع التي علم إجمالاً بوجود التكاليف فيها ،

-------------------

( وإلاّ لم يجز الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ) أي : ان لم نقل بجريان البرائة وعدم وجوب الفحص من الأوّل ، يجب أن لا نقول بجريانه حتى بعد الفحص أيضا ، وذلك لأن الشك - حسب الفرض - في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، وليس شكا في التكليف حتى يكون مجرى البرائة كما قال : ( إذ الشك في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البرائة ) حتى ( ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي ) من مظانّه .

إن قلت ذلك ( قلت : ) ان الواجب علينا هو : اتباع ما في مداركنا لا أكثر من ذلك ، فاذا ظفرنا بألف حكم في الكتاب والسنّة إنحل العلم الاجمالي ، فيكون مثل التتن ومثل الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - من الشبهة البدوية ويجري حينئذ فيها البرائة كما قال :

فان ( المعلوم إجمالاً قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقايع التي يقدر ) المكلّف ( على الوصول إلى مداركها ) من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ( وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة ) كشرب التتن ، أو الدعاء عند رؤية الهلال ( خرجت تلك الواقعة عن الوقايع التي علم إجمالاً بوجود التكاليف فيها ) .

ص: 209

فيرجع فيها إلى البرائة .

ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقايع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك .

فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقايع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفةٌ .

-------------------

وعليه : فينحل العلم الاجمالي إلى معلوم تفصيلي وهو ألف حكم فرضا ، وشك بدوي وهو الباقي الذي لم يظفر بمدركه مثل : شرب التتن والدعاء عند رؤية الهلال ( فيرجع فيها إلى البرائة ) .

والحاصل : انه بعد الفحص في الأدلة واليأس عن الظفر بحرمة شرب التتن ، وبوجوب الدعاء عند رؤية الهلال تخرج أمثال هذه الاُمور المشكوكة عن دائرة العلم الاجمالي ، وتدخل في دائرة الشك البدوي ، والشك البدوي مجرى البرائة على ما عرفت في مبحثها .

( ولكن هذا ) الجواب ( لا يخلو عن نظر ) عند المصنِّف ( لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقايع ) المتجاوزة عن الألف ( من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف ) في تلك الوقايع ( وعجزه عن ذلك ) أي : عن الوصول إلى مدرك التكليف ( فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقايع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفةٌ ) .

أقول : ولا يخفى ما فيه ، فانه لا شك في انا لسنا مكلفين بأكثر مما في المدرك ، وإلاّ بان كان تكليفنا أكثر منه ، فاما أن نكون مكلفين بالواقع وهو محال ، أو بالاحتياط في جميع الأطراف المحتملة وهو مرفوع لاستلزامه العسر والحرج ،

ص: 210

مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحصَ قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل إنحصار المعلوم إجمالاً فيها ، فتأمل ، وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

-------------------

إضافة إلى انه لو كنا مكلفين بالاحتياط ، لكان على الشارع بيان ذلك والتأكيد عليه حتى يصبح الاحتياط أمرا ضروريا عند المتشرعة ، ومن المعلوم : انه لا بيان كذلك ، مضافا إلى السيرة القطعية على اجراء البرائة فيما إذا لم يظفر المكلّف بمدرك الحكم المحتمل .

( مع انّ هذا الدليل ) ان تمّ بأن كان الفحص لازما لمكان العلم الاجمالي ، فانه يدل على وجوب الفحص قبل إنحلال العلم الاجمالي لا بعده ، فاذا فرض الانحلال بأن علم حرمة اُمور يحتمل إنحصار المحرمات فيها وشك في وجود حرام آخر غيرها ، لم يجب الفحص بعد ذلك ، مع ان الفحص واجب في كل ما شك فيه ولو بعد فرض الانحلال .

وعليه : فهذا الدليل أخص من المدعى ، لأنه ( إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل إنحصار المعلوم إجمالاً فيها ) واما بعد الاستعلام فلا يوجب الفحص ، وقد عرفت : ان الفحص واجب على كل حال .

مثلاً : إذا علمنا بوجود محرمات وفحصنا فظفرنا بألف محرم ، ثم شككنا في حرمة التتن فانه يلزم على هذا الدليل إجراء البرائة في التتن من غير فحص ، بينما لا شك في لزوم الفحص عن حرمة التتن أيضا ، فاذا حصل اليأس من الظفر بحرمته كان مجرى للبرائة ، فلا تجري البرائة قبل الفحص .

( فتأمل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

ص: 211

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي .

وكيف كان : فالأولى ما ذكر في « الوجه الرابع » من أنّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالاً ،

-------------------

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي ) فانهم استدلوا هناك على وجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، وردهم المصنِّف : بانحلال العلم الاجمالي الكبير بعد العلم بجملة من المحرمات الى علم اجمالي صغير ، حيث يلزم الفحص بعد ذلك بقدر هذا الصغير ، فاذا ظفر بقدر العلم الاجمالي الصغير كان الخارج عنه مجرى للبرائة .

أمّا التتن ، فبدون الفحص عن حكمه لا ينحل العلم الاجمالي الصغير ولايخرج عنه إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليله ، فاذا فحصنا عنه ولم نظفر بدليله خرج ، فكان مجرى للبرائة .

وبهذا ظهر : عدم تمامية إشكال الكفاية على هذا الدليل مما حاصله : ان موجب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي ، لزم جواز الرجوع إلى البرائة قبل الفحص بعد إنحلاله بالظفر على المقدار المعلوم بالاجمال ، مع انه غير جائز قطعا، فلابد من أن يكون المدرك أمرا آخر غير العلم المزبور .

( وكيف كان ) : الأمر بالنسبة إلى الوجه الخامس وما فيه ( فالأولى ) أن يكون الاستدلال بدليل خال عن الاشكال وهو : ( ما ذكر في « الوجه الرابع » من أنّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الفحص ) في مورد الشك في التكليف ( كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالاً ) إذا لم ينحل علمه الاجمالي فيه ، وذلك مثل: دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة ، فانه لا ينحل العلم الاجمالي

ص: 212

ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غيرُ مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر .

ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل ، بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ،

-------------------

فيه ، حتى بعد الفحص ، بخلاف ما إذا إنحل العلم الاجمالي فيه بعد الفحص كالشك بين الأقل والأكثر ولو الارتباطيين منهما .

هذا ( ومناط عدم المعذوريّة في المقامين ) أي : في مقام الشك في التكليف قبل الفحص ، والشك في المكلّف به بعد الفحص ، وعدم الانحلال ( هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ) عقلاً .

وعليه : ( فاحتمال الضرر ) وهو العقاب ( بارتكاب الشبهة ، غير مندفع ) إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به ( بما ) أي : بشيء ( يأمن معه من ترتب الضرر ) وقوله : بما متعلق بمندفع فيكون المعنى : انه لا شيء يدفع الضرر المحتمل إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به .

( ألا ترى انّهم ) أي : المتكلمون ( حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة ) إذا احتمل صدقه ، لا مثل مدعي النبوة بعد خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه و آله وسلم ( وعدم معذوريته في تركه ) أي : ترك النظر ، فانه إذا ترك النظر في معجزته لم يكن معذورا إذا كان نبيا في الواقع ( مستندين في ذلك ) أي : في وجوب النظر ( إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ) الذي يحتمله الانسان القادر

ص: 213

لا إلى أنّه شك في المكلّف به .

هذا كلّه مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية .

ثم إنّ في حكم أصل البرائة كل أصل عملي خالف الاحتياط .

-------------------

على الفحص .

وعليه : فانهم يستندون في وجوب الفحص وعدم معذورية الجاهل إلى وجوب دفع الضرر ( لا إلى أنّه شك في المكلّف به ) من جهة العلم بوجود أنبياء في هؤلاء الذين يدعون النبوة ، كما كان هو مقتضى الوجه الخامس : فالوجه الخامس وان كان غير كاف لاثبات وجوب الفحص ، إلاّ ان الوجه الرابع كاف لاثبات ذلك .

هذا ، ولا يخفى ان الضرر المحتمل إنّما يجب دفعه إذا كان كثيرا ، كما في المقام، وكما في صورة احتمال صدق مدعي النبوة ، وإلاّ فالضرر القليل لا يلزم دفعه حتى إذا كان متيقنا .

( هذا كلّه ) أي : ما ذكرناه من الوجوه الخمسة يكون دليلاً على وجوب الفحص ( مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية ) في الدلالة عليه ، إذ لا مخالف في المسألة إطلاقا .

( ثم إنّ في حكم أصل البرائة ) من حيث وجوب الفحص قبل اجرائه ( كل أصل عملي خالف الاحتياط ) سواء كان تخييرا كما في الدوران بين المحذورين ، أم استصحابا يدل على التكليف ، أو على عدم التكليف ، كما في الاُمور التي لها حالة سابقة ، فانه يجب الفحص قبل اجرائها ان احتملنا ان يكون هناك تكليف آخر .

مثلاً : إذا كان الاستصحاب يدل على وجوب الظهر واحتملنا وجود دليل يدل على وجوب الجمعة ، فانه لا يجوز اجراء الاستصحاب إلاّ بعد الفحص واليأس عن دليله ، وكذا التخيير .

ص: 214

بقي الكلام في حكم الأخذ بالبرائة مع ترك الفحص ، والكلام فيه إمّا في استحقاقه العقاب ، وإمّا في صحة العمل الذي اُخِذَ فيه بالبرائة .

أمّا العقاب

-------------------

وحيث أنهى المصنِّف الكلام في عدم جواز العمل بالبرائة في الشبهات الحكمية إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها ، قال : ( بقي الكلام في حكم الأخذ بالبرائة مع ترك الفحص ، والكلام فيه ) يكون في مقامين :

الأوّل : ( إمّا في استحقاقه العقاب ) وعدم استحقاقه لو ترك الفحص خالف الواقع أم وافق الواقع .

الثاني : ( وإمّا في صحة العمل الذي اُخِذَ فيه بالبرائة ) من دون فحص وعدم صحته .

( أمّا ) الكلام في المقام الأوّل : وهو استحقاق ( العقاب ) وعدمه ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما نسب إلى صاحب المدارك : من استحقاق العقوبة على ترك الفحص والتعلم مطلقا ، سواء صادف عمله الواقع أم خالفه .

القول الثاني : ما اختاره المشهور : من استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفقت ، لا على ترك التعلم والفحص ، فاذا شرب الانسان العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فانه يستحق العقوبة ان اتفق مع الحرام واقعا ، وان لم يتفق كونه حراما واقعا ، فلا عقاب إلاّ عند من يرى حرمة التجري كالشيخ وأبو المكارم ، فالعقوبة عندهما على التجري .

القول الثالث : ما اختاره المصنِّف : من إستحقاق العقوبة على ترك الفحص

ص: 215

فالمشهور : أنّه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير ، لا على ترك التعلّم .

أمّا الأوّل : فلعدم المقتضي للمؤاخذة

-------------------

والتعلم من حين تركه لكن لا مطلقا ، بل إذا أدّى إلى مخالفة الواقع .

ولا يخفى : ان منشأ هذا الخلاف هو الخلاف في وجوب التعلم المستفاد من العمومات الدالة على وجوب التفقه والتعلم ، كما سيأتي الكلام في ذلك ان شاء اللّه تعالى .

وإلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في إستحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه أشار المصنِّف حيث قال : ( فالمشهور : انّه ) أي : العقاب ( على مخالفة الواقع لو اتفقت ) المخالفة ( فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ) أي : عن حكم العصير فشربه هذا ، لا يخلو من أحد وجهين : اما انه يتفق مع الحرام ، واما لا ( فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلّم ) خلافا للمدارك واستاذه حيث ذكرا : ان العقاب على ترك التعلم ، فالكلام إذن في أمرين : المصادفة وعدم المصادفة .

( أمّا الأوّل : ) وهو ما لو أجرى البرائة وشرب العصير - مثلاً - من دون فحص ولم يصادف الحرام واقعا فلا عقاب .

أما انه لا عقاب ( فلعدم المقتضي للمؤاخذة ) لأنه لم يفعل حراما حتى يكون مؤاخذا ، وان كان قد يتخيل المؤاخذة وذلك على ترك التعلم ، أو على التجري ، لكنه ليس تاما كما قال :

ص: 216

عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي .

وهو مدفوع : بأن المستفاد من أدلته بعد التأمل إنّما هو وجوب الفحص لئلا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيل من قبح التجرّي بناءا على أنّ الاقدام على ما لايؤمن كونه مضرّة ، كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية .

-------------------

( عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي ) فيكون العقاب على ترك التعلم ، على شرب العصير الحلال واقعا ، فالتعلم واجب نفسي على هذا القول .

( و ) لكن ( هو ) أي : هذا التخيل ( مدفوع : بأن المستفاد من أدلته ) أي : أدلة وجوب التعلم ( بعد التأمل ) فيها لمعرفة ما يستظهره العرف منها ( إنّما هو وجوب الفحص ) من باب المقدمة ( لئلا يقع في مخالفة الواقع ) والمفروض : انه لم يخالف الواقع لأن الواقع حلّية العصير لا حرمته ( كما لا يخفى ) هذا المعنى لمن راجع العرف .

( أو ) عدا ( ما يتخيل من قبح التجرّي بناءا على انّ الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة ) مثل الاقدام على محتمل الحرمة من دون فحص هو ( كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك ) أي : كونه ضارا ( كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية ) .

وعليه : فان الشيخ الطوسي وأبو المكارم ومن تبعهما لا يقولون بالفرق بين محتمل الضرر ومقطوع الضرر من جهة استحقاق العقاب لمن أقدم عليهما ،

ص: 217

لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل .

وأمّا الثاني : فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي

-------------------

أمّا في مقطوع الضرر فلكونه مخالفة ، واما في محتمل الضرر فلكونه تجريا .

( لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل ) فانه يتشكل من قياس صغراه : الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرة تجرّ ، وكبراه : وكل تجرّ حرام ، فالاقدام على محتمل الضرر حرام .

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى الأصل قبل الفحص الذي هو محل بحثنا جزئي من جزئيات الاقدام المذكور فيكون حراما .

وفيه : اما صغرىً : فانه ان اريد بالضرر : الضرر الدنيوي ، فنقول : لا يجب عدم الاقدام ، ولذا يقدم العقلاء على الأضرار الدنيوية لمصالح في نظرهم ، كما في ركوب البحر للتجارة وغير ذلك .

وان اُريد بالضرر : الضرر الاُخروي فنقول : هو واجب عقلاً ، إلاّ ان الشارع قد أذن فيه هنا، كما أذن في الشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية حتى عند الاخباريين .

وامّا كبرىً : فانه قد سبق في بحث القطع : ان التجري ليس بحرام ، وإنّما فيه قبح فاعلي لا فعلي ، حتى يكون محرّما في عداد سائر المحرّمات مثل شرب الخمر ، وقتل النفس ، وما أشبه .

( وأمّا الثاني : ) وهو ما لو أجرى البرائة وشرب العصير - مثلاً - من دون فحص، فصادف الحرام واقعا ، فالعقاب ، لكن لا على ترك التعلم والفحص ، بل على شرب العصير ، وقد ذكر المصنِّف لذلك وجوها ثلاثة :

الأوّل ما أشار اليه بقوله : ( فلوجود المقتضي ) للعقاب ( وهو الخطاب الواقعي

ص: 218

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به ، وهو غير قابل للمنع عقلاً ولا شرعا .

أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي

-------------------

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه ) فالشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤية الهلال والشبهة التحريمية ، كشرب العصير العنبي ، وذلك لو فرضنا وجود الدليل على هذا الواجب وهذا الحرام واقعا .

( ولا مانع منه ) أي : من العقاب ، فانه إذا وجد المقتضي ، وفقد المانع كان العقاب مقطوعا به ( عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به ) أي : بالتكليف ( وهو ) أي : الجهل بالتكليف مع القدرة على الفحص ( غير قابل للمنع ) عن العقاب ، لا ( عقلاً ولا شرعا ) وذلك بالتفصيل التالي :

( أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد ) لا على نحو الاعجاز ، والنحو المعتاد هو ( المستلزم لاختفاء بعضها ) أي : بعض تلك الأحكام ( لبعض الدواعي ) والمراد ببعض الأحكام : ما عدا الضروريات .

ومن المعلوم : ان اعتماد الشارع في إيصال أحكامه على النحو المتعارف ، يستلزم اختفاء ما عدا الضروريات من الأحكام في بطون الكتب ، فيحتاج الظفر بها إلى الفحص ، بخلاف ما إذا كان الشارع يوصل أحكامه عن طريق الاعجاز ، فانه حينئذ لا يخفى شيء منه على أحد حتى يحتاج إلى الفحص ، بل يكون اختفاؤه وعدم وصوله دليل على عدم وجوده رأسا .

ص: 219

وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه .

وأما النقل فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك ، وانّ الظاهر منها ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة الاحتياط ، الاختصاص بالعاجز .

مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في « الوجه الثالث »

-------------------

وعليه : فان العقل لا يمنع من عقاب الجاهل الذي ترك الفحص ( وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه ) بسبب الفحص ، لأن الحكم واصل وإنّما اختفى في بطون الكتب فيحتاج في حصوله إلى الفحص ، فلا عذر إذن لمن ترك الفحص وخالف .

( وأمّا النقل ) فهو أيضا لا يمنع من عقاب الجاهل بالتكليف ، القادر على الفحص وذلك كما قال : ( فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك ) أي : عدم دلالة النقل على معذورية الجاهل إذا ترك الفحص وخالف الواقع ( وانّ الظاهر منها ) أي : من أدلة البرائة النقلية ( ولو بعد ملاحظة ) تعارضه مع ( ما تقدّم من أدلة الاحتياط ) وأدلة التوقف هو : ( الاختصاص ) أي : اختصاص البرائة ( بالعاجز ) عن التعلّم ، وذلك جمعا بين أدلة البرائة وأدلة الاحتياط .

إذن : فأدلة الاحتياط قبل الفحص خاصة بالقادر على التعلّم ، وأدلة البرائة خاصة بالعاجز عن التعلم والفحص .

الثاني من وجوه الاستدلال على ان الجاهل القادر على الفحص لو أجرى البرائة وشرب العصير من دون فحص - مثلاً - فاتفق مخالفته للواقع ، كان العقاب على مخالفة الواقع ، لا على ترك التعلم ، هو : ما أشار اليه بقوله :

( مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في « الوجه الثالث » ) حيث قال المصنِّف : الثالث : ما دل على مؤاخذة الجهال والذم بفعل المعاصي المجهولة ،

ص: 220

المؤيدة بغيرها ، مثل : رواية تيمّم عمار المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إياه بقوله : « أفلا صنعت هكذا » ؟ .

-------------------

المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا اصابته جنابة فكزّ فمات : قتلوه قتلهم اللّه ، ألا سألوا ؟ ألا يمّموه ؟ (1) .

ومثل قوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : ما كان أسوء حالك لو مت على هذه الحالة (2) ، إلى آخر ما ذكر هناك من الأخبار ( المؤيدة بغيرها مثل : رواية تيمّم عمار المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إياه بقوله : « أفلا صنعت هكذا ؟ » (3) ) .

وإنّما قال : المؤيدة لأن التوبيخ حيث لم يكن في قوة التهديد لم يكن دليلاً ، بل كان مؤيدا لكون العقاب إنّما هو على مخالفة الواقع ، لا على ترك التعلم ، واما رواية تيمم عمار فهي كالتالي :

عن أبي جعفر عليه السلام قال : أتى عمار بن ياسر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقال: يارسول اللّه ، اني اجنبت الليلة ولم يكن معي ماء ، قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي وقمت على الصعيد وتمعّكت فيه ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : هكذا يصنع الحمار ، إنّما قال اللّه عزوجل : « فتيمموا صعيدا طيبا » (4) ثم علّمه

ص: 221


1- - وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 ، الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ): ج3 ص68 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص62 ح4 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص207 ب9 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص170 ب102 ح4 ، وسائل الشيعة : ج3 ص359 ب11 ح3862 ، تفسير العياشي : ج1 ص244 ح144.
4- - سورة النساء : الآية 43 ، سورة المائدة : الآية 6 .

وقد يستدل أيضا بالاجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها .

وفيه : أنّ معقد الاجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاُصول ، ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقررة للتكليف ، وهذا لاينفي دعوى

-------------------

رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كيفية التيمم » (1) .

الثالث من وجوه الاستدلال على ان عقاب الجاهل يكون على مخالفة الواقع لو اتفقت المخالفة ، لا على ترك التعلم هو : ما أشار اليه بقوله : ( وقد يستدل ) على ذلك ( أيضا ) أي إضافة إلى وجود مقتضي العقاب وعدم المانع منه ، وإضافة إلى الأخبار الدالة على المؤاخذة ، يستدل له ( بالاجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع مع انّهم جاهلون بها ) .

وجه الاستدلال هو : تساوي الكفار والمسلمين في التكليف بالأحكام وفي المؤاخذة عليها ، ومعلوم : ان الكفار يجهلون الأحكام ، فيكون عقابهم لأجل تركهم الأحكام ، لا لأجل جهلهم ، فكذلك يكون عقاب المسلمين لأجل تركهم الأحكام ، لا لأجل جهلهم .

( وفيه : أنّ معقد الاجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاُصول ، ومؤاخذتهم عليها ) أي : على الفروع ( بالشروط المقررة للتكليف ) من البلوغ ، والعقل ، والقدرة ، والعلم ، والالتفات ، وما أشبه ( وهذا ) الاجماع الذي هو في مقابل إنكار أبي حنيفة لتكليف الكفار بالفروع ( لا ينفي دعوى :

ص: 222


1- - الكافي اصول : ج3 ص62 ح4 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص207 ب9 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص170 ب102 ح4 ، تفسير العياشي : ج1 ص244 ح144 ، وسائل الشيعة : ج3 ص359 ب11 ح3862 .

اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر .

وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي ، حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم لقبح تكليف الغافل ، وفهم منه بعض المدققين أنّه قول بالعقاب على ترك المقدمة دون ذي المقدمة .

-------------------

اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر ) لأن إثبات الشيء لاينفي ماعداه.

إذن : فلا إشكال في تساوي الكفار والمسلمين من حيث المؤاخذة على الفروع ، لكن من أين انه على ترك الأحكام لا على ترك التعلم ؟ .

( وقد خالف فيما ذكرنا ) على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم ( صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم ) لا على مخالفة الواقع .

وإنّما جعلا العقاب على ترك التعلم ( لقبح تكليف الغافل ) الجاهل بالأحكام ، فان الجاهل قد يكون جهله جهلاً مركبا وهذا لا عقاب عليه في مخالفته للواقع ، لأنه قاطع بعدم التكليف .

وقد يكون جهله جهلاً بسيطا لكنه كان حين العمل ملتفتا إلى ان له تكليفا ومع ذلك لم يعتن بالتكليف واتفق مخالفته للواقع ، فان هذا يكون معلقا أيضا ، لأنه ليس بغافل ، وهذان القسمان لا خلاف فيهما .

وقد يكون جاهلاً بسيطا قصّر في التعلم ، لكنه لم يكن حين العمل ملتفتا إلى انه له تكليفا ، فاتفق مخالفته للواقع عن غفلة ، وهذا القسم هو مورد الخلاف وهو مراد المدارك .

هذا ( وفهم منه ) أي : من كلام المدارك ( بعض المدققين : أنّه قول بالعقاب على ترك المقدمة دون ذي المقدمة ) أي انه يعاقب على انه لماذا لم يتعلم ،

ص: 223

ويمكن توجيه كلامه بارادة إستحقاق عقاب ذي المقدمة حين ترك المقدمة ، فان من شرب العصير العنبي غير ملتفت حين الشرب إلى إحتمال كونه حراما قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان ، لغفلته وإنّما يعاقب على النهي الموجّه اليه قبل ذلك حين التفت إلى أنّ في الشريعة تكاليف لا يمكن امتثالها إلاّ بعد معرفتها ، فاذا ترك المعرفة عوقب عليه

-------------------

لا على انه لماذا لم يؤدي الواجب ، ولماذا فعل الحرام؟ والمراد ببعض المدققين هو صاحب الذخيرة كما في بعض الحواشي .

( ويمكن توجيه كلامه ) أي : كلام المدارك بغير ما ذكره صاحب الذخيرة وذلك ( بارادة إستحقاق عقاب ذي المقدمة حين ترك المقدمة ) فان من ترك التعلم ملتفتا إلى وجوب التعلم واتفق مخالفته للواقع ، يعاقب لكن لا على المخالفة نفسها ، لأن المفروض : انه غافل حين المخالفة ، وعقاب الغافل قبيح ، ولا على ترك التعلم وحده ، لأن المفروض : عدم الوجوب النفسي للتعلم ، وإنّما يعاقب على ترك التعلم من حيث إفضائه إلى المخالفة - كما قال - :

( فان من شرب العصير العنبي ) حال كونه ( غير ملتفت حين الشرب إلى إحتمال كونه حراما ) لغفلته عن ذلك غفلة مطلقة ، فقد ( قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان ) وذلك ( لغفلته ) وقد عرفت : ان الغافل لا يصح مخاطبته ، فلا يصح معاقبته .

إذن : فلا يعاقب حين المخالفة لفرض غفلته ( وإنّما يعاقب على النهي الموجّه اليه قبل ذلك ) أي : قبل حال الغفلة ، يعني : ( حين التفت إلى انّ في الشريعة تكاليف لا يمكن امتثالها إلاّ بعد معرفتها ، فاذا ترك المعرفة عوقب عليه ) أي : على ذلك التكليف المتروك ، لكن من حين ترك المعرفة بعد التفاته ، فيكون

ص: 224

من حيث افضائه إلى مخالفة تلك التكاليف ، ففي زمان الارتكاب لا تكليف ، لانقطاع التكليف حين ترك المقدمة ، وهي : المعرفة .

ونظيره من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الامكان ، حيث انّه يستحق أن يُعاقَب عليه ، لافضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها ، ولايتوقف إستحقاق عقابه على حضور أيام الحج وأفعاله .

-------------------

العقاب على ترك المعرفة لا لذات ترك المعرفة ، بل ( من حيث افضائه ) أي : افضاء الترك ( إلى مخالفة تلك التكاليف ) .

وعليه : ( ففي زمان الارتكاب لا تكليف ) حتى يعاقب عليه ، وذلك ( لانقطاع التكليف حين ترك المقدمة ، وهي : المعرفة ) فكما ان من يترك المقدمة يتعذر عليه ذو المقدمة ، كذلك من يترك التعلم يتعذر عليه الاطاعة ، فلا تكليف متوجه اليه بالنهي حين إرتكاب المخالفة ، وإنّما التكليف متوجه اليه بالنهي قبل ارتكاب المخالفة وذلك من حين ترك التعلم .

( ونظيره ) أي : نظير ما نحن فيه : مثال ( من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الامكان ) كما إذا كانت قوافل الحج تذهب إلى الحج من أول رجب إلى آخره ، فلم يذهب حتى مع آخر قافلة منها وهو يعلم بعدم إمكان الذهاب بعدها ( حيث انّه يستحق ان يُعاقَب عليه ) أي : على ذلك التكليف المتروك ، لكن من حين ترك السفر ، فيكون العقاب على ترك السفر لا لذاته ، بل ( لافضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها ) أي : في أيام أفعال الحج ( ولا يتوقف إستحقاق عقابه على حضور أيام الحج وأفعاله ) .

إذن : فالعقاب ليس على ترك السفر وحده ، ولا على ترك أعمال الحج في أيام ذي الحجة وحده ، وإنّما العقاب على ترك السفر من حيث إفضائه إلى ترك أعمال

ص: 225

وحينئذٍ : فانْ أراد المشهور توجّه النهي إلى الغافل حين زمان غفلته ، فلاريب في قبحه .

وإنْ أرادوا إستحقاق العقاب على المخالفة وإن لم يتوجّه اليه نهي وقت المخالفة :

-------------------

الحج في أيام الحج ، فيكون ، مستحقا للعقاب من حين ترك السفر في شهر رجب دون أن يتوقف على حضور شهر الحج وأيامه .

أقول : وفي كلام المصنِّف هذا ما لا يخفى ، لأن لازمه : ان من يسقي السم لانسان يجرّ اليه الموت بعد سنة ، ان تحكم الآن على الساقي بالقتل ، وهذا ما لايمكن الالتزام به، لأنه لم يمت المسموم بعد، فكيف يجزى ساقيه جزاء القاتل؟.

وعلى فرض موت الساقي قبل موت المسقي ، فهل يعاقب اللّه الساقي حين موته عقاب القاتل والحال انه لم يمت المسقي بعد؟ أو هل يجوز ضرب عنق الساقي قصاصا والمسقي بعد في قيد الحياة ؟ .

( وحينئذٍ ) أي : حين استظهر المصنِّف ما ذكره والمسقي في توجيه كلام صاحب المدارك ، اعترض على المشهور القائلين بكون العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم بقوله :

( فان أراد المشهور ) القائلون بأن العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم ( توجّه النهي إلى الغافل حين زمان غفلته ، فلا ريب في قبحه ) إذ الغافل لايمكن أن يخاطب من قبل الحكيم بشيء .

( وان أرادوا إستحقاق العقاب على المخالفة ) من حين المخالفة ( وان لم يتوجّه اليه نهي وقت المخالفة ) لأنه كان وقت المخالفة غافلاً ، ونهي الغافل قبح ، فان كان مراد المشهور هذا ، فهو يتصور على وجهين :

ص: 226

فان أرادوا الاستحقاق على المخالفة وقت المخالفة لا قبلها لعدم تحقق معصيته .

ففيه : أنّ لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدمة

-------------------

أشار المصنِّف إلى الوجه الأوّل بقول : ( فان أرادوا الاستحقاق على المخالفة : وقت المخالفة لا قبلها ) بأن لم يكن الاستحقاق من حين ترك التعلم ، وذلك ( لعدم تحقق معصيته ) حين ترك التعلم لأن المفروض عدم الوجوب النفسي للمتعلم ، فلا يكون في ترك التعلم عقاب ، فاذا ترك تعلم حكم العصير العنبي يوم الجمعة ، وشربه يوم السبت - مثلاً - فاتفق حرمته واقعا ، فقد وقعت المخالفة يوم السبت فكيف يعاقب عليها يوم الجمعة؟ فيجب أن يكون الاستحقاق يوم السبت أيضا .

( ففيه : انّ لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة ) وذلك ( لصيرورة الفعل ) من الاتيان بالواجب أو ترك الحرام - مثلاً - ( مستحيل الوقوع ) من حين ترك التعلم ، وذلك ( لأجل ترك المقدمة ) فان التعلم مقدمة للعمل ومن ترك المقدمة استحال عليه فعل ذي المقدمة .

وعليه ، فان المصنِّف رحمه اللّه يرى لزوم كون العقاب على المخالفة لو اتفقت ، لكن لا وقت المخالفة وإنّما وقت ترك المقدمة وهي : التعلم ، فاذا لم يتعلم حكم العصير - مثلاً - يوم الجمعة وشربه يوم السبت فاتفق حرمته عوقب على شربه من يوم الجمعة حيث لم يتعلم ، لا من يوم السبت حيث شربه ، وهكذا نظيره من مسألة الحج وغيره .

هذا كله هو كلي المطلب عند المصنِّف ، وقد استدل له ببعض صغريات

ص: 227

مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيبُ زيدا ولا يقتله إلاّ بعد مدة بمجرّد الرمي .

وإن أرادوا إستحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة ، فهو حسن لا محيص عنه .

هذا ، ولكن بعض كلماتهم

-------------------

المسألة بقوله : ( مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيبُ زيدا ولا يقتله إلاّ بعد مدة ) فاذا رماه مثلاً هذه الساعة فأصابه السهم بعد ساعة فقتله ، فانه يحسن مؤاخذته ( بمجرّد الرّمي ) .

ولكن فيه ما قد عرفت : من ان لهذا الكلام كله لوازم لا يلتزم بها أحد ، كما مثلنا له بسقي السم وغيره .

وأشار إلى الوجه الثاني بقوله : ( وان أرادوا ) أي : المشهور : ( إستحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة ) كما استظهره المصنِّف من كلام صاحب المدارك ( فهو حسن لا محيص عنه ) لكنك قد عرفت ما فيه .

إذن : فاللازم أن نقول هنا بما قالوه في غير هذا الموضع : من ان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا ، فان من يلقي نفسه من شاهق لا يخاطب حين السقوط : بأن لا تقتل نفسك ، لخروجه من اختياره وقدرته لكنه إذا مات عوقب على انه قتل نفسه ، فالعقاب على القتل وقت القتل لا قبله حال المقدمة .

والحاصل : ان المصنِّف يحاول بتوجيهه هذا : التوفيق بين المشهور وبين صاحب المدارك ، وذلك بأن يجعل النزاع بينهما لفظيا ، وهذا ما لم يرتضه المصنِّف نفسه ، ولهذا قال : ( هذا ، ولكن بعض كلماتهم ) أي : كلمات المشهور

ص: 228

ظاهرة في الوجه الأوّل ، وهو توجّه النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته ، فانّهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلاً بالحكم ، لأن الجاهل كالعامد ، وأنّ التحريم لا يتوقف على العلم به ، ولولا توجّه النهي اليه حين المخالفة لم يكن وجه للبطلان ،

-------------------

( ظاهرة في الوجه الأوّل ، وهو توجّه النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته ) أي : حين المخالفة .

ولكن ربّما يقال : بأنهم يقصدون : كون العقاب حال العمل ، لا ان الخطاب حال العمل .

وكيف كان : فكلام المشهور يخالف كلام صاحب المدارك ، فليس النزاع بينهما لفظيا ، وإنّما هو نزاع معنوي .

ثم استدل المصنِّف على ظهور كلمات المشهور في الوجه الأوّل بقوله : ( فانّهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلاً بالحكم ) أي : بحرمة الغصب، وذلك ( لأن الجاهل كالعامد ، وانّ التحريم لا يتوقف على العلم به ) أي : بالتحريم ، فان التحريم ان توقف على العلم به لزم الدور ، وذلك لأن العلم إنّما هو بعد التحريم ، فكيف يؤخذ في موضوع التحريم ؟ .

وعلى هذا : فالحرام مطلق سواء علم المكلّف به أم لم يعلم به ، وإذا كان حراما توجه النهي اليه فكان فاسدا ، لأن الحرام المنهي عنه لا يتقرب به إلى اللّه كما قال : ( ولولا توجّه النهي اليه ) أي : إلى من يصلي في المغصوب جاهلاً ( حين المخالفة ، لم يكن وجه للبطلان ) .

لكن يمكن أن يقال : ان البطلان هنا ليس لذلك ، بل لفقد الشرط الواقعي حيث

ص: 229

بل كان كناسي الغصبية .

والاعتذار عن ذلك - بأنّه يكفي في البطلان اجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومُعاقَب عليه ، ولو لم يكن منهيا عنه بالفعل -

-------------------

قال عليه السلام لكميل : انظر فيم تصلي؟ وعلى م تصلي ؟ (1) إلى آخر الحديث ، فيكون الصلاة في الغصب حالها حال الصلاة بغير طهارة ، فان الصلاة بلا طهارة باطلة ، علم المصلي ذلك أم جهل به ، جهلاً بسيطا أم مركبا ، غير أن المصنِّف يرى ان وجه قولهم ببطلان الصلاة في الغصب هو : توجه النهي اليه حال المخالفة .

وعليه : فاذا فرض عدم توجه النهي اليه حال المخالفة لزم عدم البطلان هنا لانه يكون كالناسي هو : توجيه كما قال : ( بل كان كناسي الغصبية ) أي : كان الجاهل بالحكم كناسي الموضوع ، فكما ان ناسي الموضوع لا تكون صلاته باطلة ، كذلك الجاهل بالحكم لا تكون صلاته باطلة ، وذلك لان المشهور يحكمون بصحة صلاة ناسي الغصبية معللين ذلك بعدم توجه النهي اليه .

( والاعتذار عن ذلك ) أي : عن قول المشهور القائلين ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب ( بأنه ) ليس لتوجه النهي اليه حتى يقال كيف يوجه النهي إلى الجاهل؟ وإنّما هو لاجتماع مبغوضية الغصب مع الصلاة ، إذ ( يكفي في البطلان اجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومُعاقَب عليه ولو لم يكن منهيا عنه بالفعل ) .

والحاصل : ان حكم المشهور ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب ، ليس هو لتوجه النهي إلى الجاهل ، بل لاجتماع الأمر مع المبغوض ، فان النهي وان لم يتوجه اليه إلاّ ان هذا الغصب مبغوض معاقب عليه فلا يجتمع مع مقربية الصلاة .

ص: 230


1- - بشارة المصطفى : ص28 بالمعنى ، بحار الانوار : ج77 ص275 ب11 ح1 .

مدفوع مضافا إلى عدم صحته في نفسه ، بأنّهم صرّحوا بصحة صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها ، لعدم النهي عنه وإن كان آثما بالخروج .

-------------------

إذن : فالاعتذار عنه بذلك ( مدفوع ) بما يلي :

أولاً : ( مضافا إلى عدم صحته في نفسه ) فانا لا نسلّم صحة هذا الاعتذار لأن الموجب للبطلان هو : إجتماع الأمر والنهي ، لا إجتماع الأمر والمبغوض .

وفيه : انّ المبغوض هو بنفسه لا يكون محبوبا ومقربا ، فلا حاجة للقول بالبطلان إلى أن يكون مستندا إلى اجتماع الأمر والنهي بل يكفي استناده إلى عدم إمكان الجمع بين المحبوب والمبغوض .

ثانيا : ( بأنّهم صرّحوا بصحة صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها ) فان الذي يتوسط الأرض المغصوبة ويضيق عليه الوقت قال المشهور : بأن له أن يصلي حال الخروج منها ، وحكموا بصحة صلاته هذه ، وعللوا ذلك بقولهم: ( لعدم النهي عنه ) أي : عن الخروج من الأرض المغصوبة .

وعليه : فاذا لم يكن نهي ، صحّت صلاته ( وان كان آثما بالخروج ) لأنه نوع تصرّف في الغصب ، وهو حرام لسوء اختياره بالدخول فيه عامدا ، فيظهر من تعليلهم الصحة هنا بعدم النهي : ان علة قولهم بالبطلان هنا إنّما هو لوجود النهي .

إذن : فالمتوسط أرضا مغصوبة باختياره لابدّ له أن يخرج منها عقلاً ، لأن معصيته في الخروج أقل من معصيته في البقاء ، فاذا ضاق وقت الصلاة بحيث لا يدرك الوقت بعد الخروج وجبت عليه الصلاة في حال الخروج ، لأن فقد الوقت أهم من فقد الشرط الذي هو الصلاة في المباح ، فالخروج واجب عقلاً ، لكن هل هو واجب شرعا ، أو حرام شرعا ، أو ليس بواجب ولا حرام ، لتعارضهما

ص: 231

إلاّ أن يفرّق بين المتوسط للأرض المغصوبة وبين الغافل بتحقق المبغوضيّة في الغافل ،

-------------------

وتساقطهما ؟ احتمالات .

والحاصل : ان المشهور قالوا بتوجه النهي إلى الغافل مع عدم التفاته حين المخالفة : لأن العقاب على المخالفة لا على ترك التعلم ، والمدارك قال : بعدم توجه النهي إلى الغافل لأن الغافل لا يمكن تكليفه ، فالعقاب على ترك التعلم لا على المخالفة ، والمصنِّف جمع بين كلامهما ، فجعل مراد المشهور هو مراد المدارك ، وذلك بجعل العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواجب .

لكن هذا الجمع كما عرفت : غير مرضي ، لأنا نرى ان المشهور يقولون بتوجه النهي إلى الغافل مع غفلته حين المخالفة ، وذلك بدليل انهم يقولون ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب مع ان البطلان لا يكون إلاّ من جهة النهي .

هذا ، وقد اعتذر عن المشهور بعض وقال : انهم يقولون ببطلان صلاة الجاهل بالحكم ، لكن لا لأنه منهي عنه ، بل لأنه مبغوض للمولى ، ولا يمكن إجتماع الأمر والمبغوضية في الصلاة .

وأجيب عن هذا الاعتذار ببطلانهُ ، أولاً : وبأن هؤلاء لا يقولون ببطلان صلاته للمبغوضية ، بل للنهي عنها ثانيا ، ولذا قالوا بصحة صلاة المتوسط أرضا مغصوبة ، لأنه لا نهي عنها ، إذ لا يمكن النهي عن الخروج ، فعلم : ان المعيار عند المشهور هو : النهي وعدمه ، لا المبغوضية وعدمها .

( إلاّ ان يفرّق بين المتوسط للأرض المغصوبة ) الذي يريد الخروج للتخلص من الغصب تصح صلاته في حال الخروج ( وبين الغافل بتحقق المبغوضيّة ، في الغافل ) الذي يجهل الحكم التكليفي للغصب بتركه التعلم حيث تكون صلاته باطلة.

ص: 232

وإمكان تعلّق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن حرمته مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إليه ، لبقاء الاختيار فيه وعدم ترخيص الشارع للفعل في مرحلة الظاهر

-------------------

وعليه : فالفرق بينهما حينئذ هو : ان الغافل عن حرمة الغصب الذي ترك التعلم، تصبح صلاته مبغوضة ولهذا تفسد ، وليس كذلك المتوسط عمدا في أرض مغصوبة ، فانه مأمور بالخروج الآن ، فلا مبغوضية لصلاته بعد أمر الشارع له بالخروج ، ولذا تصح صلاته .

إذن : فالفرق هو : تحقق المبغوضية وعدمها ، حيث لا تتحقق المبغوضية بالنسبة لمن يخرج من الغصب ، بينما هي متحققة بالنسبة لمن لم يتعلم حكم الغصب ، ولذلك تبطل صلاته كما قال :

( وإمكان تعلّق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن حرمته ) كالصلاة في الغصب ، فان الشارع يكره الغصب ( مع بقاء الحكم الواقعي ) للغصب ( بالنسبة إليه ) أي : الغافل عن حرمة الغصب ، فانه وان لم يتوجه إليه الحكم فعلاً كغفلته ، إلاّ انه باق في حقه .

وإنّما يكون الحكم الواقعي باقيا في حقه ( لبقاء الاختيار فيه ) حيث ان الغافل قادر على ترك الغصب والصلاة في مكان مباح - مثلاً - وليس مضطرا إلى الغصب كاضطرار المتوسط في الأرض المغصوبة حيث انه مجبور على الغصب بقي أم خرج .

( و ) لأجل ( عدم ترخيص الشارع للفعل ) أي : للغصب بالنسبة إلى الغافل ( في مرحلة الظاهر ) لأن ترخيص الشارع ، إنّما يكون مع الاضطرار إلى الغصب ، والغافل ليس مضطرا إلى الغصب حتى يكون مرخّصا فيه .

ص: 233

بخلاف المتوسط ، فانّه يقبح منه تعلق الكراهة الواقعية بالخروج ، كالطلب الفعلي لتركه ، لعدم التمكّن من ترك الغصب .

-------------------

( بخلاف المتوسط ) في أرض غصبية عالما عامدا ( فانّه ) قد رخّص الشارع في خروجه ، بل أمر به من باب أمره بالأهم ، فان الشارع يرى إن بقائه في الغصب أسوء من خروجه منه ، فيأمره بالخروج ليكون المحذور أقل ، ولذلك ( يقبح منه ) أي : من المولى ( تعلق الكراهة الواقعية بالخروج ، كالطلب الفعلي لتركه ) أي : لترك الخروج ، فانه كما يقبح تعلق الكراهة بالخروج ، كذلك يقبح النهي عن الخروج ، فالمولى لا يطلب الخروج ولا يطلب عدم الخروج منه .

وإنّما لا يكره المولى خروجه ، ولا يطلب منه ترك الخروج ( لعدم التمكّن ) بالنسبة للمتوسط أرضا مغصوبة ( من ترك الغصب ) لأنه مبتلى بالغصب على كل حال ، سواء بقي أم خرج ، لكن حيث ان خروجه أقل محذورا ، لا يكره المولى خروجه ، وحينئذ لا تكون صلاته مكروهة ، وإذا لم تكن صلاته مكروهة كانت مأمورا بها .

فتحصّل من كل ذلك : ان الفرق بين الغافل الذي ترك التعلم وصلّى في الغصب حيث تبطل صلاته على المشهور ، والمتوسط أرضا مغصوبة عمدا الذي صلّى في حال الخروج حيث تصح صلاته عند المشهور ، هو : ان صلاة الأوّل مكروهة للمولى ، وصلاة الثاني ليست مكروهة للمولى ، والفارق الآخر : ان الأوّل ليس مضطرا ، بينما الثاني مضطرا .

ثم ان المشهور قالوا : ان صلاة من لا يعلم بموضوع الغصب صحيحة ، وصلاة من لا يعلم بحكم الغصب ، إذا كان جاهلاً مقصرا باطلة ، ووجه هذا الفرق هو : ان الجاهل بالموضوع ليس مكلفا بالفحص عن الموضوع ، بينما الجاهل بالحكم

ص: 234

وممّا ذكرنا : من عدم الترخيص يظهر الفرق بين جاهل الحكم وجاهل الموضوع المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وإن فرض فيه الحرمة الواقعيّة .

نعم ، يبقى الاشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصّر ،

-------------------

مكلّف بالفحص عن الحكم .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وممّا ذكرنا : من عدم الترخيص ) في الغافل المقصّر ( يظهر الفرق بين جاهل الحكم ) الذي قصّر في تحصيل الحكم ( وجاهل الموضوع ) الذي لم يفحص عن الموضوع ، فان الجاهل بالموضوع هو ( المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وان فرض فيه الحرمة الواقعيّة ) وذلك لعدم تنجزّ الحرمة في حقه وان كان مقصّرا ، دون الجاهل بالحكم عن تقصير ، فانه هو المحكوم ببطلان عبادته مع الغصب لتنجّز الحرمة عليه .

والفارق : ما ذكرناه : من ان الشارع لم يرخّص في ترك الفحص عن الحكم ، بينما رخّص في ترك الفحص عن الموضوع .

والحاصل : ان الجاهل بالحكم ان كان مقصرا فصلاته باطلة ، اما الجاهل بالحكم قاصرا ، أو الجاهل بالموضوع قاصرا ، أو مقصرا ، فصلاته صحيحة .

( نعم ، يبقى الاشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصّر ) فقد اختلفوا في الناسي ، فبعض قال : بأن ناسي الموضوع أو الحكم قصورا تصح صلاته لرفع النسيان ، امّا ناسي الموضوع تقصيرا بأن لم يتحفظ على ان هذه الدار غصب - مثلاً - حتى نسي الموضوع ، أو ناسي الحكم تقصيرا بأن لم يتحفّظ على ان الغصب حرام حتى نسي الحكم ، فبين قائل بالبطلان فيهما لأنه متصرف في الغصب ، وبين قائل بالصحة فيهما لاطلاق رفع النسيان .

ص: 235

وللتأمّل في حكم عبادته مجال ، بل تأمل بعضهُم في ناسي الموضوع ، لعدم الترخيص الشرعي من جهة الغفلة ، فافهم .

-------------------

هذا ( وللتأمّل في حكم عبادته ) أي : عبادة الناسي ( مجال ) واسع في انها هل تصح مطلقا ، أو تبطل مطلقا ، أو يفرق بين القاصر والمقصر ، بالصحة في القاصر ، والبطلان في المقصر؟ فقد تأمل فيه بعض كما قال :

( بل تأمل بعضهم في ناسي الموضوع ، لعدم الترخيص الشرعي من جهة الغفلة ) فان الجاهل بالموضوع كما عرفت : لا حكم له ، لأن الشارع لم يأمره بالفحص ، بخلاف الغافل عن الموضوع الذي علم ثم غفل ، فانه قصّر في عدم الحفظ ، ولهذا يمكن أن تكون صلاته باطلة .

( فافهم ) فان ناسي الموضوع أولى بالصحة من ناسي الحكم ، فاذا قلنا بشمول رفع النسيان لناسي الحكم وصحّحنا صلاته ، فالأولى ان نقول بصحة صلاة ناسي الموضوع أيضا .

ولا يخفى : ان الكلام في هذه المقامات طويل جدا ، وذكر تمامه ينافي الشرح، لذلك نكله إلى محله من الفقه ، غير أنا نذكر هنا كلام المحقق الأردبيلي ، وصاحب المدارك ، ليظهر لمن يريد التدبّر ماذا أرادا من كلامهما؟ فقد قال المحقق الأردبيلي في شرح الارشاد :

« واعلم أيضا ان سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - هو النهي عن الصلاة فيها ، المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير ، وان النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطر ، ولا الناسي ، ولا الجاهل ، لعدم النهي حين الفعل ، ولأن الناسي في سعة ما لا يعلمون وان كان في الواقع مقصّرا ومعاقبا على التقصير ، ولعل قول المصنِّف : وان جهل إلى آخره المراد به : عدم علمه بالبطلان ،

ص: 236

وممّا يؤيد إرادة المشهور للوجه الأوّل

-------------------

لا التحريم ، وان كان ظاهر كلامه غير ذلك وفهم من غير هذا المحل » ، انتهى كلام المحقق الأردبيلي ، وظاهره : ان الجاهل المقصّر معاقب من جهة تركه الفحص والتعلم .

ثم ان المدارك ذكر عند شرح قول المحقق : « وإذا أخل المصلي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه أعاد في الوقت وخارجه » قائلاً :

« إذا أخل المصلي بازالة النجاسة التي تجب إزالتها في الصلاة عن ثوبه وبدنه ، فامّا أن يكون عالما بالنجاسة ذاكرا لها حالة الصلاة ، أو ناسيا ، أو جاهلاً ، فهنا مسائل ثلاث ، ثم قال في المسألة الاُولى : وإطلاق كلام الأصحاب يقتضي إنه لا فرق في العالم بالنجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلاً ، بل صرح العلامة وغيره : بأن جاهل الحكم عامد ، لأن العلم ليس شرطا في التكليف ، وهو مشكل لقبح تكليف الغافل ثم قال :

والحق : إنهم ان أرادوا بكون الجاهل كالعامد ، انه مثله في وجوب الاعادة في الوقت ، فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء المكلّف تحت العهدة ، وان أرادوا انه كالعامد في وجوب القضاء ، فهو على إطلاقه مشكل ، لأن القضاء فرض مستأنف ، فيتوقف على الدليل ، فان ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلاّ فلا ، وان أرادوا أنّه كالعامد في إستحقاق العقاب فمشكل ، لأن تكليف الجاهل بما هو جاهل به ، تكليف بما لا يطاق ، نعم ، هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل أو الشرع ، فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح » انتهى .

( وممّا يؤيد إرادة المشهور للوجه الأوّل ) وهو : توجه النهي إلى الغافل حين

ص: 237

دون الأخير أنّه يلزم حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلاّ بعد دخول أوقاتها .

-------------------

غفلته ( دون الأخير ) أي : كون العقاب على ترك ذي المقدمة ، لكن حين ترك المقدمة من غير انتظار ظهور زمان المخالفة ( انّه يلزم حينئذ ) أي : حين إرادتهم الوجه الأخير ( عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلاّ بعد دخول أوقاتها ) كالتكليف بالصلاة في أوقات خاصة حيث قال تعالى : « أقم الصلاة لدلوك الشمس » (1) وفي الحديث : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) .

وهكذا بالنسبة إلى التكاليف المشروطة بالاستطاعة كالحج مثلاً .

وعليه : فان المشهور ان لم يساووا بين العالم والجاهل في توجه الخطاب اليهما حتى يلزم عقابهما معا ، لزم عدم العقاب في التكاليف المشروطة والموقتة التي لا تتنجز على المكلّف إلاّ بعد حصول شرطها ووقتها ، مع ان العقاب ثابت فيهما إجماعا ، إذ لا خلاف في ان الغافل المقصّر التارك للموقتات كالحج والصلاة - مثلاً - مستحق للعقاب ، وإستحقاقه للعقاب يتم على الوجه الأوّل وهو توجه التكليف إلى الغافل ، لا على الوجه الأخير ، وهو عدم توجه التكليف إلى الغافل .

وإنّما يتم على الوجه الأوّل دون الأخير ، لأنه حين الالتفات إلى هذه التكاليف التي لم يدخل وقتها ، لم يكن مكلفا بها حتى يعاقب عليها ، وبعد دخول وقتها لم يكن ملتفتا إليها ، فلا يتوجه إليه التكليف حتى يعاقب على مخالفتها كما قال :

ص: 238


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 .

فاذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحج ، والمفروض أنه لا تكليف قبلها ، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا .

أمّا حين الالتفات إلى امتثال تكليف الحج ، فلعدم التكليف به لفقد الاستطاعة ، وأمّا بعد الاستطاعة فلفقد الالتفات وحصول الغفلة ، وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها .

-------------------

( فاذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحج ، والمفروض انه لا تكليف قبلها ) أي قبل الاستطاعة ( فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا ) أي : إطلاقا لا قبل الوقت ولا بعد الوقت .

( أمّا حين الالتفات إلى امتثال تكليف الحج ، فلعدم التكليف به ، لفقد الاستطاعة ) قبل أيام الموسم وحضور أشهر الحج .

( وامّا بعد الاستطاعة ) بأن دخل الموسم وحضر أشهر الحج ( فلفقد الالتفات وحصول الغفلة ) حينها؛ والغافل لم يكن مكلفا ، فلم يكن معاقبا عليه .

( وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها ) كقبل الزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر وبعده ، وكقبل الفجر بالنسبة إلى الصوم وبعده ، فانه قبل الوقت لا تكليف ، وبعد الوقت لا التفات ، فلا عقاب في كلا الصورتين .

وعليه : فاذا أراد المشهور الوجه الأوّل : صحّ العقاب على المخالفة ، وامّا إذا أراد المشهور الوجه الأخير : فاللازم أن يقولوا باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع في التكاليف المطلقة فقط ، دون المشروطة والموقتة لأن الواقع في المشروط والموقت لم يتنجز على المكلّف كي يعاقب عليه ، لا قبل الشرط والوقت ، ولا بعد الشرط والوقت .

أمّا قبل تحقق الشرط ودخول الوقت فواضح ، لأنه لا تكليف حيث لم يدخل

ص: 239

ومن هنا قد يلتجأ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه ، من أنّ العلم واجب نفسي والعقاب على تركه من حيث هو ، لا من حيث افضائه إلى المعصية ، أعني ترك الواجبات و

-------------------

الوقت ولم يتحقق الشرط ، وامّا بعد دخول الوقت وتحقق الشرط فكذلك أيضا ، لأجل الغفلة الناشئة عن ترك الفحص والتعلم ، فلا يصح العقاب عليه مع ان الاجماع والضرورة قائمان على إستحقاق العقاب بالمخالفة ، سواء في التكاليف الموقتة والمشروطة أم في التكاليف المطلقة .

( ومن هنا ) أي : من حيث ان الوجه الأخير وهو : عدم توجه التكليف إلى الغافل ، يستلزم القول بالتفصيل في العقاب على المخالفة بين الواجبات المطلقة والواجبات المؤقتة والمشروطة مع انه لم يقل به أحد ، لذلك ( قد يلتجأ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه ) وهو كما قال :

( من انّ العلم واجب نفسي والعقاب على تركه ) أي : على ترك التعلم يكون ( من حيث هو ) أي : من حيث انه ترك التعلم ( لا من حيث افضائه إلى المعصية أعني ) من إفضاء عدم التعلم إلى المعصية هو : أدائه إلى ( ترك الواجبات وفعل المحرّمات المجهولة تفصيلاً ) فان الجاهل وان كان يعلم بواجبات ومحرمات في الجملة ، لكن لا يعلم بهما تفصيلاً ، فلا يعاقب على تركهما ، وإنّما على ترك التعلم فقط .

( و ) ان قلت : إذا كان العقاب على ترك التعلم من حيث هو لا من حيث إفضائه إلى المعصية ، فماذا تصنعون بظاهر الأدلة الدالة على ان التعلم واجب من باب المقدمة ، مثل آية النفر (1) ، وآية السؤال (2) ، ومثل قوله عليه السلام : « عليكم بالتفقه

ص: 240


1- - اشارة الى سورة التوبة : الآية 122 .
2- - اشارة الى سورة النمل : الآية 43 .

فعل المحرّمات المجهولة تفصيلاً .

وما دلّ بظاهره من الأدلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمولٌ على بيان الحكمة في وجوبه ، وأنّ الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرّمات حتى لايفوته منفعة التكليف بها ولا يناله مضرّة اهماله عنها ،

-------------------

في دين اللّه ، ولا تكونوا أعرابا ، فان من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة » (1) ومثل قوله عليه السلام بعد ما سأله السائل : « هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه ؟ قال : لا » (2) إلى غيرها من الآيات والروايات الدالة على ان وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة لا من باب انه واجب نفسي ؟ .

قلت : ( ما دلّ بظاهره من الأدلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة ) لا انه واجب نفسي ( محمول على بيان الحكمة في وجوبه ) أي : بيان الحكمة في الوجوب النفسي لتحصيل العلم .

( و ) معنى ذلك : ( انّ الحكمة في إيجابه لنفسه ) أي : في إيجاب العلم وجوبا نفسيا هو : ( صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرّمات ) وذلك ( حتى لا يفوته منفعة التكليف بها ) أي : بالواجبات والمحرمات ( ولا يناله مضرّة اهماله ) أي : اهمال المكلّف ( عنها ) أي : عن تلك التكاليف من الواجبات والمحرّمات .

إذن : فالحكمة في إيجاب التعلم بالوجوب النفسي يكون على قسمين :

الأوّل : إدراك المكلّف مصلحة الواقع ، نظير التقوى - مثلاً - من إيجاب الصوم

ص: 241


1- - الكافي اصول : ج1 ص31 ح7 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص68 ب7 ح33219 .

فانّه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب ، بل الحكمة الظاهرة في الارشاد و تبليغ الأنبياء والحجج ليس إلاّ صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف .

-------------------

وجوبا نفسيا ، فقد قال سبحانه : « كُتِبَ عَليكُم الصِّيام كما كُتِبَ على الّذين من قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتقُون » (1) .

الثاني : صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب بالتكاليف الشرعية من أمر ونهي .

هذا ، وما نحن فيه : من إيجاب التعلم وجوبا نفسيا إنّما هو للقسم الثاني من الحكمة كما قال : ( فانّه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه ) أي : وجوبا نفسيا هو : ( صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب ) فكأن الشارع قال للجاهل : تعلَّم ، والتعلم عليك واجب نفسي ، والحكمة في إيجاب التعلّم عليك هو : ان تصبح قابلاً للخطاب بالصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك .

( بل ) هذا القسم الثاني من الحكمة في الواجبات النفسية أمر شائع ، فان ( الحكمة الظاهرة في الارشاد ) أي : وجوب تعليم الجهال على العلماء ( و ) كذلك في وجوب ( تبليغ الأنبياء والحجج ) الأطهار عليهم صلوات اللّه الملك الجبار أحكام اللّه تعالى إلى الناس ( ليس إلاّ صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف ) .

إذن : فالتعلم واجب نفسي على افراد الناس لهذه الحكمة وهي : ان يصبحوا قابلين للتكليف بالواجبات والمحرمات حتى لا يفوتهم منفعة التكليف بالواجبات والمحرمات ولا ينالهم مفسدة إهمال الأحكام .

هذا غاية ما يمكن من تقريب كون التعلم واجبا نفسيا .

ص: 242


1- - سورة البقرة : الآية 183 .

لكنّ الانصاف : ظهور أدلّة وجوب العلم في كونه واجبا غيريّا ، مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث ، الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة .

-------------------

( لكنّ الانصاف : ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريّا ) كقوله تعالى : « فاعلم انه لا إله إلاّ اللّه » (1) فانه ظاهر في ان العلم واجب من جهة كونه مقدمة الاعتقاد، لا من جهة نفسه ، ولذلك إذا علم ولم يعتقد ، لم ينفعه علمه ، كالكفار فانهم كانوا يعلمون ، لكنهم كانوا لايعتقدون بالحق ، ولذلك قال فيهم سبحانه : « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم » (2) وقال سبحانه : « يعرفونه كما يعرفون أبنائهم » (3) إلى غير ذلك ( مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث ) من الوجوه الخمسة المتقدمة ( الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة ) لا ترك التعلم ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا اصابته جنابة فكزّ فمات : « قتلوه قتلهم اللّه ، إلاّ سألوا ؟ إلاّ يمّموه ؟ » (4) .

وقوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء: « ما كان أسوء حالك لو متّ على هذه الحالة ، ثم أمره بالتوبة وغسلها » (5) .

وما ورد في تفسير قوله تعالى: « فللّه الحجة البالغة » (6) حيث يقال للعبد يوم

ص: 243


1- - سورة محمد : الآية 19 .
2- - سورة النمل : الآية 14 .
3- - سورة البقرة : الآية 146 ، سورة الانعام : الآية 20 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ) : ج3 ص68 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 ، وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 .
5- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
6- - سورة الانعام : الآية 149 .

ويمكن أن يلتزم حينئذ باستحقاق العقاب على ترك تعلم التكاليف ، الواجب مقدمة ، وان كانت مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالاً من الواجبات المطلقة والمشروطة ،

-------------------

القيامة : هل علمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلا عملت؟ وان قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلمت حتى تعمل ؟ (1) إلى غيرها من الروايات الظاهرة في كون المؤاخذة على نفس المخالفة لا على ترك التعلم .

( و ) عليه : فقد ظهر : ان وجوب التعلم غيري لا نفسي ، لكن يبقى عليه إشكال التفصيل في العقاب بين الواجبات المطلقة وغير المطلقة ، وللتخلص من هذا الاشكال ( يمكن أن يلتزم حينئذ ) أي : حين كان وجوب التعلم غيريا لا نفسيا ، - إضافة إلى ما تقدّم - : ( باستحقاق العقاب على ترك تعلم التكاليف ، الواجب ) ذلك التعلم ( مقدمة ، وان كانت ) تلك التكاليف ( مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالاً ) .

والحاصل : انه لا فرق في تنجز التكليف حين الالتفات اليه ولو اجمالاً بين أن يكون ( من الواجبات المطلقة والمشروطة ) فانها تتنجز على الملتفت إليها إجمالاً بلا فرق بينها ، إلاّ ان التكاليف المطلقة تتنجز بنحو الاطلاق ، والمشروطة بنحو التقييد .

ولا يخفى : إنّ هذا كما قلنا هو وجه أخر لحل وإشكال التفصيل في العقاب على القول بأنّ وجوب التعلم مقدمي نفسي ، وحاصله كما يلي :

إنّ المكلّف حين التفاته الاجمالي إلى ان عليه بعض التكاليف ، تتنجز عليه تلك التكاليف بلا فرق بين أن يلتفت إلى ما ليس له شرط كوجوب الستر ،

ص: 244


1- - الأمالي للمفيد : ص292 ح1 ، مجموعة ورام : ج2 ص178 .

لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة ،

-------------------

أو إلى ما له شرط كالحج ، أو إلى ما له وقت كالصوم والصلاة ، فلا فرق بين التكاليف المطلقة والمشروطة في تنجزها على المكلّف حين الالتفات الاجمالي اليها ، فصلاة الظهر - مثلاً - إذا التفت إليها قبل الظهر إجمالاً ، يكون مكلفا بها لكن بشرط دخول الوقت ، وهكذا .

وعليه : فالتكليف بالظهر - مثلاً - موجود الآن حين الالتفات الاجمالي إليه ، فلايقال انه لا تكليف قبل الظهر لأن الوقت لم يدخل بعد ، كما انه لا يقال لاتكليف بعد الظهر لأنه غافل والغافل لا يكلف ، وإذا لم يكن تكليف على الغافل فلا يصح عقابه على ترك الصلاة حتى نضطر إلى أن نقول : بأن العقاب على ترك التعلم ، بل نقول : ان العقاب على ترك الصلاة الملتفت إليها قبل الوقت إجمالاً وان كان التكليف بها مشروطا بدخول الوقت .

وإنّما نقول : بانه لا فرق بين الواجبات المشروطة والمطلقة ( لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم ) الذي كتب المولى أوامره فيه وأعطاه لعبده فلم ينظر العبد إلى ما جاء فيه ، وكان فيه بعض التكاليف المطلقة وبعض التكاليف المشروطة ، فان للمولى الحق في معاقبته على كلا القسمين من التكاليف .

وإنّما له الحق في ذلك ، لأن بناء العقلاء ( على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف المسطورة فيه ) أي : في ذلك الطومار ( بين المطلقة والمشروطة ) فتساوي ذم العقلاء على تركهما يدل على تنجز التكليف بالمشروط حين الالتفات إليه إجمالاً وان كان قبل حصول شرطه .

ويؤيد تنجز التكليف حين الالتفات إليه إجمالاً وان كان قبل حصول الشرط :

ص: 245

فتأمل .

-------------------

إنه إذا دخل قبل الظهر حجرة مصنوعة من الخشب واغلق على نفسه بابها وألقى المفتاح خارج الحجرة ولم يكن هناك من يفتح له الباب ، فانه يعاقب على ترك الصلاة قطعا ، مع إنه غير قادر على الطهور ماءً وترابا ، وقد قال جملة من الفقهاء :

بأن فاقد الطهورين لا يصلي .

وكذا لو لم يأكل طعام السحور قبل الفجر في شهر رمضان مثلاً وكان لضعف مزاجه لا يتمكن من الصيام بدون أكل طعام السحور ، فانه يعاقب على إفطاره هذا.

وكذا لو ذهب إلى مكان لا يوجد فيه خمر ، لكن يعلم إجمالاً بأنه بعد ساعة يأتي ظالم بخمر فيجبره على شربها ، فانه يلزم على قولكم : من ان الواجب المشروط لا يكون منجزا حين الالتفات إليه إجمالاً قبل تحقق شرطه ، ان لا يكون معاقبا ، لأنه قبل مجيء الخمر لم يكن مكلفا وبعد مجيئها لم يكن مختارا ، مع وضوح انه معاقب عليه ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار .

وكأنه إلى هذا أشار صاحب الكفاية في حاشيته حيث قال : ويمكن ان يقال : ان التكاليف الموقتة والمشروطة في الشريعة يكون التكليف فيها فعليا منجزا بحيث يجب على المكلّف تحصيل غير ما علق عليه من مقدماته مما كان باختياره، وذلك بأن يكون الوقت والشرط من قيود المادة والمأمور به، لا من قيود الهيئة والأمر.

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى عدم توقف العقاب على توجه الخطاب ، بل مجرد المبغوضية كافية ، ومن المعلوم : ان كلاً من ترك الصلاة في الوقت ، والافطار في نهار شهر رمضان ، وشرب الخمر في المثال المتقدم مبغوض للمولى ، لأن فيه تفويت مصالح وجلب مفاسد ، فالعقاب لأجل جلب المفسدة ودفع المصلحة ، لا لأجل توجه الأمر .

ص: 246

هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البرائة .

وأما الكلام في الحكم الوضعي

وهي : صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، فيقعُ الكلام فيه تارة في المعاملات ، واُخرى في العبادات .

-------------------

هذا ، وقد ذكر جملة من المعلقين والمحشين على قوله : فتأمل ، مطالب نحن في غنى عن ذكرها ، لأنها لا تناسب الشرح ، واللّه سبحانه العالم .

( هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى ) الحكم التكليفي وهو : ( عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البرائة ) وكذا يكون حال العامل بما يطابق التخيير ، أو الاستصحاب التارك للفحص ، وكان التخيير أو الاستصحاب مخالفا للحكم الذي إذا فحص عنه وجده .

( وأما الكلام في الحكم الوضعي وهي : صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ) فهل عمل الجاهل صحيح أو فاسد؟ ( فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات ) بالمعنى الأعم وهي ما لا تحتاج إلى قصد القربة مما ذكر في الفقه من العقود ، والايقاعات ، والأحكام .

وقال بعض : ان المعاملة تطلق على كل ما جعله الشارع سببا أو شرطا أو مانعا أو قاطعا لشيء آخر ، بلا فرق بين أن يكون من العقود والايقاعات : كالنكاح والطلاق ، أو الجنايات : كالقتل والقذف ، أو التوصليات : كغسل الثوب للتطهير والذبح لحلية اللحم ، وغير ذلك .

( واُخرى في العبادات ) وهي التي يشترط فيها قصد القربة بحيث انه إذا

ص: 247

أمّا المعاملات :

فالمشهور فيها أنّ العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفتها ، سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، أم لا عنهما ، فاتفقت مطابقته للواقع ، لأنها من قبيل الأسباب لاُمور شرعية ، فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها .

فمن عقد على امرأة عقد

-------------------

لم يقصد القربة فيها لم تتحقق تلك العبادة .

( أمّا المعاملات ، فالمشهور فيها ) بين الفقهاء خلافا للنراقي كما يأتي كلامه ( انّ العبرة فيها ) أي : في المعاملات إنّما هي ( بمطابقة الواقع ومخالفتها ) فان طابقت الواقع صحت ، وان خالفت الواقع فسدت ( سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، أم لا عنهما ) بأن وقعت المعاملة بدون اجتهاد أو تقليد .

وعليه : فان وقعت المعاملة عن جهل بلا اجتهاد أو تقليد ، ومع ذلك ( فاتفقت مطابقته للواقع ) فانها صحيحة ، لأن عمله هذا طابق الواقع ومطابقة الواقع هو المعيار في الصحة والفساد على مذهب المخطئة ، والاجتهاد والتقليد عندهم طريقان إلى الواقع وليس أكثر .

وإنّما العبرة في صحة المعاملات مطابقتها للواقع ( لأنها ) أي : المعاملات ( من قبيل الأسباب لاُمور شرعية ) وكما ان الأسباب العرفية لا تنفك عن مسبباتها وجودا وعدما ، فكذلك الأسباب الشرعية لا تنفك عن مسبباتها وجودا وعدما بلا مدخلية للعلم أو الجهل فيها كما قال : ( فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها ، فمن عقد على امرأة عقد ) بالفارسية - مثلاً - اجتهادا

ص: 248

لا يعرف تأثيره في حلية الوطي فانكشف بعد ذلك صحته ، كفى في صحته من حين وقوعه ، وكذا لو انكشف فساده رتّب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع ، وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودَجيه ، فانكشف كونُه صحيحا

-------------------

وتقليدا ، ولا عن اجتهاد أو تقليد وهو ( لا يعرف تأثيره في حلية الوطي ) وكان في الواقع مؤثرا لحلية الوطي ، حلّ الوطي ، وان كان في الواقع غير موجب لحلية الوطي لم يحل الوطي .

نعم ، إذا فعل ذلك عن اجتهاد أو تقليد صحيح ، كان معذورا فيما فعله ، وكان الوطي ذلك وطي شبهة .

وعليه: فاذا عقد بالفارسية ( فانكشف بعد ذلك صحته ، كفى في صحته من حين وقوعه ) فيترتب عليه آثار الصحة من حين الوقوع لا من حين انكشاف الصحة .

( وكذا لو انكشف فساده رتّب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع ) لا من حين انكشاف الفساد .

هذا ، وترتب الفساد من حين الوقوع يثمر - مثلاً - : ان لا نفقة للمرأة ، فلو لم يكن الرجل ينفق عليها مدة زواجها ، وكانا يزعمان انه مديون لها ، انكشف بذلك عدم المديونية ، وانكشف أيضا ان زواج الرجل باُختها أو بالخامسة كان حلالاً وان زعم حين الزواج انه كان حراما ، وانكشف أيضا ان أخذ المرأة الارث من الرجل بعد موته لم يكن صحيحا فيلزم عليها ان ترده إلى سائر الورثة ، وكذا إذا ماتت المرأة وورثها الرجل ، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة عليه .

( وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودجيه ) وهما العرقان في جانبي الحلقوم ، فقد قال بعض بكفاية فريهما ، بينما المشهور قالوا : بلزوم فري الأوداج الأربعة ، فزعم حين ذبحه بفري ودجيه انه صار حراما ( فانكشف كونه صحيحا ) فانه يترتب

ص: 249

أو فاسدا ، ولو ترتب عليه أثرا قبل الانكشاف ، فحكمه في العقاب ما تقدّم من كونه مراعى بمخالفة الواقع كما إذا وطأها ، فانّ العقاب عليه مراعى .

-------------------

عليه أثر الصحة من حين الذبح ( أو فاسدا ) فانه يترتب عليه أثر الفساد من حين الذبح أيضا .

إذن : فالعبرة بمعاملة الجاهل - في نفسها لا بملاحظة الأثر المترتب عليها - من حيث الحكم الوضعي : الصحة والفساد هو : مطابقتها للواقع وعدم مطابقتها له ، فان طابقته صحت ، وإلاّ فلا .

هذا حكم المعاملة في نفسها ، اما حكمها بالنسبة إلى الأثر المترتب عليها ، فالكلام يقع فيه من جهتين : جهة حكمه التكليفي ، وجهة حكمه الوضعي . اما جهة حكمه التكليفي فهو ما أشار إليه بقوله :

( ولو ترتب عليه ) أي : على معاملة الجاهل ( أثرا قبل الانكشاف ) أي : قبل إنكشاف صحة المعاملة وفسادها ، وذلك بأن تصرف فيها - مثلاً - ( فحكمه ) التكليفي من حيث الحرمة وعدمها يعني : ( في العقاب ) وعدمه هو : ( ما تقدّم ) في المبحث السابق عند بيان الحكم التكليفي لعمل الجاهل : ( من كونه مراعى بمخالفة الواقع ) فان كان مخالفا للواقع كان حراما وعوقب عليه ، وإلاّ فلا .

أما مثال ذلك فهو : ( كما إذا وطأها ) أي : المرأة التي عقد عليها بالفارسية ، أو أكل من لحم الذبيحة التي ذبحت بفري ودجيها ، أو تطهر بالكرّ الذي قدر مائه سبعة وعشرون شبرا ، أو ما أشبه ذلك ( فانّ العقاب عليه مراعى ) بمخالفة الواقع ، فان كان مخالفا للواقع ومن دون حجة شرعية عوقب عليه ، وإلاّ بان كان له حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد ، أو كان مطابقا للواقع فلا يعاقب عليه .

ص: 250

وأمّا حكمه الوضعي كما لو باع لحم تلك الذبيحة ، فحكمه كما ذكرنا هنا من مراعاته حتى ينكشف الحال .

ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدلّة سببية تلك المعاملات ،

-------------------

( وأمّا حكمه الوضعي ) أي : حكم الأثر المترتب على معاملة الجاهل من حيث الصحة والفساد قبل إنكشاف صحة المعاملة وفسادها وذلك ( كما لو باع لحم تلك الذبيحة ) التي ذبحت بفري ودجيها ( فحكمه ) أي : حكم هذا الأثر وهو البيع من حيث الصحة والفساد هو : ( كما ذكرنا هنا : من مراعاته حتى ينكشف الحال ) أي : حال ذي الأثر وهي معاملة الجاهل نفسها .

وعليه : فان انكشف صحة الذبح انكشف صحة البيع ، وان انكشف فساد الذبح انكشف فساد البيع ، وكذا الحكم إذا تزوج بالعقد الفارسي ودخل بالمرأة على المهر المسمى ، ولكن هنا إنكشف الفساد ، قال المشهور : عليه ان يعطيها مهر المثل ، لكنا تنظّرنا في مهر المثل في الفقه لاحتمال وجوب مهر المسمى ، وذلك لأن المسمى ان كان أقل من المثل ، فهي دخلت على الأقل حيث أسقطت حقها عن الزائد فلا حق لها في الأكثر ، وان كان أكثر فهو دخل على الأكثر حيث سمى الزائد على المثل ، فلا حق له في إعطاء الأقل الذي هو المثل .

بقي شيء وهو : انه لو عقد بالفارسية - مثلاً - ثم شك في صحته وفساده اجتهادا أو تقليدا ، كان عليه في الظاهر : الاجتناب لأصالة فساد المعاملة حتى يتأكد من صحتها ، وكذلك إذا ذبح الحيوان بفري ودجيه ثم شك في صحة الذبح وفساده ، كان عليه الاجتناب عن تلك الذبيحة لأصالة عدم التذكية وهكذا .

هذا ( ولا إشكال فيما ذكرنا ) من دوران حكم معاملة الجاهل تكليفا ووضعا مدار الواقع ، وذلك ( بعد ملاحظة أدلّة سببية تلك المعاملات ) لمسبباتها ،

ص: 251

ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلاّ من بعض مشايخنا المعاصرين ، حيث أطال الكلام في تفصيل ذكره - بعد مقدمة هي :

أنّ العقود والايقاعات ، بل كلّ ما جعله الشارع سببا ، لها حقائق واقعية هي ما قرّره الشارع أولاً ، وحقايق ظاهرية هي ما يظنّه المجتهد أنّه ماوضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعية وقد تخالفها .

-------------------

وسيذكر المصنِّف ان هذه الأسباب الشرعية كالاُمور الواقعية غير المجعولة في عدم توقف تأثيرها على قيام طريق علمي أو ظني حجة عليها ، فكما ان النار تحرق سواء علم بها الانسان أم لا ، كذلك العقد الصحيح يؤثر أثره سواء علم الانسان بصحته أم لا .

( ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلاّ من بعض مشايخنا المعاصرين ) وهو النراقي قدس سره في كتابه المناهج ( حيث أطال الكلام في تفصيل ذكره ) هناك بين الجاهل المركب والجاهل البسيط ، وبين العقد والذبح ، وذلك ( بعد مقدمة هي ) كالتالي :

( انّ العقود والايقاعات بل كلّ ما جعله الشارع سببا ) كسببية الذبح لحل اللحم، وحيازة المباح للتملك - مثلاً - ( لها حقائق واقعية هي : ما قرّره الشارع أولاً ) وبالذات مثل : جعل الشارع حيازة المباح سببا للملك ، والاعراض عن الشيء سببا للخروج عن الملك ، وما أشبه ذلك ( وحقايق ظاهرية هي : ما يظنّه المجتهد ) ظنا حجة على ( انّه ما وضعه الشارع ) كما إذا ظن المجتهد بأن العقد الفارسي سبب للحلية ، وان عشر رضعات سبب لانتشار الحرمة .

إذن : فالأسباب الشرعية لها حقائق واقعية ، وحقائق ظاهرية ( وهي ) أي : الظاهرية ( قد تطابق الواقعية وقد تخالفها ) فنظر المجتهد قد يطابق الواقع وقد

ص: 252

ولمّا لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية إلى الواقعية ، فالسبب والشرط والمانع في حقّنا هي الحقايق الظاهرية .

ومن البديهيات التي انعقد عليها الاجماع بل الضرورة : أنّ ترتب الآثار على الحقايق الظاهرية يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، فان ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد دون غيره ، وكذا قطع الحلقوم للتذكية والعقد الفارسي للتمليك ، أو الزوجيّة .

-------------------

يخالفه ، فاذا طابق الواقع كان قد أدرك الواقع وان خالفه كان معذورا .

هذا ( ولمّا لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية ) أو الاُصول العملية ( إلى الواقعية ) التي هي ثابتة في اللوح المحفوظ ( فالسبب والشرط والمانع ) والقاطع ( في حقّنا هي الحقايق الظاهرية ) التي يؤدي اليها نظر المجتهد من الأدلة الاجتهادية ، أو الاُصول العملية .

( ومن البديهيات التي انعقد عليها الاجماع بل الضرورة : انّ ترتب الآثار على الحقايق الظاهرية يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ) المجتهدين ، وذلك حسب اختلافهم في الاجتهاد .

مثلاً : ( فان ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد ) من المجتهدين ( دون غيره ) لأن بعضهم يرى عدم إنفعال الماء القليل .

( وكذا قطع الحلقوم ) وحده في الذبح سبب ( للتذكية ) عند بعض ، بينما البعض الآخر يرى وجوب قطع الأدواج الأربعة .

( و ) كذا ( العقد الفارسي للتمليك ، أو الزوجيّة ) تمليكا في المعاملات وزوجية في النكاح ، يصح عند بعض المجتهدين دون بعض ، فان بعض المجتهدين يرى اشتراط العربية في ذلك .

ص: 253

وحاصل ما ذكره من التفصيل : أنّ غير المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ، لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع ، وإمّا أن يكون غير غافل ، بل يترك التقليد مسامحة .

فالأول : في حكم المجتهد أو المقلد ، لأنه يتعبّد باعتقاده

-------------------

هذا كله حال المجتهد ومقلده ، لأن المقلد أيضا مأمور باتباع نظر المجتهد، فيختلف المقلدون في الحلّية والحرمة ، والزوجية وعدمها ، والملكية وعدم الملكية باختلاف المجتهدين فيها .

( وحاصل ما ذكره من التفصيل : إنّ غير المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ) بالنسبة إلى ما يوقعه من المعاملات :

الأوّل : الغافل عن مخالفة الواقع .

الثاني : غير الغافل عن مخالفة الواقع ، لاحتمال أن يكون ما صدر منه اما موافقا، أو مخالفا للحكم القطعي .

الثالث : غير الغافل عن مخالفة الواقع ، لاحتمال ان يكون ما صدر منه اما موافقا، أو مخالفا للحكم الظني .

وإلى القسم الأوّل أشار بقوله : ( لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع ) بان كان غافلاً مطلقا ، أو جاهلاً مركبا .

وأشار إلى القسم الثاني بقوله : ( وإمّا أن يكون غير غافل بل يترك التقليد مسامحة ) لعدم مبالاته بالتقليد كما هو حال بعض الناس خصوصا أوائل بلوغهم .

( فالأول : في حكم المجتهد أو المقلد ، لأنه يتعبّد باعتقاده ) فهو امّا قاطع والقطع حجة من أي سبب حصل، أو غير ملتفت إطلاقا وغير الملتفت لا حكم له ،

ص: 254

كتعبد المجتهد باجتهاده والمقلد بتقليده ما دام غافلاً ، فاذا تنبّه فان وافق اعتقاده قول من يقلده فهو ، وإلاّ كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ، وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد .

وأمّا الثاني : وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع - فامّا أن يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ،

-------------------

فيكون تعبده باعتقاده ( كتعبد المجتهد باجتهاده والمقلد بتقليده ) في الحكم ، لكن ( ما دام غافلاً ) وقوله : « ما دام غافلاً » ، متعلق بقوله : « في حكم المجتهد أو المقلد » .

وعليه : ( فاذا تنبّه ) إلى انه لا ينبغي له ان يعمل بدون اجتهاد أو تقليد ، وان عمله السابق كان بدون اجتهاد أو تقليد ( فان وافق اعتقاده ) الذي عمل به ( قول من يقلده ) أو اجتهد هو فرأى عن صحة ما عمله سابقا ( فهو ) لأنه لا شيء عليه بعد ذلك ، فقد كان تكليفه ان يعمل بقول المجتهد فاتفق ان قول المجتهد أو ان اجتهاده كان موافقا لما عمله .

( وإلاّ ، كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ) لأنه يرى حينئذ غير ما يراه في السابق ، فلا يصح له ان يعمل حينئذ بما رآه سابقا ، بل عليه ان يعمل بما يراه الآن ( وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد ) عن اجتهاده السابق إلى اجتهاد لاحق جديد ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ان شاء اللّه تعالى .

( وأمّا الثاني : وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع ) فانّه يكون على قسمين : ( فامّا ان يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ) كما إذا علم قطعا حلية البيع الذي أوقعه بالفارسية سابقا ،

ص: 255

وإمّا أن لا يكون كذلك ، بان كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهادية .

فالأول : يترتب عليه الأثر مع الموافقة ، ولا يترتب عليه مع المخالفة ، إذ المفروضُ أنّه ثبت من الشارع قطعا أنّ المعاملة الفلانية سببٌ لكذا ، وليس معتقدا لخلافه ، حتى يتعبّد بخلافه

-------------------

لعدم اشتراط العربية في البيع ، أو علم قطعا حرمة المرأة التي عقد عليها بالفارسية سابقا ، لاشتراط العربية في النكاح .

( وإمّا ان لا يكون كذلك ، بان كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهادية ) كما إذا ظن بحلية التي ارتضعت معه عشر رضعات ، أو ظن بحرمة منظورة الأب .

( فالأول ) من قسمي المتفطن لمخالفة الواقع ، وكان ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي، فانه ( يترتب عليه الأثر مع الموافقة، ولايترتب عليه مع المخالفة ) أي : ان كان ما أوقعه من المعاملة موافقا للحكم الواقعي ترتب عليه الأثر ، وان كان مخالفا للحكم الواقعي لم يترتب عليه الأثر .

وإنّما قال : يترتب عليه الأثر مع الموافقة ( إذ المفروض : أنّه ثبت من الشارع قطعا أنّ المعاملة الفلانية سببٌ لكذا ) أي : ان معاملة البيع بالعقد الفارسي - مثلاً - سبب لانتقال المتاع إلى المشتري والثمن إلى البائع قطعا ، وحيث ان المعاملة توافقت مع الحكم الواقعي الثابت من الشارع قطعا ترتب عليها الأثر .

( و ) إنّما قال : لا يترتب عليه الأثر مع المخالفة ، إذ المفروض ان المتفطن للمخالفة الجاهل بالحكم الواقعي ( ليس معتقدا لخلافه ) أي لخلاف الحكم الواقعي ، لأن جهله كان بسيطا وليس مركبا ، فلا يكون قاطعا بالخلاف ( حتى يتعبّد بخلافه ) الذي اعتقد به ويكون معذورا عليه بسبب قطعه ، فانه حيث لم يكن كذلك بل كان جهله بسيطا لم يترتب عليه الأثر مع المخالفة .

ص: 256

ولا دليل على التقييد في مثله بعلم واعتقاد ، ولا يقدح كونه محتملاً للخلاف ، أو ظانا به ، لأنّه مأمور بالفحص والسؤال ، كما أنّ من اعتقد حلّية الخمر مع احتماله الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل ،

-------------------

إن قلت : انه يلزم من ذلك ان لا يترتب عليه الأثر حتى مع الموافقة للواقع ، وذلك لعدم العلم بالموافقة للواقع حين المعاملة .

قلت : ( ولا دليل على التقييد في مثله ) أي : لا دليل في مثل ما أوقعه من المعاملات إذا تطابقت مع الواقع أن تكون مقيدة ( بعلم واعتقاد ) ممّن أوقعها ، فان الشارع لم يقل : ان المعاملة صحيحة ان علمت صحتها حين إيقاعها ، أو ان اعتقدت صحتها حين إيقاعها ، بل يقول : ان المعاملة صحيحة ، والمفروض انه أوقع هذه المعاملة صحيحة ، فتؤثر أثرها بمجرد موافقتها للواقع وان لم يعلم صحتها حين إيقاعها .

( و ) إن قلت : انه يقدح في صحة معاملة المتفطن للمخالفة - وان طابقت الواقع - احتماله أو ظنه بالمخالفة قبل المعاملة ، فلا يترتب الأثر عليها ، لأنه لايجوز له الاقدام على المعاملة قبل الفحص والسؤال .

قلت : ( لا يقدح ) في صحة معاملة المتفطن وترتب الأثر عليها بعد ان طابقت الواقع ( كونه محتملاً للخلاف ، أو ظانا به ) حتى وان كان منشأ توهم القدح هنا هو : ( لأنّه مأمور بالفحص والسؤال ) .

وعليه : فكون الجاهل مأمورا بالفحص والسؤال لا يقدح في صحة معاملته بعد مطابقتها للواقع وان لم يسأل ( كما انّ من اعتقد ) أي : غلب على ظنه ( حلّية الخمر مع احتماله الخلاف ) أي : الحرمة ( يحرم عليه الخمر وان لم يسأل ) .

ص: 257

لأنه مأمور بالسؤال .

وأمّا الثاني : فالحق عدم ترتب الأثر في حقه ما دام باقيا على عدم التقليد ، بل وجود المعاملة كعدمها سواء طابقت أحد الأقوال أم لا ؟ .

إذ المفروض عدم القطع

-------------------

وإنّما يحرم عليه ذلك ( لأنه مأمور بالسؤال ) والفحص كما تقدّم : من ان الشبهات الحكمية لا يجوز إرتكابها إلاّ بعد الفحص .

إذن : فالمعيار في ترتب الأثر وعدمه هو : موافقة الواقع وعدمها ، فكلما ظهر كون الشيء موافقا للواقع ترتب الأثر عليه وان كان يحرم عليه إرتكابه قبل الفحص ، فان من المعلوم : ان الحرمة غير قادحة هنا ، لأن الكلام هنا في ترتب الأثر على المعاملة وعدم ترتبه ، لا في جواز الارتكاب قبل الفحص وعدمه ، فان عدم جواز الارتكاب قبل الفحص مسلّم .

( وأمّا الثاني : ) من قسمي المتفطن لمخالفة الواقع وكان ما صدر عنه من المعاملة موافقا أو مخالفا لما ثبت بالظنون الاجتهادية ، سواء الأدلة الاجتهادية أم الاُصول العملية فحكم معاملته كما قال : ( فالحق عدم ترتب الأثر ) على المعاملة ( في حقه ) أي : في حق هذا الجاهل البسيط المتفطن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع ، فانه ( ما دام باقيا على عدم التقليد ) لا يترتب الأثر في حقه حتى ولو إنكشف مطابقة معاملته لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده لكنه لم يقلده بعد .

( بل وجود المعاملة كعدمها ) في حق المتفطن غير المقلد من جهة عدم ترتب الأثر عليها ( سواء طابقت ) المعاملة ( أحد الأقوال ) للمجتهدين الذين يجوز رجوعه إليهم لتساويهم فرضا ( أم لا؟ ) بأن لم تطابق فتوى أحد المجتهدين .

وإنّما تكون المعاملة هنا كعدمها لأنه كما قال : ( إذ المفروض عدم القطع

ص: 258

بالوضع الواقعي من الشارع ، بل هو مظنون للمجتهد، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه .

ثم إن قلّد بعد صدور المعاملة المجتهد القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه ؛ وإن قلّد من يقول بترتّب الأثر ، فالتحقيق التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ،

-------------------

بالوضع الواقعي من الشارع ) في صورة مطابقته لفتوى أحد المجتهدين ( بل هو مظنون للمجتهد ، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه ) وحق مقلديه فقط .

إذن : هناك فرق بين مطابقة المعاملة للواقع ، وبين مطابقة المعاملة لفتوى المجتهد ، إذ الحكم الواقعي منطبق في الصورة الاُولى ، امّا الصورة الثانية : وهي فتوى المجتهد ، فإنّما تنفع المجتهد ومقلديه ، والمفروض : انه لم يدخل في مقلدي هذا المجتهد ، ولذا إذا سأل عنه يوم القيامة لماذا عملت بهذا العمل المخالف للواقع؟ لم يتمكن ان يعتذر : بأنه مجتهد ، لأنه ليس بمجتهد ولا : بأن مجتهد قال كذا ، لأنه ليس بمقلد ، فلا يصح ان يستند إلى المجتهد في عمله هذا المخالف للواقع .

( ثم ان قلّد بعد صدور المعاملة ) منه ( المجتهد القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه ) أي : في فساد معاملته من أول ما أوقعها .

( وان قلّد من يقول بترتّب الأثر ) وصحة المعاملة ( فالتحقيق التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ) فانه قد ذكر هناك في باب تبدل رأي المجتهد معاني ثلاثة لنقض الفتوى مما حاصله :

إنّ النقض ان كان بمعنى : الحكم بفساد الأعمال السابقة وتجديد الصوم والصلاة ، فهو خلاف الاجماع .

ص: 259

فيقال : أنّ ما لم يختص أثره بمعيّن أو بمعيّنين كالطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة وأمثالها ، يترتب عليه الأثر ، فاذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد ، أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم فقط - مثلاً - كذلك ، ثم قلّد من يقول بكفاية الأوّل :

-------------------

وإن كان بمعنى : العمل في المستقبل بالفتوى الثانية ، فهذا لا إشكال فيه .

وإن كان بمعنى : سلب آثار المعاملات الماضية بأن تصير الزوجة أجنبية ، والطاهر نجسا ، ففيه تفصيل كالتالي :

القول بعدم الجواز في الأثر الشخصي كزوجية زينب لزيد ، لأن إبطال العقد الواقع فارسيا - مثلاً - من الأوّل ينافي وقوعه صحيحا ، وإبطاله من الآن لا معنى له ، لعدم وجوده فعلاً حتى يكون موردا للفتوى الثانية ، و : بالجواز في الأثر النوعي كطهارة الثوب ، لأن الغسل مرة - مثلاً - قد أثر من الأوّل في طهارة الثوب في حق كل من يرى كفاية الغسل مرة ، ولم يؤثر من الأوّل في حق من لا يرى كفايته ، غاية الأمر انه إلى الآن كان داخلاً في العنوان الأوّل فكان طاهرا في حقه ، والآن داخل في العنوان الثاني فنجس في حقه ، وهذا ليس بنقض .

وعليه : فان هذا المعنى الثالث للنقص وهو التفصيل بين الأثر الشخصي فغير مترتّب ، وبين الأثر النوعي فمترتب جار في المقام أيضا ( فيقال : انّ ما لم يختص أثره بمعيّن أو بمعيّنين ) أي : بشخص معيّن أو بشخصين معيّنين ( كالطهارة والنجاسة والحلية والحرمة وأمثالها ، يترتب عليه الأثر ، فاذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد ، أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم فقط ) لا الأوداج الأربعة ، ( - مثلاً - كذلك ) أي : بدون تقليد أيضا ( ثم قلّد من يقول بكفاية الأوّل :

ص: 260

في الطهارة ، والثاني : في التذكية ، ترتّب الأثر على فعله السابق ، إذ المغسول يصير طاهرا بالنسبة إلى كل من يرى ذلك .

وكذا المذبوح حلالاً بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ولا يشترط كونه مقلدا حين الغسل والذبح .

وأمّا ما يختص أثره بمعيّن أو معيّنين : كالعقود ، والايقاعات ، وأسباب شغل الذمة وأمثالها ، فلا يترتب عليه الأثر ، إذ آثار هذه الاُمور

-------------------

في الطهارة والثاني : في التذكية ، ترتّب الأثر على فعله السابق ) فيكون الأوّل طاهرا ، والثاني مذكّى .

وإنّما يترتب الأثر على النوعي (إذ المغسول يصير ) من حين غسله وان لم يقلّد الغاسل أحدا بعد ( طاهرا بالنسبة إلى كل من يرى ) كفاية ( ذلك ) أي : كل مجتهد يرى كفاية التطهير بالغسل مرة ، فلا يختص أثره بشخص معيّن ( وكذا المذبوح ) يصير ( حلالاً بالنسبة إلى كلّ من يرى ) كفاية ( ذلك ) الذبح في التذكية من المجتهدين دون أن يختص بشخص معين .

وعليه : فالمغسول يطهر بذلك الغسل والمذبوح يذكى بذلك الذبح ( ولا يشترط ) في ترتب أثر الطهارة والتذكية عليهما ( كونه مقلدا حين الغسل والذبح ) وذلك لأن الطهارة للجميع والتذكية للجميع ، ولا يختص بشخص معيّن أو بشخصين معيّنين .

( وأمّا ما يختص أثره بمعيّن أو معيّنين : كالعقود ، والايقاعات ، وأسباب شغل الذمة ) كالنذر والعهد واليمين ( وأمثالها ) كحق السبق إلى المسجد ، أو الحسينية ، أو ما أشبه ذلك ( فلا يترتب عليه الأثر ، إذ آثار هذه الاُمور ) ليست عامة للجميع ،

ص: 261

لابد من أن يتعلّق بالمعيّن ، إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن رجل خاص على امرأة خاصة لحليّتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه .

وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا ، فلم يترتب في حقه الأثر كما تقدّم ، وأمّا بعده وإن دخل في مقلديه لكن لا يفيد ، ليترتب الأثر في حقه ، إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد - متصلاً بصدوره - للأثر ،

-------------------

بل ( لابد من ان يتعلق بالمعيّن ) الذي أوقع المعاملة فقط .

وإنّما يتعلق بالمتعاقدين فقط ( إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن رجل خاص على امرأة خاصة ) كعقد زيد على هند ( لحليّتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه ) فان هندا تكون حلالاً ليزيد فقط ، كما هو واضح .

( و ) إنّما لم يترتب عليه الأثر ، لأن ما يرجع إلى الظنون الاجتهادية لابد وان يكون غير المجتهد مقلدا فيها مع ان ( هذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا ، فلم يترتب في حقه الأثر ) لأن الأثر كان ثابتا في حق المقلد وهذا لم يكن مقلدا ( كما تقدّم ) الكلام عنه .

( وأمّا ) تقليده المجتهد فيها ( بعده ) أي : بعد صدور العقد ، فانه ( وان دخل في مقلديه ) لفرض انه قلد المجتهد القائل بجواز مثل هذا العقد ( لكن لا يفيد ، ليترتب الأثر في حقه ) .

وإنّما لا يفيد في حقه لأن المجتهد إنّما يفتي بصحة العقد الفارسي - مثلاً - إذا كان الأثر متصلاً بصدور العقد ، والمفروض : انه لم يكن الأثر متصلاً بصدور العقد، لأن العقد كان قبل شهر والأثر حين التقليد بعد شهر كما قال :

(إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد - متصلاً بصدوره - للأثر) وقوله : «للأثر» متعلق بالسببية فيكون معناه : ان العقد سبب للأثر إذا كان الأثر متصلاً بصدور العقد

ص: 262

ولم يصر هذا سببا كذلك .

وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها ، إذ ليس هو مظنون المجتهد ، ولا دليل على كون الدخول في التقليد كاجازة المالك ، والأصل في المعاملات الفساد ، مع أنّ عدم ترتب الأثر كان ثابتا قبل التقليد ، فيستصحب » ،

-------------------

( و ) الحال انه ( لم يصر هذا ) العقد ( سببا كذلك ) أي : متصلاً لصدوره ، لأن المفروض : ان العقد كان قبل شهر ، والأثر حين التقليد بعد شهر - مثلاً - .

ان قلت : ما المانع من أن يكون مظنون المجتهد سببية العقد للأثر ولو منفصلاً ، خصوصا وان الانفصال هنا ظاهري لا واقعي ، لأنه بسبب التقليد ينكشف ان الأثر كان مترتبا حين صدور المعاملة ؟ .

قلت : ( وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها ) حتى يقال : ان العقد قبل شهر - مثلاً - سبب للأثر بعد شهر ( إذ ليس هو مظنون المجتهد ) فان المجتهد يرى السببية المتصلة لا المنفصلة ، فتكون المعاملة باطلة .

هذا ( ولا دليل على كون الدخول في التقليد كاجازة المالك ) في كونها مصححة للعقد الفضولي السابق حتى يكون التقليد هنا مصححا للمعاملة السابقة.

( و ) على فرض الشك في صحة المعاملة وفسادها بعد التقليد ، نرجع إلى الأصل في المعاملات فنرى ان ( الأصل في المعاملات : الفساد ) ما لم يثبت دليل على صحتها ، فيلزم القول بفساد المعاملة .

هذا مضافا إلى استصحاب عدم الأثر كما قال : ( مع انّ عدم ترتب الأثر كان ثابتا ) في الظاهر ( قبل التقليد ، فيستصحب » (1) ) بعد التقليد أيضا للشك فيه ،

ص: 263


1- - مناهج الأحكام للنراقي : ص311 .

انتهى كلامه ملخصا .

والمهم في المقام : بيانُ ما ذكره في المقدمة ، من أنّ كل ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية ،

-------------------

فان غير المقلّد حيث لم يستند حين المعاملة إلى علم أو علمي ، كانت معاملته فاسدة ، فاذا شككنا في صحة تلك المعاملة وفسادها بعد التقليد استصحبنا فسادها ، فيحكم بالبطلان .

( انتهى كلامه ملخصا ، والمهم في المقام : بيان ما ذكره في المقدمة : من أنّ كل ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية ) فانه بعد بيان ما هو وارد على هذا الكلام يظهر بوضوح مواقع النظر في جملة كلامه .

لكن قبل ان نشرع في كلام المصنِّف نقول : أن مقتضى القاعدة هنا في المعاملات : ان من جاء بمعاملة من عقد ، أو إيقاع ، أو ما أشبه ذلك ، فاما ان يكون قاطعا ، أو مستندا إلى اجتهاد أو تقليد ، أو بلا استناد :

أما إذا كان قاطعا بصحة المعاملة فانه يرتب عليها الأثر سابقا ولاحقا ، وان كان قاطعا بفساد المعاملة ، فلا يرتب عليها الأثر لا سابقا ولا لاحقا ، وان كان قد رتب الأثر عليها سابقا ظهر بطلانها من حين صدورها ، كما إذا علم - مثلاً - ان زوجته اُخته من الرضاعة فالعقد السابق باطل من حين صدوره ، فاذا لم يواقعها - مثلاً - وعقد عليها شخص آخر حال كونها في الظاهر زوجته كان عقد الثاني صحيحا ، لأنها لم تكن زوجته وإنّما زعم إنها زوجته .

وأما ان كان مستندا في المعاملة إلى الظن الاجتهادي أو التقليدي ثم تبدل إلى خلافه ، صح السابق ورتب الأثر لاحقا على ما فعله سابقا ، إذ لا دليل على ان الاجتهاد اللاحق يبطل آثار الاجتهاد السابق بتبدله .

ص: 264

فنقول : بعد الاغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين : من أنّ التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية :

-------------------

هذا ، ولعل صاحب الفصول حيث قال : ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين أشار إلى هذا المعنى ، فاذا عقد على من ارتضعت معه عشر رضعات لصحته عن اجتهاد أو تقليد ، ثم تبدل اجتهاده إلى فساده ، فانها تبقى على الزوجية السابقة .

نعم ، لا يحق له ان يتزوج بعد تبدل الاجتهاد إلى الفساد بمن ارتضعت معه عشر رضعات ، وكذلك في سائر الاُمور : من الطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة ، والبيع والشراء ، والخمس والزكاة ، والحج والجهاد ، والصلاة والصيام ، وغيرها ، ويشهد لذلك سيرة المسلمين على انهم بتبدل الاجتهاد أو المجتهد لا يرتبون الأثر على ما سبق من أعمالهم ، التي بطلت بنظر المجتهد أو الاجتهاد اللاحق .

وأما إن كان غير مستند في المعاملة إلى اجتهاد أو تقليد ، وذلك بأن كان قد أوقعها بلا مبالات قصورا أو تقصيرا ، لزم عليه ان يرتب على السابق واللاحق أثر الاجتهاد الحالي ، فاذا قلد من يقول بفساد عقد من ارتضعت معه عشر رضعات لزم عليه ان يفارقها أو بصحته ثبت عليها ، وهكذا .

والآن نرجع إلى الكلام المصنِّف ( فنقول : ) لا نسلم ان الأحكام لها حقايق واقعية وحقايق ظاهرية ، فانه ( بعد الاغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين : من أنّ التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية ) وليست هي شيئا مستقلاً ، فالحكم عند المصنِّف قسم واحد لا قسمان .

لا يخفى : ان الفقهاء اختلفوا في انه هل هناك قسمان من الحكم : قسم يسمى

ص: 265

...

-------------------

بالأحكام التكليفية وهي : الواجبات ، والمحرمات ، والمستحبات ، والمكروهات، والمباحات ، وقسم يسمى بالأحكام الوضعية وهي : الجزئية والشرطية ، والمانعية والقاطعية ، والحرية والرقية ، والملكية والزوجية ، وغير ذلك .

وعليه : فتكون الأسباب الشرعية عند هؤلاء الفقهاء كالأسباب التكوينية أحكاما مستقلة، غير ان الأسباب التكوينية تؤثر في التكوينيات كالشمس للحرارة، والثلج للبرودة ، وهذه تؤثر في التشريعيات ، كالعقد للزوجية ، والايقاع لفسخ الزوجية ، كما في الطلاق - مثلاً - ؟ .

أو قسم واحد من الحكم وهي : الأحكام الخمسة التكليفية فقط ، فليس للشارع أحكام وضعية ، وإنّما الأحكام الوضعية تنتزع من الأحكام التكليفية ، فالحكم بحلية اللحم عقيب الذبح - مثلاً - ينتزع منه سببية الذبح للحلية ، والحكم بحلية النظر إلى المرأة ووطيها عقيب العقد ، ينتزع منه سببية العقد للحلية وهكذا؟.

ومن المعلوم : ان كلام النراقي إنّما يتم على القول الأوّل دون القول الثاني إذ على القول الثاني : لا وجود للأحكام الوضعية حتى ينقسم إلى الأحكام الواقعية والظاهرية .

لكن لا يخفى : ان للنراقي أن يقول : تقسيمنا للأحكام إلى الواقعية والظاهرية لاينافي عدم القول بالأحكام الوضعية ، وذلك لأنه يمكن أن يقال : ان صحة المعاملة وفسادها منتزع من جواز التصرف وعدم جوازه ، والحكم بالجواز وعدمه الذي هو حكم تكليفي قد يكون واقعيا ، وقد يكون ظاهريا ، فيكون هذا الاشكال من المصنِّف على النراقي محل تأمل .

ص: 266

إنّ الأحكام الوضعية على القول بتأصّلها هي الاُمور الواقعية المجعولة للشارع ، نظير الاُمور الخارجية غير المجعولة ، كحياة زيد وموت عمرو ، ولكنّ الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها ، قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ،

-------------------

وعليه : فانه بناءا على وجود قسمين من الحكم نقول : ( إنّ الأحكام الوضعية على القول بتأصّلها ) أي : جعل الشارع لها بالأصالة لا تبعا للأحكام التكليفية ( هي الاُمور الواقعية ) فلا يكون للعلم والظن ، والشك والوهم ، والتقليد والاجتهاد مدخلية فيها ، ولذلك فان وقع العمل موافقا لما جعله الشارع من الواقع ، ترتب عليه الأثر سواء وافقه الاجتهاد أم خالفه ، وان وقع العمل مخالفا لما جعله الشارع من الوقاع لم يترتب عليه الأثر ، سواء وافقه الاجتهاد أم خالفه؟ .

إذن : فالأحكام الوضعية ، هي الاُمور الواقعية ( المجعولة للشارع ، نظير الاُمور الخارجية غير المجعولة ، كحياة زيد وموت عمرو ) .

وإنّما تكون نظيرها لأنها لا تتغير عما هي عليه واقعا ، وافقها الاجتهاد أم خالفها ، فكما انه إذا اجتهد في التكوينيات لم يؤثر اجتهاده في تبديل حياة زيد إذا كان حيا واقعا إلى الموت ، كذلك إذا اجتهد في المجعولات الشرعية لم يؤثر اجتهاده في تبديل صحة المعاملة إذا كانت صحيحة واقعا إلى الفساد ، فالواقع باق على ما هو عليه وان خالفه الاجتهاد .

هذا ( ولكنّ الطريق إلى ) إثبات ( تلك المجعولات ) الشرعية من الأحكام الوضعية مثل : صحة المعاملة وفسادها ، تكون ( كغيرها ) من التكوينيات مثل : حياة زيد وموت عمرو ، على أقسام : فالطريق اليها ( قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الاستصحاب - مثلاً - .

ص: 267

وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ، ولا فرق بينها في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله .

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا للزوجية ،

-------------------

( وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ) فان العقد قد يقارن الاجتهاد ، وقد يتقدم على الاجتهاد ، وقد يتأخر عن الاجتهاد .

هذا ( ولا فرق بينها ) أي : بين تلك الطرق ( في ) هذه الجهة وهي : ( انّه بعد حصول الطريق ) بأي قسم كان ، وفي أي وقت حصل ، متقدما على العقد أو متأخرا عنه أو متقارنا معه ، مجتهدا كان الذي حصل له الطريق أو مقلدا ، أو غير مجتهد ولا مقلد ، لا فرق في انه ( يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله ) .

وعليه : فان السبب إذا حصل حصل المسبب ، سواء علم به الانسان أم لم يعلم به ، قارن حصول السبب علمه أم كان علمه متأخرا عنه .

وبذلك يظهر : ما في كلام النراقي القائل بالفرق بين إنكشاف مطابقة الواقع ، وإنكشاف مطابقة الفتوى ، إذ ليس هناك وراء الواقع شيء على ما عرفت ، وكذا يظهر ما في كلامه في الفرق بين تقدّم التقليد وتأخره لتصوره إنفصال الأثر في صورة تأخر التقليد .

( إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل ) غير المجتهد ولا المقلد (سببا للزوجية) في الواقع بأن جعله الشارع سببا من حيث كمال السبب وهو العقد ، وكمال محله وهو : الزوجة والزوج ببلوغهما وعقلهما وغير

ص: 268

فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد طريق عقلي أعني : العلم ، أو جعلي بالظن الاجتهادي ، أو التقليد يترتب في حقّه أحكام تلك الزوجية من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ، فانّ أحكام زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم مترتب على هذه الزوجية ، كأحكام المصاهرة، وتوريثها منه ، والانفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها حال حياته ،

-------------------

ذلك ( فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد طريق عقلي أعني : العلم ، أو ) طريق ( جعلي بالظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الظن على الانسداد - مثلاً - إذا قلنا بالحكومة ، فانه ( يترتب في حقّه أحكام تلك الزوجية ) سواء علم بذلك أم لم يعلم ( من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ) .

وإنّما يعم غير الزوجين أيضا لان لغير الزوجين أحكام بالنسبة إلى هذين الزوجين أيضا ، فانه لا يجوز لأحد أن يتزوج بهذه الزوجة ، كما لا يجوز للزوج ان يتزوج باُختها - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ أحكام زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما ) كما ذكره النراقي رحمه اللّه ( فقد يتعلّق بثالث حكم مترتب على هذه الزوجية ، كأحكام المصاهرة، وتوريثها منه ، والانفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها ) أي : على هذه الزوجة لثالث ( حال حياته ) أي : حياة هذا الزوج لأنها زوجته .

أمّا أحكام المصاهرة : فانه لا يجوز لهذا الزوج ان يتزوج باُم هذه الزوجة ولا باُختها ، ولا ببنتها ، ولا بخامسة ان كانت هي الرابعة ، ولا ببنت اُختها أو بنت أخيها بدون إذنها ، واما توريث هذه الزوجة من هذا الزوج ، فان شخصا ثالثا هو الولي أو الحاكم الشرعي يدفع اليها خفها من ارثه إذا مات ، واما الانفاق على هذه

ص: 269

ولافرق بين حصول هذا الطريق حال العقد ، أو قبله ، أو بعده .

ثم إنّه إذا اعتقد السببية وهو في الواقع غير سبب ، فلا يترتب عليه شيء في الواقع .

نعم ، لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا ، فاذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه .

-------------------

الزوجة فيما إذا غاب هذا الزوج عنها بسفر ، أو حبس ، أو سفه ، أو جنون ، فان على ثالث وهو الولي أو الحاكم الشرعي ان ينفق عليها من ماله ، وهكذا غيرها من الأحكام المتعلقة بغير الزوجين بالنسبة إلى هذين الزوجين .

( ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد ، أو قبله ، أو بعده ) في ترتب أثره في حقه ان كان موافقا للواقع ، وعدم ترتب أثره في حقه من حين صدره ان كان مخالفا للواقع ، بينما النراقي قد فرّق بين هذه الاُمور كما عرفت .

( ثم انّه ) أي : الجاهل الذي لا تقليد له ولا اجتهاد ( إذا اعتقد السببية وهو في الواقع غير سبب ، فلا يترتب عليه شيء في الواقع ) فما يظهر من النراقي في كلامه السابق من حجية الجهل المركب وان ظهور خلافه بمنزلة تبدل الرأي محل نظر .

( نعم ، لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا ) لأنه لا يمكن تحميل الواقع على من هو قاطع بخلاف الواقع كما سبق في بحث القطع ( فاذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه ) أي : مقتضى الواقع بالنسبة إلى السابق واللاحق .

مثلاً : إذا كان مقتضى الواقع فساد العقد بالفارسية والزوج لم ينفق على هذه الزوجة مدة مع زعمه بأنه مديون لها ، تبيّن عدم كونه مديونا لها ، وكذا إذا كان قد عقد على الخامسة ، أو الاُخت ، أو الاُم ، أو البنت ، غير مبال بقطعه ، تبيّن صحة العقد عليهن ، وهكذا .

ص: 270

وبالجملة : فحال الأسباب الشرعية حال الاُمور الخارجية ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضيّ مدة من موته، وبين قيام الطريق الشرعي في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لأثر بعد صدوره ، وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور ، فانّ مؤدّى الظن الاجتهادي الذي يكون حجة له وحكما ظاهريا في حقه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند.

والمفروض : أنّ دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا

-------------------

( وبالجملة : فحال الأسباب الشرعية حال الاُمور الخارجية ) التكوينية ( كحياة زيد وموت عمرو ) ومنتهى الفرق بينهما : ان الثاني تكويني والأوّل تشريعي .

( فكما انّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضيّ مدة من موته ، وبين قيام الطريق الشرعي ) كالبينة على موته ( في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ) أي: من حين الموت لا من حين الانكشاف ( فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لأثر بعد صدوره ، وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور ) في وجوب ترتيب الأثر على العقد من حين صدوره ، لا من حين الانكشاف .

وعليه : ( فانّ مؤدّى الظن الاجتهادي الذي يكون حجة له ) أي : لهذا الشخص الجاهل بعد ان اجتهد أو قلّد ( وحكما ظاهريا في حقه هو : كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند ) فلا إنفصال بين العقد وأثره ، واذا لم يكن انفصال بينهما كان ما ذكره النراقي من الانفصال بين الأثر والمؤثر لا وجه له .

هذا ( والمفروض : انّ دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا

ص: 271

إلى الواقع ، فأي فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا ، وبين الظن به بعد صدوره ؟ .

وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها .

ومحصّل ما ذكرنا : أنّ الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه الواقعي التكليفي

-------------------

إلى الواقع ) لا انه سبب ، فان هذا الظن - حسب الفرض - حجة من باب الطريقية فيكشف عن ترتب الأثر على العقد من حين صدوره ، لا من باب السببية حتى يكون ناقلاً للأثر من حين تعلق الظن به ، والظن قد حصل الآن ، بينما العقد قد حصل قبل شهر ، فوقع الانفصال بين العقد وأثره .

والحاصل : انا ذكرنا في أول مبحث الظن : ان الظن طريق وليس بسبب ، وحينئذ ( فأي فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا ، وبين الظن به بعد صدوره ؟ ) فكلاهما يؤدي إلى ان العقد لمّا تحقق وكان موافقا للواقع ترتب عليه أثره متصلاً به لا منفصلاً عنه .

( وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت : مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها ) أي : لا حاجة لعدّ مواقع النظر فيها : من جعله الأحكام تكليفية ووضعية ، وذلك بالفرق بين مطابقة الواقع ومطابقة الفتوى ، وبين تقدّم التقليد وتأخره ، وكذا بين الجهل البسيط والجهل المركب .

( ومحصّل ما ذكرنا : انّ الفعل الصادر من الجاهل ) الذي لم يكن مجتهدا ولا مقلدا ( باق على حكمه الواقعي التكليفي ) من إستحقاق العقاب وعدمه ، فاذا باشر المرأة وكان حراما عليه واقعا مباشرتها - لعدم تأثير النكاح بالعقد الفارسي

ص: 272

والوضعي ، فاذا لحقه العلم ، أو الظن الاجتهادي أو التقليد كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا أو جعليا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما إنكشف ، بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد :

-------------------

في حلية المرأة - إستحق العقاب ، وإلاّ فلا .

( و ) باق أيضا على حكمه الواقعي ( الوضعي ) من الصحة وعدمها ، فاذا أوقع معاملة في الخارج وكانت صحيحة واقعا ترتب عليها الأثر ، وإلاّ فلا ، فالفعل الصادر من الجاهل لا يتغير ، بل يبقى على ما هو عليه واقعا من حيث الحرمة والحلية ، والصحة والفساد .

هذا بالنسبة إلى ما صدر من الجاهل غير المجتهد ولا المقلد من حيث الحكم الواقعي تكليفا ووضعا ، واما بالنسبة إلى ما يلحقه من الانكشاف ، فحكمه كما قال : ( فاذا لحقه العلم ، أو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الظن الانسدادي ( كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا ) فيما إذا كان علما ( أو جعليا ) فيما إذا كان دليلاً شرعيا معتبرا ، سواء في الأحكام أم في الموضوعات ، فانه يكشف على كل تقدير ( عن حاله حين الصدور ) .

وإنّما يكشف عن حاله من حين صدوره لا من حين الانكشاف ، لأن ذلك هو مقتضى الطريقية لما عرفت : من ان أدلة الطرق المجعولة إنّما هي كالعلم حجّة من باب الطريقية ، لا من باب السببية ( فيعمل بمقتضى ما إنكشف ) له من الخلاف أو الوفاق من حين صدوره .

هذا هو بالنسبة إلى الجاهل الذي لم يجتهد ولم يقلد ، واما بالنسبة إلى المجتهد أو المقلد فيما صدر عنهما ، فكما قال : ( بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد :

ص: 273

أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا باق على حكمه الواقعي ، فاذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف

-------------------

انّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا ) لا يغير الواقع ، بل هو ( باق على حكمه الواقعي ) فاذا اجتهد ، أو قلد مجتهدا يرى حرمة من ارتضعت معه عشر رضعات وكانت في الواقع حلالاً عليه بقيت على حليتها ، أو يرى انها تحلّ له وكانت في الواقع حراما عليه بقيت على حرمتها ، وإلى غير ذلك .

نعم ، هنا إشكال وهو : انه لو فرض عدم إنكشاف الواقع إطلاقا ، فما هي فائدة الواقع حتى يحكم به الشارع ؟ .

والجواب عنه : بأنه ينكشف في زمان الحجة عجل اللّه تعالى فرجه .

هذا الجواب يرد عليه : بأن الحكم إذن ينفع في زمانه ، فلماذا جعل في زماننا ؟ .

اللّهم إلاّ أن يقال : انه لا يوجد هناك حكم بحيث لا ينكشف إلاّ في زمان الحجة إطلاقا ، وحينئذ يرد عليه : انه إذا خفي الحكم في زمان المفيد - مثلاً - وإنكشف في زمان المحقق ، فأية فائدة لتشريع هذا الحكم في زمان المفيد وجعله حكما واقعيا له ؟ .

وكيف كان : فان الفعل الصادر من المجتهد أو المقلد يكون باقيا على ما له من الحكم واقعا ( فاذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان ) الاجتهاد اللاحق ( كاشفا عن حاله ) أي : حال الفعل ( حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف ) له من حين الصدور ، فانه كما على الجاهل ان يعمل بمقتضى ما انكشف له من حين الصدور كذلك على المجتهد والمقلد العمل بمقتضى ما انكشف له من حين الصدور .

ص: 274

خلافا لجماعة ، حيث تخيّلوا : أنّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد إذا كان مبنيا على الدوام واستمرار الآثار ، كالزوجيّة ، والملكية ، لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق ، وتمام الكلام في محلّه .

وربما يتوهّم : الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ في ترتب الأثر على ما يوقعه فلا يتأتى منه قصد الانشاء في العقود والايقاعات .

وفيه : أنّ قصد الانشاء إنّما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة ،

-------------------

مثلاً : إذا كان الواقع حلية الذبيحة التي ذبحت بفري ودجيها فقط ، وكان الاجتهاد الأوّل على الحرمة ، ثم تبدل اجتهاده إلى الحلية ، كشف الاجتهاد الثاني عن الحلية من حين الذبح لا من حين الاجتهاد الثاني .

( خلافا لجماعة حيث تخيّلوا : انّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد إذا كان مبنيا على الدوام واستمرار الآثار ، كالزوجيّة ، والملكية ) والوقفية ، والاباحة ، والحرمة ، وما أشبه ذلك ، قالوا : بأنه ( لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق ) .

لكنّك قد عرفت : ان قول هؤلاء الجماعة هو مقتضى القاعدة ، وهو الذي جرت عليه سيرة المتشرعة بالنسبة إلى القضايا السابقة ، اما بالنسبة إلى القضايا اللاحقة فيلزم عليه العمل وفق الاجتهاد الثاني ( وتمام الكلام في محلّه ) من بحث الاجتهاد والتقليد .

هذا ( وربما يتوهّم : الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ ) الذي يعترضه من غير فرق بين العقد والايقاع ، فان الجاهل يشك ( في ترتب الأثر على ما يوقعه ) من عقد أو إيقاع ( فلا يتأتى منه قصد الانشاء في العقود والايقاعات ) وحيث لا يتأتى منه قصد الانشاء يكون عقده وإيقاعه باطلاً .

( وفيه : انّ قصد الانشاء إنّما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة ) يعني :

ص: 275

وهو : الانتقال في البيع ، والزوجية في النكاح ، وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا ، فضلاً عن الشك فيه ، ألا ترى أنّ الناس يقصدون التمليك في القمار ، وبيع المغصوب ، وغيرهما من البيوع الفاسدة .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في صحة معاملة الجاهل مع إنكشافها بعد العقد ، بين شكّه في الصحة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ، فافهم ،

-------------------

إنّ الجاهل يعتبره هكذا ، فانه بمجرد تحقق مضمون العقد يحصل المراد من قصد الانشاء ( وهو : الانتقال في البيع ، والزوجية في النكاح ) والحرية في العتق ، والتملك في حيازة المباح ، وما أشبه ذلك ( وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا فضلاً عن الشك فيه ) أو الظن بعدمه .

( ألا ترى ) كشاهد لما ذكرناه : من حصول القصد حتى مع القطع بالفساد ( انّ الناس يقصدون التمليك في القمار ، وبيع المغصوب ، وغيرهما من البيوع الفاسدة ) فلا يصح أن يقال : انهم لا يقصدون التمليك وما أشبه بمعنى : انه لايتمشى منهم قصد الانشاء ، بل يتمشى منهم ذلك إلاّ ان إنشائهم في غير موقعه ، فيكون كانسان ليس له الاعتبار فيعتبر ورقا خاصا دينارا - مثلاً - فانه إنشاء لكنه لاينطبق على الخارج ، لا انه لم يكن إنشاءً .

( وممّا ذكرنا ) فيما سبق : من انّ الفعل الصادر من الجاهل يكون باقيا على حكمه الواقعي بلا تغيير ( يظهر : انّه لا فرق في صحة معاملة الجاهل ) الذي ليس بمجتهد ولا بمقلد ( مع إنكشافها ) أي : إنكشاف صحة المعاملة ( بعد العقد ، بين شكّه في الصحة حين صدورها ، وبين قطعه بفسادها ) أو ظنه بأحدهما .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ما ذكرناه : من عدم وجود فائدة للحكم الواقعي الذي لم ينكشف أصلاً ، فان الحكيم لا يحكم بشيء ليس له تأثير في الخارج ، أو إشارة

ص: 276

هذا كله حال المعاملات .

وأمّا العبادات :

فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهلُ عبادة عمل فيها يقتضيه البرائة ؛ كأن صلى بدون السورة ، فان كان حين العمل متزلزلاً في صحة عمله ، بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن إنكشف الصحة بعد ذلك ، بلا خلاف في ذلك ظاهرا ،

-------------------

إلى ما ذكرناه : من ان السيرة جرت على عدم تغيير السابق بسبب تغيير الاجتهاد والتقليد وان كان آثار السابق باقيا ، أو هو إشارة إلى غير ذلك مما ذكره بعض الشراح والمحشين .

( هذا كله حال المعاملات ) بالمعنى الأعم الشامل للايقاعات والأحكام أيضا .

( وأمّا العبادات : فملخص الكلام فيها : انه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها يقتضيه البرائة ) أو الاستصحاب ، أو التخيير ، من دون فحص ( كأن صلى بدون السورة ، فان كان حين العمل متزلزلاً في صحة عمله ، بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ) لا على الفحص بعد العمل ( فلا إشكال في الفساد وان إنكشف الصحة ) بأن إنكشف ( بعد ذلك ) اجتهادا وتقليدا : ان ما أتى به سابقا في حال جهله كان جامعا لجميع أجزاء المأمور به وشرائطه ، وفاقدا لكل الموانع والقواطع .

وعليه ، فانكشاف الجامعية في عبادة الجاهل بعد إتيانه بها ، لا يكشف عن صحتها ( بلا خلاف في ذلك ظاهرا ) .

وإنّما يكون باطلاً وان كان جامعا للأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع والقواطع

ص: 277

لعدم تحقق نيّة القربة ، لأنّ الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به ؟ وما ترى من الحكم بالصحّة فيما شك في صدور الأمر به على تقدير صدوره ، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ، وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا

-------------------

( لعدم تحقق نيّة القربة ) من الشاك ( لأنّ الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به ، كيف يتقرب به؟ ) فان الانسان إذا لم يعلم بأن هذا العمل يقرّ به إلى مولاه ، لايتمكن أن يقول في نفسه : اني أعمل هذا العمل متقربا به إلى المولى واقعا .

لا يقال : ان كان المشكوك لا يمكن التقرب به ، فكيف يتقرب في الاحتياطات الواجبة ، كما لو كان الشك في المكلّف به ، مثل : دوران أمر الصلاة بين الظهر والجمعة ، أو دوران أمر القبلة بين أربع جهات؟ أم كيف يتقرب في الاحتياطات المستحبة ، كما لو كان الشك في غير المكلّف به ، مثل : بعض الأغسال والصلوات المندوبة ، أو إعادة العبادات السابقة إستحبابا ، مع وضوح رجحان الاحتياط في كل ذلك ، وتسليمه عند الجميع ؟ .

لأنّه يقال : بأن هناك فرقا بينهما كما قال : ( وما ترى من الحكم بالصحّة فيما شك في صدور الأمر به ) من العبادات حيث يحكم الفقهاء بصحته ( على تقدير صدوره ) أي : صدور الأمر به في الواقع ( كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ) فان الفقهاء يحكمون بصحة الاحتياط فيه إستحبابا مع كونه مشكوكا ، وذلك للتسامح في أدلة السنن .

( و ) كذا ما ترى من الحكم بصحة ( إعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا ) على ما يفعله بعض المقدسين حيث يعيدون عباداتهم لاحتمال خلل في تلك العبادات التي أتوا بها سابقا ، كما نقل من إعادة العلامة وبعض الفقهاء الآخرين

ص: 278

من باب الاحتياط ، فلا يشبه ما نحن فيه ، لأن الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد إمتثاله إلاّ بهذا النحو ، فهو أقصى ما يكون هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فان امتثاله لا يكون إلاّ باتيان ما يعلم مطابقته له ، وإتيان ما يحتمله لاحتمال مطابقته له لا يعدّ إطاعة عرفا .

-------------------

عباداتهم مرة أو مرّات ( من باب الاحتياط ) إستحبابا لادراك الواقع .

وكذا ما ترى من الحكم بصحة عملين أو أكثر مما يعلم بوجود الواقع بينهما كالصلاة عند اشتباه القبلة ، فانه يصح التقرب بالمشكوك في كل ذلك بدون المشكوك فيما نحن فيه ، للفرق بينهما ( فلا يشبه ) ذلك ( ما نحن فيه ) من إتيان الجاهل بالعبادة شاكا في صحتها وسقمها .

وإنّما لا يشبه ذلك ما نحن فيه ( لأن الأمر على تقدير وجوده هناك ) أي : في الموارد المذكورة : كالشك في المكلّف به ، والصلوات المستحبات ، وما أشبه ذلك ( لا يمكن قصد إمتثاله إلاّ بهذا النحو ) من الامتثال ، لعدم القطع بوجود أمر من الشارع هناك ( فهو ) أي : هذا الاحتياط ( أقصى ما يكون هناك من الامتثال ) لأنه لا إمتثال وراء ذلك ، ولهذا يصدق عليه الطاعة عرفا .

( بخلاف ما نحن فيه ) من عبادة الجاهل ( حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فان امتثاله لا يكون إلاّ باتيان ما يعلم ) أو يظن ظنا معتبرا ( مطابقته له ) أي : لذلك الأمر الموجود من الشارع ، فيلزم العلم بالمطابقة حتى يتمكن من الجزم بقصد القربة ، والعلم بالمطابقة لا يحصل إلاّ عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، ولذلك فان ترك الاجتهاد والتقليد ( وإتيان ما يحتمله ) مأمورا به من الشارع ( لاحتمال مطابقته ) أي : مطابقة ما يأتي به ( له ) أي : لأمر الشارع ( لا يعدّ إطاعة عرفا ) .

ص: 279

وبالجملة : فقصدُ التقرب شرطٌ في صحة العبادة إجماعا ، نصّا وفتوىً ، وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقرّبا .

وأمّا قصد التقرب في الموارد المذكورة من الاحتياط فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ،

-------------------

لكن يمكن أن يقال : إنّ إمكان الجزم بقصد القربة وعدم إمكان الجزم به ، ليس فارقا بعد إمكان الاتيان بالعبادة المحتملة بقصد الرجاء ، ولا دليل على أكثر منها ، مؤيدا ذلك بأن الجاهل إذا ظهر له مطابقة عمله لفتوى المجتهد ، أو اجتهد فظهر له مطابقة عمله لاجتهاده فرح على إتيانه بالعمل المطلوب للمولى ، مما يدل على ان الفطرة تشير إلى كفاية مثل ذلك .

نعم ، إذا لم يتطابق عمله للواقع ، ولم يكن مستندا إلى اجتهاد أو تقليد حال العمل ، حق للمولى عقابه على مخالفته للواقع وعدم استناده إلى اجتهاد أو تقليد ، ومعلوم : ان هذا بحث آخر .

( وبالجملة : فقصد التقرب ) على نحو الجزم ( شرط في صحة العبادة إجماعا نصّا وفتوىً ) على ما يراه المصنِّف ( وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقرّبا ) فلابد من إزالة الشك ، ولا يزول الشك فيما نحن فيه إلاّ بالاجتهاد أو التقليد ، فاذا لم يكن أحدهما حين العمل وقع باطلاً ، وهذا أصل يجب أن يبني عليه .

( وأمّا قصد التقرب في الموارد المذكورة من الاحتياط ) الواجب أو المستحب ( فهو غير ممكن على وجه الجزم ) لأنه لا يعلم بالحكم جزما ، فكيف يقصد القربة جزما ؟ .

وهذا ( والجزم فيه ) أي : في مورد لم يمكن الجزم فيه ( غير معتبر إجماعا ،

ص: 280

إذ لولاه لم يتحقق إحتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا .

وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البرائة مع الشك حين العمل لا يصح عبادته وإن إنكشف مطابقته للواقع .

أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه من أبويه وأمثالهما ، فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما يقتضيه البرائة ،

-------------------

إذ لولاه ) أي : لولا عدم اعتبار الجزم في هذه الموارد المشكوكة ( لم يتحقق إحتياط في كثير من الموارد ) سواء موارد العلم الاجمالي ، أم موارد احتمال كونه طاعة ( مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا ) حيث يعلم من هذا الاجماع : ان هذه الموارد قد خرجت عن مقتضى الأصل الأولي الذي قلنا فيه قبل قليل يجب ان يبنى عليه .

( وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البرائة مع الشك حين العمل ، لا يصح عبادته وان إنكشف مطابقته للواقع ) لما عرفت : من انه لا يتمكن من الجزم بقصد القربة .

( أمّا لو غفل عن ذلك ) أي : عن احتمال عدم صحة ما يأتي به واتفق مطابقته للواقع ( أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه ) في اُمور عباداته ومعاملاته وسائر شئونه ( من أبويه وأمثالهما ) بأن رأى شيوع عمل في المجتمع واعتقد عباديته وكان مطابقا للواقع ( فعمل باعتقاد التقرّب فهو ) في هذين الصورتين ( خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص ) العامل ( بما يقتضيه البرائة ) أو بما يقتضيه التخيير أو الاستصحاب .

وإنّما خصّص محل الكلام من البرائة هنا بالجاهل الشاك : لأنه كما قال :

ص: 281

إذ مجرى البرائة في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف .

وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا إنكشف مطابقته للواقع ، إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله والعلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل ، فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

-------------------

( إذ مجرى البرائة ) يختص ( في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف ) لأن الغافل ليس شاكا ، وكذا معتقدا الخلاف ، لا يكون شاكا أيضا .

( وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا إنكشف مطابقته للواقع ) في هاتين الصورتين : من الغفلة ، واعتقاد الخلاف ( إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله ) أي : قصد التقرب ، وكذا حصول المطابقة للواقع ، فانّ هذا العامل قد أتى بعبادة متطابقة مع الواقع وقد قصد التقرّب بها .

( و ) امّا ( العلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي ) زيادة على مطابقة العمل للواقع ، فهو ( غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل ) عليه ، فانه لا يلزم أن يكون المكلّف حين العمل إذا كان عمله مطابقا للواقع أو لفتوى الفقيه : ان يعلم بالمطابقة .

إن قلت : الأدلة تقول : بأنه يلزم ان يكون العمل مستندا إلى الاجتهاد أو التقليد ، وهذا الغافل المعتمد على أبويه - مثلاً - لم يكن عمله مستندا ، لا إلى الاجتهاد ولا إلى التقليد ، فكيف تقولون بصحته ؟ .

قلت : الرجوع إلى المجتهد أو الاجتهاد إنّما هو طريق ، لا ان له مدخلية في الموضوع ( فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

ص: 282

إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفةُ الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ، كما لا يخفى على من لاحظها ، ثم إنّ مرآة مطابقة العلم الصادر للواقع العلمُ بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد .

-------------------

إلى المجتهد ) ليس من باب انه بدونهما لا يكون الواقع واقعا ، بل ( إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ) فانه لو وافق إحدى الطرق الشرعية وكان عمله مخالفا للواقع لا يعاقب يوم القيامة على مخالفته تلك ، لأنه ليس مكلفا بأكثر من ذلك .

وعليه : فان الأدلة لبيان الطرق الشرعية ( لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ) فان الشارع لم يجعل الواقع مقيّدا بهذه الطرق حتى إذا لم يسلك الانسان هذه الطرق لا يكون آتيا بالواقع ( كما لا يخفى على من لاحظها ) فان الذي يلاحظ تلك الأدلة يرى انها تدل على ان الاجتهاد والتقليد من الطرق إلى الواقع ، لا ان الواقع مقيّد بهذه الطرق .

( ثم انّ مرآة مطابقة العلم الصادر ) عن الغافل أو المعتمد على أبويه - مثلاً - ( للواقع ) تلك المرآة هي ( العلم بها ) أي : بالمطابقة للواقع ( أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد ) إجتهادا ( أو المقلّد ) تقليدا ، بلا فرق بين الانكشاف القطعي الذي هو العلم ، أو الانكشاف الظني الحجة الذي هو عبارة عن الاجتهاد أو التقليد.

إن قلت : ان ظن المجتهد إنّما يصحح الواقعة المستندة اليه حين صدورها ، فلا يصحح الواقعة التي صدرت سابقا بلا استناد إليه ، كعمل الغافل ، أو المعتمد على أبويه - مثلاً - .

ص: 283

وتوهّم : « أنّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة » غلطٌ ، لأن مؤدى ظنه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية .

-------------------

قلت : ( وتوهّم : انّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة غلط ) فان ظن المجتهد يؤثر في تصحيح العمل بلا فرق بين الأعمال السابقة واللاحقة ( لأن مؤدى ظنه ) أي : ظن المجتهد ( نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية ) فلا موضوعية لظن المجتهد حتى يتقيد صحة العمل بالاستناد اليه حين الصدور .

أقول : ان كلام المصنِّف هذا القائل : بأن ظن المجتهد يؤثر في الواقعة السابقة كما يؤثر في الواقعة اللاحقة ، إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الوضعي : من صحة الأعمال السابقة وعدم صحتها الذي هو محل الكلام ، لا بالنسبة إلى الحكم التكليفي : من إستحقاق العقاب على مخالفة أعماله السابقة للواقع وعدم إستحقاقه عليها - مما سيأتي الكلام عنه ان شاء اللّه تعالى مفصلاً - .

وعليه : فانه ان قلّد من يقول بصحة أعماله السابقة كان معذورا في عدم قضائها، لكنه لم يكن معذورا في المؤاخذة عليها ان كانت أعماله السابقة مخالفة للواقع ، فاذا قيل له يوم القيامة : لماذا لم تقض أعمالك السابقة؟ كان له أن يقول : ان المجتهد أفتى بعدم القضاء عليّ ، اما إذا قيل له : لماذا خالفت الواقع بأعمالك السابقة ؟ لم يكن له أن يقول : استندت إلى فتوى المجتهد ، لأنها حين الصدور لم تكن مستندة إلى فتواه فيستحق العقاب عليها .

والحاصل : ان كلام المصنِّف هنا في صحة عمل الجاهل غير المقلّد

ص: 284

وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ، فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم ، في أنّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات .

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، باُمور

-------------------

ولا المجتهد وعدم صحته بعد التقليد ، لا في إستحقاق العقاب ان خالف الواقع ، وعدم إستحقاقه بعد التقليد .

هذا ( وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ) إلى المجتهد ( فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة ) - مثلاً - يكون ( كالعلم ، في انّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ) وهكذا بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع ( كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات ) السابقة على التقليد ، فانه إذا كان فتوى المجتهد على صحتها رتب عليها الأثر في المستقبل أيضا ولا حاجة إلى اعادتها .

نعم ، ان ما قلناه هناك من إستحقاق العقاب على مخالفة الواقع يأتي هنا أيضا ، لأنه لا فرق في ملاك ما ذكرناه بين العبادات والمعاملات ، غير انه قد استثنينا من العقاب بعض الصور في كتاب التقليد مما لا داعيإلى ذكره هنا أيضا .

( ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، باُمور ) هي كالتالي :

ص: 285

الأوّل :

إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ، هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة ، فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض جود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحليّة ،

-------------------

الأمر ( الأوّل : ) في بيان الحكم التكليفي للجاهل العامل بالبرائة ، فان المصنِّف بعد أن ذكر الحكم الوضعي بالنسبة إلى الأعمال الصادرة من الجاهل العامل بالبرائة أو التخيير ، أو الاستصحاب ، بدأ في بيان الحكم التكليفي له : من المؤاخذة وعدمها ، وهل انه يستحق المؤاخذة بمخالفة الواقع وان وافق الطريق الشرعي ، أو بمخالفة الطريق الشرعي وان وافق الواقع ، أو يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق ، أو يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما : من الطريق أو الواقع؟ احتمالات أشار المصنِّف اليها بقوله :

( إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم ) أي : عدم المؤاخذة ، إنّما هي ( بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ) لأن الواقع هو المحور أخذا وعطاءً ولا كلام فيه .

بل الكلام في ان هذا الواقع ( هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة ) أي : بغض النظر عن الطريق الشرعي ، فان المخطئة وهم الشيعة والمعتزلة يرون ان لكل واقعة حكما عند اللّه سبحانه وتعالى سواء وصل اليه المجتهد أم لا وان العبرة به ؟ .

وعليه : ( فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص ) يدل ذلك الخبر ( على الحلية )

ص: 286

فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب ، أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الأصل ، أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين

-------------------

ففي هذه الصور فيكون معاقبا كما قال : ( فيعاقب ) هذا الجاهل الشارب لهذا العصير على شربه ، لأنّ العبرة في الحرمة بالواقع ، وقد فرض انه خالف الواقع واما موافقة الطريق فليس بمهم .

( ولو عكس الأمر ) بأن كان العصير حلالاً في الواقع واقتضى الخبر حرمة العصير ( لم يعاقب ) الجاهل على شربه ، لأنه قد وافق الواقع في عمله واما مخالفة الطريق فليس بمهم .

( أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص ) أي : لا بالواقع الأولي ، فانه ان كان العبرة بالطريق الشرعي مع غض النظر عن الواقع الأولي ، ففي هذه الصورة يكون حكمه كما قال : ( فيعاقب في صورة العكس ) أي : في صورة كون العصير حلالاً في الواقع وحراما بحسب الطريق ، لأن الجاهل بشربه هذا قد خالف الطريق واما موافقة الواقع فلا عبرة به .

( دون الأصل ) فانه لا يعاقب على شربه في صورة كون العصير حراما في الواقع وحلالاً بحسب الطريق ، لأنه كان حسب هذا الاحتمال مكلفا باتباع الطريق، والطريق دلّ على الحلية فلا عبرة بمخالفة الواقع .

( أو يكفي ) في عقاب الجاهل ( مخالفة أحدهما ) من الواقع أو الطريق ( فيعاقب في الصورتين ) أي : في صورة كون العصير حراما في الواقع وان كان حلالاً في الظاهر ، وفي صورة كون العصير حراما في الظاهر وان كان حلالاً في الواقع ، نعم ، لو فرض موافقة الظاهر مع الواقع في الحلية فحينئذ لا يعاقب على شربه .

ص: 287

أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقةُ أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين ، وجوهٌ :

من أنّ التكليف الأولي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلاّ على من عثر عليها .

-------------------

( أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين؟ ) فاذا كان العصير العنبي في الواقع حلالاً ، أو بحسب الطريق حلالاً ، لا يعاقب على شربه ، وإنّما يعاقب على شربه في فرض مخالفته للظاهر والواقع معا ، بأن كان العصير في الواقع والظاهر حراما ، وعلى هذا ففي المسألة ( وجوه ) أربعة .

لكنا نرى وجها خامسا في المسألة وهو : انه يعاقب على مخالفة الواقع الذي لو فحص وصل إليه ، لا ما إذا فحص لم يصل اليه ، لأنه لا معنى للعقاب على حكم لم يصل إليه المكلّف ، فيشترط حينئذ في العقاب أمران :

الأوّل : كونه مخالفا للواقع .

الثاني : كونه بحيث لو فحص عنه لوصل إلى ذلك الواقع .

أمّا الوجوه الأربعة فقد أشار المصنِّف إلى أولها وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع بقوله : ( من انّ التكليف الأولي ) الثابت في كل واقعة بحسب المصالح والمفاسد الواقعية كما دلّ عليه النص والعقل ( إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلاّ على من عثر عليها ) .

هذا ، والمفروض : انه لم يعثر على الطريق الظاهري ، فلا يكون مخالفا للطريق الظاهري ، وإنّما إذا كان مخالفا للواقع عوقب ، وإذا كان موافقا للواقع لم يعاقب عليه .

وأشار إلى ثاني الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الطريق بقوله :

ص: 288

ومن أن الواقع إذا كان في علم اللّه سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلاً عنه ، فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب اللّه على شرب العصير من يعلم أنّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته .

ومن أنّ كلاً من الواقع ومؤدّى الطريق تكليفٌ واقعي ، أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، وعلى إسقاطه

-------------------

( ومن ان الواقع إذا كان في علم اللّه سبحانه ) وتعالى ( غير ممكن الوصول إليه ) لاختفائه بسبب الاغراض والأطماع السياسية وما أشبه ذلك ( وكان هنا ) ك ( طريق مجعول) أي : جعل ( مؤدّاه بدلاً عنه ) أي : عن الواقع ( فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ) .

وعليه : فاذا كان عمل الجاهل مخالفا للطريق عوقب ، وإذا كان موافقا للطريق لم يعاقب ، سواء وافق الطريق الواقع أم خالفه .

وإنّما لم يكن مناط العقاب الواقع ، لأن المفروض عدم إمكان الوصول إليه ( فكيف يعاقب اللّه على شرب العصير من يعلم انّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته ؟ ) .

وأشار إلى ثالث الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق بقوله : ( ومن انّ كلاً من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي ) اما الواقع فلأنه هو الأصل ، واما مؤدّى الطريق فلأنه بديل عن الواقع ، فيعاقب في الصورتين كما قال : ( أمّا ) معاقبته على ما ( إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، و ) كان قادرا أيضا ( على إسقاطه ) أي :

ص: 289

عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من مؤاخذته ، وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ، فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ، فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة .

ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ،

-------------------

إسقاط الواقع ( عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما ) أي : من الاحتياط ، أو الرجوع إلى الطريق ( فلا مانع من مؤاخذته ) على مخالفة الواقع .

( وأمّا ) معاقبته على مخالفة ما ( إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ) بأن لم يكن التكليف حسب الواقع وأمّا كان التكليف حسب الطريق الشرعي ، كما إذا كان العصير - مثلاً - حراما حسب الطريق حلالاً حسب الواقع ، فهو معاقب على مخالفة الطريق لما ذكره بقوله: ( فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ) والجاهل القادر على تحصيل العلم بالطريق - كالعالم - يعاقب على مخالفة الطريق ، وذلك لأنه كما قال :

( فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة ) فالخطاب منجّز في حق الجاهل أيضا ، فيكون معاقبا على تركه .

وأشار إلى رابع الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع والطريق معا ، فلا يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما بقوله : ( ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ) على الواقع حسب الفرض ، فلا يكون مكلفا بالواقع ، فاذا خالف الواقع

ص: 290

وبالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حق من اطّلع عليه من باب حرمة التجري ، فالمكلّف به فعلاً ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريقٌ ، فاذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة .

نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

-------------------

لم يعاقب على مخالفة الواقع لو وافق الطريق .

( و ) من عدم التكليف ( بالطريق الشرعي لكونه ) أي : لكون الطريق الشرعي ( ثابتا في حق من اطّلع عليه ) والمفروض : انه لم يفحص حتى يطّلع عليه ، فاذا خالف الطريق لم يعاقب على مخالفة الطريق لو وافق الواقع .

وإنّما قال : بأن الطريق الشرعي ثابت على من اطلع عليه فقط ، لأن ثبوت ذلك عليه ( من باب حرمة التجري ) وإلاّ فهذا الطريق حسب الفرض لم يكن طريقا إلى الواقع ، كما انه لم يكن بنفسه موضوعا للحكم ، فمخالفة الطريق هذا لا يوجب شيئا لو وافق الواقع .

إذن : ( فالمكلّف به فعلاً ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو : الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ) موافق لهما ( فاذا ) خالفهما الطريق بأن ( لم يكن وجوب أو تحريم ) في الواقع ( فلا مؤاخذة ) على مخالفة هذا الطريق .

وان شئت قلت : الواقع ليس بحرام فلا عقوبة على الواقع ، والطريق الذي يقول بالحرمة ليس على السببية ، فلا شأن له في العقاب بالنسبة إلى هذا الجاهل بالطريق .

( نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

ص: 291

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمةٌ من باب الانقياد ، وتركُها تجرّ ، وإذا لم يطّلع على ذلك لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا . وأمّا إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا ، فلأن المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف .

والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهُه بالتأمل في الوجوه الأربعة .

-------------------

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ) بأن كان الواقع الحلية والطريق على الحرمة ( فالموافقة له ) أي : للطريق ( لازمة من باب الانقياد ، وتركها ) أي : ترك الموافقة للطريق مع الاطلاع عليه ( تجرّ ، و ) اما ( إذا لم يطّلع على ذلك ) أي : على الطريق ( لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا ) لعدم إطلاعه على الطريق ، كما لا عقاب من جهة الواقع لعدم مخالفته للواقع .

( وأمّا إذا كان وجوب واقعي ) أو حرمة واقعية ( وكان الطريق الظاهري نافيا ) للوجوب أو الحرمة ( ف ) لا عقاب أيضا ( لأن المفروض : عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه ) ويقبح عقاب من يتعذر له الوصول إلى الواقع ( والذي يمكن الوصول إليه ) من الطريق ( ناف للتكليف ) فلا عقاب لا على الطريق ولا على الواقع .

هذا ( والأقوى هو الأوّل ) من هذه الوجوه العبرة في المؤاخذة وعدمها موافقة الواقع ومخالفته ، فاذا شرب العصير من غير فحص فان كان في الواقع حراما عوقب عليه ، وان لم يكن حراما لم يعاقب عليه ( ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الأربعة ) من الاحتمالات التي ذكرناها .

ص: 292

وحاصله : أنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلاً ، إلاّ أنّه لامانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملاً له قادرا عليه غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ، ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، و هو : العقل والنقل الدالاّن على برائة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه .

-------------------

( وحاصله : ) أي : حاصل الوجه الأوّل الذي اختاره المصنِّف هو : ( انّ التكليف الثابت في الواقع و ان فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلاً ) لا إجمالاً ، لأنه يمكن الوصول إليه إجمالاً بسبب الاحتياط ( إلاّ انّه لامانع من العقاب ) عليه لو كان مخالفا للواقع ( بعد كون المكلّف محتملاً له ) أي : لمخالفة الواقع ، لأنه حسب الغرض جاهل بسيط وليس جاهلاً مركبا قاطعا بالخلاف حتى يكون معذورا .

وعليه : فان المفروض كون المكلّف ( قادرا عليه ) أي : على الوصول إلى الواقع بسبب الاحتياط ( غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ) أي : ينفي الواقع ، لفرض ان الطريق الشرعي الذي ينفي الواقع لم يصل اليه المكلّف بالفحص .

( ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه ) أي: على الواقع ( مع بقاء تردّده، و ) المقصود من الدليل المؤمّن مع بقاء شكه ( هو : العقل والنقل الدالاّن على برائة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول ) إلى الواقع حتى ( وان احتمل ) بعد الفحص واجراء البرائة ( التكليف وتردّد فيه ) أي : في التكليف .

إذن : فالعقل والنقل تدلان على البرائة لكنهما لايجريان في حق المقصر عن الفحص بل يجريان بعد الفحص واليأس ، فالشك واللاشك ليسا معيارا وانّما المعيار الفحص واللافحص .

ص: 293

وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعية ، ولو فرض هنا طريقٌ ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يُعاقَب عليه ، لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فاذا أخطأ

-------------------

( وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ) بأن لم يكن العصير العنبي - مثلاً - حراما واقعا ، بل كان حلالاً فرضا ( فلا مقتضي للعقاب ) لمن شربه ( من حيث الخطابات الواقعية ) لأن المفروض عدم حرمته واقعا ، وإذا لم يكن حراما واقعا فانه حتى ( ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ) بأن كان فتوى المجتهد حرمته ، لكن الجاهل لم يفحص عن فتوى مرجعه وشرب العصير ، فانه ( لم يعاقب عليه ) .

وإنّما لم يعاقب عليه ( لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ) إذ قد تقدّم في باب القطع : ان الطرق الظاهرية ليست مجعولة في مقابل الواقع ، ولا هي من باب السببية ، بل هي من باب الطريقية ، ولذلك فان طابقت الواقع كان الواقع لازما على الانسان ، وان لم تطابق الواقع لم يكن الطريق لازما عليه حتى يعاقب على مخالفة هذا الطريق الذي لم يعثر عليه ، لأن جعل مؤدى الطريق حكما واقعيا للجاهل بحيث يعاقب على مخالفته وان لم يطابق الواقع ، من التصويب الباطل ، وهو خلاف ما ذهب اليه العدلية القائلين بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية .

( و ) عليه : فان الطريق الشرعي ( إنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ) أي : إلى الواقع ( فاذا أخطأ ) الطريق بأن كان في الواقع حلالاً ، لكن الطريق دل على

ص: 294

لم يترتب عليه شيء ، ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق ، فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتُها .

نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ، وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق ،

-------------------

حرمته ( لم يترتب عليه ) أي : على هذا الخطأ الطريقي ( شيء ) حتى يعاقب الشارب للعصير على انه خالف الطريق .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الطريق إذا أخطأ لم يترتب عليه شيء ، فانه ( لو أدّى ) المكلّف ( عبادة ) أو معاملة ( بهذا الطريق فتبيّن ) بعد إتيانه بالعبادة أو المعاملة ( مخالفتها ) أي : مخالفة تلك العبادة أو المعاملة ( للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها ) بالنسبة إلى العبادة ، واما بالنسبة إلى المعاملة ، فلا يترتب عليها أثر .

( نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع ) بل يحتمل مخالفته ، بل ربما يظن بأن هذا الطريق مطابق للواقع ( فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع ) فاذا خالفه كان في الظاهر عاص ( فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ) والتجري عصيان ظاهرا وان كنا ذهبنا إلى انه ليس بمعصية في الواقع .

( و ) لكن ( هذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق ) لأنه لم يخالف طريقا ظاهريا وان كان متجريا من جهة ترك الفحص عن الدليل مما مرّ بيانه في مسألة عقاب الجاهل .

ص: 295

ووجوب رجوع العامّي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات ، فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم إنكشف الخلاف لا إستحقاق العقاب على الترك ، فانّه

-------------------

( و ) ان قلت : فلماذا يجب رجوع العامي إلى المفتي ، مع ان قول المفتي ليس طريقا إلى الواقع دائما ، بل ربما كان طريقا وربما لم يكن طريقا .

قلت : ( وجوب رجوع العامّي إلى المفتي ) ليس لأجل كون مؤدّى الفتوى مجعولاً للمقلد مقابل الواقع ، وإنّما هو محض طريق ربما أخطأ وربما أصاب ، فالرجوع إليه ( لأجل إحراز الواجبات ) بالطريق العقلائي المتعارف .

وعليه : ( فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ) لا من حيث انه فتوى المفتي .

( و ) لكن ( ان لم يصادف الواقع ، لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ) فلا يترتب عليه آثار الواقع ( و ) إنّما ( يترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة ) تلك الآثار ( بعدم إنكشف الخلاف ) فاذا إنكشف الخلاف تبين انه ليس بطريق وإنه لا يجب عليه العمل به .

إذن : فالذي يترتب على الطريق هو آثار الوجوب الظاهري ( لا إستحقاق العقاب على الترك ) فانه لا يترتب على فتوى الفقيه العقاب الاُخري ، بل العقاب الاُخروي دائر مدار الواقع وجودا وعدما ، وإنّما يترتب على فتوى الفقيه آثار الوجوب في الظاهر مشروطا بعدم إنكشاف الخلاف على ما عرفت .

نعم ، لو لم يرجع إلى فتوى الفقيه وإنكشف ان فتوى الفقيه لم يكن مطابقا للواقع لم يكشف ذلك عن عدم إستحقاق العقاب ( فانّه ) أي : إستحقاق العقاب

ص: 296

يثبت واقعا من باب التجرّي .

ومن هنا يظهر : أنّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف .

نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية لزم من ذلك إنقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق ، وكان أوجَه الاحتمالات حينئذٍ الثاني منها .

-------------------

على ترك الطريق ( يثبت واقعا من باب التجرّي ) بناءا على حرمته ، لكنا ذكرنا في أول الكتاب ان التجري له قبح فاعلي لا فعلي حتى نقول بحرمته .

( ومن هنا ) أي : مما ذكرنا : من ان مؤدّى الطريق ليس مجعولاً في مقابل الواقع حتى يكون هناك تكليفان : تكليف بالواقع ، وتكليف بالطريق ( يظهر : انّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع ) بأن كانت الفتوى مصادفة للواقع ، وذلك ( من جهة تعدّد التكليف ) بأن يقال : انه خالف الواقع فعليه عقاب ، وخالف الطريق فعليه عقاب آخر ، فان الأمر ليس كذلك ، بل انه لو خالف الواقع كان عليه عقاب واحد ، ولو لم يخالف الواقع لم يكن عليه شيء .

( نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية ) وان الشارع يريدها جزما لمصلحة في السلوك ، كما لم يستبعده المصنِّف في باب القطع ( لزم من ذلك ) فيما إذا خالف الطريق الواقع ( إنقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق ) فاللازم على العامي حينئذ ان يعمل بتلك الطرق ، فان عمل بها اثيب وان لم يعمل بها عوقب .

( و ) عليه : فاذا قلنا بانقلاب التكليف ( كان أوجه الاحتمالات ) المتقدمة ( حينئذ ) أي : حين قلنا بالانقلاب : الاحتمال ( الثاني منها ) أي : من تلك

ص: 297

...

-------------------

الاحتمالات الأربعة وهو : أن يكون العبرة بموافقة الطريق ومخالفته لا بموافقة الواقع ومخالفته ، فان وافق الطريق أثيب ، وان خالف الطريق عوقب ، من غير فرق بين ان يكون الطريق موافقا للواقع أو مخالفا له .

لكن قد تقدّم في أول الكتاب : ان إنقلاب التكليف إلى مؤديات الطرق خلاف المشهور ، بل الظاهر من الأدلة : ان الواقع هو المراد لا غيره ، وإنّما الطريق جعل للوصول إليه .

نعم ، لا إشكال في انه لو وافق الطريق ولم يصادف الواقع ، كان له ثواب الانقياد، كما انه لو خالف الطريق ولم يكن موافقا للواقع كان عليه عقاب التجري عند من يقول بحرمة التجري ، فمن يرى ان التجري محرما يرى حرمة المخالفة من جهة التجري .

والحاصل : ان ترتيب جميع آثار الوجوب على الطريق مشروط بعدم إنكشاف الخلاف ، إلاّ أثر العقاب على الترك فانه ثابت من باب التجري بناءا على كون التجري حراما موجبا للعقاب ، فاستحقاق العقاب فيه ليس مشروطا بعدم إنكشاف الخلاف ، بل هو ثابت مطلقا على القول بكون التجري حراما سواء إنكشف الخلاف أم لم ينكشف .

نعم ، لو اخترنا ما ذهب إليه صاحب الفصول : من ان التكليف الفعلي هو مؤدّى الطريق وان الواقع بما هو واقع ليس مكلفا به ، لزم من ذلك أيضا ، كما كان يلزم من القول بالمصلحة السلوكية : انقلاب التكليف إلى مؤدّيات الطرق ، فيكون الأوجه حينئذ أيضا الاحتمال الثاني المذكور في أول العنوان وهو : كون العبرة في باب المؤاخذة موافقة الطريق وعدم موافقته ، لا موافقة الواقع وعدم موافقته .

ص: 298

الثاني :

-------------------

الأمر ( الثاني ) من اُمور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنِّف بعد ان ذكر في الأمر الأوّل الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في أعمال الجاهل المقصر ، وانه كلما كان العمل باطلاً إستحق عليه العقاب ، وكلما كان صحيحا لم يكن عليه عقاب ، تعرض هنا إلى ذكر استثناء للملازمة ، فقد ذكر الأصحاب موارد للاستثناء ، منها في باب الحج حيث ورد فيه : « أيما امرء ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (1) .

هذا ، لكن المصنِّف اكتفى بذكر موردين من موارد انفكاك الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي ، والانفكاك بمعنى : أن يكون العمل صحيحا مع إستحقاق العقاب عليه ، والموردان هما : مواد القصر والاتمام ، ومورد الجهر والاخفات ، فمن جهر بالقرائة في موضع الاخفات وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، صحت صلاته ، وكذلك العكس ، وكذا من أتم صلاته في موضع القصر صحت صلاته وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، دون العكس غير انه يكون مستحقا للعقاب في الموردين .

أمّا إستحقاق العقاب : فلتسالم الأصحاب عليه ، واما صحة الصلاة : فلانه بالاضافة إلى وجود الاجماع وجود أخبار صحيحة تدل على ذلك .

مثلاً : في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم « قالا : قلنا لأبي جعفر عليه السلام فيمن صلّى في السفر أربعا : أيعيد أم لا؟ قال عليه السلام : ان قرئت عليه آية التقصير وصلى

ص: 299


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ح47 ب1 وفيه رجل ، وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 و ج13 ص158 ب8 ح17474 .

قد عرفت : أنّ الجاهل العامل بما يوافق البرائة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ، لا من حيث العقاب، ولا من جهة سائر

-------------------

أربعا أعاد ، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه» وزاد في بعضها: « وفسرت له » (1) عقيب قوله : « ان كانت قرئت عليه آية التقصير » .

وفي صحيحة اُخرى لزرارة أيضا : «قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : رجل جهر بالقرائة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه ، أو أخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه؟ فقال عليه السلام: أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، وان فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري ، فلا شيء عليه فقد تمت صلاته » (2) .

هذا ، وقد أشكل بعض على صحة الصلاة مع وجود العقاب بما سيذكره المصنِّف قريبا ان شاء اللّه تعالى ، والظاهر : ان أول من أشكل بذلك هو السيد الرضي ، حيث اعترض على أخيه السيد المرتضى قائلاً : بأن الصحة لا تجامع مع ما أجمعنا عليه من بطلان صلاة من لا يعرف أحكامها ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا تكون الصلاة صحيحة مجزية .

وكيف كان : فانه ( قد عرفت : انّ الجاهل العامل بما يوافق البرائة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ) لأنه جاهل مقصّر والجاهل المقصّر معاقب ، وإذا كان معاقبا كان لازمه بطلان عمله .

إذن : فالجاهل المقصر غير معذور ( لا من حيث العقاب، ولا من جهة سائر

ص: 300


1- - تهذيب الاحكام : ج3 ص226 ب13 ح80 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص435 ح1265 ، وسائل الشيعة : ج8 ص507 ب17 ح11300 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص162 ب23 ح93 ، وسائل الشيعة : ج6 ب26 ص86 ح7412 .

الآثار ، بمعنى : أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله .

وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين .

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ، وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا .

-------------------

الآثار ) الوضعية كالقضاء والاعادة والكفارة ، فان عدم المعذورية هنا ( بمعنى : انّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره ) أي : غير العقاب كالقضاء والاعادة ( من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل ) إرتفاعا ( لأجل جهله ) لأن الجهل بالحكم عن تقصير لا يكون عذرا .

( و ) لكن ( قد استثنى الأصحاب من ذلك ) موضعين ( القصر والاتمام ) بأن صلّى التمام في موضع القصر ( والجهر والاخفات ) بأن جهر في موضع الاخفات أو أخفت في موضع الجهر ( فحكموا بمعذورية الجاهل ) بالحكم ( في هذين الموضعين ) بلا استثناء .

هذا ( وظاهر كلامهم : إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ) أي : ان الصلاة ليست باطلة كما قال : ( وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا ) من حيث القضاء أو الاعادة ( دون ) العذر من حيث الحكم التكليفي وهي : ( المؤاخذة ) .

وعليه : فانهم وان حكموا بصحة الصلاة لكنهم يقولون باستحقاق العقاب (و ) هذا المعنى ( هو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا ) فان ظاهر دليل المعذورية هي : المعذورية الوضعية ، لا المعذورية التكليفية فاستحقاق

ص: 301

فحينئذ يقع الاشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر ، فيكون تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا .

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا ، إن لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب ، وإن كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر .

-------------------

العقاب إنّما هو للأصل الذي يقول : بأن الجاهل المقصر معاقب .

( فحينئذ ) أي : حين قالوا بانفكاك الملازمة بمعنى : إستحقاق العقاب وعدم لزوم القضاء أو الاعادة ( يقع الاشكال في انّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي ) أي : من حيث إستحقاقه العقاب على ترك الواقع ( كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر ) حيث انه يستحق العقاب على تركها مما يستلزم بقاء التكليف بها ( فيكون تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا ) لأن المسافر مكلف من عند اللّه سبحانه وتعالى واقعا بأن يأتي بالصلاة في السفر قصرا ، وإذا كان تكليفه بالواقع باقيا لزم أحد المحذورين : اما عدم كون ما أتى به مأمورا به فكيف يسقط الواجب واما اجتماع الضدين وهو تناقض كما قال :

( وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا ) للقضاء أو الاعادة ( ان لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب ) الذي هو القصر ؟ ( وان كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر ؟ ) فان الجمع بين هذين يكون من الجمع بين الضدين .

وإن شئت قلت : ان ثبوت المؤاخذة على ترك الواقع يدل على ثبوت الأمر بالقصر وبقاء الأمر الواقعي ، والحكم بالصحة وعدم وجوب الاعادة يدل على

ص: 302

ودفع هذا الاشكال ، إمّا بمنع تعلق التكليف فعلاً بالواقعي المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ، وإمّا بمنع التنافي بينهما .

-------------------

كونه مأمورا بالاتمام ، فيكون معنى ذلك : انه مأمور بالقصر وبالاتمام معا ، وهذا تناقض ظاهر ، وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات .

ويمكن الجواب عن ذلك جوابا أوليا : بأن المؤاخذة على ترك الواقع لا يدل على بقاء الأمر الواقعي ، فاذا أمر المولى عبده بأن يأتي إليه بماء عذب ليشربه لأنه قد غصّ بلقمته ، فجائه بماء أجاج فشربه اضطرارا لم يبق الأمر الأوّل ، لأن المولى قد تخلص من اللقمة فلا يحتاج بعدها إلى الماء ومع ذلك فان العبد مستحق للعقاب على عدم إطاعة الأمر الأوّل .

( ودفع هذا الاشكال ) هو كدفع الاشكال في كل مورد يتوهم فيه التناقض والتضاد ، وذلك بأن يقال : اما ان يكون هذا الضد غير موجود ، أو ذلك الضد غير موجود ، أو ان كليهما موجودان إلاّ انه ليس بينهما تناف .

إذن : فالجواب عن هذا الاشكال يكون أولاً : ( إمّا بمنع تعلق التكليف فعلاً ) أي : انه بعد إتيان التمام موضع القصر لا تكليف ( بالواقعي المتروك ) الذي هو القصر ، فالقصر إنّما يجب على المسافر العالم بالحكم ، لا المسافر الجاهل بالحكم .

ثانيا : ( وامّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ) أي : ان الأمر في الواقع قد تعلق بالقصر لا بما أتى به من التمام ، لكن هذا التمام غير المأمور به قد أسقط القصر الذي كان مأمورا به ، كما مثّلنا له بالماء العذب والماء الاُجاج .

ثالثا : ( وإمّا بمنع التنافي بينهما ) أي : انه لا يلزم من الأمر بالتمام والأمر بالقصر، أمرا بضدين في آن واحد .

ص: 303

فالأول : إمّا بدعوى كون القصر - مثلاً - واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والاخفات .

وإمّا بمعنى معذرويته فيه ، بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع ، يُعذر صاحبه ويُحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الحكم الواقعي .

-------------------

( فالأول ) وهو : منع تعلق التكليف فعلاً بالواقعي المتروك فيمكن تقريره بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : ما ذكره بقوله : ( امّا بدعوى كون القصر - مثلاً - واجبا على المسافر العالم ) لا المسافر الجاهل ( وكذا الجهر والاخفات ) فكأن الشارع قال : يجب القصر على المسافر العالم بوجوب القصر ، والجهر على المصلي العالم بوجوبه ، وهكذا الاخفات .

ولا يرد على هذا إشكال الدور القائل : بأن العلم قد أخذ تارة في موضوع الحكم واُخرى بعد الحكم ، لأنه يمكن تصحيح ذلك بأمرين فيما إذا اختصت مصلحة القصر - مثلاً - بالعالم بوجوب القصر فقط ، فيقول المولى أولاً : يجب القصر في السفر ويقول ثانيا : ان مصلحة القصر إنّما هي على العالم بوجوب القصر لا على الجاهل بوجوبه .

الوجه الثاني ما أشار إليه بقوله : ( وامّا بمعنى معذرويته ) أي : معذورية الجاهل ( فيه ) أي : في القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ( بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يُعذر صاحبه ) فان الجاهل بالموضوع - كالجاهل بأن هذا المايع خمر - معذور وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه ( و ) لأجل معذورية هذا الجاهل بالموضوع ( يُحكم عليه ظاهرا ) أي : حكما ظاهريا ( بخلاف الحكم الواقعي ) .

ص: 304

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطابٌ مشتملٌ على حكم ظاهريّ ، كما في الجاهل بالموضوع ، إلاّ أنّه مستغنىً عنه باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع ، وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

-------------------

إذن : فكما ان الجاهل بكون هذا المايع خمرا يحكم عليه حكما ظاهريا بجواز شربه وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه ، فكذلك الجاهل بالحكم فيما نحن فيه فانه معذور لكنه لغفلته لم يحكم عليه بحكم ظاهري ، لاستغنائه عن الحكم الظاهري بسبب اعتقاده بوجوب التمام - مثلاً - عليه كما قال :

( وهذا الجاهل وان لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهريّ ) لفرض غفلته عن الحكم الظاهري أيضا ، فلا يتوجه هذا الخطاب إليه ( كما ) كان يتوجه الخطاب المشتمل على حكم ظاهري ( في الجاهل بالموضوع ) لفرض التفاته إلى الحكم الظاهري لهذا المايع الذي لم يعلم خمريته ( إلاّ أنّه ) أي : الخطاب بالحكم الظاهري بالنسبة إلى هذا الجاهل بالحكم ( مستغنىً عنه ) .

إذن : فالشارع لا يخاطبه بالتمام الذي هو حكم ظاهري له لاستغنائه عن هذا الحكم الظاهري ( ب ) سبب ( اعتقاده ) أي : اعتقاد هذا الجاهل ( لوجوب هذا الشيء عليه ) وهو التمام ( في الواقع ) فان الشارع قد اكتفى منه بما أتى به من التمام في السفر من دون ان يخاطبه به ، وإنّما اُوكله إلى ما اعتقده من كون تكليفه التمام .

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو : ان في الوجه الأوّل لا تكليف بالتمام بالنسبة إلى الجاهل بالحكم ، وفي الوجه الثاني له تكليف شأني لا فعلي ، والجهل بالتكليف الشأني يكون نظير الجهل بالموضوع من حيث المعذورية ويحكم فيه بمقتضى الاُصول على خلاف الحكم الواقعي .

الوجه الثالث ما أشار إليه بقوله : ( وامّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

ص: 305

بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه.

نعم ، يُعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم إستظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه .

وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلاّ أنّ الخطاب بالواقع ينقطعُ عند الغفلة لقبح خطاب العاجز ، وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنه ليس مأمورا به

-------------------

بالواقع ، وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ) فالعلم شرط تنجز التكليف ، إلاّ انه معاقب من جهة ترك التعلم ( فلا يجب عليه القصر ) فعلاً ، وذلك ( لغفلته عنه ) أي: عن القصر .

( نعم ، يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم إستظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه ) القائلين بأن العقاب على ترك التعلم ، لا على ترك الحكم ، فيكون الفرق بين هذه الأوجه الثلاثة هو : ان العلم على الوجه الأوّل : شرط شرعي لثبوت الحكم نظير البلوغ والطهارة ، وعلى الثاني : شرط عقلي نظير اشتراط القدرة في ثبوت التكاليف ، وعلى الثالث : واجب نفسي نظير وجوب الصلاة .

الوجه الرابع : ما أشار إليه بقوله : ( وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ) فالجاهل المقصر مكلف بالواقع والتكليف منجّز عليه ( إلاّ انّ الخطاب بالواقع ينقطع عند ) عروض ( الغفلة ) عليه وذلك ( لقبح خطاب العاجز وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ) فليس العقاب على ترك المقدمة ، كما قاله المدارك ومن تبعه ، بل العقاب على ترك الواقع من حين ترك المقدمة ، والمقدمة هي عبارة عن تحصيل العلم .

إذن : فالجاهل المقصر وان كان معاقبا على ترك القصر ( لكنه ليس مأمورا به )

ص: 306

حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام .

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل .

ولذا يُبطِلون صلاةَ الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجهٌ للبطلان .

والثاني :

-------------------

أي : بالقصر ( حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام ) ويكون هناك أمر بالضدين : أمر بالقصر ، وأمر بالاتمام ، وبواحد من هذه الوجوه الأربعة يتم التخلص من إشكال اجتماع الضدين .

( لكن هذا كله ) أي : كل الوجوه الأربعة التي ذكرناها في وجه الجواب الأوّل لدفع إشكال التضاد يكون ( خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل ) المقصّر بينما قال الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة بعدم التكليف بالقصر أصلاً ، والوجوه الثلاثة الاُخر منها بعدم التكليف المنجّز وهو يخالف قول المشهور .

إذن : فالمشهور كيف يجمعون بين التكليف بالقصر والتكليف بالتمام وهم يقولون ببقاء التكليف المنجّز واقعا؟ ( ولذا ) أي : لأجل قولهم ببقاء التكليف الواقعي ( يُبطِلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لولا النهي حين الصلاة ) نهيا واقعيا منجّزا ( لم يكن وجه للبطلان ) وان كان يمكن أن يكون وجهه : عدم وجود الشرط كما لو جهل المتوضئنجاسة الماء ، فهو ليس منهيا عنه مع ان صلاته باطلة .

( والثاني ) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد هو ما ذكره المصنِّف بقوله :

ص: 307

منعُ تعلّق الأمر بالمأتي به والتزام أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب ، فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع .

نعم ، قد يوجب إتيانُ غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم بناءا على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ، كما في آخر الوقت ، حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر .

-------------------

وأمّا بمنع تعلقه بالمأتي به يعني : ( منع تعلّق الأمر بالمأتي به ) فالتمام في السفر لا أمر به إطلاقا ، ( والتزام انّ غير الواجب مسقط عن الواجب ) فهو لا بأس به ( فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع ) .

وإنّما نلتزم بذلك لأنه من الممكن ان يكون غير الواجب مسقطا عن الواجب كالوضوء قبل الوقت حيث انه يسقط الواجب الذي هو الوضوء بعد الوقت ، فوجوب القصر منجّز على الجاهل المقصّر وهو مؤاخذ به ، لكن الاتمام مسقط للاعادة أو القضاء مع انه لم يكن مأمورا به ، فلا يلزم حينئذ الأمر بالضدين .

( نعم ) كون التمام مسقطا للاعادة أو القضاء إنّما يصح إذا أتى به قبل تضيّق الوقت ، وامّا إذا أتى به عند تضيّق الوقت كان فعل التمام مضادا لفعل القصر المأمور به واقعا ، والمفروض : ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فيكون التمام حراما باطلاً لأنه عبادة منهي عنها ، والحرام الباطل لا يكون مسقطا .

وعليه : فانه ( قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم ) هذا الذي هو غير واجب ، وذلك ( بناءا على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ) ومثال تفويته يكون ( كما في آخر الوقت حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر ) وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات في آخر الوقت حيث يستلزم فعل الجهر فوت الاخفات ، وفعل الاخفات فوت الجهر .

ص: 308

ويردّ هذا الوجه : أن الظاهر من الأدلة : كونُ المأتيّ به مأمورا به في حقه ، مثل قوله عليه السلام : في الجهر والاخفات : « تمت صلاته » ، ونحو ذلك .

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل .

-------------------

( ويردّ هذا الوجه : ان الظاهر من الأدلة : كون المأتيّ به مأمورا به في حقه ) وليس المأتي به مجرد المسقط حتى يكون كالماء الاجاج الذي مثّلنا له بإسقاطه الاتيان بالماء العذب ، وأمّا الادلة : فهي ( مثل قوله عليه السلام : في الجهر والاخفات: تمت صلاته (1) ، ونحو ذلك ) فان ظاهر تمت : انه مأمور به لا انه مجرد المسقط ، وإلاّ كان الامام عليه الصلاة والسلام يقول : سقط عنه التكليف وما أشبه ذلك ، فلا يرتفع إذن إشكال الجمع بين الضدين ، لأنه مأمور بالقصر ومأمور بالتمام في وقت واحد .

هذا ( والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد : سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ) فالكبرى الكلية عبارة عن ان وجوب البدل مسقط لوجوب المبدل ، لكن المقام ليس من هذه الكبرى ، لأن الاتمام على الوجه الثاني من أجوبة دفع إشكال التضاد ليس بواجب ومع ذلك يسقط الواجب الذي هو القصر .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى ان الكبرى ليست تامة ، إذ من الممكن إسقاط غير الواجب للواجب ، كما في مثال الوضوء قبل الوقت فانه مسقط للوضوء بعد الوقت ، ومن الممكن إسقاط الحرام للواجب ، كما في مثال الاتيان بالماء الأجاج

ص: 309


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص162 ب43 ح93 ، وسائل الشيعة : ج6 ص86 ب26 ح7412 .

الثالث : ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه من أنّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والاتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر .

-------------------

مكان الاتيان بالماء العذب ، فانه مسقط له لكنه معاقب عليه .

وأمّا ( الثالث ) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد وهو ما ذكره المصنِّف بقوله : وامّا بمنع التنافي بينهما فهو ( ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه ) والمحقق الكركي، وسلطان العلماء ، وغيرهم ( من انّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر ) .

ولا يخفى : ان تقرير الترتب في المقام يكون على ما قالوا عبارة عن : ان وجوب كل من القصر والتمام غير جائز إذا كان على وجه التقارن بأن يوجبهما الشارع متقارنين ، وجائز إذا كان على وجه الترتب بأن يكون التكليف بالاتمام مترتبا على معصيته بالقصر ، فانه لا يمتنع عند العقل ان يقول المولى الحكيم لعبده أوجبت عليك الحضور في المدرسة ولكن لو عصيتني فيه أوجبت عليك الحضور في المسجد ، فان الأمر الثاني لا يناقض الأمر الأوّل بل هو مترتب على مخالفة الأمر الأوّل كما قال : ( فقد كلّفه ) الشارع أولاً ( بالقصر ) حيث قال سبحانه : « وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة » (1) ( و ) بعد عصيانه للقصر كلفه وأوجب عليه ( الاتمام ) فالأمر بالاتمام مترتب ( على تقدير معصيته في التكليف بالقصر ) وكذلك يكون الحال بالنسبة إلى الجهر والاخفات .

ص: 310


1- - سورة النساء : الآية 101 .

وسلك هذا الطريق في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين ، إذا ترك المكلّف الامتثالَ بالأهمّ .

ويردّه : أنّا لانعقل الترتب في المقامين ،

-------------------

( و ) عليه : فان كاشف الغطاء قد ( سلك هذا الطريق ) وهو طريق الترتب ( في مسألة الضّد ) بناءا على ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، كما في تصحيح فعل غير المضيّق من الواجبين المضيّق أحدهما كالصلاة والازالة .

وعلى هذا : فمن جاء إلى المسجد وهو يريد الصلاة في وقت موسّع ورأى في المسجد نجاسة ، كان مخاطبا أولاً بالازالة لأن وقتها مضيّق ، ثم بالصلاة لأن وقتها موسّع فاذا ترك الازالة وصلى ، اقتضى الأمر بالازالة النهي عن الصلاة ، فتكون الصلاة باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : أزل النجاسة عن المسجد فان عصيت فصلّ .

وقد سلك هذا الطريق أيضا ( في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهم ) فاذا كان هناك واجبان مضيّقان أحدهما أهم كصلاة الظهرين في آخر الوقت ، والآخر مهم كصلاة الآيات ، كان مخاطبا بالظهرين أولاً ثم بالآيات .

وعليه : فاذا ترك الظهرين وأتى بالآيات ، اقتضى الأمر بالظهرين النهي عن الآيات ، فتكون الآيات باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب ، وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : صلّ الظهرين ، فان عصيت فصلّ صلاة الآيات .

( ويردّه ) أي : يردّ هذا الوجه وهو الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة لتصحيح القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، قولنا : ( انّا لا نعقل الترتب في المقامين ) لا في المقام الذي نحن فيه من القصر والاتمام ، أو الجهر والاخفات ،

ص: 311

وإنّما يُعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية .

-------------------

ولا في مقام مسألة الضد من الواجبين المضيّقين أحدهما أهم ، أو أحدهما موسّع دون الآخر .

وإنّما لا نعقل الترتب فيهما ، لأن الأمر الثاني فيهما وان لم يصعد إلى مرتبة الأوّل إلاّ ان الأمر الأوّل ينزل إلى مرتبة الأمر الثاني ، لأن المولى يريد الأمر الأوّل مطلقا ، امّا الأمر الثاني فلا يريده إلاّ في حال عصيان الأمر الأوّل .

مثلاً : إذا كان المولى ضامئا وسقط طفل له في البئر ، فانه يقول لعبده : انقذ الطفل ، فاذا عصاه العبد في أمره هذا قال له : إذن جئني بالماء ، فانّ أمر المولى بانقاذ الطفل مطلق شامل لوقت إتيان العبد بالماء أيضا وان كان الأمر باتيان الماء لا يصعد إلى وقت إنقاذ الطفل .

هذا ، وقول المولى له : جئني بالماء إنّما هو ليخفف عنه عقابه ، وإلاّ فالمولى يعاقب العبد على ترك الانقاذ سواء أتى بالماء أم لم يأت به .

إذن : فالترتب لا يعقل في المقامين ( وإنّما يعقل ذلك ) الترتب ( فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته ) للأمر ( الأوّل ) وذلك بأن لم يبق للأمر الأوّل مجال إطلاقا .

وذلك أمّا مثاله فهو : ( كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية ) فان في هذه الصورة لا تكليف بالماء إطلاقا ، لسقوطه بسبب العصيان ، فالمولى يأمره حينئذ بالتراب وان كان يعاقبه على تفويته مصلحة الماء ، ومثل هذا الترتب لا يستلزم الأمر بالضدين بخلاف الترتب في المقامين

ص: 312

الثالث :

أنّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص .

أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص .

ويدل عليه إطلاق الأخبار ، مثل

-------------------

السابقين فانه من الأمر بالضدين .

الأمر ( الثالث ) من اُمور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنِّف بعد ان ذكر في الأمرين السابقين حكم الجاهل المقصر في الشبهة الحكمية ، تعرّض هنا لذكر حكمه في الشبهة الموضوعية وانه هل يجب عليه الفحص في الشبهة الموضوعية التحريمية والوجوبية أم لا؟ فقال :

( انّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص ) وذلك لما تقدّم : من انه يلزم الفحص في الشبهة الحكمية قبل العمل ، فان ظفر بحكم شرعي عمل به وإلاّ أجرى الاُصول الممكنة : من الاستصحاب ، أو البرائة ، أو غير ذلك .

( أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم فلا إشكال ) عند المصنِّف ( ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص ) فيها ، لكن كونه لا خلاف فيه ، محل تأمل ، بل أشكل بعض الفقهاء في أن يكون هناك إجماع في المسألة غير ان المصنِّف يرى عدم وجوب الفحص كما هو المشهور أيضا .

( ويدل عليه ) أي : على هذا المشهور ( إطلاق الأخبار ) والروايات ( مثل

ص: 313

قوله عليه السلام : « كلُّ شيء لك حلال حتى تعلم » ، وقوله : «حتى يستبين لك غيرُ هذا ، أو تقومَ به البيّنة » ، وقوله : « حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة » ، وغير ذلك ، السالم عمّا يصلح لتقييدها .

-------------------

قوله) عليه السلام : ( « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم » ) إنه حرام بعينه (1) ( وقوله ) عليه السلام: ( « حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة » (2) ، وقوله ) عليه السلام : ( « حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة » (3) ) ومثل قوله عليه السلام في النكاح : « لم سألت ؟ » (4) أي : عن كونها خلية أو متزوجة ( وغير ذلك ) مما هي ظاهر في عدم وجوب الفحص .

وإنّما يقول المشهور بعدم وجوب الفحص هنا لاطلاق الروايات ( السالم عمّا يصلح لتقييدها ) من الأخبار الدالة على وجوب الفحص ، فان الأدلة التي سبقت في وجوب الفحص - كما عرفت - مختصة بالشبهة الحكمية .

لكن يمكن أن يقال : ان الأدلة المذكورة لوجوب الفحص في الشبهة الحكمية تجري في الشبهة الموضوعية أيضا ، وما يجاب به عن أدلة الحل بالنسبة إلى الشبهة الحكمية يجاب به بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية أيضا .

مثلاً : قد يجاب عنها : بأن ما خرج عن دليل الفحص يحكم بعدم إرادة الفحص فيه ، كالطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة في الجملة ، وإلاّ فالأصل

ص: 314


1- - الكافي : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

وإن كانت الشبهة وجوبية ، فمقتضى أدلة البرائة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا ،

-------------------

وجوب الفحص ، لأنه طريق العقلاء في إطاعة الموالي .

ألا ترى : ان من يعلم ان الخمر والخنزير والميتة محرمات ، يلزم عليه الفحص حتى يعرف ما هي الخمر؟ وما هو الخنزير؟ وما هي الميتة ؟ .

وكذا من يعلم ان الاُم والاُخت والمرضعة محرمات ، فانه يلزم عليه الفحص حتى يعلم ان أيّة هذه النساء اُمه؟ وأيهن اُخته؟ وأيهن مرضعته ؟ .

وهكذا بالنسبة إلى من يعلم ان الغيبة والنميمة والقذف محرمات ، إلى غير ذلك .

ولا يخفى : ان بناء الفقهاء إنّما هو على وجوب الفحص في بعض فروع النكاح وغيره مما هو في الشبهة الموضوعية التحريمية على ما ذكروه في محله .

هذا هو تمام الكلام في الشبهة التحريمية الموضوعية .

( وان كانت الشبهة ) موضوعية ( وجوبية ، فمقتضى أدلة البرائة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا ) أي : كما في الشبهة الموضوعية التحريمية ، وقد بيّن الأوثق وجه قوله : حتى العقل بما هو محل تأمل حيث قال :

« لعل الوجه فيه : ان عدم حكم العقل بالبرائة قبل الفحص في الشبهات الحكمية ، إنّما هو من جهة كون العمل بها قبل الفحص عن دليل الواقعة - مع إحتمال وجوده في الواقع وإمكان الوصول إليه بالفحص - نوع تجرّ على مخالفة الشارع ، نعم ، بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه ، يحكم بعدم تنجز التكليف بالواقع لو كان ، لأجل قبح التكليف بلا بيان ، وهذا الوجه غير جار في الشبهات

ص: 315

وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : « أكرم العلماء أو المؤمنين » ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ، إلاّ أنّه قد يترائى : أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى أنّ بنائهم على الفحص عن اُولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً

-------------------

الموضوعية بناءا على ما حقق في الشبهة التحريمية الموضوعية : من عدم كون الخطابات الواقعية دليلاً على الشبهات الخارجية في نظر أهل العرف ، فوجود هذه الخطابات لايمنع من العمل بأصالة البرائة في المصاديق الخارجية المشتبهة » (1) .

( و ) كيف كان : فان عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( هو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : « اكرم العلماء أو المؤمنين » ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ) .

ولا يخفى ما فيه: فان المولى إذا أعطى لعبده مالاً وقال له : اعطه لكل علماء قم المقدّسة ، لزم عليه الفحص عنهم حتى إنه إذا لم يعط أحدهم كان معاقبا عند المولى .

هذا ( إلاّ انّه قد يترائى : انّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى انّ بنائهم على الفحص عن اُولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً ) من دون أن يفحص عن واحد واحد

ص: 316


1- - أوثق الوسائل : ص409 وجوب الفحص في اجراء الأصل في الشبهات الحكمية وعدمه .

مع احتمال وجود غيرهم في البلد .

قال في المعالم : في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق : « ان وجوب التثبّت فيها متعلق بنفس الوصف ، لا بما تقدّم العلم به منه .

ومقتضى ذلك

-------------------

منهم ( مع احتمال وجود غيرهم ) أي : غير المعلوم لديه ( في البلد ) ابتداءً .

وكذلك إذا قال المولى لعبده وهو في المعركة : جهّز كل مسلم قتل في المعركة، فاشتبه المسلم بالكافر ، فان عليه الفحص عن المسلم منهم للقيام بتجهيزه ودفنه ، وليس له أن يجري البرائة قبل الفحص مقتصرا على المعلوم منهم ابتداءً .

ثم إنّ المصنِّف ذكر كلام صاحب المعالم وصاحب القوانين دليلاً على وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية فقال :

( قال في المعالم في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق ) فان الآية تقول : « إن جائكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا » (1) فاذا علمنا ان زيدا فاسق ، وعمروا عادل ، وشككنا في خالد هل هو عادل أو فاسق ؟ وجب الفحص في خبر خالد ، لا أن نتركه بلا فحص لاحتمال فسقه ، ولا أن نعمل به بلا فحص لاحتمال عدالته .

قال : ( « ان وجوب التثبّت فيها ) أي: في الآية المباركة ( متعلق بنفس الوصف ) أي: بالفاسق الواقعي ، فالفاسق الواقعي يتثبّت في خبره ( لا بما تقدّم العلم به منه ) أي : لا بالفاسق الذي علم المكلّف بأنه كان فاسقا فقط .

( ومقتضى ذلك ) أي : مقتضى تعلّق التثبت بالفاسق الواقعي لا بمن علم انه

ص: 317


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه » ، ألا ترى أنّ قول القائل : « أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلاً - درهما » يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين، لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه » ، انتهى .

وأيّد ذلك المحقق القمي قدس سره في القوانين ب« أن الواجبات المشروطة بوجود شيء

-------------------

فاسق ( إرادة الفحص والبحث عن حصوله ) أي : حصول وصف الفسق فيه ( وعدمه » ) أي : عدم حصول وصف الفسق فيه واقعا ، وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا للمعلومة ، فاذا علّق المولى الحكم على لفظ وجب أن نفحص عن مصاديق ذلك اللفظ .

( ألا ترى انّ قول القائل : « أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلاً - درهما يقتضي إرادة ) هذا القائل ( السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين ) البلوغ والرشد ، سواء علم المكلّف بهما حال الأمر ، أم لم يعلم بهما ؟ .

( لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما ) أي : باجتماع الوصفين ( فيه » (1) ، انتهى ) كلام المعالم .

( وأيّد ذلك ) أي : أيد وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية ( المحقق القمي قدس سره في القوانين ) مستدلاً عليه : ( بأن الواجبات المشروطة بوجود شيء ) مثل وجوب التبين للنبأ المشروط بفسق المنبيء ، ومثل وجوب الحج المشروط بالاستطاعة ، ومثل وجوب الخمس والزكاة المشروطين بالزيادة عن المؤنة والنصاب ، إلى غيرها من الأمثلة ، فانه قال :

ص: 318


1- - معالم الدين : ص201 .

إنّما يتوقف وجوبُها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ مَن شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج ، لعدم علمه بمقدار المال ، لايمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبةُ ماله ليعلمَ أنّه واجدٌ للاستطاعة أو فاقد لها .

-------------------

( إنّما يتوقف وجوبها ) أي : وجوب تلك الواجبات المشروطة ( على وجود الشرط ) واقعا ( لا على العلم بوجوده ) حتى يأتي المكلّف بما علم وجود الشرط فيه ، ويترك ما لم يعلم وجود الشرط فيه من الافراد المشكوكة .

إذن : ( ف ) الواجب المشروط ( بالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ) لأن الشارع قال : حج إن استطعت ، ولم يقل حج ان علمت بالاستطاعة ، فالواجب على المكلّف حينئذ الفحص حتى يعلم هل انه مستطيع أو ليس بمستطيع ؟ وذلك كما قال :

( مثل انّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : انّي لا أعلم انّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ) فيترك الحج لشكه هذا ( بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم انّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها ) .

كذلك حال من لا يعلم هل ان بدنه يتحمّل هذا السفر الطويل أم لا؟ فاللازم الفحص عن ذلك ، كما انه يجب الفحص بالنسبة إلى الصحة البدنية في باب الصوم وكذا بالنسبة إلى تخلية السرب وأمن الطريق في الحج ، وذلك فيما لم يكن له حالة سابقة ، كما في توارد الحالتين ، فاذا تواردت حالتان : من الأمن والخوف في الطريق - مثلاً - وجب الفحص إذ لا حالة سابقة حتى تستصحب ، فان مع توارد الحالتين لا إستصحاب .

ص: 319

نعم ، لو شك بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » .

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه .

وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفةٌ في فروع هذه المسألة ، فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم ، بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغَ الخالص نصابا وشك في مقداره

-------------------

ثم قال القوانين : ( نعم ، لو شك بعد المحاسبة في انّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » (1) ) .

لكن لا يخفى : ان هذا أيضا محل تأمل ، فان من الزلام الفحص لتحصيل العلم بأن هذا المقدار من المال كمائة دينار - مثلاً - هل يكفي للحج أو لا يكفي ؟ فلا وجه للتفصيل بين الفحصين .

( ثم ذكر ) القوانين ( المثال المذكور في المعالم ) وهو : مثال التثبت في الآية المباركة ( بالتقريب المتقدم عنه (2) ) أي : عن المعالم .

( وأمّا كلمات الفقهاء ) بالنسبة إلى وجوب الفحص وعدمه في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( فمختلفةٌ في فروع هذه المسألة ) في مختلف أبواب الفقه .

( فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم : بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها ) أي : بغير الفضة بحيث كان الخلط زائدا على المتعارف ، إذ هناك قدر متعارف يحتاج اليه الدينار والدرهم ، امّا إذا كان زائدا على المتعارف ( وعلم بلوغ الخالص نصابا ) زكويا ( وشك في مقداره ) بأنه هل بلغ النصاب الثاني أو الثالث أم لا ؟ وجب عليه أحد أمرين كما قال :

ص: 320


1- - معالم الدين : 201 .
2- - القوانين المحكمة : ص224 .

وجب التصفية ، لتحصيل العلم بالمقدار ، أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البرائة .

نعم ، إستشكل في التحرير في وجوب ذلك ، وصرّح غير واحد من هؤلاء - مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب - ، بأنّه لا يجب التصفية ، والفرق بين المسألتين مفقودٌ إلاّ ما ربما يتوهّم : من أنّ العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب ،

-------------------

( وجب التصفية ) إذا لم يمكن العلم بمقدار الخالص عن طريق آخر ، ووجوب التصفية إنّما هو ( لتحصيل العلم بالمقدار ) الخالص من الفضة حتى يؤدي زكاته حسب ما بلغ من النصاب .

( أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البرائة ) بأن يعطي الزائد على المتيقن .

( نعم ، إستشكل في التحرير في وجوب ذلك ) أي : في وجوب أحد الأمرين : من الفحص أو الاحتياط ، واحتمل كفاية إخراج ما يتيقن وجوبه ، لا ما يتيقن معه البرائة .

هذا ( وصرّح غير واحد من هؤلاء - مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب - : بأنّه لا يجب التصفية ) بل يجري البرائة عن وجوب أصل الزكاة .

( والفرق بين المسألتين ) : عدم العلم بمقدار النصاب ، وعدم العلم ببلوغه النصاب ( مفقود ) لأن كلاً منهما شبهة موضوعية وجوبية ، فامّا ان يجب الفحص فيهما معا أو لا يجب الفحص فيهما معا ، فلا فارق بين المسألتين ( إلاّ ما ربما يتوهّم : من انّ العلم بالتكليف ثابت ) إجمالاً ( مع العلم ببلوغ النصاب ) والشك في مقداره ، فيلزم الخروج عن عهدة التكليف الثابت ، فيكون من الشك في المكلّف به - مثلاً - .

ص: 321

بخلاف ما لم يعلم به .

وفيه : أنّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ودوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلاً ، ألا ترى أنّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ،

-------------------

( بخلاف ما لم يعلم به ) أي : ببلوغه النصاب أصلاً ، فيكون من الشك في التكليف - مثلاً - فيجري فيه البرائة عن وجوب أصل الزكاة ، لكن قد عرفت ان هذا الفارق المتوهم غير فارق كما قال :

( وفيه ) أوّلاً : ( انّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ) لأنّ المفروض : انه يعلم بلوغ النصاب الأوّل ولا يعلم الزائد عليه ، فاللازم أن يأتي بالقدر المتيقن ويجري البرائة عن الزائد .

( و ) فيه ثانيا : ان العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع ( دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) ( مع كون الزائد على تقدير وجوبه ) أي : تقدير وجوب ذلك الزائد ( تكليفا مستقلاً ) غير ارتباطي .

إذن : فالعلم بالنصاب فيما نحن فيه يكون من قبيل الدَّين المردّد بين الدينار والدينارين ، لا من قبيل الصلاة المرددة بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فانه حتى ولو قلنا بالاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا نقول بالاحتياط في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وما نحن فيه من قبيل الاستقلاليين ، فاذا شك في الزائد كان اللازم عليه إعطاء الأقل وإجراء البرائة عن الأكثر .

( ألا ترى انّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ) بل يجري البرائة من الزائد .

لكنّا ذكرنا سابقا : إنّ الاحتياط واجب في هذا المورد أيضا ، لأن الاحتياط

ص: 322

يمنع من إجراء البرائة قبل الفحص لمنع منها بعده ، إذ العلم الاجمالي لايجوز معه الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص .

-------------------

طريق العقلاء في الاطاعة فاذا شك في انه مديون لزيد دينار أو دينارين وهو يتمكن من المراجعة والفحص فهل يقال بالبرائة عن الدينار المشكوك فيه؟ وكذا إذا شك في ان ثلث والده مائة دينار ، أو مائتا دينار ، فهل يقال بالبرائة من المائة المشكوك فيها؟ إلى غيرها من الأمثلة .

وفيه ثالثا : ان العلم بالنصاب هنا لا يلزم منه علم إجمالي معتبر حتى يوجب الاحتياط قبل الفحص الاجمالي غير المعتبر ( يمنع من إجراء البرائة قبل الفحص لمنع منها ) أي : من البرائة ( بعده ) أي : بعد الفحص أيضا ( إذ العلم الاجمالي ) المعتبر ( لا يجوز معه الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ) .

والحاصل : إنه إذا كان هناك أقل وأكثر ، وكان الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كان الزائد موردا للبرائة ، لأنه من الشك في التكليف .

وامّا إذا لم يكن هناك قدر متيقن بأن كان الواجب مشتبها بينهما ، كان المورد من الشك في المكلّف به ، فلا يرجع فيه إلى البرائة حتى بعد الفحص ، إذ حال قبل الفحص وبعده سواء، لأن الفحص ليس له موضوعية، وإنّما الموضوعية تكون للشك في التكليف أو المكلّف به، فانه مع العلم بنجاسة أحد الانائين - مثلاً - الذي هو شك في المكلّف به ، لا يجوز الرجوع إلى البرائة حتى بعد الفحص إذا كان الشك في النجس باقيا على حاله ، بينما الشك في حرمة التتن الذي هو شك في التكليف يرجع فيه بعد الفحص إلى البرائة وان كان الشك فيه باقيا .

إذن : فالحكم بعدم جواز إجراء الأصل قبل الفحص ، وجوازه بعده ، ليس على وتيرة واحدة في مورد العلم الاجمالي .

ص: 323

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : « ولو شك في البلوغ ، ولامكيال هنا ولاميزان، ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب »، انتهى .

وظاهره : جريان الأصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم .

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

-------------------

هذا ، لكن لا يخفى ان مرادهم من الفحص الذي لا يجوز العمل قبله هو : الفحص الذي يرتفع به الشك في المكلّف به ويتبدل إلى الشك في التكليف بالنسبة إلى الزائد ، امّا إذا بقي الشك على حاله فاللازم الاحتياط كما هو طريق الطاعة .

( وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : ولو شك في البلوغ ) أي : بلوغ غلّته بقدر يجب فيه الزكاة أم لا ( ولا مكيال هنا ، ولا ميزان ، ولم يوجد ) بعدها ميزان ولا مكيال حتى يكتشف بهما بلوغ غلته النصاب ، وعدم بلوغها ( سقط الوجوب دون الاستحباب » (1) ، انتهى ) كلام التحرير .

( وظاهره : جريان الأصل ) في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( مع تعذر الفحص و ) تعذر ( تحصيل العلم ) .

لكن يمكن أن يقال في هذا الفرع : بالتنصيف بين مالك الغلة ومستحق الزكاة ، وذلك لقاعدة العدل ان قلنا بأنها طريق إمتثال التكليف والطاعة في الاُمور المالية ، وذلك للفرق بين أن يشك الانسان في انه هل عليه قضاء أم لا؟ أو ان القضاء الذي عليه خمسة أو عشرة؟ حيث يجري البرائة عن أصل القضاء في الأوّل وعن الزائد في الثاني ، وبين ان يشك الانسان في حقوق الناس كما نحن فيه .

( وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

ص: 324


1- - تحرير الأحكام : ص62 .

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكلٌ .

وأشكل منه : فرقُهم بين الموارد، مع ما تقرّر عندهم: من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر .

وأمّا ما ذكره صاحب المعالم رحمه اللّه وتبعه عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه ، وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ،

-------------------

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل ) كما في مثل الشك في الاستطاعة ، والشك في الزائد على النصاب الأوّل - مثلاً - ووجه الاشكال هو ما تقدّم : من جريان البرائة في الشبهة الموضوعية الوجوبية لاطلاق أدلتها .

( وأشكل منه : فرقهم بين الموارد ) على ما عرفت : من انهم فرّقوا بين الشك في أصل النصاب ، فلم يوجبوا الفحص فيه ، والشك في النصاب الزائد ، فأوجبوا الفحص فيه ، مع انه لا فارق بين المسألتين ، لأن كلتيهما من الشبهة الموضوعية الوجوبية فتفريقهم بينها مشكل ( مع ما تقرّر عندهم : من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) خصوصا في غير الارتباطيين .

( وأمّا ما ذكره صاحب المعالم وتبعه عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع ) الذي هو الفاسق ( الواقعي ) ذلك التعلق ( المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ) منه ابتداءً ، وذلك على ما عرفت تفصيله فيما سبق (1) ( فلا يخفى ما فيه ) .

ص: 325


1- - انظر معالم الدين : ص201 .

لأن ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك ، وإلاّ لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين فيه ،

-------------------

وإنّما قال : لا يخفى ما فيه ( لأن ردّ خبر مجهول الحال ) وان كان قطعيا ، لكنه ( ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك ) في الموضوع من فسق الخبر وعدمه بل ردّه مبني على اشتراط قبول الخبر بعدالة المخبر .

( وإلاّ ) بأن كان الرد مبنيا على وجوب الفحص عند الشك في الموضوع ( لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ) أي : بحال المخبر ، وانه فاسق أم لا ؟ .

( كما لا يجب الاعطاء ) للزكاة ( في المثال المذكور ) من نصاب الغلاّت ( بعد الفحص عن حال المشكوك ) وهو : مقدار الغلّة ( وعدم العلم ) بحاله فان التكليف بالزكاة ينتفي ( باجتماع الوصفين ) : الفحص واليأس عند الشك ( فيه ) أي : في بلوغ الغلّة مقدار النصاب أم لا؟ وحينئذ كما لا يجب الزكاة بعد الفحص هنا كذلك لا يجب التبين في الخبر بعد الفحص هناك .

والحاصل : ان صاحب المعالم يقول : ان الفحص لازم لأن في الآية تعليق ، والمصنِّف يقول : ان الفحص لازم ، لأن الأصل عدم الحجية ، فيكون لازم قول المعالم : انه يجوز الأخذ بالخبر وان لم يظهر : بعد الفحص انه عادل بل بقي مجهولاً ، بينما لازم قول الشيخ المصنّف : انه لا يجوز الأخذ به إذا لم يظهر بعد الفحص انه عادل ، لأن الأصل عدم الحجية ، فما لم تثبت الحجية لا يجوز الأخذ به .

ص: 326

بل وجهُ ردّه قبل الفحص وبعده أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومرجعه إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبيّن فيه بعدالة المخبر .

فاذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه ، والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه عدم القبول ، لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته .

-------------------

وعليه : فان وجه الرد لخبر مجهول الحال ليس هو وجوب الفحص عند الشك في الموضوع حتى يلزم قبوله بعد الفحص واليأس عن معرفة حاله ( بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده ) أي : سواء لم نفحص عن حال المخبر المجهول الحال أم فحصنا عن حاله ولم نعرف انه فاسق أو عادل فانه يجب ردّ خبره .

وأما وجه ردّه فهو : ( أنّ وجوب التبيّن ) في خبر الفاسق ليس وجوبا نفسيا كوجوب الزكاة حتى ينتفي بعد الفحص واليأس عنه ، بل للتبين وجوب ( شرطي ، ومرجعه ) أي : مرجع الوجوب الشرطي ( إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه ) أي : ( من دون اشتراط التبيّن فيه ) فان قبوله مشروط ( بعدالة المخبر ) فقط .

وعليه : ( فاذا شك في عدالته ) كان معناه : انه ( شك في قبول خبره في نفسه ) ومن دون اشتراطه بالتبين ( والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه ) عند العمل هو : ( عدم القبول ) وردّ الخبر سواء فحص عن حال المخبر ولم يصل إلى انه عادل أو فاسق ، أو لم يفحص عنه؟ ( لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته ) .

إذن : فالتبيّن في خبر مجهول الحال وردّه بعد الفحص لو حصل له اليأس عن معرفة حاله قطعي ، إلاّ ان وجهه ليس ما ذكره المعالم ، بل هو ما ذكره المصنِّف بقوله : «بل وجه ردّه ان وجوب التبين شرطي .. » .

ص: 327

ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص ، أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص ثم العمل بالبرائة ،

-------------------

( ثم ) ان المصنِّف لما نقل عن المشهور عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية ، ونقل عن المعالم وغيره ما يظهر منهم وجوب الفحص ، فصّل هو في المسألة بين ما يقع المكلّف بسببه في مخالفة التكليف كثيرا فألزم فيه الفحص ، وبين ما ليس كذلك فلم يلزم الفحص فيه فقال :

إن ( الذي يمكن ان يقال في وجوب الفحص ) في الشبهات الموضوعية الوجوبية هو : ( انّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص ) وأخذ بالبرائة ( لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ) فحيث انا نعلم بأن الشارع لا يرضى لنا ذلك ( تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص ) أولاً ( ثم العمل بالبرائة ) إذا لم يؤدّ الفحص إلى العلم به .

مثلاً : عدم الفحص عن أصل النصاب أو مقداره ، وعن الزيادة في المؤنة في باب الخمس وعدمها ، وعن الاستطاعة المالية والبدنية وتخلية السرب في الحج وعدمها ، وغير ذلك توقع كثيرا في مخالفة التكليف .

وكذا عدم الفحص عند الزواج فيما إذا تداول الرضاع بين قبيلة ، فانه يوقع كثيرا من أهل تلك القبيلة في الزواج المحرّم فيجب فيها الفحص ، وهذه الأمثلة للفحص نوعا .

وقد يكون الفحص من جهة الشخص ، كما إذا كان هناك شخص قد تمتع بجملة من نساء القرية بحيث أصبح في كل ثلاث منهنّ متعة - فرضا - فان

ص: 328

كبعض الأمثلة المتقدمة .

فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص الجاهل إلاّ بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البرائة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عُدّ مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد .

ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ،

-------------------

ابن ذلك الشخص إذا أراد أن يتزوج من تلك القرية لزم عليه الفحص حتى لا تكون التي يريد زواجها زوجة أبيه ، و ( كبعض الأمثلة المتقدمة ) .

وعليه : ( فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص ) المأمور بضيافتهم ( الجاهل ) لهم ( إلاّ بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البرائة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عدّ ) هذا الشخض ( مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به ) تمكنا ( بفحص زائد ) .

وإنّما يعدّ مستحقا للعقاب على ذلك لأنه لو فحص لظفر على علماء أو أطباء أكثر مما كان يعلمهم قبل الفحص .

( ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ) وكذا بالنسبة إلى مثل الخمس والزكاة أصلاً ومقدارا .

ص: 329

فلو بنى الأمر على تركها ونفى وجوب الحج بأصالة البرائة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، لكنّ الشأن في صدق هذه الدعوى .

-------------------

وعليه : ( فلو بنى الأمر على تركها ) أي : ترك المحاسبة ( ونفى وجوب الحج ) عنه ، أو نفى الخمس والزكاة - مثلاً - ( بأصالة البرائة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ) ولزم ترك الخمس والزكاة رأسا ، وذلك فيمن لا يعلم هل ربح شيئا أم لا في الخمس؟ أو هل بلغت غلّته مقدار النصاب أم لا في الزكاة؟ ولزم ترك مقدار من الخمس والزكاة فيمن علم الأقل وشك في الأكثر وذلك بالنسبة إلى كثير من الناس .

( لكنّ الشأن ) والكلام إنّما هو ( في صدق هذه الدعوى ) أي : دعوى لزوم تأخير الحج ، وترك الخمس والزكاة وغير ذلك من الواجبات المتوقفة على المحاسبة بالنسبة إلى كثير من الناس ، فان لم تكن الدعوى صادقة ، فهل يعدّ اجراء البرائة في مثلها مخالفة للمولى وخلاف طريقه العقلاء؟ وان كانت الدعوى صادقة، فلماذا اشتهر بينهم عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية ؟ .

هذا إضافة إلى انه ينتفض بمثل « كل شيء حلال » (1) و « كل شيء طاهر » (2) و « الأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة » (3) و « لم سألت ؟ » (4)

ص: 330


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج7 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم : من أنّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، ففيه : أنّه مسلّم ولا يجدي ، لأنّ الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجود المشروط وثبوت التكليف ، والأصل عدمه .

غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء واشتراطه بالعلم به ، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية يقطع بانتفاء التكليف

-------------------

في النكاح حيث يقع في قلبه انها ذات زوج وغير ذلك ، مع وضوح : انه إذا حكم بالحل والطهارة أدّى إلى مخالفة الواقع كثيرا .

( وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم ) أي : القمي قدس سره ( : من انّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط ) واقعا ، فيلزم الفحص حتى يتبين ان الشرط موجود واقعا أم لا ( لا العلم بوجوده ) فقط ، فانه لا يكفي العلم بوجود الشرط من دون تحققه واقعا .

( ففيه : انّه مسلّم ) لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة للانسان ( و ) لكن هذا المقدار ( لا يجدي ) في إيجاب الفحص عند الشك في الشبهة الوجوبية الموضوعية ( لأنّ الشك في وجود الشرط ) وعدمه واقعا ، لا يوجب الفحص ، بل ( يوجب الشك في وجود المشروط و ) في ( ثبوت التكليف ) فانّ الشك في الشرط شك في المشروط . ( والأصل عدمه ) أي : عدم المشروط وعدم التكليف .

( غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء ) واقعا ( واشتراطه بالعلم به ) أي : العلم بوجود الشيء فقط ، فان بينهما فرقا ( إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية ) أي : صورة اشتراط الشيء بالعلم به ( يقطع بانتفاء التكليف )

ص: 331

من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاُولى يشك فيه ، فينفى بالأصل .

-------------------

لأن العلم لما لم يكن موجودا لم يكن المشروط موجودا ( من دون حاجة إلى الأصل ) بأن يجري أصل البرائة حتى ينفي بسببه التكليف .

( وفي الصورة الاُولى ) وهي : اشتراط التكليف بوجود الشيء واقعا ، فانه ( يشك فيه ) أي : في التكليف فيحتاج في إحراز عدمه اإلى إجراء أصل البرائة ( فينفى بالأصل ) .

مثلاً : إذا قال المولى : يجب عليك الحج ان علمت الاستطاعة ، بأن كان الشرط : العلم ، فاذا لم يعلم بها قطع بعدم الحج عليه ، لأنه لم يقطع بعدم حصول الشرط ، فيحتاج لاحراز عدم الحج عليه إلى إجراء البرائة حتى يقطع بعدم وجوب الحج عليه .

إذن : فهناك بين الصورتين فرق ، ففي الاُولى يعلم بعدم الشرط فيقطع بعدم المشروطة ، وفي الثانية : يشك في عدم الشرط ، وعند الشك يحتاج إلى أصل البرائة .

وممّا ذكرنا : يظهر وجوب الفحص عن البلوغ وعدمه ، وعن الاحتلام في النوم وعدمه ، وعن خروج الدم من بدنه إذا كان فيه قرح أو جرح ، ما أشبه ذلك ، وعن التصاق شيء بموضع وضوئه أو غسله من قير ونحوه إذا كان عمله - مثلاً - يقتضي ذلك ، وعن حصول الحيض والاستحاضة وعدمه ، وعن الحمل وعدمه ، إلى غيرها مما يكون إحتمال الاُمور المذكورة فيها قريبا .

هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية بعد بيان حكم الفحص في الشبهة الموضوعية أيضا .

ص: 332

وأمّا الكلام في مقدار الفحص

فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة ، ويختلف ذلك باختلاف الأعصار ، فانّ في زماننا هذا إذا ظنّ المجتهد بعدم

-------------------

( وأمّا الكلام في مقدار الفحص ) وانه هل يجب إلى ان يقطع بأنه لا دليل ، أو يظن بذلك أو يطمئن بعدمه؟ احتمالات ثلاثة .

الظاهر هو : الثالث كما قال : ( فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة ) واليأس يحصل بالاطمينان بالعدم .

هذا ( ويختلف ذلك ) اليأس ( باختلاف الأعصار ، فانّ في ) زمان النبي صلى اللّه عليه و آله كان مقدار الفحص عن الحكم بالنسبة إلى من كان عند الرسول حضور مجلسه والسؤال عنه ، وبالنسبة إلى من كان في البلاد البعيدة عن الرسول كالبحرين واليمن وما أشبه الرجوع إلى نائبه .

وكذا في إعصار الأئمة عليه السلام ، فان على معاصريهم الرجوع اليهم والسؤال عنهم ، أو السؤال عن الوسائط المعتبرة الذين أمروا عليهم السلام بالرجوع إليهم حيث قالوا : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » (1) أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة كالاُصول الأربعمائة التي كتبت في زمانهم عليهم السلام .

إذن : فحال اُولئك حال العوام في زماننا حيث انهم مأمورون بالسؤال عن الفقيه ، أو من يعرف فتواه وهو ثقة ، أو الرجوع إلى رسالته العملية .

وأمّا في ( زماننا هذا ) بالنسبة لمن يريد الاجتهاد ، فانه ( إذا ظنّ المجتهد بعدم

ص: 333


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ، على وجه صار ميؤوسا ، كفى ذلك منه في اجراء البرائة .

-------------------

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث ) كعيون أخبار الرضا ، وكمال الدين ، وأمالي الصدوق ، وغيرها من الكتب ( التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ) فان المجتهد إذا راجعها وظن ظنا اطمينانيا بعدم الدليل ( على وجه صار ميؤوسا ) من الدليل ( كفى ذلك منه في اجراء البرائة ) لكن مع إضافة كتب الفتوى في كل زمان اليها .

وإنّما قلنا مع إضافة كتب الفتوى حتى يعلم ان الخبر - مثلاً - مشهور ، أو معرض عنه ، أو مجمع عليه ، أو مجمع على خلافه ، وغير ذلك مما هو موجود في أمثال كتب الشيخ وابن إدريس والفاضلين والشهيدين ومن إليهم ، وفي زماننا أمثال الجواهر والحدائق والمستند وما إلى ذلك أيضا ، ويضاف عليه معرفة الرجال بقدر الحاجة ، فان اللازم هو الفحص بقدر ما يراه العقلاء لازما ، والعقلاء لا يرون اللزوم بأكثر من هذا .

لا يقال : لا شك في ان الأحكام ما كانت بالقدر الكافي في زمانهم عليهم السلام ، كما لاتحصل بالقدر الكافي بالنسبة إلى كثير من الناس حتى في زماننا هذا ، خصوصا بالنسبة إلى أهل القرى والأرياف .

لأنّه يقال : ان اللّه سبحانه جعل الأحكام حسب المصالح والمفاسد ، ولذا كان لكل شيء حكم ، امّا من لا يقدر على تحصيله بالطرق المتعارفة فهو معذور ، كما انه ليس على المجتهد أكثر من الاطمينان .

ومنه يظهر جواب انه لماذا كان الاجتهاد سهلاً بالنسبة إلى زمان الشيخ

ص: 334

وأمّا عدم وجوب الزائد ، فللزوم الحرج وتعطيل استعلام سائر التكاليف ، لأن إنتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقايع ،

-------------------

وما بعده، صعبا بالنسبة إلى زماننا؟ فان جوابه : ان الاطمينان كان يحصل بالشيء القليل في ذلك الزمان ، ولا يحصل بمثله في هذا الزمان حيث توسع فيه الفقه والاُصول والرجال وما أشبه ، فيكون مثله مثل شخصين : أحدهما في البلد والآخر في القرية حيث يحصل الاطمينان لمن في القرية بطبيب القرية ، بينما لا يحصل الاطمينان لمن في البلد بطيب القرية .

والحاصل : ان حكم اللّه لم يتغير بالنسبة إلى الناس ، وإنّما الذي يتغير هو الامكانات ، سواء بالنسبة إلى المجتهد أم المقلد ، وهذا جار في كل شيء حتى في العاديات ، فان ضيافة الشخص الكريم في الصحراء لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه ضيافة نفس ذلك الشخص في البلد .

( وامّا عدم وجوب الزائد ) ما ذكرناه من مقدار الفحص وهو : كفاية حصول الاطمينان وعدم وجوب تحصيل العلم بعدم الدليل ( فللزوم الحرج ) من ذل أولاً وهو واضح ( وتعطيل استعلام سائر التكاليف ) ثانيا .

وإنّما يستلزم الفحص الزائد تعطيل معرفة بقية الأحكام ( لأن إنتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف ) أي : بأن لا نكتفي بالمقدار الذي يحصل منه الاطمينان بعدم الدليل في تلك الواقعة بل نوجب تحصيل العلم في كل واقعة ، فانه ( يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقايع ) .

ص: 335

فيجب فيها إمّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر ، وإمّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه .

وجواز ممنوع ، لأنّ هذا المجتهد المتفحّص ربما يخطّيء ذلك المجتهد في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة .

نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان

-------------------

وعليه : فيلزم من ذلك ان يتجزأ المجتهد في اجتهاده ، وذلك بأن يجتهد في واقعة واحدة كالطهارة - مثلاً - فقط ، أو الصلاة فقط ، وهكذا ، وأما في سائر الوقايع التي حرم من الاطلاع على أدلتها ( فيجب فيها ) أي : في تلك الوقايع عليه أحد أمرين :

( امّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر ) والحرج وهو خلاف سيرة المتشرعة ، بل خلاف سيرة جميع أهل الأديان .

( وامّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه ) فيلزم على المجتهد العظيم مثل الشيخ المرتضى الذي اجتهد في المكاسب فقط - مثلاً - ان يقلد مجتهدا من الدرجة الثانية في غيرها ( وجواز ممنوع ) .

وإنّما قال بمنع جوازه ( لأن هذا المجتهد المتفحّص ) في واقعة واحدة عن دقة واستقصاء ، كالشيخ في المثال ( ربما يخطّى ء ذلك المجتهد ) الذي يريد تقليده ( في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة ) فان من المعلوم : ان الشيخ المرتضى أعلم في الاُصول وسائر أدلة الاستنباط من المجتهد الذي هو من الدرجة الثانية ، فكيف يطمئن الشيخ بتقليد ذلك المجتهد؟ أم كيف يؤمر شرعا بأن يقلّد الشيخ مثل هذا المجتهد ؟ .

( نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد ) فرضا ( وكان

ص: 336

التفاوت بينهما أنّه اطلّع على ما لم يطّلع هذا ، أمكن أن يكون قوله : حجة في حقّه .

لكن اللازم أن يتفحص حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد ، فان كان مذهبه مطابقا للبرائة ،

-------------------

التفاوت بينهما انّه اطلّع على ما لم يطّلع هذا ) أي : الشيخ مثلاً عليه ( أمكن ان يكون قوله : حجة في حقّه ) .

لكنه أيضا محل تأمل ، لأن حجية قول مجتهد لمجتهد آخر ، وخبير لخبير آخر، هو خلاف بناء العقلاء بالنسبة إلى المجتهدين والخبراء سواء في مسائل الدين كأحكام الصلاة والصيام ، والخمس والزكاة ، والحج والجهاد ، وغيرها ، أم مسائل الدنيا كمسائل الحساب والهندسة ، والتاريخ والجغرافيا ، والاقتصاد والسياسة ، وغيرها ، ولعله من أجل هذا قال الشيخ أمكن ولم يقل لزم ؟ .

( لكن اللازم ان يتفحص ) هذا المجتهد الذي يريد الرجوع إلى مجتهد آخر ( حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم ) انه إذا فحص بهذا المقدار كان له بعدها ( الرجوع إلى هذا المجتهد ) الذي فرضنا انه من الدرجة الثانية .

وإنّما يلزم عليه الفحص أولاً ثم الرجوع إلى مجتهد آخر على فرض جوازه لأن الرجوع إلى مجتهد آخر إنّما هو للاضطرار ، والمتيقن منه هو صورة الفحص بنفسه إلى حد اليأس .

ثم إنّ هذا المجتهد الذي فحص حتى ظن بعدم الدليل في تلك الوقايع ورجع فيها إلى مجتهد آخر ( فان كان مذهبه ) أي المجتهد الثاني ( مطابقا للبرائة ،

ص: 337

كان مؤيّدا لما ظنه من عدم الدليل ، وإن كان مذهبه مخالفا للبرائة ، كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف ، فان لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار ، اُخِذَ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته .

ومن هذا القبيل ما حكاه غيرُ واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص .

-------------------

كان مؤيّدا لما ظنه ) المجتهد الأوّل ( من عدم الدليل ) على تلك الوقايع ( وان كان مذهبه مخالفا للبرائة ، كان ) المجتهد الثاني ( شاهد عدل على وجود دليل التكليف ) فيها .

وعليه : ( فان لم يحتمل ) المجتهد الأوّل ( في حقه ) أي : في حق المجتهد الثاني ( الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار ) وإنّما اعتمد على الأخبار بنصوصها مثل الشيخ في نهايته ، والمفيد في مقنعته ، والصدوق في مقنعه ، ومن أشبههم من الذين كانوا يفتون حسب نصوص الروايات ( أخذ بقوله في وجود دليل ، وجعل فتواه كروايته ) .

وحينئذ : لا يكون رجوع الشيخ المرتضى - مثلاً - إلى نهاية الشيخ الطوسي من قبيل رجوع العامي إلى رسالة المجتهد ، إذ النهاية نصوص ، بخلاف رسالة المجتهد ، فانها خليط من النص والاجتهاد .

( ومن هذا القبيل ) أي : من قبيل رجوع المجتهد إلى كتب القدماء التي هي نصوص منقولة بالمعنى ومحذوف منها الاسناد ( ما حكاه غير واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص ) وهكذا كان حال رجوعهم إلى المقنع ، والمقنعة ،

ص: 338

والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ، وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه وتعيّن العملُ بالبرائة .

-------------------

وما أشبه ذلك .

( والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ) فان مع وجود الروايات المنصوصة المنقولة باللفظ ، لا يرجع إلى الروايات الفتوائية المنقولة بالمعنى .

وإنّما لا يرجع إلى هذه مع وجود تلك ، لأن في الروايات الفتوائية قد تدخل الاجتهاد أيضا حيث صار التقطيع فأوجب اختفاء القرائن كثيرا ، وحذف رجال الاسناد وغير ذلك ، ولهذا يقدّم الرجوع إلى نصوص الروايات الموجودة في كتب الأحاديث على الرجوع إلى هذه الكتب التفوائية .

هذا كله فيما لو لم يحتمل المجتهد الأوّل اعتماد المجتهد الثاني على الحدس والعقل ( وان احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ) فحينئذ ( لم يكن دليل على اعتباره في حقّه ) أي : في حق هذا المجتهد كالشيخ المرتضى الذي يريد الرجوع إلى شيخ الطائفة في فتواه - مثلاً - ( وتعيّن العمل بالبرائة ) في حقه .

وإنّما لا يجوز له الرجوع إليه ، لأن ذلك من رجوع العالم إلى العالم وهو غير جائز ، وليس من رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو واجب عقلاً وشرعا .

ص: 339

تذنيب :

ذكر الفاضل التوني لأصل البرائة شروطا :

الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اُخرى ، مثل أن يقال ، في أحد الانائين المشتبهين : الأصلُ عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه يوجبُ الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ،

-------------------

( تذنيب : ذكر الفاضل التوني لأصل البرائة شروطا ) ولغير أصل البرائة أيضا ، فانه قال فيما حكي عنه : واعلم ان لجواز التمسك بأصالة برائة الذمة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث ، شروطا :

( الأوّل : ان لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اُخرى ) فان أصل البرائة إنّما هو لنفي الحكم ، فاذا اُريد به إثبات حكم آخر ، فلا يجري مثل هذا الأصل .

أما مثاله : فهو كما قال ( مثل ان يقال في أحد الانائين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه ) أي : جريان هذا الأصل غير صحيح ، لأنه ( يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ) بل يلزم في الانائين المشتبهين العمل على قاعدة الشبهة المحصورة وهو الاجتناب عن كليهما .

( أو ) مثل أصل ( عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ) وذلك كما إذا كان عندنا ماء قليل فزدنا عليه مقدارا من الماء حتى شككنا في كريته ، فاذا لاقى هذا الماء نجسا، فانه لا يصح لنا اجراء أصالة عدم بلوغ هذا الماء كرا حتى يقول بنجاسته ووجوب اجتنابه ، بل نجري في هذا الماء أصالة الطهارة .

ص: 340

أو عدم تقدّم الكرّية ، حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة ، فان أعمال الاُصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر أو الملاقي أو الماء .

أقول : توضيح الكلام في هذا المقام :

-------------------

( أو ) مثل أصل ( عدم تقدّم الكرّية حيث يعلم بحدوثها ) أي : بحدوث الكرّية ويشك في تقدمها ( على ملاقاة النجاسة ) فانه إذا علم إجمالاً بلوغ الماء كرا ، وحدوث الملاقاة للنجس ، ولم يعلم هل ان الكرّية كانت متقدمة على الملاقاة حتى يكون هذا الماء طاهرا ، أو الملاقاة حتى يكون هذا الماء نجسا؟ فانه لا يصح لنا اجراء أصالة عدم تقدّم الكرّية على ملاقاة النجاسة حتى نقول بنجاسة الماء ووجوب اجتنابه بل نجري في هذا الماء أصالة الطهارة .

وإنّما قال بعدم جريان الأصل في هذه الأمثلة الثلاثة لما ذكره بقوله : ( فان أعمال الاُصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر ) في المثال الأوّل ( أو الملاقي ) في المثال الثاني ( أو الماء ) في المثال الثالث وذلك غير جائز عنده .

ثم لا يخفى : ان ما جعله الفاضل التوني شرطا للعمل بأصل البرائة ، أراد به الأعم من أصل البرائة وإستصحاب العدم ، وأمثلته هنا واضحة ، فان أصالة عدم الماء كرا، وكذا أصالة عدم تقدّم الكرّية ، من قبيل الاستصحاب لا من قبيل البرائة ، بينما مثاله الأوّل من قبيل البرائة .

( أقول : توضيح الكلام في هذا المقام ) هو : ان الأصل ان كان موجبا لثبوت حكم آخر ، فاما ان يكون على نحو السبب والمسبّب ، بأن يساعد لاثبات موضوع حكم آخر ، فجريان الأصل فيه لا مانع منه ، واما ان يكون على نحو الملازمة ، بأن يثبت الحكم الآخر بالملازمة ، فجريان الأصل فيه مشروط بأن لا يكون معارضا بأصل آخر من جهة اُخرى ، لأنه إذا استلزم العمل بالأصل ، إثبات حكم شرعي

ص: 341

إنّ إيجاب العلم بالأصل لثبوت حكم آخر ، إمّا باثبات الأصل المعمول به لموضوع اُنيط به حكم شرعي ، كأن يثبت بالأصل برائة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال ، وافٍ بالحج من الدين ، فيصير بضميمة أصالة البرائة مستطيعا ، فيجب عليه الحج ، فانّ الدين مانع عن الاستطاعة ، فيدفع بالأصل

-------------------

من جهة اُخرى ، فأصل عدم هذا الحكم الشرعي يعارضه .

هذا ، ومن الواضح - كما سيأتي - ان اشتراط الفاضل التوني هنا مطلق ليشمل الاُصول الحاكمة ، والاُصول المحكومة ، والاُصول المعارضة أيضا؛ ولذلك قال المصنِّف في توضيحه ما يلي :

( إنّ إيجاب العلم بالأصل لثبوت حكم آخر ، إمّا ) على نحو السبب والمسبّب ، وذلك ( باثبات الأصل المعمول به لموضوع اُنيط به حكم شرعي ) يعني : ان الحكم الشرعي مترتب على موضوع يكون الأصل مساعدا لاثبات ذلك الموضوع من باب السبب والمسبب .

وعليه : فان مثل هذا الأصل لا بأس بجريانه وذلك ( كأن يثبت بالأصل برائة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال ، وافٍ ) ذلك المقدار ( بالحج ) فيثبت به البرائة ( من الدين فيصير ) هذا الشخص ( بضميمة أصالة البرائة مستطيعا فيجب عليه الحج ، فانّ الدين مانع عن الاستطاعة فيدفع ) الدين ( بالأصل ) .

وعليه : فانّ موضوع وجوب الحج هو المستطيع ، والاستطاعة تحصل بوجود المقتضي وهو المال ، وبعدم المانع وهو الدين ، لأنه لو كان مديونا وجب صرف ماله في الدين فلا يكون مستطيعا للحج .

إذن : فوجود المال محرز بالوجدان ، وكونه ليس مديونا يحرز بالأصل ، فيكون

ص: 342

ويحكمُ بوجوب الحج بذلك المال .

ومنه المثال الثاني ، فانّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرّا يوجب الحكم بقلّته التي اُنيط بها الانفعال .

وإما لاستلزام نفي الحكم به عقلاً أو شرعا أو عادة

-------------------

الأصل مساعدا لاثبات موضوع الاستطاعة ( ويحكم بوجوب الحج بذلك المال ) فانّ مثل هذا الأصل لا بأس به .

( ومنه المثال الثاني ) للفاضل التوني وهو : الشك في بلوغ الماء الذي لاقى النجس كرا وعدمه ( فانّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرّا ) إذا أجريناه هنا ( يوجب الحكم بقلته ) لأن كل ماء ليس بكر فهو قليل ، والقلّة هي ( التي اُنيط بها ) حكم ( الانفعال ) والتنجس بملاقاة النجاسة وهذا الأصل جار أيضا ، لأنه يساعد على إثبات موضوع النجاسة .

وعليه : فايجاب الأصل حكما آخر إما باثبات موضوع الحكم من باب السببية والمسببية ، فقد عرفت عدم المانع من جريانه .

( وإما لاستلزام نفي الحكم به ) أي : بالأصل إثبات حكم آخر على نحو الملازمة ( عقلاً ) وذلك مثل : دوران الأمر بين المحذورين ، إذ نفي أحد الضدّين يستلزم عقلاً إثبات الضدّ الآخر إذا كان الضدّان لا ثالث لهما ، كما في نفي الليل لاثبات النهار ، أو نفي النهار لاثبات الليل .

( أو ) الملازمة ( شرعا ) مثل : دوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، فان نفي وجوب أحدهما ملازم شرعا لاثبات وجوب الآخر ، لأنا نعلم بأن الواجب في يوم الجمعة امّا الظهر وامّا الجمعة .

( أو ) الملازمة ( عادة ) مثل : دوران الأمر بين تقدّم الكرّية والملاقاة ، فان نفي

ص: 343

ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين .

فانّ كان إيجابُه للحكم على الوجه الأوّل ،

-------------------

تقدّم أحدهما يستلزم عادة لا عقلاً - تقدّم الآخر ، لأن التقدم والتأخر ليسا ضدين لا ثالث لهما ، بل لهما ثالث وهو : التقارن بين الكرّية والملاقاة ، غير ان هذا التقارن لا يكون عادة ، فيكون أصالة عدم تقدّم الكرّية مستلزما عادة لتقدم الملاقاة فيثبت للماء حكم النجاسة الموجب للاجتناب .

وعليه : فاذا كان الأصل موجبا لاثبات حكم آخر على نحو الملازمة ، فالفاضل التوني يمنع من جريان هذا الأصل ( ولو في هذه القضية الشخصية ) وذلك لعدم الفرق بين أن تكون الملازمة كلية ، كما في الأمثلة المتقدمة : من العقلية والشرعية والعادية ، وبين أن تكون الملازمة في صغرى جزئية ، كما في مثال الأنائين حيث إتفق نجاسة أحدهما في الخارج .

والحاصل : ان الفاضل التوني يشترط في جريان الأصل بأنه لا يكون موجبا لثبوت حكم آخر سواء كان على نحو السبب والمسبب كما مر ، أم على نحو الملازمة بأن استلزم نفي الحكم بالأصل ( لثبوت حكم تكليفي ) آخر ( في ذلك المورد ) كما في أصل عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة المستلزم عادة لتقدم الملاقاة على الكرّية ، فيثبت حكم النجاسة لنفس هذا الماء ( أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين ) المستلزم عقلاً لوجوب الاجتناب عن ذلك الاناء الآخر لا نفس هذا الاناء .

لكن ليس الأمر على إطلاق ، كما قال ا لفاضل التوني ، بل فيه تفصيل أشار إليه المصنِّف بقوله : ( فانّ كان ) الأصل ( إيجابه للحكم ) الآخر ( على الوجه الأوّل )

ص: 344

كالمثال الثاني ، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ، لجريان أدلّته من العقل والنقل من غير مانع .

ومجرّد إيجابه لموضوع حكم وجودي آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ، كما لا يخفى على مَن تتبّع الأحكام الشرعية والعرفيّة .

-------------------

بأن كان على نحو السبب والمسبب ، وذلك ( كالمثال الثاني ) للمصنف وهو : أصل عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرا ، وأصل عدم كون المستطيع مديونا ، وغير ذلك من أمثلة السببية والمسببية ( فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ) .

وإنّما لا يكون مانعا ( لجريان أدلّته من العقل والنقل ) فان قبح العقاب بلا بيان دليل البرائة عقلاً ، وإثبات الاستطاعة بالأصل بيان ، فاذا ترك الحج حينئذ لم يكن عقابه من العقاب بلا بيان ، كما ان «رفع ما لا يعلمون» دليل البرائة شرعا ، والدين المشكوك مما «لا يعلمون» فيرفعه الأصل ، فتثبت الاستطاعة عقلاً ونقلاً ( من غير مانع ) يمنع منها .

( و ) ان قلت : ان الأصل إنّما هو لنفي الحكم ، فاذا استلزم لثبوت حكم آخر ولو من باب السبب والمسبب بأن أثبت موضوع حكم وجودي آخر ، كان ذلك مانعا من جريانه .

قلت : ( مجرّد إيجابه ) أي : إيجاب الأصل ( لموضوع حكم وجودي آخر ) كالاستطاعة - مثلاً - التي هي موضوع وجوب الحج ( لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ) أي : أدلة الأصل فيه .

( كما لا يخفى على من تتبّع الأحكام الشرعية والعرفّية ) أيضا ، حيث لم يدع احد اشكالاً في وجوب الحج بعد إجراء أصالة البرائة عن الدين ، ولا في جواز العبادة الاستيجارية للأجير الذي يجري البرائة عن وجوب الصوم أو الحج

ص: 345

ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع ، فاذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين ، فلا مانع من اجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور ، فيجب عليه الصلاة .

-------------------

على نفسه ، حيث يشترط جواز استيجار الصوم والحج في الأجير بأن لا يكون عليه صوم أو حج ، وغير ذلك مما سيأتي من الأمثلة .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الأصل ( في الحقيقة إلى رفع المانع ) فان المانع عن وجوب الحج على هذا المستطيع هو : ان يكون مديونا ، فأصل عدم الدين يرفع هذا المانع ، لا ان أصل عدم الدين يثبت وجوب الحج .

وعليه : ( فاذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم يجب الصلاة ، لفقد الطهورين ) وذلك عند من يقول : فاقد الطهورين لا صلاة عليه في الوقت ، فان في المسألة أربعة إحتمالات :

الأوّل : ان عليه القضاء دون الأداء .

الثاني : ان عليه الأداء دون القضاء ، وهو ما نذهب إليه .

الثالث : ان عليه الأداء والقضاء معا .

الرابع : إنه لا أداء ولا قضاء عليه .

وحينئذ : ( فلا مانع من اجراء أصالة الحل ) في هذا الماء المشكوك الاباحة ( وإثبات كونه واجدا للطهور ) فيرتفع المانع بذلك وتجب عليه الصلاة .

وكذا إذا شك في ماء انه مضاف أو مطلق وكان سابقا مطلقا ، فانه يستصحب اطلاقه ، فيرتفع المانع به ، ( فيجب عليه الصلاة ) .

إلى غير ذلك من الأمثلة التي تسبب أصالة العدم ، برائة ، أو استصحابا : رفع

ص: 346

ومثاله العرفي : ما إذا قال المولى لعبده : « إذا لم يكن عليك شغل واجب من قِبلي فاشتغل بكذا » ، فانّ العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى .

وإن كان على الوجه الثاني : الراجع إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين :

فان اُريد باعمال الأصل في نفي أحدهما اثباتُ الآخر ، ففيه :

إنّ مفاد أدلة البرائة

-------------------

المانع ، فالدليل يشمل المقام .

هذا هو المثال الشرعي ( ومثاله العرفي : ما إذا قال المولى لعبده : « إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا » ، فانّ العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم ) العبد ( بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى ) وذلك لأنهم يرون برائته من الوجوب إذا لم يعلم به ، فيرتفع المانع فيجب عليه الاشتغال بكذا.

هذا كله إذا كان الأصل موجبا لحكم آخر على الوجه الأوّل بأن كان من باب السببية والمسببية .

( وإن كان على الوجه الثاني : الراجع إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين ) وذلك كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الانائين ، فان إعمال الأصل في نفي أحدهما يمكن فيه إرادة أحد وجهين كما قال :

( فان اُريد بإعمال الأصل في نفي أحدهما اثبات الآخر ) من باب الملازمة بأن يقال : الأصل عدم وجوب الاجتناب عن هذا الاناء ، فيثبت بالملازمة الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر .

( ففيه : انّ مفاد أدلة البرائة ) وأصل العدم ، وكذلك استصحاب العدم في مورد

ص: 347

مجرد نفي التكليف دون إثباته ، وإن كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي ، فانّ الأحكام الظاهرية إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت ، إلاّ أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ، كما ذكرنا في مثال برائة الذمة عن الدين والحج ، وسيجيء توضيح ذلك في باب

-------------------

تعارض الأصلين هو ( مجرد نفي التكليف ) في مورد جريان الأصل ( دون إثباته ) أي : لا يثبت التكليف من جهة اُخرى .

إذن : فكلام الفاضل التوني في هذا المقام صحيح حتى ( وان كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي ) لأنه إذا كان هذا الاناء طاهرا كان معناه نجاسة ذلك الاناء الثاني للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

وإنّما يكون مفاد أدلة أصل البرائة هو : مجرد نفي التكليف لما ذكره بقوله : ( فانّ الأحكام الظاهرية إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ) فقط ، دون اللازم والملزوم والملازم ، بخلاف الطرق والأمارات فانها تثبت اللوازم أيضا .

مثلاً : إذا قامت البينة على طهارة هذا الاناء كان معنى ذلك : نجاسة الاناء الآخر ، امّا الأصل فلا يفيد إلاّ مقدار مدلوله ( ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه ) أي : بين ذلك الأزيد ( وبين ما ثبت ) بالأصل .

( إلاّ أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ) بأن كان من باب السببية والمسببية ( كما ذكرنا في مثال برائة الذمة عن الدين و ) وجوب (الحج) ومثال برائة الذمة عن الصوم والحج لاثبات جواز استيجار الحج والصوم النيابيين وغيرهما من الأمثلة ( وسيجئتوضيح ذلك في باب

ص: 348

تعارض الاستصحابين .

وإن اُريد باعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الاثبات ، فهو جار ، إلاّ انّه معارض بجريانه في الآخر .

فاللازم إمّا اجرائه فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لأجل العمل بالأصل ، وإمّا إهماله فيهما ، وهو المطلوب ، وإمّا اعمال أحدهما بالخصوص ، فترجيحٌ بلا مرجّح .

-------------------

تعارض الاستصحابين ) انشاء اللّه تعالى .

هذا ان اريد بإعمال الأصل في نفي أحد المشتبهين إثبات الآخر .

( وان اُريد باعماله ) أي : باعمال الأصل ( في أحدهما ) أي : أحد الموردين ( مجرد نفيه ، دون الاثبات ) لحكم في الآخر ، كما إذا أجرى الأصل في أحد الانائين المشتبهين لارادة شربه ، أو التوضئمنه ، أو تطهير ثيابه به ، لا لارادة اثبات نجاسة الآخر ( فهو جار ) .

وإنّما يكون جاريا لأن أدلة الاُصول تشمل هذا المورد ( إلاّ انّه معارض بجريانه في الآخر ) فان أصالة طهارة هذا الاناء معارض بأصالة طهارة الاناء الآخر.

وحينئذ : ( فاللازم ) أحد اُمور تالية : ( إمّا اجرائه فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لأجل العمل بالأصل ) ومن المعلوم : ان العلم الاجمالي غير قابل للطرح .

( وإمّا إهماله ) أي : إهمال الأصل وعدم اجرائه ( فيهما ، وهو المطلوب ) لأنا نرى: انه إذا تعارض الأصل في الطرفين ولم يكن بينهما سببية ومسببية لزم طرحهما لمكان العلم الاجمالي المعارض لهما .

( وإمّا اعمال أحدهما بالخصوص ) في هذا الاناء فقط ، أو في ذلك الاناء فقط ( ف ) هو غير صحيح ، لأنه ( ترجيح بلا مرجّح ) له من عقل أو شرع .

ص: 349

نعم ، لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام ممّا يضرّ طرحه لزم العملُ بهما ، كما تقدّم أنّه أحدُ الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم .

وكيف كان ، فسقوط العمل بالأصل في المقام لأجل المعارض ،

-------------------

( نعم ، لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام ) أي : في مقام نفي الحكم فقط ، بأن لم يرد به إثبات حكم آخر ، لو لم يكن ( ممّا يضرّ طرحه ) أي : طرح العلم الاجمالي لانه لم يلزم منه مخالفة عملية ، بل مخالفة التزامية فقط ، كما لو نذر فنسي انه نذر ان يطأ زوجته هذه الليلة أو ان لا يطأها ، فاجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم الحرمة ، لا يلزم منه سوى المخالفة الالتزامية ، وقد تقدّم : انه لا ضير فيها ، وإذا كان كذلك ( لزم العمل بهما ) أي : بالأصلين معا .

وإنّما يلزم العمل بهما معا لأنه لا مخالفة عملية هنا ، والمخالفة الالتزامية غير ضارة ( كما تقدّم انّه ) أي : العمل بالأصلين معا هو ( أحد الوجهين ، فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم ) والوجهان هما عبارة عن عدم إجراء الأصلين رأسا والأخذ بالتخيير ، أو لزوم اجراء الأصلين معا ، وذلك على ما ذكره المصنِّف .

إذن : فاجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم التحريم في مثل ما لو نذر فنسي انه نذر الفعل أو الترك لا يضر شيئا ، لأن الانسان هنا امّا فاعل أو تارك ، غير ان جريانهما مشكل لما يلي :

أولاً : لأنه لا فائدة فيه ، والتشريع بلا فائدة محال على الحكيم .

ثانيا : إنّهما معارضان للعلم الاجمالي ، ولا معنى لتشريع ما يعلم خلافه .

( وكيف كان : فسقوط العمل بالأصل في المقام ) أي : في مقام إرادة مجرد نفي الحكم لا إثبات حكم آخر به ، إنّما هو ( لأجل المعارض ) حيث قد عرفت : تعارضهما وتساقطهما ، فعدم العمل للتعارض لا لما ذكره الفاضل التوني من ان

ص: 350

ولا إختصاصَ لهذا الشرط بأصل البرائة ، بل يجري في غيره من الاُصول والأدلّة .

ولعلّ مقصود صاحب الوافية ذلك ، وقد عبّر هو قدس سره في باب الاستصحاب بعدم المعارض .

وأمّا أصالةُ عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ، فقد عرفت : أنّه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي ، فانّه

-------------------

اعتبار هذه الاُصول إنّما هو لمجرد نفي الشيء لا لاثبات شيء آخر .

هذا ( ولا إختصاص لهذا الشرط ) أي : شرط عدم التعارض في جريان الاُصول ( بأصل البرائة ، بل يجري في غيره من الاُصول ) كالاستصحابين ( والأدلّة ) كالخبرين ، والاجماعين إذا فرض إمكان وجود إجماعين متعارضين .

( ولعلّ مقصود صاحب الوافية ) الفاضل التوني من الشرط الذي ذكره، هو ( ذلك ) الذي ذكرناه : من عدم اختصاصه بالبرائة .

( و ) يؤيد كون مراده من الشرط الذي ذكره ، هو ما ذكرناه : انه ( قد عبّر هو قدس سره في باب الاستصحاب بعدم المعارض ) فاشتراط في جريان الاستصحاب ان لا يكون له معارض .

( وأمّا أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ) بعد ان كان سابقا غير كرّ فيستصحب عدم كريته ( فقد عرفت : انّه لا مانع من استلزام جريانها ) أي : جريان هذه الأصالة واستلامها ( الحكم بنجاسة الملاقي ) أي : نجاسة هذا الماء المسبوق بعدم الكرّية الذي لاقاه النجس .

وإنّما لا مانع من ذلك ، لأنه كما قال ( فانّه ) من باب السبب والمسبب ، فاذا جرى أصل عدم بلوغه كرا ، كان لازمه الشرعي : النجاسة بملاقاته للنجس

ص: 351

نظير أصالة البرائة من الدّين المستلزم لوجوب الحج .

وقد فرّق بينهما المحقق القمي رحمه اللّه حيث اعترف بأنه لا مانع من أجراء البرائة في الدين وإن استلزم وجوب الحج ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّية ، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء ، ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلاً .

ثم إنّ مورد الشك في البلوغ كرّا : الماء المسبوق بعدم الكرّية .

-------------------

( نظير أصالة البرائة من الدّين المستلزم لوجوب الحج ) فيما تقدّم ذكره .

هذا ( وقد فرّق بينهما ) أي : بين الحكم بالنجاسة والحكم بالحج ( المحقق القمي رحمه اللّه حيث اعترف بأنه لا مانع من أجراء البرائة في الدين وان استلزم وجوب الحج ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّية ) .

وإنّما لم يحكم بنجاسة الماء ( جمعا بينها ) أي : بين أصالة عدم الكرّية ( وبين أصالة طهارة الماء ) فأصل عدم الكرّية يقول : انه ليس بكرّ ، فحكم فيه بعدم الكرّية وقال بعدم جواز إدخال اليد النجسة فيه ، لأنه أثر عدم الكرّية ، وأصل طهارة الماء يقول : إنه طاهر ، فحكم فيه بالطهارة وقال بجواز الاستفادة منه ، لأنه أثر الطهارة ، وبهذا جمع بين الأصلين ، غير انه استلزم الفرق بين المسألتين .

هذا ( ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلاً (1) ) لأنه كما يستلزم أصل عدم الدين في المستطيع وجوب الحج عليه ، كذلك يستلزم أصل عدم الكرّية في الماء نجاسته إذا لاقى نجسا .

( ثم انّ مورد الشك في البلوغ كرّا : الماء المسبوق بعدم الكرّية ) وقد سبق الكلام فيه باسهاب ، وقلنا : انه محكوم بالنجاسة إذا لاقاه النجس .

ص: 352


1- - القوانين المحكمة : ص272 .

وأمّا المسبوق بالكرّية ، فالشك في نقصانه من الكرّية ، والأصل هنا بقاؤها ، ولو لم يكن مسبوقا بحال ، ففي الرجوع إلى طهارة الماء للشك في كون ملاقاته مؤثرة في الانفعال ، فالشك في رافعيتها للطهارة ؛ أو إلى النجاسة ، لأن الملاقاة مقتضية للنجاسة ، والكرّية مانعة عنها بمقتضى

-------------------

( وأمّا ) الماء ( المسبوق بالكرّية ، فالشك ) المتصور فيه إنّما هو ( في نقصانه من الكرّية ) بأن كان الماء كرا ثم أخذ منه مقدارا سبّب الشك في انه هل بقي على الكرّية أم لا؟ ( والأصل هنا بقاؤها ) أي : بقاء الكرية ، وإذا حكمنا ببقاء الكرية يكون مطهرا ، لأنهما من باب السبب والمسبب ، إذ المطهرية مسببة عن الكرّية .

( ولو لم يكن ) الماء المشكوك كريته ( مسبوقا بحال ) كما إذا اغترف من ماء البحر مقدارا يحتمل ان يكون كرا ويحتمل ان لا يكون كرا ، فلاقى النجس أو كان مسبوقا بحال وجهلناه نحن ، كما إذا تواردت الكرّية وعدمها عليه ولم نعلم السابق واللاحق منهما ( ففي الرجوع إلى طهارة الماء ) بعد ملاقاته للنجس وذلك ( للشك في كون ملاقاته ) للنجس ( مؤثرة في الانفعال ) لأنا نحتمل كريته ، ولذا إذا لاقى النجس نستصحب طهارته .

وعليه : ( فالشك ) يكون حينئذ ( في رافعيتها للطهارة ) أي : رافعية الملاقاة لطهارة هذا الماء ، فنستصحب طهارته .

( أو ) الرجوع ( إلى النجاسة ) والحكم بنجاسة هذا الماء عند ملاقاته للنجس وذلك ( لأن الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرّية مانعة عنها بمقتضى

ص: 353

قوله عليه السلام : «إذا كان الماء قَدَرَ كرّ لم يُنجّسه شيء » ، ونحوه ، ممّا دلّ على سببيّة الكرّية ، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه ، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه ، وجهان .

وأمّا أصالة عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصلُ ،

-------------------

قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قَدَر كّر لم يُنجّسه شيء » (1) ) حيث علق الامام عليه السلام عدم التنجّس بالكرية ( ونحوه ) أي : نحو هذا الحديث ( ممّا دلّ على سببيّة الكرّية لعدم الانفعال ) بملاقاة النجاسة ( المستلزمة لكونها ) أي : الكرّية ( مانعة عنه ) أي: عن الانفعال .

هذا ( والشك في المانع في حكم العلم بعدمه ) لأنه ثبت ان بناء العقلاء على أعمال المقتضي وهو هنا : الانفعال ما لم يعلموا بوجود المانع وهو هنا : الكرّية .

وعليه : فيكون في الرجوع إلى الطهارة أو إلى النجاسة في هذا الماء ( وجهان ).

( وأمّا ) إذا شككنا في ان الكرّية تقدمت على الملاقاة حتى يكون الماء طاهرا ، أو أن الملاقاة تقدمت على الكرّية حتى يكون الماء نجسا ، فلا يجري فيه ( أصالة عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ) كما لا يجري أصالة عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، وذلك لقصور في نفس التقدّم كما قال :

( فهو ) أي : التقدم ( في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصل ) فان التقدم والتأخر ، وكذلك التقارن اُمور انتزاعية والأمر الانتزاعي

ص: 354


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، الامالي للصدوق : ص646 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

نعم ، نفس الكرّية حادثة ، فاذا شكّ في تحققها حين الملاقاة ، حكم بأصالة عدمها ، وهذا معنى عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ، لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّية ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، فيتعارضان ، لا وجه لما ذكره من الأصل .

-------------------

لم يكن بنفسه مجرى للأصل ، وإنّما يلزم إجراء الأصل في منشأ انتزاعه .

وعليه : فاذا شككنا - مثلاً - في فردية التفاحات الموجودة في المخزن أو زوجيتها ، لا يصح لنا أن نجري أصل عدم الزوجية أو أصل عدم الفردية ، بل يلزم أن نجري الأصل في نفس التفاح الذي هو منشأ انتزاع الزوجية والفردية .

إذن : فالأمر الانتزاعي لا يجري فيه الأصل لأنه محكوم بالأصل الجاري في منشأ الانتزاع ، وما دام يجري الأصل في الحاكم لا مجرى للأصل في المحكوم .

( نعم ، نفس الكرّية حادثة فاذا شكّ في تحققها حين الملاقاة ، حكم بأصالة عدمها ) لأن الأصل عدم كل حادث إلاّ ان يعلم حدوثه ( وهذا معنى ) أصالة ( عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ) فان هذا الأصل يكون جاريا لولا المعارض .

( لكن هنا ) يعارضه ( أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّية ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، فيتعارضان ) والتعارض يوجب التساقط على ما عرفت .

وعليه : فالفاضل التوني رحمه اللّه منع من إجراء أصل عدم تقدّم الكرّية لاستلزامه إثبات حكم آخر ، فأجابه الشيخ : بأنه ( لا وجه لما ذكره من الأصل ) إذ لا مانع لجريانه من هذه الجهة ، وإنّما المانع هو تعارضه وتساقطه علما بأن جواب الشيخ هذا جاء بعد إشارته إلى نكتة خارجة عن المبحث وهي : ان التقدم أمر انتزاعي لايجري فيه الأصل ، بل يجري الأصل في منشأ انتزاعه ، وهكذا بالنسبة إلى التأخر والتقارن .

ص: 355

وقد يفصّل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ، فانّه يحكم بأصالة تأخر المجهول ، بمعنى : عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه فيلحقه حكمُه من الطهارة والنجاسة ،

-------------------

إلى هنا تبين لنا عدم جريان أصل تقدّم الكرّية على الملاقاة وكذا عدم جريان أصل تأخر الكرّية عن الملاقاة مطلقا ، ولكن في المقام تفصيل يمكن أن يكون هو المعتمد في الحكم ، فان للمسألة وجوها ثلاثة :

الأوّل : الجهل بهذا الطرف ، كما إذا علمنا حدوث الكرّية ظهرا ، ولم نعلم ان الملاقاة حدثت ظهرا أو صباحا أو مساءً ؟ .

الثاني : الجهل بذاك الطرف ، كما إذا علمنا حدوث الملاقاة ظهرا ، ولم نعلم ان الكرّية حدثت ظهرا أو صباحا أو مساءً ؟ .

الثالث : الجهل بهما معا ، كما إذا لم نعلم تاريخ الملاقاة ولا تاريخ الكرّية .

وإلى التفصيل في وجوه المسألة أشار المصنِّف بقوله : ( وقد يفصّل فيها ) أي : في المسألة ، والمفصّل هو صاحب الفصول ، فانه فصّل ( بين ما كان تاريخ واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ) وتاريخ الآخر مجهولاً ( فانّه يحكم بأصالة تأخر المجهول ) وذلك ( بمعنى : عدم ثبوته ) أي : ثبوت المجهول ( في زمان يشك في ثبوته فيه ) أي : يشك في ثبوت ذلك المجهول في ذلك الزمان فيحكم بتأخره .

وعليه : فاذا ثبت بالأصل تأخر المجهول التاريخ ( فيلحقه حكمه ) كما قال :

( من الطهارة ) ان كان المجهول هو الملاقاة ، لاستصحاب تأخر الملاقاة عن الكرّية .

( والنجاسة ) ان كان المجهول هو الكرّية ، لاستصحاب تأخر الكرّية عن الملاقاة .

ص: 356

وقد يجهل التاريخان بالكلّية ، وقضية الأصل في ذلك التقارن ، ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا يتنجس به » انتهى .

وفيه :

-------------------

( وقد يجهل التاريخان بالكليّة ) بأن لم يعلم هل الملاقاة كانت متقدمة أو الكرّية ؟ ( وقضية الأصل في ذلك ) أي : مقتضى الأصل في هذه الصورة وهي صورة جهل التاريخين ( التقارن ) .

وإنّما يكون مقتضى الأصل هنا : التقارن ، لأن الأصل عدم تقدّم الملاقاة والأصل عدم تقدّم الكرّية فيثبت تقارنهما ، فيكون التقارن عين مؤدى الأصلين ، فلا يمكن اجراء أصالة عدم التقارن .

( و ) عليه : فيكون ( مرجعه ) أي : مرجع التقارن كما قلنا : ( إلى نفي وقوع كل منهما ) أي : من الملاقاة والكرّية ( في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ) أي : في ذلك الزمان ( و ) التقارن ( هو مقتضى ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا يتنجس ) الكرّ ( به » (1) ) أي : بالورود المذكور ( انتهى ) كلام الفصول .

( وفيه ) أولاً : ان التقارن أمر وجودي عند العرف وليس أمرا عدميا ، فاذا كان وجوديا لا يمكن اثباته بالأصل ، حتى بناءا على مذهب الفصول القائل بعدم حجية الأصل المثبت ، فالأصل إذن لا يثبت إلاّ اللوازم الشرعية ، والتقارن ليس من اللوازم الشرعية .

وثانيا : سلمنا ثبوت التقارن بالأصل لكنه لا ينفع لاثبات طهارة الماء ، لأنه يمكن أن يقال : بأن التقارن موجب لانفعال الماء ، لأن علة الحكم بعدم الانفعال

ص: 357


1- - الفصول الغروية : ص354 .

أنّ تقارن ورود النجاسة والكرّية موجب لانفعال الماء ، لأن الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرّية على ما هو مقتضى قوله عليه السلام : «إذا كان الماء قَدَر كرّ لم ينجّسه شيء » ، فان الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ المفروض الكرّية ، فاذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ، فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر والحكم فيه النجاسة، إلاّ أنّ ظاهر المشهور فيما نحن فيه

-------------------

إنّما هو الكرّية السابقة ، فلابدّ من حصولها أولاً حتى يترتب عليه المعلول ، امّا إذا تقارنا لم تكن الكرّية سابقة حتى لا يتنجس كما قال :

( انّ تقارن ورود النجاسة والكرّية موجب لانفعال الماء ، لأن الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه ) بشرط ان يكون الملاقاة ( بعد الكرّية ، على ما هو مقتضى قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) ، فان الضمير المنصوب ) في قوله : لم ينجسه ( راجع إلى الكرّ ) أي : الماء ( المفروض الكرّية ) قبل الملاقاة .

وعليه : ( فاذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ) لأنه لايعقل تقارن الكرّية مع الملاقاة ( فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة ) وذلك ( فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر ، و ) كما يكون حكم هذا الماء هو النجاسة ، كذلك يكون ( الحكم فيه ) أي : في الماء الذي تقارن فيه الكرّية والملاقاة هو ( النجاسة ) أيضا .

( إلاّ انّ ظاهر المشهور فيما نحن فيه ) من تقارن الكرّية والنجاسة هو :

ص: 358


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، الأمالي للصدوق : 646 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

الحكم بالطهارة .

بل إدّعى المرتضى قدس سره عليه الاجماع حيث استدل بالاجماع على طهارة كرّ رُئي فيه نجاسةٌ لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّية على كفاية تتميم النجس كرّا في زوال نجاسته .

-------------------

( الحكم بالطهارة ) فانه لا يتنجس الملاقي بسبب النجاسة إذا تقارنت الملاقاة والكرّية ( بل إدّعى المرتضى قدس سره عليه الاجماع ) ولا يخفى ان هناك مسألتين :

الاُولى : ان الماء النجس ، المتمم بالطاهر حتى صار كرّا ، هل هو طاهر أو نجس ؟ يرى السيد طهارته ، ويمكن تقريبه : بأن الماء الطاهر يستصحب طهارته، والماء النجس يستصحب نجاسته ، وحيث لا يمكن ان يكون للماء الواحد حكمان : نصفه طاهر ، ونصفه نجس ، لأنه خلاف ما فهمه المتشرعة من الشرع ، فيتساقط الاستصحابان ويكون المرجع أصل الطهارة .

الثانية : ما إذا تواردت الكرّية والنجاسة في لحظة واحدة بأن تقارن الأمران ، فالمقتضي للطهارة الكرّية ، والمقتضي للنجاسة الملاقاة ، فيتساقط المقتضيان ويكون المرجع أصل الطهارة .

وعليه : فالملاك في المتمّم كرّا موجود في تقارن الملاقاة والكرّية ( حيث استدل ) السيد ( بالاجماع على طهارة كرّ رُئي فيه نجاسة لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّية ) كما لم يعلم تأخر وقوعها عن الكرّية ، فانه حيث كانت هذه المسألة إجماعية استدل السيد بها ( على كفاية تتميم النجس كرّا ) بطاهر ( في زوال نجاسته ) .

وإنّما استدل بالاجماع هناك على طهارته هنا لأن ملاك الاجماع في المسألة الاُولى موجود بنفسه في المسألة الثانية أيضا .

ص: 359

وردّه الفاضلان وغيرهما : بأنّ الحكم بالطهارة هنا لأجل الشك في ثبوت النجس ، لأن الشك مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة ، لوقوعها قبل الكرّية ، أو غير مؤثرة .

لكنّه يُشكل ، بناءا على أنّ الملاقاة سببٌ للانفعال والكرّية مانعة ، فاذا علم بوقوع السبب في زمان ولم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب ،

-------------------

( وردّه الفاضلان ) : المحقق والعلامة ( وغيرهما : بأنّ الحكم بالطهارة هنا ) في مسألة تقارن الكرّية والنجاسة إنّما هو ( لأجل الشك في ثبوت النجس ، لأن الشك ) في انه هل تنجس بسبب تقارن النجاسة والكرّية أم لا ، يكون ( مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة ، لوقوعها قبل الكرّية ، أو غير مؤثرة ) لوقوعها مقارنا للكرية أو بعدها ، وهذه العلة لا تنسحب إلى الماء النجس المتمم بطاهر حتى صار كرّا .

وعليه : فان مقتضى القاعدة فيما نحن فيه هو : الطهارة ، وفي مثال التتميم هو : النجاسة .

وإنّما يكون المقتضى فيهما ذلك لأن الملاقاة إنّما تقتضي النجاسة إذا حصلت قبل الكرّية ، وحصول النجاسة قبل الكرية مشكوك ، فرفعها للطهارة مشكوك فيحكم ببقاء الطهارة على التقريب الذي ذكرناه ، وامّا المتمم كرا فلا ينسحب فيه هذه العلة ، لأن الشك إنّما هو في زوال النجاسة بالتتميم فيحكم ببقائها .

( لكنّه ) أي : حكم المشهور بالطهارة عند تقارن النجاسة والكرّية ( يُشكل ، بناءا على انّ الملاقاة سبب للانفعال والكرّية مانعة ، فاذا علم بوقوع السبب في زمان ولم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب ) الذي هو النجاسة

ص: 360

إلاّ أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل ، فتأمل .

الثاني : أن لا يتضرر بأعمالها مسلم ،

-------------------

وقد تقدّم: ان الشك في المانع يكون في حكم العلم بعدم المانع .

هذا ( إلاّ انّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل ) فان تأثير المقتضي موقوف على إحراز عدم المانع ولو بالأصل ، وعدم المانع فيما نحن فيه غير محرز ، لأن أصالة عدم المانع لا يثبت عدم تقدّم الكرّية إلاّ على القول بالأصل المثبت .

( فتأمل ) ولعل وجهه : ان عدم العلم بالمانع في حكم العلم بعدم المانع وذلك لبناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال المانع مع إحراز المقتضي ، فلا حاجة حينئذ إلى احراز عدم المانع ولو بالأصل .

ثم لا يخفى : انهم قد اختلفوا في ان الماء النجس ، المتمم بطاهر حتى أصبح كرا ، أو الماء الطاهر ، المتمم بنجس حتى أصبح كرا هل هو طاهر بعد التتميم أم لا ؟ .

وجه الطهارة ما ذكرناه ، ووجه النجاسة : انّ الماء النجس لابد ان يتصل بالكر ، أو بالمطر ، وما أشبه حتى يطهر ، وهذا لم يتصل بشيء من ذلك ولذا ذهب غير واحد من الفقهاء إلى القول بنجاسته كما حكي عن الشرائع ، والمعتبر ، والتحرير ، والمنتهى ، والمختلف ، والقواعد ، والذكرى ، وكشف اللثام ، والجواهر ، وغيرها ، وتفصيل الكلام في مسألتي : التقارن والتتميم كرا في الفقه .

( الثاني ) من شروط البرائة التي ذكرها الفاضل التوني : ( أن لا يتضرر بأعمالها ) أي : بأعمال البرائة ( مسلم ) وينبغي ان يضاف إليه : ومن هو محترم

ص: 361

كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدُها ، أو أمسك رجلاً فهرب دابته ، فانّ إعمال البرائة فيها يوجبُ تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضِرار » ،

-------------------

المال والعرض والدم ، كالذمي والمعاهد ونحوهما ، لأن الجميع في هذه الجهة بحكم واحد .

( كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ) الطائر ( أو حبس شاة فمات ولدها ) أو وضع قربة السمن في الشمس فذاب السمن وأريق ( أو أمسك رجلاً فهرب دابته ) إلى غير ذلك ، لا كلام في انه لو كان متعمدا لاستحق العقاب والتعزير عليه ، وإنّما الكلام في انه إضافة إلى ذلك هل هو ضامن لأنه أضر بالغير ، أم له ان يجري البرائة لأنه لم يباشر الضرر ؟ .

هذا ، ولا يخفى : ان اجراء البرائة هنا يضر بالغير كما قال : ( فانّ إعمال البرائة فيها يوجب تضرّر المالك ) وقد عرفت : ان من شرط البرائة ان لا يتضرر بإعمالها غيره من محترم المال والعرض والدم .

وعليه : ( فيحتمل اندراجه ) أي : اندراج كل واحد من هذه الأمثلة لأنها من الضرر بالتسبيب ، لا بالمباشرة حتى يقطع باندراجها ، بل يحتمل اندراجها ( في قاعدة الاتلاف ) وهي « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » ( وعموم قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (1) ) .

إذن : فعلى هذا الضار ان ينفي الضرر بالضمان للقيمة ونحوها .

ص: 362


1- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 و ص183 ح11 ، معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 .

لأنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلاّ فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضار ، ولكن لايعلم أنّه مجرد التعزير

-------------------

وإنّما عليه الضمان ( لأنّ المراد ) من ( نفي الضرر ) ليس هو نفي وجوده ، بل تركه ( من غير جبران بحسب الشرع ، وإلاّ فالضرر غير منفي ) لوجوده بكثرة بين المسلمين ، فأدلة نفي الضرر وان نفت نفس الضرر ، إلاّ ان وجود الضرر بين المسلمين قرينة على ان المراد من نفيه هو : الضرر غير المتدارك .

إذن : ( ف ) في هكذا موارد بناءا على ان المنفي هو : الضرر غير المتدارك ، لايجوز للضار إجراء البرائة من دون فحص عن الدليل لاحتمال وجود دليل يبيّن ما يجب عليه من التدارك ، فيرجع هذا الشرط وهو : ان لا يتضرر من اعمال البرائة غيره إلى ما سبق من اشتراط البرائة بالفحص واليأس ، إذ ( لا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة ) المذكورة في الأمثلة المتقدمة ( غير منصوصة ) .

وإنّما لا علم ولا ظن بعدم النص لاحتمال ان « لا ضرر » و « من أتلف » وما أشبه يشمل هذه الوقايع من الأمثلة ( فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل ) أي : أصل البرائة ( من فقدان النصّ ) لأن النص موجود .

وعليه : فليس المقام إذن مما لا نص فيه حتى يجري فيه البرائة ، بل المقام مما فيه العلم الاجمالي بلزوم الضار شيئا كما قال : ( بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار ) مردّد بين كونه هو التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما .

إذن : فهو يعلم بتوجه حكم اليه ( ولكن لا يعلم ) هل ( انّه مجرد التعزير )

ص: 363

أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح » .

ويرد عليه : أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل ، كان دليلاً ، كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البرائة ، وإلاّ فلا معنى للتوقف في الواقعة

-------------------

في الدنيا والعقاب في الآخرة ( أو الضمان ) فقط ( أو هما معا ) أي : التعزير والضمان وحينئذ ( فينبغي له تحصيل العلم بالبرائة ) لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ( ولو بالصلح » (1) ) مع المتضرر .

( ويرد عليه : ) بالاضافة إلى انه قد يقطع بعدم التعزير والعقاب ، كما في صدور هذه الأفعال عن الصبي ، أو المجنون ، أو غير العامد - : ان هذا ليس من شروط البرائة ، فان قاعدة « نفي الضرر » ، وكذا قاعدة « الاتلاف » يتقدّمان على أقوى الأمارات ، فكيف بالاُصول العملية وخاصة أصل البرائة منها كما قال :

( أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر ) وقاعدة : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » ( معتبرة في مورد الأصل ) بأن تكون مشرّعة في مورد أصل البرائة ، كما هو الصحة ، فان قاعدتي الاتلاف والاضرار ظاهرتان في شمول المباشر والمسبب معا ، فلا يدعان مجالاً للشك حتى يكون المقام من مورد الأصل .

وعليه : فاذا اعتبر كذلك ( كان دليلاً كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البرائة ) فان كل الأدلة الاجتهادية تتقدم الاُصول العملية على ما عرفت .

( وإلاّ ) بأن قلنا باجمال قاعدة الاتلاف ، وقاعدة نفي الضرر بالنسبة إلى غير المباشر ، وان ظهورهما في الانسان المباشر للاتلاف فقط ، دون الانسان الذي هو سبب فينتفي الدليل بالنسبة اليه ، وإذا انتفى الدليل ( فلا معنى للتوقف في الواقعة

ص: 364


1- - الوافية : مخطوط .

وترك العمل بالبرائة ، ومجرّدُ إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل .

والمعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلاّ فلايعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح .

-------------------

وترك العمل بالبرائة ) فيها حينئذ .

( و ) ان قلت : احتمال إندراج الواقعة في القاعدة يوجب رفع اليد عن البرائة .

قلت : ( مجرّد إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ) أي : البرائة فان موارد إجمال النص ، كموارد فقدان النص يكون المحكم فيها بعد الفحص هو البرائة .

والحاصل : ان الأمثلة المذكورة ان كانت مشمولة لقاعدة الاتلاف والضرر فلا مجال لأصل البرائة ، وان لم تكن مشمولة أو شككنا في شمول القاعدة لها كان المحكم هو : البرائة ، فلم يكن ما ذكره الفاضل التوني هنا على ما إدعاه هو من شرائط اجراء البرائة .

( و ) امّا ما ذكره هنا من العلم الاجمالي المردد بين اُمور ثلاثة : التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما فهو غير تام ، لوضوح ان ( المعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمدا ) في فعله ذلك ( وإلاّ فلايعلم وجوب شيء عليه ) أي : على الضارّ ، وإذا كان الاشتغال مشكوكا ( فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح ) .

وعليه : فقد ظهر من كل ذلك : ان محصَّل كلام الفاضل التوني أمران :

الأوّل : انّ الأمثلة المذكورة هي ممّا توجب الضرر على المالك ، فيحتمل

ص: 365

وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر ، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناءا على أنّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص ،

-------------------

اندراجها تحت قاعدتي : الاتلاف والضرر ، فتكون مما فيه نص ولا تكون مجالاً للبرائة ، فأورد عليه المصنِّف بقوله : ويرد عليه : انه ان كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل كان دليلاً ، وإلاّ فلا معنى للتوقف عن العمل بالأصل .

الثاني : انه يعلم إجمالاً بتعلق حكم شرعي بالضار ، ولكن لا يعلم هل هو مجرد التعزير ، أو الضمان ، أو هما معا؟ ومع هذا العلم الاجمالي لا تجري البرائة ، فيلزم تحصيل العلم ببرائة الذمة ولو بالصلح ، فأورد عليه المصنِّف بقوله : والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير ان كان متعمدا ، وإلاّ فلا شيء عليه .

( وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره ) الفاضل التوني ( في خصوص أدلة الضرر ) إذ لا خصوصية لأدلة الضرر ، بل الميزان في جميع الموارد انه ان وجد دليل إجتهادي كان الدليل الاجتهادي محكما ، وان لم يوجد دليل اجتهادي كانت البرائة وسائر الاُصول محكمة فلا خصوصية لا للأمثله التي ذكرها ولا للبرائة.

( كما لا وجه لما ذكره ) الفاضل التوني هنا من شرط ثالث لجريان البرائة حيث ذكر هنا ( في تخصيص مجرى الأصل ) أي : خصص جريان أصل البرائة ( بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناءا على انّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص ) .

وعليه : فان الفاضل التوني جعل من شرائط البرائة ان لا يكون المشكوك جزء عبادة كالسورة - مثلاً - والذي دعاه إلى اشتراط هذا الشرط هو : ان ماهية العبادة إنّما تثبت بالنص من الشارع ، فلا تكون حينئذ مجرى للبرائة .

ص: 366

فان النص قد يصير مجملاً وقد لا يكون نص في المسألة .

فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الأقل والأكثر فلا مانع منه ، وإلاّ فلا مقتضى له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة .

قاعدة لا ضَرر

وحيث جرى ذكرُ حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة

-------------------

وإنّما لا وجه لهذا الشرط من الفاضل التوني ، لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فان النص قد يصير مجملاً ) فلا يعلم المراد منه ( وقد لا يكون نص في المسألة ) أصلاً ، وفي الصورتين ( فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف ) ذلك التكليف ( المردد بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين كما في الصلاة مثلاً ( فلا مانع منه ) أي : من إجراء أصل البرائة لما سبق : من ان الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو مجرى البرائة بالنسبة إلى الأكثر .

( وإلاّ ) بأن لم نقل بالبرائة ، بل قلنا بوجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( فلا مقتضى له ) أي : لأصل البرائة هنا ، لأنا نرى الاحتياط فيه .

هذا ( وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة ) أي : في مسألة الجزئية والشرطية في العبادة وقلنا بجريان البرائة فيها ، وذلك على التفصيل الذي تقدّم .

قاعدة لا ضرر ( وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة ) فان هذه القاعدة هي قاعدة مهمة وقد تمسك بها الفقهاء من أول الفقه

ص: 367

فنقول : قد إدّعى فخر الدين في الايضاح ، في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الروايات المتضمنة لقصّة

-------------------

إلى آخره .

ثم ان المصنِّف قدس سره بحث هنا تارة : في مدارك هذه القاعدة واُخرى : في معنى اللفظين الواردين فيها من الضرر والضرار ، وثالثة : في معنى نفي الضرر والضرار ، ورابعة : في نسبة هذه القاعدة مع سائر العمومات ، وخامسة : في إشكالات التمسك بها .

( فنقول ) : يدل على حرمة الضرر والضرار بالاضافة إلى الاجماع القطعي ، والعقل المستقل ، الكتاب ، والسنة .

أمّا الكتاب : فآيات مثل قوله سبحانه : « لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده » (1) وقوله سبحانه : « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » (2) وقوله سبحانه : « ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن » (3) إلى غيرها .

وأمّا السنة : فانه ( قد إدّعى فخر الدين في الايضاح في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ) في كتب الحديث والفقه من السنة والشيعة ، ولذلك ( فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ) ولعلها هي الرواية الاُولى التي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في هذا الباب .

( و ) عليه : فان أصح الروايات هنا ( هي الروايات المتضمنة لقصّة

ص: 368


1- - سورة البقرة : الآية 233 .
2- - سورة البقرة : الآية 282 .
3- - سورة الطلاق : الآية 6 .

سمَرَةَ بن جُندَب مع الأنصاري ، وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام :

« إنّ سَمُرَة بن جُندَب كان له عذقٌ ، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ،

-------------------

سمرة بن جندب ) الذي كان من أصحاب رسول اللّه ، ولكن كان شقيّا في زمانه ، حيث قصته مع الأنصاري في العذق ، وقصته في ضرب ناقة الرسول على رأسها وشجّها حتى خرجت الناقة إلى الرسول تشتكيه ، كما كان شقيا بعد زمانه ، فان معاوية بذل له مالاً كثيرا ، يقال : انه مائة ألف درهم مقابل جعل رواية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في تفسير آية : « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام » (1) بأنها نزلت في علي عليه السلام ، وبأن آية : « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوف بالعباد » (2) نزلت في ابن ملجم وقد كان في زمان يزيد مدير شرطة ابن زياد في الكوفة وكان يحرّض الناس على الخروج إلى قتال الحسين عليه السلام حين أمر ابن زياد .

وعلى أي حال : فقصته ( مع الأنصاري ) مورد كلامنا هنا ( وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « أنّ سَمُرَةَ بن جُندَب كان له عذقٌ ) والعذق عبارة عن النخلة المثمرة ( وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ) فقد تعارف في ذلك الزمان بيع البستان ، أو الدار فيها أشجار ، باستثناء شجرة أو أشجار منها ، فكان مالك الشجر يضطر بعد ذلك للذهاب إلى شجرة أن يدخل بيوت الناس وبساتينهم ومعلوم : ان ذلك لا يسوّغ له الدخول بلا إذن .

ص: 369


1- - سورة البقرة : الآية 204 .
2- - سورة البقرة : الآية 207 .

وكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري . فقال الأنصاري : ياسمرة ! لا تزال تفجأنا على حال لا نحبُّ أن تفجأنا عليها ، فاذا دخلت فاستأذن . فقال : لا أستأذن في طريقي إلى عذقي . فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فأتاه ، فقال له صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزَعَم أنّك تَمُرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال : يارسول اللّه ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : خلِّ عنه ولك عذقٌ في مكان كذا . قال : لا ، قال : فلك اثنان ، فقال : لا اُريد ، فجعل صلى اللّه عليه و آله وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذُقٍ ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم :

-------------------

هذا ( و ) لكن سمرة ( كان يجئويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري ) لسمرة يوما : ( ياسمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ) لدخولك بلا إذن ( فاذا دخلت فاستأذن ) ثم اُدخل .

( فقال ) سمرة : ( لا أستأذن في طريقي إلى عذقي ، فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فأتاه ) أي : أتى سمرة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فقال له ) الرسول ( صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزعم انّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ) منزله .

( فقال : يارسول اللّه ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟ ) هذا ما لا يكون .

( فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ) إذن ( خلِّ عنه ) أي : ارفع يدك عن عذقك ( ولك عذقٌ في مكان كذا ) يريد الرسول بذلك أن يعوّضه عذقا مكان عذقه حتى يكون عذق سمرة للأنصاري - مثلاً - .

( قال : ) سمرة ( لا ، قال : ) الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( فلك اثنان ، فقال لا اُريد ، فجعل صلى اللّه عليه و آله وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذُقٍ ، فقال ) رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لسمرة

ص: 370

خلّ عنه ، ولك عشر أعذُق في مكان كذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك بها عذقٌ في الجنة . فقال : لا اُريد . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّك رجلٌ مضارٌّ ، لا ضرر ولا ضِرار على مؤمن ، قال عليه السلام : ثم أمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقُلِعت ، ثم رُمِي بها اليه . وقال له الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انطلِق واغرسها حيث شئت » ، الخبر .

وفي رواية اُخرى موثّقة : « أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال : رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري : إذهب فاقلَعها وارم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضِرار » ، الخبر .

-------------------

( خلّ عنه ، ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى ) سمرة .

( فقال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( خلّ عنه ولك بها عذقٌ في الجنة ، فقال : لا اُريد ) .

وهنا لما رفض سمرة كل هذه الحلول ظهر انه يصرّ على أذى جاره ( فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنك رجلٌ مُضارٌّ ، لا ضرر ولا ضِرار على مؤمن ، قال عليه السلام : ثم أمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقُلِعت ، ثم رُمِي بها اليه ، وقال له الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انطلق واغرسها حيث شئت » (1) الخبر ) .

هذا ( وفي رواية اُخرى موثّقة : « أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فانّه لا ضرر ولا ضرار» (2) الخبر).

ص: 371


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 ، وسائل الشيعة : ج25 ص428 ب12 ح32281 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص292 ح2 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص146 ب22 ح36 ، وسائل الشيعة : ج25 ص429 ب12 ح32281 .

...

-------------------

ثم إنّ الأوثق قد جمع جملة من الروايات الدالة على ذلك ، نذكرها تباعا ، ففي رواية العيون : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ماكره» (1).

وفي رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليه السلام : « ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم » (2) .

وفي رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام قال: «قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار»(3) .

وعن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى : ان البعير برى ء فبلغ ثمنه دنانير ، قال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فان قال : لا أُريد إلاّ الرأس والجلد ، فليس له ذلك هذا الضرار ، وقد اُعطي حقه إذا اُعطي الخمس » (4) .

وعن محمد بن الحسين قال : « كتبت إليه - يعني أبا محمد - عليه السلام رجل كان له رحىً على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أ له ذلك أم لا ؟ فوقّع عليه السلام : يتقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن » (5) .

ص: 372


1- - عيون اخبار الرضا : ص29 ح26 ، تحف العقول : ص42 ، صحيفة الرضا : ص43 ح13 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص666 ح2 و ج5 ( فروع ) ص31 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص140 ب22 ح5 و ج7 ص146 ب22 ح35 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص76 ب2 ح3368 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص79 ب22 ح55 و ص82 ب22 ح65 .
5- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح5 .

وأمّا معنى اللفظين ، فقال في الصحاح : « الضرُّ خلافُ النفع ، وقد ضرَّهُ وضارَّهُ بمعنى ، والإسمُ الضَّرر ، ثم قال : والضِّرار : المُضارَّة » .

وعن النهاية الأثيريّة : في الحديث : « لا ضَرر

-------------------

وعن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل : انه لا يمنع نفع البئر ، وبين أهل البادية : انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال ، لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وفي جملة من الروايات ان « من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن » (2) .

( وأمّا معنى اللفظين ) : الضرر والضرار ( فقال في الصحاح : « الضرُّ ) بالفتح ( خلافُ النفع ) والظاهر : انه خلاف لا نفع ولا ضرر أيضا ، فان من يسافر لأجل تجارة قد يتضرر ، وقد ينتفع ، وقد لا يتضرر ولا ينتفع ( وقد ضرَّهُ وضارَّهُ بمعنى ) : واحد ( والإسم ) أي : اسم المصدر : ( الضَّرر ) .

ولا يخفى : ان الفرق بين المصدر واسم المصدر هو : ان المصدر يدل على الحدث المنسوب إلى الفاعل كالاغتسال بمعنى : فعل الغسل ، وامّا اسم المصدر : فيدل على الحالة الحاصلة من المصدر كالغسل فانه صورة وهيئة لما يأتي به المغتسل ، وكذلك التوضي والوضوء .

( ثم قال : والضّرار : المُضارَّة » (3) ) فيكون كالقتال والمقاتلة .

( وعن النهاية الأثيريّة ) أي : نهاية ابن الأثير انه قال : ( في الحديث : « لا ضرر

ص: 373


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح6 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص350 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج10 ص240 ب4 ح38 و ص231 ب4 ح44 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص155 ب2 ح3546 .
3- - الصحاح : ج2 ص719 و ص720 مادة ضرر .

ولا ضِرار في الاسلام » . الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضِرارا ، وأضرَّ به يُضِرُّهُ إضرارا ، فمعنى قوله : لا ضرر : لا يَضُرُّ الرجلُ أخاه فينقصه شيئا من حقّه ، والضرارُ فِعالٌ من الضرّ ، أي : لا يجازية على إضراره بادخال الضرر عليه ، والضرر فعل الواحد ، والضِرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه . وقيل : الضررُ ما تضرُّ به صاحبَك وتنتفعُ أنت به ، والضرارُ أن تَضُرَّهُ بغير أن تنتفع .

-------------------

ولا ضِرار في الاسلام » (1) : الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضِرارا . وأضرَّ به يُضِرُّهُ إضرارا ) كل ذلك مستعمل ( فمعنى قوله : لا ضرر : لا يَضُرُّ الرجلُ أخاه فينقصه شيئا من حقّه ) والحق هنا يراد به الأعم من المال والجسم والعرض وما أشبه .

( والضرارُ ) مصدر على وزن : ( فِعالٌ ) من ضارب يضارب مضاربة وضرابا وضيرابا ، وهكذا : ضارر يضارر مضاررة وضرارا وضيرارا ( من الضرّ ، أي : لا يجازية على إضراره بادخال الضرر عليه ) فالمعنى الذي ذكره النهاية هو : انه إذا أضر إنسان إنسانا ، فلا يجوز لذلك الانسان المعتدى عليه ان يضرّ الضار .

( والضرر فعل الواحد ، والضِرار فعل الاثنين ) مثل : القتل والقتال ( والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه ) .

ثم قال النهاية : ( وقيل : الضررُ ما تضرُّ به صاحبَك وتنتفعُ أنت به ، والضرارُ أن تَضُرَّهُ بغير أن تنتفع ) ولكن هذا القيل لا شاهد عليه من إنصراف ونحوه .

ص: 374


1- - معاني الاخبار : ص281 ، مصباح الكفعمي : ص346 ، وسائل الشيعة : ج26 ص14 ب1 ح32382 ، نهج الحق ص489 و ص506 .

وقيل : هما بمعنى . والتكرار للتأكيد » ، انتهى .

وعن المصباح : « ضرّه يضرّه » من باب قتل : إذا فَعَلَ به مكروها ، وأضرّ به ، يتعدى بنفسه ثلاثيا والباء رباعيا ، والاسم الضررُ ، وقد يطلق على نقص في الأعيان ، وضارَّهُ يُضارّه مضارّة وضِرارا ، يعني : ضرّه » ، انتهى .

وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضِرارا . ثم قال : والضررُ سوء الحال ، ثم قال :

-------------------

( وقيل : هما بمعنى ) واحد بلا فرق بين ان تقول : ضرّ أو ضارّ ( والتكرار ) في الحديث : « لا ضرر ولا ضرار » إنّما هو ( للتأكيد » (1) ، انتهى ) كلام النهاية .

( وعن المصباح : « ضرّه يضرّه » من باب قتل ، إذا فعل به مكروها وأضرّ به ) ذلك المكروه ، كما إذا ألقى متاعه في البحر ، لا مطلق المكروه ، فان من أحزن إنسانا لا يقال : انه ضره .

وهو ( يتعدى بنفسه ثلاثيا ) فيقال : ضرّه ( والباء رباعيا ) فيقال : أضرّ به ، فيكون من باب الأفعال حينئذ ( والاسم ) أي : اسم المصدر ( الضررُ ) .

هذا ( وقد يطلق على نقص في الأعيان ) وذلك من باب إستعمال الكلي في بعض افراده لأن نقص العين نوع من الضرر ، كما ان جرح الجسم نوع من الضرر أيضا ( وضارَّهُ يُضارّه مضارّة وضِرارا ، يعني : ضرّه » (2) انتهى ) فيكون حينئذ باب المفاعلة والمجرد بمعنى واحد .

( وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضرارا ) فهو مضار ( ثم قال: والضررُ سوء الحال ) وهو معنى ملازم لكثير من افراد الضرر كما لا يخفى ،

ص: 375


1- - النهاية : ج3 ص81 مادة ضرر .
2- - المصباح المنير : ص360 .

والضرارُ : الضيق » ، انتهى .

إذا عرفت ما ذكرنا ،

-------------------

وإلاّ فسوء الحال لا يسمى في العرف ضررا ( ثم قال : ) القاموس ( والضرارُ : الضيق »(1) ، انتهى ) .

هذا ، لكن الظاهر : ان المفاعلة ليست بمعنى المجرد ، بل المراد بها فعل الاثنين ، غير انها قد تطلق على الواحد من باب التلازم الغالبي ، فان من أضرّ بانسان اضرّ به ذلك الانسان غالبا .

وكذا مثله قوله سبحانه : « قاتلهم اللّه » (2) حيث ان طبيعة القتل هو ان يكون له ردّ ، وقوله سبحانه : « يخادعون اللّه وهو خادعهم » (3) وقوله سبحانه : « وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » (4) .

وهكذا قوله : سافرت ، حيث ان السفر ذهاب ومجئ، وسامحت زيدا حيث ان السماح من جانب يلازمه غالبا السماح من الجانب الآخر ، ومن ذكر لهما معنى واحدا أراد نتيجة الاستعمال لا إنهما بمعنى واحد ، فقد اشتهر : ان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وهو كذلك عند التتبع .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) من مدرك هذه القاعدة ، ومن معنى اللفظين : « ضرر ، وضرار » ، ففي الرواية نقول : ان عمدة الاحتمالات في معنى هذا الحديث ثلاثة ، وسائر الاحتمالات ترجع إليها .

أمّا الاحتمال الأوَّل فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

ص: 376


1- - القاموس المحيط : ج2 ص550 مادة الضرّ .
2- - سورة التوبة : الآية 30 ، سورة المنافقون : الآية 4 .
3- - سورة النساء : الآية 142 .
4- - سورة النحل : الآية 126 .

فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أنّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضررٌ على أحد ، تكليفيا كان أو وضعيا ، فلزوم البيع من الغبن حكمٌ يلزم منه ضررٌ على المغبون ، فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك . وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير ،

-------------------

( فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة ) إذ ظاهر « لا ضرر » انه لا وجود للضرر في الخارج مثل لا رجل في الدار حيث ان معناه : لا وجود للرجل في الدار ، لكن حيث ان الضرر في ا لخارج موجود قطعا ، فاللازم ان يراد من لا ضرر : المعنى المجازي وهو : كما قال :

( عدم تشريع الضرر ، بمعنى : انّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيا كان ) ذلك الحكم ، كوجوب الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحج وما أشبه ذلك ( أو وضعيا ) بناءا على ان الوضع غير التكليف على ما سبق الالماع إلى القولين في المسألة .

وعليه : ( فلزوم البيع من الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي ) اللزوم ( بالخبر ) أي : بقوله : « لا ضرر ولا ضرار » فيكون للمغبون حق الفسخ .

( وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك ) يلزم منه تضرر الشريك ، فينتفي اللزوم بالخبر ويكون للشريك حق فسخ البيع ، وقد تمسك الامام عليه السلام بهذه الرواية لثبوت الشفعة .

( وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير ) فانه ضرر عليه فيرفعه الخبر ، فلا يجب عليه الوضوء ، وإنّما يجوز له التيمم ، وهكذا بالنسبة إلى الغسل والتيمم .

ص: 377

وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه ، واباحته له من دون استيذان من الأنصاري ،وكذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذُ الحق عليه .

ومنه : برائة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر ، إذ كما أنّ تشريع حكم يحدثُ معه الضررُ منفيٌّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة

-------------------

( وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه واباحته ) أي : اباحة الشارع الدخول ( له ) أي : للمالك ( من دون استيذان من الأنصاري ) فان في هذا التسليط نوع ضرر لأن الضرر قد يكون دينيا ، وقد يكون ماليا ، وقد يكون عرضيا ، وقد يكون جسميا ، وقد يكون روحيا ، كما إذا سقاه دواءً فصار معتوها ، فانه لم يتضرر جسمه ، وإنّما تضرر روحه ، وسمرة كان يضر الأنصاري عرضيا .

( وكذلك ) بسبب « لا ضرر » يرتفع ( حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه ) لأن الشارع إذا حرّم الرجوع إلى حكام الجور للتقاضي عندهم في حين لم يتمكن صاحب الحق ان ينقذ حقه من الظالم إلاّ بالرجوع إليهم كان الشارع قد أضره بسبب ذلك .

( ومنه : برائة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر ) على المتضرر ، فان الشارع إذا قال : ان الضارّ برئالذمة كان معناه : ان الشارع أضر المتضرر بسبب البرائة ذمة الضار ( إذ كما انّ تشريع حكم يحدث معه الضرر ) على ما مرّ من الأمثلة المتقدمة ( منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ) يكون منفيا بالخبر أيضا ، ومنه حكم الشارع ببرائة ذمة الضار كما عرفت .

( بل يجب ان يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة ) التي أضر فيها إنسان

ص: 378

على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث .

إلاّ أنّه قد ينافي هذا قوله : « لا ضِرار » بناءا على أنّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر .

وكذا لو كان بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين ، لأن فعل الثاني منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاُولى ، فالضرارُ المنفي بالفقرة الثانية

-------------------

إنسانيا آخر ، ان يكون الحكم فيها ( على وجه ) الضمان - مثلاً - بحيث ( يتدارك ذلك الضرر ) حتى يكون الضرر الوارد ( كأن لم يحدث ) وهذا إنّما يكون إذا حكم الشارع بضمان الضار .

( إلاّ انّه قد ينافي هذا ) المعنى وهو : حكم الشارع بضمان الضار ( قوله : « لا ضرار » بناءا على انّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر ) فانه لو كان معنى « لا ضرار » : انه لا يحق لانسان ان يجازي على الضرر ، لزم في المثال الأخير تعارض لا ضرر ولا ضرار .

وإنّما يلزم تعارضهما لأن الصدر يدل على عدم برائة ذمة الضار ووجوب الغرامة عليه ، والذيل يدل على ان المتضرر يحرم عليه أخذ الغرامة .

( وكذا لو كان ) الضرار ( بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين ) فانه لو كان معنى « لا ضرار » عدم مضارة أحدهما للآخر ، لزم منه تعارض لا ضرر ولا ضرار في المثال الأخير أيضا .

وإنّما يلزم تعارضهما على هذا المعنى أيضا ( لأن فعل الثاني منهما ) وهو : المتضرر إذا أخذ الغرامة مثلاً من الضار ، فانه ( ضرر قد نفي بالفقرة الاُولى ) من وقله : « لا ضرر » المفيدة لوجوب ردّ الضرر بضرر مثله ( فالضرار المنفي بالفقرة الثانية ) من قوله : « لا ضرار » المفيدة لحرمة رد الضرر بضرر مثله

ص: 379

إنّما يحصلُ بفعل الثاني ، وكأنّ من فسره بالجزاء على الضرر أخذَهُ من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ .

-------------------

( إنّما يحصل بفعل الثاني ) أي : بردّ المتضرر الضرر على الضار فيحصل التعارض بين الصدر القائل بوجوب ردّ الضرر ، والذيل القائل بحرمة ردّ الضرر بضرر مثله .

( وكأنّ من فسره ) أي : فسر « الضرار » في الرواية بالمعنى الأوّل أي : ( بالجزاء على الضرر أخذه ) أي : أخذ هذا التفسير ( من هذا المعنى ) أي : من معنى المضارة التي هي بين اثنين ، فهذا المعنى هو نفس المعنى الأوّل ( لا على انّه معنى مستقلّ ) .

هذا ، لكنك قد عرفت المعنى الذي ذكرناه ، وان الضرار غير الضرر ، فان الظاهر من : « لا ضرر ولا ضرار » انه لا يحق لانسان ان يضر غيره ، كما لا يضر اللّه سبحانه وتعالى الانسان بتشريع حكم ضرري عليه .

وكذا لا يحق لنفرين ان يضر أحدهما الآخر ، لأن المفاعلة بين الاثنين ، وهذا ليس بمعنى عدم الجزاء على الضرر حتى يقال : انه ينافي قوله سبحانه : «وجزاؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها » (1) وينافي قوله سبحانه : « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » (2) بل معناه : عدم تشاغل نفرين في اضرار الآخر كشخصين إذا التقيا بسيفيهما حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « القاتل والمقتول في النار » (3) ، وهذا غير ما إذا ضرب أحد شخصا بسيف حيث ان للمضروب حق القصاص وليس في النار .

ص: 380


1- - سورة الشورى : الآية 40 .
2- - سورة البقرة : الآية 194 .
3- - تهذيب الاحكام : ج6 ص174 ب22 ح25 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج15 ص148 ب67 ح5184 (بالمعنى) .

المجلد 11

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

توضيحُ الفساد : أنّ هذه القاعدة تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر .

نعم ، لولا الحكومة ومقام الامتنان

-------------------

أمّا ( توضيحُ الفساد ) في توهم هذا الاشكال فهو كما قال :

( أنّ هذه القاعدة ) بمقتضى الأدلة الكثيرة ( تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية ) من الشارع فالوضوء والصلاة والحج وغيرها من العبادات إذا كانت ضررية فهي ليست مجعولة ( و ) تدل أيضا على ( اختصاص أدلّة الأحكام ) الأولية ، كأدلة الصلاة والصوم والحج وغير ذلك ( بغير موارد الضرر ) .

هذا ، ولعل عمدة تلك الأدلة الكثيرة الدالة على عدم جعل الأحكام الضررية هو: ورود القاعدة قبال الأحكام الأولية حيث انهم عليهم السلام رفعوا الأحكام الأولية لمقابلتها دليل لا ضرر أو دليل لا حرج ، أو دليل لا عسر ، وغيرها من الأدلة الحاكمة ، فقد ورد حكم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بقلع عذق سمرة المضار (1) قِبال : « الناس مسلطون على أموالهم » (2) وورد حكم الإمام عليه السلام باثبات حق الشفعة للشريك قبال : « أوفوا بالعقود » (3) وورد حكمه عليه السلام بالمسح على المرارة (4) لدليل لا حرج ، قِبال : وجوب المسح على البشرة ، وهكذا .

( نعم ، لولا الحكومة ) التي يفهمها العرف بعد الجمع بين الأدلة العامة وبين دليل لا ضرر ( و ) كذا لولا ( مقام الامتنان ) الذي وردت هذه الروايات الثانوية

ص: 5


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .
2- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .
3- - سورة المائدة : الآية 1 .
4- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 .

كان للتوهّم المذكور مجالٌ .

وقد يُدفع : بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ، وهذه المصلحة لا يُتدارك الضرر الموجود في مورده ، فانّ الأمر بالحج والصلاة - مثلاً - يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علمَ بوجود ما يقابل الضرر .

-------------------

في مورده ( كان للتوهّم المذكور ) وهو : تقدّم أدلة التكاليف الأولية على قاعدة لا ضرر وشبهها ( مجال ) واسع ، لكن القرينتين دليلان على ما ذكرناه : من حكومة لا ضرر ونحوه على الأدلة العامة الأولية .

هذا ( وقد يدفع ) التوهم المذكور والدافع هو صاحب العوائد وصاحب العناوين : ( بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) ومثل : « كتب عليكم الصيام » (2) ( إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ) فان الصلاة والصوم والحج إنّما وجبت لمصلحة فيها ( وهذه المصلحة لا يُتدارك الضرر الموجود في مورده ) أي : في مورد الضرر .

وعليه : ( فانّ الأمر بالحج والصلاة - مثلاً - يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ) ولذا يجب الاتيان بالحج والصلاة ونحوهما ( ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر ) من المصلحة ، ولذا تسقط تلك العمومات ، فلا يجب ما كان من العبادات ضرريا .

وان شئت قلت : ان الوضوء إنّما وجب لمصلحة فيه ، فان كان فيه ضرر ، قابل الضرر تلك المصلحة فأسقطها ، وبعد ذلك لا يكون في الوضوء مصلحة حتى يجب الوضوء ، ولذا يسقط وجوب الوضوء .

ص: 6


1- - سورة المزمل : الآية 20 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ، لأنه إذا أسلم عموم الأمر لصورة الضرر ، كشف عن وجود مصلحة يُتدارك به الضرر في هذا المورد ، مع أنّه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « أفضل الأعمال أحمزُها » ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : « الأجر على قدر المشقّة » .

-------------------

( وهذا الدفع ) للتوهم المتقدم ( أشنع من أصل التوهّم ) فكما ان أصل التوهم فاسد لما ذكرناه من الأدلة الكثيرة الدالة على حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلة الأولية ، يكون هذا الجواب أفسد من ذلك التوهم لأمرين :

أولاً : ( لأنه إذا أسلم عموم الأمر ) بالوضوء - مثلاً - ( لصورة الضرر ، كشف ) العموم هذا ( عن وجود مصلحة يتدارك به الضرر في هذا المورد ) أي : في مورد الضرر أيضا ، فيكون حال الأمر الأولي بالوضوء حينئذ حال الأوامر الأولية المتعلقة بالموضوعات الضررية : من الخمس والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك ، فيجب الوضوء حتى في مورد الضرر أيضا .

ثانيا : ( مع أنّه يكفي حينئذ ) أي : حين شمول الأدلة الأولية لمورد الضرر ( في تدارك الضرر : الأجر المستفاد من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « أفضل الأعمال أحمزها » (1) ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : « الأجر على قدر المشقّة » (2) ) فيكون للوضوء الضرري جهتان : جهة المصلحة وهي تسقط بسبب الضرر وجهة الأجر وهي لا تسقط بسبب الضرر ، فيكون واجبا لأجل ما فيه من الأجر .

ثم انه لا بأس باشارة مختصرة إلى هذه الرواية التي ذكرها المصنِّف وهي :

ص: 7


1- - مفتاح الفلاح : ص45 ، النهاية : ج1 ص440 ، بحار الانوار : ج70 ص191 ب53 ح2 و ص237 ب54 ح6 .
2- - بحار الانوار : ج73 ص275 ب132 ح27 بيان.

...

-------------------

« أفضل الأعمال أحمزها » فانه لا يبعد ان يراد بذلك ما إذا كان هناك عملان أحدهما أشد من الآخر ، فان الأشد يكون أفضل ، فدراسة الفقه - مثلاً - أصعب من دراسة الطب ، فيكون دراسة الفقه أفضل وهكذا .

وبهذا المعنى لا ينافي هذا الحديث مثل قوله سبحانه : « يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (1) ولا مثل قوله سبحانه : « ما جعل عليكم في الدين من حرج» (2) ولا مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ان هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق » (3) .

لكن ربما يقال : انه يمكن إرادة ذلك العمل الواحد أيضا ، كما إذا كان للعمل الواحد طريقان : طريق أصعب وطريق أسهل ، فان الطريق الأصعب يكون أفضل ، فالحج - مثلاً - مشيا أفضل من الحج ركوبا، ولهذا كان الأئمة عليهم السلام يذهبون إلى الحج مشيا .

هذا ، ولكن لا شك في ان الحج مشيا أفضل من الركوب إذا كان لأجل التواضع للّه سبحانه ، كما ان بساطة العيش وأكل ماجشب من الطعام لأئمة المسلمين أفضل من خصوبة العيش وأكل اللباب إذا كان للّه سبحانه ، وذلك لما فيه من توفير المال على الرعية ، ومواساة الضعفاء منهم ، ودفع اتهام التصرف في أموالهم ، وتسلية الفقراء منهم، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له في نهج البلاغة (4) .

أمّا بدون مصلحة التواضع ، أو مصلحة المواساة للرعية كما في إمامة المسلمين فالأيسر أفضل .

ص: 8


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 وفيه متين بدل (رفيق) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 .
4- - راجع ارشاد القلوب : ص214 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص287 راجع الخطبة « أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش » .

فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من « الحكومة » والورود في مقام الامتنان .

ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة ، إلاّ أنّ الذي يُوهِن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ،

-------------------

والحاصل : ان اليسر هو مراد اللّه سبحانه ، إلاّ ان تكون مصلحة في خلاف اليسر ، وحين وجود تلك المصلحة يكون الأحمز أفضل .

وكيف كان : ( فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ) القائل بتقديم الأدلة العامة على دليل لا ضرر هو : ( ما ذكرناه من « الحكومة » والورود في مقام الامتنان ) فانه قد عرفت : ان الحكومة وكذلك الامتنان بها قرينتان على تقديم لا ضرر على الأدلة الأولية .

وحيث فرغ المصنِّف من الأمور الأربعة المرتبطة بقاعدة لا ضرر : من بيان مدركها ، ومعنى اللفظين فيها ، ومعنى النفي ، وبيان نسبتها مع سائر العمومات ، شرع في الأمر الخامس وهو : بيان إشكالات التمسك بهذه القاعدة فقال : ( ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا ) لما عرفت : من تواتر السند ، وصحة بعض الأسانيد ، وعمل المشهور بها قديما وحديثا ، بل أجمعوا على العمل بها .

( أو دلالة ) لما تقدّم : من حكومة قاعدة « لا ضرر » على الأدلة الأولية .

( إلاّ أنّ الذي يُوهِن فيها هي : كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ) موارد الضرر في الفقه كثيرة جدا ، فان شراء الماء للوضوء ، أو للغسل ، أو لتطهير الثياب ، أو ما أشبه ذلك ضرر ، كما ان الحقوق المالية كالخمس

ص: 9

كما لا يخفى على المتتبع ، خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه ، كما تقدّم ، بل لو بُنِى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقهٌ جديدٌ ،

-------------------

والزكاة والكفارات ، وكذلك الجهاد والقصاص والديات ضرر .

( كما لا يخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه كما تقدّم ) فان الضرر قد يفسّر بمعناه العرفي : من التضرر المالي أو الجسمي أو ما أشبه ذلك ، وقد يفسر بالمعنى الأعم الشامل لما فيه المكروه أيضا ، فيكون الضرر على هذا أوسع دائرة من الضرر بالمعنى العرفي ، لأنه يشمل مثل الصوم الواجب والحج الواجب وأمثالهما مما يدخل بسببها المكروه على الانسان فيكثر بذلك التخصيص في قاعدة لا ضرر .

( بل لو بنى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد ) لأنه يلزم منه تعطيل كثير من الأحكام الضرورية ، وتغيير كثير من الفروع البديهية ، من الخمس والزكاة ، والحج ، والجهاد وما أشبه ، وذلك مما لا يجوز .

أقول : لكن الظاهر : ان هذا الاشكال غير وارد ، فان مثل الخمس والزكاة والحج والضمانات لا يسمى ضررا عرفا ، لأن الاُمور الموضوعة لمصلحة الفرد أو لمصلحة الاجتماع من مقوّمات الحياة لا من الاضرار ، فالخمس والزكاة - مثلاً - للتكافل الاجتماعي ، والحج لمنافع لهم كما في الآية المباركة من الاجتماع والتعارف ، وتحريك الأسواق ، وانعاش الاقتصاد ، وغير ذلك ، والضمانات لجبر الخسائر ، وهكذا .

ومن المعلوم : انّ مثل هذا لا يسمى ضررا ، وإلاّ لصح ان يقال للمشتري الذي يعطي المال في قِبال البضاعة أو ما يحتاج إليه : انه متضرر ، ومن أجل ذلك لا يسمى صرف المال في المسكن والمأكل والمشرب والمنكح والمركب

ص: 10

ومع ذلك فقد استقرّت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلاّ بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ، بحيث يُعْلَم منه إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة .

-------------------

ونحوها ضررا .

وعليه : فاعتبار مثل هذه الاُمور ضررا وتخصيصا في دليل لا ضرر محل منع قطعي ، كما ان تعميم الضرر لما فيه المكروه خلاف اللغة والعرف والشرع .

إذن : فهذا الاشكال وهو : كثرة التخصيصات في لا ضرر الموهن لها ، من أساسه محل نظر .

( و ) لكن ( مع ذلك ) الوهن كله على فرض تسليمه كما يراه المصنِّف ، فان القاعدة معتبرة عند المسلمين كلهم ( فقد استقرّت سيرة الفريقين ) من العامة والخاصة ( على الاستدلال بها ) أي : بقاعدة لا ضرر ( في مقابل العمومات المثبتة للأحكام ) فيسقطون بها وجوب الوضوء الضرري - مثلاً - ولزوم البيع الغبني وغير ذلك من أمثلة تخصيص لا ضرر للعمومات الموجودة من أول الفقه إلى آخره .

كما ( و ) استقرت سيرتهم أيضا على ( عدم رفع اليد عنها ) أي : عن قاعدة لا ضرر ( إلاّ بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ) مثل : أدلة وجوب الخمس والزكاة، والكفارات والديات ، وغيرها من الأحكام الضرورية الثابتة بالدليل القطعي ، لكن هذا التخصيص قد عرفت ما فيه ، فانه تخصّص لا تخصيص .

لا يقال : فلعل الفقهاء ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه لدليل خاص لا لقاعدة لا ضرر ، لأن قاعدة لا ضرر ساقطة بسبب كثرة التخصيصات .

لأنّه يقال : انّهم ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه ذلك مستدلين له بقاعدة لا ضرر ( بحيث يُعْلَم منه إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة )

ص: 11

ولعلّ هذا كافٍ في جبر الوهن المذكور ، وإن كان في كفايته نظرٌ ، بناءا على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينةٌ على إرادة معنى لايلزم منه ذلك ،

-------------------

بل هم يصرحون بذلك في موارد كثيرة من الفقه ( ولعلّ هذا ) أي : استدلال الفقهاء بقاعدة لا ضرر لتخصيص الأدلة العامة الأولية ( كافٍ في جبر الوهن المذكور ) : من كثرة التخصيصات على تقدير تسليمه .

هذا ، ولكن يمكن القول بعدم كفايته كما قال ( وإن كان في كفايته ) أي : في كفاية استدلال الفقهاء بهذه القاعدة لتخصيص الأدلة الأولية ( نظرٌ ، بناءا على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينةٌ على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك ) أي : تخصيص الأكثر .

وعليه : فاذا ورد عام ورأينا كثرة التخصيص المستهجن فيه ، ودار أمره بين المعنى الظاهر للعام الذي يسبب كثرة تخصيصه ، وبين معنى آخر لا يسبب كثرة التخصيص ، فاستهجان الأوّل يوجب حمل العام على خلاف ظاهره من المعنى الثاني الذي لا يسبب كثرة التخصيص فيه .

مثلاً : إذا قال المولى : اكرم العلماء ، فانه ظاهر في العموم الشامل لكل عالم عالم ، فاذا خصص بالنحوي والأديب ، والشاعر والفاسق ، وما أشبه ذلك ، بحيث كان الخارج أكثر من الباقي كما إذا بقي تحت العام عشرة وخرج منه تسعون ، فانه يكون قرينة على ان المراد من هذا العموم ليس معناه الظاهر الشامل لكل أقسام العلماء .

إذن : فالمراد منه معنى آخر لا تخصيص فيه ، أو تخصيصه قليل بحيث لا يكون مستهجنا ، وذلك بحمله - مثلاً - على إرادة المجتهدين منه فيقال : ان هذه القرينة

ص: 12

غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ، واستدلال العلماء لايصلح معيّنا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة

-------------------

دلت على ان إرادة المولى من العالم هنا : المجتهد العادل فقط دون غيره من العلماء .

والكلام فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فانه إذا رأينا ان قاعدة لا ضرر خصصت بكثير من الموارد من أول الطهارة إلى آخر الديات ، كان ذلك قرينة على ان المراد من القاعدة ليس نفي مطلق الضرر الموجب لكثرة التخصيص المستهجن على ماعرفت ، بل المراد : نفي اتلاف مال الغير فقط ، وهذا المعنى اما لم يخصص بشيء، أو خصص بتخصيص قليل لا يوجب استهجانه .

( غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ) فانه على تقدير عدم الجزم بأن المراد من العام هو المعنى الآخر ، فلا أقل من الترديد في ان المولى هل أراد العموم من هذا العام أو أراد ذلك المعنى الآخر منه؟ فيلزم الاجمال في كلام المولى ، والاجمال يسبب الأخذ بالقدر المتيقن وهو : المجتهد العادل في مثل : اكرم العلماء ، واتلاف مال الغير في مثل لا ضرر .

إذن : فالمعنى العام لا يريده المولى حسب هذه القرينة لا في : اكرم العلماء ولا في قاعدة لا ضرر .

( و ) ان قلت : استدلال العلماء بهذه القاعدة لاخراج موارد الضرر من الأدلة العامة يكون معنيا لارادة العموم من لا ضرر .

قلت : ( استدلال العلماء لا يصلح معيّنا ) لارادة العموم من لا ضرر ( خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة ) فان إرادة العموم

ص: 13

إلاّ أن يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلّمت كثرته ، إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل .

وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجانَ فيه إذا كان بعنوان واحد

-------------------

مع تخصيصات كثيرة مرجوح في نظر العلماء ، وكذلك مناف لمقام الامتنان أيضا.

وعليه : فان قوله : « لا ضرر في الاسلام » (1) وما أشبه ذلك من الروايات السابقة إنّما هو في قمام المنَّة وضرب القاعدة ، فكيف يمكن أن يخرج منها هذه الكثرة الكثيرة من الموارد ؟ .

هذا ، مع انا نرى ان مقام المنَّة وضرب القاعدة آبيان عن أصل التخصيص ، فكيف بهذه الكثرة من التخصيص؟ فيكون ذلك دليلاً على ان مراد المولى من لا ضرر : إتلاف مال الغير ، فاذا أتلف أحد مال الغير فعليه تداركه بالضمان ونحوه.

( إلاّ ان يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وان سلّمت كثرته ) أي : سلمنا كثرة الموارد الخارجة من تحت عموم لا ضرر ، لكن لا نسلم كونها أكثر من الموارد الباقية تحت عمومه من أول الفقه إلى آخر الفقه ، فانه إضافة إلى ذلك نقول :

( إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها ) أي : لتلك الموارد الكثيرة ( وان لم نعرفه ) أي : لم نعرف ذلك الجامع ( على وجه التفصيل ) فلا يكون الخارج حينئذ كثيرا ، وإنّما يكون الخارج عنوانا واحدا ، والعنوان الواحد لا مانع في خروجه من تحت العام .

هذا ( وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد

ص: 14


1- - معاني الاخبار : ص281 ، مصباح الكفعمي : ص346 ، نهج الحق : ص489 ، وسائل الشيعة : ج26 ص14 ب1 ح32382 .

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ، ودلّ دليلٌ على اعتبار العدالة ، خصوصا إذا كان المخصّص ممّا يعلم به المخاطبُ حال الخطاب .

ومن هنا ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها ، كما في قوله عليه السلام :

-------------------

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ، ودلّ دليل على اعتبار العدالة ) فيه ، فان غير العادل وان كان كثيرا إلاّ انه لا يكون مستهجنا لمّا كان بعنوان واحد ، بخلاف ما إذا كان التخصيص بعناوين متعددة كما إذا قلنا : اكرم العلماء ، ثم قلنا : لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الصرفيين ، ولا تكرم الاُدباء ، ولا تكرم الشعراء ، وما أشبه ذلك ، ولعل التخصيصات الواردة في قاعدة لا ضرر من القسم الأوّل غير المستهجن .

فان قلت : فما هو ذلك العنوان الواحد الخارج عن قاعدة لا ضرر ، المطّرد من أول الفقه إلى آخره ؟ .

قلت : معرفتنا أو عدم معرفتنا بذلك العنوان ليس بمهم بعد علمنا ان الشارع حكيم ولا يصدر منه التخصيص المستهجن ( خصوصا إذا كان المخصّص ) الذي خرج بعنوان واحد عن قاعدة لا ضرر ( ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب ) وان كان ذلك العنوان مجهولاً عندنا نحن معاشر الغائبين .

( ومن هنا ) أي : مما ذكرنا من ان كثرة الخارج لا يضر إذا كان بعنوان و احد ، لأنه غير مستهجن وان كان الخارج بالنتيجة أكثر من الباقي ( ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها . كما في قوله عليه السلام :

ص: 15

« المؤمنونَ عنْد شروطِهم » وقوله تعالى : « اُوفُوا بالعُقود » بناءا على إرادة العهود ، كما في الصحيح .

ثم

-------------------

« المؤمنون عند شروطهم » (1) وقوله تعالى : « اُوفوا بالعقود » (2) بناءا على إرادة العهود ، كما ) ورد ( في الصحيح ) فقد خرج من عموم : « المؤمنون عند شروطهم » شرط إرتكاب الحرام ، وشرط ترك الواجب ، والشرط المنافي لمقتضى العقد ، والشرط المجهول ، والشرط الغرري ، وغير ذلك .

كما خرج من : « اُوفوا بالعقود » عقد الصغير ، والسفيه ، والسكران ، والمفلّس ، والغرري ، والمجهول ، وعقد من ليس له حق العقد كالعبد ، إلى غيرها.

وأمّا بالنسبة إلى العهود ، فانَّ أكثر العهود المتعارفة بين الناس لا يجب الوفاء به، لكنّا ذكرنا في الفقه : ان الظاهر من العقد هو غير العهد ، والتعبير عنه بالعهد تعبير تسامحي ، فانه ليس أحدهما مرادفا للآخر ، كما يدل على ذلك العرف واللغة ، بل والشرع أيضا .

( ثم ) ان الظاهر من لا ضرر : نفي الضرر الشخصي ، إلاّ إذا دل دليل على نفي الضرر النوعي ، كما في الشفعة والغبن ، فانه يقال فيهما بالنوعية لما دلّ من الدليل على إطلاق حق الشفيع والمغبون في الفسخ .

وعليه : فلا دليل على إرادة نفي الضرر النوعي من لا ضرر ، وإنّما أفاد النوعية في الشفعة والغبن دليل الشفعة وهو الرواية ، ودليل الغبن وهو بناء العقلاء

ص: 16


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص371 ب21 ح66 ، الاستبصار : ج3 ص232 ب142 ح4 ، نهج الحق : ص480 ، وسائل الشيعة : ج21 ص276 ب20 ح27081 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص159 .
2- - سورة المائدة : الآية 1 .

إنّه يُشكِلُ الأمرُ من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي : الضرر النوعي لا الشخصي ، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فُرِضَ عدم تضرّره في خصوص مقام ، كما إذا لم يوجد راغبٌ في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البايع ، لكونه في مَعرِض الإباق أو التلف

-------------------

الذي سكت عليه الشارع ، ولذا نقول بالخيار في الغبن بالنسبة إلى البيع وغير البيع من سائر المعاملات أيضا كالاجارة والمضاربة والرهن وغيرها .

وبذلك ظهر : عدم ورود هذا الاشكال من المصنِّف حيث أشار إليه بقوله : ( إنّه يُشكَلُ الأمرُ من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي: الضرر النوعي لا الشخصي ) بل الظاهر على ما عرفت : ان مرادهم من الضرر المنفي : الضرر الشخصي لا النوعي ، إلاّ في موارد خرج من الشخصية إلى النوعية بدليل خارجي .

وعلى أي حال : فالمصنف يرى الظاهر من الفقهاء النوعية ولذلك قال : ( فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وان فرض عدم تضرّره في خصوص مقام ) بأن لم يكن عليه شخصا ضرر في الغبن ومع ذلك له الخيار ( كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقائه ضررا على البايع لكونه في معرض الاباق ) - مثلاً - بالنسبة إلى العبد ( أو التلف ) بالنسبة إلى ما يتلف ليومه غاصب .

إذن : فالفقهاء لما حكموا بخيار البايع المغبون مطلقا ، سواء كان متضررا أم لم يكن متضررا ، وكان حكمهم بالخيار مستندا إلى قاعدة لا ضرر ، دلّ ذلك على ان المراد من نفي الضرر هو : الضرر النوعي لا الشخصي .

ص: 17

وكما إذا لم يترتّب على ترك الشُّفعة ضررٌ على الشفيع ، بل كان له فيه نفعٌ .

وبالجملة : فالضررُ عندهم في بعض الأحكام حكمةٌ لا يعتبرُ اطّرادُها ، وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادَها ، مع أنّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ، إلاّ أن يستظهر منها انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجبه دائما ،

-------------------

( و ) كذا في حق الشفعة ( كما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع ) فان الفقهاء لما رأوا ان ترك الشفعة يوجب الضرر على الشريك نوعا ، حكموا بحق الشفعة للشريك مطلقا أيضا .

هذا ، ولكن من الواضح : انه لا نتمكن ان نأخذ بنوعية الضرر في كل أقسامه من أول الفقه إلى آخره ، فاذا كان الوضوء أو الغسل أو الصوم أو الحج - مثلاً - يضرّ غالب الناس لبرد أو مرض أو خطر طريق أو ما أشبه ذلك ، ولم يكن لزيد تلك المحذورات ، فانهم قالوا بوجوب هذه العبادات على زيد الذي لا يتضرر بها ، فكيف يمكن الجمع بين ان المراد بالقاعدة : النوعية ، وبين فتواهم في هذه الموارد بالشخصية ؟ .

( وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر اطّرادها ) كما في باب الشفعة والغبن ونحوهما ( وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها ) كما مثلنا له بالوضوء والغسل وغيرهما ( مع انّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ) لأنه لا معنى لرفع الضرر بالنسبة إلى من لا يتضرر فيما إذا كان الغالب يتضررون .

( إلاّ ان يستظهر منها ) أي من قاعدة لا ضرر بملاحظة بعض القرائن ( انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وان لم يوجبه دائما ) حتى يكون المراد من لا ضرر : نفي الضرر النوعي وان لم يتضرر به بعض الافراد .

ص: 18

كما قد يدّعى نظير ذلك في أدلّة نفي الحرج .

ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شُفعة ضررٌ أيضا ، صار الأمر أشكَلَ ،

-------------------

وأمّا القرائن التي يمكن هذا الاستظهار منها حسب رأي المصنِّف فهو مثل : حق الشفعة الذي قرره الإمام عليه السلام ، من دون تفصيل بين تضرر هذا الفرد وعدم تضرره .

أقول : لكنك قد عرفت : ان الظاهر من لا ضرر هو الشخصي ، وفي مورد النوعي يحتاج إلى دليل خارجي ، والشفعة والغبن دل الدليل الخارجي على النوعية فيهما ، فدليل الشفعة الروايات ، ودليل الغبن بناء العقلاء الذي سكت الشارح عليه .

هذا ( كما قد يدّعى نظير ذلك ) أي : نظير ما ادعي من نفي الضرر النوعي ( في أدلّة نفي الحرج ) أيضا ، لكن الظاهر : ان دليل الحرج والضرر والعسر وغيرها كلها اُمور شخصية ، وإنّما يحتاج الحكم فيها بالنوعية إلى دليل خارجي .

ولا يخفى انه قد تقدّم منّا الفرق بين الضرر وأخويه (1) : فانّ الضرر يتحقّق في المال والجسم ، بينما الحرج في النفس ، والعسر في الجسد ما لم يكن ضرر ، كما إذا كان الانسان يتأذّى من الشمس بدون تضرر وإنّما يقع منها في شدة .

وحيث أشكل المصنِّف على إثبات نفي الضرر النوعي بقاعدة لا ضرر ، أشكل على إثبات أصل القاعدة فيما لو تعارض الضرران بقوله : ( ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل ) لأن نفس القاعدة تنفي سلطته على ملك الغير ، فكيف لها باثبات

ص: 19


1- - أي الحرج والعُسر .

إلاّ أن يقال : إنّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ، فتأمل .

-------------------

سلطته عليه ؟ .

إذن : فالاستدلال بقاعدة لا ضرر على نفي الضرر النوعي مشكل ، ولكن الأشكل منه هو : الاستدلال بهذه القاعدة على نفي الضرر فيما لو تعارض ضرران ، كما في الشفعة - مثلاً - فان لزوم البيع ضرر على الشريك ، وتزلزل البيع ضرر على المشتري ، فيتعارضان .

( إلاّ ان يقال : انّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ) فان اخراج الشفيع الملك من المشتري إنّما يعدّ ضررا على المشتري فيما إذا استقر ملك المشتري ، بينما تضرر الشفيع هنا أوجب التزلزل من الأوّل ، فهو كسائر العقود الجائزة ، فلا يكون تعارض بين ضررين ، وإنّما الضرر يكون بالنسبة إلى الشفيع فقط لو لم يكن له حق الفسخ .

( فتأمل ) فان المشتري إنّما لا يصدق عليه التضرر إذا كان العقد بنفسه غير مقتض للزوم ، كما في العقود الجائزة مثل : الهبة ونحوها ، وامّا مع اقتضاء العقد اللزوم بنفسه كما في البيع ، وإنّما حدث التزلزل فيه من جهة تضرر الشفيع فانه يصدق على المشتري التضرر حينئذ ، فيتعارض مع تضرر الشريك .

وكيف كان : فقد تقدّم : ان نفي الحرج كنفي الضرر يراد به الشخصي ، فانه وان ذهب جملة من الأصحاب إلى ان المنفي بعمومات نفي الحرج هو الحرج النوعي، بمعنى : انه إذا كان فعل من الأفعال حرجا في حق الغالب فوجوبه مرتفع حتى في حق من لا حرج عليه كما انه إذا لم يكن حرج في حق الغالب لا يرتفع وجوبه حتى في حق من كان الفعل حرجا بالنسبة اليه ، إلاّ ان الظاهر على ما عرفت :

ص: 20

ثم إنّه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين ،

-------------------

كون الحرج شخصيا .

وعليه : فاذا لم يكن على النوع حرج وكان على زيد حرج ، فالحكم مرفوع بالنسبة إلى زيد فقط ، كما انه لو انعكس بأن كان الحكم حرجا على الغالب ولم يكن حرجا على زيد فالحكم ثابت بالنسبة إلى زيد فقط .

( ثم إنّه قد يتعارض الضرران ) وتعارضهما يتصور على وجوه ثلاثة :

الأوّل : ان يتعارضا ( بالنسبة إلى شخص واحد ) وذلك كما إذا دار أمره بين ان يلقي نفسه من أعلى الدار فتنكسر رجله - مثلاً - لكنه يبقى حيا ، وبين ان يبقى في مكانه فيحترق ويموت فيكون المقام من باب التزاحم ، فاذا كان أحدهما أقل ضررا من الآخر اختاره ، وإذا تساويا كان الخيار له ، امّا إذا كانت الأهمية محتملة غير مقطوعة ، فالأمر يدور بين مسألة التعيين والتخيير ، وقد اخترنا فيه التخيير خلافا لجماعة حيث اختاروا التعيين .

الثاني : ( أو ) يتعارض الضرران بالنسبة إلى ( شخصين ) وأراد ثالث ان يحكم بينهما ، وذلك كما إذا دخلت دابة شخص دار شخص آخر ولم يمكن اخراجها إلاّ بهدم الحائط ، فاللازم ان يرجح الحاكم أحد الأمرين : من هدم الحائط أو ذبح الدابة إذا كان أحدهما أرجح ، وان لم يكن أحدهما أرجح تخيّر ، ولذلك ذهب المشهور إلى ترجيح الهدم مع الغرامة من حيث كونه أقلّ ضررا .

وهكذا حال دابة شخص أدخلت رأسها في قدر شخص آخر ولم يمكن اخراجه منه ، فانه يحكم بكسر القدر إذا كان أقل ضررا ، إلاّ إذا كان القدر نفيسا جدا وكانت الدابة أقل قيمة ، فان الحاكم يرجح ذبح الدابة على كسر القدر .

ومنه يعلم : حال ما إذا أشرفت السفينة بأهلها على الغرق ولزم القاء طن

ص: 21

...

-------------------

من أثاث المسافرين في البحر ، فدار الأمر بين طن من حديد وبين طن من ذهب ، فانه يلزم على الربّان هنا القاء طن الحديد ، وامّا إذا دار الأمر بين طن زيد وطن عمرو وكلاهما حديد فهو مخيّر بين القاء هذا أو ذاك فيما إذا لم يمكن التقسيم بنصف طن لكل واحد منهما ، وإلاّ لزم التقسيم لقاعدة العدل .

الثالث : أو يتعارض الضرران بين شخصين بالنسبة إليهما من دون ثالث يحكم بينهما ، وذلك كما إذا دار الأمر بين تضرره أو تضرر غيره ، فالظاهر : وجوب تقديم تضرر النفس على الغير إذا تساويا أو كان تضرر الغير أهم ، كما إذا أوجب سقي حديقته الاضرار بجدار الغير ، فلا يسقي حديقته حفظا لحق الغير ويدل عليه تقديم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ضرر الأنصاري على ضرر سمرة ، وإطلاق « حرمة ماله كحرمة دمه » (1) ولأن ضرر الغير أذية له واهانة غالبا ، وليس كذلك ضرر نفسه .

وأمّا إذا كان تضرر نفسه أهم ، كما إذا كانت قيمة الحديقة ألف دينار وقيمة جدار الغير مائة بحيث لو لم يسق الحديقة ماتت اشجاره ، فانه يسقي الحديقة ويتحمل ضرر الغير ، اما انه يسقي الحديقة فلقاعدة الأهم والمهم ، واما انه يتحمل ضرر الغير فمن باب الجمع بين الدليلين : دليل جواز الاضرار ، ودليل الضمان .

هذا ، وقد ذكرنا المسألة في الفقه مفصلاً فلا حاجة إلى تكرارها خصوصا وهي خارجة عن مقصود الشرح .

وعلى كلّ حال : فان الحكم في الضررين المتعارضين بوجوهها الثلاثة

ص: 22


1- - الكافي اصول : ج2 ص359 ح2 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص569 ب2 ح4946 و ج4 ص377 ب2 ح5781 ، مجموعة ورام : ج2 ص65 و ص209 ، أعلام الدين : ص201 ، الاختصاص : ص342 ، تحف العقول : ص212 ، تفسير القمّي : ج1 ص291 ، كنز الفوائد : ج1 ص216 .

فمع فقد المرجّح يرجع إلى الاُصول والقواعد الاُخر ،

-------------------

هو كالحكم في كل متعارضين حيث يرجع فيهما إلى المرجح ( فمع فقد المرجّح ) بينهما ( يرجع إلى الاُصول والقواعد الاُخر ) كأصل التخيير وقاعدة السلطنة ، والضمان ، وما أشبه .

وإنّما قلنا : بأن الحكم في الضررين المتعارضين ذلك ، لأن قاعدة لا ضرر إنّما هي منّة على العباد ونسبة العباد إليه تعالى كنسبة عبد واحد ، ولا منّة على تحمل الضرر لدفع الضرر عن الآخر ، فاللازم ملاحظة الأهم والمهم ان كان هناك أهم وإلاّ تساويا فكان التخيير ، ولكن مع تقديم الأهم يلزم على الذي ضرّ غيره ان يتحمل خسارته ، كما في مثال الحديقة والجدار إذا كان تضرّر الحديقة أهم من تضرر الجدار .

لا يقال : اضرار الغير حرام ، اما اضرار النفس فليس بحرام .

لأنّه يقال أوّلاً : ان اضرار النفس قد يكون حراما أيضا ، كما إذا أجبره الجائر على ان يقطع يده أو يد صديقه ، أو أجبره على ان يحرق متاعه أو متاع صديقه ، فان القطع والاحراق كلاهما محرّم سواء بالنسبة إلى النفس أو إلى الغير .

ويقال ثانيا : ان الشارع قد نفى الضرر عن الجميع فلا ضرر عليه ولا على الغير ، ولذلك ينظر عند التعارض فان كان أحدهما أهم قدّم على الآخر ، كما ذكرناه في مثال الحاكم الذي يقدّم الأهم على المهم في ضرر شخصين تحاكما اليه ، وان كانا متساويين فالتخيير .

هذا ما نراه ، وأمّا المصنِّف فيرى غير ذلك حيث قال :

ص: 23

كما أنّه إذا اُكره على الولاية من قبل الجائر ، المستلزمة للاضرار على الناس ؛ فانّه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج ، لأنّ إلزام الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرجٌ ، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولّي من قبل الجائز من كتاب المكاسب .

-------------------

( كما انّه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر ، المستلزمة للاضرار على الناس ) حيث يدور أمره بين قبول الولاية والاضرار بالناس ، وبين عدم قبول الولاية والاضرار بنفسه من قبل الجائر .

وإذا كان كذلك ( فانّه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج ) حيث ان المصنِّف يرى حكومة قاعدة « لا حرج » على قاعدة « لا ضرر » ، معللاً ذلك بقوله : ( لأنّ إلزام الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج ) والحرج منفي ( وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التوليّ من قبل الجائز من كتاب المكاسب ) .

هذا ، لكن الظاهر : ان الحرج والضرر في رتبة واحدة ، فاذا ذكرا معا اُريد بالحرج النفسي ، وبالضرر الجسدي أو المالي ، وان كان كل واحد منهما يشمل الآخر إذا ذكر وحده ، كالفقير والمسكين ، فلا حكومة حينئذ لاحدى القاعدتين على الاُخرى .

أمّا الولاية من قبل الجائر ، فاللازم ان يقال فيها : بمسألة الأهم والمهم ، إذ من أين يكون الحرج حاكما على الضرر ولا يكون الضرر حاكما على الحرج؟ فكما لا يقال : بأن الضرر حاكم على الحرج ، كذلك لا يقال : بأن الحرج حاكم على الضرر .

وكذا حال قاعدة العسر مع القاعدتين : الحرج والضرر ، فانّ المعيار في الجميع ترجيح الأهم على المهم ، والتخيير عند التساوي كما ذكرنا ذلك من غير فرق

ص: 24

ومثله : إذا كان تصرّفُ المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره ، وتركُه موجبا لتضرّر نفسه ، فانّه يرجع إلى عموم : « الناسُ مسلّطون على أموالهم » ، ولو عُدَّ مطلقُ حَجره عن التصرّف في ملكه ضررا ، لم يعتبر في ترجيح المالك ضررٌ زائدٌ على ترك التصرّف ،

-------------------

بين ان يكون الفردان تحت قاعدة واحدة بأن يكون في كلا الطرفين ضرر أو حرج أو عسر ، أو يكون الفردان تحت قاعدتين ، بأن يكون في طرف حرج وفي طرف ضرر أو عسر - مثلاً - .

وكيف كان حكم الاكراه على الولاية فقد قال المصنِّف ( ومثله ) أي : مثل الاكراه على الولاية ( إذا كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره ، وتركُه موجبا لتضرّر نفسه ) كما في مثال : سقي الحديقة وانهدام جدار الجار ( فانّه يرجع إلى عموم : « الناسُ مسلّطون على أموالهم » (1) ) بعد تعارض الضررين وتساقطهما .

هذا إذا كان منع تصرّف المالك في ملكه يوجد تضرره بضرر آخر غير ضرر المنع من التصرف ، كما لو كان محتاجا إلى ثمار أشجار حديقته ، واما إذا كان تضرره لمجرد منعه من التصرف فكما قال : ( ولو عُدَّ مطلقُ حجره عن التصرّف في ملكه ضررا ) أي : من دون ان يلحقه ضرر آخر غير ضرر المنع من سلطته ( لم يعتبر في ترجيح المالك ضررٌ زائدٌ على ترك التصرّف ) فضرر منع المالك من التصرف في ملكه ، كاف لأن يتعارض مع ضرر الجار ويتساقطان ، وبعد التساقط ، للمالك ان يرجع إلى أحد أمرين : عموم السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج .

ص: 25


1- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .

فيرجع إلى عموم التسلّط .

ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج ، لأن منع المالك لدفع ضرر الغير حرجٌ وضيقٌ عليه ،

-------------------

أشار المصنّف إلى الأوّل بقوله : ( فيرجع إلى عموم التسلّط ) لتقديم نفسه على جاره ، وهذا بخلاف البعض الآخر من الفقهاء ، كما في بعض حواشي كتاب إحياء الموات من شرح اللمعة ، حيث قدّم قاعدة « لا ضرر » على قاعدة « التسلط » بدليل : ان « التسلط » قاعدة أولية و « لا ضرر » قاعدة ثانوية ، والقواعد الثانوية تقدّم على القواعد الأولية مطلقا ، كتقديم قاعدة لا ضرر على الوضوء والغسل وغيرهما .

وأشار إلى الثاني بقوله : ( ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج ) عن المالك وذلك بعد تعارض ضرر المالك وضرر الجار وتساقطهما ( لأن منع المالك ) عن التصرف في ملكه ( لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه ) فيكون جائز التصرف مطلقا .

والحاصل من كل ذلك هو : ان تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار يتصور على صورتين :

الاُولى : أن يكون ترك التصرف موجبا لتضرر المالك فعلاً ، لاحتياجه إلى سقي حديقته ، بحيث إذا لم يسقها ماتت أشجاره ، فيسقي الحديقة لقاعدة السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج بالنسبة إلى المالك ، ويضمن ضرر الجار لقاعدة الضمان .

الثانية : ان يكون مجرد ترك التصرف من المالك ضررا ، وان لم يلزم منه ضرر فعلي عليه ، كما إذا أراد غرس الأشجار في ساحة بيته للنظارة والجمال ، فان الأمر

ص: 26

إمّا لحكومته ابتداءً على نفي الضرر، وإمّا لتعارضهما والرجوع إلى الأصل .

ولعلّ هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار : بأن يبني دارَهُ مَدبَغَة أو حماما أو بيت القِصارة

-------------------

يدور بين إضرار الغير بغرس الأشجار ، وبين إضرار النفس بحرمانها من النظارة والجمال ، فيغرس الأشجار لقاعدة السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج بالنسبة إلى المالك ، ويضمن ضرر الجار لقاعدة الضمان .

ثمّ إنّ المصنِّف علّل الرجوع إلى قاعدة « نفي الحرج » بقوله : ( إمّا لحكومته ) أي : حكومة لا حرج ( ابتداءً على نفي الضرر ، وامّا لتعارضهما ) أي : تعارض الضررين : ضرر الجار مع ضرر النفس ( والرجوع إلى الأصل ) بعد تساقطهما ، فان قاعدة لا حرج يحتمل ان تكون حاكمة على قاعدة لا ضرر ، فيرجع إلى قاعدة لاحرج ابتداءً من دون حاجة إلى سقوط لا ضرر بالتعارض ، ويحتمل أن تكون قاعدة لا حرج في رتبة لا ضرر أو متأخرة عنها ، فيرجع اليها بعد اعتبار سقوط لاضرر بالتعارض بين المالك والجار .

( ولعلّ هذا ) الذي ذكرناه كله : من الرجوع إلى قاعدة السلطنة ، وحكومة لاحرج وما أشبه ( أو بعضه ) أي : بعض هذا الذي ذكرناه هو ( منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الجار ) بسبب هذا التصرف .

أمّا مثال ذلك فهو كما قال : ( بأن يبني دارَهُ مَدبَغَة ) يدبغ فيها الجلود فيوجب أذى الجار بسبب الرائحة النتنة ( أو حماما ) يستحم فيه الناس ، فيوجب دخان محرقته أذى الجار ( أو بيت القِصارة ) لغسل الثياب ، فيوجب سريان رطوبتها

ص: 27

أو الحِدادة ، بل حكي عن الشيخ الحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه .

ولعلّه أيضا منشأ ما في التذكرة : « من الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح باخراج رَوشن أو جَناح وبين تصرفه في ملكه » حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار ، بخلاف الثاني ، فانّ المنعَ عن التصرف في المباح لا يعدُّ ضررا ، بل فواتَ انتفاع .

-------------------

إلى بيت الجار ( أو الحِدادة ) حيث تزعج الجيران إزعاجا كثيرا .

( بل حكي عن الشيخ الحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه ) أي : على جواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الجار .

( ولعلّه ) أي : لعل ما ذكرناه هو ( أيضا منشأ ما في التذكرة : « من الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح باخراج روشن أو جناح ) علما بأن الروشن ما لا يحتاج إلى العمود في الشارع ، والجناح ما يحتاج إليه .

( وبين تصرفه في ملكه » (1) ) بسقي حديقته ، أو غرس أشجاره ، أو نحو ذلك مما يؤذي الجار ( حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار ، بخلاف الثاني ) فلم يعتبر فيه عدم تضرر الجار لأنه تصرف من المالك في ملكه .

وإنّما اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار لأنه كما قال : ( فانّ المنع عن التصرف في المباح لا يعد ضررا ) بالنسبة إلى الذي يريد اخراج الجناح أو الروشن في الشارع ( بل فوات انتفاع ) بالنسبة إليه ، ولذلك يشترط تصرفه هذا بعدم تضرر الجار ، بينما لم يعتبر في الثاني عدم تضرر الجار ، لأن منع المالك عن التصرف في ملكه يعدّ بنفسه ضررا ، فيتعارض مع ضرر الجار ويتساقطان ويرجع بعدها إلى قاعدة السلطنة أو قاعدة لا حرج .

ص: 28


1- - تذكرة الفقهاء : ج2 ص182 .

نعم ، ناقش في ذلك صاحب الكفاية مع الاعتراف بأنّه المعروف بين الأصحاب بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر ، قال في الكفاية .

« ويُشكل جوازُ ذلك فيما إذا تضرر الجار تضرّرا فاحشا ، كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئرُ الغير ، أو جعل حانوتَهُ في صفّ العطّارين حانوت حداد ، أو جعل دارَهُ مَدْبَغةً أو مَطْبَخةً » ، انتهى .

-------------------

( نعم ، ناقش في ذلك صاحب الكفاية مع الاعتراف ) أي : إعتراف صاحب الكفاية وهو المحدث السبزواري ( بأنّه المعروف بين الأصحاب ) فانه بعد اعترافه بذلك ناقش فيه ( بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر ) وتساقطهما، فكيف يقدّم التسلط على قاعدة لا ضرر؟ .

( قال في الكفاية ) وهو يبيّن المناقشة في الفتوى المعروفة بين الأصحاب : ( « ويُشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضرّرا فاحشا ، كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئرُ الغير ) لوصول الماء القذر إليها واسقاطها عن الانتفاع بها .

( أو جعل حانوتَهُ ) ومحله الذي هو ( في صفّ العطّارين حانوت حداد ) حيث يزعجهم بمطرقته وحرارته .

( أو جعل داره مَدْبَغةً أو مَطْبَخةً » (1) ) حيث ان المدبغ وكذلك المطبخ يسببان أذى الجيران بالروائح ، وبالدخان وما أشبه ذلك ( انتهى ) .

والظاهر في هذه الموارد هو ما ذكرناه : من تقديم الأهم إذا كان هناك أهم ، وإلاّ تخيّر بين اضرار الجار وضمان ضرره ، وبين الاضرار بنفسه وترك التصرف في ملكه ، فحالهما حال غريمين رجعا إلى الحاكم ، وذلك لما عرفت : من ان العبيد بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى كعبد واحد ، وانّ لا ضرر هو حكم الجميع .

ص: 29


1- - كفاية الأحكام : ص241 .

وإعْتُرِضَ عليه تبعا للرياض بما حاصله : « إنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلاً وتحصيلاً ، والخبرِ المعمول عليه ، بل المتواتر : من : « أنّ الناس مسلطون على أموالهم » وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الأدلة

-------------------

ومن ذلك ظهر : انه لا يبعد ان يكون للحاكم الشرعي حق المنع عن الاُمور المزعجة : كالمصانع والمعامل في المدن السكنية .

وأن يكون له حق المنع عن تربية الدواجن والمواشي ممّا لها أصوات مزعجة وروائح كريهة تؤذي الجيران اللذين ليست لهم هذه الاُمور في البلد ، ونقل كل ذلك إلى خارج البلد أو إلى القرى والأرياف ، فان مثل هذه الاضرار في القرى وكذلك الأرياف متبادلة بعكس البلد ، وقد ذكرنا ذلك مسهبا في كتاب إحياء الموات (1) ( وإعْتُرِضَ عليه ) أي : على المحدث السبزواري - الذي ناقش في تقديم قاعدة السلطنة عند تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار - بعض الفقهاء فقال في اعتراضه عليه ( تبعا للرياض بما حاصله : « إنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلاً وتحصيلاً ، و ) بعد ( الخبرِ المعمول عليه بل المتواتر : من « أنّ الناس مسلطون على أموالهم » (2) ) .

إن قلت : فماذا تصنعون بمثل أخبار : « لا ضرر ولا ضرار » (3) ؟ .

قلت : ( وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الأدلة )

ص: 30


1- - راجع موسوعة الفقه للشارح : ج80 وكما ألمع الى ذلك في كتابه الفقه البيئة .
2- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 و ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح4 ، معاني الاخبار : ص281 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 ، نهج الحق : ص489 و ص495 .

محمولة على ما إذا لم يكن غرض إلاّ الاضرار ، بل فيها كخبر سمرة إيماءٌ إلى ذلك .

سلّمنا ، لكنّ التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، والترجيح للمشهور للأصل

-------------------

المصرّحة بأن « الناس مسلطون على أموالهم » ( محمولة على ما إذا لم يكن غرض إلاّ الاضرار ، بل فيها كخبر سمرة إيماءٌ إلى ذلك ) حيث ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال له : « انك رجل مضار » (1) فيظهر منه : ان الممنوع هو قصد الاضرار بالغير ، امّا إذا قصد إدارة اُموره حتى لا يتضرر ، فلا بأس باضرار الغير إذا عمل بسلطنة نفسه في ملكه .

( سلّمنا ) عدم تقدّم قاعدة « السلطنة » على قاعدة « لا ضرر » ( لكنّ التعارض بين الخبرين ) أي : بين خبر السلطنة وخبر لا ضرر ( بالعموم من وجه ) .

وإنّما يكون التعارض بينهما من وجه لأنه قد يكون سلطنة بلا ضرر ، كما إذا تصرف في داره بلا تضرر الجار ، وقد يكون تضرر بلا سلطنة ، كما إذا هدم دار الجار ، إذ لا سلطنة للانسان في التصرف في دار الغير ، وقد يجتمعان كما إذا سقى حديقته فتضرر به دار الجار ( والترجيح ) في مادة الاجتماع ( للمشهور ) حيث يقدّمون حق المالك على حق الجار .

وإنّما يقدّم المشهور حق المالك ( للأصل ) فانه إذا شك في جواز تصرف المالك في ملكه بما يتضرر به جاره وعدم جوازه فالأصل الجواز ، لأنه « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) وغيره من أدلة أصل البرائة وأصل الاباحة .

ص: 31


1- - الكافي فروع ج5 ص294 ح8 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

والاجماع » ، انتهى .

ثم فصّل المعترض بين أقسام التصرف : بأنّه إن قصد به الاضرار من دون أن يترتّب عليه جلب نفع أو دفعُ ضرر ، فلا ريب في أنّه يمنَعُ ، كما دلّ عليه خبرُ سمرة بن جندب ، حيث قال له النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّك رجلٌ مُضار » .

وأمّا إذا ترتّب عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير ، فانّه جائزٌ قطعا .

-------------------

( و ) كذا لأجل ( الاجماع » ) حيث قد عرفت : ان المشهور يقدّمون حق المالك على الجار ( انتهى ) كلام هذا البعض المعترض على صاحب الكفاية .

( ثم فصّل المعترض بين أقسام التصرف : بأنّه ان قصد به الاضرار من دون ان يترتّب عليه جلب نفع ) لنفسه ( أو دفع ضرر ) عن نفسه ( فلا ريب في انّه يمنع ، كما دلّ عليه خبر سمرة بن جندب ، حيث قال له النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم: « إنّك رجلٌ مُضارٌّ » (1) )

واحتمال كون الأمر بقلع الشجرة في خبر سمرة من باب اعمال الولاية الالهية ، لا من باب قاعدة لا ضرر ، لأن الضرر لم يكن من الشجرة ، وإنّما من الدخول إلى الشجرة بلا إذن ، غير تام .

وإنّما كان هذا الاحتمال غير تام ، لأن الظاهر من الخبر : ان الشجرة هي بنفسها كانت مادة الفساد ومنشأ الضرر ، ولذا كان اللازم قلعها ، فالأمر بقلعها إنّما هو بقاعدة لا ضرر لا لاعمال الولاية .

( وأمّا إذا ترتّب عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير ، فانّه جائزٌ قطعا )

ص: 32


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .

وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار ، وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا يتحمّل عادة ، فانّه جائزٌ على كراهة شديدة ، وعليه بنوا كراهة التولّي من قبل الجائر لدفع ضرر يصيبه .

وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا لا يتحمل عادةً لنفع يصيبه ، فانّه لا يجوز له ذلك .

وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك ،

-------------------

وذلك اما لقاعدة الأهم والمهم ، أو لقاعدة السلطنة ، أو للأصل ، أو للاجماع ، أو لقاعدة لا حرج أو ما أشبه ذلك ( وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار ) حيث يمنع الهواء والشمس وغير ذلك عن الجار ، فان المالك مسلط على هذا وان تضرر الجار به تضررا قليلاً .

( وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا ) لكنه مما ( يتحمّل عادة ) بين الجيران ، مثل سراية الرطوبة إلى بيته ، وتأذّيه بحشرات أشجار جاره وما أشبه ذلك ( فانّه جائزٌ ) أيضا لما ذكر ، ولكن ( على كراهة شديدة ) .

وإنّما يكون شديد الكراهة ، لأن الأفضل للجار ان لا يعمل شيئا يتأذى جاره وان كان من حقه ان يعمل ذلك .

( وعليه بنوا كراهة التوليّ من قبل الجائر لدفع ضرر يصيبه ) إذ ما يصيب الناس من ضرر بسبب تولّيه ، أقل مما يصيبه بسبب عدم قبوله ولاية الجائر .

( وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا ) بحيث ( لا يتحمل عادةً ) فانه حتى وان كان تضرر جاره ( لنفع يصيبه ، فانّه لا يجوز له ذلك ) إذ يصدق عليه حينئذ انه مضار ، فينفيه خبر لا ضرر المتواتر وخصوص خبر سمرة .

( وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك ) أي : فيما إذا كان تضرر الغير بسبب

ص: 33

وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير ، والشهيد في اللمعة : الضمانَ إذا أجّج نارا بقدر حاجته مع ظنّه التعدّي إلى الغير .

وأمّا إذا كان ضرره كثيرا وضررُ جاره كذلك ، فانّه يجوز له دفعُ ضرره وإن تضرّر جاره أو أخوه المسلمُ .

وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر إلى أن قال : والحاصل أنّ أخبارَ الأضرار فيما يُعَدُّ اضرارا معتدّا به عرفا ،

-------------------

احتكار هذا الانسان تضررا كبيرا بحيث لا يتحمل عادة من جوع ، أو مرض أو ما أشبه ذلك .

( وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير ، والشهيد في اللمعة : الضمان إذا أجّج نارا بقدر حاجته مع ظنّه التعدّي إلى الغير ) فان في تعدي النار إلى الغير ضرر كبير .

( وأمّا إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك ) كثيرا ( فانّه يجوز له دفع ضرره وان تضرّر جاره أو أخوه المسلم ) لأنه لا دليل على وجوب تحمل الضرر لدفع ضرر الجار ، فتجري قاعدة السلطنة ، أو قاعدة لا حرج ، أو ما أشبه ذلك .

( وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر ) إذا كان ضرره في عدم القبول كثيرا وكان ضرر الناس بسببه كثيرا أيضا .

( إلى أن قال : والحاصل ) أي : حاصل ما ذكره هذا الفقيه المعترض على كفاية السبزواري : من التفصيل بين أقسام التصرفات المضرة بالغير هو : ان الضرر المحرّم في الروايات ليس هو كل ضرر بالغير ، بل هو ما اجتمع فيه أمران :

الأوّل : ان يعدّ في العرف ضررا معتدّا به ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( أنّ أخبار الأضرار ) إنّما تتحقق ( فيما يعدّ اضرارا معتدّا به عرفا ) .

ص: 34

والحال أنّه لا ضرر بذلك على المضرّ ، لأنّ الضرر لا يزال بالضرر » ، انتهى .

أقول : الأوفق بالقواعد تقديمُ المالك ، لأنّ حجر المالك عن التصرف في ماله ضررٌ يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج .

-------------------

الثاني : ان يكون هذا الضرر المعتد به في العرف مما لا يجلب على تاركه ضررا ، فلو كان ضرر على تاركه لم يجب عليه تركه ، وإليه أشار بقوله : ( والحال أنّه لا ضرر بذلك على المضرّ ) وإنّما يشترط ذلك ( لأنّ الضرر لا يزال بالضرر ) فانه لا دليل على وجوب إزالة الضرر عن الغير بتحمل الضرر بنفسه ( انتهى ) كلام هذا المعترض القائل بالتفصيل في المسألة .

ولا يخفى : ان هذا المعترض على كفاية السبزواري تبعا للرياض ، والمفصّل في أقسام التصرف المضر بالغير هو : صاحب مفتاح الكرامة ، وقد جعل المسألة على خمسة أقسام :

الأوّل : أن يقصد بتصرفه الاضرار من دون ان يترتب عليه جلب نفع لنفسه أو دفع ضرر عنها .

الثاني : ان يترتب لنفسه عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير .

الثالث : أن يتضرر به الجار كثيرا لكنه بحيث يتحمل عادة .

الرابع : أن يتضرّر به الجار كثيرا ويكون مما لا يتحمل عادة .

الخامس : أن يكون ضرره به كثيرا وضرر جاره به كثيرا أيضا .

( أقول : الأوفق بالقواعد ) عند المصنِّف ( تقديم المالك ) حتى في الصورة الأخيرة ( لأنّ ) مجرد ( حجر المالك عن التصرف في ماله ضرر ) وضرر المالك هذا ( يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج )

ص: 35

نعم ، في الصورة الاُولى التي يقصد المالك مجرّد الاضرار من غير غرض في التصرف يعتدّ به لا يعدّ فواتُه ضررا .

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ، إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما سيجيء ، وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ،

-------------------

على ماعرفت .

( نعم ، في الصورة الاُولى التي يقصد المالك مجرّد الاضرار ) بالغير ( من غير غرض في التصرف يعتدّ به ) عند العقلاء بحيث ( لا يعدّ فواته ) أي : فوات ذلك التصرف ( ضررا ) على المالك ، فانه يمنع المالك منه كما منع سمرة من الدخول إلى عذقه بدون إذن الصحابي .

وإنّما يمنع منه لأن تصرفه بهذا النحو لم يكن إلاّ للاضرار بالغير ، ومن الواضح: ان منع المالك عن هذا النحو من التصرف ليس ضررا على المالك حتى يكون معارضا بتضرر الجار ويكون المرجع بعد تساقطهما إلى قاعدة السلطنة أو قاعدة الحرج ، بل يجري قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الجار فقط .

( والظاهر ) عند المصنِّف : ( عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ) فانه يجوز للمالك التصرف بنظر المصنِّف مطلقا ، وذلك لأحد أمرين :

( إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر ) لأن « لا ضرر » شامل للمالك سواء كان ضرره قليلاً أم كثيرا ، وسواء كان ضرر الجار قليلاً أم كثيرا ( كما سيجيء ) فانه يتعارض الضرران ويتساقطان ويكون المرجع قاعدة السلطنة .

ثانيا : ( وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ) لما تقدّم عن المصنِّف :

ص: 36

فانّ تحمُّل الغير على الضرر ولو يسيرا ، لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا ، حرجٌ ، ولذا اتفقوا على أنّه يجوز للمُكره الاضرارُ على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير ، هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير .

وأمّا في غير ذلك ،

-------------------

من ان نفي الحرج حاكم على نفي الضرر ، فانه وان كان ضرر الجار كثيرا وضرر النفس قليلاً ، إلاّ ان قاعدة لا حرج توجب تقديم لا ضرر النفس على لا ضرر الجار كما قال : ( فانّ تحمل الغير ) أي : النفس ( على الضرر ولو يسيرا لأجل دفع الضرر عن الغير ) أي : الجار مثلاً ( ولو كثيرا حرج ) على النفس ( ولذا اتفقوا على انّه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ) إضرارا ( لأجل دفع الضرر عن نفسه ) كما في الوالي الجائر ( ولو كان ) ضرره على نفسه ( أقل من ضرر الغير ) .

وعلى قول المصنِّف هذا : فانه إذا قال الجائر : اقطع يد زيد ورجله ، أو اقلع عينيه واجدع أنفه ، أو اصلم أُذنيه واقلع أسنانه - مثلاً - وإلاّ قطعت اصبعا من أصابعك ، جاز له اضرار الغير حتى لا تقطع اصبع من أصابعه .

هذا ، ولكنّك قد عرفت : ان هذا خلاف ظاهر الأدلة ، بل لا يعلم من إطلاق الفقهاء شمول مثل ذلك ، بل مقتضى القاعدة هو ما ذكرناه : من ملاحظة الأهم إذا كان هناك أهم ، أو التخيير إذا كان تساو مع ضمان ضرر الغير ، وذلك جمعا بين الدليلين : دليل لا ضرر ، ودليل الضمان .

( هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير ) بأن دار الأمر بين ان يتضرر المالك أو يتضرر الغير .

( وأمّا في غير ذلك ) بأن كانت هناك واقعة دار الأمر فيها بين اضرار زيد

ص: 37

فهل يرجعُ ابتداءً إلى القواعد الاُخر ، أو بعد الترجيح بقلّة الضرر ؟ وجهان ، بل قولان ، يظهر الترجيحُ من بعض الكلمات المحكيّة عن التذكرة ، وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه غير واحد من المعاصرين .

ويمكن أن ينزّل عليه ما عن المشهور : من أنّه لو أدخلت الدابة رأسها

-------------------

واضرار عمرو ، كما في قصة القدر والدابة ( فهل يرجع ابتداءً إلى القواعد الاُخر ) : من القرعة ، والتخيير ، وقاعدة العدل ان كان لهذه القاعدة مسرح في تلك الواقعة ( أو بعد الترجيح بقلّة الضرر ) حيث يلزم على الحاكم - مثلاً - ان يختار أقل الأمرين ضررا ؟ .

( وجهان ) من الرجوع إلى القواعد ابتداءً بلا ترجيح ، لأن لا ضرر في هذا الجانب ولا ضرر في ذلك الجانب متعارضان ، سواء كانا متساويين قدرا أم مختلفين ، فيتساقطان ويرجع بعدها إلى التخيير - مثلاً - .

ومن عدم الرجوع إلى القواعد إلاّ بعد فقد الترجيح بقلة الضرر ، فان مع وجود الأقل ضررا ، يقدم الأقل ، لأن الضرر الكثير قليل وزيادة ، فيتساقط القليلان بالتعارض ويبقى الزائد تحت دليل لا ضرر ، فيكون كما إذا أجبره الجائر على ان يأخذ دينارا من زيد أو دينارين من عمرو ، فاللازم ان يقدّم أخذ دينار من زيد لا دينارين من عمرو ، لأنه مجبور في أخذ دينار واحد لا في أخذ الزائد عليه .

( بل قولان ، يظهر الترجيح ) أي : الترجيح بقلة الضرر ( من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة ، وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه ) أي : رجح الترجيح بأقلية الضرر ( غير واحد من المعاصرين ) لما ذكرناه من العلة .

( ويمكن ان ينزّل عليه ما عن المشهور : من انّه لو ادخلت الدابة رأسها

ص: 38

في القِدر بغير تفريط من أحد المالكين كُسرت القِدر وضَمِنَ قيمتَه صاحبُ الدابّة ، مُعلّلاً : بأنّ الكسر لمصلحته ، فيُحمل إطلاق كلامهم على الغالب : من أنّ ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة ، إذا حُكِمَ عليه بتلف الدابّة وأخِذَ قيمتُها ، أكثرُ ممّا يدخل صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته .

وبعبارة أخرى : تلفُ إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاُخرى.

-------------------

في القدر بغير تفريط من أحد المالكين ) لوضوح : انه لو كان تفريط من أحدهما ، كان الضرر عليه من دون ضمان الآخر ، لأنه هو الذي أتلف مال نفسه بتفريطه فاذا كان ذلك من دون تفريط ( كسرت القدر ) بحكم الحاكم إذا ترافعا إليه ( وضمن قيمته ) أي : قيمة القدر ( صاحب الدابّة ) جمعا بين الحقين على ما عرفت ، فانهم رجحوا كسر القدر لقلة ضرره على قطع رقبة الدابة لكثرة ضرره .

وإنّما يضمن قيمة القدر ( معلّلاً : بأنّ الكسر لمصلحته ) أي : لمصلحة صاحب الدابة ، فانه إذا بقيت دابته سالمة وضمن قيمة القدر وهي يسيرة ، كان أولى في نظر العقل والشرع والعرف من ان تقطع رقبة دابته ، ولا يتضرر باعطاء قيمة القدر .

لا يقال : ان قول المشهور بكسر القدر هنا مطلق يشمل ما إذا تساوت الدابة والقدر قيمة ، أو كانت الدابة أرفع ، أو كانت الدابة أخفض .

لأنّه يقال : لا إطلاق لانصرافه إلى الغالب كما قال : ( فيُحمل إطلاق كلامهم على الغالب : من أنّ ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة إذا حُكِمَ عليه بتلف الدابّة وأخِذَ قيمتُها أكثرُ ممّا يدخل صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته ) لأن الغالب في ذلك أن يكون قيمة الدابة أغلى بكثير من قيمة القدر .

( وبعبارة أخرى : تلف إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاُخرى ) فيؤخذ بالأهون والأقل ضررا ، إلاّ إذا تراضيا معا على شيء ، فانه يجوز العمل

ص: 39

وحينئذٍ : فلا يبقى مجالٌ للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحته صاحب الدابة ، بما في المسالك : « من أنّه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط ، وقد يكون المصلحةُ مشتركة بينهما » .

وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا يخرج إلاّ بهدمها، معللاً : بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ، فانّ الغالب أنّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة .

-------------------

بما تراضيا عليه سواء تراضيا على ذبح الدابة أم كسر القدر بشرط ان لا يكون ما تراضيا عليه إتلافا يمنع الشارع عنه كما إذا كانت الدابة حمارا لا ينتفع بلحمها فان ذبحها إتلاف لها ولا يجيزه الشارع إلاّ لأمر أهم .

( وحينئذ ) أي : حين حملنا إطلاق قول المشهور على الغالب ( فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم ) أي : تعليل حكمهم بكسر القدر وضمان صاحب الدابة قيمة القدر ( بكونه لمصلحته صاحب الدابة ) اعتراضا ( بما في المسالك : من انّه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط ) لنفاسة القدر وكونه من التحفيات - مثلاً - ( وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما ) لتساويهما .

( وكذلك ) يحمل على الغالب ( حكمهم بضمان صاحب الدابة ) قيمة الدار ( إذا دخلت ) الدابة ( في دار لا يخرج إلاّ بهدمها ) أي : بهدم الدار وإنّما يضمن قيمة الدار ( معللاً : بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ، فانّ الغالب انّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة ) فيكون كلامهم هذا محمول على الغالب أيضا ، وإلاّ فالميزان هو ما ذكرناه : من تقديم الأهم إذا كان أهم ، والتخيير عند التساوي مع ضمان ضرر المتضرر في الصورتين : صورة تقديم الأهم ، وصورة تقديم أحد المتساويين ، هذا هو تمام الكلام في باب البرائة والاشتغال والحمد لله ربّ العالمين .

ص: 40

الوصائل الى الرسائل

رسالة الشارح: في قاعدة لا ضرر

اشارة

ص: 41

ص: 42

قاعدة لا ضرر

-------------------

ثم إنّا قد كتبنا في باب « لا ضرر » سابقا رسالة مختصرة رأينا إلحاقها هنا لعلها تفيد بعض المشتغلين ان شاء اللّه تعالى ، فنقول ومن اللّه التوفيق :

إنّ في باب « لا ضرر » أحاديث كثيرة ، وفروعا كثيرة ، وتحقيقات للعلماء حولهما كثيرة ، ونحن نكتفي هنا بالأول والثاني وندع التحقيق لمجال آخر .

أما الأحاديث : ففي الكافي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« أنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فشكى إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وخبّره بقول الأنصاري وما شكى ، وقال : إن أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ماشاء اللّه ، فأبى ان يبيع فقال : لك بها عذق يمد لك في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري : إذهب فاقلعها وإرم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وفي رواية اُخرى عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« أنّ سمرة بن جُندب كان له عذق وكان طريقه إليها في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري : ياسمرة لا تزال تفاجئنا على حال لا نحب أن تفاجئنا عليها ، فاذا دخلت فاستأذن ، فقال : لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي ، قال : فشكاه الأنصاري

ص: 43


1- - الكافي فروع : ج5 ص292 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح36 .

...

-------------------

إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فأرسل إليه رسول اللّه فأتاه فقال له :

إنّ فلانا قد شكاك وزعم إنّك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل . فقال : يارسول اللّه ، أستأذن في طريقي إلى عذقي ؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : خلّ عنه ولك في مكانه عذق في مكان كذا وكذا ، فقال : لا .

قال : فلك إثنان . قال : لا اُريد . فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق ، فقال : خلّ عنه ولك عشرة في مكان كذا وكذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة ، قال : لا اُريد ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنك رجل مُضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن .

قال : ثم أمر بها رسول اللّه فقلعت ، ثم رمى بها إليه وقال له رسول اللّه : انطلق فاغرسها حيث شئت » (1) .

وعن أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر عليه السلام :

« كان لسمرة بن جُندب نخلة في حائط بني فلان ، وكان إذا جاء إلى نخلته نظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل ، قال : فذهب الرجل إلى رسول اللّه فشكاه إليه فقال : يارسول اللّه ، إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني ، فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه ؟ فأرسل اليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فدعاه فقال :

ياسمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول : يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك ، ياسمرة استأذن إذا أنت دخلت ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : يسرك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك ؟ قال : لا . قال : لك ثلاثة ، قال : لا . قال : ما أراك

ص: 44


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .

...

-------------------

ياسمرة إلاّ مضار إذهب يافلان فاقطعها واضرب بها وجهه » (1) .

وهنا لا بأس أن نقول تعليقا على الحديث المتقدم : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان همّه نشر الاسلام ، وكسر الأصنام ، وصبّ الناس في بوتقة الدين ، ولهذا كان صلى اللّه عليه و آله وسلم من اللين الخُلقي ، والرفق العملي على جانب كبير لم يصل إليه أحد قبله ولا بعده، وكان من لينه العملي أن لم يجعل سجنا إطلاقا ، فان أول من جعل السجن عمر بن الخطاب على ما ذكره المؤرّخون (2) ، ولم يُجْرِ الحدّ إلاّ قليلاً جدا ، ولم نعهد منه تعزيرا ، وذلك لأنّ هذه الاُمور مما تنفّر الناس ، فلا داعي لها إلاّ في أشد حالات الضرورة .

وعليه : فانّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بهذا الخلق الرفيع واللين الغريب حيث وصفه سبحانه بقوله : « فبما رحمة من اللّه لِنْتَ لهم ولو كُنت فظّا غليظَ القلب لانفضّوا من حولك » (3) تمكّن أن ينشر الاسلام ويحطّم الأصنام في رقعة واسعة من العالم ، من الكويت الحالية إلى آخر اليمن ، وإلى الاُردن حيث قلعة أكيدر ، مرورا بالبحرين ، والمسقط ، والأمارات ، وقطر ، وكل أجزاء الحجاز .

إذن : فلا عجب من أن نراه صلى اللّه عليه و آله وسلم يستعمل هذا القدر الهائل من اللين مع سمرة كما أن تهديده صلى اللّه عليه و آله وسلم بتنفيذ حكم اللّه تعالى في حقه لم يكن إلاّ بعد اليأس من ارتداعه عن الظلم ، وكثيرا ما كان تهديده صلى اللّه عليه و آله وسلم بمجرد اللفظ ليردع الطرف عن غيّه ، ويرجعه إلى الصواب كما عليه دأب القرآن حيث يقول سبحانه

ص: 45


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص103 ب2 ح3423 ، وسائل الشيعة : ج25 ص428 ب12 ح32279 .
2- - للتفصيل راجع كتاب أحكام السجون للدكتور أحمد الوائلي .
3- - سورة آل عمران : الآية 159 .

...

-------------------

في تهديد المنافقين : « لنغيرنّك بهم » (1) أي : لنأمرنك يارسول اللّه بقتالهم واجلائهم عن وطنهم ، وكقوله سبحانه : « جاهد الكفار والمنافقين » (2) مع انّه لم يصلنا منه صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه جاهد المنافقين جهاد حرب ، أو إجلاء أو مصادرة ، أو سجن ، وإنّما كان جهاده بالكلام فقط ، وهذا بحث طويل مربوط بسيرته صلى اللّه عليه و آله وسلم أردنا الالماع إليه فقط (3) .

ثم إنّ من أحاديث الباب طائفة كبيرة ورد فيها كلمة : « لا ضرر ولا ضرار » ، ففي رواية عن أبي عبداللّه ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « لا ضرر ولا ضرار » .

وعن الصدوق ، قال النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « الاسلام يزيد ولا ينقص » (4) .

قال الصدوق : وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : لاضرر ولا اضرار في الاسلام ، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا » (5) .

وعن الشيخ في الخلاف : أنّه روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه قال : « لا ضرر ولا ضرار » .

وعن عقبة بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بين

ص: 46


1- - سورة الأحزاب : الآية 60 .
2- - سورة التحريم : الآية 9 ، سورة التوبة : الآية 73 .
3- - وقد فصل الحديث الشارح عن سلوكيات الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في بعض كتبه منها : لأوّل مرّة في تاريخ العالم ، اسلوب حكومة الرسول والإمام علي عليهماالسلام ، السبيل الى انهاض المسلمين ، الصياغة الجديدة ، ممارسة التغيير ، الفقه الحكم في الاسلام ، الفقه الدولة الاسلامية ، الفقه الادارة .
4- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص334 ب2 ح5717 و ح5720 ، غوالي اللئالي : ج1 ص226 ، نهج الحق : ص515 ، الحجّة على ايمان أبي طالب : ص164 .
5- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص334 ب2 ح5718 .

...

-------------------

أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع البئر ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء وقال : لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار » (2) .

وعن تذكرة العلامة ، أنّه روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار» .

وفي مجمع البحرين في حديث الشفعة : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (3) .

وعن هارون بن حمزة الغنوي ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برء فبلغ ثمنه دنانير ، قال : فقال عليه السلام : لصاحب الدرهمين خذ خمس ما بلغ ، فأبى وقال : اُريد الرأس والجلد ، فقال : فليس له ذلك ، هذا الضرار وقد اُعطي حقه إذا اُعطي الخمس » (4) .

وعن عقاب الأعمال ، عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث قال : « ومن أضرّ بامرأته حتى تفتدي منه نفسها ، لم يرض اللّه له بعقوبة دون النّار ومن ضارّ مسلما فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة » (5) .

ص: 47


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح6 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص76 ب2 ح3368 .
3- - مجمع البحرين : ج3 ص373 ضرر .
4- - الكافي فروع ج5 ص293 ح4 .
5- - ثواب الاعمال : ص285 ، اعلام الدين : ص416 .

...

-------------------

وعن أبي عبداللّه عليه السلام : « إنّه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه ؟ قال : ليس يجبر على ذلك إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاُخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل : استر على نفسك في حقّك ان شئت ، قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه ؟ قال : لا يترك ، وذلك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار » (1) .

أقول : لا يخفى : إنّ هذا الحديث ضعيف لأنّه مروي في الدعائم ، ولعل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : لا يترك من باب التنزيه ، لا أنّه حكم إلزامي ، أو كان لمورد السؤال بعض الملابسات والقرائن الحالية والمقامية التي أوجبت ذلك .

وعن عقبة بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل أتى جبلاً فشق فيه قناة فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأوّل ، قال : فقال : يتقاسمان بحقائب البئر ليلة ليلة ، فينظر أيتها أضرت بصاحبتها ، فان رئيت الأخيرة أضرت بالاُولى فلتعوّر » (2) .

قال في الوسائل : « ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد نحوه وزاد : وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بذلك وقال : إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيل (3) ، وحقائب البئر بمعنى : احتباس الماء » .

وعن محمد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمد عليه السلام : « رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اُخرى إلى قرية له ، كم يكون بينهما في البعد

ص: 48


1- - دعائم الاسلام : ج2 ص499 ح7181 ، ج2 ص504 ح1805 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح7 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص102 ب2 ح3420 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص102 ب2 ح3420 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص145 ب22 ح29 على الاُولى وفيه شيء .

...

-------------------

حتى لا يضر بالاُخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة ؟ فوقّع عليه السلام : على حسب أن لا يضر إحداهما بالاُخرى إن شاء اللّه » (1) .

وروى عن محمد بن علي بن محبوب قال : كتب رجل الى الفقيه عليه السلام في : « رجل كان له رحىً على نهر قرية والقرية لرجل أو لرجلين ، فأراد صاحب القرية أن يسوق الماء إلى قريته في غير هذا النهر الذي عليه هذه الرحى ويعطل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا ؟ فوقع عليه السلام : يتّقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضر أخاه المؤمن » (2) .

وعن طلحة بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام قال : « قرأت في كتاب لعلي عليه السلام ، إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب : إنّ كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين ، فانّه لا يجوز حرب إلاّ باذن أهلها ، وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وحرمة الجار على الجار كحرمة اُمه وأبيه ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على عدل وسواء » (3) .

وهناك جملة من الروايات مشتملة على أمثال هذه الألفاظ أيضا رواها العامة في كتبهم .

مثل : ما رواه عبادة بن الصامت في ضمن نقل قضايا كثيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث قال : وقضى أن لا ضرر ولا ضرار .

ص: 49


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح5 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص238 ب2 ح3870 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص31 ح5 .

...

-------------------

وفي نهاية ابن الأثير قال : في الحديث : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام (1) .

أمّا الفروع ، وهو البحث الثاني في باب لا ضرر فاُمور :

الأوّل : إذا أضره أحد شخصين لا يعلم الضارّ منهما بعينه فالظاهر : تقسيم الضرر عليهما لقاعدة العدل ، وإذا أضر بأحد شخصين لا يعلم انّه أيهما قسّم المال بينهما .

لا يقال : لماذا يتضرر بنصف المال أحدهما ؟ .

لأنّه يقال : لقاعدة العدل ، فقد ورد مثله في درهمي الودعي ، وفي تقسيم الحيوان بين نفرين كل يدعيه ، كما في قضاء أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إلى غير ذلك من الروايات المتواترة في الموارد الخاصة ، والتي يفهم منها قاعدة كلية قد استند إليها جملة من الفقهاء .

كما إنّه إذا لم يعلم هل أنّه أضره باتلاف شاة حيث قيمتها عشرة ، أو جمل حيث قيمته عشرون ؟ أعطاه نصفهما ، وكذلك إذا أضره باتلاف متاع اختلف المقوّمون في قيمته ، فقال بعض إنّه خمسون ، وقال بعض إنّه مائة ، فانّه يعطيه نصفهما .

هذا ، ولا مجال للبرائة في أمثال هذه المقامات ، لأنّ قاعدة العدل العقلائية مقدمة عليها .

الثاني : الضرر النوعي لأجل الشخص ، أو الشخصي لأجل النوع ، أو الشخصي لأجل الشخص ، أو النوعي لأجل النوع ، لا يسمى ضررا عند العقلاء ، ولذا نرى كما في الغرب يرحّبون بذلك في الضرائب المعقولة التي تدار بها البلاد ،

ص: 50


1- - النهاية لابن الأثير : ج3 ص81 .

...

-------------------

وتصلح بها العباد .

وعلى هذا : فالخمس والزكاة ونحوهما ليس من الضرر ، وكذلك الحج ، وهكذا الغرامات من الديات والكفارات ونحوهما فانّها لا تعدّ ضررا .

الثالث : إذا أقدم بنفسه طوعا على الضرر ، لا يصدق عليه الضرر ، كما إذا نذر أنّ يتصدّق بدينار ، وهكذا إذا كان السبب نفسه ، كما في الضمانات ، فانها وإن كانت ضررا لكن المنصرف من « لا ضرر » في النص : أنّ الضرر المرفوع هو الذي جاء من قبل الشارع لا الذي جاء من قبل نفسه باقدامه عليه أو بتسبيبه له .

الرابع : مثل إرش المعيب ، والدية في قتل العمد الذي يتخير الولي بينها وبين القصاص ، والتصدق باللقطة فيما إذا كان مخيرا فيها بين التملك والتصدق عن صاحبها ، وما أشبه ، هل يؤثر بشيء من ذلك في عدم استطاعته للحج ، وفي تحجير المفلّس ، وفي وجوب الخمس عليه ؟ .

الظاهر : إنّ ذمة بائع المعيب ، والقاتل عمدا ، ليست الآن مشغولة بهما ، ولذا لا تأثير لها في عدم استطاعته ، أو عدم وجوب الخمس عليه ، أو ما أشبه ذلك .

الخامس : لما كان « لا ضرر » عرفيا والعرف يرى ضرر المغبون كان له صور ، فما ذكروه : من كون الخيار فوريا ، فاذا لم يتخير فورا سقط خياره ، لأنه أقدم على ضرر نفسه ، غير ظاهر ، بل الظاهر : بقاء خيار المغبون إلى مدة لم يتضرر الغابن تضررا من جهة كونه معلق المال ، فقولهم بالفورية لا دليل قوي عليه .

السادس : « لا ضرر » كما يشمل الضرر الحالي يشمل الضرر المستقبلي أيضا ، فاذا لم يكن في الحال ضرر لكن يحدث منه الضرر في المستقبل جاز الدفع في الحال حتى لا يتضرر منه في المستقبل كما إذا كان حائط الغير مشرفا على السقوط

ص: 51

...

-------------------

بحيث انه إذا لم يهدمه سقط فأضر الناس مالاً أو نفسا فانه يجوز هدمه حتى لايتضرر به المسلمون في المستقبل .

وكذا إذا كان في ملك الغير ماء راكد بحيث لو لم يجففه الآن ، لأضر الناس بنتنه وحشراته في الصيف ، فانه يجوز طمه وتجفيفه حتى لا يتأذى به الناس مستقبلاً .

السابع : إذا كان الضرر في موارد العلم الاجمالي جاز دفع الجميع ، لكن المتولي لذلك وهو الحاكم الشرعي يضمن من بيت المال لغير المورد الضار ويقسّمه بين المتضررين .

مثلاً : إذا أصاب الوباء بعض الألبان ، فالحاكم يأمر بصب الجميع ويدفع من بيت المال قدر الضرر مقسما ذلك على الجميع ، فاذا كان - مثلاً - بين عشرة أوان اناء وبائي مجهول ، أمر الحاكم بصب الجميع وقسّم قيمة التسعة بين المالكين العشرة لقاعدة العدل ، وذلك جمعا بين الأدلة .

الثامن : حيث ان لا ضرر منّة ، وقول الشارع ببطلان العبادة الضررية التي يجهل الانسان ضررها ، اغتسالاً كان أو وضوءً ، صوما كان أو حجا أو غير ذلك ، خلاف المنّة ، لأنه إذا أبطل الشارع عمله فقد حمّله صعوبة اُخرى باعادة الصلاة والصيام والحج ثانيا ، فيلزم القول بصحة أعماله تلك وان كانت تبطل أتى بها وهو عالم بضررها .

وعليه : فانّ عدم الضرر في العبادات من الشرائط العلمية نظير الطهارة من الخبث بالنسبة إلى الصلاة ، لا الواقعية نظير الطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة.

مثلاً : إذا توضأ مع اعتقاد عدم التضرر باستعمال الماء ثم إنكشف خلافه ،

ص: 52

...

-------------------

لا يحكم بالبطلان ، وعليه جرت سيرة الفقهاء في العبادات حيث يعتبرون العلم بالضرر أو الظن به أو الاحتمال العقلائي له وعدمها دخيلاً في صحة العبادة وبطلانها .

نعم ، قد جرى الفقهاء في المعاملات على مقتضى ظاهر لفظ الرواية ، ولذا حكموا بخيار الغبن والعيب لقاعدة نفي الضرر ولو مع اعتقاد المشتري عدمهما حين البيع في المنكشف خلافه . فحكموا بثبوت الخيار من حين البيع لا من حين ظهور الغبن والعيب ، والمسألة مفصلة في بابها .

التاسع : إذا عمل إيجابا ما أورث سلبه الضرر ، كما لو حبس الرجل عن متاعه فسرقه سارق ، أو منعه عن الحيلولة دون سد الماء فأتلف الماء زرعه أو ضرعه ، أو منعه عن غلق قفصه فطار طائره ، وحبس دابته فمات ولدها ، أو ما أشبه ذلك ، فالظاهر : شمول دليل لا ضرر له ، إضافة إلى دليل من أتلف ونحوه ، فان إطلاق لاضرر يشمل كل حكم وجودي .

وعليه : فاذا سبب الوجود الضرر كان مرفوعا ، وإذا سبب العدم الضرر كان مرفوعا أيضا ، ومعنى رفع العدم : ان الحكم الوجودي الذي هو مقابل العدم قائم مقامه ، وقد اختار ذلك الرياض وغيره .

ولا يخفى : انا ذكرنا في الاُصول : ان العدم لا يكون مؤثرا ولا متأثرا ، وإنّما المراد به ما يقابله من الوجود ، فاذا قال : لم يراجع الطبيب فمات ، كان معناه : تمكن المرض أو العرض فيه فمات إلى غير ذلك .

العاشر : إذا توجه ضرر إلى الغير وأمكن دفعه بتوجيه الضرر إلى النفس ، أو إلى ثالث ، فهو على ثلاثة أقسام :

ص: 53

...

-------------------

الأوّل : ان يكون الدفع واجبا ، وذلك كما إذا توجه القتل إلى الغير وأمكن إقناع الضار باعطائه دينارا من نفسه حتى لا يقتله ، فانه يجب إعطاء الدينار ودفع الضرر عن الغير كما يجب دفع الضرر عن النفس ، وذلك لوجوب حفظ النفس المحترمة.

ثم هل للدافع ان يأخذ الدينار من الذي دفع الدينار لأجله ، أو ليس له ذلك ، وإذا لم يكن له ذلك فهل له ان يأخذه من بيت المال؟ احتمالات ثلاثة :

امّا احتمال انه لا يتمكن من استرداد ماله ، فلأنه واجب عليه كسائر الواجبات المتوقفة على المال ، فاذا دفع دينارا - مثلاً - إلى من يوصله إلى المحل الذي يجب عليه ان ينهى فيه عن المنكر ، فلا شك انه لا يحق له ان يأخذ هذا الدينار من فاعل المنكر الذي سبب هذا التحرك من أجله .

وامّا احتمال انه يجوز له أخذ الدينار ممن توجه الضرر اليه ، فلأنه جمع بين الحقين ، كما قالوا في أكل المخمصة .

وامّا احتمال أخذه من بيت المال ، فلأنه المعد لمصالح المسلمين ، ولا إشكال في ان دفع القتل عن الغير من مصالح المسلمين .

الثاني : ان يكون الدفع حراما ، وذلك كما إذا كان الضرر المتوجه إلى الغير هو قطع اليد ، والضرر المتوجه إلى النفس أو الثالث هو القتل - مثلاً - .

الثالث : ان يكون الدفع جائزا وذلك كما إذا تساوى الضرران ولم يكن تحمله لدافعه عن الغير إلى النفس محرّما .

الحادي عشر : إذا توجه الضرر إلى النفس وأمكن دفعه إلى الغير ، فانه يأتي فيه الأقسام الثلاثة التي كانت في الفرع السابق وذلك كما إذا رماه العدو بسهم وكان إذا تنحّى أصاب من خلفه ، فان كان السهم يقتله لكن يجرح من خلفه وجب

ص: 54

...

-------------------

التنحي ، وان كان العكس حرم ، وان تساويا جاز .

الثاني عشر : إذا أمره الجائر باضرار الغير ففي جوازه وعدمه ما تقدّم في الفرعين السابقين : العاشر والحادي عشر ، علما بأن الكلام فيهما وفي هذا الفرع أيضا طويل جدا نكتفي منه بهذا القدر .

الثالث عشر : الضرر المتوجه إلى الانسان من الشرع ، مرفوع بلا إشكال ، ويشمله الدليل المتقدم ، وذلك كما إذا كان الضرر في ا لوضوء ، أو الغسل أو الصوم ، أو الحج ، أو ما أشبه ذلك ، امّا الضرر المتوجه إلى الانسان من نفسه فهو على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما إذا كان جائزا له ، وذلك كما إذا قصر في الفحص عن قيمة بضاعته وباعها بأقل من القيمة فصار مغبونا فيها ، فان له خيار الغبن ، لأن الشارع لم يوجب الفحص عليه ، فاذا ألزمه بالبقاء على البيع لزم غبنه وتضرره ، ولذا فهو مرفوع لاطلاق دليل لا ضرر .

الثاني : ما إذا كان حراما عليه ، وذلك كما إذا أجنب نفسه بالحرام وكان الغسل ضررا عليه ، فانه مرفوع أيضا ويتبدل حكمه إلى التيمم .

الثالث : ما إذا أدخل الضرر على نفسه باختياره عالما عامدا ، وذلك كما إذا باع ما قيمته عشرة دنانير بدينار واحد عالما عامدا ، فان دليل لا ضرر هنا لا ينفيه ، فلا حق له في الفسخ ، بل نفي الضرر هنا يناقض قاعدة : « الناس مسلطون على أموالهم » (1) إذ لو ان الشارع أبطل البيع ، أو جعل له الخيار ، كان خلاف سلطنته .

ص: 55


1- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص185 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .

...

-------------------

ولهذا أشكل جمع على صاحب الجواهر في قوله : يجب رد المغصوب إلى مالكه ولو استلزم تضرر الغاصب باضعاف قيمة المغصوب ، لأنه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب فأشكلوا عليه : بأن الغاصب إنّما أراد الانتفاع بالمغصوب - مثلاً - لا اضرار نفسه ، فاذا أمره الشارع بما لم يقدم عليه كان خلاف دليل لا ضرر .

الرابع عشر : إذا اشتكى شخص عند الحاكم شكاية باطلة تضرر المشتكى عليه بالمصارف : من اُجرة الرواح والمجئوالسفر وما أشبه ، أو تضرر في كسبه وتجارته بسبب إنشغاله بالمحكمة ، أو تضرر لأن المحكمة أخذت منه رسوم المحاكمة ، أو لأنه دفع اُجرة المحاماة أو ما أشبه ذلك ، فانه لا يستبعد ان يكون للمشتكى عليه الحق على المشتكي في تدارك الأضرار المذكورة .

وإنّما كان له الحق في ذلك ، لشمول لا ضرر لها ، وذلك من غير فرق بين علم المشتكي بأنه حق أو باطل وبين عدم علمه بذلك ، لأن الضمانات وضعيات لايشترط فيها العلم ونحوه .

امّا إذا كانت الشكاية بحق ولم يكن للمشتكي إلاّ هذا الطريق ، لم يتحمل المشتكي أضرار المشتكى عليه إذ صاحب الحق يحق له إنقاذ حقه ، فلا يشمل لاضرر مثل ذلك .

الخامس عشر : لا فرق في حق مطالبة المتضرر تدارك أضراره بين ان يكون المتضرر شخصا أو جهة ، وكذا لا فرق بين ان يكون الضار شخصا أو جهة ، وذلك كما لو كان الضار وقفا أو ثلثا أو ما أشبه أو كان المتضرر شيئا من ذلك ، لاطلاق الأدلة .

ص: 56

...

-------------------

السادس عشر : لو أرضعت اُم الزوجة حفيدتها مما حرّم الرضاع على الزوج زوجته وذلك لقاعدة : لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، لم نستبعد في الفقه ضمانها للمهر لكنه غير مشهور ، وكذلك كل رضاع محرّم .

السابع عشر : لو تعدى على امرأة فلا شك في إستحقاقها المهر من المتعدي ، سواء كان عالما بالحرمة ، أم كان جاهلاً بها ، أو شاكا فيها ، وامّا إذا تعدى على غلام فهل يستحق بدلاً من المتعدي؟ لم أجده في كلام أحد ، نعم ، إذا تضرر بالتعدي لاشك في إستحقاقه بدل ضرره لاطلاق الأدلة .

الثامن عشر : ليس من الضرر المتدارك ما إذا فتح محلاً تجاريا - مثلاً - قِبال محل تجاري لشخص آخر ، فسبّب تضرره بانقسام المراجعين اليهما وكذا بالنسبة إلى الطبيبين ونحوهما ، كما انه ليس من الضرر المتدارك إذا سبب قتل إنسان أو حجره انقطاع منافعه التي كان يوصلها إلى الناس ، فان القاتل لا يطالب بتلك المنافع التي كانت تصل الآخرين من المقتول أو من المحجور لانصراف الأدلة عن مثلها .

التاسع عشر : لو اضطر إلى الاضرار بالغير بما يجوز له ، كما إذا قال له جائر : إذا لم تلق متاع هذا في البحر قتلته ، وكان قيمة متاعه دينارا مثلاً ، فانه يجب عليه القاء

المتاع لانقاذ صاحبه ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في ان ضمان الدينار هل هو عليه ،

أو على من أجبره ؟ .

احتمالان : من انه محسن وما على المحسنين من سبيل ، ومن انه وجه الجمع بين الجواز والضمان كما في أكل المخمصة ، ولو قلنا بكون الضمان عليه ، فلا إشكال في ان قراره على المكره - بالكسر - .

ص: 57

...

-------------------

امّا إذا ألجأه على الضرر ، كما لو القاه من شاهق على شخص فمات ، أو على زجاج فانكسر ، فلا إشكال في عدم الضمان عليه ، وإنّما يكون الضمان على الملقي .

العشرون : لو اضطر إلى الاضرار بالغير بما لا يجوز له فاضرّه ، كان الضمان على الضار لا على من أجبره كما لو قال له جائر : اقطع اصبع هذا ، وإلاّ أخذت دينارا منك جبرا ، فلا يجوز له الاضرار بالغير في مقابل خسارته دينارا ، لأن الشارع لم يأذن له بذلك .

الواحد والعشرون : لو اضطر لنجاة الغريق إلى ان يطأ زرع الناس مما يوجب فساده ، فهل يضمن ضرر صاحب الزرع أم لا ، احتمالان : من انه محسن وما على المحسنين من سبيل ، ومن انه وجه الجمع بين الجواز والضمان فيضمن على ما عرفت .

الثاني والعشرون : لو جيء بالمريض إلى الطبيب الموظف لمعالجته من قبل جهة محترمة : كدولة مشروعة ، أو جماعة خيرية - مثلاً - فلم يعالجه الطبيب عمدا حتى مات أو اُصيب بما فيه الضمان بأن تلفت عينه - مثلاً - فهل يضمن الطبيب لأنه السبب عرفا ، أو لا يضمن لأنه لم يباشر قتله أو لم يباشر إتلاف عينه؟ لا يبعد الضمان وان كان بعض المعاصرين أشكل فيه .

الثالث والعشرون : إذا كان موظفا لحراسة أموال الناس ليلاً فرأى اللص يسرق ولم يقل له شيئا فانه ضامن ، وكذا لا يبعد الضمان عليه أيضا إذا نام أو ذهب إلى بعض شغله فاستغل السارق نومه وغيابه فسرق ، نعم ، لا شك في ان قرار الضمان على اللص .

ص: 58

...

-------------------

الرابع والعشرون : إذا لم يكن الشخص موظفا للحراسة ورأى السارق يسرق أموال الناس فلم يمنعه من ذلك مع تمكنه من منعه ، كان فاعلاً للحرام إلاّ انه لم يكن ضامنا .

الخامس والعشرون : لا يجوز للجندي ، أو الطيار ، أو غيرهما من افراد الجيش في الدول الجائرة تنفيذ أوامر قتل الأبرياء أو قصفهم وان أدّى عدم التنفيذ إلى قتله، لكن لو فعل ذلك وألقى - مثلاً - قنبلة على مدينة فقتل آلاف الأبرياء ، فهل الدية كلها على الملقي لأنه المباشر ، أو على المشتركين في هذه الجريمة موزعة عليهم بنسبة القوة والضعف عرفا ، أو بالتساوي ؟ .

احتمالات وان كان بعض المعاصرين يرجّح الأوّل لما ذكروه في الفقه : من مسألة المباشر والسبب ، لكن لا يبعد إنصراف الأدلة عن مثل هذه الاُمور ، والعرف يرى إشتراك الجميع ، بل يرى المباشر أضعف الأسباب مما يجعل جلّ الدية على غيره .

السادس والعشرون : إذا كان مع الطيار في الطائرة طفل - مثلاً - فضغط الطفل على الزر مما سبب إنطلاق القنبلة وقتل الآلاف ، فهل الدية على عاقلة الطفل أم لا ؟ .

إحتمالان : من إنصراف النص عن مثله كما ذكر السيد الحكيم قدس سره شبه ذلك في باب نجاسة الماء المضاف حيث قال : بأن مثل معدن النفط لا يتنجس لانصراف الأدلة عن مثله ، ومن إطلاق أدلة كون الدية على العاقلة ، والظاهر : ترجيح عدم كونه على العاقلة إلاّ بالمقدار اليسير الذي لا ينصرف عنه دليل : « عمد الصبي

ص: 59

...

-------------------

خطأ » (1) والمسألتان محل تأمل وإشكال .

السابع والعشرون : لو منعه ظالم عن الاصطياد - مثلاً - وكان لو تركه إصطاد ما قيمته عشرة دنانير ، لم يستبعد ضمان ذلك الظالم لأنه عرفا اضرار ، وان كان المشهور لا يقولون به حسب ما يظهر من فتاواهم في شبه هذه المسألة معلّلين ذلك : بأنه عدم ربح لا انه ضرر .

ولو منعه الظالم عن عمله وكان يعمل تارة ما قيمته خمسة دنانير ، واُخرى ما قيمته عشرة دنانير ، كان على الضار نصف القيمتين ، فاذا كان - مثلاً - يشتغل يوما حمالاً ويوما نجارا ، واُجرة الحمال خمسة دنانير واُجرة النجار عشرة دنانير ولم يكن يعرف ان في هذا اليوم يعمل حمالاً أو نجارا ، امّا إذا عرف انه كان يعمل حمالاً أو نجارا فله بقدر أجرة ما تركه من العمل .

الثامن والعشرون : لو دار الأمر بين تضرر أحد شخصين ، قدّم الأهم سواء من حيث المال أم من حيث آخر .

مثلاً : إذا أدخل ثور زيد رأسه في خابية عمرو ، مما اضطر إلى قتل الثور أو كسر الخابية ، فقد يكون قيمة أحدهما دينارا والآخر عشرة ، ثم قد يكون الدينار لصاحبه أهم من العشرة لصاحبها حسب نظر العرف فيقدّم الأهم ، وان لم يكن بينهما أهم ، فالقرعة أو اختيار الحاكم ، وقد ذكروا هذه المسألة ونحوها في الدينار والمحبرة .

التاسع والعشرون : قد ذكرنا في الفقه مسألة تضرر الجار بسبب عمل الجار ،

ص: 60


1- - تهذيب الاحكام : ج10 ص233 ب4 ح53 وفيه عمد الصبي وخطاه واحد وسائل الشيعة : ج29 ص89 ب34 .

...

-------------------

وانه جائز في المتعارف وغير جائز فيما لم يكن متعارفا .

مثلاً : الرواح والمجئالمتعارف وان تضرر الجار بسبب ضوضائه جائز ، لتعارفه في الضيافات وما أشبه في البيوت ، وكذا لو رفع بناء الدار بحيث منع الشمس عن دار الجار ، فانه وان تضررّ به الجار جائز لتعارف ذلك في أبنية المدن، وهكذا في غرس الأشجار في البيت أو البستان الموجب لكثرة البعوض ، فاذا فعل ما كان متعارفا لم يكن عليه الضمان وكان جائزا .

امّا إذا فعل ما لم يكن متعارفا مثل : ان ينصب في داره رحى أو ماكنة توجب تصدع دار جاره ، أو يسقي حديقته ماءً فيوجب إنهدام حائط الجار ، أو ما أشبه ذلك ، فانه غير جائز ، لعدم تعارفه ، فاذا فعل ما لم يكن متعارفا لم يكن جائزا وكان عليه الضمان لصدق لا ضرر .

وعليه : فليس القصد هنا بيان ان الضرر ولا ضرر يدوران مدار الجواز وعدم الجواز ، وإنّما القصد ما ذكرناه : من بيان المتعارف وغير المتعارف .

الثلاثون : كما لا يجوز الاضرار بالمسلم ، كذلك لا يجوز الاضرار بالكافر ، إلاّ بقدر إجازة الشارع : من رد الاعتداء ، أو المجابهة في الحرب ، أو ما أشبه ، كل ذلك لاطلاق الأدلة ، بل لا يجوز الاضرار بالحيوان أيضا كما ذكرناه في كتاب النكاح باب النفقات (1) .

الواحد والثلاثون : لا يستبعد ضمان الضار ، الزائد على المقرر شرعا من الدية إذا سببت الجناية صرف مال في علاجه بمقدار أزيد من الدية المقررة له .

مثلاً : إذا قطع الجاني رجل إنسان ، فديتها خمسمائة دينار ، لكن إذا صرف

ص: 61


1- - راجع موسوعة الفقه : ج68 ص391 وما بعدها ، للشارح .

...

-------------------

المجني عليه ستمائة دينار في معالجته ، وجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه ستمائة دينار ، خمسمائة دية الرجل شرعا ، ومائة ضمان الضرر لدليل لا ضرر .

ولو تمكن الجاني من وصل ما قطعه كانت المصارف عليه وان كانت أكثر من الدية ، فاذا تمكن الطب الحديث من وصل الرجل المقطوعة بالجسم - مثلاً - فانه يلزم على الجاني دفع كل مصارفه ، وذلك لأن الدية بدل ، وهذا يتمكن من الأصل بوصلها فيجب عليه .

وهكذا يكون الحال في أمثال هذه الجنايات ، فاذا سبّب - مثلاً - ضعف قلبه وتمكن من تعويض القلب ، أو ابرائه بما يرجع اليه حالته الصحية السابقة ، فأيهما يكون المقدّم؟ لم يستبعد تقدّم الابراء على التعويض ، ويكون مصرف الابراء على الجاني وان أراد المجني عليه التعويض .

الثاني والثلاثون : حيث لم يثبت للضرر حقيقة شرعية فهو أمر عرفي ، ولذلك يختلف الضرر زمانا ومكانا ، ففي زمان يكون الشيء الفلاني ضررا دون زمان آخر ، وفي مكان يكون الشيء الفلاني ضررا دون مكان آخر ، امّا الاختلاف بحسب الاشخاص فلا ، حتى ان الفلس الواحد ضرر وان كان المتضرر في غاية الثروة .

نعم ، الظاهر : انصراف لا ضرر عن مثل قشرة وحبة ، لكن لو تعلق غرض المالك بهما لدواء وما أشبه ، حرم تصرف الغاصب فيهما ووجب عليه بدلهما ، لأن غرض المالك قد تعلق بهما وان لم يكن غرض العقلاء كذلك ، فان المعيار هنا المالك لا العقلاء .

هذا ، بل لم نستبعد في الفقه كون المنع عن النفع ضررا أيضا ، فاذا حبس

ص: 62

...

-------------------

الظالم إنسانا فلم يقدر على ان يكتسب قوت عائلته ، صدق انه أضره بذلك .

وكذا لو منعه عن بيع داره فتنزلت قيمتها مائة دينار ، صدق عرفا انه أضره بمائة دينار ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

الثالث والثلاثون : لو خيّره الجائر بين ضررين فاختار الضرر الأشد كان على الجائر ضمان الضرر الأخف ، سواء تمّ الضرر بيد الجائر أم بيد المتضرر نفسه .

مثلاً : إذا قال له : اكسر آنيتك وقيمتها دينار ، أو ابريقك وقيمته ديناران فاختار كسر الابريق بنفسه أو أعطى ابريقه للجائر فكسره ، فان الزائد كان بارادة المتضرر فيكون كمن أعطى اناءه إلى غيره ليكسره ، ومنه يعرف حال ما لو اجبرت المرأة على اللمس أو الفاحشة فاختارت الفاحشة .

الرابع والثلاثون : لو قال الجائر لزيد بن عمرو : قدم اناءك لأكسره ، فقدم زيد بن خالد اناءه متوهما انه المعنيّ للجائر فكسره ، فهل يضمن الجائر أم لا ؟ .

احتمالان : من ان المتضرر هو الذي أقدم عليه فصار الكسر باختياره ، فيكون كمن ألقى متاعه في البحر باختياره متوهما ، ومن ان لا ضرر يصدق عليه ، إذ ليس المقام من الاستثناء الذي يكون باقدام الانسان على ضرر نفسه ، فيشمله دليل لاضرر .

الخامس والثلاثون : لو أجبره الجائر بالقاء آنيته في البحر فألقى إبريقه والابريق أثمن من الآنية ، فالظاهر : ضمان قيمة الآنية لا الابريق ، لأنه لم يجبره على إلقاء

الابريق ، وإنّما هو توهم ذلك ، فالزائد يكون عليه لا على الجائر .

السادس والثلاثون : لو قال له الجائر كلاما عاديا ، فزعم انه أجبره على كسر آنيته والحال انه كان غير ذلك فكسر آنيته ، لم يضمن المتكلِّم ، لأنّ التوهم سبّب ذلك ، لا ان الجائر أضره .

ص: 63

...

-------------------

السابع والثلاثون : لو قال زيد بن عمرو لشخص : اكسر آنيتك ولم يكن مقتدرا جائرا حتى يلزم نفوذ كلامه لعدم قدرته ، فزعم الشخص ان القائل زيد بن خالد الجائر فكسر الآنية ، لم يضمن أي واحد من الزيدين ، لأنه توهم للاضرار ، وليس إضرارا بنفسه .

الثامن والثلاثون : لو أعطى سيارته بيد من لم يعرف السياقة ، فوطأ بها بضاعة إنسان فسبّب تلفها ، فهل الضامن صاحب السيارة لأنه عرفا السبب ، أو السائق لأنه المباشر ؟ قال المشهور في السبب والمباشر : ان الضمان على المباشر وهو هنا : السائق لا على السبب وهو هنا صاحب السيارة ، لكن فيه تأمل .

التاسع والثلاثون : لو إنكسر من السيارة شيء حال سيرها مما أدى إلى الاضرار بالآخرين ، فهل يضمن السائق؟ الظاهر : انه ان قصّر في تعاهد سيارته وإصلاحها ضمن ، وإلاّ لم يضمن لعدم إسناد الضرر إليه ، لكن المسألة محل تأمل .

الأربعون : لو أجبره الجائر على الزنا بامرأة خاصة ، رفع الجبر الأحكام التكليفية : من الحرمة والعقاب الاُخروي والعقاب الدنيوي كالحد وما أشبه ، امّا الأحكام الوضعية كالولد ، والجنابة ، ونجاسة الموضع ، وما أشبه ذلك ، فهي مترتبة .

نعم ، ورد في الأحاديث لا يحرّم الحرام الحلال على تفصيل مذكور في الفقه ، فلا نعيد الكلام حوله ، وإنّما الكلام هنا هو : ان دليل لا ضرر ونحوه هل يوجب ضمان المهر لها لو لم تكن بغيّة أم لا ؟ .

احتمالان : من انه ضرر عرضي وان لم يكن ضررا نفسيا أو ماليا ، ولا ضرر يشمل الثلاثة : العرضي ، والنفسي ، والمالي ، فدليل لا ضرر إذن يوجب ضمان المهر كما يوجب ضمان الغرم أيضا لو كانت باكرة فافتضها .

ص: 64

...

-------------------

ومن انه ربّما يقال : بأن هذا لا يسمى ضررا ، فدليل لا ضرر لا يوجب ضمانا إذن ، وإنّما ضمان المهر من باب أدلته الخاصّة ، وقد تقدّم : ان قرار المهر يكون على من أجبره .

هذا ، ولو أجبره على الزنا بامرأة غير معينة من بين عدّة ، لم يجز له الزنا بالبكر لو كان فيهن غير بكر ، لأنه بالاضافة إلى الزنا جناية ، وكلما دار أمر الحرام بين الأشد والأخف قدّم الأخف .

وكذا لم يجز له الزنا بالشابة منهن لو كان فيهن عجوز ، لأن اللازم ترك الألذ ، وذلك لأنه ليس بمجبور فيه ، وإنّما الاجبار بالجامع الذي يحصل بالأقل وهو في المثال : الزنا بالعجوز ، فان اختار الشابة لم يبعد تعزيره لاختياره الزائد .

وكذا لو أكرهه بالزنا دقيقة فبقي بقدر دقيقتين ، فانه لم يستبعد هنا الحد أيضا .

وكذا لو كان الأوّل زنا والآخر عقدا ، أو الأوّل عقدا والآخر زنا أو كان الزنا في الوسط دون الطرفين ، أو في الطرفين دون الوسط ، فانه لو كان مخيرا بينها لم يجز اختيار الحرام منها ، فاذا اختار الحرام لم يبعد الحد أيضا .

ومثل : اختيار الألذ ما إذا خيّره الجائر بين شرب خمر يدوم سكره ساعة وبين فرد آخر يدوم ساعتين ، أو غرق في البحر عجوز وشابة ، أو رجل وامرأة ، فأنقذ الأجل تشهيا ولأجل الملامسة ، فانه يعزّر حيث ان الوجوب يتمركز على ما لا لذة فيه أو فيه لذة أقل ، إلى غيرها من الأمثلة .

ولا يخفى : ان هذه المسائل خارجة عن صلب الرسالة ، وإنّما ذكرناها بالمناسبة استطرادا .

الواحد والأربعون : لو باع القصاب لحما مسموما ، فأكله المشتري فتمرض

ص: 65

...

-------------------

أو مات - مثلاً - سواء علم بالمسمومية أم جهلها أم شك بها ، وذلك لاستناد الفعل اليه.

نعم ، مع علم الآكل أو احتماله للتسمم إحتمالاً عقلائيا لم يكن على القصاب الضمان ، لأنه لم يضره وإنّما أضر الآكل نفسه بأكله ما يعمل أو يحتمل إحتمالاً عقلائيا ضرره ، وكذلك حال ما إذا قدم الطعام المسموم إلى الضيف - مثلاً - فانه يأتي فيه بحث علم القصاب أو جهله وشكه ، وعلم الآكل أو جهله وشكه .

الثاني والأربعون : لو ظن ان ضرر الضار قليل وكان كثيرا في الواقع ، أو العكس ، فالمعيار في الكائن لا فيما زعمه ، وكذلك إذا تصور انه يتمرض به فقتله ، أو بالعكس ، أو يصيبه مرض اليرقان فأصابه الاستسقاء - مثلاً - فان الاعتبار في كل ذلك بما حدث لا بما زعم .

الثالث والأربعون : هل الضرر بسمعة الانسان الموجب للخسارة المالية ، والموجب للضرر الجسدي بأن يسبّب مرضه - مثلاً - يعدّ ضرر بحيث يلزم تداركه أم لا؟ لا يبعد ذلك لصدق الضرر .

الرابع والأربعون : لو اختلفا في أصل الاضرار : كان الأصل العدم ، ولو اختلفا في قدره كان الأصل مع الأقل ، ولو اختلفا في انه هل أضره في شاته أو في إبله؟ كانت قاعدة العدل محكمة فيما إذا لم يثبت كلام أحد الطرفين .

كما إنه ليس المقام من البرائة عن الزائد لو كانت قيمة الشاة عشرة والابل عشرين ، لأن المعيار في النزاع هو المصب لا المآل على ما ذكرناه في الفقه ، ولو اختلف المقوّمون أخذ بالوسط .

ولو اختلفا في انه أتلف ثلجه في الشتاء حيث لا قيمة له ، أو في الصيف حيث يكون له قيمة ، احتاج مدعي القيمة إلى الاثبات .

ص: 66

...

-------------------

وكذا لو اختلفا في انه أتلف كلبه حيث لا قيمة ، أو شاته حيث القيمة ، فان على مدعي القيمة إثبات ذلك .

ولو اختلفا اجتهادا أو تقليدا ، أو كان أحدهما مجتهدا والآخر مقلدا ، رجعا إلى ثالث ليفصل بينهما وكان حكمه نافذا عليهما ، سواء وافق حكمه أحدهما أم خالف كليهما ، كما قرر في كتاب القضاء (1) .

الخامس والأربعون : لو أخذ الضار من المتضرر البرائة عن الضرر لم يكن عليه شيء ، لأن المتضرر يكون حينئذ هو الذي أقدم على ضرر نفسه ، كما ذكروا ذلك في الطبيب الآخذ بالبرائة ، وذلك للقاعدة وللنصوص الخاصة في مورد الطبيب .

ومثله : ما إذا كان الطعام محتمل المسمومية ، فقدمّه صاحبه للزبون وقال : أنا برئمن ضرره ، فقبله الزبون مع انه يحتمل مسموميته وأكله فتضرر به .

نعم ، إذا كان الاحتمال عقلائيا ، لم يستبعد حرمة تقديمه للزبون ، لأنه من التعاون على الاثم إذا كان مسموما واقعا ، لا ما إذا لم يكن فانه ليس بأزيد من التجري حينئذ .

ومثله : ما إذا أعطاه أحد الطعامين المشتبهين بكون أحدهما مسموما ، فانّه لو صادف المسموم ، فقد أضرّه بما يلزمه التدارك ، وإلاّ كان تجريا .

هذا والمسائل في باب الضرّ كثيرة جدا نكتفي منها بهذا القدر ، وقد ذكرنا بعضها في كتاب الغصب (2) ، وبعضها في بعض المواضع الاُخر من الفقه واللّه المستعان .

والحمد للّه ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيِّبين الطّاهرين ، واللعنةُ على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .

ص: 67


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه ج78 للشارح .

ص: 68

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث: بحث الاستصحاب

اشارة

ص: 69

ص: 70

المقام الثاني: في الاستصحاب

وهو لغةً : أخذُ الشيء مُصاحبا ،

-------------------

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للّه ربِّ العالَمين والصَّلاة والسَّلام على خَير خَلْقه محمّد وآله الطّاهرين ولعنةُ اللّه على أعدائِهم أجمَعين إلى يومِ الدِّين ... وبعد :

المقام الثاني في الاستصحاب

تقدَّم في أول أصل البرائة : أنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين :

المقام الأوّل: في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الأُصول الثلاثة : من البرائة ، والاحتياط ، والتخيير .

المقام الثاني : في حكم الشك في الحكم الواقعي بملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الاستصحاب .

( وهو ) أي : الاستصحاب ( لغةً : أخذُ الشيء مُصاحبا ) ، لكن الظاهر : أنّ الاستصحاب لغةً هو : «طلب الصُحبة» ، إذ الأصل في الاستفعال ذلك ، يقال : «إستخرج» بمعنى : «طَلَبَ الخروج» .

ومنه قوله سبحانه : « إستَجيبُوا لِرَبِّكُم » (1) وذلك من باب تهيئة مقدمات الاجابة فهو طلب أيضا ، فكأنّ الانسان يطلب الاجابة من نفسه بتوفير مقدمات

ص: 71


1- - سورة الشورى : الآية 47 .

ومنه : استصحابُ أجزاء ما لا يؤكل لحمُه في الصلاة ، وعند الاصوليّين عُرِّف بتعاريف ، أسَدُّها وأخْصَرُها : « إبقاءُ ما كان » .

-------------------

الاجابة في نفسه .

ومنه : ما جاء في خطبة الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام حيث قال في وصف جده صلوات اللّه وسلامه عليه : «وأول من أجاب واستجاب للّه ربّ العالمين » (1) .

ولهذا قال في القاموس : «استصحبه» أي : دعاه الى الصحبة ، ولازَمَهُ (2) ، فالمعنى الذي ذكره المصنِّف لعلّه يكون من باب الملازمة للمعنى اللغوي .

( ومنه ) أي : من الاستصحاب بالمعنى اللغوي على رأي المصنِّف قول الفقهاء في عِداد المبطلات للصلاة : ( استصحابُ أجزاء ما لا يؤكل لحمُه في الصلاة ) فإنّ معناه : أخذ أجزاء ما لا يؤكل لحمه مصاحبا .

( و ) أمّا اصطلاحا : فانه ( عند الاصوليّين عُرِّف بتعاريف ) مختلفة ذكر بعضهم انها دون العشرين ، وقد ذكر المصنِّف جملة منها ( أسَدُّها ) من حيث السلامة عن الاشكالات الواردة ( وأخصَرُها ) من حيث اللفظ هو : ( « ابقاء ما كان » ) .

والمراد : ابقاء المكلّف ما كان على حالته السابقة .

وربّما قيل : بأنّ الأخصر من هذا التعريف هو : «الابقاء» فقط لأنّ «ما كان» يفهم من الابقاء .

ص: 72


1- - بحار الانوار : ج45 ص138 ب39 ح1 .
2- - قاموس المحيط : ص134 صَحَبَ .

والمرادُ بالإبقاء الحكمُ بالبقاء . ودَخلُ الوصف في الموضوع مُشعِرٌ بعلّيته للحكم ، فعلّةُ الابقاء هو أنّه كان ، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله .

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه

-------------------

( والمرادُ بالإبقاء ) حينئذ هو : ( الحكمُ بالبقاء ) فانّه ليس ابقاءا خارجيا وإنّما حكم بالبقاء ، كالحكم ببقاء الوضوء ، أو ببقاء الحدث ، أو ببقاء الزوجيّة ، أو ما أشبه ذلك ، فالمكلّف المستصحِب - بالكسر - يأخذ الحكم السابق مصاحبا الى الحالة اللاحقة .

هذا ( ودَخلُ الوصف ) وهو قوله : «كان» لانّ الكلمة وصف ( في الموضوع ) وهو «ما» في قوله : «ما كان» ( مُشعرٌ بعلّيته ) أي : علّية الوصف ( للحكم ) الذي هو الابقاء ( فعلّةُ الابقاء هو أنّه كان ) فكأنّه قيل : أبْقِ الحالة السابقة لأنّه كان سابقا .

وعليه ( فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله ) فانّ الشيء قد يبقى لبقاء علّته كبقاء نجاسة الماء المغيّر لبقاء تغيرّه ، لأنّ النجاسة معلولة للتغيّر ، فاذا بقي التغيّر بقيت النجاسة .

وقد يبقى لبقاء دليله كبقاء حكم الحلّية للحليب الحلال اذا صار جِبْنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك ، وكبقاء حكم الحرمة للحليب الحرام عند صيرورته جبنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك .

ومن الواضح : أنّ بقاء الحكم لاجل وجود علّته أو وجود دليله لا يسمّى استصحابا بالمعنى الذي ذكرناه ، نعم ، إذا كان البقاء لمجرد أنّه كان سابقا فهذا هو

الاستصحاب .

( وإلى ما ذكرنا ) في تعريف الاستصحاب : من أنّه إبقاء ما كان (يرجع تعريفه)

ص: 73

في الزبدة : ب « أنّه إثباتُ الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأول» .

بل نَسَبَه شارحُ الدروس الى القوم ، فقال : « إنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحابَ اثباتُ حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه » .

-------------------

أي : تعريف الشيخ البهائي رحمه اللّه للاستصحاب ( في ) كتابه ( الزبدة : «بأنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأول» (1) ) .

وإنّما يرجع هذا التعريف الى التعريف السابق ، لأن هذا التعريف هو توضيح لذلك التعريف السابق .

( بل نَسَبَه ) أي : نَسَبَ هذا التعريف ( شارحُ الدروس ) وهو المحقق الخوانساري رحمه اللّه ( الى القوم ، فقال : « إنّ القوم ذكروا : إنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه » (2) ) والزمان هنا من باب اللأبدية في الزمانيّات ، وإلاّ فالمهمّ هو السَّبق واللحوق .

هذا ، ولا يخفى : أن الاصوليين قد عرَّفوا الاستصحاب بتعاريف تنتهي جميعها الى طوائف ثلاث :

الاولى : تعريفه بالحال ، وهذا ما عرّفه به شارح الدروس حيث قد نَسَبَه الى القوم .

الثانية : تعريفه بالمحل ، كما صرح به المحقق القمي وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى .

الثالثة : تعريفه بكليهما وهو ظاهر شارح المختصر وصاحب الوافية .

ص: 74


1- - زبدة الأحكام : ص72 .
2- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

وأزيَفُ التعاريف تعريفُه ب « أنّه كونُ حكمٍ أو وصفٍ يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » ، إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك هو محقّقُ مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه .

ولذا صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول ب « أنّ استصحابَ الحال، محلّه أن يثبت حكمٌ في وقت ، ثم يجيء وقت آخر ، ولا يقوم دليلٌ على انتفاء ذلك الحكم ،

-------------------

والى الثانية وضعفها أشار المصنِّف حيث قال : ( وأزيفُ التعاريف ) وأردئها : ( تعريفه ) بما في القوانين ( ب « أنّه كون حكم ) كالوجوب والحرمة ونحوهما ( أو وصف ) كالحياة والزمان وما أشبه ( يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » (1) ) .

وإنّما قال بأنه أزيف التعاريف ( إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك ) أي : يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ( هو محقّق مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه ) فان كون الشيء متيقّنا ثم مشكوكا يوجب كون هذا الشيء مجرى الاستصحاب ، لا ان هذا الكون بنفسه هو الاستصحاب كما ذكره القوانين .

( ولذا ) أي : لأجل ان ما ذكره القوانين هو المحل لا الحال ، والاستصحاب هو الحال ( صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول ) للشهيد الثاني : ( ب « أنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكمٌ في وقت ثم يجيء وقتٌ آخر ، ولا يقوم دليلٌ على انتفاء ذلك الحكم ) كما انه لا يقوم دليل على بقاء ذلك الحكم .

ص: 75


1- - القوانين المحكمة : 275 .

فهل يُحكَمُ ببقائه على ما كان ، وهو الاستصحاب ؟ » ، انتهى .

ويمكن توجيه التعريف المذكور : بأنّ المحدودَ هو الاستصحابُ المعدودُ من الأدلة ، « وليس الدليل إلاّ ما أفاد العلم أو الظن بالحكم» والمفيدُ للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلاّ كونه يقينيَّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلاّ بما ذكره قدس سره.

-------------------

وحينئذٍ : ( فهل يُحكَم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب ؟ » (1) ، انتهى ) تصريح المعالم .

( ويمكن توجيه التعريف المذكور ) في القوانين : ( بأنّ المحدود ) أي : المعرَّف بالفتح - بهذا التعريف الذي ذكره القوانين ( هو الاستصحابُ المعدود من الأدلّة ) عند القدماء ، فإن الاستصحاب عندهم من أدلة الأحكام لا من الاصول العملية كما هو عند المتأخرين ( وليس الدليلُ إلاّ ما أفاد العلم أو الظنّ بالحكم ) إما ظنا خاصا أو ظنا عاما للانسداد ( والمفيدُ للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلاّ ) المحل وهو : ( كونه يقينيَّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ) .

وعلى هذا : ( فلا مناصَ عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلاّ بما ذكره قدس سره ) .

والحاصل : إن المعرَّف - بالفتح - هو الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام الذي هو الاستصحاب الحكمي المبني على الظن وليس الدليل عندهم إلاّ ما أفاد

ص: 76


1- - معالم الدين : ص231 .

لكن فيه : أنّ الاستصحاب - كما صرّح به هو قدس سره في أوّل كتابه : « إن اُخِذَ من العقل كان داخلاً في دليل العقل ، وإن اُخِذَ من الأخبار فيدخلُ في السنّة » .

وعلى كلّ تقدير فلا يستقيمُ تعريفه بما ذكره ، لأنّ دليل العقل هو حكمٌ عقليٌّ يتوصّل به إلى حكم شرعي .

-------------------

العلم أو الظن بالحكم ، ولا يوجب الظن بالحكم إلاّ كونه متيقن الحصول في الآن السابق ، ولذا يلزم من أن يعرّف الاستصحاب بالمحل لا الحال .

( لكن فيه ) أي : في التوجيه المذكور لتعريف القوانين : إن الدليل الموجب للظن بالحكم هو : كون الشيء يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، والاستصحاب أمر مغاير لهذا التعريف سواء جعلناه داخلاً في الدليل العقلي أم داخلاً في السنة ، وذلك كما قال : ( أنّ الاستصحاب كما صرّح به هو قدس سره في أوّل كتابه ) أي : القوانين : ( « إن اُخِذَ من العقل ) حيث يظن العقل ببقاء ما كان سابقا إذا شك في بقائه وعدم بقائه ( كان داخلاً في دليل العقل ) حيث إن من أدلة الأحكام العقل .

( وإن اُخِذَ من الأخبار ) مثل قوله عليه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ( فيدخل في السنّة » (2) ) فان أدلة الأحكام كما ذكروا : الكتاب والسنة والاجماع والعقل .

( وعلى كلّ تقدير ) سواء تقدير كونه من العقل أم من السنة ( فلا يستقيم تعريفُه بما ذكره ) القوانين .

وإنّما لا يستقيم ( لأنّ دليلَ العقل هو حكمٌ عقليٌ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ )

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - القوانين المحكمة : ج2 ص13 .

وليس هنا إلاّ حكمُ العقل ببقاء ما كان ، والمأخوذ من السنّة ليس إلاّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، فكونُ الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبقُ على الاستصحاب بأحد الوجهين .

نعم ، ذكر شارحُ المختصر : « أنّ معنى استصحاب الحال إنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يُظَنَّ عدمُه، وكلُّ ما كان كذلك فهو

-------------------

إذ ليس الكلام في الاصول عن المستقلات العقلية ، وإنّما الكلام في الأحكام العقلية الملازمة للأحكام الشرعية بمقتضى : كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، ( وليس هنا ) في مورد الشك في البقاء ( إلاّ حكم العقل ببقاء ما كان ) وهو الحال لا المحل .

هذا ( والمأخوذ من السنّة ليس إلاّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ) وهو الحال أيضا لا المحل .

إذن : ( فكونُ الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه ) لاحقا ( لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين ) أي : إن تعريف المحقق القمي للاستصحاب لاينطبق لا على تعريف الاستصحاب المأخوذ من العقل ، ولا على المأخوذ من السنّة، وذلك لأن كلا التعريفين لاستصحاب الحال، لا المحل الذي ذكره القوانين .

( نعم ) هنا تعريف ثالث ينطبق على الاستصحاب بالوجهين كليهما : الحال والمحل معا ، فقد ( ذكر ) العضدي ( شارح المختصر ) لابن الحاجب قائلاً :

( « أنّ معنى استصحاب الحال ) وقد كان هذا اصطلاحا عند القدماء ، حيث يسمون الاستصحاب باستصحاب الحال يعني استصحاب الحالة السابقة هو : ( أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يُظَنَّ عدمُه ، وكلّ ما كان كذلك فهو

ص: 78

مظنون البقاء » .

فإن كان الحدّ هو خصوص الصغرى إنطبق على التعريف المذكور ، وإن جُعِلَ خصوص الكبرى إنطبق على تعاريف المشهور ، وكأنّ صاحب الوافية استظهر منه : كون التعريف مجموع المقدمتين ، فوافقه في ذلك ، فقال : « الاستصحاب هو التمسّكُ بثبوت ما ثبت في وقت أو حال

-------------------

مظنونُ البقاء»(1) ) فإن هذا التعريف كما ترى قد أخذ الحال والمحل كليهما في تعريف .

وعليه : ( فإن كان الحدّ هو خصوصَ الصغرى ) أي : قوله : إن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ( إنطبق على التعريف المذكور ) في القوانين .

( وإن جُعِلَ خصوصَ الكبرى ) أي : قوله : وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ( إنطبق على تعاريف المشهور ) لأن قوله : « وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء » مرجعه إلى أن العقل يظن ببقاء الشيء الكذائي وهو الاستصحاب الذي ذكرناه بقولنا : إبقاء ما كان .

هذا ( وكأنّ صاحب الوافية ) وهو الفاضل التوني قد ( استظهر منه : كون التعريف مجموعَ المقدمتين ) كبرى وصغرى ( فوافقه في ذلك ، فقال : « الاستصحاب هو التمسّكُ بثبوت ما ثبت في وقت ) كوجوب الصوم وقت النهار، فيما إذا شك في ان الليل دخل أو لم يدخل ، فانه يستصحب بقاء وجوب الصوم ( أو حال ) كنجاسة الماء حال التغير فيما إذا شك في ان النجاسة زالت بزوال التغير أو لم تزل ، فانه يستصحب بقاء النجاسة كما قال :

ص: 79


1- - شرح مختصر الأصول : ج2 ص284 .

على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يُعلَم عدمُه ، وكلُّ ما كان كذلك فهو باقٍ » ، إنتهى . ولا ثمرة مهمّة في ذلك .

بقي الكلام في أمور

الأوّل:

-------------------

فيبني ( على بقائه فيما بعد ذلك الوقت ) أي : عند الشك في إنه هل دخل الليل أم لا ؟ ( أو في غير تلك الحال ) أي : عند الشك بعد زوال تغيّر الماء من نفسه بأنّه

هل طهر أم لا؟ ( فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يُعلم عدمُه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باقٍ » (1) ، إنتهى ) كلام صاحب الوافية .

( ولا ) يخفى عدم وجود ( ثمرة مهمّة في ذلك ) فإنه سواء علمنا بأن الاستصحاب عندهم هو الحال فقط ، أو المحل فقط ، أو المحل والحال معا ، أم لم نعلم بذلك ، فقد تبيّن حسب القاعدة : إن الاستصحاب هو الحال .

( بقي الكلام في أمور ) ترتبط ببعض خصوصيات الاستصحاب وهي :

( الأوّل) : هل الاستصحاب من الأدلة الاجتهادية أو من الاصول العملية؟ .

وبعبارة أُخرى : هل الاستصحاب من الأحكام الظاهرية أو الأحكام الواقعية ؟ .

والمراد بالحكم الواقعي : هو الحكم المجعول للموضوعات بالملاحظة الأوّلية ، بمعنى : إنه لم يلاحظ في موضوع الحكم الجهل بحكمه الأوّلي المجعول له ، من غير فرق بين سائر الاعتبارات والأوصاف كالحضر والسفر ، والصحة والمرض ، ووجدان الماء وفقدانه ، والاختيار والاضطرار ، وغير ذلك .

ص: 80


1- - الوافية : مخطوط .

إنّ عدَّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ، نظير أصل البرائة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار .

-------------------

وعليه : فإن الحكم المجعول على الموضوع بما هو هو من غير أخذ الجهل بالموضوع يسّمى حكما واقعيا .

إذن : فقوله سبحانه : « إذا قمتم إلى الصلاة فأغسلوا وجوهكم » (1) حكم واقعي ، وقوله تعالى : « فلم تجدوا ماءا فتيمّموا » (2) حكم واقعي ، وقوله تعالى : « إلاّ ما اضطررتم إليه » (3) حكم واقعي وهكذا .

وأمّا الحكم الظاهري ، فهو المجعول على الموضوعات من حيث الجهل وعدم العلم بالحكم المجعول لها أوّلاً وبالذات مثل : قوله عليه السلام : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم » (4) وقوله عليه السلام : « كل شيء حلال حتى تعلم » (5) ونحوهما .

إذا تبين ذلك نقول : ( إنّ عدَّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ) حيث لا نعلم حكم هذا الموضوع فنستصحب الحالة السابقة ( نظير أصل البرائة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار ) مثل : « لا تنقض اليقين بالشك » (6) ونحوه .

ص: 81


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .
3- - سورة الأنعام : الآية 119 .
4- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .
5- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
6- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأمّا بناءا على كونه من أحكام العقل ، فهو دليلٌ ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما .

-------------------

وعليه : فانه كما يكون حكم شرب التتن المشكوك الحرمة والحلية هو : الحلية والبرائة ، وحكم صلاة الجمعة المشكوك وجوبها وعدم وجوبها هو : الوجوب والاشتغال ، كذلك يكون حكم الماء الزائل تغيره من قبل نفسه المشكوك بقاء نجاسته هو النجاسة ووجوب الاجتناب للاستصحاب .

وهذا إنّما يتم لو أخذنا الاستصحاب من الأخبار ، فإنها تأمر عند الشك فيما له حالة سابقة بالأخذ بالحالة السابقة .

( وأمّا بناءا على كونه ) أي : الاستصحاب ( من أحكام العقل ) وان العقل دال على استصحاب الحالة السابقة ( فهو دليل ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما ) أي : على قول من يرى حجية القياس وحجية الاستقراء .

وعليه : فانه كما يظن العقل بالحكم الشرعي من القياس أو الاستقراء عند القائلين بهما ، كذلك يظن العقل بالحكم السابق إذا كان متيقنا سابقا مشكوكا لاحقا .

والحاصل : ان الاستصحاب لو استفدناه من الأخبار فهو أصل عملي ، لأن في الأخبار أخذ الشك في موضوعه ، وان استفدناه من غيره ، كبناء العقلاء ونحوه فهو دليل ظني اجتهادي ، لأن موضوعه الحالة السابقة من غير أخذ الشك في الموضوع .

لا يقال : لابد من الشك في الحكم حتى نستصحب .

لأنّه يقال : الشك في الحكم متحقق في الخبر أيضا ، فإنا إذا لم نشك

ص: 82

وحيث أنّ المختار عندنا هو الأوّل ، ذكرناه في الاصول العمليّة المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونُه حكما عقليا ، ولذا لم يتمسّك أحدُ هؤلاء فيه بخبر من الأخبار .

نعم ، ذكر في العدّة ، انتصارا للقائل بحجيته ، ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « من أنّ الشيطان ينفخ بين إليي

-------------------

في وجوب الجمعة لم نأخذ بخبر زرارة .

إذن : فلا فرق بين الأصل العملي والدليل الاجتهادي من حيث الشك وإنّما الفرق بينهما هو من حيث ان في الأصل العملي أخذ الجهل في موضوع الحكم فهو يقول : الموضوع المشكوك حلال ، وفي الدليل الاجتهادي أخذ الجهل ظرفا للحكم ، فهو يقول : الموضوع الواقعي في ظرف الجهل بحكمه حلال .

هذا ( وحيث انّ المختار عندنا هو الأوّل ) أي : استفادة الاستصحاب من الأخبار ( ذكرناه في الاصول العمليّة المقررة للموضوعات بوصف كونها ) أي : كون تلك الموضوعات ( مشكوكة الحكم ) فيكون الشك قد أخذ في الموضوع فيكون أصلاً عمليا .

( لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونُه حكما عقليا ) فيكون الاستصحاب عندهم من الأدلة الاجتهادية ( ولذا لم يتمسّك أحدُ هؤلاء فيه بخبر من الأخبار ) حيث إن الأخبار ظاهرها : أخذ الشك في الموضوع فيكون الاستصحاب من الاصول العملية .

( نعم ، ذكر في العدّة ) للشيخ ( انتصارا للقائل بحجيته ) أي : حجية الاستصحاب ( ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « من انّ الشيطان ينفخ بين إليي

ص: 83

المصلّي ، فلا ينصرفَنّ أحدكُم إلاّ بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا » .

ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف والمختص بمورد خاص ، ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم .

وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي ،

-------------------

المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلاّ بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا » (1) ) فانه صلى اللّه عليه و آله وسلم أمر بالبقاء على طهارته السابقة عند الشك في ان الشيء الذي خرج منه هل هو ريح من داخل المعدة ، أو إنه ريح يجذبه الموضع من الخارج ثم يردّه ؟ .

( ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف ) على حجية الاستصحاب ( والمختص بمورد خاص ) فإنّ الخبر ضعيف سندا لأنه نبوي وضعيف دلالة لأنه لا يدل على قاعدة كلية في المقام ( ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم ) مما رواه أبو بصير قائلاً :

عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه : ان أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب من العلم ، فقال في أحدها : «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه » (2) فإن هذا الخبر صحيح سندا عام دلالة وهو دال على الاستصحاب .

( وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي )

ص: 84


1- - عدّة الاصول للطوسي : ص304 وقريب منه في الكافي فروع : ج3 ص36 ح3 وتهذيب الاحكام : ج1 ص347 ب14 ح9 والاستبصار : ج1 ص90 ب55 ح2 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ، وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم .

نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه «بنقض اليقين باليقين» وهذه العبارة ظاهرةٌ في أنّها مأخوذةٌ من الأخبار .

-------------------

الشيخ عبدالصمد ( فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ) وهو كتاب لهذا الشيخ الجليل ( وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم ) فهم إلى اليوم يتمسكون بالأخبار لحجية الاستصحاب .

( نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ) في الاستصحاب ( حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه ) وذلك خلافا لبعض الفقهاء كيحيى بن سعيد وغيره القائلين بطهارته مستدلين له : بأنه إذا زال تغيره لم يصدق عليه الماء المتغير .

وكيف كان : فإن ابن إدريس عبّر عن استصحاب النجاسة ( « بنقض اليقين باليقين » ) وهو ما ورد من قوله : « ولكن إنْقضه بيقين آخر » (1) بمعنى انه حيث لا يقين لا حق بالطهارة هنا نستصحب النجاسة السابقة .

( وهذه العبارة ) من ابن إدريس كما تراها ( ظاهرةٌ في أنّها مأخوذةٌ من الأخبار ) الواردة في باب الاستصحاب .

ص: 85


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
الثاني :

إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية، كما فعله غير واحد منهم ، باعتبار أنّه حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي بواسطة خطاب الشارع .

فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم إرتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ،

-------------------

( الثاني ) : قد نقول : إن الاستصحاب حكم شرعي بحت ، لأنه ثابت بالأخبار ، وقد نقول : إن الاستصحاب حكم عقلي ، فإذا قلنا بأنه حكم عقلي ، كان المراد منه: ان العقل بضميمة مقدمة شرعية - لا مستقلاً - ينتهي إلى الاستصحاب ، وسيجيء صورة القياس عند قوله : « فنقول » ، وذلك كما قال :

( إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية، كما فعله غير واحد منهم ) حيث إنهم عدّوا الاستصحاب من الأمارات وذلك ( باعتبار أنّه حكم عقلي ) غير مستقل ( يتوصل به إلى حكم شرعي ) توصلاً ( بواسطة خطاب الشارع ) فهنا خطاب شرعي وأمر عقلي ، وضم أحدهما إلى الآخر ينتج الحكم الشرعي .

إذن : فليس مرادهم من الاستصحاب على هذا القول انه حكم عقلي مستقل عن الشرع ليكون من قبيل حسن الاحسان وقبح الظلم وما أشبه ذلك ، بل مرادهم منه : إنه حكم عقلي غير مستقل عن الشرع فهو بإنضمام خطاب شرعي ينتهي إلى حكم شرعي ، وصورة القياس ما ذكره بقوله : ( فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ) كنجاسة الماء المتغير ( ثبت سابقا ) أي : في الزمان السابق حين كان متغيرا ( ولم يعلم إرتفاعه ) بزوال التغير من نفسه ( وكلّ ما كان كذلك فهو باق )

ص: 86

فالصغرى شرعية والكبرى عقليّة ظنّية ، فهو والقياس والاستحسان والاستقراء ، نظير المفاهيم والاستلزمات ، من العقليّات غير المستقلة .

-------------------

فالماء المتغير بعد زوال تغيّره باق على نجاسته .

( فالصغرى ) وهي قوله : ان الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ( شرعية ) فان الشارع يقول بنجاسة الماء المتغير بسبب التغير .

( والكبرى ) وهي قوله : وكل ما كان كذلك فهو باق ( عقليّة ظنيّة ) فإن العقل قد يكون قاطعا وقد يكون ظانا .

وعليه : ( فهو ) أي : الاستصحاب حينئذ ( والقياس والاستحسان والاستقراء ) عند من يقول بحجية هذه الثلاثة ( نظير المفاهيم ) كمفهوم الوصف ، ومفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم العدد ( و ) نظير ( الاستلزمات ) العقلية كاستلزام الأمر بالشيء وجوب مقدمته ، وحرمة ضده ، وما أشبه ذلك ، يكون ( من العقليّات غير المستقلة ) لأنّها لا تنتج إلاّ بضميمة مقدمة خارجية شرعية .

مثلاً : العقل يرى حرمة الخمر ويظن بأن مناط الحرمة السكر فيقيس عليه النبيذ فيقول بحرمته أيضا لأنه مسكر ، وهذا هو القياس .

ويلاحظ حرمة النظر وسائر الاستمتاعات مع الأجنبية فيستحسن حرمة كل ما يناسب ذلك فيقول بحرمة التكلم معها أيضا ، وهذا هو الاستحسان .

ويرى حرمة بيع العنب ليعمل خمرا ، وحرمة بيع السلاح لأعداء الدين ، وحرمة اعطاء السيف بيد الظالم ، وحرمة ارائة الطريق لمن يريد الزنا وما أشبه ذلك ، فيظن منها تحريم كل مقدمة الحرام فيقول بحرمة السفر لأجل المعصية ، وهذا هو الاستقراء .

ويلاحظ قوله عليه السلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » فيفهم منه من باب

ص: 87

...

-------------------

مفهوم الوصف الإنتفاء عند الإنتفاء ، فيقول بتنجيس القليل بالملاقاة .

ويلاحظ اشتراط الصلاة بالطهارة ، فيقطع بوجوب ما لا يتم الواجب إلاّ به فيقول بوجوب الوضوء .

ويرى قوله تعالى : « ثم أتموا الصيام إلى الليل » (1) فيقطع بأنه لا صيام بعد دخول الليل فيقول بالافطار فيه ، وهكذا .

ومن الواضح : إن هذه الصغريات الشرعية المذكورة ، والكبريات العقلية الظنية أو القطعية التي هي عبارة عن القياس والاستحسان والاستقراء والوصف والشرط والغاية ، ونحوها ، لا توصلنا إلى حكم الشرع عبر النتائج المترتبة عليها وهو واضح ولا كلام فيه .

إنّما الكلام في إنه ان كان المراد من حكم العقل غير المستقل في باب الاستصحاب وغيره هو انضمام حكم العقل إلى مقدمة شرعية ، وكلما ترتبت مقدمتان إحداهما أضعف ، كانت النتيجة تابعة لأضعف المقدمتين دائما ، وهنا حيث إنضم الحكم العقلي الى الحكم الشرعي لزم أن تكون النتيجة حكما شرعيا لا حكما عقليا ، لأن العقل أقوى من حكم الشرع فلماذا سميت حكما عقليا ؟ .

والجواب : انّ المراد بالحكم العقلي هنا هو : الحكم العقلي غير المستقل ، فلا فرق بين أن نقول : إنه حكم عقلي غير مستقل ، أو حكم شرعي بضميمة الحكم العقلي إذ لا مشاحة في الاصطلاح .

ص: 88


1- - سورة البقرة : الآية 187 .
الثالث :

إنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألةٌ اصوليةٌ يبحثُ فيها عن كون الشيء دليلاً على الحكم الشرعي ،

-------------------

( الثالث ) : اختلفوا في أن الاستصحاب هل هو من المسائل الاصولية أو الفقهية ؟ .

قال بعض : بأنه من المسائل الاصولية .

وقال بعض آخر : بأنه من المسائل الفقهية .

وفَصّل ثالث بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، فقال : البحث عن الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية من مسائل الاصول ، والجاري في الشبهات الموضوعية من مسائل الفقه .

وفَصّل رابع بين الاستصحاب المنتهي اعتباره الى العقل : فمن الاصول ، والمنتهي اعتباره الى النقل : فمن الفقه .

وفصّل خامس بين الاستصحاب بمعنى المحل ، فمن الاصول ، والاستصحاب بمعنى الحال فمن الفقه .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( إنّ مسألة ) حجية ( الاستصحاب على القول بكونه ) أي : الاستصحاب ( من الأحكام العقليّة ) بعد ما عرفت معنى كونه من الأحكام العقلية ( مسألة اصولية يبحث فيها عن كون الشيء ) أي : الاستصحاب ( دليلاً على الحكم الشرعي ) فيكون صورة القياس فيه هكذا :

الاستصحاب العقلي يبحث فيه عن كون الشيء دليلاً على الحكم الشرعي ، وكل ما بحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية ، لأنّ الأصول

ص: 89

نظير حجيّة القياس والاستقراء .

نعم ، يشكل ذلك بما ذكره المحقق القمي قدس سره في القوانين ، وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً ، لا عن دليلية الدليل .

-------------------

يبحث عن أدلة الأحكام .

وعليه : فيكون بحث الاستصحاب ( نظير ) البحث عن ( حجّية القياس والاستقراء ) عند من يقول بحجيتهما ، ففي القياس - مثلاً - نقول : البحث عن حجية القياس بحث عن الدليل على الحكم الشرعي ، وكل ما كان البحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية .

وهكذا نقول بالنسبة الى الاستقراء .

( نعم ، يشكل ذلك ) أي : كون الاستصحاب مسألة اصولية ( بما ذكره المحقق القمي قدس سره في القوانين وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً ) .

مثلاً : نبحث عن الكتاب بعد تسليم كونه دليلاً ، ونبحث عن السنة بعد تسليم كونها دليلاً ، فإنه بعد تسليم ذلك خارجا ، نبحث في علم الاصول عن مطلقات الكتاب - مثلاً - بأنه هل يؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاطلاق ، أو لايؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاجمال؟ ونبحث عن تعارض الروايتين - مثلاً - في السنة بأنه هل يؤخذ بهذه أو بتلك ؟ .

( لا ) البحث ( عن دليلية الدليل ) فإنه إذا كان البحث عن دليلية الكتاب وانه دليل أو ليس بدليل ، أو عن السنة : إنها دليل أو ليست بدليل ، لم يكن ذلك من مسائل الاصول ، لأن موضوع الاصول : الأدلة بما هي حجة ، وليست الأدلة

ص: 90

وعلى ما ذكره قدس سره ، فيكون مسألةُ الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنّية : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما ، من المباديء التصديقيّة للمسائل الاصولية ،

-------------------

بما هي هي حتى يكون البحث عن دليليتها بحثا عن العوارض .

ومن المعلوم : ان مسائل كل علم هي التي يبحث فيها عن عوارض موضوع ذلك العلم ، فلا يكون إذن البحث عن دليلية الأدلة داخلاً في البحث عن المسائل ، بل يكون داخلاً في البحث عن المبادئ.

( وعلى ما ذكره ) صاحب القوانين ( قدس سره فيكون مسألة الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنيّة : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما ) من الاجماع المنقول ، والشهرة ، وغير ذلك ( من المباديء التصديقيّة للمسائل الاصولية ) .

وهذا إشارة الى ما بحث في المنطق : من إن لكل علم موضوعا : وهو الجامع لموضوعات المسائل ، ومسائل : وهي عوارض موضوع العلم ، ومباديء تصديقية : وهي الأدلة التي تسبب تصديقنا بأن المسألة الفلانية كذا ، ومبادئ تصورية : وهي تصور مفردات ما يدور في ذلك العلم .

مثلاً : موضوع علم النحو : الكلمة لأنها جامعة بين موضوعات : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف اليه مجرور ، فإن الفاعل والمفعول والمضاف اليه كلها كلمات .

ومسائل علم النحو : هي هذه المسائل التي عرفتها ، إذ كل هذه المسائل تتكلم عن أحوال الكلمة .

والمباديء التصديقية لعلم النحو : هي ما توجب تصديقنا بالمسائل مثل تصديقنا بأن العرب تستعمل الفاعل مرفوعا فالفاعل مرفوع ، وتستعمل المفعول

ص: 91

وحيث لم يتبيّن في علم آخر احتيج الى بيانها في نفس العلم ، كأكثر المباديء التصوريّة .

-------------------

منصوبا فالمفعول منصوب وهكذا .

والمباديء التصورية : هي ما توجب معرفة معنى الفاعل ، ومعنى المفعول ، ومعنى الحال ، ومعنى التمييز ، ومعنى المرفوع ، ومعنى المنصوب ومعنى المجرور ، وغير ذلك .

ومن المعلوم : إن كلاً من المباديء التصورية والمباديء التصديقية لا يكون من مسائل العلم ، وحجية الاستصحاب وعدم حجيته من المبادئالتصديقية ، فلا تكون من مسائل العلم .

هذا ( و ) لكن حجية الاستصحاب وعدم حجيته ( حيث لم يتبيّن في علم آخر ) كتبيّن حجيّة الكتاب وحجيّة السنة في علم الكلام ( احتيج الى بيانها في نفس العلم ) أي نفس علم الاصول ( كأكثر المباديء التصوريّة ) المرتبطة بالمباحث الاصولية مثل : قولنا المقدمة ما هي ؟ والشرط ما هو ؟ والغاية ما هي ؟ والوصف ماهو ؟ وغير ذلك من المفردات التي ترتبط بالمباحث الاصولية .

والحاصل : إن صاحب القوانين قال : إن الأدلة الأربعة بما هي أدلة موضوع علم الاصول ، فيكون كل بحث عن كون الشيء الفلاني دليلاً أو ليس بدليل خارجا عن علم الاصول ، فلا يكون البحث في ان الاستصحاب حجة أو ليس بحجة من مسائل علم الاصول ، وإنّما يكون من المباديء التصديقيّة .

ثم إنه حيث استلزم كلام القوانين خروج بحث الاستصحاب ونحوه عن مسائل علم الاصول لانه جعل الأدلة بما هي أدلة : موضوع علم الاصول - على ما عرفت - أراد صاحب الفصول التخلص من هذا الاشكال فقال : موضوع علم

ص: 92

نعم ، ذكر بعضهم « أنّ موضوع الاصول ذواتُ الأدلة ، من حيث يبحث عن دليليّتها أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة » .

ولعلّه موافق لتعريف الاصول : ب «أنّه العلمُ بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها» .

-------------------

الاصول هي الأدلة بذواتها ، لا بما إنها أدلة ، فمسألة الاستصحاب داخلة في مسائل علم الاصول ، إذ يبحث في هذه المسألة عن ان الاستصحاب دليل أو ليس بدليل .

هذا ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب إمّا عقلي فداخل في العقل ، وإمّا شرعي فداخل في السنة ، والعقل والسنة بالاضافة إلى الكتاب والاجماع موضوع علم الاصول ، لأن موضوعه هي الأدلة الأربعة .

والى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( نعم ، ذكر بعضهم ) وهو صاحب الفصول : ( « أنّ موضوع الاصول ذواتُ الأدلة من حيث يبحث عن دليليّتها ) أي : عن إنها دليل أو ليست بدليل ( أو ) يبحث ( عمّا يعرض لها بعد الدليليّة » (1) ) والفراغ منه فالبحث عن ان خبر الواحد دليل أو ليس بدليل يكون من مباحث علم الاصول ، كما ان البحث بعد ثبوت دليلية الخبر الواحد عن تعارض الخبرين يكون أيضا من موضوع علم الاصول .

( ولعلّه ) أي : لعلّ الذي ذكره صاحب الفصول ( موافق لتعريف الاصول : ب « أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها » (2) ) التفصيلية ، فكل شيء له مدخلية قريبة من الاستنباط سواء كان البحث عن أصل الحجية أم البحث عن عوارض الحجية بعد ثبوت أصل الحجية يكون من مسائل

ص: 93


1- - الفصول الغروية : ص11 .
2- - القوانين المحكمة : ص3 .

أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ، ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموضٌ ، لأنّ الاستصحاب حينئذ قاعدةٌ مستفادةٌ من السنّة ، وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ، بل هو نظيرُ سائر

-------------------

علم الاصول .

هذا كله بناءا على كون مسألة حجية الاستصحاب من باب الحكم العقلي .

و ( أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ) المقررة للشاك تعبدا بسبب الأخبار ( ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموضٌ ) لأنها حينئذ أشبه بالقواعد الفقهية مثل : قاعدة لا ضرر ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وقاعدة الميسور لا يُترك بالمعسور ، وما أشبه ذلك .

وإنّما لا يكون الاستصحاب مسألة اصولية ( لأنّ الاستصحاب حينئذ ) أي : حين كونه أصلاً عمليا ( قاعدةٌ مستفادةٌ من السنّة ) حيث ورد في السنة : «لا تنقض اليقين أبدا بالشك » (1) ( وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ) إذ أحوال السنة شيئان فقط :

الأوّل: هل السنة حجة أو ليست بحجة؟ .

الثاني : هل الشيء الفلاني سنة أو ليس بسنة؟ .

ومن المعلوم : ان الاستصحاب لا يتكلم فيه عن أحد الشيئين ، وإنّما يتكلم فيه عن مفاد السنة أي مفاد : «لا تنقض اليقين بالشك» مثل : التكلم عن مفاد قاعدة الميسور ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وما أشبههما من القواعد الكثيرة كما قال : ( بل هو ) أي : التكلم في الاستصحاب تكلم في مفاد السنة ( نظيرُ سائر

ص: 94


1- - كصحيحة زرارة الاُولى ، انظر تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها يُستنبَط هذه القاعدة من قولهم عليهم السلام : « لا تَنقُضِ اليقينَ بالشَّك » ، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر ، وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه .

فهذه القاعدة كقاعدة البرائة

-------------------

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ) فليس هو إذن مسألة اصولية .

هذا ( والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها ) أي بمعونة تلك المسألة ( يُستنبَط هذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب ( من قولهم عليهم السلام : «لا تَنقُضِ اليقينَ بالشَّك » (1) ) فقولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » بضميمة المسألة الاصولية يستفاد منه الاستصحاب .

( و ) لا يخفى : ان المسألة الاصولية هنا المنضمة الى : «لا تنقض» ( هي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر ) كحجية خبر الثقة التي تذكر في الاصول، إذ في الاصول يذكر هل ان خبر الثقة حجة أم لا؟ (وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه) أي : في الخبر ، فإنه يبحث في الاصول هل إن ظواهر الألفاظ حجة أو ليست بحجة؟.

وعليه : فإذا ثبت في الاصول حجية خبر الثقة من جانب ، وحجية ظواهر الألفاظ من جانب آخر ، فهاتان المسألتان الاصوليتان تنضمان الى قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » فيستفاد من هذا المجموع : الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان على ما كان .

إذن : ( فهذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب تكون ( كقاعدة البرائة

ص: 95


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

والاشتغال ، نظير قاعدة نفي الضرر والحرج ، من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف .

نعم ، يندرج تحت هذه القاعدة

-------------------

والاشتغال ) فإن كل هذه القواعد الثلاث قواعد فقهية ، فهي ( نظير قاعدة نفي الضرر والحرج من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف ) فإنه إذا كان شيئا عارضا لفعل المكلّف كان مسألة شرعية .

مثلاً : الوجوب العارض للصلاة ، والحرمة العارضة للخمر ، مسألة فقهية ، والاستصحاب من هذا القبيل ، فإنه - مثلاً - يستصحب الطهارة فيما إذا شك في الحديث وكان سابقا متطهرا ، ومن المعلوم : إن الطهارة عارضة على فعل المكلّف .

هذا كله في المسألة الفقهية .

أما المسألة الاصولية : فهي التي تنضمّ الى الكتاب أو الخبر - مثلاً - فيستفاد منه ضمّهما معا ، كما لو ضمّ الى المسألة الاصولية الخبر فإنه يستفاد منهما معا الحكم الشرعي .

مثلاً : حجية خبر الواحد ليس بنفسه عارضا على فعل المكلّف ، وإنّما حجية الخبر بضميمة قول زرارة : « الفقاع حرام » (1) يستفاد منه وجوب الاجتناب عن الفقاع ووجوب الاجتناب مسألة فقهية ، لأن الوجوب يعرض على فعل المكلّف .

( نعم ) بعض المسائل الاصولية كأصالة العدم يندرج أحيانا تحت هذه القاعدة الفقهية وهي الاستصحاب ، فإنه ( يندرج تحت هذه القاعدة ) التي هي

ص: 96


1- - الكافي فروع : ج6 ص424 ح14 ، الاستبصار : ج4 ص95 ب60 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص124 ب4 ح271 .

مسألةٌ اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ، كما يُنفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج .

-------------------

الاستصحاب ( مسألةٌ اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ) .

مثلاً : اصالة عدم التخصيص ، واصالة عدم النسخ ، واصالة عدم النقل ، وما أشبه ذلك ، نستصحبها مع إنّها مسائل اصولية ، فتندرج تحت الاستصحاب ( كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ) مع العلم بأن نفي الحرج قاعدة فقهية .

أما مثال المسألة الاصولية المندرجة تحت قاعدة لا حرج فهو ما أشار اليه المصنِّف ، بقوله : ( كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه ، بنفي الحرج ) فإذا وجدنا خبرا يدل على طهارة العصير - مثلاً - : ثم لم نعلم هل له معارض أم لا؟ فانه يجب الفحص عنه ، إمّا مقدار الفحص فهل هو حتى نقطع بأنه لا معارض له ، أو يكفي أن نظن بأنه لا معارض له فنقول : قاعدة الحرج هنا تنفي وجوب الفحص الى حد القطع بعدم المعارض ، وذلك لأن القطع بعدم المعارض يحتاج - مثلاً - الى مطالعة مائة كتاب وهو حرج ، بينما الظن بعدم المعارض يحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ولا حرج فيه ، فنكتفي بالظن بعدم المعارض المحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ، وحينئذ فقد أثبتنا بقاعدة لا حرج مسألة اصولية وهي : كفاية الفحص الى حد الظن .

الى هنا أثبت المصنِّف ان الاستصحاب قاعدة فقهية لا اصولية ، ثم شرع الآن في بيان ان الاستصحاب مسألة اصولية لا فقهية فقال :

ص: 97

نعم ، يشكل كونُ الاستصحاب من المسائل الفرعية : بأنّ اجرائها في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختصٌ بالمجتهد وليس وظيفةً للمقلّد ، فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا من خواص المسألة الاصولية ، فانّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة اختصّ التكلّمُ فيها بالمستنبط ، ولاحظّ لغيره فيها .

-------------------

( نعم ، يشكل كونُ الاستصحاب من المسائل الفرعية ب ) سبب ( أنّ اجرائها ) أي : اجراء قاعدة الاستصحاب ( في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختصٌ بالمجتهد ) فقط .

مثلاً : الماء النجس بالتغير إذا زال تغيره من نفسه يشك في بقاء نجاسته ، فإذا اُريد استصحاب نجاسته ، فإن الاستصحاب لا يجري إلاّ بعد عدم وجود دليل على الطهارة ، وعدم وجود ما يدل على الطهارة يحتاج الى الفحص واليأس عنه ( و ) من المعلوم : ان الفحص واليأس ( ليس وظيفةً للمقلّد ) لأنه غير قادر على ذلك ، فيكون خاصا بالمجتهد والشيء الخاص بالمجتهد مسألة اصولية كما قال : ( فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا ) أي : اختصاص الشيء باحتياج المجتهد اليه دون المقلد ( من خواص المسألة الاصولية ) .

وإنّما كان ذلك من خواص المسألة الاصولية لأنه كما قال : ( فإنّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة ، اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط ) الذي هو المجتهد ( ولا حظّ لغيره ) أي : لغير المجتهد الذي هو المقلد ( فيها ) أي : في تلك المسائل الاصولية .

إذن : فالاستصحاب لا يجري في مورده إلاّ بعد الفحص واليأس عن وجود دليل

ص: 98

فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ، لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه ، لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ، وإلاّ فمضمونُه ، وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها مشترك بين المجتهد والمقلّد .

-------------------

في ذلك المورد ، والفحص عن الدليل مختص بالمجتهد ، فالاستصحاب مختص بالمجتهد ، وما يختص بالمجتهد فهو مسألة اصولية .

( فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ) لا تجعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لأنه قد يكون الاختصاص به ( لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي ) الكلي ناشئا من تعارض الدليلين ، أو إجماله ، أو فقده ( و ) من المعلوم : ان الاطمينان الى ( عدم قيام الدليل الاجتهادي ) المعتبر بعد الفحص ( عليه ) أي : على ذلك الحكم الشرعي مما ( لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ) فقط .

( وإلاّ ) بأن لم نلاحظ في الاستصحاب هذه الجهة الخاصة بالمجتهد بل نلاحظ مدلوله ومضمونه ( فمضمونه ) أي : مضمون الاستصحاب ( وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها ) أي : آثار الحالة السابقة ليس مختصا بالمجتهد ، بل هو ( مشترك بين المجتهد والمقلّد ) فيجريه المجتهد في الحكم الكلي ، والمقلد في الأحكام الجزئية .

إذن : فالاستصحاب هو كسائر المسائل الفرعية يشترك فيه المقلد والمجتهد ، فهو مسألة فقهية لا اصولية .

وإن شئت قلت : إن المسألة الاصولية كما قال بعض : هي التي تكون النتيجة فيها دائما حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين ، بينما النتيجة في القاعدة الفقهية قد تكون كالمسألة الاصولية ، وقد لا تكون كذلك ، بل تتعلق بعمل آحاد المكلفين .

ص: 99

قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد .

-------------------

مثلاً : حجية خبر الواحد لا تتعلق بعمل آحاد المكلفين وإنّما تختص بالمجتهد الذي يبحث عن ان الخبر حجة أو ليس بحجة ، أما قاعدة لا حرج - مثلاً - فهي كما تشمل المجتهد ، تتعلق بعمل آحاد المكلفين في مثل الوضوء الحرجي لزيد ، والغسل الحرجي لعمرو ، أيضا ، والاستصحاب من قبيل قاعدة لا حرج ، لا من قبيل حجية خبر الواحد ، فهو إذن مسألة فقهية لا اصولية .

إن قلت ذلك ( قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد ) بل إن كلاً من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ويرتب عليه آثار الصدق .

أمّا المجتهد فواضح ، وأمّا المقلد فلأن معاصري الأئمة عليهم السلام كانوا من أهل اللسان وكانوا يعملون بالروايات حسب ما يسمعونها عنهم عليهم السلام مباشرة أو عن الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم ، فإذا كان ميزان كون المسألة الاصولية أن لا يتمكن المقلد من العمل بها ، لزم خروج الخبر الواحد وجملة من المسائل الاصولية عن كونها مسألة اصولية .

وعليه : فليس الاستصحاب مسألة فقهية - كما يتوهم - بحجة ان المقلد أحيانا يعمل بالاستصحاب أيضا ، فإنه وان كان يعمل بالاستصحاب كل من المجتهد والمقلد إلاّ ان المقلد لا يتمكن من العمل بالاستصحاب في كل مكان ، كما إن الأمر كذلك بالنسبة الى الخبر الواحد ، فإن كلاً من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ، لكن المقلد لا يتمكن من العمل بالخبر الواحد في كل مكان كما قال :

ص: 100

نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائبٌ عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلاّ فحكم اللّه الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد .

-------------------

( نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد ) وإنه - مثلاً - يجري في الفروع ولا يجري في اصول الدين ( وتعيين مدلوله ) أي مدلول الخبر الواحد وان الأمر فيه - مثلاً - ظاهر في الوجوب أو الندب ( وتحصيل شروط العمل به ) أي : بالخبر مثل اشتراط أن لا يكون صادرا عن تقية ، وأن لا يكون سنده ضعيفا ، وأن لا يكون له معارض أقوى ، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه المقلد .

إذن : فتشخيص هذا كله ، ( مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك ) أي : من تشخيص هذه الأمور الثلاثة : المجرى ، والمدلول ، والشرط ( وعجز المقلّد عنه ).

وعليه فالمقلد لا يتمكن على شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فيتبع فيها المجتهد ( فكأنّ المجتهد نائب عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ) لأن المجتهد هو الذي يعرف الخبر وشروطه ، ويعرف أين تجري البرائة؟ وأين تجري قاعدة الاشتغال - مثلاً - دون المقلد .

( وإلاّ فحكم اللّه الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد ) على حد سواء .

نعم ، هناك بعض أحكام اللّه سبحانه وتعالى خاصة بالمجتهد كولاية أمور المسلمين ، واجراء الحدود ، والقيام بالجهاد وما أشبه ذلك ، وهذا لا يضر

ص: 101

هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده ، وجعل قولهم عليهم السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» دليلاً على الدليل ،

-------------------

الاشتراك بالمعنى العام ، كما إن اختصاص بعض المسائل بالنساء كالحيض والنفاس ، واختصاص بعض المسائل بالرجال كالقيمومة ووجوب النفقة ، لاينافي كون حكم اللّه سبحانه وتعالى عاما لجميع البشر .

الى هنا تبيّن إن المصنِّف قرر في الاستصحاب ما يلي :

أولاً : إن مسألة الاستصحاب مسألة فرعية بقوله ففي كونه من المسائل الاصولية غموض .

ثانيا : إن مسألة الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : نعم يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية .

ثالثا : أشكل على كون الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : فإن قلت .

رابعا : دفع الاشكال عن ذلك وأثبت ان الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : «قلت» .

ثم إنّ السيد بحر العلوم رحمه اللّه جعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لكن من طريق آخر ، واليه أشار المصنِّف بقوله : ( هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده ) أي : في مورد الاستصحاب فأثبت - مثلاً - نجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه بدليل الاستصحاب ( وجعل قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشّك » (1) دليلاً على الدليل ) .

ص: 102


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد ، حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء

-------------------

وعليه : فهنا ثلاثة أُمور : النجاسة وهي حكم الحالة السابقة للماء ، ودليل إبقاء النجاسة الى الآن وهو الاستصحاب ، ودليل هذا الدليل وهو « لا تنقض اليقين بالشك » فيكون ( نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد ) حيث فيه ثلاثة أمور .

مثلاً : إذا دلّ الخبر على نجاسة العصير العنبي ، وحصل عندنا أمور ثلاثة : النجاسة وهي الحكم الشرعي للعصير العنبي ، ودليل هذا الحكم الشرعي وهو الخبر ، ودليل حجّية هذا الخبر وهو آية النبأ .

وعليه : فلا يكون الاستصحاب عين مفاد أخبار لا تنقض اليقين بالشك حتى يكون كقاعدة لا حرج - مثلاً - قاعدة فقهية مستفادة من السنة ، بل هو عبارة عن إبقاء ما كان ودليل حجيته اخبار : « لا تنقض » ، وكما ان البحث عن حجية الخبر وعدم حجيته مسألة اصولية ، فكذلك يكون البحث عن حجية الاستصحاب وعدم حجيته .

والى هذا المعنى أشار السيد ( حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء ) كاستصحاب حرمة العنب بالغليان بعد صيرورته زبيبا ، فإن هذا الاستصحاب مخالف لأصل الحِل في الأشياء ، مع العلم بأن الحكم الموافق للأصل لايحتاج الى الاستصحاب ، بل نفس الأصل كاف في اثبات الحِليّة - مثلاً - حتى يثبت خلافه .

إذن : فكل شيء لك حلال - مثلاً - يشمل كل شيء يشك في حليته وحرمته بدون حاجة الى استصحاب الحلية ، أمّا الحكم المخالف للأصل ، كاثبات الحرمة لشيء - مثلاً - فإنه يحتاج الى الاستصحاب .

ص: 103

دليلٌ شرعي رافعٌ لحكم الأصل ومخصصٌ لعمومات الحلّ - الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : - وليس عمومُ قولهم عليهم السلام : « لا تنقُض اليقين بالشّك » بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة » ، انتهى .

أقول :

-------------------

وعليه : فالاستصحاب فيما يخالف الأصل ، مثل استصحاب حرمة العنب بالغليان بعد أن صار زبيبا ، ( دليل شرعي رافع لحكم الأصل ) الذي هو الحل ( و ) هذا الاستصحاب ( مخصص لعمومات الحلّ ) مثل : « كل شيء لك حلال » (1) و « كل شيء مطلق » (2) وما أشبه ذلك .

( الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : وليس عموم قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (3) بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته ) الخارجية ، كاستصحاب طهارة ثوب زيد ، واستصحاب بقاء حدثه ، وما أشبه ذلك ( إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة » (4) ، انتهى ) كلامه رفع مقامه .

( أقول ) : قياس الاستصحاب بالخبر من السيد غير تام ، لأن العمل

ص: 104


1- - الكافي ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
4- - بحر الفوائد : الفائدة 35 ص116 .

معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ، ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ،

-------------------

بالاستصحاب يستدعي أمرين فقط :

أحدهما : الحكم الشرعي كالحكم بنجاسة الماء النجس سابقا الذي زال تغيره الآن من قبل نفسه .

ثانيهما : الدليل على الاستصحاب كاخبار لا تنقض اليقين بالشك .

أمّا العمل بالخبر فهو يستدعي ثلاثة أمور :

الأوّل: الحكم الشرعي كحرمة الفقاع - مثلاً - .

الثاني : دليل هذا الحكم الشرعي كخبر زرارة - مثلاً - .

الثالث : دليل حجية هذا الخبر كآية النبأ - مثلاً - .

وعليه : فالاستصحاب ليس أمرا آخر غير الحكم الشرعي المستفاد من السنة حتى يكون البحث فيه مسألة اصولية ، بخلاف الخبر فإن حجيته أمر آخر غير الحكم الشرعي ، فيكون البحث فيه عن حجيته وعدم حجيته مسألة اصولية .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : إن ( معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ) واستصحاب بقاء الوضوء، أو بقاء الحدث ، أو بقاء الثوب المتنجس نجسا فيما إذا شككنا في إنه هل طهّرناه أم لا ؟ الى غير ذلك من الجزئيات ( ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ) .

وكذا يكون معنى الاستصحاب بالنسبة الى سائر الأمثلة من الجزئيات الخارجية ، فإنها جزئيات لقوله : «لا تنقض» فلم يكن في الاستصحاب سوى أمرين أشار اليهما بقوله :

ص: 105

وهل هذا إلاّ نفسُ الحكم الشرعي ، وهل الدليلُ عليه إلاّ قولهم عليهم السلام : « لا تَنقُضِ اليقينَ بالشّك » ، وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات .

-------------------

( وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي ) بالنجاسة ؟ ( وهل الدليل عليه إلاّ قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشّك » (1) ؟ ) .

بينما ليس الأمر كذلك في الخبر ، فإن الخبر ليس هو نفس الحكم الشرعي ، بل هو طريق الى الحكم الشرعي ، فلابد من اثبات حجيته بمثل آية النبأ ، فآية النبأ تدل على حجية الخبر الواحد ، والخبر الواحد له جزئيات مثل الإخبار عن وجوب صلاة الجمعة ، والإخبار عن حرمة العصير ، وما أشبه ذلك ، وهذه الجزئيات ليست جزئيات لآية النبأ بل للخبر ، والخبر هو حجة بسبب آية النبأ .

( وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات ) في انها قواعد فقهية مستفادة من الآيات والأخبار ، مثل : قاعدة لا حرج ، المستفادة من قوله : « « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (2) » ومثل : قاعدة لاضرر ، المستفادة من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (3) .

ص: 106


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - سوره الحج : الآية 78 .
3- - معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 ، وسائل الشيعة : ج18 ص32 ب17 ح23073 و ح23074 .

وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي .

وأمّا الجاري في الشبهة الموضوعية ، كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه ، فلا إشكال في كونه حكما فرعيا ،

-------------------

لكن لا يخفى : أنه مرّ سابقا : ان الاستصحاب يمكن ادخاله في المسائل الاصولية وذلك بالتقرير الذي ذكره المصنِّف لا بالتقرير الذي ذكره السيد بحر العلوم .

( وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي ) كنجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه ، وطهارة من خرج منه الوذي أو المذي ، أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا ) الاستصحاب ( الجاري في الشبهة الموضوعية كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه ) وذلك فيما إذا كان كل من العدالة والفسق ، أو النجاسة والطهارة قد ثبت سابقا ، وشككنا في زواله لاحقا فنستصحب بقائه ( فلا إشكال في كونه حكما فرعيا ) وذلك لما عرفت : من ان هذه المسائل يشترك فيها المجتهد والمقلد .

وعليه : فالاستصحاب في الشبهة الحكمية مسألة اصولية ، والاستصحاب في الشبهة الموضوعية مسألة فقهية .

هذا ، وقد ذكر الاصوليون الاستصحاب في اصول من جهة الشبهة الحكمية وان كان يعرف منه أيضا الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حيث إنه مرتبط

ص: 107

سواء كان التكلم فيه من باب الظن ، أم كان من باب كونها قاعدةً تعبديّة مستفادة من الأخبار ، لأنّ التكلّم فيه على الأوّل نظيرُ التكلم في اعتبار سائر الأمارات ، كَيَدِ المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ، ونحوها ، في الشبهات الخارجية .

وعلى الثاني من باب أصالة الطهارة وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك .

-------------------

بالفقه مطلقا أي : ( سواء كان التكلم فيه ) أي : في الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية ( من باب الظن ) بأن قلنا : إن الاستصحاب أمارة لأنها حجة من جهة الظن النوعي ( أم كان من باب كونها قاعدة تعبديّة مستفادة من الأخبار ) بأن قلنا : ان الاستصحاب أصل عملي لانه حجة تعبديّة من جهة الاخبار .

وإنّما يكون الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حكما فرعيا مشتركا بين المجتهد والمقلد على المبنيين ( لأنّ التكلّم فيه على الأوّل ) أي : بناءا على كون الاستصحاب من الأمارات الظنية لا من الاصول العملية ، يكون ( نظير التكلم في اعتبار سائر الأمارات ) الشرعية ( كَيَدِ المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ،

ونحوها ) من الأمارات الجارية ( في الشبهات الخارجية ) الموضوعية ممّا يجريه المجتهد والمقلد معا .

( وعلى الثاني ) : أي : بناءا على كون الاستصحاب من باب الاصول العملية ، لا من باب الأمارات يكون الاستصحاب ( من باب أصالة الطهارة ، وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك ) كعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز وغيرها ممّا يشترك فيه المجتهد والمقلد أيضا .

والحاصل : إن الاستصحاب وغيره ممّا يُتمسك به في الموضوعات أمارة كان

ص: 108

الرابع :

-------------------

أو أصلاً ، لا يتوقف التمسك به على الفحص وما أشبه ، وان يتمكن كل مكلف من اجرائها سواء كان مجتهدا أم مقلدا .

ومنه فتوى المجتهدون في رسائلهم العملية بجواز تمسك المقلدين في الشبهات الموضوعية بالاستصحاب وغيره ، فقالوا : بأنه لو قامت البيّنة - مثلاً - على نجاسة الماء فللمقلد أن يأخذ بها ، وإنه لو كان الماء نجسا سابقا فشك في طهارته ونجاسته لاحقا فللمقلد أن يستصحب ، وهكذا .

بخلاف المسائل الاصولية التي لا حق للمقلد في اجرائها ، لأنها محتاجة الى مقدمات لا يتمكن المقلد من تحصيلها .

( الرابع ) : إن قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب الاخبار ، فلا فرق في جريان الاستصحاب ، سواء ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق ، أم شك فيهما بأن كان متساوي الطرفين ، فلو كان في الصباح متوضئا - مثلاً - ثم ظن في الظهر ببقاء وضوئه ، أو ظن بنقض وضوئه ، أو شك في بقاء وضوئه وعدم بقائه ، فانه في كل هذه الأحوال الثلاث يستصحب بقاء الوضوء .

بخلاف ما إذا قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب بناء العقلاء فإنه لا يجري مع الظن بالخلاف .

إذن : فهناك في جريان الاستصحاب قولان :

الأوّل : ان الاستصحاب يجري مطلقا بلا فرق فيه بين الظن بالوفاق ، أو الظن بالخلاف ، أو الشك فيهما .

الثاني : ان الاستصحاب يجري بشرط أن لا يظن بالخلاف ، فلو ظن بالخلاف لم يجرِ الاستصحاب .

ص: 109

إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة .

وأمّا على القول بكونه من باب الظن فالمعهود من طريقة الفقهاء عدمُ اعتبار إفادة الظنّ في خصوص المقام .

كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّةً

-------------------

والى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ) الثابت بسبب أخبار « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ونحوه ( هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة ) فيستصحب مالم يعلم بزوال الحالة السابقة ، سواء ظن بالزوال ، أم ظن بعدم الزوال ، أم شك في الزوال وعدمه ، وذلك لما في الاخبار : من إطلاق عدم نقض اليقين السابق إلاّ بيقين لاحق على الخلاف ، وما دام لم يحصل اليقين على الخلاف يستصحب اليقين السابق .

( وأمّا على القول بكونه ) أي بكون الاستصحاب حجة ( من باب الظن ) العقلائي ، حيث إن العقل وكذلك العقلاء يحكمون بدوام الحالة السابقة كما قال : ( فالمعهود من طريقة الفقهاء ) هو : ( عدمُ اعتبار افادة الظنّ في خصوص المقام ) فلا يعتبر الظن الشخصي ببقاء الحالة السابقة ، لأن الاستصحاب حجة من باب الظن النوعي فيجري سواء ظن ظنا شخصيا بالخلاف ، أو ظن بالوفاق ، أم شك في الخلاف والوفاق .

( كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّةً ) فانهم يحكمون ، مثلاً :

ص: 110


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانا ببقاء الحالة السابقة .

ويظهر ذلك لأدنى متتبّع في أحكام العبادات والمعاملات ، والمرافعات ، والسياسات .

-------------------

بأن من تيقَّن بالطهارة وشك في الحدث فهو متطهر ، ومن تيقّن بالحدث وشك في الطهارة فهو محدث ، وهكذا ( مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ) أي : بهذه الاصول الاستصحابية ( ظانا ببقاء الحالة السابقة ) .

وعليه : فالاستصحاب العقلي يكون في حجيته كالاستصحاب النقلي فيجري سواء ظن بالوفاق أم ظن بالخلاف أم شك في الأمرين .

( ويظهر ذلك ) أي : عدم اعتبارهم الظن بالوفاق ( لأدنى متتبّع في أحكام العبادات ) كاستصحاب الطهارة وما أشبه ذلك .

( والمعاملات ) وهي الأعم من العقود والايقاعات : كاستصحاب بقاء النكاح ، واستصحاب بقاء العدّة ، واستصحاب بقاء الوكالة ، وما أشبه ذلك .

( والمرافعات ) كاستصحاب عدم الزوجية ، وعدم الملكية وما أشبه ذلك ، لقولهم - مثلاً - : بأن المنكر من كان قوله موافقا للأصل والأصل : عدم البيع ، وعدم النكاح ، وعدم الطلاق ، وهكذا ، فإذا تنازع شخصان في هذه الأمور فانهم يتمسكون بالاستصحاب من غير فرق بين أن يكون الظن الشخصي في هذه الموارد موافقا للأصل أو مخالفا له .

( والسياسات ) كاستصحاب إجراء الحدود على من وجب عليه الحد ، فندم وتاب بعد قيام البيّنة ، فإنهم وان ظنوا بأن الحكم غير باق بسبب ندمه على فعله ، أو ظنوا بأن الشاهد سقط عن عدالته ، أو غير ذلك ، لكنهم لا يعتنون بالظنون الشخصية ويجرون الاستصحاب في كل الموارد المذكورة .

ص: 111

نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس سره في الحبل المتين ، في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ، ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي ، حيث قال : « لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربما يصير الراجحُ مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاءُ على الطهارة الى ذلك الوقت ،

-------------------

( نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس سره في الحبل المتين في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي ) بحيث إذا ظن على خلاف الحالة السابقة لا يجري الاستصحاب ، فيكون الاستصحاب العقلي حينئذ غير شامل لصورة الظن بالخلاف ، بينما الاستصحاب الشرعي كما عرفت شامل حتى لهذه الصورة .

وإنّما يظهر منه اعتبار ذلك ( حيث قال : « لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى ) ذلك الظن ( على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ) حتى يكون شكا .

( بل ربّما يصير الراجح مرجوحا ) وذلك بأن يظن بخلاف الحالة السابقة ( كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ) وعدم صدوره ( ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت ) فإنه يظن بخلاف الطهارة السابقة ، فلا يجري الاستصحاب في حقه .

ص: 112

والحاصل : أنّ المَدار على الظنّ ، فما دام باقيا ، فالعمل عليه وإن ضعف » ، انتهى كلامه ، رفع مقامه .

ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه ، حيث قال بعد حكاية هذا الكلام : « ولا يخفى أنّ هذا إنّما يَصحّ لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقائه ، والشك في نقيضه لا يعارضه ، إذ الضعيف لا يعارض القوي ،

-------------------

( والحاصل : أنّ المَدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف » (1) ) أمّا إذا انقلب الظن على الخلاف ، فلا استصحاب ( انتهى كلامه . رفع مقامه ) .

هذا ( ويظهر من شارح الدروس ) وهو المحقق الخوانساري ( ارتضاؤه ) لكلام الشيخ البهائي ( حيث قال بعد حكاية هذا الكلام ) ما يلي : ( « ولا يخفى أنّ هذا ) الذي ذكره الشيخ البهائي : من اشتراط الاستصحاب بعدم الظن الشخصي بالخلاف ( إنّما يَصحّ ) بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الأمارة ، وذلك فيما ( لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت ) سابق ( ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله ) في وقت لاحق ( يحصل الظنّ ببقائه ) على حالته السابقة .

( و ) من المعلوم : إن ( الشك في نقيضه ) أي : الشك في احتمال ارتفاع تلك الحالة السابقة ما دام لم يصل الى الظن بارتفاعه ( لا يعارضه ) أي : لا يعارض الظن السابق ( إذ الضعيف ) من الشك ( لا يعارض القوي ) من الظن السابق .

ص: 113


1- - الحبل المتين : ص37 .

لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها على الروايات مؤيدة بأصالة البرائة في بعض الموارد ، وهي تشمل الشك والظنّ معا ، فاخراج الظنّ منها ممّا لا وجه له أصلاً » ، إنتهى كلامه .

ويمكن إستظهار ذلك من الشهيد قدس سره في الذكرى حيث ذكر : « أنّ قولنا : « اليقينُ لا ينقضُه الشك » ، لا يعني به إجتماع اليقين والشك ،

-------------------

ثم قال : ( لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها ) أي : حجية الاستصحاب ( على الروايات ، مؤيدة بأصالة البرائة في بعض الموارد ) وذلك فيما إذا كان الاستصحاب نافيا للتكليف فإن البرائة هناك أيضا تنفي التكليف .

( وهي ) أي : هذه الروايات الدالة على الاستصحاب ( تشمل الشك والظّن معا ) فالاستصحاب يجري سواء شك في الحال اللاحق ، أم ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق .

وعليه : ( فاخراج الظّن منها ) أي : اخراج مورد الظن بالخلاف من الروايات والقول : بأن الروايات لا تدل على حجية الاستصحاب إذا كان المكلّف يظن ظنا شخصيا بالخلاف ( ممّا لا وجه له أصلاً » (1) ، إنتهى كلامه ) رفع مقامه .

( ويمكن إستظهار ذلك ) الذي ذكره الشيخ البهائي واستظهرناه من شارح الدروس ( من الشهيد قدس سره في الذكرى حيث ذكر : « أنّ قولنا : « اليقين لاينقضه الشك » ) في باب الاستصحاب ( لا يعني به إجتماع اليقين والشك ) في مورد

ص: 114


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص142 .

بل المرادُ : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات » ، انتهى كلامه .

ومرادُه من الشك مجرّد الاحتمال ،

-------------------

واحد ووقت واحد حتى يقال إنه محال ( بل المراد : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه ) المقرر له شرعا ( بالشك في الزمان الثاني ) .

وإنّما لا يخرج اليقين عن حكمه بالشك ( لأصالة بقاء ما كان ) على ما كان ( فيؤول ) الاستصحاب ( الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ) وهو الزمان الثاني ( فيرجّح الظنّ عليه ) أي : على الشك .

( كما هو ) أي : ترجيح الظن على الشك ( مطّرد في العبادات»(1) ) فإن الانسان إذا صلّى وشك في انه صلّى ثلاث ركعات أو أربع ركعات وظن بأحدهما ، قَدّم ظنه على الشك وبَنى على ظنه ( انتهى كلامه ) .

هذا ( ومرادُه ) أي : مراد الشهيد ( من الشك ) حيث ذكر أنه يجتمع مع الظن فيقدّم الظن عليه ، ليس هو الاحتمال المتساوي الطرفين لوضوح : أن الظن راجح والراجح سواء كان علما أم ظنا لايجتمع مع المتساوي ، بل مراده : ( مجرّد الاحتمال ) بأن احتمل في الآن الثاني أن وضوءه السابق - مثلاً - قد إنتقض بالحدث .

ص: 115


1- - ذكرى الشيعة : ص98 .

بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك هو الظنُّ أيضا ، فتأمّل .

-------------------

( بل ظاهر كلامه ) أي : ظاهر كلام الشهيد الذي استعمل لفظ الرواية في كلامه حيث قال : إن قولنا : اليقين لا ينقضه الشك هو : ( أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ) وحجيته عنده ( من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك ) فيكون هذا دليلاً على أنّ مراده من الظن في قوله : اجتماع الظن والشك ( هو الظنُّ ) الشخصي ( أيضا ) .

والحاصل : إن مراد الشهيد من الظن في قوله : «فيؤول الى اجتماع الظن والشك» هو : الظن الشخصي كما يشير اليه قوله : «فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبادات» فإنه إذا اجتمع الظن والوهم في الركعات لا يعتنى بالوهم بل يعمل بالظن .

ومن المعلوم أن الظن المعتبر في العبادات هو الظن الشخصي لا الظن النوعي كما أشير اليه في الفقه .

( فتأمّل ) ولعله إشارة الى احتمال أن يكون مراد الشهيد في الظن : هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، إذ لا يستظهر من عبارة الشهيد إرادة الظن الشخصي ليوافق الشيخ البهائي .

وعلى أيّ حال : فالذي ينبغي أن يقال : إن الظن الشخصي بالخلاف لا يضر الاستصحاب سواء قلنا بأنه حجة من باب الاخبار أم من باب بناء العقلاء ، إذ كل من الاخبار أو بناء العقلاء مطلق يشمل الظن الشخصي بالخلاف ، كما يشمل الشك والظن الشخصي بالوفاق .

ص: 116

الخامس :

-------------------

( الخامس ) في بيان ما يتوقف به الاستصحاب ، فإن للاستصحاب ركنين هما : اليقين والشك ، ولهما شروط خاصة بهما ، بتوفرها يتحقق الاستصحاب المصطلح ، ويحترز عن مثل قاعدة اليقين ، والاستصحاب القهقري .

أما شروط اليقين في الاستصحاب فهي : سَبْقَه على الشك ، وإحراز وجوده ولو بعد زمان وجوده ، وذلك كما إذا لم يلتفت اليه زمان وجوده ، بل التفت اليه بعد ذلك ، وبعبارة أخرى : لا يشترط في إحراز اليقين الفعلية .

وأما شروط الشك في الاستصحاب : فهي : لحوقه على اليقين ، والالتفات اليه زمان وجوده فلا يكفي احراز وجود الشك بعد زمان وجوده ، وبعبارة أخرى : يشترط في إحراز الشك الفعلية .

ومن بيان شروط اليقين والشك ، المقوّمان للاستصحاب ، ظهر حال أمور ثلاثة :

الأوّل : الاستصحاب وهو كما عرفت : عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق في بقاء ذلك اليقين السابق .

الثاني : قاعدة اليقين وهو على ما يأتي : عبارة من اليقين السابق والشك في نفس ذلك اليقين السابق ويسمّى بالشك الساري أيضا ، لأن الشك يسري الى اليقين ويزلزله في موضعه ، وذلك كما إذا تيقن يوم الجمعة بأن زيدا عادل ، ثم شك يوم السبت في منشأ يقينه وانه هل كان عن مدرك صحيح أم لا بحيث يتزلزل يقينه في موضعه ؟ .

الثالث : الاستصحاب القهقري : وهو عبارة عن اليقين اللاحق والشك السابق :

ص: 117

إنّ المستفاد ، من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق ، أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :

أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء عَلِمَ به في زمان وجوده أم لا .

-------------------

كما إذا تيقن بالطهارة عصرا وشك في إنه هل كان في الظهر متطهّرا أم لا ؟ فيستصحب طهارته من العصر الى الظهر فيقول : كنت متطهرا في الظهر أيضا .

هذا ، والأخبار إنّما تدل على حجية الأوّل وهو الاستصحاب المصطلح فقط ، لا الثاني وهو قاعدة اليقين ، ولا الثالث وهو الاستصحاب القهقري .

إذا تبيّن ذلك نرجع الى أصل المطلب وهو بيان شروط اليقين والشك ، المقومان للاستصحاب والمخرجان لغيره فنقول : أما اليقين : وهو المقوّم الأوّل للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنِّف الى قاعدة اليقين ، فلا يشترط فيه بعد احراز وجوده السابق : فعليته . فلا يلزم أن يكون اليقين السابق موجودا في الزمان السابق حتى يجري فيه الاستصحاب .

مثلاً : قد يتيقّن الانسان بالطهارة صباحا ثم يشك في بقائها ظهرا ، وقد يتيقّن ظهرا انه كان في الصباح متطهّرا ويشك الآن في بقائها ، فإن هذا أيضا من الاستصحاب مع إنه لا يقين عند الصباح ، وإنّما اليقين هو في وقت الظهر ، لكن متعلق اليقين هو وقت الصباح .

والى ما بيّناه أشار المصنِّف وقال : ( إنّ المستفاد من تعريفنا السابق ) للاستصحاب : بأنه إبقاء ما كان ( الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق ) أي : إبقاء ما كان لمجرد انه كان سواء عَلِمْنا به زمان وجوده أم لا ؟ فإنه يستفاد من ذلك : ( أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين ) كالتالي :

( أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء عَلِمَ به في زمان وجوده أم لا ) وهذا

ص: 118

نعم ، لابدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم ، أو الظنّ المعتبر .

وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقق معه الاستصحابُ الاصطلاحيّ ، وإن توهّم بعضهم جريان عموم « لا تنقُض » فيه كما سَنُنَبه عليه .

-------------------

كما قلنا إشارة الى أنه لا يشترط فعلية اليقين بعد احرازه بمعنى أنه لا يلزم في اليقين أن يكون موجودا في الظرف السابق ، وإنّما يصح أن يكون اليقين الآن لكن متعلقه الظرف السابق .

( نعم ، لابدّ من إحراز ذلك ) اليقين الذي يكون متعلقه الزمان السابق ( حين إرادة الحكم بالبقاء ) احرازا أما ( بالعلم ، أو الظنّ المعتبر ) أي : بأن يعلم في الظهر علما وجدانيا أو يظن ظنا معتبرا بسبب البيّنة مثلاً بأنه كان في الصباح متطهرا .

ثم منه أشار المصنِّف الى قاعدة اليقين بقوله : ( وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ) بأن سرى الشك الى اليقين السابق وزلزله في موضعه مما سمّيناه بقاعدة اليقين ( فلا يتحقق معه الاستصحاب الاصطلاحيّ ) بل يطلق عليه : قاعدة اليقين .

ولا يخفى أن الفرق بين قاعدة اليقين ، وبين الاستصحاب هو : أن في قاعدة اليقين الشك سارٍ ، وفي الاستصحاب الشك طارٍ .

هذا ( وإن توهّم بعضهم جريان عموم « لا تنقض » فيه ) أي في الشك الساري أيضا ( كما سَنُنَبه عليه ) إن شاء اللّه تعالى في محله ونقول : بأن أخبار الاستصحاب لايمكن أن تشمل قاعدة اليقين وحدها : ولا أن تشمل الاستصحاب وقاعدة اليقين كليهما ، إذ لا جامع بين الاستصحاب وبين القاعدة .

ص: 119

والثاني : الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ، فلو شك في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقري مَجازا .

ثم المعتبرُ هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه ، أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات .

-------------------

( و ) إما الشك : وهو المقوّم الثاني للاستصحاب ، فيشترط فيه بعد تحققه في زمان لاحق على اليقين : فعليته أيضا ، أشار المصنِّف الى اشتراط كونه لاحقا لليقين لا سابقا عليه بقوله :

( الثاني ) من الأمرين المقومين للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنِّف الى الاستصحاب القهقري هو أن يكون ( الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ) أي : على ذلك الزمان السابق ( فلو شك في زمان سابق عليه ) أي : على الزمان اللاحق ( فلا استصحاب ) لأن ظاهر أدلة الاستصحاب : أن اليقين سابق والشك لاحق ، لا أن اليقين لاحق والشك سابق ثم يسري اليقين اللاحق الى زمان الشك السابق ونقول : أن حال الشك السابق محكوم بحال اليقين اللاحق .

هذا ( وقد يطلق عليه ) أي : على ما كان شكّه سابقا ويقينه لاحقا : ( الاستصحاب القهقري ) وذلك ( مجازا ) لأنه ليس من الاستصحاب في شيء ، فإن الاستصحاب عبارة عن طلب صحبة السابق الى اللاحق لا طلب صحبة اللاحق الى السابق .

( ثم ) أشار المصنِّف الى اشتراط كون الشك فعليا لا تقديريا بقوله : إن ( المعتبرُ هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه ) أي : الى الشيء وذلك بأن يشك في الشيء بالفعل لا بالفرض فيستصحب الحالة السابقة ( أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات ) اليه .

ص: 120

فالمتيقِّنُ للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك

-------------------

وعليه : فالشك قد يكون فعليا : كما إذا التفت الى حاله فشك في انه هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فيستصحب حاله السابقة ، وقد يكون تقديريا : كما إذا غفل عن حاله بعد الحدث لكنه كان بحيث لو التفت لكان شاكّا في بقاء حاله السابقة وعدم بقائها ، فلا يستصحب حاله السابقة .

إذن : فيختص جريان الاستصحاب بالشك الفعلي لأن حرمة النقض في الأخبار موضوعه الشك في بقاء ما كان ، فما دام لم يكن الموضوع وهو الشك فعليا ، لا يكون حرمة النقض فعليا ، فلا استصحاب .

وإنّما لا ينفع في الاستصحاب الشك الفرضي الذي لا فعلية له ، لأن قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ظاهر في الشك الفعلي ، بل هو المتبادر منه ، حتى انه قد جاء لفظ الشك في بعض الروايات بصيغة الماضي الدال على تحقق الوقوع كما في قوله عليه السلام في رواية زرارة : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (2) فإنه كالصريح في لزوم فعلية الشك ، فلا يكفي شأنية الشك .

وعليه : ( فالمتيقِّنُ للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق ) قبل أن يصلي ( فشكّ ) في إنه هل بقي على الحدث أو تطهّر بعده ؟ ( جرى الاستصحاب في حقّه ) فيستصحب الحدث فلا يجوز له الدخول في الصلاة .

( فلو غفل عن ذلك ) أي بعد أن جرى استصحاب الحدث في حقه غفل

ص: 121


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

وصلّى ، بطلت صلاتُه ، لسبق الأمر بالطهارة ، ولا يجري في حقّه حكمُ الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ، لأنّ مجراه الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود من قبل .

نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثم إلتفت وشك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدةُ الشكّ بعد الفراغ ،

-------------------

عن ان وظيفته التطهر ( وصلّى ، بطلت صلاته ، لسبق الأمر بالطهارة ) لأن الشارع قال له بسبب الاستصحاب قبل الصلاة : أنت محدث فيجب عليك التطهّر للصلاة ، وهذا لم يتطهّر للصلاة فلم يصل عن طهارة ، لا طهارة قطعيّة ، ولا طهارة استصحابية .

( و ) إن قلت : إن قاعدة الفراغ جارية هنا فنحكم لأجلها بصحة صلاة هذا الشخص .

قلت : ( لا يجري في حقّه حكمُ الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ) وذلك ( لأنّ مجراه ) أي : مجرى قاعدة الفراغ ( الشك الحادث بعد الفراغ ) كما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في انه هل كان متطهّرا أو لم يكن متطهّرا؟ ( لا الموجود من قبل ) كما هو المفروض حيث ان هذا الشك قد حصل له قبل الصلاة وجرى في حقه استصحاب الحدث .

( نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث ) بأن لم يعرض له شك قبل الصلاة حتى يكون مستصحبا للحدث ، بل كان غافلاً عن حاله ( وصلّى ثم إلتفت وشك في كونه محدثا ) كان ( حال الصلاة أو متطهّرا ) بأن كان شكّه بعد الصلاة ( جرى في حقّه قاعدةُ الشكّ بعد الفراغ ) .

ص: 122

لحدوث الشك بعد العمل ، وعدم وجوده قبله ، حتى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها .

نعم ، هذا الشكّ اللاحق يوجبُ الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لولا حكومةُ قاعدة الشك بعد الفراغ عليه ، فافهم .

-------------------

وإنّما تجري القاعدة في حق الغافل عن حاله ( لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده ) أي : الشك ( قبله ) أي : قبل العمل ، فإن عدم وجود الشك قبله يثمر : أنه لم يكن مستصحب الحدث ( حتى يوجب الأمر بالطهارة ، و ) يوجب ( النهي عن الدخول فيه ) أي : في الصلاة - مثلاً - ( بدونها ) أي : بدون الطهارة .

( نعم ، هذا الشكّ اللاحق ) بعد الصلاة ( يوجبُ الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لولا حكومةُ قاعدة الشك بعد الفراغ عليه ) أي : على الاستصحاب ، فإن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز ، وقاعدة الصحة . وما أشبه ، كلّها حاكمة على الاستصحاب لما قرّر في محله : من أنه لو لم تتحكم هذه القواعد على الاستصحاب لزم سقوطها .

وإنّما يلزم سقوطها لأن هذه القواعد مجعولة في موارد الاستصحاب ، مثل استصحاب اشتغال الذمّة ، واستصحاب عدم ملكية هذا البائع للبضاعة التي يبيعها، وغير ذلك مما لو أردنا العمل بالاستصحاب فيها لما بقي لمثال قاعدة الفراغ مورد ، فيلزم تقديمها على الاستصحاب .

( فافهم ) ولعله إشارة الى أن وجوب الإعادة من الأحكام العقلية لاتيان الصلاة فاقدة لبعض شرائطها ، كما لو أتى بها بلا طهارة ، وذلك لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وهذا الحكم العقلي لا يثبت بالاستصحاب لأنه مثبت ، وقد تقدّم ويأتي أن المثبت في الاصول ليس بحجة .

ص: 123

السادس :

في تقسيم الاستصحاب الى أقسام :

لِيُعرَفَ : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها ، فنقول : إنّ له تقسيما باعتبار المُستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه .

-------------------

( السادس : في تقسيم الاستصحاب الى أقسام ) تالية ، وإنّما نقسمه الى هذه الأقسام ( لِيُعرَفَ : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب ) هل هو ( في كلّها أو في بعضها ) ؟ حتى يكون الذي هو محل وفاق الجميع أكثر وثوقا وذلك للاطمئنان بصحة جريان الاستصحاب فيه .

( فنقول : إنّ له ) أي : للاستصحاب ( تقسيما باعتبار المُستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه ) .

أمّا تقسيمه باعتبار المستصحب : فلأن المستصحب قد يكون من قبيل الأحكام ، وقد يكون من قبيل الموضوعات .

وأمّا تقسيمه باعتبار الدليل الدال عليه : فلأن الدليل الدال على الاستصحاب ، امّا العقل ويسمّى باستصحاب حال العقل ، وامّا الشرع ويسمّى باستصحاب حال الشرع .

وأمّا تقسيمه باعتبار الشك المأخوذ فيه : فلأن الشك إمّا أن يكون في المقتضي أو يكون في المانع .

ولا يخفى : أنه قد يكون الشك في الملفق من المقتضي والمانع ، ومرادهم بذلك : ما كان الشك في البقاء فيه مرددا بين إنقضاء إستعداده

ص: 124

أمّا بالاعتبار الأوّل فمن وجوه :
الوجه الأوّل

أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا ، كوجوب شيء ، أو طهارته أو رطوبته أو نحو ذلك .

-------------------

أو عروض المانع عليه ، كما سيأتي تفاصيل كل ذلك في كلام المصنِّف قدس سره .

( أمّا ) تقسيم الاستصحاب ، ( بالاعتبار الأوّل : ) أي : باعتبار المستصحب ( فمن وجوه ) تالية :

( أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا ) بأن كان حكما تكليفيا اعتباريا ( كوجوب شيء ، أو ) وضعيا مثل : ( طهارته ) فإن الأحكام الخمسة تسمّى بالأحكام التكليفية ، وما عداها كالجزئية والشرطية ، والطهارة والنجاسة ، والملكية والزوجية ، والرقّية والحرية ، تسمّى بالأحكام الوضعية .

( أو ) موضوعا خارجيا مثل : ( رطوبته أو نحو ذلك ) .

هذا ، وقد سبق أن قلنا : أن الحكم الشرعي هو الذي يستطرق فيه باب الشرع ، فكون هذا الشيء واجبا أو ليس بواجب ، طاهرا أو ليس بطاهر - مثلاً - يحتاج الى بيان من الشرع .

وأمّا الموضوع الخارجي فإنه يستطرق فيه باب العرف فكون هذا الشيء رطبا أو ليس برطب ، وإن زيدا ميت أو حي ، - مثلاً - لا يرتبط بالشارع ، وإنّما يلزم أن نستطرق فيه باب العرف ، لنعرف هل إنه كان رطبا حتى يتنجّس بالملاقاة ؟ وإنه هل بقي حيا حتى تجب نفقة زوجته - مثلاً -؟ وهكذا .

ص: 125

وقد يكون عدميّا ، وهو على قسمين :

أحدُهما عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي ، ويسمّى عند بعضهم : بالبرائة الأصليّة وأصالة النفي .

والثاني : غيره ، كعدم نقل اللفظ عن معناه وعدم القرينة

-------------------

( وقد يكون ) المستصحب أمرا ( عدميّا ) بمعنى : استصحاب العدم ( وهو على قسمين ) كما يلي :

( أحدهما ) : ما يرتبط بالشارع مثل : ( عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي ) كما إذا شككنا في أنّ التتن - مثلاً - حرام أم لا ؟ فنستصحب عدم الحرمة ( ويسمّى عند بعضهم : بالبرائة الأصليّة ) لأنّ الأصل برائة الانسان من كل تكليف حتى يثبت ذلك التكليف عليه ( و ) يسمّى أيضا : ( أصالة النفي ) لأنّ الأصل نفي التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف .

مثلاً : ان التتن قبل الشرع لم يكن حراما فنستصحب عدم حرمته الى ما بعد الشرع ، أو انه حال الصغر أو الجنون لم يكن عليه حراما فنستصحب عدم حرمته بعد البلوغ والعقل ، أو إنه قبل دخول الوقت لم يكن واجبا عليه ، فنستصحب عدم وجوبه بعد الوقت ، أو إن المرأة حالة الحيض لم يجب عليها صلاة الآيات ، فنستصحب عدم الوجوب عليها بعد الحيض ، وهكذا .

( والثاني : غيره ) مما لا يرتبط بالشارع وإنّما يرتبط بالأمور الخارجية ، بلا فرق بين أن يكون راجعا الى الألفاظ ( كعدم نقل اللفظ عن معناه ) الى معنى آخر ( وعدم القرينة ) فيكون الكلام حقيقة في معناه اللغوي

ص: 126

وعدم موت زيد ورطوبة الثوب ، وحدوث موجب الوضوء أو الغسل ونحو ذلك .

ولا خلاف في كون الوجودي محل النزاع .

وأمّا العدميّ فقد مال الاستاذ قدّس اللّه سرّه ، الى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره في العدميات .

-------------------

( و ) عدم التخصيص ، وعدم التقييد ، وعدم الاضمار ، وعدم الاشتراك ، وما أشبه ذلك .

أو يكون راجعا الى غير الألفاظ مثل : ( عدم موت زيد ) فيما إذا شككنا في حياته ( و ) عدم ( رطوبة الثوب ) فيما إذا شككنا في رطوبته حين وقوعه على الأرض النجسة - مثلاً - ( و ) عدم ( حدوث موجب الوضوء أو الغسل ) من الأحداث التي توجبهما فيما إذا شككنا في شيء منها .

( ونحو ذلك ) مثل : عدم حليّة هذه المرأة لهذا الرجل بهذا العقد المشكوك صحته وغيرها .

هذا ( ولا خلاف في كون ) الاستصحاب ( الوجودي محل النزاع ) بين العلماء في انه هل هو حجة أو ليس بحجة ؟ .

( وأمّا ) الاستصحاب ( العدميّ فقد مال الاستاذ ) شريف العلماء ( قدس اللّه سره ، الى عدم الخلاف فيه ) وانه حجة قطعا ، وذلك ( تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره ) أي : على اعتبار الاستصحاب ( في العدميات ) فقط .

ص: 127

واستشهد على ذلك ، بعد نقل الاجماع المذكور ، باستقرار

سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، والنقل ، والاشتراك ، وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء .

أقول : ما استظهره قدس سره

-------------------

( واستشهد ) الاستاذ ( على ذلك ) أي : على عدم الخلاف في حجية الاستصحاب في العدميات ( بعد نقل الاجماع المذكور ) عن استاذه : ( باستقرار سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، و ) عدم ( النقل ، و ) عدم ( الاشتراك ، وغير ذلك ) فإن سيرتهم على التمسك بهذه الاصول العدمية تدل على عدم الخلاف في جريان الاستصحاب في العدميات .

( و ) استشهد الاستاذ أيضا ( ببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء ) أي : إنهم اختلفوا في ان العلّة المحدثة كافية في الابقاء أو ليست بكافية ، فإذا تنجس الماء - مثلاً - بسبب التغيّر ثم زال تغيّره من نفسه ، فهل تبقى النجاسة لأن العلّة المحدثة للنجاسة وهي التغيّر كافية في ابقاء النجاسة ولو زال التغيّر ؟ قال بعض : نعم ، لأن العلة المحدثة كافية للبقاء ، وقال بعض : لا ، لأن العلة المحدثة ليست كافية للبقاء .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الكلام مختص بالوجوديات ، لأنّ العدم كما عرفت : لا يحتاج الى علّة حتى يبحث : في كون علّة العدم المحدثة للعدم هل هي مبقية للعدم أو ليست بمبقية؟ فإن العدم ليس بشيء حتى يكون علة أو معلولاً ، أو وصفا أو موصوفا ، أو ما أشبه ذلك من أوصاف الوجوديات .

( أقول : ما استظهره ) الاستاذ ( قدّس سرّه ) من عدم الخلاف في العدميات

ص: 128

لايخلو عن خفاء .

أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها في المقام ،

مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ، حيث قال : « إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي» .

-------------------

( لا يخلو عن خفاء ، أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها ) أي : لهذه الدعوى ( في المقام ) .

وإنّما لا مسرح لها هنا لوضوح : أن الاجماع إنّما هو حجة في الشرعيات لا في العقليات وجريان الاستصحاب في العدم أو عدم جريانه فيه من باب العقل لا من باب الشرع ( مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها ) أي : بخلاف هذه الدعوى ، فأين الاجماع في المسألة ؟ .

والحاصل : ان الاجماع مخدوش صغرى : بوجود المخالف ، وكبرى : بأن المسألة ليست من المسائل التي يكون الاجماع فيها حجة ( وإن كان يشهد لها ) أي : لهذه الدعوى أيضا ( ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ) فإن ابن الحاجب كتب كتابا في الاصول وشرحه العضدي ، وشرح التفتازاني شرح العضدي .

وكيف كان : فإن ظاهر التفتازاني يشهد لدعوى الاجماع ( حيث قال : « إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي » (1) ) أي : إنهم مختلفون في الاستصحاب في الوجوديات ، أمّا الاستصحاب في العدميات فلا خلاف منهم فيه .

هذا ، ولعل مراده بالنفي الأصلي ما أشرنا اليه : من أصالة النفي ، فإن الأصل نفي

ص: 129


1- - تعليقة شرح مختصر الاصول : ص284 .

وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما .

قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية ، بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض وإثباته عن بعض ، والتفصيل عن بعض آخر ،

-------------------

التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف ، كما ان الأصل في الأشياء العدم والنفي أيضا .

( وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما ) معا ، ومن المعلوم : ان الأصل في باب الألفاظ ، يراد به : الظهور لا الاستصحاب الاصطلاحي .

وإنّما يراد به الظهور لأن العلماء في باب الألفاظ يقولون : الأصل بقاء المعنى الأوّل وهو من الاصول الوجودية ، فإذا كان للفظ معنى ثم شككنا في أنه هل تغيّر عن ذلك المعنى أو لم يتغيّر؟ فالظاهر أنه باق على ذلك المعنى ، وهكذا بالنسبة الى الاصول العدمية مثل : أصالة عدم القرينة ، وعدم المخصّص ، وعدم الناسخ ، وما أشبه ذلك .

والحاصل : إن حجية الاصول اللفظية ليست مبتنية على حجية الاستصحاب ، بل من باب الظهور النوعي الذي يعتمده أهل اللسان ، بلا فرق بين الاصول الوجودية والاصول العدمية ، ويشهد لذلك كلام المحقق البهبهاني كما نقله المصنِّف بقوله : ( قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية ) التي كتبها في الاستصحاب ( بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض ) حيث قال بعدم حجيته مطلقا ( وإثباته عن بعض ) حيث قال بحجيته مطلقا ( والتفصيل عن بعض آخر ) حيث قال

ص: 130

ما هذا لفظه :

« لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا ، أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون : الأمر حقيقةٌ في الوجوب عرفا ، فكذا لغةً ، لأصالة عدم النقل . ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي ، فينكرون الحقيقة الشرعية الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع» ، انتهى .

وحينئذ : فلا شهادة

-------------------

بحجيّة بعض الاستصحاب دون بعض .

قال الوحيد ( ما هذا لفظه : « لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا ) أي : القائل بأن الاستصحاب ليس بحجة اطلاقا نرى ( أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ) - مثلاً - بالنسبة الى الاصول العدمية ( فيقولون : الأمر حقيقةٌ في الوجوب عرفا ، فكذا لغةً لأصالة عدم النقل ) لأنه لو نقل اللفظ من معناه السابق الى معنى جديد لكان على هذا النقل دليل .

( ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي ) - مثلاً - بالنسبة الى الاصول الوجودية، وذلك فيما إذا شك في بقاء المعنى اللغوي للفظ وعدم بقائه ( فينكرون الحقيقة الشرعية ) لأن الأصل بقاء المعنى اللغوي للصلاة - مثلاً - وبقاؤه يقتضي عدم وجود حقيقة شرعية .

( الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع » (1) ، انتهى ) كلام الوحيد البهبهاني .

( وحينئذ ) أي : حين ظهر من كلام الوحيد : أن الاصول اللفظية وجودية كانت أو عدمية منوطة بالظهور حتى من المنكر للاستصحاب مطلقا ( فلا شهادة

ص: 131


1- - الرسالة الاستصحابية : مخطوط .

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات .

وأمّا استدلالهُم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي - فمع أنّه معارَضٌ باختصاص بعض أدلّتهم الآتي بالعدمي ،

-------------------

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات ) عن محل الخلاف في باب الاستصحاب ، فإن العدميّات في باب الاستصحاب لا تزال محل خلاف وإن كانت العدميّات في باب الألفاظ محل وفاق .

وإنّما لا شهادة للسيرة الجارية هناك على ما نحن فيه ، لأن هنا بابين لا باب واحد : باب مرتبط بالألفاظ وجرت عليه السيرة ، وهو الظهورات ، وباب مرتبط بالاستصحاب ولم تجرِ عليه السيرة وهو الاستصحاب .

( وأمّا استدلالهُم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي ) على ما عرفت : من إن ظهور هذا الكلام إنّما هو في الأمر الوجودي ، فلا يشمل الأمر العدمي ، لأن الوجود هو المحتاج الى المؤثر دون العدم ، لكنه لا يكون دليلاً أيضا على خروج العدميات عن محل الخلاف وذلك لما يلي :

أولاً : ( فمع أنّه معارَضٌ باختصاص بعض أدلّتهم الآتي ) ذكرها ( بالعدمي ) مثل قولهم : إن الاستصحاب لو كان حجة لوجب ترجيح بيّنة المنكر لكونها مؤيدة بأصالة العدم ، فإنه لو كان اختصاص بعض أدلتهم بالوجوديات ، لتعارض هذا الاستدلال مع اختصاص بعض أدلتهم الاخرى بالعدميات ، فيتساقطان ، فلا يكون الدليل الوجودي سببا لاخراج الاستصحاب العدمي عن محل الخلاف .

ص: 132

وبأنّه يقتضي أن يكون النزاعُ مختصا بالشك من حيث المقتضي لا من حيث الرافع -

-------------------

ثانيا : ( وبأنّه يقتضي أن يكون النزاعُ مختصا بالشك من حيث المقتضي ) وذلك كالشك في بقاء النجاسة للماء الذي زال تغيّره من نفسه ، فإن القائل باستغناء الباقي عن المؤثر يرى وجود المقتضي للنجاسة فيستصحب النجاسة ، بينما القائل بعدم استغناء الباقي عن المؤثر وإنه لابد من العلة المبقية ، يرى عدم وجود المقتضي للنجاسة فلا يستصحب النجاسة .

إذن : فيكون النزاع على هذا مختصا بصورة الشك في المقتضي و ( لا ) يشمل صورة الشك ( من حيث الرافع ) وذلك كالشك في بقاء الطهارة ، فإن الطهارة مما إذا وجدت إقتضت البقاء إلاّ أن يزيلها رافع ، فلا شك فيه حينئذ من حيث المقتضي حتى يكون مشمولاً للنزاع .

وعليه : فإن الشك قد يكون في المقتضي ، وقد يكون في الرافع ، فإذا أوقدنا السراج - مثلاً - أول الليل ، وشككنا في بقاء إنارته منتصف الليل ، فإن الشك المذكور قد يكون من باب الشك في المقتضي : بأن لا نعلم هل إن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع : بأن نعلم أن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح ، لكن لا نعلم هل ان ريحا هبّت فأطفأته أم لا؟ وهذا بالنسبة الى العرفيات .

أما بالنسبة الى الشرعيات فكذلك ، فإنه قد يكون الشك ، فيها من باب الشك في المقتضي ، كما مثَّلنا له بالماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه ، حيث لا نعلم هل إن التغيّر يقتضي بقاء النجاسة حتى بعد زواله أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع ، كما مثلنا له بالشك في بقاء الطهارة ، حيث نعلم أن الطهارة إذا ثبتت

ص: 133

يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي ،

-------------------

دامت ، لكن نشك في بقائها من جهة إنّا نشك في أنه هل حدث رافع أم لم يحدث ؟ .

وكيف كان : فإن الدليل المذكور لو تم كان سببا لاختصاص النزاع بالشك في المقتضي لا في الشك في الرافع ، لأنّ في مورد الشك في الرافع لا معنى للبحث في أن الباقي مستغنٍ في بقائه عن المؤثّر أم لا ، إذ وجود المؤثّر مقطوع البقاء فيه فإن الوضوء والغسل يؤثّران في الطهارة ما لم يعرض رافع ، فيكون الاستصحاب فيه متفقا عليه ، والحال أنه ليس الاستصحاب فيه متفقا عليه عند الجميع .

وإن شئت قلت : أن وجه اختصاص النزاع على هذا في الشك في المقتضي دون الشك في الرافع هو : انه مع الشك في الرافع لا يتفاوت الحال بين القول باحتياج الباقي الى المؤثر وبين القول بعدمه ، إذ الشك في الرافع إنّما هو بعد القطع بوجود المقتضي ، فالقول باحتياج الباقي الى المؤثر لا يمنع من اعتبار الاستصحاب فيه .

ثالثا : أنه بالاضافة الى ذلك ( يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا ) في باب الاستصحاب ( لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي ) أي : اكتفى الاصوليون بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي بسبب استغناء الباقي عن المؤثّر ، وإلاّ فكلامهم في الأعم من الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي ، ومن المعلوم : ان الغالب في الأحكام الشرعية هي الوجودات لا الأعدام .

ص: 134

مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميمَ المطلب في العدمي بالاجماع المركب ، بل الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر ، فالمعدوم كذلك بالطريق الأولى .

-------------------

رابعا : ( مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميمَ المطلب في العدمي بالاجماع المركب ) إذ بعضهم قال بحجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، وبعضهم قال بعدم حجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، فإذا ثبت لدينا حجية الوجودي يلزم أن نقول بحجية العدمي أيضا ، وإلاّ لزم التفصيل بين حجية الوجودي وعدم حجية العدمي ، وهذا خرق للاجماع المركب .

خامسا : ( بل ) يمكن تتميم المطلب في العدمي بدليل ( الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر ) لأن المفروض : كفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول وإن انتفت العلة ، كالماء المتغيّر إذا زال تغيّره ( فالمعدوم كذلك ) لم يحتج في بقائه على حالة العدم الى المؤثر ، وذلك ( بالطريق الأولى ) لأن العدم خفيف المؤنة بخلاف الوجود .

وبهذا ظهر : أن المصنِّف قد أجاب عن استدلالهم لاثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر بخمسة أجوبة أثبت من خلالها عدم إفادة استدلالهم خروج العدميات عن محل النزاع والأجوبة هي كالتالي :

الأوّل : بقوله : فمع إنه معارض .

الثاني : بقوله : وبأنه يقتضي أن يكون .

الثالث : بقوله : يمكن توجيهه .

الرابع : بقوله : مع إنه يمكن أن يكون .

الخامس : بقوله : بل الأولوية .

ص: 135

نعم ، ظاهرُ عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له ظاهر الاختصاص بالوجودي ، إلاّ أنّ الوجه فيه بيانُ الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام .

ولذا عَنونه بعضهُم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع .

وممّا ذكرنا

-------------------

الى هنا ثبت أن عنوانهم الاستصحاب أعم من الوجودي والعدمي .

( نعم ، ظاهرُ عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له ) بأنه إبقاء ما كان ونحوه انّه ( ظاهر الاختصاص بالوجودي ) لأن «الحال» لا يكون للعدم وإنّما يكون للموجود ، كما إن «ما كان» ظاهر في ما وجد سابقا ، وإلاّ فإن العدم لايُسمّى « ما كان » .

( إلاّ أنّ ) هذا أيضا لا يكون دليلاً على إرادتهم استصحاب الوجود فقط ، وخروج العدميات عن محل الخلاف ، وذلك لأن ( الوجه فيه ) أي : في عنوانهم الاستصحاب بلفظ الحال ، وتعريفه بأنه « ابقاء ما كان » إنّما هو لأجل ( بيانُ الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام ) وقد عرفت : أن الأحكام الشرعية على الأغلب وجوديات وإن كان قسم منها عدميات مثل عدم الأكل ، وعدم الشرب ، وعدم الجماع ، بالنسبة الى الصوم والصلاة ، والإعتكاف ، والإحرام .

( ولذا عَنونه بعضهُم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع ) مما يظهر منه : أن مقصودهم الاستصحاب الذي هو من أدلة الأحكام الشرعية .

( وممّا ذكرنا ) : من أنهم لا يريدون نفي الاستصحاب العدمي ، بل يريدون اثبات الاستصحاب الذي هو دليل للأحكام الشرعية الغالب كونها وجوديات

ص: 136

يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب « استصحاب الحال » في الوجودي ، وإلاّ لَدلَّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الاُمور الخارجيّة .

وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف

-------------------

( يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع ) بالأمور الوجودية دون العدمية ، وذلك إستشهادا ( بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب «استصحاب الحال» ) فإن هذا العنوان لا يدل على اختصاص الخلاف ( في الوجودي ) فقط .

( وإلاّ ) بأن كان ذكرهم استصحاب الحال في العنوان ظاهرا في قصدهم الوجودي في قبال العدمي ( لَدلَّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الاُمور الخارجيّة ) من الشك في الموضوعات ، فإن الموضوعات ليست من حال الشرع .

والحاصل : إن محل النزاع أعمّ من الاستصحاب الوجودي والعدمي ، والحكمي والموضوعي ، وعنوانهم استصحاب الحال إنّما هو من جهة أن العمدة بيان الاستصحاب الوجودي المُثبت للحكم الشرعي الكلّي ، لا أن مرادهم اخراج الاستصحاب العدمي عن محل النزاع .

كما إن عنوانهم حال الشرع في باب الاستصحاب أيضا من جهة أن قصدهم غالبا هو استصحاب الأحكام ، لا أنهم يريدون إخراج الاستصحاب الموضوعي عن محل النزاع ، فيكون قد روعي بذلك الغلبة في التعريفين ، تعريف الاستصحاب بالوجودي ، وتعريف الاستصحاب بحال الشرع .

هذا ( وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف ) وأنه هل يجري

ص: 137

الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ، بل لعله صرّح في ذلك ، بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب .

وأصرحُ من ذلك في عموم محل النزاع استدلال النافين في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيحُ

-------------------

فيها الاستصحاب أم لا ، كما اختلفوا في أنه هل يجري الاستصحاب في الوجوديات أم لا؟ هو : ( الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ) أي : من الوحيد حيث إنه نقل إنكار بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وإثبات بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وتفصيل بعضهم .

وإنّما يظهر من هذا الكلام ذلك ، لأن مثبت الاستصحاب مطلقا يثبته في الوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي ، كما إن المنكر له مطلقا ينكره في جميع هذه الاُمور الأربعة ، والمفصّل يفصّل باثبات الاستصحاب في بعض الأربعة دون بعض .

( بل لعله صرّح في ذلك ) أي : في دخول العدميات في محل الخلاف أيضا ، وذلك ( بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب ) فإنه رحمه اللّه قسّمه أولاً الى العدمي والوجودي والحكمي والخارجي . مما يظهر منه أن قوله : مطلقا في الاثبات ، ومطلقا في النفي ، شامل للوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي .

( وأصرح من ذلك ) أي : من كلام الوحيد ( في عموم محل النزاع ) وشموله للاستصحاب الوجودي والعدمي معا ( استدلال النافين ) للاستصحاب مطلقا ( في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ) عند تعارض البيّنتين : بيّنة تقول بأن الدار لزيد ، وأخرى تقول بأن الدار ليست لزيد ( ترجيحُ

ص: 138

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ؛ واستدلال المثبتين - كما في المنية - بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة ، لتطرّق احتمالات فيها لا يندفع إلاّ بالاستصحاب .

وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

-------------------

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ) الذي هو أصالة العدم ، فإن الاستصحاب في العدميات لو كان خارجا عن محل الخلاف لما استطاع هؤلاء نفيه والاستدلال على ذلك .

( واستدلال المثبتين ) للاستصحاب مطلقا ( كما في المنية ) تأليف عميد الدين : ( بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب ) مطلقا حتى في العدميات ( لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة ) .

وإنّما ينسد باب استنباط الأحكام ( لتطرّق احتمالات فيها ) أي : في تلك الأحكام : من وجود التخصيص ، أو التقييد ، أو النسخ ، أو النقل ، أو الإضمار ، أو الاشتراك ، أو غير ذلك مما ( لا يندفع ) شيء منها ( إلاّ بالاستصحاب ) أي : باستصحاب العدم فيها ، كاستصحاب عدم التخصيص ، وعدم التقييد - مثلاً - فإن الاستصحاب في العدميات لو كان محل وفاق لما احتاج هؤلاء الى اثباته والاستدلال على ذلك .

والحاصل : انه ظهر من إستدلال المثبتين للاستصحاب ، وكذا من إستدلال النافين للاستصحاب : أن الاستصحاب العدمي هو محل البحث والنزاع أيضا .

هذا ( وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

ص: 139

المطروح .

وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع ، بل سيجيء - عند بيان أدلة الأقوال -

-------------------

المطروح ) وكذا في اللحم المطروح بلا علامة التذكية ، فإن الأكثر عند الشك في التذكية وعدمها يتمسكون بأصالة عدم التذكية ويرتبون على ذلك : عدم حلّ شيء مما تحلّه الحياة من ذلك الحيوان ، لأن الحيوان إنّما يكون محلّلاً إذا ذُكِّي ، فإذا أجرينا استصحاب عدم التذكية يكون الحيوان محرّما ، فأنكر المدارك هذا الاستصحاب معلّلاً له بأمرين :

أولاً بعمد اعتبار الاستصحاب في العدميات ولذا لا نتمكن من استصحاب عدم التذكية .

ثانيا : بأن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الموت حتف أنفه ، حيث جعل التذكية والموت حتف الأنف ضدّين ، ومن المعلوم : أن عدم أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر ، فإن أصل العدم يجري في هذا ويجري في ذاك ، فيتساقطان بالتعارض .

والحاصل : أن إنكار المدارك للاستصحاب العدمي من جهة ، واثبات غيره للاستصحاب العدمي من جهة أخرى ، يدل على أن الاستصحاب العدمي أيضا محل نزاع بين الاصوليين إثباتا ونفيا ، كما أن الاستصحاب الوجودي أيضا كذلك.

( وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع ) لكلام الفقهاء والاصوليين ( يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع ) في باب الاستصحاب .

( بل سيجيء - عند بيان أدلة الأقوال - ) المختلفة في باب الاستصحاب

ص: 140

أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي - بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ - وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلاً عن إتفاق النافين عليه ، إذ ما من استصحاب وجودي إلاّ ويمكن معه فرضُ استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ، فيسقط فائدةُ نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية ،

-------------------

إن شاء اللّه تعالى : ( أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي ) وذلك ( بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) هذا التفصيل ( وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ) فكيف بالاتفاق عليه كما قال : ( فضلاً عن إتفاق النافين عليه ) ؟ .

إذن : فالقول في المسألة : إما بالاستصحاب مطلقا وإما بعدم الاستصحاب مطلقا مما يثبت دخول العدمي في محل النزاع ، فلا قول بالتفصيل حتى يكون العدمي على القول به خارجا عن محل النزاع .

وإنّما يشهد كلام الاصوليين والفقهاء بعدم خروج العدميات عن محل النزاع ( إذ ما من استصحاب وجودي إلاّ ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به ) أي : بالعدم ( الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ) فإنه لو كان الاستصحاب في العدميات حجة بلا خلاف ، لكان البحث في حجية الاستصحاب في الوجوديّات لغوا .

وإنّما يكون البحث فيه لغوا لأنه ما من مورد للاستصحاب الوجودي إلاّ ويمكن تبديله بالاستصحاب العدمي ( فيسقط فائدةُ نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية ) لأن مهمّة المستصحِب - بالكسر - وصوله الى الحكم بواسطة الاستصحاب وهو إذا استصحب العدم وصل الى الحكم الوجودي ومعه لا حاجة للتكلم في كون الاستصحاب الوجودي حجة أم لا ؟ .

ص: 141

وانتظر لتمام الكلام .

وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا ،

-------------------

مثلاً : إنه يتمكن من أن يستصحب عدم موت زيد لايجاب نفقة زوجته فلا حاجة له الى استصحاب حياة زيد ، ويتمكن من أن يستصحب عدم نجاسة الماء لاثبات طهارة الثوب المغسول به فلا حاجة له الى استصحاب طهارة الماء ، وهكذا .

وعليه : فمحاولة الاصوليين اثبات حجية الاستصحاب الوجودي وإنه لو لم يكن حجة لم يصلوا الى الحكم المترتب على الاستصحاب الوجودي ، يدل على عدم مسلّمية حجية الاستصحاب العدمي عند الجميع إذ لو كان الاستصحاب العدمي حجة كذلك لم يحتاجوا الى هذه المحاولة ، لأن الاستصحاب العدمي يسدّ مسد الاستصحاب الوجودي على ما بيّناه .

( وانتظر لتمام الكلام ) في هذا المجال ، فإن الاستصحاب العدمي هو أيضا كالوجودي على ما عرفت : محل النزاع بين الاصوليين ، وليس كما زعمه بعض : من انه متفق عليه .

( وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات ) ودخوله في محل النزاع هو ( اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا ) .

مثلاً : إذا اختلف اثنان في أنه هل وقع النكاح ، أو وقع البيع ، أو وقع الصلح أو ما أشبه أم لا؟ قال بعض : بأن النافي لهذه المعاملات ونحوها لا يحتاج الى الدليل ، لأن أصل العدم كاف لاثبات كلامه ، وقال بعض آخر : بأن أصل العدم لا يكفي لاثبات كلامه ، فاختلافهم في ذلك دليل على أنهم غير متّفقين في العدميّات

ص: 142

فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما إدّعينا .

نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى : بالبرائة الأصلية ، فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ، كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه ، وكاستصحاب عدم النسخ ، فإن المصرّح به في كلام غير واحد ، كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه ،

-------------------

بل مختلفون فيها .

وعليه : فإن أردت الوقوف على ما قلناه ( فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما إدّعينا ) : من أن الاستصحاب العدمي هو كالوجودي موضع اختلاف بين الاصوليين والفقهاء .

( نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع ) والاتفاق على الاستصحاب فيه ( كاستصحاب النفي المسمّى : بالبرائة الأصلية ) مثل ما لو شككنا في أنه هل حرم التتن أم لا؟ فنستصحب عدم حرمته قبل الشرع الى ما بعد الشرع .

وكذا لو شككنا في حكم على صغير بلغ ، أو على مجنون أفاق ، فلم نعلم أنه كلّف بالتكليف الفلاني أم لا؟ فنستصحب عدم التكليف حال الصغر وحال الجنون الى ما بعد البلوغ والإفاقة .

وعليه : ( فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ) من الفقهاء ( كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه ) أي : على استصحاب النفي فيها .

( وكاستصحاب عدم النسخ ) حيث انه متّفق عليه بينهم ( فإن المصرّح به في كلام غير واحد كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه )

ص: 143

بل مالَ الأوّل الى كونه من ضروريات الدين ، وألحق الثاني بذلك استصحاب عدم المخصّص والمقيّد .

والتحقيقُ : إنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى: التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلفٌ فيه من غير فرق بين الوجودي والعدمي .

نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ،

-------------------

فإنه ما دام لا نعلم بالنسخ نستصحب عدم النسخ .

( بل مالَ الأوّل ) : وهو الاسترابادي ( الى كونه ) أي : استصحاب عدم النسخ ( من ضروريات الدين ) .

هذا ( وألحق الثاني ) : وهو البحراني ( بذلك ) أي : بأصل عدم النسخ ( استصحاب عدم المخصّص والمقيّد ) وقال : بأنه من ضروريات الدين ، فإذا لم يظهر مخصص أو مقيد ، نستصحب عدمهما ونتمسك بالعام أو المطلق .

( و ) مما ذكرنا من كلماتهم ظهر : أن ( التحقيقُ : أنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى: التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلفٌ فيه ) بين الفقهاء والاصوليين ( من غير فرق بين الوجودي والعدمي ) فليس الاستصحاب العدمي متفقا عليه .

( نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى ) غير الاستصحاب ( يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ) فذلك ليس من باب الاستصحاب بل من باب قاعدة أخرى ( كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ) حيث إنه من المستقلات العقلية ، وهذا يوافق استصحاب العدم ، لكنه قاعدة أخرى غير الاستصحاب .

ص: 144

أو عدم الدليل دليل العدم ، أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه أو غير ذلك ، وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب .

ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فَرَّق بين الوجودي والعدمي .

-------------------

( أو عدم الدليل دليل العدم ) وهذه أيضا قاعدة عقلائية توافق استصحاب العدم يعمل بها العقلاء تجاه الموالي وذلك في أنه لاحق للمولى إذا لم ينصب دليلاً أن يعاقب العبد على عدم عمله بما يريده المولى ، وهي غير الاستصحاب .

( أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه ) فإنه إذا كان للدليل ظهور في الاستمرار ، أو العموم ، أو الاطلاق بنى العقلاء على ذلك للظهور العقلائي وإن كان يوافقه استصحاب عدم النسخ ، وعدم التخصيص ، وعدم التقييد ( أو غير ذلك ) مما له ظهور كارادة الحقيقة فيما إذا لم يكن هناك قرينة منصوبة على خلافه .

( وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب ) فإن هذه اصول عقلائية يعمل عليها العقلاء سواء قلنا بحجيّة الاستصحاب أم لم نقل بحجيّته .

إذن : فلا يحق لأحد أن يقول : أنّ هذه الاُمور العدميّة متّفق عليها فتكون دليلاً على اتّفاقهم على الاستصحاب في الاُمور العدمية أيضا ، وذلك لما عرفت : من أنّ الاستصحاب شيء ، وهذه الاُمور العدميّة شيء آخر ، فلا يكون أحدهما دليل على الآخر .

( ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فَرَّق بين الوجودي والعدمي ) ، في باب الاستصحاب ، بل هم بين من أثبته مطلقا أو نفاه مطلقا على ما عرفت .

ص: 145

نعم ، حكى شارح الشرح هذا التفصيل عن الحنفيّة .

الوجه الثاني :

إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه ؛

-------------------

( نعم ، حكى شارح الشرح ) أي : التفتازاني المتقدم ذكره ( هذا التفصيل ) بين العدمي والوجودي ( عن الحنفيّة ) وذلك لا يكون دليلاً على أن أصحابنا أيضا يقولون بالتفصيل .

ثم لا يخفى : أنه قد ذكرنا في أوّل المبحث السادس قبل عدة صفحات تقسيم الاستصحاب تارة باعتبار المستصحب ، واخرى باعتبار الدليل ، وثالثة باعتبار الشك المأخوذ فيه ، ومضى أن التقسيم باعتبار المستصحب من وجوه ، تكلمنا عن أولها ، وبقي الكلام في الباقي ، أما الكلام في ثانيها فهو كما يلي :

( الثاني ) من تقسيمات الاستصحاب حسب المستصحب هو : ( إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا ) كليّا ( كالطهارة ) عن الحدث ، ( المستصحبة بعد خروج المذي ) والوذي والودي ، فإن الفقيه يحكم بالطهارة المستصحبة في هذه الاُمور مطلقا ، وهو حكم كلّي لكل من خرج منه شيء من هذه الاُمور بعد طهارته .

( و ) مثل ( النجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه ) بأن كان الماء قد تنجس بالتغيّر ، ثم زال تغيّره من قبل نفسه حيث نشك في أنه هل بقي على النجاسة أو زالت النجاسة بزوال التغير؟ فإن الاستصحاب يقول ببقاء

ص: 146

وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه .

والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين .

نعم ، نُسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل والاعتراف بالثاني ، ونُسب الى آخر : العكس

-------------------

النجاسة ، وهو حكم كلّي يستنبطه الفقيه من قاعدة الاستصحاب .

( وقد يكون غيره ) أي : غير الحكم الشرعي ، فإن الاستصحاب قد يكون في الأحكام وقد يكون في الموضوعات ( كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل ) للكلمة ، فإنا نستصحب الوضع الأوّل للكلمة ( عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه ) أي : تاريخ النقل للكلمة ، فإذا شككنا - مثلاً - في أن صيغة الأمر هل نقلت عن الوجوب الذي هو المعنى الظاهر للصيغة الى الاستحباب في زمان الأئمة عليهم السلام أم لا ؟ نقول بعدم النقل لاستصحابه .

وكذا إذا عَلِمنا بأنّ كلمة الصلاة نقلت من الدعاء الى الأركان المخصوصة ، لكن نَشك في أنّ النقل حصل في زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أو في زمن الإمام الصادق عليه السلام نقول : بأنه لم ينقل الى زمان الإمام الصادق عليه السلام وهذا هو استصحاب الموضوع وليس استصحابا للحكم .

( والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين ) من الاستصحاب : الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الموضوعي معا .

( نعم ، نُسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل ) بأن قال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم ( والاعتراف بالثاني ) بأن قال بجريان الاستصحاب في الموضوع ( ونُسب الى آخر : العكس ) بأن أجرى الاستصحاب في الحكم دون

ص: 147

حكاهما الفاضل القمّي في القوانين .

وفيه نظرٌ ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه .

وأخرى : يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع الخاصّ ،

-------------------

الموضوع ، وهذان التفصيلان ( حكاهما الفاضل القمّي في القوانين (1) ) .

وعليه : فالأقوال حينئذ أربعة : قولان بالاطلاق وهما : جريان الاستصحاب مطلقا في الحكم والموضوع ، وعدم جريان الاستصحاب مطلقا لا في الحكم ولا في الموضوع ، وقولان بالتفصيل وهما : جريان الاستصحاب في الحكم دون الموضوع ، وجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم ، لكن سيأتي من المصنِّف أن الأقوال بالتفصيل ثلاثة لا إثنان .

( وفيه ) أي : فيما نقله الفاضل القمّي من التفصيل ونَسَبه الى بعض ( نظرٌ ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ) أي : غير الحكم الشرعي وهو الموضوع الخارجي .

وعليه : ( فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ) لأنّ الأحكام الكلّية إنّما تؤخذ من الشارع فقط ( كطهارة من خرج منه المذي ) والودي والوذي ( أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه ) وما أشبه ذلك من الأحكام الكليّة وجوبية كانت أو تحريمية ، تكليفية كانت أو وضعية .

( وأخرى : يراد به ما يعمّ ) الحكم الكلّي المذكور و ( الحكم الجزئي الخاصّ

ص: 148


1- - القوانين المحكمة : ص283 .

كطهارة هذا الثوب ونجاسته ، فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفةً الشارع .

نعم ، وظيفته إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها .

وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون ، حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام اللّه تعالى .

-------------------

في الموضوع الخاصّ ، كطهارة هذا الثوب ونجاسته ) حيث إن المرجع فيهما العرف ( فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفة الشارع ) .

إذن : فالشارع ليس مرجعا لبيان أن ثوب زيد نجس وثوب خالد طاهر من جهة الملاقاة وعدم الملاقاة ، وإنّما الشارع مرجع لبيان الأحكام الكلّية ، أمّا الصُغريات الخارجية لتلك الأحكام فمرجعها العُرف .

( نعم ، وظيفته ) أي : الشارع ( إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها ) فإن الشارع يقول : كلّ شيء لك طاهر حتى تَعْلَم أنّه لاقى النجس ، أمّا أن هذا الثوب لاقى النجس أو لم يلاق النجس فليس من وظيفة الشارع بيانه .

( وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون ) أي : أن الاخباريين أنكروا جريان الاستصحاب في أحكام اللّه ، لكنهم أرادوا من أحكام اللّه : الحكم الشرعي الكلّي ،

لا الأعم منه حتى ليشمل كلامهم الأحكام الشرعيّة الجزئية التي ليست وظيفة الشارع.

وعليه : فالاخباريون - كما قال - أرادوا الاطلاق الأوّل للحكم الشرعي ( حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام اللّه تعالى ) فقالوا مثلاً : بعدم

ص: 149

وجعله الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية لأجل اشتباه في الاُمور الخارجية .

وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعي ، وإنّما يدل على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته .

-------------------

استصحاب حلّية التتن قبل الشريعة الى ما بعدها ، وبعدم استصحاب صحة ضمان ما لم يجب قبل الشريعة الى ما بعدها وهكذا .

( وجعله ) أي : جعل هذا الاستصحاب ( الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد ) رحمه اللّه ( مع اعترافه ) أي : الاسترابادي ( باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية ) شكا ( لأجل اشتباه في الاُمور الخارجية (1) ) كما إذا لم نعلم بأنّ الثوب لاقى البول أو لم يلاقه ، أو أن زيدا مات حتى لا تجب نفقة زوجته أو لم يمت ؟ .

والحاصل : أن المحقق الاسترابادي يفصّل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية ، حيث لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية ويجريه في الأحكام الجزئية .

( وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في نفس الحكم الشرعي ) الكلّي ( وإنّما يدل على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في موضوعاته ومتعلّقاته ) أي : موضوعات الحكم الجزئي ومتعلقات تلك الموضوعات ، فيستصحب حياة زيد

ص: 150


1- - الفوائد المدنية : ص141 .

والأصل في ذلك عندهم : إنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ الاحتياط ، دون البرائة أو الاستصحاب ، فانّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع .

وعلى الاطلاق الثاني جرى بعضٌ آخر .

قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : « وينقسمُ الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المؤخذ فيه الى شرعي وغيره

-------------------

كما يستصحب وجوب نفقة زوجته ، فإن النفقة متعلق الموضوع .

هذا ( والأصل ) أي : المنشأ ( في ذلك ) أي : في أن اخبار الاستصحاب لاتدلّ على اعتبار الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي الكلّي ( عندهم ) أي : عند الاخباريين هو : ( أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ ) الى ( الاحتياط ، دون البرائة أو الاستصحاب ) أي : لا البرائة ولا الاستصحاب ( فانّهما ) أي : البرائة والاستصحاب ( عندهم ) أي : عند الاخباريين ( مختصّان بالشبهة في الموضوع ) .

هذا كلّه على الاطلاق الأوّل وهو : اطلاق الحكم الشرعي على الحكم الكلّي فقط .

( وعلى الاطلاق الثاني ) : أي : اطلاق الحكم الشرعي على المعنى الأعم الشامل للكلّي والجزئي ( جرى بعضٌ آخر ) فقد ( قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسمُ الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المؤخذ فيه ) الاستصحاب ( الى شرعي وغيره ) ومراده من الشرعي بقرينة عدم التقييد : الأعم من الحكم الشرعي الكلّي ، كما ان مراده من غيره : الاُمور الخارجية .

ص: 151

ومثَّل للأوّل بنجاسة الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته . ثم قال : ذهب بعضهُم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط » ، انتهى .

إذا عرفت ما ذكرنا ، ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والاُمور الخارجيّة قولين متعاكسين ، ليس على ما ينبغي .

لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

-------------------

هذا ( ومثَّل للأوّل ) وهو ما أشار اليه بقوله : الى شرعي ( بنجاسة الثوب أو البدن ) فإن نجاسة هذا الثوب أو ذاك البدن الخاص وعدم نجاستهما حكم شرعي .

كما ( و ) مثّل ( للثاني ) : وهو ما أشار اليه بقوله : وغيره ( برطوبته ) فإن الرطوبة أمر خارجيّ وليس حكما شرعيا وإن ترتّب على الرطوبة واللارطوبة الحكم الشرعي ، فإن الثوب إذا كان رطبا ولاقى النجس تنجّس بخلاف ما إذا لم يكن رطبا .

( ثم قال : ذهب بعضهُم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط » (1) ، انتهى ) كلام المحقق الخوانساري رحمة اللّه عليه .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) : من أن الحكم الشرعي يراد به تارة الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، وأخرى يراد به ما يعمّ الحكم الكلّي والحكم الجزئي المرتبط بالموضوع الخاص ، إذا عرفت ذلك ( ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والاُمور الخارجيّة قولين متعاكسين ) كما نقلناه عن المحقق القمي رحمه اللّه ( ليس على ما ينبغي ) .

وإنّما لايكون على ما ينبغي ( لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

ص: 152


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره ، فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل .

وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحدٌ باعتباره في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي ،

-------------------

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول ) بعكس هذا القول ، لأنه صحيح أنّ الاخباريين أنكروا الاستصحاب في الحكم الكلّي واعتبروه في غيره ، إلاّ أنه لا عكس له في الأقوال ، إذ لم يقل أحد ( باعتبار الاستصحاب فيه ) أي : في الحكم الكلّي فقط ( ونفيه ) أي : نفي اعتبار الاستصحاب ( في غيره ) أي : في غير الحكم الكلّي .

وإنّما لم يكن هنا من يقول بالعكس لأنه كما قال : ( فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري ) ليس هو اعتبار الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط حتى يكون عكسا لقول الاخباريين ، بل ( هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل ) أي : من الحكم الكلّي والجزئي .

( وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني ) الذي هو ( الأعمّ ) من الكلّي والجزئي ( فلم يقل أحدٌ باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي ) .

إذن : فالمحقق الخوانساري وإن نقل عن بعض : القول باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، وإنكاره في الاُمور الخارجية ، إلا إنّه لا عكس له ،

ص: 153

لأن الاخباريين لاينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية .

ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثةٌ :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري .

الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا ،

-------------------

إذ لم يوجد أحد من الاخباريين ولا من غيرهم يقول باعتبار الاستصحاب في الاُمور الخارجيّة وعدم اعتباره في الحكم الشرعي مطلقا .

وإنّما لم يقل به أحد حتى الاخباريين ( لأن الاخباريين ) أيضا ينكرون الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط ، لا في الأحكام الجزئية الخارجيّة فإنهم ( لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية ) كطهارة ثوب زيد ، ونجاسة بدن عمرو ، وما أشبه ذلك .

( ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ) أي : تقسيم الاستصحاب الى الحكم الشرعي وغيره من الاُمور الخارجية أن الأقوال بالتفصيل ( ثلاثةٌ ) لا اثنين ، وذلك على ما يلي :

( الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري ) في كلامه المتقدم .

( الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا )

ص: 154

وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين .

الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الاُمور الخارجية ، وهو الذي ربما يُستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية عن المحقق الخوانساري في حاشيةٍ له على قول الشهيد في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه .

الوجه الثالث :

من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا ، وقد يكون وضعيا شرعيا ، كالأسباب

-------------------

خارجيا ، كنجاسة هذا الثوب وطهارة بدن زيد ( وهو الذي حكاه ) الوحيد البهبهاني ( في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين ) على ما تقدّم .

( الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الاُمور الخارجية ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية ) السيد صدر الدين ( عن المحقق الخوانساري في حاشيةٍ له ) أي : للخوانساري ( على قول الشهيد ) في اللمعة ، وذلك ( في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه ) حيث انه يحرم استعمال هذين المائين في الشرب ونحوه .

( الوجه الثالث ) من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب هو : تقسيمه ( من حيث أنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا ) وهي الأحكام الخمسة ( وقد يكون ) حكما ( وضعيا شرعيا ) وهي التي يصطلح عليها الفقهاء : بالأحكام الوضعية .

أما أمثلة الأحكام الوضعية فهي : ( كالأسباب ) أي : سببيّه الأسباب للمسبّبات ،

ص: 155

والشروط والموانع .

وقد وقع الخلاف من هذه الجهة : فَفَصَّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني .

وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني ، مع أنّه تقسيمٌ لأحد

-------------------

مثل سببيّة عقد البيع لانتقال الملك ، وعقد النكاح لاباحة الوطي ، وما أشبه ذلك .

( و ) كشرطية ( الشروط ) مثل : شرطية الصلاة بالطهارة والقبلة .

( و ) كمانعية ( الموانع ) مثل : مانعية الحدث عن الصلاة .

وبكلمة واحدة : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا من الأحكام الخمسة ، فهو حكم وضعي .

ثم إنّهم اختلفوا في تعداد الأحكام الوضعية فقيل : أنها ثلاثة وهي : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وقيل : إنها خمسة باضافة العلّية والعلاميّة ، وقيل : إنها تسعة باضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة .

لكن من الواضح : أن هذه الأعداد لا تفيد كل الأحكام الوضعية ، وإنّما الأحكام الوضعية هي ما عدا الأحكام التكليفيّة الخمسة فقد عرفت : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا كان حكما وضعيا ، حتى إن بعضهم ذكر شمول الأحكام الوضعية لمثل : القضاء والولاية والقيمومة وما أشبه ذلك .

( وقد وقع الخلاف من هذه الجهة ) أي : من جهة كون المستصحب حكما تكليفيا أو حكما وضعيا ( ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني ) فإن الفاضل التوني وهو صاحب الوافية يرى أن الأحكام التكليفية لا تستصحب ، بل تستصحب الأحكام الوضعية فقط .

( وإنّما لم ندرج هذا التقسيم ) الثالث ( في التقسيم الثاني مع أنّه تقسيم لأحد

ص: 156

قسميه ، لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ، إلاّ أنّ آخِر كلامه ظاهرٌ في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ،

-------------------

قسميه ) أي : لأحد قسمي الثاني ، فإن التقسيم الثاني عبارة عن : تقسيم المستصحب الى الحكم الشرعي وغيره ، وهذا التقسيم الثالث الذي هو عبارة عن تقسيم المستصحب الى الحكم التكليفي والوضعي تقسيم للحكم الشرعي أيضا .

وعليه : فاللازم على ذلك إدراج هذا التقسيم في التقسيم الثاني وذلك بأن يقال في التقسيم الثاني : أن الاستصحاب قد يكون في الحكم الشرعي وقد يكون في غير الحكم الشرعي ، وما كان في الحكم الشرعي فقد يكون في الاُمور التكليفيّة وقد يكون في الاُمور الوضعية .

وإنّما لم ندرج التقسيم الثالث في التقسيم الثاني مع إنه أحد قسمي التقسيم الثاني ( لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور ) أي : صاحب الوافية ( وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ) بجريان الاستصحاب في الوضعي دون التكليفي . ( إلاّ أنّ آخِر كلامه ظاهرٌ في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ) فلم يعلم منه التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي بل يظهر من آخر كلامه التفصيل بين الحكم وغيره .

والحاصل : إن هذا المُفصّل لا يرى الاستصحاب في الكَمّ الشرعي مطلقا لا التكليفي ولا الوضعي ، وإنّما يرى الاستصحاب في الأسباب والشروط والموانع مع العلم بأن الحكم الوضعي عبارة عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، لا السبب والشرط والمانع .

ص: 157

وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال .

وأمّا بالاعتبار الثاني فمن وجوه أيضا :

أحدُها : من حيث الدليل المثبت للمستصحب ، إمّا أن يكون هو الاجماع ، وإمّا أن يكون غيره ،

-------------------

ومن الواضح : الفرق بين ذات الشرط كالوضوء ، وبين الشرطيّة وهي التلوّن بالشرط كالصلاة مشترطة بالوضوء ، وهكذا في السبب والمانع فقد نقول - مثلاً - : بأن الرطوبة تستصحب ، وقد نقول : بأن سببيّة الرطوبة لمنع الاحراق بالنار تستصحب .

وعليه : فالسبب والشرط والمانع ذوات ، بخلاف السببيّة والشرطيّة والمانعيّة فإنها أوصاف ( وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال ) إن شاء اللّه تعالى .

ثم إن المصنِّف لما انتهى من تقسيم الاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب ، شرع في تقسيمه باعتبار الدليل الدالّ عليه فقال :

( وأمّا ) تقسيم الاستصحاب ( بالاعتبار الثاني ) أي : باعتبار دليل الاستصحاب ( فمن وجوه أيضا ) ذكر المصنِّف ثلاثة منها :

( أحدُها : من حيث الدليل المثبت ) بصيغة اسم الفاعل ( للمستصحب إمّا أن يكون هو الاجماع ) كما إذا قام الاجماع على تنجّس الكرّ بالتغيّر ، ثم زال التغيّر فشككنا في بقاء النجاسة وعدم بقائها .

( وإمّا أن يكون ) الدليل المثبت للاستصحاب ( غيره ) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة .

ص: 158

وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل .

وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصرٌ في استصحاب حال الاجماع .

الثاني : من حيث انّه قد يثبت بالدليل الشرعي ، وقد يثبت بالدليل العقلي ،

-------------------

( وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل ) وهو ما كان دليله الاجماع ، دون الثاني وهو ما كان دليله الكتاب أو السنة .

( وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصرٌ في استصحاب حال الاجماع ) بينما قد عرفت فيما سبق : أن الاخباريين لا يجرون الاستصحاب في ما ثبت بالكتاب والسنّة ، وذلك باعتبار أنه حكم كلّي ، والحكم الكلّي عندهم يلزم فيه العمل بالاحتياط .

هذا ( وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلة الأقوال إن شاء اللّه ) تعالى ، ولذا لم نفصّل الكلام فيه الآن .

( الثاني : من حيث انّه ) أي : المستصحب ( قد يثبت بالدليل الشرعي ) كما إذا قام الدليل على تنجّس ماء الكرّ عند تغيّره بالنجاسة ، فإذا زال التغيّر من نفسه وشككنا في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر وعدم بقائها ، إستصحبنا بقاء النجاسة .

( وقد يثبت ) المستصحب ( بالدليل العقلي ) كما إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير بغير إذنه قبحا مانعا من النقيض ، فإنه يحرم شرعا أيضا ، وذلك للتلازم بين الدليل العقلي والدليل الشرعي حسب قاعدة : « كلما حكم به العقل حكم به الشرع » فإذا شككنا في حصول الاذن وعدمه استصحبنا بقاء الحكم العقلي فيبقى الحكم الشرعي أيضا .

ص: 159

ولم أجد مَن فصّل بينهما ، إلاّ أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ، وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي ، تأمّلاً ، نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي ،

-------------------

إذن : في المستصحب قد يثبت بدليل عقلي أو شرعي ( ولم أجد مَن فصّل بينهما ) بأن قال بحجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي وعدم حجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي ، ولا من قال بعكس ذلك .

هذا ( إلاّ أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم ) الشرعي ( بالدليل العقلي وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي ) كما تقدّم مثاله ( تأمّلاً ) .

وإنّما فيه تأمل وذلك ( نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة ) واضحة الموضوع بجميع قيوده لدى العقل ( مفصّلة من حيث ) لحاظ المصالح والمفاسد التي هي ( مناط الحكم الشرعي ) فإنّ مناط الأحكام الذي هو عبارة عن جهات المصلحة والمفسدة في الشيء لابد وأن يكون عند العقل واضحا بجميع جهاته حتى يحكم العقل به ، وإلاّ لم يحكم العقل به .

وعليه : فالعقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ بعد أن يدرك موضوعه بجميع قيوده بأن يلاحظ جميع ما له دخل في ذلك الشيء : من وجود المقتضي للحسن أو القبح ، وعدم المانع عنه ، فإذا توفّر كل ذلك حكم عليه .

مثلاً : إذا رأى العقل أنّ التصرف في ملك الغير مقتضٍ للقبح ، ورأى إذن المالك مانعا عنه ، فإنه يحكم حينئذ بقبح التصرف في ملك الغير من غير إذن ،

ص: 160

والشك في بقاء المستصحب وعدمه لابد وأن يرجع الى الشك في موضوع الحكم ، لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعةٌ الى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع ،

-------------------

وإذا ثبت ذلك عقلاً ثبت شرعا لقاعدة التلازم .

وأما إذا لم يدرك العقل موضوع الشيء بجميع قيوده بأن لم يدرك المقتضي للشيء ، أو عدم المانع عنه ، فلا يحكم بذلك الشيء ، لأن الموضوع بجميع قيوده وشروطه علّة للحكم .

( و ) إذا كان الأمر كذلك كان ( الشك في بقاء المستصحب وعدمه ) فيما إذا شككنا في أن القبح باقٍ أو ليس بباقٍ راجعا الى أنه - مثلاً - : هل أعرض المالك عن ماله أو لم يعرض عنه؟ أو الى أن المالك هل أذن أو لم يأذن؟ والشك في إعراض المالك أو إذنه شك في الموضوع .

إذن : فالشك في ذلك كما قال ( لابد وأن يرجع الى الشك في موضوع الحكم ) بمعنى : أنّا نشك في أن تصرفنا في هذا الشيء هل هو تصرف في ملك الغير بدون الاذن ، أو ليس هو تصرفا في ملك الغير لأنه أعرض عنه ، أو هو تصرف في ملك الغير مع الاذن منه ؟ .

وإنّما يرجع الشك في ذلك الى الشك في الموضوع ( لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح ) على ما عرفت : مِن أنّ القبح إنّما يكون إذا كان ملكا للغير ولم يأذن الغير في التصرّف ، فإن هذه الجهات ( كلّها راجعةٌ الى قيود فعل المكلّف ) الذي هو التصرف في ملك الغير ( الذي هو الموضوع ) لحكم العقل .

إذن : فالحرمة في مثالنا مترتِّبة على الموضوع الذي هو التصرّف في ملك الغير

ص: 161

فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلاّ للشك في موضوعه ، والموضوع لابد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ، كما سيجيء .

-------------------

بدون إذنه ، والشك في بقاء الحرمة لهذا التصرف وعدم بقائها له راجع الى الشك في الموضوع وهو : الشك في أن هذا التصرف هل هو تصرف في ملك الغير بدون إذنه ، أو ليس كذلك ؟ .

وعليه : ( فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع ) بأن احتملنا وجود رافع رَفَع المقتضي ، والرافع في المثال : إذن المالك ( لا يكون إلاّ للشك في موضوعه ) أي : موضوع الحرمة وهو : التصرف بدون الاذن ، لوضوح : أن جميع القيود بالنسبة الى الحرمة راجعة الى الموضوع ، فإذا شككنا في وجوده وعدم وجوده لا يجري الاستصحاب .

( و ) إنّما لا يجري الاستصحاب لأن ( الموضوع ) في باب الاستصحاب ( لابد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ) وفي المثال لا يعقل استصحاب القبح من دون احراز أنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه .

( كما سيجيء ) عند بيان الخاتمة : من أن في باب الاستصحاب يجب بقاء الموضوع ، وإلاّ بأن تغيّر الموضوع ، أو شككنا في إن الموضوع باق أو ليس بباق ، لم يكن مجرى للاستصحاب .

والمتحصّل من هذا كلّه : أنّ الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي لا يجري فيه الاستصحاب ، لأن الشك في الحكم حينئذ يرجع الى الشك في الموضوع ، ومع الشك في الموضوع لا مجال للاستصحاب .

وأما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي - كما مثلنا له

ص: 162

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع وبين أن يكون لأجل الشك في إستعداد الحكم ، لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لايكون إلاّ بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالأخرة الى تبدّل العنوان ،

-------------------

بالماء المتغيّر بعد زوال تغيّره - فإنه إذا شككنا في بقاء النجاسة بعد زوال تغيره وعدم بقائها استصحبنا النجاسة .

وإنّما نستصحب النجاسة لأن العرف يرى أنّ الماء المتغيّر وغير المتغيّر موضوع واحد ، وإنّما التغير واللا تغير حالتان طارئتان عليه ، لا أنّهما مقوّمان له .

لا يقال : أن في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي يمكن الاستصحاب في الموضوع ، بأن يستصحب في المثال السابق تصرفه في ملك الغير بغير إذن منه ، فإذا تحقق بقاء الموضوع ترتبت عليه الحرمة الشرعية .

لأنّه يقال : لا بأس باستصحاب الموضوع ، كما يأتي في التنبيه الثالث ، لكن الذي نتكلم حوله الآن هو جريان الاستصحاب في نفس الحكم ، أما استصحاب الموضوع وإثبات الحكم له فهو أمرا آخر .

هذا ( ولا فرق فيما ذكرنا ) : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالحكم العقلي ( بين أن يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع ) كاحتمال حصول الاذن بأن تكلم المالك بكلام شككنا في أنه كان إذنا منه أم لا ( وبين أن يكون لأجل الشك في إستعداد الحكم ) أي : في المقتضي ، كما إذا احتملنا زوال عنوان ملك الغير لأجل الاعراض عنه .

وإنّما لا يجري الاستصحاب على كل من التقديرين ( لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلاّ بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالأخرة ) على كلا التقديرين ( الى تبدّل العنوان ) أي عنوان الموضوع العقلي الذي حكم العقل عليه بالحسن

ص: 163

ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع الى أنّ الضارّ من حيث أنّه ضارّ حرام .

ومعلوم : إنّ هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر ، مع العلم بتحققه سابقا ، لأنّ قولنا : « المضرّ قبيح » ، حكم دائمي لا يحتمل إرتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر .

ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا

-------------------

أو القبح ، وللتلازم بين حكم العقل والشرع ترتب حكم الشرع عليه بالوجوب أو الحرمة .

ثم بدأ المصنِّف في بيان تبدل العنوان فقال : ( ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ فحكمه ) أي : حكم العقل ( يرجع الى أنّ الضارّ من حيث أنّه ضارّ حرام ) فالحكم بالحرمة حكم شرعي دليله حكم العقل بالقبح وموضوعه : الصدق الضار ، فالضار هو عنوان الموضوع .

( ومعلوم : أنّ هذه القضية ) أي : حرمة الصدق الضارّ ( غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه ) أي : تحقق الضرر ( سابقا ) فإذا شككنا في أن الصدق بقي على ضرره ولم يبق على ضرره ؟ لا نتمكن من الاستصحاب .

وإنّما لا يمكن الاستصحاب ( لأنّ قولنا : « المضرّ قبيح » ، حكم دائمي لايحتمل إرتفاعه أبدا ) فإن المضرّ قبيح ماضيا وحالاً ومستقبلاً إذا كان محرزا ( و ) لكن عند الشك ( لا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر ) فإنا إذا شككنا في بقاء الضرر لا نتمكن أن نحكم بأنه قبيح فهو حرام ، لأن القبح إنّما ثبت على موضوع الضارّ ، والمفروض إنّا نشك في أنّه ضارّ أم لا لتبدّل العنوان ؟ .

( و ) الحاصل : أنه ( لا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا

ص: 164

فيُستصحَب قُبحُه ، لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ، ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء .

وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا يُعلَم أنّ المناط الحقيقي فيه باقٍ في زمان الشك أو مرتفع ، فيستصحب الحكم الشرعي .

-------------------

فيُستصحَب قُبحُه ) وذلك ( لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ، ليس هذا الصدق ) بما هو هو ( بل عنوان المضرّ ، و ) من الواضح : أن ( الحكم له ) أي : لعنوان المضر ( مقطوع البقاء ) فإن الصدق الضارّ نقطع ببقائه على حكمه من القبح والحرمة ، فلا شك حتى نستصحبه .

وعليه : فإنا إذا قطعنا ببقاء الضرر لا نحتاج الى استصحاب الحرمة ، وإذا شككنا في بقاء الضرر لا يمكن استصحاب الحرمة ، لأنّ الحرمة مترتبة على القبح ، والقبح مترتب على عنوان الضار والآن نشك في بقاء ذلك العنوان ، وقد تقدّم : أنه مع الشك في الموضوع لا يمكن استصحاب الحكم .

( وهذا ) الحكم الشرعي المترتب على الحكم العقلي حيث قلنا أنه لا يستصحب ، يكون ( بخلاف الأحكام الشرعية ) المترتبة على الدليل الشرعي كما تقدّم في مثال بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيّره .

وعليه : ( فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق ) مثلاً ( بكونه حراما ولا يعلَم أنّ المناط الحقيقي فيه ) أي : في تحريمه ما هو؟ وهل إنه ( باقٍ في زمان الشك أو مرتفع ) ذلك المناط ( فيستصحب الحكم الشرعي ) السابق ، لأنه مع عدم العلم بمناط الحكم الشرعي يحكم العرف بأن هذا الصدق كان حراما وشك الآن في حرمته ، فالموضوع العرفي محرز والشك إنّما يكون في حكمه فيستصحب الحكم .

ص: 165

فإن قلت : على القول بكون الأحكام الشرعية تابعة للأحكام العقلية ، فما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا الصدق ، فهو الموضوع والمناط في حكم الشرع بحرمته .

إذ المفروض ، بقاعدة التطابق ، أنّ موضوع الحرمة ومناطه هو بعينه موضوعُ القبح ومناطه .

-------------------

( فإن قلت : ) له ( على القول بكون الأحكام الشرعية تابعة للأحكام العقلية ) يلزم أن لا يكون فرق بين الحكمين من حيث عدم جريان الاستصحاب .

وإنّما يلزم عدم الفرق بينهما إذ كما أن الحكم الشرعي المستند الى الحكم العقلي واضح موضوعه عند العقل حتى ان الشك فيه يكون شكّا في بقاء الموضوع فلا يجري فيه الاستصحاب ، كذلك الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي واضح موضوعه عند الشارع ، فيكون الشك فيه راجعا الى الشك في بقاء الموضوع أيضا فلا يجري فيه الاستصحاب ، فلماذا فرّقتم وقلتم : أن الاستصحاب لا يجري في الحكم العقلي فيجري في الحكم الشرعي .

وعليه : ( ف ) إن ( ما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا الصدق ، فهو ) أيضا ( الموضوع والمناط في حكم الشرع بحرمته ) أي : بحرمة هذا الصدق فيما إذا قرّر الشارع حرمته .

وإنّما يكون مناط الحكم وموضوعه في الحكمين واحدا ( إذ المفروض بقاعدة التطابق ) بين حكم العقل وحكم الشرع حيث قد قرر : أنه كل ما حَكَم به الشرع حَكَم به العقل ، وكل ما حَكَم به العقل حَكَم به الشرع ( أنّ موضوع الحرمة ومناطه هو بعينه موضوعُ القبح ومناطه ) .

وعليه : فإذا لم يجرِ الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند الى العقل ، يلزم

ص: 166

قلت : هذا مسلّمٌ ، لكنّه مانعٌ عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ، لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ،

-------------------

أن لا يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند الى الدليل الشرعي ، فتكون النتيجة : أن الاستصحاب لا يجري لا في الأحكام العقلية ولا في الأحكام الشرعية مما يستلزم سدّ باب الاستصحاب مطلقا .

( قلت : هذا ) الذي ذكرتم من التطابق بين حكم الشرع وحكم العقل ( مسلّمٌ ، لكنّه ) أي : التطابق ( مانعٌ عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ) أي : بناءا على حجية الاستصحاب من باب الظن ( لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ) أي : لا بناءا على أن حجية الاستصحاب من باب الاخبار : فإن التطابق يمنع من الفرق في الأوّل لا في الثاني .

والحاصل : إنا إذا قلنا : بأن دليل الاستصحاب هو الظن بالبقاء لا يكون فرق بين الأحكام العقلية والشرعية ، لأنه في الآن الثاني إمّا يظن بالبقاء أو لا يظن بالبقاء ، من غير فرق بين أن يكون منشأ الحكم العقل أو الشرع .

وأمّا إذا قلنا : بأن دليل الاستصحاب هو الأخبار ، فهناك فرق بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية ، حيث لا تستصحب الأحكام العقلية لعدم إحراز الموضوع فيها وقد عرفت : أن في الاستصحاب يشترط إحراز الموضوع .

أمّا الأحكام الشرعية فتستصحب لبقاء الموضوع العرفي فيها ، والاخبار لا تدلّ على أكثر من لزوم بقاء الموضوع العرفي .

وإنّما يكفي في استصحاب الأحكام الشرعية بناءا على الاخبار بقاء الموضوع فيها عرفا ، لأن الموضوع المعتبر احرازه في استصحاب الأحكام بناءا

ص: 167

فإنّه تابعٌ لتحقق موضوع المستصحب ومعروضه بحكم العرف . فاذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان وشك في الزمان الثاني ، ولم يُعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا الذي هو عنوان الموضوع في حكم العقل باقٍ هنا أم لا ، فيصدق هنا : أنّ الحكم الشرعي الثابت لما هو الموضوع له في الأدلّة الشرعية كان موجودا سابقا ويشك في بقائه ويجري فيه اخبار الاستصحاب .

-------------------

على الاخبار ليس هو الموضوع والمناط الواقعي ، بل ما هو الموضوع والمناط بحسب فهم العرف من لسان الدليل .

وعليه : ( فإنّه ) أي : أن جريان اخبار الاستصحاب ( تابعٌ لتحقق موضوع المستصحب ومعروضه ) قوله : « ومعروضه » عطف على موضوع المستصحب عطف بيان ، فيكون تحقق الموضوع فيه ( بحكم العرف ) لأن اخبار الاستصحاب الذي هو كلام الشارع ملقى الى العرف ، والعرف يكتفي ببقاء الموضوع العرفي .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان ) سابق ( وشك في الزمان الثاني ، ولم يُعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا الذي هو عنوان الموضوع في حكم العقل باقٍ هنا أم لا ) وذلك إذا حكم الشارع بحرمة الخمر وشككنا بعد زوال سكره : بأنه هل كان السكر هو المناط في الحرمة حتى يحل ، أو أن الخمر حرام سواء كان مسكرا أم ليس بمسكر ؟ .

( فيصدق هنا : أنّ الحكم الشرعي الثابت لما ) أي : للخمر مثلاً الذي ( هو الموضوع له في الأدلة الشرعية كان موجودا سابقا ) في حال كونه مسكرا ( ويشك في بقائه ) أي : بقاء الحكم الشرعي بعد زوال سكره فيستصحب كما قال : ( ويجري فيه اخبار الاستصحاب ) لأن الموضوع العرفي محرز ، والشك

ص: 168

نعم ، لو عُلِمَ مناط هذا الحكم عنوانه المعلق عليه في حكم العقل لم يجرِ الاستصحاب ، لما ذكرنا : من عدم إحراز الموضوع .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ الاستصحاب لايجري في الأحكام العقلية ، ولا في الأحكام الشرعية المستندة اليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة ،

-------------------

إنّما هو في الحكم ، فيستصحب .

وإنّما يكون الموضوع محرزا عرفا ، لرؤية العرف الخمر المسكر والخمر الذي زال إسكاره موضوعا واحدا ، وإنّما الإسكار وعدم الإسكار حالتان تتناوبان على هذا الموضوع الذي كان سابقا وهو باق الى الآن ، وهذا بخلاف الحكم العقلي المعلوم مناطه ، فإنا إذا شككنا في الحكم العقلي كان معناه : الشك في الموضوع كما تبيّن سابقا . ومع الشك في الموضوع لا يجري الاستصحاب .

( نعم ، لو عُلِمَ مناط هذا الحكم ) الشرعي ( عنوانه المعلق عليه في حكم العقل ) بأن كان العقل يرى : أنّ الخمر المُسكر حرام وكان حكم الشرع تابعا له ، فإنه إذا زال إسكاره إرتفع الحكم العقلي ، وبِتَبَع ارتفاع الحكم العقلي يرتفع الحكم الشرعي أيضا ، وحينئذ ( لم يجرِ الاستصحاب لما ذكرنا : من عدم إحراز الموضوع ) حيث قد سبق : إنه يشترط في الاستصحاب إحراز الموضوع .

( وممّا ذكرنا ) فيما مضى : من رجوع الشك في موارد حكم العقل الى الشك في الموضوع ، حيث لايمكن جريان الاستصحاب فيه ( يظهر : أنّ الاستصحاب لايجري في الأحكام العقلية ولا في الأحكام الشرعية المستندة اليها ) أي : الى الأحكام العقلية ( سواء كانت ) الأحكام الشرعية ( وجوديّة أم عدميّة ) .

أما الوجوديّة : فكما تقدّم من مثال قبح الصدق الضارّ المستتبع لحرمته شرعا ، فإنّه عند الشك في ضرره وعدم ضرره لا يستصحب القبح ، فيسقط الحكم

ص: 169

إذا كان العدم مستندا الى القضية العقلية ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، فإنّه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات ، كما صدر من بعض من مال الى الحكم بالاجزاء في هذه الصورة ، وأمثالها من موارد الأعذار العقلية الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه .

-------------------

العقلي، وإذا سقط الحكم العقلي لا تستصحب الحرمة ، لأن الحرمة مستندة الى القبح على ما عرفت .

وأما الأحكام الشرعية العدميّة فهي : كما ( إذا كان العدم ) الشرعي ( مستندا الى القضية العقلية كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ) فإن هذا حكم شرعي عدمي مستند الى حكم عقلي وهو : قبح تكليف الناسي ، فقبح تكليف الناسي يحكم به العقل ويحكم به الشرع أيضا للملازمة ، فإذا صار الناسي ذاكرا لايجري فيه الاستصحاب ، لأن الاستصحاب كما لا يجري في الحكم العقلي - على ما عرفت - كذلك لا يجري في الحكم الشرعي المستند اليه .

وعليه : ( فإنّه لا يجوز استصحابه ) أي : استصحاب عدم وجوب السورة ( بعد الالتفات ) لوضوح تبدّل العنوان ، فإن الناسي أصبح ذاكرا .

وإنّما صرّح المصنِّف بعدم جوازه للردّ على مَن أجازه ( كما صدر ) أي : جواز الاستصحاب ( من بعض من مال ) وهو الفاضل القمي ( الى الحكم بالاجزاء في هذه الصورة وأمثالها ) أي : أمثال صورة النسيان ( من موارد الأعذار العقلية ) كالاكراه والجهل والعجز وغيرها من الأعذار ( الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه ) أي : مقتضي التكليف فيها .

ص: 170

وأمّا إذا لم يكن العدم مستندا الى القضية العقلية ، بل كان لعدم المقتضي وإن كانت القضية العقلية موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضية العقلية .

-------------------

والحاصل : إن مصلحة قرائة السورة في الصلاة تقتضي وجوبها ، إلاّ أن وجوبها مرتفع عن ذوي الأعذار ، وذلك للحكم العقلي المستلزم للحكم الشرعي بارتفاعه حال العذر ، فإذا تبدّل حال العذر الى الالتفات ونحوه وشككنا في الوجوب وعدمه ، فلا مجرى لاستصحاب العدم فيه وإن مال اليه المحقق القمّي .

هذا كلّه فيما إذا كان العدم الشرعي مستندا الى القضية العقلية .

( وأمّا إذا لم يكن العدم ) الشرعي ( مستندا الى القضية العقلية ) وذلك بأن كانت هناك قضية شرعية عدميّة وقضية عقلية عدميّة ، لكن القضية الشرعية لم تكن مستندة الى القضية العقلية ( بل كان لعدم المقتضي ) بأن نفى الشارع الحكم لعدم مقتضيه ، فإنه ( وإن كانت القضية العقلية موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضية العقلية ) وذلك لما عرفت : من أن القضية الشرعية لم تكن مستندة الى القضية العقلية حتى إذا ارتفعت القضية العقلية ترتفع القضية الشرعية .

هذا ، وقد مثّلوا للعدم الشرعي غير المستند الى القضية العقلية مع وجودها : بما إذا حكم العقل بعدم التكليف على الصبي ، وحكم الشرع أيضا بمثل ذلك لكن لم يكن حكم الشرع مستندا الى حكم العقل ، فإن العقل يحكم بالعدم لوجود المانع وهو عدم التمييز ، بينما الشرع يحكم به لعدم وجود المقتضي الى زمن البلوغ .

وعليه : فإنه مع الشك في التكليف بعد البلوغ وارتفاع القضية العقلية يجوز

ص: 171

ومن هذا الباب استصحاب حال العقل المراد به في اصطلاحهم :

استصحاب البرائة والنفي ، فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ، وهو : عدم التكليف ، لا الحال المستندة الى العقل ، حتى يقال : إنّ مُقتضى ما تقدّم هو : عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضية العقلية ، وهي

-------------------

استصحاب العدم السابق ، وذلك كما إذا علمنا بأن التتن ليس بمحرّم على الصبي ثم بلغ الصبي وشككنا في أن التتن هل حرم عليه أم لا ؟ فإنا نستصحب عدم حرمة التتن عليه .

( ومن هذا الباب ) أي : من باب عدم إستناد القضية الشرعية الى القضية العقلية ، ولهذا يصح الاستصحاب في القضية الشرعية ( استصحاب حال العقل ) في عباراتهم ، فإن ( المراد به في اصطلاحهم : استصحاب البرائة والنفي ) حال الصغر ، فإن الصغير بريء الذمة ، والتكليف منفي عنه .

إذن : ( فالمراد ) من استصحاب حال العقل هو : ( استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ) أي : يحكم العقل أيضا كما يحكم الشرع على طبق تلك الحال ( وهو : عدم التكليف ) المطلق ، فإن الشرع والعقل متطابقان على عدم التكليف هذا .

( لا ) استصحاب ( الحال المستندة الى العقل ) فإن مرادهم من استصحاب حال العقل : استصحاب العدم المطلق الذي يطابق حكم العقل أيضا ، لا استصحاب نفس حكم العقل بعدم التكليف ( حتى يقال : إنّ مُقتضى ما تقدّم ) : من عدم جريان استصحاب حكم العقل ولا حكم الشرع المستند اليه ( هو : عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضية العقلية ، وهي ) عبارة

ص: 172

قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم .

ومما ذكرنا ظهر : أنّه لا وجه للاعتراض على القوم في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبرائة ، بأنّ الثابت بالعقل قد يكون عدميا وقد يكون وجوديا ، فلا وجه للتخصيص .

وذلك

-------------------

عن ( قبح تكليف غير المميّز ، أو المعدوم ) الذي لم يولد بعد ، فإن إستصحاب البرائة والنفي هو غير هذا الاستصحاب .

( وممّا ذكرنا ظهر : أنّه لا وجه للاعتراض ) من صاحب الفصول ( على القوم في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبرائة ) حيث إعترض : ( بأنّ الثابت بالعقل قد يكون عدميا وقد يكون وجوديا ، فلا وجه للتخصيص ) عن المقوم بالعدمي فإن صاحب الفصول قال :

« وإعلم إنه ينقسم الاستصحاب باعتبار مورده الى استصحاب حال العقل ، والمراد به : كل حكم ثبت بالعقل سواء كان تكليفيا : كالبرائة حال الصغر ، واباحة الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة قبل الشرع ، وكتحريم التصرف في مال الغير ، ووجوب ردّ الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار والخوف ، أم كان وضعيا ، سواء تعلق الاستصحاب باثباته : كشرطية العلم لثبوت التكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها مطلقا أو في خصوص مورد ، أم بنفيه : كعدم الزوجية وعدم الملكية الثابتين قبل تحقق موضوعهما ، وتخصيص جمع من الاصوليين لهذا القسم أعني : استصحاب حال العقل بالمثال الأوّل أعني : البرائة الأصلية مما لا وجه له إنتهى » .

وحاصل إشكال الفصول أمران ( وذلك ) كما يلي :

ص: 173

لما عرفت : من أنّ الحال المستند الى العقل المنوط بالقضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب ، وجوديا كان أو عدميا .

-------------------

الأوّل : إن استصحاب حال العقل لا يختص بالنفي ، بل يجري في الايجاب أيضا مثل حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة .

الثاني : إن تمثيل استصحاب حال العقل بالنفي والبرائة فقط ، لا وجه له ، لأنّ استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكية من إستصحاب حال العقل أيضا .

أجاب الشيخ عن الاشكال الأوّل : بأن استصحاب حال العقل غير المستند الى قضية عقلية مع وجودها ، خاص بالنفي دون الايجاب ، وعن الثاني : بأن التمثيل لذلك منحصر في مثال واحد فقط هو مثال النفي والبرائة .

وإنّما لا وجه لاعتراض صاحب الفصول على القوم ( لما عرفت : من أنّ الحال المستند الى العقل المنوط بالقضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب ، وجوديا كان أو عدميا ) لأنا ذكرنا : إن القضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب لعدم احراز الموضوع فيها ، فالقضية الشرعية المستندة الى القضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب أيضا ، لأنه إذا سقط المستند سقط الاستناد .

وعليه : فإنه إذا كان هناك قضية عقلية وقضية شرعية ولم تستند الشرعية الى العقلية ، فهي منحصرة في العدميات فقط وفي العدميات منحصرة أيضا في مورد واحد وهو عدم التكليف حال الصغر ، ولذا حكموا بجواز استصحابه وسموه : باستصحاب حال العقل ، بمعنى : استصحاب عدم التكليف الذي يطابق حكم العقل ، لا بمعنى : استصحاب نفس حكم العقل بالعدم ، ولا بمعنى : استصحاب نفس حكم الشرع المستند الى حكم العقل .

ص: 174

وما ذكره من الأمثلة يظهر الحال فيها ممّا تقدّم .

الثالث : إنّ دليل المستصحب إمّا أن

-------------------

( وما ذكره من الأمثلة ) الوجودية والعدمية غير البرائة والنفي ( يظهر الحال فيها ممّا تقدّم ) : من عدم التعقّل لأن يشك العقل في حكمه ، وعلى فرض الشك فهو شك في الموضوع ولا يجري فيه الاستصحاب .

وكذا ما ذكره : من استصحاب اباحة الأشياء فإنه يرد عليه : إن الحكم في الاباحة إنّما هو للشك ، لأن الاباحة هناك ظاهرية فيكفي فيها قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (1) .

وأمّا ما ذكره من شرطية العلم لثبوت التكليف ، فإنه يرد عليه : إن الشرطية ليست مجعولة .

كما يرد على المثالين الأخيرين : من استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكيّة : بأنه إن أريد بهما استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكية لشيء ، ففيه : انه لا حالة سابقة لهما ، وإن أريد بهما استصحاب العدم الأزلي ، ففيه : إنه مثبت لأنه يريد استصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي ، كما قرّر في استصحاب العدم الأزلي .

ثم إنّ المصنِّف ذكر قبل عدة صفحات : إن تقسيم الاستصحاب بالاعتبار الثاني وهو : تقسيمه باعتبار الدليل الدال عليه يكون من وجوه فَذَكَر منها وجهين ، ثم تعرّض لثالثها بقوله : ( الثالث ) من تلك الوجوه : ( إنّ دليل المستصحب إمّا أن

ص: 175


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

يدل على استمرار الحكم الى حصول رافع أو غاية .

وإمّا أن لا يدل ، وقد فصّل بين هذين القسمين المحقق في المعارج ، والمحقق الخوانساري في شرح الدروس ، فأنكرا الحجّيّة في الثاني ، واعترفا بها في الأوّل ، مطلقا ، كما يظهر من المعارج ، أو بشرط كون

-------------------

يدل على استمرار الحكم الى حصول رافع ) بأن يكون له استعداد البقاء ما دام لم يحصل ما يرفعه مثل الطهارة والنجاسة ، والحرية والرقّيّة ، والملكيّة والزوجيّة ، وما أشبه ذلك مما له استعداد البقاء الى أن يرفعه رافع مثل : أن يرفع الحدث الطهارة ، أو لعتق الرقية ، أو الطلاق الزوجية ، أو ما أشبه ذلك .

( أو ) الى حصول ( غاية ) أي : حصول نهاية الشيء منتهى استعداده للابقاء مثل : استمرار وجوب الصوم الى الليل ، واستمرار وقت فريضة الصبح الى طلوع الشمس ، وهكذا .

( وإمّا أن لا يدل ) دليل المستصحب على استمرار الحكم ولا عدم استمراره بل يكون ساكتا على ذلك ، كالدليل الدال على ثبوت خيار الغُبن حيث إنه لا يدل على الفوريّة ولا على الاستمرارية : فيكون الشك في إقتضائه وإستعداده .

هذا ( وقد فصّل بين هذين القسمين ) : ما يدل على استمرار الحكم حتى حصول رافع أو غاية ، وما لا يدل على أحدهما ( المحقق في المعارج ، والمحقق الخوانساري في شرح الدروس ، فأنكرا ) أي : هذان العلمان ( الحجيّة ) للاستصحاب ( في الثاني ) وهو ما ذكرناه بقولنا : وأما أن لا يدل ( واعترفا بها في الأوّل ) وهو ما ذكرناه بقولنا : إما أن يدل على إستمرار الحكم الى حصول رافع أو غاية ، إعترافا ( مطلقا ) في كل أقسامه ( كما يظهر من المعارج ، أو بشرط كون

ص: 176

الشك في وجود الغاية ، كما يأتي من شارح الدروس .

وتخيّل بعضُهم ، تبعا لصاحب المعالم : أنّ قول المحقق قدس سره موافق للمنكرين ، لأنّ محل النزاع ما لم يكن الدليل مقتضيا للحكم في الآن اللاحق ، لولا الشك في الرافع .

-------------------

الشك في وجود الغاية ) لا غائية الموجود ( كما يأتي من شارح الدروس ) وهو المحقق الخوانساري .

هذا ، وسيأتي بعد عدة صفحات بيان أقسام الشك في الرافع والشك في الغاية ، فإن المصنّف يقسّم كل واحد من الشكّين الى خمسة أقسام حيث يقول : وهذا على أقسام ، لأن الشك إمّا في وجود الرافع كالشك في حدوث البول ، وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ، الى آخر كلامه هناك فلا داعي الى ذكر الأقسام هنا .

( وتخيّل بعضُهم ) وهو الفاضل الجواد ( تبعا لصاحب المعالم : أنّ قول المحقق قدس سره موافق للمنكرين ) للاستصحاب ولذلك عدّه من جملتهم .

وإنّما تخيّل منه ذلك ( لأنّ محل النزاع ) بين الفقهاء الاصوليين إنّما هو في (ما لم يكن الدليل ) بنفسه ( مقتضيا للحكم في الآن اللاحق ، لولا الشك ) أي: وإن لم يكن في ذلك المورد شكّ ( في الرافع ) وذلك بأن كان الشك في المقتضي .

أمّا إذا كان الشك في الرافع أو الغاية فلا نزاع فيه ، لأنّ الدليل بنفسه حينئذ مقتض لاستمرار الحكم الى حصول الرافع أو الغاية وإذا كان كذلك فلا حاجة معه الى الاستصحاب .

وعليه : فإن هذا البعض لما رأى أنّ المحقق خَصَّ إعتبار الاستصحاب بهذا المورد وهو : ما دلّ الدليل فيه على استمرار الحكم الى حصول الرافع أو الغاية تخيّل انه ينكر الاستصحاب ، بينما كلامه ذلك تخصيص للاستصحاب بالشك

ص: 177

وهو غيرُ بعيد بالنظر الى كلام السيد ، والشيخ ، وابن زهرة ، وغيرهم ، حيث انّ المفروض في كلامهم هو : كونُ دليل الحكم في الزمان الأوّل قضية مهملة ساكتة عن حكم الزمان الثاني ، ولو مع فرض عدم الرافع .

إلاّ أنّ الذي يقتضيه التدبّرُ في بعض كلماتهم - مثل إنكار السيد لاستصحاب البلد المبني على ساحل البحر ، مع كون الشك فيه نظير الشك في وجود الرافع للحكم

-------------------

في الرافع ، فيكون محل النزاع هو مورد الشك في المقتضي لا مورد الشك في الرافع .

( وهو ) أي : خروج مورد الشك في الرافع عن محل النزاع والاتفاق على حجية الاستصحاب فيه ( غيرُ بعيد بالنظر الى كلام السيد ، والشيخ ، وابن زهرة ، وغيرهم ، حيث انّ المفروض في كلامهم ) ونزاعهم ( هو : كون دليل الحكم في الزمان الأوّل قضية مهملة ساكتة عن حكم الزمان الثاني ، ولو مع فرض عدم الرافع ) وهذا ظاهر في اختصاص النزاع بمورد الشك في المقتضي دون الشك في الرافع .

وإنّما لا نزاع في الشك في الرافع لأن الشك في الرافع إنّما يكون فيما إذا كان دليل الحكم في الزمان الأوّل قضيّة دالّة على إستمرار الحكم ، ومع دلالته على الاستمرار لا نزاع ، فيكون الشك في الرافع على ذلك خارجا عن محلّ النزاع إيجابا وسلبا .

( إلاّ أنّ الذي يقتضيه التدبّر في بعض كلماتهم - مثل إنكار السيد لاستصحاب البلد المبني على ساحل البحر ) عند الشك بأنه هل طغى عليه البحر أم لا ؟ ( مع كون الشك فيه ) أي : في هذا البلد إنّما هو ( نظير الشك في وجود الرافع للحكم

ص: 178

الشرعي ، وغير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ويقتضيه الجمع بين كلماتهم وبين ما يظهر من بعض استدلال المُثْبتين والنّافين - هو : عموم النزاع لما ذكره المحقق .

فما ذكره في المعارج أخيرا ليس رجوعا عمّا ذكره أوّلاً ،

-------------------

الشرعي ) فإن البلد يبقى مستمرا حتى يطغى البحر عليه كما أن الطهارة تبقى مستمرة حتى يرفعها الحدث ؟ ( وغير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ) من أمثلتهم التي مثَّلوا بها للاستصحاب في موارد الشك في الرافع .

وعليه : فإن الذي يقتضيه التدبّر في مقالاتهم ( ويقتضيه الجمع بين كلماتهم وبين ما يظهر من بعض استدلال المُثْبتين والنّافين - هو : عموم النزاع لما ذكره المحقق ) وشموله حتى للشك في الرافع ، فلا يكون النزاع مختصا بالشك في المقتضي ، كما توهَّمه الفاضل الجواد تبعا لصاحب المعالم :

ثم إن استدلال المُثبتين للاستصحاب الذي إستظهر المصنِّف منه عموم النزاع فهو مثل استدلالهم : بأن المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيلزم حينئذ أن يؤثّر المقتضي أثره ، وهذا صريح بأنه في مورد الشك في الرافع ، وإلاّ لم يصح أن يقال : المقتضي موجود .

أما استدلال النافين للاستصحاب فهو مثل : تقديمهم بيّنة النافي على بيّنة المثبت ، فإنه من المعلوم : أن النفي يستمر ما لم يرفعه وجود ، فليس النفي من الشك في المقتضي وإنّما هو من الشك في الرافع .

وعلى أي حال : ( فما ذكره في المعارج أخيرا ) في كلامه الذي سوف ننقله قريبا إن شاء اللّه ( ليس رجوعا عمّا ذكره أوّلاً ) فإن المحقق ذكر أولاً : اعتبار الاستصحاب وفاقا للمفيد وذكر الأدلة لحجية الاستصحاب ، ثم نقل عن السيد

ص: 179

بل لعلّه بيانٌ لمورد تلك الأدلّة التي ذكرها لاعتبار الاستصحاب ، وأنّها

-------------------

المرتضى إنكار الاستصحاب ، ثم قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل الحكم المشكوك ، فإن اقتضاه مطلقا نحكم باستمراره الى آخر عبارته ، فتصوّر صاحب المعالم وتبعه الفاضل الجواد أن هذه العبارة من المحقق مناقضة لقوله أولاً بحجية الاستصحاب ، ولذا قال في المعالم ما يلي :

إن هذا الذي ذكره أخيرا من اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع خارج عن محيط النزاع ، فإن النزاع مختص بالشك في المقتضي وهو أنكره فصار في رديف المنكرين كالسيد ، وقد كان أولاً في رديف المثبتين كالمفيد فرجع عن مختاره .

هذا ، ولكن حيث لم يرتض المصنِّف قدس سره كلام صاحب المعالم أجاب : بأن الشك في الرافع أيضا محل نزاع ، وأن مختار المحقق أولاً وأخيرا هو عبارة عن اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع .

إذن : فالشك في الرافع ليس متّفقا على حجية الاستصحاب فيه ، بل هو أيضا محل النزاع بين العلماء ، فما ذكره صاحب المعالم : من كون المحقق من المنكرين للاستصحاب مطلقا حسب كلامه الأخير ، وأن محل النزاع هو الشك في المقتضي ، لا الشك في الرافع ، وذلك لاتفاقهم على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع ، ليس كما ينبغي .

لا يقال : كيف يجمع حينئذ بين أولّ كلام المحقق وآخر كلامه .

لأنّه يقال كما قال المصنِّف : ( بل لعلّه ) أي : لعلّ ما ذكره المحقق أخيرا هو : ( بيانٌ لمورد تلك الأدلّة التي ذكرها ) أولاً ( لاعتبار الاستصحاب ، وأنّها ) أي :

ص: 180

لا تقتضي اعتبارا أزيد من مورد يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ويشك في رافعه .

-------------------

تلك الأدلة ( لا تقتضي اعتبارا أزيد من مورد يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ) أي : من غير تقييد بوقت ، وذلك بأن يكون فيه استعداد البقاء ( ويشك في رافعه ) .

وإن شئت قلت : أن الدليل قد يدلّ على الاستمرار بنفسه ، كالظهور اللفظي وهو خارج عن الاستصحاب المصطلح ، وقد يدلّ على أن المستصحب له إقتضاء الاستمرار الى حصول الرافع ، كالطهارة والنكاح ، وقد يكون مهملاً ساكتا عن حكم الزمان الثاني وهو الشك في المقتضي كخيار الغُبن ، فالأقسام ثلاثة لا إثنين ، أنكر المحقق الاستصحاب في الثالث دون الأولين .

هذا ، لكن الفاضل الجواد تبعا للمعالم فسّر الاستصحاب الذي اعتبره المحقق حجة بالقسم الأوّل وحيث كان القسم الأوّل من الظهورات وليس من الاستصحاب المصطلح قال متوهما بأن المحقق منكر للاستصحاب مطلقا ، وقد عرفت : أنه ليس كذلك ، فإن الاستصحاب الذي اعتبره المحقق حجة هو القسم الثاني ، لأنه مثّل بالنكاح وهو بيان لموضع يدل دليله على إن المستصحب له إقتضاء الاستمرار الى حصول الرافع ، فيكون الشك فيه من باب الشك في الرافع لا المقتضي ، ويكون المحقق على ذلك من المثبتين للاستصحاب لا من المنكرين له .

الى هنا إنتهى كلام المصنِّف في اعتبار الدليل وهو الثاني من الأمر السادس حيث تعرّض المصنِّف في الأمر السادس الى تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب ، وآخر باعتبار الدليل ، وثالثا باعتبار الشك ، وبدأ الآن في بيان الثالث

ص: 181

وأمّا باعتبار الشك في البقاء فمن وجوه أيضا :
أحدها :

من جهة أنّ الشك قد ينشأ من إشتباه الأمر الخارجي ،

-------------------

فقال : ( وأمّا ) تقسيم الاستصحاب ( باعتبار الشك في البقاء فمن وجوه أيضا ) كالتالي :

( أحدها : من جهة أنّ الشك قد ينشأ من إشتباه الأمر الخارجي ) فإن منشأ الشك قد يكون اشتباه الاُمور الخارجية ، مثل : أن يشك في خروج حدث منه وعدم خروجه ، أو يعلم بخروج شيء منه ، لكنه يشك في أن الخارج منه كان بولاً أو كان وذيا ، وهذا يسمّى بالشبهة الموضوعية .

هذا ، وقد تقدّم : أن الشبهة في الموضوع يحتاج في معرفتها الى إستطراق باب العرف من غير فرق في هذا القسم بين أن يكون المستصحب حكما شرعيا جزئيا مثل : طهارة زيد ونجاسة ثوبه ، أو يكون من الموضوعات الخارجية الصرفة مثل : استصحاب الرطوبة واستصحاب الكرّيّة ، أو يكون من الموضوعات المستنبطة كنقل اللفظ عن معناه الأصلي وشبه ذلك .

وقد يكون منشأ الشك اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع مثل : الشك في بقاء النجاسة للماء المتغير بعد زوال تغيره ، والشك في طهارة المكلّف بعد حدوث المذي والوذي والودي منه ، ونحو ذلك ، ويسمّى بالشبهة الحكميّة والشبهة في هذا القسم يلزم فيها استطراق باب الشرع .

ولا يخفى : أن هذا التقسيم قد تعرّض له المصنِّف أوّل الأمر السادس عند تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب ، وذلك في الثاني من وجوه تقسيم

ص: 182

مثل : الشك في حدوث البول ، أو كون الحادث بولاً أو وَذيا ، ويسمّى بالشبهة في الموضوع ، سواء كان المستصحب حكما شرعيا جزئيا ، كالطهارة في المثالين ، أم موضوعا كالرطوبة ، والكّرية ، وعدم نقل اللفظ عن معناه الأصلي ، وشبه ذلك .

وقد ينشأ من اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع ، كالشك في بقاء نجاسة المتغيّر بعد زوال تغيّره ،

-------------------

المستصحب ، لكن هناك كان لبيان نقل الأقوال القائلة بالتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره وكيفية ذلك التفصيل ، أمّا هنا فهو لبيان أن الاستصحاب في الشبهة الموضوعية هل هو داخل في محل النزاع أو خارج عن محل النزاع ، مع العلم بأن الاستصحاب في الشبهة الحكميّة داخل في محل النزاع قطعا ؟ .

وعلى أي حال : فالشك في البقاء قد يكون من جهة اشتباه الأمر الخارجي ( مثل : الشك في حدوث البول ، أو كون الحادث بولاً أو وَذيا ) وبولاً أو مذيا ، أو غير ذلك من الأمثلة .

( ويسمّى بالشبهة في الموضوع ، سواء كان المستصحب حكما شرعيا جزئيا ، كالطهارة في المثالين ) وهو شأن المقلد والمجتهد معا ( أم موضوعا ) خارجيا ( كالرطوبة ، والكّرية ، وعدم نقل اللفظ عن معناه الأصلي ، وشبه ذلك ) والاستصحاب هنا ليس معناه : سحب الموضوع بما هو موضوع الى الآن الثاني ، بل معناه : ترتيب الأثر الشرعي عليه ، كما هو واضح .

( وقد ينشأ من اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع ، كالشك في بقاء نجاسة المتغيّر بعد زوال تغيّره ) حيث يشك في أن زوال التغيّر من نفسه هل يسبّب زوال النجاسة ، أو تبقى النجاسة حتى بعد زوال التغيّر فيستصحب

ص: 183

وطهارة المكلّف بعد حدوث المذي منه ، ونحو ذلك .

والظاهر دخول القسمين في محل النزاع ، كما يظهر من كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد بعد غيبته عن النظر ، والبلد المبني على ساحل البحر ، ومن كلام المثبتين حيث يستدلّون بتوقف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب .

-------------------

النجاسة ؟ .

( و ) كالشك في بقاء ( طهارة المكلّف بعد حدوث المذي منه ) حيث يشك في أن المذي هل هو كالبول يوجب الحدث أو ليس كالبول موجبا للحدث ، فيستصحب الطهارة .

( ونحو ذلك ) من الشبهات الحكميّة .

( والظاهر دخول القسمين ) من الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ( في محل النزاع ) بين الأعلام .

( كما يظهر ) ذلك ( من كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد بعد غيبته عن النظر ، و ) ينكرون استصحاب ( البلد المبني على ساحل البحر ) ولهذا تراهم إذا أرادوا الانفاق على زوجة زيد أو عدم تقسيم أمواله ، أو السفر الى ذلك البلد ، أو ما أشبه ، احتاجوا الى دليل آخر لا أنهم يتمسّكون بالاستصحاب لاثبات ذلك .

هذا ، ومن المعلوم : أن المثالين المذكورين ، هما من الشبهة الموضوعية ، فلو كانت الشبهة الموضوعية خارجة عن محل النزاع لم يتعرَّض لها المنكرون .

( و ) كذا يظهر ذلك ( من كلام المثبتين حيث يستدلّون بتوقف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب ) فإن الناس إنّما يقصدون المسجد الذي

ص: 184

ويحكى عن الاخباريين اختصاصُ الخلاف بالثاني ، وهو الذي صرّح به المحدّث البحراني ، ويظهر من كلام المحدّث الاسترابادي ، حيث قال في فوائده : « إعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمّة ، بل أقول : اعتبارهما من ضروريات الدين ، إحداهما : إنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم الى أن يجيء ما ينسخه .

-------------------

قصدوه سابقا للصلاة والعبادة ، ويقصدون السوق الذي قصدوه سابقا للبيع والشراء ، وما أشبه ذلك من الاُمور المعاشيّة والمعاديّة التي يتداولها الناس بسبب الاستصحاب ، بلا فرق بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة وجوبيّة أو تحريميّة .

ومن المعلوم : أن الشبهة في المعاش والمعاد أعمّ من الشبهة الموضوعية فيشمل النزاع الشبهة الموضوعية والشبهة الحكميّة معا .

( ويحكى عن الاخباريين اختصاص الخلاف بالثاني ) وهو كون الشك ناشئا من اشتباه الحكم الشرعي لا من اشتباه الأمر الخارجي ، فإنّ الاشتباه في الاُمور الخارجية والتي تسمّى بالشبهة الموضوعية قد إدّعى الاخباريون كما حكي عنهم : عدم الخلاف في جريان الاستصحاب فيها ( وهو الذي صرّح به المحدّث البحراني ، ويظهر من كلام المحدّث الاسترابادي ، حيث قال في فوائده : « إعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمّة ، بل أقول : اعتبارهما من ضروريات الدين ) والصورتان كالتالي :

( إحداهما : إنّ الصحابة وغيرهم ) من التابعين وتابعي التابعين ( كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم الى أن يجيء ما ينسخه ) وهذا من استصحاب عدم النسخ .

ص: 185

الثانية : إنّا نستصحب كل أمر من الاُمور الشرعية ، مثل كون الرجل مالك أرض وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ، وكون ذمّة الانسان مشغولة بصلاة أو طواف ، الى أن يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا مزيلاً لنقض تلك الاُمور .

ثم ذلك الشيء قد يكون شهادة العدلين ،

-------------------

( الثانية : إنّا نستصحب كل أمر من الاُمور الشرعية ) سواء كان بنفسه أمرا شرعيا أو كان ذا أثر شرعي ( مثل كون الرجل مالك أرض ) فإذا شككنا في أن الأرض خرجت عن ملكه أم لا نستصحب بقائها ملكا له ( وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ) في مثل الصيام والصلاة ونحوهما ( وكون ذمّة الانسان مشغولة بصلاة أو طواف ) أو ما أشبه ذلك .

ومن الواضح : أن هذه الاُمور من الشبهات الموضوعية وهي مجرى للاستصحاب إتفاقا ( الى أن ) يقوم دليل على زوال الحالة السابقة يعني حتى ( يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا مزيلاً لنقض تلك الاُمور ) مثل : قيام البيّنة على أن الأرض خرجت من ملك صاحبها ، وأن الرجل طلّق امرأته ، وغير ذلك من الأمثلة ، فإنه بعد قيام البيّنة عليها يحكم بنقض تلك الاُمور .

( ثم ذلك الشيء ) المعتبر شرعا المزيل لمقتضى الاستصحاب ( قد يكون شهادة العدلين ) فإن الشارع جعل البيّنة معتبرة في الموضوعات كلها حيث قال : « والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البيّنة » (1) إلاّ ما خرج بالدليل

ص: 186


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : = = ج17 ص89 ب4 ح22053 (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وقد يكون قول الحجّام المسلم ومَن في حكمه ، وقد يكون قول القصّار أو مَن في حكمه ، وقد يكون بيع ما يحتاج الى الذبح والغسل في سوق المسلمين ، وأشباه ذلك من الاُمور الحسيّة » ،

-------------------

بالنسبة الى الأزيد من العدلين ، كما في الشهادة على الزنا وما أشبه ، حيث يلزم فيها أربعة شهود .

وكذا ما خرج بالدليل بالنسبة الى الأقل من العدلين ، كما في الوصيّة إذا شهدت امرأة واحدة - مثلاً - :

( وقد يكون قول الحجّام المسلم ومن في حكمه ) كالحلاّق - مثلاً - فإنه إذا أخبر بتطهير موضع الحِجامة أو الحلاقة يقبل منه لأنه ذو يد على ذلك الموضع فيكون قوله حجة فيه .

( وقد يكون قول القصّار ) وهو غاسل الثياب ، ويسمّى قصّارا ، لأن الغسل يسبب تقصير الثوب كما هو المتعارف فإنه إذا أخبر بتطهير الثياب كان قوله حجة .

( أو مَن في حكمه ) أي : في حكم القصّار مثل : الزوجة إذا أخبرت بتطهير ما في يدها من الاُثاث أو الخادم ، أو من أشبههما ، فإن كل ذي يد على شيء قوله حجة فيه .

( وقد يكون بيع ما يحتاج الى الذبح والغسل في سوق المسلمين ) فإن سوق المسلمين يدل على أن الحيوان مذكّى ، وأن الشيء طاهر ، مع أن الاستصحاب يدل على عدم التذكية وعدم الطهارة .

( وأشباه ذلك من الاُمور الحسيّة » (1) ) المعتبرة شرعا لازالة مقتضى

ص: 187


1- - الفوائد المدنية : ص143 .

انتهى .

ولولا تمثيله باستصحاب الليل والنهار ، لاحتمل أن يكون معقد إجماعه : الشك من حيث المانع وجودا أو منعا ، إلاّ أنّ الجامع بين جميع أمثلة الصورة الثانية ليس إلاّ الشبهة الموضوعية ،

-------------------

الاستصحاب ، كاليدّ على الشيء فإن اليد علامة الملكية ، مع ان الاستصحاب على خلاف ذلك ( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي .

هذا ( ولولا تمثيله باستصحاب الليل والنهار ) في جملة كلامه المتقدم ( لاحتمل أن يكون معقد إجماعه : الشك من حيث المانع وجودا أو منعا ) دون الشك من حيث المقتضي وذلك ، لأن الأمثلة التي ذكرها كانت كلها من الشك في الرافع ، إلاّ الشك في بقاء الليل والنهار فإنه من الشك في المقتضي .

وإنّما كان ذلك من الشك في المقتضي لأنّا نعلم هل النهار له استعداد البقاء - مثلاً - عشر ساعات أو إحدى عشرة ساعة ؟ فإذا شككنا في الساعة الحادية عشرة من بقاء النهار نستصحب النهار وكذلك بالنسبة الى الليل .

وبهذا المثال إندفع احتمال أن يكون مراد المحدث الاسترابادي من الصورتين المعتبرتين للاستصحاب هو : الشك في النسخ الرافع فقط ليضاهي قول المحقق في المعارج ، بل ظهر : أن معقد إجماعه على جريان الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي .

هذا ( إلاّ أنّ الجامع بين جميع أمثلة الصورة الثانية ) في كلام المحدث الاسترابادي ( ليس إلاّ الشبهة الموضوعية ) فليس هناك شبهة حكمية في كلامه لما تقدّم : من ان الاخباريين لا يرون حجية الاستصحاب في الشبهة الحكمية

ص: 188

فكأنّه إستثنى من محل الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكميّة ، أعني : الشك في النسخ وجميع صور الشبهة الموضوعية .

وأصرحُ من العبارة المذكورة في اختصاص محل الخلاف بالشبهة الحكميّة ما حكي عنه في الفوائد أنّه قال في جملة كلام له :

« إنّ صور الاستصحاب المختلف فيه راجعةٌ الى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نُجريه في ذلك الموضوع

-------------------

الكليّة ( فكأنّه ) أي : المحدّث الاسترابادي ( إستثنى من محل الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكميّة أعني : الشك في النسخ ) على ما ذكره في الصورة الاُولى .

ولكن أشكل عليه : بأن الأخذ بعدم النسخ ليس من الاستصحاب المصطلح ، بل من الأخذ بظاهر الدليل الدال على دوام الحكم فهو مثل استصحاب العموم والاطلاق حيث لم يكن من الاستصحاب المصطلح كما هو واضح .

إذن : فالمحدّث الاسترابادي قد إستثنى من محل النزاع صورة واحدة من الشبهة الحكمية فقط ( وجميع صور الشبهة الموضوعية ) فيؤيده ما حكي عن الاخباريين من إنهم يرون حجية الاستصحاب منحصرا في الشبهة الموضوعية فقط .

هذا ( وأصرح من العبارة المذكورة ) عن المحدّث الاسترابادي ( في اختصاص محل الخلاف بالشبهة الحكميّة ما حكي عنه ) أيضا ( في الفوائد أنّه قال في جملة كلام له : « إنّ صور الاستصحاب المختلف فيه راجعةٌ الى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ) مثل : ثبوت حكم النجاسة للكرّ حال تغيّره فهل ( نُجريه ) أي : نجري ذلك الحكم ( في ذلك الموضوع

ص: 189

عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه .

ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجعٌ في الحقيقة الى إجراء حكم لموضوع الى موضوع متّحد معه بالذات مختلف بالقيد والصفات » ، انتهى .

-------------------

عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ) أم لا ؟ .

ولا يخفى : ان المراد من النقيض هنا ليس هو النقيض الاصطلاحي ، بل الأعم من الضد والنقيض .

والحاصل : أنه في مثل هذا المثال هل يجري استصحاب حكم النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه أم لا ؟ .

هذا ( ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ) كتبدّل تغيّر الماء الى العدم ( اختلف موضوع المسألتين ) فإن موضوع المسألة السابقة هو المتغير ، وموضوع المسألة اللاحقة هو عدم التغيّر فلا إتحاد في موضوع المسألتين .

وعليه : ( فالذي سمّوه استصحابا راجعٌ في الحقيقة الى إجراء حكم لموضوع الى موضوع ) آخر ( متّحد ) ذلك الموضوع الآخر ( معه ) أي : مع الموضوع الأوّل ( بالذات ) فإن ماء الكرّ هو هو في حال التغيّر وفي حال زوال تغيّره لم يختلف ذاتا .

نعم ، هو ( مختلف بالقيد والصفات » (1) ) لأن الماء سابقا كان متغيّرا والآن زال تغيّره ( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي ، وهو - كما رأيت - ظاهر

ص: 190


1- - الفوائد المدنية : ص143 .
الثاني :

من حيث إنّ الشك بالمعنى الأعمّ الذي هو المأخوذ في تعريف الاستصحاب ، قد يكون مع تساوي الطرفين ، وقد يكون مع رجحان البقاء أو الارتفاع ، ولا إشكال في دخول الأوّلين في محل النزاع .

وأمّا الثالث ، فقد يترائى من بعض كلماتهم :

-------------------

في اختصاص محل النزاع بالشبهة الحكميّة دون الموضوعية .

ثم إن المصنِّف ذكر : ان تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك في البقاء من وجوه ، أحدها : من جهة ان الشك قد نشأ من اشتباه الأمر الخارجي وقد مرّ الكلام حوله على ما عرفت .

( الثاني : من حيث أنّ الشك بالمعنى الأعمّ ) الشامل لمتساوي الطرفين وللظن والوهم ( الذي هو المأخوذ في تعريف الاستصحاب ) فقد عرّفوا الاستصحاب : بكون شيء يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، فإنهم حيث جعلوا الشك في مقابل اليقين ظهر : ان مرادهم من الشك هو : معناه الأعمّ يعني : ما ليس بيقين ، سواء كان ظنا ، أو وهما ، أو شكا بالمعنى الاصطلاحي الذي هو تساوي الطرفين .

وعليه : فإن الشك هنا ( قد يكون مع تساوي الطرفين ، وقد يكون مع رجحان البقاء أو ) رجحان ( الارتفاع ) ففي كل هذه الموارد يستصحب الحال السابق ، سواء كان مظنون البقاء أو مظنون الارتفاع أو متساوي الطرفين .

هذا ( ولا إشكال في دخول الأوّلين ) أي : تساوي الطرفين ورجحان البقاء ( في محل النزاع ) الجاري من القوم في حجية الاستصحاب وعدم حجيته .

( وأمّا الثالث ) : وهو رجحان الارتفاع ( فقد يترائى من بعض كلماتهم :

ص: 191

عدم وقوع الخلاف فيه .

قال شارحُ المختصر : « معنى استصحاب الحال : أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء . وقد اختلف في حجيته لافادته الظنّ ، وعدمها لعدم إفادته » ، انتهى .

والتحقيق : أنّ محل الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والطريق الظاهري عمّ صورة الظنّ غير المعتبر بالخلاف ،

-------------------

عدم وقوع الخلاف فيه ) أي : يظهر منه : انه لا خلاف في عدم اعتبار الاستصحاب فيما إذا ظن المكلّف بخلاف الحالة السابقة ، ويشهد لما ذكرناه قول شارح المختصر فإنه كما يلي :

( قال شارحُ المختصر : « معنى استصحاب الحال : أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ) فإن ظاهر قوله : « ولم يظن عدمه » ، إنه إذا ظن عدمه لم يجرِ الاستصحاب ، ثم أضاف : ( وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ) فيعمل على بقاء تلك الحالة السابقة ثم قال :

( وقد اختلف في حجيته لافادته الظنّ ) فهو حجة ( وعدمها ) أي : عدم حجيته ( لعدم إفادته » (1) ) بظن ، لأنه ليس كل ما كان الانسان يتيقن بشيء في الزمان السابق يظن ببقائه في الزمان اللاحق ( انتهى ) كلام شارح المختصر .

( والتحقيق : أنّ محل الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والطريق الظاهري ) الذي هو مفاد اخبار الاستصحاب ( عمّ ) النزاع ( صورة الظنّ غير المعتبر بالخلاف ) أمّا الظن المعتبر بالخلاف كما إذا قامت البينة ، أو خبر العادل ، أو ما أشبه ذلك على الخلاف ، فلا نزاع في انه لا يكون مجرى

ص: 192


1- - شرح مختصر الاصول : ج2 ص284 .

وإن كان من باب إفادة الظنّ ، كما صرّح به شارح المختصر ، فإن كان من باب الظنّ الشخصي ، كما يظهر من كلمات بعضهم ، كشيخنا البهائي في حبل المتين وبعض من تأخّر عنه ، كان محل الخلاف في غير صورة الظنّ بالخلاف ، إذ مع

-------------------

للاستصحاب .

كما ان الظن بالوفاق إن كان معتبرا لم يكن مجرى للاستصحاب أيضا ، لأن الاستصحاب دليل حيث لا دليل .

هذا إذا كان اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار .

( وإن كان ) اعتبار الاستصحاب ( من باب إفادة الظنّ ) بالبقاء ، وذلك من جهة دلالة العقل على إبقاء ما كان على ما كان ( كما صرّح به شارح المختصر ، فإن كان ) أي : اعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ الشخصي ، كما يظهر من كلمات بعضهم كشيخنا البهائي في حبل المتين ) على ما سبق من كلامه الذي نقلناه ( وبعض من تأخّر عنه ، كان محل الخلاف في غير صورة الظنّ بالخلاف ) لأنه إذا ظن بالخلاف ظنا شخصيا لم يكن مجرى للاستصحاب .

وعليه : فإنهم حيث قد اعتبروا في حجية الاستصحاب الظن الشخصي بالبقاء ، فإذا كان الظن الشخصي بالخلاف لم يكن ظن شخصي بالبقاء فلم يجرِ الاستصحاب .

وأمّا إذا كان في الزمان الثاني شاكا ، فإنه بملاحظة حالته السابقة يتبدّل شكّه الى الظن ، فلا يرد عليه : انه إذا كان من باب الظن الشخصي ، لم يكن حجة في الزمان الثاني مطلقا .

وعلى أي حال : فإنه مع الظن بالخلاف لم يكن الاستصحاب حجة ( إذ مع

ص: 193

وجوده لا يعقل ظنُّ البقاء ، وإن كان من باب إفادة نوعه الظنّ لو خُلِّي وطَبْعَهُ ، وإن عرض لبعض افراده ما يُسقطه عن إفادة الظنّ ، عمّ الخلاف صورة الظن بالخلاف أيضا .

ويمكن أن يحمل كلام العضدي على إرادة : أنّ الاستصحاب من شأنه بالنوع أن يفيد الظنّ عند فرض عدم الظنّ بالخلاف ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

وجوده ) أي : وجود الظن الشخصي بالخلاف ( لا يعقل ظنُّ البقاء ) حتى يكون مجرى للاستصحاب .

( وإن كان ) أي : اعتبار الاستصحاب ( من باب إفادة نوعه الظنّ لو خُلِّي وطبعَه) فإن نوع الناس يظنون بالبقاء من الحالة السابقة ( وإن عرض لبعض افراده ما يسقطه عن إفادة الظنّ ) الفعلي ، كما إذا قامت أمارة غير معتبرة على الخلاف ، فإن في مورد تلك الأمارة لا يكون ظن بالبقاء ، ولكن لو لم يعرض له ذلك ( عمّ الخلاف صورة الظن بالخلاف أيضا ) فيجري الاستصحاب في جميع الصور ، سواء ظن بالوفاق أم ظن بالخلاف أم شك فيه .

( ويمكن أن يحمل كلام العضدي ) الذي تقدّم منه ، حيث قال : وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ( على إرادة : أنّ الاستصحاب من شأنه بالنوع أن يفيد الظنّ عند فرض عدم الظنّ بالخلاف ) فيكون مراد العضدي على ذلك هو الظن النوعي ، لا الظن الشخصي ( وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالى ) في المباحث الآتية .

ص: 194

الثالث :

من حيث انّ الشك في بقاء المستصحب ، قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به : الشك من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشك في بقاء الليل والنهار ، وخيار الغُبن بعد الزمان الأوّل ، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء .

-------------------

( الثالث ) من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك في البقاء هو : ( من حيث انّ الشك في بقاء المستصحب ، قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به : الشك من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشك في بقاء الليل والنهار ) فإنه لو كان في آخر العصر وشك في بقاء النهار أو كان في آخر الليل وشك في بقاء الليل ، فهل له أن يستصحبهما أم لا ؟ وهذا من الشك في المقتضي ، لأن الليل والنهار في ذاتهما حدّا محدودا يتصرّمان بالتدريج وينقضيان في تمام الحدّ فلا يقتضيان البقاء فوق حدّهما .

( و ) كالشك في ( خيار الغُبن بعد الزمان الأوّل ) حيث لا نعلم هل إن خيار الغبن فوري حتى لا يكون للمغبون خيار في الزمان الثاني ، أو لم يكن فوريا حتى يبقى في الزمان الثاني أيضا ؟ فإن هذا أيضا من الشك في المقتضي ، لأنه شك في مقدار استعداد الخيار للبقاء وعدمه .

( وقد يكون ) الشك ( من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء ) لولا الرافع ، كما إذا شككنا في زوال الطهارة والنجاسة ، والحليّة والحرمة ، والملكيّة والزوجية ، - مثلاً - وذلك لشكنا في عروض ما يزيل تلك الأحوال السابقة ، بعد علمنا بأن الأحوال السابقة كلها قابلة للبقاء ما لم يعرض عليها الرافع .

هذا ، ولا يخفى على أحد الفرق بين هذا التفصيل والتفصيل السابق الذي ذكره

ص: 195

وهذا على أقسام : لأنّ الشك إمّا في وجود الرافع ، كالشك في حدوث البول ، وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ، إمّا لعدم تعيّن المستصحب وتردّده بين ما يكون الموجود رافعا وبين ما لا يكون ، كفعل الظهر المشكوك كونُه رافعا لشغل الذمة بالصلاة المكلّف بها قبل العصر يوم الجمعة ، من جهة تردّده بين الظهر والجمعة ، وإمّا للجهل بصفة الموجود من كونه رافعا ، كالمذي ،

-------------------

المصنِّف عن المحقق والخوانساري ، فإن الفرق بينهما هو : ان التفصيل السابق كان باعتبار دلالة الدليل على الاستمرار وعدمه ، وهذا التفصيل باعتبار الشك في الرافع والمقتضي ، كما إن التفصيل السابق كان مختصا بالشبهة الحكمية ، وهذا يعمّ الشبهة الحكمية والموضوعية .

( وهذا ) أي : الشك في الرافع ( على أقسام ) خمسة وذلك كما يلي :

الأوّل : ( لأنّ الشك إمّا في وجود الرافع كالشك في حدوث البول ) لمن كان متطهّرا ، ثم شكّ في ذلك للشك في أنه أحدث أم لا ؟ .

الثاني : ( وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ) والشك في رافعية الموجود ( إمّا لعدم تعيّن المستصحب وتردّده بين ما يكون الموجود رافعا وبين ما لا يكون ) رافعا ( كفعل الظهر المشكوك كونُه رافعا لشغل الذمة بالصلاة المكلّف بها قبل ) صلاة ( العصر يوم الجمعة ، من جهة تردّده ) أي : تردّد الشغل ( بين الظهر والجمعة ) فإنه إذا شكّ في ان تكليفه يوم الجمعة صلاة الظهر أو صلاة الجمعة ثم صلّى إحداهما ؟ فإنه يشك في رافعية هذه الصلاة لشغل الذمّة حيث لا يعلم أن الواجب هل كان الظهر أو كانت الجمعة ؟ .

الثالث : ( وإمّا للجهل بصفة الموجود من كونه رافعا ، كالمذي ) حيث لا يعلم

ص: 196

أو مصداقا لرافع معلوم المفهوم ، كالرطوبة المردّدة بين البول والوذي ، أو مجهول المفهوم .

-------------------

هل إن الشارع جعل المذي رافعا للطهارة كرافعيّة البول لها أم لا ؟ ولذا فانه إذا خرج منه مذي شك في بقاء طهارته وعدم بقائها .

الرابع : ( أو ) شك في الرافعيّة من جهة شكّه في كون الموجود ( مصداقا لرافع معلوم المفهوم ، كالرطوبة المردّدة بين البول والوذي ) فإنه يعلم أن البول رافع ، ويعلم أيضا إن الوذي ليس برافع ، لكن خرج منه شيء لا يعلم هل هو بول حتى يكون رافعا لطهارته ، أو وذي حتى لا يكون رافعا لطهارته ، فهذا البلل مشكوك في كونه مصداقا للبول المعلوم المفهوم به الذي هو رافع قطعي .

الخامس : ( أو مجهول المفهوم ) كما إذا حصلت له خفقة فلم يعلم ان الخفقة داخلة في مفهوم النوم الرافع للطهارة حتى يكون محدثا ، أم لا حتى يكون متطهرا ؟ فإن هذا الشك ناشيء من جهة الشك في المفهوم بينما الشك السابق كان ناشئا من جهة الشك في المصداق لا في المفهوم .

هذه كانت أقسام الشك في الرافع .

وأما أقسام الشك في الغاية فهي خمسة أيضا على ما يلي :

الأوّل : أن يشك في وجود الغاية مثل : دخول النهار بالنسبة الى المنع عن الأكل والشرب في ليالي شهر رمضان .

الثاني : أن يشك في غائية الموجود مثل : شكّه في أن خفاء الجدران هل هو حدّ للترخص أم لا ؟ .

الثالث : إن الشك في إندراج الشيء الموجود في الغاية وعدم إندراجه فيها دخول ما بين الاستتار وذهاب الحمرة في الليل ، فهل تصح صلاة المغرب في هذا

ص: 197

...

-------------------

الوقت أو لا تصح ؟ .

الرابع : أن يشك في مصداقية الموجود للغاية ، كما إذا كان السفر ثمانية فراسخ موجبا للقصر ، فسافر الى موضع شك في أنه ثمانية فراسخ أم لا ؟ .

الخامس : أن يشك في الشيء لتردّده بين ما يحصل غايته بهذا وبين ما لا يحصل به ، كما إذا سافر حتى خَفِي عليه أذان المحلة في المدن الكبار ولم يَخْف بعد أذان البلد ، فيشك في أنّ المناط لحدّ الترخص هل هو خفاء أذان المحلة حتى يصلي قصرا ، أو أذان البلد حتى يصلي تماما ؟ .

ثم إنّ الشك في المقتضي مثل : الشك في بقاء الليل والنهار قد يكون منشأه الشك في طول النهار والليل أو قصرهما ، فهو من الشك في المقتضي ، وقد يكون منشأه الشك في حصول غايته مثل : استتار القرص في الأوّل وطلوعه في الثاني ، فهو من الشك في الرافع ، فيعمّ المثال كلا القسمين ، وكيف كان : فان المندرج تحت الشك في المقتضي أقسام أربعة :

الأوّل : أن يكون مجهول الكم ، كما لو لم نعلم هل إن السراج مملوّ من النفط أم لا ؟ .

الثاني : أن يكون مجهول الكيف ، كما لو لم نعلم هل ان في السراج نفط جيد يدوم الى الصباح ، أو نفط رديء لا يدوم إلاّ الى منتصف الليل ؟ .

الثالث : أن يكون معلوم الكمّ والكيف ، كما لو كان السراج مملوا من النفط الجيد ، لكن لا نعلم وقت ابتداء إنارة السراج ، ولذا لم نعلم هل إنه يبقى الى الصباح أو ينطفيء عند منتصف الليل .

الرابع : أن يكون الشك في استعداد المستصحب ناشئا عن الشك في مناطه ،

ص: 198

ولا إشكال في كون ما عدا الشك في وجود الرافع محلاً للخلاف ، وإن كان ظاهرُ استدلال بعض المثبتين : بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، الى آخره ، يُوهِم الخلاف ، وأمّا هو فالظاهر أيضا : وقوع الخلاف فيه ، كما يظهر من إنكار السيد للاستصحاب في البلد المبني على ساحل البحر ، وزيد الغائب عن النظر ،

-------------------

وهذا إنّما يكون فيما إذا كان للمستصحب موضوع يأتي متبدّلاً الى غيره في ثاني الأزمنة ، ومثّلوا لذلك بالماء المتغير بالنجس إذا زال تغيّره من نفسه ، حيث لا يعلم ان موضوع النجاسة هل هو مجرد حصول التغيّر فلا تزول بزواله ، أو استمرار التغيّر فتزول بزواله ؟ .

( و ) كيف كان : فإنه ( لا إشكال في كون ما عدا الشك في وجود الرافع محلاً للخلاف ) بين العلماء ( وإن كان ظاهرُ استدلال بعض المثبتين : بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، الى آخره ، يُوهِم الخلاف ) أي : يوهم أن الشك في المقتضي متّفق على عدم اعتبار الاستصحاب فيه فيكون خارجا أيضا كما خرج الشك في الرافع عن محل الخلاف للاتفاق على اعتبار الاستصحاب فيه ، وقد عرفت : أنه ليس كذلك ، فإن الشك في المقتضي محل للنزاع أيضا .

( وأمّا هو ) أي : الشك في وجود الرافع ( فالظاهر أيضا : وقوع الخلاف فيه ) بين العلماء ، وذلك ( كما يظهر من إنكار السيد للاستصحاب في البلد المبني على ساحل البحر ) حيث ان فيه إقتضاء البقاء ما دام لم يطغ عليه البحر ( و ) من انكاره استصحاب حياة ( زيد الغائب عن النظر ) مع ان الانسان يقتضي البقاء ما دام لم يعرض عليه عارض الموت .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذين المثالين من الشك في الرافع ، ومع ذلك فقد

ص: 199

وإنّ الاستصحاب لو كان حجّة لكان بيّنةُ النافي أولى ، لاعتضاده بالاستصحاب .

وكيف كان : فقد يفصّل بين كون الشك من جهة المقتضي ، وبين كونه من جهة الرافع فينكر الاستصحاب في الأوّل ، وقد يفصّل في الرافع بين الشك في وجوده ، والشك في رافعيّته فينكر الثاني مطلقا أو إذا لم يكن

-------------------

أنكر السيد الاستصحاب فيهما .

( و ) كذا يظهر من أدلة النافين القائلين : ( أنّ الاستصحاب لو كان حجّة لكان بيّنةُ النافي أولى ، لاعتضاده بالاستصحاب ) فإن العدم كما تقدّم : يبقى الى أن يأتي ما يزيله ، فهو من الشك في الرافع ، ولكن مع ذلك أنكر النافون الاستصحاب فيه محتجّين : بأن الاستصحاب عند الشك في الرافع لو كان معتبرا لجرى أصل العدم وتعاضد به بيّنة النفي وتقدمت على بيّنة الاثبات ، فعدم تقديم بيّنة النفي دليل على عدم اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع .

( وكيف كان ) كلامهم بالنسبة الى الشك في المقتضي أو الشك في الرافع ( فقد يفصّل بين كون الشك من جهة المقتضي ، وبين كونه من جهة الرافع ) فيعتبر الاستصحاب في الثاني دون الأوّل كما قال : ( فينكر الاستصحاب في الأوّل ) وهو الشك في المقتضي ويثبّته في الثاني وهو الشك في الرافع .

( وقد يفصّل في الرافع بين الشك في وجوده ، والشك في رافعيّته فينكر ) الاستصحاب في ( الثاني مطلقا ) أي : سواء كان الشك في المفهوم أم في المصداق أم في غير ذلك .

( أو ) ينكر الاستصحاب في رافعيّة الموجود لكن لا مطلقا ، بل ( إذا لم يكن

ص: 200

الشك في المصداق الخارجي .

أقوال في الاستصحاب

هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب ، والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولاً :

الأوّل : القول بالحجية مطلقا .

الثاني : عدمُها مطلقا .

الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي .

الرابع : التفصيل بين الاُمور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا ،

-------------------

الشك في المصداق الخارجي ) كالشك مثلاً في إن هذه الرطوبة بول أو مذي فإنه يثبّته فيه أيضا .

ثم إن المصنِّف قال بعد ذلك : ( هذه جملة ما حضرني ) الآن ( من كلمات الأصحاب ) وغير الأصحاب من العامّة الذين نقل المصنِّف عنهم ( والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولاً ) وان كان في بعض الأقوال منها إشكال تعرّض له بعض الشروح والحواشي ، أما الأقوال فهي عبارة عما يلي :

( الأوّل : القول بالحجية مطلقا ) بدون أي تفصيل .

( الثاني : عدمُها ) أي : عدم الحجية ( مطلقا ) فلا استصحاب إطلاقا .

( الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي ) وذلك بأن يجري الاستصحاب في العدمي ولا يجري في الوجودي .

( الرابع : التفصيل بين الاُمور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا ) يعني : سواء كان الحكم الشرعي ، كليّا كاباحة شرب التتن ، أم جزئيا كاستصحاب طهارة بدن زيد ونجاسة ثوبه ، فإنه يجري الاستصحاب فيه ، دون الاُمور الخارجية كما

ص: 201

فلا يعتبر في الأوّل .

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل إلاّ في عدم النسخ .

السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الأوّل .

وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية .

السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

-------------------

قال : ( فلا يعتبر في الأوّل ) وهي : الاُمور الخارجية مثل : استصحاب حياة زيد ورطوبة يده .

( الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره ) فالحكم الشرعي الجزئي ، والموضوع الخارجي يجري الاستصحاب فيهما دون الحكم الشرعي الكلّي كما قال : ( فلا يعتبر في الأوّل ) وهو الحكم الشرعي الكلّي ( إلاّ في عدم النسخ ) فإن استصحاب عدم النسخ محل وفاق - كما تقدّم - لكن تقدّم أيضا : ان بعضهم جعل استصحاب عدم النسخ من باب الظهور اللفظي لا من باب الاستصحاب العملي .

( السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ) أي : غير الحكم الجزئي فيشمل الحكم الشرعي الكلّي والاُمور الخارجية معا ( فلا يعتبر في غير الأوّل ، وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية ) لكن بعضهم أنكر صحة النِسبة المذكورة .

( السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

ص: 202

والشروط والموانع ، والأحكام التكليفيّة التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري في الأوّل دون الثاني .

الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل .

التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره ، فشك في الغاية الرافعة له ،

-------------------

والشروط والموانع ) لا المانعيّة والشرطيّة والسببيّة ، فإن الحكم الوضعي - مثلاً - هو السببيّة لا السبب إلاّ ان مراد المفصل من الحكم الوضعي هو ما يقوم به الحكم لا الحكم نفسه ( والأحكام التكليفيّة التابعة لها ) أي : للأحكام الوضعيّة ، فقد تقدّم : ان الأحكام التكليفية تابعة للأحكام الوضعيّة ، فالزوجية - مثلاً - حكم وضعي ، يتبعها حكم تكليفي كوجوب النفقة ، فربما نستصحب بقاء الزوجية ، وربما نستصحب وجوب النفقة .

( وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري ) الاستصحاب ( في الأوّل دون الثاني ) وذلك بأن لا يجري الاستصحاب في نفس الأحكام مطلقا ، سواء كانت تكليفية كالأحكام الخمسة ، أم وضعيّة كالشرطيّة والمانعيّة ونحوها ، وسيأتي نقله عن الفاضل التوني إن شاء اللّه تعالى .

( الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة ( فلا يعتبر في الأوّل ) أي : في الحكم الثابت بالاجماع وإنّما يعتبر الاستصحاب في الحكم الثابت من الكتاب والسنة .

( التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره ) فإذا ثبت بنفس الدليل أو بقرينة خارجية استمرار المستصحب ( فشك في الغاية الرافعة له ) بأن كان الشك في الرافع ، بِصِوَرِه الخمس ، فيجري فيها

ص: 203

وبين غيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، كما هو ظاهر المعارج .

العاشر : هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية ، كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه .

الحادي عشر : زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون المفهومي ، كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري .

-------------------

الاستصحاب جميعا .

( وبين غيره ) وهو الشك في المقتضي فلا يجري فيه الاستصحاب على ما قال : ( فيعتبر ) الاستصحاب ( في الأوّل دون الثاني كما هو ظاهر ) - كلام المحقق في ( المعارج ) على ما تقدّم .

( العاشر : هذا التفصيل ) المذكور من المحقق ( مع اختصاص الشك بوجود الغاية ) الرافعة بأن يكون الشك في وجود الرافع فقط دون الصور الأربع الباقية للشك في الرافع ، فإنه لا يجري الاستصحاب فيها ولا في الشك في المقتضي ( كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه ) إن شاء اللّه تعالى .

( الحادي عشر ) : اعتبار الاستصحاب في صورة الشك في وجود الرافع مع ( زيادة ) صورة أخرى من صور الشك في رافعية الموجود وهي : صورة ( الشك في مصداق الغاية ) الرافعة للحكم ( من جهة الاشتباه المصداقي ) كما تقدّم : من مثال تردد الرطوبة بين البول والمذي حيث انه من باب الاشتباه المصداقي ( دون المفهومي ) على ما تقدّم من مثال الشك في رافعية الخفقة لاحتمال دخولها في مفهوم النوم ( كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري ) فإنه سيأتي بيانه

ص: 204

ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة في الاصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ، بل يحصل لعالم واحد قولان أو أزيدُ في المسألة . إلاّ أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي .

والأقوى هو القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقق ،

-------------------

مع بيان بقية الأقوال مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

( ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة ) أي : مسألة الاستصحاب ( في الاصول والفروع ) أي : في الكتب الاصولية والكتب الفقهية ( لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ) حتى قيل : إن الأقوال تبلغ أكثر من خمسين قولاً .

( بل ) ربما ( يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة ) وذلك بأن يقول بقول في مسألة ، ويقول بقول آخر في مسألة أخرى مماثلة ( إلاّ أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي ) ولذلك نتركه ونكتفي بهذا القليل .

لا يقال : ولا ينبغي أيضا صرف الوقت في جملة من هذه الأقوال .

لأنه يقال : إن هذا الأقوال لجماعة من كبار المحققين ولعله يأتي من يرى رأيهم ، بخلاف سائر الأقوال الضعيفة ، كما انتهج مثل ذلك المتكلمون في اصول الدين حيث تعرّض مشهور المتكلمين لدين موسى وعيسى ونبي المجوس وذكروا تحريفها بعد أنبيائهم ونَسْخِها بالاسلام ولم يتعرّضوا لسائر الأديان مع وجود مَن يعترف بها كدين بوذا حيث يعتقد به - على ما يقال - مئات الملايين من الناس في الحال الحاضر .

هذا ( والأقوى ) عندنا هو القول الأوّل ، وهو ثبوت الاستصحاب مطلقا ، أما المصنِّف فالأقوى عنده (هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقق) في المعارج.

ص: 205

فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال :

« إذا ثبت حكمٌ في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليلٌ على إنتفاء ذلك الحكم ، هل يُحْكَم ببقائه ما لم يقم دلالة على نفيه ؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة ؟ .

وحكي عن المفيد قدس سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار .

وقال المرتضى قدس سره : لا يحكم .

ثم مثّل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ،

-------------------

وعليه : ( فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال : « إذا ثبت حكم في وقت ) كما إذا كان حكمه التيمُّم عند تعذر الماء فتيمّم وصلّى ( ثم جاء وقت آخر ) بأن حضر الماء في أثناء صلاته ( ولم يقم دليل على إنتفاء ذلك الحكم ) فيشك في انتقاض تيمّمه وعدم انتقاضه ، فحينئذ ( هل يحكم ببقائه ) أي : بقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه ( ما لم يقم دلالة على نفيه ) أي : نفي الحكم الأوّل وانتقاض تيمّمه ولو كان في أثناء الصلاة .

( أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة ) دليل ، وحيث لم يكن الدليل موجودا نقول ببقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه ؟ .

( وحكي عن المفيد قدس سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار ) عند المحقق .

( وقال المرتضى قدس سره : لا يحكم ) ببقائه .

( ثم مثّل ) المحقق في المعارج : ( بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ) فإنه هل يتمّ صلاته اعتمادا على بقاء الطهارة ، أو تبطل صلاته بسبب حصول الماء في أثنائها ؟ .

ص: 206

ثم إحتجّ للحجية بوجوه :

منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، ثم ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها ، ثم قال : « والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا ، وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا .

فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان صحيحا ،

-------------------

( ثم إحتجّ للحجية ) أي : لحجية الاستصحاب في الصورة المذكورة ( بوجوه ، منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ) وفي هذا دلالة على أن كلام المحقق إنّما هو في الشك في الرافع لا الشك في المقتضي ( ثم ذكر أدلّة المانعين ) عن الاستصحاب ( وأجاب عنها ، ثم قال ) بعد ذلك ما نصّه : ( والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ) الذي نريد استصحابه ( فإن كان يقتضيه مطلقا ) أي : من غير تقييد مما يفيد استمرار الحكم الى حصول الرافع ( وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ) أي : من غير تقييد بزمان أو مكان أو خصوصية .

وعليه : ( فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ) وشك في أن هذه الألفاظ توجب الطلاق أم لا ؟ كما اختلفوا في أن قول الزوج لزوجته : أنت خليّة أو بريئة أو ما أشبه ذلك يوجب الطلاق أم لا ؟ .

( فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها ) أي : بهذه الألفاظ المخْتَلف فيها ( لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان ) استدلاله ( صحيحا ) .

ص: 207

لأن المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملاً بالمقتضي .

« لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق » .

« لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت ، فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع

-------------------

وإنّما يكون صحيحا ( لأن المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا ) من غير تقييد بزمان أو ما أشبه ذلك ( ولا يعلم ان الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء فيثبت الحكم ) وهو حلّ الوطي ( عملاً بالمقتضي ) للتحليل .

( لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق » ) بعد تلك الألفاظ المخْتَلف فيها ، ( « لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت ) فإنه لم يقيّد حلّ الوطي بوقت خاص ( فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه ) أي : لا الى دوام المقتضي ، فإن دوام الحل لا يتوقف على دوام المقتضي حتى يقال : بأن الدوام غير محرز ، بل يتوقف على وقوع المقتضي للاستمرار ، فإنه بعد وقوع المقتضي للاستمرار ، وهو العقد هنا احتاج الارتفاع الى الاحراز ، لا أن البقاء يحتاج الى الاحراز .

وهذا في الظاهر ، وأمّا في الواقع : فلا إشكال في أن الحكم إنّما يبقى لأجل دوام المقتضي لا بمجرد وقوع المقتضي .

وعليه : فإذا كان الدليل يقتضي الحل غير مقيد بوقت ( فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ) وما دام لم يثبت الرافع نستصحب الحل ، فالاستصحاب بهذا الدليل حجة في الشك في الرافع .

ص: 208

- ثم قال - : « فإن كان الخصمُ يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملاً بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » ، إنتهى .

ويظهر من صاحب المعالم اختياره ، حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب ، فيظهر : أنّ الاستصحاب المُختلف فيه غيرُه .

-------------------

( ثم قال ) المحقق : ( « فإن كان الخصم ) الذي ينكر الاستصحاب ( يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملاً بغير دليل ) حيث إن الخصم قال : إن العمل بالاستصحاب هو عمل بغير دليل ( وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ) بأن أراد الاستصحاب عند الشك في المقتضي - مثلاً - ( فنحن مضربون عنه » (1) ) ولا نقول بالاستصحاب فيه ( إنتهى ) كلام المحقق .

( ويظهر من صاحب المعالم اختياره ) لقول المحقق ( حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب ) .

وإنّما يظهر منه ذلك لأن معنى إرجاع إثبات الاستصحاب في الشك في الرافع الى القول بإنكار الاستصحاب هو : قبول المعالم كالمحقق بأن الاستصحاب في الشك في الرافع خارج عن محل النزاع للاتفاق على حجيته .

وعليه : ( فيظهر : أنّ الاستصحاب المُختلف فيه ) بنظر المحقق والمعالم هو : ( غيره ) أي : غير الشك في الرافع وهو الشك في المقتضي - مثلاً - وقد نفاه المحقق وإختار النفي المعالم أيضا حيث جعل قول المحقق هذا نفيا للاستصحاب .

هذا هو ما استدل به المحقق واختاره المعالم بالنسبة الى حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

ص: 209


1- - معارج الاصول : ص206 .
لنا على ذلك وجوه
الأوّل : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه :

فمنها : ما عن المباديء ، حيث قال : « الاستصحاب حجّةٌ ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكمٌ ، ثم وقع الشك في أنّه طرء ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولاً ، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجةٌ ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » (1) ،

-------------------

( لنا على ذلك ) أي : دليلنا على ما ذكره المحقق : من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع ( وجوه ) كالتالي :

( الأوّل : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه ) أي : على الاستصحاب في الشك في الرافع .

ولا يخفى ان مثل هذا الاجماع لو تمّ فإنه ليس بحجة ، لأنه اجماع في الاصول لا في الفروع على ما سبق مثله من المصنِّف قدس سره .

وعلى كل حال : ( فمنها : ما عن المباديء حيث قال : « الاستصحاب حجّةٌ ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكمٌ ، ثم وقع الشك في أنّه طرء ما يزيله أم لا ) بأن كان الشك في الرافع ( وجب الحكمُ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك الحكم ( على ما كان أولاً ) وهذا معناه : حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

ثم إستدلّ بقوله : ( ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّةٌ ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » ) وذلك لأن الحكم في الآن الثاني محتمل

ص: 210


1- - مباديء الاصول الى علم الاصول : ص250 .

انتهى .

ومرادُه ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب ، بناءا على ما إدّعاه ، من أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ، لكنه ممنوع ، لعدم الملازمة ، كما سيجيء .

ونظيرُ هذا ما عن النهاية : « من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة إختلافهم اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء

-------------------

الوجود، ومحتمل العدم ، فاللازم : ترجيح أحدهما على الآخر بمرجح ، والمرجح هو الاستصحاب المقتضي لبقاء الحكم ( انتهى ) كلام المباديء .

( ومراده ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب ) من الشك في المقتضي والشك في الرافع ( بناءا على ما إدّعاه من ) تنقيح المناط ، لأن المناط في كل من الشك في المقتضي والشك في الرافع واحد : ( أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ) سواء كان من الشك في المقتضي ، أم الشك في الرافع .

( لكنه ) أي : لكن الذي ادّعاه المباديء من أن مناط الشك في الرافع موجود في الشك في المقتضي أيضا ( ممنوع ، لعدم الملازمة ) فإنه لا ملازمة بين حجية الاستصحاب في الشك في الرافع وحجيته في الشك في المقتضي ، وذلك للفرق بينهما ( كما سيجيء ) الكلام فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

( ونظير هذا ما عن النهاية : من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة إختلافهم ) في أصول الفقه وفروعه ( اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء ) في زمان سابق

ص: 211

وشككنا في حدوث المزيل له ، أخذنا بالمتيقن » ، وهو عينُ الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث .

ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج راجعٌ الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب ، فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق ، إلاّ أنّ في صحة هذه الشهادة نظر ، لأنّ ما مثّل في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

-------------------

( وشككنا في حدوث المزيل له ) بأن كان شكا في الرافع ( أخذنا بالمتيقن » ، و ) من المعلوم : إن هذا الكلام ( هو عين الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث ) المزيل لذلك الثابت السابق .

( ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج ) من إختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ( راجعٌ الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب ) .

وإنّما كان هذا التصريح من المعالم والجواد دالاً على الاجماع على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق ) فيكون كلامهما دليلاً على أن المنكر للاستصحاب والمثبت له متوافقان على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

( إلاّ أنّ في صحة هذه الشهادة ) من المعالم والجواد على خروج ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع عن محل النزاع ( نظر ) .

وإنّما فيه نظر ( لأنّ ما مثّل ) به ( في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

ص: 212

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي . ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ، فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع .

الثاني :

إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلاّ وحَكَمَ الشارع فيه بالبقاء ،

-------------------

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي . ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ) أي : إن ما مثّل به الغزالي لما أنكره من الاستصحاب ، هو نفس ما مثّل به المحقق لما أثبته من الاستصحاب ، إذ كِلا المثالين من الشك في الرافع ، فيظهر عدم خروج ما ذكره المحقق عن محل النزاع .

وإنّما يكون ما أثبته المحقق عين ما أنكره الغزالي من الاستصحاب لأنه كما قال : ( فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع ) فالنكاح كالطهارة كلاهما من باب الشك في الرافع ومع ذلك أنكر الغزالي الاستصحاب في الطهارة ، مما يدل على أن الغزالي ينكر الاستصحاب في الشك في الرافع .

وعليه : فقد ظهر : أن شهادة المعالم والجواد على خروج الشك في الرافع عن موضع النزاع غير تام لأنه قد تنازع فيه المحقق والغزالي على ما عرفت .

( الثاني ) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع هو : ( إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلاّ وحَكَمَ الشارع فيه بالبقاء ) وهذا غير الدليل السابق ، فإن الدليل السابق كان هو الاجماع ، وهذا الدليل

ص: 213

إلاّ مع أمارة توجبُ الظنّ بالخلاف ، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة - وإلاّ لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة الطهارة -

-------------------

هو الاستقراء القطعي .

مثلاً : إذا شككنا في عروض النجاسة فالحكم هو بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في عروض الطهارة فالحكم هو بقاء النجاسة ، وإذا شككنا في الحدث الأصغر فالحكم بقاء الوضوء ، وإذا شككنا في الحدث الأكبر فالحكم بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في حصول الزواج فالحكم عدمه ، وإذا شككنا في حصول البينونة فالحكم بقاء الزوجية ، وإذا شككنا في إنتقال الملك فالحكم بقاء الملكية ، وإذا شككنا في عتق العبد فالحكم بقاء رقّيته ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى من أول الفقه الى آخره .

( إلاّ مع أمارة توجبُ الظنّ بالخلاف ) فإذا قامت أمارة معتبرة على خلاف الحالة السابقة كانت حاكمة على الاستصحاب ، سواء كان ذلك في الأحكام مثل خبر العادل ، أم في الموضوعات مثل البيّنة ، وذلك ( كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ) فإن هذا مثال لما يخالف الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب يقتضي طهارة المحل غير إن الشارع قدّم النجاسة لأمارة توجب الظن بالخلاف .

وعليه : ( فإنّ الحكم بها ) أي : بالنجاسة ( ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ) أي: ليس لعدم حجية الاستصحاب فإن الشارع يرى حجية الاستصحاب ( وإلاّ ) بأن كان مع الغض عن الحالة السابقة ( لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة ) أخرى غير الاستصحاب وهي قاعدة ( الطهارة ) إذ لو لم نقل باعتبار الحالة السابقة ، كان اللازم الحكم بالطهارة لأصل الطهارة .

ص: 214

بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح هذا الظاهر على الأصل ، كما في غُسالة الحمام عند بعض ، والبناء على الصحّة المستند الى ظهور فعل المسلم .

-------------------

إذن : فالحكم بالنجاسة هنا : ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ( بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح ) الشارع ( هذا الظاهر على الأصل ) فأسقط الاستصحاب وأصالة الطهارة في المقام ، وحكم بنجاسة الرطوبة المشتبهة بعد البول أو المني إذا غسل المحل من دون استبراء ، لأن المظنون هو كون الخارج بولاً أو منيّا ، وذلك لغلبة بقائهما في المجرى .

وإنّما فعل الشارع ذلك تقديما للظاهر على الأصل ، سواء كان الأصل كاشفا كالاستصحاب أم غير كاشف كأصالة الطهارة .

و ( كما في غُسالة الحمام ) فإن غسالة الحمام محكومة بالنجاسة الشرعية أيضا ( عند بعض ) الفقهاء ، وذلك تقديما للظاهر على الأصل فإن الظاهر : غلبة إرادة المستحمّين إزالة النجاسة والأدران عن أبدانهم عند الاستحمام .

وعليه : فالمياه المجتمعة من غسلهم ، المسمّاة بالغسالة قالوا : بأن الشارع حكم فيها بالنجاسة وذلك لا لأن الشارع لم يعتبر الاستصحاب المقتضي لطهارة تلك المياه ، وإنّما تقديما للظاهر على الأصل .

( و ) كما في ( البناء على الصحّة ، المستند الى ظهور فعل المسلم ) قولاً وعملاً ، فإن المسلم إذا عقد على امرأة ، وشككنا في صحة اجرائه لصيغة النكاح وعدم صحته حكمنا بصحته ، ورتّبنا عليه أثره من الزوجية وأحكامها مع ان الاستصحاب يقتضي العدم .

وكذا لو عمل عملاً إذا رأيناه قد غسّل ميتا وشككنا في صحة تغسيله له

ص: 215

والانصاف : إنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع ، وهو أولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض ، أنّه المستند في حجّية شهادة العدلين على الاطلاق .

-------------------

وعدم صحته ، حكمنا بصحته ورتبنا عليه أثره من عدم الاشتغال بتغسيل ذلك الميت مرة ثانية مع ان الاستصحاب يقتضي العدم فيترتب عليه الاشتغال ، غير أن الشارح قدّم ظاهر حال المسلم على الاستصحاب المقتضي للاشتغال .

لا يقال : إذن فالاستقراء غير تام ، لأن الشارع لم يحكم ببقاء الحالة السابقة المسمّى بالاستصحاب في موارد متعددة : كحكمه بنجاسة البلل إذا لم يستبرئ، مع إن الاستصحاب يقتضي طهارة المحل ، وكحكمه بنجاسة غسالة الحمام مع ان الأصل يقتضي الطهارة ، وكحكمه بالبناء على الصحة مع ان الأصل يقتضي الفساد.

لأنّه يقال : ان الشارع قدّم أمارة الغلبة ، في هذه الموارد الثلاثة ، وهي أمارة موجبة للظن بالخلاف فليست هذه الموارد من باب طرح الاستصحاب بدون دليل حتى يخدش الاستقراء ، بل هي من طرح الاستصحاب بدليل ، فلا يستشكل بها على الاستقراء الذي ذكرناه .

( والانصاف : أنّ هذا الاستقراء ) الذي ذكرناه : من بقاء الحكم السابق إذا شك في ارتفاعه ، استقراءا من أول الفقه الى آخره ( يكاد يفيد القطع ) على حجية الاستصحاب عند الشارع .

( وهو ) أي : هذا الاستقراء الدالّ على الاستصحاب ( أولى من الاستقراء ) الدالّ على البيّنة ( الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض ) حيث قالوا : ( أنّه ) أي : الاستقراء هو ( المستند في حجّية شهادة العدلين على الاطلاق ) أي : في مطلق الموضوعات .

ص: 216

...

-------------------

والحاصل : إن الاستدلال هنا على حجية الاستصحاب بالاستقراء ، أولى من الاستدلال هناك على حجية البيّنة بالاستقراء كما فعله جماعة من الفقهاء حيث استدلوا به على حجية شهادة العدلين في مطلق الموضوعات من أول الفقه الى آخر الفقه عدا ما خرج بالدليل كالزنا حيث يحتاج الى أربعة شهود ، وكالوصية حيث يقبل فيها شهادة امرأة واحدة بالنسبة الى الربع - مثلاً - فقالوا : إنّا تتبعنا موارد الشك في الموضوعات فوجدنا إنه كلما كان هناك اشتباه في الموضوع حَكَم الشارع فيه باعتبار شهادة العدلين مما يظهر منه أن شهادة العدلين حجة عند الشارع مطلقا .

هذا إضافة الى ما ورد من قوله عليه السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البيّنة » (1) وذلك بناءا على ظهور البيّنة في البيّنة الشرعية التي هي شهادة العدلين ، لا البيّنة اللغوية التي وردت في القرآن الحكيم ، حيث قال تعالى: « ألم يكُن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكِّين حتى تأتيْهم البيّنة » (2) الى غير ذلك .

وإنّما قلنا : بأن الاستقراء هنا أولى بالحجية من الاستقراء هناك في البيّنة الذي ذكره غير واحد ، لأن موارد الاستقراء هنا في باب الاستصحاب أكثر من موارد الاستقراء هناك في باب الشهادة ، فإذا كان باب الشهادة ينفع فيه الاستقراء كان نفع الاستقراء في باب حجية الاستصحاب بطريق أولى .

ص: 217


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - سورة البيّنة : الآية 1 .
الثالث : الأخبار المستفيضة

منها : صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار

« قال : قلت له : الرَّجلُ ينامُ وهو على وضوء ، أيوجبُ الخَفقةُ والخفقتانُ عليه الوضوء ؟ .

قال : يازرارة ! قد تنامُ العينُ ولا ينامُ القلبُ والاُذنُ ، فإذا نامت العينُ والاُذنُ

-------------------

( الثالث ) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع : ( الأخبار المستفيضة ) الواردة في الفقه والتي ( منها: صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار ) ومعنى الاضمار هو : عدم تعيين المروي عنه ، فإن عدم التعيين لا يضر هنا بالصحيحة ، لأنّ مثل زرارة لا يروي عن غير الإمام عليه السلام .

وعليه : فإن زرارة ( « قال : قلت له : الرَّجلُ ينامُ ) ومراده انه يشرف على النوم وذلك من قبيل قوله تعالى : « ولمَّا ورد ماء مدين » (1) فإن الانسان لا يرد في الماء وإنّما يشرف على الماء ، فإذا هاجمه النوم ( وهو على وضوء ، أيوجبُ الخَفقةُ والخفقتانُ عليه الوضوء ؟ ) .

يقال : خفق برأسه إذا انحنى عن وضعه الطبيعي من غير اختيار بسبب شدة نعاسه ، وقد كان شبهة السائل هو دخول النعاس في مفهوم النوم ، فسأل هل هذا نوم حتى يكون ناقضا للوضوء ، أو ليس بنوم حتى لا يكون ناقضا .

( قال : يازرارة ! قد تنامُ العينُ ولا ينامُ القلبُ والاُذنُ ، فإذا نامت العينُ والاُذنُ

ص: 218


1- - سورة القصص : الآية 23 .

فقد وجبَ الوضوءُ .

قلتُ : فإن حُرِّكَ في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ .

قال عليه السلام : لا ، حتى يستيقِنَ أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيِّن ، وإلاّ ، فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقُضُ اليقينَ أبدا بالشكّ ، ولكن ينقُضُه بيقين آخرَ » .

-------------------

فقد وجبَ الوضوءُ ) فان النوم لا يكون إلاّ بنوم القلب ، ونوم القلب لا يكون إلاّ بنوم العين والأذن معا ، فلا يفيد نوم العين وحدها أو نوم الاُذن وحدها .

قال زرارة : ( قلتُ : فإن حُرِّكَ في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ ) أراد زرارة أن يتخذ هذا أمارة على نوم القلب فسأل : هل يكون مثل هذا نوما ؟ .

( قال عليه السلام : لا ، حتى يستيقِنَ أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيِّن ) أي : يحصل له من جهة النوم أمر واضح ، بأنه قد نام ، وإلاّ فتحرك الشيء وعدم تحرّكه لايكون علامة للنوم وعدمه كما قال عليه السلام : ( وإلاّ ، فإنّه ) كان ( على يقين من وضوئه ولا ينقُضُ اليقينَ أبدا بالشكّ ، ولكن ينقُضُه بيقين آخرَ » (1) ) وذلك بأن يتيقن بالنوم كما كان قد تيقن بالوضوء ، فإذا تيقن بالنوم نقض وضوءه .

ولا يخفى : إن في الرواية ثلاثة احتمالات ، والاستدلال بهذه الرواية على حجية الاستصحاب إنّما يتمّ على الاحتمال الأوّل الذي سيذكره المصنِّف بقوله : « وتقرير الاستدلال ... » لا على الاحتمالين الآخرين الذين سيذكرهما بعد ذلك بقوله : « ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ... » وقوله : « مع احتمال أن لايكون قوله عليه السلام : فإنه على يقين علّة قائمة مقام الجزاء ... » .

ثم على الاحتمال الأوّل في الرواية يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم

ص: 219


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وتقرير الاستدلال : أنّ جواب الشرط في قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين » محذوف قامت العلّة مقامه ، لدلالته عليه ،

-------------------

لايجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين ، وكلما كان على يقين وشك ، فلا ينقض اليقين بالشك ، فاللام في اليقين للجنس وكُبراه كليّة فيدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

وعلى الاحتمال الثاني يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم لا يجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين الوضوء ، ولا ينقض يقين الوضوء بالشك ، واللام حينئذ ليس للجنس لأنّ الأقرب أن يكون اللام للعهد فيختص الاستصحاب بالوضوء فلا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

وعلى الاحتمال الثالث يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم ، فحيث إنه كان على يقين الوضوء فلا ينقضه بالشك فيه فيكون هذا الاحتمال كالاحتمال الثاني مختصا بالوضوء لأن اللام فيه ليس للجنس فيختص الاستصحاب بالوضوء، فلايكون دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

إذن : فالذي يدل على حجية الاستصحاب مطلقا هو الاحتمال الأوّل من الاستدلال ( وتقرير الاستدلال ) يكون كما قال :

( أنّ جواب الشرط في قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين » ، محذوف ) وتقديره : إن لم يستيقن انه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، فقوله عليه السلام : فلا يجب عليه الوضوء هو الجواب وقد ( قامت العلّة ) وهي صغرى وكبرى ، فقوله عليه السلام «فإنه على يقين من وضوئه» صغرى «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» كبرى ( مقامه ) أي : مقام الجواب ( لدلالته ) أي : لدلالة هذه العلّة ( عليه ) أي : على الجواب .

ص: 220

وجعلُه نفس الجزاء يحتاجُ الى تكلّف .

وإقامة العلّة مقام الجزاء لا تحصى كثرةً في القرآن وغيره ، مثل : قوله « وإنْ تَجْهَر بالقول فإنّه يَعْلَمُ السرّ وأخفى »

-------------------

إن قلت : لا حاجة الى أن نلتزم بحذف الجواب حتى نجعل العلّة قائمة مقامه ، إذ يمكن جعل العلّة نفس الجزاء ، فيختص بالوضوء .

قلت : ( وجعلُه نفس الجزاء يحتاجُ الى تكلّف ) أي : جعل قوله عليه السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» جوابا لا يكون إلاّ بتكلف ، والتكلف هنا هو: جعل الأخبار بمعنى الانشاء ، فيكون معنى الحديث : إن لم يستيقن إنه قد نام فليبق على يقين من وضوئه فيختص بالوضوء ولا يكون حينئذ دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

لا يقال : يؤيد جعل نفس الجزاء جوابا : أن اقامة العلّة مقام المعلول مجاز أيضا كجعل الجواب نفس الجزاء فلماذا تقدمون ذلك المجاز على هذا المجاز؟ .

لأنه يقال : ( وإقامة العلّة مقام الجزاء ) الذي هو المعلول مجاز شائع بحيث يكون أظهر من سائر المجازات حتى مما ارتكبه المتكلف ، فإن إقامة العلّة مقام الجزاء ( لا تحصى كثرةً في القرآن وغيره ) من الأحاديث وأشعار العرب وكلماتهم .

أما في القرآن فهو ( مثل : قوله ) تعالى : ( « وإنْ تَجْهَر بالقول فإنّه يَعْلَمُ السرّ وأخفى » (1) ) فإن قوله تعالى : «فإنه يعلم السرّ» علّة للجزاء المحذوف يعني : انه لا حاجة الى الجهر بالقول ، ما دام إن اللّه سبحانه وتعالى يعلم السرّ وأخفى من السرّ ، والأخفى من السرّ هو : ما يدور في القلب والصدر ، فكأن مراد الآية :

ص: 221


1- - سورة طه : الآية 7 .

« إن تكفُروا فإنّ اللّه غنيٌ عنكم » « ومَن كَفَرَ فإنّ ربّي غنيٌ كريمٌ » « ومَن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين » « فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوما ليسو بها بكافرين » « وإن يسرِق فقد سرق أخٌ له من قبلُ »

-------------------

وإن تجهر بالقول ، تتعب نفسك بلا حاجة ، لأن اللّه يعلم السرّ وأخفى .

وقوله تعالى : ( « إن تكفُروا ) أنتم أيها الناس ، عاد ضرره عليكم لا على اللّه سبحانه ( فإنّ اللّه غنيٌ عنكم » (1) ) ولا يضرّه كفركم .

وقوله تعالى : ( « ومَن كَفَرَ ) عاد ضرره عليه لا على اللّه سبحانه ( فإنّ ربّي غنيٌ كريمٌ » (2) ) غنيّ عن إيمانكم ، كريم لا يخسر لأنه خلقكم وإن لم تطيعوه ، فإن الكريم يبذل الشيء ولا يريد عليه جزاء .

وقوله تعالى : ( « ومَن كفر ) عاد ضرره عليه ( فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين » (3) ) والغني لا يضرّه الكفر ، كما لا ينفعه الايمان ، وإنّما أمَرَ بالايمان ونَهى عن الكفر لفائدة الناس أنفسهم .

وقوله تعالى : ( « فإن يكفُر بها ) أي : بالكتاب والحكمة والنبوة وما أنزلنا على عبدنا ( هؤلاء ) الكفار ، لم يكن ذلك موجبا للغوية حكمنا وأنزلنا الكتاب ( فقد وكّلنا بها قوما ليسُوا بها بكافرين » (4) ) فأنزلنا يفيد فائدته في أناس آخرين .

وقوله تعالى : ( « وإنْ يسرِق ) يعني : «بنيامين» فلا عجب ( فقد سرق أخٌ له ) يعني : يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ( من قبلُ » (5) ) فإن يوسف لمّا كان

ص: 222


1- - سورة الزمر : الآية 7 .
2- - سورة النمل : الآية 40 .
3- - سورة آل عمران : الآية 97 .
4- - سورة الانعام : الآية 89 .
5- - سورة يوسف : الآية 77 .

« وإن يكذّبوك فقد كُذّبَت » ، الى غير ذلك .

فمعنى الرواية : إنْ لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه في السابق ، وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء

-------------------

صغيرا نزل ذات يوم ضيفا على عمّته ، فأرادت العمّة إبقائه عندها ، فاحتالت لذلك بشدّ منطقة لها من ذهب تحت ثياب يوسف بعنوان انه قد سرقها ، وكان من عادتهم أنّ السارق يصبح عبدا للمسروق منه ، وبهذه الحيلة استطاعت العمّة أن تبقي يوسف عندها ممّا ظهر للاخوة أن يوسف قد سرق ، ولهذا قالوا : « إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل » وهذا على ما فسّره بعض المفسّرين .

ومن نافلة القول أن نقول : ان يوسف على نبينا وآله وعليه السلام قال لمن يعمل معه : احفظوا «بنيامين» عندكم ، ولم يقل لهم : إتهموه واخوته بالسرقة ، لكنهم أقبلوا عليهم وقالوا « إنّكم لسارقون » (1) فهذا الكلام كان منهم وليس منه حتى يقال : إن النبي لا يكذب ، وقيل : في وجه ذلك أمور أُخر موضوعها التفاسير .

وقال سبحانه : ( « وإن يكذّبوك ) فلا تحزن ( فقد كُذّبَت » ) « رسلٌ من قبلك والى اللّه تُرجَع الاُمور » (2) ) ( الى غير ذلك ) من الموارد الكثيرة التي أقيمت العلّة مقام الجزاء مما هو شائع في اللغة العربية والفارسية وغيرهما .

إذن : ( فمعنى الرواية ) على هذا التقرير يكون : ( إنْ لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه في السابق ) أقيمت العلّة ، وهي قوله عليه السلام : فانه على يقين ، مقام المعلول والجزاء المحذوف وهو : فلا يجب عليه الوضوء (و) ذلك (بعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء) أي : بأن لم نجعل اليقين مقيدا بالوضوء ، بل جعلنا اليقين على نحو الكلّية والوضوء من باب المورد

ص: 223


1- - سورة يوسف : الآية 70 .
2- - سورة فاطر : الآية 4 .

وجعل العلّة نفس اليقين يكون قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » بمنزلة كبرى كليّة للصغرى المزبورة .

-------------------

كما قال : ( وجعل العلّة نفس اليقين ) لا اليقين بالوضوء ، وحينئذ ( يكون قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » ) بالشك ( بمنزلة كبرى كليّة للصغرى المزبورة ) .

وعليه : فيكون صورة القياس على التقرير المذكور هكذا : الوضوء متيقن سابقا ، وكلما تيقن الانسان بشيء فلا ينقضه إلاّ بيقين مضاد له .

والحاصل : إنّه قيّد الوضوء في الرواية حيث قال عليه السلام : فإنه على يقين من وضوئه ، إنّما هو من باب المورد لا من باب قيود العلّة ، وذلك لوجهين :

الأوّل : إن العرف يُفهم منه هذا المعنى فإذا قال الطبيب - مثلاً - : لا تأكل الرمّان لأنه حامض ، فُهم منه : ان العلّة في عدم الأكل هو الحموضة ، لا ان العلّة هو خصوص الرمّان الحامض ، ولذا يرى العرف تعدّي النهي الى كل حامض من خَلٍّ أو ليمون أو ما أشبه ذلك .

الثاني : إن الوضوء لو أخذ قيدا يكون العلّة أمرا تعبديّا مختصا بالوضوء حيث يصير معناه : لا يجب الوضوء لأنه على يقين من الوضوء ، ولا ينقض اليقين بالوضوء بسبب الشك فيه ، ومن المعلوم : أن التعليل بعلّة تعبّدية خلاف موازين البلاغة . لأنه لا يزيد السامع شيئا ، فهو مثل أن يقول : لا تأت الى دارنا ، لأنه يلزم عليك أن لا تأت الى دارنا .

وأمّا لو أهملنا تقييد اليقين بالوضوء ، فإنه يكون العلّة أمرا إرتكازيا حيث يصير معناه : لا يجب الوضوء لأنه على اليقين ، ولا يُنقض اليقين بالشك ، وعدم نقض اليقين بالشك مرتكز عرفي وقاعدة عقلائية يجريها العقلاء في كل مورد من اليقين السابق والشك اللاحق .

ص: 224

هذا ، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ، إذ لو كان للعهد ، لكانت الكبرى المنضمّة الى الصغرى : « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك » ، فيفيد قاعدة كليّة في باب الوضوء وأنّه لا ينقض إلاّ باليقين بالحدث .

-------------------

هذا ، وظاهر الرواية يقتضي أن يكون التعليل بأمر ارتكازي ، فيكون مثل أن يقول : لا تأت الى دارنا ، لأن اتيانك يوجب لك مشكلة ، وحينئذ يكون اللام في اليقين للجنس ، وإذا وقع الجنس في حيّز النفي كما نحن فيه أفاد العموم ، فيدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

وأمّا لو أخذنا الوضوء قيدا للصغرى فإنه يكون اللام في الكبرى للعهد الذكري حيث يصير معناه : ولا ينقض اليقين بالوضوء بسبب الشك في اليقين المذكور ، فيختص الكبرى بباب الوضوء ، فلا يتم معه الاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقا ، واليه أشار المصنِّف بقوله : ( هذا ، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ) فإنه إذا كان الاستدلال على ان اللام للجنس حسب ما هو الظاهر ، تكون الرواية دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

وأما إذا لم يكن اللام للجنس فلا تدلّ الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا وذلك كما قال : ( إذ لو كان ) اللام ( للعهد ، لكانت الكبرى المنضمّة الى الصغرى ) هكذا : ( « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك » ) وحينئذ ( فيفيد قاعدة كليّة في باب الوضوء ) فقط ( وأنّه ) أي : الوضوء ( لا ينقض إلاّ باليقين بالحدث ) فكأن الإمام عليه السلام قال : إنه على يقين من وضوئه ، واليقين بالوضوء لا يُنقض بالحدث المشكوك .

ص: 225

واللاّم وإن كان ظاهرا في الجنس ، إلاّ أنّ سبق يقين الوضوء ربما يُوهِمُ الظهور المذكور ، بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ مع احتمال أن لا يكون قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » ، علّةً قائمةً مقام الجزاء ، بل يكون الجزاء مستفادا من قوله عليه السلام : « ولا ينقض » ، وقوله عليه السلام : « فانّه على يقين » توطئة له .

-------------------

( و ) عليه : فإن ( اللاّم وإن كان ظاهرا في الجنس ) كما عرفت ذلك في الاحتمال الأوّل ( إلاّ أنّ سبق يقين الوضوء ) في الصغرى ( ربما يُوهِمُ الظهور المذكور ) في الاحتمال الثاني وهو : أن يكون اللام في الكبرى للعهد فيكون مختصا بالوضوء كما قال : ( بحيث لو فرض ) في الكبرى ( إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ ) لكنّك قد عرفت : إن هذا النوع من الاستدلال بعيد عن موازين البلاغة .

والحاصل : ان اللام إن كان للجنس تمّ الاستدلال المذكور ، وإن لم يكن للجنس بل كان للعهد الذكري ، اختص بباب الوضوء فلم يكن دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

هذا ( مع احتمال ) ثالث في الرواية ولكن لا يتمّ معه أيضا الاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقا ، وهو كما قال : ( أن لا يكون ) الجواب محذوفا كما ذكرناه في الاحتمال الأوّل واستظهرناه من الرواية ، فلا يكون ( قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » ، علّةً قائمةً مقام الجزاء ، بل يكون الجزاء مستفادا من ) الكبرى وهي ( قوله عليه السلام : « ولا ينقض » ، و ) أن يكون ( قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » توطئة له ) أي : للجزاء ، لأنه ربما يأتي المتكلم بشيء مقدمة وكاشفا عن الجزاء .

ص: 226

والمعنى : أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقنٌ لوضوئه السابق،

ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ، فيخرج قوله « لا تنقض » ، عن كونه بمنزلة الكبرى ، فيصير عمومُ اليقين وإرادة الجنس منه أوهَنَ .

لكنّ الانصاف : أنّ الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور ، خصوصا بضميمة الأخبار الأُخر الآتية المتضمّنة لعدم نقض اليقين بالشك .

-------------------

( و ) عليه : فيكون ( المعنى ) للرواية على هذا الاحتمال الثالث : ( أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقنٌ لوضوئه السابق ، ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ) فهو مثل أن يقال : إذا جائك زيد فمجيئه رحمة يوجب الاكرام ، فإن صورة الشرطية تكون هكذا : إذا جائك زيد وجب إكرامه ، وقوله في وسط الشرط والجزاء : فمجيئه رحمة من باب التوطئة والتمهيد للجزاء ، لا انه جزاء .

إذن : ( فيخرج قوله ) عليه السلام : ( « لا تنقض » ، عن كونه بمنزلة الكبرى ) الكلّية ، بل يختص بجواب الشرط ( فيصير عمومُ اليقين وارادة الجنس منه ) أي : من اللام ( أوهَنَ ) من الاحتمال الثاني الذي ذكرنا : إنه موهون .

والحاصل : إنه إن أُريد من الرواية الاحتمال الثاني فدلالة الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا ظاهرةٌ الوهن ، وإن أريد منها الاحتمال الثالث فدلالتها على حجية الاستصحاب مطلقا أظهر وهنا ، وذلك لأن كون اللام للجنس في الاحتمال الثاني أقوى من احتمال كون اللام للجنس في الاحتمال الثالث .

هذا هو جملة من الكلام في الاحتمالات الثلاثة ( لكنّ الانصاف : أنّ الكلام مع ذلك ) أي : مع هذين الاحتمالين ( لا يخلو عن ظهور ) في الاحتمال الأوّل : حيث قد تقدّم : أن في الرواية وجهين للدلالة على أن اللام للجنس وأن الوضوء من باب المورد ( خصوصا بضميمة الأخبار الأُخر الآتية ، المتضمّنة لعدم نقض اليقين بالشك ) .

ص: 227

وربّما يورد على إرادة العموم من اليقين أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكلّي .

وفيه : إنّ العموم مستفادٌ من الجنس في حيّز النفي .

فالعمومُ بملاحظة النفي ، كما في : « لا رجل في الدّار »

-------------------

وعليه : فظهور الرواية منضّما الى اطلاق سائر الروايات في هذا الباب وكون مساقها مساق هذه الرواية يفيد : ان المراد بهذه الرواية أيضا الجنس لا خصوصية المورد .

( وربّما يورد على ) دلالة الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا : بأن ( إرادة العموم من اليقين ) غير تام ، وذلك ( أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكلّي ) بل يدل على السلب الجزئي ، فإن قولك : « لم يأت كلّ العلماء » يفيد مجيء بعض دون بعض لا مجيء الكلّ ، فمعنى الحديث : لا ينقض كل يقين ، وهو يفيد إنه ينقض بعضه دون بعض ، فلا كبرى كلّية في المقام .

( وفيه ) : إن جملة : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » (1) يفيد العموم لا سلب العموم ، إذ هناك فرق بين العموم الذي يستفاد من النفي مثل : لا رجل في الدار ، فإن العموم فيه قد اُستفيد من النفي ، فإن نفي الجنس يفيد العموم ، وبين العموم المستفاد من الوضع ، ووقوع ذلك العموم في حيّز النفي ، مثل : ليس كل إنسان أبيض ، فإن الأوّل : يفيد العموم ، والثاني : يفيد البعض ، والحديث من قبيل الأوّل لا من قبيل الثاني كما قال : ( أنّ العموم مستفادٌ من الجنس ) الواقع ( في حيّز النفي ، فالعمومُ بملاحظة النفي ) يكون ( كما في : « لا رجل في الدّار » ) حيث أُستفيد العموم في هذه

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

لا في حيّزه ، كما في : « لم آخذُ كُلَّ الدّراهم » .

ولو كان اللامُ لاستغراق الأفراد ، كان الظاهر ، بقرينة المقام والتعليل

-------------------

الجملة من نفس النفي ، لأن النفي ورد على الطبيعة فأفاد العموم .

( لا في حيّزه ) أي : لا ان العموم وقع في حيّز النفي ، فإنه ليس في الرواية عموم حيّز النفي ( كما في : « لم آخذ كُلَّ الدّراهم » ) فإن كل الدراهم عموم وقع في حيز النفي ، وهو لا يفيد العموم ، بل يفيد أنه أخذ بعض الدراهم .

والحاصل : إن هناك فرقا بين وقوع العام بعد النفي مثل : لم آخذ كل الدراهم ، فإن كل الدراهم عام وقع بعد النفي : لم آخذ ، فأفاد السلب الجزئي ، وبين استفادة العموم من نفس النفي مثل : لا رجل في الدّار ، حيث إن العموم أُستفيد من النفي ، فإن النكرة في سياق النفي تفيد العموم .

لا يقال : لا تنقض اليقين أيضا عام وقع بعد النفي ، لأن اللام للاستغراق فمعناه: لا تنقض كل يقين ، فيفيد السلب الجزئي .

لأنّه يقال : ( ولو كان اللامُ لاستغراق الأفراد ) أي : كل يقين فإنه مع ذلك ( كان الظاهر ) من الرواية بدلالة أمور ثلاثة هو السلب الكلّي لا السلب الجزئي ، والاُمور الثلاثة هي كالتالي :

الأوّل : ( بقرينة المقام ) حيث ان الكبرى في مقام تأسيس قاعدة ، وكلّما كان الكلام في مقام تأسيس القاعدة أُستفيد منه العموم .

الثاني : ( والتعليل ) حيث قد تقدّم : إن التعليل بالسلب الجزئي يكون تعبّديا ، والتعليل بالسلب الكلّي يكون إرتكازيا ، ومن المعلوم : ان التعليل التعبّدي عبارة عن تكرار المعلول وذلك خلاف اسلوب البلاغة .

ص: 229

وقوله : « أبدا » ، هو إرادة عموم النفي ، لا نفي العموم .

وقد أورد على الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن ،

-------------------

الثالث : ( وقوله : « أبدا » ) حيث ان ظاهره يتنافى مع إرادة السلب الجزئي إذ لا معنى لقولنا : ولا ينتقض بعض اليقين أبدا بالشك .

إذن : فالأمور الثلاثة تدل على ان ظاهر الرواية ( هو إرادة عموم النفي ) أي : السلب الكلّي الشامل لكل ما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ( لا نفي العموم ) أي : السلب الجزئي حتى يكون مختصا بالوضوء .

وعليه : فإنّا لو سلّمنا أن العموم في الرواية وقع بعد النفي ، فإنه يستفاد منه السلب الكلّي أيضا ، لما ذكرنا : من قرينة لفظ « أبدا » ، ومن قرينة التعليل ومن قرينة كونه لتأسيس قاعدة كلّية ، فيكون حينئذ من قبيل : « إنّ اللّه لا يحبّ كُلّ مختال فخور » (1) حيث معناه : السلب الكلّي لا كلّي السلب .

هذا ( وقد أورد على الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن ) والتي منها : إنها مضمرة ، وفيه : ما قد عرفت سابقا : من عدم الضرر في إضمارها .

ومنها : عدم صحة الاعتضاد بأخبار الآحاد في المسائل الاصولية ، كما ذكره المحقق الخوانساري ، وفيه مضافا الى ما تقدّم من منع كون ما نحن فيه مسألة أصولية بحتة : أنا نمنع عدم صحة اعتضاد أخبار الآحاد في المسائل الاصولية ، إذ بعد ثبوت كون الخبر الواحد حجة يصح الاعتضاد به سواء في المسائل الأصولية أم المسائل الفرعية .

ومنها : عدم إمكان اجتماع اليقين مع الشك في مورد واحد حتى يصح النهي عن نقضه به ، وفيه : ان المراد باليقين آثار اليقين كما هو واضح .

ص: 230


1- - سورة لقمان : الآية 18 .

والمهم في هذا الاستدلال : إثباتُ إرادة الجنس من اليقين .

ومنها : صحيحةٌ أخرى لزرارةَ مضمرةٌ أيضا : « قال : قلتُ له : أصابَ ثوبي دمُ رُعاف ، أو غيره أو شيء من المنيّ ، فَعَلّمتُ أثرَهُ الى أن اُصيبَ له الماء ، فحَضرتِ الصلاة ونَسيتُ أنّ بثوبي شيئا وصلّيتُ ، ثمّ إنّي ذكرتُ بعد ذلك ؟ .

-------------------

ومنها : إنه لو تمسكنا بهذا الخبر لحجية الاستصحاب لزم عدم حجية الاستصحاب ، وذلك لأن مقتضى الاستصحاب عدم صدور هذه الرواية عن المعصوم عليه السلام ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال ، وفيه مضافا الى ان الرواية متواترة معنىً ، انها لا تشمل نفسها قطعا لأنها من قبيل كل خبري كاذب على ما قرّر في موضعه ، الى غير ذلك .

( و ) كيف كان : فإن ( المهم في هذا الاستدلال : إثبات إرادة الجنس من اليقين ) وقد عرفت : إنه هو الظاهر منه .

هذا هو تمام الكلام في الصحيحة الاُولى لزرارة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب ( صحيحةٌ أخرى لزرارةَ مضمرةٌ أيضا : « قال : قلتُ له : أصابَ ثوبي دمُ رُعاف ، أو غيره ) أي: غير دم الرعاف ، ودم الرعاف هو الدم الخارج من الأنف لا لجرح فيه ، وإنّما لانفجار العروق الصغار في جدار الأنف .

( أو ) أصاب ثوبي ( شيء من المنيّ ، فَعَلّمتُ أثرَهُ ) أي : جعلت علامة مكان ذلك الدم أو المني الذي وصل الى ثوبي ( الى أن اُصيبَ له الماء ) فأغسله ( فحَضرتِ الصلاة ونَسيتُ أنّ بثوبي شيئا ) من النجس ( وصلّيتُ ، ثمّ إنّي ذكرتُ بعد ذلك ؟ ) فهل تصحّ صلاتي أم لا ؟ .

ص: 231

قال عليه السلام : تُعيد الصلاة وتَغسِلُهُ .

قلتُ : فإن لم أكن رأيتُ موضِعَهُ ، وعَلِمتُ أنّه أصابَهُ ، فطلبتُه ولم أقدِر عليه فلمّا صلّيت وجدتُه ؟ .

قال عليه السلام : تغسِلُه وتُعيد .

قلتُ : فإن ظننتُ أنّه أصابَهُ ولم أتيقّن ذلك فنظرتُ ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت ما فيه ؟ .

قال : تغسِلُه ولا تُعيد الصلاةَ .

قلتُ : لِمَ ذلك ؟ .

-------------------

( قال عليه السلام : تُعيد الصلاة وتَغسِلُهُ ) وهذا من باب اللف والنشر المشوش أي : تغسله وتعيد الصلاة .

( قلتُ : فإن لم أكن رأيتُ موضِعَهُ ، و ) لكن ( عَلِمتُ ) اجمالاً ( أنّه أصابَهُ ، فطلبتُه ولم أقدِر عليه ) لأن الدم - مثلاً كان قليلاً بحيث لم يدركه بصري وقت طلبه ( فلمّا صلّيت وجدتُه ) بعد الصلاة ؟ .

( قال عليه السلام : تغسِلُه وتُعيد ) الصلاة ، وذلك لأن مقتضى العلم الاجمالي وجوب غسل مقدار من الثوب يقطع معه بزوال النجس ، فإذا لم يغسله وصلّى فيه بطلت صلاته .

( قلتُ : فإن ظننتُ أنّه أصابَهُ ولم أتيقّن ذلك ) أي : لم أتيقن انه أصابه ( فنظرتُ ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت ما فيه ؟ ) بعد الصلاة ؟ .

( قال : تغسِلُه ولا تُعيد الصلاةَ ) بعده .

( قلتُ : لِمَ ذلك ؟ ) أي : لماذا لم تجب الاعادة في هذه الصورة ، بينما وجبت الاعادة في الصورة السابقة ؟ .

ص: 232

قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتِكَ فشكَكْت ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقينَ بالشّك أبدا .

قلتُ : فإنّي قد علمتُ أنّهُ قد أصابَهُ ولم أدْرِ أين هو فأغسِلَهُ .

قال : تغسِلُ من ثوبكَ النّاحِيَةَ التي ترى أنّه قد أصابَها حتى تكونَ على يقينٍ من طهارتِكَ .

قلتُ : فهل عليّ إن شكَكْت أنّه أصابَهُ شيءٌ أن أنظرَ فيه ؟ .

قال : لا ،

-------------------

( قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتِكَ فشكَكْت ) والمراد بالشك : أعمّ من الظن بالوفاق ، أو الظن بالخلاف ، أو المتساوي الطرفين كما سبق ، ثم أضاف عليه السلام : ( وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقينَ بالشّك أبدا ) فقد أحال عليه السلام ، عدم اعادة الصلاة على الاستصحاب المرتكز عند جميع العقلاء ومنهم زرارة ، مما يدل على حجية الاستصحاب مطلقا في كل مورد .

( قلتُ : فإنّي قد علمتُ أنّهُ قد أصابَهُ ولم أدْرِ أين هو فأغسِلَهُ ) أي : حتى غسله، فما أفعل حينئذ بالثوب الذي أعلم اجمالاً بنجاسة موضع منه ؟ .

( قال : تغسِلُ من ثوبكَ النّاحِيَةَ التي ترى أنّه قد أصابَها ) أي : أصاب تلك الناحية ، فإذا أصاب الطرف الأيمن - مثلاً - تغسل كل الطرف الأيمن ، وإذا أصاب الطرف الأيسر تغسل كل الطرف الأيسر ، وهكذا ( حتى تكونَ على يقينٍ من طهارتِكَ ) فإن الصلاة لا تصح في ثوب نجس .

( قلتُ : فهل عليّ إن شكَكْت أنّه أصابَهُ شيءٌ ) من الدم أو غيره ( أن أنظرَ فيه ) أي : أفحص عنه مع انه من موارد الشبهة الموضوعية ؟ .

( قال : لا ) وقد تقدّم : أن الشبهة الموضوعية في مثل الطهارة والنجاسة ،

ص: 233

ولكنّك إنّما تُريد أن تذهَبَ بالشكِّ الذي وقع مِن نفسِكَ .

قلتُ : إن رأيتُه في ثوبي وأنا في الصلاة ؟ .

قال : تنقُض الصلاة وتُعيد إذا شكَكْت في موضعٍ منهُ ثمَّ رأيتَهُ .

-------------------

والحليّة والحرمة ، لا يجب فيها الفحص إجماعا ، وإن ناقشنا في وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية في مثل الاستطاعة والزكاة والخمس وما أشبه ذلك ، ثم أضاف عليه السلام قائلاً : ( ولكنّك إنّما تُريد أن تذهَبَ بالشكِّ الذي وقع مِن نفسِكَ ) يعني : ان الفحص هنا حسن لأنه يذهب الشك من نفسك ، وهذا يدل على استحباب الفحص في غير الموارد المنهي عن الفحص فيها ، كما في قوله عليه السلام : ليس عليكم المسألة (1) ، وما أشبه ذلك ممّا قد تقدّم .

( قلتُ : إن رأيتُه في ثوبي وأنا في الصلاة ؟ ) أي : مع الشك قبل الصلاة في موضع منه ؟ .

( قال : تنقُض الصلاة وتُعيد إذا شكَكْت في موضعٍ منهُ ) أي : من الثوب ، وذلك بأن كان شكك فيه قبل دخولك في الصلاة ( ثمَّ رأيتَهُ ) بعد ذلك في الأثناء .

ولا يخفى : ان هذه الفقرات قد تحمل على انه حصل له العلم بالنجاسة قبل الصلاة فلم يهتمّ بها وصلّى ثم رأى النجاسة أثناء الصلاة ، فيكون قوله عليه السلام : « تنقض الصلاة وتعيد » بمعنى : إبطالها ثم استينافها بعد التطهير ، وهذا هو الظاهر من الرواية .

وقد تحمل على إنه حصل له مجرد الشك بالنجاسة قبل الصلاة فلم يفحص عنها وصلى ثم رأى النجاسة أثناء الصلاة ، فيكون قوله عليه السلام : تنقض الصلاة وتعيد

ص: 234


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، قرب الاسناد : ص171 ، وسائل الشيعة : ج3 ص491 ب50 ح4262 و ج4 ص456 ب55 ح5701 .

وإن لم تشُكَّ ثم رأيتَهُ رطبا ، قطعتَ الصلاةَ وغسلتَهُ ثمّ بنيتَ على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليكَ فليسَ ينبغي لك أن تنقُض اليقينَ بالشكِّ » ، الحديث .

-------------------

بمعنى : السكوت وتطهير الثوب ثم البناء عليها من حيث سكت ، وهذا هو الذي يناسب الفقرة التالية حيث قال عليه السلام :

( وإن لم تشُكَّ ) في النجاسة قبل الصلاة ( ثم رأيتَهُ رطبا ) في أثناء الصلاة ( قطعتَ الصلاةَ ) أي : سكتَّ بدون ارتكاب المنافي ( وغسلتَهُ ثمّ بنيتَ على الصلاة ) أي : أتيت ببقية الصلاة ، وإنّما تأتي ببقية الصلاة بعد التطهير في هذه الصورة ( لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليكَ ) في أثناء الصلاة ، وحيث لا تدري وكنت على يقين من طهارة ثوبك ، فإنه كلّما كنت على يقين وشككت ( فليسَ ينبغي لك أن تنقُض اليقينَ بالشكِّ » (1) ).

إذن : فالعلم بالنجاسة إن كان قبل الصلاة بطلت الصلاة ووجب استينافها بعد التطهير ، وإن كان في أثناء الصلاة لزم السكوت والتطهير ثم إتمام الصلاة ، وإن كان بعد الصلاة صحّت صلاته الى آخر ( الحديث ) .

ولا يخفى : ان هذه الرواية رويت تارة مضمرة كما في رواية الشيخ ، واخرى مسندة الى الإمام الباقر عليه السلام ، كما في العِلل .

ثم إن بعض الفقهاء قالوا : إن هذا الحديث يستفاد منه قواعد شريفة وكثيرة :

منها : اعتبار قاعدة الاستصحاب .

ومنها: صحة عبادة الجاهل إذا اتفقت مطابقتها لبعض الطرق الشرعية ،

ص: 235


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

والتقريب كما تقدّم في الصحيحة الاُولى

-------------------

لأنه عليه السلام قد حكم فيها بصحة صلاة الجاهل بنجاسة ثوبه ولم يوجب عليه إعادتها لأجل مطابقتها مع الاستصحاب .

ومنها : كون الطهارة من الخبث في الصلاة من الشرائط العلمية لا الشرائط الواقعية ، لأنه عليه السلام حكم فيها بعدم وجوب إعادة الصلاة مع العلم بعد الصلاة بوقوعها مع النجاسة ، فإن الطهارة لو كانت من الشرائط الواقعية دون العلمية لوجبت الاعادة ، لفرض ظهور الخلاف بعد الصلاة .

ومنها : وجوب الموافقة القطعيّة في الشبهة المحصورة لقوله عليه السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك » .

ومنها : عدم وجوب الفحص في العمل بالأصل في الموضوعات مطلقا ، أو إذا كان من أمثال الطهارة والنجاسة .

ومنها : إعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي ، فلا يقدح في جريان الاستصحاب الظن الشخصي بالخلاف ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام في جواب قول زرارة حيث قال : فإن ظننت إنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال عليه السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » .

ومنها : حسن الاحتياط في مثل هذه الاُمور لقوله عليه السلام : « ولكنك إنّما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع من نفسك » .

ومنها : تقديم الأصل في الشك السَببي على الشك المُسَببي .

هذا ( و ) لا يخفى : ان ( التقريب ) لهذا الحديث في دلالته على حجية الاستصحاب مطلقا هو ( كما تقدّم في الصحيحة (1) الاُولى ) ولذا لا حاجة

ص: 236


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وإرادة الجنس من اليقين لعله أظهر هنا .

وأمّا فقه الحديث ، فبيانه : أنّ مورد الاستدلال يحتملُ وجهين :

أحدُهما : أن يكون مورد السؤال فيه : أن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة .

-------------------

الى تكرار التقريب المتقدم ( و ) إثبات ان اللام فيه للجنس ، بل ( إرادة الجنس من اليقين لعله أظهر هنا ) من الرواية السابقة ، وذلك كما أشار اليه الأوثق بقوله :

«لأن موضع الدلالة من هذه الصحيحة كما سنشير اليه ، فقرتان إحداهما : قوله عليه السلام : فان ظننت الى قوله : قلت : فإني قد علمت ، والاُخرى : قوله عليه السلام : وإن لم تشك الى آخره ، ولا مسرح لقضية التوطئة في الاُولى ، لعدم الشرطية فيها حتى يقال : إن قوله : لأنك كنت على يقين ، علّة قائمة مقام الجزاء ، أو هو مذكور من باب التوطئة ، فهو صريح في العليّة ، وأما الثانية : فلعدم سبق ذكر اليقين بالطهارة فيها حتى يحتمل كون اللام في قوله : فلا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ، للعهد الذكري » (1) .

( وأمّا فقه الحديث ) أي : فهمه حتى نعرف كيف إستدلّ الإمام عليه السلام لعدم وجوب الاعادة بالاستصحاب ؟ مع إن فيه نوع اجمال ، أشار اليه المصنِّف بقوله : ( فبيانه : أنّ مورد الاستدلال ) بهذا الحديث لحجية الاستصحاب ، إنّما يبدأ من قوله : قلت : فإن ظننت انه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فإنه ( يحتملُ وجهين ) كالتالي :

( أحدُهما : أن يكون مورد السؤال فيه : أن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ) فيتيقّن بعد الصلاة أنه قد صلّى في النجس

ص: 237


1- - أوثق الوسائل : ص454 الصحيحة الثانية أظهر من سابقتها في ارادة القاعدة الكلية .

وحينئذٍ : فالمرادُ اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة ، والشك حين إرادة الدخول في الصلاة .

لكن عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك إنّما يصلح علّة لمشروعيّة الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة مع الشك فيها ، وأنّ الامتناع عن الدخول فيها نقضٌ لآثار تلك الطهارة المتيقنة ، لا لعدم وجوب الاعادة على مَن تيقّن أنّه صلّى في النجاسة ، كما صرّح به السيد الشارح للوافية ،

-------------------

(

وحينئذٍ : فالمرادُ ) بقوله عليه السلام : لأنّك كنت على يقين : ( اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة ، و ) بقوله : فشككت : ( الشك حين إرادة الدخول في الصلاة ) .

هذا ، وقد تقدّم : ان المراد بالشك أعمّ من الظن ، فيكون هذا الاستصحاب جاريا قبل الصلاة ، لأن كلاً من اليقين بالطهارة ، والشك في الاصابة كان قبل الصلاة ، فله استصحاب الطهارة قبل الصلاة .

( لكن ) كون الاستصحاب قبل الصلاة بأن يكون ( عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك ) الحاصل قبل الصلاة لا يتلائم مع ما ذكره الإمام عليه السلام بقوله : ولا تعيد الصلاة .

وإنّما لا يتلائم معه ، لأن الاستصحاب الذي هو قبل الصلاة ( إنّما يصلح علّة لمشروعيّة الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة مع الشك فيها ) أي : في تلك الطهارة ( و ) يصلح لافادة ( أنّ الامتناع عن الدخول فيها ) أي : في الصلاة ( نقضٌ لآثار تلك الطهارة المتيقنة ) .

وكذا ( لا ) يصلح علّة ( لعدم وجوب الاعادة على مَن تيقّن أنّه صلّى في النجاسة ) لأنه يكون من نقض اليقين باليقين ، فلا يكون مجرى للاستصحاب ( كما صرّح به ) أي : بما ذكرنا ( السيد الشارح للوافية ) حيث قال بعدم صلاحية

ص: 238

إذ الاعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقّنة بالشك ، بل هو نقض باليقين ، بناءا على أنّ من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين الصلاة ولو بعدها وجوب إعادتها .

-------------------

وقوع الاستصحاب علّة لعدم وجوب الاعادة ، وإنّما يصلح علّة لمشروعية الدخول في الصلاة .

والحاصل : إن الاستصحاب لا يكون علّة لعدم الاعادة ، وإنّما يكون علّة لجواز الدخول في الصلاة ، فكيف جعل الإمام عليه السلام الاستصحاب علّة لعدم الاعادة ؟ .

وإنّما لا يصلح الاستصحاب علّة لعدم وجوب الاعادة ، لأنه كما قال : ( إذ الاعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقّنة ) سابقا ( بالشك ) قبل الصلاة ( بل هو نقض باليقين ) الحاصل بعد الصلاة ، لأن المفروض : أن تيقن بنجاسة ثوبه بعد الصلاة ، فيكون عدم وجوب الاعادة حينئذ من باب عدم نقض اليقين باليقين ، لا من باب عدم نقض اليقين بالشك .

وإنّما يكون وجوب الاعادة من باب نقض اليقين باليقين ، لأن ذلك ( بناءا على أنّ من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين الصلاة ولو ) كان هذا اليقين حاصلاً ( بعدها ) أي : بعد الصلاة هو : ( وجوب إعادتها ) أي : إعادة الصلاة .

وإن شئت قلت : إن المطلوب في المقام أمران : جواز الدخول في العبادة ، وعدم وجوب اعادتها ، فجواز الدخول يطلب قبل الشروع في الصلاة ، وعدم وجوب الاعادة يطلب بعد الفراغ من الصلاة ، والاستصحاب مختص بما قبل الشروع ولا استمرارية له الى ما بعد الفراغ حتى يترتب أثره على الصلاة بعد الفراغ .

إذن : فجواز دخوله في الصلاة كان لأجل الاستصحاب ، أمّا عدم وجوب

ص: 239

وربّما يتخيل حسنُ التعليل لعدم الاعادة بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري للاجزاء ، فتكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلاً على تلك القاعدة وكاشفة عنها .

-------------------

الاعادة عليه ، فلم يكن لأجل الاستصحاب ، بل لاجتماع شرائط الصحة في مثل هذه الصلاة ، لأنه حين الاتيان بها لم يكن عالما بالنجاسة ، وقد عرفت : ان النجاسة الخبثية ليست من الموانع الواقعية ، وإنّما الطهارة منها من الشرائط العلمية .

والحاصل : إنّ الإمام عليه السلام ، علّل عدم الاعادة بالاستصحاب ، بينما عدم الاعادة معلول اجتماع شرائط الصحة في الصلاة لا الاستصحاب .

ثم إن المصنِّف أجاب عمّا قاله قبل قليل : لكن عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك إنّما يصلح علّة لمشروعية الدخول في العبادة لا علّة لعدم وجوب الاعادة بقوله :

( وربما يتخيل حسنُ التعليل ) من الإمام عليه السلام بعدم نقض اليقين بالشك ( لعدم الاعادة ) أي : بأن لا يعيد الصلاة لأجل الاستصحاب ، وذلك ( بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري ) أي : البناء على طهارة الثوب ( للاجزاء ) والاجزاء مقتض لعدم الاعادة .

وعليه : ( فتكون الصحيحة ) حينئذ ( من حيث تعليلها ) في كلام الإمام عليه السلام ( دليلاً على تلك القاعدة ) أي : قاعدة اقتضاء الأمر الظاهري الاجزاء ( وكاشفة عنها ) أي : عن تلك القاعدة .

والحاصل : إنه يصحّ تعليل عدم وجوب الاعادة بالاستصحاب ، لأن الاستصحاب يقتضي صحة الدخول في الصلاة وإذا صحّ له الدخول كان مأمورا

ص: 240

وفيه : أنّ ظاهر قوله « فليس ينبغي » يعني : ليس ينبغي لك الاعادة ، لكونه نقضا .

كما أنّ قوله عليه السلام في الصحيحة « لا ينقُض اليقين أبدا بالشك » : عدم إيجاب إعادة الوضوء ،

-------------------

بالأمر الظاهري بهذه الصلاة ، والأمر الظاهري بهذه الصلاة يقتضي الاجزاء وعدم الاعادة ، فيكون مُقتضى الاستصحاب بالأخرة : عدم الاعادة لكن بضميمة قاعدة الاجزاء ، ولهذا علّل الإمام عليه السلام عدم الاعادة بالاستصحاب .

( وفيه : أنّ ظاهر قوله ) عليه السلام : ( « فليس ينبغي (1) ) لك أن تنقض اليقين بالشك » ( يعني : ليس ينبغي لك الاعادة ، لكونه نقضا ) أي : لكون وجوب الاعادة نقضا للاستصحاب مباشرة فلا ينبغي لك الاعادة .

إذن : فظاهر الرواية : أن الاعادة بنفسها نقض لليقين بالشك ، لا أنها نقض للأمر الظاهري ، ونقض الأمر الظاهري ينتهي الى نقض اليقين بالشك .

والحاصل : إنّكم قلتم : عدم الاعادة ينتهي بالأخرة الى الاستصحاب ، فيرد على كلامكم : ان ظاهر كلام الإمام عليه السلام هو : ان عدم الاعادة من آثار الاستصحاب مباشرة لا بضميمة قاعدة الاجزاء ( كما أنّ ) ظاهر ( قوله عليه السلام في الصحيحة ) الاُولى : ( « لا ينقُض اليقين أبدا بالشك » (2) : عدم إيجاب إعادة الوضوء ) مباشرة .

وعليه : فكما إن عدم إيجاب إعادة الوضوء هناك كان أثرا للاستصحاب مباشرة ، فكذلك يلزم أن يكون عدم إيجاب إعادة الصلاة هنا أثرا للاستصحاب

ص: 241


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

ودعوى : « أنّ من آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة وعدم وجوب الاعادة لها ، فوجوب الاعادة نقضٌ لآثار الطهارة السابقة » .

مدفوعةٌ : بأنّ الصحّة الواقعيّة وعدم الاعادة للصلاة

-------------------

مباشرة أيضا ، لا أثر الاستصحاب بواسطة قاعدة الاجزاء .

( فافهم ، فانّه ) أي : عدم فهمنا لصحة تعليل عدم الاعادة بعدم النقض ( لا يخلو عن دقّة ) وإن لم ندركها نحن ، فيلزم على ذلك أن نرد علم التعليل في هذه الرواية اليهم عليه السلام .

هذا ، ولكن لا يخفى : إن عدم فهمنا للتعليل لا يضرّ بحجية الاستصحاب ، إذ ربما يعلّل شيء بشيء وتكون العلّة حجة وإن لم نفهم نحن كيف صارت هذه العلّة علّة لهذا المعلول ؟ وذلك كما إذا قال المولى - مثلاً - أكرم العلماء لأن الأرض كرويّة ، فإن وجوب إكرام العلماء ثابت وإن لم نفهم نحن الربط لعلّية كرويّة الأرض بإكرام العلماء ؟ .

وهناك توجيه آخر لتعليل الإمام عدم الاعادة بالاستصحاب أشار اليه المصنِّف بقوله : ( ودعوى : « أنّ من آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة وعدم وجوب الاعادة لها ) أي : للصلاة إذ لو وجبت الاعادة كان معناه : عدم إجزاء الصلاة ، وعدم الاجزاء إنّما يكون لو لم يكن الاستصحاب حجة ، وحيث كان الاستصحاب حجة لم تكن إعادة ، ولذا علّل الإمام عدم الاعادة بالاستصحاب كما قال : ( فوجوب الاعادة نقضٌ لآثار الطهارة السابقة » ) وحيث إن الاستصحاب يقول : لا تنقض آثار الطهارة السابقة فلا إعادة .

لكن هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الصحّة الواقعيّة وعدم الاعادة للصلاة

ص: 242

مع الطهارة المتحققة سابقا من الآثار العقلية غير المجعولة للطهارة المتحققة لعدم معقولية عدم الاجزاء فيها ، مع أنّه

-------------------

مع الطهارة المتحققة سابقا ) حسب الاستصحاب إنّما هي ( من الآثار العقلية غير المجعولة للطهارة المتحققة ) فإن العقل هو الذي يحكم بعدم الاعادة عند تحقق الطهارة واقعا أو ظاهرا ، وذلك ( لعدم معقولية عدم الاجزاء فيها ) أي : في الصلاة مع الطهارة .

وإنّما لا يعقل عدم الاجزاء فيها لأنه بعد إنطباق المأتي به على المأمور به يسقط الأمر ، ومع سقوط الأمر لا يعقل وجوب الاعادة ، فالصحة وعدم الاعادة من الآثار العقلية غير المجعولة ، وقد عرفت : إن الآثار العقلية لا تثبت بالاستصحاب .

والحاصل : إن الدعوى تقول : إن من آثار الطهارة السابقة هو : عدم وجوب الاعادة لأنّ في الاعادة نقضا لآثار الطهارة المستصحبة ، فيصح تعليل عدم وجوب الاعادة بعدم جواز نقض اليقين بالشك الذي هو الاستصحاب ، فردّ عليه المصنِّف بما حاصِلَهُ : إن عدم وجوب الاعادة ليس من الآثار الشرعية بل من الآثار العقلية للمستصحب فلا يثبت بالاستصحاب .

وبعبارة أخرى : إن الطهارة إن كانت من الشرائط الواقعية للصلاة ، فلا يجدي استصحابها بعد إنكشاف خلافها ، وإن كانت من الشرائط العلمية ، بأن كان شرط صحة الصلاة عدم العلم بالنجاسة حين إيقاعها ، فلا معنى لاستصحاب صحة الصلاة ، إذ لا حاجة للاستصحاب حينئذٍ ، بل يكفي عدم علمه بالنجاسة .

هذا ( مع أنّه ) لو قلنا بعدم وجوب إعادة الصلاة لاجل استصحاب الطهارة السابقة في خصوص ما إذا رأى نجاسة بعد الفراغ دون الأثناء ، فانه يلزم منه اضافة

ص: 243

يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة مع النجاسة فلا يُعيد ، وبين وقوع بعضها معها فيُعيد ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام بعد ذلك : « وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته » إلاّ أن يحمل هذه الفقرة ، كما استظهر شارح الوافية ، على ما لو عَلِم الاصابة وشك في موضعها ولم يغسلها نسيانا ، وهو مخالفٌ لظاهر الكلام

-------------------

الى الاشكال الأوّل الذي دفعنا به الدعوى إشكال ثانٍ هو : التفكيك بين متلازمين .

وإنّما يلزم منه ذلك لأن هذا الكلام ( يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة مع النجاسة فلا يُعيد ) حسب ما قاله الإمام عليه السلام ( وبين وقوع بعضها معها ) أي : مع النجاسة ( فيُعيد : كما هو ظاهر قوله عليه السلام بعد ذلك ) أي : بعد العبارة المتقدمة : ( « وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته » ) في الاثناء ، مع إنه لو كان عدم الاعادة لأجل استصحاب الطهارة ، كان عدم الاعادة في الاثناء بطريق أولى ، فالفرق بينهما على القول بالاستصحاب يستلزم التفكيك بين المتلازمين .

( إلاّ أن يحمل هذه الفقرة ) أي : فقرة إعادة الصلاة في الاثناء ( كما استظهر شارح الوافية ) السيد الصدر الشارح لوافية التوني ( على ما لو عَلِم ) اجمالاً ( الاصابة ) أي : اصابة النجس ثوبه ( وشك في موضعها ولم يغسلها نسيانا ) فرآها في الأثناء ، حتى تكون صلاته باطلة من جهة نسيان النجاسة .

( و ) لكن هذا الحمل ( هو مخالفٌ لظاهر الكلام ) الذي قاله عليه السلام : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته» (1) فإن ظاهر هذه الفقرة هو : إنه لم يعلم بالنجاسة قبل الصلاة وإنّما شك في النجاسة .

ص: 244


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

وظاهر قوله بعد ذلك : « وإن لم تشك ثم رأيته » ، الى آخره .

والثاني : أن يكون مورد السؤال : رؤية النجاسة بعد الصلاة مع إحتمال وقوعها بعدها .

فالمراد

-------------------

( و ) مخالف أيضا مع ( ظاهر قوله ) عليه السلام : ( بعد ذلك : « وإن لم تشك ثم رأيته » (1) ، الى آخره ) حيث إنه كما ترى ظاهر في الشك البدوي .

وعليه : فقد ظهر من مجموع ما ذكرناه : انا لا نفهم وجه تعليل الرواية عدم وجوب الاعادة بالاستصحاب .

ثم إن المصنِّف بعد أن تعرّض لفقه الحديث في صحيحة زرارة الثانية ، وذكر الوجه الأوّل من وجهي الاستدلال بها ، حيث كان مورد السؤال فيها : رؤية النجاسة بعد الصلاة وهو يعلم بأنها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ، بدأ في بيان الوجه الثاني فقال : ( والثاني : أن يكون مورد السؤال : رؤية النجاسة بعد الصلاة مع إحتمال وقوعها بعدها ) أي : وقوع النجاسة بعد الصلاة .

وعليه : فإن رؤية النجاسة هنا لم تكن كما في الوجه الأوّل حيث كان هناك يعلم بأنها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ، حتى إنه لم يحتمل وقوعها عليه بعدها ، بينما هنا في الوجه الثاني يحتمل وقوعها عليه بعد الصلاة أيضا ، وذلك بأن أتمّ الصلاة ثم رأى نجاسة على ثوبه مما يحتمل إصابة هذه النجاسة ثوبه قبل الصلاة ، أو في أثنائها ، أو بعد الصلاة .

وعلى هذا الوجه ( فالمراد ) من تعليل الإمام عليه السلام عدم وجوب الاعادة

ص: 245


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب209 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

أنّه ليس ينبغي أن ينقض يقين الطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة .

وهذا الوجه سالمٌ ممّا يرد على الأوّل ، إلاّ أنّه خلافُ ظاهر السؤال .

نعم ، مورد قوله عليه السلام أخيرا : « فليس ينبغي لك » ، الى آخره ، هو الشك

-------------------

بالاستصحاب هو : ( أنّه ليس ينبغي أن ينقض يقين الطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة ) .

إذن : فمجرد احتمال النجاسة حال الصلاة لا يكفي لنقض اليقين بالطهارة قبل الصلاة ، لأن المفروض : ان اليقين بالنجاسة قد حصل من وجود النجاسة بعد الصلاة ، فلا يقين بحصول النجاسة قبل الصلاة ، ولا في أثنائها ، فيستصحب الطهارة قبل الصلاة ويستمر الاستصحاب حتى بعد الصلاة ، فلا اعادة إذن ، للاستصحاب .

( وهذا الوجه ) الثاني من تعليل عدم وجوب الاعادة للاستصحاب كما رأيت ( سالم ممّا يرد على ) الوجه ( الأوّل ) من إشكال : إنه نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشك وغير ذلك ( إلاّ أنّه ) مصاب من جهة أخرى باشكالين هما كالتالي :

أولاً : إن هذا الفرض على الوجه الثاني هو ( خلافُ ظاهر السؤال ) فإن ظاهر السؤال في الرواية هو : ان النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي التي شك فيها أولاً بحيث لم يحتمل معها وقوع النجاسة بعد الصلاة .

ثانيا : إن عدم وجوب الاعادة حتى على هذا الوجه إنّما هو لموافقة الأمر وليس للاستصحاب .

( نعم ، مورد قوله عليه السلام أخيرا : « فليس ينبغي لك » (1) ، الى آخره ، هو الشك

ص: 246


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

في وقوعه أوّلَ الصلاة أو حين الرؤية ، ويكون المراد من قطع الصلاة الاشتغال عنها بغسل الثوب مع عدم تخلّل المنافي لا إبطالها ، ثم البناء عليها الذي هو خلاف الاجماع ، لكن تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخّر الوقوع

-------------------

في وقوعه أوّل الصلاة أو حين الرؤية ) أي: في الأثناء فيندفع به حينئذ الاشكال الأوّل: من إنه خلاف ظاهر السؤال ، إلاّ إنه يبقى الاشكال الثاني على حاله ، وهو : ان عدم وجوب الاعادة ، إنّما يكون لموافقة الأمر لا للاستصحاب على ما مرّ سابقا .

( و ) كيف كان : فإنه ( يكون المراد من قطع الصلاة ) على الوجه الثاني هو : ( الاشتغال عنها ) بأن يترك الصلاة تركا موقتا ويشتغل ( بغسل الثوب مع عدم تخلّل المنافي ) كما إذا كان حوض من الماء الكرّ أمامه وتمكن أن يغسل ثوبه فيه حيث لايكون ذلك من الفعل الكثير الماحي لصورة الصلاة .

إذن : فالمراد من قطع الصلاة حينئذ هو الاشتغال عنها ( لا إبطالها ) بارتكاب المنافي لها ( ثم البناء عليها ) أي : على الصلاة ، وذلك بأن يأتي ببقية الصلاة بعد إبطالها ( الذي هو ) أي : البناء بعد الابطال ( خلاف الاجماع ) فإن الاجماع قام على عدم صحة البناء على الصلاة بعد إبطالها ، بل يجب الاستيناف بعد الابطال .

( لكن ) مع هذا كلّه لا يستفاد من هذه الفقرة حينئذ حجية الاستصحاب مطلقا ، بل تختص حجيته على ذلك بباب الطهارة فقط .

وإنّما لا يستفاد منها ذلك ، لأن ( تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخّر الوقوع ) وذلك في قوله عليه السلام : « لعلّه شيء أوقع عليك » حيث فرّع عليه قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » ، فإنّ هذا التفريع بحرف الفاء

ص: 247

يأبى عن حمل اللام على الجنس ، فافهم .

ومنها صحيحة ثالثة لزرارة :

-------------------

ممّا ( يأبى عن حمل اللام على الجنس ) بل يكون للعهد ، فيختص بحجية الاستصحاب في باب الطهارة فقط .

والحاصل : إن الإمام عليه السلام قال في جواب من رأى نجاسة بعد الصلاة : إنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، ثم فرّع عليه قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » وهذا التفريع يأبى عن أن يكون اللام في اليقين للجنس حتى يفيد العموم ويصير دليلاً على الاستصحاب مطلقا .

بل الظاهر إنّ اللام فيه للعهد ، لأنّ اللام في الفرع غالبا يكون إشارة الى الأصل ، فالمعنى : ليس ينبغي لك نقض اليقين بطهارتك بالشك .

إذن : فلا يكون هنا عموم حتى يقال : إنه يدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

( فافهم ) ولعله إشارة الى إنه لو لم يكن مراد الإمام عليه السلام من التعليل في الرواية : تأسيس قاعدة كلّية ، لزم تعليل الشيء بنفسه لا بأمر مرتكز عند العقلاء ، مع إنه إنّما يصح التعليل هنا بأن يكون بأمر ارتكازي عقلائي وهو : قاعدة كلّية لحجية الاستصحاب مطلقا ، أمّا تعليل الشيء بنفسه : فهو خلاف البلاغة ، كما أشرنا الى مثل ذلك في الرواية السابقة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب : ( صحيحة ثالثة لزرارة ) وهي مروية عن أحد الباقرين عليهماالسلام ، فإنه قال : قلت له : من لم يدرِ في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز ثنتين ؟ قال عليه السلام : ليركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه ثم أضاف :

ص: 248

« وإذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد أحرز الثلاثَ ، قامَ فأضاف اليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا يَنقُضُ اليقينَ بالشك ، ولا يُدخِل الشكَّ في اليقين ، ولا يُخَلِّطُ أحدهُما بالآخر ، ولكنّه ينقُضُ الشكّ باليقينِ ويُتمُّ على اليقين فيَبني عليه ولا يعتدُّ بالشكِّ في حالٍ من الحالات » .

وقد تمسّك بها في الوافية ، وقرّره الشارحُ وتبعه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه .

وفيه تأمّل ،

-------------------

( « وإذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد أحرز الثلاثَ ) بمعنى : إن المشكوك هي الركعة الرابعة فقال عليه السلام : ( قامَ فأضاف اليها أخرى ) وسيأتي : إن المراد ركعة احتياطية منفصلة لا ركعة متصلة .

ثم قال عليه السلام : ( ولا شيء عليه ) بعدها ، فلا يحتاج الى الاعادة بعد ذلك ( ولا ينقُض اليقينَ بالشك ، ولا يُدخِل الشكَّ في اليقين ، ولا يُخَلِّطُ أحدهُما بالآخر ، ولكنّه ينقُضُ الشكّ باليقينِ ويُتمُّ على اليقين فيَبني عليه ) أي : على اليقين ( ولا يعتدُّ بالشكِّ في حالٍ من الحالات » (1) ، و ) هذه الرواية ( قد تمسّك بها في الوافية ، وقرّره الشارحُ وتبعه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه ) حيث قالوا : إنها تدلّ على حجية الاستصحاب .

( وفيه تأمّل ) لأن هذه الرواية : إما هي ظاهرة في خلاف الاستصحاب ، وإمّا هي محتملة للاستصحاب ولغير الاستصحاب بحيث تكون مجملة ، وفي كلتا الصورتين لا يمكن التمسك بها للاستصحاب .

اللّهم إلاّ أن يقال : أن الرواية تدلّ على لزوم العمل باليقين دائما وإن اختلفت

ص: 249


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

لأنّه إن كان المرادُ بقوله عليه السلام : « قام فأضاف اليها أخرى » : القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ، حتى يكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل ، فهو مخالف للمذهب وموافق لقول العامّة ،

-------------------

موارده ، فالعمل باليقين في مورد الاستصحاب ، هو الأخذ بالحالة السابقة ، والعمل باليقين في مورد الرواية هو ركعة الاحتياط .

إذن : فالرواية اشتملت على كبرى كلّية تشمل الاستصحاب وغير الاستصحاب ، وصغرى جزئية هي الاحتياط في مورد الصلاة ، ولعل هذا الاحتمال هو الظاهر من الرواية عرفا .

وكيف كان : فإن المصنِّف قد احتمل في هذه الرواية احتمالات ، وانتهى بالاخرة الى التأمل في دلالتها على الاستصحاب .

وإنّما انتهى الى ذلك ( لأنّه إن كان المرادُ بقوله عليه السلام : « قام فأضاف اليها أخرى » : القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة حتى يكون حاصلُ الجواب ) منه عليه السلام ( هو البناء على الأقل ) كما هو مقتضى الاستصحاب لأن الأقل متيقن والرابعة مشكوكة ، فيستصحب عدم الاتيان بالرابعة ، فيأتي بالركعة الرابعة متصلة ، فإنه إن كان هذا هو المراد من الرواية ورد عليه ما يلي :

أولاً : ( فهو مخالفٌ للمذهب ) لأن فقهاء الشيعة ذهبوا الى إنه لا يستصحب في الصلاة ، وإنّما يأتي بالركعة الاحتياطية أو بالركعتين الاحتياطيتين منفصلة عن الصلاة .

ثانيا : ( وموافقٌ لقول العامّة ) حيث إن العامة قالوا بالاستصحاب في الصلاة ،

ص: 250

ومخالف لظاهر الفقرة الاُولى من قوله عليه السلام : « يركع ركعتين بفاتحة الكتاب » ، فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المرادُ به : القيامَ

-------------------

فإذا كانت هذه الرواية مخالفة للمذهب وموافقة للعامة ، فلابد من حملها على التقيّة مع العلم بأن الأصل عدم التقية ما دام يمكننا توجيه الرواية بما يوافق المذهب .

ثالثا : ( ومخالفٌ ) أيضا ( لظاهر الفقرة الاُولى من قوله عليه السلام : « يركع ركعتين بفاتحة الكتاب » ) على ما عرفت في صدر الرواية .

وإنّما يكون مخالفا لظاهر الصدر لأنه كما قال : ( فإنّ ظاهره ) أي : ظاهر الصدر في الرواية ( بقرينة تعيين الفاتحة ) وعدم التخيير بينها وبين التسبيحات ( إرادة ) البناء على الأكثر في الشك بين الثنتين والأربع ثم يسلّم وبعد التسليم يصلّي ( ركعتين منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ) .

وعليه : فكما إنه إذا شك بين الثنتين والأربع يسلّم ثم يأتي بركعتي الاحتياط بعد الصلاة كل ركعة بفاتحة الكتاب ، كذلك إذا شك بين الثلاث والأربع يتمّ ويأتي بركعة الاحتياط بعد الصلاة بفاتحة الكتاب .

إذن : فصدر الرواية يكون قرينة على ان المراد باليقين هو : أن يعمل عملاً يتيقن منه بصحة صلاته ، لا ان المراد هو الاستصحاب .

وعليه : فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا .

إذن : فلا يصح أن يكون المراد بقوله عليه السلام : قام فأضاف اليها أخرى القيام

للركعة الرابعة من دون تسليم ، وإذا كان كذلك ( فتعيّن أن يكون المرادُ به : القيامَ

ص: 251

بعد التسليم في الركعة المردّدة الى ركعة مستقلّة ، كما هو مذهب الاماميّة .

فالمراد باليقين كما في اليقين الوارد في الموثَّقة الآتية ، على ما صرح به السيد المرتضى واستفيد من قوله عليه السلام ، في أخبار الاحتياط : « إن كنتَ قد نقضت فكذا ، وإن كنت قد أتممت فكذا » ،

-------------------

بعد التسليم في الركعة المردّدة ) وذلك بأن يقوم بعد التسليم ( الى ركعة مستقلّة ) يقرء فيها الحمد ( كما هو مذهب الاماميّة ) .

وعليه : ( فالمراد باليقين ) في قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » الى آخره : ليس هو اليقين السابق بعدم الاتيان بالأكثر ، لأن مقتضى ذلك اليقين الاستصحابي هو : أن يأتي بالركعة متصلة لا منفصلة ، بينما المراد به هنا أن يأتي بالركعة منفصلة لامتصلة .

إذن : فالمراد باليقين في الرواية هو ( - كما في اليقين الوارد في الموثَّقة الآتية ) عند قوله عليه السلام : « إذا شككت فأبْنِ على اليقين » (1) حيث أريد باليقين : أن يأتي بالركعة منفصلة ( على ما صرح به السيد المرتضى واستفيد من قوله عليه السلام في أخبار ) صلاة ( الاحتياط : « إن كنتَ قد نقضت فكذا ، وإن كنت قد أتممت فكذا » (2) ) .

والحاصل : إن المتردّد بين الثلاث والأربع - مثلاً - يبني على الأكثر ويتمّ الصلاة ، ثم يأتي بركعة احتياط منفصلة وتصح صلاته على كل حال ، بخلاف ما إذا بنى على الأقل وأتى بركعة متصلة ، وذلك لأنه إن أتى بالركعة منفصلة : فإن كان سلّم على الثلاث إلتحقت هذه الركعة المنفصلة بالثلاث فتمّت أربع ركعات وصحّت صلاته ، وإن كان سلَّم على الأربع كانت هذه الركعة نافلة ، فتصح صلاته على التقديرين .

ص: 252


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .

هو اليقين بالبرائة ، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبرائة ، بالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه .

وقد اُريد من اليقين والاحتياط في غير واحد من الأخبار

-------------------

بخلاف ما إذا استصحب الأقل وأتمّ الصلاة بالركعة متصلة ، فإنه لا تصح صلاته على كل حال ، لأنه يحتمل أن يكون قد أتى حين الشك بأربع ركعات ، فتكون هذه الركعة المتصلة موجبة لأن تكون صلاته خمس ركعات وهي باطلة .

إذن : فالمراد باليقين في الرواية : التيقّن بوقوع الصلاة صحيحة على كل حال .

وعليه : فقد ظهر : أن اليقين في الرواية ليس هو الاستصحاب ، بل ( هو اليقين بالبرائة ) على كل حال ( فيكون المراد وجوب الاحتياط ) بركعة منفصلة ( وتحصيل اليقين بالبرائة بالبناء على الأكثر ) في داخل الصلاة .

مثلاً : إذا شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وأتمّ الصلاة ثم أتى بركعة منفصلة ، وهذه الطريقة لا تضرّ بصلاته بل تتدارك نقصانها كما قال :

( وفعل صلاة مستقلّة ) وهي الركعة الاحتياطية ( قابلة لتدارك مايحتمل نقصه ) لأن المحتمل نقصه في المقام هو ركعة ، فإذا كان في الواقع صلاته ناقصة التحقت هذه الركعة الاحتياطية المنفصلة بالثلاث التي أتى بها فصارت أربع ركعات وتمّت صلاته .

( و ) هذا المعنى مع قطع النظر عن إنه موافق لمذهب الشيعة ، بخلاف إرادة الاستصحاب الذي هو مطابق لمذهب العامة في باب ركعات الصلاة ، هو الذي ( قد اُريد من اليقين والاحتياط في غير واحد من الأخبار ) أي : من أخبار صلاة الاحتياط .

ص: 253

هذا النحو من العمل ، منها : قوله عليه السلام في الموثّقة الآتية : « إذا شككت فابْنِ على اليقين » .

فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين وعدم نقضه ، يراد منها : البناء على ما هو المتيقن من العدد ، والتسليم عليه مع جبره بصلاة الاحتياط .

ولهذا

-------------------

وعليه : فاليقين في اخبار الاحتياط أريد به ( هذا النحو من العمل ) وهو الاتيان بركعة منفصلة والتي ( منها : قوله عليه السلام في الموثّقة الآتية : « إذا شككت فابْنِ على اليقين » (1) ) فإنه قد فسّر في الفقه بما ذكرناه : من ركعة الاحتياط المنفصلة .

إذن : ( فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين ) كالموثقة وغيرها ( وعدم نقضه ) كالصحيحة الثالثة لزرارة (2) وغيرها ( يراد منها : البناء على ما هو المتيقن من العدد ) كالثلاث حيث كان الشك بين الثلاث والأربع ( والتسليم عليه ) أي : على هذا المتيقّن ( مع جبره بصلاة الاحتياط ) .

ومن المعلوم : إن مراد المصنِّف من البناء على ما هو المتيقن من العدد ، ليس هو البناء على الأقل ، بل هو البناء على مكان الشك ، ولذلك لو غيّر العبارة فقال : هذه الأخبار يراد منها البناء على الأكثر والتسليم عليه ثم جبره بصلاة الاحتياط ، لكان أوضح .

( ولهذا ) أي : لكون هذا العمل وهو : التسليم في مورد الشك ثم اضافة ركعة

ص: 254


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ العمل مُحْرِزٌ للواقع ، مثل: قوله عليه السلام : « ألا اُعَلِمُكَ شيئا إذا فعلته ، ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت لم يكُن عليك شيءٌ » .

وقد تصدّى جماعةٌ تبعا للسيد المرتضى ، لبيان أنّ هذا العمل هو الأخذُ باليقين والاحتياط دون ما يقوله العامّة من البناء على الأقل . ومبالغةُ الإمام عليه السلام ، في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء بالشك ، وبتسمية ذلك في غيرها

-------------------

أخرى منفصلة هو المراد ( ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ ) هذا ( العمل مُحْرِزٌ للواقع ) وأن المصلّي يقطع معه بأنه قد صلّى أربع ركعات مثلاً عند الشك بين الثلاث والأربع ، وذلك ( مثل : قوله ) عليه السلام في الرواية التالية : ( « ألا اُعَلِمُكَ شيئا إذا فعلته ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت لم يكُن عليك شيءٌ » (1) ) ثم علّمه عليه السلام هذه الطريقة بأن يسلّم في موضع الشك ، ثم يضيف ركعة منفصلة .

( وقد تصدّى جماعة ) من الفقهاء ( تبعا للسيد المرتضى ، لبيان أنّ هذا العمل ) أي : السلام في موضع الشك ثم الاتيان بركعة منفصلة ( هو الأخذُ باليقين والاحتياط ) يعني : هو الذي يكون مقتضى الاحتياط .

( دون ما يقوله العامّة من ) الاستصحاب وهو : ( البناء على الأقل ) فإن العامة يقولون : إذا شك المصلّي بين الثلاث والأربع يبني على أنه قد صلّى ثلاث فقط ، فيأتي بالركعة الرابعة متصلة للاستصحاب .

هذا ( ومبالغةُ الإمام عليه السلام في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء بالشك ) حيث ذكره سبع مرات ( و ) كذا مبالغته عليه السلام ( بتسمية ذلك ) العمل ( في غيرها )

ص: 255


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .

بالبناء على اليقين ، والاحتياط ، يُشعِرُ بكونه في مقابل العامّة الزاعمين بكون مقتضى البناء على اليقين هو البناء على الأقل وضمّ الركعة المشكوكة .

-------------------

أي : غير الصحيحة من سائر أخبار شكوك الصلاة ( بالبناء على اليقين ، و ) بأنه مقتضى ( الاحتياط ، يُشعِرُ بكونه في مقابل العامّة الزاعمين بكون مقتضى البناء على اليقين هو : البناء على الأقل وضمّ الركعة المشكوكة ) الى الصلاة متصلة .

وعليه : فإن كل ذلك يشير الى أنّ مراد الإمام عليه السلام هو التأكيد في قبال العامّة وإلاّ لم يكن احتياجا الى تكرار هذا المطلب بهذه الكثرة .

إذن : فالبناء إن كان على الأقل وإتيان ركعة متصلة فهو بناء على اليقين بمعنى اليقين السابق الاستصحابي ، لا بمعنى اليقين بالبرائة ، وإن كان على الأكثر وإتيان ركعة احتياط منفصلة بعد التسليم فهو بمعنى البناء على اليقين بالبرائة .

وعليه : فمعنى الحديث حينئذ واللّه أعلم : لا ينقض اليقين بأن عليه أربع ركعات بالشك في أنه أتى بأربع أو خمس ، ولا يدخل الشك من الركعة المشكوكة في اليقين الذي هو أربع ركعات ، ولا يخلط المشكوك بالمتيقن والمتيقن بالمشكوك ، ولكنه ينقض الشك في الرابعة باليقين باتيانها منفصلة ، ويتم على اليقين بأن يتيقن أنه أتى بأربع ركعات صحيحة ، فيبني على اليقين وأنه أتى بأربع ركعات من دون زيادة أو نقيصة ، وذلك يكون بالركعة المنفصلة ، ولا يعتدّ بالشك بما هو مشكوك أبدا ، لأن المكلّف به اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية .

وربّما يقال : ان فقرات محل البحث ذكرت مكررا سبع مرات ثلاث منها سِلْبيّات وهي : لا يدخل الشك في اليقين ، ولا اليقين في الشك ، ولا أحدهما

ص: 256

ثم لو سلّم ظهور الصحيحة في البناء على الأقل المطابق للاستصحاب ، كان هناك صوارفُ عن هذا الظاهر ، مثل تعيّن حملها حينئذ على التقيّة ، وهو مخالف للأصل .

ثم ارتكاب الحمل على التقيّة

-------------------

في الآخر ، وثلاث منها إيجابيات وهي : يجعل الشك في محله ، واليقين في محله ، وكل واحد منهما في محله .

ومن المعلوم : إن الفقرة الثالثة من الايجابيات والثالثة من السلبيات تأكيد للفقرتين السابقتين عليهما .

ثم ذكر عليه السلام في السابع قاعدة كلية حيث قال : ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات .

( ثم ) إنك قد عرفت : أن المصنِّف لا يرى للصحيحة ظهورا في الاستصحاب أصلاً ، بل يقول بظهورها في اليقين بالبرائة في باب صلاة الاحتياط على التقرير المتقدم ، ولذلك قال : و ( لو سلّم ظهور الصحيحة ) الثالثة لزرارة ( في البناء على الأقل المطابق للاستصحاب ، كان هناك صوارفُ عن هذا الظاهر ) وقرائن توجب اختصاص الصحيحة بقاعدة اليقين في باب الركعات دون الاستصحاب ، والقرائن الصارفة هي كالتالي :

القرينة الاُولى هي ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مثل تعيّن حملها حينئذ على التقيّة ) أي : لو فرضنا إنها تدلّ على الاستصحاب لوجب أن نحملها على التقية ( وهو مخالف للأصل ) فإن الأصل في كلام الشارع أن يكون لبيان الحكم واقعا ، لا لبيان الحكم تقيةً .

القرينة الثانية : هي ما أشار اليها بقوله : ( ثم ارتكاب الحمل على التقيّة

ص: 257

في مورد الرواية ، وحمل القاعدة المستشهد بها لهذا الحكم المخالف للواقع على بيان الواقع ، ليكون التقيّة في اجراء القاعدة في المورد ، لا في نفسها ، مخالفةٌ أخرى للظاهر وإن كان ممكنا في نفسه .

مع أنّ هذا المعنى مخالفٌ لظاهر صدر الرواية الآبي عن الحمل على التقيّة ،

-------------------

في مورد الرواية ، وحمل القاعدة ) وهي : عدم نقض اليقين بالشك ( المستشهد بها لهذا الحكم المخالف للواقع على بيان الواقع ليكون التقيّة ) في الحكم و ( في اجراء القاعدة في المورد ، لا في نفسها ) أي : لا في نفس القاعدة ( مخالفةٌ أخرى للظاهر ) .

وإنّما يكون ذلك مخالفة أخرى للظاهر ، لأن الظاهر هو : إنطباق الكبرى في الرواية على الصغرى فيها ، بينما يقول المستدلّون بهذه الرواية للاستصحاب : إن الكبرى صحيحة لكن الصغرى من باب التقية بمعنى : إن الصغرى ليست صغرى لهذه الكبرى وإنّما جاء بها الإمام عليه السلام لهذه الكبرى من باب التقية .

وعليه : فإن هذا الحمل ( وإن كان ممكنا في نفسه ) إلاّ أنه خلاف الظاهر فهو مثل أن يقول شخص : زيد إمام والإمام مفروض الطاعة ، ويكون كبراه صحيحا لأن الإمام مفروض الطاعة ، لكن يكون صغراه تقية لأن زيدا ليس بامام ، وهذا كما ترى خلاف الظاهر .

القرينة الثالثة : هي ما أشار اليه بقوله : ( مع أنّ هذا المعنى ) أي : البناء على الأقل حسب مقتضى الاستصحاب ( مخالفٌ لظاهر صدر الرواية الآبي ) ذلك الصدر ( عن الحمل على التقيّة ) فقد سبق في صدر الرواية تعيين فاتحة الكتاب بالنسبة الى الشك بين الاثنتين والأربع ، وتعيين فاتحة الكتاب ظاهر في إن المراد

ص: 258

مع أنّ العلماء لم يفهموا منها إلاّ البناء على الأكثر ، الى غير ذلك مما يُوهِن إرادة البناء على الأقل .

وأمّا إحتمال : « كون المراد من عدم نقض اليقين بالشك

-------------------

هو : الركعتان المنفصلتان .

القرينة الرابعة : هي ما أشار اليه بقوله : ( مع أنّ العلماء لم يفهموا منها ) أي : من هذه الصحيحة ( إلاّ البناء على الأكثر ) لا البناء على الأقل الذي هو مقتضى الاستصحاب .

( الى غير ذلك ) من القرائن التي تؤيد : أن المراد باليقين هنا اليقين في باب الركعات لا اليقين في باب الاستصحاب فتكون الصحيحة مثل سائر الأخبار الواردة في شكوك الصلاة الآمرة بالبناء على الأكثر ( مما يُوهِن إرادة البناء على الأقل ) والأخذ بالاستصحاب .

ثم إنه قد تقدّم : إن الرواية مُحتملة للاستصحاب ، ومُحتملة لقاعدة اليقين في الصلاة ، وقلنا : أن الاحتمال الأوّل خلاف مذهب الشيعة ، فيتعين الحمل على الاحتمال الثاني ، وقد ذكر الفصول احتمالين آخرين :

الأوّل : أن يكون المراد بالصحيحة : كلاً من الاستصحاب والاتيان بركعة منفصلة .

الثاني : أن يكون المراد بها : الاستصحاب مطلقا في غير الصلاة وقاعدة اليقين في الصلاة خاصة .

هذا ، لكن المصنِّف مَنَعَ كلا الاحتمالين مشيرا الى الاحتمال الأوّل بقوله :

( وأمّا إحتمال : « كون المراد من عدم نقض اليقين بالشك ) هو : وجوب البناء على الأقل لأجل الاستصحاب بمعنى :

ص: 259

عدم جواز البناء على وقوع المشكوك بمجرّد الشكّ ، كما هو مقتضى الاستصحاب ، فيكون مفادُه عدم جواز الاقتصار على الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة .

-------------------

( عدم جواز البناء على وقوع المشكوك ) وتحققه خارجا ( بمجرّد الشكّ ، كما هو مقتضى الاستصحاب ) فإنه لا يجوز البناء على الأكثر ، والتسليم عليه بلا تدارك ، وإذا لم يجز ذلك تعيّن البناء على الأقل وهو معنى الاستصحاب .

إذن : فالصحيحة تشير الى البناء على الأقل ، ومذهب الامامية استقرَّ على البناء على الأكثر ويمكن الجمع بينهما إذ لا منافاة بين حمل الصحيحة على اعتبار الاستصحاب كلّية حتى في مورد الرواية مما يسبب حجية الاستصحاب مطلقا ، وبين ما استقر عليه مذهب الامامية من الاتيان بصلاة الاحتياط بأن يكون معنى الصحيحة هكذا :

بنى على الثلاث وسلّم عليه ، ثم قام فأضاف إليها ركعة أخرى منفصلة ، ولاينقض اليقين السابق بأنه صلّى ثلاث ركعات بالشك اللاحق في الرابعة ، ولا يخلط الركعة المشكوكة التي هي الرابعة بالمتيقّن ، بل يأتي بها منفصلة ، فتكون الرواية على ذلك متعرّضة لكبرى كلّية هي الاستصحاب ، وصغرى في باب الصلاة مبنيّة على تلك الكبرى الكلّية .

وعليه : ( فيكون مفادُه ) أي : مفاد عدم نقض اليقين بالشك هو : ( عدم جواز الاقتصار على الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ) فليس له أن يتمّ الصلاة بدون أن يأتي بشيء آخر ، لأن هذا هو خلاف الاستصحاب الذي يقول بأنه لم يأت بالركعة الرابعة .

ص: 260

وقوله : « لا يُدخِلُ الشكّ في اليقين » يرادُ به : أنّ الركعة المشكوك فيها المبني على عدم وقوعها لا يضمّها الى اليقين ، أعني : القدر المتيقّن من الصلاة ، بل يأتي بها مستقلّة على ما هو مذهب الخاصة » .

ففيه : من المخالفة لظاهر الفقرات السِتّ أو السبع ما لا يخفى على المتأمل .

-------------------

( و ) أما ( قوله : « لا يُدخِلُ الشكّ في اليقين » (1) ) فليس هو تأكيدا لعدم النقض ، بل ( يراد به : أنّ الركعة المشكوك فيها المبني على عدم وقوعها ) بالاستصحاب ( لا يضمّها الى اليقين أعني : القدر المتيقّن من الصلاة ) فلا يأتي بركعة رابعة متصلة ( بل يأتي بها مستقلّة على ما هو مذهب الخاصة » ) .

إذا كان هذا هو المراد منه ( ففيه : من المخالفة لظاهر الفقرات السِتّ ) وقال : الفقرات السِتّ ، بناءا على أن قوله : فيبني على اليقين متفرّع على سابقه ولم يكن فقرة مستقلة ( أو السبع ) بناءا على إنه فقرة مستقلة ( ما لا يخفى على المتأمل ) .

وإنّما فيه ما لا يخفى لأن الظاهر : كون جميع الفقرات بمعنى واحد ، وذلك بأن تكون الفقرات المتأخرة تأكيدا للفقرات المتقدّمة ، أما على هذا الاحتمال فتكون الفقرة الاُولى ناظرة الى حرمة نقض اليقين السابق ، والفقرة الثانية ناظرة الى وجوب صلاة الاحتياط منفصلة ، وهذا خلاف سياق الفقرات ، لأن السياق يعطي وحدة المستفاد منها ، وان بعضها تأكيدا لبعض ، لا ان بعضها حكم مستقل وبعضها الآخر مستقل آخر .

ص: 261


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فإنّ مقتضى التدبّر في الخبر أحدُ معنيين ، أمّا الحملُ على التقيّة ، وقد عرفت : مخالفته للاصول والظواهر ؛ وأمّا حملُه على وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه الأحوط .

وهذا الوجه وإن كان بعيدا في نفسه ، لكنّه منحصرٌ بعد عدم إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب ، ولا أقلّ من مساواته لما ذكره هذا القائل ،

-------------------

وعليه : ( فإنّ مقتضى التدبّر في الخبر أحدُ معنيين ) مقتبس من جميع فقراته وهو كما قال :

( أمّا الحملُ على التقيّة ) كما تقدّم سابقا ، بأن يراد به : البناء على الأقل وضمّ الركعة الى تلك الركعات المُتيقّنة والأخذ بمقتضى الاستصحاب كما يقوله العامّة ( وقد عرفت : مخالفته للاصول والظواهر ) إذ الأصل كون اللفظ مسوقا لبيان الحكم الواقعي لا للاستصحاب المحمول على التقية ، كما إن الظاهر على ما عرفت في هذا الخبر وفي غير هذا الخبر : إفادة قاعدة الاحتياط لا قاعدة الاستصحاب .

( وأمّا حملُه على وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه الأحوط ) بأن يبني على الأكثر ويأتي بصلاة الاحتياط بعد السلام ( وهذا الوجه وإن كان بعيدا في نفسه ) لظهور لا تنقض في الاستصحاب لأنه يشبه سائر روايات الاستصحاب ، وعدم ظهوره في اليقين بالبرائة ( لكنّه منحصرٌ ) فيه ( بعد عدم امكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب ) لما عرفت : من أنه مخالف للاصول والظواهر .

( و ) إن أبيت ذلك ، فإنه ( لا أقلّ من مساواته لما ذكره هذا القائل ) من البناء

ص: 262

فيسقط الاستدلال بالصحيحة ، خصوصا على مثل هذه القاعدة .

وأضعف من هذا دعوى : « أنّ حملها على وجوب تحصيل اليقين في الصلاة بالعمل على الأكثر ، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة ، على ما هو فتوى الخاصة ، وصريح أخبارهم الاُخر لا ينافي إرادة العموم من القاعدة لهذا ، وللعمل على اليقين السابق في الموارد الأُخر » .

-------------------

على الأقل وصلاة الاحتياط فتكون الرواية على ذلك مجملة ولا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب .

وعلى أيّ حال : فسواء كانت الرواية بقرينة خارجية ظاهرة في قاعدة اليقين في باب الصلاة ، أم مجملة محتملة لقاعدة اليقين في باب الصلاة أو الاستصحاب ( فيسقط الاستدلال بالصحيحة ) لاجمالها ( خصوصا على مثل هذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب التي هي من القواعد الاصولية المهمّة .

( وأضعف من هذا ) الاحتمال الذي ذكره الفصول في الرواية احتمال ثان للفصول أيضا وهو الاحتمال الرابع حسب ما ذكره المصنِّف حيث تدلّ الرواية بسبب هذا الاحتمال على الاستصحاب أيضا ، وهو كما قال : ( دعوى : « أنّ حملها على وجوب تحصيل اليقين في الصلاة بالعمل على الأكثر ، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة ، على ما هو فتوى الخاصة ، وصريح أخبارهم الاُخر ) فإن هذا الحمل ( لا ينافي إرادة العموم من ) هذه ( القاعدة ) المذكورة في الرواية ، فتعمّ ( لهذا ) المورد وهو اليقين بالبرائة في الصلاة ( وللعمل على اليقين السابق في الموارد الأُخر » ) في غير الصلاة وهو الاستصحاب .

ص: 263

وسيظهر اندفاعُها ، بما سيجيء في الأخبار الآتية : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين وعدم نقضه .

-------------------

إذن : فالرواية تدلّ على أمر عام يشمل قاعدة اليقين في الصلاة ، كما يشمل الاستصحاب في غير الصلاة ، وذلك بأن يراد من قوله عليه السلام : لا ينقض اليقين بالشك (1) : الأعمّ من حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق وهو الاستصحاب في غير الصلاة ، ومن حرمة نقض اليقين بالبرائة بالشك في البرائة وهو اليقين في الصلاة .

هذا ( وسيظهر اندفاعها بما سيجيء في الأخبار الآتية : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين وعدم نقضه ) أي : عدم نقض اليقين بالشك على ما في الرواية .

إذن : فالمصنف لا يرى جامعا بين الاستصحاب في غير الصلاة ، وبين قاعدة اليقين في الصلاة حتى يتكفّله لفظ واحد ، وذلك لاختلاف المناط عنده فيهما ، فإن مناط أحدهما لحاظ الحالة السابقة ، ومناط الآخر هو دفع العقاب المحتمل .

هذا ، ولكن ذكرنا في أول هذا المبحث : أن مقتضى الظاهر هو الاحتمال الرابع ، بل لا نستبعد أن يراد بالرواية هذين الاحتمالين إضافة الى قاعدة اليقين أيضا ، فيكون المعنى : ان اليقين عند الشارع لا ينقض بالشك ، سواء في اليقين الاستصحابي ، أم في يقين قاعدة اليقين ، أم في يقين ركعات الصلاة ، غير إن الشارع أضاف في باب الركعات وجوب الاتيان بصلاة الاحتياط منفصلة .

وإن شئت قلت : إن كل ما ذكرناه في المراد من اليقين إنّما هو إرادة

ص: 264


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وممّا ذكرنا ظهر : عدم صحة الاستدلال بموثّقة عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إذا شككت فابْنِ على اليقين . قلتُ : هذا أصلٌ ؟ قال : نعم » .

فإنّ جعل البناء على الأقل أصلاً ينافي ما جعله الشارع أصلاً في غير واحد من الأخبار :

-------------------

الاستصحاب المرتكز عند العقلاء ، سواء كان البناء على الحالة السابقة في الشك الساري أم في الشك الطاري ، وسواء كان في الصلاة أم في غير الصلاة .

نعم ، قال : أضاف الشارع بالنسبة الى الصلاة اتيان صلاة الاحتياط منفصلة ، بحيث إنه لو لم يقل الشارع ذلك كان بنائهم الاتيان بها متصلة .

( وممّا ذكرنا ) من ان المراد من اليقين في الصحيحة هو : اليقين بالبرائة في الصلاة فقط ، لعدم امكان ارادة اليقين السابق ، لأنه استصحاب ولا يقول به الخاصة في الصلاة ( ظهر : عدم صحة الاستدلال بموثّقة عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إذا شككت فابْنِ على اليقين ) فإن المراد باليقين هنا هو التسليم ثم الاتيان بالركعة المشكوكة أو الركعتين المشكوكتين بعد التسليم والخروج من الصلاة .

ثم قال : ( قلتُ : هذا أصلٌ ؟ قال : نعم » (1) ) ومعنى كونه « أصلاً » : انه يجري في الصلاة ، سواء كان الشك في ركعة أم في ركعتين ، وسواء كانت الصلاة ظهرا أم عصرا أم عشاءا وذلك فيما إذا كانت تلك الصلوات تماما لا قصرا .

وإنّما لا يصح الاستدلال بهذه الموثَّقة على الاستصحاب لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ جعل البناء على الأقل أصلاً ) في هذه الموثَّقة دالاً على الاستصحاب (ينافي ما جعله الشارع أصلاً) دالاً على اليقين بالبرائة (في غير واحد من الأخبار)

ص: 265


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .

مثل قوله عليه السلام : « أجمَعُ لك السَّهو كُلَّه في كلمتين : متى شككت فابْنِ على الأكثر » ، وقوله عليه السلام فيما تقدّم : « ألا اُعلمك شيئا » الى آخر ما تقدّم .

فالوجهُ فيه : إمّا الحمل على التقيّة ،

-------------------

المرتبطة بشكوك الصلاة .

إذن : فما جعله الشارع أصلاً في غير واحد من أخبار شكوك الصلاة هو : التسليم على الأقل ثم الاتيان بالمشكوك في صلاة احتياط منفصلة ، فإذا كان المراد من اليقين في هذه الرواية الاستصحاب كان منافيا لتلك الروايات .

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن المراد بهذه الموثَّقة أيضا الاستصحاب ، وإنّما يفهم انفصال الركعة من الروايات الأخر .

وعلى أي حال : فالمصنف يرى إن هذه الموثَّقة إذا حُمِلَتْ على الاستصحاب والبناء على الأقل تنافت مع الروايات الأخر الواردة في باب الصلاة القائلة بالبناء على الأكثر ( مثل قوله عليه السلام : « أجمَعُ لك السَّهو كُلَّه في كلمتين : متى شككت فابْنِ على الأكثر » (1) ، و ) كذا مثل ( قوله عليه السلام فيما تقدّم : « ألا اُعلمك شيئا » (2) الى آخر ما تقدّم ) .

وعليه : ( فالوجهُ فيه ) أي : في حديث عمّار (3) هو : ( إمّا الحمل على ) الاستصحاب وذلك بالحمل على الأقل من باب ( التقيّة ) وهو كما أشار اليه المصنِّف خلاف الأصل ، وخلاف فهم الأصحاب ، وكذا خلاف سائر الأخبار في باب الصلاة .

ص: 266


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .

وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية : بارادة البناء على الأكثر ثم الاحتياط بفعل ما ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ، ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء .

نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثَّقة بشكوك الصلاة ، فضلاً عن الشك في ركعاتها ، فهو أصل

-------------------

( وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية : بارادة البناء على الأكثر ) فإذا شكّ بين الثلاث والأربع - مثلاً - يبني على الأربع ويتمّ الصلاة .

( ثم ) بعد الاتمام عليه ( الاحتياط بفعل ما ) يتيقّن معه بالبرائة ، وذلك لا يكون إلاّ باتيان ركعة منفصلة حيث ( ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ) اليها فتكون الركعة المنفصلة متمّمة للصلاة ( ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء ) عنها فتكون الركعة المنفصلة نافلة خارجة عن الصلاة .

( نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثَّقة ) أي : موثَّقة عمّار (1) ( بشكوك الصلاة فضلاً عن الشك في ركعاتها ) أي : إن الصحيحة السابقة (2) وإن كانت بنظر المصنِّف خاصة بشكوك الركعات ، إلاّ أن الموثَّقة هذه لا دلالة فيها على اختصاصها بالشك في الصلاة أو في خصوص ركعات الصلاة .

وعليه : فلا مانع من حملها حينئذ على بيان قاعدة كلّية للاستصحاب .

إذن : ( فهو ) أي : البناء على اليقين في الموثَّقة الظاهر في الاستصحاب ( أصل

ص: 267


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

كلّي خرج منه الشك في عدد الركعات ، وهي غير قادح .

لكن يَرِد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشك ، ولا المتيقن السابق على المشكوك اللاحق .

فهو

-------------------

كلّي خرج منه الشك في عدد الركعات وهي ) أي : خروج الشك في عدد الركعات من هذه القاعدة الكلّية ( غير قادح ) إذ ما من عام إلاّ وقد خصّ ، وما من مطلق إلاّ وقد قيّد .

( لكن يَرِد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشك ، ولا المتيقن السابق على المشكوك اللاحق ) وإذا لم يكن فيها ما يدلّل على أحدهما كانت الموثَّقة مُجملة لا يُعلم هل المراد بها الاستصحاب أو قاعدة اليقين؟ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الاستدلال لقاعدة اليقين بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : « من كان على يقين فشكّ فَلْيمض على يقينه » (1) .

وعليه : فإذا كانت الموثَّقة مُجملة فلا يمكن أن يتمسّك بها لا للاستصحاب ولا لقاعدة اليقين ، وقد تقدّم : ان مناط الاستصحاب هو : سبق المتيقن على المشكوك ، سواء تقدّم وصف اليقين على وصف الشك أيضا كما هو الغالب أم لا ؟ .

ومناط قاعدة اليقين هو : سبق وصف اليقين بشيء ولحوق وصف الشك في نفس ذلك المتيقن ، كما مثّلنا له سابقا باليقين بعدالة زيد يوم الجمعة والشك في يوم السبت بأنه هل كان عادلاً يوم الجمعة أم لا ؟ .

إذن : فالموثَّقة مُجملة على ما عرفت ، وإذا كان كذلك ( فهو ) أي : هذه الموثَّقة

ص: 268


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

أضعفُ دلالة من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق ، لاحتمالها لارادة إيجاب العمل بالاحتياط ، فافهم .

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : « مَن كان على يقين فشكَّ فَلْيمض على يقينه ، فإنّ الشك لا ينقض اليقين » .

-------------------

تكون حينئذ ( أضعف دلالة ) على الاستصحاب ( من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق ) المفيدة لقاعدة اليقين صراحة .

وإنّما كانت الموثَّقة أضعف دلالة من الرواية الآتية ( لاحتمالها ) أي : الموثَّقة ( لارادة ) اليقين بالبرائة في ركعات الصلاة فقط بمعنى : ( إيجاب العمل بالاحتياط ) على ما ذكرناه : من الاتيان بالركعة المنفصلة .

بخلاف الرواية الآتية فإنها ظاهرة في الشك الساري ، أو مردّدة بين الشك الطاري الاستصحابي ، والشك الساري الذي هو قاعدة اليقين ، كما سيأتي .

( فافهم ) ولعلّه إشارة الى ما ذكرناه : من أن الموثَّقة تشمل كل الثلاثة : الاستصحاب ، وقاعدة اليقين ، واليقين بالبرائة في الصلاة الذي هو من الاستصحاب أيضا غير أنه يلزم إنفصال صلاة الاحتياط بقرينة خارجية .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب : ( ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : « مَن كان على يقين فشكّ فَلْيمض على يقينه ، فإنّ الشك لا ينقض اليقين » (1) ) وهو يفيد الاستصحاب ، لأن الاستصحاب عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق .

ص: 269


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : « مَن كان على يقين فأصابه شكٌّ فليَمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يُدفَعُ بالشكِّ » .

وعدّها المجلسي في البحار في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلّية .

أقولُ : لا يخفى أنّ

-------------------

( وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : « مَن كان على يقين فأصابه شكٌّ فليَمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يُدفَعُ بالشّك » (1) ) وتقريب دلالته مثل تقريب دلالة سابقه .

هذا ( و ) قد ( عدّها ) أي : عدّ هذه الرواية المروية على نحوين ( المجلسي في البحار في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلّية ) فإنّ بعض الأخبار وردت لبيان أمور جزئية ، وبعض الأخبار وردت لبيان قواعد كلّية ، ولهذا ورد عنهم عليه السلام : علينا الأصول وعليكم الفروع (2) .

مثلاً : قد يقول الإمام عليه السلام : « إذا شككت بين الثنتين والثلاث فابْنِ على الثلاث » (3)، فهذا لا يُفهم منه قاعدة كلّية مطردة في باب الصلاة والصوم والحج وغير ذلك .

وقد يقول : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » (4) ، وهذا يفهم منه قاعدة كلّية مطردة في باب الطهارة والنجاسة والملكية وغيرها ؛ والمجلسي جعل هذه الرواية من القسم الثاني .

( أقولُ : لا يخفى أنّ ) هذه الرواية تحتمل وجهين :

ص: 270


1- - الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 .
2- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 و ص62 ب6 ح33202 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص353 ح7 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص184 ب23 ح34 وفي الاوّل (بين الثلاث والاربع) وفي الثاني (وقع رأيك على الثلاث) .
4- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

الشك واليقين لا يجتمعان حتى ينقض أحدُهما الآخر ، بل لابد من اختلافهما ، إمّا في زمان نفس الوصفين ، كأن يقطَع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمانٍ ثم يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان ،

-------------------

أحدهما : قاعدة الشك الساري المُسمّاة بقاعدة اليقين .

ثانيهما : قاعدة الاستصحاب التي تقدّم الكلام حولها .

وعليه : فإن هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها للاستصحاب ، لأنها - على ما عرفت - مجملة فلا نعلم هل تشمل هذه القاعدة أو تلك القاعدة ؟ .

وإذ قد علمت الاحتمالين نقول : إن ( الشك واليقين لا يجتمعان ) في زمان واحد على متعلق واحد لوضوح : إن اليقين : قَطْعٌ بالوجود أو العدم ، والشك : ترديد بين الوجود والعدم ، فلا يجتمعان ( حتى ينقض أحدهما الآخر ) لأنّ النقض إنّما يكون إذا اجتمعا في مكان واحد وحيث لا يجتمعان في مكان واحد لا يمكن لأحدهما نقض الآخر .

إذن : فالشك واليقين لا يجتمعان ( بل لابد من اختلافهما ) وهذا الاختلاف يكون بأحد وجهين :

( إمّا في زمان نفس الوصفين ) مع وحدة متعلقهما ( كأن يقطَع ) عمرو - مثلاً - ( يوم الجمعة بعدالة زيد في زمانٍ ) كيوم الجمعة ( ثم يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان ) أي : في عدالته في يوم الجمعة .

ويدعى هذا بقاعدة اليقين كما إنه يسمّى بالشك الساري أيضا ، لأنه كان يعلم بعدالته في يوم الجمعة وشك يوم السبت في نفس العدالة التي تيقّن بها يوم الجمعة .

وعليه : فملاك قاعدة اليقين هو : تعدّد زمان اليقين والشك ، وكون زمان اليقين

ص: 271

وإمّا في زمان متعلقهما وإن إتحد زمانُهما ، كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ويشك في زمان هذا القطع بعدالته في يوم السبت ، وهذا هو الاستصحاب ، وليس منوطا بتعدّد زمان

-------------------

مقدّما وزمان الشك مؤخرا ، مع وحدة متعلقهما ، كما مرّ في المثال السابق ، وكما لو إطمأن عمرو - مثلاً - في يوم الجمعة بأن زيدا عادل وطلّق أمامه ، ثم شك يوم السبت في مستند علمه وإنه هل كان المستند صحيحا أم لا ؟ فإن الشك في هذه الحالة يسري الى مكان القطع .

( وإمّا ) أن يكون الاختلاف ( في زمان متعلقهما وإن إتحد زمانهما ) أي : زمان الشك واليقين فإنه لا يشترط فيه اختلاف زمانهما ، ويدعى هذا بقاعدة الاستصحاب ، كما إنه يسمّى بالشك الطاري أيضا ، لأن الشك فيه لا يسري الى مكان القطع ، وإنّما يطرء بعد ذلك .

وعليه : فملاك الاستصحاب هو : تعدّد زمان المتيقن والمشكوك وكون زمان المتيقن مقدما وزمان المشكوك مؤخرا بلا فرق بين أن يكون زمان اليقين والشك مختلفا كما لو تيقّن في يوم الجمعة بأن زيدا عادل وشكّ في يوم السبت بأنه هل بقي على عدالته الى يوم السبت أم لا؟ وبين أن يكون زمان اليقين والشك متّحدا كما مثّل له المصنِّف بقوله :

( كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ويشك في زمان هذا القطع ) وهو : يوم السبت ( بعدالته في يوم السبت ) فاليقين والشك وإن حصل كلاهما يوم السبت ، إلاّ أن الأوّل : تعلّق بعدالة يوم الجمعة ، والثاني بعدالة يوم السبت ( وهذا هو الاستصحاب ) المسمى بالشك الطاري .

( و ) عليه : فقد ظهر مما ذكرناه : أن الاستصحاب ( ليس منوطا بتعدّد زمان

ص: 272

الشك واليقين ، كما عرفت في المثال ، فضلاً عن تأخر الأوّل عن الثاني .

وحيث إن صريح الرواية : إختلاف زمان الوصفين وظاهرها اتحاد زمان متعلّقهما ، تعيّن حملُها على القاعدة الاُولى .

وحاصلها عدم العِبرة بطروّ الشك في شيء

-------------------

الشك واليقين ، كما عرفت في المثال ، فضلاً عن تأخر الأوّل ) أي : زمان الشك ( عن الثاني ) أي : زمان اليقين فلا يشترط في الاستصحاب لا تعدّد زمان اليقين والشك ولا تقدّم اليقين على الشك . وإنّما يشترط ذلك بالنسبة الى اليقين والمشكوك فقط .

( وحيث ) قد عرفت الفرق بين قاعدة اليقين وبين الاستصحاب ، نقول : قد يقال : بأن الرواية المتقدمة تدلّ على الشك الساري وهي قاعدة اليقين وذلك ( إن صريح الرواية : إختلاف زمان الوصفين ) فإنه عليه السلام قال : مَن كان على يقين فشك (1) ، حيث إن ظاهر « كان » : يدلّ على مضي زمان اليقين ، وظاهر الفاء للترتيب ، فيدلّ على تأخر الشك .

( و ) أما زمان المتعلق اليقين والشك فإن ( ظاهرها ) أي : ظاهر هذه الرواية ( اتحاد زمان متعلّقهما ) أي : متعلق الشك واليقين فإن لهما متعلقا واحدا وهو مثلاً ، عدالة زيد يوم الجمعة ، فيوم الجمعة كان يعلم بعدالته ، وفي يوم السبت شكّ في إنّه هل كان في يوم الجمعة عادلاً أم لا؟ وإذا كان كذلك ( تعيّن حملها ) أي : حمل الرواية ( على القاعدة الاُولى ) وهي : قاعدة اليقين ، فلا دلالة في الرواية إذن على الاستصحاب .

( وحاصلها ) أي : حاصل قاعدة اليقين هو : ( عدم العِبرة بطروّ الشك في شيء

ص: 273


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

بعد اليقين بذلك الشيء .

ويؤيده : أنّ النقض حينئذ محمولٌ على حقيقته ، لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا على المُتيقّن بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المراد بنقض اليقين فيه رفعُ اليد عن ترتيب الآثار في غير زمان اليقين ،

-------------------

بعد اليقين بذلك الشيء ) فَمَن تيقّن - مثلاً - يوم الجمعة بعدالة زيد وطلّق أمامه أو قَبِلَ شهادته ثم شكّ يوم السبت في أن زيدا هل كان عادلاً يوم الجمعة حين طلّق أمامه ، أو قَبِلَ شهادته ، أو لم يكن عادلاً؟ لا يعتني بشكّه ، فلا يعيد الطلاق ولا يردّ الشهادة .

( ويؤيده ) أي : يؤيّد حمل الرواية على قاعدة اليقين : ( أنّ النقض حينئذ محمولٌ على حقيقته ، لأنّه ) أي : لأنّ نقض اليقين في باب قاعدة اليقين والشك الساري هو عبارة عن ( رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا على المُتيقّن ) فإنه في يوم الجمعة رتّب أثر الشهادة وأثر الطلاق على عدالة زيد والآن يريد في يوم السبت نقض نفس تلك الآثار ، وهو نقض حقيقة .

( بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المراد بنقض اليقين فيه ) أي : في الاستصحاب ( رفع اليد عن ترتيب الآثار في غير زمان اليقين ) لا في نفس زمان اليقين .

مثلاً : إذا عَلِمَ عمرو بعدالة زيد يوم الجمعة وطلّق أمامه أو قَبِلَ شهادته ثم شكّ يوم السبت في أنه هل بقي على عدالته الى هذا اليوم أم لا ؟ فإن هذا الشك يريد عدم ترتيب آثار العدالة على طلاق آخر أو على شهادة أخرى في يوم السبت ، أمّا طلاق وشهادة يوم الجمعة فلا يريد هذا الشك عدم ترتيب آثار العدالة عليهما لأنهما صحيحان في مكانهما .

ص: 274

وهذا ليس نقضا لليقين السابق إلاّ إذا اُخِذَ متعلّقه مجردا عن التقييد بالزمان الأوّل .

وبالجملة : فمن تأمّل في الرواية وأغمضَ عن ذكر بعض

-------------------

( وهذا ) أي : نقض اليقين في الاستصحاب كما رأيت ( ليس نقضا لليقين السابق ) وإنّما هو عبارة عن عدم ترتيب الآثار في المستقبل .

إذن : فقاعدة اليقين تقول : طلاقك يوم الجمعة صحيح ، والاستصحاب يقول : إذا أردت الطلاق يوم السبت يكون طلاقك صحيحا .

إن قلت : إذا كان النقض في مورد الاستصحاب ليس هو نقضا لأثر عدالة زيد يوم الجمعة - مثلاً - الذي هو اليقين السابق وإنّما هو نقض لأثر عدالته يوم السبت ، وهذا لا يسمّى نقضا ، لليقين السابق فكيف قيل : لا تنقض اليقين بالشك ، وأريد منه عدم نقض اليقين السابق ؟ .

قلت : إنّ النقض في مورد الاستصحاب ليس هو نقضا لليقين السابق ( إلاّ إذا أخذ متعلّقه ) أي : متعلق اليقين كعدالة زيد في المثال ( مجردا عن التقييد بالزمان الأوّل ) فإن عدالة زيد يوم الجمعة وعدالته يوم السبت شيء واحد ، وإنّما التعدّد جاءها من تقييدها بالزمان ، فإذا جرت العدالة التي هي متعلق اليقين عن الزمان كانت شيئا واحدا وصَدَقَ عليها لا تنقض .

وإن شئت قلت : إن متعلق اليقين والشك في مورد الاستصحاب إنّما يتعدّدان إذا قيّدا بالزمان ، بأن جعلنا عدالة زيد يوم الجمعة شيئا ، وعدالته يوم السبت شيئا آخر ، والحال إنه ليس كذلك ، بل متعلقهما نفس عدالة زيد الممتدة في الزمانين ، وهذا المقدار من الوحدة في العدالة يكفي في صدق النقض عليها .

( وبالجملة : فمن تأمّل في الرواية ) المذكورة ( وأغمض عن ذكر بعض )

ص: 275

لها في أدلّة الاستصحاب ، جزم بما ذكرنا في معنى الرواية .

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين : إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان ، فإنّ ظاهر قول القائل : « كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد » ظاهرٌ في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المتقيّدة بالزمان الماضي وإن كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين .

-------------------

كالوحيد البهبهاني والمحقق القمّي ( لها في أدلّة الاستصحاب ) حيث إن التعرّض الى أنهما ذَكَراها في أدلّة الاستصحاب ليس هو إلاّ لمجرد الاستيناس بفهم الفقهاء وإلاّ فمن تأمّل في نفس الرواية ( جزم بما ذكرنا في معنى الرواية ) من أن المراد بها : قاعدة اليقين لا الاستصحاب .

ولكن قد يؤكّد دلالة الرواية على الاستصحاب ما ذكره المصنِّف من قوله :

( اللّهم إلاّ أن يقال : بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين ) لا ظرفا لمتعلّق اليقين ، لأن الإمام عليه السلام قال : مَن كان على يقين فشكّ : ( إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين ) كالعدالة في مثال الطلاق وقبول الشهادة ( عن التقييد بالزمان ) الماضي وذلك لما ذكره المصنِّف بقوله :

( فإنّ ظاهر قول القائل : « كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد » ظاهر في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المتقيّدة بالزمان الماضي ) فإن الزمان والمكان لا يقيّدان إلاّ إذا كانت هنالك عناية بالتقييد ، فلا يراد : كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد في الأمس ، وإنّما يراد : كنت متيقنا في الأمس بعدالة زيد .

إذن : فالظاهر من الرواية تجريد متعلق اليقين ( وإن كان ظرفه ) أي : ظرف متعلق اليقين وهو العدالة ( في الواقع ظرف اليقين ) أيضا لوضوح : أن اليقين بعدالة زيد إذا كان يوم الجمعة كان ظرف عدالة زيد أيضا يوم الجمعة ،

ص: 276

لكن لم يلاحظ على وجه التقييد ، فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان متعلقا بنفس ذلك المُتيقن ، مجردا عن ذلك التقييد ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك فينطبق على الاستصحاب ، فافهم .

ثمّ لو سلّم أنّ هذه القاعدة باطلاقها مخالفة للاجماع ، أمكن تقييدُها

-------------------

( لكن لم يلاحظ ) الزمان وهو يوم الجمعة في العدالة ( على وجه التقييد ) .

وعليه : ( فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة كيوم السبت - مثلاً - ( متعلقا بنفس ذلك المُتيقن ) يعني : متعلقا بالعدالة لكن ( مجردا عن ذلك التقييد ) بيوم الجمعة .

مثلاً : إذا قال أحد : كنت أمس متيقنا بعدالة زيد فشككت في عدالته كان الشك ( ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك فينطبق ) حينئذ كلامه عليه السلام ( على الاستصحاب ) ولذا فَهِمَ الوحيد والقمّي من الرواية المذكورة الاستصحاب .

( فافهم ) ولعله إشارة الى ما ذكرناه سابقا : من أن الظاهر العرفي من الرواية هو: شمولها لقاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب معا ، لأن اليقين جامع بينهما ، سواء كان الشك ساريا أم طاريا ، غير أن المصنِّف لا يرتضي بمثل هذا ، ولذلك قال : ( ثمّ لو سلّم أن هذه القاعدة ) أي : قاعدة اليقين ( باطلاقها مخالفة للاجماع ) أي : إن الرواية وإن دلّت على قاعدة اليقين مطلقا ، إلاّ إن الاجماع قام على عدم التمسك بها على إطلاقها ، فدلالة الرواية على إطلاق القاعدة لا ينفع بعد هذا الاجماع .

وإنّما قال بأن مخالفة الاجماع كان لاطلاق القاعدة لا لأصل القاعدة ، لأن بعض الفقهاء عَمِلَ بقاعدة اليقين في الجملة ، ولذلك ( أمكن تقييدها ) بنظر المصنِّف بما يلي :

ص: 277

بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة الى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ، كالاقتداء في مثال العدالة بذلك الشخص ، أو العمل بفتواه أو شهادته أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكّر لمستند القطع السابق واخراج صورة تذكّره والتفطّن لفساده وعدم قابليته لافادة القطع .

لكن الانصاف : أنّ الرواية سيما بملاحظة

-------------------

أولاً : ( بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة الى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ، كالاقتداء في مثال العدالة بذلك الشخص ) في صلاته ( أو العمل بفتواه ) إذا كان مجتهدا ( أو شهادته ) بالنسبة الى الطلاق ، أو في موارد النزاع أو ما أشبه ، فلا يعيد ما مضى ، لكنه لا يحمل بفتواه من جديد ، ولا يقبل شهادته في طلاق جديد ، وما أشبه ذلك .

ثانيا : ( أو تقييد الحكم ) في القاعدة وهو : عدم نقض اليقين السابق ( بصورة عدم التذكرّ لمستند القطع السابق ) كما إذا بنى على عدالة زيد يوم الجمعة ثم شك في عدالته يوم السبت وهو لم يتذكّر مستند قطعه بعدالته يوم الجمعة ، ففي هذه الصورة لا يعتني بالشك الساري ، وإنّما يرتّب آثار اليقين السابق عليه .

( واخراج صورة تذكرّه ) لمستند القطع السابق ( والتفطّن لفساده وعدم قابليته لافادة القطع ) فإذا بنى على عدالة زيد يوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في عدالته يوم السبت وتذكّر إن مستند قطعه بعدالته يوم الجمعة لم يكن قابلاً للاستناد وإنّما غفل في الاستناد اليه ، ففي هذه الصورة لا يعتني باليقين السابق بل يرتّب أثر العدم على ذلك اليقين السابق .

هذا ( لكن الانصاف : أنّ الرواية ) بحسب ظاهرها العرفي ( سيما بملاحظة

ص: 278

قوله عليه السلام : « فإنّ اليقين لا يُنْقَض بالشك » وبملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله : « لا يَنقُض اليقين بالشك » ، حيث إنّ ظاهره مساوقته لها ، وظاهرة في الاستصحاب . ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا .

لكن سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى ، لتضعيف العلامة له

-------------------

قوله عليه السلام : « فإنّ اليقين لا يُنْقَض بالشك » (1) ) الظاهر في كونه تعليلاً بأمر ارتكازي وكونه في صدد تأسيس قاعدة عرفية علمية ( و ) كذا ( بملاحظة ما سبق في الصحاح ) وغيرها ممّا جاء في مورد الاستصحاب ( من قوله ) عليه السلام : ( لا ينقض اليقين بالشك (2) ) فإنه يؤكد ظهورها في الاستصحاب .

وإنّما نلاحظ هذه الأمور في فهم الحديث هنا ( حيث إنّ ظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث ( مساوقته لها ) أي : للصحاح ، فإن الصحاح وهذه الرواية في سياق واحد ( وظاهرة في الاستصحاب ) كما ذكره جمع من الفقهاء ( ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا ) : من إنه لبيان قاعدة اليقين ، لا لبيان الاستصحاب .

إذن : فالرواية من حيث ظهورها في الاستصحاب لا بأس به ، ودلالتها على الاستصحاب لا كلام فيه .

( لكن سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى ، لتضعيف العلامة له

ص: 279


1- - الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

في المختلف ، وإن ضعّف ذلك باستناده الى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه ، فتأمل .

ومنها : مكاتبة علي بن محمّد القاساني ، قال : كتبتُ اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ،

-------------------

في المختلف وإن ضعّف ذلك ) التضعيف من العلامة ( ب ) سبب ( استناده ) أي : استناد تضعيف العلامة رحمه اللّه ( الى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه ) أي : عدم قدح تضعيف ابن الغضائري ، لأن ابن الغضائري قد ضعّف كثيرا من الرواة المعتمدين ولذا أسقط المشهور تضعيفاته .

هذا إضافة الى أنه قد ذكر غير واحد من الثقاة : رواية الأجلة عن القاسم بن يحيى سيّما مثل : أحمد بن محمد بن عيسى ، فإن ذلك أمارة الاعتماد عليه ، بل الوثاقة له ، كما ويؤيده كثرة رواياته والافتاء بمضمونها .

وكذا يؤيده عدم تضعيف شيخ من المشايخ العظام المضطلعين بأحوال الرجال إياه وعدم طعنهم عليه في ترجمته وترجمة جده وغيرهما ، فإذا استظهرنا أن العلامة تبع ابن الغضائري في تضعيفه له فلا يكون لهذا التضعيف أثر .

( فتأمل ) ولعله إشارة الى أنه بعد الاشكالين المذكورين في السند والدلالة لايمكن الاستناد الى هذه الرواية في تأسيس أصل مهم كالاستصحاب الجاري من أول الفقه الى آخره ، لكن قد عرفت : عدم ورود ذينك الاشكالين ، فالاعتماد على الرواية مقتضى القاعدة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالة على الاستصحاب : ( مكاتبة علي بن محمّد القاساني « قال : كتبتُ اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ) ابتداءا لاحتمال أنه آخر شعبان ، أو إنتهاءا لاحتمال أنه أول شوال :

ص: 280

هل يُصامُ أم لا ؟ فكتب عليه السلام : اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُم للرؤية وأفطِر للرؤية » .

فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والافطار على رؤية هلالَي رمضان وشوال لا يستقيم إلاّ بارادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشك ، أي : مزاحما به .

-------------------

( هل يصام أم لا ؟ فكتب عليه السلام : اليقين لا يدخلُه الشك ، صُم للرؤية وأفطِر للرؤية » (1) ) .

هذا ، ولا يخفى إن التقييد في قول الراوي : وأنا بالمدينة ، ليس اعتباطا ، فإن مثل هذا الكلام كان متعارفا في الروايات ، وذلك للدلالة على أن الجواب هل صدر تقية أم لا ؟ فإن الإمام عليه السلام كان يجيب الرجل الكوفي الذي يبتلي بمثل الحجاج الثقفي وغيره بالتقية ، بينما يجيب الرجل المدني ونحو المدني بالحكم الواقعي .

وكذا بالنسبة الى الروايات المقيدة بالزمان ، فإن في بعض الأزمنة لم يكن اضطرار الى التقية وفي بعضها الآخر كان ، وذلك على ما هو مذكور في علم الرجال والدراية .

وكيف كان : ( فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال ) بالصوم في الأوّل والافطار في الثاني ( لا يستقيم إلاّ بارادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشك ) اللاحق ( أي : مزاحما به ) أي : بالشك .

وعليه : فاللازم : العمل باليقين السابق حتى يأتي يقين على خلافه ، أمّا الشك في زوال الحالة السابقة فلا يعتنى به ، وهذا معنى الاستصحاب .

نعم ، لو قال الإمام عليه السلام : أفطر للرؤية فقط احتملنا إنه من باب الاشتغال ،

ص: 281


1- - تهذيب الأحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

والانصاف : إنّ هذه الرواية أظهرُ ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ، إلاّ أنّ سندها غير سليم .

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ،

-------------------

إلاّ أنه عليه السلام قال : صُم للرؤية وأفطر للرؤية ، فلا يحتمل فيه إلاّ الاستصحاب ، لأنّ الصوم للرؤية لا يحتمل الاشتغال ، بل الأصل هو : البرائة عن الصوم في يوم شك فيه إنه من شعبان أو من رمضان .

هذا ( والانصاف : أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ) وذلك لسلامتها من الاحتمالات الواردة في سائر الروايات مثل احتمال كون اللام في اليقين للعهد الذكري ، أو احتمال لبيان قاعدة الاشتغال ، أو لبيان قاعدة اليقين والشك الساري ، وغير ذلك مما تقدّم من الاشكالات في الروايات السابقة .

( إلاّ أنّ سندها غير سليم ) وذلك لأن بعض الرجاليين ذكر : إن القاساني سمع منه بعض المذاهب المنكرة ، وقال الآشتياني رحمه اللّه : الوجه في عدم سلامته : تضعيف جماعة من أهل الرجال لمحمد .

ويمكن القول بعدم قدحه بناءا على انجبار الضعف بالشهرة وحجية الخبر المشهور ، حيث إن الرواية معمول بها عند الأصحاب وقد عوّلوا عليها في كتبهم ، كما إدّعاه بعض المحققين أيضا .

( هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ) .

وأضاف الأوثق : بأن منها الرضوي : إذا شككت في الحدث وكُنت على يقين من الوضوء فلا تنقض اليقين بالشك ، وقال فيه أيضا : وإن توضأت وضوءا صلّيت صلاتك أو لم تصلّ ، ثم شككت فلم تَدْرِ أحدثت أو لم تُحدث ، فليس

ص: 282

وقد عرفتَ عدمَ ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها .

فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد .

وربما يؤيّد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة :

-------------------

عليك وضوء ، لأن اليقين لا ينقض بالشك (1) .

ومنه : ما عن مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام : لا يدفع اليقين بالشك .

( و ) لكن ( قد عرفت : عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ) وذلك حسب الاشكالات المتقدمة ، لكن الظاهر عندنا هو : الظهور وصحّة السند في بعضها على ما عرفت : من عدم ورود اشكالات المصنِّف عليها .

وعلى أي حال : ( فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد ) حيث إن ضعيف السند ينجبر بالصحاح ، وقويّ الدلالة يعاضد ضعيف الدلالة ، فيكون في المجموع كفاية .

وإنّما يكون في المجموع كفاية لأنه يحصل منه ظنّ باعتبار الاستصحاب وقد قام بناء العقلاء على حجية مثل هذا الظن ، لأنه من الظن الذي قام الدليل على اعتباره ، إذ لا فرق في الظن بين الحاصل ، من لفظ واحد ، والحاصل من ألفاظ متعدّدة ، فهو من قبيل العلم الحاصل من طرف واحد أو من أطرف متعددة ، كما ذكره المحقق القمّي وتبعه الآشتياني .

( وربّما يؤيّد ذلك ) أي : يمكن تأييد ما ذكرناه : من كفاية المجموع في الدلالة على الاستصحاب ( بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة ) فإن الصغريات المتعددة تدلّ على كبرى كلّية ، وهي كالتالي :

ص: 283


1- - أوثق الوسائل : ص459 التمسّك بسائر الأخبار بحجية الاستصحاب .

مثل : رواية عبد اللّه بن سنان الواردة : « فيمن يُعير ثوبه الذمّي ، وهو يعلم أنّه يشربُ الخمرَ ويأكلُ لحمَ الخنزير . قال : فهل عليّ أن أغسِلَهُ ؟ .

فقال : لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهرٌ ، ولم تستيقن أنّه نَجَّسه » .

وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبقُ طهارته وعدم العلم بارتفاعها .

ولو كان المستند

-------------------

أولاً : ( مثل : رواية عبد اللّه بن سنان الواردة : « فيمن يعير ثوبه الذمّي وهو يعلم أنّه يشرب الخمرَ ويأكلُ لحمَ الخنزير ) وذلك بالاضافة الى أنه إذا لبسه يعرق غالبا، وأنه لايجتنب سائر النجاسات كالدم والبول وغيرها ( قال: فهل عليّ أن أغسله ؟ ) بعد استرداده ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهرٌ ولم تستيقن أنّه نَجَّسه » (1) ) فتستصحب طهارته .

( وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله ) عند استعادة الثوب ( هو سبقُ طهارته وعدم العلم بارتفاعها ) أي : ارتفاع تلك الطهارة السابقة وهو معنى الاستصحاب .

( و ) إن قلت : لعل مستند حكم الإمام بطهارة الثوب بعد استرجاعه قاعدة الطهارة لا الاستصحاب .

قلت : ( لو كان المستند ) في حكم الإمام عليه السلام بطهارة الثوب بعد استرجاعه

ص: 284


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ، ص361 ب13 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص393 ب231 ح2 ، وسائل الشيعة : ج3 ص521 ب74 ح4348 .

قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ، إذ الحكم في القاعدة مستندٌ الى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة .

نعم ، الرواية مختصة باستصحاب الطهارة دون غيرها ، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع .

-------------------

من الذمي ( قاعدة الطهارة ) أي : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم إنه قذر » (1) ( لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ) بينما الإمام عليه السلام علّله بسبق الطهارة فيدل على أن الحكم بالطهارة كان للاستصحاب .

وإنّما لم يكن لهذا التعليل معنى لو لم يقصد الاستصحاب لأنه كما قال : ( إذ الحكم في القاعدة مستندٌ الى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة ) لا الى عدم العلم بالطهارة والنجاسة بعد العلم بسبق الطهارة ، فإن حكمه عليه السلام بالطهارة ، لو كان لأجل إنه من مشكوك الطهارة والنجاسة لكان ينبغي أن يعلّل بمجرّد الشك في النجاسة لا أن يعلّل بسبق اليقين بالطهارة ولحوق الشك في نجاسته .

( نعم ، الرواية مختصة باستصحاب الطهارة دون غيرها ) فلا يعمّ الاستصحاب في الرواية غير مورد الطهارة ، وذلك لأن الرواية لم تشتمل على قاعدة كلّية كالتي اشتملت عليها الروايات السابقة حيث جاء فيها : ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وما أشبه ذلك .

هذا ( و ) لكن ( لا يبعد عدم القول بالفصل بينها ) أي : بين الطهارة ( وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع ) فتكون هذه الرواية بملاكها شاملة لجميع موارد الاستصحاب إذا كان الشك في الرافع .

أو يقال : بأنه يتم جريان الاستصحاب في سائر الموارد كما يجري في مورد

ص: 285


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

ومثل : قوله عليه السلام في موثّقة عمّار : « كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تعلَم أنّه قذر» ، بناءا على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء الى أن يُعلم حدوثُ قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت الى أن يُعلم عدمُها .

-------------------

هذه الرواية بعدم القول بالفصل .

ثانيا : ( ومثل : قوله عليه السلام في موثّقة عمار: «كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تعلَم أنّه قذر » (1) ).

وإنّما تدل هذه الموثقة على الاستصحاب ( بناءا على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء الى أن يُعلم حدوثُ قذارته ) فكل شيء تستمر طهارته السابقة الى زمان العلم بالنجاسة وهي قاعدة الاستصحاب .

( لا ) بناءا على ( ثبوتها له ) أي : ثبوت الطهارة للشيء ( ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت الى أن يُعلم عدمُها ) أي : عدم طهارته حتى تدل هذه الموثقة على قاعدة الطهارة ، ويكون التقدير حينئذ كالتالي :

كل شيء مشكوك الطهارة والنجاسة ، محكوم بالطهارة حكما مستمرا الى زمان العلم بالعدم .

والحاصل : إن الموثقة هذه قد يقال بأنها تريد بيان استصحاب الطهارة فقط ، أو بيان قاعدة الطهارة فقط ، وقد يقال - كما نراه نحن - بأنها تريد بيان كليهما ، غير إنه عند بيان كليهما يكون قد ذكر فيها غاية واحدة مشتركة بين الاستصحاب والقاعدة .

وإنّما تكون الغاية مشتركة بينهما لأن كل واحد من الاستصحاب والقاعدة

ص: 286


1- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .

فالغاية ، وهي العلم بالقذارة ، على الأوّل غايةٌ للطهارة رافعةٌ لاستمرارها . فكلُّ شيء محكومٌ ظاهرا باستمرار طهارته الى حصول العلم بالقذارة .

فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة ؛ وعلى الثاني غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي : العلم بعدم الطهارة رافعةٌ للحكم ،

-------------------

مغيّ بالعلم ، فالطهارة تستصحب الى أن يتحقق العلم بالنجاسة ومشكوك الطهارة يحكم عليه بالطهارة الى أن يعلم بنجاسته .

أمّا بناءا على دلالة الموثقة على الاستصحاب فقط ( فالغاية ، وهي العلم بالقذارة على الأوّل ) أي : الاستصحاب ( غاية للطهارة رافعة لاستمرارها ) .

وعليه : ( فكلّ شيء ) محرز طهارته سابقا مشكوك طهارته لاحقا ( محكوم ظاهرا باستمرار طهارته الى حصول العلم بالقذارة ) فتكون الغاية على ذلك غاية الاستمرار لا غاية الحكم .

وإنّما لا تكون حينئذ غاية للحكم لأنه كما قال : ( فغاية الحكم ) أي : القاعدة ( غير مذكورة ولا مقصودة ) في الموثقة فكأنه قال : يستصحب الطهارة الى العلم بالقذارة ولم يقل : كل شيء طاهر حتى يعلم بالقذارة ، لأنّ المفروض : إن الغاية غاية لاستمرار الطهارة المفروغ عنها ، لا للحكم بالطهارة المشكوك فيها .

( و ) إما بناءا ( على الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : لا ثبوتها له ظاهرا واستمرار هذا الثبوت الى أن يعلم عدمها ، مما يراد بالموثقة : القاعدة فيكون قوله عليه السلام : حتى تعلم ( غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي : العلم بعدم الطهارة رافعة للحكم ) بثبوت الطهارة ، لا إنها رافعة لنفس الطهارة .

ص: 287

فكلّ شيء يستمر الحكم بطهارته الى كذا . فاذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لا نفسُها .

والأصل في ذلك أنّ القضية المغيّاة سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا : الثوب طاهر الى أن يلاقي نجسا ،

-------------------

إذن : ( فكلّ شيء ) مشكوك الطهارة والنجاسة ( يستمر الحكم بطهارته الى كذا ) أي : الى حصول العلم بارتفاع الطهارة .

وعليه : ( فاذا حصلت الغاية ) بأن علم بالنجاسة ( انقطع الحكم ) القائل ( بطهارته ، لا نفسها ) أي : لا نفس الطهارة ، لأنّ الطهارة لم تكن محرزة من الأوّل حتى تكون الغاية رافعة لهذه الطهارة المحرزة ، بل الشارع حكم ظاهرا بالطهارة ، فالغاية رافعة لذلك الحكم القائل بثبوت الطهارة ظاهرا .

والحاصل : إنه بناءا على إفادة الموثقة الاستصحاب فقط تكون الغاية غاية للاستمرار ، وبناءا على إفادة الرواية القاعدة فقط تكون الغاية أيضا غاية للاستمرار ، إلاّ إنها في الاستصحاب غاية لاستمرار الطهارة ، وفي القاعدة غاية لاستمرار الحكم بثبوت الطهارة .

( والأصل في ذلك ) أي : منشأ الاحتمالين في الموثقة الذين ذكرهما المصنِّف بقوله : بناءا على إنه مسبوق لبيان استمرار الطهارة ، وبقوله : لا ثبوتها له ظاهرا ، هو : ما أشار اليه بقوله :

(أنّ القضية المغيّاة ) أي : القضية التي ذكر فيها الغاية (سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا الثوب طاهر الى أن يلاقي نجسا ) فالى أن يلاقي قيد لقوله : طاهر ، والطاهر محمول لقوله : الثوب ، وهي قضية واقعية وإخبار عن الواقع بمعنى : ثبوت الطهارة للثوب واقعا من دون لحاظ

ص: 288

أم كانت ظاهرية مغيّاة بالعلم بعدم المحمول ، كما فيما نحن فيه - قد يقصد المتكلم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلم به مجرّد الاستمرار ، لا أصل الثبوت ،

-------------------

كونه مشكوك الحكم ، وعلى هذا فالغاية وهي : الملاقاة تكون أيضا غاية للطهارة الواقعية ورافعة لتلك الطهارة .

( أم كانت ) القضية المغيّاة ( ظاهرية مغيّاة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ) من قوله عليه السلام : «كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر» فإنها قضية ظاهرية ، وبيان للحكم الظاهري بمعنى : ثبوت الطهارة ظاهرا للشيء المشكوك الطهارة والنجاسة ، وعلى هذا يكون العلم بالقذارة غاية للطهارة الظاهرية ورافعة لهذه الطهارة الظاهرية .

وعلى كلٍّ من التقديرين : فإنه ( - قد يقصد المتكلم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا ) فيكون التقدير : كل شيء مشكوك الطهارة والنجاسة محكوم بالطهارة ظاهرا .

( أو واقعا ) فيكون التقدير : كل شيء طاهر واقعا الى أن يلاقي نجسا .

( من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ) أي : من دون لحاظ الحالة السابقة ، وذلك بأن يرى الغاية قيدا للطهارة ، سواء كانت طهارة ظاهرية أم واقعية من دون أن يقصد كون الغاية غاية للاستمرار حتى يكون معنى الاستصحاب ، وهذا هو معنى القاعدة .

( وقد يقصد المتكلم به مجرّد الاستمرار لا أصل الثبوت ) أي : إن المتكلم بعد الفراغ من أصل الثبوت يقصد بالحكم لحاظ الحالة السابقة فتكون الغاية غاية

ص: 289

بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والأوّل أعمّ من الثاني من حيث المورد .

-------------------

للاستمرار وهو معنى الاستصحاب ويكون التقدير : الثوب مستمر طهارته الى حصول النجاسة .

وعليه : فالمقصود هو مجرد الاستمرار ( بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ) فلا كلام في الموثقة على هذا التقدير عن أصل الثبوت ، وإنّما الكلام في استمرار الثبوت وهو معنى الاستصحاب .

( والأوّل ) : وهي القاعدة ( أعمّ من الثاني ) وهو الاستصحاب ( من حيث المورد ) فإن القاعدة أعمّ مطلقا من الاستصحاب ، لأنه كلما جرى فيه الاستصحاب بلحاظ الطهارة السابقة ، جرى فيه قاعدة الطهارة أيضا بلحاظ مجرد الشك وليس العكس ، إذ ربما يشك في الطهارة من دون سبق يقين بها ، فتجري القاعدة دون الاستصحاب .

إذن : فالشك في الطهارة من دون سبق اليقين له قسمان :

الأوّل : أن لا يكون له حالة سابقة أصلاً ، كما إذا شك في طهارة الحديد .

الثاني : أن يكون له حالة سابقة ، لكن لا يعلم هل إنها هي الطهارة أو النجاسة ؟ .

هذه هي النسبة بين القاعدة والاستصحاب من حيث المورد .

وأمّا النسبة بين القاعدة والاستصحاب من حيث المناط : فبينهما تباين ، لأن مناط القاعدة هو مجرد الشك في الطهارة ، ومناط الاستصحاب هو الطهارة بلحاظ الحالة السابقة ، ومن المعلوم : إن ملاحظة الحالة السابقة وعدم ملاحظتها بينهما تباين .

ص: 290

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ معنى الرواية : إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد الى بيان الاستمرار بعد الفراغ من ثبوت أصل الطهارة ، فيكون دليلاً على استصحاب الطهارة ، لكنّه خلاف الظاهر ؛ وإمّا خصوص المعنى الأوّل الأعمّ منه .

-------------------

( إذا عرفت هذا ، فنقول ) : إن كان المقصود من الموثقة : بيان ثبوت الطهارة ظاهرا للشيء المشكوك طهارته واستمرار هذا الثبوت الى زمن العلم بالنجاسة أفادت الموثقة قاعدة الطهارة ، وإن كان المقصود منها : بيان إن الشيء المحرز طهارته سابقا يستمر طهارته الى زمن العلم بالارتفاع أفادت الموثقة الاستصحاب ، والى هذين الاحتمالين أشار المصنِّف حيث قال :

( إنّ معنى الرواية : إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد الى بيان الاستمرار ) للطهارة (بعد الفراغ من ثبوت أصل الطهارة ) يعني : إن الرواية لاتتعرض لأصل الطهارة ، وإنّما تتعرض لاستمرار الطهارة فقط ( فيكون دليلاً على استصحاب الطهارة ) لا على قاعدة الطهارة .

( لكنّه خلاف الظاهر ) إذا ظاهر الجملة الخبرية : إثبات أصل المحمول لااستمرار المحمول بعد الفراغ عن أصله ، فإنه إذا قال - مثلاً - : زيد قائم ، كان معناه : ثبوت القيام لزيد ، لا إثبات إن قيامه مستمر مع الاعراض عن أصل اثبات القيام له .

( وإمّا ) أن يكون معنى الرواية ( خصوص المعنى الأوّل ) وهي القاعدة ( الأعمّ منه ) أي : من الاستصحاب موردا على ما عرفت : من أن القاعدة أعمّ من الاستصحاب موردا ، فيكون معناه : كل مشكوك محكوم بالطهارة .

ص: 291

وحينئذٍ : لم يكن فيه دلالةٌ على استصحاب الطهارة ، وإن شمل مورده ، إلاّ أنّ الحكم فيما عُلِمَ طهارته ولم يُعلَم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ، فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ، بل يجري في مسبوق النجاسة

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين إرادة خصوص المعنى الأوّل من الرواية ( لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة ، وإن شمل مورده ) لما عرفت : من إن ثبوت الطهارة للشيء المشكوك يشمل المشكوك المسبوق بالطهارة ، كما يشمل المشكوك الذي لم يسبق له طهارة على ما مثّلنا له بالحديد .

( إلاّ أن الحكم ) بالطهارة ( فيما عُلِمَ طهارته ولم يُعلم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ) حتى يكون استصحابا .

( بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ) والنجاسة وهو مناط قاعدة الطهارة ، فإن مناط القاعدة في جميع مواردها هو : لحاظ مجرد الشك لا لحاظ سبقه بالطهارة ، فسواء كان مسبوق الطهارة أم لم يكن مسبوق الطهارة فإنه إذا كان مشكوك الطهارة حكم بطهارته .

إذن : ( فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ) أي : لا استصحاب الطهارة حتى تفيد الاستصحاب .

( بل يجري ) قاعدة الطهارة ( في مسبوق النجاسة ) أيضا ، لأنّ المفروض : إنه سواء كان مسبوق الطهارة أم مسبوق النجاسة ، أم لا سابقة له ، أم نحن لا نعلم سابقته ، فإن كل ذلك مشكوك الطهارة ويكون موردا لقاعدة الطهارة ، غير إنه إذا كان مسبوق النجاسة ، كان استصحاب النجاسة حاكما على القاعدة .

ص: 292

على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة .

ثم لا فرق في مفاد الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي .

-------------------

ثم إن جريان قاعدة الطهارة في مسبوق النجاسة وسقوطها لحكومة استصحاب النجاسة عليها إنّما هو ( على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة ) والوجهان هما كالتالي :

الوجه الأوّل : إنه تجري قاعدة الطهارة ، ولكن هذه القاعدة تسقط باستصحاب النجاسة .

الوجه الثاني : إنه لا تجري قاعدة الطهارة أصلاً ، وإنّما يجري استصحاب النجاسة فقط ، على ما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

هذا تمام الكلام حسب ما يراه المصنِّف : من أن الرواية لا تشمل القاعدة والاستصحاب معا ، إلاّ أن الظاهر هو : أن العرف يفهمون من الرواية كليهما .

( ثم لا فرق في مفاد الرواية بين ) مورد الشبهة الحكمية وهو : ( الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ) كما إذا لم نعلم هل إن الحديد طاهر أو نجس ، فإنه شبهة حكمية ويسمّى بالموضوع الخارجي ، لأن الحديد موضوع خارجي .

( وبين ) مورد الشبهة الموضوعية وهو : ( الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي ) كما إذا لم نعلم هل إن هذا المايع ماء أو خمر ؟ وتشمل الرواية كليهما لاطلاقها .

ص: 293

فعُلِمَ ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من إمتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة ، إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعية .

نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب إستعمال اللفظ في معنيين ، لما عرفت أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ،

-------------------

إذن : ( فعُلِمَ ممّا ذكرنا ) في مفاد الرواية : من شمولها للشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية معا في حين اختصاصها إمّا بقاعدة الطهارة أو الاستصحاب فقط ( أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من إمتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية ) والمعاني الثلاثة ( أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة ) .

وإنّما علم مما ذكرنا أنْ لا وجه لكلام صاحب القوانين ( إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعية ) فإن الرواية تشملهما لوجود الجامع بينهما وهو : طهارة الشيء المشكوك .

( نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب إستعمال اللفظ في معنيين ) وذلك إمّا محال كما يقوله : الآخوند ، أو مُمكن كما يقوله غيره لكنه محتاج الى القرينة ، والقرينة مفقودة في المقام .

وإنّما لم تُستعمل الرواية فيهما معا ( لما عرفت أنّ المقصود ) والمناط ( في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ) ، من حيث هو مشكوك ، سواء كان

ص: 294

وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ، والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا .

والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البرائة واستصحابها ، ولا جامع بينهما .

وقد خفي ذلك على بعض

-------------------

مسبوقا بالطهارة أم لم يكن مسبوقا بالطهارة ، وسواء عَلِمْنا بأنه مسبوق بالطهارة أم لم نعلم به ؟ .

( و ) الحال إن المقصود ( في الاستصحاب ) والمناط فيه هو : ( خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ) وقد عرفت : أن النسبة بين القاعدة وبين الاستصحاب من حيث المناط هو التباين ( والجامع بينهما ) أي : بين القاعدة والاستصحاب ( غير موجود ) حتى يقال : بأن الرواية استعملت في الجامع ، فشملت القاعدة والاستصحاب .

إذن : ( فيلزم ما ذكرنا ) من أن هذه الموثقة إمّا تفيد القاعدة ، وإمّا تفيد الاستصحاب ، وذلك لعدم وجود جامع بينهما .

( و ) إما ( الفرق بينهما ) أي : بين القاعدة والاستصحاب فإنه ( ظاهر ) وهو ( نظير الفرق بين قاعدة البرائة واستصحابها ) فإذا شك في وجوب الحج - مثلاً - فبمجرد ملاحظة الشك فيه يكون مجرى البرائة ، وبملاحظة سبق عدم وجوب الحج عليه يكون مجرى استصحاب عدم الوجوب ( ولا جامع بينهما ) أيضا لما عرفت : من أنّ بينهما التباين ، فلا يصح إرادتهما معا في دليل واحد .

هذا ( وقد خفي ذلك ) الذي أوضحناه من أنه لا جامع بينهما ( على بعض

ص: 295

المعاصرين ، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي : الطهارةُ مع عدم العلم بالنجاسة .

وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب .

الثاني : إنّ هذا الحكم مستمر الى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته » ، إنتهى .

-------------------

المعاصرين ) وهو النراقي قدس سره ( فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ) في قوله : « كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر » ( وأنكر ذلك ) أي : امتناع ارادتهما معا و ( على صاحب القوانين ) الذي قال : بأنه يمتنع إرادتهما معا في كلامه المتقدّم ( فقال : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين ) كالتالي :

( أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي : الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا ) يسمّى بقاعدة الطهارة ومعلوم : انه ( لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب ) لأنّ الاستصحاب عبارة عن سحب الحالة السابقة المتيقّنة الى الحالة اللاحقة المشكوكة ، وقاعدة الطهارة لا تحتاج الى مثل ذلك .

( الثاني : أنّ هذا الحكم مستمر الى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته » (1) ) فإنّ سحب الطهارة السابقة الى الحالة اللاحقة المشكوكة جزئي من جزئيات الاستصحاب ، وإلاّ فالاستصحاب عام يشمل : استصحاب النجاسة ، واستصحاب الملكية ، واستصحاب الحرية ، واستصحاب الزوجية ، وغير ذلك ( إنتهى ) كلام النراقي .

ص: 296


1- - الفصول الغروية : ص361 .

أقول : ليت شعري ما المشار اليه بقوله : « هذا الحكم مستمرّ الى زمن العلم بالنجاسة » ، فإن كان هو الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مُغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو مستمر الى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة .

-------------------

( أقول : ليت شعري ) أي : ليتني كنت أشعر وأفهم ( ما المشار اليه بقوله : « هذا الحكم مستمرّ الى زمن العلم بالنجاسة » فإن كان هو ) أي : المشار اليه : ( الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ) أي : قاعدة الطهارة بمعنى إن ثبوت الطهارة للأشياء ظاهرا مغيّى بزمن العلم بالنجاسة ، مما حاصله :

إنّ المغيّى والغاية - وهما قاعدة الطهارة - مستمران الى زمن العلم بالنجاسة ، فإن كان هذا هو المشار اليه ففيه ما يلي :

أولاً : إنه غير تام ، إذ المغيّى والغاية معتبران شرعا الى زمان النسخ ، فقاعدة الطهارة حكم شرعي باق الى أن ينسخه الشارع ، لا الى أن يعلم المكلّف بالنجاسة .

ثانيا : إن الغاية إذا جُعلت غاية للحكم الأوّل وهي : الطهارة الظاهرية ، فالحكم الثاني الذي هو الاستصحاب لا يكون مغيّى بتلك الغاية .

والى الاشكال الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مُغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو ) أي : الحكم بالطهارة حكم شرعي ( مستمر الى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة ) الاسلامية .

إذن : فالقاعدة وهي الحكم بثبوت الطهارة الى زمن العلم بالنجاسة ليس مستمرا الى زمن العلم بالنجاسة ، بل مستمر الى زمن النسخ إن فُرِضَ نسخه ، وإن لم يفرض نسخه كان مستمرا الى يوم القيامة .

ص: 297

مع أنّ قوله « حتى تعلم » إذا جُعِلَ من توابع الحكم الأوّل الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير الثاني مُغيّا به ؟ ، إذ لا يعقل كونُ شيء في استعمال واحد غايةً لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له ؛ وإن كان هو الحكم الواقعي المعلوم ، يعني : أنّ الطهارة إذا ثبت واقعا في زمان ، فهو مستمر

-------------------

والى الاشكال الثاني أشار بقوله : ( مع أنّ قوله «حتى تعلم» إذا جُعِلَ من توابع الحكم الأوّل ) بأن كان خبرا لقوله : كل شيء طاهر ( الذي هو ) أي : الحكم الأوّل بمجموعه من المغيّى والغاية ( الموضوع للحكم الثاني ) أعني : الاستصحاب ( فمن أين يصير الثاني مُغيّا به ؟ ) أي : بالأول ، وذلك لأن الغاية والمغيّى صارا عبارة عن الحكم الأوّل ، والحكم الأوّل مستمر ، فمن أين تكون الغاية التابعة للحكم الأوّل تابعة للحكم الثاني أيضا ؟ .

وإنّما لا يكون ذلك ( إذ لا يعقل كونُ شيء في استعمال واحد غاية لحكم ) وهو الطهارة الظاهرية في المثال ( ولحكم آخر ) وهو الاستصحاب بحيث ( يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له ) أي : للحكم الآخر .

وإنّما لا يعقل ذلك لوضوح : إنه إذا كان غاية للموضوع ، يقتضي تقدمه على الحكم الثاني ، وكونه غاية للحكم الثاني ، يقتضي تأخره عن الحكم الثاني ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه كما يلزم كون شيء واحد في آن واحد مقدما ومؤخرا .

هذا إن كان المشار اليه هو استمرار الحكم المستفاد من الأصل الأوّل .

( وإن كان ) المشار اليه في كلام النراقي : ( هو الحكم الواقعي المعلوم ) عند المكلّف ، وذلك ( يعني : أنّ الطهارة إذا ثبت واقعا في زمان ، فهو مستمر

ص: 298

في الظاهر الى زمن العلم بالنجاسة ، فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوتُ الطهارة له واقعا في زمان .

فأين هذا من بيان أصل قاعدة الطهارة من حيث هي ، للشيء المشكوك من حيث هو مشكوك .

ومنشأ الاشتباه في هذا المقام ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ،

-------------------

في الظاهر الى زمن العلم بالنجاسة ، فيكون ) مفيدا للاستصحاب فقط .

وإنّما يكون مفيدا للاستصحاب فقط ، لأن ( الكلام ) حينئذ يكون ( مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوتُ الطهارة له واقعا في زمان ) أول .

وعليه : ( فأين هذا ) الكلام المسوق لبيان الاستصحاب ( من بيان أصل قاعدة الطهارة من حيث هي ) فان قاعدة الطهارة إنّما هي بخلاف الاستصحاب قد شرعت ( للشيء المشكوك ) طهارته ونجاسته ( من حيث هو مشكوك ) فالقاعدة إذن والاستصحاب متباينان ، فإذا استعملت الموثقة فيهما لزم استعمالها في معنيين .

أقول : لكنك قد عرفت سابقا : ان المستفاد عرفا من الموثقة : القاعدة والاستصحاب معا كما استفاده النراقي ، فكأن الإمام عليه السلام قال : كل شيء طاهر وطهارته مستمرة الى زمن العلم بالنجاسة ، فليست الغاية غاية إلاّ للحكم الثاني وهو استمرار الطهارة .

( و ) أما ( منشأ الاشتباه ) من النراقي بنظر المصنِّف ( في هذا المقام ) حيث توهّم أن الموثقة تريد قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا ، فهو ( ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ) فقد تقدّم : أن القاعدة من حيث المورد أعمّ

ص: 299

فيتخيّل أنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب .

وقد يقال أنّ دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلاّ

-------------------

من الاستصحاب .

وعليه : ( فيتخيّل ) للنراقي من ذلك : ( أنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب ) أيضا ، بينما الرواية تدلّ على مورد الاستصحاب لا على الاستصحاب بنفسه ، وذلك لأن مورد الاستصحاب وإن كان متحدا مع مورد القاعدة وهو : كونه مشكوك الطهارة ، إلاّ أن وحدة المورد لا فائدة فيه بعد اختلاف مناطهما على ما عرفت .

إذن : فمشكوك الطهارة يكون موردا للقاعدة ، سواءا كان مسبوقا بالطهارة أم لم يكن مسبوقا بالطهارة ، وهذا لا يعني الدلالة على الاستصحاب أيضا ، فإذا وجب - مثلاً - إكرام العلماء ووجب إكرام الأب ، فإنه يجب إكرام الأب لأنه عالم ، إذ وجوب إكرام العالم لا يفرق فيه بين أن يكون أبا وأ غير أب ، لا لأن أكرم العلماء يشمل قاعدة إكرام الأب .

وعليه : فإنّ هناك فرقا بين أن يكون إكرام الأب موردا لأكرم العلماء ، وبين أن يكون أكرم العلماء دالاً على وجوب إكرام الأب بما هو أب .

( وقد يقال ) في ردّ النراقي : إنه كيف زعم جواز شمول الموثقة للقاعدة والاستصحاب معا مع ( أنّ دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ) فمستصحب الطهارة مورد بينما استصحاب الطهارة هو استصحاب .

( وإلاّ ) بأن سلّمنا دلالة الموثقة على المستصحب والاستصحاب معا ، فإنه

ص: 300

فقد أشرنا الى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء .

ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية ، حيث ذكر روايات أصالة الحلّ الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع

-------------------

يلزم منه التناقض في داخل الموثقة ، إذ الموثقة كما تشمل مستصحب الطهارة باعتبار إنه مشكوك الطهارة والنجاسة ، كذلك تشمل مستصحب النجاسة أيضا باعتبار إنه مشكوك الطهارة والنجاسة وذلك يستلزم التناقض كما قال : ( فقد أشرنا الى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء ) ولو شملت الرواية مستصحب النجاسة لزم التناقض .

وإنّما يلزم منه التناقض لأن مستصحب النجاسة طاهر لقاعدة كل شيء طاهر ، ونجس لقاعدة استصحاب النجاسة ، والمفروض : إن الموثقة تشمل القاعدة والاستصحاب معا ، فتكون الموثقة شاملة للمتناقضين ، لكن الموثقة لا يمكن أن تكون شاملة للمتناقضين ، فيلزم إما أن تشمل مستصحب الطهارة ، أو استصحاب الطهارة ، لا كليهما - كما قاله النراقي - .

( ونظير ذلك ) الذي صنعه النراقي حيث جعل الرواية دالّة على قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا ( ما صنعه صاحب الوافية ) الفاضل التوني رحمه اللّه ( حيث ذكر روايات أصالة الحلّ الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع ) فإن روايات الحل تدّل على أن الشبهة الحكمية التحريمية وكذلك الشبهة الموضوعية التحريمية حكمها : الحلية .

مثلاً : إذا لم نعلم هل إن التتن حرام أو حلال؟ فهو حلال ، وكذلك إذا لم نعلم هل إن هذا المائع ماء أو خمر؟ فهو حلال أيضا .

ص: 301

في هذا المقام .

ثم على هذا كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البرائة ، لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد .

-------------------

وعليه : فإن روايات الحلّ مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (1) قد إستدل بها صاحب الوافية ( في هذا المقام ) أي : مقام الاستدلال على اعتبار الاستصحاب ، مما يدل على إن صاحب الوافية يرى : إن روايات الحل تشمل الشبهة الحكمية ، والموضوعية وتشمل استصحاب الحل أيضا .

وأما منشأ اشتباهه فهو عموم قاعدة الحل لمورد استصحاب الحل ، لا إن روايات الحل تشمل قاعدة الحل واستصحاب الحل معا ، وذلك على التقريب المتقدم في ردّ النراقي .

( ثم على هذا ) أي : على فرض أنّه لو كان عموم قاعدة الطهارة وقاعدة الحلّ لمورد استصحاب الطهارة واستصحاب الحلّ دليلاً على اعتبار القاعدة والاستصحاب فيهما معا ( كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البرائة ) مثل : حديث الرفع ، (2) وحديث الحجب (3) ، وما أشبه دليلاً على الاستصحاب أيضا .

وإنّما كان ينبغي ذكرها ( لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد ) فإن الحكم بالبرائة عن التكليف المشكوك يشمل ما إذا كان مسبوقا بالتكليف أو كان مسبوقا بعدم التكليف ، أو لم يكن له سابقة أصلاً .

ص: 302


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - انظر تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - انظر الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

فالتحقيق : أنّ الاستصحاب من حيث هو مخالف للقواعد الثلاث : البرائة والحلّ والطهارة ، وإن تصادقت مواردُها .

فثبت من جميع ما ذكرنا : أنّ المُتعيّن : حمل الرواية المذكورة

-------------------

مثلاً : المسبوق بالتكليف كصوم يوم الشك من شوال ، والمسبوق بالبرائة كصوم يوم الشك من شعبان ، وما لا سابقة له كشرب التتن بعد البلوغ إذا شك في أن التتن بعد البلوغ حرام أو حلال ، فإن هذه كلها - كما رأيت - موارد للاستصحاب أيضا .

إذن : فموارد دليل البرائة تتصادق مع موارد دليل الاستصحاب ، لكن هذا التصادق لا يستلزم الاستدلال بدليل البرائة على استصحاب البرائة ، وذلك لأن البرائة إنّما هو بملاحظة الشك في التكليف ، لا بملاحظة استصحاب البرائة في المسبوق بالبرائة على ما عرفت مثاله : من إكرام الأب لأنه عالم لا لأنه أب .

وعلى هذا : ( فالتحقيق : أنّ الاستصحاب من حيث هو ) أي : من حيث المناط الذي هو لحاظة الحالة السابقة وسحبها الى الحالة اللاحقة المشكوكة ( مخالف للقواعد الثلاث : البرائة ) وهي عند الشك في التكليف ( والحلّ ) الذي هو في مشتبه الحرمة ( والطهارة ) التي هي في مشتبه النجاسة .

إذن : فالاستصحاب مخالف للقواعد الثلاث مناطا ( وإن تصادقت مواردها ) على ما علمت من أن القواعد الثلاث : من البرائة والحل والطهارة موردها أعمّ مطلقا من مورد الاستصحاب ، لكن التصادق موردا شيء والدلالة على الاستصحاب شيء آخر ، ولا تلازم بين التصادق موردا والدلالة لفظا .

( فثبت من جميع ما ذكرنا : أنّ المتعيّن : حمل الرواية المذكورة )

ص: 303

على أحد المعنيين ، والظاهر : إرادة القاعدة ، نظير قوله : « كُلّ شيءٍ لك حلالٌ » ، حملَه على الاستصحاب وحملَ الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا ، خلاف الظاهر ، إذ ظاهر الجملة الخبريّة إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله .

-------------------

من قوله عليه السلام : « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (1) ( على أحد المعنيين ) أما القاعدة وأما الاستصحاب ، لا كما صنعه النراقي من حملها على كلا المعنيين .

هذا ( والظاهر : إرادة القاعدة ) من الرواية بنظر المصنِّف لا الاستصحاب ، فتكون الرواية بذلك ( نظير قوله ) عليه السلام : ( « كُلّ شيءٍ لك حلالٌ » (2) ) ونظير قوله عليه السلام : رفع ... ما لا يعلمون (3) ، وغير ذلك من أدلة البرائة .

وإنّما يكون الظاهر ذلك ( حملَه على الاستصحاب ، و ) بتعبير ثانٍ ( حملَ الكلام ) في الرواية المذكورة ( على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا ، خلاف الظاهر ) المنسبق من الرواية ( إذ ظاهر الجملة الخبريّة ) في قوله عليه السلام : « كل شيء طاهر » ( إثبات أصل المحمول للموضوع ) أي : الطهارة للشيء المشكوك .

( لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله ) بأن يقال : إن الطهارة للمشكوك مفروغ عنها ، وإنّما الكلام في استمرارها وعدم استمرارها .

ص: 304


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح42053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769.

نعم ، قوله : « حتى تعلم » يدل على استمرار المغيّا لكن المغيّا به الحكم بالطهارة ، يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له الى كذا ، لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها مستمرّةٌ ظاهرا الى زمن العلم .

-------------------

( نعم ، قوله : « حتى تعلم » يدل على استمرار المغيّا ) فإن المغيّى فيه استمرار ، لكن لا استمرار الاستصحاب ، ولهذا قال المصنِّف : ( لكن المغيّا به ) والضمير في به راجع الى حتى ، فيكون المراد بالمغيّى به هو : ( الحكم بالطهارة يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له ) أي : للشيء ( الى كذا ) ومصداق كذا هو العلم بالنجاسة .

( لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها ، مستمرّةٌ ظاهرا الى زمن العلم ) بالنجاسة .

إذن : فقوله حتى تعلم ، بنظر المصنِّف يفيد : إن مشكوك الطهارة مستمر طهارته الظاهرية الى زمن العلم ، لا أن الطهارة الواقعية مستمرة الى زمن العلم ، والمعيار في الاستصحاب هو الثاني حيث إن الاستصحاب كاشف عن الواقع ، فاللازم أن تكون الطهارة الواقعية للشيء مستمرة الى أن يعلم بخلافه لا الطهارة الظاهرية ، كما ان الحلية الواقعية للشيء مستمرة الى أن يعلم بحرمته لا الحلية الظاهرية ، وان الحياة الواقعية للشخص مستمرة الى أن يعلم بموته لا الحياة الظاهرية ، وهكذا .

لكن يمكن أن يقال : إن الاستصحاب أعم من الواقعي والظاهري ، فالحكم الثابت واقعا أو ظاهرا مستمر الى العلم بالخلاف ، كما إذا شهدت البيّنة على الطهارة فإنه حكم ظاهري ، ويستمر الى أن نعلم بالخلاف .

ص: 305

ومنها : قوله عليه السلام : « الماءُ كلُّه طاهرٌ حتى تعلَم أنّه نجسٌ » .

وهو وان كان متحدا مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلاّ أنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء ، غير متحقق غالبا .

-------------------

ثالثا : ( و ) مثل الروايتين السابقتين في كونهما من الأخبار الواردة في الموارد الخاصة وتدل على الاستصحاب أيضا رواية ثالثة أشار اليها المصنِّف بقوله : ( منها : قوله عليه السلام : « الماءُ كلُّه طاهرٌ حتى تعلَم أنّه نجسٌ »(1) ) مما يشبه موثّقة عمار إلاّ من جهة واحدة كما قال : ( وهو وان كان متحدا مع الخبر السابق ) أي : مع موثقة عمار : «كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر» (2) ( من حيث الحكم والغاية ) فإن في كل من الخبرين قد حكم بطهارة المشكوك الى زمن العلم بالنجاسة .

( إلاّ أنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء ، غير متحقق غالبا ) فإن الخبر السابق كان بالنسبة الى كل شيء وهذا الخبر بالنسبة الى الماء فقط ، والفارق بينهما ما يلي :

إن قوله : « كل شيء طاهر » : يشمل كل ما يشك في طهارته بحسب خلقته الأصلية مثل : خرء الطير الحرام اللحم ونحوه فإنهم اختلفوا في إنه طاهر أم لا ؟ فيناسبها إرادة قاعدة الطهارة لبيان : إن كل شيء مشكوك الطهارة فهو محكوم ظاهرا بالطهارة الى زمن العلم بالقذارة .

وأمّا قوله : « الماء كله طاهر » ، فإنه لا يشمل كل ما يشك في طهارته بل هو في خصوص الماء ، ولا شك في طهارة المياه بحسب خلقتها الأصلية .

ص: 306


1- - وقريب منه ورد في الكافي فروع : ج3 ص1 ح2 وح3 وتهذيب الاحكام : ج1 ص215 ب10 ح2 ووسائل الشيعة : ج1 ص134 ب1 ح326 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب ، والمعنى : « أنّ الماء المعلوم طهارتُه بحسب أصل الخلقة طاهرٌ ، حتى تعلم .. » أي : مستمر طهارته المفروضة الى حين العلم بعروض القذارة له ، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس ، والبئر ،

-------------------

كما إن الغالب الذي يندر خلافه هو : إن الشك في الماء يحصل من جهة احتمال عروض النجاسة مع سبق الطهارة ، إلاّ في بعض الافراد النادرة حيث لا يكون الشك فيها من هذه الجهة مثل : الكر المتغير الزائل تغيره بنفسه ، والكر المجتمع من المياه النجسة ، حيث اختلفوا في إنه هل يطهر بذلك لصدق قوله : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسّه شيء » (1) ، أو لم يطهر بذلك لعدم صدقه عليه .

وهكذا بالنسبة الى الماء النجس المتمم كرا بطاهر ، فهل يكون طاهرا أو يكون نجسا ، وذلك لأن الماء لا يمكن أن يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ؟.

إذن : ( فالأولى حملها ) أي : حمل هذه الرواية الثالثة ( على إرادة الاستصحاب ) فتكون من الروايات الدالة على حجية الاستصحاب ( و ) يكون ( المعنى « أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم .. » ) ومعنى إنه طاهر حتى تعلم ( أي : مستمر طهارته المفروضة الى حين العلم بعروض القذارة له ) وهذا هو معنى الاستصحاب .

وعليه : فالرواية تدل على الاستصحاب وتشمل الشبهة الحكمية والموضوعية معا كما قال المصنِّف : ( سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس ، والبئر ) فإن هذا من الشبهة الحكمية .

ص: 307


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ، كالشك في ملاقاته للنجاسة أو نجاسة ملاقيه .

ومنها: قوله عليه السلام: «إذا استَيقنْتَ أنّك قد توضأت، فإيّاك أن تُحْدِثَ وضوءا،

-------------------

وإنّما يكون من الشبهة الحكمية لأنا لا نعلم هل إن الشارع حكم بنجاسة الماء القليل الملاقي للنجس أم لا ؟ وكذا هل حكم بنجاسة ماء البئر الملاقي للنجس كما يقول به بعض أم لا ؟ .

ومن المعلوم : إن هذين المثالين من الشبهة الحكمية مما يحتاج لمعرفتها الى استطراق باب الشرع .

( أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ) من الشبهة الموضوعية ( كالشك في ملاقاته للنجاسة ) فيما إذا علمنا إنه يتنجس بالملاقاة لكن لم نعلم هل انه لاقى نجسا أو لم يلاقه ؟ .

( أو نجاسة ملاقيه ) بأن لم نعلم هل إن هذا الماء لاقى البول أو لاقى مايعا من المايعات الطاهرة غير البول .

ومن المعلوم : إن هذين المثالين من الشبهة الموضوعية مما يحتاج لمعرفتها الى استطراق باب العرف .

رابعا : ( و ) مثل الروايات الثلاث السابقة في كونها من الأخبار الواردة في الموارد الخاصة وتدل على الاستصحاب أيضا رواية رابعة أشار اليها المصنِّف بقوله : ( منها : قوله عليه السلام : « إذا استَيقنْتَ أنّك قد توضأت ، فإيّاك أن تُحْدِثَ وضوءا ) أي : إنك لا تحتاج الى وضوء جديد بعنوان التشريع ، وإن جاز لك ذلك بعنوان التجديد أو الاحتياط .

ص: 308

حتى تستيقِن أنّك أحدثت » .

ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة .

ثم إنّ اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار واضحٌ . وأمّا الأخبار العامّة ، فالمعروف بين المتأخرين : الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد .

-------------------

إذن : فلا تحدث الوضوء ( حتى تستيقِن أنّك أحدثت » (1) ) حدثا مبطلاً لوضوئك الذي كنت عليه ( ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة ) فلا حاجة الى تفصيل الكلام فيه .

( ثم إنّ اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار ) لدى المصنِّف : من إن موردها هو الشك في الرافع ، لا الشك في المقتضي ( واضحٌ ) لأن الاخبار الخاصة كلها واردة في مورد الشك في الرافع مثل : أن يكون سابقا طاهرا ويحتمل النجاسة ، أو يكون متطهرا ويحتمل الحدث ، أو يكون محدثا ويحتمل التطهر .

ومن المعلوم : إن الحدث ، وكذا الطهارة من الحدث أو الخبث هي مما إذا وجدت دامت إلاّ بالرافع .

( وأما الأخبار العامّة ) التي مرّ ذكرها سابقا الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك ( فالمعروف بين المتأخرين : الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد ) سواء كان شكا في المقتضي أم شكا في الرافع .

والظاهر إن استدلال المتأخرين بها على حجية مطلق الاستصحاب ،

ص: 309


1- - الكافي : ج3 ص33 ح1 بالمعنى ، تهذيب الاحكام : ج1 ص102 ب4 ح117 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح637 (بالمعنى) .

وفيه تأمّلٌ قد فتح بابه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ،

توضيحه أنّ حقيقة النقض هو : رفع الهيئة الاتصالية ، في نقض الحبل ، والأقرب اليه على تقدير مجازيّته هو رفع الأمر الثابت ، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، بعد أن كان آخذا به .

-------------------

هو مقتضى القاعدة وفي محله وإن قال المصنِّف : ( وفيه تأمّلٌ قد فتح بابه ) أي : باب هذا التأمل (المحقق الخوانساري في شرح الدروس) فان هنا التأمل ليس في محله .

وأما ( توضيحه ) أي : توضيح هذا التأمل وهو كما قال : ( أنّ حقيقة النقض هو : رفع الهيئة الاتصالية ، في نقض الحبل ) ونحو الحبل من الأمور التكوينية المستحكمة ، وحيث إن كلامنا في الأمور الاعتبارية ، لم يرد من النقض المعنى الحقيقي ، بل المعنى المجازي فما هو إذن أقرب المجازات اليه ؟ .

قال المصنِّف : ( والأقرب اليه على تقدير مجازيّته ) أي : مجازية النقض بعد عدم إرادة المعنى الحقيقي منه ( هو رفع الأمر الثابت ) بأن كان المقتضي موجودا ، وكان الشك في الرافع .

وإنّما يكون هذا هو أقرب المجازات الى الحقيقة ، لأن الشيء الذي لا يرتفع إلاّ برافع أقرب الى الأمر الثابت الخارجي من الشيء الذي يرتفع بنفسه .

هذا ( وقد يطلق ) النقض أيضا ( على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، بعد أن كان ) الشخص ( آخذا به ) أي : بذلك الشيء .

مثلاً : رفع اليد عن التيمم عند وجدان الماء فيما إذا كان آخذه بالتيمم مستندا الى فقد الماء فيقال : نقض تيمّمه مع إنه لا مقتضي لبقاء تيممه مع وجدان الماء .

وكرفع اليد عن الصوم فيما إذا تمرّض في الأثناء فيقال : نقض صومه مع إن الشخص الذي يتمرّض في الأثناء لا مقتضي لبقاء صومه .

ص: 310

فالمراد من النقض : عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده .

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الأمر يدور بين أن يراد بالنقض : مطلق ترك العمل وترتيب الأثر وهو المعنى الثالث ، ويبقى المنقوضُ عامّا لكلّ يقين ،

-------------------

وعلى هذا : ( فالمراد من النقض : عدم الاستمرار عليه ) أي : على الشيء ( والبناء على عدمه بعد وجوده ) أي : بعد وجود الشيء بلا فرق بين أن يكون رفع اليد عن الشيء لعدم المقتضي أو لوجود الرافع .

( إذا عرفت هذا ) الذي قلناه : من إن النقض الحقيقي في الاعتباريات متعذر وهو المعنى الأوّل للنقض ، يبقى المعنيان الآخران المجازيان وهما : النقض بسبب الرافع فقط ، والنقض بأعم من الرافع والمقتضي ، ويدور الأمر بينهما كما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( فنقول : إنّ الأمر يدور بين أن يراد بالنقض : مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ) بلا فرق بين أن يكون رفع اليد من باب الشك في المقتضي أو من باب الشك في الرافع .

( و ) عليه : فيكون النقض معنى : مطلق ترك العمل ( هو المعنى الثالث ) للنقض ، لأن المعنى الأوّل للنقض على ما عرفت هو : النقض الحقيقي وهو متعذر هنا ، والمعنى الثاني هو : رفع الأمر الثابت مما له مقتضي البقاء فقط : والمعنى الثالث هو : الأعم مما فيه مقتضى البقاء وما ليس فيه مقتضي البقاء .

( و ) عليه : فإذا أخذنا معنى النقض عاما ( يبقى المنقوضُ عامّا لكلّ يقين ) سواء تعلق بأمر لا يرتفع إلاّ برافع كالوضوء ، أو تعلق بأمر يرتفع بانتهاء استعداده كالتيمم .

إذن : فالأمر بعد تعذّر المعنى الحقيقي للنقض يدور بين مطلق ترك العمل

ص: 311

وبين أن يراد من النقض ظاهره ، وهو المعنى الثاني ، فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار ، المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى .

ولا يخفى رجحان هذا على الأوّل ، لأنّ الفعل الخاص يصير مخصّصا لمتعلّقه العام ،

-------------------

حيث قد تقدّم بحثه ( وبين أن يراد من النقض ظاهره ، وهو المعنى الثاني ) أي : رفع الأمر الثابت مما يكون الشك في الرافع فقط ( فيختص ) على المعنى الثاني ( متعلقه ) أي : متعلق النقض وهو المنقوض ( بما ) أي : باليقين الذي ( من شأنه الاستمرار ، المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى ) أي : معنى الاستمرار .

وعليه : فإنا إذا أخذنا معنى النقض خاصا بأن جعلناه بمعنى : رفع الأمر الثابت وهو المعنى الثاني للنقض ، أصبح المنقوض خاصا باليقين الذي له طبيعة الاستمرار وفيه اقتضاء البقاء ، كاليقين بالطهارة حيث من طبيعتها البقاء إلاّ بالرافع وكاليقين بالنجاسة حيث من طبيعتها البقاء إلاّ بالرافع ، وهكذا .

( ولا يخفى رجحان هذا ) أي : المعنى الثاني وهو الخاص بما من شأنه الاستمرار ( على الأوّل ) أي : المعنى الثالث وهو العام الشامل لما من شأنه الاستمرار وما ليس من شأنه الاستمرار .

وإنّما يكون المعنى الثاني وهو المعنى الخاص للنقض أرجح ( لأنّ الفعل الخاص ) الذي هو النقض في المثال ( يصير ) بحسب فهم العرف ( مخصّصا لمتعلّقه العام ) أي : لمتعلق النقض وهو اليقين .

وعليه : فإن اليقين وإن كان عاما يشمل كل يقين سواء كان فيه مقتضى البقاء أم لم يكن ، إلاّ أن النقض لظهوره في رفع الأمر الثابت الظاهر فيما فيه مقتضى البقاء يخصصه بالشك في الرافع فيصير قرينة على إن المراد من اليقين هو : الخاص

ص: 312

كما في قول القائل : لا تضرب أحدا ، فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العام بالأحياء ، ولايكون عمومه للأموات

-------------------

بالأمر الذي من شأنه الاستمرار مثل اليقين بالطهارة ، واليقين بالنجاسة ، واليقين بالملكية ، وما أشبه ذلك لا اليقين بالأعم منه .

والحاصل : إنّ علماء البلاغة ذكروا في كتب البلاغة : إنّ الموضوع قد يكون قرينة على التصرّف في الحكم ، كما إن الحكم قد يكون قرينة على التصرف في الموضوع ، مثلاً إذا قال : رأيت في الملعب أسدا يرمي ، كان يرمي قرينة على التصرف في الأسد وإرادة الرجل الشجاع منه ، وإذا قال : رأيت في المسبعة أسدا يرمي ، كان الأسد قرينة على التصرف في الرمي وإرادة الحجارة منه .

ولهذا قالوا : بأن الحكم قد يخصص الموضوع أو يعممه ، كما إن الموضوع قد يعمم الحكم أو يخصصه ، وفي المقام : « لا تنقض » وهو حكم ، قرينة على التصرف في الموضوع وهو « اليقين » .

وعليه : فإن اليقين وإن كان شاملاً لقسمي اليقين إلاّ أن لا تنقض الظاهر في اختصاصه بالشك في الرافع ، يكون قرينة للتصرف في اليقين وإرادة اليقين الخاص بالأمر المستمر ، لا العام الشامل للأمر الذي ينتهي بنفسه أيضا ، فالمقام إذن من التصرف في الموضوع بسبب الحكم .

والى بيان هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( كما في قول القائل : لا تضرب أحدا فإنّ الضرب ) حيث كان ظاهرا في الايلام يكون ( قرينة على اختصاص العام ) وهو أحد ( بالأحياء ) فإن الأموات لا يتألمون بسبب الضرب .

( و ) حينئذ : ( لايكون عمومه ) أي : عموم أحد الشامل ( للأموات ) الفاقدين

ص: 313

قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات .

ثم لا يتوهّم الاحتياج حينئذ الى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ،

-------------------

للحس ( قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه ) حتى الفاقدين للحس ( كسائر الجمادات ) .

ولذلك يستفيد العرف من مثل هذه العبارة ، لزوم التصرف في الموضوع بسبب الحكم .

( ثم ) إنه إن قلت : إنا لو أردنا بالنقض المعنى الثاني وهو المعنى الخاص لزم رفع اليد عن ظاهر اليقين وتأويله بالمتيقن ، بخلاف ما إذا أردنا به المعنى الثالث وهو المعنى العام حيث لا يلزم منه هذا المجاز ، فيترجح على ذلك المعنى الثالث للنقض ، لا المعنى الثاني الذي ارتضاه المصنِّف .

وبعبارة أخرى : إن النقض لو كان بمعنى رفع اليد عن الشيء وهو المعنى الثالث للنقض كان اليقين فيه باقيا على حاله بلا تصرف فيه لأن اليقين يمكن نقضه برفع اليد عنه ، فيكون معنى « لا تنقض اليقين » : لا ترفع اليد عن اليقين .

وأما لو كان بمعنى رفع الأمر الثابت وهو المعنى الثاني للنقض : فلابد من التصرف في اليقين وجعله فيه بمعنى المتيقن لأن المتيقن كالطهارة - مثلاً - هو الأمر الثابت الذي يمكن نقضه ، لا نفس اليقين ، فيكون معنى لا تنقض اليقين : لا ترفع المتيقن الذي هو أمر ثابت .

هذا ، ومن المعلوم : إن إرادة ما لا تصرّف فيه مقدّم على ما فيه تصرّف .

إن قلت ذلك قلت : ( لا يتوهّم الاحتياج حينئذ ) أي : حين إرادة المعنى الثاني للنقض ( الى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ) أي : من اليقين ، وذلك

ص: 314

لأنّ التصرّف لازم على كل حال .

فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه ، وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين .

والمراد بأحكام اليقين ليس أحكام نفس وصف اليقين ،

-------------------

( لأنّ التصرّف لازم على كل حال ) سواء قلنا بالمعنى الثاني للنقض ، أم قلنا بالمعنى الثالث له ؟ .

وإنّما يكون التصرف في اليقين لازما لأنه كما قال : ( فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ) أي : سواء على تقدير المعنى الثاني للنقض ، أم تقدير المعنى الثالث له ، وذلك لأن اليقين بنفسه قد انتقض بطروّ الشك عليه ، فلا يكون نقضه اختياريا حتى ينهى الشارع عنه .

إذن : فلا يكون المراد من اليقين المنهي عن نقضه هو : نفس اليقين ( بل المراد ) من اليقين المنهي عن نقضه هو : إمّا ( نقض ما كان على يقين منه ، وهو ) أي : ما كان على يقين منه مثلاً : ( الطهارة السابقة ) ومن المعلوم : إن الطهارة السابقة ليست هي نفس اليقين بل المتيقن .

( أو ) المراد من اليقين المنهي عن نقضه هو : ( أحكام اليقين ) وهو مثلاً : جواز الدخول في الصلاة في مورد سبق الطهارة ، وجواز مس كتابة القرآن ، وجواز الدخول في الطواف ، وما أشبه ذلك من الشبهات الحكمية ، أو مثلاً : وجوب نفقة الزوجة في مورد سبق الحياة ، وعدم تقسيم أمواله ، وحرمة الزواج من زوجته ، وما أشبه ذلك من الشبهات الموضوعية .

( و ) من المعلوم : إن ( المراد بأحكام اليقين ليس أحكام نفس وصف اليقين ،

ص: 315

إذ لو فرضنا حكما شرعيا محمولاً على نفس صفة اليقين ارتفع بالشك قطعا ، كمن نذر فعلاً في مدّة اليقين بحياة زيد .

بل المراد أحكام المتيقّن المُثبتة له من جهة اليقين ،

-------------------

إذ لو فرضنا حكما شرعيا محمولاً على نفس صفة اليقين ارتفع ) ذلك الحكم ( بالشك ) فإن الصفة ترتفع بارتفاع الموصوف ( قطعا ، كمن نذر فعلاً في مدّة اليقين بحياة زيد ) .

مثلاً : إذا نذر بأن يعطي الفقير كل يوم درهما ما دام له صفة اليقين بحياة زيد فإنه إذا ارتفعت منه صفة اليقين وتبدلت بالشك إرتفع موضوع وجوب اعطاء الدرهم للفقير ، ولا ينفع فيه الاستصحاب ، لأن الاستصحاب لا يورث في النفس صفة اليقين حتى يتحقق موضوع النذر .

إذن : فلا يكون المراد من أحكام اليقين المنهي عن نقضها هو أحكام نفس صفة اليقين .

( بل المراد ) من أحكام اليقين المنهي عن نقضها هو : ( أحكام المتيقّن المُثبتة له ) أي : للمتيقن ( من جهة اليقين ) فهنا أربعة أمور :

الأوّل : اليقين بنفسه ، وقد ارتفع قطعا ، لأنه لا يعقل الجمع بين الشك واليقين في الصفة النفسية .

الثاني : ما هو حكم صفة اليقين ، كمثال النذر وقد ارتفع أيضا بزوال صفة اليقين عن النفس بسبب الشك .

الثالث : متعلق اليقين كالطهارة وما أشبه وهو : المتيقن .

الرابع : احكام المتيقن كالدخول في الصلاة وما أشبه : وهذان الأخيران اللذان نهى الشارع عن نقضهما فيستصحبان دون الأولين .

ص: 316

وهذه الأحكام كنفس المتيقن أيضا لها استمرارٌ شأني لا يرتفع إلاّ بالرافع ، فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمرٌ مستمر الى أن يحدث ناقضها .

وكيف كان : فالمراد : إمّا نقض المتيقّن فالمراد بالنقض : رفع اليد عن مقتضاه وإمّا نقض أحكام اليقين ، أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به

-------------------

إذن : فلابد من التصرف في اليقين المنهي عن نقضه على كل تقدير ( و ) إرادة إما المتيقن منه أو أحكام المتيقن ، علما بأن ( هذه الأحكام ) التي هي للمتيقن كالدخول في الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن وما أشبه ذلك إنّما هي ( كنفس المتيقن ) في مثالنا وهو الطهارة فإنها ( أيضا لها استمرار شأني ) اعتباري ( لا يرتفع إلاّ بالرافع ) كالحدث - مثلاً - .

وعليه : ( فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستمر الى أن يحدث ناقضها ) كما إن نفس الطهارة أمر مستمر اعتباري حتى يحدث ناقضها .

( وكيف كان : فالمراد : إمّا نقض المتيقّن ) كما تقدّم من مثال الطهارة والنجاسة، والملكية والزوجية ، والحياة والحرية ، وما أشبه ذلك من الشبهات الموضوعية والحكمية ( ف ) يكون ( المراد بالنقض : رفع اليد عن مقتضاه ) أي : عن مقتضى اليقين ، فإن مقتضى اليقين بالطهارة - مثلاً - هو : بقاء الطهارة واستمرارها الى حين الشك ، فهذا المقتضى لا تنقضه ولا ترفع اليد عنه .

( وإمّا ) أن يكون المراد : ( نقض أحكام اليقين ، أي ) : الأحكام ( الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به ) أي : من جهة اليقين بذلك المتيقن ، فاليقين بالطهارة - مثلاً - أحكامه جواز الدخول في الصلاة ، وما أشبه ، واليقين بحياة زيد - مثلاً - أحكامه وجوب نفقة زوجته وما أشبه ، وهكذا سائر الأحكام المتعلقة بالمتيقن

ص: 317

والمراد حينئذ : رفع اليد عنها .

ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات إرادةُ المعنى الثالث ، مثل قوله عليه السلام : « بل ينقض الشك باليقين » ،

-------------------

( و ) يكون ( المراد ) بالنقض ( حينئذ : رفع اليد عنها ) أي : لا ترفع اليد عن تلك الأحكام .

والحاصل : إن معنى لا تنقض اليقين : إما لا ترفع اليد عن الطهارة - مثلاً - وإما لا ترفع اليد عن أحكام الطهارة - مثلاً - كالدخول في الصلاة ، وهكذا بقية الأمور غير الطهارة ، وسائر الأحكام غير أحكام الطهارة ، فلا ترفع اليد عنها .

ثم إنّ المصنِّف أثبت الى هنا : إن المراد من لا تنقض اليقين بالشك ، الواردة في روايات الاستصحاب العامة هو الشك في الرافع فقط ، وهنا يشير الى إنه يمكن أن يراد من بعض تلك الروايات ما يعم الشك في الرافع والشك في المقتضي فقال : ( ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات : إرادة المعنى الثالث ) أي : مطلق رفع اليد عن الشيء سواء كان من باب الشك في المقتضي أم من باب الشك في الرافع ، والأمارات هي كالتالي :

أولاً : ( مثل قوله عليه السلام : « بل ينقض الشك باليقين » (1) ) حيث إن النقض هنا أسند الى الشك ولم يسند الى اليقين كما هو في بقية الروايات ، ومعلوم : ان الشك هو عبارة عن أمر غير ثابت لاتقتضي الاستمرار ، فيكون المراد من اسناد النقض اليه في قوله : بل ينقض الشك : مجرد عدم الاعتداد بالشك ورفع اليد عنه ، وحينئذ يكون المراد من قوله : لا تنقض اليقين هو هذا المعنى أيضا بقرينة المقابلة .

ص: 318


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وقوله : « ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات » ، وقوله : « اليقين لا يدخله الشك ، صُم للرؤية وأفطر للرؤية » فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشك فيه ليس شكا في الرافع كما لا يخفى .

-------------------

وعليه : فيعمّ النقض ما كان فيه مقتضي البقاء بأن يكون الشك في الرافع ، وما ليس فيه مقتضي البقاء بأن يكون الشك في المقتضى .

ثانيا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام : ( « ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات »(1) ) بأن يرفع اليد عنه ، وذلك في مقابل قوله : لا ينقض اليقين بالشك يعني يعتدّ باليقين ولا يرفع اليد عنه والتقريب هو التقريب الذي ذكرناه في الرواية السابقة من إن الشك ليس أمرا ثابتا يقتضي الاستمرار .

ثالثا : (و) مثل : (قوله) عليه السلام : («اليقين لا يدخله الشك صُم للرؤية وأفطر للرؤية»(2) ) وتقريب الدلالة هو ما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشك فيه ليس شكا في الرافع ) بل هو شك في المقتضي (كما لا يخفى) .

هذا بالنسبة الى الافطار للرؤية ، وكذا بالنسبة الى الصوم للرؤية فإن مورده استصحاب بقاء شعبان ، ومعلوم : إن الشك في بقاء كل من شعبان وشهر رمضان ليس شكا في الرافع ، وإنّما هو شك في المقتضي ، وذلك لأنا لا نعلم هل إن شعبان يقتضي البقاء الى الثلاثين أم لا ؟ وكذلك لا نعلم هل إن شهر رمضان يقتضي البقاء الى الثلاثين أم لا ؟ .

إذن : فهذه الرواية تدل على حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أيضا .

ص: 319


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وقوله في رواية الأربعمائة : « مَن كان على يقين فشك فليمضِ على يقينه، فانّ اليقين لا يُدفع بالشك » ، وقوله : «وإذا شككت فابْنِ على اليقين» .

فإنّ المستفاد من هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض : عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين السابق ، نظير قوله عليه السلام : « إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّك ليس بشيء » .

-------------------

رابعا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام ( في رواية الأربعمائة : « مَن كان على يقين فشك فليمضِ على يقينه ، فانّ اليقين لا يُدفع بالشك » (1) ) وتقريب شموله للشك في المقتضي هو ما ذكرناه في الرواية الاُولى .

خامسا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت فابْنِ على اليقين » ) (2) أي : لا ترفع يدك عنه ، وتقريبه هو نفس التقريب المذكور في الرواية الاُولى .

وعليه : ( فإنّ المستفاد من هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض : عدم الاعتناء بالاحتمال ) والشك اللاحق ( المخالف لليقين السابق ) سواء كان مما يقتضي البقاء أم لا ، فتكون هذه الروايات من حيث عدم الاعتناء بالشك اللاحق ( نظير قوله عليه السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّك ليس بشيء » (3) ) مطلقا فلا تعتن به ، وهذه الرواية ذكرها الفقهاء في الفقه، واستدلوا بها على قاعدة التجاوز .

إذن : فالشك اللاحق لليقين السابق سواء كان يقينا يقتضي البقاء ، أم لا يقتضي البقاء ، لا تعتن به ، فيشمل الشك في الرافع والشك في المقتضي معا .

ص: 320


1- - انظر الخصال : ص619 ح10 ووسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 ، ولا يخفى ان ذيل الرواية ينسجم مع ما ورد في الارشاد : ج1 ص302 وبحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 ومستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ النقض عن ظاهره ، لأنّ قوله « بل ينقضُ الشك باليقين » ، معناه : رفعُ الشك ، لأنّ الشك ممّا إذا حصل لا يرتفع إلاّ برافع .

وأمّا قوله : « مَن كان على يقين فشكَّ » ، فقد عرفت الاشكال في ظهوره في اعتبار الاستصحاب كقوله : « إذا شككت فابْنِ

-------------------

( هذا ) هو غاية ما يمكن تقريبه في دلالة الروايات على حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في الرافع أم في المقتضي .

( ولكنّ الانصاف : أنّ شيئا من ذلك ) الذي استدل به لأعمية الاستصحاب ( لايصلح لصرف لفظ النقض عن ظاهره ) بنظر المصنِّف حيث إن المصنِّف يرى: إن ظاهر النقض خاص بالشك في الرافع .

وإنّما يراه لا يصلح لصرفه عن ظاهره ( لأنّ قوله ) عليه السلام في الأمارة الاُولى : ( « بل ينقضُ الشك باليقين » (1) ، معناه : رفعُ ) الأمر الثالث الذي هو ( الشك ، لأنّ الشك ) حاله حال الطهارة والنجاسة ، والحلّية والحرمة ، والملكية والزوجية ، وما أشبه ( ممّا إذا حصل لا يرتفع إلاّ برافع ) فالشك ممّا يحتاج في رفعه الى رافع ، وليس مما يرتفع من نفسه .

( وأمّا قوله ) عليه السلام في الأمارة الثانية : ( « مَن كان على يقين فشكَّ » (2) ، فقد عرفت الاشكال في ظهوره في اعتبار الاستصحاب ) لاحتمال إنه يريد حجية الشك الساري المسمى بقاعدة اليقين ( كقوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت فابْنِ

ص: 321


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

على اليقين » مع إمكان أن يجعل قوله : « فإنّ اليقين لا يُنقَضُ بالشك ، أو لا يُدفع به » ، قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض .

مع أنّ الظاهر من المضيّ الجري

-------------------

على اليقين » (1) ) حيث إنه محتمل لارادة اليقين بالبرائة لا اليقين السابق ، فلا ربط لهذه الرواية بالاستصحاب .

هذا ( مع إمكان أن يجعل قوله ) عليه السلام : ( « فإنّ اليقين لا يُنقَضُ بالشك أو لا يُدفع به » (2) ، قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض ) فايراد النقض بنظر المصنِّف كما عرفت مختص بالشك في الرافع ، فتكون الرواية أيضا مختصة بالشك في الرافع .

إذن : فلفظ المضي على اليقين في صدر هذه الرواية وهي الأمارة الثانية وإن كان بمعنى العمل باليقين السابق وعدم رفع اليد عنه سواء كان مما يقتضي البقاء أم لا ؟ إلاّ أن تعبير الإمام عليه السلام في ذيل الرواية تارة : بأن اليقين لا يدفع بالشك ، وأخرى : بأن الشك لا ينقض اليقين ، يكون قرينة على إن مراده عليه السلام بالمضيّ على اليقين في صدر الرواية هو أيضا المضيّ فيما كان له مقتضي البقاء ، مما يؤل بالأخرة الى حجية الاستصحاب في صورة الشك في الرافع لا في صورة الشك في المقتضي .

هذا ( مع أنّ الظاهر من المضيّ ) في كلام الإمام عليه السلام هو : ( الجري

ص: 322


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 ، وان قيد لا يدفع به ينسجم مع ما ورد في الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ومستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 وبحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 .

على مقتضى الداعي السابق ، وعدم الوقف إلاّ لصارف ، نظير قوله : « إذا كثر عليك السهو ، فامْضِ في صلاتك » ، ونحوه ، فهو أيضا مختص بما ذكرنا .

وأمّا قوله : « اليقين لا يدخله الشك » ، فتفرّع الافطار للرؤية عليه من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان الى أن يحصل الرافع .

-------------------

على مقتضى الداعي السابق ، وعدم الوقف إلاّ لصارف ) أي : لرافع فيكون لفظ : المضيّ في قوله : « فليمض على يقينه » مثل لفظ : لا ينقض في قوله : ولا ينقض اليقين بالشك وبمعناه ، وإذا كان بمعناه اختص الشك في المقتضي .

وعليه : فالمضي هنا يكون حينئذ ( نظير ) المضيّ في ( قوله ) عليه السلام : ( « إذا كثر عليك السهو ، فامْضِ في صلاتك » (1) ، ونحوه ، فهو أيضا مختص بما ذكرنا ) من الشك في الرافع .

وإنّما هو مختص بالشك في الرافع ، لأن المضيّ في الصلاة مقتضية للبقاء حتى ترتفع برافع : من حدث ، أو فعل كثير ، أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا قوله ) عليه السلام في الأمارة الثالثة ( « اليقين لا يدخله الشك » (2) ، فتفرّع الافطار للرؤية عليه ) أي : على اليقين ( من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان الى أن يحصل الرافع ) أي : إنّ الاستصحاب فيه ليس استصحابا للزمان حتى يكون من الشك في المقتضي وإنّما هو استصحاب الاشتغال ، بأن الاشتغال بشيء إذا ثبت دام حتى يرتفع برافع فيكون من الشك في الرافع .

ص: 323


1- - الكافي فروع : ج3 ص359 ح8 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص343 ب13 ح11 و ح12 ، وسائل الشيعة : ج8 ص228 ب16 ح10495 .
2- - تهذيب الأحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وبالجملة : فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشك في الارتفاع برافع .

-------------------

إذن : فتفرع الافطار للرؤية على اليقين بالنسبة الى شهر رمضان هو : استصحاب الاشتغال بالصوم ، فالشك فيه من الشك في الرافع .

كما إن تفرّع الصوم للرؤية على اليقين بالنسبة الى شعبان هو : استصحاب عدم وجوب الصوم ، أو جواز الأكل والشرب وما أشبه ذلك ، فالشك فيه أيضا من الشك في الرافع فإذا قلنا : بأنه استصحاب عدم وجوب الصوم كان من الاستصحاب العدمي ، وإذا قلنا : بأنه من استصحاب جواز الأكل والشرب ، كان من الاستصحاب الوجودي على ما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

وأما الجواب عن الأمارة الرابعة وهي حديث الأربعمائة (1) ، والأمارة الخامسة وهي : إذا شككت فابن على اليقين (2) : فبالتقريب الماضي في الجواب عن الأمارات الثلاث الماضية .

( وبالجملة : فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار ) الواردة في باب الاستصحاب ( لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشك في الارتفاع برافع ) ولا تشمل الشك في المقتضي .

هذا تمام الكلام فيما احتج به للاستصحاب على القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقق في المعارج وارتضاه المصنِّف هنا مما خلاصته : حجية الاستصحاب في الشك في الرافع فقط دون الشك في المقتضي .

ص: 324


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
إحتج للقول الأوّل بوجوه :

منها : أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلة اللفظية ، لتوقفها على أصالة عدم القرينة والمعارض والمخصص والمقيّد والناسخ وغير ذلك .

-------------------

وأما الاحتجاج لبقية الأقوال فقد أشار إليه المصنِّف بقوله : ( إحتج للقول الأوّل ) وهو القول بحجية الاستصحاب مطلقا ( بوجوه ) هي كالتالي :

( منها : أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلة اللفظية ) وذلك ( لتوقفها ) أي : توقف الاستفادة من الأدلة اللفظية ( على أصالة عدم القرينة ) مثل : اغتسل حيث ان ظاهره : الوجوب ، فنشك هل كان معه قرينة تصرفه الى الندب ؟ نقول : الأصل عدم القرينة .

( و ) أصالة عدم ( المعارض ) مثل : المرأة لا ترث من الأرض ، فنشك هل هناك خبر آخر يعارضه ، أو يكون حاكما أو واردا عليه؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( المخصّص ) بالنسبة الى العام مثل : « أحلّ لكم الطيّبات » (1) فنشك هل هناك ما يخصّصه ؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( المقيّد ) بالنسبة الى المطلق مثل : « أعتق رقبة مؤمنة » (2) ، فنشك هل هناك خبر يقيدها بالبيضاء أو السوداء ؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( الناسخ ) مثل : « المشركون نجس » (3) فنشك هل جاء ما ينسخه ؟ نقول : الأصل عدمه .

( وغير ذلك ) من الأصول اللفظية كأصل عدم الاضمار ، وأصل عدم المجاز ،

ص: 325


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص178 ح13 .
3- - سورة التوبة : الآية 28 .

وفيه : أنّ تلك الأصول قواعد لفظية مُجمَعٌ عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ، مع أنّها أصول عدمية لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، إمّا لكونها مجمعا عليها بالخصوص ،

-------------------

وما أشبههما ، فإن احتمال هذه الأمور مما يصرف اللفظ عن ظاهره ولا يدع مجالاً للعمل باللفظ ، فإذا استصحبنا عدم القرينة وعدم المعارض وما أشبه ذلك ، تمكّنا أن نعمل على ظاهر اللفظ ، أمّا إذا لم نستصحب عدم هذه الأمور تصبح الألفاظ مجملة فلا يمكن العمل على ظاهرها .

هذا ، ولكن حيث نرى : إن العقلاء كافة يعملون على ظاهر الألفاظ ، نستظهر حجّية الاستصحاب عند العقلاء ، والشارع لم يغيّر طريقتهم فيظهر أنه أيضا اتبع هذه الطريقة في أحكامه .

( وفيه : أنّ تلك الأصول قواعد لفظية مُجمَعٌ عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ) من ظاهر الألفاظ ، فإن أهل اللسان كلهم مجمعون على هذه الاصول وإن لم يكونوا من العلماء ، وإذا كان كذلك فلا تتم أركان الاستصحاب ، لأن من أركان الاستصحاب : اليقين السابق والشك اللاحق ، وحيث ثبت اجماع العلماء عليها فلا شك في اللاحق ، فلا يكون هذا من باب الاستصحاب .

( مع ) إنا لو قلنا بأن هذا من الاستصحاب ، لا يكون أيضا دليلاً على القول الأوّل القائل بحجية الاستصحاب مطلقا ، وذلك لما عرفت : من ( أنّها أصول عدمية لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ) أي : سواء في الاصول العدمية أم في الاصول الوجودية .

وعدم استلزامها ذلك ( إمّا لكونها مجمعا عليها بالخصوص ) فلا يتعدّى منها

ص: 326

وإمّا لرجوعها الى الشك في الرافع .

ومنها : ماذكره في المعارج ، وهو : « أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ، والعارض لا يصلح رافعا ، فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني ، أمّا أنّ المقتضي ثابتٌ : فلأنّا نتكلم على هذا التقدير ، وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا : فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ، لكنّ احتمال ذلك معارضٌ باحتمال عدمه ، فيكون كل منهما

-------------------

الى غيرها من الأصول الوجودية ( وإمّا لرجوعها الى الشك في الرافع ) فلا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في المقتضي .

إذن : فهذا الدليل لا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب على إطلاقه .

( ومنها ) أي : مما استدل به القول الأوّل : ( ما ذكره ) المحقق ( في المعارج : وهو : « أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ) سواء كان وجوديا أم عدميا ( والعارض ) وهو الشك ( لا يصلح رافعا ) وإذا تمّت هاتان المقدمتان ( فيجب الحكم بثبوته ) أي : ثبوت الحكم الأوّل ( في الآن الثاني ) وهو عبارة أخرى عن الاستصحاب .

( أمّا أنّ المقتضي ثابت : فلأنّا نتكلم على هذا التقدير ) أي : تقدير ثبوت المقتضي لأنه لو لم يكن المقتضي ثابتا فلا مجال للاستصحاب .

( وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا : فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ) لأن المفروض : إنا نشك هل إن الحكم السابق باق أم لا ؟ ومعنى شكنا هو: إنا نحتمل تجدد ما يوجب زوال الحكم .

( لكنّ احتمال ذلك ) أي : تجدد ما يوجب زوال الحكم ( معارضٌ باحتمال عدمه ) أي : عدم تجددّه فيتعارضان ويتساقطان .

وعليه : ( فيكون كل منهما ) أي : من احتمال التجدد واحتمال عدم التجدد

ص: 327

مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن الرافع » ، انتهى .

وفيه : أنّ المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامّة للحكم أو للعلم به ، أعني : الدليل أو المقتضي بالمعنى الأخص .

وعلى التقدير الأوّل ، فلابد من أن يراد من ثبوتِه ثبوتُه في الزمان الأوّل .

ومن المعلوم : عدم إقتضاء ذلك لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلاً .

-------------------

( مدفوعا بمقابله ) فيتساقطان ( فيبقى الحكم الثابت ) أوّلاً ( سليما عن الرافع » (1) ، انتهى ) كلام المعارج .

( وفيه : أنّ المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامّة للحكم ) أي : العلّة التامة لثبوت الحكم وذلك في مقام الثبوت ( أو ) العلّة التامة ( للعلم به ) أي : للعلم بالحكم وذلك في مقام الاثبات ، والمراد بالعلة العامة ( أعني : الدليل ) الدال على الحكم .

( أو ) إن المراد بالمقتضي : ( المقتضي بالمعنى الأخص ) أي : العلّة الناقصة للحكم ، وسمّاه بالمعنى الأخص مقابل المقتضي بالمعنى الأعم ، فإن المقتضي بالمعنى الأخص هو أخص من المقتضي بالمعنى الأعم الشامل للعلة التامة والعلّة الناقصة .

( وعلى التقدير الأوّل ) أي : تقدير أن يراد بالمقتضي : العلّة التامة للحكم أو العلّة التامة للعلم بالحكم ( فلابد من أن يراد من ثبوته ) حيث قال المعارج : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت : ( ثبوته في الزمان الأوّل ) لأنه إذا أراد ثبوته في الزمان الثاني فلا حاجة الى الاستصحاب ( ومن المعلوم : عدم إقتضاء ذلك ) أي : الثبوت في الزمان الأوّل ( لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلاً )

ص: 328


1- - معارج الاصول : ص206 .

وعلى الثاني ، فلابد من أن يراد ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم . وفيه : مع أنّه أخصّ من المدّعى أنّ مجرد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظن بثبوت المقتضى - بالفتح - .

-------------------

الذي هو زمان الشك .

وإنّما قال المصنِّف : لثبوت المعلول فيما إذا أريد بالمقتضي : العلّة التامة ، وقال : أو المدلول ، فيما إذا أريد بالمقتضي : الدليل ، حيث قال قبل سطر : العلّة التامة للحكم أو للعلم .

( وعلى الثاني ) : أي : تقدير أن يراد بالمقتضي : المعنى الأخص ( فلابد من أن يراد : ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم ) أي : يلزم أن يكون في زمان الشك أيضا مقتضيا للحكم ، وذلك لأن المقتضي - كالنار - إذا كان موجودا في الزمان الثاني وإنضم اليه عدم المانع - كعدم الرطوبة - أثّر أثره ، وإلاّ فلا .

( وفيه ) أولاً : ( مع أنّه أخصّ من المدّعى ) لأن هذا الدليل حينئذ يثبت حجية الاستصحاب إذا كان الشك في الرافع فقط ، بينما المستدل يريد أن يثبت به حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان شكا في المقتضي أم شكا في الرافع .

وفيه ثانيا : ( أنّ مجرد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظن بثبوت المقتضى - بالفتح - ) فإذا علمنا - مثلاً - بوجود النار واحتملنا عدم الرطوبة في الخشبة فإن ذلك لا يوجب علمنا ولا ظننّا بأن الخشبة قد احترقت .

وإنّما لا يوجب ذلك علمنا ولا ظنّنا باحتراق الخشبة ، لأن حصول العلم أو الظن باحتراق الخشبة إنّما هو فيما إذا علمنا أو ظننا بوجود النار ، وعلمنا أو ظننا بعدم وجود الرطوبة، فالعلمان أو الظنان يوجبان العلم أو الظن بالمقتضى - بالفتح - وهو الاحتراق ، لكن إذا كان أحدهما مظنونا أو موهوما ، ظننا أو توهّمنا الاحتراق ،

ص: 329

والمراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه الموجبة للتساقط إن كان سقوط الاحتمالين فلا معنى له ، وإن كان سقوط المحتملين عن الاعتبار حتى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك التوقف عن الحكم بثبوت المقتضى - بالفتح - لا ثبوته .

وربما يحكى إبدال قوله : « فيجب الحكم بثبوته » بقوله : « فيظنّ ثبوته »

-------------------

لأن النتيجة تابعة لأخس المقدّمتين .

( و ) أخيرا : ما ( المراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه ) أي : عدم الرافع ، ( الموجبة للتساقط ) وذلك على ما تقدّم من قوله : إن احتمال تحدّد ما يوجب زوال الحكم معارض باحتمال عدمه ، فيكون كل منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت أولاً سليما عن الرافع ، فإنه ( إن كان سقوط الاحتمالين ) في مقام الاثبات ( فلا معنى له ) لوضوح : إن الاحتمالين باقيان .

( وإن كان سقوط المحتملين ) أي : ما يتعلق به الاحتمالان : من وجود الرافع وعدمه ( عن الاعتبار ) والحجية ( حتى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك ) أي : سقوط المحتملين هو : ( التوقف عن الحكم ) بأن لا نحكم ( بثبوت المقتضى - بالفتح - ) كالاحتراق في المثال المتقدم ( لا ثبوته ) أي : لا أن نحكم بثبوت الاحتراق حسب الاستصحاب .

والحاصل : إن نتيجة هذا الدليل : أن لا نحكم بالحكم السابق ولا بخلاف الحكم السابق ، لا أن نحكم بالحكم السابق الذي هو مقتضى الاستصحاب ، فكيف يكون هذا دليلاً على الاستصحاب ؟ .

( وربّما يحكى إبدال قوله ) أي : قول المعارج : ( « فيجب الحكم بثبوته » ) إبدالاً ( بقوله : « فيظنّ ثبوته » ) فيكون الدليل هكذا : إن المقتضي للحكم الأوّل

ص: 330

ويتخيّل أنّ هذا أبعد عن الايراد ، ومرجعه الى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ، وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظن عدمه ، فهو مظنون البقاء ، وسيجيء ما فيه .

ثم إنّ ظاهر هذا الدليل دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ، ولم يعرف هذه الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج

-------------------

ثابت ، والعارض لا يصلح رافعا فيظن ثبوته .

( و ) حينئذ ( يتخيّل أنّ هذا ) التغيير في قوله : يجب الحكم بثبوته الى : يظن بثبوته ، أن يكون ( أبعد عن الايراد ) الذي أورد المصنِّف بقوله : إن المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامة ، أو المقتضي بالمعنى الأخص الى آخر كلامه .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الدليل بعد التبديل ( الى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ) لحجية الاستصحاب ( وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظن عدمه ، فهو مظنون البقاء ، وسيجيء ما فيه ) : من إن ما لم يظن عدمه ، يمكن أن يكون مشكوك الوجود والعدم ، ويمكن أن يكون مظنون الوجود ، فهو إذن : أعم منهما كما لا يخفى .

( ثم إنّ ظاهر هذا الدليل ) الذي ذكره المحقق في المعارج حيث قال : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا فيجب بثبوته في الآن الثاني، قد يستفاد منه احتمالات أربعة :

الاحتمال الأوّل : ( دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ) فإن قوله : « يجب » ، معناه : القطع بالحكم ، وقوله : « بثبوته » معناه : كون الحكم واقعيا ( ولم يعرف هذه الدعوى من أحد ) ممن ذكر حجية الاستصحاب ( و ) خاصة من المحقق نفسه فقد ( اعترف بعدمه ) أي : بعدم الثبوت القطعي ( في المعارج

ص: 331

في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان البقاء .

ويمكن أن يريد به إثباتَ البقاء على الحالة السابقة ، ولو مع عدم رجحانه ، وهو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في أمورهم .

والظاهر : أنّ مرجع هذا الدليل الى أنّه إذا اُحرِزَ المقتضي وشُكَّ في المانع بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق بنى على عدمه

-------------------

في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان البقاء ) لا إنه مقطوع البقاء .

الاحتمال الثاني : ( ويمكن أن يريد ) المحقق ( به ) أي : بما ذكره في المعارج : ( إثبات البقاء على الحالة السابقة ، ولو مع عدم رجحانه ) أي : عدم رجحان البقاء والظن به ( و ) ذلك بأن يرى العقلاء بقاء المستصحب وإن لم يكن مظنون البقاء ، فإن هذا الاحتمال ( هو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في أمورهم ) .

وإنّما يكون في غاية البعد عنهم ، لأنهم إنّما يعملون بالاستصحاب لظنهم بالبقاء ورجحانه بنظرهم رجحانا نوعيا ، لا إنه نوع تعبد منهم به سواء كان راجح البقاء أم مرجوحا أم مشكوكا ؟ .

الاحتمال الثالث : ( والظاهر : أنّ مرجع هذا الدليل ) الذي ذكره المحقق إنّما هو ( الى أنّه ) أي : ان الشاك ( إذا اُحرِزَ المقتضي ) أي العلّة الناقصة في الزمان الثاني ( وشُكَّ في المانع ) وذلك ( بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق ) فإنه في الزمان السابق كان المقتضي موجودا والمانع مفقودا ، ثم في الزمان الثاني يحرز المقتضي ويشك في المانع .

وعليه : فإذا أحرز المقتضي وشك في المانع ( بنى على عدمه ) أي : عدم

ص: 332

ووجود المقتضي .

ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق في قوله : « والذي نختاره » أنّ مراده بالمقتضي للحكم : دليله ، وأنّ المراد بالعارض احتمالُ طروّ المخصّص لذلك الدليل ، فمرجعه الى أنّ

-------------------

المانع ( ووجود المقتضي ) فتتحقق العلّة التامة للحكم في الزمان الثاني وهو عبارة عن الاستصحاب .

الاحتمال الرابع ( ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق ) أي : من كلام المحقق الذي مرّ قبل عدّة صفحات من الكتاب ( في قوله : « والذي نختاره » ) حيث قال هناك : منها : إن المقتضي للحكم الأوّل موجود ثم قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح الى آخر كلامه .

وعليه : فبمعونة كلامه هذا يستفاد ( أنّ مراده ) أي : مراد المحقق ( بالمقتضي للحكم : دليله ) لا علة الحكم .

وإنّما يستفاد من ذلك إن مراد المحقق دليل الحكم لا علة الحكم لأن لفظ الدليل جاء في قوله « السابق » حيث قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل الحكم ، وهذا ظاهر في إن مراده : الدليل لا العلة .

( و ) يستفاد منه أيضا ( أنّ المراد ) أي : مراد المحقق ( بالعارض ) حيث قال قبل صفحات : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا هو : ( احتمالُ طروّ المخصّص لذلك الدليل ) فيكون الشك حينئذ في مرحلة الاثبات لا في مرحلة الثبوت .

إذن : على هذا الاحتمال ( فمرجعه ) أي : مرجع كلام المحقق يكون ( الى أنّ

ص: 333

الشك في تخصيص العام أو تقييد المطلق لا عبرة به .

كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشك في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ، فإنّه إذا دلّ الدليلُ على أنّ عقد النكاح يُحْدِث علاقة الزوجيّة ، وعُلِمَ من الدليل دوامُها ، ووجِدَ في الشرع ما ثبت كونه رافعا لها ، وشك في شيء آخر أنّه رافع مستقل أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العملُ بدوام الزوجيّة ، عملاً بالعموم ، الى أن يثبت المخصّص .

-------------------

الشك في تخصيص العام أو تقييد المطلق لا عبرة به ) بل يلزم الحكم بالعموم والاطلاق ( كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشك في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ) مثل : لفظ خليّة وبريئة .

ثم إنه إنّما يظهر ذلك من تمثيله لأنه كما قال : ( فإنّه إذا دلّ الدليل على أنّ عقد النكاح يحدث ) بصيغة باب الافعال ( علاقة الزوجيّة ، وعُلِمَ من الدليل دوامُها ) أي : دوام العلاقة ( ووجِدَ في الشرع ما ثبت كونه رافعا لها ) أي : لهذه العلاقة مثل قول الزوج : طالق ( وشك في شيء آخر ) مثل : خليّة وبريئة ( أنّه رافع مستقل أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العمل بدوام الزوجيّة ) .

وإنّما يشك في مثل خليّة وبريئة ، لأن فيها احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون فردا من الطلاق .

الثاني : أن يكون رافعا للنكاح ، وليس بطلاق .

الثالث : أن لا يوجب شيئا أصلاً .

وعليه : فإذا أجرى أحد لفظ خليّة وبريئة مثلاً وشككنا في إنها رفعت الزوجية أم لا ، حكمنا بدوام الزوجية ( عملاً بالعموم ) أي : عموم أدلة النكاح المقتضية للاستمرار ( الى أن يثبت المخصّص ) بأن يجري لفظ الطلاق - مثلاً - .

ص: 334

وهذا حقّ ، وعليه عملُ العلماء كافّة .

نعم ، لو شك في صدق الرافع على موجود خارجي لشبهة : كظلمة ، أو عدم الخبرة ، ففي العمل بالعموم حينئذ وعدمه - كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » ، فشك في إنسان أنّه زيد أو عمرو - قولان في باب العام المخصّص ، أصحّهما : عدم الاعتبار بذلك العام .

-------------------

( وهذا ) الذي ذكره المحقّق ( حقّ ، وعليه عملُ العلماء كافّة ) لأنهم يتمسّكون بالعموم والاطلاق ما لم يثبت المخصّص والمقيّد .

( نعم ، لو شك في صدق الرافع على موجود خارجي ) بأن كان الشك من باب الشبهة الموضوعية وذلك ( لشبهة : كظلمة ، أو عدم الخبرة ) .

مثلاً : إذا شك في إنه هل قال : طالق حتى يوجب إرتفاع النكاح أو قال : خليّة حتى لا يوجب شيئا أو علم بأنه قال : خليّة ولكن لا يعلم هل إن خليّة طلاق أو ليس بطلاق ؟ وهكذا بالنسبة الى الظلمة ، كما إذا شرب من الاناء حيوان فلم يعلم لأجل الظلام انه كان كلبا حتى يحكم بنجاسة الماء ، أو شاة حتى يكون الماء طاهرا ؟ .

( ففي العمل بالعموم حينئذ ) أي : حين كان الشك في صدق الرافع على شيء من باب الشبهة الموضوعية لظلمة ونحوها ( وعدمه ) أي : عدم العمل بالعموم حينئذ ( كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » ، فشك في إنسان أنّه زيد أو عمرو ) وذلك لظلمة ، أو لعدم العلم بأن أيّهما زيد وأيّهما عمرو ( قولان في باب العام المخصّص ) أي : العام الذي خصّص بشيء مشكوك ( أصحّهما : عدم الاعتبار بذلك العام ) في هذا الفرد المشكوك .

وإنّما لا يعتبر ذلك لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد تحقق

ص: 335

لكن كلام المحقق قدس سره في الشبهة الحكميّة ، بل مفروض كلام القوم أيضا إعتبار الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها دون مطلق الشبهة ، الشاملة للشبهة الخارجية .

هذا غاية ما أمكنّا من توجيه الدليل المذكور .

لكنّ الذي يظهر بالتأمل : عدم إستقامته في نفسه

-------------------

في الاصول : عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإذا قال المولى ، مثلاً : - لا تشرب الخمر وشك العبد في شيء إنه خمر أم لا ، فلا يجوز التمسك بالعام فيه حتى يقال : يحرم شربه ، لأنه ما دام لم يثبت إنه خمر ، فكيف يقال : بأنه يحرم شربه ؟ .

إذن : فالأصح في الشبهة الموضوعية إذا كان الشك في صدق الرافع على شيء لظلمة وما أشبه هو : عدم العمل بالعموم . ( لكن كلام المحقق قدس سره في الشبهة الحكميّة ) بدليل ما مثّل من النكاح ، وواضح : إن الشبهة المصداقية خارجة عن الشبهة الحكمية ( بل مفروض كلام القوم أيضا إعتبار الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها ) أي : في الشبهة الحكمية ( دون مطلق الشبهة ، الشاملة للشبهة الخارجية ) أي : الموضوعية أيضا .

( هذا غاية ما أمكنّا من توجيه الدليل المذكور ) أي : هذا هو تمام الكلام في الاحتمال الرابع الذي احتمله المصنِّف في كلام المحقق المذكور في المعارج .

( لكنّ الذي يظهر بالتأمل : عدم إستقامته ) هذا الاحتمال الرابع ( في نفسه ) وذلك لعدم استقامة إجراء الاستصحاب في مثل العام المشكوك تخصيصه ، والمطلق المشكوك تقييده ، لوضوح : أن الاستصحاب من أركانه اليقين السابق ، ولا يقين بالعموم والاطلاق في زمان ، بل هما من أول الأمر مشكوكان لأنا لا نعلم

ص: 336

وعدم إنطباقه على قوله المتقدّم : « والذي نختاره » وإخراجه للمدّعى عن عنوان الاستصحاب كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ، فتأمّل .

ومنها : أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ،

-------------------

شمول العام والمطلق للزمان الثاني .

( و ) يظهر أيضا ( عدم إنطباقه ) أي : إنطباق هذا الاحتمال الرابع ( على قوله المتقدّم : « والذي نختاره » ) لأن كلامه السابق إنّما هو في إثبات اعتبار الاستصحاب وهذا الاحتمال الرابع إنّما هو في الشك في المخصص ، ومن المعلوم : إن الاستصحاب أصل عملي ، وهذا الاحتمال من باب الأصل اللفظي .

( و ) كذا يظهر : ( إخراجه ) أي : إخراج هذا الاحتمال الرابع ( للمدّعى عن عنوان الاستصحاب ) أي : إنه يخرج مدعى المحقق عن الاستصحاب الى الأصل اللفظي على ما عرفت ( كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ) أي : نبّه على إن المعتمد في هذا الاحتمال الرابع الذي ذكرناه هو الظهور اللفظي ومن المعلوم : إن الظهور اللفظي لا ربط له بالاستصحاب .

( فتأمّل ) ولعله إشارة الى إمكان أن يكون الاحتمال الرابع لتوجيه كلام المحقق في محله ، وذلك لأن القدماء كانوا يذكرون الأُصول اللفظية والأُصول العملية في سياق واحد ، فلا يضر توجيه الاستصحاب بالأُصول اللفظية .

( ومنها ) أي : مما إستدل به للقول الأوّل وهو القول بحجية الاستصحاب مطلقا : قياس صورته على ما يلي : ( أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ) لأنّ الممكن ممكن دائما ، وكلّما كان كذلك فيثبت بقائه في الآن الثاني .

ص: 337

وإلاّ لم يحتمل البقاء فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ، لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر . فإذا كان التقدير : تقدير عدم العلم بالمؤثّر ، فالراجح بقاؤه فيجب العمل عليه .

وفيه : منع استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه المستلزم لرجحان البقاء ، مع أنّ مرجع هذا الوجه الى ما ذكره العضدي وغيره : من أنّ ما تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه فهو مظنون البقاء .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن ممكن الثبوت في الآن الثاني ( لم يحتمل البقاء ) إذ المفروض إنه مشكوك في الآن الثاني والمشكوك محتمل البقاء كما هو محتمل العدم ، وإذا كان كذلك ( فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ) .

وإنّما يثبت بقائه حينئذ ( لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه ) من الوجود أو العدم السابقين ( بلا مؤثّر ) فإنّ المؤثّر هو الذي يجعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا ( فإذا كان التقدير : تقدير عدم العلم بالمؤثّر ) الجديد ( فالراجح بقاؤه ) أي : بقاء الثابت في الزمان الأوّل الى الآن الثاني ( فيجب العمل عليه ) أي : على ما كان ثابتا سواء كان الثابت في الزمان الأوّل وجودا أم عدما .

( وفيه ) أولاً : ( منع استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه ) أي : عدم المؤثّر ( المستلزم ) ذلك الرجحان ( لرجحان البقاء ) لوضوح : إن عدم العلم بالمؤثر ليس معناه : رجحان عدم المؤثر .

وفيه ثانيا : ( مع أنّ مرجع هذا الوجه الى ما ذكره العضدي وغيره : من أنّ ما تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه فهو مظنون البقاء ) .

وإنّما يكون مرجع هذا الدليل الى ما ذكره العضدي ، لأن العضدي أخذ الظن

ص: 338

ومحصّل الجواب عن هذا وأمثاله من أدلّتهم الراجعة الى دعوى : حصول ظنّ البقاء ، منعُ كون مجرد وجود الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ، كما يشهد له تتبع موارد الاستصحاب ، مع أنّه إن اُريد إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي ، يعني بمجرد كونه لو خُلِّي وطبعَه ، يفيد الظنّ بالبقاء وإن لم يُفده فعلاً لمانع .

ففيه : أنّه لا دليل على إعتباره أصلاً .

-------------------

بالبقاء في دليل الاستصحاب ، فلابد وأن يكون هذا المستدل أراد ذلك أيضا ، فلايكفي في الاستصحاب مجرّد عدم العلم من دون الظن بالبقاء .

( ومحصّل الجواب عن هذا ) الذي ذكره العضدي ( وأمثاله من أدلّتهم الراجعة الى دعوى : حصول ظنّ البقاء ) في الآن الثاني بالنسبة الى ما كان ثابتا في الزمان الأوّل هو الاشكال في الصغرى بقوله : ( منع كون مجرد وجود الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ) لاحقا ، لا ظنا شخصيا ولا ظنا نوعيا .

( كما يشهد له ) أي : لهذا المنع ( تتبع موارد الاستصحاب ) فإن كثيرا من موارد الاستصحاب لا يظن المكلّف ببقاء الحالة السابقة لا ظنا نوعيا ولا ظنا شخصيا .

( مع أنّه ) يرد على الكبرى أيضا : بأنه ( إن اُريد إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي ) فإن النوع يحصل لهم الظن ، بسبب الاستصحاب وإن لم يكن هناك ظن شخصي .

( يعني ) : إن الاستصحاب حجة ( بمجرد كونه لو خُلِّي وطبعه ، يفيد الظنّ بالبقاء ) حتى ( وإن لم يُفده فعلاً لمانع ) أي : لم يفد الظن الشخصي لمانع بنظر المستصحب فإن أُريد هذا المعنى ( ففيه : أنّه لا دليل على إعتباره ) أي : إعتبار هذا الظن النوعي ( أصلاً ) بل مقتضي قوله تعالى : «إن الظن لا يغني من

ص: 339

وإن اُريد اعتباره عند حصول الظنّ فعلاً منه . فهو وإن استقام على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا من أصالة حجّية الظنّ ، إلاّ أنّ القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظنّ الشخصي منه ، حتى أنّه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الاشخاص والأزمان

-------------------

الحق شيئا » (1) إنه لا اعتبار به .

( وإن اُريد اعتباره عند حصول الظنّ فعلاً ) ظنا شخصيا ( منه ) أي : من الاستصحاب ( فهو وإن استقام ) حيث إن الظن الشخصي حجة ( على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا من أصالة حجّية الظنّ ) ولعلّه لمقدّمات الانسداد ( إلاّ أنّ القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظنّ الشخصي منه ) أي : من الاستصحاب بحيث إذا حصل منه الظن الشخصي كان حجة وإذا لم يحصل منه ظن شخصي لم يكن حجة غير مستقيم .

وإنّما لم يكن مستقيما لاختلاف حكم الاستصحاب حينئذ ( حتى أنّه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الاشخاص ) فالشخص الذي يظن ببقاء وضوئه من الصباح الى الظهر - مثلاً - يكون الاستصحاب حجة بالنسبة إليه ، والشخص الذي لا يظن شخصيا ببقاء الوضوء، لا يكون حجة بالنسبة إليه وهكذا .

( و ) يختلف الحكم أيضا باختلاف ( الأزمان ) مثل : زمان الضيف حيث يشرب الانسان المايعات كثيرا مما يسبّب الحدث كثيرا ، فلا يكون الاستصحاب حجة لمن شرب المايعات كثيرا وذلك لعدم الظن الشخصي حينئذ ببقاء وضوئه

ص: 340


1- - سورة يونس : الآية 36 ، سورة النجم : الآية 28 .

وغيرها ، لم يقل به أحدٌ فيما أعلمُ . عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدس سره في عبارته المتقدّمة .

-------------------

من الصبح الى الظهر ، بخلاف زمان الشتاء حيث يقلّ الانسان من شرب المايعات ، فيكون الاستصحاب حجة حينئذ لوجود الظن الشخصي ببقاء وضوئه .

( و ) كذا ( غيرها ) أي : غير الأزمان : من الأمكنة والأحوال وغير ذلك ، كما إذا كان في منطقة باردة ، أو منطقة حارة ، أو كان في حال السلامة ، أو في حال المرض ، أو كان قد أكل مليّنا ، أو أكل قابضا ، أو ما أشبه ، فإن حكم الاستصحاب يختلف فيها باختلاف الموارد في كل هذه الأُمور .

وعليه : فإن أريد باعتبار الاستصحاب هذا المعنى وهو حصول الظن الشخصي منه ، فإنه ( لم يقل به أحدٌ فيما أعلمُ ) فإن الفقهاء لم يعلّقوا حجّية الاستصحاب على الظن الشخصي ( عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدس سره في عبارته المتقدّمة ) في أوائل بحث الاستصحاب في الأمر الرابع حيث قال هناك ما نصه :

لا يخفى إن الظن الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت ، ثم قال :

والحاصل : إن المدار على الظن : فما دام باقيا ، فالعمل عليه وإن ضعف .

ثم إن المصنِّف رحمه اللّه قال في تعقيبه على كلام الشيخ البهائي هناك ناقلاً عن شارح الدروس : بأن شارح الدروس إرتضى ما ذكره الشيخ البهائي ، ونقل أيضا :

ص: 341

وما ذكره قدس سره مخالف للاجماع ظاهرا ، لأنّ بناء العلماء في العمل بالاستصحاب ، في الأحكام الجزئية والكلّية والموضوعات خصوصا العدميات ، على عدم مراعاة الظنّ الفعلي .

ثم إنّ ظاهر كلام العضدي - حيث أخذ في إفادته الظنّ بالبقاء عدمَ الظنّ بالارتفاع - أنّ الاستصحاب أمارةٌ حيث لا أمارة ،

-------------------

إستظهار ذلك من الشهيد في الذكرى ، فراجع ، وأما هنا ، فقال في تعقيبه عليه : ( وما ذكره ) الشيخ البهائي ( قدس سره مخالف للاجماع ظاهرا ) .

وإنّما كان ما ذكره مخالفا للاجماع ظاهرا ( لأنّ بناء العلماء في العمل بالاستصحاب في الأحكام الجزئية ) مثل : استصحاب طهارة زيد ( والكلّية ) مثل : استصحاب طهارة كل من توضأ ثم شك في الحدث ( والموضوعات ) مثل استصحاب بقاء زيد إذا شككنا في موته ( خصوصا العدميات ) مثل : استصحاب عدم طلاق زيد زوجته .

وإنّما خصّص من بينها العدميات ، لأن العدم لا يزول إلاّ بالمؤثر بخلاف الوجود، حيث إن الوجود في كثير من الأحيان يزول بنفسه لانتهاء مقتضية .

وعليه : فإن بناء الفقهاء في العمل بالاستصحاب في كل هذه الأُمور إنّما هو ( على عدم مراعاة الظنّ الفعلي ) الشخصي ، بل هم يراعون فيها الظن النوعي فقط .

( ثم إنّ ظاهر كلام العضدي - حيث أخذ في إفادته ) أي : في إفادة الاستصحاب ( الظنّ بالبقاء ) هو : اشتراط ( عدمَ الظنّ بالارتفاع - ) لأنه ما دام لم يظن بالارتفاع يظن بالبقاء ، فإن ظاهر هذا الكلام هو : ( أنّ الاستصحاب أمارةٌ حيث لا أمارة ) أي : إنه لم يظن بالارتفاع فإنه يظن بالبقاء ، فإن الظن بالارتفاع

ص: 342

وليس في الأمارات مايكون كذلك .

نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك .

-------------------

أمارة على العدم ، فإذا لم يكن ، كان الاستصحاب .

هذا ( وليس في الأمارات ما يكون كذلك ) بأن يكون أمارة حيث لا أمارة على خلافها .

إذن : فالظن بالارتفاع أمارة ، والظن بالبقاء وهو الاستصحاب أمارة ، والعضدي يقول : إن الاستصحاب أمارة حيث لا ظن على خلافه ، فإذا كان ظن على خلافه لم يكن الاستصحاب حجّة ، لأن الظن على الخلاف أمارة يرفع الاستصحاب ، وإذا لم يكن في الأمارات مثل ذلك كان معناه : إن الاستقراء في الأمارات يفيد عدم صحة مثل هذه الأمارة التي هي على خلاف كل الأمارات ، فلا يكون الاستصحاب حجّة .

وإن شئت قلت : إن الأصل يسقط بالأمارة ، لا ان الأمارة تسقط بالأمارة ، فكيف يكون الاستصحاب أمارة يسقط بأمارة أخرى ؟ .

( نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك ) أي : بأن تكون الغلبة أمارة حيث لا أمارة ، فإنه على ما يظهر من كلام بعضهم : إن الغلبة هي كالاستصحاب أمارة حيث لا أمارة هناك على خلافها .

وأما مع وجود أمارة على خلاف الغلبة ، فالغلبة حينئذ تكون كالأصول تسقط بتلك الأمارة ، فإذا كانت هناك - مثلاً - غلبة وقلنا إن الغلبة دليل ، فدليليتها إنّما يكون إذا لم تكن أمارة على خلافها .

مثلاً : غلبة كون الأسماك في بحر كذا من النوع الحرام يفيد حرمة إستعمال ما إبتلي الانسان به من تلك الأسماك ، لكن إذا قدّمها مسلم للانسان ، فإن أصالة

ص: 343

وكيف كان : فقد عرفت منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء للظنّ ببقائه .

وقد استظهر بعضٌ تبعا لبعض ، بعد الاعتراف بذلك ، أنّ المنشأ في حصول الظنّ : غلبةُ البقاء في الأمور القارّة .

-------------------

الصحة في عمل المسلم أمارة توجب سقوط حكم الغلبة ، فيحلّ تناول ذلك السمك .

وعليه : فالغلبة مع كونها أمارة سقطت بسبب بأمارة أخرى ، فلا يختص السقوط إذن بالأصل في قبال الأمارة .

( وكيف كان : فقد عرفت ) الاشكال في صغرى وكبرى الدليل المتقدم ، أما الاشكال في الكبرى فخلاصته : إنه لا دليل على اعتبار الظن لا النوعي ولا الشخصي .

وأما الاشكال في الصغرى فخلاصته : ( منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء ) في الزمان الأوّل ( للظنّ ببقائه ) في الآن الثاني .

لكن بعض من منع الصغرى أثبت الكبرى وصدّقها وقال : إنه إذا كان موجبا للظن كما في الأُمور القارة كان هذا الظن حجة .

والى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وقد استظهر بعضٌ ) وهو المحقق القمي ( تبعا لبعض ) وهو السيد صدر الدين شارح الوافية ( بعد الاعتراف بذلك ) أي : بعد إعترافه بأن مجرّد اليقين بوجود الشيء في الزمان الأوّل لا يفيد الظن ببقائه في الآن الثاني .

وعليه : فإنه بعد إعترافه بمنع الصغرى هذه أثبت الكبرى مستظهرا ( أنّ المنشأ في حصول الظنّ : غلبة البقاء في الأمور القارّة ) والمراد بالأمور القارة هي التي

ص: 344

قال السيد الشارح للوافية ، بعد دعوى رجحان البقاء « إنّ الرجحان لابدّ له من موجب ، لأنّ وجود كل معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالاً ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ : أن يستمر وجوده بعد التحقق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاص للالحاق بالأعمّ الأغلب .

-------------------

تجتمع أجزائها في الوجود ، بخلاف الأمور غير القارة كالزمان ونحوه ، حيث لا تجتمع أجزائها في الوجود .

( قال السيد الشارح للوافية ، بعد دعوى رجحان البقاء ) فيما إذا كان هناك يقين بوجود الشيء في الزمان الأوّل ( « إنّ الرجحان لابدّ له من موجب ) إذ لولا الموجب لم يكن رجحان ، وذلك ( لأنّ وجود كل معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالاً ) كشفا إنّيا .

هذا ( وليست ) تلك العلة ( هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ) فالوجود المتقدم بنفسه ليس سببا للرجحان في المتأخّر .

إذن : فلابدّ من علة توجب الرجحان ( ويشبه أن يكون ) أي : تلك العلة الموجبة للرجحان ( هي : كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ : أن يستمر وجوده بعد التحقق ) وحيث إن هذه الغلبة موجودة في افراد الممكن القار ( فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاص ) المشكوك البقاء مسلّما ، وذلك ( للالحاق بالأعمّ الأغلب ) وكل ما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه حجة .

ص: 345

هذا إذا لم يكن رجحان الدّوام مؤيدا بعادة أو أمارة ، وإلاّ فيقوى بهما ، وقِس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيا » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

-------------------

( هذا إذا لم يكن رجحان الدّوام مؤيدا بعادة ) مثل : أن يكون من عادته الاحتفاظ على وضوء الصبح الى صلاة الظهر ( أو أمارة ) مثل أن يكون فاقدا للماء بين الصبح والظهر وكان فقده للماء أمارة عرفية على إنه إحتفظ بوضوئه .

( وإلاّ ) بأن كان هناك عادة أو أمارة ( فيقوى ) الرجحان الناشيء عن الغلبة ( بهما ) أي : بالعادة والأمارة .

هذا إذا كان الثابت في الزمان الأوّل هو الوجود .

وأما إذا كان العدم فهو أيضا كذلك كما قال : ( وقس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيا » (1) ) فإنه إذا كان العدم ثابتا في الزمان الأوّل وكانت هناك غلبة في بقائه، ثم شك في موضع خاص : بأنه هل بقي العدم أم لا؟ حكم ببقاء هذا الموضع الخاص إلحاقا له بالأعم الأغلب ، وإذا كانت هناك عادة أو أمارة تؤيد العدم ، تقوّى رجحان العدم بهما .

( انتهى كلامه ) أي : كلام السيد الشارح للوافية ( رفع مقامه ) وقد وافقه المحقق القمي في هذا الكلام مع فارق وهو : أن السيد الصدر يدّعي : أن البقاء هو الغالب في الموجودات القارة ، بينما المحقق القمي يدّعي : إن البقاء هو الغالب في الموجودات القارة وفي خصوص أنواعها .

وإن شئت قلت : إن شارح الوافية إدعى غلبة البقاء في مطلق الممكنات القارة ، والمحقق القمي إدعاها في افراد كل نوع بحسب نوعها .

ص: 346


1- - شرح الوافية : مخطوط .

وفيه : أنّ المراد بغلبة البقاء ليس غلبة البقاء أبد الآباد ، بل المراد : البقاء على مقدار خاص من الزمان .

ولا ريب أنّ ذلك المقدار الخاص ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ولا في المستصحبات ، والقدرُ المشترك بين الكلّ أو الأغلب منه معلوم التحقّق في مورد الاستصحاب ، وإنّما الشك في الزائد ، وإن أُريد بقاء الأغلب الى زمان الشك .

فإن أُريد : أغلب الموجودات السابقة بقول مطلق ،

-------------------

( وفيه : أنّ المراد بغلبة البقاء : ليس غلبة البقاء أبد الآباد ) بأن يبقى الشيء الى الأبد ( بل المراد : البقاء على مقدار خاص من الزمان ) وهو زمان وجود المقتضي .

هذا ( ولا ريب أنّ ذلك المقدار الخاص ) من إقتضاء البقاء ( ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ) أي : في جنس الممكن ( ولا في المستصحبات ) أي : في نوع من جنس الممكن ( والقدرُ المشترك ) لزمان البقاء ( بين الكلّ أو الأغلب منه معلوم التحقّق في مورد الاستصحاب ) .

إذن : فإنا نعلم إن الممكن يبقى مدة ( وإنّما الشك في الزائد ) عن ذلك القدر المعلوم ، فمن أين لنا إثبات القدر الزائد المشكوك حتى يصحّ فيه الاستصحاب ؟.

والحاصل : إنه إن أريد بغلبة البقاء : البقاء الى مدة ، فذلك مسلّم معلوم ، لكنه لا ينفع للاستصحاب ، إذ البقاء الى مدة لا يثبت البقاء الى زمان الشك الذي هو محل الكلام في الاستصحاب .

( وإن أُريد بقاء الأغلب الى زمان الشك ) حتى ينفع الاستصحاب فنقول : ما المراد من الأغلب ؟ ( فإن أُريد : أغلب الموجودات السابقة بقول مطلق ) أي :

ص: 347

ففيه : أولاً ، أنّا لا نعلمُ بقاء الأغلب في زمان الشك ، وثانيا : لا ينفع بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك للعلم بعدم الرابط بينها وعدم استناد البقاء فيها الى جامع ، كما لا يخفى .

بل البقاء في كلّ واحد منها مستند الى ما هو مفقود في غيره .

نعم ، بعضها مشترك في مناط البقاء .

-------------------

غلبة جنسها للبقاء حتى يشمل جميع أفراد الجنس ( ففيه ) ما يلي :

( أولاً : أنّا لا نعلم بقاء الأغلب في زمان الشك ) فإن بقاء الأغلب هو بنفسه مما يحتاج الى الاثبات .

( وثانيا : لا ينفع بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك ) به حتى نقول إن الأغلب لما كان باقيا ، فهذا المشكوك أيضا باق ، وذلك ( للعلم بعدم الرابط بينها ) فإنا نعلم بأنه لا ربط بين بقاء الأغلب الى زمان الشك ، وبقاء هذا الفرد الذي نريد استصحابه ( وعدم استناد البقاء فيها الى جامع ، كما لا يخفى ) .

وعليه : فإن الحاق شيء بالأغلب يحتاج : إما الى رابط بين الأغلب وبين هذا الشيء المراد استصحابه ، وإمّا الى جامع بين الأغلب وبين هذا الشيء المراد استصحابه ، وكل من الرابط والجامع مفقود ، فمن أين يحكم على هذا الشيء المراد استصحابه بما هو حكم الأغلب : من البقاء الى زمان الشك ؟ .

( بل البقاء في كلّ واحد منها ) أي : من الموجودات ( مستند الى ما هو مفقود في غيره ) فبقاء الحديد - مثلاً - مستند الى علة خاصة ، مفقودة تلك العلة في بقاء الخشب - مثلاً - وبقاء الخشب أيضا مستند الى علة خاصة ، مفقودة تلك العلة في غير الخشب ، وهكذا .

( نعم ، بعضها مشترك في مناط البقاء ) مثل اشتراك بقاء النور وبقاء الحرارة

ص: 348

وبالجملة ، فمن الواضح أنّ بقاء الموجودات المشاركة مع نجاسة الماء المتغير في الوجود من الجواهر والاعراض في زمان الشك في النجاسة ، لذهاب التغيّر المشكوك مدخليّته في بقاء النجاسة ، لا يوجب الظن ببقائها ، وعدم مدخليّة التغيّر فيها .

وهكذا الكلام في كلّ ما شك في بقائه لأجل الشك في استعداده للبقاء .

-------------------

في النار ، فإن بقاء النار مستلزم لبقاء النور والحرارة معا ، لاشتراكهما في مناط البقاء ، ولكن ليس أغلب الموجودات كذلك ، بل أغلب الموجودات مشتركة في الوجود فقط .

( وبالجملة ، فمن الواضح أنّ بقاء الموجودات المشاركة ) أي : المشتركة ( مع نجاسة الماء المتغير ) إنّما هو اشتراك ( في الوجود ) فقط ، لا في المناط أيضا .

وعليه : فإن بقاء هذه الموجودات ( من الجواهر والاعراض ) لا ربط لها حينئذ ببقاء نجاسة الماء الذي زال تغيّره من نفسه ( في زمان الشك في النجاسة ) .

وإنّما نشك في النجاسة ( لذهاب التغيّر المشكوك مدخليّته في بقاء النجاسة ) وقد تبيّن : إنّ اشتراك الموجودات مع نجاسة الماء المتغير اشتراكا في الوجود فقط ، بلا رابط ولا جامع بينهما ( لا يوجب الظن ببقائها ، وعدم مدخليّة التغيّر فيها ) أي : في النجاسة .

إذن : فلا يفيد غلبة البقاء في الموجودات : الظن ببقاء النجاسة في المثال .

والحاصل : إن بقاء الحديد والخشب والماء وألف شيء آخر ، ربط له ببقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من نفسه حتى يقال : إن غلبة بقاء تلك الأشياء تدل على بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ؟ .

( وهكذا الكلام في كلّ ما شك في بقائه لأجل الشك في استعداده للبقاء )

ص: 349

ومن هنا يظهر ضعف ما وَجَّه به ، كلام السيد المتقدم ، صاحب القوانين بعد ما تبعه في الاعتراف بأنّ هذا الظنّ ليس منشأه محض الحصول في الآن السابق ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم ، وجاز أن لا يدوم ، قال :

« بل لأنّا لمّا فتّشنا الأمور الخارجية من الأعدام والموجودات ، وجدناها مستمرة بوجودها الأوّل على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ، فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في الغالب

-------------------

بأن كان من الشك في المقتضي .

( ومن هنا ) أي : مما أوردنا على كلام السيد الصدر ( يظهر ضعف ما وَجَّه به كلام السيد المتقدِّم ) وهو السيد الصدر الشارح للوافية والموجّه هو ( صاحب القوانين ) وذلك ( بعد ما تبعه في الاعتراف بأنّ هذا الظنّ ) بالبقاء ( ليس منشأه محض الحصول في الآن السابق ) إذ محض الحصول سابقا لا يوجب الظن بالبقاء حقا ( لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم ، وجاز أن لا يدوم ) .

ثم ( قال : ) بعد ذلك ، معللاً الظن بالبقاء : بأن منشأه ليس هو محض الحصول ، وإنّما منشأه الغلبة كما قال : ( « بل لأنّا لمّا فتّشنا الأمور الخارجية من الأعدام والموجودات ) ولا يخفى : إن التعبير عن الأعدام بالأمور الخارجية ، فيه نوع مسامحة ( وجدناها مستمرة بوجودها الأوّل على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ) حيث إن بعضها مستعدّ للبقاء ألف سنة ، وبعضها مستعدّ للبقاء مائة سنة ، وهكذا .

وعليه : ( فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في الغالب ) .

مثلاً : إذا رأينا إن أغلب الحبوبات تبقى سنة ، ورأينا حبا يبقى سنتين ، وحبا يبقى ثلاث سنوات ، ورأينا حبا رابعا لا نعلم هل إنه يبقى شهرا ، أو سنة ، أو أكثر ؟

ص: 350

إلحاقا له بالأعمّ الأغلب .

ثم إنّ كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب في افراد ذلك النوع ، فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ، والاستعداد الحاصل للإنسان يقتضي مقدارا منه وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات مقدارا آخر ، ولدود القزّ ، والبقّ ، والذباب ، مقدارا آخر ، وكذلك الرطوبة في الصيف والشتاء .

-------------------

استصحبنا بقائه الى سنة ، لأن الغالب بقاء الحب الى سنة قطعا ( إلحاقا له بالأعمّ الأغلب ) لأن أغلب الحبوبات تبقى سنة لا أكثر .

( ثم إنّ كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب في افراد ذلك النوع ) فالفرد المشكوك من ذلك النوع يلحق بالأعم الأغلب في نوعه .

وعليه : ( فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ) كخمسين سنة - مثلاً - .

( والاستعداد الحاصل للانسان يقتضي مقدارا منه ) أي : من البقاء كسبعين سنة - مثلاً - .

( وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات مقدارا آخر ، ولدود القزّ ، والبقّ ، والذباب، مقدارا آخر ) وهكذا ففي كل فرد من افراد هذه الأنواع إذا شككنا في إنه هل يبقى ذلك المقدار المقرر لنوعه أم لا؟ حكمنا بأنه أيضا يبقى الى ذلك المقدار.

( وكذلك الرطوبة في الصيف والشتاء ) والربيع والخريف حيث إن الرطوبة في الصيف تبقى مدة قليلة ، وفي الشتاء مدة طويلة ، وفي الفصلين الآخرين مدة متوسطة بين الصيف والشتاء ، فإذا شككنا في فرد منها ، حكمنا بما هو الغالب

ص: 351

فهنا مرحلتان : الاُولى : إثبات الاستمرار في الجملة ، الثانية : إثبات مقدار الاستمرار ، ففيما جُهِلَ حالُه من الممكنات القارّة ، يثبت ظنُّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها ، وظنُّ مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي هو من جملتها .

-------------------

في نوعها .

وعليه : ( فهنا مرحلتان ) على ما يلي :

( الاُولى : إثبات الاستمرار في الجملة ) وهذا مقطوع به .

( الثانية : إثبات مقدار الاستمرار ) وإنه هل هو شهر ، وسنة ، أو أقل ، أو أكثر؟ وهذا هو محل الكلام .

أما بالنسبة الى اثبات الاستمرار في الجملة ، فكما قال : ( ففيما جُهِلَ حالُه من الممكنات القارّة ) بأن نكون جهلناه لعدم علمنا بالنوع ، أو كنا نعلم بنوعه لكن لا نعلم بصنفه ، أو علمنا بصنفه لكن لا نعلم بشخصه ، ففي هذه الصورة ( يثبت ظنُّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها ) لأن الاستمرار في الجملة مقطوع به .

( و ) أما بالنسبة الى مقدار الاستمرار ، ففي هذه الصورة يثبت ( ظنُّ مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي ) ذلك الفرد المشكوك ( هو من جملتها ) أي : من جملة تلك الأنواع .

مثلاً : إذا رأينا نوعا من العصفور ولم نعلم كم سنة يبقى هذا النوع ؟ فهنا نقول أولاً : إنه يبقى مدة في الجملة ، ونقول : ثانيا : إنه لما كان غالب العصافير يبقون خمس سنوات ، فهذا يبقى خمس سنوات أيضا ، إلحاقا له بالأعم الأغلب .

ص: 352

فالحكم الشرعي - مثلاً - نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعية فإذا أردنا التكلّم في اثبات الحكم الشرعيّ فنأخذ الظنّ الذي إدّعيناه : من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية ، لأنّه الأنسب به والأقرب اليه وإن أمكن ذلك

-------------------

إذا عرفت ذلك نقول : ( فالحكم الشرعي - مثلاً - نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد ) فإنّ الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد نوع ، وهذا الحكم الصادر من المولى الحقيقي الى عبيده أيضا نوع من تلك الأنواع ، وكما إن تلك الأحكام تبقى مدة ، فكذلك هذا الحكم الشرعي يبقى مدة أيضا .

( وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعية ) فإن الصلاة والصوم والطهارة للصلاة - مثلاً - وما أشبه ذلك نرى إن وجوبها يبقى الى آخر العمر ، فكذلك نجاسة الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه أيضا يبقى الى آخر العمر ، وذلك إلحاقا للماء المتغيّر بالأعم الأغلب من الأحكام الشرعية الثابتة للصلاة وغيرها .

وعليه : ( فإذا أردنا التكلّم في اثبات الحكم الشرعيّ ) في الزمان الثاني المشكوك بقاء ذلك الحكم الشرعي فيه ( فنأخذ الظنّ الذي إدّعيناه : من ) قولنا : إن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب ، وهو هنا ( ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية : لأنّه الأنسب به ) أي : بهذا الحكم الشرعي الخاص المشكوك بقائه ( والأقرب اليه ) أيضا .

وعليه : فنأخذ بالأنسب والأقرب الى هذا الحكم حتى ( وإن أمكن ذلك

ص: 353

بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد .

ثم إنّ الظنّ الحاصل من الغلبة في الأحكام الشرعيّة محصّلة : أنّا نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرّة بحسب دليله الأوّل ، بمعنى : أنّها ليست أحكاما آنيّة مختصة بآنِ الصدور ،

-------------------

بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد ) وعزائم : جمع عزيمة ، والعزيمة يراد بها الفريضة .

والحاصل : إن بقاء النجاسة في الماء ، الذي زال تغيّره من نفسه ، فوقه ثلاث أغلبيات :

الأوّل : الأغلبية الشرعية في الأحكام التي ذكرها الشارع .

الثاني : الأغلبية الملحوظة بالنسبة الى سائر الموالي والعبيد .

الثالث : الأغلبية الملحوظة في عزائم سائر العباد ، لأن لكل إنسان واجبات ومحرمات حسب ما يرشده إليه عقله ، وتقرّره له اجتماعاته وإن لم يكن هناك موال وعبيد .

هذا ، ونجاسة الماء فيما نحن فيه إنّما يقاس بالنسبة الى الأعم الأغلب من الأحكام الشرعية ، لا الى الأغلب من أحكام الموالي ، أو الأغلب من عزائم سائر العباد .

الى هنا تمّ بيان إن المراد ب « الأغلب » ما هو ؟ ومن الآن يريد المصنِّف التعرّض الى بيان إنه كيف يكون الأغلب في الشرع موجبا لبقاء الأمر المشكوك فيه ، فقال :

( ثم إنّ الظنّ الحاصل من الغلبة في الأحكام الشرعيّة محصّلة : أنّا نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرّة بحسب دليله الأوّل ) لكن لا بمعنى إنها عامة أو مطلقة تشمل جميع الأفراد ، بل ( بمعنى : أنّها ليست أحكاما آنيّة مختصة بآنِ الصدور )

ص: 354

بل يُفهم من حاله من جهة أمر خارجي عن الدليل أنّه يريد استمرار ذلك الحكم الأوّل من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ، فإذا رأينا منه أنّه إكتفى في إبداء الحكم بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه ، ثم علمنا : أنّ مراده من الأمر الأوّل الاستمرار نحكم فيما لم يظهر مراده بالاستمرار

-------------------

أو بزمان محدود كعشر سنوات أو عشرين سنة ، أو ما أشبه ذلك .

( بل يُفهم من حاله ) أي : حال المولى ( من جهة أمر خارجي عن الدليل ) فإن الاستمرار في الاحكام ليس وجودا في متن الدليل ، وإنّما هناك أدلة خارجية تشير الى ( أنّه يريد استمرار ذلك الحكم الأوّل ) .

مثلاً : وجوب الصلاة مستمر ، وكذلك وجوب الصوم ، وحرمة شرب الخمر مستمر ، وكذلك حرمة السرقة ، وهكذا ، وذلك ( من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ) فإن : « أقيموا الصلاة وآتوا الزَّكاة » (1) و « إنّما الخَمْرَ والمَيْسَرَ » (2) وغيرهما من أدلة الأحكام لم تكن بنفسها دالة على العموم الازماني والاستمراري .

وعليه : ( فإذا رأينا منه ) أي : من المولى ( أنّه إكتفى في إبداء الحكم بالأمر المطلق ) أي : من دون تعيين الزمان فيه ( القابل ) ذلك الاطلاق ( للاستمرار وعدمه ) أي : عدم الاستمرار . مثل قوله سبحانه : « وأنْكِحُوا الأيامى مِنْكُم » (3) وقوله سبحانه : « فكاتِبُوهم إنْ عَلِمْتُم فيهم خيْرا » (4) ( ثم علمنا : أنّ مراده من الأمر الأوّل الاستمرار ) فإذا تحققت هذه المقدمات ( نحكم فيما لم يظهر مراده بالاستمرار ) إنه مستمر أيضا .

ص: 355


1- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 و 110 .
2- - سورة المائدة : الآية 90 .
3- - سورة النور : الآية 32 .
4- - سورة النور : الآية 33 .

إلحاقا بالأغلب ، فقد حصل الظنّ بالدليل وهو قول الشارع بالاستمرار ، وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام من الأُمور الخارجية ، فإنّ غلبة البقاء تورث الظنّ القوي بالبقاء» ، إنتهى .

ويظهر وجه ضعف هذا التوجيه ممّا أشرنا اليه .

توضيحه : أنّ الشك في الحكم الشرعي، قد يكون من جهة الشك في مقدار استعداده وقد يكون من جهة الشك في تحقق الرافع .

-------------------

وإنّما نحكم فيه بالاستمرار أيضا ( إلحاقا بالأغلب ) الذي كان مستمرا حسب ما ذكرناه ( فقد حصل الظنّ بالدليل ) على الاستمرار ( وهو ) أي : ذلك الدليل ( قول الشارع بالاستمرار ) الذي فهمناه من القرائن الخارجية .

( وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام من الأُمور الخارجية ) بأن أُريد استصحاب الموضوعات لترتب الأحكام عليها مثل : حياة الزوج لنفقة زوجته ( فإنّ غلبة البقاء ) فيها ( تورث الظنّ القوي بالبقاء» (1) ) في الأمر المشكوك بقائه .

( إنتهى ) كلام صاحب القوانين المؤيد لما قاله السيد الصدر ( ويظهر وجه ضعف هذا التوجيه ) من القوانين لكلام السيد الصدر ( مما أشرنا اليه ) سابقا .

( توضيحه : أنّ الشك في الحكم الشرعي قد يكون من جهة الشك في مقدار استعداده ) أي: استعداد الحكم الشرعي للبقاء، وهو مايسمى بالشك في المقتضي .

( وقد يكون من جهة الشك في تحقق الرافع ) بأن نعلم استعداده ، ولكن لا نعلم هل إنه حدث رافع يرفعه أم لا ؟ ويسمى بالشك في الرافع .

ص: 356


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص57 .

أمّا الأوّل فليس فيه نوعٌ ولا صنفٌ مضبوطٌ من حيث مقدار الاستعداد . مثلاً ، إذا شككنا في مدخلية التغيير في النجاسة حدوثا وإرتفاعا وعدمها ، فهل ينفع في حصول الظنّ بعدم المدخليّة تتبع الأحكام الشرعية الأُخر ، مثل : أحكام الطهارات والنجاسات ، فضلاً عن أحكام المعاملات والسياسات ، فضلاً عن أحكام الموالي الى العبيد .

-------------------

( أمّا الأوّل ) : وهو الشك في مقدار الاستعداد ( فليس فيه نوعٌ ولا صنفٌ مضبوطٌ من حيث مقدار الاستعداد ) حتى يقال : بأن هذا النوع أو هذا الصنف من الحكم الشرعي يقتضي استعداده لبقاء سنة ، أو شهر ، أو أكثر ، أو أقل .

أمّا مثل الطهارة والنجاسة ، والملكية والزوجية ، والحرية والرقية ، وما أشبه ، فنعلم مقدار استعدادها ، وليس الكلام في مثلها ، كما إنه لا كلام في مثل الاجارة والعقود التابعة في مقدار استعدادها للمقرّر بين المتعاقدين ، وإنّما الكلام في غير ذلك ممّا مثّل له المصنِّف بقوله :

( مثلاً ، إذا شككنا في مدخلية التغيير في النجاسة حدوثا وإرتفاعا ، وعدمها ) أي : عدم المدخلية ( فهل ينفع في حصول الظنّ بعدم المدخليّة ) أي : عدم مدخليّة التعيين في النجاسة حدوثا وارتفاعا بالنسبة للماء المتعين هل ينفعنا ( تتبع الأحكام الشرعية الأُخر ، مثل : أحكام الطهارات والنجاسات ) التي هي من قبيل مثالنا لحصول الظن بعدم المدخلية في مثالنا؟ .

الجواب : إنه لا ينفع ( فضلاً عن أحكام المعاملات والسياسات ) التي هي ليست من قبيل مثالنا حيث إن أحكام المعاملات والسياسات تجتمع مع الطهارة والنجاسة في الجنس فقط .

وكذلك ( فضلاً عن أحكام الموالي الى العبيد ) وفضلاً عن سائر غرائم العباد

ص: 357

وبالجملة : فكلّ حكم شرعي أو غيره تابعٌ لخصوص ما في نفس الحاكم من الأغراض والمصالح ، ومتعلّقٌ بما هو موضوع له وله دخلٌ في تحققه ، ولا دخلَ لغيره من الحكم المغاير له . ولو إتّفق موافقته له كان بمجرد الاتفاق من دون ربط .

ومن هنا

-------------------

على ما تقدّم من تمثيل المحقق به .

( وبالجملة : فكلّ حكم شرعي أو غيره ) أي : غير الحكم الشرعي ، سواء كان حكم الموالي أم أحكام الأشياء الخارجية ، فهو ( تابعٌ لخصوص ما في ) نقل ( نفس الحاكم من الأغراض والمصالح ) فإنّ الحاكم يضع أحكامه حسب خصوصياتٍ يراها ، كما إن غير الحكم الشرعي أيضا بقائه وزواله تابع للخصوصية التي فيه قوة وضعفا .

( و ) أيضا ذلك الحكم الشرعي وغيره ( متعلّقٌ بما هو موضوع له ) أي : للحكم ( وله ) أي : ولذلك الموضوع الخاص ( دخلٌ في تحققه ) أي : في تحقق الحكم الشرعي الخاص ( و ) معلوم : إنه ( لا دخلَ لغيره من الحكم المغاير له ) أي: لذلك الحكم الخاص ، لأن بقاء وزوال كل حكم تابع لما يراه المولى ، وليس بتابع لمقدار بقاء وزوال حكم آخر .

هذا ( ولو إتّفق موافقته له ) أي : إتفق موافقة هذا الحكم لغيره من الأحكام في البقاء والزوال ( كان بمجرد الاتفاق ) لأنه لا جامع بينهما وكان ( من دون ربط ) وإتحاد مناط ، بل مجرد إتفاق .

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكرنا : من أنه لا يرتبط دوام حكم وزواله بدوام حكم آخر ، وزواله يظهر ما يلي :

ص: 358

لو شك واحدٌ من العبيد في مدخليّة شيء في حكم مولاه حدوثا وارتفاعا ، فتتبّع لأجل الظنّ بعدم المدخليّة وبقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك الشيء ، أحكام سائر الموالي بل أحكام هذا المولى المتغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولاً ، عُدَّ من أسفه السفهاء .

وأمّا الثاني : وهو الشك في الرافع فإن كان الشك في رافعيّة الشيء للحكم ، فهو أيضا لا دخل له بسائر الأحكام .

-------------------

إنه ( لو شك واحد من العبيد في مدخليّة شيء في حكم مولاه حدوثا وارتفاعا ) بأن شك في إن الشيء الفلاني يسبّب حدوث الحكم أم لا ؟ أو إن الشيء الفلاني يسبب ارتفاع الحكم أم لا؟ ( فتتبّع لأجل الظنّ بعدم المدخليّة وبقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك الشيء ) تتبعا في ( أحكام سائر الموالي ، بل أحكام هذا المولى ) تلك الأحكام ( المتغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولاً ) أو المتوافقة موضوعا لا محمولاً ، أو محمولاً لا موضوعا ( عُدَّ من أسفه السفهاء ) .

مثلاً : إذا شك العبد في إنه هل يجب عليه البقاء في الدار الى الصباح أو الى نهاية الاسبوع ؟ فتتبع فرأى إن المولى أمر أجيره بصيام اسبوع ، وخادمه بالسفر اسبوعا ، وبنّاء داره بالبناء اسبوعا ، وهكذا ، لم يحق له أن يقيس ما أمره المولى بالأوامر الأُخر فيقول : يجب عليّ البقاء في الدار الى نهاية الاسبوع .

هذا كله في الشك في المقتضي .

( وأمّا الثاني : وهو الشك في الرافع ) فقد يكون شكا في رافعية الموجود ، وقد يكون شكا في وجود الرافع ( فإن كان الشك في رافعيّة الشيء للحكم ) بأن كان شيء موجودا وشككنا في إنه هل هو رافع للحكم أم لا ؟ ( فهو أيضا لا دخل له بسائر الأحكام ) حتى يقاس هذا الحكم بسائر الأحكام من باب الغلبة .

ص: 359

ألا ترى أنّ الشك في رافعيّة المذي للطهارة لا ينفعُ فيه تتبع موارد الشك في الرافعيّة ، مثل : ارتفاع النجاسة بالغسل مرة ، أو نجاسة الماء بالاتمام كُرّا ، أو ارتفاع طهارة الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب والتمر .

وأما الشك في وجود الرافع

-------------------

( ألا ترى أنّ الشك في رافعيّة المذي للطهارة لا ينفع فيه تتبع موارد الشك في الرافعيّة ) حتى يقاس عليها المذي في كونه رافعا أو ليس برافع .

إذن : فلا ينفع في مورد الشك فيما نحن فيه تتبع موارد الشك المشابهة ( مثل : ارتفاع النجاسة بالغسل مرة ، أو ) مثل ارتفاع ( نجاسة الماء بالاتمام كُرّا ) على ما قال به بعض الفقهاء تمسّكا منه بقوله عليه السلام : الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجسه شيء (1) .

( أو ) مثل : ( ارتفاع طهارة الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب والتمر ) عند جماعة من الفقهاء ، وذلك لقولهم بنجاسة عصير هذه الثلاثة ، فحيث يشك في نجاستها يشك في إنه هل ارتفع طهارة الثوب بسبب ملاقاته لشيء منها أم لا ؟ .

والحاصل : إن الشك في رافعيّة الموجود لا يقاس الى سائر الروافع ، بأن يقال : تلك الأمور روافع فهذا رافع أيضا ، كما لا يقال : بأن سائر الأمور ليست بروافع ، فهذا ليس برافع أيضا .

( وأما الشك في وجود الرافع ) مع العلم بأنه رافع في نفسه ، كما إذا شك المتطهر في إنه هل خرج منه بول أو لم يخرج ؟ مع علمه بأن البول رافع ،

ص: 360


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

وعدمه ، فالكلام فيه هو الكلام في الأمور الخارجيّة .

ومحصّل الكلام : أنّه إن أُريد : أنّه يحصل الظنّ بالبقاء إذا فرض له صنف أو نوع يكون الغالب في افراده البقاء ، فلا نُنْكِرُهُ ، ولذا يحكم بظنّ عدم النسخ عند الشك فيه .

لكنّه يحتاج الى ملاحظة الصنف والتأمّل حتى لا يحصل التغاير ،

-------------------

فإذا شك في وجوده ( وعدمه ) أي : عدم وجود الرافع ( فالكلام فيه هو الكلام في الأمور الخارجيّة ) الموضوعية .

( ومحصّل الكلام ) فيها : ( أنّه إن أُريد : أنّه يحصل الظنّ بالبقاء إذا فرض له صنف أو نوع يكون الغالب في افراده البقاء ) فإنه إذا أريد حصول الظن من الغلبة هذا المعنى ( فلا نُنْكِرُهُ ) .

وإنّما لا ننكره ، لأن الغلبة في افراد الصنف أو النوع ، يوجب الظن بأن هذا الفرد من الصنف أو من النوع أيضا يبقى بمقدرا بقاء سائر افراد الصنف أو النوع .

مثلاً : إذا كان نوع الحمام غالبا يبقى خمس سنوات ، يحصل لنا منه الظن بأن الحمام الخاص الذي هو في العراق أو الحمام الخاص الذي هو في مكان آخر يبقى أيضا كذلك .

( ولذا ) أي : لأجل إن من هذه الغلبة يحصل لنا الظن بأن هذا الفرد أيضا كسائر الافراد من الصنف أو النوع ( يحكم بظنّ عدم النسخ عند الشك فيه ) أي : في النسخ في مورد خاص .

وإنّما نظن بعدم النسخ ، لأن النسخ قليل جدا في الأحكام الشرعية ، ولهذا نقيس هذا الفرد المشكوك النسخ على سائر الافراد .

( لكنّه يحتاج الى ملاحظة الصنف والتأمّل حتى لا يحصل التغاير ) بينهما ،

ص: 361

فإنّ المتطهّر في الصبح إذا شك في وقت الضحى في بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة ، فلا ينفعه تتبعُ الموجودات الخارجيّة ، مثل بياض ثوبه وطهارته وحياة زيد وقعوده وعدم ولادة الحمل الفلاني ، ونحو ذلك .

نعم ، لو لوحظ صنفُ هذا المتطهّر في وقت الصبح المتحد أو المتقارب فيما له مدخل في بقاء الطهارة ، ووجد الأغلب متطهرا في هذا الزمان ، حصل الظنّ ببقاء طهارته .

وبالجملة : فما ذكره من ملاحظة أغلب الصنف ،

-------------------

فيلزم التأكد من إن هذا الفرد هو فرد من ذلك الصنف ، أو فرد من ذلك النوع ، حتى يوجب الغلبة في الصنف أو النوع الحاق هذا الفرد بها .

وعليه : ( فإنّ المتطهّر في الصبح إذا شك في وقت الضحى في بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة ) أي : أراد اثبات بقاء طهارته من الصبح الى الضحى بسبب الغلبة ( فلا ينفعه تتبع الموجودات الخارجيّة مثل بياض ثوبه ) حيث إن بياض ثوبه يبقى هذا المقدار من الزمان ( وطهارته ) أي : طهارة ثوبه ( وحياة زيد وقعوده ، وعدم ولادة الحمل الفلاني ، ونحو ذلك ) فإن الطهارة من الحدث لا تقاس بمثل هذه الاُمور الخارجية .

( نعم ، لو لوحظ صنفُ هذا المتطهّر في وقت الصبح ، المتحد ) ذلك الصنف ( أو المتقارب ) معه ( فيما له مدخل في بقاء الطهارة ، ووجد الأغلب متطهرا في هذا الزمان ، حصل الظنّ ببقاء طهارته ) أيضا .

مثلاً : إذا كان ممن هم في عمره وخصوصياته تبقى طهارتهم في هذا الزمان بهذا المقدار ، حصل الظن من ذلك ببقاء طهارته .

( وبالجملة : فما ذكره ) المحقق القمي : ( من ملاحظة أغلب الصنف ،

ص: 362

فحصول الظنّ به حقّ ، إلاّ أنّ البناء على هذا في الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في أكثر موارده .

وإن بنى على ملاحظة الأنواع البعيدة أو الجنس البعيد

-------------------

فحصول الظنّ به حقّ ) لأن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب ، وهذا قياس صورته : إن ملاحظة أغلب الصنف يورث الظن بالالحاق ، وكلّما أورث الظن به كان حجة .

لكن أشكل المصنِّف عليه بعدها ، في صغراه : بأن ذلك لا يورث الظن بالالحاق ، وفي كبراه : بأنه أخص من المدعى .

أما الاشكال في الكبرى ، فهو ما أشار اليه بقوله :

( إلاّ أنّ البناء على هذا ) أي : على ملاحظة أغلب الصنف أو النوع ( في الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في أكثر موارده ) إذ يسقط جميع أقسام الشك في المقتضي ، كما يسقط جميع أقسام الشك في رافعية الموجود ، ويسقط أيضا بعض أصناف الشك في وجود الرافع .

هذا مع إن هؤلاء القائلين بحجية الاستصحاب مطلقا ، يقولون بحجيته في كل هذه الموارد ، فيكون دليل القمي أخصّ من مدّعاه .

وأما الاشكال في الصغرى ، فهو ما أشار الى بيانه بقوله : ( وإن بنى ) وجود الغلبة لاستفادة الاستصحاب في هذا الفرد ( على ملاحظة الأنواع البعيدة ) مثل : الحاق بقاء طهارة من له عمر سبعين سنة في البلاد الباردة وفي الشتاء بغالبية من لهم عمر عشرين سنة في البلاد الحارة وفي الصيف ( أو ) على ملاحظة ( الجنس البعيد ) مثل : الحاق بقاء حياة الانسان بغالبية بقاء مطلق الحيوان .

ص: 363

أو الأبعد ، وهو الممكن القارّ ، كما هو ظاهر كلام السيد المتقدّم ففيه : ما تقدّم من القطع بعدم جامع بين مورد الشك وموارد الاستقراء يصلح لاستناد البقاء اليه . وفي مثله لا يحصل الظنّ بالالحاق لأنّه لابدّ في الظنّ بلحوق المشكوك بالأغلب ، من الظنّ أولاً بثبوت الحكم أو الوصف الجامع ، فيحصل الظنّ بثبوته في الفرد المشكوك .

-------------------

( أو الأبعد ، وهو ) مثل : بقاء ( الممكن القارّ ، كما هو ظاهر كلام السيد المتقدّم ) الشارح للوافية .

( ففيه : ما تقدّم من القطع بعدم جامع بين مورد الشك وموارد الاستقراء ) جامعا بحيث ( يصلح لاستناد البقاء اليه ) فلا غلبة إذن بالنسبة الى هذا النوع والصنف ، كما لا علّة تجمع الأفراد المختلفة ( وفي مثله لا يحصل الظنّ بالالحاق ) .

وإنّما لا يحصل الظن بالالحاق ( لأنّه لابدّ في الظنّ بلحوق المشكوك بالأغلب، من الظّن أولاً بثبوت الحكم ) كالطهارة ( أو الوصف ) كالاستمرار ( الجامع ) ذلك الحكم أو الوصف بين هذا الفرد وسائر الأفراد ، وحينئذ ( فيحصل الظنّ بثبوته في الفرد المشكوك ) .

والحاصل : إنه يلزم في الحاق المشكوك بالأغلب أمران :

الأوّل : الظن بوجود الحكم في الأغلب .

الثاني : الظن بوجود الحكم في هذا الفرد المشكوك ، وذلك بأن يكون هناك جامع بينهما .

ومن المعلوم : إن الجامع البعيد أو الأبعد مثل : الممكن القار ، لا يكون جامعا بحيث يسري الظن من موارد الاستقراء الى هذا الفرد المشكوك فيه .

ص: 364

وممّا يشهد بعدم حصول الظنّ بالبقاء اعتبار الاستصحاب في موردين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، فإنّ المتطهّر بمايع شُك في كونه بولاً أو ماءا ، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه ، مع أنّ الظنّ بهما محال .

وكذا الحوض الواحد إذا صبّ فيه الماء تدريجا فبلغ الى موضع شُكَّ

-------------------

( وممّا يشهد بعدم حصول الظنّ بالبقاء ) وإن جرى الاستصحاب ممّا يدل على إن الاستصحاب ليس لأجل حصول الظن : ( اعتبار الاستصحاب في موردين ) متخالفين ( يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ) فإنه من الواضح : عدم إمكان حصول الظن على طرفين متخالفين ( فإنّ المتطهّر بمايع شُك في كونه بولاً أو ماءا، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه ، مع أنّ الظنّ بهما محال ) .

إن قلت : كونهما معا هو الواقع أيضا محال ، لأنه إن كان الماء نجسا نجس بدنه وبقي حدثه ، وإن كان طاهرا كان بدنه طاهرا وحدثه مرتفعا ، فكيف يمكن الاستصحابان مع علمنا بمخالفة أحدهما للواقع ؟ .

قلت : ذلك من باب التشريع ، ومن المعلوم : إن الاعتبار بيد المعتبر ، فهو مثل : تغريم السارق المال دون القطع إذا إعترف بالسرقة مرّة لا مرتين ، مع إنه لو كان في الواقع سارقا لزم القطع والتغريم ، وإن لم يكن سارقا لم يلازمه شيء .

ومثل دفع ربع الوصية إذا شهدت بها امرأة واحدة ، ونصف الوصية إذا شهدت بها امرأتان ، وثلاثة أرباع الوصية إذا شهدت بها ثلاث ، وكل الوصية إذا شهدت بها أربع ، مع إن الوصية لو كانت في الواقع محققة لزم دفعها ولو بشهادة امرأة واحدة ، وإن لم تكن لم يجب شيء ولو بشهادة أربع .

( وكذا الحوض الواحد إذا صبّ فيه الماء تدريجا فبلغ الى موضع شُكَّ

ص: 365

في بلوغ مائه كُرّا ، فإنّه يحكم حينئذٍ ببقاء قلّته . فإذا امتلأ واُخِذَ منه تدريجا الى ذلك الموضع ، فيشكّ حينئذ في نقصه عن الكرّ ، فيحكم ببقاء كرّيته ، مع أنّ الظنّ بالقلّة في الأوّل ، وبالكرّية في الثاني محالٌ .

ثم إنّ اثبات حجيّة الظنّ المذكور على تقدير تسليمه دونها خرطُ القتاد .

-------------------

في بلوغ مائه كُرّا ، فإنّه يحكم حينئذٍ ببقاء قلّته . فإذا امتلأ واُخِذَ منه تدريجا الى ذلك الموضع ، فيشكّ حينئذ في نقصه عن الكرّ ، فيحكم ببقاء كرّيته ، مع أنّ ) الاستصحابين متخالفان ، نعلم بعدم صحة أحدهما ، فإن ( الظنّ بالقلّة في الأوّل ، وبالكرّية في الثاني محالٌ ) .

وكذا حال المسافر إذا شك في مكان بأنه حدّ الترخص أم لا ، فإنه يصلّي تماما ذاهبا ، وقصرا راجعا ، للاستصحابين المتخالفين مع إنه إن لم يكن في الواقع حدّ الترخص كانت الصلاة فيه تماما في الحالين ، وإن كان حدّ الترخص كانت الصلاة فيه قصرا في الحالين .

وكذا من كان عاقلاً فجنّ تدريجا ووصل الى حال لم نعلم هل إنه عاقل أو مجنون فإنه يستصحب العقل ؟ والعكس بالعكس فإنه يستصحب الجنون مع إنه في الواقع إما عاقل في الحالين ، أو مجنون في الحالين .

الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا المجال لا يمكن فيه ظنّان مختلفان ، وإن جاز فيه الاستصحابان على ما قاله جماعة .

( ثم إنّ اثبات حجيّة الظنّ المذكور ) الحاصل من الغلبة ( على تقدير تسليمه ) أي : تسليم حصول الظن من الغلبة ( دونها خرطُ القتاد ) وذلك لأنه لا دليل على حجية مثل هذا الظن ، وقد ورد في القرآن الحكيم : « إنّ الظَنَّ لا يُغنِي

ص: 366

خصوصا في الشبهة الخارجية التي لا يعتبر فيها الغلبة إتفاقا ، فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء من جهة الظنّ الحاصل من الغلبة وعدم اعتبار الظنّ بنجاسته من غلبة اُخرى ، كطين الطريق - مثلاً - مما لا يجتمعان ،

-------------------

من الحقّ شيئا » (1) .

وعلى أي حال : فهذا إشكال ثان من المصنِّف بعد إشكاله الأوّل في الكبرى ، فقد أشكل أولاً : بأن الدليل أخص من المدعى ، وثانيا : بأنه لا حجية لمثل هذا الظن ، كما إن إشكاله السابق : بأن الظن لا يحصل من الغلبة كان إشكالاً على الصغرى ، وصورة القياس على ما مرّ هو الظن يحصل من الغلبة ، وكلما حصل الظن من الغلبة كان حجة .

إذن : فلو سلمنا حصول الظن من الغلبة ، فإنه لا حجية لمثل هذا الظن ( خصوصا في الشبهة الخارجية ) الموضوعية ( التي لا يعتبر فيها الغلبة إتفاقا ) فإن العلماء متّفقون على إن الشبهات الموضوعية لا يعتبر فيها الغلبة مع إن الاستصحاب فيها موضع وفاقهم .

أما مثال عدم حجية الظن المذكور ، فهو ما أشار اليه بقوله : ( فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء من جهة الظنّ الحاصل من الغلبة ) حيث إن الماء القليل طاهر حتى يظن بخلافه ( وعدم اعتبار الظنّ بنجاسته ) أي : نجاسة الماء القليل ( من غلبة اُخرى ، كطين الطريق - مثلاً - مما لا يجتمعان ) فإنه إذا وقع شيء من طين الطريق في الماء القليل ، فهنا غلبتان مختلفتان :

الاُولى : غلبة نجاسة طين الطريق الموجب لنجاسة الماء القليل .

ص: 367


1- - سورة يونس : الآية 36 ، سورة النجم : الآية 28 .

وكذا إعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب مع الظنّ بصدق المدّعي لأجل الغلبة .

ومنها : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ، كما إدّعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخّر عنه ، وزاد بعضهم أنّه لولا ذلك لأختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم .

-------------------

الثاني : غلبة طهارة الماء القليل الموجب لعدم نجاسته ، ومعلوم : إنه لا يعقل أن يكون هذا الماء طاهرا ونجسا .

( وكذا إعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب مع الظنّ بصدق المدّعي لأجل الغلبة ) فإن المدعي إذا عرفنا صدقه في الغالب ، قسنا صدقه في هذه الدعوى الخاصة على صدقه في سائر الأماكن فنظن بصدقه ، فهو إذن صادق في دعواه ، والمنكر معه الاستصحاب ، فهو إذن صادق في إنكاره فيلزم إجتماع المتخالفين .

والحاصل : إن الكبرى وهي : كون الغلبة وما يستند اليها حجة ، لا يمكن الأخذ بها في هذه المواضع ، ولذا قال المصنِّف : حجية الظن المذكور دونها خرط القتاد.

( ومنها ) : أي : مما استدل به للقول الأوّل وهو : القول بحجية الاستصحاب مطلقا ( بناء العقلاء على ذلك ) أي : على الاستصحاب ( في جميع أمورهم ، كما إدّعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخّر عنه ، وزاد بعضهم ) أي : بعض العلماء القائلين لحجية الاستصحاب مطلقا ( أنّه لولا ذلك ) أي : لولا الاستصحاب ، ( لإختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم ) .

وإنّما يختل النظام لولا الاستصحاب ، لأنا نعمل في جميع أمورنا العادية على الاستصحاب ، في ذهابنا الى المدرسة والسوق والطبيب ، وغيرها من مزاولة الأعمال اليومية ، وذلك من جهة استصحاب عدم تحوّل المدرسة عن مكانها ،

ص: 368

وزاد آخر : أنّ العمل على الحالة السابقة أمرٌ مركوزٌ في النفوس حتى الحيوانات ، ألا ترى : أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عَهِدَت فيها الماء والكلاء ، والطيور تعود من الأماكن البعيدة الى أوكارها . ولولا البناء على « إبقاء ما كان » ، لم يكن وجه لذلك .

والجوابُ : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء ، لأجل الغلبة ، فإنّهم في أمورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها .

ألا ترى : أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلاً

-------------------

وعدم إنتقال السوق الى مكان آخر ، وعدم موت الطبيب ، وهكذا .

( وزاد آخر : أنّ العمل على الحالة السابقة أمر مركوزٌ في النفوس حتى الحيوانات ، ألا ترى : أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء ، و ) كذلك ( الطيور تعود من الأماكن البعيدة الى أوكارها ) وهكذا الأسماك - كما ثبت في العلم - ترجع الى مراكزها بعد الأسفار الطويلة في البحار والمحيطات ، ثم قال : ( ولولا البناء على « إبقاء ما كان » ، لم يكن وجه لذلك ) فيدل على إن الاستصحاب فطري لجميع الحيوانات ، فكيف بالانسان ؟ .

( والجواب : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء لأجل الغلبة ) لا لأجل الاستصحاب ، فمعيارهم هو : الظن ، لا الاستصحاب ( فإنّهم في أمورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها ) .

هذا بالاضافة الى عدم حصول الشك لهم غالبا فيما يمارسونه من أعمالهم اليومية المتطابقة مع الاستصحاب ، وذلك بدليل إنهم لو شكوا لتوقفوا .

( ألا ترى : أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلاً

ص: 369

عن المهالك ، إلاّ على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ، ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال ، أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان من أهل الاستدلال .

وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعي ، يبنون على عدمه ، ولو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة ، فلا يبنون على عدمها .

-------------------

عن المهالك ) أي : إن من عهدوه في حال يغلب فيه الهلاك حيث لا ظن معه بالسلامة لا يراجعونه ولا يراسلونه .

مثلاً : إذا حدث في منطقة زلزال أو ما أشبه من الكوارث المدمرة ومات فيها ناس كثير ، فلا يكاتب العقلاء شخصا كان في هذه المنطقة قبل الكارثة ( إلاّ ) بعد التحقيق عن حاله والتأكد من وجوده ، مع إن الاستصحاب يقتضي بقائه حيا بعد الكارثة ، وإذا كاتبوه قبل التأكد كان ( على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ) فهم إذن تابعون للظن لا للاستصحاب .

( و ) كذا ( لا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال ، أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان ) من غلب عليه العطب ( من أهل الاستدلال ) بأن كان فقيها ، وذلك في تقليدهم الابتدائي ، أمّا في تقليدهم الاستمراري والبقاء على الميت ، فذلك جائز عندهم .

( وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعي ، يبنون على عدمه ) أي : عدم النسخ لظنهم بأنه لم ينسخ ، وذلك للغلبة حيث إن الغلبة هنا على عدم نسخ الأحكام ، لا للاستصحاب .

( و ) تراهم ( لو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة ، فلا يبنون على عدمها ) أي : عدم الرافعية لعدم الظن بالغلبة ، مع إن مقتضى الاستصحاب

ص: 370

وبالجملة : فالذي أظنّ أنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعي من غير جهة النسخ على الاستصحاب .

نعم ، الانصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعي ، فليس عندهم كالشك في حدوثه في البناء على العدم .

ولعلّ هذا من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ، فإنّها أمارة على العدم ، لما علم من بناء الشارع على التبليغ ،

-------------------

عدم الرافعية .

( وبالجملة : فالذي أظنّ إنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعي ) لو كان شكهم ( من غير جهة النسخ ) فإنهم لا يبنون فيه ( على الاستصحاب ) وإنّما على ظنهم بالبقاء للغلبة .

ثم إن المصنِّف بعد أن ذكر إنّ العقلاء لا يبنون عند الشك في الحكم الشرعي على الاستصحاب سواء كان الشك في البقاء أم في الحدوث ، بأن كانت الحالة السابقة هو الوجود أو العدم ، تدارك ذلك وقال :

( نعم ، الانصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعي ، فليس عندهم ) الشك في البقاء ( كالشك في حدوثه في البناء على العدم ) فإنهم في البقاء لا يحكمون على العدم ، بينما في الحدوث يحكمون على العدم .

( ولعلّ هذا ) الفرق بين الوجود والعدم هو : ( من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ) أي : إنه من باب : عدم الدليل دليل على العدم ، لا من باب الاستصحاب ( فإنّها ) أي : عدم الوجدان ، وجاء بالضمير مؤنثا للخبر وهو قوله : ( أمارة على العدم ) فإن عدم وجدان الدليل علامة عدم الدليل .

وإنّما كان عدم الوجدان أمارة على العدم ( لما علم من بناء الشارع على التبليغ )

ص: 371

فظنّ عدم الورود يستلزم الظنّ بعدم الوجود . والكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم في باب أصل البرائة .

قال في العدّة ، بعدما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمم الداخل في الصلاة :

-------------------

للأحكام في كل جزئية وكلّية ، وحيث لم يحصل المكلّف على الحكم مع الفحص عنه ، يستدل منه على عدم وجود الحكم .

إذن : ( فظنّ عدم الورود ) أي : عدم ورود الحكم لأنه فحص عنه فلم يجده ( يستلزم الظنّ بعدم الوجود ) فبناء العقلاء في أُمورهم إنّما هو لهذا الطريق العقلائي ، لا لأجل الاستصحاب .

( و ) أما ( الكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده ) أي : ( من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم ) فقد مضى بحثه ( في باب أصل البرائة ) فراجع .

والحاصل : إن العقلاء يحكمون في الشك في الحدوث على العدم من باب إن الظن بعدم ورود الحكم مستلزم للظن بعدم وجود الحكم ، فهل حكمهم هذا هو : لأجل مجرد الظن بعدم الحكم ، أو هو : مع إنضمام حكم العقل بقبح التعبد بغير العلم ، فإن نسبة ما لم يعلم من الشارع الى الشارع قبيح ؟ .

اختار المصنِّف في باب البرائة الثاني يعني : اختار إن حجية هذا الظن واعتباره من باب ضم حكم العقل إليه ، لا من باب مجرّد الظن بعدم الحكم .

هذا ، ويشهد على ذلك ما ذكره شيخ الطائفة حيث ( قال في العدّة ، بعدما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمم الداخل في الصلاة ) فإن المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ، فالاستصحاب يقول بصحة صلاته والمضي فيها ،

ص: 372

« والذي يمكن أن ينتصر به طريقةُ استصحاب الحال ما أومأنا اليه من أن يقال : لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل ، لكان عليه دليلٌ .

وإذا تتبّعنا جميع الأدلة فلم نجد فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاُولى ، دلّ على أنّ حكم الحالة الأُولى باقٍ على ما كان .

فإن قيل : هذا رجوعٌ الى الاستدلال بطريق آخر ، وذلك خارج عن استصحاب الحال .

وقيل : إنّ الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرنا

-------------------

ووجود الماء يقول ببطلان الصلاة ووجوب الوضوء أو الغسل ، والشيخ بعد أن اختار عدم اعتبار الاستصحاب هنا قال : ( « والذي يمكن أن ينتصر به طريقة استصحاب الحال ) أي : ينتصر به للاستصحاب هنا والقول بكفاية التيمم السابق هو : ( ما أومأنا اليه من أن يقال ) بما يلي :

( لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل ) وهو : الحكم قبل وجود الماء ( لكان عليه دليلٌ ) أي : على التغيير المذكور ( وإذا تتبّعنا جميع الأدلة فلم نجد فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاُولى ، دلّ ) عدم وجداننا للدليل ( على أنّ حكم الحالة الأُولى باقٍ على ما كان ) .

إذن : فهو الآن متطهر ويستمر في صلاته بدون نقضها .

ثم قال شيخ الطائفة : ( فإن قيل : هذا رجوعٌ الى الاستدلال بطريق آخر ) لأنكم ذكرتم إن البقاء على الحالة السابقة ليس من جهة الاستصحاب ، بل من جهة عدم الدليل دليل العدم ( وذلك خارج عن استصحاب الحال ) لأنه ليس اعتمادا على الحالة السابقة ، بل هو اعتماد على عدم وجود الدليل .

( وقيل : إنّ الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرنا ) هنا : من إن عدم

ص: 373

وأمّا غير ذلك فلا يكاد يحصل غرضُ القائل به » ، انتهى .

احتجّ النافون بوجوه

منها : ما عن الذريعة والغنية من : « أنّ

-------------------

الوجدان أمارة على العدم ( وأمّا غير ذلك ) أي : التعويل على الحالة الاُولى في اثبات الحكم اللاحق وهو الاستصحاب ( فلا يكاد يحصل غرضُ القائل به » (1) ) أي : بالبقاء على الحالة الاُولى ، وذلك لأنه تعويل على الاستصحاب ، والاستصحاب لا دليل عليه .

بل يحصل غرض القائل بالبقاء على الحالة الاُولى عن طريق عدم الدليل دليل العدم على ما عرفت بيانه .

( انتهى ) كلام شيخ الطائفة ، وهو مؤيد لما ذكره المصنِّف : من إن الشك في الحدوث والحكم بالبقاء على الحالة الاُولى ليس للاستصحاب ، وإنّما لأن عدم الدليل دليل العدم ، وشيخ الطائفة أيضا لم يعتمد في الحكم بصحة صلاة المتيمم الواجد للماء في الاثناء على الاستصحاب ، وانما إعتمد على إنه لا دليل على تغيّر حالته بعد حصول الماء ، فجعل عدم الدليل دليل العدم .

هذا تمام الكلام في أدلة المثبتين لحجية الاستصحاب مطلقا وهو القول الأوّل في الاستصحاب وقد عرفت وجوه الايراد فيها .

وأما أدلة النافين فقد ( احتجّ النافون ) لحجية الاستصحاب مطلقا ، وهو القول الثاني في الاستصحاب ( بوجوه ) متعددة :

( منها : ما عن الذريعة ) للسيد المرتضى ( والغنية ) لابن زهرة : ( من : « أنّ )

ص: 374


1- - عدة الاصول : ص304 .

المتعلّق بالاستصحاب يُثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل . توضيحُ ذلك أنّهم يقولون : قد ثبت بالاجماع على من شرع في الصلاة بالتيمم وجوب المُضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذا الحال بعد المشاهدة .

وهذا منهم جمع بين الحالتين في حكم من غير دليل يقتضي الجمع بينهما ، لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه ؛ لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما

-------------------

الشخص ( المتعلّق بالاستصحاب ) أي : الذي يتمسك في اثبات الحكم الشرعي بالاستصحاب ( يُثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل ) أي : إنه يحكم بما لادليل عليه ، والحكم بلا دليل تشريع محرّم .

( توضيحُ ذلك أنّهم يقولون : قد ثبت بالاجماع على من شرع في الصلاة بالتيمم وجوب المُضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ) فإنه قبل مشاهدة الماء يجب عليه المضي في صلاته ( فيجب أن يكون على هذا الحال ) أي : المضي في الصلاة ( بعد المشاهدة ) أيضا ، لاستصحاب الحالة السابقة ثم قالوا :

( وهذا منهم جمع بين الحالتين ) أي : حالة قبل المشاهدة ، وحالة بعد المشاهدة ( في حكم ) واحد وهو المضي ، وذلك ( من غير دليل يقتضي الجمع بينهما ) أي : بين الحالتين .

وإنّما يكون ذلك جمعا من غير دليل ( لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه ) فإن الحالتين مختلفتان قطعا ، والاختلاف هذا يستلزم الاختلاف في الحكم أيضا ، ولهذا يشك في الحالة الثانية كما قال :

( لأن المصلّي غير واجد للماء في إحداهما ) وهي : الحالة السابقة ،

ص: 375

وواجد له في الأُخرى ، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة . فإذا كان الدليل لا يتناولُ إلاّ الحالة الأُولى وكانت الحالة الأُخرى عارية منه ، لم يجز أن يثبت فيها مثل الحكم » ، انتهى .

أقول : إن كان محلّ الكلام فيما كان الشك لتخلُّف وصفٍ وجودي أو عدمي متحقق سابقا يشك في مدخليّته في أصل الحكم

-------------------

وهو ( واجد له في الأُخرى ) وهي الحالة الثانية ( فلا يجوز التسوية بينهما ) في وجوب المضي ( من غير دلالة ) دليل على المضي ، فإنه لو كان دليل على المضي بعد المشاهدة لم نحتج الى الاستصحاب .

وعليه : ( فإذا كان الدليل لا يتناول إلاّ الحالة الأُولى ) قبل مشاهدة الماء ( وكانت الحالة الأُخرى ) بعد مشاهدة الماء ( عارية منه ) أي : من الدليل ( لم يجز أن يثبت فيها ) أي : في الحالة الثانية ( مثل الحكم » (1) ) الثابت في الحالة الاُولى ( إنتهى ) ما نقل عن الذريعة والغنية .

( أقول : إن كان محلّ الكلام فيما كان الشك ) في المقتضي ، وذلك ( لتخلُّف وصف وجودي ) كتغيّر الماء بأن يزول تغيّره ( أو عدمي ) كفقدان الماء بأن يوجد بعد فقدانه ( متحقق سابقا ) ذلك الوصف الوجودي أو العدمي بحيث إنه بعد تخلّفه لاحقا ( يشك في مدخليّته ) أي : مدخلية ذلك الوصف المتخلف على أحد وجهين : أما يشك ( في أصل الحكم ) بأن كان الوصف مقوّما له حدوثا وبقاءا كفقدان الماء لصحة التيمم .

ص: 376


1- - الذريعة الى اصول الشريعة : ج2 ص83 .

أو بقائه ، فالاستدلال المذكور متينٌ جدا لأنّ الفرض : عدمُ دلالة دليل الحكم الأوّل وفقد دليلٍ عام يدلّ على إنسحاب كل حكم ثبت في الحالة الاُولى في الحالة الثانية ، لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل هي الاخبار المذكورة ، وقد عرفت : اختصاصها بمورد يتحقق معنى النقض ، وهو : الشك من جهة الرافع .

نعم ، قد يتخيّل كونُ مثال التيمّم من قبيل

-------------------

( أو ) يشك في مدخلية ذلك الوصف المتخلّف في ( بقائه ) أي : بقاء الحكم بأن كان الوصف مقوّما له حدوثا لا بقاءا كزوال التغيّر من نفسه .

وعليه : فإن كان محل الكلام ذلك ( فالاستدلال المذكور متينٌ جدا ) .

وإنّما يكون الاستدلال متينا جدا لأمرين :

أولاً : ( لأنّ الفرض : عدم دلالة دليل الحكم الأوّل ) بخصوصه على الحكم الثاني .

ثانيا : ( وفقد دليلٍ عام يدلّ على إنسحاب كل حكم ثبت في الحالة الاُولى ) كحكم المصلي بالتيمم قبل مشاهدة الماء من المضي في الصلاة ( في الحالة الثانية ) أيضا بعد مشاهدة الماء ، وهذا الدليل العام هو إخبار الاستصحاب .

وإنّما لا يدل اخبار الاستصحاب على ذلك ( لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل ) لاثبات الاستصحاب ( هي الاخبار المذكورة ، وقد عرفت : اختصاصها بمورد يتحقق معنى النقض ، وهو : الشك من جهة الرافع ) لا الشك من جهة المقتضي ، فلا دليل إذن بالنسبة الى الشك في المقتضي ، لا من جهة دليل خاص ، ولا من جهة دليل عام .

( نعم ، قد يتخيّل كون مثال التيمّم ) أي : هذا المصداق الخاص بأنه ( من قبيل

ص: 377

الشك من جهة الرافع لأنّ الشك في انتقاض التيمّم بوجدان الماء في الصلاة كانتقاضه بوجدانه قبلها ، سواء قلنا بأن التيمم رافع للحدث أم قلنا إنّه مبيح ، لأنّ الاباحة أيضا مستمرة الى أن تنتقض بالحدث أو يوجد الماء .

ولكنّه فاسدٌ ، من حيث أنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ،

-------------------

الشك من جهة الرافع ) لا من قبيل الشك من جهة المقتضي ( لأنّ الشك في انتقاض التيمّم بوجدان الماء في ) أثناء ( الصلاة ) الذي هو محل الكلام ( كانتقاضه ) أي : التيمم ( بوجدانه ) أي : الماء ( قبلها ) أي : قبل الصلاة .

وعليه : فحال وجدان الماء في أثناء الصلاة كحال وجدان الماء قبل الصلاة ، كلاهما يوجب انتقاض التيمم ( سواء قلنا بأن التيمم رافع للحدث ) كما قال به جماعة ، فيكون حال التيمم حال الوضوء من جميع الجهات ( أم قلنا إنّه مبيح ) للدخول في الصلاة فقط ، وليس برافع فلا يكون حينئذ كالوضوء في جميع الجهات .

وإنّما لا يكون فرق في انتقاض التيمم بوجدان الماء قبل الصلاة وفي الصلاة حتى على القول بأن التيمم مبيح ( لأنّ الاباحة أيضا مستمرة الى أن تنتقض بالحدث أو يوجد الماء ) .

إذن : فالتيمم على كلا القولين يقتضي جواز الدخول في الصلاة ويستمر حتى وقوع الحدث أو حصول الماء ، فيكون الشك عند وجود الماء شكا في الرافع لا في المقتضي .

( ولكنّه ) أي : هذا التخيل ( فاسد ) لأن الشك في مثال التيمم ليس من جهة الرافع ، وإنّما الشك فيه من جهة المقتضي ، وذلك ( من حيث أنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ) للتيمم وهو واضح .

ص: 378

بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف لمّا كان مأخوذا في صحة التيمّم حدوثا وبقاءا في الجملة ، كان الوجدانُ رافعا لوصف الموضوع الذي هو المكلّف ، فهو نظير التغيّر الذي يشك في زوال النجاسة بزواله .

فوجدان الماء ليس كالحدث

-------------------

( بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف ) أي : كون المكلّف فاقدا للماء ( لمّا كان مأخوذا في صحة التيمّم ) كجزء من موضوع جواز التيمم ( حدوثا وبقاءا ) بأن يقال : المكلّف الفاقد للماء يصح له التيمم ، وكذلك المكلّف الفاقد للماء يصح بقائه على التيمم ، فحدوث التيمم وبقائه منوط بتحقق الموضوع وهو المكلّف الفاقد للماء ، وذلك ( في الجملة ) أي : في غير حال الصلاة ، أو الأعم من كونه في غير حال الصلاة أو حال الصلاة .

وعليه : فإذا كان فقدان الماء الذي هو وصف الموضوع مأخوذا في صحة التيمم ( كان الوجدانُ رافعا لوصف الموضوع ) أي : رافعا للفقدان ، فإن وصف الموضوع هو : الفقدان والموضوع بكامله هو : المكلّف الفاقد للماء كما قال : ( الذي هو المكلّف ) وقوله : الذي صفة الموضوع .

إذن : ( فهو ) أي : الفقدان ( نظير التغيّر الذي يشك في زوال النجاسة بزواله ) أي : بزوال التغيّر ، وذلك لأن الموضوع هو الماء المتغيّر ، وفي المقام هو المكلّف الفاقد .

وعليه : ( فوجدان الماء ليس كالحدث ) في كونه ناقضا ، وإنّما هو مفوّت للموضوع ، وفرق بين المفوّت للموضوع وبين الناقض ، فإن فوات الموضوع معناه : زوال الموضوع ، بينما إنتقاض الموضوع معناه : إن الموضوع موجود لكن عرض ما يبطله ، فإنه قد لا تكون نار ، وقد تكون النار لكن الماء يطفئها .

ص: 379

وإن قرن به في قوله عليه السلام : حين سئل عن جواز الصلوات المتعدّدة بتيمّم

واحد : « نعم ، ما لم يُحدث ، أو يَجِد ماءً » لأنّ المراد من ذلك تحديدُ الحكم بزوال المقتضي أو طروّ الرافع .

وكيف كان : فإن كان محلّ الكلام في الاستصحاب

-------------------

وعلى هذا : فوجدان الماء ليس كالحدث ، لأن وجدان الماء مفوّت للموضوع ، والحدث ناقض ( وإن قرن ) وجدان الماء ( به ) أي : بالحدث ( في ) بعض الروايات ، مثل : ( قوله عليه السلام : حين سئل عن جواز الصلوات المتعدّدة بتيمّم واحد ) فأجاب عليه السلام قائلاً : ( « نعم ، ما لم يُحدث ، أو يَجِد ماءً » (1) ) فإن الإمام قرن بين حدوث الحدث ، وبين وجود الماء ، ممّا ظاهره الابتدائي : إن وجود الماء أيضا كالحدث ناقض ، لكنه ليس كذلك ، فإن الحدث ناقض ووجود الماء مفوّت للموضوع .

وإنّما قلنا وجدان الماء ليس كالحدث ( لأنّ المراد من ذلك ) أي : من اقتران حدوث الحدث ووجدان الماء في قوله عليه السلام : « نعم » هو : ( تحديد الحكم بزوال المقتضي ) وهو وجدان الماء ( أو طروّ الرافع ) وهو حدوث الحدث .

والحاصل : إن مثال بعضهم بالتيمم في المكلّف الواجد للماء في أثناء الصلاة لم يكن من باب الشك في الرافع ، بل من باب الشك في المقتضي ، وقد عرفت : إن المصنِّف لا يجري الاستصحاب في الشك في المقتضي .

( وكيف كان : فإن كان محلّ الكلام في ) جريان ( الاستصحاب ) وعدمه هو :

ص: 380


1- - الكافي فروع : ج3 ص63 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص163 ب97 ح1 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص200 ب8 ح54 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص375 ب7 ح989 و ج3 ص377 ب19 ح3910 (بالمعنى) .

ما كان من قبيل هذا المثال ، فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه ، وإن شمل ماكان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ، قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج ليس من غير دليل ، بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ،

-------------------

( ما كان من قبيل هذا المثال ) أي : مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة ( فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه ) من عدم الدليل عليه ، لأنه من الشك في المقتضي ، والشك في المقتضي لا استصحاب فيه .

وإنّما يكون الحق بنظر المصنِّف مع المنكرين لأنه لا دليل خاص بنظره على الاستصحاب في الشك في المقتضي ولا دليل عام يشمله .

( وإن شمل ) محل كلامهم في الاستصحاب ( ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ) أي : من غير المخرج المعتاد ، وذلك لمرض وما أشبه ، فيشك في إنه مبطل للوضوء أو ليس بمبطل مما يكون الشك في الرافع .

وعليه : فإن كان هذا هو محل كلامهم الذي قال النافون : الاستصحاب ليس بحجة ، وقال المثبتون بأن الاستصحاب حجة ( قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج ) من غير السبيلين ( ليس من غير دليل ) كما قاله النافون ، فإن النافين قالوا: بأنه لا دليل على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع .

( بل الدليل ) على صحة الاستصحاب في الشك في الرافع هو ( ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ) المتقدمة ، وهي عبارة عمّا يلي :

أولاً : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق على هذا الاستصحاب .

ثانيا : استقراء موارد الشك في بقاء الحكم السابق ، المشكوك من جهة الرافع

ص: 381

مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج ، لكن عرفت ما فيه من التأمّل .

ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ب « أنّ قوله : « عمل بغير دليل » ، غير مستقيم ، لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، فإذا كان التقدير : تقدير عدمه كان بقاء الثابت

-------------------

يفيد القطع بالحكم .

ثالثا : الأخبار المستفيضة الدالة على صحة الاستصحاب على ما مرّ تفصيله .

( مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج ) وهذا وجه رابع لصحة الاستصحاب في الشك في الرافع حيث قال المحقق : والظاهر إن مرجع هذا الدليل الى أنه إذا أحرز المقتضي وشك في المانع بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق بنى على عدمه في اللاحق ، وحاصل دليله : إن المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيلزم أن يؤثر المقتضي أثره .

( لكن عرفت ما فيه من التأمّل ) لأن وجود المقتضي في السابق لا يدل على وجوده في اللاحق .

( ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ) عن النافين للاستصحاب مطلقا حيث قالوا : ( ب « أنّ قوله ) أي : المتمسك بالاستصحاب ( « عمل بغير دليل» ) فإن النافين للاستصحاب ، قالوا : عدم الدليل على الاستصحاب دليل العدم ، فأجاب عنه المحقق : بأنه ( غير مستقيم ) .

وإنّما قال : إن دليلهم غير مستقيم ( لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ) فهو إذن عمل بالدليل ، لا أنه عمل بغير دليل .

وعليه : ( فإذا كان التقدير : تقدير عدمه ) أي : عدم الرافع ( كان بقاء الثابت

ص: 382

راجحا في نظر المجتهد والعمل بالراجح لازم » ، انتهى .

وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به ، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ، إلاّ أن يرجع الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم .

-------------------

راجحا في نظر المجتهد ) والمراد بالثابت : الشيء الذي كان في السابق وشك فيه في اللاحق ( و ) معلوم : إن ( العمل بالراجح لازم » (1) ، انتهى ) كلام المحقق .

هذا ( وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به ) فإنا لا نعلم بالرافع ، لا أنا نعلم عدم الرافع ( وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ) أي: عرفت الاشكال فيه بمجرد ثبوته في الزمان الأوّل وعدم ارتفاعه من دون رافع .

( إلاّ أن يرجع ) هذا الكلام من المحقق ( الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم ) .

والحاصل : إن المحقق أجاب عن إن الاستصحاب عمل بغير دليل الذي استدل به النافون ، قائلاً : إن الدليل على الاستصحاب هو إن الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، ولا رافع ، فأشكل عليه المصنِّف بما يلي :

أولاً : بأنا لا نعلم بالرافع ، لا أن الرافع غير موجود ، وعدم العلم ليس معناه عدم الوجود .

ثانيا : إن الثابت سابقا لا يثبت لاحقا بمجرد عدم العلم بالرافع ، إلاّ أن يكون مراد المحقق : إنّا إذا لم نجد الدليل على الرفع بعد الفحص عن الدليل ، كان عدم وجداننا دليلاً على العدم ، وهذا لا يسمى استصحابا .

ص: 383


1- - معارج الاصول : ص209 .

ومنها أنّه لو كان الاستصحاب حجّةً ، لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها . وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل .

وقال في محكيّ الذريعة : « قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار إلاّ بدليل متجدّد .

-------------------

وإنّما لا يسمى استصحابا ، لأن الاستصحاب ملاكه الحالة السابقة ، وهذا ملاكه : الفحص وعدم الوجدان .

( ومنها ) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : ( أنّه لو كان الاستصحاب حجّةً لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها ) ولو بعد عشر سنين - مثلاً - .

( وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته ) كخمسين سنة مثلاً ( أن يقطع ببقائه ، وهو باطل ) فالاستصحاب باطل .

أقول : كأنّ المستدل استدل بالتلازم بين الحجية والقطع ، فقال : إن كل ما كان حجة فهو موجب للقطع ، والاستصحاب حجة فهو موجب للقطع .

وفيه : إنه لا تلازم بين الحجة وبين القطع .

نعم ، التلازم في عكسه ، وهو أنه كل ما كان قطع فهو حجة .

( وقال في محكيّ الذريعة ) في تقريب نفي الاستصحاب بهذا الدليل ( « قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ، ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار ) ولو بعد عشرين سنة ( إلاّ بدليل متجدّد ) يدل على بقائه في الدار هذه المدة .

ص: 384

ولا يجوز استصحابُ الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني - وقد زالت الرؤية - بمنزلة كون عمرو فيها » .

وأجاب في المعارج عن ذلك ب « أنّا لا ندّعي القطع ، لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به » .

أقول قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية

-------------------

هذا ( ولا يجوز استصحابُ الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني - وقد زالت الرؤية - بمنزلة كون عمرو فيها » (1) ) .

وإنّما كان في الزمان الثاني بمنزلة كون عمرو فيها ، لأنه في الزمان الثاني موضوع آخر ، كما إن وجود عمرو فيها موضوع آخر ، فكما لا يصح الانتقال من وجود زيد الى وجود عمرو ، كذلك لا يصح الانتقال من وجود زيد في الزمان السابق الى وجوده في الزمان اللاحق .

( وأجاب في المعارج عن ذلك ) : أي : عن هذا الدليل ( ب « أنّا لا ندّعي القطع ) ببقاء زيد في الدار ( لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا ) الرجحان ( يكفي في العمل به » (2) ) أي : بالاستصحاب .

والحاصل : إن المحقق أجاب عن دليل النافين بدليل مركب من صغرى وكبرى، فالصغرى : إن وجوده السابق يرجح وجوده اللاحق ، والكبرى : إن الرجحان كاف في الاستصحاب .

( أقول ) : إن دليل المعارج ممنوع صغرى وكبرى ، أما صغرى فإنه ( قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية ) بل حصوله في الجملة .

ص: 385


1- - الذريعة : ج2 ص830 .
2- - معارج الاصول : ص209 .

ومنع حجّيته .

ومنها : أنّه لو كان حجة لزم التناقض ، إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيُّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول ، أو يقال الاشتغال بصلاة متيقنة ثابتٌ قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب .

-------------------

وأما منع الكبرى فقد أشار اليها بقوله : ( ومنع حجّيته ) أي حجية مثل هذا الظن على تقدير وجوده .

والحاصل : إنه لا رجحان ، وعلى تقدير الرجحان ، لا يكون مثل هذا الرجحان حجة لا شرعا ولا عقلاً .

( ومنها ) : أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا ( أنّه لو كان ) الاستصحاب ( حجة لزم التناقض ) بين استصحابين متعارضين في كل مورد استصحاب .

وإنّما يلزم منه التناقض في كل مورد ( إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان ) حيث يجد ماءا في أثناء الصلاة ، فيستصحب المضي في صلاته ، فإنه ( كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول ) في الصلاة .

وعليه : فهذان استصحابان متعارضان أحدهما يقول : إمض في صلاتك ، والآخر يقول : بطلت صلاتك ، فلا تمض فيها .

( أو يقال ) في تصوير الاستصحاب المعارض للمضي في الصلاة : إن ( الاشتغال بصلاة متيقنة ثابتٌ قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب ) فهنا استصحاب يقول : امض في صلاتك ، واستصحاب يقول : لا تمض فيها ، لأنك

ص: 386

قال في المعتبر « استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه . ثم مثل هذا لا يسلمُ عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده » ، انتهى .

وأجاب عن ذلك في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ،

-------------------

مشغول الذمة بصلاة متيقنة الصحة ، والصلاة المتيقنة الصحة هي التي يؤتى بها مع الوضوء .

إذن : فحيث كان القول بحجية الاستصحاب يوجب دائما حصول التناقض بين الاستصحابين ، يكون الاستصحاب باطلاً ، لأن ملازم التناقض باطل .

هذا ، وقد ( قال في المعتبر ) في تقريب تعارض الاستصحابين ، بعد أن قال : ( « استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة ) مع التيمم كان ( بشرط عدم الماء ) وهذا ( لا يستلزم الشرعية معه ) أي : مع وجدان الماء ، وليس كلامنا في هذه القطعة من كلام المعتبر ، وإنّما شاهدنا في القطعة الثانية ، حيث ذكر التعارض فقال : ( ثم ) إنّ ( مثل هذا ) الاستصحاب ( لا يسلمُ عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام ) وذلك فيما إذا أتم الصلاة بالتيمم السابق ( فكذا بعده » (1) ) أي : بعد الاتمام ( انتهى ) كلام المعتبر .

( وأجاب عن ذلك ) أي : عن اشكال التعارض بين الاستصحابين المحقق نفسه ( في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ) فإنه لا تعارض على نحو الكلية ، وإنّما في بعض الموارد .

ص: 387


1- - المعتبر : ص209 .

ووجود المعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث يسلم عن المعارض .

أقول : لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ، إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه على بقائه ،

-------------------

( و ) من المعلوم : إن ( وجود المعارض في الأدلة المظنونة ) في بعض الموارد ( لا يوجب سقوطها ) أي : فرط الأدلة في كل مكان حتى ( حيث يسلم عن المعارض ) .

والحاصل : إن هذا الدليل يدل على سقوط الاستصحاب في مقام وجود المعارض لا في كل مقام ، فهو إذن أخص من المدّعى ونحن نسلّم سقوط الاستصحاب إذا حصل له معارض ، لكنّا نقول بحجية الاستصحاب إذا لم يحصل له معارض .

( أقول ) : إننا إذا سلّمنا جواب المعارج ، لزم سقوط الاستصحاب في كثير من الموارد ، وذلك إنه ( لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ) فإن الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به البرائة عن الاشتغال عارضه استصحاب الاشتغال .

نعم ، الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به التكليف لا يكون استصحاب الاشتغال معارضا له .

وإنّما لا يسلم الاستصحاب عن المعارض في الأغلب ( إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه ) أي : ترتب ذلك الأثر الحادث ( على بقائه )

ص: 388

فيقال الأصلُ عدم ذلك الأثر .

والأولى في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء ، فإذا ثبت ظنُّ البقاء في شيء ، لزم عقلاً ظنُّ ارتفاع كل أمر فُرِضَ كونُ بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنُّ ببقائه .

-------------------

أي : على بقاء المستصحب ( فيقال ) في معارضه : ( الأصلُ عدم ذلك الأثر ).

لكن لا يخفى : إن هذين الاستصحابين لا يتعارضان ، لتقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، فإنه إذا صحّ استصحاب المضي في الصلاة في مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال ، لأن استصحاب الاشتغال محكوم باستصحاب المضي .

( و ) عليه : فإن ( الأولى ) أولوية لزومية مثل : قوله سبحانه : « أولى لك فأولى » (1) أن يقال ( في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء ) بأن كان حجية الاستصحاب مبنيا على الظن ، فيكون أمارة لا أصلاً ، ومعلوم : إن هذا الظن الاستصحابي لا يترك ظنا معارضا له لأنّ الظن النوعي لا يعارضه ظن نوعي آخر ، والظن الشخصي لا يعارضه ظن شخصي آخر ، فلا تعارض كما قال :

( فإذا ثبت ظنُّ البقاء في شيء ، لزم عقلاً ظنُّ ارتفاع كل أمر فُرِضَ كونُ بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له ) أي : للرافع ، فيما إذا كان للرافع أجزاء أخيرها بقاء المستصحب ( فلا يعقل الظنُّ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك المرفوع .

ص: 389


1- - سورة القيامة : الآية 34 .

فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماءٍ غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدثٌ ، مستلزمٌ عقلاً لطهارة ثوبه وبدنه وبرائة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ، وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة .

وتوهّم إمكان العكس مدفوعٌ بما سيجيء توضحيه : من عدم إمكانه .

-------------------

أمّا مثاله فهو ما أشار إليه بقوله : ( فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماءٍ غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدثٌ ، مستلزمٌ عقلاً لطهارة ثوبه وبدنه ) إذ لا يمكن عقلاً ظن طهارة الماء ، وظن نجاسة الثوب والبدن .

( و ) كذلك الظن ببقاء طهارة ذلك الماء ، مستلزم عقلاً ( برائة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ) فلا يعارض باستصحاب الاشتغال بالصلاة .

( وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة ) في المتيمم الواجد للماء في الأثناء ( يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة ) فلا يعارض استصحاب وجوب المضي في الصلاة استصحاب الاشتغال .

( وتوهّم إمكان العكس ) بأن يقال : الشك في طهارة الماء الذي غسل فيه الثوب النجس ، مسبّب عن الشك في بقاء نجاسة الثوب ، فإذا أجرينا الاستصحاب في نجاسة الثوب ارتفع الشك في طرف الماء ، وهكذا سائر الأمثلة ، فإن هذا التوهم ( مدفوعٌ بما سيجيء توضحيه : من عدم إمكانه ) .

وإنّما لا يمكن توهم عكسه لأن السبب مقدّم على المسبّب ، لا إن المسبّب مقدّم على السبب ، فاستصحاب طهارة الماء سبب لارتفاع نجاسة الثوب ، لا إن استصحاب نجاسة الثوب سبب لارتفاع طهارة الماء .

والحاصل : إنه كلّما تحقق استصحاب سببي ، واستصحاب مسببي ، قدّم

ص: 390

وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب أو عدمه ، لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلاّ للشك السببي ، ومنه يظهر

-------------------

الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، كما سيجيء توضيحه إن شاء اللّه تعالى .

( وكذا ) لا تعارض بين الاستصحابين السببي والمسببي ( إذا قلنا باعتباره ) أي: باعتبار الاستصحاب ( من باب التعبّد ) بأن كان حجية الاستصحاب مبينا على الاخبار ، فيكون أصلاً لا أمارة ، وهذا عطف على قوله المتقدِّم : إنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظن بالبقاء .

وعليه : فإذا قلنا باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ( بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب ، أو عدمه ) أي : عدم المستصحب بأن كان الأثر مترتبا على العدم مثل : صحة الصوم والحج والاعتكاف ، حيث تترتب صحة هذه الأُمور على عدم المفطر، وعلى تروك الاحرام ، وعلى تروك الاعتكاف .

وإنّما لا تعارض بينهما أيضا إذا قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد ( لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلاّ للشك السببي ) دون الشك المسببي ، فلا تعارض إذن بينهما على المبنيين .

والحاصل : إن الاستصحاب السببي لا يعارض الاستصحاب المسببي ، وإنّما يقدّم على المسببي ، سواء كان الاستصحاب حجة من باب الظن وإنه أمارة ، أم كان حجة من باب الاخبار ، وإنه أصل من الأُصول العملية .

( ومنه ) : أي : من عدم المعارضة بين الاستصحاب السببي والمسببي ( يظهر

ص: 391

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء .

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات ، لاعتضادها باستصحاب النفي .

والجوابُ عنه :

أولاً : باشتراك هذا الايراد

-------------------

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء ) في أثناء الصلاة ، فانه لا يصح القول : بأن الفاقد للماء إذا وجد الماء قبل الصلاة انتقض تيممه ، فكذا إذا وجد الماء في أثناء الصلاة .

وإنّما لايصح ذلك لأن استصحاب المضي سببي ، واستصحاب الانتقاض مسببي ، والاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسببي على ما عرفت .

( ومنها ) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : ( أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات ) .

وإنّما كان بينة النفي أولى ( لاعتضادها ) أي : اعتضاد بيّنة النفي ( باستصحاب النفي ) فيكون في جانب النفي دليلان : البينة والاستصحاب ، وفي جانب الاثبات دليل واحد : وهو البينة فقط ، والدليلان مقدمان على الدليل الواحد ، مع إن الفقهاء لا يقولون بأرجحية بيّنة النفي ممّا يدل على إنهم لا يعترفون بحجية الاستصحاب .

( والجوابُ عنه : أولاً ، باشتراك هذا الايراد ) على كل تقدير ، فإنه سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم بنفي حجيته ، فإن النافي لحجية الاستصحاب أيضا يحتاج

ص: 392

بناءا على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبرائة الأصليّة معتبرا اجماعا .

الّلهُم إلاّ أن يقال : إنّ اعتبارها ليس لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البرائة الأصلية في الأحكام الكلّية .

-------------------

الى الجواب عن هذا الاشكال .

وإنّما كان هذا الاشكال مشترك الورود على المثبتين والنافين ( بناءا على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبرائة الأصليّة معتبرا اجماعا ) أي : عند المثبتين للاستصحاب والنافين له .

وعليه : فيستشكل : بأنه كيف يكون جانب النفي له دليلان : البينة واستصحاب النفي ، وجانب الاثبات له دليل واحد ومع ذلك نرى الفقهاء لا يقولون بتقديم بيّنة النافي ؟ .

( الّلهُم إلاّ أن يقال : إنّ اعتبارها ) أي : اعتبار البرائة الأصلية ( ليس لأجل الظنّ ) بل من باب التعبد ، فالبيّنتان ظنّان متعارضان ، فلا يقدم أحدهما على الآخر ، بل يتساقطان ، فلا يرد الاشكال حينئذ سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم نفينا حجيته على القول بحجيته من باب التعبد .

بخلاف ما إذا قلنا بحجية الاستصحاب لأجل الظن حيث إن كلاً من بيّنة النفي والاستصحاب ظن ، فهنا ظنان ، ومقابلهما ظن واحد ، هو الظن الحاصل من بيّنة الاثبات .

( أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البرائة الأصلية في الأحكام الكلّية ) مثل : ما إذا شككنا في إن التتن حرام أم لا ؟ وشككنا في إن دعاء رؤية الهلال واجب

ص: 393

فلو كان أحدُ الدليلين معتضدا بالاستصحاب اُخذ به ، لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس ، فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب .

-------------------

أم لا ؟ لا في الأحكام الجزئية .

وعليه : ( فلو كان أحدُ الدليلين معتضدا بالاستصحاب أخذ به ) إذا كان من الأحكام الكلية ( لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس ) الذي هو من الاُمور الجزئية ( فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب ) فاستصحاب النفي في باب اشتغال ذمة الناس يكون من محل الخلاف الثابت في باب الاستصحاب .

هذا ، وقد أوضح الأوثق جواب المصنِّف عن عدم تقديم بينة النفي ، وذلك عند قول المصنِّف أولاً : باشتراك هذا الايراد ، ثم قوله : اللّهم إلاّ أن يقال : بما لفظه : «إذ مع فرض تحقق الاجماع على اعتبار أصالة البرائة لابدّ من تقديم بيّنة النفي على بينة الاثبات ، فلابدّ من بيان وجه عدم التقديم على القول باعتبار الاستصحاب وعدمه ، فلا اختصاص لهذا الايراد بالأول .

اللّهم إلاّ أن يقال : إن وجه عدم الاشتراك على تقدير القول باعتبار أصالة البرائة: من باب التعبّد ، كما إذا قلنا باعتبارها من باب الأخبار ، أو حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، كما هو الحق ، لا من باب الاستصحاب ، وان اعتبار البينة : إمّا من باب الظن النوعي ، أو التعبد .

ومن المعلوم : إن الأمر التعبدي - كأصالة البرائة - لا يصلح مرجّحا

ص: 394

وثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات لقوّته على بيّنة النفي ، وإن اعتضد بالاستصحاب ،

-------------------

لما هو - كالبينة - معتبر من باب الظن والطريقية ، ولذا نقول : بكون الاصول مرجعا في تعارض الاخبار لا مرجحا ، ولا لما هو معتبر من باب التعبد ، ولذا لا نقول بالترجيح بكثرة الاصول ، فالايراد مما يختص بمن يرى اعتبار الاصول من باب الظن ، كما هو ظاهر المشهور ، فالقول باعتبار البرائة الأصلية من باب التعبد يدفع اشتراك الايراد » (1) .

والحاصل : إن المستدل قال : لو كان الاستصحاب حجة لكان بينة النفي أولى .

والجواب : أولاً : إن الايراد مشترك الورود بين من يقول بحجية الاستصحاب ، ومن يقول بعدم حجيته ، لأن القائل بعدم حجيته أيضا يعترف بالبرائة الأصلية فيرد عليه : بأنه كيف لا يقدّم بينة النفي المعتضدة بالبرائة على بيّنة الاثبات غير المعتضدة بشيء ؟ .

إلاّ أن يقال بعدم الاشتراك ، لأن من يقول بالبرائة الأصلية يقول : باعتبارها من باب التعبد فلا يراها مساوية للبينة ، أو يقول : بأن البرائة الأصلية لا تأتي في الأحكام الجزئية ، وإنّما تختص بالأحكام الكلية ، بينما الاستصحاب يأتي في المنازعات الجزئية ، فليس الاشكال إذن مشترك الورود .

( و ) الجواب ( ثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات ) على بيّنة النفي ( لقوّته ) أي : لقوة الاثبات ( على بيّنة النفي ، وإن اعتضد ) النفي ( بالاستصحاب ) .

ص: 395


1- - أوثق الوسائل: ص469 - 470، ما أفاده المصنّف بأنّ دليل الثاني يتم مع الشّك في المقتضي .

إذ ربّ دليل أقوى من دليلين .

نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافيء بيّنة الاثبات ، إلاّ أن يرجع أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان .

وحينئذٍ : فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ

-------------------

وإنّما يقدّم الاثبات على النفي ( إذ ربّ دليل أقوى من دليلين ) فيقدّم الدليل الأقوى وإن كان الدليل الأضعف معاضدا بشيء آخر .

وإنّما قالوا بيّنة الاثبات أقوى ، لأنها تدّعي إنها رأت زيدا وهو يشتري الدار من عمرو - مثلاً - وبيّنة النفي لم تر ذلك ، فلعلّه اشتراها حيث لم تره بيّنة النفي ، ولذا قالوا بتقديم الجرح على التعديل ، لأن المعدّل لم ير فسقه - مثلاً - بينما الجارح رأى ذلك .

( نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ) أي : بسبب الأصل ، كما إذا قالت بيّنة الاثبات : إنها رأته يشرب الخمر في الساعة الرابعة ، وفي الدقيقة الأُولى منها ، وقالت بيّنة النفي : إنها رأته في تلك الدقيقة وهو لا يشربها .

ولذا قال المصنِّف : ( لكن بيّنة النفي لا تكافيء بيّنة الاثبات ، إلاّ أن يرجع أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان ) كما في المثال الذي ذكرناه ، فإن بينة الاثبات رأته يشرب ، وبينة النفي رأته لا يشرب فكل واحد منهما مثبت ، لا إن أحدهما ناف والآخر مثبت .

( وحينئذ ) أي : حين كان كلاهما اثباتا ( فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ ) فكما إنه إذا كان خبران

ص: 396

مطلقا ، أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج .

وربّما تمسّكوا بوجوه اُخر ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم ،

-------------------

أحدهما أقوى ظنا من الآخر قدّم الأقوى ، فكذلك إذا كانت بيّنتان إحداهما أقوى ظنا من الاُخرى ، والمراد : ظن العرف من أحدهما يكون أقوى من ظنهم من الآخر .

وعليه : فإذا كان مناط الترجيح في تعارض البينات كما في الأدلة : قوة الظن ، فالوجه : تقديم بينة النفي ، لقوة الظن فيها باعتضادها بالبرائة إمّا ( مطلقا ) أي : حتى في الموارد المنصوصة على الخلاف .

( أو ) الوجه تقديم بينة النفي ( في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ) أي : على خلاف تقديم الأقوى ظنا ( كتقديم بيّنة الخارج ) مع إن قوة الظن إنّما هو في طرف بينة الداخل ، لكن الشارع قدّم بالنص الخاص بيّنة الخارج .

مثلاً : إذا كان زيد ساكنا في الدار ، وعمرو خارجا عن الدار وتنازعا ، نعم أتى كل واحد منهما بينة على إن الدار له ، فإن الشارع قضى ببينة الخارج وأمر باعطاء الدار له ، مع إن الداخل بينته معاضدة بيده ، فالظن بالنسبة الى الداخل أقوى لكن الشارع قدّم الخارج ، فإن هذا من الموارد المنصوصة على الخلاف .

هذا ( وربّما تمسّكوا ) أي : النافون لحجية الاستصحاب مطلقا ( بوجوه اُخر ) غير الوجوه التي ذكرناها ( يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا ) من الاشكالات ( في ما ذكرنا من أدلّتهم ) وذلك لأن تلك الوجوه الأُخر توافق هذه الوجه

ص: 397

هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا .

-------------------

التي ذكرناها في خصوصيات الاستدلال وكيفيتها .

( هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين ) مطلقا ( والنافين مطلقا ) وقد عرفت : إن المصنِّف يرى التفصيل بين المقتضي والرافع ، ونحن نرى الاطلاق في حجية الاستصحاب ، من غير فرق بين أن يكون الشك في المقتضي أو في الرافع .

انتهى الجزء الحادي عشر

ويليه الجزء الثاني عشر

في حجج المفصّلين

وله الحمد

ص: 398

المحتويات

تتمّة قاعدة لاضرر ... 5

رسالة الشارح في قاعدة لا ضرر ... 41

بحث الاستصحاب ... 69

المقام الثاني في الاستصحاب ... 71

بقي الكلام في أمور

الأمر الأوّل ... 80

الأمر الثاني ... 86

الأمر الثالث ... 89

الأمر الرابع ... 109

الأمر الخامس ... 117

الأمر السادس ... 124

أقسام الاستصحاب

أقسام الاستصحاب باعتبار المستصحب ... 125

الوجه الأوّل ... 125

الوجه الثاني ... 146

الوجه الثالث ... 155

أقسام الاستصحاب باعتبار الدليل الدال عليه ... 158

أقسام الاستصحاب باعتبار الشّك في البقاء ... 182

ص: 399

الوجه الأوّل ... 182

الوجه الثاني ... 191

الوجه الثالث ... 195

أقوال في الاستصحاب ... 201

أدلّة حجيّة الاستصحاب بالنسبة الى الشّك في الرافع ... 210

الوجه الأوّل : الاجماع ... 210

الوجه الثاني : حكم الشارع بالبقاء ... 213

الوجه الثالث : الأخبار المستفيضة ... 218

أدلّة بقيّة الأقوال

أدلّة حجّية القول الأوّل - المثبتين مطلقا - ... 325

أدلّة حجيّة القول الثاني - النافين مطلقا - ... 374

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 12

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بقي الكلام في حجج المُفصِّلين

فنقول : أمّا التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف : « أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي » .

وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمل ، مع أنّ هنا

-------------------

( بقي الكلام في حجج المفصّلين ) حيث يرون بعض أقسام الاستصحاب حجة ، وبعض أقسامه غير حجة .

( فنقول : أمّا ) حجة القول الثالث وهو : ( التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار ) للاستصحاب ( في الأوّل ) وهو العدمي فإنه حجة ( وعدمه ) أي : عدم اعتبار الاستصحاب ( في الثاني ) وهو الوجودي فليس بحجة ( فهو ) أي : هذا التفصيل هو ( الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ) .

وإنّما يستظهر منه ذلك ( حيث استظهر ) التفتازاني ( من عبارة العضدي في نقل الخلاف ) في باب الاستصحاب ( « أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات ) فبعض يقول بحجيته ، وبعض يقول بعدم حجيته ( دون النفي » (1) ) فإن استصحاب النفي حجة عند الجميع .

هذا ( وما استظهره التفتازاني ) من كلام العضدي ( لا يخلو ظهوره عن تأمل ) لأن عبارة العضدي لا يظهر منها حجية استصحاب النفي بلا خلاف .

( مع أنّ هنا ) أي : في كون استصحاب الاثبات محل خلاف عند من يرى

ص: 5


1- - تعليقة شرح مختصر الاصول شرح الشرح : ص284 .

إشكالاً آخر قد أشرنا اليه في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع ، وهو أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات ، إذ ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه الظنُّ ببقاء المستصحب الوجودي .

وأقلُّ ما يكون عدم ضدّه ، فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ

-------------------

استصحاب النفي حجة ( إشكالاً آخر قد أشرنا اليه ) أوائل البحث وذلك ( في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع ) بين الأقوال .

( وهو ) أي : ذلك الاشكال الآخر هو : ( أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات ) .

وإنّما يغني عنه ( إذ ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك العدم ( الظنُّ ببقاء المستصحب الوجودي ) فإذا قلنا : بأن الاستصحاب في العدميات حجة ، فأيّة فائدة في أن نقول : بأن الاستصحاب في الوجوديات ليس بحجة ؟ .

( وأقلّ ما يكون ) هنا حيث قلنا : بأنه ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي هو : استصحاب ( عدم ضدّه ) أي : عدم ضد ذلك الوجودي ، لأن لكل وجود ضد ، فإذا استصحبنا عدم ضده ، فيثبت الوجودي نفسه .

وأما مثال ذلك ، فكما قال : ( فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام ) الخمسة ( لا ينفكّ

ص: 6

عن عدم ما عداه من أضداده ، والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات. فلابد من القول باعتباره ، خصوصا بناءا على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء ، وإن كان ظاهر بعض النافين كالسيد قدس سره وغيره : استنادهم الى عدم افادته للعلم ، بناءا على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغٌ عنه في أخبار الآحاد ، فضلاً عن الظنّ الاستصحابي .

-------------------

عن عدم ما عداه من أضداده ) فنستصحب عدم النجاسة ، فيثبت القول بالطهارة ، فلا حاجة الى استصحاب الطهارة ، وكذا في سائر ما ذكره المصنِّف من الأمثلة .

( و ) معلوم : إن ( الظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات ) للتلازم بينهما عقلاً .

وعليه : ( فلابد من القول باعتباره ) أي : باعتبار الظن ببقاء تلك الوجودات ( خصوصا بناءا على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء ) فإذا ثبت إفادته الظن بالبقاء - كما بيّناه - ثبت حجية الاستصحاب .

إذن : فالظن بالبقاء كافٍ في حجية الاستصحاب ، لأن الظاهر من كلام العضدي وغيره : إن المحور هو الظن .

هذا ( وإن كان ظاهر بعض النافين ) لحجية الاستصحاب ( كالسيد قدس سره وغيره : استنادهم ) في عدم حجية الاستصحاب ( الى عدم افادته للعلم ) فالعلم هو المحور عندهم في الحجية ، لا الظن ؛ وذلك ( بناءا على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغٌ عنه في أخبار الآحاد ) أي : هي من الأمارات ، فليست عندهم بحجة ( فضلاً عن الظنّ الاستصحابي ) الذي هو من الأُصول العملية ، فهو ليس

ص: 7

وبالجملة : فانكارُ الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيمُ بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ .

نعم ، لو قلنا باعتباره من باب التعبّد من جهة الاخبار صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات .

فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

-------------------

بحجة عندهم بطريق أولى .

وعليه : فإذا لم تكن اخبار الآحاد وهي أمارة ، حجة عندهم مع إنها تفيد الظن ، فالاستصحاب وهو أصل لا يكون حجة عندهم بطريق أولى ، إذ في الخبر أمران : خبر وظن ، بينما في الظن الاستصحابي أمر واحد ، وهو الظن فقط .

( وبالجملة : فانكارُ الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات ) على ما ذكره المفصّلون ( لا يستقيمُ بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) لما عرفت من إن الظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود .

( نعم ، لو قلنا باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( من باب التعبّد من جهة الاخبار ) لأن الاخبار هي التي أمرت بالاستصحاب ، فالاستصحاب حجة تعبدا ، فإن قلنا بذلك ( صحّ أن يقال : إن ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات ) لما تقدَّم ويأتي أيضا : من إن الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية .

مثلاً : الظن بعدم الحدث وإن استلزم الظن ببقاء الطهارة ، لكن هذا اللازم عقلي وليس لازما شرعيا حتى يكون حجة ولذا لم يكن الظن ببقاء الطهارة حجة .

وعليه : ( فاستصحاب عدم أضداد الوجوب ) كما إذا قلنا : إنه لم يكن مستحبا ولا مكروها ولا حراما ولا مباحا ( لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

ص: 8

اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء اللّه تعالى .

لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين مع

-------------------

اللاحق ) إذا إستندنا في الاستصحاب الى الاخبار .

( كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله ) أي : تفصيل الأصل المثبت فيما يأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) .

مثلاً : إذا علمنا بوجود أحد في الدار مردّد بين زيد ، أو عمرو ، أو بكر ، فاستصحاب عدم الأخيرين لا يثبت وجود زيد في الدار لأن عدم الضد لازم عقلي للضد الآخر ، وليس لازما شرعيا له ، وقد عرفت : إنه لو كان الاستصحاب حجة من باب الاخبار لا يثبت به إلاّ اللوازم الشرعية فقط .

( لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين ) أي : الى زمان والد الشيخ البهائي ، على ما تقدّم .

وعليه : فحجّية الاستصحاب من باب الظن ، والظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود ، فلماذا قال هؤلاء المفصّلون بأن الاستصحاب حجة في العدميات لا في الوجوديات .

( مع ) إنه لو قلنا بحجية الاستصحاب من باب الاخبار كان استصحاب العدم ملازما لاستصحاب الوجود أيضا ، إذ جملة من القائلين باعتباره من باب الاخبار يقولون بحجية اللوازم غير الشرعية للاستصحاب أيضا ، وذلك كما قال :

ص: 9

أنّ بعض هؤلاء وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لاينفكّ عن المستصحب على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء اللّه تعالى .

ودعوى « أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

-------------------

( إنّ بعض هؤلاء ) القائلين بحجية الاستصحاب من باب التعبّد ( وجدناهم لايفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ) أي : افراد المقارنات : من العقلية والشرعية والعادية والعرفية ( ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب ) حتى المقارنات غير الشرعية ، ومن تلك المقارنات : إنه إذا نفى العدم ثبت الوجود .

إذن : فاستصحاب العدم يلازم استصحاب الوجود حتى على القول بحجيته من باب التعبد ، فكيف يقول المفصّل بحجية الاستصحاب في العدميات دون الوجوديات ، مع إن الوجوديات ملازمة للعدميات ؟ .

وعليه : فإن هذا وإن كان ( على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء اللّه تعالى ) : من إن الاستصحاب لا يثبت لوازمه العادية والعقلية والعرفية ، إلاّ أن الكلام في أقوال العلماء الذين يقولون بحجية الاستصحاب من باب الظن ، أو من باب الاخبار ، ولا يفرّقون على القولين بين لوازمه ، فلماذا يكون الاستصحاب حجة في العدميات دون الوجوديات ؟ .

( ودعوى ) إن الاستصحاب ليس حجة لا من باب الظن ، ولا من باب التعبّد ، بل من باب بناء العقلاء ، وبناء العقلاء على حجية الاستصحاب سواء كان للظن أم للتعبد لا يوجب السراية من العدمي الى الوجودي ، فإن هذه الدعوى ليست في محلها كما قال : ( « أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

ص: 10

يسري الى الوجوديات المقارنة ، معها بل لبناء العقلاء عليها في اُمورهم بمقتضى جبلّتهم » ، مدفوعةٌ : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في اُمورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد ، بل خلافُ ما نجده من أنفسنا معاشِرَ العقلاء .

وأضعفُ من ذلك أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر .

-------------------

يسري الى الوجوديات المقارنة معها ) أي : مع العدميات ( بل لبناء العقلاء عليها ) أي : على الاستصحابات العدمية ( في اُمورهم بمقتضى جبلّتهم » ) وفطرتهم تعبدا ، لا بمقتضى الظن فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الوجودي .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في اُمورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد ) فإن عملهم إنّما هو لافادته الظن ( بل ) هو بمحض التعبد ( خلافُ ما نجده من أنفسنا معاشِرَ العقلاء ) فإنّا نعمل حسب الظن ، لا تعبدا حتى وإن لم يفد الظن .

وعليه : فإذا كان الاستصحاب العدمي حجة من باب الظن العقلائي ، فقد عرفت : إن الظن العدمي يسري الى الظن الوجودي .

( وأضعفُ من ذلك ) أي : من الدعوى السابقة ( أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي ) أي : بنائهم على حجية الاستصحاب للظن ، لا للتعبد ، لكن المعتبر عندهم من هذا الظن ( هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق ) فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط ( لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر ) كالساري من العدمي الى الوجودي .

ص: 11

وحينئذ فنقول : العدم المحقّق سابقا يظنُّ بتحققه لاحقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ، بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق .

-------------------

وإنّما كان هذا أضعف من سابقه لوضوح : إن المعيار عند العقلاء هو : حجية الظن سواء الظن العدمي المستصحب ، أم الظن الوجودي الملازم للظن العدمي .

وعليه : فقد تحقق الى هنا أربعة احتمالات : -

الأوّل : كون الاستصحاب حجة من باب الظن .

الثاني : كونه حجة من باب التعبد والاخبار .

الثالث : كونه حجة من باب بناء العقلاء تعبّدا ، فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الاستصحاب الوجودي .

الرابع : بناء العقلاء على حجية الاستصحاب من باب الظن ، لكنهم لا يسرونه الى الوجودي .

( وحينئذ ) أي : حين عرفت ذلك كله وعلمت أن القول بالتفصيل في الاستصحاب بين العدمي فحجة ، والوجودي فليس بحجة هو محور البحث هنا ( فنقول ) في تقرير حجية هذا التفصيل وبيان الدليل عليه ما يلي :

( العدم المحقّق سابقا يظنُّ بتحققه لاحقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ) فإذا كان ظانا بأنه محدث ، فإنه يظن لاحقا بأنه محدث أيضا ، إلاّ إذا علم بأنه توضّأ، أو ظن تبدّل حالته بالتطهر .

( بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق ) وذلك لأن الأعدام لا تحتاج الى المؤثر ، بخلاف الوجودات ، ومن أين لنا إن المؤثر السابق باق في تأثيره الى الزمان اللاحق ؟ .

ص: 12

والظنّ الحاصل ببقائه الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غيرُ معتبر إمّا مطلقا أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب .

ولعله المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

-------------------

ألا ترى : إنه لو لم يكن بناء في أرض بقي كذلك آلاف السنوات ، بل ملايينها ، أمّا البناء فلا يبقى آلاف السنوات ، فكيف بملايينها ؟ .

( و ) إن قلت : إنكم إذا قلتم باستصحاب الظن العدمي ، فإنه يلازم الظن الوجودي لأن الظن بعدم الحدث يلازم الظن ببقاء التطهر .

قلت : ( الظنّ الحاصل ببقائه ) أي : ببقاء الوجود ( الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غيرُ معتبر ) فلا يفيد استصحاب العدم اثبات الوجود ( إمّا مطلقا ) أي : سواء كان الوجودي المقارن من آثار العدمي أم لم يكن من آثاره ( أو ) غير معتبر خصوص ما ( إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة ) تلك الآثار ( من جهة الاستصحاب ) .

وعليه : فانه قد يكون الوجودي من آثار العدمي ، مثل وجوب النفقة للزوجة فإنه من آثار عدم موت الزوج ، وقد لا يكون الوجودي من آثار العدمي مثل وجود النهار ، فإنه مقارن لعدم الليل ، لا إن وجود النهار من آثار عدم الليل ، إذ وجود أحد الضدّين ليس من آثار عدم الضدّ الآخر .

( ولعله ) أي : لعل هذا التفصيل الأخير الذي ذكره المصنِّف بقوله : أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي هو ( المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

ص: 13

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال ارث مورّثه اليه . فإنّ معنى ذلك : أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر .

ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه ،

-------------------

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال ارث مورّثه اليه ) وفي هذا إشارة الى إن المستصحب في المقام أُمور ثلاثة :

الأوّل : حياة الغائب ، وهو أمر وجودي لا يعتبر استصحابه عند من لا يرى استصحاب الأُمور الوجودية .

الثاني : عدم إنتقال ارثه الى وارثه وهو أمر عدمي يعتبر استصحابه .

الثالث : انتقال ارث مورّثه اليه ، وهو أمر وجودي لازم للعدمي يحصل من الظن بالعدمي الظن به ، لكنه ليس من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب ، فإن انتقال ارث مورّثه اليه من آثار حياته ، وليس أثرا لعدم انتقال ارثه الى وارثه .

ولذا قال المصنِّف : ( فإنّ معنى ذلك : إنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر ) عقلاً، لأنه إن مات ورث وورّث بالتشديد ، وإن لم يمت لا يرث ولا يورّث بالتشديد .

وعليه : فإن عدم موت زيد من آثاره : عدم إنتقال ارثه الى وارثه ، وليس من آثار عدم موته انتقال ارث مورّثه اليه ، وإن كانا متلازمان عقلاً .

( ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه ) فلا نستصحب أمرا

ص: 14

كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ، وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا ، فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته .

ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات .

وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال

-------------------

وجوديا نريد بذلك ترتيب أثر عدمي على هذا الأمر الوجودي ( كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ) فلا نستصحب وجود زيد المفقود ، حتى نرتّب على هذا الوجود عدم جواز تزويج امرأته .

( وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا ) بأن نستصحب عدما لترتيب الوجود عليه ( فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته ) .

والحاصل : هل مراد من يقول بعدم استصحاب الوجود : إنه لا يستصحب الوجود وإن أُريد ترتيب العدم عليه ، أو إنه لا يستصحب العدم إذا أريد ترتيب الوجود عليه ؟ .

( ولعلّ هذا ) المعنى الثاني الذي ذكره المصنِّف بقوله : وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب ، وإن كان الاستصحاب عدميا ( هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات ) فلا يستصحب الوجود لترتيب العدم عليه .

( وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال ) القائل بأن الظن

ص: 15

عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ .

نعم ، قد أشرنا فيما مضى الى أنّه لو قيل باعتباره في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلم في الاستصحاب الوجودي ، بناءا على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا .

-------------------

بالمستصحب العدمي يستلزم الظن بالمستصحب الوجودي ، فإذا اعتبرنا الاستصحاب العدمي كان اللازم أن نعتبر الاستصحاب الوجودي أيضا .

إذن : فالاشكال وارد على قول المفصّل ، ولا دافع لهذا الاشكال ( عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ ) .

أما لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار ، فقد عرفت : إنه من الممكن استصحاب النفي بدون ترتيب الوجود عليه ، لأن الاخبار تدل على حجّية نفس الاستصحاب ، لا لوازمه العقلية أو العرفية أو العادية .

( نعم ) وهذا استثناء من قوله : وبالجملة فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال ، وهو : أنّا ( قد أشرنا فيما مضى الى إنّه لو قيل باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( في النفي من باب التعبّد ) لا من باب الظن ( لم يغن ذلك ) الاعتبار للاستصحاب العدمي ( عن التكلم في الاستصحاب الوجودي ) لأن الاستصحاب العدمي لايفيد حكما وجوديا .

وإنّما لم يغن ذلك عنه ( بناءا على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا ) لا عقلاً أو عرفا أو عادة ، ومن المعلوم :

إن استصحاب العدم لاثبات الوجود من الآثار العقلية لا من الآثار الشرعية .

ص: 16

لكن يرد على هذا : أنّ هذا التفصيل مساوٍ للتفصيل المختار ، المتقدّم ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر ، إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة من جهة الشك في تحقق الرافع لها وهي علّة الوجود

-------------------

( لكن يرد على هذا ) أي : على ما أشكلناه على التفصيل بين العدمي والوجودي : من استلزام الظن بالمستصحب العدمي الظن بالمستصحب الوجودي ، فكيف يكون استصحاب النفي حجة دون الاثبات ؟ إن الاشكال نفسه يرد على تفصيلنا أيضا .

وإنّما يرد على تفصيلنا أيضا ، لأنه كما قال : ( أنّ هذا التفصيل ) بين العدمي والوجودي ( مساوٍ للتفصيل المختار ، المتقدّم ) منّا بين المقتضي والمانع ، حيث إنا أجرينا الاستصحاب في الشك في المانع والرافع ، ولم نجره في الشك في المقتضي .

( ولا يفترقان ) أي التفصيلان : تفصيل هذا المفصّل مع تفصيلنا نحن ( فيغني أحدهما عن الآخر ) فإذا قال شخص بتفصيل ذلك المفصّل معناه : إنه قال بتفصيلنا ، وكذلك العكس .

وإنّما يكون هذا التفصيل مساويا للتفصيل المختار ( إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة ) كعدم المطلوبية إنّما هو ( من جهة الشك في تحقق الرافع لها ) أي : للمطلوبية كالاستدانة ، وهذا الرافع ( وهي ) الاستدانة ( علّة الوجود ) للمطلوبية .

يعني : إن الأعدام من طبيعتها البقاء والاستمرار ، فيبقى عدم المطلوبية كما في المثال مستمرا حتى يأتي ما يرفعه وهي الاستدانة ، فنستصحب عدم الاستدانة ، فيبقى عدم المطلوبية ثابتا .

ص: 17

والشك في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع لا ينفكُّ عن الشك في تحقق الرافع ، فيستصحب عدمه ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي .

-------------------

( و ) كذا يكون ( الشك في بقاء الأمر الوجودي ) كالطهارة إذا كان ( من جهة الشك في الرافع ) كطروّ الحدث ، لا من جهة الشك في المقتضي ، كالشك في مقدار استعداد الطهارة للبقاء ، فإن الشك في بقاء الطهارة من جهة الشك في الرافع ( لا ينفكُّ عن الشك في تحقق الرافع ) أي : إن الشك في بقاء الطهارة عبارة أخرى عن الشك في تحقق الرافع .

ومن المعلوم : إن معنى الشك في تحقق الرافع هو : الشك في علة العدم ( فيستصحب عدمه ) أي : عدم الرافع ( ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي ) الذي هو الطهارة في المثال .

وعليه : فقد إنطبق اعتبار الاستصحاب في العدميات الذي يقول به المفصّل ، على اعتبار الاستصحاب عند الشك في تحقق الرافع الذي نقول به نحن ، لأن الرافع : إمّا رافع العدم وهي علة الوجود فيستصحب عدم ذلك الرافع ، وإمّا رافع الوجود وهي علة العدم فيستصحب عدمه أيضا ، ومعلوم : إن ذلك ليس من الشك في المقتضي ، وإنّما هو من الشك في الرافع الذي نقول به نحن .

والحاصل : إن الشك في بقاء الطهارة هو من باب الشك في الرافع ، حيث لا نعلم هل حدث رافع يرفع الطهارة أم لا؟ وهذا الشك هو بعينه الشك في العدم ، لأنّ الشك في العدم من باب الشك في الرافع أيضا ، حيث لا نعلم هل حصل الوجود ؟ فنستصحب عدم حصول .

إذن : فلا فرق بين أن نقول : بتفصيل المفصّل بين العدمي والوجودي ،

ص: 18

وتخيّل : « أن الأمر الوجودي قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع فلا يغني العدمي عن الوجودي » ، مدفوعٌ : بأنّ الشك إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع .

فإذا حكم بعدمه عند الشك ترتّب عليه

-------------------

أو نقول : بتفصيلنا بين المقتضي والمانع ، إذ كل شك في الرافع هو شك في العدم .

( وتخيّل : « أن ) هنا فرقا بين التفصيلين ، وذلك لأن ( الأمر الوجودي ) كالطهارة ( قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع ) أي : عدم الحدث ، فإن عدم الرافع لا يثبت وجود الطهارة ، لأن وجود الطهارة ليس من آثار عدم الحدث ( فلا يغني ) الاستصحاب ( العدمي عن ) الاستصحاب ( الوجودي » ) .

إذن : فيثبت الأمر الوجودي باستصحابه على تفصيل المختار دون التفصيل المذكور ، لأنه باستصحاب عدم الرافع لم يثبت الوجودي حيث لم يكن أثرا شرعيا لعدم الرافع .

هذا التخيّل ( مدفوعٌ : بأنّ ) العدمي يغني عن الوجودي ، وذلك لأن ( الشك إذا فرض من جهة الرافع ) يعني : لم نعلم هل إنه حدث ما يرتفع به الطهارة أم لا؟ ( فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي ) كجواز الدخول في الصلاة ، ومسّ كتابة القرآن ، وصحة الطواف ، وما أشبه ( مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع ) الذي هو الحدث .

وعليه : ( فإذا حكم بعدمه ) أي : بعدم الرافع الذي هو الحدث ( عند الشك ) في إنه هل تحقق الحدث أم لم يتحقق؟ ( ترتّب عليه ) أي : على عدم الرافع

ص: 19

شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي .

وحينئذ : فيمكن أن يحتجّ لهذا القول : إمّا على عدم الحجّية في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين ، وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار ، بناءا على أنّ بقاء المشكوك في بقائه من جهة الرافع ،

-------------------

( شرعا جميع تلك الأحكام ) من جواز الدخول في الصلاة والطواف ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فيغني ذلك ) الاستصحاب العدمي ( عن الاستصحاب الوجودي ) فلا نحتاج الى استصحاب الطهارة ، وإنّما يكفي أن نستصحب عدم الحدث .

( وحينئذ ) أي : حين ثبت تساوي هذا التفصيل مع التفصيل الذي ذكرناه نحن بين المقتضي والمانع ( فيمكن أن يحتجّ لهذا القول ) المفصّل بين الوجودي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين العدمي فيجري فيه الاستصحاب بما يلي :

( إمّا على عدم الحجّية ) للاستصحاب ( في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين ) الذين قالوا بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإن ما استدلوا به هناك لعدم حجيته يشمل الاستصحاب في الوجوديات هنا أيضا .

( وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار ) فإنها تختص حينئذ بالاستصحاب في العدميات .

إن قلت : الاخبار مثل : لا ينقض اليقين بالشك ، وغير ذلك لا يختص في الاستصحاب العدمي .

قلت : ( بناءا على أنّ بقاء المشكوك في بقائه ) وقوله : المشكوك في بقائه ، هي جملة واحدة ، كالطهارة - مثلاً - فالشيء المشكوك البقاء ( من جهة الرافع ،

ص: 20

إنّما يحكم ببقائه لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه في نفسه ، فإنّ الشاك في بقاء الطهارة من جهة الشك في وجود الرافع يحكمُ بعدم الرافع ، فيحكُم من أجله ببقاء الطهارة .

وحينئذ : فقوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقُض اليقين بالشك » ، وقوله : « لأنّك كُنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين » ، وغيرهما ، ممّا دلّ على أنّ اليقين

-------------------

إنّما يحكم ببقائه ) أي : بقاء الشيء المشكوك ( لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه ) أي : استصحاب بقاء الشيء المشكوك ( في نفسه ) فلا نستصحب الطهارة في نفسها بل نستصحب عدم الحدث فتثبت الطهارة .

وعليه : ( فإنّ الشاك في بقاء الطهارة من جهة الشك في وجود الرافع ) لا من جهة الشك في وجود المقتضي لبقاء الطهارة ( يحكمُ بعدم الرافع ) الذي هو الحدث ( فيحكُم من أجله ببقاء الطهارة ) ويترتب على هذه الطهارة الباقية آثارها : من جواز الدخول في الصلاة والطواف ومسّ كتابة القرآن وما أشبه ذلك .

( وحينئذ ) أي : حين استصحبنا عدم الحدث ورتبنا على ذلك آثار الطهارة ( فقوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقُض اليقين بالشك » (1) ، وقوله : « لأنّك كُنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين » (2) ، وغيرهما ) من روايات (3) الاستصحاب ( ممّا دلّ على أنّ اليقين

ص: 21


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
3- - كرواية زرارة عن أحدهما ، انظر الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 وكرواية محمد بن مسلم في حديث الاربعمائة ، انظر الخصال : ص619 ح10 = = ووسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

لا يُنقض أو لا يُدفع بالشك يرادُ منه أنّ احتمال طروّ الرافع لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثرُ النقض ، فيكون وجوده كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم ، لا من جهة إستصحابها .

والأصل في ذلك : أنّ الشك في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشك في شيء آخر ، فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ، سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ،

-------------------

لا يُنقض ، أو لا يُدفع بالشك يرادُ منه ) المعنى التالي ، وهو كما قال :

( أنّ احتمال طروّ الرافع ) الذي هو الحدث ( لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثر النقض ) وحيث لا يترتب أثر النقض على احتمال طروّ الحدث ( فيكون وجوده ) أي : وجود هذا الاحتمال بطروّ الحدث ( كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة ) إنّما هو ( من جهة استصحاب العدم ، لا من جهة إستصحابها ) أي : الطهارة نفسها.

( والأصل في ذلك ) أي : في اعتبار الاستصحاب في العدمي دون الوجودي على ما قرّبناه هو : ( أنّ الشك في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشك في شيء آخر ) أي : كان بينهما سبب ومسبّب ( فلا يجتمع ) الشك في بقاء الشيء ( معه ) أي : مع الشك في شيء آخر ( في الدخول تحت عموم لا تنقض ) .

وإنّما لا يجتمع معه لأن الشك السببي والمسبّبي كليهما لا يدخلان تحت دليل واحد ، فكلّما دخل السببي خرج المسبّبي ( سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ) أي : سواء كان السببي والمسبّبي أحدهما معارضا للآخر ، أم كان أحدهما موافقا للآخر ، فإنه إذا أجرينا الاستصحاب في الشك السببي ، لا يبقى مجال للشك المسبّبي .

ص: 22

بل الداخل هو الشك السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به زوالُ الشك المسبب به ، وسيجيء توضيح ذلك .

هذا ،

-------------------

أما مثال التعارض : فكما إذا شككنا في طهارة الثوب النجس ، المغسول بالماء المشكوك بقاؤه على الكرية ، فإن مقتضى اليقين السابق في الماء المغسول به الثوب النجس هو : طهارة الثوب ، ومقتضى اليقين السابق في الثوب هو : نجاسته ، فالمقتضيان متعارضان ، لكن الشك السببي مقدّم على الشك المسببي .

وأمّا مثال التعاضد : فكما لو شك في بقاء الزوجية فشك من جهته في وجوب النفقة ، فإن استصحاب بقاء الزوجية واستصحاب وجوب النفقة متعاضدان ، لكن لما جرى الاستصحاب الأوّل الذي هو سببي لم يكن مجال للاستصحاب الثاني الذي هو مسببي .

وإنّما لم يبق مجال للثاني لأنه لو كانت الزوجية باقية لم نحتج الى استصحاب وجوب النفقة ، بل تجب النفقة تلقائيا ، لأن وجوب النفقة من آثار الزوجية .

وعليه : فلا يجتمع السببي والمسببي تحت الأدلة ( بل الداخل ) في الأدلة ( هو الشك السببي ) فقط .

هذا ( ومعنى عدم الاعتناء به ) أي : بالشك المسببي هو : ( زوالُ الشك المسبب به ) أي : بسبب الشك السببي ، فإذا استصحبنا كرّية الماء لم نشك في طهارة الثوب النجس المغسول به ، وكذلك إذا استصحبنا بقاء الزوجية لم نشك في وجوب النفقة .

( وسيجيء توضيح ذلك ) إن شاء اللّه تعالى فيما يأتي من الشك السببي والمسببي ، وإنه كلما جرى الشك السببي لم يكن مجال للشك المسببي أصلاً .

( هذا ) تمام الكلام في تساوي التفصيلين : التفصيل المذكور ، والتفصيل الذي

ص: 23

ولكن يرد عليه :

أنّه قد يكون الأمرُ الوجودي أمرا خارجيا ، كالرطوبة يترتّب عليها آثار شرعية ، فإذا شك في وجود الرافع لها لم يجز أن يثبت به الرطوبة حتى يترتّب عليه أحكامها ، لما سيجيء : من أنّ المستصحب لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعية المترتبة عليه ، بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ،

-------------------

اخترناه نحن ( ولكن يرد عليه ) أي : على تساوي التفصيلين وعدم إفتراق أحدهما عن الآخر : إن هنا نقطة إفتراق بينهما وهي كما قال :

( أنّه قد يكون الأمر الوجودي أمرا خارجيا ، كالرطوبة ) فإن الرطوبة ليست من الأُمور الشرعية لكن ( يترتّب عليها ) أي : على الرطوبة ( آثار شرعية ) كالنجاسة ، فإذا علمنا برطوبة الثوب وملاقاته للنجس ، ترتّب عليه النجاسة ، لكن إذا شككنا في رطوبة الثوب ، للشك في هبوب ريح تجففها ، فليس لنا أن نستصحب عدم هبوب الريح لنثبت به الرطوبة حتى يترتّب عليها القول بنجاسة الثوب كما قال :

( فإذا شك في وجود الرافع لها ) أي : لهذه الرطوبة بأنه هل هبّت ريح فجففتها أم لا ؟ ( لم يجز أن يثبت به ) أي : بعدم هبوب الريح وجود ( الرطوبة حتى يترتّب عليه أحكامها ) أي : أحكام الرطوبة من السراية إذا وقع الثوب على أرض نجسة .

وإنّما لم يجز ذلك ( لما سيجيء : من أنّ المستصحب ) كعدم هبوب الريح في المثال ( لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعية المترتبة عليه ، بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ) أو عرفي ، ومعلوم : إن الرطوبة وعدمها ليس أثرا شرعيا لهبوب الريح وعدمه ، فلا يصح إثبات الرطوبة باستصحاب عدم هبوب الريح ، لأنه يكون حينئذ مثبت والاستصحاب المثبت ليس بحجة .

ص: 24

فيتعين حينئذ استصحاب نفس الرطوبة .

وأصالة عدم الرافع : إن اُريد بها أصالة عدم ذات الرافع ، كالريح المجفّف للرطوبة - مثلاً - لم ينفع في الأحكام المترتبة شرعا على نفس الرطوبة ، بناءا على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء .

وإن أريد بها أصالة

-------------------

وعليه : ( فيتعين حينئذ ) أي : حين لم نتمكن من استصحاب عدم الرافع ( استصحاب نفس الرطوبة ) لكنك قد عرفت : إن نفس الرطوبة لا تستصحب عند من يقول بعدم جريان الاستصحاب في الوجوديات .

( و ) إن قلت : فما فائدة ( أصالة عدم الرافع ) حينئذ مع تسليم حجيتها ؟ .

قلت : أصالة العدم على قسمين :

الأوّل : أصالة عدم الرافع من حيث ذات الرافع ، كعدم هبوب الريح لاثبات الرطوبة كما في المثال ، فليس بحجة لأنه مثبت فلا ينفعنا هنا .

الثاني : أصالة عدم الرافع من حيث وصف الرافعية ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة في المثال وهو حجة لكنه لا ينفعنا هنا أيضا .

والى القسم الأوّل أشار المصنِّف حيث قال : فإنه ( إن اُريد بها ) أي : بأصالة عدم الرافع : ( أصالة عدم ذات الرافع ، كالريح المجفّف للرطوبة - مثلاً - لم ينفع في الأحكام المترتبة شرعا على نفس الرطوبة ) كالنجاسة فيما إذا كان الثوب رطبا ولاقى نجسا ، فإنها لا تثبت ، وذلك ( بناءا على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء ) الكلام عنه إن شاء اللّه تعالى .

والى القسم الثاني أشار بقوله : ( وإن أريد بها ) أي : بأصالة عدم الرافع : ( أصالة

ص: 25

عدمه من حيث وصفه الرافعيّة ، ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ، فهي وإن لم يكن يترتّب عليه الأحكام الشرعية للرطوبة ، لكنّها عبارة أخرى عن استصحاب نفس الرطوبة .

فالانصاف : إفتراق القولين في هذا القسم .

-------------------

عدمه من حيث وصفه الرافعيّة ، ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ) كما في المثال ، فإن كان هذا هو المراد بها ( فهي وإن لم يكن يترتّب عليه الأحكام الشرعية للرطوبة ، لكنّها عبارة أخرى عن استصحاب نفس الرطوبة ) وقد تقدّم : إن المفصّل لا يجري الاستصحاب في الوجوديات .

إذن : ( فالانصاف : إفتراق القولين ) : قولنا ، وقول المفصّل بين العدمي والوجودي ( في هذا القسم ) وهو القسم الثاني من أصالة عدم الرافع ، فيجري فيه الاستصحاب على مختارنا دون التفصيل المذكور ، وذلك بالتوجيه المتقدّم وهو : أن يكون اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، وأن يكون المترتب على المستصحب هو آثاره الشرعية بلا واسطة ، دون العقلية والعادية والشرعية .

وعليه : فالأثر قد يكون أثرا شرعيا بلا واسطة ، وهذا هو الذي يترتب على الاستصحاب بناءا على حجيته من باب التعبد بالاخبار .

وقد يكون أثرا شرعيا مع الواسطة ، أو يكون أثرا غير شرعي ، وكلاهما لايترتبان على الاستصحاب بناءا على حجيته من باب التعبد بالأخبار .

إذن : فتحصل من كلام المصنِّف ما يلي : -

أولاً : تساوي التفصيلين وإن التفصيل المذكور بين الوجودي والعدمي هو التفصيل الذي اختاره المصنِّف بين المقتضي والمانع .

ثانيا : عدم تساوي التفصيلين في بعض المواضع ، حيث يجري الاستصحاب

ص: 26

حجّة مَن أنكر اعتباره في الاُمور الخارجية

ما حكاه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد : « ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه » على ما حكاه شارح الوافية واستظهره المحقق القمّي قدس سره من السبزواري من : « أنّ الاخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية ، مثل : رطوبة الثوب ونحوها ،

-------------------

فيه على مختار المصنِّف دون التفصيل المذكور بين الوجودي والعدمي ، وذلك بناءا على حجية الاستصحاب من باب التعبد بالاخبار .

( حجّة ) القول الرابع وهو : قول ( من أنكر اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في الاُمور الخارجية ) أي : في الموضوعات وقال بحجيته في الأحكام الشرعية : ( ما حكاه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد ) فإن الشهيد قال : ( : « ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه » ) كما في مورد العلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين ، وذلك ( على ما حكاه شارح الوافية ) .

وعليه : فإن السيد الصدر في شرحه للوافية ، حكى هذا القول عن المحقق الخوانساري في شرح الدروس ( واستظهره المحقق القمّي قدس سره من السبزواري ) أيضا ، فالمحققان : الخوانساري والسبزواري يقولان بهذا التفصيل .

وأما حجة من حكي عنهم هذا التفصيل فهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( من « أنّ الاخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية ) أي : الموضوعات ( مثل : رطوبة الثوب ونحوها ) فلا يستصحب رطوبة الثوب إذا كان للرطوبة أثر مثل نجاسته بسبب الملاقاة للنجس .

ص: 27

إذ يبعدُ أن يكون مرادُهم بيانَ الحكم في مثل هذه الأُمور الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأُمور الخارجية لا عبرة به » ، انتهى .

وفيه : أمّا أولاً : فبالنقض بالأحكام الجزئية ، مثل : طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ونجاسته من حيث ملاقاته لها ، فإنّ بيانها أيضا ليس من وظيفة الإمام عليه السلام ،

-------------------

وإنّما لا يظهر من الاخبار شمولها لمثل هذه الأُمور الخارجية ( إذ يبعدُ أن يكون مرادُهم ) أي : مراد المعصومين عليهم السلام ( بيانَ الحكم في مثل هذه الأُمور الذي ليس حكما شرعيا ) لأن شأن الشارع بيان الأحكام لا بيان الموضوعات ( وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي ) فإن استصحاب الرطوبة منشأ لحكم شرعي وهو : نجاسة الثوب الرطب الملاقي للنجس .

( وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأُمور الخارجية لا عبرة به » (1) انتهى ) ما حكاه المحقق الخوانساري رحمه اللّه .

( وفيه : أمّا أولاً : فبالنقض بالأحكام الجزئية ) فإنه لا شك في جريان الاستصحاب في الأحكام الجزئية ( مثل : طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ) فإذا شككنا في إنه هل لاقى النجاسة أم لا ، نستصحب طهارته ؟ .

( و ) كذا مثل ( نجاسته من حيث ملاقاته لها ) أي : للنجاسة فإذا شككنا في إن الثوب النجس طهّرناه أم لا ، نستصحب نجاسته ، وهكذا سائر الأحكام الجزئية .

وعليه : ( فإنّ بيانها ) أي : بيان هذه الأحكام الجزئية ( أيضا ) كالأمور الخارجية مثل استصحاب بقاء زيد ونحو ذلك ( ليس من وظيفة الإمام عليه السلام )

ص: 28


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص66 ، مشارق الشموس في شرح الدروس : ص281 .

كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ولا يجوز التقليد فيها ، وإنّما وظيفتُه من حيث كونه مبيّنا للشرع : بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة .

وأمّا ثانيا : فبالحل ، توضيحه أنّ بيان الحكم الجزئي في المشتبهات الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ، ولا لأحد من قبله .

-------------------

لكن الإمام عليه السلام بيّنها .

( كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ) ذلك أيضا ( ولا يجوز التقليد فيها ) بأن نقلّد في إن الثوب هل لاقى النجس أم لا ؟ وأن الثوب النجس هل طهّرناه أم لا ؟ ( وإنّما وظيفته من حيث كونه مبيّنا للشرع : بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة ) مثل كل مسكر حرام ، وكل مسكر مايع بالأصالة ، فهو نجس ، وما أشبه ذلك .

إذن : فالذي تقولون به بالنسبة الى هذه الأحكام الجزئية مع إن الشارع بيّنها يلزم أن تقولوا به بالنسبة الى الأُمور الخارجية أيضا ، وذلك لعدم الفرق بينهما من الجهة التي ذكرناها .

( وأمّا ثانيا : فبالحل ) وذلك بأن الشارع إنّما عليه بيان الحكم الكلي ، لكن الحكم الكلي كما ينطبق على الجزئيات الشرعية ، ينطبق على الجزئيات الخارجية أيضا ، فإن الشارع يقول مثلاً : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) فإذا شك الانسان في أن شخصا مات أو لم يمت يستصحب حياته ، وإذا شك الانسان في أن شيئا لاقى النجس أو لم يلاق النجس يستصحب طهارته ، وهكذا .

وأما ( توضيحه ) فهو كما قال : ( أنّ بيان الحكم الجزئي في المشتبهات الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ، ولا لأحد من قبله ) أي : من قبل الشارع كالمجتهد

ص: 29


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

نعم ، حكم المشتبه حكمه الجزئي ، كمشكوك النجاسة أو الحرمة ، حكمٌ شرعي كلّي ليس بيانُه إلاّ وظيفة للشارع ، وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها وانتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع .

نعم ، حكم الموضوع المشتبه في الخارج ، كالمايع المردّد بين الخل والخمر حكمٌ كلّي ليس بيانُه وظيفة إلاّ للشارع ، وقد قال الصادق عليه السلام :

-------------------

بما هو حكم جزئي .

( نعم ، حكم ) ذلك ( المشتبه حكمه الجزئي ) فحكمه : فاعل المشتبه ، والجزئي : صفة حكمه ( كمشكوك النجاسة أو الحرمة ) بما هو حكم كلي ، فإنه ( حكمٌ شرعي كلّي ليس بيانُه إلاّ وظيفة للشارع ) حيث قال سبحانه : « يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر » (1) .

( وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها ) أي : الرطوبة ( وانتفائها في الواقع ) أي : إنه خارجا هل هو رطب أو ليس برطب فإن هذا بما هو ( ليس وظيفة للشارع ) وإنّما هو وظيفة الانسان بنفسه .

( نعم ، حكم ) ذلك ( الموضوع المشتبه في الخارج كالمايع المردّد بين الخل والخمر ) بما هو حكم كلّي ، فإنه ( حكم كلّي ليس بيانُه وظيفة إلاّ للشارع ) .

وكذلك بقية الموضوعات المشتبهة في الخارج ، كرطوبة الثوب وعدمها الثوب نجسا ، فإنه يلزم استطراق باب الشارع لننظر ما بيّنه من حكم كلي لهذه الجزئيات ، فنطبّق ذلك الكلي على هذه الجزئيات الخارجية .

هذا ( وقد قال الصادق عليه السلام ) في بيان الحكم الكلي لأمثال هذه الجزئيات :

ص: 30


1- - سورة الاعراف : الآية 157 .

« كلُّ شيء لك حلالٌ حتى تعلَم أنّه حرامٌ ، وذلك مثل الثَّوب يكون عليك » الى آخره ، وقوله في خبر آخر : « سأخبرُك عن الجُبُنِّ » ، وغيره .

ولعلّ التوهّم نشأ من تخيّل أنّ ظاهر «لا تنقض» : إبقاء نفس المتيقن السابق ، وليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه .

ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا ، فإنّ إبقاءها ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للايجاب :

-------------------

( « كلُّ شيء لك حلالٌ حتى تعلَم أنّه حرامٌ ، وذلك مثل الثَّوب يكون عليك » (1) الى آخره ، وقوله ) عليه السلام : ( في خبر آخر : « سأخبرُك عن الجُبُنِّ » (2) ، وغيره (3) ) فبيّن الإمام الحكم الكلي ونحن نطبّقه على الجزئي الخارجي .

( ولعلّ التوهّم ) بأن بيان حكم الجزئي ليس من وظيفة الشارع ( نشأ من تخيّل أنّ ظاهر « لا تنقض » : إبقاء نفس المتيقن السابق ، و ) معلوم : إنه ( ليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه ) فإنّ الموضوع الخارجي من الأُمور التكوينية وليس من الأُمور التشريعية حتى يثبت أو يسقط بالتشريع .

( ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا ، فإنّ إبقاءها ) أي : الطهارة السابقة ( ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للايجاب ) أي القابلة لايجاب البقاء ، فإن الاختيار فيما يصلح للاختيار إنّما هو بالنسبة الى المستقبل ، وأمّا فيما مضى فقد خرج عن الاختيار ولا يوصف به .

ص: 31


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - انظر الكافي ( فروع ) : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
3- - كرواية اللحم المشترى من السوق ، راجع الاستبصار : ج4 ص75 ب48 ح1 ، وسائل الشيعة : ج24 ص70 ب29 ح30023 بالمعنى .

أنّ المراد من الابقاء وعدم النقض هو : ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة على المتيقن . فمعنى استصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك ، نظير استصحاب الطهارة . فطهارة الثوب ورطوبته سيّان في عدم قابلية الحكم بابقائهما عند الشك وفي قابلية الحكم بترتب آثارهما الشرعية في زمان الشك .

-------------------

وإنّما خرج ما مضى عن الاختيار لأن الفعل الاختياري ما كان كل من الفعل والترك فيه مقدورا للمكلف ، ومن المعلوم : إن الطهارة المتيقنة بالنسبة الى سابق الشك إن نقضت فالابقاء غير مقدور ، وإن لم تنقض فترك الابقاء غير مقدور .

وعليه : فإنه يدفع التوهم المذكور بعد النقض المزبور يدفعه : ( أنّ المراد من الابقاء وعدم النقض هو : ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة على المتيقن ) لا إبقاء نفس المتيقن ، ومن المعلوم : إن ترتيب الآثار وعدم ترتيب الآثار هو من الأُمور الاختيارية .

إذن : ( فمعنى استصحاب الرطوبة ) الذي هو أمر خارجي : ( ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك ) كما إنه لو لم نقل باستصحاب الرطوبة كان معناه : عدم ترتيب آثارها الشرعية ، فاستصحاب الرطوبة إذن هو ( نظير استصحاب الطهارة ) الذي هو أمر شرعي من حيث ترتيب الآثار الشرعية أو عدم ترتيبها .

وعليه : ( فطهارة الثوب ) الذي هو أمر شرعي ( ورطوبته ) الذي هو أمر خارجي ( سيّان في عدم قابلية الحكم بابقائهما عند الشك ) فإن الأمر التكويني ، كما ذكرنا غير قابل للابقاء وعدم الابقاء .

( و ) كذا سيّان أيضا ( في قابلية الحكم بترتب آثارهما الشرعية في زمان الشك ) لأن الأمر الاعتباري المستقبلي يمكن ترتيبه ، كما يمكن عدم ترتيبه .

ص: 32

فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب وكونه من قبيل طهارته ، لعدم شمول أدلّة «لا تنقض» للأول ، في غاية الضعف .

نعم ، يبقى في المقام : أنّ استصحاب الاُمور الخارجية إذا كان معناه : ترتيب آثارها الشرعية لايظهر له فائدة ، لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه في اليقين السابق ، فاستصحابها يُغني عن استصحاب نفس الموضوع ،

-------------------

إذن : ( فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب ) وحياة زيد ( وكونه من قبيل طهارته ) ونجاسته ( لعدم شمول أدلّة « لا تنقض » للأول ) وشموله للثاني ( في غاية الضعف ) على ما عرفت ، فمقتضي القاعدة : جريان الاستصحاب فيهما معا .

( نعم ، يبقى في المقام : أنّ استصحاب الاُمور الخارجية إذا كان معناه : ترتيب آثارها الشرعية ) على كما ذكرنا : من إن معنى الاستصحاب ذلك ، فإنه ( لا يظهر له ) أي : لهذا الاستصحاب ( فائدة ) .

وإنّما لا يظهر له فائدة ( لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه ) أي : مع تلك الأُمور الخارجية ( في اليقين السابق ) فكان زيد وكان معه حرمة ماله ومعه حرمة زوجته ( فاستصحابها ) أي : استصحاب تلك الآثار الشرعية ( يُغني عن استصحاب نفس الموضوع ) .

والحاصل : إن هنا موضوعا : هو زيد ، وحكما : هو حرمة ماله ، حيث إنه إذا مات حلّ ماله لوارثه ، والمقصود : استصحاب الحكم وهو : حرمة ماله فلماذا تستصحبون الموضوع وهو : بقاء زيد ، والحال إن استصحاب الحكم مغن عن بقاء الموضوع ؟ .

ص: 33

فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يُغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ معنى إبقاء الحياة : ترتبُ آثارها الشرعية .

نعم ، قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ، كما في الآثار غير المشاركة معه في اليقين السابق ، مثل توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشك في حياة الغائب ، فانّ التوريث غير متحقّق حالَ اليقين بحياة الغائب ، لعدم موت قريبه بَعْد .

-------------------

وعليه : ( فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب ) فيما إذا شككنا في انه مات أم لا ، للمنع من التصرف فيه ، ( و ) استصحاب حرمة ( زوجته ) للمنع من تزوجها ( يُغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ معنى إبقاء الحياة : ترتبُ آثارها الشرعية ) على ما ذكرتم : من إن استصحاب الحياة إنّما يفيد ترتيب الآثار الشرعية .

( نعم ) وهذا استثناء من قوله قبل قليل : « نعم يبقى في المقام » ، فانه ( قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ) وهو فيما إذا لم يمكن استصحاب الآثار استصحابا مطلقا ، بل استصحابا تعليقيا ، وذلك ( كما في الآثار غير المشاركة معه في اليقين السابق ) فانه لا يمكن الاستصحاب فيها إلاّ على نحو التعليق وذلك ( مثل توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشك في حياة الغائب ) حيث يكون زيد الغائب ، ولم يكن معه توريثه من قريبه المتوفى الآن - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ التوريث غير متحقّق حالَ اليقين بحياة الغائب ، لعدم موت قريبه بَعْد ) أي : في حال اليقين بحياة الغائب ، والمتوهم بقوله : « نعم يبقى في المقام » ، يتوهم ان هنا يستصحب الحكم أيضا ، وهو عدم التوريث ، لأن الغائب لم يكن

ص: 34

لكن مقتضى التدبّر اجراء الاستصحاب على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه .

وبعبارة اُخرى : موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لارثه منه ، ولم يُعلم انتفاء الملازمة فيستصحب .

وبالجملة : الآثار المترتبة

-------------------

وارثا حال حياة أبيه ، فاذا شككنا في موت الغائب نستصحب عدم ارثه ( لكن مقتضى التدبّر اجراء الاستصحاب ) هنا أيضا ، لأن الحكم والموضوع كليهما كانا سابقا ولكن مع فارق وهو : ان الحكم كان سابقا في استصحاب حرمة مال زيد على وجه التحقيق ، وهنا على وجه التعليق .

إذن : فالاستصحاب يجري هنا ( على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه ) فكان الموضوع وهو الغائب ، وكان الحكم التعليقي وهو التوريث .

( وبعبارة اُخرى : موت قريبه قبل ذلك ) أي : قبل زمان الشك ( كان ملازما لارثه منه ، ولم يُعلم انتفاء الملازمة فيستصحب ) بقاء الملازمة ، فالأثر مشارك معه في اليقين السابق أيضا .

والحاصل من قوله نعم يبقى في المقام إلى هنا هو : ان المستشكل يقول لا حاجة إلى استصحاب الموضوع لترتيب الآثار ، بل نستصحب نفس الآثار ، سواء كان حكما تنجيزيّا مثل : حرمة مال الغائب إذا شككنا في انه مات أو لم يمت ، أم حكما تعليقيا مثل : ارث الغائب عن أبيه إذا مات أبوه ، ولا نعلم هل ان الغائب حي أو ميت ؟ .

( وبالجملة ) : لا فرق بين الآثار التنجيزية ، والآثار التعليقية ، إذ ( الآثار المترتبة

ص: 35

على الموضوع الخارجي منها : ما يجتمع معه في زمان اليقين به ، ومنها : ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان .

لكن عدم الترتب فعلاً في ذلك الزمان ، مع فرض كونه من آثاره شرعا ، ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان ، أو لعدم شرط ، فيصدق في ذلك الزمان أنّه لولا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتب الآثار ، فاذا فُقِدَ المانعُ الموجود ، أو وُجِدَ الشرط المفقود ، وشُك في ترتّبه من جهة الشك في بقاء ذلك الأمر الخارجي ،

-------------------

على الموضوع الخارجي ) كحياة زيد الغائب الذي نشك في انه حي أو ليس بحي تكون على قسمين :

( منها : ما يجتمع معه في زمان اليقين به ) أي : اليقين بالموضوع وهو زيد .

( ومنها : ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان ) أي : زمان اليقين .

( لكن عدم الترتب فعلاً في ذلك الزمان ) ترتبا تنجيزيا ( مع فرض كونه من آثاره شرعا ، ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان ، أو لعدم شرط ) أي : ان الحكم إذا لم يترتّب في الزمان السابق ، فلوجود مانع عن ترتب الحكم ، أو فقد شرط للحكم .

وعليه : ( فيصدق في ذلك الزمان ) أي : زمان اليقين وهو الزمان السابق ( أنّه لولا ذلك المانع ، أو ) لولا ( عدم الشرط ، لترتب الآثار ) عليه وهو الحكم .

مثلاً : حياة الأب الذي هو مورث الابن الغائب في المثال السابق مانع عن الارث ، وموته شرط للارث ( فاذا فُقِدَ المانعُ الموجود ، أو وُجِدَ الشرط المفقود ، وشُك في ترتّبه ) أي : ترتب الحكم وهو الارث في المثال ( من جهة الشك في بقاء ذلك الأمر الخارجي ) كحياة الابن الغائب الذي شككنا في انه هل بقي حيا حتى يرث من أبيه ، أو لم يبق حيا حتى لا يرثه ؟ .

ص: 36

حُكِمَ باستصحاب ذلك الترتّب الشأني ، وسيأتي لذلك مزيدُ توضيح في بعض التنبيهات الآتية .

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ في مورد جريان الاستصحاب في الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه .

فاذا شكّ في بقاء حياة زيد ، فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ بحكم

-------------------

فان الشك في ترتب الحكم من هذه الجهة ( حُكِمَ باستصحاب ذلك الترتّب الشأني ) فنقول : ان الأب لو مات في السابق ، كان الابن يرثه ، والآن نستصحب ذلك الارث الشأني بعد ان وجد شرط الارث وهو : موت أب الغائب .

هذا ( وسيأتي لذلك ) الاستصحاب التعليقي ( مزيدُ توضيح في بعض التنبيهات الآتية ) انشاء اللّه تعالى .

ثم لا يخفى : ان ( هذا ) الذي ذكرناه من الاشكال بقولنا : « نعم يبقى في المقام » ممّا كان حاصله : ان المتوهم يقول : بأنّا نستصحب الحكم فلا حاجة إلى استصحاب الموضوع ، سواء كان الحكم تنجيزيا ، أم تعليقيا ، غير تام كما قال :

( ولكنّ التحقيق ) ان الاشكال بقوله : « نعم يبقى في المقام » ، غير تام ، إذ استصحاب الموضوع سببي ، واستصحاب الحكم مسببي ، وكلما أمكن الاستصحاب السببي لم يبق مجال للاستصحاب المسببي ، فاللازم ان نستصحب حياة زيد الغائب ، لا ان نستصحب حرمة ماله أو ان نستصحب حرمة زوجته كما قال : ( أنّ في مورد جريان الاستصحاب في الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه ) لأن استصحاب الأمر الخارجي سببي واستصحاب الأثر مسببي .

وعليه : ( فاذا شك في بقاء حياة زيد ، فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ بحكم

ص: 37

الشارع بعدم جواز نقض حياته بمعنى : وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على الشخص الحي ، ولا يغني عن ذلك اجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال بأنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة فيحرم نقض اليقين بالشك ، لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما يترتّبان في السابق على الشخص الحي بوصف أنّه حي ، فالحياة داخلٌ في موضوع المستصحب ، وهي مشكوكة في الزمن اللاحق ،

-------------------

الشارع بعدم جواز نقض حياته ) أي : يلزم علينا ان نستصحب وجود زيد ، لا ان نستصحب آثار حياته من حرمة زوجته وحرمة ماله وما أشبه ذلك .

وإنّما لا سبيل إلى الآثار الشرعية إلاّ باثبات موضوعها وهي الحياة هنا ، لأن حكم الشارع بعدم جواز نقض الحياة إنّما هو ( بمعنى : وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على ) الموضوع الخارجي وهو ( الشخص الحي ) كزيد مثلاً ، فلابد من إثباته لترتب آثاره عليه .

( و ) من المعلوم : انه ما لم يثبت الموضوع لم يترتب عليه آثاره ، ولذا ( لا يغني عن ذلك ) أي : عن استصحاب الموضوع ( اجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال ) في استصحاب نفس الآثار : ( بأنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة ) في الزمان السابق ( فيحرم نقض اليقين بالشك ) .

وإنّما نقول : لا يغني ذلك عن استصحاب الموضوع ( لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما يترتّبان في السابق على الشخص الحي بوصف أنّه حي ، فالحياة داخلٌ في موضوع المستصحب ) فالمستصحب إذن هو الشخص الحي ( وهي ) أي الحياة ( مشكوكة في الزمن اللاحق ) وما دامت مشكوكة لم نقطع ببقاء الموضوع ، فلم يترتب عليه آثاره إلاّ إذا استصحبنا نفس الحياة وقطعنا

ص: 38

وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ، واستصحاب الحياة لاحراز الموضوع في استصحاب الآثار غلط ، لأنّ معنى استصحاب الموضوع : ترتيب آثاره الشرعية .

فتحقّق أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ، لعدم إحراز الموضوع ، واستصحاب الموضوع كافٍ في إثبات الآثار .

وقد مرّ في مستند التفصيل السابق وسيجيء

-------------------

ببقاء الموضوع .

( وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) فكيف يمكن استصحاب حرمة ماله وحرمة زوجته بدون القطع ببقاء حياته ؟ .

( و ) ان قلت : سلّمنا : فانا نستصحب حياة زيد ، لكن بعد ان استصحبنا حياته نستصحب حرمة ماله وزوجته .

قلت : ( استصحاب الحياة لاحراز الموضوع في استصحاب الآثار ) كحرمة ماله وزوجته ( غلط ) إذ لا حاجة إلى استصحاب الآثار ، لأنه مسبّبي بعد استصحاب الموضوع الذي هو سببي ، فالسببي لا يدع مجالاً للمسببي ( لأنّ معنى استصحاب الموضوع : ترتيب آثاره الشرعية ) فلا حاجة إلى استصحاب الآثار .

إذن : ( فتحقّق : أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ، لعدم احراز الموضوع، واستصحاب الموضوع كاف في إثبات الآثار ) فلا حاجة بعده إلى استصحاب الآثار ، وعلى هذا فقول المستشكل : « نعم يبقى في المقام » ، لا مورد له .

هذا ( وقد مرّ في مستند التفصيل السابق ) بين الوجودي والعدمي ( وسيجيء )

ص: 39

في اشتراط بقاء الموضوع وفي تعارض الاستصحابين أنّ الشك المسبّب عن شك آخر لا يُجامِعُ معه في الدخول تحت عموم « لا تنقض » ، بل الداخل هو الشك السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين زوالُ الشك المسبّب به ، فافهم .

-------------------

ان شاء اللّه تعالى ( في اشتراط بقاء الموضوع ، وفي تعارض الاستصحابين ) هذا المطلب أيضا وهو : ( أنّ الشك المسبّب عن شك آخر لا يُجامِعُ ) المسبّب ( معه ) أي : مع السبب ( في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ) بلا فرق بين ان يكون السببي والمسببي متعاضدين أو متخالفين على ما تقدّم ( بل الداخل ) تحت الأدلة ( هو الشك السببي ) فقط لا المسببي .

( ومعنى عدم الاعتناء به ) أي : بالشك السببي ( وعدم جعله ) أي : جعل الشك السببي ( ناقضا لليقين ) السابق معناه : ( زوالُ الشك المسبّب به ) أي : بالشك السببي حتى يكون الشك المسببي في حكم العدم .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى انه قد لا يمكن استصحاب الموضوع ، لأن العرف يرون عدم الموضوع السابق إلاّ بالمسامحة ، مما نضطر إلى استصحاب الحكم ، كما مثّل لذلك صاحب الرياض في المنقول عنه بما يلي :

لو رأت المرأة الدم في أول وقت الفريضة ، وتردد دمها بين الحيض والاستحاضة ، فيقال : انه قد جاز لها الدخول في الفريضة قبل رؤية الدم ، إلاّ انّ فقد الشرط وهو دخول الوقت قد منع من ثبوت هذا الحكم لها قبل الرؤية ، لكن مع تحقق الشرط يشك في ترتب هذا الحكم عليها من جهة الشك في بقاء الموضوع على الصفة التي كان معها موضوعا له ، وهو صفة الخلو من الحيض ، فتستصحب الملازمة الثابتة قبل الرؤية إلى ما بعدها .

ص: 40

وأمّا القول الخامس

وهو : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي ، وبين غيره ، فلا يعتبرُ في الأوّل ، فهو المصرّح به في كلام المحدّث الاسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ مدّعيا للاجماع ، بل للضرورة على اعتباره .

قال في محكيّ فوائده المكّية - بعد ذكر أخبار الاستصحاب - ما لفظه :

-------------------

لكن هذا الاستصحاب إنّما يتم بالمسامحة العرفية ، إذ موضوع جواز الدخول في الفريضة وان كانت هي المرأة بوصف الخلوّ من الحيض ، إلاّ ان أهل العرف يزعمون ثبوت هذا الحكم بشخص المرأة من حيث هي ، ويتخيّلون تبدّل حالة الخلوّ من الحيض إلى حالة الحيض من قبيل تبدل حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع .

( وأمّا القول الخامس ) في الاستصحاب ( وهو : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي ، وبين غيره ) من الاُمور الجزئية ( فلا يعتبرُ في الأوّل ) وإنّما يعتبر في الثاني ( فهو المصرّح به في كلام المحدّث الاسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ ) مع انه حكم كلي .

وعليه : فنظر المحدث الاسترابادي هو : ان الحكم الشرعي لا استصحاب فيه إلاّ ما كان من قبيل استصحاب عدم النسخ ( مدّعيا للاجماع ، بل للضرورة على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب في عدم النسخ .

( قال في محكيّ فوائده المكّية ، بعد ذكر أخبار الاستصحاب - ما لفظه :

ص: 41

« لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا والشافعيّة قاطبةً ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به .

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاُصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة بما ملخّصه : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند نظر التدقيق والتحقيق راجعةٌ إلى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته

-------------------

« لا يقال : هذه القاعدة ) أي : قاعدة البناء على اليقين السابق ( تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا والشافعيّة قاطبةً ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به ) أي : بالاستصحاب علما بأن عدم الجواز هو الذي نذهب اليه نحن الاسترابادي .

وإنّما لا يقال ذلك ( لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاُصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة ) : بأنه لا مجال للاستصحاب بعد تبدّل الموضوع ، واُخرى : بانه وان كان للاستصحاب مجال إلاّ ان الشارع منع عنه .

أمّا الجواب الأوّل فنقول ( بما ملخّصه : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند نظر التدقيق والتحقيق ) وقوله : التحقيق : عبارة عن تحصيل الحق ، وان لم يكن فيه دقة ، والتدقيق : ما يحتاج في تحصيله إلى الدقة .

وكيف كان : فان صور الاستصحاب المختلف فيها ( راجعةٌ إلى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ) أي : حال من حالات ذلك

ص: 42

نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه .

ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات ، مختلف معه في الصفات .

ومن المعلوم عند الحكيم : أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة

-------------------

الموضوع ( نجريه ) أي : نجري ذلك الحكم ( في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها) أي : نقيض تلك الحال ( فيه ) أي : في ذلك الموضوع.

( ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ) فموضوع بقيد ، وموضوع بقيد على خلاف ذلك القيد .

وعليه : ( فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ) بحيث يكون الموضوع الثاني ( متّحد معه ) أي : مع الموضوع الأوّل ( في الذات ، مختلف معه في الصفات ) .

مثلاً : إذا تبدّل الماء المتغيّر إلى الماء غير المتغير ، فاذا أجرينا الحكم وهو النجاسة الذي كان في الماء المتغير إلى الماء غير المتغيّر كان معناه : اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ، فانه وان كان ذات الماء متحدا في كليهما إلاّ ان الصفات مختلفة ، حيث ان الصفة في الماء الأوّل : التغيّر ، وفي الماء الثاني : نقيض ذلك لزوال التغيّر .

( ومن المعلوم عند الحكيم : أنّ هذا المعنى ) وهو : اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ( غير معتبر شرعا ) لأنه قياس وليس باستصحاب ( وأنّ القاعدة

ص: 43

الشريفة المذكورة غير شاملة له .

وتارةً : بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل - أي الحالة التي إذا خُلِّي الشيء ونفسه كان عليها - إنّما يُعْمَل بهما ما لم يظهر مخرجٌ عنهما ، وقد ظهر في محل النزاع لتواتر الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج اليه الامّة ورد فيه خطابٌ وحكمٌ حتى أرش الخدش ،

-------------------

الشريفة المذكورة ) وهي قاعدة الاستصحاب ( غير شاملة له ) أي : لما كان من اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر .

هذا هو الجواب الأوّل ، وامّا الجواب الثاني الذي ذكره الاسترابادي فهو : انه وان كان للاستصحاب مجال ، إلاّ أن الشارع منع عنه كما قال : ( وتارةً : بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل ) أي : أصل البرائة وفسّر الاسترابادي الأصل بقوله : ( - أي الحالة التي إذا خُلِّي الشيء ونفسه كان عليها - ) وتلك الحالة هي البرائة الأصلية ، لأن الانسان برئما لم يثبت عليه تكليف .

ثم قال : فان الاستصحاب والبرائة ( إنّما يُعْمَل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، و ) الحال ( قد ظهر في محل النزاع ) المخرج عن كلي الاستصحاب وأصل البرائة ( لتواتر الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج اليه الامّة ورد فيه خطابٌ وحكمٌ ) شرعي ( حتى أرش الخدش ) (1) فما يراد استصحابه ، أو اجراء الأصل فيه ، محكوم شرعا بحكم ، فلا يصح الاستصحاب والتمسك بالأصل في شيء من الأحكام .

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص59 ح3 و ج7 ص157 ح9 ، بصائر الدرجات : ص142 ح3 ، الاحتجاج : ص153 ، المحاسن : ص273 ، نوادر القمّي : ص161 ، بحار الانوار : ج2 ص170 ب22 ح8 ، ج26 ص22 ب1 ح10 .

وكثيرٌ ممّا ورد مخزونٌ عند أهل الذِكر عليهم السلام فعلم أنّه ورد في محل النزاع أحكامٌ لا نعلمها بعينها وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رُشدُه ، وبيّن غيُّهُ ، أي : مقطوع فيه ذلك لا ريبَ فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث » انتهى .

وما ذكره أوّلاً

-------------------

( و ) ان قلت : انا لا نجد في كثير من الاُمور حكما ، فنضطر إلى الاستصحاب ، أو العمل بالأصل .

قلت : ( كثيرٌ ممّا ورد ) من الشارع من الأحكام (مخزونٌ عند أهل الذِكر عليهم السلام) فعدم وجداننا لا يدل على عدم الوجود في الواقع .

إذن : ( فعلم أنّه ورد في محل النزاع ) أي : مورد الاستصحاب ( أحكامٌ لا نعلمها بعينها ) وحيث لا نتمكن من إجراء الاستصحاب والبرائة ولا نجد الحكم الوارد عنهم عليهم السلام ، فلابد من الاحتياط .

( و ) كذلك يدلّ على انه لا يصح لنا العمل بالاستصحاب وأصل البرائة ( تواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رُشدُه ، وبيّن غيُّهُ ، أي : مقطوع فيه ) أي :

في تلك المسائل ( ذلك ) الرشد أو الغني بحيث انه ( لا ريب فيه ) أي : في ذلك الرشد أو في ذلك الغيّ ( وما ليس هذا ولا ذاك ، و ) هو القسم الثالث يعني : لا بيّن الرشد ، ولا بيّن الغي ، حيث أمروا ( بوجوب التوقّف في الثالث » (1) ) فلا يعمل فيه لا بالاستصحاب ولا بالأصل ، وإنّما يجب فيه التوقف والاحتياط .

( انتهى ) كلام الأمين الاسترابادي ( و ) لكن يرد على ( ما ذكره أوّلاً ) عند قوله : تارة بما ملخّصه ، ما يلي : ان الأصحاب أجابوا بهذا الجواب ، بل بأكثر منه ، حيث

ص: 45


1- - الفوائد المكّية : مخطوط .

قد استدلّ به كلّ مَن نفى الاستصحاب من أصحابنا وأوضحوا ذلك غاية الايضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة والعدّة والغنية وغيرها .

إلاّ أنّهم منعوا عن اثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان له بعينه في زمان آخر من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ، كما يشهد له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما .

-------------------

إن الاسترابادي يمنع الاستصحاب في الشك في المقتضي ، والأصحاب المانعون عن الاستصحاب يمنعونه حتى في الشك في الرافع ، وذلك كما قال :

انه ( قد استدلّ به ) أي : بما أجاب المحدث الاسترابادي ( كلّ مَن نفى الاستصحاب من أصحابنا وأوضحوا ذلك غاية الايضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة ) للسيد المرتضى ( والعدّة ) لشيخ الطائفة ( والغنية ) لابن زهرة ( وغيرها ) من الكتب ، فانهم قالوا بعدم جريان الاستصحاب إلى الحالة اللاحقة من الحالة السابقة .

( إلاّ أنّهم منعوا عن اثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان له بعينه ) الضميران في : « له » « وبعينه » ، راجعان إلى الموضوع فانهم منعوا من إثباته له ( في زمان آخر ) حتى وان كان ( من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ) .

إذن : فالاسترابادي يقول : ان الاستصحاب لا يجري لتغيّر الموضوع ، وهؤلاء الأصحاب يقولون : ان الاستصحاب لا يجري لتبدل الزمان ، وان كان الموضوع بعينه وصفته باقيا ( كما يشهد له ) أي : لبنائهم على عدم جريان الاستصحاب بسبب تغيّر الزمان فقط ( تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما ) مع وضوح : ان المتبدل فيهما هو الزمان فقط ،

ص: 46

وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق ، لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل ، بناءا على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ، لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا اليه سابقا ، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل .

وهذا المحدّث ، قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتحاد الموضوع .

-------------------

فلا يكون الموضوع من حيث الصفة في السابق وهو زمان اليقين ، مخالفا له من حيث الصفة في اللاحق وهو زمان الشك ، وإنّما الاختلاف هو بتغير الزمان فقط .

هذا ( وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق ) أي : قالوا بعدم الاستصحاب ، وذلك ( لعدم دلالة العقل عليه ) أي : على هذه القاعدة ( ولا النقل ، بناءا على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ) في البناء على اليقين السابق .

وإنّما لم يلتفتوا إلى هذه الأخبار الدالة على الاستصحاب ( لقصور دلالتها ) أي : هذه الأخبار ( عندهم ببعض ما أشرنا اليه سابقا ) حيث ناقشنا في دلالة الأخبار المذكورة من جهة السند ، أو الدلالة ( أو لغفلتهم عنها ) أي : عن هذه الأخبار ( على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل ) فكيف بهم رضوان اللّه تعالى عليهم ؟ .

( وهذا المحدّث ، قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتحاد الموضوع ) فهو يسلّم الكبرى : حجية الاستصحاب مع اتحاد الموضوع ، لكن لا يرى الاستصحاب في الأحكام صغرى لهذه الكبرى ، وذلك لادّعائه تبدل الموضوع فيها ، ورؤيته بأنها من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بينما هؤلاء لا يسلّمون الكبرى ويقولون بعدم الحجية مطلقا

ص: 47

إلاّ أنّه ادّعى تغاير موضوع المسألة المتيقنة والمسألة المشكوكة ، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناءا على اليقين السابق ، وعدم الحكم به ليس نقضا له .

فَيَرِدُ عليه ، أولاً : النقضُ بالموارد التي ادّعى الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ، كما حكيناها عنها سابقا ،

-------------------

حتى فيما لم يكن تبدّل الموضوع ، بل كان تبدّل الزمان فقط مما معناه بقاء الموضوع كاملاً .

وعليه : فانه سلّم دلالة الأخبار على الاستصحاب ( إلاّ أنّه ادّعى ) أي : المحدّث الاسترابادي : ( تغاير موضوع المسألة المتيقنة ) السابقة ( والمسألة المشكوكة ) اللاحقة وإذا تغاير موضوعهما ( فالحكم فيها ) أي : في المسألة المشكوكة ( بالحكم السابق ) الذي كان للمسألة المتيقنة ( ليس بناءا على اليقين السابق ) لأن المسألة المتيقنة تبدلت إلى مسألة مشكوكة فصار الموضوع موضوعا آخر ( و ) لذلك كان ( عدم الحكم به ) حينئذ ( ليس نقضا له ) أي : للحكم السابق .

إذا اتضح ذلك ( فَيَرِدُ عليه ) ما يلي :

( أولاً ) : بانه كيف يجري الاستصحاب فيما هو أبعد من الاستصحاب في الأحكام الكلية ؟ مما يكون خلاصة هذا الايراد هو : ( النقضُ بالموارد التي ادّعى الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ) أي : في تلك الموارد ( كما حكيناها عنها سابقا ) .

لا يقال : تلك الموارد التي ذكرها الاسترابادي وقال فيها بالاستصحاب إنّما هو لادعائه الاجماع ، ولا إجماع في غير تلك الموارد ، فكيف تنقضون عليه ؟ .

لأنه يقال : الموارد التي ذكرها الاسترابادي إنّما قال الأصحاب فيها

ص: 48

فانّ منها استصحاب الليل والنهار ، فانّ كون الزمان المشكوك ليلاً ونهارا أشدُّ تغايرا واختلافا ، مع كون الزمان السابق كذلك من ثبوت خيار الغبن ، أو الشفعة في الزمان المشكوك ، وثبوتهما في الزمان السابق .

ولو اريد من الليل والنهار : طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس

-------------------

بالاستصحاب لاطلاق أدلة الاستصحاب من العقل أو النقل ، وذلك الاطلاق شامل لغير تلك الموارد فصحّ النقض عليه حينئذٍ .

أما تلك الموارد التي ادّعى الاسترابادي الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها : ( فانّ منها استصحاب الليل والنهار ) لمن شك بانقضاء الليل ، فيستصحب الليل ، ولمن شك في انقضاء النهار فيستصحب النهار .

وعليه : ( فانّ كون الزمان المشكوك ليلاً ونهارا أشدُّ تغايرا واختلافا ، مع كون الزمان السابق كذلك ) أي : ليلاً ونهارا ( من ثبوت خيار الغبن ، أو الشفعة في الزمان المشكوك ، وثبوتهما في الزمان السابق ) المتيقن .

وإنّما يكون التغاير بينهما أشدّ ، لأن التغاير بين الزمانين يكون بحسب الذات ، وبين الخيارين والشفعتين بحسب الزمان ، فان الزمان السابق غير الزمان اللاحق بحسب الذات ، امّا الخيار في الغبن والشفعة ، فلم يختلف حقيقتهما في الزمان اللاحق عن الزمان السابق ، وإنّما اختلف زمانهما ، فاذا جرى الاستصحاب في مااختلف ذاته، فجريان الاستصحاب في مالم يختلف إلاّ زمانه يكون بطريق أولى.

لا يقال : لم يقصد الاسترابادي من الليل والنهار انات الزمان حتى يختلف اللاحق عن السابق في ذاته ، بل أراد كون الشمس فوق الأُفق وكونها تحته ، ومن المعلوم : ان ذلك حقيقة واحدة سابقا ولاحقا .

لأنه يقال : ( ولو اريد من الليل والنهار : طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس

ص: 49

الزمان ، كان الأمر كذلك وإن كان دون الأوّل في الظهور ، لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا .

ولو أريد استصحاب أحكامهما مثل جواز الأكل والشرب وحرمتهما ففيه : أنّ ثبوتَهما في السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعية بزماني الليل والنهار ،

-------------------

الزمان ) أي : آناته المتعددة المختلفة الحقيقة ( كان الأمر كذلك ) أيضا يعني : كان التغاير بينهما مع السابق أشد مما ذكرنا من الغبن والشفعة ( وإن كان دون الأوّل ) التي هي الآنات ( في الظهور ) فانّ ظهور هذا في اختلاف الحقيقة ، أقل من ظهور الآنات في اختلاف الحقيقة .

وإنّما كان الأمر في هذا أيضا كذلك ( لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا ) وإلاّ فالطلوع والغروب ، وكون الشمس فوق الاُفق أو تحت الاُفق ليس شيئا في قبال الآنات .

إذن : فمعنى كون الشمس فوق الاُفق أو تحت الأُفق : آنات الشمس في تلك الآنات فوق الاُفق أو تحت الاُفق ، مثل : النهر حيث انه قطرات متلاصقة بعضها ببعض وأجزائها مختلفة وليست شيئا واحدا ، بخلاف مثل : خيار الغبن في الآن الثاني ، حيث انه نفس خيار الغبن في الآن الأوّل .

هذا ( ولو أريد استصحاب أحكامهما ) أي : أحكام الليل والنهار ( مثل جواز الأكل والشرب ) في الليل إذا شك في طلوع الفجر ( وحرمتهما ) أي : حرمة الأكل والشرب في النهار إذا شك في المغرب ( ففيه ) ما يلي :

( أنّ ثبوتهما في ) الزمان ( السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعية بزماني الليل والنهار ) لأن الشارع أجاز الأكل والشرب في الليل ومنع الأكل والشرب

ص: 50

فاجراؤهما مع الشك في تحقق الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب : من إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

وبما ذكرنا يظهر ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة ، فأي فرق بين الشك في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ، الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريات الدين وبين الشك في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة ،

-------------------

في النهار ( فاجراؤهما ) أي : اجراء جواز الأكل والشرب ، أو منع الأكل والشرب ( مع الشك في تحقق الموضوع ) الذي هو الليل والنهار ( بمنزلة ما أنكره ) الاسترابادي ( على القائلين بالاستصحاب : من إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ) .

وإنّما يكون ذلك من اجراء الحكم إلى موضوع آخر ، لأن الثابت هو : جواز الأكل والشرب في الليل ، فمن أين جواز الأكل والشرب في الوقت المشكوك كونه ليلاً ؟ وهل هذا إلاّ من اسراء الحكم من موضوع مقطوع إلى موضوع آخر مشكوك ؟ .

( وبما ذكرنا ) من النقض باستصحاب الليل والنهار الذي يقول به الاسترابادي ( يظهر ورود النقض المذكور عليه ) أي : على الاسترابادي ( في سائر الأمثلة ) التي يعترف بجريان الاستصحاب فيها .

وعليه : ( فأي فرق بين الشك في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ) من الحدث أو الخبث ( الذي جعل ) الاسترابادي ( الاستصحاب فيه من ضروريات الدين ) وقال : بانه يجري فيه الاستصحاب قطعا ( وبين الشك في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة ) أو ليس محكوما بذلك حيث أنكر الاسترابادي

ص: 51

فانّ الطهارة السابقة في كلّ منهما كان منوطا بعدم تحقق الرافع ، وهذا المناط في زمان الشك ، غير متحقق ، فكيف يسري حكم حالة وجود المناط اليه ؟ .

وثانيا : بالحلّ ، بأنّ اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة - الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه - أمرٌ راجع إلى العرف

-------------------

الاستصحاب فيه وقال : بأنه لا يجري فيه قطعا ؟ .

وإنّما لا فرق بينهما لأنه كما قال : ( فانّ الطهارة السابقة في كلّ منهما ) أي : في الشك في تحقق الحدث أو الخبث والشك في رافعية المذي ( كان منوطا بعدم تحقق الرافع ) فان الطهارة كانت مسلّمة قبل الشك في الحدث أو الخبث ، كما ان الطهارة كانت قبل خروج المذي مسلّمة أيضا ، فلماذا الفرق بينهما ؟ .

هذا ( و ) من المعلوم : ان ( هذا المناط ) وهو : عدم تحقق الرافع ( في زمان الشك ، غير متحقق ) في كلا المثالين ، لأنه قد تبدّل الأمر فيهما من اليقين بعدم تحقق الرافع إلى الشك في عدم تحقق الرافع ( فكيف يسري حكم حالة وجود المناط ) في حال اليقين السابق ( اليه ؟ ) أي : إلى حالة فقد المناط في حال الشك اللاحق بالنسبة إلى كلا المثالين ، فلماذا أجرى المحدث الاستصحاب في أحدهما دون الآخر ؟ فظهر : ان النقض وارد عليه .

( وثانيا : بالحلّ ) وذلك : بأن استصحاب حكم المسألة المتيقنة إلى المسألة المشكوكة ، ليس كما ذكره الاسترابادي : من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فان الموضوع في المسألة المتيقنة والمشكوكة واحد عرفا كما قال :

( بأنّ اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة - الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه - ) أي : على ذلك الاتحاد ( أمرٌ راجع إلى العرف ) فان العرف

ص: 52

لأنّه المحكّم في باب الألفاظ .

ومن المعلوم : أنّ الخيار أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الأوّل وشك في ثبوتهما في الزمان الثاني يصدق عرفا : أنّ القضية المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني .

نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد : الشك في إحراز الموضوع للشك في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه . فلابد من التأمّل التامّ ،

-------------------

هو الذي يقول باتحاد القضيتين أو اختلافهما ، ففي اتحاد القضيتين يحكم بالبناء على اليقين السابق ، وفي اختلاف القضيتين لا يحكم بالبناء على اليقين السابق .

وإنّما يكون مرجعه إلى العرف ( لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ) فان الألفاظ ألقيت إلى العرف فما فهم منها العرف كان هو الحجة عليه .

( ومن المعلوم : أنّ الخيار ) في الغبن ( أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الأوّل وشك في ثبوتهما ) أي : في ثبوت كل من خيار الغبن وخيار الشفعة ( في الزمان الثاني يصدق عرفا : أنّ القضية المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني ) فان المتيقن سابقا كان الخيار ، ويشك ثانيا في وجود الخيار ، والمتيقن أولاً كانت الشفعة ، ويشك ثانيا في بقاء الشفعة .

( نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد : الشك في إحراز الموضوع ) بأن يشك في ان موضوع القضية المتيقنة هل هو موضوع القضية المشكوكة أم لا ؟ .

وإنّما يشك في احراز الموضوع ( للشك في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه ) أي : في الموضوع ، لأنه سابقا كان على حالة ، ولاحقا على حالة اُخرى ، كالماء إذا كان سابقا متغيّرا ولاحقا زائلاً تغيّره ( فلابد من التأمّل التامّ ) حتى نحرز ان الموضوع

هل هو باق أو ليس بباق ؟ .

ص: 53

فانّه من أعظم المزالّ في هذا المقام .

وأمّا ما ذكره ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقف .

ففيه - مضافا إلى ما ذكرنا من ضعف دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط ، وإنّما يدلّ على وجوب التحرّز عن موارد التهلكة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والأخيرةُ مختصةٌ بموارد يحكم العقل بوجوب الاحتياط

-------------------

وعليه : ( فانّه ) أي : الشك في احراز الموضوع ( من أعظم المزالّ في هذا المقام ) أي : مقام الاستصحاب ، فربما يرى شخص : ان الموضوع في الماء المتغير هو : الماء بوصف التغيّر ، فاذا زال التغيّر رآه من تبدل الموضوع فلا يجري فيه استصحاب النجاسة ، ويرى شخص آخر : ان الموضوع هو الماء فقط والتغير حالة ، فاذا زال التغيّر رأى بقاء الموضوع ، فيجري فيه استصحاب النجاسة .

( وأمّا ما ذكره ) الاسترابادي ( ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقف ) وانّ المحكّم هو التوقف حيث قال : وتارة بانّ استصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما وقد ظهر ( ففيه ) ما يلي :

أولاً : ما أشار اليه بقوله : ( - مضافا إلى ما ذكرنا ) في أصل البرائة حيث تقدّم هذا المبحث هناك : ( من ضعف دلالة الأخبار ) الدالة ( على وجوب الاحتياط ) والتوقف في كل مكان مطلقا سواء كان شكا في التكليف أم شكا في المكلّف به .

( وإنّما ) نقول بضعف الدلالة ، لأن مضمون أخبار الاحتياط ( يدلّ على وجوب التحرّز عن موارد التهلكة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والأخيرةُ ) وهي موارد الهلكة الاُخروية ( مختصةٌ بموارد يحكم العقل بوجوب الاحتياط ) في تلك

ص: 54

من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالاً وتردّده بين المحتملات - أنّ أخبار الاستصحاب حاكمةٌ على أدلّة الاحتياط على تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا ، كما سيجيء في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

الموارد ( من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالاً ) وذلك فيما كان الشك في المكلّف به ( وتردّده ) أي : تردّد العقاب ( بين المحتملات - ) وهي أطراف الشبهة لا فيما كان الشك في التكليف .

وعلى أي حال : فأخبار الاحتياط إنّما تدلّ على وجوب الاحتياط في موارد الشك في المكلّف به ، لا في موارد الشك في التكليف ، وما نحن فيه من موارد الاستصحاب ، إنّما هو من الشك في التكليف لا من الشك في المكلّف به .

وفيه ثانيا : ما أشار اليه بقوله : ( أنّ أخبار الاستصحاب حاكمةٌ على أدلّة الاحتياط على تقدير دلالة الأخبار ) أي : أخبار الاحتياط ( عليه ) أي : على وجوب الاحتياط ( أيضا ) أي : إنّا إذا قلنا : بأن أخبار الاحتياط لا تدل على وجوب الاحتياط ، فلا كلام ، ولكن إذا قلنا : بأنها تدل على وجوب الاحتياط كان الاستصحاب حاكما على تلك الأخبار ، فلا مجال لاخبار الاحتياط أيضا .

وإنّما كان الاستصحاب حاكما عليها ، لأن اخبار الاحتياط تقول : بان الواجب الاحتياط في موارد الشبهة ، والاستصحاب يرفع الشبهة ، فلا يبقى للاحتياط موضوع ، فالمقام يشبه مقام اخبار الاحتياط وأدلة البينة ( كما سيجيء ) تفصيل الكلام في حكومة الاستصحاب على أدلة الاحتياط ( في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول إن شاء اللّه تعالى ) .

وبذلك كلّه تبيّن : ان تفصيل الاسترابادي بعدم جريان الاستصحاب

ص: 55

ثم إنّ ما ذكره - من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول - ممّا لايخفى ما فيه ، إذ أيّ اُصولي أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها ؟ .

مع أنّه لم يذكر في الجواب الأوّل عنها إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب .

ولا في الجواب الثاني إلاّ ما اشتهر بين الأخباريين : من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكميّة .

-------------------

في الأحكام الكلية وجريانه في الأحكام الجزئية فقط محل إشكال ، نقضا وحلاًّ ، فاللازم إذن القول بجريانه في الأحكام الكلية ، كجريانه في الأحكام الجزئية .

( ثم إنّ ما ذكره ) الاسترابادي : ( من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول - ممّا لايخفى ما فيه ، إذ أيّ اُصولي أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة ) على هذه الأخبار ( فعجز عن جوابها ؟ ) هذا أولاً .

ثانيا : ( مع أنّه ) أي : الاسترابادي ( لم يذكر في الجواب الأوّل عنها ) أي : عن هذه الشبهة حيث قال : وقد أجبنا عنها تارة بما ملخصه ( إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب ) فلم يأت بشيء جديد .

( ولا في الجواب الثاني ) حيث قال : وتارة بأن استصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما وقد ظهر ( إلاّ ما اشتهر بين الأخباريين : من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكميّة ) فلم يأت إذن بشيء جديدا إطلاقا .

ص: 56

حجّة القول السادس

على تقدير وجود القائل به ، على ما سبق من التأمّل ، تظهر مع جوابها ممّا تقدّم في القولين السابقين .

حجّة القول السابع

الذي نسبه الفاضل التوني قدس سره إلى نفسه وإن لم يلزم ممّا حقّقه في كلامه ما ذكره في كلام طويل له ،

-------------------

( حجّة القول السادس ) وهو : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره من الأحكام الكلية والاُمور الخارجية ، فلا يعتبر الاستصحاب في غير الأوّل ، وذلك ( على تقدير وجود القائل به ) .

وإنّما قال : على تقدير وجود القائل به لأن من المحتمل ان لا قائل يقول بهذا القول، وإنّما المنسوب اليه هذا القول يقول ببعض الأقوال المتقدمة ، وذلك ( على ما سبق من التأمّل ) في وجود القائل بهذا القول .

وكيف كان : فانّ حجّة هذا القول ( تظهر مع جوابها ممّا تقدّم في القولين السابقين ) : الرابع والخامس .

( حجّة القول السابع الذي نسبه الفاضل التوني قدس سره إلى نفسه ) وهو التفصيل بين الأحكام الوضعية يعني : نفس الأسباب والشروط والموانع ، لا السببية والشرطية والمانعية ، والأحكام التكليفية التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني .

هذا ( وإن لم يلزم ممّا حقّقه في كلامه ) أي : لم يثبت من تحقيق الفاضل التوني ( ما ذكره ) هو من التفصيل ( في كلام طويل له ) سيأتي ان شاء اللّه تعالى ، فانه

ص: 57

فانّه بعد الاشارة إلى الخلاف في المسألة قال : « ولتحقيق المقام لابدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقةُ الحال ، فنقول : الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام :

الأوّل والثاني : الأحكامُ الاقتضائية المطلوب فيها الفعل وهي الواجب والمندوب .

-------------------

لم يلزم منه هذا التفصيل وذلك حسب ما أوضحه الأوثق بقوله :

« ان ما ذكره عند التحقيق من التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وبين متعلقات الأحكام الوضعية من السبب والشرط والمانع ، ليس بالتفصيل ، بل قول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، لأنه إنّما منعه في الموارد التي منعه فيها لزعمه عموم دليل الحالة السابقة للحالة اللاحقة ، لا من جهة عدم اعتبار الاستصحاب من حيث هو ، وهذا ليس قولاً بالتفصيل ، لأنه إنّما يتحقق مع قوله بعدم اعتباره في بعض الموارد مع فرض كونه موردا له كما هو واضح (1) ، انتهى كلام الأوثق .

وكيف كان : ( فانّه ) أي : الفاضل التوني ( بعد الاشارة إلى الخلاف في المسألة ) أي : في مسألة الاستصحاب ، وانه هل يجري الاستصحاب أو لا يجري ، أو يفصّل بين بعض أقسامه فيجري ، وبين بعض أقسامه الاُخر فلا يجري ؟ ( قال : « ولتحقيق المقام لابدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقةُ الحال ) في الاستصحاب ( فنقول : الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام ) كالتالي :

( الأوّل والثاني : الأحكامُ الاقتضائية المطلوب فيها الفعل وهي الواجب ) مع المنع من النقيض ( والمندوب ) بدون المنع من النقيض .

ص: 58


1- - أوثق الوسائل : ص474 القول بعدم حجيّة الاستصحاب في الامور الخارجية « بتصرّف » .

والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك وهو الحرام والمكروه .

والخامس : الأحكام التخييرية الدالّة على الاباحة .

والسادس : الأحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنّه سببٌ لأمر أو شرطٌ له أو مانعٌ له . والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده .

إذا عرفت هذا ، فاذا ورد أمرٌ بطلب شيء، فلا يخلو إمّا أن يكون موقتا أم لا .

-------------------

( والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك وهو الحرام ) مع المنع من النقيض ( والمكروه ) بدون المنع من النقيض .

( والخامس : الأحكام التخييرية الدالّة على الاباحة ) وذلك فيما يخيّر الشارع فيه المكلّف بين فعل الشيء وتركه من دون ترجيح أحدهما على الآخر .

( والسادس : الأحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنّه سببٌ لأمر ) مثل سببيّة الاتلاف للضمان ( أو شرطٌ له ) كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ( أو مانعٌ له ) كالحدث بالنسبة إلى الصلاة .

هذا ( والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ، ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده ) لأنه ان لم يكن وضع كان تكليف ، فيدخل في الأحكام الخمسة ، فلا يضر على ذلك ان يقول شخص : ان الحكم الوضعي ليس بحكم مستقل في مقابل الأحكام الخمسة .

( إذا عرفت هذا ، فاذا ورد أمرٌ بطلب شيء ، فلا يخلو إمّا أن يكون موقتا ، أم لا ) أي : ليس بموقّت فالموقّت مثل : الصلوات اليومية ، وغير الموقّت مثل : صلة الرحم ، وحرمة شرب الخمر .

ص: 59

وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر .

فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتى يكون إستصحابا ، وهو ظاهر .

وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ، ونسبةُ أجزاء الزمان اليه نسبةٌ واحدة في كونه أداءً في كل جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا .

-------------------

( وعلى الأوّل ) وهو الموقت : ( يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر ) فان وجوب الظهرين - مثلاً - من أول الظهر إلى الغروب مستمر ، وكذلك استحباب نوافل الظهرين - مثلاً - من أول الظهر إلى الغروب باستثناء قدر الصلاتين مستمر أيضا .

وعليه : فاذا كان الموقت هو كذلك ( فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني ) من أجزاء الوقت إنّما هو ( بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتى يكون إستصحابا ، وهو ظاهر ) ولا غبار عليه .

( وعلى الثاني ) : وهو غير الموقت مثل صلاة الزلزلة ، فهو ( أيضا كذلك ) أي : لا يكون من الاستصحاب في شيء ( إن قلنا بافادة الأمر التكرار ) لأن الواجب - مثلاً - ثابت في كل جزء جزء من الوقت ، فليس هو من استصحاب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة ( وإلاّ ) أي : بأن لم نقل ان الأمر يفيد التكرار ( فذمّة المكلّف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ) لفرض ان الأمر مطلق يشمل كل الأزمنة .

( و ) من المعلوم : ان ( نسبة أجزاء الزمان اليه ) أي : إلى غير الموقت ( نسبةٌ واحدة في كونه أداءً في كل جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا ) فاذا عصى

ص: 60

والتوهّم : بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل . فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء .

ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب فانّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا وكذا الكلام في النهي بل هو الاُولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ،

-------------------

-

مثلاً - ولم يصلّ صلاة الزلزلة في الآن الأوّل من حدوثها ، كان مأمورا بها في الآن الثاني والثالث وهكذا ، سواء قلنا بأن الأمر للفور كما قيل في صلاة الزلزلة من ان الأمر بها فور ففور أم لا ، وهذا ليس من الاستصحاب في شيء .

( والتوهّم : بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ) فيكون في الحالة الثانية من الاستصحاب ( اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل ) لأنه إنّما يكون من قبيل الموقّت إذا كان على نحو تعدّد المطلوب ، لا على نحو اتحاد المطلوب .

وعليه : ( فهذا ) أي : القسم الثاني وهو غير الموقت إنّما هو ( أيضا ) أي : كالقسم الأوّل وهو الموقت ( ليس من الاستصحاب في شيء ) لأن نفس الدليل يشمل جميع أجزاء الزمان .

هذا ( ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل ) وهو الموقّت ( فيما بعد وقته من الاستصحاب ) لوضوح بطلانه ( فانّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا ) إذ ليس من الصحيح استصحاب الوجوب - مثلاً - إلى ما بعد الوقت ، لفرض انه موقّت ، فاذا انتهى الوقت انتهى هو أيضا .

( وكذا الكلام في النهي ) فان النهي كالأمر إذا تعلق بشيء فهو أيضا بين موقت ومطلق ، وفي كليهما لا يجري الاستصحاب ( بل هو ) أي : النهي يكون ( الاُولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ) .

ص: 61

لأنّ مطلقه يفيد التكرار ، والتخييري أيضا كذلك .

فالأحكام التكليفية الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب .

وأمّا الأحكام الوضعية ، فاذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر ،

-------------------

وإنّما يكون هو الأولى من الأمر بعدم هذا التوهّم ( لأنّ مطلقه ) أي : مطلق النهي ( يفيد التكرار ) فاذا قال : لا تشرب الخمر كان معناه : لا تشرب الخمر في أيّة ساعة ، ففي الساعة الثانية لا نحتاج إلى استصحاب الحرمة ، بل الدليل بنفسه يدلّ على الحرمة .

هذا بالنسبة إلى الأقسام الأربعة من الأحكام التكليفية ( والتخييري أيضا كذلك ) أي : ان الحكم التخييري الدال على الاباحة وهو القسم الخامس من الأحكام على ما ذكره الفاضل التوني هو أيضا كالأحكام الأربعة التكليفية ، لا يجري فيه الاستصحاب ، لا في موقّته ولا في مطلقة .

إذن : ( فالأحكام التكليفية الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة ) لا الأحكام التكليفية التابعة للأحكام الوضعية ( لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب ) رأسا ، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام التكليفية إطلاقا ، لا في موقّتها ولا في مطلقها .

( وأمّا الأحكام الوضعية ) التي جعلها الفاضل المذكور سادس الأقسام فقد أشار إليها بقوله : ( فاذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة كالدلوك لوجوب الظهر ) حيث قال سبحانه: « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق

ص: 62

والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والايجاب والقبول لاباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك - فينبغي أن يُنظَر إلى كيفيّة سببيّة السبب : هل هي على الاطلاق ، كما في الايجاب والقبول ، فانّ سببيّته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل ،

-------------------

الليل » (1) ( والكسوف لوجوب صلاته ) أي : سببا لوجوب صلاة الكسوف .

( والزلزلة لصلاتها ) أي : سببا لوجوب صلاة الزلزلة .

( والايجاب والقبول لاباحة التصرّفات ) بالنسبة إلى كل واحد مما انتقل اليه المال أو الثمن ( والاستمتاعات في الملك والنكاح ) وهذا من باب اللف والنشر المرتّب .

( و ) الايجاب والقبول ( فيه ) أي : في النكاح ( لتحريم أمّ الزوجة ) وسائر المحرمات بسبب المصاهرة .

( والحيض والنفاس ) اللذان هما سبب ( لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ) من الأسباب المجعولة شرعا للمسبّبات العبادية أو المعاملية .

وعليه : ( فينبغي أن يُنظَر إلى كيفيّة سببيّة السبب : هل هي على الاطلاق ) حتى إذا حصل السبب حصل المسبب إلى الأبد ، وذلك ( كما في الايجاب والقبول ، فانّ سببيّته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل ) فاذا تحقق البيع - مثلاً - صارت البضاعة ملكا للمشتري ، إلى ان يتحقق المزيل لملكه لها ببيع أو هبة أو ما أشبه ذلك .

ص: 63


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .

وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن ، كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السببُ وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السببُ وقتا للحكم ، فانّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ، فانّها أسبابٌ للحكم في أوقات معيّنة ، وجميعُ ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ،

-------------------

( وكذا الزلزلة ) التي هي سبب لصلاة الآيات على الدوام حيث قد ذكر الفقهاء ان صلاة الآيات تجب فورا ففورا .

( أو ) سببية السبب هي ( في وقت معيّن كالدلوك ) فانه سبب لوجوب صلاتي الظهر والعصر ( ونحوه ) أي : نحو الدلوك كالفجر سببا لوجوب صلاة الصبح ( ممّا لم يكن السببُ وقتا ) فان الدلوك سبب لوجوب الظهر والعصر وليس وقتا لهما ، وإنّما وقت هاتين الصلاتين ما بين الدلوك إلى المغرب .

( وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السببُ وقتا للحكم ) فان الكسوف سبب لوجوب الصلاة ، والحيض سبب لترك الصوم والصلاة ونحو ذلك ، مع ان كل واحد وقت للواجب ، فالكسوف وقت لصلاة الآيات والحيض وقت لترك الصوم والصلاة - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ السببيّة في هذه الأشياء ) من الدلوك والكسوف والحيض ونحوها ( على نحو آخر ) غير النحو الأوّل الذي كان السبب فيه سببا دائما مثل : سببيّة العقد للملك الدائم ، وسببيّة الزلزلة لصلاة الآيات فورا ففورا وغير ذلك .

إذن : ( فانّها ) أي : الأسباب الخاصة المذكورة : من الدلوك ونحوها ( أسبابٌ للحكم في أوقات معيّنة ) والأوقات المعيّنة هي أوقات لمتعلق الحكم ، فان الحكم هو الوجوب ، ومتعلق الحكم هي الصلاة - مثلاً - ( وجميعُ ذلك ) الذي ذكرناه من الأسباب ( ليس من الاستصحاب في شيء ) .

ص: 64

فانّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليسَ تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبةُ السبب في محلّ اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبةٌ واحدة ، وكذلك الكلام في الشرط والمانع .

فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشرائط والموانع

-------------------

وإنّما لم يكن من الاستصحاب في شيء ، لأنه كما قال : ( فانّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ) قبله حتى نسحب الحكم من الجزء السابق إلى الجزء اللاحق ، فيكون استصحابا ( بل نسبةُ السبب في محلّ اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ) فالسبب بنفسه يشمل الجميع من دون حاجة إلى الاستصحاب .

( وكذلك الكلام في الشرط والمانع ) فكما لا يستصحب في السبب ، فكذلك لا يستصحب في الشرط والمانع ، لأن أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم بسبب الشرط، أو الفاقد فيه الحكم بسبب المانع ، ليست تابعةً للثبوت أو عدم الثبوت في جزء سابق من الزمان ، بل دليل الشرط والمانع يشمل كل الأزمنة .

إذن : ( فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الاستصحاب المختلف فيها ) وتأنيث الضمير باعتبار قاعدة الاستصحاب ( لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة ) لا الأحكام التكليفية ( أعني : الأسباب والشرائط والموانع ) وما أشبهها .

وحيث إنّ المصنِّف يستشكل على هذا الظهور فيما يأتي من قوله: ولا يخفى ما في هذا التفريع ، نؤجل المناقشة فيه إلى ما يأتي ان شاء اللّه تعالى ، فلا حاجة هنا إلى التفصيل في كلام الفاضل التوني وانه كيف ظهر من كلامه السابق ما فرّعه عليه ؟ .

ص: 65

للأحكام الخمسة من حيث أنّها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها .

وكما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، فانّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فانّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك يكون بعده .

-------------------

وكيف كان : فالاستصحاب المختلف فيه إنّما هو في الأحكام الوضعية المستتبعة ( للأحكام الخمسة ) التكليفية ( من حيث أنّها كذلك ) أي : أحكاما وضعية ( ووقوعه ) أي : وقوع الاستصحاب ( في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ) أي : بتبعيّة الأحكام التكليفية للأحكام الوضعية ، فالاستصحاب أولاً وبالذات يقع في الأحكام الوضعية ، وبتبع الأحكام الوضعية يقع في الأحكام التكليفية .

( وكما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ) وذلك عند الشك في انه هل بقي على النجاسة أو صار طاهرا بزوال التغير ؟ ( فانّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ) فلا يجوز للمكلف أن يصلّي والحال ان ثوبه أو بدنه قد لاقى هذا الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيره .

وإنّما يجب الاجتناب عنه في الصلاة ( لوجوبه ) أي : وجوب الاجتناب ( قبل زوال تغيّره ) أي : تغيّر الماء ، فكما انه لا تصح الصلاة ببدن أو ثوب لاقى هذا الماء المتغيّر بالنجاسة في وقت تغيّره ، كذلك لا تجوز الصلاة ببدن أو ثوب لاقى هذا الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره .

وعليه : ( فانّ مرجعه ) أي مرجع هذا الاستصحاب ( إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك يكون بعده ) أي : بعد زوال تغيّره ، فالحكم التكليفي

ص: 66

ويقال في المتيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان . فكذا بعده أي : كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ، فانّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده ، والطهارة من الشروط .

فالحقُّ مع قطع النظر عن الروايات

-------------------

وهو وجوب الاجتناب يستصحب فيه ، باعتبار ان هذا الحكم الذي هو الوجوب تابع للحكم الوضعي الذي هو النجاسة .

( و ) كما ( يقال في المتيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ) وذلك عند الشك في انه هل بطل تيممه حتى تبطل صلاته ، أو لم يبطل تيممه حتى يمضي في صلاته ؟ فيقال : ( إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ) للماء ( فكذا بعده ) أي: بعد الوجدان له ( أي : كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ) .

وعليه : ( فانّ مرجعه ) أي : مرجع هذا الاستصحاب التكليفي أولاً وبالذات إلى الحكم الوضعي ، وبتبع الحكم الوضعي يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي .

وبعبارة اُخرى : ان مرجع هذا الاستصحاب ( إلى أنّه كان متطهرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده ، و ) من المعلوم : ان ( الطهارة ) من الحدث في الصلاة ( من الشروط ) وهو حكم وضعي ، كما ان النجاسة في الماء المتغير من الموانع وهو حكم وضعي ، وبتبع هذا الحكم الوضعي الذي هو التطهر يجب المضي في الصلاة الذي هو حكم تكليفي .

وعلى ما ذكرناه : من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية إلاّ تبعا للأحكام الوضعية نقول : ( فالحقُّ مع قطع النظر عن الروايات ) الدالة على حجية

ص: 67

عدمُ حجيّة الاستصحاب ، لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ .

فالذي يقتضيه النظرُ دون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشك يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولاً ، إلاّ أنّ الظاهر

-------------------

الاستصحاب ( عدمُ حجيّة الاستصحاب ) وذلك ( لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت ، لا يقتضي العلم ، بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ) على أحد .

وعليه : فاذا لم يجر الاستصحاب في الأحكام الوضعية من السبب والشرط والمانع ( فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ) من الأحكام الخمسة المعلقة على شرط أو سبب أو مانع ( ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ ) فانه إذا لم يجر الاستصحاب في الأصل الذي هو الحكم الوضعي ، لا يجري في الفرع الذي هو الحكم التكليفي بطريق أولى .

إذن : ( فالذي يقتضيه النظرُ دون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة ) من سبب أو شرط أو مانع ( تعلّق الحكم بالمكلّف ) لأن الحكم التكليفي تابع للحكم الوضعي على ما عرفت ( وإذا زال ذلك العلم ) بالحكم الوضعي زوالاً ( بطروّ الشك ) فيه ، فانه حينئذ ( يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولاً ) ولا يجري فيه الاستصحاب .

هذا ما يقتضيه النظر بالنسبة إلى القاعدة الأولية في الاستصحاب .

وامّا ما يقتضيه النظر مع ملاحظة الروايات ، فكما قال : ( إلاّ أنّ الظاهر

ص: 68

من الأخبار : أنّه إذا عُلِمَ وجود شيء ، فانّه يُحكَمُ به حتى يعلم زواله » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

وفي كلامه أنظار يتوقّف بيانها على ذِكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر ، فنقول :

قوله أوّلاً : « والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي، داخل في الحكم الشرعي ، لا يضرُّ فيما نحن بصدده » .

فيه :

-------------------

من الأخبار : أنّه إذا علم وجود شيء ، فانّه يُحكَمُ به حتى يعلم زواله » (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه ) .

ولا يخفى : انا فسرنا كلامه ؛ حسب ظاهره مع قطع النظر عن إشكالات المصنِّف عليه كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى .

قال المصنِّف : ( وفي كلامه أنظار ) أي : اشكالات ( يتوقّف بيانها ) أي : بيان تلك الانظار ( على ذِكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر ) حتى يتبيّن ان كلامه مضافا إلى انه لا يفيد التفصيل في مسألة الاستصحاب ، محل نظر في نفسه أيضا .

( فنقول : ) ان من موارد النظر ( قوله أوّلاً : « والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي، داخل في الحكم الشرعي ، لا يضرُّ فيما نحن بصدده » ) هذا الكلام من الفاضل التوني ( فيه ) أي : يرد عليه : ان هذه المضايقة تضرّ بالتفصيل الذي هو بصدده ، وحاصل هذا الايراد على ما بيّنه الأوثق بتوضيح منّا هو ما يلي :

إن صدر كلام الفاضل التوني وذيله مختلفان في المؤدى ، فمقتضى صدره :

ص: 69


1- - الوافية : مخطوط .

أنّ المنع المذكور لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره ، وهو : اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية ، أعني : نفس السبب والشرط والمانع ، لا في التفصيل بين الأحكام الوضعية ، أعني : سببيّة السبب ، وشرطيّة الشرط والأحكام التكليفية .

-------------------

كونه مفصّلاً بين الأحكام الوضعية وغيرها بتسليم صحة الاستصحاب في الاُولى دون غيرها ، ومقتضى ذيله : كونه مفصّلاً بين متعلّقات الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشروط والموانع ، فان الوضوء شرط والحدث مانع .

وعليه : فالوضوء والحدث متعلق الحكم الوضعي ، إذ الحكم الوضعي هو شرط ومانع وما أشبه ذلك ، وبين مطلق الأحكام وغير الأحكام ، بالتسليم للاستصحاب في الاُولى دون غيرها .

هذا ومنع اضرار عدم دخول خطاب الوضع في الحكم الشرعي إنّما يسلم على الثاني الذي هو مقتضى ذيل كلامه ، دون الأوّل الذي هو مقتضى صدر كلامه ، وذلك كما قال :

( أنّ المنع المذكور ) أي : منع كون الخطاب الوضعي داخلاً في الحكم الشرعي إنّما ( لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره ) الفاضل التوني في ذيل كلامه .

( وهو : اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية أعني : نفس السبب والشرط والمانع ) .

وأمّا التفصيل الذي ذكره في صدر كلامه فانه يضرّه المنع المذكور ، وذلك كما قال : ( لا في التفصيل بين الأحكام الوضعية أعني : سببيّة السبب ، وشرطيّة الشرط ) ومانعية المانع ، وجزئية الجزء وما أشبه ذلك ( و ) بين ( الأحكام التكليفية ) فان المنع المذكور يضره .

ص: 70

وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلاً ؟ وتسليم ، وتسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف تابع له حدوثا وبقاءً ؟ .

وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع ؟ .

-------------------

ولا يخفى : ان هناك شرطية الشرط ، وسببية السبب ، ومانعية المانع - مثلاً - وهناك ذات الشرط ، وذات السبب ، وذات المانع - مثلاً - فذات الشرط هو الوضوء ، وشرطية الشرط يعني : وصف الشرط وهو الشرطية ، بمعنى : كون الصلاة مشروطة بالوضوء ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمثلة من الأحكام الوضعية والمنع لا يضر لو أراد ذات السبب ، ويضر لو أراد سببية السبب ، كما قال :

( وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلاً ؟ وتسليم ) وهذا عطف على منع يعني : وكيف لا يضر بالتفصيل ( وتسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف تابع له ) أي : للتكليف ( حدوثا وبقاءً ؟ ) بحيث كلما حدث الحكم التكليفي حدث تبعا له الحكم الوضعي ، وكلما بقي الحكم التكليفي بقي تبعا له الحكم الوضعي ؟ .

( و ) عليه : فانه ( هل يعقل التفصيل مع هذا المنع ؟ ) الذي صرّح به الفاضل التوني بقوله : ولا نضايق بمنع ان الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ؟ .

وإنّما لا يعقل التفصيل معه لأنه إذا كان الوضع داخلاً في التكليف لا يمكن التفصيل بين الوضع والتكليف ، وذلك لأنه كلّما كان تكليف كان الوضع ، وكلما لم يكن تكليف لم يكن وضع ، فانه يكون من قبيل التفصيل بين الأعداد التي هي زوج وبين الزوجية ، مع وضوح : ان الزوجية لا تكون إلاّ تابعة للأعداد التي هي زوج .

ص: 71

ثم إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما اشتهر في ألسنة جماعة ، أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي ، فنقول :

المشهور كما في شرح الزبدة ، بل الذي استقرّ عليه رأي المحققين ، كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وأنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء . فمعنى قولنا : « إتلاف الصبي سببٌ لضمانه » : أنّه يجب عليه غرامة المثل والقيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف : من البلوغ والعقل واليسار وغيرها .

-------------------

( ثم إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول ) بجعل الشارع ( كما اشتهر في ألسنة جماعة ، أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي ) فليس للشارع حكمان : حكم وضعي ، وحكم تكليفي ، وإنّما له حكم تكليفي يتبعه الوضع في بعض الأماكن ؟ .

( فنقول : المشهور كما في شرح الزبدة ) للفاضل الجواد ( بل الذي استقرّ عليه رأي المحققين ، كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ) التكليفي ( وأنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ) فهناك حكم تكليفي فقط يتبعه الوضع .

إذن : ( فمعنى قولنا : « إتلاف الصبي سببٌ لضمانه » : أنّه يجب عليه غرامة المثل والقيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف : من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ) كالقدرة - مثلاً - إذ لا تكليف بغير المقدور ، وذلك كما إذا كان بعيدا لا يتمكن

ص: 72

فاذا خاطب الشارع البالغَ العاقلَ الموسِرَ بقوله : « أغرم ما أتلفتَه في حال صِغَرك » ، اُنْتُزِعَ من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه : بسببيّة الاتلاف للضمان ، ويقال : إنّه ضامن ، بمعنى : أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف ، ولم يدّع أحدٌ إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص ، حتى يدفع ذلك ، بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين ، من أنّه قد يتحقق الحكمُ الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي ، كالصبي والنائم وشبههما .

-------------------

من الوصول إلى المالك .

وعليه : ( فاذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسِرَ ) القادر ( بقوله : « أغرم ما أتلفته في حال صِغَرك » ) الذي هو حكم تكليفي ( اُنْتُزِعَ من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه : بسببيّة الاتلاف للضمان ) الذي هو الحكم الوضعي ( ويقال : إنّه ضامن، بمعنى : أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف ) لا بمعنى : انه مكلف في حال الصغر بذلك .

هذا ( ولم يدّع أحدٌ إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز ) تنجيزا ( حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص ) فليس معناه : ان الصبي ضامن الآن ( حتى يدفع ذلك ، بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين ) للحكم الوضعي : ( من أنّه قد يتحقق الحكمُ الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي كالصبي والنائم وشبههما ) كالمجنون - مثلاً - .

والحاصل : انه لا يقال : ان الحكم الوضعي لو كان تابعا للحكم التكليفي لزم تكليف الصبي بالغرامة ، لأنه على الصبي الوضع ، فاذا كان على الصبي الوضع ولم يكن عليه التكليف تبيّن ان الوضع غير التكليف .

ص: 73

وكذا الكلام في غير السبب فانّ شرطية الطهارة للصلاة ، ليست مجعولة بجعلٍ مغاير لانشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة .

وكذا مانعيّة النجاسة ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب .

-------------------

لأنه يقال : ان الصبي عليه التكليف إذا بلغ ، ومن هذا التكليف المستقبلي ينتزع الوضع الحالي ، كما انه ينتزع المشروطية الفعلية من الشرط المتأخر ، فيقال ، مثلاً :

صحة الايجاب مشروط بالقبول المتأخّر عن الايجاب ، وصحة الصيام بالنسبة للمستحاضة مشروط بالغسل بعد دخول الليل ، إلى غير ذلك .

إذن : فالانتزاع يمكن أن يكون من الأمر السابق ، ويمكن ان يكون من الأمر المقارن ، ويمكن ان يكون من الأمر اللاحق على ما بيّنوه في مسألة الشرط المتأخّر .

( وكذا الكلام في غير السبب ) كالشرط - مثلاً - ( فانّ شرطية الطهارة للصلاة ، ليست مجعولة بجعلٍ مغاير لانشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة ) فان الشارع قال : تجب الصلاة حال الطهارة ، ومن هذا الحكم التكليفي انتزع الحكم الوضعي الذي هو عبارة عن شرطية الطهارة للصلاة .

( وكذا مانعيّة النجاسة ) إذا كانت في بدن المصلي أو ثوبه فانها ( ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ) وذلك حيث قال الشارع : لا تصلّ في النجس ، فانتزع من هذا الحكم التكليفي مانعيّة النجاسة .

( وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب ) فاذا قال الشارع : صلّ صلاة أولها التكبير وآخرها التسليم ، انتزع من هذا الأمر جزئية التكبير ، والتسليم ، وغيرهما من أجزاء الصلاة .

ص: 74

والعجبُ ممّن ادّعى بداهة بطلان ما ذكرنا مع ما عرفت : من أنّه المشهور والذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ، فقال قدس سره في شرحه على الوافية ، تعريضا على السيّد الصدر : وأمّا من زعم أنّ الحكم الوضعي عينُ الحكم التكليفي ، على ما هو ظاهر قولهم : « إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب الواجب عند حصول ذلك الشيء » ، فبطلانه غني عن البيان ، إذ الفرق بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مُسكة ، والتكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع .

والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير .

-------------------

هذا ( والعجبُ ممّن ادّعى بداهة بطلان ما ذكرنا ) وهو المحقق الكاظمي ، فانه ادّعى بداهة بطلان كون الأحكام الوضعية تابعة للأحكام التكليفية ، وذلك ( مع ما عرفت : من أنّه المشهور والذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ) فان ادعاءه هذا مثار للتعجب ، لأنه كيف يذهب المشهور والمحققون إلى ما هو بديهي البطلان طبعا مع قطع النظر عن الاشكال الوارد على كلام هذا المحقق ؟ .

( فقال قدس سره في شرحه على الوافية تعريضا على السيّد الصدر ) الذي يرى الأحكام الوضعية تابعة للأحكام التكليفية : ( وأمّا من زعم أنّ الحكم الوضعي عينُ الحكم التكليفي ، على ما هو ظاهر قولهم : « إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب الواجب عند حصول ذلك الشيء » ) وكذلك بالنسبة إلى الشرط والمانع والجزء وغيرها ( فبطلانه غني عن البيان ) .

وإنّما يكون واضح البطلان ( إذ الفرق بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مُسكة ) في عقله ( و ) ذلك لأن ( التكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع ) فهما أمران : تكليف ووضع ( والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير )

ص: 75

وبالجملة : فقول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها » ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو ايجاب الصلاة عند الزوال ، وتحريمها عند الحيض كما أنّ قوله تعالى : « أقِم الصلاة لِدُلوك الشمس » و - قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم - : « دَعي الصلاة أيام اقرائِك » خطاب تكليفي ، وإن استتبع وضعا، وهو كون الدلوك سببا والاقراء مانعا .

والحاصل : أنّ هناك أمرين متباينين ، كلّ منهما فردٌ للحكم ، فلا يغني استتباعُ أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام » ،

-------------------

لا في التكاليف المبنيّة عليها .

( وبالجملة : فقول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها » ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو ) أي : ذلك التكليف الذي تبع الحكم الوضعي : ( ايجاب الصلاة عند الزوال ، وتحريمها عند الحيض ) وبذلك تبيّن : ان الوضع شيء ، والتكليف شيء آخر ، لا ان الوضع تابع للتكليف .

( كما أنّ قوله تعالى : « أقِم الصلاة لِدُلوك الشمس » (1) ) بالنسبة إلى سببيّة الدلوك للصلاة ( و ) قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « دَعي الصلاة أيام اقرائِك » (2) ) أي : حيضك ( خطاب تكليفي ، وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك سببا والاقراء مانعا ) .

ثم قال رحمه اللّه : ( والحاصل : أنّ هناك أمرين متباينين ) لا ربط لأحدهما بالآخر ، إذ ( كلّ منهما فردٌ للحكم ) الذي حكم به الشارع ( فلا يغني استتباعُ أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام » (3) ) فان تبعيّة الوضع للتكليف لا يمنع

ص: 76


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص88 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص384 ب19 ح6 ، فقه القرآن : ج2 ص157 ، غوالي اللئالي : ج2 ص207 .
3- - شرح الوافية : مخطوط .

انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده ، لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا فانّه إذا قال لعبده : « أكرم زيدا إن جاءك » ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين ، أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر : كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ، أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه .

-------------------

من ان يكون الوضع حكما كما ان التكليف هو حكم أيضا .

( انتهى كلامه رفع مقامه ) ولكن حيث ان المحقق المذكور جعل المغايرة بين التكليفي والوضعي بديهية ، أراد المصنِّف ان يمثّل مثالاً ليظهر به بداهة عدم المغايرة ، وإنهما شيء واحد أحدهما تابع للآخر فقال :

( أقول : لو فرض ) الفاضل التوني ( نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده ، لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا ) : من انه ليس هناك حكمان ، وإنّما هو حكم واحد ( فانّه إذا قال لعبده : « أكرم زيدا إن جاءك » ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين ) على عبده وذلك على النحو التالي :

( أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه ) وهو حكم تكليفي .

( والآخر : كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ) وهو حكم وضعي ؟ .

( أو أنّ الثاني ) : وهو كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ( مفهوم منتزع من الأوّل ) وهو وجوب اكرام زيد عند مجيئه ، بحيث ( لا يحتاج ) هذا الثاني ( إلى جعل مغاير لجعله ) الأوّل ( ولا إلى بيان مخالف لبيانه ) الأوّل ؟ .

ص: 77

ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ، ولم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل وطلب تركها عند الثاني .

فان أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى ، كيف وهما محمولان مختلفا الموضوع ، وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين فالحوالة على الوجدان لا البرهان ، وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد ،

-------------------

( ولهذا ) أي : لأن الثاني منتزع من الأوّل ، وليس في مقابل الأوّل ( اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ، و ) الحال انه ( لم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل ) أي : الدلوك ( وطلب تركها عند الثاني ) أي : الحيض ، مما يدل على انه حكم واحد وان السببية والمانعية للدلوك والحيض أمران منتزعان من التكليف الواحد .

وعليه : ( فان أراد ) الفاضل التوني ( تباينهما ) أي : الحكم التكليفي والوضعي ( مفهوما ) بأن يكون لهذا مفهوم ولذاك مفهوم ( فهو أظهر من أن يخفى ) على أحد ، ولا معنى للاختلاف فيه .

أم ( كيف ) لا يكون مفهمومهما مختلفا ( وهما محمولان مختلفا الموضوع ) فانه يقال : الصلاة واجبة ، والدلوك سبب ، أو يقال : الصلاة واجبة ، والحيض مانع .

هذا ( وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين ) بأن يكون للمولى جعل تكليفي ، وجعل وضعي ( فالحوالة على الوجدان لا البرهان ) لأن الاُمور الوجدانية لا تدخل تحت البرهان ، مثل ضياء الشمس وحرارة النار .

( وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد ) بأن يكون للمولى مجعولان : تكليف ووضع ، لكن لا بجعلين ، بل بجعل واحد ، فالحوالة أيضا على الوجدان .

ص: 78

فانّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان ، كالمسببية والمشروطية والممنوعية ، مع أنّ قول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة » ، ليس جعلاً للايجاب استتباعا ، كما ذكره ، بل هو إخبارٌ عن تحقّق الوجوب عند الدلوك .

هذا كلّه ،

-------------------

وعليه : فاذا كانت الحوالة في معرفتهما على الوجدان ( فانّ الوجدان شاهد على أنّ السببية ) للدلوك ( والمانعية ) للحيض ( في المثالين ) الذين ذكرناهما للسبب والمانع ( اعتباران منتزعان ، كالمسببية والمشروطية والممنوعية ) .

إذن : فالصلاة مسببية عن الدلوك ، ومشروطة بالطهارة ، وممنوعة بالحيض ، وما ذلك إلاّ لانشاء طلب الصلاة عند الدلوك ، أو مع الطهارة ، وإنشاء طلب تركها عند الحيض ، أو النفاس ، فهو شيء واحد له انتزاعات مختلفة مثل : ذات زيد الذي يطلق عليه : أبو عمرو ، وابن بكر ، وأخو خالد ، وغيرها من سائر الانتزاعات، وهكذا يكون الكلام في سائر الاُمور المنتزعة .

( مع أنّ قول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة » ، ليس جعلاً للايجاب استتباعا ) للوضع ، فان الحكم الوضعي لا يستتبع الحكم التكليفي ( كما ذكره ) الفاضل التوني في كلامه المتقدّم حيث قال : «ان الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشرايط والموانع للأحكام الخمسة من حيث انها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها» .

( بل هو إخبارٌ عن تحقّق الوجوب عند الدلوك ) فكأن الشارع قال : أقم الصلاة، واعلم ان هذه الصلاة يتحقق وجوبها عليك عند الدلوك .

( هذا كلّه ) بيان لكون الحكم الوضعي تابعا للحكم التكليفي وليس مقابلاً له .

ص: 79

مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه حتى يتكلّم أنّه بجعل مستقل ، أو لا . فأنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى كالأشاعرة ، الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلاّ انشاء الوجوب عند الدلوك .

وإلاّ فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ، بأن يكون

-------------------

( مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه ) أي : ان السببية في باب دلوك الشمس لوجوب الصلاة - مثلاً - ليست مجعولة أصلاً لا مستقلاً ولا تبعا ( حتى يتكلّم أنّه بجعل مستقل ، أو لا ) أي : ليس بجعل مستقل بل هو بجعل تبعي ؟ .

وعليه : ( فأنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى كالأشاعرة ، الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلاّ انشاء الوجوب عند الدلوك ) .

وإنّما قال : خصوصا ، لأن الحسن والقبح عند الأشاعرة ما أمر الشارع به أو نهى عنه من دون أن يكون ذلك ناشئا من مصلحة أو مفسدة كامنة في ذات الشيء ، وقيد الخصوصية حينئذ واضح ، لأنه لا نعلم سببية الدلوك إلاّ من الأمر بالصلاة عند تحقق الدلوك .

بخلافه على مذهب الامامية والمعتزلة القائلين بالعدل ، وبالحسن والقبح العقليين ، إذ لمتوهم ان يتوهم حينئذ : كون نفس المصلحة معنى السببية ، وكون نفس المفسدة معنى المانعية .

( وإلاّ ) بان لم نقل ان جعل الدلوك سببا معناه : انشاء الوجوب عند الدلوك ( فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ) أي : ذات الدلوك ( بأن يكون

ص: 80

فيه معنى يقتضي ايجاب الشارع فعلاً عند حصوله ، ولو كانت لم تكن مجعولة من الشارع ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة ، ولا الخصوصيات المصنِّفة ، أو المشخِّصة .

-------------------

فيه ) أي : في الدلوك ( معنى يقتضي ايجاب الشارع فعلاً عند حصوله ) أي : حصول الدلوك ، فالدلوك وقت الواجب لا سبب الواجب .

إذن : فليست السببية حينئذ من لوازم ذات الدلوك ( ولو كانت ) أي : السببية من لوازم ذات الدلوك ( لم تكن مجعولة من الشارع ) بل وجودها ذاتي بالتبع .

وربّما يقرّب هذا المعنى القول : بأن الدلوك ان كان ذاته سببا ، فلا معنى لجعله الشارع سببا تشريعا ، فليس حكما وضعيا ، وان لم يكن ذاته سببا ، فلا معنى لجعله الشارع سببا أيضا ، بعد ان كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، ولا مصلحة في ذات الدلوك ، وإنّما المصلحة هي في الصلاة في وقت الدلوك .

( و ) كذلك ( لا نعقلها ) أي : السببية للدلوك ( أيضا صفة أوجدها الشارع فيه ) بأن لم تكن السببية من ذات الدلوك ، وإنّما السببية صفة أوجدها الشارع في الدلوك ، وذلك ( باعتبار الفصول المنوّعة ، ولا ) صفة باعتبار ( الخصوصيات المصنّفة ، أو المشخِّصة ) فان السببية في الدلوك ليست بهذا المعنى .

هذا ، ولا يخفى : انّ الصفة قد تكون صفة منوّعة كالناطق بالنسبة إلى الحيوان حيث تميّز الجنس عن سائر الأنواع ، وقد تكون صفة مصنّفة كالزنجي بالنسبة إلى الانسان ، حيث تصنّف النوع إلى زنجي وغير زنجي ، وقد تكون صفة مشخّصة حيث تشخص الفرد عن سائر الافراد مثل : كونه ابن زيد ، وحفيد عمرو ، وولد في يوم كذا ، وفي ساعة كذا ، ومن المعلوم : ان السببية في الدلوك ليست أحد هذه الثلاثة .

ص: 81

هذا كلّه في السبب والشرط والمانع والجزء .

وأمّا الصحة والفساد ، فهما في العبادات موافقةُ الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به أو مخالفته له ، ومن المعلوم أنّ هاتين : الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل .

وأمّا في المعاملات فهما ترتّب الأثر عليها وعدمه فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك .

-------------------

( هذا كلّه ) تمام الكلام ( في السبب والشرط والمانع والجزء ) حيث أثبت المصنّف ان هذه الاُمور ليست أحكاما وضعية ، وإنّما هي اُمور منتزعة من التكليف بالمسبّب والمشروط والممنوع والمركّب .

( وأمّا الصحة والفساد ) فقد ذكر جماعة من العلماء انهما أيضا من الأحكام الوضعية ، وحيث لم يرتض المصنِّف ذلك بدأ يمهّد للاجابة عنهما بقوله : ( فهما في العبادات ) عبارة عن ( موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به ) في الصحة ( أو مخالفته له ) في الفساد .

( ومن المعلوم : أنّ هاتين : الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل ) بل هما أمران عقليان محضان منتزعان عن مطابقة المأتي به للمأمور به أو عدم مطابقت له.

( وأمّا ) الصحة والفساد ( في المعاملات ) بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات وما أشبه ( فهما ) أي : الصحة والفساد عبارة عن : ( ترتّب الأثر عليها ) أي : على المعاملات في الصحة ( وعدمه ) أي : عدم ترتب الأثر في الفساد .

إذن : ( فمرجع ذلك ) أي : مرجع ترتب الأثر ( إلى سببيّة هذه المعاملة ) الصحيحة ( لأثرها ) مثل: نقل الملك ( وعدم سببية تلك ) المعاملة الفاسدة لأثرها.

وعليه : ( فان لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لاباحة التصرفات ،

ص: 82

فان لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لاباحة التصرفات ، والنكاح لاباحة الاستمتاعات - فالكلامُ فيها يُعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها .

وإن لوحظت سببا لأمر آخر ، كسببية البيع للملكية ، والنكاح للزوجية ، والعتق للحرية ، وسببيّة الغسل للطهارة ، فهذه الاُمور بنفسها ليست أحكاما شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعيٌ ،

-------------------

والنكاح لاباحة الاستمتاعات - فالكلام فيها ) أي : في المعاملة ( يُعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها ) من المانعية والشرطية والجزئية ونحوها ، فمعنى سببية المعاملة للحكم التكليفي ، هو انتزاع الصحة والفساد من الحكم التكليفي على ما اختاره المصنِّف في باب السببية ونحوها .

( وإن لوحظت ) المعاملة ( سببا لأمر آخر ) غير الحكم التكليفي ( كسببية البيع للملكية ، والنكاح للزوجية ، والعتق للحرية ، وسببيّة الغسل للطهارة ) وما أشبه ذلك ( فهذه الاُمور ) من الملكية والزوجية والحرية والطهارة ( بنفسها ليست أحكاما شرعية ) فان الحكم الشرعي هو عبارة : عن الأمر والنهي ، امّا مثل الملكية والزوجية وما أشبه ذلك فانها اُمور اعتبارية أو حقايق خارجية على ما سيأتي .

( نعم ، الحكم بثبوتها ) أي : ثبوت الملكية والزوجية ونحوهما ( شرعي ) ومعنى ان الحكم بثبوتها شرعي هو : قول الشارع : بأن هنا تحققت الملكية والزوجية والحرية - مثلاً - أو لم تتحقق الملكية والزوجية والحرية ، إلى غير ذلك .

والحاصل : إنّ المعاملة ، امّا سبب لحكم تكليفي ككون البيع سببا لجواز التصرف ، واما سبب للملك ، فليس هناك حكم وضعي يتبعه الحكم التكليفي كما ذكره الفاضل التوني ، وهذا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في ان الملك ونحوه ما هو ؟ .

ص: 83

وحقائقها إمّا اُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة : كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب ، نقيض النجاسة ؛

-------------------

والجواب : انه لا يخلو من ان يكون مجعولاً ، أو انتزاعيا ، أو حقيقة واقعية ، وحيث منعنا كونه مجعولاً لأنه ليس بحكم ، فلابد وان يكون أحد الأمرين الباقيين:

فاما ان يكون أمرا انتزاعيا من جهة السبب والمسبب ، فانه لما قال الشارع : أبحت لك التصرّف بعد العقد ، انتزع من هذه الاباحة ، ان العقد سبب والملك مسبّب .

واما حقيقة واقعية كشف عنها الشارع سببا ومسببا ، وذلك بأن يكون العقد مثلاً حاله كحال النار ، والملك - مثلاً - حاله كحال الاحتراق ، غير ان النار سببا والاحتراق مسبّبا نحسّ بهما ، امّا كون العقد سببا والملك مسببا فلا نحسّ بهما ، وإنّما كشف الشارع لنا عنهما .

وإلى الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( وحقائقها ) أي : حقايق هذه الاُمور من الملكية والزوجية والحرية والطهارة وما أشبه ( إمّا اُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ) فاذا قال الشارع : أبحت لك التصرف بعد العقد ، انتزع من هذه الاباحة الأمر الاعتباري الذي هو الملك في عقد البيع ، وانتزع منها الأمر الاعتباري الذي هو الزوجية في عقد النكاح ، إلى غير ذلك .

( كما يقال : الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة : كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب ، نقيض النجاسة ) والعتق كون العبد بحيث يجوز له التصرف في نفسه وماله كسائر الأحرار ، وهكذا .

ص: 84

وإمّا اُمورٌ واقعية كشف عنها الشارع .

فأسبابها على الأوّل أسباب للتكاليف ، فيصير سببيّة تلك الأسباب كمسبّباتها اُمورا انتزاعيّة في الحقيقة ؛ وعلى الثاني يكون أسبابُها كنفس المسبّبات اُمورا واقعية مكشوفا عنها ببيان الشارع ، وعلى التقديرين

-------------------

وإلى الثاني أشار بقوله : ( وإمّا ) هي أي : الملكية والزوجية والحرية والطهارة وما أشبه ( اُمورٌ واقعية كشف عنها الشارع ) بأن يكون حالها حال كشف الطبيب عن الجرثومة التي توجب المرض .

وعليه : ( فأسبابها ) أي : أسباب هذه الاُمور من الملكية والزوجية والطهارة وما أشبه ( على الأوّل ) أي : على انها اُمور اعتبارية ( أسباب للتكاليف ) التي انتزعت منها هذه الاُمور الاعتبارية ، فأولاً : كان التكليف ، وبعد ذلك : الأسباب والمسببات ( فيصير سببيّة تلك الأسباب كمسبّباتها اُمورا انتزاعيّة في الحقيقة ) منتزعة من التكاليف .

مثلاً : اباحة التصرف للمشتري ينتزع منها : ملكية المشتري للمثمن ، والبائع للثمن ، وسببيّة البيع للملكية ، وهكذا الكلام في الزوجية والحرية والطهارة ونحوها ، فهنا اباحة شرعية ، وسبب ومسبّب منتزعان من تلك الاباحة .

( وعلى الثاني ) : أي على ان الملكية والزوجية والطهارة ونحوها اُمور واقعية ( يكون أسبابُها كنفس المسبّبات اُمورا واقعية مكشوفا عنها ببيان الشارع ) فلما قال الشارع : أبحت لك ، اكتشفنا من هذه الاباحة : ان العقد سبب حقيقي ، والملك مسبّب حقيقي ، حال هذا السبب والمسبب حال النار والاحراق ، أو حال الجرثومة والمرض بالنسبة إلى كشف الطبيب لهما .

( وعلى التقديرين ) سواء تقدير كون الملكية والزوجية والطهارة ونحوها

ص: 85

فلا جعل في سببية هذه الأسباب .

وممّا ذكرنا تُعرَفُ الحالُ في غير المعاملات من أسباب هذه الاُمور كسببية الغليان في العصير للنجاسة ، وكالملاقاة لها ،

-------------------

اُمورا اعتبارية أم اُمورا واقعية ( فلا جعل في سببية هذه الأسباب ) لمسبّباتها ، فالعقد مثلاً سبب للملك والزوجية ، لكن مسببيّته لها غير مجعولة ، لأنها على الأوّل : انتزاع ، وعلى الثاني حقيقة .

ومن المعلوم : ان الحقايق الخارجية كالاُمور الانتزاعية ليست مجعولة بجعل شرعي ، وإنّما الحقايق الخارجية اُمور تكوينية ، فان الشارع لم يجعل النار سببا للاحراق بالجعل التشريعي ، كما لم يجعل الأربعة زوجا بجعل تشريعي أيضا وإنّما خلق الأربعة ، والزوجية انتزعت منهما .

ومن كل ذلك تبيّن : ان ما قاله الفاضل التوني من ان الأحكام الوضعية مجعولة في قبال الأحكام التكليفية ، وان الأحكام التكليفية منتزعة من الأحكام الوضعية غير تام .

وإنّما لم يكن تاما لأن الأحكام التكليفية هي المجعولة ، والأحكام الوضعية : اما منتزعة من الأحكام التكليفية كانتزاع الزوجية من الأربعة ، وامّا حقائق كشف عنها الأحكام التكليفية ، فيكون كما إذا قال الطبيب للمريض : اشرب الدواء الفلاني ، حيث يكتشف المريض من أمر الطبيب هذا : ان في بدنه الجرثومة الفلانية التي سبّبت فيه المرض الفلاني .

( وممّا ذكرنا ) في أمر المعاملات ( تُعرَفُ الحالُ في غير المعاملات من أسباب هذه الاُمور ) المسببة - بالفتح - ( كسببية الغليان في العصير للنجاسة ، وكالملاقاة

لها ) أي : للنجاسة ، فان الشيء إذا لاقى النجس تنجّس .

ص: 86

والسبي للرقّية ، والتنكيل للحرّية ، والرضاع لانفساخ الزوجية ، وغير ذلك .

فافهم وتأمّل في المقام ، فانّه من مزالّ الأقدام .

قوله : « وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبُه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا » .

-------------------

( والسبي للرقّية ، والتنكيل للحرّية ) فان السيد إذا نكّل بعبده ، بأن قطع اُذنه أو أنفه أو ما أشبه ذلك ، تحرّر العبد تلقائيا .

( والرضاع لانفساخ الزوجية ) فان اُم الزوجة إذا أرضعت ولد الزوجة انفسخ نكاح الزوجة عن زوجها لقاعدة : لا ينكح المرتضع في أولاد صاحب اللبن ( وغير ذلك ) مما اصطلح عليه الفقهاء بالأحكام الوضعية .

والحاصل : ان هذه الاُمور ليست أحكاما وضعية بل هي : امّا اُمور اعتبارية منتزعة من التكاليف ، أو اُمور واقعية كشف عنها الشارع ( فافهم وتأمّل في المقام ، فانّه من مزالّ الأقدام ) حيث اشتباه الأمر الانتزاعي ، أو الحقيقة الخارجية بالحكم ، فليس هناك حكم ، وإنّما أمر انتزاعي أو حقيقة كشف عنها الشارع .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وعلى الأوّل ) : أي : ما كان واجبا أو مندوبا موقّتا ( يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ) الوارد بالوجوب أو الندب ( فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني ) إنّما هو ( بالنصّ ) الذي يشمل في الزمان الأوّل والزمان الثاني ( لا بثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا » ) فلا يجري الاستصحاب في الموقّتات .

ص: 87

أقول : فيه أنّ الموقّت قد يتردّد وقتُه بين زمان وما بعده ، فيجري الاستصحاب .

واُورد عليه تارة : بأنّ الشك قد يكون في النسخ ، واُخرى : بأنّ الشك قد يحصل في التكليف ، كمَن شك في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ،

-------------------

( أقول : فيه ) : ان الأقسام في الموقتات ثلاثة :

الأوّل : ما يعرف فيه كل الوقت مثل : الفجر إلى الغروب بالنسبة إلى الصوم .

الثاني : ما يعرف فيه بعض الوقت من الأخير ، ولا يعرف أوله .

الثالث : ما يعرف فيه بعض الوقت عن الأوّل ، ولا يعرف آخره ، وهنا محل الاستصحاب كما قال : ( أنّ الموقّت قد يتردّد وقته بين زمان وما بعده ، فيجري الاستصحاب ) فيه ، وذلك لأن هذا القسم ليس هو من أقسام ما ذكره الفاضل التوني حتى يشمله قوله : «فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنص ، لابثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا» فلا مورد إذن للاستصحاب في الموقت .

( واُورد عليه ) أي : أورد بعض على هذا الذي ذكره الفاضل التوني هنا : من انه لا يجري الاستصحاب في الموقت بما يلي :

( تارة : بأنّ الشك قد يكون في النسخ ) أي نشك في انه هل نسخ الحكم أو لم ينسخ ؟ فنحتاج إلى الاستصحاب في الآن الثاني .

( واُخرى : بأنّ الشك قد يحصل في ) بقاء ( التكليف ) أي : نشك في انه هل الحكم باق أو ليس بباق ؟ ومن المعلوم : ان الشك في النسخ أيضا من هذا القبيل ، ومثال الشك في التكليف على ما قاله المصنِّف هو : ( كمن شك في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ) أو غير مبيح له ،

ص: 88

وثالثةً : بأنّه قد يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ، ولكنّه يشك في حدوث الآخر والغاية ، فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشك إلى دليل عقلي أو نقلي غير ذلك الأمر .

هذا ، ولكنّ الانصاف : عدم ورود شيء من ذلك عليه .

أمّا الشك في النسخ : فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ،

-------------------

فان المكلّف هنا يعلم آخر الوقت وانه ساعة كذا - مثلاً - وإنّما يشك في انه هل حصل رافع يرفع الحكم في الأثناء ، أو لم يحصل رافع ؟ فنحتاج إلى الاستصحاب في الزمان الثاني .

( وثالثةً : بأنّه قد يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ، ولكنّه يشك في حدوث الآخر والغاية ) من باب الشبهة الموضوعية ، وذلك بأن يعلم - مثلاً - ان الساعة الفلانية مغرب ، لكن في الهواء سحاب ولا ساعة عنده ، فلا يعلم هل صارت الساعة الفلانية أم لا ؟ فهنا مورد الاستصحاب .

وعليه : ( فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب ، أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشك ) في الموارد الثلاثة ( إلى دليل عقلي أو نقلي غير ذلك الأمر ) الأوّل الوارد بالوجوب أو الندب ، فاذا كان دليل من نقل أو عقل فبه ، وإلاّ فهي مورد للاستصحاب ، فالموارد الثلاثة إذن من موارد الاستصحاب في الموقت .

( هذا ) هو تمام الايراد الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني ( ولكنّ الانصاف : عدم ورود شيء من ذلك ) أي : عدم ورود هذه الاشكالات الثلاثة ( عليه ) أي : على الفاضل المذكور ، وذلك كما يلي :

( أمّا الشك في النسخ : فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ) فان كلام الفاضل التوني

ص: 89

لأنّ كلامه في الموقّت من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت ، كما إذا شك في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : « إجلس في المسجد من الظهر إلى العصر » . وهو الذي ادّعى أنّ وجوبه في الجزء المشكوك ثابت بنفس الدليل .

وأمّا الشك في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم أو نسخه في هذا اليوم ، فهو شكٌ لا من حيث توقيت الحكم ،

-------------------

لا يشمل النسخ ( لأنّ كلامه في الموقّت من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت ) والنسخ ليس من ذلك ، فليس كلامه فيه .

إذن : فكلامه إنّما هو فيما مثّل له بقوله : ( كما إذا شك في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : « إجلس في المسجد من الظهر إلى العصر » ) فان في مضيّ أربع ساعات بعد الظهر - مثلاً - يتحقق العصر بلا شك ، لكن بعد مضيّ ثلاث ساعات هل يتحقق العصر أم لا ؟ فلا يعلم هل ان أمره بالجلوس في المسجد شامل إلى الساعة الثالثة أو الساعة الرابعة ؟ .

( وهو الذي ادّعى ) الفاضل التوني : ( أنّ وجوبه في الجزء ) الثاني ( المشكوك، ثابت بنفس الدليل ) الأوّل الوارد بالوجوب ، فليس هو من مورد الاستصحاب حتى يجري الاستصحاب فيه برأي الفاضل التوني ، وان كان يأتي من المصنِّف الاشكال فيه .

وكيف كان : فان كلام الفاضل التوني هو في توقيت الموقت ، لا في نسخ الموقت كما قال :

( وأمّا الشك في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم ) كأقم الصلاة فلا نسخ فيه ( أو نسخه في هذا اليوم ) من الغيبة ( فهو شكٌ لا من حيث توقيت الحكم ،

ص: 90

بل من حيث نسخ الموقّت ، فانّ وقع الشك في النسخ الاصطلاحي لم يكن استصحاب عدمه من الاستصحاب المختلف فيه ، لأنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني لعموم الأمر الأوّل ، للأزمان ولو كان فَهْمُ هذا العموم من استمرار طريقة الشارع ، بل كلِّ شارع على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ، لا من عموم لفظي زماني .

-------------------

بل من حيث نسخ الموقّت ) فالاشكال على الفاضل التوني بالشك في النسخ ، خروج عن كلامه ، لأن الموقّت غير المنسوخ ، والمنسوخ غير الموقت .

وعليه : ( فانّ وقع الشك في النسخ الاصطلاحي ) وهو : ما كان الدال على الحكم المشكوك ظاهرا في الدوام والاستمرار ، ولكن نشك في النسخ لأمر خارجي ( لم يكن استصحاب عدمه ) أي : عدم النسخ ( من الاستصحاب المختلف فيه ) حتى يصححه بعض ويرفضه بعض .

وإنّما لم يكن من الاستصحاب المختلف فيه ( لأنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني ) هنا إنّما هو ( لعموم الأمر الأوّل ، للأزمان ) المتتالية أولاً وثانيا وثالثا وهكذا ، فلا مورد للاستصحاب هنا حتى ( ولو كان فهم هذا العموم ) للأزمان ناشئا ( من استمرار طريقة الشارع ، بل كلِّ شارع ) ومقنّن للقوانين ( على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ) باقية ( لا من عموم لفظي زماني ) .

والحاصل : ان شمول الدليل للأزمنة المتأخرة إنّما هو بأحد وجهين : اما من جهة العموم اللفظي : من عموم أو اطلاق أو ما أشبه ذلك ، واما من جهة بناء العقلاء على استمرار الحكم ما لم يأت المولى بناسخ ، فليس هو على كل تقدير من باب الاستصحاب .

ص: 91

وكيف كان : فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال خصوص المخصّص في الأزمان ، كاستصحاب عدم التخصيص ، لدفع احتمال المخصّص في الأفراد واستصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيّد من المطلق .

والظاهر : أنّ مثل هذا ليس محلاً لانكاره ،

-------------------

( وكيف كان ) : فانه سواء فهم العموم من اللفظ ، أم من غيره ، فالعموم هو الذي يدل على ثبوت الحكم في الزمان الثاني ، وحينئذ ( فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال خصوص المخصّص في الأزمان ) إنّما يكون ( كاستصحاب عدم التخصيص ، لدفع احتمال المخصّص في الأفراد ) أي : يكون مثله في انه ما دام لم نعلم به نحكم بالعموم .

مثلاً : إذا شككنا في ان زيدا هل خرج من اكرم العلماء خروجا بسبب التخصيص ؟ نحكم بعموم اكرم العلماء لاكرام زيد ، كذلك إذا شككنا في ان زمان الغيبة هل خرج من عموم أقم الصلاة خروجا بسبب النسخ ؟ نحكم بعموم أقم الصلاة لاقامة الصلاة فيه .

( و ) أيضا يكون مثل : ( استصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيّد من المطلق ) أي : يكون مثله في انه ما دام لم نعلم بالتقييد نحكم بالاطلاق ، فكذلك إذا لم نعلم بالنسخ في زمان الغيبة نحكم بعموم الدليل له .

( والظاهر : أنّ مثل هذا ) الذي ذكرناه : من ان الأصل عدم النسخ من جهة عموم اللفظ ، أو من جهة القرينة الخارجية ( ليس محلاً لانكاره ) أي : لانكار الفاضل التوني حتى يورد عليه المستشكل بقوله : بأن الشك قد يكون في النسخ .

ص: 92

وإثباتا للحكم في الزمن الثاني لوجوده في الأوّل ، بل لعموم دليله الأوّل ، كما لايخفى .

وبالجملة : فقد صرّح هذا المفصّل بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ، ومثل هذا الاستصحاب ممّا عقد على اعتباره الاجماع ، بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدث الاسترابادي .

-------------------

( و ) إنّما لم يكن مثل هذا محلاً لانكاره لأنه امتداد الحكم في الزمان الثاني في مورد الشك في النسخ ( إثباتا للحكم في الزمن الثاني لوجوده في الأوّل ) حتى يكون من الاستصحاب ( بل لعموم دليله الأوّل ) الظاهر في الاستمرار ( كما لايخفى ) على من أعطى المسألة حقها من التأمل .

( وبالجملة : فقد صرّح هذا المفصّل ) وهو الفاضل التوني رحمه اللّه : ( بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ) حيث قال فيما تقدّم من كلامه : فالأحكام التكليفية الخمسة المجردة عن الأحكام الوضعية لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب ( و ) من المعلوم : ان ( مثل هذا الاستصحاب ) أي : استصحاب عدم النسخ ليس من المختلف فيه ، بل ( ممّا عقد على اعتباره الاجماع ، بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدث الاسترابادي ) فلا يستشكل على الفاضل التوني باشكال النسخ .

وبهذا ظهر : إنّ المصنِّف أشكل على من أورد على الفاضل التوني بثلاثة اشكالات :

الأوّل : ان كلام الفاضل التوني في الموقّت ، والشك في النسخ ليس منه .

الثاني : انه لا يجوز الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، وهذا من الشك في الحكم التكليفي .

ص: 93

ولو فرض الشك في نسخ حكم لم يثبت له من دليله ولا من الخارج عموم زماني ، فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي داخلٌ فيما ذكره ، من أنّ الأمر إذا لم يكن للتكرار - يكفي فيه المرّة .

ولا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ، فتأمل .

-------------------

الثالث انه ليس مثل استصحاب عدم النسخ الذي هو مما قام عليه الاجماع والضرورة ، وكلام الفاضل التوني إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك إجماع أو ضرورة على الاستصحاب .

هذا ( ولو فرض الشك في نسخ حكم لم يثبت له ) أي : لذلك الحكم ( من دليله ولا من الخارج عموم زماني ) فيتوهم انه مورد الاستصحاب ( فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي ) الذي هو عبارة عما إذا كان الدال على الحكم المشكوك ظاهرا في الدوام والاستمرار ، و ( داخلٌ فيما ذكره ) الفاضل التوني : ( من أنّ الأمر إذا لم يكن للتكرار ) ولم يكن له قرينة على التكرار ( يكفي فيه المرّة ) .

إذن : فليس الاستصحاب في مثل هذا الخارج عن النسخ الاصطلاحي قطعيا ، حتى يستشكل به على الفاضل التوني ( و ) حينئذ ( لا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ) لما عرفت : من انه ليس بموقّت .

( فتأمل ) ولعل أمر المصنِّف بالتأمل إشارة إلى ان هذا الايراد بالنقض وان لم يكن واردا على مسألة الموقّت ، إلاّ انه وارد على مسألة كون الأمر بالطبيعة أو التكرار ، لأنه على القول بالطبيعة إذا شك في نسخ الأمر المتعلق بالطبيعة ، فاثباته في زمان الشك ليس إلاّ بالاستصحاب ، فيكون نقضا على الفاضل التوني في هذه الصورة .

ص: 94

وأمّا الشك في تحقّق المانع - كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له وللقصر ، والضرر المبيح لتناول المحرّمات - فهو الذي ذكره المفصِّل في آخر كلامه ، بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي تبعا للحكم الوضعي ، فانّ السلامة من المرض الذي يضرّ به الصوم شرطٌ في وجوبه ، وكذا الحضر وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم .

فاذا شك في وجود شيء من ذلك استصحب الحالة السابقة له وجودا وعدما

-------------------

( وأمّا الشك في تحقّق المانع ، كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له ) أي : للافطار بالنسبة إلى الصوم ( وللقصر ) بالنسبة إلى الصلاة ( والضرر المبيح لتناول المحرّمات ) وهذا هو ثاني الاشكالات التي أوردها المستشكل على الفاضل التوني ( فهو ) أيضا لا يستشكل به على الفاضل المذكور .

وإنّما لا يستشكل به عليه ، لأنه هو ( الذي ذكره المفصِّل ) أي : الفاضل التوني رحمه اللّه ( في آخر كلامه ، بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ، تبعا للحكم الوضعي ) فما قبله الفاضل التوني من الاستصحاب لا يستشكل عليه بأنه كيف لا يستصحب فيه .

وعليه : ( فانّ السلامة من المرض الذي يضرّ به ) أي : بصاحب المرض ( الصوم ) فان السلامة منه ( شرطٌ في وجوبه ) أي : وجوب الصوم ( وكذا الحضر ) فانه شرط لوجوب الصوم وتمامية الصلاة ( وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم ) فانه شرط في وجوب ترك تناول المحرّمات .

وعلى ذلك : ( فاذا شك في وجود شيء من ذلك ) أي : شك في انه هل هناك مرض أو سفر أو ضرر ( استصحب الحالة السابقة له وجودا وعدما ) فان كانت

ص: 95

ويتبعه بقاء الحكم التكليفي السابق ، بل يمكن أن يقال : بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلاّ مع قطع النظر عن استصحاب الحكم الوضعي في المقام .

مثلاً : إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر بالصوم ، فاذا شك في بقائها وحدوث المرض المذكور ، واُحراز الشرط أو عدم المانع

-------------------

حالته السابقة ، المرض استصحب المرض ، وان كانت حالته السابقة الصحة استصحب الصحة ، وكذلك بالنسبة إلى الضرر واللاضرر والحضر واللاحضر .

( ويتبعه ) أي : يتبع الموضوع الذي هو المرض واللامرض ، والحضر واللاحضر ، والضرر واللاضرر بعد ان استصحب ( بقاء الحكم التكليفي السابق ) من وجوب الصوم وعدمه - مثلاً - وهكذا بقية الأمثلة ، فلا يستشكل على الفاضل التوني : بأن في هذه الموارد يجري الاستصحاب ، فكيف قلتم بأنه لا يجري ؟ وذلك لأنّ الفاضل التوني إنّما يجري الاستصحاب بالنسبة إلى هذه الموارد في الحكم الوضعي ، وتبعا لبقاء الحكم الوضعي يبقي الحكم التكليفي السابق .

( بل يمكن أن يقال : بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلاّ مع قطع النظر عن استصحاب الحكم الوضعي في المقام ) فالحق مع الفاضل التوني الذي لا يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي في هذه الموارد .

( مثلاً : إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر ) المكلّف منه ( ب ) سبب ( الصوم ، فاذا شك في بقائها ) أي : بقاء السلامة وعدم بقائها ( وحدوث المرض المذكور ، و ) عدم حدوثه ، فله ( اُحراز الشرط ) وهي السلامة ( أو عدم المانع ) وهو عدم المرض

ص: 96

بالاستصحاب ، أغنى عن استصحاب المشروط . بل لم يبق مجرىً له ، لأنّ معنى استصحاب الشرط وعدم المانع : ترتيبُ آثار وجوده ، وهو : ثبوت المشروط مع فرض : وجود باقي العلل الناقصة .

وحينئذ : فلا يبقى الشك في بقاء المشروط .

وبعبارة اُخرى : الشك في بقاء المشروط مسبّبٌ عن الشك في بقاء الشرط ،

-------------------

( بالاستصحاب ) .

وعليه : فاذا استصحب الشرط أو استصحب عدم المانع ( أغنى عن استصحاب المشروط ) الذي هو الحكم التكليفي ( بل لم يبق مجرىً له ) أي : لاستصحاب المشروط .

وإنّما لا يبقى مجرى لاستصحاب المشروط ( لأنّ معنى استصحاب الشرط وعدم المانع : ترتيبُ آثار وجوده ) أي : آثار وجود الشرط وعدم المانع ( وهو : ثبوت المشروط ) وذلك ( مع فرض : وجود باقي العلل الناقصة ) .

مثلاً : إذا شك بالنسبة إلى وجوب الصوم في حدوث الضرر وعدمه ، فانه إذا استصحب عدم الضرر ، وكان باقي أسباب وجوب الصوم موجودا ، مثل : العقل ، وعدم الاغماء ، وعدم الحيض ، وما أشبه ذلك ، أثرت العلة التامة أثرها في وجوب الصوم ، ولا حاجة حينئذ إلى استصحاب وجوب الصوم كما قال :

( وحينئذ ) أي : حين استصحب الشرط وعدم المانع ، وكانت بقية العلل الناقصة موجودة ( فلا يبقى الشك في بقاء المشروط ) الذي هو وجوب الصوم حتى نحتاج فيه إلى استصحاب الوجوب .

( وبعبارة اُخرى : الشك في بقاء المشروط مسبّبٌ عن الشك في بقاء الشرط )

ص: 97

والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما مبيّنٌ لبقاء المشروط أو ارتفاعه، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لا معارضا لاستصحاب الشرط ، لأنّه مزيل له ولا معاضدا ، كما فيما نحن فيه . وسيتضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الاُمور الخارجية وفي بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

فان الشك في ان الشرط باق أو ليس بباق ، يجعلنا نشك في ان المشروط باق أو ليس بباق ( والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما ) بأن كان الشرط موجودا سابقا فنستصحب وجوده ، أو معدوما سابقا فنستصحب عدمه ( مبيّنٌ لبقاء المشروط أو ارتفاعه ) .

وعليه : فاذا استصحب بقاء السلام ) من كان سالما وشك في بقائها ، ثبت وجوب الصوم ، أو استصحب عدم بقائها ، لأنه كان مريضا فشك في بقاء المرض ثبت عدم وجوب الصوم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب .

إذن : ( فلا يجري فيه الاستصحاب لا معارضا لاستصحاب الشرط ، لأنّه ) أي : استصحاب الشرط سببي ( مزيل له ) أي : لاستصحاب المشروط المسببي ( ولا معاضدا ، كما فيما نحن فيه ) بأن نستصحب بقاء السلامة ، ثم نستصحب وجوب الصوم .

والحاصل : ان الاستصحاب في الشك المسببي لا مجرى له إذا جرى الاستصحاب في الشك السببي على ما سبق الالماع اليه ( وسيتضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الاُمور الخارجية ) من الشبهة الموضوعية ( وفي بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع ) فانه سنتكلم حول هذه المسألة في كلا الموضعين ( إن شاء اللّه تعالى ) .

ص: 98

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه : بما إذا كان الشك في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي ، فانّه إن جرى معه استصحاب الوقت ، أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي ، كما عرفت في الشرط ، فانّ الوقت شرط أو سببٌ ، وإلاّ لم يجر استصحاب الحكم التكليفي ،

-------------------

إذن : فالاشكال الثاني الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني بقوله : واُخرى بأن الشك قد يحصل في التكليف كمن شك في وجوب اتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ، هذا الاشكال لم يكن واردا على الفاضل التوني .

( وممّا ذكرنا ) من انه لا مجال للاستصحاب في الشك المسببي إذا جرى الاستصحاب في الشك السببي ( يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه ) أي : على الفاضل التوني ( بما إذا كان الشك في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي ) من باب الشبهة الموضوعية .

مثلاً : إذا علمنا ان المغرب يتحقق في الساعة الفلانية ، لكنا شككنا في انه هل صارت الساعة المذكورة أم لا ؟ ( فانّه إن جرى معه استصحاب الوقت ) الذي هو شرط أو سبب ( أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي ) أي : عن استصحاب وجوب الصوم لما تقدّم من انه من الشك السببي والمسببي ، وذلك ( كما عرفت في الشرط ) حيث تقدّم : انه إذا جرى الاستصحاب في الشرط ، فلا يبقى مجال للاستصحاب في المشروط ( فانّ الوقت شرط أو سبب ) للحكم التكليفي ، يعني: ان الصوم في المثال اما مشروط بوقت كذا ، أو ان سببه وقت كذا .

( وإلاّ ) بأن لم يجر الاستصحاب في الوقت ( لم يجر استصحاب الحكم التكليفي ) أي : وجوب استمرار الصوم أيضا .

ص: 99

لأنّه كان متحققا بقيد ذلك الوقت ، فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار لا ينفع استصحاب الوجوب في الزمان المشكوك كونه عن النهار .

وأصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ، كما سيجيء توضيحه في نفي الاُصول المثبتة إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

وإنّما لا يجري استصحاب الحكم التكليفي لأنه من الشك في الموضوع ، ومع الشك في الموضوع لا يجري الاستصحاب في الحكم كما قال : ( لأنّه ) أي : الحكم التكليفي كوجوب الصوم في المثال ( كان متحققا بقيد ذلك الوقت ) فاذا شككنا في تحقق ذلك الوقت شككنا في الشرط ، ومع الشك في الشرط لا يجري الاستصحاب في المشروط .

إذن : ( فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار ، لا ينفع استصحاب الوجوب في الزمان المشكوك كونه عن النهار ) لأنه من قبيل الشك في المقتضي ، ومع الشك في المقتضي لا اعتبار بالاستصحاب على ما يراه المصنِّف .

( و ) لا يقال نستصحب بقاء الحكم المقيّد بالنهار ، فيثبت النهار ، وإذا ثبت النهار كان الصوم واجبا ، وهذا بمعنى : ان استصحاب الحكم يفيد بقاء الموضوع .

لأنه يقال : ( أصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان ) المشكوك كونه من النهار ، وليس من النهار ( لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ) لأنه مثبت ، ومثبتات الاُصول ليست بحجة ( كما سيجئتوضيحه في نفي الاُصول المثبتة إن شاء اللّه تعالى ) وذلك اضافة إلى ما تقدّم : من الالماع إلى ان الاستصحاب إنّما يكون حجة بالنسبة إلى الآثار الشرعية ، لا الآثار العقلية والعرفية والعادية .

ص: 100

اللّهمَّ إلاّ أن يقال : أنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان لتعليقه على أمر حاصل .

فيقال عرفا : إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج : إنّ الوجوب ارتفع ، فاذا شك في ارتفاعها يكون شكا في ارتفاع الحكم المنجّز وبقائه

-------------------

( اللّهمَّ إلاّ أن يقال ) : وهذا استثناء من عدم جريان الاستصحاب لفقد الموضوع الذي هو الشرط هنا بما يكون حاصله : ان الاستصحاب يجري حتى وان علم فقد الشرط أو شك فيه ، وذلك كما قال : ( أنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان ) التنجّز ( لتعليقه ) أي : لتعليق التكليف ( على أمر حاصل ) سابقا مشكوك الآن ( فيقال عرفا : إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج ) - مثلاً - ( إنّ الوجوب ارتفع ، فاذا شك في ارتفاعها ) أي : ارتفاع الاستطاعة فانه ( يكون شكا في ارتفاع الحكم المنجّز وبقائه ) أي : شكا في الارتفاع والبقاء فيستصحب بقاؤه .

والحاصل : ان الحكم إذا كان معلّقا على شرط ، وكان الحكم متحققا لأجل وجود شرطه ، أو سببه ، أو عدم مانعه - مثلاً - فمع ارتفاع الشرط بعده وان لم يصدق ارتفاع الحكم ، وكذا مع الشك في ارتفاع الشرط بعده فانه وان لم يصدق الشك في ارتفاع الحكم عند التحقيق - وذلك لتوقف صدق الارتفاع والبقاء والشك فيهما على القطع ببقاء الموضوع مع قيوده المأخوذة فيه ، والمفروض : انا نعلم بارتفاع القيد أو نشك فيه - إلاّ ان أهل العرف يتسامحون في ذلك ، فيطلقون ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه بعد تحقق ذلك الحكم .

وإنّما يطلقون ذلك زعما منهم بأن ارتفاع الشرط الذي هو من قيود الموضوع

ص: 101

وإن كان الحكم المعلّق لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ، لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع الشرطية ، إلاّ أنّ استصحاب وجود

-------------------

من قبيل تبدّل حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع ، فيحكمون بارتفاع وجوب الحج بعد تحققه ، عند ارتفاع الاستطاعة يعني يرفعون ذلك الوجوب المعلّق على تلك الاستطاعة بعد ارتفاعها وان كانت القضية التعليقية صادقة مع ارتفاع المعلّق عليه ، لوضوح : عدم توقف صدق كون وجوب الحج معلقا على الاستطاعة على تحقق الاستطاعة في الخارج .

وعليه : فاذا صدق عرفا ارتفاع الحكم المعلق على شرط ، عند ارتفاع شرطه ، كما فيما نحن فيه من وجوب الصوم المعلّق على تحقق كون الزمان نهارا ، وكذا إذا صدق الشك في ارتفاع الحكم عند الشك في ارتفاع شرطه ، فانه يصح فيما نحن فيه استصحاب وجوب الصوم إلى زمان الشك حتى ( وإن كان الحكم المعلّق ) وهو وجوب الصوم فيما نحن فيه ( لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ) أي : بارتفاع الشرط حقيقة .

وإنّما لا يرتفع بارتفاعه ( لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع الشرطية ) فان القضية التعليقية صادقة مع صدق التعليق ، سواء كان في الخارج أم لا ، وكاذبة مع كذب التعليق ، سواء كان في الخارج أم لا ؟ .

إذن : فالقول بأنّ الحج مشروط بالاستطاعة صادق ، وان لم يكن استطاعة في الخارج ، كما ان القول بأن الحج مشروط بكون الوقت شتاءً كاذب وان كان الوقت في أيام الحج شتاءً .

( إلاّ ) وهذا الاستثناء جواب لقوله : اللّهم إلاّ ان يقال ( أنّ استصحاب وجود

ص: 102

ذلك الأمر المعلّق عليه كافٍ في عدم جريان الاستصحاب المذكور ، فانّه حاكم عليه ، كما ستعرف .

نعم ، لو فرض في مقامٍ عدم جريان الاستصحاب في الوقت - كما لو كان الوقت مردّدا بين أمرين ، كذهاب الحمرة واستتار القرص - انحصر الأمر حينئذ في اجراء استصحاب التكليف ، فتأمّل .

-------------------

ذلك الأمر ) وهو النهار ( المعلّق عليه ) وجوب الصوم ( كافٍ في عدم جريان الاستصحاب المذكور ) أي : الاستصحاب التكليفي ، فلا يستصحب وجوب الصوم مع استصحاب وجود النهار .

وإنّما يكون كافيا لأنه كما قال : ( فانّه ) أي : استصحاب الشرط ( حاكم عليه ) أي : على استصحاب الحكم ( كما ستعرف ) ذلك فيما يأتي ان شاء اللّه تعالى : من ان الاستصحاب الحاكم مقدّم على الاستصحاب المحكوم ، ولا مجال للاستصحاب المحكوم مع وجود الاستصحاب الحاكم ، فانه مع استصحاب الموضوع ، لا مجال لاستصحاب الحكم .

( نعم ) يجري استصحاب الحكم ، فيما إذا لم يمكن اجراء استصحاب الموضوع ، كما ( لو فرض في مقامٍ عدم جريان الاستصحاب في الوقت ) وذلك ( كما لو كان الوقت مردّدا بين أمرين كذهاب الحمرة واستتار القرص ) بأن لم نعلم ان المراد من قوله سبحانه : « ثم أتمّوا الصيام إلى الليل » (1) هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة ؟ ( انحصر الأمر حينئذٍ ) أي : حين تردّد الوقت ( في اجراء استصحاب التكليف ) لأنه لا حاكم على استصحاب التكليف .

( فتأمّل ) قال في الأوثق : « لعل الأمر بالتأمل إشارة إلى منع جريان استصحاب

ص: 103


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

والحاصل : أنّ النقض عليه بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك بقائه من جهة الشك في سببه ، أو شرطه ، أو مانعه ، غير متّجه ، لأنّ مجرى الاستصحاب في هذه الموارد أولاً وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ويتبعه إبقاء الحكم التكليفي ولا يجوز اجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداءً ،

-------------------

الحكم هنا أيضا ، لكون مرجع الشك هنا إلى الشك في شرطية الزمان المشكوك فيه في المأمور به وعدمها ، والمرجع عند الشك في الأجزاء والشرائط هي البرائة على مختار المصنِّف ، والاحتياط على قول آخر » (1) .

( والحاصل ) من اشكالنا على الايراد الثالث الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني هو : ( أنّ النقض عليه ) أي : على الفاضل التوني ( بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك بقائه من جهة الشك في سببه ، أو شرطه ، أو مانعه ، غير متّجه ) ذلك النقض .

وإنّما لم يكن متجها ( لأنّ مجرى الاستصحاب في هذه الموارد أولاً وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ) وذلك لأن السبب والشرط وعدم المانع من قبيل الموضوع والاستصحاب في الموضوع يمنع عن الاستصحاب في الحكم .

( و ) عليه : فاذا جرى الاستصحاب في هذه الموارد ( يتبعه ) أي : يتبع الاستصحاب في هذه الموارد ( إبقاء الحكم التكليفي ) تلقائيا لأنه إذا تحقق الموضوع ، تحقق الحكم ، سواء كان تحقق الموضوع بالوجدان أم بالاستصحاب.

هذا ( ولا يجوز اجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداءً ) أي : من دون

ص: 104


1- - أوثق الوسائل : ص478 الصحّة والفساد في العبادات والمعاملات في الامور الغير المجعولة .

إلاّ إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعي .

قوله : «وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، إلى آخره» ، قد يكون التكرار مردّدا بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه ليس بالتكرار الدائمي ، ولكنّ العدد المتكرر كان مردّدا بين الزائد والناقص .

وهذا الايراد

-------------------

ملاحظة جريان الاستصحاب في الموضوع ( إلاّ إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعي ) فاذا انتفى استصحاب الموضوع لجأنا إلى استصحاب الحكم ، وذلك على ما فيه من الاشكال الذي ذكرناه بقولنا : فتأمل .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وعلى الثاني ) أي : غير الموقّت ( أيضا كذلك ) أي : كالموقت من حيث شمول الدليل للزمان الثاني من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك ( إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، إلى آخره » ) لأن معنى التكرار : هو ان يكون الدليل شاملاً للزمان الأوّل ، والزمان الثاني ، وهكذا .

فنقول : ( قد يكون التكرار مردّدا بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه ليس بالتكرار الدائمي ، ولكنّ العدد المتكرر كان مردّدا بين الزائد والناقص ) فان اثبات الزائد بالتمسك بالأمر ، من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو غير جائز .

مثلاً : إذا علمنا بأن المولى يريد الشيء مكررا ، لكن لم نعلم هل انه يريد عشر مرات أو عشرين مرة ؟ فانه ليس هنا مجال لما ذكره الفاضل التوني : من ان الأمر بنفسه شامل لكل الأفراد بلا حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك لفرض : ان الأمر بنفسه لا يدلّ على ان المولى يريد الافراد الزائدة عن العشرة أم لا ؟ .

( وهذا الايراد ) الذي ذكرناه على الفاضل التوني : من انه إذا كان الشك

ص: 105

لا يندفع بما ذكره قدس سره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقت، كما لا يخفى .

فالصواب أن نقول : إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ، لتردّده بين الزائد والناقص ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ كلّ واحد من المكرّر إن كان تكليفا مستقلاً ، فالشك في الزائد شكٌ في التكليف المستقلّ ، وحكمه : النفي بأصالة البرائة ، لا الاثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى .

وإن كان الزائد

-------------------

في العدد المراد للمولى ( لا يندفع بما ذكره قدس سره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقت ، كما لا يخفى ) .

وإنّما لا يندفع بذلك ، لأنه قد مضى في الأمر الموقت أيضا : بأنه إذا كان مرددا بين أمرين كذهاب الحمرة واستتار القرص ، فان الدليل لا يشمل أبعد الوقتين مثل : ذهاب الحمرة الذي هو أبعد من استتار القرص بربع ساعة - مثلاً - .

إذن : ( فالصواب أن نقول ) بالنسبة إلى الوقت الثاني انه : ( إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة ) أي : من جهة تردده بين الزائد والناقص يكون ( مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ) هل هو عشر مرات أو أكثر ؟ ( لتردّده بين الزائد والناقص ولا يجري فيه الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجري فيه الاستصحاب ( لأنّ كلّ واحد من المكرّر إن كان تكليفا مستقلاً ) بأن كانت هناك تكاليف متعددة ( فالشك في الزائد شكٌ في التكليف المستقلّ ، وحكمه : النفي بأصالة البرائة ) لأنه من الشك في التكليف ( لا الاثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى ) على أحد .

هذا ان كان الزائد على تقدير وجوبه واجبا مستقلاً ( و ) اما ( إن كان الزائد

ص: 106

على تقدير وجوبه جزءً من المأمور به ، بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر ، من حيث أنّه مركب واحد ، فمرجعه إلى الشك في جزئية الشيء للمأمور به وعدمها ، ولا يجري فيه الاستصحاب أيضا ، لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء لا يُثبِتُ وجوب هذا الشيء المشكوك في جزئيّته ، بل لابد من الرجوع إلى البرائة والاحتياط .

قوله : « إلاّ فذمّة المكلّف مشغولةٌ حتى يأتي بها في أي زمان كان » .

قد يورد عليه النقض بما عرفت

-------------------

على تقدير وجوبه جزءً من المأمور به ، بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر ، من حيث أنّه مركب واحد ) أي : لم تكن هناك تكاليف مستقلة ، وإنّما تكليف واحد يشك في ان أجزائه عشرة أو أكثر ؟ ( فمرجعه إلى الشك في جزئية الشيء للمأمور به وعدمها ) أي : عدم الجزئية بالنسبة إلى الزائد عن العشرة - مثلاً - ( ولا يجري فيه الاستصحاب أيضا ) .

وإنّما لا يجري فيه الاستصحاب ( لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء ) المتيقنة كالعشرة في المثال ( لا يُثبِتُ وجوب هذا الشيء المشكوك في جزئيّته ) أي : لا يثبت وجوب الجزء الحادي عشر الذي نشك في انه جزء أو ليس بجزء ( بل لابد من الرجوع إلى البرائة ) كما يقوله الاُصوليون ( والاحتياط ) كما يقوله الاخباريون .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « إلاّ ) بأن لم نقل ان الأمر يفيد التكرار ( فذمّة المكلّف مشغولةٌ حتى يأتي بها في أي زمان كان » ) .

فنقول : ( قد يورد عليه ) أي : على الفاضل التوني هنا ( النقض بما عرفت

ص: 107

حاله في العبارة الاُولى .

ثمّ إنّه لو شك في كون الأمر للتكرار أو المرّة كان الحكم ، كما ذكرنا ، في تردّد التكرار بين الزائد والناقص .

وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرارٌ في الجملة ،

-------------------

حاله ) أي حال إيراد المصنِّف عليه هناك ( في العبارة الاُولى ) من كلام الفاضل المذكور حيث ان الفاضل المذكور قبل قوله : « وإلاّ » ، قال : بشمول الدليل للزمان الثاني ان قلنا بافادة الأمر التكرار .

وعليه : فالايراد الذي أورده المصنِّف هناك ، يرد هنا على هذه العبارة أيضا ، وهو : انه قد نعلم ان الأمر ليس للتكرار الدائمي ، لكن عدده مردّد بين الزائد والناقص ، وإثبات الزائد بنفس الدليل كما قاله الفاضل التوني غير صحيح ، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فيجري في الزائد البرائة لأن نفي التكرار في الجملة لا يستلزم نفي مطلق التكرار .

وكيف كان : فان هذا الايراد هنا - كما عرفت هناك - لا يندفع بما ذكره الفاضل التوني هناك ، بل الجواب عنه هنا بما ذكره المصنِّف هناك أيضا حيث قال : فالصواب ان نقول : إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ولا يجري فيه الاستصحاب بل البرائة .

( ثمّ إنّه لو شك في كون الأمر للتكرار أو المرّة ) بأن لم نعلم هل المعنى اللغوي للأمر هذا ، أو ذاك ؟ ( كان الحكم كما ذكرنا في تردّد التكرار بين الزائد والناقص ) من جريان البرائة عن الزائد على المرّة هنا ، كجريان البرائة عن الزائد على الأقل هناك .

( وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرارٌ في الجملة ) فلا يكتفى بفعله مرة ،

ص: 108

كالجلوس في المسجد ، ولم يعلم مقدار استمراره فانّ الشك بين الزائد والناقص يرجعُ مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلاً على تقدير وجوبه إلى أصالة البرائة .

ومع فرض كونه جزءً يرجع إلى مسألة الشك في الجزئية وعدمها ، فانّ فيها البرائة أو وجوب الاحتياط .

قوله : « وتوهّم : أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل » .

-------------------

ولا نعلم أيضا بالاستمرار المطلق ( كالجلوس في المسجد ، ولم يعلم مقدار استمراره ) هل هو واجب إلى الظهر أو إلى العصر ؟ .

وعليه : ( فانّ الشك بين الزائد والناقص ) في كلا المثالين ( يرجع مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلاً على تقدير وجوبه ) أي : وجوب ذلك الزائد ، يرجع ( إلى أصالة البرائة ) فلا يجب الزائد .

( ومع فرض كونه جزءً ) بأن كان المجموع واجبا واحدا ، نشك بأن له عشرة أجزاء أو أكثر ؟ فانه ( يرجع إلى مسألة الشك في الجزئية وعدمها ) أي : عدم الجزئية ( فانّ فيها ) أي : في مسألة الشك في الجزئية وعدمها ( البرائة ) كما يقوله الاُصوليون ( أو وجوب الاحتياط ) كما يقوله الاخباريون .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني أيضا : ( قوله : « وتوهّم : أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل » ) فان الفاضل التوني لما قسّم الأمر في صدر كلامه إلى الموقّت وغير الموقّت ، ثم سوّى في غير الموقّت بين أن يكون الأمر بالفور أم لم يكن ، توجّه عليه إشكال توهم : بأن الأمر إذا كان للفور ، كان من قبيل الموقت ، فكيف جعلتموه من أقسام

ص: 109

الظاهر : أنّه دفعُ اعتراض على التسوية في ثبوت الوجوب في كل جزء من الوقت بنفس الأمر بين كونه للفور وعدمه ، ولا دخل له بمطلبه وهو عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ، لأنّ كونه من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه .

-------------------

غير الموقت مع انه لا يجوز أن يكون شيء واحد موقتا وغير موقت ؟ .

فأجاب عنه : بأنه اشتباه غير خفي على المتأمل ، وذلك لامكان أن يكون الفور من قبيل تعدّد المطلوب ، فالشي مطلوب في نفسه ، وفوريّته مطلوب ثان ، فيمكن استصحابه بعد الآن الأوّل ، بخلاف الموقت ، حيث لا حكم بعد وقته ، فلا يمكن استصحابه .

ولذا قال المصنِّف : ( الظاهر : أنّه دفع اعتراض على التسوية في ثبوت الوجوب في كل جزء من الوقت بنفس الأمر ) تسوية ( بين كونه للفور وعدمه ) أي : عدم كونه للفور .

وتقريب الاعتراض هو : ان التسوية في الحكم بين كون الأمر للفور وعدمه غير صحيح ، لأن الأمر إذا كان للفور كان من قبيل الموقت ، فلا يكون توسعة في وقت الفعل حتى يكون ثبوت الحكم في كل جزء من الوقت بنفس الأمر ( ولا دخل له ) أي : لهذا الدفع ( بمطلبه ) أي : مطلب الفاضل التوني ( وهو ) أي : مطلبه : ( عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ) .

وإنّما لا دخل له بمطلبه ( لأنّ كونه من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه ) وذلك لأن الفاضل التوني لا يرى جريان الاستصحاب ، لا في الفور ولا في الموقت ، وإنّما أراد بيان ان الفور والموقت شيئان لا شيء واحد

ص: 110

لأنّ الفور المنزّل عند المتوهّم منزلةَ الموقّت المضيّق ، إمّا أن يراد به المسارعة في أول أزمنة الامكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها ، وهكذا ، وإمّا أن يراد به خصوص الزمان الأوّل ، فاذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا ، وإمّا أن يراد به ثبوته في الآن الثاني متراخيا .

وعلى الأوّل : فهو في كلّ جزء من الوقت

-------------------

كما توهمه المتوهم ، وذلك ( لأنّ الفور المنزّل عند المتوهّم منزلةَ الموقّت المضيّق ) له ثلاث احتمالات :

الأوّل : ( إمّا أن يراد به ) أي : بالفور ( المسارعة في أول أزمنة الامكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها ، وهكذا ) فيكون فورا ففورا .

الثاني : ( وإمّا أن يراد به خصوص الزمان الأوّل ، فاذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا ) .

الثالث : ( وإمّا أن يراد به ثبوته في الآن الثاني متراخيا ) .

وعليه : فقد يريد المولى أن يسقي الحديقة في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها ففي الساعة الثانية ، وهكذا ، وهذا ما يسمى فورا ففورا .

وقد يريد ان يسقيها في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها مات الشجر ، فلا أمر بالسقي في الساعة الثانية .

وقد يريد أن يسقيها في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها سقاها متى شاء ، لأنه وان ذبل الثمر بعدم السقي في الساعة الاُولى ، إلاّ ان الشجر يحتاج إلى الماء فيسقيها متى شاء .

( وعلى الأوّل ) وهو : ان يريده فورا ففورا ( فهو في كلّ جزء من الوقت

ص: 111

من قبيل المضيّق .

وعلى الثاني : فلا معنى للاستصحاب بناءا على ما سيذكره من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت .

وعلى الثالث يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق ، وفيما بعده كالأمر المطلق .

وقد ذكر بعض شرّاح الوافية : « أنّ دفع هذا التوهم لأجل استلزامه الاحتياجَ إلى الاستصحاب لاثبات الوجوب في ما بعد الوقت الأوّل » .

-------------------

من قبيل المضيّق ) فكما انه إذا ترك المضيّق عوقب ، وإذا ترك الفور أيضا عوقب ، فكذلك إذا ترك فورا ففورا .

( وعلى الثاني : فلا ) تكليف في الآن الثاني ، إذ لا ( معنى للاستصحاب بناءا على ما سيذكره : من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت ) الأوّل ، لأن المفروض : ان المولى يريد الشيء فورا ، فاذا فات الفور ، لا يريد بعده شيئا .

( وعلى الثالث ) : وهو المركب من الفور أولاً والتراخي ثانيا وثالثا وهكذا ، فانه ( يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق ، وفيما بعده كالأمر المطلق ) .

وعلى أي حال : فالفور له أقسام متفاوتة وليس كالمضيّق على الاطلاق حتى يتساوى الفور والمضيّق مطلقا .

هذا ( وقد ذكر بعض شرّاح الوافية : « أنّ دفع هذا التوهم ) من الفاضل التوني إنّما هو ( لأجل استلزامه ) أي : استلزام هذا التوهم ( الاحتياجَ إلى الاستصحاب ) احتياجا ( لاثبات الوجوب في ما بعد الوقت الأوّل » (1) ) في الفور ، فرده الفاضل حتى يثبت قوله بعدم جريان الاستصحاب فيه ، مع انه على ما عرفت ليس كذلك .

ص: 112


1- - شرح الوافية : مخطوط .

ولم أعرف له وجها .

قوله : « وكذا النهي » .

لا يخفى : أنّه قدس سره لم يستوف أقسام الأمر ، لأنّ منها : ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت ، فيرتفع الأمر بفواته ، وبين المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ،

-------------------

وعليه : فالشارح قال : ان من يتوهم تساوي الفور والمضيّق ، يستلزم عليه الاحتياج إلى الاستصحاب في الوقت الثاني ، فقال المصنِّف في رده : ( ولم أعرف له وجها ) إذ كيف يستلزم الاستصحاب مع انه لا استصحاب في المضيّق ؟ فكيف يجري الاستصحاب في الفور الذي يراه المتوهم مثل المضيّق ؟ .

والحاصل من كلام المصنِّف هو : ان الفاضل التوني رحمه اللّه بقوله : وتوهّم ان الأمر إذا كان الفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق اشتباه غير خفي ، أراد به دفع توهم غير مربوط بمطلبه ، لا انه مربوط بمطلبه كما قاله بعض الشرّاح .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وكذا النهي » ) فان الفاضل التوني بعد ان قسم الأمر إلى أقسام وأنكر جريان الاستصحاب فيها قال : وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهم الاستصحاب فيه ، لأن مطلقه يفيد التكرار ، وإذا كان مفيدا للتكرار فلا مجرى للاستصحاب .

فنقول : ( لا يخفى : أنّه قدس سره لم يستوف أقسام الأمر ) فشرع في النهي قبل استيفاء أقسام الأمر ، وقد كان عليه أن يستوفي أقسام الأمر أولاً ثم يبدأ بالنهي .

وإنّما لم يستوف أقسام الأمر ( لأنّ منها : ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت ، فيرتفع الأمر بفواته ، وبين المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ) وهذا قسم لم يذكره الفاضل التوني رحمه اللّه .

ص: 113

كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق ، فيجوز الاتيان به في كلّ جزء من النهار أو موقّت إلى الزوال ، وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ، فانّ الظاهر : أنّه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا ابتداءً .

قوله : « بل هو أولى ، لأنّ مطلقه ، إلى آخره » .

-------------------

وامّا مثاله : فهو ما أشار اليه بقوله : ( كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق ، فيجوز الاتيان به في كلّ جزء من النهار ) إلى المغرب ( أو موقّت إلى الزوال ) وليس مطلقا فهل يجري فيه الاستصحاب بعد الزوال أو لا يجري ؟ .

( وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ) إذا شككنا في ان وفيه إلى ما قبل صلاة العيد ، أو إلى الظهر ، أو إلى المغرب ، فهل يجري فيه الاستصحاب بعد الصلاة أم لا ؟ .

وعليه : ( فانّ الظاهر : أنّه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا ابتداءً ) أي : من دون استصحاب الحكم الوضعي ، فنستصحب استحباب غسل الجمعة إلى الغروب ، وكذلك نستصحب وجوب الفطرة إلى الغروب .

وقال : ابتداءً ، يعني : لا تبعا لاستصحاب الحكم الوضعي ، وكأنه بناءا على المشهور : من المسامحة في موضوع الاستصحاب ، وامّا بناءا على الدقّة : فلا يجري الاستصحاب ، لأنه من قبيل الشك في بقاء موضوع المستصحب ، حيث ان المصنِّف بنى على عدم جريان الاستصحاب في ما كان الشك فيه من الشك في المقتضي .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « بل هو أولى ، لأنّ مطلقه ، إلى آخره » ) فان الفاضل التوني قال : ان النهي أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه

ص: 114

كأنّه قدس سره ، لم يلاحظ إلاّ الأوامر والنواهي اللفظية البيّنة المدلول ، وإلاّ ، فاذا قام الاجماع ، أو دليل لفظي مجمل ، على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها بعده ، كحرمة الوطي للحائض المردّدة بين اختصاصها بأيّام رؤية الدم ، فيرتفع بعد النقاء وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض ، فلا يرتفع إلاّ بالاغتسال ،

-------------------

من الأمر ، لأن مطلقه يفيد التكرار ، ومن المعلوم : ان معنى التكرار هو : ان الدليل شامل لكل أجزاء الزمان فلا مجال للاستصحاب أصلاً .

لكن يرد عليه : ان النواهي الّلبّية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الأزمنة المختلفة ، فاذا شك في وجوب النهي في الزمان الثاني كان مجرى للاستصحاب ، ولذلك قال : ( كأنّه قدس سره لم يلاحظ إلاّ الأوامر والنواهي اللفظية البيّنة المدلول ) حتى جعل النهي واضحا شموله لجميع الأزمنة .

( وإلاّ ، فاذا قام الاجماع ، أو دليل لفظي مجمل ، على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها ) أي بقاء تلك الحرمة ( بعده ) أي : بعد ذلك الزمان ( كحرمة الوطي للحائض المردّدة ) تلك الحرمة ( بين اختصاصها بأيّام رؤية الدم ، فيرتفع بعد النقاء ) وان لم تغتسل ، فيجوز وطيها في هذا الحال ( وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض ، فلا يرتفع إلاّ بالاغتسال ) .

ولا يخفى : ان الاجمال هنا حدث من قوله سبحانه : « حتى يطْهرن » (1) للشك في انه هل يراد به الطهر من الخبث ، أو الطهر من الحدث ؟ فان الشك هنا موجود حتى وان لم يكن قرائة التشديد .

وكيف كان : فاذا طهرت عن الخبث ولم تغتسل بعد كان مجال استصحاب

ص: 115


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار ، وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ، فلا مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب .

قوله : « فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببيّة السبب هل هي على الاطلاق ؟ إلى آخره » .

-------------------

الحرمة واسعا .

( وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار ) حيث نشك في انه هل بقيت الحرمة أم لا ؟ .

( وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ) حيث نشك في انهما بقيا حلالين ، أو ان الغليان سبب حرمتهما ؟ .

( إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ) أمثلته من النواهي اللبية التي يشك في دوام النهي وعدم دوامه .

وعليه : ( فلا مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب ) للحكم السابق سواء الحرمة أم الحلية .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببيّة السبب هل هي على الاطلاق ؟ إلى آخره » ) فان الفاضل التوني قال في بقيّة عبارته المتقدّمة ما يلي :

كما في الايجاب والقبول ، فان سببيّته على نحو خاص وهو : الدوام إلى ان يتحقق المزيل وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ، فان السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر يعني : ليس على سبيل الدوام - فانها أسباب للحكم

ص: 116

الظاهر : أنّ مراده من سببية السبب تأثيره ، لا كونُه سببا في الشرع ، وهو : الحكم الوضعي لأنّ هذا لا ينقسم إلى ما ذكره من الأقسام ، لكونه دائميّا في جميع الأسباب إلى أن ينسخ .

فان أراد من النظر في كيفية سببيّة السبب : تحصيل مورد يشك في كيفية السببيّة ليكون موردا للاستصحاب في المسبّب ، فهو منافٍ لما ذكره : من عدم جريان

-------------------

في أوقات معيّنة - يعني : أوقات متعلق الحكم لا نفس الحكم - وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء .

فنقول : ( الظاهر : أنّ مراده من سببية السبب تأثيره ) لأنه قد يكون هناك سبب ، لكنّه لا يؤثر لفقد شرط أو وجود مانع ( لا كونُه ) أي : كون السبب ( سببا في الشرع ، وهو : الحكم الوضعي ) .

وإنّما قلنا لا كونه سببا ( لأنّ هذا ) أي : كونه سببا ( لا ينقسم إلى ما ذكره من الأقسام ، لكونه دائميّا في جميع الأسباب ) مستمرا ( إلى أن ينسخ ) فان النسخ هو الرافع للسبب ، وإلاّ فبدون النسخ يبقى السبب سببا .

وعليه : ( فان أراد من النظر في كيفية سببيّة السبب : تحصيل مورد يشك في كيفية السببيّة ) حتى لا يجري الاستصحاب في السببيّة ، بل ( ليكون موردا للاستصحاب في المسبّب ) وذلك على ما سبق : من انه إذا أجرينا الاستصحاب في السببيّة لم يبق مجال للاستصحاب في المسبّب ، لأن استصحاب السبب حاكم على الاستصحاب في المسبب .

وعليه : فان أراد منه هذا المعنى ( فهو منافٍ لما ذكره : من عدم جريان

ص: 117

الاستصحاب في التكليفيّات إلاّ تبعا لجريانه للوضعيّات .

وإن أراد من ذلك نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ليجري الاستصحاب في المسبب فأنت خبيرٌ : بأنّ موارد الشك كثيرة ، فانّ المسببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقت ، كالخيار المسبب عن الغبن ، المتردّد بين كونه دائما لولا المُسقط ، وبين كونه فوريّا ، وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرا إلى الصبح لو علم به ليلاً ، أم لا ،

-------------------

الاستصحاب في التكليفيّات إلاّ تبعا لجريانه للوضعيّات ) لأنه قد أجرى الاستصحاب هنا في المسبّب وهو أمر تكليفي ، بدون أن يجري الاستصحاب في السبب الذي هو وضع .

( وإن أراد من ذلك ) أي : من النظر في كيفية سببية السبب : ( نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ) حتى انه ليس لنا مورد يشك فيه ( ليجري الاستصحاب في المسبب ) فانه يجاب : بأنه إذا لم يكن شك في السبب لم يكن شك في المسبّب أيضا ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب في المسبّب أيضا .

وعليه : فان أراد منه هذا المعنى ( فأنت خبيرٌ : بأنّ موارد الشك كثيرة ، فانّ المسببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقت ) فلا نعلم بأن المسبّب دائم أو موقّت وذلك ( كالخيار المسبب من الغبن ، المتردّد ) ذلك الخيار ( بين كونه دائما لولا المسقط ، وبين كونه فوريّا ) وقال : لولا المسقط ، لأنه إذا حصل مسقط فلا إشكال في انه لا خيار .

( وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرا إلى الصبح لو علم به ) أي : بحقه في الشفعة ( ليلاً ، أم لا ) بل اللازم أن يأخذ بحقه في نفس الليلة ، فاذا تأخر عن الأخذ بحقه في الشفعة إلى الصباح سقطت الشفعة .

ص: 118

وهكذا ، والموقّت قد يتردّد بين وقتين ، كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة المردّد وقتها بين الأخذ في الانجلاء ، وتمامه .

قوله : « وكذا الكلام في الشرط والمانع ، إلى آخره » .

لم أعرف المراد من إلحاق الشرط والمانع بالسبب ، فانّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في الشرط والمانع

-------------------

( وهكذا ) بالنسبة إلى سائر الأمثلة ممّا يكون الشك في المسبّب مرددا بين الموقّت والدائم .

هذا ( والموقّت قد يتردّد بين وقتين ) فانه وان علمنا انه ليس بدائم وإنّما هو موقت ، لكنّا نشك في ان الوقت طويل أو قصير ( كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة ) للآيات ( المردّد وقتها ) أي : وقت تلك الصلاة بالنسبة إلى آخر الوقت ( بين الأخذ في الانجلاء ، و ) بين ( تمامه ) .

وعليه : فاذا كان آخر وقت الصلاة هو الانجلاء ، فاذا شرع القرص في الانجلاء تمّ وقت الصلاة ، وإذا كان الوقت ممتدا إلى آخر الانجلاء ، فان الصلاة تكون واجبة إلى آخر لحظة من الكسوف أو الخسوف .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وكذا الكلام في الشرط والمانع ، إلى آخره » ) فان الفاضل التوني بعد ان ذكر السبب ذكر ان الكلام في الشرط والمانع هو كالكلام في السبب .

لكن المصنِّف قال : ( لم أعرف المراد من الحاق الشرط والمانع بالسبب ) وذلك لأنه قسّم السبب إلى دائم وموقّت ، والموقّت إلى ظرف وغير ظرف ، وهذه الأقسام لا تأتي في الشرط والمانع كما قال :

( فانّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في الشرط والمانع )

ص: 119

وإن جرى كلّها أو بعضها في المانع إذا لوحظ كونه سببا للعدم ، لكنّ المانع بهذا الاعتبار يدخلُ في السبب . وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم .

وكذا ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : « فانّ ثبوت الحكم ، إلى آخره » .

-------------------

حتى ( وإن جرى كلّها ، أو بعضها في المانع ) وذلك ( إذا لوحظ كونه سببا للعدم ) فانه لا يصح إلحاقه بالسبب مع ذلك لأنه حينئذ سبب ، والسبب يأتي فيه تلك الأقسام المذكورة كما قال : ( لكنّ المانع بهذا الاعتبار ) أي : باعتبار كونه سببا للعدم ( يدخلُ في السبب ) فلا يكون مانعا حينئذ .

( وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم ) فانه يأتي فيه تلك الأقسام كما انه يأتي عليه نفس الاشكال أيضا من انه يدخل في السبب فلا يكون شرطا حينئذ .

لكن يمكن أن يقال : ان مراد الفاضل التوني رحمه اللّه هو : ان الشرط قد يكون شرطا للشيء مطلقا ، وقد يكون شرطا له موقتا ، وكذلك المانع قد يكون مطلقا وقد يكون موقتا ، لا ان مراده ما أشار اليه المصنِّف .

ولذا ذكرنا هناك عند شرح عبارة الفاضل المذكور : انه كما لا يستصحب في السبب ، لا يستصحب في الشرط والمانع ، لأن أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم بسبب الشرط ، أو الفاقد فيه الحكم بسبب المانع ، ليس تابعا للثبوت أو عدم الثبوت في جزء آخر سابق عليه .

( وكذا ) قال المصنِّف : لم أعرف المراد من ( ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : « فانّ ثبوت الحكم ، إلى آخره » ) حيث قال : فان ثبوت

ص: 120

فانّ الحاصل من النظر في كيفية شرطيّة الشرط أنّه قد يكون نفس الشيء شرطا لشيء على الاطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ، ومن الأكبر للمكث في المساجد ، ومن الحيض للوطي ، ووجوب العبادة .

وقد يكون شرطا له في حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكين لا مع عدمه .

وقد يكون حدوثه في زمان مّا شرطا للشيء ، فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحج .

-------------------

الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في محل اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة .

وعليه : ( فانّ الحاصل من النظر في كيفية شرطيّة الشرط ) هو انقسام الشرط ، لكن لا بالاعتبار الذي ذكره الفاضل التوني في السبب ، بل بالاعتبار التالي كما قال :

أولاً : ( أنّه قد يكون نفس الشيء شرطا لشيء على الاطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ) أي مسّ كتابة القرآن ( و ) الطهارة ( من ) الحدث ( الأكبر للمكث في المساجد ، و ) الطهارة ( من الحيض للوطي ، ووجوب العبادة ) لأن المرأة إذا لم تطهر من الحيض لا يجوز لزوجها وطيها ولا تجب العبادة عليها ، وكل ذلك يجري الاستصحاب في نفس الشرط دون الشرطية .

ثانيا : ( وقد يكون شرطا له في حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكين ) من التطهير ( لا مع عدمه ) فانه إذا لم يتمكن المصلي من التطهير صلى مع الخبث ، فلا يكون هناك اشتراط الطهارة من الخبث .

ثالثا : ( وقد يكون حدوثه في زمان مّا ) أي : حدوث الشرط في زمان ما ( شرطا للشيء ، فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحج ) فان الانسان

ص: 121

وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون فعل ، كالوضوء العُذريّ المؤثر فيما يُأتى به حال العذر .

فاذا شككنا في مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ، فلا مانع من استصحابه .

-------------------

إذا صار مستطيعا في زمان مّا ولم يحج ، وجب عليه الحج في السنوات القادمة وان ذهبت استطاعته بعد ذلك .

رابعا : ( وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون فعل ، كالوضوء العُذريّ المؤثر فيما يُأتى به حال العذر ) وكذلك الغسل العذري ، فان ما يأتي به من الأفعال المشروطة بالوضوء أو الغسل في حال العذر مع الوضوء أو الغسل العذريّين صحيح ، دون ما يأتي به في غير هذه الحال ، إذ لو ارتفع العذر وجب الوضوء والغسل التامان حتى يجوز الدخول في الصلاة ، ويصحّ الطواف ، وما أشبه ذلك .

وحيث كان الشرط كما عرفت على أقسام ، فاذا شككنا في ان الشرط في مكان هل هو من قبيل ما إذا ارتفع ارتفع المشروط ، أو من قبيل ما إذا ارتفع لم يرتفع المشروط ؟ نستصحب المشروط ، لاحتمالنا بقاء وجوب المشروط ، وانه من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء المشروط على وجوبه ولو بعد إنعدام الشرط .

أما مثاله ، فقد مثّل لذلك المصنِّف بقوله : ( فاذا شككنا في مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ) بأن لم نعلم هل الاستطاعة من قبيل الشرط المطلق حتى إذا ارتفع ارتفع وجوب الحج ، أو من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء وجوب الحج ولو بعد ارتفاع الشرط ( فلا مانع من استصحابه ) أي :

ص: 122

وكذا لو شككنا في اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ، كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت ، فانّه لا مانع من استصحاب الوجوب .

-------------------

استصحاب وجوب الحج حينئذ .

ومن ذلك ظهر : انه لا تهافت بين كلامي المصنِّف حيث قال تارة : ان الاستطاعة حدوثها في زمان مّا شرط فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، وقال اُخرى : فاذا شككنا في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة أي : بعد ارتفاع الشرط .

وإنّما قلنا : لا تهافت ، لأن كلامه الأوّل في واقع شرط الاستطاعة المستفاد من الأدلة ، وكلامه الثاني على نحو القضية الفرضية بأن نفرض انه لم نستفد من الأدلة بأن اشتراط الحج بالاستطاعة هل هو من قبيل الشرط المطلق كالطهارة بالنسبة إلى مس كتابة القرآن ، أو من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء وجوب الحج ، فانه حينئذ نستصحب وجوب الحج وان ارتفع الشرط الذي هو الاستطاعة ؟ .

( وكذا ) لا مانع من الاستصحاب فيما ( لو شككنا في ) انّ الاشتراط مطلق ، أو ان ( اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ، كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت ، فانّه لا مانع من استصحاب الوجوب ) .

مثلاً : إذا فرضنا انا لم نعلم هل ان إزالة الخبث شرط مطلق حتى إذا لم يتمكن المكلّف من إزالة الخبث عن بدنه أو ثوبه سقط وجوب الصلاة عنه ، أو انه شرط عند التمكن فقط ، حتى إذا كان أول الوقت قادرا على الصلاة مع الازالة ، ثم وسط الوقت سقطت قدرته ، فانا نستصحب وجوب الصلاة إلى ما بعد وقت زوال القدرة .

ص: 123

وكذا لو شككنا في أنّ الشرط في إباحة الوطي الطهارة بمعنى : النقاء من الحيض أو ارتفاع حدث الحيض . وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو المسّ بعد الوضوء العذريّ إذا كان فعل المشروط به بعد زوال العذر .

وبالجملة : فلا أجد كيفيّة شرطيّة الشرط مانعة عن إجراء الاستصحاب في المشروط بل قد يوجب إجرائه فيه .

-------------------

( وكذا لو شككنا في أنّ الشرط في إباحة الوطي الطهارة بمعنى : النقاء من الحيض ) ولو لم تغتسل ( أو ارتفاع حدث الحيض ) بأن يجوز الوطي بعد اغتسالها ، فانا نستصحب إباحة الوطي التي كانت قبل الحيض ، حيث ان الشارع أباح الوطي مطلقا وأخرج من الاباحة حال الدم ، فاذا شككنا في الجواز وعدمه بعد تمام الدم قبل الغسل ، نستصحب الجواز السابق على الحيض .

هذا وقد يقال : هناك في تفسير هذه العبارة من المصنِّف معنى آخر : وهو إستصحاب حرمة الوطي بعد النقاء قبل الغسل ، لكنه خلاف ظاهر العبارة .

( وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو ) إباحة ( المسّ ) لكتابة القرآن ( بعد الوضوء العذريّ إذا كان فعل المشروط به ) من الصلاة والمسّ ( بعد زوال العذر ) بأن توضأ - مثلاً - وضوء الجبيرة ، وبعد البرء أراد أن يصلي أو يمس كتابة القرآن بذلك الوضوء العذري ، فإنه يستصحب الاباحة السابقة .

( وبالجملة : فلا أجد كيفيّة شرطيّة الشرط مانعة عن إجراء الاستصحاب في المشروط ) فإن الاستصحاب يجري في المشروط إذا شككنا في إن الشرط بكيفيّة مطلقة ، أو ان الشرط بكيفيّة خاصة على ما عرفت .

( بل قد يوجب إجرائه فيه ) أي : في المشروط ، بمعنى : ان الشك في الكيفيّة يوجب إجراء الاستصحاب في المشروط ، ومعنى إيجابه هو : أن يكون دليل

ص: 124

قوله : « فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشروط والموانع » .

لا يخفى ما في هذا التفريع ، فإنّه لم يظهر من كلامه : جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى نفس الأسباب والشروط ، ولا عدمُه فيها بالمعنى المعروف .

-------------------

الاستصحاب شاملاً لهذا المورد الذي يشك في كيفية شرطه بأنه هل هو شرط مطلق أو شرط ليس بمطلق .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيه ) حيث يجريه جماعة ، ويمنعه جماعة ( لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشروط والموانع » ) فقط .

فنقول أولاً : ( لا يخفى ما في هذا التفريع ، فإنّه لم يظهر من كلامه : جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى نفس الأسباب والشروط ، ولا عدمُه فيها بالمعنى المعروف ) للاستصحاب ، ولذا قال الأوثق والآشتياني هنا واللفظ للأول ما حاصله :

ان قول الفاضل التوني مركّب من عقدي : الايجاب والسلب وهما : إعتبار الاستصحاب في متعلّقات أحكام الوضع ، وعدمه في غيرها ، وما يظهر من كلامه إلى قوله : فظهر ممّا ذكرنا هو : عدم إعتباره في الأحكام التكليفية إبتداءً ، ولا في المسبّبات ، وكذا في أحكام الوضع .

وأمّا متعلّقات أحكام الوضع ، فلم يظهر من كلامه جريانه ولا عدمه فيه بالمعنى المعروف ، أعني : إثبات الشيء في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأوّل ، فلا يصحّ التفريع حينئذ ، مع إن متعلّقاتها إن كانت من الموضوعات

ص: 125

نعم ، علم عدم الجريان أيضا في المسبّبات أيضا ، لزعمه إنحصارها في المؤبّد ، والموقّت بوقت محدود معلوم .

فبقي أمران ، أحدهما : نفس الحكم الوضعي ، وهو : جعل الشيء سببا لشيء أو شرطا ، واللازم : عدم جريان الاستصحاب فيها ،

-------------------

الخارجية ، فهي خارجة عن محل الكلام أعني : الأحكام الشرعية التي قسّمها إلى ستة أقسام ، وان كانت من الموضوعات الشرعية مثل الطهارة والنجاسة اللتين مثّل بهما ، فهي من قبيل المسبّبات التي صرّح بعدم جريان الاستصحاب فيها (1) .

( نعم ، علم ) من كلام الفاضل التوني ( عدم الجريان أيضا ) للاستصحاب ( في المسبّبات أيضا ، لزعمه إنحصارها ) أي المسبّبات ( في المؤبّد ، والموقّت بوقت محدود معلوم ) وما كان مؤبّدا أو مؤقتا كان الحكم فيه في الزمان الثاني بنفس الدليل بالاستصحاب .

ونقول ثانيا : ( فبقي ) ممّا لم يذكره الفاضل التوني ( أمران ) على النحو التالي :

( أحدهما : نفس الحكم الوضعي وهو : جعل الشيء سببا لشيء ، أو شرطا ) إذ قد تقدّم : إن هناك ذات الشرط كالوضوء ، والشرطية وهو إشتراط الصلاة بالوضوء، وذات السبب كالدلوك ، والسببية وهو سببية الدلوك لوجوب الصلاة حيث قال عليه السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) وهكذا في ذات المانع ، والمانعية ( واللازم : عدم جريان الاستصحاب فيها ) أي : في الشرطية

ص: 126


1- - أوثق الوسائل : ص479 جريان الاستصحاب في الأسباب والموانع والشروط .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 .

لعين ما ذكره في الأحكام التكليفية .

والثاني : نفس الأسباب والشروط .

ويرد عليه أنّ نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعي ، فظاهرُ كلامه - حيث جعل محلّ الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية - : خروجُ مثل هذا عنه ، كحياة زيد ورطوبة ثوبه ؛

-------------------

والسببية والمانعية ( لعين ما ذكره في الأحكام التكليفية ) لأنه من القسم الدائم حتى يجيء رافع ، وقد عرفت : إنه لا إستصحاب في الدائم ، فتتساوى الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية من جهة عدم جريان الاستصحاب حسب نظر الفاضل التوني .

( والثاني : نفس الأسباب والشروط ) كالدلوك والوضوء .

( ويرد عليه ) أي : على الفاضل التوني فيما ذكره : من ان الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشروط والموانع ، فيرد عليه بعد إشكاله الأوّل وهو ما ذكره بقوله : لا يخفى ما في هذا التفريع ، وإشكاله الثاني وهو ما ذكره بقوله : فبقي أمران ، إشكال ثالث وهو ما أشار إليه بقوله : ( أنّ نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعي ، فظاهرُ كلامه - حيث جعل محلّ الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية - : خروجُ مثل هذا عنه ، كحياة زيد ورطوبة ثوبه ) ولا يخفى : ان قوله : « حيث جعل محل الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية » جملة معترضة بين المبتدأ وهو قوله : « فظاهر كلامه » ، وبين الخبر وهو قوله : « خروج مثل هذا » .

قال الآشتياني رحمه اللّه : « الوجه في ظهور كلامه في إختصاص البحث

ص: 127

وإن كان أمرا شرعيا كالطهارة والنجاسة فلا يخفى : أنّ هذه الاُمور الشرعية مسبّبة عن أسباب ، فانّ النجاسة التي مثّل بها في الماء المتغيّر مسبّبة عن التغيّر والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم

-------------------

بالاستصحاب في الحكم الشرعي على ما ذكره دام ظله شيئان :

أحدهما : عنوان الاستصحاب في الأدلة العقلية ، فإنه يقتضي تخصيص الكلام بالاستصحاب في الحكم الشرعي .

ثانيهما : تخصيصه تقسيم المستصحب بالحكم الشرعي ، فلو كان المراد هو الأعم لجعل التقسيم أيضا أعم من الحكم الشرعي .

وأيضا كلامه في الاستصحاب المختلف فيه وحجية الاستصحاب ممّا لا خلاف فيه عند الاخباريين ، فالحكم بجريان الاستصحاب المختلف فيه في الشبهة الموضوعية ممّا لا معنى له ، إنتهى كلام الآشتياني قدس سره .

أقول : فالمعنى : انه كما ان حياة زيد ورطوبة ثوبه خارج عن الاستصحاب ، كذلك يخرج عن الاستصحاب نفس السبب والشرط والمانع ، لأنها أُمور غير شرعية .

( وإن كان ) السبب والشرط والمانع ( أمرا شرعيا كالطهارة والنجاسة ) فإن الطهارة شرط في الصلاة ، والنجاسة مانعة عنها ( فلا يخفى : أنّ هذه الاُمور الشرعية مسبّبة عن أسباب ) فتكون هذه الاُمور الشرعية مسبّبات ، وقد منع سابقا عن جريان الاستصحاب في المسبّبات ، فيلزم التهافت بين كلامي الفاضل المذكور .

وعليه : ( فانّ النجاسة التي مثّل بها في الماء المتغيّر ) هذه النجاسة ( مسبّبة عن التغيّر ) بالنجس ( والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم ) فيما إذا وجد المتيمّم

ص: 128

مسبّبة عن التيمّم ، فالشك في بقائها لا يكون إلاّ للشك في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لاجراء الاستصحاب في المسبّب ، أعني : النجاسة والطهارة ، وقد سبق منه المنعُ عن جريان الاستصحاب في المسبّب .

ودعوى : « أنّ الممنوع في كلامه جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي المسبّب عن الأسباب إلاّ تبعا لجريانه في نفس الأسباب » .

-------------------

ماءً في وسط الصلاة ( مسبّبة عن التيمّم ) فإن التيمم سبب الطهارة ، كما ان التغيّر سبب النجاسة .

إذن : ( فالشك في بقائها ) أي : في بقاء النجاسة والطهارة ( لا يكون إلاّ للشك في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لاجراء الاستصحاب في المسبّب ، أعني : النجاسة والطهارة ) حيث لا نعلم هل ان التغيّر سبب مطلق للنجاسة حتى بعد زواله ، أو انه سبب ما دام التغيّر موجودا ؟ .

وكذلك لا نعلم هل ان التيمم سبب لمطلق الطهارة حتى بعد وجدان الماء في أثناء الصلاة ، أو سبب ما دام لم يجد الماء ؟ .

هذا ( وقد سبق منه ) أي : من الفاضل التوني ( المنعُ عن جريان الاستصحاب في المسبّب ) فكيف يجري الاستصحاب في الطهارة والنجاسة ، والحال إنهما مسبّبان عن التغيّر والتيمّم ؟ .

( ودعوى : « أنّ الممنوع في كلامه ) إنّما هو ( جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي المسبّب عن الأسباب ) فإنه لا يجري فيه الاستصحاب ( إلاّ تبعا لجريانه في نفس الأسباب » ) دون الوضعي إذ ليس الممنوع جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي إذا كان مسبّبا كما نحن فيه من الطهارة والنجاسة .

والحاصل : ان المصنِّف أشكل على الفاضل التوني : بأنه كيف يجري

ص: 129

مدفوعةٌ : بأنّ النجاسة ، كما حكاه المفصِّل عن الشهيد ليست إلاّ عبارة عن وجوب الاجتناب ، والتطهير الحاصل من التيمّم ليس إلاّ إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة لوجوب المضي فيها بعد الدخول ، فهما إعتباران منتزعان من الحكم التكليفي .

-------------------

الاستصحاب في الطهارة والنجاسة وهما مسبّبان عن التيمّم والتغيّر مع ان الفاضل التوني يقول : بأن الاستصحاب لا يجري في المسبّبات ؟ .

فإدعى المدّعي : عدم ورود هذا الاشكال على الفاضل التوني ، وذلك لأنه قال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ، إذا كان مسبّبا ولم يقل بعدم جريانه في الحكم الوضعي إذا كان مسببا ، والطهارة والنجاسة حكم وضعي مسبّب ، فلا تناقض بين كلاميه .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ ) الطهارة والنجاسة حكمان تكليفيان لا حكمان وضعيان ، وذلك لأنّ ( النجاسة كما حكاه المفصِّل ) وهو الفاضل التوني ( عن الشهيد ) الأوّل رحمه اللّه ( ليست إلاّ عبارة عن وجوب الاجتناب ) ووجوب الاجتناب حكم تكليفي ( والتطهير الحاصل من التيمّم ليس إلاّ إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة ) هذه الاباحة ( لوجوب المضي فيها بعد الدخول ) فاذا دخل في الصلاة بالتيمم ، ثم وجد الماء في الأثناء وجب عليه المضي فيما بقي من الصلاة ، ووجوب المضي في الصلاة حكم تكليفي .

وعلى هذا نقول في رد الفاضل التوني : ( فهما ) أي : الطهارة والنجاسة ( إعتباران منتزعان من الحكم التكليفي ) ومسبّبان عنه ، وقد عرفت : ان الفاضل التوني لا يوجب الاستصحاب في المسبّب الذي هو حكم تكليفي .

ص: 130

قوله : « ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، إلى آخره » .

قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ إستصحاب النجاسة لا يعقل لها معنى إلاّ ترتيب أثرها ، أعني : وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب .

فليس هنا إستصحاب للحكم التكليفي ، لا إبتداءً ولا تبعا ، وهذا كاستصحاب حياة زيد ، فإنّ حقيقة ذلك هو : الحكم بتحريم عقد

-------------------

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « ووقوعه ) أي : الاستصحاب ( في الأحكام الخمسة ) التكليفية ( إنّما هو بتبعيّتها ) أي : بتبعيّة الأحكام الوضعية ( إلى آخره » ) .

فنقول : ( قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ إستصحاب النجاسة لا يعقل لها معنى إلاّ ترتيب أثرها ) وترتيب الأثر ( أعني : وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب ) وما أشبه ذلك .

إذن : فحاصل إشكال المصنِّف على الفاضل التوني هو : إنه لا إستصحاب في الحكم التكليفي إطلاقا ، وذلك كما قال :

( فليس هنا إستصحاب للحكم التكليفي ، لا إبتداءً ) حتى نستصحب حرمة الأكل والشرب ، وبطلان الصلاة ، وما أشبه ذلك ( ولا تبعا ) للحكم الوضعي ، بأن نستصحب النجاسة ، وتبعا لاستصحاب النجاسة نستصحب حرمة الأكل والشرب، وبطلان الصلاة ، وما أشبه ذلك ( و ) إنّما يكون ( هذا كاستصحاب حياة زيد ) الذي يترتب عليه الأثر تلقائيا بلا إستصحاب في الأثر ، لا إستقلالاً ولا تبعا كما قال : ( فإنّ حقيقة ذلك ) أي: إستصحاب حياة زيد ( هو: الحكم بتحريم عقد

ص: 131

زوجته والتصرّف في ماله .

وليس هذا إستصحابا لهذا التحريم ، بل التحقيق - كما سيجيء - عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي يستصحب موضوعاتها ، لأنّ إستصحاب وجوب الاجتناب - مثلاً - إن كان بملاحظة إستصحاب النجاسة ، فقد عرفت : أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب لما عرفت : من أنّ حقيقة حكم الشارع بإستصحاب النجاسة هو : حكمه بوجوب الاجتناب حتى يحصل اليقين بالطهارة .

-------------------

زوجته والتصرّف في ماله ) وما أشبه ذلك ( وليس هذا ) أي : الحكم بتحريم عقد زوجته ( إستصحابا لهذا التحريم ) وإنّما يترتّب التحريم تلقائيا على إستصحاب حياته .

إلى هنا أثبت المصنِّف إنه لا يستصحب الحكم التكليفي إطلاقا ، ثم ترقّى عن ذلك وقال : ان دليل الاستصحاب لا يشمل إستصحاب الحكم التكليفي رأسا ، ولذلك قال : ( بل التحقيق كما سيجيء : عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي يستصحب موضوعاتها ) وعدم الجواز هنا يعني : عدم صحته عقلاً ولا نقلاً ، فانه لا إستصحاب في المسبّب ما دام يمكن الاستصحاب في السبب .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب في الحكم مع جريانه في الموضوع ( لأنّ إستصحاب وجوب الاجتناب - مثلاً - إن كان بملاحظة إستصحاب النجاسة ) بأن نستصحب وجوب الاجتناب تبعا لاستصحاب النجاسة ( فقد عرفت : أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب ) وإذا لم يبق شك فيه فلا مجال لاستصحابه ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ حقيقة حكم الشارع بإستصحاب النجاسة هو : حكمه بوجوب الاجتناب حتى يحصل اليقين بالطهارة )

ص: 132

وإن كان مع قطع النظر عن إستصحابها ، فلا يجوز الاستصحاب ، لأنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور إنّما كان من حيث كونه نجسا ، لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشك لم يجر الاستصحاب ، كما سيجئفي مسألة إشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب .

ثمّ إعلم أنّه بقي هنا شبهةٌ اُخرى

-------------------

فإن الأحكام الوضعية تنتزع من الأحكام التكليفية لا ان التكليفية شيء في قبال الوضعية حتى تستصحب مستقلة .

( وإن كان ) إستصحاب وجوب الاجتناب ( مع قطع النظر عن إستصحابها ) أي: عن إستصحاب النجاسة ( فلا يجوز الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب ( لأنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور ) الذي كان متغيّرا ثم زال تغيّره من نفسه ( إنّما كان من حيث كونه نجسا ، لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشك ) في إنه باقٍ على نجاسته بعد زوال التغيّر أم لا ( لم يجر الاستصحاب ، كما سيجيء في مسألة إشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) ان شاء اللّه تعالى .

وإنّما لم يجر الاستصحاب مع الشك في بقاء الموضوع ، لأن الاستصحاب معناه : إن الموضوع ثابت في حالي اليقين والشك ، وإنّما نشك فيما يترتّب على الموضوع فنستصحبه ، فاللازم : بقاء الموضوع في الحالين ، وإلاّ كان من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، إنتهى مناقشة كلام الفاضل التوني قدس سره .

( ثمّ إعلم أنّه بقي هنا ) في باب إستصحاب الأحكام التكليفية ( شبهةٌ اُخرى

ص: 133

في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا ، وهي : أنّ الموضوع للحكم التكليفي ليس إلاّ فعل المكلّف .

ولا ريب أنّ الشارع ، بل كلّ حاكم

-------------------

في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا ) أي : سواء كانت أصلية أم تبعية ، وسواء كانت من التكاليف الالزامية أم غير الالزامية ، فإنه لا يجري الاستصحاب على ذلك في الأحكام التكليفية الخمسة إطلاقا .

هذا وسيأتي من المصنِّف بعد صفحات ما يوجب عموم هذه الشبهة للأحكام الوضعية أيضا فلا يجري الاستصحاب حينئذ مطلقا ، لا في الأحكام التكليفية ولا في الأحكام الوضعية ، وتكون هذه الشبهة دليلاً للقائلين بنفي حجية الاستصحاب مطلقا .

أما الشبهة ، فحاصلها هو : ان الموضوع إن كان باقيا فالحكم باق تلقائيا ، لأن الموضوع علة الحكم ، وكل ما كانت العلة كان المعلول ، وان لم يكن باقيا فلا حكم تلقائيا ، لأنه بذهاب العلة يذهب المعلول أيضا ، فأين محل الاستصحاب ؟.

وأما الجواب الذي يجيب به المصنِّف عن هذه الشبهة ، فحاصله هو : ان الموضوع العرفي باق دون الموضوع الدقّي ، فانه لو كان الموضوع الدقّي باقيا لم يكن مجال للاستصحاب ، كما ان الموضوع العرفي لو كان زائلاً لم يكن مجال للاستصحاب أيضا ، لكن إذا كان الموضوع الدقي زائلاً ، والعرفي باقيا ، فهو مجال للاستصحاب .

( و ) عليه : فان الشبهة حسب بيان المصنِّف ( هي : أنّ الموضوع للحكم التكليفي ليس إلاّ فعل المكلّف ) لأن فعل المكلّف هو معرض الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والاباحة ( ولا ريب أنّ الشارع ، بل كلّ حاكم

ص: 134

إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته التي لها دخل في ذلك الحكم ، ثمّ يحكم عليه .

وحينئذ : فإذا أمر الشارع بفعل - كالجلوس في المسجد مثلاً - فان كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه غير المقيّد بشيء أصلاً ، فلا إشكال في عدم إرتفاع وجوبه إلاّ بالاتيان به ، إذ لو إرتفع الوجوب بغيره كان ذلك الرافع من قيود الفعل وكان الفعل المطلوب مقيدا بعدم هذا القيد

-------------------

إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته التي لها ) أي : لتلك المشخصات ( دخل في ذلك الحكم ، ثمّ ) انّه إذا لاحظه بجميع مشخّصاته ( يحكم عليه ) ، وإلاّ ، لزم إثبات المعلول مع علته الناقصة وهو محال .

هذا في عالم الثبوت ( وحينئذ ) أي حين تمّ ما ذكرناه في عالم الثبوت نقول : ( فإذا أمر الشارع بفعل - كالجلوس في المسجد مثلاً - ) فان موضوع هذا الأمر الذي هو الجلوس يتصوّر على وجهين :

أولاً : ( فان كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه غير المقيّد بشيء أصلاً ) لا بقيد زماني كالجلوس إلى الظهر - مثلاً - ولا بقيد أحوالي كالسلامة من المرض - مثلاً - فإذا كان كذلك ( فلا إشكال في عدم إرتفاع وجوبه ) أي : وجوب الجلوس ( إلاّ بالاتيان ) أي : باتيان ذلك الجلوس الذي أمر ( به ) الشارع .

وإنّما لا يرتفع وجوب الجلوس إلاّ باتيانه ( إذ لو إرتفع الوجوب بغيره ) أي : بغير الاتيان من إنقضاء الوقت أو فقدان السلامة - مثلاً - ( كان ذلك الرافع من قيود الفعل ) أي : من قيود الجلوس .

( و ) عليه : فإذا كان ذلك الرافع غير الاتيان به من قيود الجلوس ( كان الفعل المطلوب ) الذي هو الجلوس حينئذ ( مقيدا بعدم هذا القيد ) أي : مقيدا بعدم

ص: 135

من أول الأمر ، والمفروض خلافه .

وإن كان الموضوع فيه هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد موجبا لانعدام الموضوع ، فعدم مطلوبيته ليس بارتفاع الطلب عنه ، بل لم يكن مطلوبا من أول الأمر .

وحينئذٍ : فإذا شك في الزمان المتأخّر في وجوب الجلوس يرجع الشك إلى الشك في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيّد

-------------------

إنقضاء الوقت ، أو عدم فقدان السلامة - مثلاً - ( من أول الأمر ) أي : من حين أمر المولى بالجلوس ( والمفروض خلافه ) أي : خلاف ذلك ، فإن المولى لم يقيّد الجلوس لا بقيد زماني ، ولا بقيد أحوالي .

ثانيا : ( وإن كان الموضوع فيه ) أي : في حكم الشارع ( هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد ) وفقدانه ( موجبا لانعدام الموضوع ) إذ المطلوب هو المقيّد حسب الفرض ، فإذا صار الظهر إرتفع وجوب الجلوس ، أو إذا أصبح مريضا إرتفع أيضا وجوب الجلوس .

وعليه : ( فعدم مطلوبيته ) أي : مطلوبية الجلوس بعد حصول الظهر أو بعد حدوث المرض ( ليس بارتفاع الطلب عنه ) أي : عن الجلوس الواجب ( بل لم يكن ) الجلوس ( مطلوبا من أول الأمر ) أي : من حين أمر المولى بالجلوس .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الموضوع من الأوّل يتصوّر على وجهين : اما مطلقا أو مقيدا ( فإذا شك في الزمان المتأخّر ) أي : الزمان الثاني ( في وجوب الجلوس ) حيث يراد إستصحاب الوجوب ، فإنه ( يرجع الشك إلى الشك في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيّد ) بعدم حصول الظهر ، أو بعدم حدوث المرض - مثلاً -

ص: 136

أو الفعل المعرّى عن هذا القيد ؟ .

ومن المعلوم : عدم جريان الاستصحاب هنا ، لأنّ معناه إثباتُ حكم كان متيقّنا لموضوع معيّن عند الشك في إرتفاعه عن ذلك الموضوع ، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه .

وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الاُخر لاشتراك الجميع في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف الملحوظ للحاكم ، خصوصا الحكيم

-------------------

( أو الفعل المعرّى عن هذا القيد ؟ ) .

وعليه : فيكون مرجع الشك في الحالة الثانية إلى الشك في الموضوع ( ومن المعلوم : عدم جريان الاستصحاب هنا ) أي : عند الشك في الموضوع ، وذلك ( لأنّ معناه ) أي : معنى الاستصحاب ( إثباتُ حكم ) كالوجوب - مثلاً - ( كان متيقّنا لموضوع معيّن ) كالجلوس - مثلاً - ( عند الشك في إرتفاعه ) أي : إرتفاع ذلك الحكم ( عن ذلك الموضوع ) الذي هو الجلوس ( وهذا غير متحقق فيما نحن فيه ) .

وإنّما لم يكن متحققا فيما نحن فيه لأن الموضوع وهو الجلوس مشكوك من الأوّل فلا نعلم هل هو الجلوس المطلق أو المقيد ؟ فإن كان هو المطلق ، كان الدليل دالاً على الحكم في الزمان الثاني بلا حاجة للاستصحاب ، وإن كان هو المقيّد ، إرتفع الحكم في الآن الثاني تلقائيا لانتفاء المقيّد بانتفاء قيده .

( وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الاُخر ) التكليفية ( لاشتراك الجميع ) أي : جميع الأحكام ( في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف الملحوظ للحاكم ) حين حكمه بتلك الأحكام ( خصوصا الحكيم ) وهو اللّه سبحانه وتعالى

ص: 137

بجميع مشخّصاته ، خصوصا عند القائل بالتحسين والتقبيح ، لمدخليّة المشخّصات في الحسن والقبح حتى الزمان .

وبه يندفع ما يقال : « إنّه كما يمكن أن يُجعل الزمان ظرفا للفعل ، بأن يقال : التبريد في زمان الصيف مطلوبٌ ، فلا يجري الاستصحاب إذا شك في مطلوبيّته في زمان آخر ، أمكن أن يقال : إنّ التبريد مطلوب في زمان الصيف على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا للطلب ، وحينئذ فيجوز إستصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف ،

-------------------

فإنه يلاحظه ( بجميع مشخّصاته ) وذلك ( خصوصا عند القائل بالتحسين والتقبيح ، لمدخليّة المشخّصات في الحسن والقبح حتى الزمان ) .

وإنّما قال : حتى الزمان لأن الشيء ربما يكون حسنا في زمان ويكون نفسه غير حسن في زمان آخر ، وكذا قد يكون الشيء قبيحا في زمان ويكون نفسه غير قبيح في زمان آخر .

( وبه ) أي : بما ذكرناه : من إن كل قيد فهو راجع إلى القيد في الموضوع ( يندفع ما يقال : « إنّه كما يمكن أن يُجعل الزمان ظرفا للفعل ) حتى يكون الفعل مقيّدا بالظرف ، وذلك ( بأن يقال : التبريد في زمان الصيف مطلوبٌ ، فلا يجري الاستصحاب إذا شك في مطلوبيّته ) أي التبريد ( في زمان آخر ) غير زمان الصيف وذلك للشك في الموضوع .

وعليه : فإنه كما أمكن أن يقال ذلك ، أيضا ( أمكن أن يقال : إنّ التبريد مطلوب في زمان الصيف ) فلا يكون الزمان قيدا للتبريد ، بل ( على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا للطلب ، وحينئذ ) أي : حين كان الموضوع مجرّدا عن القيد وإنّما كان الحكم هو المقيّد ( فيجوز إستصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف ) .

ص: 138

إذ الموضوع باق على حاله في الحالتين » .

توضيح الاندفاع : أنّ القيد في الحقيقة راجعٌ إلى الموضوع وتقييد الطلب به أحيانا في الكلام مسامحةٌ في التعبير ، كما لا يخفى ، فافهم .

-------------------

وإنّما يجوز الاستصحاب حينئذ لأنه كما قال : ( إذ الموضوع باق على حاله ) وهو التبريد ( في الحالتين » ) .

والحاصل : ان القيد قد يكون قيدا للموضوع فيتمّ فيه ما ذكرتم ، وقد يكون قيدا للحكم ، وهنا محل الاستصحاب ، إذ قد يكون المولى : التبريد في الصيف مطلوب ، فيكون الظرف قيدا للتبريد ، ولا مجال للاستصحاب بعد إنسلاخ الصيف ، وقد يقول ، التبريد مطلوب في الصيف ، فيكون الظرف قيدا للحكم ، وهنا يصح الاستصحاب لمطلوبيّة التبريد بعد إنسلاخ الصيف ، لأن الموضوع لم يكن مقيّدا .

( توضيح الاندفاع : أنّ القيد في الحقيقة راجعٌ إلى الموضوع ) من غير فرق بين أن يكون في صورته قيدا للموضوع أو قيدا للحكم ( وتقييد الطلب به ) أي : بهذا القيد ( أحيانا في الكلام مسامحةٌ في التعبير ، كما لا يخفى ) فيكون الظرف : في الصيف على كلا الحالين قيدا للتبريد وان جاء في صورة : قيدا للتبريد ، وفي صورة : قيدا للمطلوب .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ما ذكره الأوثق : من منع كون الشك في بقاء الحكم دائما ناشئا من الشك في بعض قيود موضوعه ، لوضوح : عدم كون عدم المانع إبتداءً ، أو إستدامةً ، داخلاً في الموضوع لأنه من قيود ثبوت المحمول على موضوعه في كل زمان ، فالموضوع عند العقل هو المقتضي للحكم لا إنه

ص: 139

وبالجملة : فينحصر مجرى الاستصحاب في الاُمور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه ، كالطهارة والحدث والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك .

ومن ذلك يظهر : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي أيضا

-------------------

علته التامة (1) .

هذا ، وقياس ما نحن فيه على الأحكام العقلية فاسد ، لأن عدم جريان الاستصحاب فيها إنّما هو من جهة ان حكم العقل بشيء لا يعقل إلاّ بعد إحراز علته التامة ، فلا يحصل الشك في حكمه في آن حتى يجري فيه الاستصحاب ، والعلة التامة غير معلومة غالبا في الأحكام الشرعية ، وقد عرفت : عدم ملازمة وجود الموضوع لوجود العلة التامة حتى يقال : ان العلم ببقائه كما هو الشرط في جريان الاستصحاب مستلزم للعلم بالعلة التامة .

( وبالجملة : ف ) إنه بعد بيان الشبهة المتقدّمة الدالة على انه لا يجري الاستصحاب في عامة الأحكام التكليفية الخمسة ( ينحصر مجرى الاستصحاب في الاُمور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه ) بأن يكون هناك موضوع قابل للاستمرار وعدم الاستمرار ( كالطهارة والحدث والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك ) من سائر الأحكام الوضعية .

( ومن ذلك ) أي : من الشبهة المتقدمة التي أوردناها على جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ( يظهر : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي أيضا

ص: 140


1- - أوثق الوسائل : ص480 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

إذا تعلّق بفعل الشخص .

هذا ، والجواب عن ذلك : أنّ مبنى الاستصحاب - خصوصا إذا إستند فيه إلى الأخبار - على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق التي ينتزعها العرفُ من الأدلّة الشرعية ، فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

-------------------

إذا تعلّق بفعل الشخص ) وذلك لنفس الشبهة المتقدّمة ، وقد ذكر الفقيه الهمداني في حاشيته موضّحا قيد : فعل الشخص ، في كلام المصنِّف عند قوله : «إذا تعلق بفعل الشخص» قائلاً : إحترز بهذا عمّا لو كان متعلّق الحكم الوضعي أمرا خارجيا ، كسببيّة الخسوف والكسوف لصلاتهما ، وشرطيّة القرص لوجوب قضائها ، فإنه لا مانع في مثل هذه الموارد من إستصحاب الحكم الوضعي ، وامّا إذا كان متعلّقه فعل المكلّف كقوله : إذا أفطرت فكفّر ، فيتمشّى الكلام فيه كما تمشّى في الأحكام التكليفية .

( هذا ) تمام الكلام في الشبهة التي أوردناها على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية وعلى قسم من الأحكام الوضعية .

( والجواب عن ذلك ) هو كما قال : ( أنّ مبنى الاستصحاب - خصوصا إذا إستند فيه إلى الأخبار - على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق ) فيستصحب ذلك الحكم الذي وضع على الموضوع العرفي في الزمان السابق إلى الزمان اللاحق والقضايا العرفية هي ( التي ينتزعها العرفُ من الأدلّة الشرعية ) لأن العرف هم المخاطبون بهذه القضايا ، فإذا رأوا ان الموضوع عرفي كفى في جريان الاستصحاب فيه .

وعليه : ( فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

ص: 141

في بقائه بعده ، أنّ الشك في هذه المسألة في إستمرار الحرمة لهذا الفعل وإرتفاعها ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل ، وكذلك الاباحة والكراهة والاستحباب .

نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار ، مثلاً : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال ، فلا يحكمون باستصحاب ذلك ولا يبنون

-------------------

في بقائه بعده ) ولم يكن هناك دليل على البقاء ، أو على عدم البقاء ، فلا يرتابون في ( أنّ الشك في هذه المسألة في إستمرار الحرمة لهذا الفعل وإرتفاعها ) أي : إرتفاع الحرمة وهو مجرى الاستصحاب كما عرفت ( وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل ) لكن ذلك لا يضر بعد رؤية العرف الموضوع في الآن الثاني هو نفس الموضوع في الآن الأوّل .

( وكذلك ) أي : كالحرمة المحتملة وجودها وعدمها في الزمان الثاني : ( الاباحة والكراهة والاستحباب ) والوجوب ، ولعل المصنِّف لم يذكر الوجوب من جهة : ان كل حرام هو واجب الترك ، وكل واجب هو حرام الترك ، فذكره للحرام أغنى عن ذكر الوجوب ، وكيف كان فالعرف يحكم ببقاء الموضوع .

( نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار ) وكذلك يكون الحال في الأحكام الأربعة الباقية .

( مثلاً : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال ) أو ان الوجوب كان منحصرا في اليوم السابق ( فلا يحكمون باستصحاب ذلك ) الوجوب الذي كان في اليوم السابق ( ولا يبنون

ص: 142

على كونه ممّا شك في إستمراره وإرتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال .

أمّا لو ثبت ذلك مرارا ثمّ شك فيه بعد أيام ، فالظاهر حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في إرتفاعه فيستصحب .

ومن هنا ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر ،

-------------------

على كونه ممّا شك في إستمراره وإرتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال ) .

مثلاً : إذا قال المولى : أذّن في هذا اليوم ظهرا ، فأذّن ، ففي غده يحتمل وجوب الأذان باعتبار الاستصحاب ، وإن الوجوب مستمر في كل يوم ظهرا ، ويحتمل عدم وجوبه ، باعتبار إن قبل الظهر لم يكن الأذان واجبا ، فيستصحب عدم الوجوب إلى الظهر ففي مثله لا يجرون الاستصحاب .

( أمّا لو ثبت ذلك ) الوجوب عند الظهر ( مرارا ) بمعنى : انه ثبت وجوب الأذان في أيام متتالية ( ثمّ شك فيه بعد أيام ) بانه هل يجب باعتبار إستصحاب الأيام السابقة ، أو لا يجب لأنه كان الواجب خاصا بتلك الأيام ؟ ( فالظاهر : حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في إرتفاعه فيستصحب ) بقاء ذلك الحكم وهو الوجوب دون ان يعتنى بحالة ما قبل الظهر ، فلا يعارضه القول : بان الأذان قبل الظهر لم يكن واجبا ، فعند الظهر ليس بواجب أيضا .

( ومن هنا ) أي : من حيث إن التكرار يوجب الاستصحاب ( ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر ) لأنه قد تكرر التمام أياما .

ص: 143

وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض ؛ لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر ، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة حتى يحكم بوجوب التمام ، لأنّه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر ، وبوجوب العبادة ، لأنّه من آثار عدم الحيض ؛

-------------------

( وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض ) باعتبار تكرر وجوب العبادة عليها ، فعند الشك في إستمرار ذلك الوجوب عليها وعدمه ، تستصحب إستمرار الوجوب عليها .

بل انّ هذا الأمر عرفي أيضا ، فإذا كان هناك شخص يأتي كل يوم صباحا لبيع الخبز أو اللبن أو ما أشبه ذلك ، فإنهم ينتظرونه كل يوم وان شكوا في مجيئه وعدم مجيئه ، وليس كذلك حالهم فيما إذا كان هناك شخص جاء في يوم واحد وباع اللبن أو الخبز ، فإنهم لا ينتظرونه في اليوم الثاني .

وكيف كان : فالاستصحاب هنا إنّما هو من جهة ثبوت التمام ، وثبوت العبادة ( لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب ) ذلك السفر ( للقصر ، وعدم الحيض المقتضي ) ذلك العدم ( لوجوب العبادة ) عليها ( حتى يحكم بوجوب التمام ) وبوجوب العبادة .

وقال : بوجوب التمام لا من جهة أصالة عدم السفر إحترازا ( لأنّه ) أي : وجوب التمام يكون أيضا ( من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر ) فإنه إذا لم يكن سفر شرعي يوجب القصر ، يكون التمام واجبا .

( و ) قال ( بوجوب العبادة ) لا من جهة عدم الحيض إحترازا أيضا ( لأنّه ) أي : وجوب العبادة يكون أيضا ( من آثار عدم الحيض ) فإنه إذا لم يكن حيض ثبت وجوب العبادة .

ص: 144

بل من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما، فهو في كلّ يوم مسبوقٌ بالعدم ، فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ، لا إلى استصحاب وجوده .

والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

-------------------

وإنّما قال المصنِّف : لا من جهة أصالة عدم السفر ، وعدم الحيض لأنه إذا حصل وجوب التمام ووجوب العبادة من جهة أصالة عدم السفر وأصالة عدم الحيض كان من الأصل المثبت ، إذ نفي الضد لاثبات ضده من الأصل المثبت .

مثلاً : إذا قال : الأصل عدم السفر ، كان لازمه عقلاً : الحضر ، والتمام مرتب على الحضر ، وإذا قال : الأصل عدم الحيض كان لازمه عقلاً : الطهر ، والطهر يوجب العبادة .

( بل ) إنّما نقول بوجوب التمام وبوجوب العبادة ( من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم ) أي : عند العرف وإن لم يكن أمرا مستمرا دقة لتجدّده يوما فيوما كما قال : ( وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما، فهو في كلّ يوم مسبوقٌ بالعدم ) .

وعليه : فان التكليف بالنظر الدقي يتجدد يوما فيوما ، فيكون في كل يوم مسبوقا بالعدم ، وإذا كان كذلك ( فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ) أي : عدم التكليف لسبقه بالعدم ( لا إلى استصحاب وجوده ) أي : وجود التكليف ، ولكن قد عرفت : ان المعيار هو النظر العرفي ، والعرف هنا يرى إستمرار التكليف عند زوال كل يوم ، فيستصحب بقائه عند الشك في إنقطاعه .

( والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

ص: 145

فارتفع وإنقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع ، ولولا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفعٌ للحكم الثابت ، أو لمثله ، فانّ عدم التكليف - في وقت الصلاة - بالصلاة إلى القبلة المنسوخة - دفعٌ في الحقيقة للتكليف لا رفعٌ .

ونظير ذلك في غير الأحكام الشرعية ما سيجيء :

-------------------

فارتفع وإنقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع ) فإذا شك العرف في إنقطاعه ولم يعلم إرتفاعه ، يستصحب بقائه .

( و ) عليه : فانه ( لولا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفعٌ للحكم الثابت ، أو ) بعبارة أدق : انه رفع ( لمثله ) أي : لمثل ذلك الحكم الثابت لا نفسه ، لأن الحكم الثابت في الأوّل هو غير الحكم في الآن الثاني دقة .

إذن : ( فانّ عدم التكليف - في وقت الصلاة - بالصلاة إلى القبلة المنسوخة ، دفعٌ في الحقيقة ) والدقة العقلية ( للتكليف ) لعدم وجود مقتضيه ( لا رفعٌ ) للتكليف ، لأنه كما عرفت في كل آن غيره في الآن الثاني دقة ، فيكون النسخ دفعا دقة وحقيقة ، لا رفعا .

وعليه : فإذا شك المسلم في أول الاسلام في ان القبلة هل تحوّلت إلى الكعبة أم لا ؟ فالاستمرار العرفي للصلاة إلى بيت المقدس في كل وقت صلاة يقتضي بقاء الموضوع إلى حين الشك ، فإذا لم يستصحبه لأجل النسخ وصلّى إلى الكعبة ، رآه العرف رفعا للحكم الثابت ، لا دفعا ، ممّا معناه : ان الموضوع العرفي باق ، بينما ان الدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع .

( ونظير ذلك ) التخيل العرفي لوحدة الموضوع يكون ( في غير الأحكام الشرعية ) أيضا من الموضوعات التي لها أحكام ، وذلك على ( ما سيجيء :

ص: 146

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية وعدمها ، وفي الاُمور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا ، وفي مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بالمسامحة العرفيّة ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية ) أي : بأن كان الماء كرا ثم اخذ منه مقدارا ، فشك في انه هل سقط عن الكرية أم لا ؟ فانه يستصحب كريته .

( و ) كذا اجراء الاستصحاب في ( عدمها ) أي : عدم الكرية ، وذلك فيما إذا لم يكن الماء كرا ، ثم صبّ عليه مقدارا من الماء فشك في انه هل صار كرا أم لا ؟ فانه يستصحب فيه عدم الكرية .

إذن : فاحراز الموضوع في الكرية وفي عدم الكرية ، إنّما هو بالمسامحة العرفية لا بالدقة العقلية ، لأنه بالدقة العقلية ، وتغيّر الماء الأوّل إلى أنقص أو إلى أزيد .

( و ) كذا إجراء الاستصحاب ( في الاُمور التدريجية المتجدّدة شيئا فشيئا ) من الزمان والزمانيات كالتكلم - مثلاً - فان العرف يرى وحدة الموضوع فيها تسامحا .

( و ) كذا ( في مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بالمسامحة العرفيّة ) كما إذا تعذّر بعض أجزاء الصلاة حيث يستصحب الوجوب النفسي للبقية بعد تعذّر بعض الأجزاء ، وذلك ( كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ) .

وبذلك كله تبيّن ان الشبهة التي أوردها المصنِّف بقوله : بقي هنا شبهة اُخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية التي أوردها المصنِّف بقوله : بقي هنا شبهة اُخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا

ص: 147

حجّة القول الثامن

وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه ، فنقول : قد نسب جماعةٌ إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب وإنكارها في استصحاب حال الاجماع ، وظاهر ذلك كونُه مفصّلاً في المسألة .

وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته ، ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع

-------------------

والوضعية في الجملة ، وذلك لأن الموضوع الدقي العقلي غير باق فلا يستصحب لانتفاء الموضوع ، هذه الشبهة غير واردة على ما عرفت .

( حجّة القول الثامن ) : وهو التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر فيما ثبت بالاجماع ، ويعتبر فيما ثبت بغيره ( وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه ) وانه هل هناك قول بهذا التفصيل أو ليس هناك قول به ، فان المصنِّف يرى : انه لم يكن قول بهذا التفصيل ؟ .

وعليه : ( فنقول : قد نسب جماعةٌ إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب ) في الجملة ( وإنكارها في استصحاب حال الاجماع ) أي : انه لا يقول بالحجية في استصحاب حال الاجماع ، وإنّما يقول بالحجية في غيره ممّا ثبت بسائر الأدلة ( وظاهر ذلك ) القول المنسوب إلى الغزالي : ( كونُه ) أي : الغزالي ( مفصّلاً في المسألة ) .

هذا ( وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته ) في الجملة ( ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع ) ممّا يدل على ان المسألة في النهاية

ص: 148

ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر . ونسب إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته .

إلاّ أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة المختصّة دلالتها بالحال الأوّل المعلوم إنتفاؤها في الحال الثاني ،

-------------------

معممة تارة بالنسبة إلى غير الاجماع ، وتارة بالنسبة إلى الاجماع فقط .

( ومثّل له ) أي : مثّل النهاية لاستصحاب حال الاجماع بمثالين :

الأوّل : ( بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ) حيث يشك في إنه هل يبقى على صلاته أو تبطل صلاته برؤية الماء ؟ .

الثاني : ( وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر ) حيث يشك في انه هل بقي على تطهره أو انتقض تطهره بالحديث الخارج - مثلاً - من ثقبة في بطنه أو ظهره أو جنبه ؟ .

( و ) كيف كان : فقد ( نسب ) العلامة في نهايته ( إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته ) أي : عدم حجية استصحاب حال الاجماع ممّا يظهر من نهاية العلامة : ان الغزالي من القائلين بالتفصيل .

( إلاّ أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه ) أي : كلام الغزالي ( المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا ) والمراد من الاستصحاب المتنازع فيه هو : مطلق الاستصحاب مقابل المتسالم عليه : من الاصول اللفظية ، فالغزالي لايرى حجيّة الاستصحاب إطلاقا ، حتى ( وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة ) الاُخرى ( المختصّة دلالتها بالحال الأوّل ، المعلوم إنتفاؤها ) أي : إنتفاء دلالة تلك الأدلة ( في الحال الثاني ) .

ص: 149

وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع ، كما ستعرف في كلام الشهيد ، وإنّما المُسلَّمُ عنده استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه الخارج عن محل النزاع بل عن حقيقة الاستصحاب حقيقةً ، فمنشأ نسبة التفصيل إطلاق الغزالي الاستصحاب

-------------------

إن قلت : ثبوت المستصحب بالأدلة الاُخرى غير الاجماع لا يعبّر عنه : باستصحاب حال الاجماع .

قلت : ( وقد يعبّر عن جميع ذلك ) الذي يثبت شرعا في الزمان الثاني تعويلاً على الزمان الأوّل : ( باستصحاب حال الاجماع ) فالغزالي لما ينفي استصحاب حال الاجماع ، معناه : إنه ينفي مطلق الاستصحاب الثابت بأيّ دليل كان من إجماع أو غيره ( كما ستعرف في كلام الشهيد ) الأوّل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

( وإنّما المسلّم عنده ) أي : عند الغزالي من الاستصحاب هو : ( استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ) أي : ان عموم النص يشمل الحال الثاني ، أو ان إطلاق النص يشمل الحال الثاني ( الخارج ) مثل هذا الاستصحاب الذي هو في الاُصول اللفظية ( عن محل النزاع ) لأنه لم ينازع أحد في حجية العموم والاطلاق بالنسبة إلى الآن الثاني .

( بل ) هو خارج ( عن حقيقة الاستصحاب حقيقة ) لأنه عمل بالعموم والاطلاق لا بالاستصحاب ، فان الاستصحاب هو « إبقاء ما كان » من حيث انه كان سابقا ، « والابقاء » فيما ذكر من عموم نص أو إطلاقه ، إنّما هو من جهة وجود الدليل .

وعليه : ( فمنشأ نسبة التفصيل ) إلى الغزالي بين الاستصحاب الثابت بالاجماع فليس بحجة ، والثابت بغيره فحجة ، هو : ( إطلاق الغزالي الاستصحاب

ص: 150

على إستصحاب عموم النصّ أو إطلاقه وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع ، وإن صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره - ممّا يشبهه في إختصاص مدلوله بالحالة الاُولى - به في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما ،

-------------------

على إستصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ) الدال على إعتبار هذا الاستصحاب عنده ( وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع ) .

إذن : فاطلاق الغزالي القول بالاستصحاب على إستصحاب العموم والاطلاق من جهة ، وتخصيص القول بانكار الاستصحاب باستصحاب حال الاجماع من جهة اُخرى ، سبّب نسبة هذا التفصيل إليه بينما الغزالي قصد من قوله بالاطلاق : خصوص الاستصحاب في الاُصول اللفظية ، ومن قوله بتخصيص الانكار : مطلق الاستصحاب غير الاُصول اللفظية .

وإنّما قلنا : بأنّ قصد الغزالي كان ذلك ، لأنه ( وإن ) كان ظاهر كلامه التفصيل المنسوب إليه ، إلاّ انه قد ( صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره ) أي : غير حال الاجماع ( ممّا يشبهه ) أي : يشبه حال الاجماع شبها ( في إختصاص مدلوله بالحالة الاُولى ) فألحقه ( به ) أي : بحال الاجماع ( في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما ) في الآن الأوّل .

والحاصل : ان الغزالي منع استصحاب حال الاجماع ، ثم ذكر في أثناء كلامه : ان ما ثبت بغير الاجماع أيضا ملحق بما ثبت بالاجماع إلحاقا من جهة عدم حجية الاستصحاب فيه ، ممّا يكون نتيجته : ان الاستصحاب ليس بحجة عنده إطلاقا سواءً كانت الحالة السابقة قد ثبتت بالاجماع أم بسائر الأدلة .

لكن قال في الأوثق : « ان ما استظهره المصنِّف من كلام الغزالي : من كونه نافيا

ص: 151

قال في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب إلى خمسة أقسام ما يستقل به العقل ، كحسن العدل ، والتمسك بأصل البرائة ، وعدم الدليل دليل العدم ،

-------------------

مطلقا وان كان متجها بناءا على ما جاء في كلامه المحكي في النهاية ، إلاّ ان محمد بن علي بن أحمد الجباعي العاملي قد حكى في شرحه على قواعد الشهيد ، عن الغزالي ، في كتابه المستصفى : التصريح بالتفصيل بين إستصحاب حال الاجماع وغيره » (1) .

ثم إنّ المصنِّف وعد أن يذكر كلام الشهيد قبل عدّة أسطر والآن وفى بوعده قائلاً : ( قال ) الشهيد الأوّل ( في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب ) الشرعي ، لأن العقل : قد يحكم بعد خطاب الشارع مثل : حكم العقل بوجوب الاطاعة بعد قول الشارع : « أقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة » (2) وليس التقسيم في هذا .

وقد يحكم بدون ان يكون هناك خطاب من الشرع مثل : حسن العدل وقبح الظلم ، والتقسيم في هذا ، فقد قسّمه ( إلى خمسة أقسام ) كالتالي :

الأوّل : ( ما يستقل به العقل ، كحسن العدل ) وقبح الظلم .

( و ) الثاني : ( التمسك بأصل البرائة ) وذلك فيما إذا شك الانسان بأنه هل هو مكلّف أو بريى ء ؟ فالعقل يحكم بأنه بريى ء ما لم يثبت دليل يدل على وجوب شيء أو حرمته عليه .

( و ) الثالث : ( عدم الدليل دليل العدم ) وهذا كما لا يخفى : قد يوافق البرائة

ص: 152


1- - أوثق الوسائل : ص480 ما نسب الى الغزالي عدم حجيّة استصحاب حال الاجماع .
2- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 و 110 .

والأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر .

« الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : إستصحاب حال الشرع وحال الاجماع في محل الخلاف ، مثاله المتيمّم ، إلى آخره ،

-------------------

وقد يخالفها .

( و ) الرابع : ( الأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر ) وذلك فيما إذا شك الانسان في انه هل يجب عليه الأقل أو الأكثر ، فانّه يتمسك بالأقل إذ لا دليل على الأكثر .

( « الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : إستصحاب حال الشرع وحال الاجماع ) فهم إسمان لشيء واحد ( في محل الخلاف ) لا في مثل العمل بالعموم والاطلاق الذي لا خلاف في جريان الاستصحاب فيه ، بل هو خارج عن الاستصحاب المصطلح ، وإنّما فيما لم يكن دليل يدل على وجود الحكم في الحال الثاني ولا على عدمه .

ولا يخفى : ان ما وعده المصنِّف من ذكر كلام الشهيد حيث قال قبل أسطر : وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع هو هذه العبارة من الشهيد حيث قال : ويسمى استصحاب حال الشرع وحال الاجماع ، فعمّم الشهيد حال الاجماع على كل أقسام الأدلة .

وأما ( مثاله ) أي : مثال الاستصحاب المختلف فيه ، فهو : ( المتيمّم ، إلى آخره ) أي : الذي تيمم ودخل في الصلاة ثم وجد الماء في الأثناء ، فانه إذا قلنا بالاستصحاب نستصحب التطهر فيجب إتمام الصلاة ، وان لم نقل بالاستصحاب لا نستصحب التطهر فيجب تجديد الوضوء واستئناف الصلاة .

ص: 153

واختلف الأصحاب في حجيته ، وهو مقرّر في الاُصول » ، انتهى .

ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا ، وفي مسألة المتيمّم ، إلى آخره . وصاحب الحدائق في الدُرر النجفيّة . بل استظهر هذا من كلّ مَن مثّل لمحل النزاع بمسألة المتيمّم ، كالمعتبر والمعالم وغيرهما .

-------------------

ثم قال ( وإختلف الأصحاب في حجيته ) أي : في حجية القسم الخامس الذي هو الاستصحاب ( وهو ) أي : هذا الاختلاف في حجيته ( مقرّر في الاُصول » (1) ) فلا داعي للتعرّض له في كتاب الذكرى الذي هو كتاب فقهي ( انتهى ) كلام الشهيد قدس سره .

( ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا ) ؟ فانّه ان قلنا بالاستصحاب لم يكن ناقضا ، وان لم نقل بالاستصحاب يكون ناقضا ( وفي مسألة المتيمّم إلى آخره ) كما عرفت .

( و ) نحوه أيضا ما حكي عن ( صاحب الحدائق في الدرر النجفيّة ) وغيره .

( بل استظهر هذا ) أي : كون المراد من إستصحاب حال الاجماع هو : مطلق ما دل الدليل على وجود الحكم في الآن الأوّل ، من غير دلالة له على الآن الثاني استظهر ( من كلّ مَن مثّل لمحل النزاع ) في حجية الاستصحاب وعدم حجيته ( بمسألة المتيمّم ) الذي وجد الماء في أثناء الصلاة ( كالمعتبر والمعالم وغيرهما ) .

ص: 154


1- - ذكرى الشيعة : ص5 .

ولابدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال ، قال الغزالي على ما حكاه في النهاية : « المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يُقِم دليلاً في المسألة ، بل قال : أنا نافٍ ، ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ؛ وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ ، فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ،

-------------------

هذا ( ولابدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال ) ونرى هل انه يقول بنفي الاستصحاب مطلقا كما يستظهره المصنِّف من عبارته ، أو يقول بالتفصيل كما استظهره النهاية وغيرها ؟ .

( قال الغزالي على ما حكاه في النهاية ) : ان ( « المستصحب ) بصيغة إسم الفاعل ( إن أقرّ بأنّه لم يُقِم دليلاً في المسألة ) على حجية الاستصحاب معتذرا : بأن الاستصحاب ليس سوى إبقاء الحالة الاُولى إلى الحالة الثانية ، وإبقاء ما كان ، ليس إثبات شيء جديد حتى يحتاج إلى دليل جديد ( بل قال : أنا نافٍ ) أي : ناف لانتقاض الحالة الاُولى ومنكر لحدوث شيء جديد على خلاف الحالة السابقة ( ولا دليل على النافي ) لأن المثبت يحتاج إلى الدليل دون النافي .

وعليه : فان أقرّ وقال بأنه ناف ( فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ) أيضا، كما انه يجب الدليل على المثبت ، لأن هذا النافي يريد اثبات الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة .

( وإن ظنّ إقامة الدليل ) على حجية الاستصحاب ، مثل الاستدلال : بان ما ثبت دام ( فقد أخطأ ، فإنّا نقول ) في بيان خطائه : ( إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ) وحيث ان الدليل الدال على الدوام : من النص والاجماع وغير ذلك لم يكن موجودا ، فلا وجه لاستصحاب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة .

ص: 155

فان كان لفظ الشارع فلابدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده .

وإن دلّ بعمومها على دوامه عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص ،

-------------------

وعليه : ( فان كان ) ذلك الدليل الدال على الدوام هو : ( لفظ الشارع ، فلابدّ من بيانه ) أي : بيان ذلك اللفظ الدال على جريان الحكم في الحالة اللاحقة حتى نعرفه ( فلعلّه ) أي : ذلك اللفظ غير عام ، بل خاص ( يدلّ على دوامها ) أي : دوام الطهارة ( عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده ) أي : عند وجود الخروج من غير السبيلين أيضا .

والحاصل : ان الشارع الذي قال بأنه متطهر ، لعل كلامه كان خاصا بما إذا لم يخرج شيء من غير السبيلين ، امّا إذا خرج شيء من غير السبيلين فلا يقول الشارع بانه متطهر .

( وإن ) كان ذلك اللفظ عاما وقد ( دلّ بعمومها على دوامه ) أي : دوام التطهّر ( عند العدم ) للخروج ( والوجود ) للخروج ( معا ) بأن كان لفظ الشارع يقول : انه متطهّر سواء خرج من غير السبيلين شيء أم لم يخرج ( كان ذلك ) الدوام لما بعد الخروج في الحالة الثانية ( تمسكا بالعموم ) لا بالاستصحاب ، وإذا كان تمسّكا بالعموم ( فيجب إظهار دليل التخصيص ) لذلك العموم يعني : ان على من يريد خلاف ذلك العموم ويقول بأن الخارج من غير السبيلين ناقض الاستدلال عليه .

والحاصل : ان لفظ الشارع ان كان خاصا بالتطهّر قبل الخروج ، كان من يريد تعميمه إلى ما بعد الخروج محتاجا إلى الدليل ، وان كان لفظ الشارع عاما يعمّ التطهر قبل الخروج وبعد الخروج ، كان من يقول بعدم تطهره بعد الخروج

ص: 156

وإن كان الاجماع ، فالاجماع إنّما إنعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود .

ولو كان الاجماع شاملاً حال الوجود ، كان المخالف خارقا له ، كما أنّ المخالف في إنقطاع الصلاة عند هبوب

-------------------

محتاجا إلى الدليل ومعلوم : انه لا ربط للوجهين بالاستصحاب .

هذا إتمام الكلام في الدليل الأوّل وهو : بأن كان الدليل الدال على الدوام هو : لفظ الشارع .

( وإن كان ) الدليل الدال على الدوام هو ( الاجماع ، فالاجماع إنّما إنعقد على دوام الصلاة عند العدم ) أي : عند عدم وجدان الماء للمتيمم ، أو عدم خروج شيء من غير السبيلين للمتطهر ( دون الوجود ) أي : دون ما إذا وجد الماء أو خرج شيء من غير السبيلين ، فانه لا يشمله الاجماع .

هذا ( ولو كان الاجماع شاملاً حال الوجود ) للماء ، أو حال الوجود للخروج أيضا ، بمعنى : ان الاجماع لو إنعقد على انه سواء وجد الماء أم لم يوجد ، خرج شيء أم لم يخرج ، فهو متطهّر ( كان المخالف ) في دوام الصلاة الذي يقول : بأن وجدان الماء ، أو الخروج يبطل التيمم والتطهر ( خارقا له ) أي : للاجماع لا للاستصحاب ، وهذا الوجهان كالوجهين السابقين لا ربط لهما بالاستصحاب أيضا .

إذن : فالدليل في الصورة الاُولى كان هو النص لا الاستصحاب ، والدليل في هذه الصورة وهي الصورة الثانية : كان هو الاجماع لا الاستصحاب .

وعليه : فالمخالف في دوام الصلاة الذي يقول ببطلانها فيما نحن فيه خارق للاجماع ( كما أنّ المخالف في إنقطاع الصلاة ) الذي يقول ببطلانها ( عند هبوب

ص: 157

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارقٌ للاجماع ، لأنّ الاجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب ، وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ،

-------------------

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارقٌ للاجماع ) لا للاستصحاب أيضا .

وإنّما يكون المخالف في دوام الصلاة عند وجود الماء أو الخروج خارقا للاجماع إذا كان الاجماع شاملاً لحال الوجود والعدم كما فرض في مثال المتيمم والمتطهر ، ويكون المخالف في إنقطاع الصلاة عند الهبوب والطلوع خارقا للاجماع إذا كان الاجماع مختصا بحال عدم الهبوب والطلوع كما فرض في مثال الهبوب والطلوع ، بينما الاجماع في المثالين ليس كذلك حقيقة ، وذلك ( لأنّ الاجماع لم ينعقد ) على دوام الصلاة ( مشروطا بعدم الهبوب ، و ) عدم الطلوع ، بل إنعقد مطلقا يشمل حال الوجود والعدم في مثال الهبوب والطلوع ، كما لم ينعقد الاجماع على دوام الصلاة مطلقا في مثال المتيمم والمتطهّر ، بل ( انعقد مشروطا بعدم الخروج ) من غير السبيلين في المتطهر ( وعدم الماء ) في أثناء الصلاة للمتيمّم ( فإذا وجد ) الماء أو الخروج ( فلا إجماع ) على بقاء التطهّر والتيمم بعده .

والحاصل : انه لا اجماع يدل على بقاء التطهر والتيمم في الحالة الثانية .

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني وهو : بأن كان الدليل الاجماع .

وامّا الدليل بأن نقيس حالة ما بعد وجدان الماء ، وما بعد الخروج من غير السبيلين، على حالة ما قبل الوجدان وما قبل الخروج ، فكما انه يكون ما قبلهما متطهرا ، فكذلك يكون ما بعدهما متطهرا أيضا .

ص: 158

فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ، فامّا أن يستصحب الاجماع عند إنتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البرائة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وكذا هنا : إنعقد الاجماع بشرط العدم ، فانتفى الاجماع عند الوجود .

وهنا دقيقة ، وهو : أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن إستصحابه مع الخلاف ، والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ،

-------------------

( ف ) نجيب عن القياس : بأن القياس في الأزمان كالقياس في الأفراد باطل ، إضافة انه قياس مع الفارق ، إذ ( يجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ) بين الوجود والعدم من وحدة مناط ، والشبه ( فامّا أن يستصحب الاجماع عند إنتفاء الجامع ) كما فيما نحن فيه ( فهو محال ) لوضوح : ان الاجماع قد إنعقد على حال العدم ، فلا يقاس عليه حال الوجود ، لأنه لا إجماع فيه .

( وهذا كما أنّ العقل دلّ على البرائة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له ) أي : للعقل ( دلالة مع وجود دليل السمع ) فلا يقاس ما فيه بيان بما ليس فيه بيان ( وكذا هنا : إنعقد الاجماع بشرط العدم ) أي : عدم وجدان الماء وعدم الخروج من غير السبيلين ( فانتفى الاجماع عند الوجود ) لهما .

( وهنا دقيقة ) يلزم ملاحظتها ( وهو : أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن إستصحابه مع الخلاف ) فيما إذا كانت الحالة الثانية خلاف الحالة الاُولى ( والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ) .

ص: 159

بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه ، فانّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته تشمل لمحل الخلاف ، فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لِمَن لا يُبيّتِ الصّيام من الليل » ، شامل بصيغته صوم رمضان ، مع خلاف الخصم فيه ،

-------------------

إذن : فالاجماع إنّما قام على التطهر قبل وجدان الماء ، وقبل الخروج من غير السبيلين ، امّا بعدهما فلا إجماع ، بل فيه خلاف ، ومع وجود الخلاف لا يكون هناك إجماع ( بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه ) أي : إذا كان خلاف في المسألة لم يكن ذلك الخلاف ضارا بالعموم ، أو ضارا بالنص ، أو ضارا بدليل العقل .

أو الفرق بين العموم والنص واضح ، فان النص نص في مفاده ، بينما العموم ظاهر في مفاده .

وعليه : ( فانّ المخالف ) أي : الذي لا يقول بأن الحالة الثانية كالحالة الاُولى ، أو الذي لا يقول بأن الفرد الثاني كالفرد الأوّل ( مقرّ بأنّ العموم ، بصيغته تشمل لمحل الخلاف ) فالخلاف هنا في اللفظ لا يضادّ العموم والنص ودليل العقل ، بينما الخلاف هناك في الاجماع يضادّ كونه مجمعا عليه .

وعليه : ( فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لمن لا يُبيّت الصّيام من الليل » (1) ) إذا اختلفوا في ان هذا الحكم هل يشمل شهر رمضان أيضا ، أو لا يشمل شهر رمضان ؟ فان هذا الاختلاف لا يضر بعموم اللفظ لأنه ( شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ) أي : في صوم شهر رمضان بأنه

ص: 160


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص132 ح5 .

فيقول : اُسلّم شمول الصيغة ، لكنّي اُخصّصه بدليل ، فعليه الدليل .

وهذا ، المخالف لا يسلّم شمول الاجماع لمحل الخلاف ، لاستحالة الاجماع ، وعدم إستحالة شمول الصيغة مع الخلاف ، فهذه دقيقة يجب التنبيه لها .

-------------------

هل يلزم فيه بيتوتة الصيام من الليل أم لا ؟ .

والحاصل : إنهم إختلفوا في انه هل يلزم في شهر رمضان ان ينوي الصيام من الليل ، أو لا يلزم ؟ بينما الكل اتّفقوا على انه يلزم في غير شهر رمضان ان ينوي الصيام من الليل ، فاختلافهم في شهر رمضان لا يضر بشمول الدليل لشهر رمضان كما يشمل غير شهر رمضان أيضا .

وعليه : ( فيقول ) الخصم الذي يقول بعدم لزوم تبييت النية من الليل في شهر رمضان : ( اُسلّم شمول الصيغة ) المذكورة في النبوي لشهر رمضان أيضا ( لكنّي اُخصّصه بدليل ) خارجي فأقول لأجل ذلك الدليل المخصص : انه لا يلزم تبييت النية من الليل في شهر رمضان .

إذن : ( فعليه الدليل ) أي : على هذا الخصم المنكر للزوم تبييت النية من الليل المسلّم شمول الصيغة له أن يأتي بالدليل المخصص لهذا العام النبوي .

( و ) لكن ( هذا المخالف ) للاجماع ( لا يسلّم شمول الاجماع لمحل الخلاف ) فالاختلاف والاجماع في طرفي نقيض ، وذلك ( لاستحالة الاجماع ) في محل الخلاف ( وعدم إستحالة شمول الصيغة ) المذكورة في النبوي ( مع الخلاف ) بين الفقهاء في الحكم .

إذن : ( فهذه دقيقة يجب التنبيه لها ) فان النص يمكن ان يختلف فيه ، امّا مع وجود الاجماع فلا يمكن الاختلاف .

ص: 161

ثم قال فان قيل : الاجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف ؟ .

ثمّ أجاب : بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالاجماع ، ولم يكن المخالف خارقا للاجماع ، لأنّ الاجماع إنّما إنعقد على حالة العدم ، لا على حالة الوجود ، فمن ألْحَقَ الوجود بالعدم ، فعليه الدليل .

لا يقال دليل صحة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع ، لأنّا نقول : ذلك الدليل ليس هو الاجماع ، لأنّه مشروط بالعدم

-------------------

( ثم قال ) الغزالي : ( فان قيل : الاجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف ؟ ) أي : انه إذا كان هناك إجماع رفع ذلك الاجماع الخلاف ، وأنتم تقولون : ان الخلاف يرفع الاجماع فكيف يكون ذلك ؟ .

( ثمّ أجاب : بأنّ هذا الخلاف ) منهم في ان الحالة الثانية هل هي كالحالة الاُولى أم لا ؟ ( غير محرّم بالاجماع ، ولم يكن المخالف خارقا للاجماع ، لأنّ الاجماع إنّما إنعقد على حالة العدم ) فقط يعني : على التطهر قبل وجدان الماء ، وقبل الخروج من غير السبيلين ( لا على حالة الوجود ) لهما .

وعليه : ( فمن ألحق ) حالة ( الوجود بالعدم ، فعليه الدليل ) من نص ، أو إجماع ، أو ما أشبه ذلك ، والكل غير موجود .

( لا يقال ) : الدليل على التطهر بعد وجدان الماء ، وبعد الخروج من غير السبيلين موجود وهو : ( دليل صحة الشروع ) وهذا الدليل بنفسه ( دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع ) وذلك لأن أحكام الشرع باقية إلى ان يدل الدليل على نقص تلك الأحكام .

( لأنّا نقول : ذلك الدليل ) الدال على الدوام ( ليس هو الاجماع ، لأنّه ) أي : لأن الاجماع على دوام الصلاة ( مشروط بالعدم ) أي : بعدم وجدان الماء ، وعدم

ص: 162

فلا يكون دليلاً عند العدم ، وإن كان نصا فبيّنه حتى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا .

لا يقال لم ينكروا على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد ، أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب .

لأنّا نقول : هذا وهمٌ باطلٌ ، لأنّ كلّ ما ثبت

-------------------

الخروج من غير السبيلين ( فلا يكون ) الاجماع إذن ( دليلاً عند العدم ) أي : عند عدم الشرط وذلك بوجدان الماء ، أو الخروج من غير السبيلين .

هذا ( وإن كان ) الدليل الدال على التطهر بعد وجدان الماء ، وبعد الخروج من غير السبيلين ( نصا ، فبيّنه حتى ننظر هل يتناول حال الوجود ) للماء ، أو الخروج من غير السبيلين ( أم لا ) يتناوله ؟ .

( لا يقال ) : مقتضى القاعدة : ان التطهر متى ما وجد دام حتى يقطع بخلافه ، ووجدان الماء أو الخروج من غير السبيلين لا يوجب القطع بخلاف التطهر ، بل يوجب الشك ، ومع الشك يستصحب التطهر ، وذلك لأن الاُصوليين ( لم ينكروا على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت ) أي : ثبوت الخلاف ( هو المحتاج ) إلى الدليل .

( كما إذا ثبت موت زيد ، أو بناء دار ، كان دوامه بنفسه ) فيبقى مستمرا ( لا بسبب ) ولا بدليل ، فلا نحتاج إلى سبب ودليل يدل على دوام موته وعمارة داره ، بل دوامه بنفسه .

لا يقال ذلك ( لأنّا نقول : هذا وهمٌ باطلٌ ) فليس كل ما ثبت دام ( لأنّ كلّ ماثبت

ص: 163

جاز دوامه وعدمه ، فلابدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت .

ولولا دليل العادة على أنّ الميت لا يحيى ، والدّار لا ينهدم إلاّ بهادم ، أو طول زمان ، لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير ، وأكله ، ودخوله الدّار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فانّا لانقضي بدوامها .

وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر في دوامها

-------------------

جاز دوامه ، و ) جاز ( عدمه ) أي : عدم دوامه ( فلابدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ) .

وأما مثالهم بموت زيد وبقاء داره فهو غير صحيح لما أشار إليه بقوله :

( ولولا دليل العادة على أنّ الميت لا يحيى ، والدّار لا ينهدم إلاّ بهادم ، أو طول زمان ) كمائة سنة - مثلاً - ( لما عرفنا دوامه ) أي : دوام الموت ودوام الدار ( بمجرد ثبوته ) في الآن الأوّل .

وأما الدليل على ان كلّما ثبت دام غير صحيح ، فهو ما ذكره بقوله : ( كما لو أخبر عن قعود الأمير ، وأكله ، ودخوله الدّار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فانّا لانقضي بدوامها ) وما نحن فيه من قبيل قعود الأمير ونحوه ، لا من قبيل موت زيد ونحوه كما قال : ( وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ) حيث قد تيمّم ودخل في الصلاة فانه ( ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ) أي مع وجود الماء وحصوله في الأثناء .

إذن : ( فيفتقر في دوامها ) أي : في دوام الصلاة بعد وجدان الماء في أثناء

ص: 164

إلى دليل آخر » ، إنتهى .

ولا يخفى : أنّ كثيرا من كلماته خصوصا قوله : أخيرا ، « خبر الشارع عن دوامها » صريحٌ في أنّ هذا الحكم غير مختص بالاجماع ، بل يشمل كلّ دليل يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعلي في الزمان الأوّل .

-------------------

الصلاة ( إلى دليل آخر » (1) ) غير دليل أصل التيمم ( إنتهى ) كلام الغزالي .

هذا ( ولا يخفى : أنّ كثيرا من كلماته خصوصا قوله : أخيرا ، « خبر الشارع عن دوامها » ) أي : عن دوم الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر ، فان قوله هذا ( صريحٌ في أنّ هذا الحكم ) أي : عدم الحكم في الآن الثاني بما حكم به في الآن الأوّل ( غير مختص بالاجماع ) .

وعليه : فقد ظهر انه لا يلزم في عدم حجية الاستصحاب ، ان يكون دليل الحكم في الآن الأوّل هو الاجماع ( بل يشمل كلّ دليل ) إجماعا كان أم غير إجماع ( يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان ) .

إذن : فالدليل لو كان مهملاً وساكتا من حيث الزمان بأن لم يدل على انه هل هو في الزمان الأوّل فقط ، أو في جميع الأزمنة ؟ يعني ما لم يكن ( بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعلي ) أي : مدلول ذلك لادليل ( في الزمان الأوّل ) ولا بحيث يقطع بشمول مدلوله للزمان الثاني ، وإنّما هو ساكت عن ذلك ، فهذا الدليل الساكت سواء كان إجماعا أم غير إجماع من نص وغير نص ، فهو عند الغزالي ليس بحجة ممّا يدل على انه ينفي حجية الاستصحاب مطلقا ، لا انه يقول .

ص: 165


1- - المستصفى : ج1 ص129 مع تفاوت يسير .

والعجب من شارح المختصر ، حيث انّه نسب القول بحجيّة الاستصحاب إلى جماعة ، منهم الغزالي ، ثم قال : « ولا فرق عند من يرى صحّة الاستدلال به بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا كما يقال فيما إختلف كونه نصابا : أنّ الزكاة لم تكن واجبة عليه ، والأصل البقاء ؛ أو حكما شرعيّا ، مثل : قول الشافعي في الخارج من غير السبيلين أنّه كان قبل خروج الخارج منه متطهّرا إجماعا ، والأصل البقاء حتى يثبت معارضٌ والأصل عدمُه » ، انتهى .

-------------------

هذا ( والعجب من ) العضدي ( شارح المختصر ) لابن الحاجر ( حيث انّه نسب القول بحجيّة الاستصحاب إلى جماعة ، منهم الغزالي ، ثم قال : « ولا فرق عند من يرى صحّة الاستدلال به ) أي : بالاستصحاب ( بين أن يكون الثابت به ) أي : بالاستصحاب إما ( نفيا أصليّا ) أي : البرائة ( كما يقال فيما إختلف كونه نصابا : أنّ الزكاة لم تكن واجبة عليه ، والأصل البقاء ) أي : بقاء عدم الوجوب .

( أو حكما شرعيّا ) إيجابيا ( مثل : قول الشافعي في الخارج من غير السبيلين؛ انّه كان قبل خروج الخارج منه ) أي : من المكلّف ( متطهِّرا إجماعا ، والأصل البقاء ) أي : بقاء التطهر ( حتى يثبت معارضٌ ) أي : يثبت المخرج عن أصل التطهر ( والأصل عدمُه » (1) ) أي : عدم المعارض .

( انتهى ) كلام شارح المختصر وهو - كما رأيت - قد نسب القول بحجية الاستصحاب إلى الغزالي مع ان الغزالي منكر للاستصحاب - على ما عرفت عنه - ولذلك تعجب المصنِّف من كلام شارح المختصر ، لأنه قال ما يناقض كلام

ص: 166


1- - شرح مختصر الاصول : ج2 ص284 .

ولا يخفى : أنّ المثال الثاني ممّا نسب إلى الغزالي : إنكارُ الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ، ومن عبارة الغزالي المحكيّة عنه فيها .

ثمّ إنّ السيد صدر الدين جمع في شرح الوافية « بين قولي الغزالي تارة : بأنّ قوله بحجيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلاً من حصول الظن ، بل هو مبني على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجيّة استصحاب حال الإجماع ؛

-------------------

الغزالي ، والتناقض هو ما أشار إليه بقوله : ( ولا يخفى : أنّ المثال الثاني ) وهو الخارج من غير السبيلين ( ممّا نسب إلى الغزالي : إنكارُ الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ، ومن عبارة الغزالي المحكيّة عنه فيها ) ومع إنكاره كيف يلائم ما أسنده إليه شارح المختصر من القول بحجيته ؟ .

( ثمّ إنّ السيد صدر الدين جمع في شرح الوافية ) للفاضل التوني ( « بين قولي الغزالي ) وهما : عدم إعتبار استصحاب حال الاجماع ، وإعتبار حال سائر الأدلة فقد جمع بينهما بما يلي :

( تارة : بأنّ قوله بحجيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلاً من حصول الظن ) وإلاّ ، بأن كان الدليل على الحجية هو حصول الظن ، لزم عدم الفرق فيه بين أن يكون حصول الظن من الاجماع أو من غير الاجماع من سائر الأدلة .

قال : ( بل هو مبني على دلالة الروايات عليها ) أي : على حجية الاستصحاب ( والروايات لا تدلّ على حجيّة استصحاب حال الإجماع ) بل على حجية استصحاب النص وما أشبه ، فالروايات هي الفارق ، لدلالتها على حجية الاستصحاب في غير الاجماع ، وعدم دلالتها على حجية الاستصحاب في الاجماع .

ص: 167

واُخرى : بأنّ غرضه من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب لكان حملُ الدليل على الدوام ممكنا ، والاجماع ليس كذلك ، لأنّه يضادّ الخلاف ، فكيف يدلّ على كون المختلف فيه مُجمعا عليه ؟ كما يرشد إليه قوله : « والاجماع يضادّه نفسُ الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف النص ، والعموم ، ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه » .

ويكون غرضُه من قوله : « فلابد لدوامه من سبب » ، الردّ على من إدّعى أنّ علّة الدوام هو مجرد تحقق الشيء

-------------------

( واُخرى : بأنّ غرضه ) أي : الغزالي ( من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب ) أي : لأجل قرينة خارجية توجب العلم أو الظن بذلك ( لكان حملُ الدليل على الدوام ممكنا ) وهذا إنّما هو في غير الاجماع ، كالنص وما أشبه ، اما الاجماع فحمله على الدوام غير ممكن كما قال : ( والاجماع ليس كذلك ) أي : لا يمكن حمله على الدوام ( لأنّه يضادّ الخلاف، فكيف يدلّ ) الاجماع ( على كون المختلف فيه ) وهو الآن الثاني ( مُجمعا عليه ؟ ) .

والحاصل : ان الاجماع لا يمكن إستصحابه ، بخلاف سائر الأدلة ( كما يرشد إليه قوله : « والاجماع يضادّه نفسُ الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف النص ، والعموم ، ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه » ) لامكان أن يكون الدليل شاملاً لكلا الحالين حتى وان كان أحدهما مجمعا عليه والآخر غير مجمع عليه .

( و ) حينئذٍ : ( يكون غرضُه ) أي : الغزالي ( من قوله : « فلابد لدوامه من سبب » ، الردّ على من إدّعى أنّ علّة الدوام هو مجرد تحقق الشيء

ص: 168

في الواقع ، وأنّ الاذعان به يحصلُ بمجرد العلم بالتحقّق ، فردّ عليه بأنّه ليس الأمرُ كذلك ، وأنّ الاذعان والظنّ بالبقاء لابدّ له من أمر أيضا ، كعادة ، أو أمارة ، أو غيرهما » ، انتهى .

-------------------

في الواقع ، و ) الرد على من إدّعى : ( أنّ الاذعان به ) أي : بالدوام ( يحصلُ بمجرد العلم بالتحقّق ، فردّ عليه ) بما يلي :

أولاً : ( بأنّه ليس الأمرُ كذلك ) فان علّة الدوام ليس هو مجرد التحقق والثبوت في الواقع .

ثانيا : ( وأنّ الاذعان والظنّ بالبقاء ) علما بأن الظن تفسير للاذعان ، أو هو أعم من الاذعان ، لأن الاذعان هو الدرجة الرفيعة من الظن ، والظن يشمل حتى الدرجة الخفيفة من الرجحان ، فانه ( لابدّ له من أمر أيضا ) .

وعليه : فكما ان البقاء يحتاج إلى علة ، كذلك الاذعان والظن بالبقاء يحتاج إلى قرينة ودليل ، حتى يظن الانسان بأن الشيء السابق باق .

وان شئت قلت : ان البقاء يحتاج إلى العلة في مقام الثبوت ، والاذعان يحتاج إلى الاعتراف بالبقاء في مرحلة الاثبات ( كعادة ، أو أمارة ، أو غيرهما » ) مثل قابلية

الشيء إلى انه إذا ثبت بقى .

( انتهى ) كلام السيد الصدر في شرح الوافية .

هذا ، ولا يخفى : ان السيد الصدر لما قال في توجيهه الثاني : بكفاية قابلية الدوام للدليل في القول ببقاء الحكم الأوّل إلى الزمان الثاني ، كان كلامه هذا معرضا لأن يستشكل عليه : بان هذا التوجيه يضادّ ما قاله الغزالي : بأنه لابد من وجود سبب للدوام ، وذلك لوضوح ان قابلية الدليل للسببية غير وجود السبب .

فأجاب السيد الصدر : بأن غرض الغزالي من هذا الكلام هو : الرد على

ص: 169

أقول : أمّا الوجه الأوّل ، فهو كما ترى ، فانّ التمسّك بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصة الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم ، فضلاً عن العامة .

وأمّا الوجه الثاني : ففيه : أنّ منشأ العجب من تناقض قوليه حيث انّ ما ذكره في استصحاب حال الاجماع : من إختصاص

-------------------

من زعم ان علّة الدوام هو مجرد التحقق من غير إحتياج إلى أمر آخر ، فان الحكم لا يدوم إلاّ إذا كانت قابلية الدوام موجودة فيه ، وهذه القابلية موجودة في الأدلة وليست موجودة في الاجماع ، إذ الاجماع دليل لبّي لا يظهر منه القابلية للبقاء في الآن الثاني .

وإلى هذا الاشكال والجواب ، أشار السيد الصدر فيما مرّ من قوله : ويكون غرض الغزالي من قوله : فلابد لدوامه من سبب .

( أقول : أمّا الوجه الأوّل ) من توجيه السيد الصدر لكلام الغزالي : ( فهو كما ترى ) أي : غير تام .

وإنّما لم يكن تاما ، لأنه كما قال : ( فانّ التمسّك ) للاستصحاب ( بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصة الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم ) فانهم وان دوّنوها في كتبهم المتقدّمة ، إلاّ ان التمسك بها للاستصحاب إنّما هو في المتأخرين ( فضلاً عن العامة ) حيث إنهم لم يستدلوا بالأخبار إطلاقا .

هذا بالاضافة إلى انه لو فرضنا ان بناء المتقدمين في حجية الاستصحاب كان على الروايات ، فانه يرد عليه ان الروايات لا تكون هي الفارق بين الاجماع تشمل الاجماع وغير الاجماع على حد سواء ، فمن أين ان الروايات هي الفارق بينهما ؟.

( وأمّا الوجه الثاني : ففيه : أنّ منشأ العجب ) إنّما هو ( من تناقض قوليه ) أي : قولي الغزالي ( حيث انّ ما ذكره في استصحاب حال الاجماع : من إختصاص

ص: 170

دليل الحكم بالحالة الاُولى بعينه ، موجودٌ في بعض صور استصحاب حال غير الاجماع - فانّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد الحالة الاُولى - كما إذا ورد : أنّ الماء ينجس بالتغيير مع فرض : عدم إشعار فيه بحكم ما بعد زوال التغيّر - فانّ وجود هذا الدليل بوصف كونه دليلاً مقطوعُ العدم في الحالة الثانية ، كما في الاجماع .

وأمّا قوله « وغرضه من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول

-------------------

دليل الحكم بالحالة الاُولى ) دون الحالة الثانية فلا يستصحب إلى الحالة الثانية هو ( بعينه ، موجودٌ في بعض صور استصحاب حال غير الاجماع ) من النص وما أشبه .

ثم أشار إلى بيان بعض تلك الصور بقوله : ( فانّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد الحالة الاُولى ) وذلك ( كما إذا ورد : أنّ الماء ينجس بالتغيير مع فرض : عدم إشعار فيه ) أي : في النص ( بحكم ما بعد زوال التغيّر ) فان هذا الدليل حاله حال الاجماع كما قال : ( فانّ وجود هذا الدليل بوصف كونه دليلاً ) على الحكم ( مقطوعُ العدم في الحالة الثانية ، كما في الاجماع ) حيث ان الاجماع أيضا مقطوع العدم في الحالة الثانية .

إذن : فما هو الفارق بين هذا الدليل وبين الاجماع ، حتى يقول الغزالي : بأن الاجماع لا يستصحب إلى الحالة الثانية بخلاف الدليل حيث يستصحب إلى الحالة الثانية ؟ وهذا الاشكال لم يجب عنه السيد صدر الدين في وجهه الثاني .

( وأمّا قوله ) أي : قول السيد صدر الدين في شرح الوافية : ( « وغرضه ) أي : الغزالي ( من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول

ص: 171

في الآن الثاني ، إلى آخر ما ذكره » .

ففيه : أنّه إذا علم لدليل ، أو ظنّ لأمارة ، بوجود مظنون هذا الدليل الساكت ، أعني : النجاسة في المثال المذكور ، فامكان حمل هذا الدليل على الدوام ، إن اُريد به إمكان كونه دليلاً على الدوام، فهو ممنوعٌ ، لامتناع دلالته على ذلك ، لأنّ دلالة اللفظ لابدّ له من سبب وإقتضاء ، والمفروض عدمُه .

وإن اُريد : إمكان كونه مرادا في الواقع من الدليل ،

-------------------

في الآن الثاني ، إلى آخر ما ذكره » ) السيد صدر الدين من قوله : أو الحالة الثانية لأجل موجب ، لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ، والاجماع ليس كذلك لأنه يضادّ الخلاف ( ففيه ) ما يلي :

إنّ الإمكان الذي ذكره السيد في قوله : «لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا» غير مسقيم ، وذلك ( أنّه إذا علم لدليل ، أو ظنّ لأمارة ، بوجود مظنون هذا الدليل الساكت ) عن الحالة الثانية ( أعني : النجاسة في المثال المذكور ) وهو مثال : تغيّر الماء ثم زوال تغيّره من قبل نفسه ، حيث لا يعلم في هذه الحالة بأنه هل يستصحب النجاسة فيه أم لا ؟ فإن هذا الامكان غير تام بأي معنى من المعنيين الآتيين أخذنا الامكان ، وذلك كما قال :

( فامكان حمل هذا الدليل على الدوام ) في قوله : لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ( إن اُريد به إمكان كونه دليلاً على الدوام ، فهو ممنوعٌ ، لامتناع دلالته على ذلك ) أي : على الدوام ( لأنّ دلالة اللفظ لابدّ له من سبب وإقتضاء ، والمفروض عدمُه ) إذ دليل النجاسة ساكت عن الحالة الثانية التي هي زوال التغيّر من قبل نفسه .

( وإن اُريد : إمكان كونه ) أي : الدوام ( مرادا في الواقع من الدليل ) بأن كان

ص: 172

وإن لم يكن الدليل مفيدا له ، ففيه مع إختصاصه بالاجماع ، عند العامّة الذي هو نفس مستند الحكم ، لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النصّ وجريان مثله في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير ،

-------------------

الشارع أراد النجاسة في الحالة الثانية أيضا ، إلاّ ان الدليل الذي ذكره خاص بالحالة الاُولى كما قال : ( وإن لم يكن الدليل مفيدا له ) أي : الدوام لفرض ان الدليل ساكت عن الحالة الثانية ( ففيه ) ثلاث إشكالات :

الاشكال الأوّل : هو ما أشار إليه بقوله : ( مع إختصاصه ) أي : الامكان على المعنى الثاني ( بالاجماع عند العامّة الذي هو نفس مستند الحكم ) عندهم ( لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النصّ ) كما هو عندنا .

والحاصل : ان العامة يرون نفس الاجماع بما هو إجماع دليلاً ، والخاصة يرونه دليلاً لأنه كاشف عن الدليل وعن قول المعصوم عليه السلام لا بما هو دليل ، وبناءً على هذا الفارق ، فالخلاف يضادّ الاجماع عند العامة ، ولا يضادّه عند الخاصة ، لأن الاجماع عند الخاصة يكون كقول المعصوم عليه السلام وقول المعصوم حجة وان كان الحكم مختلفا فيه بين الفقهاء .

وعليه : فإذا كان هناك اختلاف بين الفقهاء في الحالة الثانية ، فلا يمكن ان يكون إجماع عند العامة ، ويمكن ان يكون إجماع عند الخاصة .

إذن : فالدليل المكشوف عن الاجماع عند الخاصة ، يمكن ان يكون دالاً على الدوام ، لكنه لا يمكن ان يكون دالاً على الدوام عند العامة ، لما عرفت : من ان الاجماع يضادّ الخلاف ، والمفروض وجود الخلاف في الحالة الثانية .

الاشكال الثاني : هو ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( وجريان مثله ) أي : مثل الاشكال الذي ذكرناه في الاجماع ( في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير )

ص: 173

فانّه لو ثبت دوام الحكم لم يمكن حمل الدليل على الدوام - أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثر فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الاجماع ، لأنّ مناط نفيه لذلك - كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء داره - إحتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة .

-------------------

أيضا ، فانه كما لا يمكن استصحاب الحكم الذي كان مجمعا عليه في الآن الأوّل ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الذي كان ثابتا بفعل المعصوم عليه السلام أو تقريره في الآن الأوّل .

وعليه : ( فانّه لو ثبت دوام الحكم ) من الدليل الخارجي للحالة الثانية ( لم يمكن حمل الدليل على الدوام ) لأن الاجماع والفعل والتقرير ، كلها لا يمكن إمتدادها إلى الحالة الثانية .

وأما الاشكال الثالث من إشكالات المصنِّف فهو : ( أنّ هذا المقدار من الفرق ) بين الاجماع وغيره ( لا يؤثر فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الاجماع ) وإثبات الاستصحاب في غير حال الاجماع من سائر الأدلة .

وإنّما لا يكون هذا المقدار من الفرق مؤثرا في نفي استصحاب حال الاجماع ( لأنّ مناط نفيه لذلك ) أي : لاستصحاب حال الاجماع ( كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء داره ) حيث ان الاستصحاب ثابت في موت زيد ، لأنه لا نحتمل حياته بعد الموت ، وثابت في كون داره باقية ، لأنه لا نحتمل إنهدامها في زمان قليل هو : ( إحتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة ) تدل على بقائه .

إذن : فالغزالي إنّما يقول بجريان الاستصحاب في الآن الثاني إذا كان دليل أو أمارة على البقاء في الآن الثاني ، كما في موت زيد وبناء داره ، حيث الدليل والأمارة قائمة على بقائهما ، لا إنه يقول بجريان الاستصحاب في الآن الثاني مطلقا

ص: 174

هذا ، وعلى كلّ حال : فلو فرض كون الغزالي مفصّلاً في المسألة بين ثبوت المستصحب بالاجماع وثبوته بغيره ، فيظهر ردّه ممّا ظهر من تضاعيف ما تقدّم : من أنّ أدلّة الاثبات لا يفرّق فيها بين الاجماع وغيره خصوصا ما كان نظير الاجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ،

-------------------

ولو من دون دليل أو أمارة .

وعليه : فإذا ثبت الحكم في الآن الأوّل بالاجماع ، وكان هناك دليل أو أمارة على بقاء ذلك الحكم في الآن الثاني ، أجرى الغزالي في الآن الثاني الاستصحاب أيضا لمكان ذلك الدليل أو تلك الأمارة .

إذن : فلا يكون ما ذكره السيد الصدر لتوجيه كلام الغزالي حيث فسّر إمكان الدوام بكون الدوام مرادا في الواقع في محله ، لأن الامكان وحده لا يفيد ، وإنّما يفيد إذا كان هناك دليل أو أمارة عليه .

( هذا ) تمام الكلام في الرد على توجيه السيد الصدر للتناقض الواقع بين كلامي الغزالي .

( وعلى كلّ حال : فلو فرض كون الغزالي مفصّلاً في المسألة بين ثبوت المستصحب بالاجماع ) فلا يجري فيه الاستصحاب ( وثبوته بغيره ) من سائر الأدلة ، فيجري فيه الاستصحاب ، فإذا سلمنا إنه من المفصّلين ، فتفصيله هذا مردود ولا وجه له وذلك كما قال : ( فيظهر ردّه ) أي : ردّ هذا التفصيل ( ممّا ظهر من تضاعيف ما تقدّم : من أنّ أدلّة الاثبات ) للاستصحاب ( لا يفرّق فيها بين الاجماع وغيره ) من سائر الأدلة ، فيلزم القول بجريان الاستصحاب فيهما معا ، أو عدم جريان الاستصحاب فيهما معا ( خصوصا ما كان نظير الاجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ) ونظير الاجماع هو ما تقدّم : من تقرير المعصوم عليه السلام

ص: 175

خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه في الواقع ، كالفعل والتقرير ، وأدلّة النفي كذلك لا يفرّق فيها بينهما أيضا .

نعم ، قد يفرّق بينهما :

-------------------

وفعله ، وذلك ( خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه ) أي : من غير الاجماع ( في الواقع كالفعل والتقرير ) .

إذن : فالدليل إذا لوحظ بالنسبة إلى الحالة الثانية ، إنقسم على أربعة أقسام :

الأوّل : ما يكون دالاً على ثبوت الحكم في الحالة الثانية بالعموم أو الاطلاق .

الثاني : ما يكون دالاً على عدم ثبوته في الحالة الثانية ونفيه عنها ، سواءً كان بالمفهوم أم بالمنطوق .

الثالث : ما يكون مجملاً بالنسبة إلى دلالته على ثبوت الحكم في الحالة الثانية بمعنى إحتمال إرادته منه وإن لم يكن الدليل دالاً عليه دلالة قطعيةً .

الرابع : ما يكون مهملاً بالنسبة إلى ثبوت الحكم في الحالة الثانية وساكتا عنه ، بحيث لو علم ثبوت الحكم في الحالة الثانية لم يعقل إرادته عن نفس الدليل ، بل لابد من إرادته من دليل آخر ، فيدل على ثبوت الحكم في الواقع ، لا كونه مرادا من الدليل الأوّل ، كما في القسم الثالث .

هذا كله تمام الكلام في حال الاجماع وغيره بالنسبة إلى أدلة الاثبات ، حيث قلنا : انه لا فرق في تلك الأدلة بين الاجماع وغيره .

( و ) اما بالنسبة إلى ( أدلّة النفي ) فهي ( كذلك لا يفرّق فيها بينهما ) أي : بين الاجماع وغيره ( أيضا ) أي : كما لم يفرّق بينهما في أدلة الاثبات .

( نعم ، قد يفرّق بينهما ) أي : بين الأدلة اللفظية وبين الاجماع ونحوه من الفعل والتقرير بما يلي :

ص: 176

بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلمُ بتحققه وعدم تحققه في الآن اللاحق .

كما إذا قال : الماء إذا تغيّر نجس ، فانّ الماء موضوع ، والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء ، وإذا قال : الماء المتغيّر نجسٌ ، فظاهره : ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ، لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود .

كما إذا قال : الكلبُ نجسٌ ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد إستحالته ملحا .

-------------------

أولاً : ( بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلمُ بتحققه وعدم تحققه ) أي : تحقق الموضوع ، وعدم تحقق الموضوع بسبب الاستصحاب ( في الآن اللاحق ) والنص المبيّن هو : ( كما إذا قال : الماء إذا تغيّر نجس ، فانّ الماء موضوع ، والتغيّر قيد للنجاسة ) لأنه قد قيّد الماء بقوله : إذا تغيّر ( فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب

النجاسة للماء ) الذي هو الموضوع .

( و ) أما ( إذا قال : الماء المتغيّر نجسٌ ) بأن جعل التغيّر صفة للماء لا شرطا له

( فظاهره : ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ) .

وإنّما لا يمكن الاستصحاب ( لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود ) في الحالة الثانية عند زوال التغير .

وعليه : فيكون حال قوله : الماء المتغيّر نجس ( كما إذا قال : الكلبُ نجسٌ ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد إستحالته ملحا ) لزوال الموضوع الذي هو

ص: 177

فإذا فرضنا إنعقاد الاجماع على نجاسة الماء المتصف بالتغيّر ، فالاجماع أمر لبّي ليس فيه تعرّضٌ لبيان كون الماء موضوعا ، والتغير قيدا للنجاسة أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر .

وكذلك إذا إنعقد الاجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثم مات ، فانّه لا يتعيّن الموضوع حتى يحرز عند إرادة الاستصحاب .

-------------------

عبارة عن الكلب بسبب تحوّله إلى الملح .

ثانيا : بأن الموضوع في الاجماع ليس مبيّنا ( فإذا فرضنا إنعقاد الاجماع على نجاسة الماء المتصف بالتغيّر ، فالاجماع أمر لبّيّ ) والأمر اللّبي ( ليس فيه تعرّضٌ لبيان كون الماء موضوعا ، والتغير قيدا للنجاسة ) حتى يكون حاله حال قوله : الماء إذا تغيّر تنجّس ، فإذا زال تغيّره أمكن استصحاب النجاسة فيه ( أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر ) حتى يكون حاله حال قوله : الماء المتغيّر نجس ، فإذا زال تغيّره لم يمكن الاستصحاب فيه .

( وكذلك إذا إنعقد الاجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ، ثم مات ) فانه لا يمكن استصحابه ، لأنا لا نعلم هل الموضوع هو : مطلق المجتهد حتى إذا مات لم ينتف الموضوع ، لأن مطلق المجتهد يشمل كونه حيا أو ميتا ، أو الموضوع هو : المجتهد الحي حتى إذا مات انتفى الموضوع ، لأن المجتهد المتلبس بوصف الحياة لا يشمل كونه ميتا ؟ وحيث لم نعلم الموضوع في الدليل اللبي الذي هو الاجماع ، فلا يمكن الاستصحاب فيه .

إذن : ( فانّه لا يتعيّن الموضوع ) في الدليل اللبّي الذي هو الاجماع ( حتى يحرز عند إرادة الاستصحاب ) بقاء الموضوع فيه فلا يمكن استصحابه ، وذلك لما عرفت : من انه لابد من إحراز الموضوع حتى يجري الاستصحاب .

ص: 178

لكن هذا الكلام جار في جميع الأدلّة غير اللفظية .

مع ما سيجيء وتقدّم : من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب بالعرف ، لا بالمداقّة ولا بمراجعة الأدلّة الشرعية ، فيكفي في دفع الفرق المذكور ، فتراهم يُجْرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ، كما سيجيء في مسألة إشتراط بقاء الموضوع إن شاء اللّه .

-------------------

( لكن هذا الكلام ) وهو : كون الاجماع أمرا لبيا ، فلا يتعيّن فيه الموضوع حتى يمكن احرازه عند الاستصحاب ، ليس في محله ، لانه يرد عليه ما يلي :

أولاً : انه ( جار في جميع الأدلّة غير اللفظية ) كالفعل والتقرير ، فلا خصوصية لهذا الكلام بالاجماع .

ثانيا : ( مع ما سيجيء وتقدّم : من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب ) انما هو ( بالعرف ، لا بالمداقّة ) العقلية ( ولا بمراجعة ) ما اخذ موضوعا في ( الأدلّة الشرعية ) .

وعليه : فإذا عرفنا الموضوع العرفي للحكم المجمع عليه ، جاز إستصحابه بلا حاجة إلى الدقة العقلية ، ولا معرفة اللفظ الشرعي ، فيكون حال الاجماع حال غيره في جواز الاستصحاب .

إذن : ( فيكفي ) كون الموضوع عرفيا ( في دفع الفرق المذكور ) بين الاجماع وغيره ( فتراهم ) أي : العرف ( يُجرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ) بلا فرق منهم بين الاجماع وغيره ( كما سيجيء في مسألة إشتراط بقاء الموضوع ) وإحراز بقائه عرفا في جواز الاستصحاب ( إن شاء اللّه ) تعالى .

ص: 179

حجّة القول التاسع :

وهو التفصيل بين ما ثبت إستمرار المستصحب وإحتياجه في الارتفاع إلى الرافع وبين غيره - ما يظهر من آخر كلام المحقق في المعارج ، كما تقدّم في نقل الأقوال ، حيث قال : « والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فان كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ،

-------------------

والمتحصل من ذلك كله : ان الغزالي ليس مفرّقا بين الاجماع وبين غيره في الاستصحاب ، ولو فرض انه مفرق فلا دليل له عليه ، وإنّما يلزم القول بعدم الفرق بين الاجماع وبين غير الاجماع ، في جواز الاستصحاب ، أو في نفي الاستصحاب .

( حجّة القول التاسع : وهو التفصيل بين ما ثبت إستمرار المستصحب وإحتياجه في الارتفاع إلى الرافع ) فيستصحب ( وبين غيره ) وهو الشك في المقتضي فلا يستصحب ، فحجته هو : ( ما يظهر من آخر كلام المحقق في المعارج كما تقدّم في نقل الأقوال ، حيث قال : ) المحقق هناك ما يلي :

( « والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ) الذي نريد إستصحابه ( فان كان يقتضيه مطلقا ) كالبيع ونحوه حيث لم نعلم هل انه بطل بسبب وقوع بعض المبطلات المشكوكة في إبطالها للبيع ، أم لا ؟ ( وجب الحكم باستمرار الحكم ) الذي كان في الآن الأوّل ، فنستصحبه إلى الآن الثاني .

مثلاً : ( كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ) أي : من دون تقييده

ص: 180

فإذا وجد الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : « حلّ الوطي ثابتٌ قبل النطق بها فكذا بعده » ، كان صحيحا فإنّ المقتضي للتحليل - وهو العقد - إقتضاه مطلقا ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملاً بالمقتضي .

لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق .

« لأنّا نقول :

-------------------

بشيء ، فقد قال سبحانه : « نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم » (1) ونحو ذلك من الأدلة المطلقة لحل الوطي بسبب النكاح .

وعليه : ( فإذا وجد الخلاف ) بين العلماء ( في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ) مثل لفظ خليّة ، وبريّة ، ونحوهما ممّا كان من باب الشبهة الحكمية ( فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها ) أي : بهذه الألفاظ ( لو قال : « حلّ الوطي ثابت قبل النطق بها ) أي : بهذه الألفاظ ( فكذا بعده » ) أي : بعد النطق بها ( كان ) إستدلاله ( صحيحا ) .

وإنّما كان إستدلاله صحيحا لأنه كما قال : ( فإنّ المقتضي للتحليل - وهو العقد - إقتضاه مطلقا ) أي : سواء جرت هذه الألفاظ أم لم تجر ( ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ) المطلق ( فيثبت الحكم ) بحل الوطي ( عملاً بالمقتضي ) الذي هو النكاح .

( لا يقال : إنّ المقتضي ) لحلّ الوطي ( هو العقد ) بمعنى : العلقة الزوجية ( ولم يثبت أنّه باق ) بعد جريان هذه الألفاظ ، فيكون الشك فيه من الشك في المقتضي.

( « لأنّا نقول ) : بل المقتضي لحل الوطي هو اللفظ لا العلقة الزوجية ،

ص: 181


1- - سورة البقرة : الآية 223 .

وقوع العقد إقتضى حلّ الوطي لا مقيّدا ، فيلزم دوام الحل ، نظرا إلى وقوع المقتضي لا دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتى يثبت الرافع . فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ، لم يكن ذلك عملاً بغير دليل ؛ وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » ، انتهى .

-------------------

ومع ( وقوع ) لفظ ( العقد ، إقتضى حلّ الوطي ) إقتضاءً مطلقا ( لا مقيّدا ) بعدم هذه الألفاظ المشكوكة .

وعليه : ( فيلزم دوام الحل ، نظرا إلى وقوع المقتضي ) وهو وقوع لفظ العقد ( لا دوامه ) أي : لا نظرا إلى دوام المقتضي حتى يقال : لم يثبت انه باق بعد هذه الألفاظ ، فيكون من الشك في المقتضي .

إذن : فإنا لا ندّعي دوام الحل حتى يقال : لو كنا نعلم دوام الحل لم نحتج إلى الاستصحاب ، ولا ندّعي دوام المقتضي حتى يقال : لم يثبت انه باق بعد هذه الألفاظ ، وإنّما نقول المقتضي قد وجد ولم نعلم بارتفاعه ، فاللازم القول ببقائه ( فيجب أن يثبت الحلّ حتى يثبت الرافع ) وثبوت الرافع إنّما هو بألفاظ الطلاق المعروفة لا بهذه الألفاظ .

وعليه : ( فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ) : من شمول إطلاق الدليل للآن الثاني ، ويقول في ذلك : بأنه عمل من غير دليل ، فنقول له : بأنه ( لم يكن ذلك عملاً بغير دليل ) وإنّما لدليل وهو الاطلاق .

( وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » (1) ) ولا نقول به .

( انتهى ) كلام المحقق في المعارج .

ص: 182


1- - معارج الاصول : ص209 .

وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى : كفاية وجود المقتضي ، وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضي .

وفيه : أنّ الحكم بوجود الشيء لا يكون إلاّ مع العلم بوجود علّته التامّة التي من أجزائها عدم الرافع ، فعدم العلم به يوجب عدم العلم بتحقق العلّة التامّة ، إلاّ أن يثبت التعبّد من الشارع بالحكم بالعدم عند عدم العلم به ، وهو عين الكلام في إعتبار الاستصحاب .

-------------------

( وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى : كفاية وجود المقتضي ، وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضي ) فما دام لا نعلم بأن هناك رافعا للمقتضي نحكم ببقاء المقتضي .

( وفيه : أنّ الحكم بوجود الشيء لا يكون إلاّ مع العلم بوجود علّته التامّة التي من أجزائها عدم الرافع ) وذلك بأن نعلم بأن المقتضي موجود وبأن الرافع مفقود أيضا ، فعلمنا بوجود المقتضي وحده لا يكفي لأن نقول ببقاء المعلول .

إذن : ( فعدم العلم به ) أي : بعدم الرافع الذي هو جزء العلة ( يوجب عدم العلم بتحقق العلّة التامّة ) فلا نتمكن من الحكم ببقاء المعلول ( إلاّ أن يثبت التعبد من الشارع بالحكم بالعدم ) أي : الحكم بعدم الرافع ( عند عدم العلم به ) وذلك بأن يقول الشارع : إذا علمت بوجود المقتضي ولم تعلم بوجود الرافع ، فاحكم ببقاء الحكم الذي هو المعلول لذلك المقتضي .

( وهو ) أي : ثبوت هذا التعبد من الشارع ، وعدم ثبوته ( عين الكلام في إعتبار الاستصحاب ) أي : أول الكلام ، فلا يمكن ان يتخذه المحقق دليلاً على حجية الاستصحاب .

ص: 183

والأولى : الاستدلال له بما إستظهرناه من الروايات السابقة - بعد نقلها - من أنّ النقض : رفعُ الأمر المستمر في نفسه ، وقطع الشيء المتصل كذلك ، فلابد أن يكون متعلّقه ما يكون له إستمرار وإتصال وليس ذلك نفس اليقين ، لانتقاضه بغير إختيار المكلّف ، فلا يقع في حيّز التحريم ، ولا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف ، لارتفاعها بارتفاعه قطعا .

-------------------

( و ) عليه : فان ( الأولى : الاستدلال له ) أي : للقول التاسع وهو التفصيل بين الشك في الرافع فيجري فيه الاستصحاب ، وبين الشك في المقتضى فلا يجري فيه الاستصحاب ان يكون ( بما إستظهرناه من الروايات السابقة بعد نقلها ) أي : بعد نقل تلك الروايات ، فانّ الظرف متعلق بالاستظهار يعني : نقلها الروايات أولاً، ثم إستظهرنا منها ذلك المعنى .

أمّا ما استظهره منها فهو كما قال : ( من أنّ النقض : رفعُ الأمر المستمر في نفسه، وقطع الشيء المتصل كذلك ) أي في نفسه ( فلابد أن يكون متعلّقه ) أي : متعلق القطع أيضا ( ما يكون له إستمرار وإتصال ) في نفسه .

هذا ( وليس ذلك ) الشيء المستمر والمتصل ( نفس اليقين ، لانتقاضه ) أي : لانتقاض اليقين ( بغير إختيار المكلّف ) عند الشك ، فان اليقين ينتقض تلقائيا ( فلا يقع في حيّز التحريم ) حتى يقول الشارع : لا تنقض اليقين .

( ولا أحكام اليقين من حيث هو ) أي : اليقين ( وصف من الأوصاف ) النفسية، كما تقدّم فيما إذا نذر التصدق في كل يوم بدرهم ما دام كونه متيقنا ببقاء ولده ، فانه إذا شك في بقائه ذهبت صفته النفسية وذهبت معها وجوب التصدق .

وإنّما قال : لا احكام اليقين ( لارتفاعها ) أي : إرتفاع تلك الأحكام ( بارتفاعه ) أي : بإرتفاع اليقين الذي هو صفة نفسيّة ( قطعا ) لتبدّله بالشك .

ص: 184

بل المراد به ، بدلالة الاقتضاء ، الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين ، لأنّ نقض اليقين بعد إرتفاعه لا يعقل له معنى سوى هذا .

فحينئذ : لابد أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لولا الناقض .

-------------------

( بل المراد به ) أي : بمتعلق لا تنقض ( بدلالة الاقتضاء ) وقد تقدّم معنى دلالة الاقتضاء ، وهو : ما يتوقف صدق الكلام ، أو صحته عليه ، إذ لولا هذا المعنى الذي نذكره لقوله عليه السلام : لا تنقض اليقين ، لكان الكلام امّا غير صحيح ، وامّا غير صادق ، وكلاهما غير معقول في كلام العقلاء العاديين فكيف بكلامهم صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ .

إذن : فالمراد هو : عدم نقض ( الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين ) فانه إذا تيقن بالوضوء ، فالوضوء متعلق اليقين ، فهو المتيقن ولهذا الوضوء الذي هو المتيقن أحكام مثل : دخول الصلاة ، وصحة الطواف ، ومسّ كتابة القرآن ، وما أشبه ذلك .

وإنّما يكون المراد منه : الأحكام الثابتة للمتيقن ( لأنّ نقض اليقين بعد إرتفاعه ) من نفسه بسبب الشك وزوال الصفة النفسية عن الانسان ( لا يعقل له ) أي : للنهي عن نقضه ( معنى سوى هذا ) الذي ذكرناه : من ان المراد منه هو : عدم نقض الأحكام الثابتة للمتيقن .

( فحينئذ ) أي : حين أراد من قوله : لا تنقض اليقين : لا تنقض الأحكام الثابتة للمتيقن ( لابد أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ) أي : كنفس اليقين ( ممّا يكون مستمرّا ) في نفسه ( لولا الناقض ) .

وإلاّ لم يصدق عليه النقض ، فإنّ الطهارة في المثال أمر مستمر لولا الناقض ،

ص: 185

هذا ، ولكن لابدّ من التأمّل في أنّ هذا المعنى جارٍ في المستصحب العدمي أم لا ، ولا يبعد تحقّقه ، فتأمل .

ثم إنّ نسبة القول المذكور إلى المحقق ،

-------------------

بينما عند الشك في المقتضي لا يكون الأمر هكذا ، فيختص دليل الاستصحاب بما إذا كان الشك في الرافع .

( هذا ، ولكن لابدّ من التأمّل في أن هذا المعنى ) الذي ذكرناه للنقض ولزوم ان يكون متعلقه أيضا وهو المتيقن أمرا مستحكما يقتضي الاستمرار ممّا يخصّص الاستصحاب بالشك في الواقع ، هذا المعنى هل هو ( جارٍ في المستصحب العدمي أم لا ) حيث يظهر : ان العدم ليس أمرا مستحكما حتى يصدق عليه النقض ؟ ( و ) لكن ( لا يبعد تحقّقه ) أي : تحقق المعنى المذكور وجريانه في العدميات أيضا ، وذلك من جهة ان عدم العلة علة للعدم وهي مستمرة .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى ان الشك في العدمي يرجع إلى الشك في علته ، وانها هل تقتضي البقاء إلى زمن الشك أم لا ؟ فيكون الشك في المقتضي ولا يجري فيه الاستصحاب .

أو لعله إشارة إلى التأمل في أصل المطلب وهو : ان قوله عليه السلام : لا تنقض اليقين مطلق يشمل الشك في المقتضي والشك في الرافع عرفا ، والعرف هو المحكّم في أمثال هذه الاُمور ، لأنهم هم الذين القي إليهم الكلام ، فالقول بالتفصيل بين الاستصحاب في الشك في الرافع فيجري ، والشك في المقتضي فلا يجري ، خلاف ظاهر الدليل .

( ثم إنّ نسبة القول المذكور ) من التفصيل بين الشك في المقتضي فلا يجري الاستصحاب فيه ، والشك في الرافع فيجري فيه الاستصحاب ( إلى المحقق ،

ص: 186

مبنيّ على أنّ مراده من دليل الحكم في كلامه بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور : هو المقتضي ،

-------------------

مبنيّ على أنّ مراده من دليل الحكم في كلامه ) المتقدم حيث قال : والذي نختاره ان ننظر في دليل الحكم ، وذلك ( بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور : هو المقتضي ) للحكم ، لا عموم النص أو إطلاقه .

وإلاّ فمع قطع النظر عن تمثيل المحقق بعقد النكاح الدال على انه أراد من دليل الحكم : المقتضي للحكم ، لكان الظاهر : انه أراد من دليل الحكم : عموم النص أو إطلاقه - مثلاً - الشامل للحكم في الزمان الثاني بنفسه ، لا بالاستصحاب ، فيكون المحقق على ذلك من المنكرين للاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي أم في الرافع ، لكن تمثيله بالنكاح نفى عنه هذا الاحتمال .

والحاصل : ان في كلام المحقق نوع إجمال ، لأن قوله : والذي نختاره ان ننظر في دليل ذلك الحكم إلى آخره ظاهر في معنيين :

أولاً : ربما يظهر منه : انه من المفصلين بين إستصحاب عموم النص وغيره ، باعتبار الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، وهذا هو الذي فهمه صاحب المعالم ، فيكون المحقق على هذا المعنى من النافين مطلقا ، لخروج إستصحاب عموم النص عن محل النزاع ، بل لخروجه من حقيقة الاستصحاب ، كما صرّح به المصنِّف في مواضع متعددة .

ثانيا : وربما يظهر منه بقرينة تمثيله بعقد النكاح : انه من المفصلين في الاستصحاب بين ما إذا كان الشك في الرافع فحجة ، وبين ما إذا كان الشك في المقتضي فليس بحجة ، وهذا هو الذي فهمه المصنِّف ، فيكون المحقق على هذا المعنى من القائلين بالتفصيل الذي هو مختار المصنِّف أيضا .

ص: 187

وعلى أن يكون حكمُ الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الشيء ، إمّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ،

-------------------

وعليه : فنسبة هذا التفصيل ، إلى المحقق مبني على المعنى الثاني الذي فهمه المصنِّف ( وعلى أن يكون حكم الشك في وجود الرافع ) مساويا مع ( حكم الشك في رافعية الشيء ) الموجود .

مثلاً : قد نشك في انه هل أجرى ما هو مبطل للنكاح أم لا ؟ وهذا شك في وجود الرافع ، وقد نعلم انه أجرى شيئا ، لكن لا نعلم هل ان هذا الذي أجراه مبطل للنكاح أم لا ؟ وهذا شك في رافعية الموجود .

وإنّما قال المصنِّف : وعلى ان يكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الموجود ، لأنه أراد إثبات ان المحقق يقول بحجية الاستصحاب عند الشك في وجود الرافع مع ان مثال المحقق هو الشك في رافعية الموجود .

وعليه : فإذا أراد المصنِّف إثبات ان المحقق مفصّل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فيلزم عليه إثبات ما يلي :

أولاً : ان مراده من دليل الحكم هو المقتضي للحكم .

ثانيا : ان يكون الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود عنده متساويين من حيث جريان الاستصحاب فيهما .

اما إثبات ان مراده من دليل الحكم هو : المقتضي ، فبقرينة تمثيله بعقد النكاح .

واما إثبات ان الأمرين متساويان عنده من حيث الاستصحاب فبما قال :

( إمّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ) أي : على التسوية ، لأن دليل المحقق كما يجري في الشك في رافعية الموجود - على ما مثّل له - يجري في الشك في وجود الرافع أيضا فهما متساويان .

ص: 188

وإمّا لعدم القول بالاثبات في الشك في الرافعيّة ، والانكار في الشك في وجود الرافع وإن كان العكس موجودا ، كما سيجيء من المحقق السبزواري .

لكن في كلا الوجهين نظرٌ :

أمّا الأوّل ، فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ، لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العام والمخصّص .

فإذا ثبت عموم المقتضي - وهو عقد النكاح لحلّ الوطي في جميع

-------------------

( وإمّا لعدم ) القول بالفصل بين ( القول بالاثبات ) للاستصحاب ( في الشك في الرافعيّة ، والانكار ) للاستصحاب ( في الشك في وجود الرافع ) .

وعليه : فكل من قال بالاستصحاب في الشك في رافعية الموجود ، قال بالاستصحاب في الشك في وجود الرافع ( وإن كان ) التفصيل في ( العكس موجودا ) بين الأقوال ، فان هناك من يقول باثبات الاستصحاب في الشك في وجود الرافع ، وبانكاره في الشك في رافعية الموجود ( كما سيجيء ) هذا التفصيل ( من المحقق السبزواري ) قدس سره .

( لكن في كلا الوجهين ) المذكورين للدلالة على ان حكم الشك في وجود الرافع هو حكم الشك في رافعية الموجود ( نظرٌ : ) على ما يلي :

( أمّا الأوّل ) : وهو ما ذكره بقوله : «امّا لدلالة دليله المذكور على ذلك يعني : على التسوية ( فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ) المحقق للتساوي بينهما من وحدة المناط ، وذلك ( لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال ) إنّما هو ( إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العام والمخصّص ) .

وعليه : ( فإذا ثبت عموم المقتضي - وهو عقد النكاح لحلّ الوطي في جميع

ص: 189

الأوقات - فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع الشك في كونها مزيلة لقيد النكاح ، إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرد الشك في التخصيص .

-------------------

الأوقات - ) والأزمان ( فلا يجوز رفع اليد عنه ) أي : عن مقتضى عقد النكاح ( بالألفاظ التي وقع الشك في كونها مزيلة لقيد النكاح ) أو غير مزيلة له مثل : خلية وبرية .

وإنّما لا يجوز رفع اليد عنه ( إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرد الشك في التخصيص ) وذلك لأن الشك في المخصّص على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الشك في أصل المخصص وذلك بالشك في انه هل وجد المخصّص أم لا ؟ .

الثاني : الشك في مخصّصيّة الموجود وذلك بأن علم بوجود شيء ، لكن شك في ان هذا الشيء هل هو مخصّص للعام أم لا ؟ .

الثالث : الشك في مصداق المخصّص بعد العلم بتخصيص العام ، وذلك كما لو قال المولى : اكرم العلماء ثم قال : ولا تكرم الفساق منهم ، فشك في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ .

اما في القسمين الأولين فيلزم العمل بالعام ، وذلك للشك في التخصيص ، فيكون ظهور العام محكّما .

وامّا في القسم الثالث ، وهو العلم بالتخصيص والشك في مصداقه خارجا ، فيلزم الرجوع في إزالة الشبهة إلى الأدلة الخارجية مثل : إستصحاب عدالة زيد أو فسقه أو ما أشبه ذلك .

وعلى هذا : فإذا فرضنا كون المقتضي والمانع نظير العام والخاص ، وذلك

ص: 190

أمّا لو ثبت تخصيص العام - وهو المقتضي لحلّ الوطي ، أعني : عقد النكاح - بمخصّص ، وهو اللفظ الذي إتفق على كونه مزيلاً لقيد النكاح ، فإذا شك في تحققه وعدمه ، فيمكن منع التمسك بالعموم حينئذ إذ الشك ليس في طروّ التخصيص على العام ، بل في وجود ما خصّص العام به يقينا ، فيحتاج إثبات عدمه المتمّم للتمسك بالعام إلى إجراء الاستصحاب ،

-------------------

بأن كان المقتضي نظير العام ، والمانع نظير الخاص ، فلابدّ ان يكون المقتضي مؤثرا مع الشك في مانعية الموجود ، لا مع الشك في وجود المانع .

( أمّا لو ثبت تخصيص العام - و ) ذلك العام هنا ( هو المقتضي لحلّ الوطي ) وفسّر المصنِّف المقتضي بقوله : ( أعني : عقد النكاح - ) لو ثبت تخصيصه ( بمخصّص ، و ) ذلك المخصّص ( هو اللفظ الذي إتفق على كونه مزيلاً لقيد النكاح ) مثل : طالق ( فإذا شك في تحققه ) أي : تحقق ذلك المخصّص بأن كان الشك في تحقق الرافع ( وعدمه ، فيمكن منع التمسك بالعموم حينئذ ) أي : حين كان الشك في تحقق الرافع .

وإنّما يمكن منع التمسك بالعموم عند الشك في تحقق الرافع ( إذ الشك ليس في طروّ التخصيص على العام ، بل في وجود ما خصّص العام به يقينا ) فيكون التمسك بالعام النفي المخصّص من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

وعليه : ( فيحتاج إثبات عدمه ) أي : عدم وجود المخصّص ( المتمّم ) ذلك العدم ( للتمسك بالعام ) لأن التمسك بالعام يحتاج إلى رفع المانع حتى يؤثر المقتضي أثره ، فيحتاج حينئذ لاثبات عدمه ( إلى إجراء الاستصحاب ) .

والحاصل : إنّ العام موجود ، فإذا إنضم إليه دليل يدل على عدم وجود المخصص الرافع لأثر العام ، أثّر العام أثره ، وإثبات عدم وجود المخصّص الرافع ،

ص: 191

بخلاف ما لو شك في أصل التخصيص ، فإنّ العامّ يكفي لاثبات حكمه في مورد الشك .

وبالجملة : فالفرق بينهما : أنّ الشك في الرافعيّة من قبيل الشك في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه ، نظيرُ ما إذا ثبت تخصيص العلماء في : « أكرم العلماء » بمرتكبي الكبائر وشك في تخصيصه بمرتكب الصغائر ، فانّه يجب التمسك بالعموم .

-------------------

يحتاج إلى إجراء الاستصحاب .

وهذا لما عرفت ( بخلاف ما لو شك في أصل التخصيص ) بمثل خلية وبرية حيث يشك في إنها هل خصّصت العام أم لا ؟ ( فإنّ العامّ يكفي لاثبات حكمه في مورد الشك ) إذ ليس التمسك بالعام هنا من التمسك به في الشبهة المصداقية .

وإنّما يكفي العام هنا لاثبات حكمه في مورد الشك لوضوح : ان أصالة الحقيقة في العام قاضية بأن حكم مورد الشك هو حكم سائر أفراد العام داخل في العام ، فيجب العمل بالعام في المورد المشكوك ، فان أصالة الحقيقة في العام عين عموم العام لكل الأفراد ، سواء شككنا بأنه خرج أم لا ؟ .

( وبالجملة : فالفرق بينهما ) أي : بين الشك في رافعية الموجود ، والشك في وجود الرافع هو : ( أنّ الشك في الرافعيّة ) للموجود ( من قبيل الشك في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه ) به .

وعليه : فيكون ( نظيرُ ما إذا ثبت تخصيص العلماء في : « أكرم العلماء » بمرتكبي الكبائر ) بأن قال المولى : اكرم العلماء ولا تكرم العصاة ( وشك في تخصيصه بمرتكب الصغائر ) زائدا على تخصيصه بمرتكبي الكبائر ( فانّه يجب التمسك بالعموم ) لما ذكرناه : من أصالة الحقيقة ، فلا نكرم مرتكبي الكبائر ،

ص: 192

والشك في وجود الرافع شكٌ في وجود ما خصّص العام به يقينا ، نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشك في تحقق الارتكاب وعدمه ، فانّه لولا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العام في إيجاب إكرام ذلك المشكوك .

-------------------

ويجب علينا إكرام مرتكبي الصغائر من العلماء أيضا .

( والشك في وجود الرافع ) إنّما هو ( شكٌ في وجود ما خصّص العام به يقينا ) فنحتاج في نفيه إلى أصالة العدم .

وعليه : فيكون ( نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشك في تحقق الارتكاب وعدمه ) في عالم كزيد ، حيث لا نعلم هل انه إرتكب الكبيرة أم لا ؟ ( فانّه لولا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها ) أي : مرجع هذه الأصالة ( إلى الاستصحاب المختلف فيه ) والمتنازع عليه ( لم ينفع العام في إيجاب إكرام ذلك ) الفرد ( المشكوك ) في انه هل إرتكب المعصية أم لا ؟ .

والحاصل : ان ما ذكرناه - عن الشيخ - قبل أسطر : من ان نسبة التفصيل بين المقتضي والرافع إلى المحقق ، مبني على ان يكون حكم الشك في وجود الرافع هو حكم الشك في رافعية الموجود ، وذلك بأن لم يكن فرق بينهما ، فإن هذا الذي ذكرناه هناك غير صحيح .

وإنّما لم يكن صحيحا لأنّا قد ذكرنا بعد ذلك عند قولنا : وبالجملة ذكرنا : ان بينهما فرقا ، وذلك لأن كلام المحقق إنّما هو في رافعية الموجود في مثل : لفظ خلية وبرية ، لا في وجود الرافع ، وقد عرفت بعد توضيح الفرق بينهما : انه لا تساوي بينهما حتى يكون المحقق ممّن يقول بأن الشك إذا كان في الرافع ، فهو مجرى الاستصحاب .

ص: 193

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ مبنى كلام المحقق قدس سره لمّا كان على وجود المقتضي حال الشك وكفاية ذلك في الحكم بالمقتضي ، فلا فرق في كون الشك في وجود الرافع ، أو رافعيّة الموجود .

والفرق بين الشك في الخروج والشك في تحقق

-------------------

( هذا ، ولكن يمكن أن يقال ) في عدم الفرق بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود ، حتى يتم عليه كون المحقق مفصّلاً بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ما يلي :

( إنّ مبنى كلام المحقق قدس سره لمّا كان على وجود المقتضي ) للحكم بدليل تمثيله بعقد النكاح الموجب إجراء لفظه لحل الوطي مطلقا ، فإذا شك في إرتفاع الحل بمثل لفظ خليّة وبريّة وعدم إرتفاعه بها ، فالمقتضي للحل وهو اللفظ قد وجد ولم نعلم بارتفاعه ، فنحكم بوجوده ( حال الشك ) أيضا ( وكفاية ذلك ) أي : وجود المقتضي يكون كافيا ( في الحكم بالمقتضي ) - بالفتح - .

وعليه : ( فلا فرق في كون الشك في وجود الرافع ، أو رافعيّة الموجود ) .

إن قلت : انكم ذكرتم الفرق بين ما لو شك في انه هل وجد المخصّص أم لا ، حيث يعمل بالعام ؟ وبين ما لو شك في ان الذي وجد هل كان مخصّصا أم لا حيث لا يعمل بالعام ؟ ثم قستم ذلك بما نحن فيه : من انه لو شك في ان الزوج هل طلق أم لا فيتمسك ببقاء الزوجية لمكان العام ؟ ولو شك في ان اللفظ الذي أجراه هل كان من ألفاظ الطلاق أم لا ، فلا يتمسك ببقاء الزوجية ، لأن العام لا يشمله إلاّ بالاستصحاب ونحوه ؟ .

قلت : ( والفرق بين الشك في الخروج ) أي : وجود الرافع ( والشك في تحقق

ص: 194

الخارج في مثال العموم والخصوص من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل من جهة أصالة الحقيقة ، وعدم إحرازه في الثاني لعدم جريان ذلك الأصل ،

-------------------

الخارج ) أي : رافعية الموجود ( في مثال العموم والخصوص ) هو كما إذا قال المولى اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فانه قد يكون الشك في التخصيص كالشك في ان الفساق هل يشمل مرتكبي الصغائر أم لا ؟ فنعمل بالعام في مرتكب الصغيرة .

وقد يكون الشك في المصداق بعد العلم بالتخصيص كالشك في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ فلا يتمسك بالعام إلاّ باستصحاب عدم فسق زيد أو نحو الاستصحاب .

وعليه : فهذا الفرق بين الشك في الخروج ، والشك في تحقق الخارج إنّما هو ( من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل ) وهو : الشك في الخروج فان إحراز المقتضي فيه إنّما هو ( من جهة أصالة الحقيقة ) في العام الشامل لهذا الفرد المشكوك الخروج من جهة الشك في الرافع .

( وعدم إحرازه ) أي : عدم إحراز المقتضي للحكم بالعموم ( في ) المثال ( الثاني ) وهو : الشك في تحقق الخارج ، فان عدم إحرازه إنّما هو ( لعدم جريان ذلك الأصل ) فيه .

إذن : فأصالة الحقيقة إنّما تنفي خروج الفرد المشكوك الخروج ، وهو الشك في وجود الرافع ، ولا تنفي خروج الفرد الخارج وهو الشك في رافعية الوجود ، وذلك لأن أصالة الحقيقة لا ربط لها بتعيين المصداق الخارجي ، بل هي لتعيين إرادة المتكلم فقط .

ص: 195

لا لاحراز المقتضي لنفس الحكم ، وهو وجوب الاكرام في الأوّل دون الثاني ، فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين .

وأمّا دعوى عدم الفصل بين الشكّين على الوجه المذكور فهو ممّا لم يثبت .

-------------------

وعليه : فالفرق بين المثالين إنّما هو من جهة : إحراز المقتضي للحكم بالعموم في المثال الأوّل ، وعدم إحرازه في المثال الثاني ( لا : لاحراز ) أي : لا من جهة إحراز ( المقتضي لنفس الحكم وهو ) أي : نفس الحكم : ( وجوب الاكرام في الأوّل ) وهو الشك في الخروج يعني : في وجود الرافع ( دون الثاني ) وهو الشك في تحقق الخارج يعني : في رافعية الموجود .

وإنّما قال : لا لاحراز لأن المقتضي لنفس الحكم موجود في الثاني أيضا .

إذن : ( فظهر الفرق بين ما نحن فيه ) وهو : الشك في رافعية الموجود ووجود الرافع حيث قد تبيّن إنهما متساويان من جهة وجود المقتضي في كل منهما حال الشك ( وبين المثالين ) في العام والخاص أو هما : الشك في الخروج ووجود الخارج حيث قد عرفت وجود الفرق بينهما من جهة جريان أصالة الحقيقة في المثال الأوّل يعني في الشك في الخروج ، وعدم جريانها في المثال الثاني يعني : في الشك في وجود الخارج .

وعليه : فلا يقاس ما نحن فيه من قسمي المقتضي بمثالي العام والخاص .

( وأمّا ) عدم التفريق بينهما لأجل ( دعوى عدم الفصل بين الشكّين ) : الشك في رافعية الموجود ، ووجود الرافع ( على الوجه المذكور ) في كلام المصنِّف ( فهو ممّا لم يثبت ) عند المصنِّف شيئا عنه ، وذلك على ما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 196

نعم ،

-------------------

هذا ، ولا يخفى : ان قوله : وامّا دعوى ، عطف على قوله : امّا الأوّل ، فان المصنِّف قبل عدة صفحات قال : على ان يكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الشيء ، امّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ، وامّا لعدم القول بالاثبات في الشك في الرافعية والانكار في الشك في وجود الرافع ، ثم قال : لكن في كلا الوجهين نظر : أما الأوّل : فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ، إلى آخره ، ثم قال هنا : وامّا دعوى .

إذن : فقوله هنا : وامّا دعوى بمنزلة قوله : وامّا الثاني .

ثم انّ الأوثق قال في توضيح قول المصنِّف : فهو ممّا لم يثبت ، ما يلي :

«امّا لعدم الاحاطة بجميع أقوال المسألة ، وامّا لوجود القول بالفصل مثل : القول باعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعية دون الاُمور الخارجية ، لكون الشك في وجود المانع من قبيل الثاني ، لعدم تحققه في الأحكام سوى إستصحاب عدم النسخ الخارج من محل النزاع ، وفي مانعية الشيء الموجود من قبيل الأوّل .

وامّا لأنّ المسألة اُصولية ولا يعتدّ بدعوى الاجماع فيها .

وامّا لأن عدم الفصل والاجماع المركب إنّما يعتبران مع ضم إجماع بسيط إليهما ، وهو في المقام غير ثابت » (1) ، إنتهى كلام الأوثق .

( نعم ) وهذا رجوع من المصنِّف إلى القول : بأن المحقق يسوّي بين الشك في وجود الرافع ، وبين الشك في رافعية الموجود ، وذلك بعد قوله قبل عدة أسطر : وفي كلا الوجهين نظر ، حيث هناك فرّق بين وجود الرافع وبين رافعية الموجود ،

ص: 197


1- - أوثق الوسائل : ص483 القول التاسع ، التفصيل المنسوب الى المحقق .

يمكن أن يقال : أنّ المحقق قدس سره لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ، لأنّ ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعي ، بل ضروري ، كما تقدّم .

وأمّا الشبهة الموضوعية ، فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن معقد مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام .

فالتكلّم فيها إنّما يقعُ تبعا للشبهة الحكميّة

-------------------

فتداركه هنا بقوله :

نعم ( يمكن أن يقال : أنّ المحقق قدس سره لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ) متعمدا ، بل تكلم في رافعية الموجود مثل التلفظ : بخليّة وبريّة ونحوهما .

وإنّما لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ( لأنّ ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل ) أي : من قبيل وجود الرافع ، فهو ( ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه ) أي : في عدم النسخ ( إجماعي ، بل ضروري كما تقدّم ) فلم يحتج المحقق حينئذ إلى البحث والتكلم فيه .

( وأمّا الشبهة الموضوعية ) كالبلد على ساحل البحر ( فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن معقد مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام ) لأن القدماء كانوا بصدد إثبات أو نفي ان الاستصحاب هل يثبت الحكم أم لا ؟ امّا الشبهة الموضوعية ، فليست مربوطة بالحكم إبتداءً .

وعليه : ( فالتكلّم فيها ) أي : في الشبهة الموضوعية ( إنّما يقع تبعا للشبهة الحكميّة ) فمن قال بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، يقول بجريانه في الشبهة الموضوعية ، ومن لا يقول بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، لا يقول بجريانه في الشبهة الموضوعية .

ص: 198

ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الاحكام وعدم جريانه بالاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة .

فترى المنكرين يمثّلون

-------------------

( و ) حينئذ يكون تكلمهم في الشبهة الموضوعية ( من باب تمثيل جريان الاستصحاب في الاحكام وعدم جريانه ) في الأحكام ، فان تمثيلهم لذلك يكون ( بالاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة ) .

والحاصل : انه لما كان كلام القدماء في الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام، فالتكلم في الشبهة الموضوعية يقع تبعا للشبهة الحكمية ، فيكون تمثيلهم بالشبهة الموضوعية من باب مجرد المثال .

إذن : فالكلام في الشبهة الموضوعية إنّما هو تمثيل المثبت لجريان الاستصحاب في الأحكام بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، وتمثيل المنكر لعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية أيضا بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، فالمنكرون يمثّلون بالبلد الواقع على ساحل البحر وهو من الموضوعات ، والمثبتون يمثلون بزيد الغائب عن أهله وهو أيضا من الموضوعات .

وكيف كان : فقول المصنِّف في بيان المحقق يسوّي بين الشك في وجود الرافع وبين رافعية الموجود حيث قال : ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الأحكام وعدمه ، إما هو بيان لقوله : فالتكلم فيها إنّما يقع تبعا للشبهة الحكمية وإما هو بيان لوجه آخر .

وعليه : ( فترى المنكرين ) للاستصحاب في الأحكام ( يمثّلون )

ص: 199

بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة ببقائه ، فانّه لا يحكم ببقائه بمجرّد إحتماله ، والمثبتين بما إذا غاب زيدٌ عن أهله وماله ، فانّه يحرم التصرّف فيهما بمجرّد إحتمال الموت .

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المحقق

-------------------

للاستصحاب ( بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة ببقائه ) مدّة مديدة ( فانّه لا يحكم ببقائه بمجرّد إحتماله ) أي : إحتمال البقاء .

( و ) ترى ( المثبتين ) للاستصحاب في الأحكام يمثلون للاستصحاب ( بما إذا غاب زيد عن أهله وماله ) مدة يشك معها في موته ( فانّه يحرم التصرّف فيهما ) من الزواج بزوجته ، وتقسيم ماله إرثا ( بمجرّد إحتمال الموت ) .

وبهذا كله تبيّن : ان المحقق لا يفرّق بين الشك في وجود الرافع ، والشك في رافعية الموجود ، وان عدم ذكره للشك في وجود الرافع ليس لأنه يفرّق بين الشكّين وإنّما هو لأن الشك في وجود الرافع بين مقطوع الاستصحاب كما في النسخ ، وبين ما هو خارج عن كلام القدماء كالشبهة الموضوعية .

( ثمّ ) انه لا فرق في جريان الاستصحاب في الزمان الثاني ، بين ما كان الحكم أبديا وشك في نقضه برافعية الموجود ، كما تلفّظ بخليّة وبريّة ونحوهما بعد إجراء لفظ النكاح ، وبين ما كان الحكم موقتا وشك في إنه قبل إنتهاء الوقت إرتفع أو لم يرتفع ، كما لو تمرّض في أثناء شهر رمضان بما لم يعلم هل سقط عنه وجوب الصوم أم لا ؟ فيستصحب الحكم السابق في الصورتين .

إذن : فليس كلام المحقق في الشك في رافعية الموجود خاصا بالحكم الأبدي، بل يشمل الموقت أيضا .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( إنّ ظاهر عبارة المحقق )

ص: 200

وإن أوهم إختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم ، فلا يشمل ما لو كان الحكم موقتا ، حتى جعل بعضٌ هذا من وجوه الفرق بين قول المحقق والمختار بعد ما ذكر وجوها اُخر ضعيفةً غير فارقة ، لكن مقتضى دليله شموله لذلك إذا كان الشك في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء الوقت .

-------------------

من قوله: يقتضيه مطلقا ( وإن أوهم إختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم ) وذلك بجريان الاستصحاب في هذه الصورة فقط ( فلا يشمل ) كلامه على ذلك ( ما لو كان الحكم موقتا ) إلاّ انه ليس كذلك على ما عرفت .

ثم إن إيهام إختصاص كلامه بالمؤبّد كان بدرجة ( حتى جعل بعضٌ ) كصاحب الفصول ( هذا ) الاختصاص بالمؤبّد وعدم شمول كلامه للموقت ( من وجوه الفرق بين قول المحقق والمختار ) أي : ما إختاره المصنِّف من كونه أعم من التأبيد والموقت ( بعد ما ذكر وجوها اُخر ضعيفة غير فارقة ) بين قول المحقق وبين المختار .

( لكن مقتضى دليله ) أي : دليل المحقق ( شموله ) أي : شمول كلامه ( لذلك ) أي : لما كان الحكم موقتا أيضا ( إذا كان الشك في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء الوقت ) أي : قبل إنتهاء الوقت ، كما ذكرناه من مثال الصوم .

قال في الفصول : فاعلم ان ما إختاره المحقق رحمه اللّه في الاستصحاب وان كان قريبا إلى مقالتنا ، إلاّ انه يفارقها من وجوه :

الأوّل : انه لم يتعرّض لحكم الاستصحاب في غير الحكم الشرعي وإنّما ذكر التفصيل المذكور في الحكم الشرعي جريا للكلام على مقتضى المقام .

ص: 201

حجّة القول العاشر

ما حكي عن المحقق السبزواري في الذخيرة ، فانّه إستدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الاطلاق بممازجته مع المضاف النجس بالاستصحاب ،

-------------------

الثاني : انه يعبّر في سبب الحكم ان يكون مقتضيا لبقائه ما لم يمنع عنه مانع ، ليصح ان يكون دليلاً على البقاء عند الشك ، ونحن إنّما إعتبرنا ذلك ليكون مورد الاستصحاب مشمولاً لأخبار الباب .

الثالث : ان أدلة الاستصحاب عنده مختلفة على حسب إختلاف أسباب الحكم، وقضية ذلك ان لا يكون الاستصحاب حجة في مؤدّاه ، وامّا على ما إخترناه فقاعدة الاستصحاب مستندة إلى دليل عام ، وهي حجة على الحكم بالبقاء في مواردها الخاصة .

الرابع : انه اعتبر في الاستصحاب ان لا يكون الدليل الذي يقتضيه موقتا ، وهذا إنّما يعتبر عندنا فيما إذا كان الشك في تعيين الوقت مفهوما أو مصداقا دون غيره ، إنتهى .

( حجّة القول العاشر ) وهو حجية الاستصحاب فيما لو كان الشك في وجود الرافع فقط ، لا في الشك في المقتضي ، ولا في سائر أقسام الرافع وهو : ( ما حكي عن المحقق السبزواري في الذخيرة ، فانّه إستدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الاطلاق بممازجته مع المضاف النجس ) إستدل على نجاسته ( بالاستصحاب ) لنجاسة المضاف .

مثلاً : إذا كان كر من الماء المطلق ، ثم زال إطلاقه وصار مضافا بسبب مزجه بمضاف نجس فهل يتنجس ذلك الكثير أم لا ؟ إحتمالان :

ص: 202

ثمّ ردّه بأنّ إستمرار الحكم تابعٌ لدلالة الدليل ، والاجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة .

ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : « ليس ينبغي لك أن تنقضَ اليقين بالشك أبدا ، ولكن تنقُضُه بيقينٍ آخر » ، يدل على إستمرار

-------------------

الأوّل : انه يتنجس ، لاستصحاب نجاسة المضاف حيث انه كان نجسا ولم نعلم زوال نجاسته بهذا الامتزاج ، وحيث صار المائان ماءً واحدا ، فلا يمكن ان يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ، فالكل نجس .

الثاني : ما ذكره بقوله : ( ثمّ ردّه ) أي : ردّ هذا الاستصحاب لنجاسة المضاف ، وذلك ( بأنّ إستمرار الحكم ) السابق بالنجاسة إلى الزمان اللاحق ( تابعٌ لدلالة الدليل ) عليه ( والاجماع ) الذي هو الدليل في المقام ( إنّما دلّ على النجاسة ) أي : نجاسة الماء المضاف ( قبل الممازجة ) بالكر ، ولم يدل على النجاسة بعد الممازجة بالكر ، فالماء طاهر ، لأنا لا نعلم بنجاسة الكر الذي كان مطلقا ثم سلب عنه الاطلاق ، فنقول بطهارته ، وحيث صار المائان ماءً واحدا ، فلا يمكن ان يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ، فالكل طاهر .

( ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : «ليس ينبغي لك أن تنقضَ اليقين بالشك أبدا ) (1) على ما في صحيحة زرارة الثانية ( ولكن تنقُضُه بيقينٍ آخر» ) (2) على ما في صحيحته الاولى ( يدل على إستمرار

ص: 203


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع .

لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين إمّا أن يكون مستمرا ، بمعنى : أنّ له دليلاً دالاً على الاستمرار بظاهره ، أم لا ، وعلى الأوّل فالشك في رفعه يكون على أقسام .

ثم ذكر الشك في وجود الرافع والشك في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء

-------------------

أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع ) فاللازم على ذلك ان نستصحب نجاسة المضاف النجس ، وإذا استصحبنا نجاسته كان معناه : ان كل الماء صار نجسا .

( لأنّا نقول ) : ليس هذا مورد إستصحاب نجاسة المضاف ، لأن الدليل لا يشمل مثل هذا الاستصحاب ، فان ( التحقيق أنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين ) يكون على أحد وجهين : ( إمّا أن يكون مستمرا ) ذلك الحكم الشرعي ( بمعنى : أنّ له دليلاً دالاً على الاستمرار بظاهره ) وذلك بأن يكون الشك في الرافع لا في المقتضي ، وإلاّ فانّ الدليل دال على إستمرار ذلك الحكم .

( أم لا ) بأن لم يكن له دليل يدل على إستمراره ، وذلك بأن يكون الشك في المقتضي .

( وعلى الأوّل ) وهو ما كان للحكم الشرعي دليل يدل على إستمراره ( فالشك في رفعه ) أي : رفع الحكم الشرعي ( يكون على أقسام ) أربعة ( ثم ذكر ) الأقسام بقوله : أولاً : (الشك في وجود الرافع) وذلك كما إذا لم يعلم المتطهر بأنه أحدث أم لا ؟.

ثانيا : ( والشك في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء ) الذي باعتبار إجماله حصل الشك في رافعية هذا الشيء ، كما لو دلّ الدليل على ان قطع عضو المسلم حرام ، ثم دلّ دليل آخر على ان السرقة رافع لهذا الحكم ، ثم شك

ص: 204

والشك في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشك في كون الشيء رافعا مستقلاً .

ثم قال : « إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشك ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره

-------------------

في ان الأخذ من الكيس رافع للحكم أم لا ، من جهة إجمال معنى السرقة ، وان الآخذ من الكيس سرقة أو ليس بسرقة ، وهذا القسم يكون من الشك في المفهوم .

ثالثا : ( والشك في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ) أي : انّ مفهوم الرافع مبيّن وإنّما الشك في ان هذا المصداق الخارجي هل هو من ذلك المفهوم أو ليس من ذلك المفهوم ؟ كما إذا كان مفهوم البول الناقض للوضوء واضحا ، وإنّما شك في ان الذي خرج منه هل هو بول أو مذي ؟ .

رابعا : ( والشك في كون الشيء رافعا مستقلاً ) كما إذا علم ان لفظ : طالق رافع لأحكام عقد النكاح ، لكن شك في ان الألفاظ المختلف فيها مثل : خلية وبرية ، هل هي رافعة لأحكام عقد النكاح أم لا ؟ .

ثم لا يخفى : ان هذا التقسيم الرباعي يكون هكذا : فان الشك قد يكون في وجود الرافع ، وقد يكون في رافعية الموجود ، ثم ان الشك في رافعية الموجود : قد يكون من جهة الشبهة المفهومية ، وقد يكون من جهة الشبهة المصداقية ، فهذه ثلاثة أقسام ، والرابع : هو الشك بين الأقل والأكثر ، فالأقل مثل طالق فناقض قطعا ، والأكثر مثل خليّة فيشك في انه ناقض أم لا ؟ .

( ثم قال : « إنّ الخبر المذكور ) الذي ينهى فيه عن نقض اليقين بالشك ( إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشك . وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة ) وهو : الشك في وجود الرافع ( دون غيره ) من الأقسام الاُخر .

ص: 205

لأنّ غيره ، لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما شكّ في كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشك في إستمرار الحكم معه ، لا بالشك ، فإنّ الشك في تلك الصور كان حاصلاً من قبل ولم يكن بسببه نقضٌ ، وإنّما يعقل النقض حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا للحكم بسببه ،

-------------------

وإنّما يعقل في القسم الأوّل دون غيره ( لأنّ غيره ، لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما ) أي : بوجود لفظ خليّة مثلاً الذي تلفّظه ثم ( شكّ في كونه رافعا ) أم لا ، فلفظ خلية متيقّن الوجود .

( أو ) يحصل النقض ( باليقين بوجود ما يشك في إستمرار الحكم معه ) أي : مع لفظ خليّة - مثلاً - بعد التلفظ به وهو أيضا متيقن الوجود .

إذن : فالنقض في غير القسم الأوّل من أقسام الشك في رفع الحكم الشرعي يكون نقضا لليقين باليقين ( لا ) انه يكون نقضا لليقين ( بالشك ) .

وإنّما لا يكون نقضا لليقين بالشك في غير القسم الأوّل ، لأنه كما قال ( فإنّ الشك في تلك الصور ) الثلاث غير القسم الأوّل ( كان حاصلاً من قبل ) أي : من قبل اليقين بحصول مثل لفظ خليّة ، أو من قبل اليقين المنقوض بمثل لفظ خليّة .

هذا ( ولم يكن بسببه ) أي : بسبب هذا الشك في رافعية الموجود ( نقضٌ ) لليقين في صورة الثلاث ( وإنّما يعقل النقض ) في الصور الثلاث للشك في رافعية الموجود ( حين اليقين بوجود ما ) أي : لفظ خليّة بعد التلفظ به حيث ( يشك في كونه ) أي : هذا اللفظ مثل : خليّة ( رافعا للحكم بسببه ) أم لا ؟ .

وعليه : فان الشك في الصور الثلاث ، كان حاصلاً قبل اليقين بوجود الشيء

ص: 206

لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشك ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصة دون غيرها » ،

-------------------

المشكوك رفعه ، فلا يستند نقض اليقين إليه ، لامتناع حصول اليقين مع وجود العلة التامة لعدم اليقين ، وإنّما يعقل نقض اليقين حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا بسبب اليقين بوجوده لا بسبب الشك .

وعلى ذلك : فان الشيء يستند إلى العلة التامة أو الجزء الأخير منها إذا كانت مركبة ، واليقين بالوجود هو الجزء الأخير للعلة التامة للنقض ، فلا يكون في الصور الثلاث نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وإنّما يكون نقض اليقين بالشك في صورة واحدة وهو : الشك في وجود الرافع ، فإنه يحصل به .

هذا ما ذكره بعض المحشين توضيحا لكلام المصنِّف حيث قال : ( لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامة أو الجزء الأخير منها ) واليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا في الصور الثلاث جزء أخير للعلة التامة للنقض فيها ( فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشك ) بل نقض اليقين باليقين .

مثلاً : هبوب الرياح العواصف فانه يقال : ان علة السقوط هبوب الرياح العواصف ، وإذا كانت العلة التامة لسقوطه مجموع اُمور : من وهنه لقدمه ، وصب الماء عليه ، وضربه بالمعول ، فانه يقال : ان علة سقوطه هو ضربه بالمعول .

إذن : فنقض اليقين في الصور الثلاث لم يكن بالشك بل باليقين ( وإنّما يكون ذلك ) أي : نقض اليقين بالشك ( في صورة خاصة ) وهي : الصورة الاُولى يعني : الشك في وجود الرافع ( دون غيرها » (1) ) من الصور الثلاث الأخيرة التي هي :

ص: 207


1- - ذخيرة المعاد : ص115 .

انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : ظاهره : تسليم صدق النقض في صورة الشك في إستمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل ، وإنّما المانع عدم صدق النقض بالشك فيها .

ويرد عليه : أوّلاً ،

-------------------

الشك في رافعية الموجود .

( انتهى كلامه رفع مقامه ) وحاصله : انا إذا حكمنا بنجاسة الكثير في مثال الممازجة السابق ، كان من نقض اليقين باليقين ، لا نقض اليقين بالشك ، لأن المتيقن هو نجاسة المضاف قبل الممازجة ، امّا بعد الممازجة فلا نعلم بنجاسته ، فان الناقض لنجاسته لا يكون الشك ، بل هو اليقين بالممازجة .

وان شئت قلت : المضاف النجس يبقى نجسا إذا شك في انه هل إمتزج بشيء أم لا ؟ والحال انا نعلم بأنه إمتزج بالكثير المضاف ، فإذا قلنا ببقاء نجاسته ، كان من نقض اليقين بالنجاسة باليقين بالممازجة ، والرواية إنّما تقول : لا تنقض اليقين بالشك بالممازجة ، لا انها تقول : لا تنقض اليقين باليقين بالممازجة .

( أقول : ظاهره : تسليم صدق النقض في صورة الشك في إستمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل ) لأنه قال : لأن غير القسم الأوّل لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين.

إذن : فهو يسلّم صدق النقض في الصور الثلاث ( وإنّما المانع ) عنده رحمه اللّه : ( عدم صدق النقض بالشك فيها ) أي : في هذه الصور الثلاث وان النقض عنده فيها باليقين .

( ويرد عليه : أولاً ) : ان كلام السبزواري خلاف ظاهر الرواية ، لأنه جعل الشك واليقين فيها تقديريّين ، بينما ظاهر الرواية إنهما فعليّان ، فإذا كانا فعليين شملت

ص: 208

أنّ الشك واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا وبكونها بعده ، فيتعلّق اليقين بالاُولى والشك بالثانية ، واليقين والشك بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ، سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء أو بعد ، فهذا الشك كان حاصلاً من قبل ، كما أنّ اليقين باق من بعد ،

-------------------

الرواية جميع الصور الأربع ، امّا إذا كانا تقديريّين فلم تشمل الرواية إلاّ الصورة الاُولى يعني : الشك في وجود الرافع فقط .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف قائلاً : ( أنّ الشك واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة ) تلك الطهارة ( بكونها قبل حدوث ما ) أي : شيء مشتبه ( يشك في كونه رافعا ) لتلك الطهارة .

( و ) قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيدة ( بكونها بعده ) أي : بعد حدوث ما يشك في كونه رافعا .

والحاصل : الطهارة المقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشك في رافعيته ، والطهارة المقيّدة بكونها بعد حدوث ما يشك في رافعيته ( فيتعلّق اليقين بالاُولى ) أي : بالطهارة المقيدة بقبل الحدوث ( والشك بالثانية ) أي بالطهارة المقيدة ببعد الحدوث ( و ) من المعلوم : ان ( اليقين والشك بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ) فان الطهارة قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا لها متيقنة في أيّ زمان لوحظ ، وبعده مشكوكة في أيّ زمان لوحظ ( سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء ) المشكوك كونه رافعا ( أو بعد ) حدوثه .

وعليه : ( فهذا الشك ) التقديري ( كان حاصلاً من قبل ) أي : قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا ( كما أنّ اليقين ) التقديري ( باق من بعد ) أي : بعد حدوث

ص: 209

وقد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة المطلقة .

وهما بهذا الاعتبار لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشك متأخّر عن اليقين .

ولا ريب أنّ المراد باليقين والشك في قوله عليه السلام في صدر الصحيحة المذكورة : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت » ، وغيرها من أخبار الاستصحاب ، هو اليقين والشك

-------------------

ما يشك في كونه رافعا .

مثلاً : الشك التقديري في الطهارة حاصل قبل حدوث الامذاء ، كما ان اليقين التقديري بالطهارة حاصل بعد حدوث الامذاء ، فالمكلف ان يقول : انا قبل الامذاء متيقن الطهارة ، وانا بعد الامذاء مشكوك الطهارة ، وهذا اليقين والشك كلاهما يكونان قبل الامذاء كما يكونان بعد الامذاء أيضا .

( وقد يلاحظان ) : الشك واليقين ( بالنسبة إلى الطهارة المطلقة ) أي : الطهارة الفعلية من غير تقييد بما ذكر ( وهما بهذا الاعتبار ) أي : اعتبار الفعلية والاطلاق ( لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشك متأخّر عن اليقين ) .

مثلاً : قول المكلّف : اني فعلاً متيقن بالطهارة ، لا يجتمع مع قوله : اني فعلاً شاك في الطهارة ، لأن اليقين بالطهارة والشك في الطهارة ممّا لا يجتمعان في زمان واحد .

هذا ( ولا ريب أنّ المراد باليقين والشك في قوله عليه السلام في صدر الصحيحة المذكورة : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (1) ، وغيرها من أخبار الاستصحاب ) التي ذكر فيها اليقين والشك ( هو اليقين والشك ) الفعليان

ص: 210


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

المتعلّقان بشيء واحد ، أعني : الطهارة المطلقة .

وحينئذٍ : فالنقض المنهيُّ عنه هو نقض اليقين بالطهارة بهذا الشك المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين .

-------------------

( المتعلّقان بشيء واحد ، أعني : الطهارة المطلقة ) لا المتعلقان بشيئين : الطهارة المقيّدة بقبل المذي ، والطهارة المقيّدة ببعد المذي .

مضافا إلى ان الطهارة المطلقة فعلية ، والطهارة المقيدة تقديرية ، وقد عرفت : ان ظاهر الرواية هو : الفعلية لا التقديرية .

( وحينئذ ) أي : حين كان اليقين والشك متعلقين بشيء واحد أعني : الطهارة المطلقة ( فالنقض المنهيُّ عنه ) في الرواية ( هو نقض اليقين بالطهارة ) نقضا ( بهذا الشك المتأخّر ) عن اليقين ، وكذلك ( المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ) فقوله : المتأخر ، وكذا المتعلق صفة للشك .

وعليه : فالمفروض في الرواية هو طهارة الماء الكثير الذي إنقلب مضافا بالممازجة كما في المثال ، واما المفروض في كلام المحقق السبزواري فهو نجاسته .

ثم إنّ حاصل ما أورده المصنِّف على السبزواري بلفظ الأوثق هو ما يلي :

ان إجتماع اليقين والشك في زمان واحد إنّما هو فيما كان متعلّقهما مقيّدين ، وحينئذ يكون الشك فيه في زمان اليقين به تقديريا معلّقا على وجود ما يشك في رافعيته ، إذ لا نعلم بالشك الفعلي قبل وجود ما علّق عليه ، وامّا إذا كان متعلّقهما مطلقين كالطهارة المطلقة ، فلا يعقل حصول الشك الفعلي فيه حين اليقين به .

ثم قال الأوثق : نعم ، إستظهر صاحب الفصول كون المراد باليقين والشك هو الفعليان من لفظهما ، وإستظهره المصنِّف من قوله عليه السلام : لأنك كنت على يقين

ص: 211

...

-------------------

فشككت ، لأن ظاهره : إعتبار تعلق الشك بنفس ما تعلق به اليقين ، لا بشيء آخر ، وهو لا يتم إلاّ باعتبار كون الشك فعليا متأخرا عن اليقين ، ولكل وجه (1) .

وهنا لا بأس بنقل عبارة الفقيه الهمداني في بيان ما أورده المصنِّف أولاً على المحقق السبزواري ، ليتضح إيراد المصنِّف أكثر فأكثر .

قال قدس سره : توضيحه : ان اليقين والشك لا يعقل ان يتعلّقا بشيء واحد في زمان واحد ، فلابد من إختلاف : امّا في متعلق اليقين والشك ، أو في زمان نفس الوصفين ، كما في قاعدة اليقين والشك على ما تسمعه في محله .

وستعرف : ان متعلق اليقين والشك في باب الاستصحاب مختلف ، فان متعلق اليقين - مثلاً - : عدالة زيد يوم الجمعة ، أو طهارته قبل خروج المذي ، أو مضيّ زمان يشك في خروج ناقض منه ، ومتعلق الشك : عدالته يوم السبت ، وطهارته بعد خروج المذي ، أو بعد مضيّ زمان يزول يقينه بالبقاء .

فحينئذ : ان لوحظ الزمان قيدا في متعلقهما ، إجتمع الوصفان في زمان ، لصحة كون هذا المتوضئما لم يخرج منه بول أو مذي متطهرا يقينا ، وبعد خروج البول محدث يقينا ، وعند خروج المذي مشكوك الطهارة .

ومن الواضح : ان أدلة الاستصحاب لا تعمّ مواردها بهذه الملاحظة ، وإنّما تعمّها بعد فرض : وحدة متعلق اليقين والشك ، وعدم أخذ الزمان قيدا فيه ، بمعنى : ملاحظته من حيث هو ، وبهذه الملاحظة يمتنع ان يتعلق به اليقين والشك في زمان واحد .

فما دام متيقنا بطهارة زيد إمتنع ان يشك فيها ، فهو قبل خروج المذي منه

ص: 212


1- - أوثق الوسائل : ص484 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعيّة ، فهو بوصف الشك في كونه رافعا الحاصل من قبل ، سببٌ لهذا الشك .

فانّ كلّ شك لابدّ له من سبب متيقّن الوجود ، حتى الشك في وجود الرافع ،

-------------------

كان على يقين من طهارته ، وبعد خروجه صار شاكا فيها ، وهذا الشك لم يكن حاصلاً من قبل جزما ، والذي كان حاصلاً من قبل كان شكا تقديريا متعلقا بخروج المذي .

ثم قال الفقيه الهمداني : والأولى ان يقال في تقريب الايراد : بأن الشك الذي كان حاصلاً من قبل ، هو الشك في الحكم الشرعي الكلي ، وهو : ان المذي هل هو ناقض في الشريعة أم لا ؟ وهذا الشك ليس له حالة سابقة معلومة حتى يجري فيه الاستصحاب ، والشك في بقاء طهارته بعد خروج المذي منه شك في حكم شرعي جزئي ، نشأ ذلك من الجهل بالحكم الكلي ، وهذا الشك المتعلق بطهارته المتيقنة يمتنع إجتماعه مع اليقين بها .

إذن : فما زعمه المحقق المزبور نظير المناقشة المتقدّمة عند توجيه مذهب المحقق رحمه اللّه ناشئ من الخلط بين المفاهيم الكلية ومصاديقها .

هذا كل الكلام في المراد من الشك واليقين ردا على السبزواري فيما كان الشك في وجود الرافع ( وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعيّة ) للحكم كالمذي ( فهو بوصف الشك في كونه رافعا ، الحاصل ) ذلك الشك التقديري ( من قبل ) خروج المذي فهو ( سبب لهذا الشك ) الفعلي الحاصل بعد خروج المذي ( فانّ كلّ شك لابدّ له من سبب متيقّن الوجود ، حتى الشك في وجود الرافع ) لوضوح : ان كل شيء محتاج إلى سبب .

ص: 213

فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزءٌ أخيرٌ للعلّة التامّة للشك المتأخر الناقض ، لا للنقض .

وثانيا : أنّ رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه وإرتفاعه ، لا يُعقل إلاّ أن يكون مسببا عن نفس الشك ، لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق ، أو العمل بالاُصول المخالفة له لا يكون إلاّ لأجل الشك .

غاية الأمر : كون الشيء المشكوك كونه رافعا منشئا للشك .

والفرق بين الوجهين

-------------------

وعليه : ( فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزءٌ أخير للعلّة التامّة ) الموجب ( للشك المتأخر ) أي : الشك الفعلي ( الناقض ، لا ) ان وجود الشيء المشكوك علة ( للنقض ) كما يدّعيه السبزواري ، فان الشك في رافعيته الحاصل قبل وجوده جزء للعلة التامة للشك المتأخر الناقض ، ووجوده جزء أخير لها ، فالشك هو الناقض لليقين ، لا اليقين .

( وثانيا : أنّ ) النقض بمعنى : ( رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه ) أي : في بقاء المتيقن ( وإرتفاعه ، لا يُعقل إلاّ أن يكون مسببا عن نفس الشك ) الفعلي المتأخر .

وإنّما لا يعقل النقض إلاّ ان يكون مسببا عن نفس الشك المتأخر ( لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق ، أو العمل بالاُصول المخالفة له ) أي : للحكم السابق ( لا يكون إلاّ لأجل الشك ) وإلاّ لم يكن معنى للتوقف .

( غاية الأمر : كون الشيء المشكوك كونه رافعا ) للحكم كالمذي هو الذي كان هنا ( منشئا للشك ) وسببا له .

هذا ( والفرق بين الوجهين ) أي : بين ما ذكره المصنِّف فيما أورده

ص: 214

أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع والثاني إلى عدم الامكان .

وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ليس بالشك ،

-------------------

على السبزواري أولاً ، وما أورده عليه ثانيا هو : ( أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ) أي : عدم وقوع النقض باليقين ، بل بالشك ( والثاني إلى عدم الامكان ) أي : عدم إمكان وقوع النقض باليقين ، بل بالشك لعدم تعقّله .

إذن : فمرجع هذا الايراد وسابقه إنّما هو إلى : ان النقض فيما عدا الصورة الاُولى من صور الشك في الرافع ، لم يكن نقضا باليقين - كما ادّعاه المحقق السبزواري - بل نقضا بالشك ، غير انهما يفترقان فيما يلي :

الأوّل يقول : ان النقض لم يقع بسبب اليقين ، بل بسبب الشك .

الثاني يقول : ان النقض لا يمكن ان يقع بسبب اليقين ، بل بسبب الشك قطعا ، لعدم تعقله .

وحاصله : بلفظ الأوثق : « ان المراد من نقض اليقين بالشك في الأخبار : رفع اليد عن الآثار المرتبة في حال اليقين بترتيب آثار الشك : من التوقف ، أو العمل بأصالة البرائة ، أو الاشتغال ، بحسب الموارد ، ولا ريب : ان النقض في صورة الشك في مانعية ما يشك في مانعيّته كالمذي ، إنّما هو بهذا الاعتبار ، ولا يعقل حينئذ كون النقض فيها مستند إلى اليقين بوجود ما يشك في ما نعيّته لعدم كون التوقف أو العمل بالاُصول من آثار اليقين بوجوده ، بل من آثار الشك في بقاء المتيقن السابق »(1) .

( وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ) الثلاث ( ليس بالشك ) أي :

ص: 215


1- - أوثق الوسائل : ص484 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف .

ولا يخفى : أنّ ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، حصرُ الناقض لليقين السابق باليقين بخلافه ، وحرمة النقض بغيره شكّا كان أم يقينا ، بوجود ما شك في كونه رافعا .

ألا ترى أنّه لو قيل في صورة الشك في وجود الرافع أنّ النقض بما هو متيقّن من سبب الشك لا بنفسه

-------------------

ان اليقين في هذه الصور لم ينقض بالشك ( لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف ) فانه لم يكن يقين بالخلاف حتى يرفع اليقين السابق .

هذا ( ولا يخفى : أنّ ظاهر ما ذكره ) عليه السلام ( في ذيل الصحيحة ) المتقدمة : ( « ولكن تنقضه بيقين آخر » (1) ، حصرُ الناقض لليقين السابق باليقين بخلافه ، وحرمة النقض بغيره ) أي : بغير اليقين بالخلاف ( شكّا كان أم يقينا ، بوجود ما شك في كونه رافعا ) .

إذن : فاليقين اللاحق بخلاف اليقين السابق هو الذي يرفع اليقين السابق ، امّا غير اليقين اللاحق سواء كان ذلك الغير شكا أم كان يقينا ولكنه لم يكن بالخلاف ، لم يرفع اليقين السابق .

( ألا ترى ) وهذا إيراد رابع في بيان انه لا يعتبر في النقض منشأ الشك ، المنشأ الذي هو يقيني ، وإنّما يعتبر نفس الشك كما قال :

( أنّه لو قيل في صورة الشك في وجود الرافع ) وهي الصورة الاُولى من الصور الأربع : ( أنّ النقض ) فيها ( بما هو متيقّن من سبب الشك ) أي : ان منشأ الشك فيها كالمذي المتحقق الوجود ، هو الناقض للحالة السابقة ( لا بنفسه ) أي :

ص: 216


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

لا يُسمع .

وبالجملة : فهذا القول ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الاجماع المركّب ، بل البسيط على خلافه .

وقد يتوهّم

-------------------

لا بنفس الشك فانه لو قيل هذا ( لا يُسمع ) منه .

وعليه : فانه كما لو قيل بأن سبب الشك ، السبب الذي هو يقيني ، يرفع اليقين السابق ، لم يكن صحيحا في الصورة الاُولى يعني : صورة الشك في وجود الرافع ، فكذلك لم يكن صحيحا هذا الكلام الذي ادّعاه المحقق السبزواري في الصور الثلاث الباقية أيضا .

( وبالجملة ) وهذا إيراد خامس ( فهذا القول ) الذي ذكره السبزواري في الفرق بين الصورة الاُولى وبين الصور الثلاث من صور الشك في الرافع ( ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الاجماع المركّب ، بل البسيط على خلافه ) .

أمّا الاجماع المركب : فان من قال باعتبار الاستصحاب في الشك في وجود الرافع، قال باعتبار الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود ، وكلّ من نفاه في الصورة الثانية نفاه في الصورة الاُولى أيضا ، فالفصل بينهما باعتباره في الصورة الاُولى ، وعدم إعتباره في الصورة الثانية خرق للاجماع المركب .

بل يمكن دعوى الاجماع البسيط على خلافه وذلك بتقريب : ان الاستصحاب المختلف فيه هو غير صورة الشك في الرافع ، فالشك في الرافع خارج عن محل النزاع ، مجمع على إعتبار الاستصحاب فيه ، فالقول بعدم الاستصحاب في بعض صوره خرق للاجماع البسيط .

( وقد يتوهّم ) والمتوهم - على ما قيل - هو السيد إبراهيم القزويني صاحب

ص: 217

أنّ مورد صحيحة زرارة الاُولى ممّا أنكر المحقق المذكور الاستصحاب فيه ، لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من نقضهما للوضوء .

وفيه : ما لا يخفى : فانّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن » ، وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارةٌ على النوم ، مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ،

-------------------

الضوابط في الاُصول حيث قال : ( أنّ مورد صحيحة زرارة الاُولى ) (1) هو ( ممّا أنكر المحقق المذكور الاستصحاب فيه ) أي : ان المحقق السبزواري قد أنكر الاستصحاب في مورد صحيحة زرارة في جملة ما أنكره من موارد الاستصحاب .

ثم علّل صاحب الضوابط إنكار المحقق السبزواري للاستصحاب في مورد الصحيحة بقوله : ( لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين ) يعرضان المتوضئ، فسئل الإمام عليه السلام ( من نقضهما للوضوء ) ومعلوم : ان الشك في نقضهما شك في كون الشيء الموجود وهو : الخفقة والخفقتان هل هو مصداق للرافع المبيّن مفهوما وهو النوم أم لا ؟ والمحقق لا يرى الاستصحاب فيه ، بل ينكره .

( وفيه ) : أي : في هذا التوهم ( ما لا يخفى : فانّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن » (2) ) .

إذن : فليس السؤال عن الخفقة والخفقتين ( وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارةٌ على النوم مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ) فان الراوي سأل من الإمام عليه السلام عن مثل هذا النوم بانه هل يبطل الوضوء أم لا ؟ .

ص: 218


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فأجاب بعدم إعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمرٌ بيّنٌ ، وإلاّ فانّه على يقين ، الخ » نعم ، يمكن أن يلزم المحقق المذكور ، كما ذكرنا سابقا ، بأنّ الشك في أصل النوم في مورد الرواية ، مسبّب عن وجود ما يوجب الشك في تحقّق النوم ، فالنقض به ، لا بالشك ، فتأمّل .

-------------------

( فأجاب ) عليه السلام : ( بعدم إعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك ) النوم ( أمرٌ بيّنٌ ، وإلاّ ) بأن لم يجيء أمر بيّن على انه قد نام فلا يبطل وضوئه ( فانّه على يقين ، الخ » ) من وضوئه .

( نعم ، يمكن أن يلزم المحقق المذكور ) لكن لا بما ذكره المتوهّم ، بل ( كما ذكرنا سابقا ) عند قولنا : ألا ترى ( بأنّ الشك في أصل النوم في مورد الرواية ، مسبّب عن وجود ما يوجب الشك في تحقّق النوم ) وهو الخفقة والخفقتان فصار من الشك في رافعية الموجود .

وعليه : ( فالنقض به ) أي : بما يوجب الشك ( لا بالشك ) نفسه ( فتأمّل ) .

قال في الأوثق : « لعل الأمر بالتأمل ، إشارة إلى قول المحقق السبزواري : لكون النقض - فيما عدا صورة الشك في وجود المانع - باليقين بوجود ما يشك في مانعيته ، لا بالشك مبنيّ على انه لو كان بالشك لم يكن الشك مجتمعا مع اليقين في زمان واحد ، وهذا المبنى مفقود على زعمه في صورة الشك في وجود المانع ، لتأخر الشك فيها عن اليقين كما أشار إليه بقوله : فان الشك في تلك الصور يعني : ما عدا صورة الشك في وجود المانع ، كان حاصلاً من قبل إلى آخره ، فلا يصح الزام المحقق المذكور به » (1) .

ص: 219


1- - أوثق الوسائل : ص485 ما أفاده المحقق الخوانساري من التفصيل .

حجّة القول الحادي عشر

ما ذكره المحقق الخوانساري قدس سره في شرح الدروس ، قال عند قول الشهيد قدس سره : « ويجزيء ذو الجهات الثلاث » ما لفظه :

« حجّة القول بعدم الاجزاء الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمى بذلك ، وباستصحاب حكم النجاسة حتى يعلم لها مطهِّر شرعي ، وبدون الثلاثة لا يعلم المطهّر الشرعي .

وحسنة ابن المغيرة

-------------------

( حجّة القول الحادي عشر ) وهو القول : بأن المستصحب ان كان ممّا ثبت إستمراره فشك في وجود الغاية الرافعة لا رافعية الموجود ، أو شك في مصداق الغاية الرافعة لا مفهومها ، فالاستصحاب حجة فيهما ، وبين غيرهما ، فليس الاستصحاب حجة فيه .

وعليه : فحجة هذا القول هو : ( ما ذكره المحقق الخوانساري قدس سره في شرح الدروس قال عند قول الشهيد قدس سره ) في كتاب الدروس : ( « ويجزيء ذو الجهات الثلاث » ) من الحجر عند الاستنجاء ، فلا يلزم ان يكون ثلاثة أحجار ( ما لفظه ) كالتالي :

( حجّة القول بعدم الاجزاء ) في الاستنجاء ، بذي الجهات الثلاث اُمور :

الأوّل : ( الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمى بذلك ) أي : لا يسمى بثلاثة أحجار .

الثاني : ( وباستصحاب حكم النجاسة ) في المحل ، للعلم بنجاسته ( حتى يعلم لها مطهِّر شرعي ، وبدون ) الأحجار ( الثلاثة لا يعلم المطهّر الشرعي ) .

الثالث : ( وحسنة ابن المغيرة ) حيث فيها بعد السؤال عن انه هل للاستنجاء

ص: 220

وموثّقة ابن يعقوب لا يُخرجان عن الأصل ، لعدم صحّة سندهما ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، وأصل البرائة بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ، لا يبقى بحاله » ،

-------------------

حدّ ؟ فقال عليه السلام : لا ، حتى ينقى ما ثمّت (1) .

( و ) كذا ( موثّقة ابن يعقوب ) فان فيها بعد السؤال عن الوضوء الذي فرضه اللّه تعالى على العباد لمن جاء من الغائط ؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط (2) .

وهاتان الروايتان لا إشكال في أعمّيتهما ممّا دل على المسح بثلاثة أحجار ، فيشملان المسح بحجر ذي ثلاث جهات .

لكنّ هاتين الروايتين ( لا يُخرجان عن الأصل ) أي : عن أصل النجاسة لما يلي :

أولاً : ( لعدم صحّة سندهما ) .

ثانيا : ( خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ) (3) فان تلك الروايات صريحة في لزوم التعدد بأن يكون هناك أحجار ثلاثة ، فلا يكفي الواحد ذو الجهات الثلاث .

( و ) ان قلت : الأصل هو البرائة عن خصوصية الثلاثة .

قلت : ( أصل البرائة بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ، لا يبقى بحاله » ) لأن الاستصحاب حاكم على البرائة ، فلا مورد لأصل البرائة هنا بعد العلم بالاشتغال .

ص: 221


1- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص322 ب13 ح849 و ج3 ص439 ب25 ح4102 .
2- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص316 ب9 ح833 و ص294 ب18 ح771 و ص294 ب18 ح772 «بالمعنى» .
3- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص349 ب3 ح924 و ح925 .

إلى أن قال ، بعد منع حجّية الاستصحاب .

« إعلم أنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحاب : إثبات حكم في زمان ، لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى قسمين ، باعتبار الحكم المأخوذ فيه ، إلى شرعي وغيره .

فالأول : مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون بعد ذلك : يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلمُ برفعها .

والثاني : مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف .

فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وذهب

-------------------

( إلى أن قال ، بعد منع حجية الاستصحاب ) أي : إستصحاب النجاسة بعد مسح الموضع بالحجر ذي الجهات الثلاث : ( « إعلم أنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحاب : إثبات حكم في زمان ، لوجوده في زمان سابق عليه ) وهو عبارة اُخرى عن إبقاء ما كان ، ثم قال : ( وهو ينقسم إلى قسمين ، باعتبار الحكم المأخوذ فيه ) أي : في الاستصحاب ( إلى شرعي وغيره ) أي : غير شرعي .

( فالأول : مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون بعد ذلك : يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها ) أي : برفع النجاسة سواء كان علما وجدانيا أم علما شرعيا كقيام البيّنة ونحو البينة .

( والثاني : ) وهو غير الشرعي ( مثل ، ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان ) أي : في الزمان الثاني ( يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ) وأثره انه إذا كان قد لاقى النجس فقد تنجس هذا الثوب .

( فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ) : الشرعي وغير الشرعي ( وذهب

ص: 222

بعضهم إلى حجّية القسم الأوّل .

وإستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ، كلّها قاصرة عن إفادة المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها ، ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب ، فنقول :

« إنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلاً بكلا قسميه ، إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلاً ولا نقلاً .

نعم ، الظاهر : حجيّة الاستصحاب بمعنى آخر : وهو

-------------------

بعضهم إلى حجّية القسم الأوّل ) من الاستصحاب وهو : الشرعي فقط ( وإستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ) من الاُصول لكنها ( كلّها قاصرة عن إفادة المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها ) أي : في تلك الأدلة .

ثم قال المحقق الخوانساري : ( ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب ) وهو : باب الاستصحاب ( فنقول : « إنّ الاستصحاب بهذا المعنى ) أي : بمعنى « إبقاء ما كان » ( لا حجية فيه أصلاً ، بكلا قسميه ) الشرعي وغير الشرعي .

وإنّما لا حجية فيه ( إذ لا دليل عليه ) دليلاً ( تامّا ، لا عقلاً ولا نقلاً ) فالعقل والنقل قاصران عن الدلالة عليه .

( نعم ، الظاهر : حجيّة الاستصحاب بمعنى آخر ) غير معنى الحكم بالثبوت في الزمان الثاني وذلك إتكالاً على ثبوته في الزمان الأوّل ، فانه بهذا المعنى ليس بحجة مطلقا ، سواء كان الشك في بقائه من حيث المقتضي ، أم من حيث الرافع .

بل هو حجة بمعنى آخر ( وهو ) أي : ذلك المعنى الآخر يتم بوجود دليل شرعي يدل على الاستمرار ممّا معناه : ان لا يكون الشك في المقتضي

ص: 223

أن يكون دليل شرعي ، على أنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا ، مثلاً ، معيّن في الواقع بلا إشتراطه بشيء .

فحينئذ : إذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشك في وجوده .

والدليل على حجيّته أمران :

-------------------

بل في الرافع ، يعني : ( أن يكون دليل شرعي ، على أنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا ) كالحكم بأن الحج - مثلاً - واجب إلى حدوث حالة الصدّ عن الحج ، فالمقتضي موجود إلى ان يحصل الرافع .

( أو وقت كذا ) كالحكم بوجوب الصوم ( مثلاً ) إلى حدوث المغرب الشرعي ، فان المقتضي موجود حتى يحصل الرافع .

هذا ، وان ذلك الزمان الذي قال بثبوت الحكم إليه بعد تحققه لوجود مقتضيه فيه ( معيّن في الواقع ) وان لم يكن معيّنا عندنا بان لم نعلم هل المغرب يتحقق بعد ساعة أو ساعتين أو صدّ العدوّ لنا عن الحج يتحقق بعد مسافة فرسخ أو فرسخين ، وذلك ( بلا إشتراطه ) أي إشتراط الحكم المتحقق ( بشيء ) .

وعليه : ( فحينئذ : إذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ) من حصول الصدّ في المثال الأوّل ، والغروب في المثال الثاني ( ولا يحكم بنفيه ) أي : بنفي ذلك الحكم الشرعي ( بمجرّد الشك في وجوده ) أي : في وجود المزيل .

هذا ( والدليل على حجيّته ) أي : حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر الذي إستظهر المحقق الخوانساري حجيته ( أمران ) كما يلي :

ص: 224

أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي ، أو إقتضائي ، أو تخييري . ولمّا كان الأوّل عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين فيثبت ما ادّعيناه .

أمّا على الأوّل ، فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة - مثلاً - فعند الشك في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل

-------------------

( أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي ، أو إقتضائي ، أو تخييري ) فالحكم الوضعي عبارة عمّا سوى الأحكام الخمسة : من الجزئية والشرطية والمانعية وما أشبه ذلك، والحكم الاقتضائي عبارة عن الأحكام الأربعة : الوجوب والاستحباب والكراهة والحرمة ، والحكم التخييري عبارة عن الاباحة .

( ولمّا كان الأوّل ) وهو الحكم الوضعي ( عند التحقيق يرجع إليهما ) أي : إلى الأخيرين : الاقتضائي والتخييري ، لأن الحكم الوضعي ليس بشيء غير الأمر والنهي على ما تقدَّم تحقيقه من المصنّف ( فينحصر ) الحكم ( في الأخيرين ) : الاقتضائي والتخييري ممّا يشملان الأحكام الخمسة .

( وعلى التقديرين ) : الاقتضائي والتخييري ( فيثبت ما ادّعيناه ) من حجية الاستصحاب بهذا المعنى الذي ذكرناه ، وهو : كون الدليل الشرعي الدال على الحكم ، هو بنفسه يدل على الاستمرار والدوام .

( أمّا على الأوّل ) وهو الاقتضائي : ( فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة - مثلاً - فعند الشك في حدوث تلك الغاية ) بأن شك المكلّف في وجوب نفقة زوجته ، أو حلّية وطيها - مثلاً - للشك في انه هل حصلت الغاية الرافعة للزوجية بقوله : خليّة وبريّة أم لا ؟ فيجب الامتثال حتى يحرز الغاية الرافعة .

وعليه : فانه ( لو لم يمتثل التكليف المذكور ) من النفقة - مثلاً - ( لم يحصل

ص: 225

الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال .

فلابد من بقاء التكليف حال الشك أيضا ، وهو المطلوب .

وأمّا على الثاني ، فالأمر أظهر ، كما لا يخفى .

وثانيهما ما ورد في الروايات : من أنّ اليقين

-------------------

الظنّ ) الذي هو حجة سواء كان ظنا نوعيا كالخبر الواحد ، أم ظنا مطلقا عند من يقول بالانسداد ، فانه ما لم يمتثل التكليف لم يحصل له الظن ( بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ ) بالامتثال ( لم يحصل الامتثال ) فانه لا يخرج عن عهدة التكليف إلاّ بامتثاله وهو واضح .

وعليه : ( فلابد من بقاء التكليف حال الشك أيضا ) كما هو باق حال العلم ( وهو المطلوب ) أي : إثبات ان ذلك الحكم باق إلى حال الشك هو مطلوب المحقق الخوانساري ومراده من حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( وأمّا على الثاني ) : وهو كون الحكم تخييريا ( فالأمر أظهر ) بالنسبة إليه من الحكم الاقتضائي ( كما لا يخفى ) فان الحكم التخييري باق حال الشك أيضا ، لأن رفعه يحتاج إلى دليل يدل على الحكم الاقتضائي في هذا الجانب أو ذلك الجانب، وما لم يكن دليل على رفعه إستمر ذلك الحكم التخييري ، فبقاء الحكم حال الشك هو مطلوب المحقق الخوانساري من حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( وثانيهما ) أي : ثاني الدليلين على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر الذي إستظهره المحقق الخوانساري هو : ( ما ورد في الروايات : من أنّ اليقين

ص: 226

لا يُنقض بالشك .

فان قلت : هذا كما يدلّ على المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ، لأنّه إذا حصل اليقين في زمان ، فلا ينبغي أن يُنقض في زمان آخر بالشك نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه .

قلت :

-------------------

لا يُنقض بالشك ) (1) فاللازم إستمرار اليقين السابق حتى نعلم بخلاف ذلك اليقين .

( فان قلت : هذا ) أي : ما ذكر في الروايات من عدم نقض اليقين بالشك ( كما يدلّ على المعنى الذي ذكرته ) في الاستصحاب من كونه خاصا بالشك في الرافع ( كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ) في باب الاستصحاب من كونه أعم من الشك في الرافع والمقتضي ، فالروايات دالة على ما ذكره الأصحاب أيضا لا على ما ذكرته فقط .

وإنّما يدل على ما ذكره القوم أيضا ( لأنّه إذا حصل اليقين في زمان ، فلا ينبغي أن يُنقض في زمان آخر بالشك ) سواء كان الشك في المقتضي أم في الرافع ، وذلك ( نظرا إلى الروايات ، و ) هذا المعنى المستفاد من الروايات للاستصحاب ( هو بعينه ما ذكروه ) فلماذا الفرق بين الأمرين ؟ .

( قلت ) : هناك فرق بين ما ذكرته أنا وما ذكره القوم ، فالذي ذكرته أنا هو : لزوم دلالة الدليل الشرعي على الحكم في الزمان الثاني حتى يمكن القول بوجود الحكم فيه ، بينما القوم لا يشترطون ذلك كما قال :

ص: 227


1- - راجع تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 و ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 و ج3 ص482 ب24 ح4236 .

الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنّه عند التعارض لا يُنقض ، والمراد بالتعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك .

وفيما ذكروه ليس كذلك ، لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لولا عروض الشك ، وهو ظاهر .

فان قلت : هل الشك في كون الشيء مزيلاً للحكم مع العلم بوجوده كالشك في وجود المزيل أو لا ؟ .

-------------------

( الظاهر : أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض ) بين اليقين والشك يلزم أن ( لا يُنقض ) اليقين بالشك ( والمراد بالتعارض : أن يكون شيء ) أي : دليل ( يوجب اليقين ، لولا الشك ) وهذا هو على ما ذكرناه .

( وفيما ذكروه ) من الشك في المقتضي ( ليس كذلك ) حيث انهم لم يشترطوا دلالة الدليل على الحكم في الزمان الثاني ( لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله ) أي : حصول اليقين به ( في زمان آخر ) أي : في الزمان الثاني ( لولا عروض الشك وهو ظاهر ) وواضح .

( فان قلت : هل الشك في كون الشيء مزيلاً للحكم مع العلم بوجوده ) بأن يكون الشك في مزيليّة الموجود ، كالمذي إذا خرج منه قطعا ، لكنا لا نعلم هل انه يزيل الطهارة أم لا ؟ ( كالشك في وجود المزيل ) كالبول الذي نعلم بأنه مزيل لكنا لا نعلم هل وجد أو لم يوجد ؟ ( أو لا ؟ ) بأن لم يكن حكم الشكين حكما واحدا ؟ .

والحاصل: هل إنكم ترون صحة الاستصحاب في كليهما، أو في أحدهما فقط ؟ .

ص: 228

قلت : فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمر إلى غاية معيّنة في الواقع ثم علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا يُنقض اليقين بالشك .

وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمر في الجملة ، ومزيله الشيء الفلاني ، وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ؟ .

-------------------

( قلت ) : نحن لا نسلم إطلاق الاستصحاب ، بل نقول : ( فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمر إلى غاية معيّنة في الواقع ) بأن كان عند اللّه سبحانه - مثلاً - انّ خروج البول هو الذي يرفع الطهارة في الواقع ، لا المذي وما أشبه ( ثم علمنا صدق تلك الغاية على شيء ) كالماء المائل إلى الحمرة الخارج منه ( وشككنا في صدقها على شيء آخر ) بأن كان الشك في المصداق الخارجي : كالماء غير المائل إلى الحمرة الخارج منه وان إحتملنا انه من الحبائل والعروق الصغار التي في المجرى ونحوه .

( فحينئذٍ ) أي : حين كان الشك في المصداق ( لا يُنقض اليقين بالشك ) بل يجري الاستصحاب ، فإذا خرج منه ذلك الماء غير المائل إلى الحمرة نقول ببقاء طهارته .

( وأمّا إذا لم يثبت ذلك ) أي : لم يثبت ان الحكم مستمر إلى غاية معيّنة ( بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمر في الجملة ، ومزيله الشيء الفلاني ، وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ؟ ) كما إذا ثبت ان خيار الغبن ثابت في الجملة ، وعلمنا ان

مزيله الرضا بالعقد قطعا ، وشككنا في ان طول الزمان من الصباح إلى المساء - مثلاً - مزيل للخيار أم لا ؟ .

ص: 229

فحينئذٍ : لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت إستمراره ، إذ الدليل الأوّل غير جار فيه ، لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم .

والدليل الثاني ، الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه

-------------------

( فحينئذٍ : لا ظهور في عدم نقض الحكم ) وبقاء الخيار إلى الليل ( وثبوت إستمراره ) أي : إستمرار الحكم كالخيار في المثال إلى الليل .

وإنّما لا دليل عليه ( إذ الدليل الأوّل ) الدال على ثبوت الخيار في الجملة ( غير جار فيه ) أي : في الزمان الثاني ، وذلك ( لعدم ثبوت حكم العقل ) بجريانه ( في هذه الصورة ) التي دل دليل الحكم فيها على الثبوت في الجملة .

( خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم ) وهنا التكليف السابق المشكوك بقائه لا نعلم باستمراره ، فإذا لم نؤدّ ذلك التكليف في الآن الثاني لم نؤاخذ عليه ، لأن أصل البرائة ، ورفع ما لا يعلمون ، ونحوه يكون جاريا فيه .

هذا بعض الكلام في الدليل الأوّل للقائلين بالاستصحاب في الأعم من الرافع والمقتضي .

( والدليل الثاني ) لهم وهو : ما دل في الروايات : من ان اليقين لا يُنقض بالشك : ف ( الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ) والمجمل لا يمكن الاستدلال به .

هذا ( وغاية ما يسلّم منها ) أي : من الروايات : ( ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما ) وهما : الشك في وجود المزيل ، وكون الموجود مزيلاً من باب الشبهة المصداقية ( وإن كان فيه ) أي : في ثبوت الحكم في هاتين الصورتين

ص: 230

أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن التأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل .

فان قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه وأنت منعته ، الظاهر : أنّه من قبيل ما إعترفت به ، لأنّ حكم النجاسة ثابتٌ ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا .

وهنا لم يحصل الظنّ المعتبر شرعا بوجود المطهّر ،

-------------------

بالروايات ( أيضا بعض المناقشات ) لأن بعضا منعوا دلالة الروايات على الاستصحاب .

وكيف كان : فانه وان كان في ثبوت الحكم في هاتين الصورتين بالروايات بعض المناقشات من النافين للاستصحاب ( لكنّه لا يخلو عن التأييد للدليل الأوّل ) الذي ذكرناه لحجية الاستصحاب بالمعنى الآخر وهو : ان يكون التكليف عند الشك في الغاية الرافعة باقيا ، « ولا تنقض » يؤيده .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى انه لو قلنا بعدم دلالة الروايات على الصورتين المذكورتين بقيت الروايات بلا مورد ، وهذا ما لا يقول به أحد .

( فان قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه ) وهو بقاء النجاسة بعد المسح بالحجر الواحد ذي الجهات الثلاث في باب الاستنجاء ( وأنت منعته ) أي : منعت هذا الاستصحاب ( الظاهر : أنّه من قبيل ما إعترفت به ) أي : من قبيل الشبهة المصداقية التي إعترفت بجريان الاستصحاب فيها .

وإنّما هو من قبيل ما إعترفت بالاستصحاب فيه ( لأنّ حكم النجاسة ثابتٌ ) في محل النجو ( ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا ، وهنا لم يحصل الظنّ المعتبر شرعا بوجود المطهّر ) بعد كون الحجر واحدا .

ص: 231

لأنّ حسنة ابن المغيرة ، وموثّقة ابن يعقوب ليستا حجة شرعية ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة، فغاية الأمر حصول الشك بوجود المطهّر ، وهو « لا ينقض اليقين » .

قلت : كونه من قبيل الثاني ممنوع ، إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعي .

وما ذكر من الاجماع غير معلوم ، لأنّ غاية ما أجمعوا عليه : أنّ التغوّط إذا حصل لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا

-------------------

وإنّما لم يحصل الظن المعتبر بالمطهّر ( لأنّ حسنة ابن المغيرة (1) ، وموثّقة ابن يعقوب (2) ليستا حجة شرعية ) وان دلّتا على كفاية مطلق المزيل الصادق بالحجر الواحد ذي الجهات الثلاث ( خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة ) الدالة على لزوم ان يكون هناك ثلاثة أحجار (3) .

إذن : ( فغاية الأمر حصول الشك بوجود المطهّر ) فيما إذا إستعمل الحجر الواحد ( وهو ) أي : الشك في المطهّر ( « لا ينقض اليقين » ) بنجاسة المحل .

( قلت : كونه ) أي : كون ما نحن فيه ( من قبيل الثاني ) وهو الشك المصداقي ( ممنوع ، إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعي ) لاحتمال ان يكون زوال العين بنفسه مطهّرا كما قال به السيد المرتضى وغيره .

هذا ( وما ذكر من الاجماع ) على بقاء النجاسة ما لم يحصل مطهّر شرعي ( غير معلوم ، لأنّ غاية ما أجمعوا عليه : أنّ التغوّط إذا حصل لا يصح الصلاة

ص: 232


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص322 ب13 ح849 و ج3 ص439 ب25 ح4102 .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص316 ب9 ح833 و ص294 ب18 ح771 و 772 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص349 ب3 ح924 و ح925 .

لا بالثلاثة ولا بشُعب الحجر الواحد .

فهذا الاجماع لا يستلزم الاجماع على ثبوت حكم النجاسة حتى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا ، قد إعتبره الشارع مطهّرا فلا يكون من قبيل ما ذكرنا .

فان قلت : هب أنّه ليس داخلاً في الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : قد ثبت بالاجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع .

وهو مردّد بين المسح بثلاثة أحجار ، أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأول لم يحصل اليقين

-------------------

بدون الماء والتمسّح رأسا ) يعني : ( لا بالثلاثة ) أي : بالأحجار الثلاثة ( ولا بشُعب الحجر الواحد ) أي : بالحجر ذي الجهات الثلاث .

وعليه : ( فهذا الاجماع لا يستلزم الاجماع ) المدّعى ( على ثبوت حكم النجاسة حتى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا ، قد إعتبره الشارع مطهّرا ) وإذا لم يستلزم ذلك ( فلا يكون ) ما نحن فيه وهو المسح بالحجر الواحد ذي الجهات ( من قبيل ما ذكرنا ) من الشبهة المصداقية حتى يجري فيه الاستصحاب .

( فان قلت : هب أنّه ليس داخلاً في الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : ) يلزم المسح بالأحجار الثلاثة ، ولا يكفي الحجر الواحد ذو الجهات الثلاث ، فانه ( قد ثبت بالاجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع ) والشيء مبهم مفهومي لا مصداقي ( وهو مردّد بين المسح بثلاثة أحجار ، أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ) .

وعليه : ( فما لم يأت بالأول ) وهو المسح بثلاثة أحجار ( لم يحصل اليقين

ص: 233

بالامتثال ، والخروج عن العهدة ، فيكون الاتيان به واجبا .

قلت : نمنع الاجماع على وجوب شيء معين في الواقع مبهم في نظر المكلّف بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لاستحقّ العقاب ، بل الاجماع على أنّ ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لا يتركهما .

-------------------

بالامتثال ، و ) لا ( الخروج عن العهدة ، فيكون الاتيان به ) أي : بالأول من المسح بثلاثة أحجار ( واجبا ) وحينئذ ، فلم يثبت ما كنتم بصدده : من كفاية المسح بالحجر ذي الجهات الثلاث .

( قلت : نمنع الاجماع على ) العقد الايجابي وهو : ( وجوب شيء معين في الواقع مبهم في نظر المكلّف ) حتى يلزم الاتيان بشيء يوجب اليقين بالبرائة ( بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لاستحق العقاب ) من المولى .

( بل الاجماع على ) العقد السلبي وهو ( أنّ ترك الأمرين ) : الأحجار الثلاثة ، والحجر ذي الجهات الثلاث (معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لايتركهما) معا .

ومنه يظهر : ان الفرق بين الاعتراض الأوّل في قوله : فان قلت : الاستصحاب إلى آخره ، والاعتراض الثاني في قوله : فان قلت : هب ، إلى آخره هو ما يلي :

إنّ الاعتراض الأوّل مبناه : دعوى الاجماع على بقاء النجاسة وعدم إرتفاعها إلاّ برافع شرعي ، فما دام لم يثبت وجود الرافع يجب الحكم ببقائها ، للاستصحاب بالمعنى الذي ذكره المحقق المذكور ، بينما الاعتراض الثاني مبناه : دعوى الاجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع على المتغوط مع قطع النظر عن بقاء النجاسة وعدمها ، ومع قطع النظر عن الاستصحاب ، ومقتضاه : تحصيل الجزم بفراغ الذمّة لقاعدة الاشتغال .

والجواب : ان المقام من البرائة ، فالواجب : أحد الأمرين ، وقد أتى به حيث

ص: 234

والحاصل : أنّه إذا ورد نصٌ أو إجماع على وجوب شيء معيّن - مثلاً - معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة عندنا ، فلابد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق الامتثال ، ولا يكفي الشك في وجوده ، في إرتفاع ذلك الحكم .

وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع - على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد

-------------------

مسح بالحجر ذي الجهات الثلاث .

( والحاصل ) من ذلك كله ( أنّه ) أي : ان الحكم من جهة انه متى يستمر ، ومتى لا يستمر ، فيما إذا لم يكن مغيّى بغاية ، وفيما إذا كان مغيّى بغاية وصار الشك في نفس الغاية ، أو صار الشك قبل الغاية شكا من جهة عروض أمر يحتمل إنتهاء الحكم بذلك العارض ، فانه يكون على أربعة أقسام :

الأوّل : ( إذا ورد نصٌ أو إجماع على وجوب شيء معيّن - مثلاً - معلوم عندنا ) كما إذا ورد وجوب التطهير بالماء عند خروج البول .

الثاني : ( أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة عندنا ) كما اذا وجب الصيام إلى المغرب الشرعي .

وعليه : فإذا كان المورد من هذين القسمين ( فلابد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ ) المعتبر ( بوجود ذلك الشيء المعلوم ) عندنا أو الغاية المعينة عندنا ، وذلك ( حتى يتحقق الامتثال ) .

هذا ( ولا يكفي الشك في وجوده ) أي : وجود ذلك الشيء المعلوم عندنا ، أو الغاية المعينة عندنا ( في إرتفاع ذلك الحكم ) الواجب علينا ما لم نعلم أو نظن ظنا معتبرا بوجود ذلك الشيء المعلوم ، أو تحقق تلك الغاية المعيّنة عندنا .

الثالث : ( وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد

ص: 235

في نظرنا بين اُمور ، ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء ؛ أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويُعلم أيضا عدم إشتراطه بالعلم - مثلاً - يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة في نظرنا وبقاء ذلك

-------------------

في نظرنا بين اُمور ) كما إذا ورد وجوب إكرام الوالدين لكنه كان مردّدا عندنا بين خدمتهم فعلاً ، أو صلتهم مالاً ( ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم ) منا ( بذلك الشيء ) أي : بأن أراد الشارع العنوان منا ، فيلزم إحراز العنوان بما يحصّله .

وعليه : فإذا كان التكليف - كما في المثال - غير مشروط بالعلم وتردّد بين متباينين - مثلاً - وجب علينا الاتيان بهما لاحراز الواقع ، بينما إذا كان مشروطا بالعلم ولم يحصل العلم لنا ، فلا يجب علينا الاتيان بالأمر المردّد ، لأن فقد الشرط يوجب فقد المشروط .

الرابع : ( أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويُعلم أيضا عدم إشتراطه بالعلم - مثلاً - ) أو ما يقوم مقام العلم ، كما إذا قال المولى : إبق في الدار إلى ان تقرء سورة كذا ، وتردّدت السورة بين يس والرحمن ، حيث يجب عليه الأمران :

الأوّل : البقاء في الدار .

الثاني : قرائة السورة ، وحيث كانت السورة مردّدة بين سورتين ، وجب الاتيان بهما من باب العلم الاجمالي .

وعليه : فهنا ( يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة في نظرنا وبقاء ذلك

ص: 236

الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الاتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في إرتفاع الحكم .

وسواء في ذلك : كون الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولاً عندنا أو أشياء ، كذلك أو غاية معيّنة مجهولة عندنا أو غايات كذلك ،

-------------------

الحكم ) المغيّى ( إلى حصول تلك الأشياء أيضا ) فيكون الواجب كما قلنا : شيئين :

الأوّل : البقاء في الدار .

الثاني قرائة السورتين .

ولذا قال أيضا : ( ولا يكفي الاتيان بشيء واحد منها ) أي : من تلك الاُمور المردّدة كونها غاية ( في سقوط التكليف ) وذلك لمكان العلم الاجمالي الذي عرفته .

( وكذا ) لا يكفي ( حصول شيء واحد ) دون كل الأشياء ( في إرتفاع الحكم ) المغيّى .

( و ) هذا الحكم جار فيما نحن فيه بلا فرق بين ان يكون هذا الواجب المغيّى ، المردّد عندنا ، شيئا واحدا في الواقع ، أو أشياء متعددة ، ولا بين ان تكون الغاية المردد عندنا غاية واحدة في الواقع ، أو غايات متعددة كما قال :

( سواء في ذلك : كون الواجب ) المغيّى ( شيئا معيّنا في الواقع مجهولاً عندنا أو أشياء ، كذلك ) أي : معيّنة في الواقع مجهولة عندنا وهذا من جهة المغيّى ( أو غاية معيّنة مجهولة عندنا أو غايات كذلك ) أي : معيّنة في الواقع مجهولة عندنا ، وهذا من جهة الغاية ، فانه لا فرق في الحكم بين وحدتهما وتعددهما .

وكذا لا فرق في الحكم المذكور بين وجود قدر مشترك بين تلك الأشياء

ص: 237

وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات و تباينها بالكلّية .

وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل ورود نص مثلاً : على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونص آخر : على أنّ ذلك الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الامّة الى وجوب شيء ، وبعض آخر الى وجوب شيء آخر ، فالظاهر من النصّ والاجماع في الصورتين

-------------------

والغايات ، وبين عدم وجوده كما قال : ( وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات ) بأن كان بين الأشياء المردّد بينها الواجب ، أو الغايات المردّد بينها الغاية عموم من وجه ( أو تباينها بالكلّية ) .

هذا ( وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ) أي : بأن لم يكن من الأقسام الأربعة التي ذكرناها ، والتي كانت عبارة عمّا يلي :

1 - ورود نص أو إجماع على وجوب حكم معيّن معلوم عندنا .

2 - أو غاية معيّنة معلومة عندنا .

3 - ورود نص أو إجماع على وجوب حكم مردد عندنا .

4 - أو غاية مردّدة عندنا .

( بل ) كان قسما خامسا ، مثل ( ورود نص مثلاً : على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونص آخر : على أنّ ذلك الواجب شيء آخر ) بأن كان بين الواجبين المحتملين بتباين وتعارض ، كالظهر والجمعة في يوم الجمعة ( أو ذهب بعض الاُمّة إلى وجوب شيء ، وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر ) كما لو قام الاجماع المركب في مثال الظهر والجمعة حيث لم نعلم الواجب منهما .

( فالظاهر من النص والاجماع في الصورتين ) هاتين : صورة ورود نصين

ص: 238

أنّ ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب .

فحينئذ : لم يظهر وجوب الاتيان بهما معا حتى يتحقق به الامتثال ، بل الظاهر : الاكتفاء بواحد منهما ، سواء إشتركا في أمر أم تباينا كلّية ، وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية .

-------------------

متخالفين ، أو صورة وجود إجماع مركب من ذهاب الاُمة إلى قولين متخالفين هو : ( أنّ ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ) لا ترك أحدهما ، فاللازم ان يأتي بأحدهما .

( فحينئذ : لم يظهر وجوب الاتيان بهما معا حتى يتحقق به الامتثال ) لأن الامتثال يتحقق باتيان أحدهما ، وهذا يشير إلى ان المحقق المذكور لا يرى وجوب الاتيان بأطراف العلم الاجمالي ، وكلامه هذا ينافي كلامه السابق الظاهر منه : وجوب الاتيان بأطراف العلم الاجمالي .

وعلى أي حال : فانه قال : ( بل الظاهر : الاكتفاء بواحد منهما ، سواء إشتركا في أمر ) كمثال الظهر والجمعة في يوم الجمعة ( أم تباينا كلّية ) كما في التصدق والصلاة عند رؤية الهلال - مثلاً - .

( وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية ) إذ الدليل الذي ذكرناه لا فرق فيه بين الحكم الكلي والحكم الجزئي .

هذا ، وكأن المحقق المذكور أراد بما ذكره من قوله : والحاصل ، بيان ان الاستصحاب يجري في وجود الشك في الرافع ، أو الشك في رافعية الموجود إذا كان الشك من باب الشبهة المفهومية ، ولا يجري إذا كان الموجود مشكوك الرافعية باعتبار كون الرافع مردّدا من جهة المصداق ، أو كان الموجود مشكوكا كونه رافعا مستقلاً آخر .

ص: 239

هذا مجمل القول في هذا المقام ، وعليك التأمّل في خصوصيّات الموارد وإستنباط أحكامها عن هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المتعارضات ، واللّه الهادي إلى سواء الطريق » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

وحكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية حاشية اُخرى له عند قول الشهيد « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ، إلى آخره » ، ما لفظه : « وتوضيح الكلام : أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلاً ،

-------------------

هذا ما فهمناه من عبارته قدس سره وهو - كما رأيت - غير ما فهمه المصنّف منه ، كما إنا لم نعرف مراده في أصل مطلبه ، ولا في كيفية أخذه النتيجة من هذا المطلب ، ولعل ذلك لسقط في العبارة .

وعلى أيّ حال : فان ( هذا مجمل القول في هذا المقام ، وعليك التأمّل في خصوصيّات الموارد وإستنباط أحكامها عن هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المتعارضات ، واللّه الهادي إلى سواء الطريق » (1) ، إنتهى كلامه رفع مقامه ) وزِيْدَ في علوّ درجاته .

( وحكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية حاشية اُخرى له ) على شرحه للدروس ( عند قول الشهيد ) الأوّل : ( « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ، إلى آخره » ) والمراد بالمشتبه هو : المردّد بين إنائين مع العلم الاجمالي بأن أحدهما نجس .

قال ( ما لفظه : « وتوضيح الكلام : أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلاً ،

ص: 240


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص75 - 77 .

وما تمسّكوا لها ضعيفٌ ، وغايةُ ما تمسّكوا فيها بما ورد في بعض الروايات الصحيحة : « أنّ اليقينَ لا يُنقضُ بالشكّ » ، وعلى تقدير تسليم صحة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل وعدم منعها ، بناءا على أنّ هذا الحكم الظاهر أنّه من الاُصول ، ويشكل التمسكُ بالخبر في الاُصول ، إن سلّم التمسك به في الفروع ، نقول : أولاً : إنّه لا يظهر شموله للاُمور الخارجيّة ، مثل رطوبة الثوب ونحوها ، إذ يبعد أن يكون مرادُهم

-------------------

وما تمسّكوا لها ضعيفٌ ، وغاية ما تمسّكوا فيها ) أي : في حجية الاستصحاب إنّما هو ( بما ورد في بعض الروايات الصحيحة : « أنّ اليقينَ لا يُنقضُ بالشكّ » ) كما عرفت ورود هذا النص في جملة من الروايات (1) .

هذا ( وعلى تقدير تسليم صحة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل ) وهو حجية الاستصحاب ( وعدم منعها ) أي : عدم منع صحة الاحتجاج بالخبر في مثله ، فان المنع فيه إنّما يكون ( بناءا على أنّ هذا الحكم الظاهر ) في الاستصحاب ( أنّه من الاُصول ) حيث يترتب عليه فروع كثيرة من أول الفقه إلى آخره ، وإذا كان من الاُصول فلا يثبت بالخبر كما قال : ( و ) من المعلوم : انه ( يشكل التمسكُ بالخبر في الاُصول ، إن سلّم التمسك به في الفروع ) فان التمسك بالخبر في الفروع أيضا محل نظر ، كما عن السيد المرتضى وابن إدريس وجماعة آخرين فكيف به في الاُصول ؟ .

وكيف كان : فانه على فرض تسليم صحة الاحتجاج بالخبر لمثل الاستصحاب ( نقول : أولاً : إنّه لا يظهر شموله للاُمور الخارجيّة ) التي ليست من الأحكام الشرعية ( مثل رطوبة الثوب ونحوها ) كحياة زيد وما أشبه ذلك .

وإنّما لا يظهر شموله لها ( إذ يبعد أن يكون مرادُهم ) أي: مراد

ص: 241


1- - كصحيحة زرارة الاولى والثانية والثالثة .

بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشاءً لحكم شرعي ، وهذا ما يقال : من أنّ الاستصحاب في الاُمور الخارجية لا عبرة به .

ثم بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية فنقول : الأمر على وجهين أحدُهما أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ، والآخَرُ أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك .

-------------------

المعصومين عليهم السلام ( بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشاءً لحكم شرعي ) كما عرفت : من ان بقاء رطوبة الثوب يوجب تنجسه إذا لاقى المتنجس ، وبقاء حياة الزوج يوجب نفقة زوجته .

( وهذا ) هو معنى ( ما يقال : من أنّ الاستصحاب في الاُمور الخارجية لا عبرة به ) لما مرّ : من ان شأنهم عليهم السلام هو : بيان الأحكام لا بيان الموضوعات .

( ثم بعد تخصيصه ) أي : تخصيص الخبر الدال على الاستصحاب ( بالأحكام الشرعية ) دون الاُمور الخارجية ( فنقول : الأمر على وجهين ) كما يلي :

( أحدُهما ) : الشك في الرافع وهو : ( أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ) ويأتي ان شاء اللّه تعالى مثاله في كلامه قريبا .

( والآخَرُ ) : الشك في المقتضي وهو : ( أن يثبت ) حكم شرعي في مورد خاص ( باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك ) أي : لا يعلم من الخارج ان زوال تلك الحالة ممّا يستلزم زوال ذلك الحكم أو لا يستلزمه ؟ .

ص: 242

مثال الأوّل : إن ثبت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول ، فانّه علم من إجماع أو ضرورة : أنّ النجاسة لا تزول بزوال الملاقاة .

ومثال الثاني : ما نحن فيه ، فانّه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه وكل شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ولم يعلم بدليل من الخارج : أنّ زوال ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه لا دخل له في زوال ذلك الحكم .

-------------------

( مثال الأوّل : إن ثبت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول ، فانّه علم من إجماع أو ضرورة : أنّ النجاسة لا تزول بزوال الملاقاة ) بل ان مقتضى الروايات الدالة على بقاء النجاسة هو بقائها إلى ان يأتي المطهّر .

( ومثال الثاني : ما نحن فيه ) من الاناء المشتبه ( فانّه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه ) أي : هو كما إذا علمنا بأن النجاسة وقعت في هذا الاناء الخاص ( وكل شيء كذلك ) أي : علم بعينه انه نجس ( يجب الاجتناب عنه ) .

والحاصل : ان العلم بالنجاسة في إناء خاص بعينه موجب للاجتناب عنه قطعا ( ولم يعلم بدليل من الخارج : أنّ زوال ذلك الوصف ) : العلم بعينه ( الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه ) أي : يحصل بما إذا لم يعلم بان النجاسة وقعت في هذا الاناء أو ذاك الاناء ، فانه لم يعلم من زوال الوصف انه ( لا دخل له في زوال ذلك الحكم ) المترتب على ذلك الوصف .

وإنّما لا يعلم بانّ زوال الوصف لا دخل له في زوال الحكم ، لاحتمال ان الشارع إنّما أوجب الاجتناب عن النجاسة المعلومة ، ولم يوجب الاجتناب عن النجاسة المشكوكة بين كونها في هذا الاناء أو في ذاك الاناء حيث انه يكون

ص: 243

وعلى هذا شمولُ الخبر للقسم الأوّل ظاهرٌ ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ، وأمّا القسم الثاني : فالتمسك فيه مشكل .

فان قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل ، أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف ، فأيُّ حاجة الى التمسّك بالاستصحاب ، وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار : من أنّ اليقين لا يُنقض بالشك ؟ .

-------------------

من الشك في المقتضي .

مثلاً : إذا وقعت نجاسة في إناء ثم إشتبه ذلك الاناء باناء آخر ممّا زال بسببه وصف العلم التفصيلي، فهل النجاسة بعد هذا الاشتباه مقتض للبقاء أو ليس لها مقتض للبقاء؟ ولذا يكون الشك في النجاسة بعد الاشتباه من باب الشك في المقتضي .

( وعلى هذا ) الذي ذكرناه : من ان الأمر في الاستصحاب على قسمين ، فان ( شمول الخبر ) الدال على الاستصحاب ( للقسم الأوّل ) وهو : الشك في الرافع ( ظاهرٌ ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ) فإذا كان شيء نجسا ، ثم شككنا في زوال النجاسة نستصحب بقائها .

( وأمّا القسم الثاني : فالتمسك فيه ) بالاستصحاب ( مشكل ) فلا نتمكن ان نستصحب وجوب الاجتناب عن الاناء الذي إشتبه بإناء طاهر بعد إشتباهه ، لأنه كما عرفت من الشك في المقتضي .

( فان قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل ، أنّه لا يزول الحكم ) بالنجاسة مثلاً ( بزوال الوصف ) أي : وصف الملاقاة للنجس بل لابد من التطهير ، ومعه (فأيُّ حاجة الى التمسّك بالاستصحاب ؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار : من أنّ اليقين لا يُنقض بالشك ؟ ) فانه مع فرض دوام الحكم بالنجاسة - مثلاً - حتى يأتي

ص: 244

قلت : القسم الأوّل على وجهين :

أحدُهما أن يثبت أنّ الحكم أعني : النجاسة بعد الملاقاة ، حاصلٌ ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشك في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ، والآخر أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أم لا .

-------------------

التطهير ، لا حاجة إلى الاستصحاب العقلي ، ولا إلى الاستصحاب الشرعي .

( قلت : القسم الأوّل على وجهين ) بالنحو التالي :

( أحدُهما ) : الشك في وجود الرافع وهو : ( أن يثبت أنّ الحكم أعني : النجاسة بعد الملاقاة حاصل ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر ) في التطهير ( وحينئذ ) يكون ( فائدته ) أي : فائدة الاستصحاب العقلي والشرعي في هذا القسم وهو الشك في وجود الرافع : ( أنّ عند حصول الشك في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ) وهذا من الشبهة الموضوعية .

( والآخر ) وهو الشك في رافعية الموجود بأن حصل شيء ، لكن لم يعلم هل انه رافع أو ليس برافع ؟ وهذا من الشبهة الحكمية بمعنى : ( أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أم لا ) ؟ فإذا تنجست اليد - مثلاً - بالملاقاة مع الدم ، ثم زال وصف الملاقاة عن اليد ، وزال عنها جرم الدم وعينه أيضا ، ولم يعلم هل ان النجاسة باقية دائما إلى حصول التطهير بالماء ، أو انه يطهر بشيء آخر كزوال عين الدم - مثلاً - ؟ فالمستصحب هنا بقاء النجاسة إلى ان يطهر بالماء كما قال :

ص: 245

وفائدته أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة ، فيستصحب إلى أن يعلم المزيل .

ثم لا يخفى : أنّ الفرق الذي ذكرنا من إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكلٌ مع إنضمام أنّ الظهور في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل

-------------------

( وفائدته ) : أي : فائدة الاستصحاب في هذا القسم الذي هو من الشبهة الحكمية والشك في رافعية الموجود هو : ( أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة ، فيستصحب إلى أن يعلم المزيل ) وهو التطهير بالماء على ما في المثال المذكور .

( ثم لا يخفى : أنّ الفرق الذي ذكرنا ) يكون حاصله : ان الاستصحاب يجري مع الشك في وجود الغاية ، لا مع الشك في غائية الموجود : كالشك في ان المذي غاية للتطهّر أم لا ؟ فالفرق المذكور : ( من إثبات مثل هذا ) الأصل وهو : الاستصحاب في الشبهة الحكمية ( بمجرّد الخبر مشكلٌ ) وذلك لما يلي :

أولاً : لأن الشبهة حكمية ، والشبهة الحكمية لا تثبت بالخبر الواحد ، لأن الشبهة الحكمية مسألة اُصولية ، وخبر : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ليس ظاهرا في الشبهة الحكمية .

لا يخفى : ان قوله : «ان الفرق الذي ذكرناه» خبره سيأتي بعد أسطر ، وذلك عند قوله : «كأنه يصير قريبا» .

ثانيا : ( مع إنضمام ) أي : بأن ينضم إلى ما ذكرناه : من ان إثبات مثل هذا الأصل بمجرد الخبر مشكل ، ان ينضم إليه : ( أنّ الظهور في القسم الثاني ) وهو الشك في رافعية الموجود ( لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل ) الذي هو الشك في وجود الرافع ، وذلك لأن ظاهر الأخبار هو القسم الأوّل فقط .

ص: 246


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأنّ اليقين لا يُنقض بالشك - قد يقال إنّ ظاهره : أن يكون اليقين حاصلاً لولا الشك باعتبار دليل دالّ على الحكم ، في غير صورة ما شك فيه .

إذ لو فرض عدم الدليل عليه لكان نقضُ اليقين حقيقة باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم ، لا الشك كأنّه يصير قريبا ،

-------------------

( و ) إنّما لم يبلغ ظهور الأخبار في القسم الثاني مبلغها في القسم الأوّل ، لأنه كما قال : ( أنّ اليقين لا يُنقض بالشك - قد يقال ) بالنسبة إليه : ( إنّ ظاهره : أن يكون اليقين حاصلاً ) أي : مستمر ( لولا الشك ) فانه لولا الشك لكان اظهر « لا يُنقض » كون اليقين مستمرا ( ب ) سبب ( اعتبار دليل دالّ على الحكم ، في غير صورة ما شك فيه ) .

وإنّما يكون اليقين مستمرا بسبب إعتبار الدليل ( إذ لو فرض عدم الدليل عليه ) أي : على الاستمرار ( لكان نقضُ اليقين حقيقة ب ) سبب ( إعتبار عدم الدليل الذي هو ) أي : عدم الدليل ( دليل العدم ، لا ) بسبب إعتبار ( الشك ) .

إذن : فالفرق الذي ذكرناه بين القسمين من الاستصحاب ( كأنّه يصير قريبا ) بمعونة هذين الأمرين الذين ذكرهما بقوله : ان إثبات مثل هذا بمجرد الخبر مشكل ، وقوله : مع إنضمام ان الظهور في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل .

وحاصل كلامه بلفظ بعض المحشين هو ما يلي :

انّ الفرق الذي ذكرناه في الأحكام الشرعية بعد إخراج الاُمور الخارجية فرقا بين الشك من جهة الرافع ، ومن جهة المقتضي ، باثبات دلالة ، الخبر على إعتبار الاستصحاب في القسم الأوّل ، وان التمسك به في القسم الثاني مشكل إذا ضممنا إليه : ان ظهور الخبر في القسم الثاني دون ظهوره في القسم الأوّل ، وإنضمام

ص: 247

ومع ذلك ينبغي رعايةُ الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الاُمور الخارجية أيضا » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : لقد أجاد فيما أفاد وجاء بما فوق المراد ،

-------------------

ما يقال : من ان اليقين لا يُنقض بالشك ظاهره : ان اليقين كان حاصلاً لولا الشك بدلالة الدليل الدال عليه ، فلا يشمل الشك في المقتضى ، كأن الفرق المذكور يصير قريبا بالاعتبار .

( ومع ذلك ) الذي فصّلناه في الاستصحاب من تفصلين : تفصيل بين المقتضي والرافع ، وتفصيل بين الشك في وجود الرافع ورافعية الموجود ( ينبغي رعايةُ الاحتياط في كلّ من القسمين ) الذين ذكرهما بقوله : أحدهما : ان يثبت حكم شرعي باعتبار حال يعلم زوال الحكم بزوالها ، والآخر : ان يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك .

( بل ) ينبغي عليه الاحتياط ( في الاُمور الخارجية أيضا » (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه ) وزيد في علوّ درجاته .

( أقول : لقد أجاد فيما أفاد وجاء بما فوق المراد ) قال الآشتياني : أي أجاد في فهم إختصاص دلالة الروايات بالشك في الرافع ، وعدم شمولها للشك في المقتضي ، إلاّ انه ما أجاد في تخصيصها ببعض أقسام الشك في الرافع ، كما ستقف عليه إن شاء اللّه ، هذا كله بناءا على كون الغاية من قبيل الرافع أو ملحقة به حكما ، وإلاّ فما أجاد في التفصيل المذكور أصلاً ، إلاّ انك قد عرفت : ان الغاية وإن لم تكن من الرافع موضوعا ، إلاّ انها ملحقة به في الحكم .

أقول : وإنّما قال المصنِّف بالنسبة إلى كلام المحقق الخوانساري : بأنه جاء

ص: 248


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه فنقول :

قوله : « وبعضهم ذهب إلى حجيته في القسم الأوّل » .

ظاهره كصريح ما تقدّم منه في حاشيته الاُخرى وجودُ القائل بحجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعية الجزئية : كطهارة مثل الثوب ، والكلّية : كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ؛ وعدم الحجّية في الاُمور الخارجية : كرطوبة الثوب ، وحياة زيد .

وفيه نظرٌ ، يعرف بالتتبع في كلمات القائلين بحجّية الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم .

-------------------

بما فوق المراد ، لأن مراد المصنّف هو : التفصيل بين الاستصحاب في المقتضي فلا يجري ، وبين الاستصحاب في الرافع فيجري ، والخوانساري أضاف إلى ذلك موضوع الشك في الغاية وغيره ممّا عرفت .

ثم قال المصنّف : ( إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه ) أي : وجه التأمل ( فنقول : قوله : « وبعضهم ذهب إلى حجيته ) أي : حجية الاستصحاب ( في القسم الأوّل » ) أي : في الأحكام الشرعية الجزئية مثل : ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيحكمون بعد ذلك بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها ، فان ( ظاهره ) أي : ظاهر قول المحقق الخوانساري هذا ( كصريح ما تقدّم منه في حاشيته الاُخرى ) هو : ( وجودُ القائل بحجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعية الجزئية : كطهارة مثل الثوب ، والكلّية : كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وعدم الحجية في الاُمور الخارجية : كرطوبة الثوب ، وحياة زيد ) - مثلاً - .

( وفيه نظرٌ ) لعدم وجود مثل هذا القائل ، وذلك ( يعرف بالتتبع في كلمات القائلين بحجّية الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم ) فانّه لا يظهر

ص: 249

مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة دليلاً لعدم الجريان في الموضوع جار في الحكم الجزئي ، فانّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاص واقعا وعدم وصولها ، وبيان نجاسته المسبّبة عن هذا الوصول وعدمها لعدم الوصول ، كلاهما خارج عن شأن الشارع .

-------------------

من كلماتهم وأدلتهم مثل : هذا التفصيل المذكور .

لكن قال الأوثق : لا يخفى ان إنكار وجود قائل بهذا القول ، لا يناسب عدّه من جملة أقوال المسألة وجعلها به أحد عشر قولاً ، كما صنعه المصنّف عند تعدادها ، فالأولى ترك هذا القول في جملتها وجعلها عشرة كاملة (1) .

أقول : لعل المصنّف عدّ هذا التفصيل هناك قولاً حادي عشر باعتبار إستفادته من كلام المحقق الخوانساري ، ولكن هنا حيث انه بنفسه لم يجد هذا القول في كلمات الفقهاء والاُصوليين الذين تتبع كلماتهم تنظّر فيه .

هذا ( مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة دليلاً لعدم الجريان في الموضوع ) حيث قال : نقول ، أولاً : انه لا يظهر شموله للاُمور الخارجية مثل : رطوبة الثوب ونحوها ، إذ يبعد ان يكون مرادهم عليهم السلام بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعية ، فان ما ذكره دليلاً لعدم جريان الاستصحاب في الموضوع ( جار في الحكم الجزئي ) أيضا .

وإنّما يجري ذلك الدليل في الحكم الجزئي أيضا لأنه كما قال : ( فانّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاص واقعا وعدم وصولها ) إلى الثوب ( وبيان نجاسته المسببة عن هذا الوصول وعدمها ) أي : عدم النجاسة ( لعدم الوصول ، كلاهما خارج عن شأن الشارع ) .

ص: 250


1- - أوثق الوسائل : ص486 ما أفاده المحقق الخوانساري من التفصيل .

كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا ، وبيان عدم وصول النجاسة إليه ظاهرا الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ظاهرا ، ليس إلاّ شأن الشارع ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم .

-------------------

وإنّما يكون خارجا عن شأن الشارع ، لأن شأن الشارع هو : بيان الأحكام الكلية الشرعية ، لا الأحكام غير الشرعية ولا الأحكام الشرعية الجزئية ، وقد روي عنهم عليه السلام إنهم قالوا : علينا الاُصول وعليكم التفريع (1) .

( كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا ، وبيان عدم وصول النجاسة إليه ظاهرا ) إذ قد يقول الشارع : الثوب طاهر ، وقد يقول : النجاسة لم تصل إليه ، فبيان عدم وصول النجاسة ( الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ) ليس أمرا خارجيا ، بل كما قال : يرجع إلى بيان الحكم وهو الطهارة لكن ( ظاهرا ) وهو ( ليس إلاّ شأن الشارع ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم ) .

والحاصل : انا لو سألنا من الشارع هل وصلت النجاسة إلى الثوب أم لا ؟ أو سألنا منه هل هو طاهر أم لا ؟ أجاب : بانه لا ربط له بهذين ، لأن الأوّل أمر خارجي يستطرق فيه باب العرف ، والثاني : أمر جزئي وقد أشار إلى كليّة وعليّة الكليات لا الجزئيات .

أمّا لو سألنا من الشارع عن الشيء الجزئي المشكوك طهارته ونجاسته بعد ان كان طاهرا : ما حكمه الظاهري ؟ وكذا لو سألناه عن الشيء كان رطبا ، ثم وقع على أرض نجسة وشككنا في طهارته ونجاسته؛ ما هو حكمه الظاهري ؟ أجاب الشارع عن كلا السؤالين : بلزوم الاستصحاب .

وعلى أيّ حال : فالأوّلان ليسا من شأن الشارع ، بينما التاليان من شأنه ، فإطلاق

ص: 251


1- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 و ص62 ب6 ح33202 .

قوله : « والظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر ، إلى آخره » ، وجهُ مغايرة ما ذكره لما ذكره المشهور ، هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود السابق ، كما هو ظاهر قوله : « لوجوده في زمان سابق عليه » .

وصريح قول شيخنا البهائي إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل . وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس .

قوله قدس سره : « إنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت

-------------------

قول المحقق الخوانساري بأنهما ليسا من شأن الشارع محل تأمل .

ومن مواقع التأمل في كلام المحقق الخوانساري ( قوله : « والظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر ، إلى آخره » ) فان ( وجهُ مغايرة ما ذكره ) المحقق الخوانساري ( لما ذكره المشهور ) من معنى الاستصحاب ( هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود السابق ، كما هو ظاهر قوله ) أي : قول المحقق الخوانساري عند بيان قول المشهور في بقاء الشيء بانه ( « لوجوده في زمان سابق عليه » ، وصريح قول شيخنا البهائي ) في معنى الاستصحاب : من انه ( إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل ) وهكذا غيرهما ممن ذكر الاستصحاب .

هذا ( وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس ) أي : المحقق الخوانساري ، فان إعتماده في الاستصحاب إنّما هو على دليل الحكم ، فيكون الاستصحاب تابعا للدليل ضيْقا وسِعَةً ، ولذا كان الاستصحاب عند المحقق الخوانساري غير الاستصحاب عند المشهور .

ومن مواقع التأمل في كلامه ( قوله قدس سره : « إنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت

ص: 252

إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا ، إلى آخره » .

أقول : بقاء الحكم إلى زمان كذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ، كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلاً واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ، ومن أمثلته الامساك المستمرّ إلى الليل ، حيث انّه ملحوظ فعلاً واحدا تعلّق به الوجوب ، أو الندب ، أو غيرهما من أحكام الصوم .

-------------------

إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا ، إلى آخره » ).

( أقول ) : وخلاصة ما ذكره المصنّف هنا في شرح هذا الكلام هو إعتراض على المحقق الخوانساري في تمسكه بقاعدة الاشتغال أو البرائة في إثبات إعتبار الاستصحاب ، فان ( بقاء الحكم إلى زمان كذا ) أو إلى حدوث حال كذا ( يتصوّر على وجهين ) بالنحو التالي :

الوجه ( الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ) فالموضوع واحد والحكم واحد ويسمّى بالكل المجموعي ( كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلاً واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ) من الوجوب فيما إذا كان بقائه واجبا في المسجد ، أو الحرمة فيما إذا كان جُنُبا ، إلى غير ذلك .

( ومن أمثلته ) أي : أمثلة الموضوع الواحد والحكم الواحد ( الامساك ) في الصوم ( المستمرّ إلى الليل ، حيث انّه ملحوظ فعلاً واحدا تعلّق به الوجوب ، أو الندب ، أو غيرهما من أحكام الصوم ) فان الصوم قد يكون حراما كما هو واضح ، أو مكروها بمعنى : قلّة الثواب أو الحزازة ، كما قاله الآخوند ، إلى غير ذلك .

ص: 253

الثاني : أن يلاحظ الفعل في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً تعلّق به حكمٌ فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، ومن أمثلته : وجوبُ الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوال ، فانّ صوم كل يوم إلى إنقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ .

أمّا الأوّل ، فالحكم التكليفي : إمّا أمر ، وإمّا نهي وإمّا تخيير :

فان كان أمرا ، كان اللازم عند الشك في وجود الغاية ما ذكره :

-------------------

الوجه ( الثاني : أن يلاحظ الفعل في كلّ جزء يسعه ) أي : يسع ذلك الفعل ( من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً تعلّق به حكم ) ولا يعني بذلك كل جزء جزء، وإنّما الأجزاء التي إعتبرها الشارع أجزاء ( فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ) ويسمى بالكل الافرادي .

( ومن أمثلته : وجوبُ الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوال ) ويُرى بصيغة المجهول ( فانّ صوم كل يوم إلى إنقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ ) فهنا موضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة .

( أمّا الأوّل ) : وهو ان يلاحظ الفعل إلى زمان كذا أو حال كذا موضوعا واحدا تعلق به حكم واحد ( فالحكم التكليفي : إمّا أمر ، وإمّا نهي وإمّا تخيير ) فالأمر : هو الذي يمنع من النقيض ، والنهي : هو الذي يمنع من النقيض أيضا ، والتخيير : إنّما يكون بين الفعل والترك بلا إلزام في أحد الجانبين ، فيشمل التخيير الأحكام الثلاثة التي لا تقتضي إلزاما ، سواء كان في أحد الجانبين ترجيح كالاستحباب والكراهة ، أم لم يكن كالاباحة .

وعليه : ( فان كان أمرا ، كان اللازم عند الشك في وجود الغاية ما ذكره :

ص: 254

من وجوب الاتيان بالفعل تحصيلاً لليقين بالبرائة من التكليف المعلوم ، لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ، فانّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشك في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال .

فلابد من الرجوع في وجوب الجلوس - عند الشك في الزوال - إلى أصل آخر غير الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس

-------------------

من وجوب الاتيان بالفعل تحصيلاً لليقين بالبرائة من التكليف المعلوم ) لأنه من الشك في المكلّف به بعد علمه بالتكليف ( لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ) حتى يتعارض التكليفان : قبل الغاية وبعد الغاية .

أما مثاله فهو : ( كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ، فانّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشك في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال ) فلا مجال للاحتياط المستلزم للجلوس ، أو الاحتياط المستلزم لعدم الجلوس .

وعليه : فحيث يتعارض الاحتياطان ( فلابد من الرجوع في وجوب الجلوس - عند الشك في الزوال - إلى أصل آخر غير الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال ) وهو أصل موضوعي حيث انه إذا أجرينا أصالة عدم تحقق الزوال يتبعه وجوب الجلوس لتحقق الحكم بتحقق موضوعه .

( أو ) مثل أصالة : ( عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ) وهو أصل

ص: 255

أو عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك .

وإن كان نهيا ، كما إذا حرّم الامساك المحدود بالغاية المذكورة أو الجلوس المذكور ، فان قلنا بتحريم الاشتغال ، كما هو الظاهر ، كان المتيقّنُ التحريم قبل الشك في وجود الغاية .

وأمّا الحرمة بعده

-------------------

حكمي حيث انه كان مكلَّفا بالجلوس ، فإذا خرج قبل علمه باتيانه بالتكليف كاملاً، كان الأصل عدم خروجه عن عهدة التكليف .

( أو ) مثل أصالة : ( عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك ) من سائر الاُصول الحكمية الاُخرى مثل أصالة : عدم إنقلاب التكليف وما أشبه .

( وإن كان نهيا ) أي : ان كان الحكم التكليفي المتعلق بالفعل المغيّى إلى زمان كذا أو حال كذا ، والذي فرضنا كونه موضوعا واحدا تعلق به حكم واحد نهيا ( كما إذا حرم الامساك المحدود بالغاية المذكورة ) أي : المستمر إلى الليل مثل : ما إذا كان الصوم حراما في يوم العيد .

( أو الجلوس المذكور ) بأن كان الجلوس في المسجد إلى الزوال حراما .

وعليه : ( فان قلنا بتحريم الاشتغال ) بالامساك أو الجلوس المحرّم ( كما هو الظاهر ) من النهي ، فانّه إذا قال المولى : لا تصم يوم الفطر ، كان معناه : ان إشتغالك بالصوم حرام ، فانه ليس المحقّق للحرام هو فقط الامساك التام من الفجر إلى الغروب بل الاشتغال بالامساك محقّق للحرام أيضا ، ففي هذه الصورة ( كان المتيقّنُ ) هو : ( التحريم قبل الشك في وجود الغاية ) للامساك أو الجلوس .

إذن : فالامساك - مثلاً - إنّما يحرم في هذه الصورة ما دام لم يشك في وجود الغاية وإنه هل صار المغرب أم لا ؟ ( وأمّا الحرمة بعده ) أي : حرمة الامساك

ص: 256

فلا يثبت بما ذكر في الأمر ، بل يحتاج إلى الاستصحاب المشهور ، وإلاّ فالأصل : الاباحة في صورة الشك ، وإن قلنا : إنّه لا يتحقق الحرام ، ولا إستحقاق العقاب إلاّ بعد تمام الامساك والجلوس المذكورين ، فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم إستحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، ولا دخل له

-------------------

- مثلاً - بعد حدوث الشك في وجود الغاية وانه هل صار المغرب أم لا ؟ ( فلا يثبت بما ذكر ) المحقق الخوانساري ( في الأمر ) من الاحتياط إعتمادا على دليل الحكم .

وإنّما لا يكون الحكم هنا كما ذكره من الحكم هناك في الأمر ، إذ لا دليل هنا على الحرمة ( بل يحتاج ) إثبات الحرمة بعد الشك ( إلى الاستصحاب المشهور ) وهو سحب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة ( وإلاّ ) بأن لم يكن إستصحاب ( فالأصل : الاباحة في صورة الشك ) إذ لا دليل على الحرمة ، ولا إستصحاب حتى تثبت الحرمة .

هذا ( وإن قلنا : إنّه لا يتحقق الحرام ، ولا إستحقاق العقاب ) بصرف الاشتغال ( إلاّ بعد تمام الامساك والجلوس المذكورين ) إلى الغاية ، وهذا المعنى - كما هو المعلوم - ليس ظاهرا من النهي ، لكن قد يكون مورد قصد المولى ، كما لو أراد الظالم ان يأخذ مالاً من عبد المولى إذا كان العبد من الصباح إلى الليل في الدار ، فنهاه المولى عن الكون في الدار بين الحدين ، فان الحرام يتحقق بتمام الكون لا بالشروع في الكون .

وعليه : ففي هذا الفرض إذا شك في وجود الغاية ( فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم إستحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، ولا دخل له ) أي : لهذا الفرض

ص: 257

بما ذكره في الأمر .

وإن كان تخييرا ، فالأصل فيه وإن إقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل عند الشك فيها ، إلاّ أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط .

كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر ، مع تنجّز وجوب الامساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ، فانّ الظاهر لزومُ الكفّ من الأكل عند الشك .

-------------------

( بما ذكره ) المحقق الخوانساري ( في الأمر ) من الاحتياط إعتمادا على دليل الحكم ، وذلك لأن هنا محل إستصحاب عدم الاستحقاق أيضا ، وهو الذي ذكره المشهور لا ما ذكره المحقق الخوانساري .

( وإن كان تخييرا ) بالمعنى الأعم الشامل للاباحة والكراهة والاستحباب ( فالأصل فيه وإن إقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل ) المخيّر فيه ( عند الشك فيها ) أي : في الغاية ( إلاّ أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط ) .

ففي هذه الصورة لا مجال للاستصحاب كما لا مجال للبرائة التي حكم بها المحقق الخوانساري هنا إعتمادا على دليل الحكم ، بل الحكم هنا هو وجوب الاحتياط .

أمّا مثاله فقد أشار إليه بقوله : ( كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر ، مع تنجّز وجوب الامساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ) الجار والمجرور متعلق بتنجز ( فانّ الظاهر ) في مثل هذا المثال ( لزوم الكفّ من الأكل ) وسائر المفطرات ( عند الشك ) في انه هل طلع الفجر أم لا ؟ .

وإنّما يجب الاحتياط هنا لا إستصحاب جواز الأكل ونحوه ، لأنّ الاحتياط

ص: 258

هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه بالحكم الاقتضائي أو التخييري أمرا واحدا مستمرا .

وأمّا الثاني ، وهو ما لوحظ فيه الفعل اُمورا متعدّدة ، كل واحد منها متصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر . فان كان أمرا أو نهيا ، فأصالة الاباحة والبرائة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشك ،

-------------------

هو طريق العقلاء في أمثال هذه الاُمور ، كما سبق ذلك في مثال ما إذا لم يعلم هل ان ماله بلغ النصاب في الزكاة أم لا ؟ أو هل زاد ماله عن مؤنة السنة في الخمس أم لا ؟ أو هل انه إستطاع مالاً ، أو بدنا ، أو طريقا في الحج أم لا ؟ إلى غيرها من الأمثلة .

( هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه بالحكم الاقتضائي ) وهو الشامل للوجوب والتحريم ( أو التخييري ) وهو الشامل للأحكام الثلاثة الاُخر ( أمرا واحدا مستمرا ) وهو الكل المجموعي الذي ذكره المصنّف قبل قليل بقوله : الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلق به الحكم الواحد .

( وأمّا الثاني وهو ) الكل الافرادي الذي ذكره المصنّف بقوله : الثاني ان يلاحظ الفعل في كل جزء يسعه من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً ، يعني : ( ما لوحظ فيه الفعل اُمورا متعدّدة كل واحد منها متصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر ) أي : بأن كان هناك إطاعات ومعاصي متعدّدة ، كمن يصوم بعض أيام شهر رمضان ولا يصوم بعضها الآخر .

وعلى هذا الثاني : ( فان كان أمرا أو نهيا ) ممّا فيه الاقتضاء المانع من النقيض ( فأصالة الاباحة والبرائة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشك ) فاذا شك في ان هذا اليوم أيضا محكوم بالحكم الاقتضائي أم لا ، وجوبا أو تحريما ،

ص: 259

وكذلك أصالة الاباحة في الحكم التخييري إلاّ إذا كان الحكم فيما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب الاحتياط فيه .

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره من الوجه الأوّل الراجع إلى وجوب تحصيل الامتثال لا يجري إلاّ في قليل من الصور المتصوّرة في المسألة .

ومع ذلك فلا يخفى : أنّ إثبات الحكم في زمان الشك ، بقاعدة الاحتياط

-------------------

فهو من الشك في التكليف ، والأصل البرائة في مثل هذا الشك .

( وكذلك ) حال ( أصالة الاباحة في الحكم التخييري ) فان الأصل بالنسبة إلى الفرد المشكوك في انه مستحب أو مكروه أو مباح هو : البرائة .

ثم ان الفرق بين البرائة والاباحة هو : ان الاباحة حكم واقعي بالتخيير ، امّا البرائة فهو حكم ظاهري به .

( إلاّ إذا كان الحكم فيما ) أي : في الحكم التخييري المباح ( بعد الغاية تكليفا منجّزا ، يجب الاحتياط فيه ) مثل : كون الصيام في أيام ذي الحجة مستحبا إلى اليوم الأضحى ، حيث يحرم الصوم فيه ، فإذا شك في صيرورته يوم الأضحى أم لا ، فاللازم الاحتياط لما ذكرناه : من انه طريق الطاعة .

إذن : ( فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من الوجه الأوّل الراجع إلى وجوب تحصيل الامتثال ) قد ورد عليه ما يلي :

أولاً : انه ( لا يجري إلاّ في قليل من الصور المتصوّرة في المسألة ) على ما عرفت .

ثانيا : ( ومع ذلك ) أي : مع ورود الايراد الأوّل عليه ، يرد عليه إيراد ثان وهو ما أشار إليه بقوله : ( فلا يخفى : أنّ إثبات الحكم في زمان الشك ، بقاعدة الاحتياط

ص: 260

كما في الاقتضائي، أو قاعدة الاباحة والبرائة كما في الحكم التخييري ، ليس قولاً بالاستصحاب المختلف فيه أصلاً ، لأنّ مرجعه إلى أنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ولو كان أصالة الاحتياط أو البرائة ، وهذا عينُ إنكار الاستصحاب ، لأنّ المنكر يرجع إلى اُصول اُخر .

فلا حاجة إلى تطويل الكلام وتغييراُسلوب كلام المنكرين فيهذا المقام.

-------------------

كما في الاقتضائي، أو قاعدة الاباحة والبرائة كما في الحكم التخييري ، ليس قولاً بالاستصحاب المختلف فيه أصلاً ، لأنّ مرجعه ) أي : ان مرجع إثبات الحكم في زمان الشك بقاعدة الاحتياط في الاقتضائي ، والبرائة في التخييري إنّما هو ( إلى أنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ) أي : يدل على الاثبات .

وإنّما كان هذا مرجعه ، لأن إثبات الحكم بقاعدة الاحتياط صغرى جزئية ، والصغرى الجزئية يلزم ان تكون داخلة تحت كبرى كلية ، والكبرى الكلية في هذا المقام هو : ما ذكره بقوله : يحتاج إلى دليل يدل عليه .

وعليه : فاثبات الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه ( ولو كان ) ذلك الدليل ( أصالة الاحتياط ) كما في الاقتضائي ( أو البرائة ) كما في اللااقتضائي ( وهذا عينُ إنكار الاستصحاب ، لأنّ المنكر يرجع إلى اُصول اُخر ) غير الاستصحاب ، وأنتم أيضا رجعتم إلى اُصول اُخر غير الاستصحاب من الاحتياط والبرائة .

إذن : ( فلا حاجة إلى تطويل الكلام ) في الاستصحاب ( وتغيير اُسلوب كلام المنكرين في هذا المقام ) .

والحاصل : انه كان من اللازم على المحقق الخوانساري ان ينكر الاستصحاب رأسا لا ان يقول : اني قائل بالاستصحاب بمعنى آخر ، الذي هو خلاف

ص: 261

بقي الكلام :

في توجيه ما ذكره من أنّ الأمر في الحكم التخييري أظهر ، ولعلّ الوجه فيه : أنّ الحكم بالتخيير في زمان الشك في وجود الغاية مطابق لأصالة الاباحة الثابتة بالعقل والنقل .

كما أنّ الحكم بالبقاء في الحكم الاقتضائي ، كان مطابقا لأصالة الاحتياط الثابتة في المقام بالعقل والنقل .

-------------------

المعنى المشهور .

( بقي الكلام في توجيه ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من أنّ الأمر في الحكم التخييري أظهر ) من الحكم الاقتضائي .

أقول : ( ولعلّ الوجه فيه ) أي : في أظهريته : ( أنّ الحكم بالتخيير في زمان الشك في وجود الغاية ) أي : فيما إذا شككنا بأن غاية التخيير تحققت أم لا ( مطابق لأصالة الاباحة الثابتة بالعقل والنقل ) فانا إذا شككنا ان التخيير إرتفع أم لا ، كان العقل والنقل متطابقين على وجوب التخيير ، حيث لا علم بحكم إقتضائي .

( كما أنّ الحكم بالبقاء ) أي : ببقاء الوجوب أو الحرمة ( في الحكم الاقتضائي ، كان مطابقا لأصالة الاحتياط الثابتة في المقام بالعقل والنقل ) أيضا .

قال في الأوثق : ان غاية ما ذكره المصنّف هو : إثبات التسوية لا الأظهرية ، اللّهم إلاّ ان يقال : ان القول بأصالة البرائة عند الشك في وجود الغاية ، أو مصداقها الخارجي ، المندرجين في الشبهات الموضوعية فيما كان الشك فيه في المكلّف به غير الالزامي ، أظهر من القول بوجوب الاحتياط فيهما فيما كان الشك فيه في المكلّف به الالزامي ، وذلك لمخالفة جماعة من الاُصوليين في الثاني ، بخلاف

ص: 262

وقد وجّه المحقق القمّي قدس سره إلحاق الحكم التخييري بالاقتضائي بأنّ مقتضى التخيير إلى غاية وجوب الاعتقاد بثبوته في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل اليقين بالبرائة من التكليف

-------------------

الأوّل لعدم الخلاف فيه حتى من الاخباريين (1) .

ثم انه إنّما كان الاحتياط في الحكم الاقتضائي مطابقا للعقل والنقل ، لأن اللازم العمل حسب الاقتضاء الوجوبي أو التحريمي من باب المقدمة العلمية ، والمقدمة العلمية ممّا تظافر العقل والنقل على وجوبها .

هذا ( وقد وجّه المحقق القمّي قدس سره ) عبارة المحقق الخوانساري قدس سره : «ان الأمر في الحكم التخييري أظهر» بما لا يخلو من تكلّف ، وذلك لأن كلمة : « أظهر » ، في نسخة المحقق القمي كانت مصحّفة بكلمة : « كذلك » ، فتصوّر القمي بسببها ان مراد الخوانساري هو : انه كما يجب الاحتياط في الحكم الالزامي كذلك يجب الاحتياط في الحكم التخييري ، وحيث انه لا يجب الاحتياط في الحكم التخييري إضطر المحقق القمي إلى تفسير وجوب الاحتياط بوجوب الاعتقاد بالحكم التخييري .

وكيف كان : فالمحقق القمي وجّه عبارة المحقق الخوانساري بقوله ما يلي :

ان ( إلحاق ) المحقق الخوانساري ( الحكم التخييري بالاقتضائي ) حيث قال : «ان الأمر في الحكم التخييري كذلك» وجّهه ( بأنّ مقتضى التخيير إلى غاية ) معيّنة هو : ( وجوب الاعتقاد بثبوته ) أي : ثبوت التخيير من باب الايمان بما جاء به الشارع ( في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل اليقين بالبرائة من التكليف

ص: 263


1- - أوثق الوسائل : ص487 توجيه كلام المحقق الخوانساري .

باعتقاد التخيير عند الشك في حدوث الغاية ، إلاّ بالحكم بالاباحة وإعتقادها في هذا الزمان أيضا .

وفيه : أنّه إن اُريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ثابتا إلى الغاية المعيّنة ، فهذا الاعتقاد موجود ولو بعد القطع بتحقق الغاية فضلاً عن صورة الشك فيه ، فانّ هذا إعتقادٌ بالحكم الشرعي الكلّي ، ووجوبه غير مغيّى بغاية ، فانّ الغاية غاية للمعتَقَد لا لوجوب الاعتقاد .

-------------------

باعتقاد التخيير ) وقوله : « باعتقاد » متعلق بالتكليف ( عند الشك في حدوث الغاية ، إلاّ بالحكم بالاباحة وإعتقادها ) أي إعتقاد الاباحة ( في هذا الزمان أيضا ) كالزمان السابق .

وعليه : فيكون حاصل توجيه المحقق القمي لكلام المحقق الخوانساري هو : انه كما يلزم الاحتياط في الزمان الثاني في الأحكام الاقتضائية ، كذلك يلزم الاحتياط بوجوب الاعتقاد بالتخيير في الزمان الثاني في الأحكام التخييرية .

( وفيه : أنّه ان اُريد وجوب الاعتقاد ) بأن يعتقد بالحكم الكلي ، فاللازم على المكلّف الاعتقاد ( بكون الحكم المذكور ثابتا إلى الغاية المعيّنة ) فان كان المراد من وجوب الاعتقاد هذا المعنى ( فهذا الاعتقاد موجود ) ولازم ( ولو بعد القطع بتحقق الغاية فضلاً عن صورة الشك فيه ) أي : في تحقق الغاية ، فانه يلزم الاعتقاد بصحة أحكام اللّه تعالى قبل فعلية الحكم ، ومع فعلية الحكم ، وبعد فعلية الحكم ، فلا خصوصية لحالة الشك كما قال :

( فانّ هذا إعتقادٌ بالحكم الشرعي الكلّي ، ووجوبه ) أي : وجوب هذا الاعتقاد ( غير مغيّى بغاية ، فانّ الغاية غاية للمعتَقَد لا لوجوب الاعتقاد ) والمعتَقَد هو : التخيير ، فان التخيير يدوم إلى الغاية ، وأمّا الاعتقاد بالحكم الكلي الالهي فواجب

ص: 264

وإن اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري في كلّ جزء من الزمان الذي يكون في الواقع ممّا قبل الغاية وإن لم يكن معلوما عندنا ، ففيه : أنّ وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك بكون الحكم فيه هو الحكم الأولي

-------------------

قبل الشك ، ومع الشك ، وبعد الشك .

( وإن اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري في كلّ جزء من الزمان الذي يكون في الواقع ممّا قبل الغاية ) بأن يجب الاعتقاد بالحكم التخييري في كل جزء جزء من زمان التخيير حتى ( وإن لم يكن معلوما عندنا ) ذلك الجزء الواقعي ، لعدم علمنا بانه متى تتحقق الغاية - مثلاً - .

هذا ، ولا يخفى الفرق بين المعنيين ، فان الفرق بين قوله الأوّل : ان اُريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ، وقوله الثاني : وان اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري ، هو : ان الأوّل : عبارة عن الاعتقاد باستمرار التخيير إلى الغاية ، والثاني : عبارة عن الاعتقاد بالتخيير في كل جزء جزء ، فمثلهما مثل : الصوم بين الحدين ، والصوم في كل جزء جزء .

والحاصل : إنّ اللازم من وجوب الاعتقاد على المعنى الثاني هو : الاعتقاد بالتخيير في زمان الشك ، فاذا جاء زمان الشك : بان مضى من ليل شهر رمضان خمس ساعات - مثلاً - فشك في انه هل طلع الفجر أم لا ؟ فيكون شاكا في انه هل هو مخيّر في ان يأكل ويشرب أم ليس بمخيّر لاحتمال طلوع الفجر ؟ فاللازم على المكلّف ان يعتقد بأن الشارع خيّره بين الأكل وعدم الأكل في هذا الزمان الذي هو زمان الشك .

وعليه : فان كان المراد من وجوب الاعتقاد المعنى الثاني ( ففيه : أن وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك بكون الحكم فيه هو الحكم الأولي

ص: 265

أو غيره ، ممنوع جدّا .

بل الكلام في جوازه ، لأنّه معارضٌ بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر ، الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا وإن لم يكن معلوما ، بل لا يعقل وجوبُ الاعتقاد مع الشك في الموضوع ، كما لا يخفى .

ولعلّ هذا الموجّه قدس سره ، قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته ، كما وجدته في بعض نسخ شرح الوافية ، وأمّا على الثاني : فالأمر كذلك ،

-------------------

أو غيره ، ممنوع جدّا ) أي : ممنوع أن يقال : انه يجب ان يعتقد بالتخيير بعد ما مضى من الليل خمس ساعات ، والحال انه لا يعلم هل بقي الليل أو صار الفجر ؟.

( بل الكلام في جوازه ) فان المحقق القمي يقول : بوجوب الاعتقاد ، ونحن نقول : بل الكلام في انه هل يجوز هذا الاعتقاد أم لا ؟ .

وإنّما يكون الكلام في جوازه ( لأنّه معارضٌ بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر ، الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا ) فانه بعد تحقق الغاية لا تخيير ، بل يجب عليه الامساك ( وإن لم يكن ) حصول الغاية ( معلوما ) عنده لفرض انه شاك في انه هل حصلت الغاية أم لا ؟ .

هذا ( بل لا يعقل وجوبُ الاعتقاد ) الذي ذكره المحقق القمي ( مع الشك في الموضوع ) وانه هل تحققت الغاية أم لا ؟ ( كما لا يخفى ) وذلك لأن المحمول تابع للموضوع ، فإذا لم يحرز الموضوع لا يعقل الحمل عليه والاعتقاد به .

( ولعلّ هذا الموجّه ) وهو المحقق القمي ( قدس سره ، قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته ، كما وجدته في بعض نسخ شرح الوافية ) مصحّفا بالعبارة التالية : ( وأمّا على الثاني : فالأمر كذلك ) وهذا التصحيف في عبارة : «كذلك» سبّب

ص: 266

كما لا يخفى ، لكنّي راجعت في بعض نسخ شرح الدروس فوجدت لفظ : « أظهر » بدل « كذلك » وحينئذ فظاهرُه : مقابلة وجه الحكم بالبقاء في التخيير ، بوجه الحكم بالبقاء في الاقتضاء فلا وجه لارجاع أحدهما بالآخر .

والعجب من بعض المعاصرين ، حيث أخذ التوجيه المذكور عن القوانين ، ونسبه إلى المحقق الخوانساري ،

-------------------

هذا التوجيه من المحقق القمي ( كما لا يخفى ) .

أقول : ( لكنّي راجعت في بعض نسخ شرح الدروس فوجدت لفظ : « أظهر » بدل ) لفظ : ( « كذلك » ) المصحَّف .

( وحينئذ ) أي : حين كان الصحيح من لفظ الخوانساري هو كلمة : « اظهر » ، لا كلمة : « كذلك » ( فظاهرُه : مقابلة وجه الحكم بالبقاء في التخيير ، بوجه الحكم بالبقاء في الاقتضاء ) فيكون معنى عبارة الخوانساري : ان الحكم الاقتضائي يبقى ، كما يبقى الحكم التخييري ، بل بقاء التخييري في مورد التخيير أظهر من بقاء الاقتضائي في مورد الاقتضائي ، وقد عرفت وجه الأظهرية في كلام الأوثق .

وعليه : ( فلا وجه لارجاع أحدهما ) وهو الحكم في التخييري ( بالآخر ) أي : بالحكم في الاقتضائي وإيجاب الاحتياط فيهما معا ، كما فعله المحقق القمي حيث إضطر لأجله إلى ذلك التوجيه المزبور .

هذا ( والعجب من بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( حيث أخذ التوجيه المذكور عن القوانين ، ونسبه إلى المحقق الخوانساري ) مع ان التوجيه كما عرفت إنّما هو للقوانين موجّها به كلام المحقق الخوانساري وليس للخوانساري نفسه .

وعليه : فان صاحب الفصول نسب التوجيه المذكور للقوانين إلى المحقق

ص: 267

فقال : « حجّةُ المحقق الخوانساري أمران : الأخبار ، وأصالة الاشتغال » ، ثم أخذ في إجراء أصالة الاشتغال في الحكم التخييري بما وجّهه في القوانين ، ثم أخذ في الطعن عليه وأنت خبيرٌ بأنّ الطعن في التوجيه ، لا في حجة المحقق. بل لا طعن في التوجيه أيضا ، لأنّ غلط النسخة ألجأه إليه .

هذا ، وقد أورد عليه السيد الشارح بجريان ما ذكره من قاعدة وجوب تحصيل الامتثال في إستصحاب القوم

-------------------

الخوانساري ثم علّق عليه ( فقال : « حجّةُ المحقق الخوانساري ) في إلحاق الحكم التخييري بالاقتضائي ، ( أمران : الأخبار ، وأصالة الاشتغال » ، ثم أخذ ) صاحب الفصول ( في إجراء أصالة الاشتغال في الحكم التخييري ) وانه كيف يمكن القول بأصل الاشتغال مع كون الحكم تخييريا ؟ فوجّه ذلك ( بما وجّهه في القوانين ) بأن مقتضى التخيير إلى غاية : وجوب الاعتقاد بثبوته في كل جزء ممّا قبل الغاية ( ثم أخذ ) صاحب الفصول ( في الطعن عليه ) أي : على ما إحتج به المحقق الخوانساري .

ثم قال المصنّف بعد ذلك : ( وأنت خبيرٌ بأنّ الطعن ) إنّما هو ( في التوجيه ) الذي ذكره المحقق القمي ( لا في حجة المحقق ) الخوانساري الذي إحتج به ( بل لا طعن في التوجيه أيضا ، لأنّ غلط النسخة ألجأه ) أي : ألجأ المحقق القمي ( إليه ) أي : إلى ذلك التوجيه .

( هذا ، وقد أورد عليه ) أي : على المحقق الخوانساري ( السيد الشارح ) للوافية ، وهو السيد الصدر ( بجريان ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من قاعدة وجوب تحصيل الامتثال ) لقاعدة الاشتغال ( في إستصحاب القوم ) القائلين بالاستصحاب عند الشك في المقتضي أيضا ومعه كيف ينكر المحقق

ص: 268

قال : « بيانُه : أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها بتحقق الحكم في قطعة من الزمان .

ونشك أيضا حين القطع في تحققه في زمان يكون حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا ، فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه ، ونشك حين القطع في تحققه في زمان متصل بذلك الزمان لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود ،

-------------------

الخوانساري إستصحاب القوم ؟ .

( قال ) السيد الصدر : ( « بيانه : أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها ) المحقق الخوانساري من الشك في الرافع ( بتحقق الحكم ) من الدليل ( في قطعة من الزمان ، ونشك أيضا حين القطع في تحققه ) أي : نشك في تحقق ذلك الحكم السابق ( في زمان يكون حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا ) لاحتمال ان يراد من الدليل : وجود الحكم في زمان الشك ، وان يراد عدم وجوده ، فكذلك نجزم في صورة الشك في المقتضي .

وعليه : فانا كما نجزم بتحقق الحكم في الزمان الثاني إذا كان الشك في الرافع ( فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه ، ونشك حين القطع في تحققه ) أي : يُشك في تحقق ذلك الحكم السابق ( في زمان متصل بذلك الزمان ) لأنه من الشك في المقتضي ( لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود ) بمعنى : ان المقتضي كان خاصا ، لا ان له إمتدادا .

والحاصل : ان الشك في المقتضي الذي ذكر القوم انه مجرى الاستصحاب ، هو مثل الشك في الرافع الذي ذكر المحقق الخوانساري انه مجرى الاستصحاب ، فلماذا يجري المحقق الخوانساري الاستصحاب في الشك في الرافع دون

ص: 269

وكما أنّ في الصورة الاُولى يكون الدليلُ محتملاً لأن يراد منه وجود الحكم في زمان الشك ، وأن يراد عدم وجوده ، فكذلك الدليل في الصورة التي فرضناها ، وحينئذٍ فنقول : لو لم يمتثل المكلّف لم يحصل الظنّ بالامتثال ، إلى آخر ما ذكره » ، انتهى .

أقول : وهذا الايراد ساقط عن المحقق ، لعدم جريان قاعدة الاشتغال في غير الصورة التي فرضها المحقق .

-------------------

الشك في المقتضي ؟ .

( وكما أنّ في الصورة الاُولى ) وهي صورة الشك في الرافع ( يكون الدليل محتملاً، لأن يراد منه وجود الحكم في زمان الشك ، وأن يراد عدم وجوده ، فكذلك الدليل في الصورة التي فرضناها ) وهي الصورة الثانية : صورة الشك في المقتضي ، أشار إليها قبل قليل بقوله : فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كانت الصورة الثانية مثل الصورة الاُولى في جريان الاستصحاب ( فنقول : لو لم يمتثل المكلّف ) في الزمان الثاني ، وذلك لامتداد الحكم السابق إلى زمان الشك ( لم يحصل الظنّ بالامتثال ، إلى آخر ما ذكره » (1) ) السيد الصدر هناك ( انتهى ) ما أردنا من نقل كلام السيد الصدر هنا .

( أقول : وهذا الايراد ) من السيد الصدر ( ساقط عن المحقق ) الخوانساري ، وذلك ( لعدم جريان قاعدة الاشتغال في غير الصورة التي فرضها المحقق ) الخوانساري ، فان في غير تلك الصورة وهي صورة الشك في المقتضي تجري البرائة لا الاشتغال .

ص: 270


1- - شرح الوافية : مخطوط .

مثلاً : إذا ثبت وجوب الصوم في الجملة وشككنا في أنّ غايته سقوط القرص ، أو ميلُ الحمرة المشرقيّة ؟ فاللازم حينئذ ، على ما صرّح به المحقق المذكور في عدّة مواضع من كلماته : الرجوعُ في نفي الزائد - وهو وجوب الامساك بعد سقوط القرص - إلى أصالة البرائة لعدم ثبوت التكليف بامساك أزيد من المقدار المعلوم ، فيرجع إلى مسألة الشك في الجزئيّة .

فلا يمكن أن يقال : إنّه لو لم يمتثل التكليف لم يحصل الظنّ بالامتثال ، لأنّه إن اُريد : إمتثال التكليف المعلوم ، فقد حصل قطعا ، وإن اُريد :

-------------------

( مثلاً : إذا ثبت وجوب الصوم في الجملة وشككنا في أنّ غايته سقوط القرص ، أو ميلُ الحمرة المشرقية ؟ فاللازم حينئذ ) أي : حين كون الشك في ان الغاية هذا أو ذاك ( على ما صرّح به المحقق المذكور في عدّة مواضع من كلماته : الرجوعُ في نفي الزائد - وهو وجوب الامساك بعد سقوط القرص - إلى أصالة البرائة ) لا الاشتغال .

وإنّما يرجع فيه إلى البرائة ( لعدم ثبوت التكليف بامساك أزيد من المقدار المعلوم ) والمقدار المعلوم هنا هو : من الفجر إلى سقوط القرص ( فيرجع إلى مسألة الشك في الجزئيّة ) حيث لا نعلم هل ان هذا المقدار من الزمان المتوسط بين سقوط القرص إلى ميل الحمرة جزء الصوم أم لا ؟ فيجري فيه البرائة .

وعليه : ( فلا يمكن أن يقال : إنّه لو لم يمتثل التكليف ) في هذا المقدار من الزمان المتوسط بين سقوط القرص إلى ميل الحمرة ( لم يحصل الظنّ بالامتثال ) .

وإنّما لا يمكن ان يقال ذلك ( لأنّه إن اُريد : إمتثال التكليف المعلوم ، فقد حصل قطعا ) لأن علمه لم يكن أكثر ممّا بين الفجر وسقوط القرص ( وإن اُريد :

ص: 271

إمتثال التكليف المحتمل ، فتحصيله غير لازم .

وهذا بخلاف فرض المحقق ، فان التكليف بالامساك إلى السقوط على القول به ، أو ميل الحمرة على القول الآخر ، معلوم مبيّن ، وإنّما الشك في الاتيان به عند الشك في حدوث الغاية ، فالفرق بين مورد إستصحابه ومورد إستصحاب القوم كالفرق بين الشك في إتيان الجزء المعلوم الجزئية والشك في جزئية شيء ، وقد تقرّر في محلّه : جريان أصالة الاحتياط في الأوّل دون الثاني

-------------------

إمتثال التكليف المحتمل ، فتحصيله غير لازم ) لأنه من الشك في التكليف ، والشك في التكليف مجرى البرائة .

ثم قال المصنِّف : ( وهذا بخلاف فرض المحقق ) الخوانساري من الشك في الرافع ( فان التكليف بالامساك إلى السقوط على القول به ، أو ميل الحمرة على القول الآخر ، معلوم مبيّن ، وإنّما الشك في الاتيان به عند الشك في حدوث الغاية ) فانا نعلم ان الواجب في مذهب الشيعة الصيام إلى ميل الحمرة ، لكنه يشك هل مالت الحمرة أم لا ؟ فاللازم ان يقال : بالاشتغال حتى يعلم ميل الحمرة .

إذن ( فالفرق بين مورد إستصحابه ) أي : إستصحاب المحقق الخوانساري وهو الشك في الرافع ( ومورد إستصحاب القوم ) الذي يشمل الشك في المقتضي أيضا ( كالفرق بين الشك في إتيان الجزء المعلوم الجزئية ) حيث انه من الشك في المكلّف به ، فيلزم الاتيان به ( والشك في جزئية شيء ) لم يعلم هل انه جزء أم لا ؟ حيث تجرى فيه البرائة .

( وقد تقرّر في محلّه : جريان أصالة الاحتياط في الأوّل ) لما عرفت : من انه من الشك في المكلّف به بعد العلم بالتكليف ( دون الثاني ) لأنه من الشك

ص: 272

وقس على ذلك سائر موارد إستصحاب القوم ، كما لو ثبت أنّ للحكم غاية وشككنا في كون شيء آخر أيضا غاية له ، فانّ المرجع في الشك في ثبوت الحكم بعد تحقق ما شك في كونه غاية عند المحقق الخوانساري قدس سره هي : أصالة البرائة دون الاحتياط .

قوله : « الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض لا ينقض ، ومعنى التعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك » .

أقول :

-------------------

في التكليف .

( وقس على ذلك سائر موارد إستصحاب القوم ) كالشك في غائية الرافع المستقل ، وغيره ممّا يثبت القوم الاستصحاب فيه ، والمحقق ينكره .

أمّا مثاله فهو : ( كما لو ثبت أنّ للحكم غاية وشككنا في كون شيء آخر أيضا غاية له ) أم لا ؟ كما إذا علمنا بان خروج البول غاية للطهارة ، وشككنا بان خروج المذي غاية أم لا ( فانّ المرجع في الشك في ثبوت الحكم بعد تحقق ما شك في كونه غاية عند المحقق الخوانساري قدس سره هي : أصالة البرائة ) لأنه من الشك في المقتضي ( دون الاحتياط ) لعدم العلم الاجمالي .

ومن مواقع التأمل في كلامه ( قوله ) في دليله الثاني على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر : ( « الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض لا ينقض ، ومعنى التعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك » ) أي : بان يكون دليل يوجب اليقين ، فإذا أراد الشك إزالة حكم ذلك اليقين لا يزول حكمه ، بل يبقى مستمرا .

( أقول ) : قد عرفت إنّ القول الحادي عشر كما هو ظاهر كلام المحقق

ص: 273

ظاهر هذا الكلام جعلُ تعارض اليقين والشك ، باعتبار تعارض المقتضي لليقين ونفس الشك على أن يكون الشك مانعا عن اليقين ، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشيء والمانع عنه .

والظاهر أنّ المراد بالموجب في كلامه

-------------------

الخوانساري هو : التفصيل بين ما ثبت إستمراره بالدليل الشرعي وشك في وجود الغاية الرافعة لا رافعية الموجود ، أو شك في مصداق الغاية الرافعة لا مفهومها ، فالاستصحاب حجة فيهما ، وبين غيرهما : من الشك في المقتضي والشك في بقية أقسام الرافع فليس بحجة ، لكن عند التدقيق في كلامه يظهر : القول بتفصيل غير التفصيل المذكور ، لدخول بقية أقسام الشك في الرافع وبعض أقسام الشك في المقتضي في هذا التفصيل الجديد ، وقد أراد المصنِّف بهذا الكلام بيان الفرق بين رأي المحقق ورأيه وانه لا يصح رأي المحقق في حجية الاستصحاب بالنسبة إلى الشك في المقتضي أصلاً ، ولذا قال في آخر كلامه : وبين هذا المعنى وما ذكره المحقق تباين جزئي في ضمن العموم والخصوص المطلق ، كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى .

وعليه : فان ( ظاهر هذا الكلام ) من المحقق الخوانساري : ( جعلُ تعارض اليقين والشك ، باعتبار تعارض المقتضي لليقين ) وهو الدليل مثل صم إلى المغرب ( ونفس الشك ) وذلك بهذه الكيفية التي أشار إليها بقوله : ( على أن يكون الشك مانعا عن اليقين ، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشيء والمانع عنه ) فالدليل يقتضي اليقين ، والشك يمنع عنه .

( والظاهر ) أيضا ( أنّ المراد بالموجب في كلامه ) أي : كلام المحقق الخوانساري حيث قال : «ان يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك» ان الموجب

ص: 274

دليل اليقين السابق وهو الدالّ على إستمرار حكم إلى غاية معيّنة .

وحينئذ : فيرد عليه مضافا إلى أنّ التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ونفس المنقوض ، لا مقتضيه الموجب له لولا الناقض - أنّ نقض اليقين بالشك بعد صرفه عن ظاهره ، وهو : نقض صفة اليقين

-------------------

هو : ( دليل اليقين السابق ) أي : السابق على الشك ( و ) ذلك الموجب لليقين ( هو الدالّ على إستمرار حكم إلى غاية معيّنة ) بحسبه .

( وحينئذ ) أي : حين جعل المحقق الخوانساري الشك في مقابل دليل اليقين ، لا في مقابل نفس اليقين ( فيرد عليه ) ما يلي :

أولاً : ( مضافا إلى أنّ التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ) وهو الشك ( ونفس المنقوض ) وهو اليقين ( لا ) بين الناقض وبين ( مقتضيه ) أي : مقتضي المنقوض ( الموجب له ) أي : الموجب للمنقوض الذي هو عبارة عن اليقين ( لولا الناقض ) وهذا إستثناء من الموجب .

هذا هو الاشكال الأوّل على المحقق الخوانساري وخلاصته : ان الشك إنّما هو في قبال نفس اليقين لا في قبال الموجب لليقين الذي هو الدليل .

ثانيا : ( أنّ نقض اليقين بالشك بعد صرفه عن ظاهره ) أي : عن ظاهر نقض اليقين ، فان في لا تنقض اليقين إحتمالات ثلاثة :

الأوّل : ان يراد به ظاهره ( وهو : نقض صفة اليقين ) وهذا لا يمكن ، لأن صفة اليقين بنفسها قد إرتفعت ، بسبب الشك ، فليس بيد الشاك نقضه حتى ينهى عنه .

الثاني : ان يراد به نقض أحكام اليقين التابعة لهذه الصفة النفسيّة ، كما قال :

ص: 275

أو أحكامها الثابتة لها من حيث هي صفة من الصفات لارتفاع اليقين ، وأحكامه الثابتة له من حيث هو ، حين الشك قطعا ظاهر في نقض أحكام اليقين ، يعني : الأحكام الثابتة باعتباره للمتيقن ، أعني : المستصحب ، فيلاحظ التعارض حينئذ بين المنقوض والناقض .

-------------------

( أو أحكامها الثابتة لها من حيث هي صفة من الصفات ) وذلك كما إذا نذر أن يعطي كل يوم درهما ، ما دام له صفة اليقين بحياة ولده ، فإذا شك في حياة ولده فقد إرتفعت صفة اليقين بنفسها بسبب الشك ، فيرتفع بتبعه وجوب إعطاء الدرهم ، وهذا أيضا لا يمكن ان يكون المراد من لا تنقض اليقين لأنه ليس بيد الشاك نقضه حتى ينهى عنه .

الثالث : ان يراد به نقض الحكم التابع لمتعلق اليقين ، كالحكم بجواز الدخول في الصلاة الذي هو حكم للطهارة التي هي متعلق اليقين وهذا لا ينتقض من نفسه بسبب الشك فيصُح النهي عن نقضه فيكون هو المستفاد من الرواية .

ثم إنّ المصنِّف علل لزوم صرف لا تنقض اليقين عن ظاهره إلى المعنى الثالث بقوله : ( لارتفاع اليقين ، و ) إرتفاع ( أحكامه الثابتة له من حيث هو ، حين الشك قطعا ) فلا يقين كما لا حكم بإعطاء الدرهم ، فلا يمكن ان ينهى الشارع عنه بقوله : لا تنقض .

وعليه : فإذا سقط الاحتمالان الأولان ، فنقض اليقين بالشك في الرواية ( ظاهر في نقض أحكام اليقين يعني : الأحكام الثابتة باعتباره للمتيقن ، أعني : المستصحب ) وهو المعنى الثالث الذي ذكرناه ( فيلاحظ التعارض حينئذ بين المنقوض ) وهو المتيقن كالطهارة بما لها من الأحكام الثابتة لها ( والناقض ) وهو الشك .

ص: 276

واللازم من ذلك إختصاص الأخبار بما يكون المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي بنفسه الاستمرار لولا الرافع .

فلا ينقض تلك الأحكام بمجرّد الشك في الرافع سواء كان الشك في وجود الرافع أو في رافعية الموجود . وبين هذا وما ذكره المحقق تباينٌ جزئيٌّ .

-------------------

( و ) عليه : فيكون ( اللازم من ذلك ) الذي ذكرناه في صرف لا تنقض اليقين عن ظاهره إلى المعنى الثالث : ( إختصاص الأخبار ) الواردة في عدم جواز نقض اليقين بالشك ( بما يكون المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي بنفسه الاستمرار لولا الرافع ) بمعنى ان يكون الشك في الرافع لا في المقتضي .

وعليه : فإذا شك في الرافع بعد العلم بأن المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي البقاء ( فلا ينقض تلك الأحكام ) الثابتة للمتيقن كالطهارة - مثلاً - ( بمجرّد الشك في الرافع ) أي : الحدث فان الطهارة مقتضية للبقاء لولا الحدث ، وذلك ( سواء كان الشك في وجود الرافع ) بأن لم يعلم هل أحدث أم لا ؟ ( أو في رافعية الموجود ) بأن خرج منه ما لم يعلم انه بول أو مذي ؟ .

( و ) من المعلوم : ان ( بين هذا ) الذي ذكرناه ( وما ذكره المحقق ) الخوانساري في مورد الاستصحاب بالمعنى الآخر ( تباينٌ جزئيٌّ ) .

قال الفقيه الهمداني هنا : ان المحقق الخوانساري خصّص الحجية بالشك في وجود الرافع وعمّمها بالنسبة إلى بعض صور الشك في المقتضي ، وهو : ما إذا دل الدليل على إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة في الواقع وشك في تحققها ، فانه ربما لا يكون الغاية من قبيل الرافع ، بل ينقضي عندها ما يقتضي الحكم كاستصحاب وجوب الصوم عند الشك في تحقق الغروب .

ص: 277

ثم إنّ تعارضَ المقتضي لليقين ونفس الشك ، لم يكد يتصوّر فيما نحن فيه ، لأنّ اليقين بالمستصحب ، كوجوب الامساك في الزمان السابق ، كان حاصلاً من اليقين بمقدّمتين صغرى وجدانيّة ، وهي : أنّ هذا الآن لم يدخل الليل ، وكبرى مستفادة من دليل إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة ، وهي : وجوب الامساك قبل أن يدخل الليل .

-------------------

( ثم ) ان المصنِّف لمّا قال : ان نقض اليقين بالشك في الرواية ظاهر في ان الذي يعارضه الشك هو : أحكام اليقين الثابتة للمتيقن أعني : المستصحب باعتبار اليقين ، تعرض للاشكال على كلام المحقق المذكور الذي جعل التعارض بين الشك ودليل اليقين وقال : ان هذا خلاف الظاهر من الرواية بل ( إنّ تعارض المقتضي لليقين ) أي : دليل اليقين ( ونفس الشك ، لم يكد يتصوّر فيما نحن فيه ) الذي هو عبارة عن الشك في دخول الليل وعدمه .

وإنّما قال : لم يكد يتصور هنا ( لأنّ اليقين بالمستصحب كوجوب الامساك في الزمان السابق كان حاصلاً من اليقين بمقدّمتين ) :

المقدمة الاُولى : إنّ الليل لم يدخل .

المقدمة الثانية : انه يجب الامساك قبل دخول الليل .

أشار المصنِّف إلى المقدمة الاُولى بقوله : ( صغرى وجدانيّة ، وهي : أنّ هذا الآن لم يدخل الليل ) لوضوح : ان في الزمان الأوّل السابق على الشك لم يكن الليل داخلاً .

وأشار إلى المقدمة الثانية بقوله : ( وكبرى مستفادة من دليل إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة ، وهي : وجوب الامساك قبل أن يدخل الليل ) حيث قال سبحانه :

ص: 278

والمراد بالشك زوال اليقين بالصغرى . وهو ليس من قبيل المانع عن اليقين والكبرى من قبيل المقتضي له حتى يكونا من قبيل المتعارضين ، بل نسبة اليقين إلى المقدّمتين على نهج سواء ، كلّ منهما من قبيل جزء المقتضي له .

والحاصل : أنّ ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشك وأحكام المتيقن الثابتة لأجل اليقين

-------------------

« ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل » (1) .

هذا ( و ) من المعلوم : ان ( المراد بالشك ) المنهي عن نقض اليقين به هو : ( زوال اليقين بالصغرى . وهو ) أي : زوال اليقين بالصغرى : ( ليس من قبيل المانع عن اليقين ) بالحكم في زمان الشك ( و ) كذا ليس ( الكبرى من قبيل المقتضي له ) أي : لليقين بالحكم ( حتى يكونا من قبيل المتعارضين ) على ما قاله المحقق الخوانساري .

وإنّما لم يكن كذلك ، لأن الامساك قبل دخول الليل لا يطارده الشك في انه هل دخل الليل أم لا ؟ فليس الشك المذكور من قبيل الرطوبة التي تطارد النار ، حيث تمنع من تأثير النار في الاحراق ( بل نسبة اليقين ) بالحكم في زمان الشك ( إلى المقدمتين ) : الصغرى والكبرى ( على نهج سواء ، كلّ منهما من قبيل جزء المقتضي له ) أي : لليقين .

( والحاصل : ) ان ما ذكره المحقق الخوانساري من التعارض بين الشك ومقتضي اليقين غير تام ، وذلك ( أنّ ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشك وأحكام المتيقن الثابتة ) تلك الأحكام ( لأجل اليقين ) مثل : جواز الدخول في الصلاة

ص: 279


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

أولى من ملاحظته بالنسبة إلى الشك ودليل اليقين .

وأمّا توجيه كلام المحقق ب « أن يراد من موجب اليقين : دليل المستصحب وهو عموم الحكم المغيّى ومن الشك : إحتمال الغاية التي من مخصصات العام .

فالمراد عدمُ نقض عموم دليل المستصحب بمجرّد الشك في المخصّص » ، مدفوعٌ : بأنّ نقض العام باحتمال التخصيص إنّما يتصور في الشك في أصل التخصيص ، ومعه

-------------------

يكون ( أولى من ملاحظته ) أي : ملاحظة النقض ( بالنسبة إلى الشك ودليل اليقين ) ولذا قال المصنِّف قبل أسطر : ان التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابد ان يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ونفس المنقوض لا مقتضيه .

( وأمّا توجيه كلام المحقق ) الخوانساري ، حيث جعل التعارض بين الشك ودليل اليقين ( ب «أن يراد من موجب اليقين: دليل المستصحب وهو عموم الحكم المغيّى ) مثل : « أتمُّوا الصيام إلى الليل » (1) ( و ) ان يراد ( من الشك : إحتمال الغاية التي من مخصصات العام) فان المغيّى يرتفع بالغاية، كما يرتفع العام بسبب المخصص .

وعليه : ( فالمراد ) أي : مراد المحقق المذكور هو : ( عدم نقض عموم دليل المستصحب بمجرّد الشك في المخصّص » ) أي : إذا شككنا في ان الغاية هل حصلت أم لا ، فلا نرفع اليد عن المغيّى ؟ .

إذن : فمن قال فهذا التوجيه قلنا له : انه ( مدفوعٌ : بأنّ نقض العام باحتمال التخصيص إنّما يتصور في الشك في أصل التخصيص ، ومعه ) أي : مع هذا

ص: 280


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

يتمسّك بعموم الدليل لا بالاستصحاب وأمّا مع اليقين بالتخصيص والشك في تحقق المخصص المتيقن ، كما فيما نحن فيه فلا مقتضيَ للحكم العام حتى يتصوّر نقضه ، لأنّ العام المخصّص لا إقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشك في تحقق المخصص ، خصوصا في مثل التخصيص بالغاية .

والحاصل :

-------------------

الاحتمال ( يتمسّك بعموم الدليل لا بالاستصحاب ) وهذا ليس محل كلامنا .

( وأمّا مع اليقين بالتخصيص والشك في تحقق المخصص المتيقن ، كما فيما نحن فيه ) فانا نعلم بوجوب الصيام إلى الغاية ، وانه بعد الغاية لا صوم ، ولكن نشك في انه حصلت الغاية أم لا ؟ ( فلا مقتضيَ للحكم العام حتى يتصور نقضه ).

وإنّما لا مقتضي ( لأنّ العام المخصّص لا إقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشك في تحقق المخصص ، خصوصا في مثل التخصيص بالغاية ) حيث يرتفع الحكم عما بعد الغاية بالمرّة .

قال الأوثق : ان قلنا بكون العام في الشمول لأفراده من قبيل المقتضي ، والتخصيص من قبيل المانع ، فلا ريب ان التخصيص بالغاية ليس كذلك ، لما عرفت : من ان العموم بحسب الأحوال إنّما هو لأجل دليل الحكمة ، وهو إنّما يجري في موارده مع عدم بيان الشارع لمطلوبية الحكم في بعض الأحوال دون بعض ، فالتخصيص بالغاية من باب رفع المقتضي لا إثبات المانع (1) .

( والحاصل ) : انه إذا شك في انه هل هناك تخصيص أم لا ؟ فالعام يشمله ، والخاص لا يشمله ، فيحكم حسب العام امّا إذا علمنا بالعام ، وعلمنا بالخاص

ص: 281


1- - أوثق الوسائل : ص489 بيان معنى المقتضي والمانع .

أنّ المقتضي والمانع في باب العام والخاص هو لفظ العام والمخصّص، فإذا اُحرز المقتضي وشُك في وجود المخصّص يُحكم بعدمه عملاً بظاهر العام ، وإذا عُلِمَ بالتخصيص وخروج اللفظ عن ظاهر العموم ، ثم شك في صدق المخصّص على شيء ، فنسبةُ دليل العموم والتخصيص إليه على السواء من حيث الاقتضاء .

هذا كلّه ، مع أنّ ما ذكره في معنى النقض لا يستقيم في قوله عليه السلام في ذيل الصحيحة : « ولكن تنقُضه بيقين

-------------------

وشككنا في فرد انه من العام أو من الخاص ، فان نسبة كل من العام والخاص إلى ذلك الفرد على حد سواء .

وعليه : فلا يمكن ان يقال : يشمله العام ولا يشمله الخاص ، كما فعله المحقق الخوانساري حيث قال : ( أنّ المقتضي والمانع في باب العام والخاص هو لفظ العام و ) هو المقتضي ولفظ ( المخصّص ) وهو المانع ( فإذا اُحرز المقتضي وشك في وجود المخصّص يُحكم بعدمه ) أي : بعدم المخصص وذلك ( عملاً بظاهر العام ) ولا إستصحاب هنا .

( وإذا عُلِمَ بالتخصيص وخروج اللفظ عن ظاهر العموم ، ثم شك في صدق المخصّص على شيء ، فنسبةُ دليل العموم والتخصيص إليه ) أي : إلى ذلك الشيء ( على السواء من حيث الاقتضاء ) العام فلا إستصحاب أيضا .

( هذا كلّه ، مع أنّ ما ذكره في معنى النقض ) : من انه نقض دليل اليقين بسبب الشك ( لا يستقيم في قوله عليه السلام في ذيل الصحيحة : « ولكن ينقُضه بيقين

ص: 282

آخر » ، وقوله عليه السلام في الصحيحة المتقدّمة الواردة في الشك بين الثلاث والأربع : « ولكن يَنقُض الشك باليقين » ، بل ولا في صدرها المصرّح بعدم نقض اليقين بالشك ، فانّ المستصحب في موردها إمّا عدم فعل الزائد وإمّا عدم برائة الذمّة من الصلاة ، كما تقدّم ، ومن المعلوم : إنّه ليس في شيء منهما دليلٌ يوجوب اليقين لولا الشك .

قوله في جواب السؤال :

-------------------

آخر » (1) ، وقوله عليه السلام في الصحيحة المتقدمة الواردة في الشك بين الثلاث والأربع : « ولكنه يَنقُض الشك باليقين » (2) ، بل ولا في صدرها المصرّح بعدم نقض اليقين بالشك ) .

وإنّما لا يستقيم لأنه كما قال : ( فانّ المستصحب في موردها ) أي : مورد الصحيحة هو : ( إمّا عدم فعل الزائد ) وهي الركعة المشكوكة ( وإمّا عدم برائة الذمّة من الصلاة ) وكل من إستصحاب العدمين ليس دليلاً ، لأنه أصل العدم والأصل ليس بدليل ، وذلك ( كما تقدّم ) .

وإلى بيان هذا المعنى قال المصنِّف : ( ومن المعلوم : إنّه ليس في شيء منهما دليلٌ بوجوب اليقين لولا الشك ) فكيف يوقع المحقق المذكور التعارض بين الشك ودليل اليقين ؟ وهذا بخلاف ما ذكره المصنِّف في معنى النقض من إعتبار وجود المقتضي للحكم، وكون المراد بنقضه رفع اليد عما يقتضيه من إستمرار الحكم .

ومن مواقع التأمل في كلام المحقق الخوانساري ( قوله في جواب السؤال :

ص: 283


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

« قلت : فيه تفصيل ، إلى آخر الجواب » .

أقول : إنّ النجاسة فيما ذكره من الفرض أعني : موضع الغائط مستمرةٌ وثبت أنّ التمسّح بثلاثة أحجار مزيل لها ، وشك أنّ التمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم لا ، فإذا ثبت وجوب إزالة النجاسة ، والمفروض : الشك في تحقق الازالة بالتمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات ، فمقتضى دليله هو : وجوب تحصيل اليقين أو الظنّ المعتبر بالزوال ،

-------------------

« قلت : فيه تفصيل ، إلى آخر الجواب » ) الذي مرّ في ثاني الأمرين من الاستدلال على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( أقول ) : إنّ المحقّق الخوانساري جعل الأصل هو البرائة في صورة الشك في انه هل يكفي الحجر الواحد ذو الجهات الثلاث أو يلزم أحجار ثلاثة ؟ فقال بكفاية أحدهما ، وهذا غير تام بعد علمنا بحصول النجاسة وشكنا في انها هل ترتفع بالحجر ذي الجهات الثلاث أم لا ؟ فان الأصل هنا هو الاشتغال لا البرائة .

وإنّما يكون الأصل هنا الاشتغال ، لأنه كما قال : ( إنّ النجاسة فيما ذكره من الفرض أعني : موضع الغائط ) هذه النجاسة ( مستمرةٌ ) إلى ان يثبت المزيل ( و ) قد ( ثبت أنّ التمسّح بثلاثة أحجار مزيل لها ، وشك أنّ التمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم لا ) أي : غير مزيل فتستصحب النجاسة لليقين السابق بالنجاسة والشك اللاحق في زوالها ، فيكون موردا للاحتياط .

وعليه : ( فإذا ثبت وجوب إزالة النجاسة ، والمفروض : الشك في تحقق الازالة بالتمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات ، فمقتضى دليله ) أي : دليل وجوب الازالة ( هو : وجوب تحصيل اليقين ) أي : القطع الذي هو صفة نفسية ( أو الظنّ المعتبر ) بسبب خبر الواحد أو ما أشبه ذلك ( بالزوال ) أي : بزوال النجاسة .

ص: 284

وفي مثل هذا المقام لا يجري أصالة البرائة ولا أدلّتها ، لعدم وجود القدر المتيقن في المأمور به ، وهي الازالة وإن كان ما يتحقق به مردّدا بين الأقل والأكثر ، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به ، كما لا يخفى .

نعم ، لو فرض أنّه لم يثبت الأمر بنفس الازالة ، وإنّما ثبت بالتمسّح بثلاثة أحجار أو بالأعمّ منه ومن التمسّح بذي الجهات ، أمكن بل لم يبعد إجراء أصالة البرائة عمّا عدا الأعمّ .

-------------------

( و ) عليه : فان ( في مثل هذا المقام ) المحتاج إلى الدليل على الزوال ( لا يجري أصالة البرائة ولا أدلّتها ) وقوله : «ولا أدلتها» ، عطف بيان إذ المعنى : ان دليل البرائة لا يجري فلا تجري البرائة .

وإنّما لا تجري البرائة ، لان الشك في المكلّف به لا في التكليف ، حيث ان الشارع يريد الطهارة ، ولا نعلم بحصول الطهارة بدون ثلاثة أحجار ، لا أن الشارع يريد المسح ونشك بين الأقل والأكثر حتى يكون الأصل كفاية الأقل ، وجريان البرائة عن الأكثر .

وعليه : ففي مثل المقام لا يجري البرائة ( لعدم وجود القدر المتيقن في المأمور به ، وهي ) أي : المأمور به هنا : ( الازالة وإن كان ما يتحقق به ) المأمور به - والضمير في : به عائد إلى : ما ، ومصداقه الحجر - ( مردّدا بين الأقل والأكثر ، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به ) الذي هو الازالة ( كما لا يخفى ) بل الترديد في محصّل المأمور به كما مثّلنا .

( نعم ، لو فرض أنّه لم يثبت الأمر بنفس الازالة ، وإنّما ثبت بالتمسّح بثلاثة أحجار أو بالأعم منه ) أي : من الأحجار الثلاثة ( ومن التمسّح بذي الجهات ) الثلاث ( أمكن بل لم يبعد إجراء أصالة البرائة عمّا عدا الأعمّ ) لأن الأعم لازم

ص: 285

والحاصل : أنّه فرقٌ بين الأمر بازالة النجاسة من الثوب المردّدة بين غسله مرّة أو مرّتين وبين الأمر بنفس الغَسل المردّد بين المرّة والمرّتين .

والذي يعيّن كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل دون الثاني هو ما اُستفيد من أدلّة وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، مثل قوله : « وثيابك فطهّر » وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « لا صلاة إلاّ بطَهُور » ،

-------------------

مطلقا ، والزائد مشكوك فيه ، فالأصل عدمه ، لكن هذا الامكان غير تام في المقام لما عرفت .

( والحاصل : أنّه فرق بين الأمر بازالة النجاسة من الثوب المردّدة ) تلك الأزالة ( بين غسله مرّة أو مرّتين ) حيث يلزم فيه الاحتياط ، إذ لم يعلم حصول الازالة بالغسل مرّة .

( وبين الأمر بنفس الغَسل المردّد ) ذلك الغَسل ( بين المرّة والمرّتين ) حيث يجري فيه البرائة ، لأن الشك حينئذ في التكليف الزائد وهو مجرى البرائة .

( والذي يعيّن كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل ) الذي هو الأمر بازالة النجاسة فيجب فيه الاحتياط ( دون الثاني ) الذي هو الأمر بنفس الغَسل فيكون مجرى البرائة ( هو : ما اُستفيد من أدلّة وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، مثل قوله : « وثيابك فطهّر » (1) وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « لا صلاة إلاّ بطَهُور » (2) ) فان هذه الأدلة ظاهرة في ان مطلوب الشارع هو الطهارة ، وحيث لا نعلم ان هذا

ص: 286


1- - سورة المدثر : الآية 4 .
2- - الامالي للصدوق : ص645 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و 4 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 .

بناءا على شمول الطهور - ولو بقرينة ذيله الدالّ على كفاية الأحجار من الاستنجاء - للطهارة الخبثيّة - ومثل الاجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة .

وهذا المعنى وإن لم يدلّ عليه دليلٌ صحيحُ السند والدلالة على وجه يرتضيه المحقق المذكور ، بل ظاهرُ أكثر الأخبار الأمر بنفس الغَسل ،

-------------------

المطلوب يحصل بالحجر ذي الجهات ، فاللازم ان نأتي بما نقطع معه بحصول مطلوب الشارع .

وإنّما يستفاد من أدلة وجوب إزالة النجاسة للصلاة تعيين كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل ( بناءا على شمول الطهور - ولو بقرينة ذيله الدالّ على كفاية الأحجار من الاستنجاء - للطهارة الخبثيّة - ) أيضا ، لا بناءا على انّ «لا صلاة إلاّ بطهور» خاص بالطهارة الحدثية حتى لا يكون له ربط بالمقام .

( و ) كذا يستفاد التعيين من ( مثل الاجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة ) فيكون المكلّف به هو : الازالة والتطهير لا الغَسل المحقق لهما .

( وهذا المعنى ) وهو : كون المأمور به نفس الازالة ونفس التطهير وهو مورد الاحتياط لا مايتحقق به الازالة أو يحقق التطهير حتى يكون موردا للشك في التكليف المردّد بين الأقل والأكثر ، فان هذا المعنى ( وإن لم يدلّ عليه دليلٌ صحيحُ السند والدلالة ) بأن يكون حجة من حيث السند ، ومن حيث الدلالة ( على وجه يرتضيه المحقق المذكور ) الخوانساري ( بل ظاهر أكثر الأخبار الأمر بنفس الغَسل ) فيكون الشك فيه بين الأقل والأكثر وهو مجرى البرائة لا الاشتغال .

ص: 287

إلاّ أنّ الانصاف وجود الدليل على وجوب نفس الازالة ، وأنّ الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة ، وإنّما هو أمر مقدّمي لازالة النجاسة ، مع أنّ كلام المحقق المذكور لا يختصّ بالمثال الذي ذكره حتى يناقش فيه .

وبما ذكرنا يظهر ما في قوله في جواب الاعتراض الثاني : بأنّ مسألة الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه ما لفظه : « غاية ما أجمعوا عليه أنّ التغوّط

-------------------

( إلاّ أنّ الانصاف وجود الدليل على وجوب نفس الازالة ) والطهارة ( وأنّ الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة ، وإنّما هو أمر مقدّمي لازالة النجاسة ) والتحقيق الطهارة .

هذا ( مع أنّ كلام المحقق المذكور ) الخوانساري ( لا يختصّ بالمثال الذي ذكره حتى يناقش فيه ) أي : في المثال ، بل ان كلامه في كليّ ما كان من هذا القبيل وانه هل يجري فيه الاستصحاب أم لا ، لا في خصوص النجاسة والأحجار أو الحجر الواحد حتى يناقش في مثاله بانه يجب فيه التمسّح لا الازالة والطهارة .

( وبما ذكرنا ) من ان الأمر في مسألة الاستنجاء متعلق بازالة النجاسة وبالطهارة، لا بالغسل المردّد بين المرة والمرتين ، ولا بالمسَحات الثلاث المردّدة بين المسح بثلاثة أحجار ، أو حجر ذي شعب ثلاث ، فالمسألة على ذلك من الاشتغال لا من البرائة ( يظهر ما في قوله ) أي : قول المحقق الخوانساري ( في جواب الاعتراض الثاني : بأنّ مسألة الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه ) أي : ممّا يجري فيه البرائة لا الاشتغال ( ما لفظه ) كالتالي :

( « غاية ما أجمعوا عليه ) هو العقد السلبي ، لا الايجابي ، أي : ( أنّ التغوّط

ص: 288

متى حصل ، لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا ، لا بالثلاث ولا بشُعَب الحجر الواحد .

وهذا لا يستلزم الاجماع على ثبوت النجاسة حتى يحصل شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا، إلى آخره » .

ويظهر ما في قوله جوابا عن الاعتراض الأخير : « أنّه لم يثبت الاجماع على وجوب شيء معيّن بحيث لو لم يأت بذلك الشيء لاستحقّ العقاب ، إلى آخره » .

وما في كلامه المحكي في حاشية شرحه على قول الشهيد قدس سره : «ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه

-------------------

متى حصل ، لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا لا بالثلاث ولا بشُعَب الحجر الواحد ) فانه بدون شيء من هذه الاُمور لا تصح الصلاة ( وهذا لا يستلزم الاجماع على ثبوت النجاسة حتى يحصل شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا، إلى آخره » (1) ) حتى يكون المورد من قاعدة الاشتغال ، لا قاعدة البرائة .

( ويظهر ) بما ذكرنا أيضا ( ما في قوله جوابا عن الاعتراض الأخير ) حيث قال: ( « أنّه لم يثبت الاجماع على وجوب شيء معيّن بحيث لو لم يأت بذلك الشيء لاستحقّ العقاب ، إلى آخره » ) فانه إذا لم يثبت ذلك جرى فيه البرائة عن الزائد على القدر المتيقن .

( و ) كذا يظهر ، بما ذكرنا أيضا ( ما في كلامه المحكي في حاشية شرحه على قول الشهيد قدس سره : « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ) حيث قال هناك :

ص: 289


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

إلى آخره » .

وأنت إذا أحطت خُبرا بما ذكرنا في أدلّة الأقوال ، علمت أنّ الأقوى منها : القول التاسع ، وبعده القول المشهور ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

-------------------

وتوضيح الكلام : ان الاستصحاب لا دليل على حجيته ( إلى آخره » ) .

والحاصل : ان الاجماع قد ثبت على وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، كما ثبت على وجوب التطهير لها ، فيلزم الأحجار الثلاثة تحصيلاً لليقين بالازالة التي هي شرط صحة الصلاة .

هذا ( وأنت إذا أحطت خُبرا بما ذكرنا في أدلّة الأقوال ، علمت أنّ الأقوى منها : القول التاسع ) القائل بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، وذلك بعدم حجية الاستصحاب في الأوّل وحجيّته في الثاني .

( وبعده ) أي : بعد القول التاسع قوة هو : ( القول المشهور ) القائل بحجية الاستصحاب مطلقا .

امّا القائلين بنفي حجية الاستصحاب مطلقا ، وكذا سائر المفصلين ، فأدلتهم غير تامة ( واللّه العالم بحقائق الاُمور ) .

ثم أنّه قد عرفت : إنّ مختارنا (1) هو : القول المشهور ، لأنه هو المستفاد من الأدلة ، وهو يقتضي حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي أم في المانع ، وسواء كان من الاُمور الخارجية أم من الأحكام الكلية أم من الأحكام الجزئية ؟ .

ص: 290


1- - أي مختار السيد الشارح «دام ظلّه» .

وينبغي التنبيه على اُمور :

اشارة

وهي بين ما يتعلّق بالمتيقن السابق ، وما يتعلّق بدليله الدالّ عليه ، وما يتعلّق بالشك اللاحق في بقائه .

الأوّل :

أنّ المتيقن السابق إذا كان كلّيا في ضمن فرده وشك في بقائه ،

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تبلغ إثنى عشر أمرا ( وهي بين ما يتعلّق بالمتيقن السابق ) فانه قد يكون المتيقن السابق حكما كليا ، وقد يكون حكما جزئيا ، وما أشبه ذلك .

( وما يتعلّق بدليله الدالّ عليه ) أي : على المتيقن فانه قد يكون الدليل الدال على المتيقن في الزمان السابق مطلقا يشمل كل الأزمنة ، أو مهملاً ، أو مجملاً .

( وما يتعلّق بالشك اللاحق في بقائه ) أي : في بقاء ذلك المتيقن فانه قد يكون الشك في البقاء والانتفاء مساوي الطرفين ، وقد يكون راجح البقاء ، أو راجح الانتفاء .

أما الأمر ( الأوّل ) من تلك الاُمور الاثني عشر فهو : ( أنّ المتيقن السابق ) قد يكون جزئيا كحياة زيد ، حيث نستصحبه لايجاب النفقة على زوجته ، أو تحريم تقسيم أمواله ، أو ما أشبه ذلك ، وقد يكون كليا مثل : حدوث الحدث المترتب عليه حرمة الدخول في الصلاة من غير فرق بين افراد الحدث ، فان مطلق الحدث الكلي محكوم بهذا الحكم .

وعليه : فالمتيّقن ( إذا كان كلّيا في ضمن فرده وشك في بقائه ) أي : بقاء ذلك الكلي ، فهو على ثلاثة أقسام :

ص: 291

فأمّا أن يكون الشك من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد ، وإمّا أن يكون من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردّده بين ما هو باق جزما ، وبين ما هو مرتفع جزما ، وإمّا أن يكون من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد .

أمّا الأوّل : فلا إشكال في جواز إستصحاب الكلّي ، ونفس الفرد وترتيب أحكام كلّ منهما عليه .

-------------------

القسم الأوّل : ( فامّا أن يكون الشك ) في بقاء الكلي المستند إلى الفرد المعيّن ( من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد ) بحيث لو علمنا إرتفاع ذلك الفرد علمنا بارتفاع الكلي ، كما إذا علمنا بحدوث الجنابة ، وشككنا في بقاء الحدث للشك في بقاء الجنابة ، فان الحدث كلي والجنابة فرد منه .

القسم الثاني : ( وإمّا أن يكون من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردّده ) أي : تردّد ذلك الفرد ( بين ما هو باق جزما ، وبين ما هو مرتفع جزما ) كما إذا علم بالنكاح وشك في انه هل كان متعة لمدة شهر ، أو عقد دوام ، فان كان الأوّل : فقد إرتفع جزما حيث إنقضى الشهر ، وان كان الثاني : فهو باق جزما ؟ .

القسم الثالث : ( وإمّا أن يكون من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد ) الأوّل ، كما إذا قال المولى : ابق في الدار ما دام فيها إنسان ، فدخل زيد وقد خرج قطعا ، لكن العبد يشك في انّ بعد خروج زيد هل دخل عمرو حتى يجب عليه البقاء في الدار ، وانه لم يدخل حتى ينصرف ، فهو شك في وجود فرد آخر من الكلي مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد السابق .

( أمّا الأوّل : فلا إشكال في جواز إستصحاب الكلّي ، ونفس الفرد ، وترتيب أحكام كلّ منهما عليه ) أي : على كل منهما ، ففي المثال الذي ذكرناه يجوز

ص: 292

وأمّا الثاني : فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقا على المشهور.

نعم ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ، سواء كان الشك من جهة الرافع ، كما إذا علم بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة

-------------------

إستصحاب الجنابة ، لاثبات وجوب الغسل ، وحرمة المكث في المسجد ، وما أشبه ذلك من الأحكام الثابتة لنفس الجنابة بما هي جنابة ، كما يجوز إستصحاب الحدث الجامع بين الجنابة وغيرها ، لاثبات حرمة الصلاة ، ومس كتابة القرآن ، وما أشبه ذلك ، لأن هذه الآثار آثار مطلق الحدث ، سواء كانت جنابة ، أم غيرها .

( وأمّا الثاني : فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقا ) سواء في الرافع كان الشك ، أم في المقتضي ، وذلك ( على المشهور ) فان المشهور لا يفرّقون في جريان الاستصحاب بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فيستصحبون بقاء الزوجية في المثال الذي ذكرناه .

( نعم ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ) الذي هو الدوام في المثال ، فيجوز للزوج في المثال الزواج بالخامسة ، كما لا يجب عليه النفقة لها ، وذلك لأن حرمة الزواج بالخامسة إنّما هو فيما إذا كان العقد الأوّل دواما حتى تتم له أربع زوجات ، والمفروض انه مشكوك كون العقد الأوّل دواما ، كما ان النفقة تجب للدائمة وهي مشكوكة .

وكيف كان : فالاستصحاب في القسم الثاني من الكلي يجري مطلقا ( سواء كان الشك من جهة الرافع ) مع علمه باقتضاء المقتضي للدوام وذلك ( كما إذا علم ) إجمالاً ( بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة ) .

وإنّما قيّده بكونه لم يعلم الحالة السابقة ، لأنه لو كان عالما بالحالة السابقة ، كان علمه الاجمالي بلا أثر فيما إذا كانت الحالة السابقة الجنابة أو الحدث الأصغر .

ص: 293

في الجمع بين الطهارتين ، فإذا فعل إحداهما وشك في رفع الحدث ، فالأصل بقاؤه وإن كان الأصل عدم تحقق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ،

-------------------

مثلاً : لو كان عالما بسبق الحدث الأصغر ، وجب عليه الوضوء فقط ، لأن هذا الخارج على فرض كونه حدثا أصغر ، لا أثر له وإحتمال كونه منيا يدفع بالأصل ، فيكون كما إذا كان هناك إناءان أحدهما نجس فوقعت قطرة دم في أحدهما ، حيث ان هذا العلم الاجمالي لا أثر له ، لأنه يشك في توجه تكليف جديد عليه .

وكذا لو كان عالما بسبق الحدث الأكبر وجب عليه الغسل فقط ، لأن هذا الخارج لا أثر له بولاً كان أو منيا على ما عرفت وجهه .

نعم ، إذا لم يكن عالما بحالته السابقة إطلاقا ، أو كان عالما بتبادل الحالتين عليه ، فانه ( في ) هذه الصورة يجب عليه ( الجمع بين الطهارتين ) وذلك من جهة علمه الاجمالي ، لأن إستصحاب الحدث يثبت حرمة ما يحرم على المحدث ، فيحكم العقل بلزوم جمعه بين الطهارتين ، حتى يحرز حلّية تلك الاُمور .

هذا ، ولا يخفى : انه لو كان عالما بسبق الطهارة ، ثم خرج منه شيء لم يعلم انه بول أو مني ، كان الحكم كذلك يعني : وجوب الجمع بين الطهارتين .

وعليه : ( فإذا فعل إحداهما ) أي : إحدى الطهارتين ( وشك في رفع الحدث ، فالأصل بقاؤه ) أي : بقاء الحدث الكلي حتى يأتي بالطهارة الثانية أيضا .

هذا بالنسبة إلى الأثر المشترك بين البول والجنابة ، واما الأثر المختص بالجنابة - مثلاً - فلا يترتب باستصحاب كلي الحدث كما قال : ( وإن كان الأصل عدم تحقق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ) من الأحكام المختصة به .

إذن : فوجوب الجمع بين الطهارتين ، إنّما هو للآثار المشتركة بين البول

ص: 294

أم كان الشك من جهة المقتضي ، كما لو تردّد مَن في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة ، وكونه حيوانا يعيش مائة سنة ، فيجوز بعد السنة الاُولى إستصحاب الكلّي المشترك بين الحيوانين ويترتّب عليه آثاره الشرعية الثابتة ،

-------------------

والجنابة ، واما الآثار المختصة بالجنابة فتنفى بأصالة عدم الجنابة ، لوضوح : ان هناك آثارا مشتركة بين الحدث الأصغر والأكبر مثل : حرمة الصلاة ، وحرمة مس كتابة القرآن ، وآثارا مختصة بالجنابة فقط مثل : حرمة المكث في المسجد ، ووضع شيء فيه ، وإستصحاب كلي الحدث إنّما يثبت الآثار المشتركة ، لا الآثار الخاصة .

وعلى أي حال : فالشك فيما نحن فيه شك في الرافع ، لأن الحدث سواء كان حدثا أكبر أم أصغر فانه إذا ثبت دام إلاّ برافع .

إذن : فالاستصحاب يجري في القسم الثاني من الكلي سواء كان الشك من جهة الرافع وقد عرفت مثاله ( أم كان الشك من جهة المقتضي ) بان لم يعلم هل المقتضي طويل أو قصير ؟ .

( كما لو تردّد من في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة ) كالعصفور - مثلاً - ( وكونه حيوانا يعيش مائة سنة ) كالغراب - مثلاً - ( فيجوز بعد السنة الاُولى إستصحاب الكلّي ) أي : كلي الحيوان ( المشترك بين الحيوانين ) العصفور والغراب في المثال ( ويترتّب عليه آثاره الشرعية الثابتة ) للكلي .

مثلاً : إذا قال المولى لعبده : إبق في حديقة الحيوانات ما دام فيها حيوان ، فانه بعد إنقضاء السنة يلزم على العبد البقاء أيضا ، لعلمه بأن الحيوان قد وجده ، وشكه في فقده بعد السنة ، لاحتمال ان يكون الحيوان الذي وجد في الحديقة كان غرابا

ص: 295

دون آثار شيء من الخصوصيتين ، بل يحكم بعدم كل منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين ،

-------------------

فهو باق ، وهذا من الشك في المقتضي .

وعليه : فيترتب على الكلي المستصحب آثاره المشتركة ( دون آثار شيء من الخصوصيتين ) فلا يثبت بالاستصحاب كونه عصفورا ، ولا كونه غرابا كما لا يثبت به شيء من الآثار الخاصة بكل منهما فإذا كان للعصفور حكم خاص بأن يشتري له كل يوم بعض الحبوب ، وللغراب حكم خاص بان يشتري له كل يوم بعض اللحوم ، لم يجب شيء منهما وإنّما يجب ان لا يقطع مطلق الأكل والشرب عنه .

إذن : فلا يترتب شيء من الآثار الخاصة بكل منهما ( بل يحكم بعدم كل منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين ) امّا إذا تعارض الأصلان فلا يجوز له عدم ترتيب الأثرين ، لأن العلم الاجمالي قاض باتيانه الأثر الذي هو مترتب عليهما .

مثلاً : إذا نذر بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة عصفور ، ونذر نذرا ثانيا بان يصلي كل يوم ركعتين ، إذا كان في الحديقة غراب ، فانه بعد السنة يجب عليه الاتيان بالركعتين كل يوم ، لأنه يعلم بوجوب هذا النذر عليه على كل حال .

بخلاف ما لو صدر النذران من نفرين ، كما لو نذر زيد بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة عصفور ، ونذر عمرو بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة غراب ، فانه بعد السنة لا يجب عليهما شيء ، لأن كلاً منهما يشك في وجوب الصلاة عليه ، فينفيه بأصل العدم ، كما هو الحال في واجدي المني في الثوب المشترك .

ص: 296

كما في الشبهة المحصورة .

وتوهّم : « عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث ، وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل » ، مدفوعٌ ،

-------------------

ولذا قال المصنِّف : ( كما في الشبهة المحصورة ) فان في الشبهة المحصورة بالنسبة إلى الشخص الواحد يوجد مانع عن إجراء الأصلين وهو : لزوم المخالفة العملية ، بخلاف الشخصين حيث يجري كل واحد منهما الأصل بالنسبة إلى نفسه دون ان يكون معارضا بأصل صديقه .

( و ) ربّما يتوهم : انه لا يصح إستصحاب الكلي المردّد بين القصير والطويل كالعصفور والغراب ، وذلك لأن الكلي المتيقن وجوبه في السابق ، كان مردّدا بين فردين كلاهما محكوم بالعدم ، فانّ العصفور منتف بعد السنة بالقطع ، والغراب منتف بالأصل لأنه لا يعلم هل وجد في الحديقة غراب أم لا ؟ فالأصل عدمه ، ومعه كيف يجوز إستصحاب الكلي ؟ .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : و ( توهّم « عدم جريان الأصل في القدر المشترك ) وهو هنا : كلي الحيوان ، وذلك ( من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء ) وهو الفرد القصير فانه منتف بالقطع ( وما هو مشكوك الحدوث ، وهو ) الفرد الطويل فان الفرد الطويل ( محكوم بالانتفاء بحكم الأصل » ) لأنه لا يعلم هل وجد الغراب في الحديقة أم لا ؟ فالأصل عدمه .

وعليه : فإنّ هذا التوهم ( مدفوعٌ ) وذلك لأن ما ذكره المتوهم إنّما يمنع من إستصحاب نفس الفردين : من العصفور والغراب ، لا الكلي ، لوضوح : ان الكلي وهو الحيوان بما هو حيوان يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ،

ص: 297

بأنّه لا يقدح ذلك في إستصحابه بعد فرض الشك في بقائه وإرتفاعه ، كاندفاع توهّم كون الشك في بقائه مسبّبا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه إرتفاع القدر المشترك ، لأنّه من آثاره

-------------------

فأركان الاستصحاب تامة بالنسبة إليه ، فيجري الاستصحاب فيه .

ولذا قال المصنِّف في دفعه : ( بأنّه لا يقدح ذلك ) أي : إرتفاع فرد قطعا ، وعدم القطع بوجود فرد آخر ( في إستصحابه ) أي : إستصحاب الكلي ( بعد فرض ) تمامية أركان الاستصحاب وهو : ( الشك في بقائه ) أي : بقاء الكلي ( وإرتفاعه ) بعد إحرازه فيصدق عليه حينئذ : «لا تنقض اليقين بالشك» .

وعليه : فهذا التوهم مندفع ( كاندفاع توهّم ) عدم جريان الاستصحاب الكلي فيما نحن فيه ، بسبب ان الحيوان ، وهو الكلي الذي نريد إستصحابه يدور بقائه وإرتفاعه مدار حدوث الغراب ، وعدمه ، وحيث كان الأصل عدم حدوث الغراب فيترتب عليه إرتفاع الحيوان ، فلا كلي حتى يستصحب بقائه .

وإنّما يتوهم عدم جريان إستصحاب الكلي فيما نحن فيه ، لأن ( كون الشك في بقائه ) أي : بقاء الكلي ( مسبّبا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ) وهو الفرد الطويل كالغراب في المثال ( فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه ) لأن حدوث الغراب مشكوك ، فالأصل عدمه ( لزمه إرتفاع القدر المشترك ) وهو الكلي ( لأنّه ) أي : القدر المشترك ( من آثاره ) أي : من آثار الفرد الطويل .

والجواب : ان الشك في البقاء ليس مسبّبا عن ذلك ، بل عن إحتمال حدوث العصفور ، والقول : بانه لم يحدث الغراب فحدث العصفور والعصفور مرتفع ، غير صحيح ، لأن إثبات حدوث العصفور بأصل عدم حدوث الغراب مثبت .

ص: 298

فانّ إرتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر .

نعم ، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا إرتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ،

-------------------

وعليه : ( فانّ إرتفاع القدر المشترك ) أي : عدم كلي الحيوان المشترك بين الغراب والعصفور إنّما هو ( من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ) وهو العصفور ( لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر ) وهو الغراب .

إذن : فاحتمال إرتفاع الكلي ، مسبّب عن إحتمال حدوث العصفور ، لا عن إحتمال عدم حدوث الغراب حتى ينتج أصالة عدم حدوث الغراب إرتفاع الحيوان .

( نعم ، اللازم من عدم حدوثه ) أي : عدم حدوث الأمر الآخر يعني الغراب - مثلاً - ( هو عدم وجود ما هو في ضمنه ) أي : ضمن الغراب ( من القدر المشترك ) من الحيوانية فانه إذا لم يكن الغراب قد وجد ، كان معناه : ان الحيوان الذي هو في ضمن الغراب لم يوجد ( في الزمان الثاني ، لا ) ان اللازم من عدم حدوثه : ( إرتفاع القدر المشترك ) أي : إرتفاع كلي الحيوان ( بين الأمرين ) العصفور والغراب .

هذا ( وبينهما فرق واضح ) إذ قد يقال : ان كلي الحيوان الذي هو في ضمن الغراب لم يوجد ، وقد يقال : ان كلي الحيوان الأعم من الغراب والعصفور لم يوجد ، وهكذا يقال في الأحكام الشرعية : فان عدم وجود الحدث في ضمن الجنابة يرفع الأثر الخاص مثل حرمة مكث المحدث في المسجد ، وامّا عدم وجود كلي الحدث الأعم من الجنابة والوضوء ، فهو يرفع الأثر المشترك مثل :

ص: 299

ولذا ذكرنا : أنّه تترتّب عليه أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم .

ويظهر من المحقق القمي رحمه اللّه في القوانين مع قوله بحجّية الاستصحاب على الاطلاق ، عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا القسم .

ولم أتحقق وجهه ،

-------------------

حرمة مسّ كتابة القرآن وما أشبه ذلك .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكر : من ان المترتب على أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ، هو : عدم حدوث القدر المشترك من الكلي في ضمن هذا الفرد الطويل ، وعدم ترتيب الآثار المختصة بالفرد الطويل ، لا عدم وجود أصل الكلي الأعم من الفرد الطويل أو القصير ، فانه لأجل ذلك ( ذكرنا : أنّه ) قد ( تترتّب عليه ) أي : على أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ( أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم ) .

وعليه : فأصالة عدم حدوث الجنابة يترتب عليه عدم حرمة المكث في المسجد لا عدم حرمة مس كتابة القرآن ، فان حرمة مس كتابة القرآن مترتبة على كلي الحدث الجامع بين الجنابة والبول .

( ويظهر من المحقق القمي رحمه اللّه في القوانين مع قوله بحجّية الاستصحاب على الاطلاق ) أي : سواء كان من الشك في المقتضي ، أم من الشك في الرافع ( عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا القسم ) من الكلي ، فيما إذا شك في بقاء الكلي من جهة تردده بين الفرد الطويل والفرد القصير كالعصفور والغراب .

هذا ( ولم أتحقق وجهه ) أي : وجه منع المحقق القمي عن جريان الاستصحاب هنا إلاّ لكونه من الشك في المقتضي ، والمحقق القمي يرى : جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي .

ص: 300

قال : « إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابلية الامتداد وملاحظة الغلبة فيه ، فلابدّ من التأمّل في أنّه كلّي أو جزئي ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أولاً مفهوما كلّيا مردّدا بين اُمور ، وقد يكون جزئيا حقيقيا معيّنا .

-------------------

وكيف كان : فان المحقق القمي ( قال : « إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابلية الامتداد ) فحرمة الزواج بالخامسة - مثلاً - يمتد إلى زمان إمتداد حياة الزوجة الرابعة ، فإذا كان بقاء الانسان غالبا مائة سنة كانت الحرمة إلى

مائة سنة .

( و ) عليه : فيلزم ( ملاحظة الغلبة فيه ) أي : في قدر الامتداد ، فان الطريق العرفي لتشخيص مقدار قابلية إمتداد كل شيء ، إنّما هو بحسب الغلبة في افراد ذلك الشيء ، فزوجة زيد الرابعة - مثلاً - لو فقدت وشك في بقائها وعدمه ، لزم ملاحظة أغلب الأفراد ، فإذا رأينا ان أغلب افراد الانسان يمتد أعمارهم إلى مائة سنة نقول بأن هذه الزوجة المفقودة أيضا يمتد عمرها إلى مائة سنة ، فيلزم على زوجها ان لا يتخذ زوجة خامسة .

إذن : ( فلابدّ من التأمّل في أنّه ) أي : ان المستصحب هل هو ( كلّي أو جزئي ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أولاً مفهوما كلّيا مردّدا بين اُمور ) مثل : كلي الحيوان المردّد بين العصفور والغراب في المثال المتقدم ( وقد يكون ) المستصحب ( جزئيا حقيقيا معيّنا ) كما إذا كانت له زوجة رابعة ففقدت ولم يعلم انّها ماتت حتى يجوز له الزواج باُخرى ، أو لم تمت حتى لا يجوز له ذلك لأنّها تكون زوجة خامسة .

ص: 301

وبذلك يتفاوت الحال ، إذ قد يختلف افراد الكلّي في قابلية الامتداد ومقداره ، فالاستصحاب حينئذ ينصرف إلى أقلّها إستعدادا للامتداد .

ثم ذكر حكاية تمسّك بعض أهل الكتاب لاثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب ، و ردّ بعض معاصريه له بما لم يرتضيه الكتابيّ ، ثم ردّه بما إدّعى إبتنائه على ما ذكره : من ملاحظة مقدار القابلية ،

-------------------

( وبذلك يتفاوت الحال ) من حيث جريان الاستصحاب وعدمه ، فيجري في الجزئي دون الكلي ، لاختلاف افراد الكلي كما قال : ( إذ قد يختلف افراد الكلّي في قابلية الامتداد ومقداره ) أي : مقدار الامتداد ، فان الحيوان لو كان عصفورا يقبل الامتداد إلى سنة - مثلاً - وان كان غرابا فإلى مائة سنة .

إذن : ( فالاستصحاب حينئذ ) أي : حين التردّد بين ما هو قابل للامتداد الكثير ، وبين ما لا يقبل إلاّ الامتداد القليل ( ينصرف إلى أقلّها ) أي : أقل افراد الكلي ( إستعدادا للامتداد ) وهو في مثال الحيوان المردّد بين الغراب والعصفور سنة ، فيستصحب إلى سنة فقط لا إلى مائة سنة .

( ثم ذكر ) المحقق القمي ( حكاية تمسّك بعض أهل الكتاب لاثبات نبوّة نبيّه ) أي : امتداد أحكام النبوة ، فلم تكن منسوخة بنبوة نبي الاسلام ، وذلك ( بالاستصحاب ، و ) ذكر ( ردّ بعض معاصريه ) أي : معاصري المحقق القمي وهو السيد باقر القزويني قدس سره حسب ما في بحر الفوائد ( له ) أي : للاستصحاب ( بما لم يرتضيه الكتابيّ ) وسيأتي تفضيل حجة الكتابي وردها في الأمر التاسع إن شاء اللّه تعالى .

( ثم ردّه ) أي : ردّ المحقق القمي إستصحاب الكتابي ( بما إدّعى إبتنائه على ما ذكره : من ملاحظة مقدار القابلية ) فقال : انه لا مجال لاستصحاب أحكام النبوة،

ص: 302

ثم أوضح ذلك بمثال ، وهو :

أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو ، من الطيور أو البهائم أو الحشار أو الديدان ، ثم غبنا عن ذلك مدّةً ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدة يعيش فيها أطولُ الحيوان عمرا .

فاذا إحتمل كون الحيوان الخاص في البيت عصفورا أو فأرة أو دودة قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بالقدر المشترك باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول الحيوانات عمرا .

-------------------

لأنّا لا نعلم هل في مثل هذه النبوة إقتضاء البقاء إلى زماننا فيكون كالغراب في المثال ، أم لا ، فيكون كالعصفور ؟ وما كان من هذا القبيل لا يصح إستصحابه ، لأن الثابت لنبيّه هو النبوة في الجملة ، لا النبوّة الممتدة حتى بعد مجئنبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( ثم أوضح ) المحقق القمي كلامه ( ذلك بمثال : وهو أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو ، من الطيور أو البهائم أو الحشار ) وحشار جمع حشرة مثل الذباب والبعوض وما أشبه ذلك ( أو الديدان ، ثم غبنا عن ذلك مدّةً ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه ) أي : بقاء كلي الحيوان ( في مدة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ) لاحتمالنا ان الحيوان الذي وجد كان من أقل الحيوانات عمرا .

وعليه : ( فإذا إحتمل كون الحيوان الخاص في البيت عصفورا أو فأرة أو دودة قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بالقدر المشترك ) بين هذه الحيوانات مع تفاوت افرادها طولاً وقصرا ( باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول ) هذه ( الحيوانات عمرا ) في البيت ؟ إذ قد يكون فيها الأقصر وهو منتفٍ قطعا .

ص: 303

قال : وبذلك بطل تمسك الكتابي » في الاستصحاب .

مع أنّه مستلزم لاختصاص إعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع ، موجبٌ لعدم إنضباط الاستصحاب ، لعدم إستقامة إرادة

-------------------

ثم ( قال ) المحقق القمي : ( وبذلك ) المثال الذي ذكرناه لابطال الاستصحاب في أمثال هذه الموارد ( بطل تمسك الكتابي » (1) ) لاثبات بقاء دينه بعد نبوة نبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ، ولكن المصنِّف لم يرتض جواب المحقق القمي ولذلك قال :

أقول : ان ملاحظة استعداد المستصحب واعتباره أي: اعتبار استعداد المستصحب ( في الاستصحاب ) كما يظهر من كلام المحقق القمي غير تام لما يلي :

أوّلاً : ( مع أنّه مستلزم لاختصاص إعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع ) فقط دون الشك في المقتضي ، مع ان المحقق القمي يرى حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان من الشك في المقتضي أم من الشك في الرافع ، فكلامه هذا ينافي كلامه السابق .

ثانيا : انه ( موجبٌ لعدم إنضباط الاستصحاب ) لان الاستعداد قد ينسب إلى الشخص بالذات ، وقد ينسب إلى أبعد الأجناس ، وقد ينسب إلى أقرب الأصناف، وقد ينسب إلى المتوسط عن الأصناف ، وقد ينسب إلى الظن الشخصي بدوام الاستعداد في المستصحب أو غير ذلك ممّا يوجب عدم إنضباط الاستصحاب ، فسقط أكثره عن الحجية .

وإنّما يوجب عدم الانضباط وسقوط الأكثر عن الحجية ( لعدم إستقامة إرادة

ص: 304


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص69 - 73 .

إستعداده من حيث تشخّصه ولا أبعد الأجناس ولا أقرب الأصناف .

-------------------

إستعداده ) أي : إستعداد المستصحب للبقاء ( من حيث تشخّصه ) فإذا أردنا ان نستصحب بقاء زيد فمن المعلوم : ان الافراد مختلفون في البقاء قصرا وطولاً ، فلا ينضبط الاستصحاب على إرادة ذلك من جهة انا لا نعرف هل في زيد مثلاً إستعداد البقاء طويلاً حتى يعيش طويلاً ، أو قصيرا حتى لا يعيش إلاّ قصيرا .

( ولا ) يستقيم أيضا إرادة إستعداد المستصحب من حيث ( أبعد الأجناس ) بالنسبة إليه ، وأبعد الأجناس هو : الممكن القار أو مطلق الممكن ، فان الممكن هو أبعد الأجناس بالنسبة إلى الممكنات .

وإنّما لا يستقيم ذلك لأن القدر المشترك بين افراد هذا الجنس هو : إستعداد البقاء لحظة على ما يقولونه في بعض الخلايا الحيّة ، وهذا القدر المشترك متيقن ، فلا نحتاج فيه إلى الاستصحاب ، والزائد عليه مشكوك فلا ينضبط فيه الاستصحاب ، لأن الاستعداد في هذا الممكن يتراوح بين ما يعيش لحظة ، وبين ما يعيش مليارات من السنوات .

( ولا ) يستقيم أيضا إرادة تعداد المستصحب من حيث ( أقرب الأصناف ) بالنسبة إليه ، وذلك لاختلاف الأصناف من حيث الاستعداد طولاً وقصرا ، فالصنف الأفريقي مثلاً يعيش سبعين سنة ، والآسيوي يعيش ثمانين وهكذا ، فلا ينضبط فيه الاستصحاب حتى بملاحظة إستعداد أفراد أقرب الأصناف ، لأن كل فرد داخل في أصناف متعدّدة ، كالصنف الحار المزاج ، أو البارد المزاج ، والصنف المتولّد من أبوين ضعيفين ، أو قويّين ، وهكذا .

ص: 305

ولا ضابط لتعيّن المتوسط والاحالة على الظنّ الشخصي .

قد عرفت ما فيه سابقا مع أنّ إعتبار الاستصحاب عند هذا المحقق لا يختصّ دليله بالظنّ ، كما إعترف به سابقا ، فلا مانع من إستصحاب وجود الحيوان في الدار إذا ترتّب أثر شرعي على وجود مطلق

-------------------

( و ) إن قلت : نلاحظ استعداد المستصحب بالمتوسّط من إستعداد الافراد القريبة من صنفه ونجعله ضابطا للاستصحاب ، فينضبط ، أو نحيل الضابط إلى الظن الشخصي باستعداد المستصحب ، فينضبط أيضا .

قلت : ( لا ضابط لتعيّن المتوسط ) لما عرفت من الاختلاف ( والاحالة على الظنّ الشخصي ) بان نقول بالاستصحاب ما دام الظن الشخصي بالاستعداد حاصلاً ، وبعدم الاستصحاب إذا تبدل الظن الشخصي إلى الشك أو الظن بالخلاف ، فانه غير تام لما يلي :

أولاً : انه ( قد عرفت ما فيه سابقا ) : من ان المعهود من طريقة العقلاء والفقهاء تمسكهم في الاستصحاب بالاُمور النوعية ، لا الشخصية .

ثانيا : ( مع أنّ إعتبار الاستصحاب عند هذا المحقق ) وهو المحقق القمي رحمه اللّه ( لا يختصّ دليله بالظنّ ) بل بالاخبار ( كما إعترف به سابقا ) فلا يتم إحالة الضابط على الظن الشخصي .

إذن : ( فلا مانع ) بعد عدم تمامية المنع عن الاستصحاب في الكلي القسم الثاني ( من ) القول بجريان الاستصحاب فيه ، وهو في مثالنا : ( إستصحاب وجود الحيوان في الدار ) عند تردّده بين الغراب والعصفور ، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب : من يقين سابق وشك لاحق .

وإنّما نقول باستصحابه فيما ( إذا ترتّب أثر شرعي على وجود مطلق

ص: 306

الحيوان فيها .

ثم إنّ ما ذكره من إبتناء جواب الكتابي على ما ذكره سيجيء ما فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

وأمّا الثالث وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلّي مستندا إلى إحتمال وجود فرد آخر ، غير الفرد المعلوم حدوثه وإرتفاعه فهو على قسمين : لأنّ الفرد الآخر ، إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ،

-------------------

الحيوان فيها ) أي : في الدار ، مثل حرمة قطع الطعام والماء عنه .

( ثم إنّ ما ذكره ) المحقق القمي رحمه اللّه : ( من إبتناء جواب الكتابي على ما ذكره ) : من ملاحظة قابلية إستعداد المستصحب للبقاء وعدمه ( سيجيء ما فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى ) .

هذا تمام الكلام في القسم الثاني من أقسام إستصحاب الكلي ، وهو المردّد بين الفرد الطويل والفرد القصير .

( وأمّا الثالث ) من أقسام إستصحاب الكلي فهو المردّد بين الفرد الأصيل والفرد البديل كما قال : ( وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلّي مستندا إلى إحتمال وجود فرد آخر ، غير الفرد المعلوم حدوثه وإرتفاعه ) قوله : « وإرتفاعه » ، عطف على قوله : « حدوثه » ، يعني : علمنا ان الفرد المعلوم الحدوث معلوم الارتفاع أيضا ، لكن نحتمل وجود فرد آخر غير الفرد السابق .

وعليه : فاما هذا القسم الثالث ( فهو على قسمين : لأنّ الفرد الآخر ، إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ) كما إذا علمنا ان زيدا في الدار ، ثم علمنا بخروجه منه ، لكن إحتملنا إحتمالاً عقلائيا وجود عمرو معه بحيث نحتمل بقاء الانسان في الدار .

ص: 307

وإمّا يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله إليه وإمّا بمجرد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد .

وفي جريان إستصحاب الكلّي في كلا القسمين نظرا إلى تيقّنه سابقا وعدم العلم بارتفاعه

-------------------

وكما إذا علم زيد بأن دما أصاب ثوبه فغسله فعلم بزواله ، لكنه إحتمل إحتمالاً عقلائيا وجود دم آخر معه بحيث يحتمل بقاء النجاسة على ثوبه .

( وإمّا يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله ) أي : تبدل الفرد السابق ( إليه ) أي : إلى الفرد الجديد ، كما إذا علمنا بحصول السواد في جسم ، ثم علمنا بزوال ذلك السواد ، لكن إحتملنا تبدله إلى سواد آخر أخف منه .

وكما إذا أصاب ثوبه دم عبيط - مثلاً - فغسله في الظلام فعلم بزوال ذلك الدم العبيط ، لكن إحتمل تبدله إلى دم أخف ممّا لا يجوز الصلاة في أيّ منهما ؟ .

( وإمّا بمجرد حدوثه ) أي : حدوث الفرد الجديد ( مقارنا لارتفاع ذلك الفرد ) السابق كما إذا إحتملنا دخول عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها ، لا أن عمروا كان في الدار قبل خروج زيد منها على ما هو مفروض القسم الأوّل .

وكما إذا احتمل حدوث دم آخر على الثوب مقارنا لغسل الدم الأوّل .

هذا ( وفي جريان إستصحاب الكلّي في كلا القسمين ) من الكلي الثالث - وهما ما أشرنا إليه بقولنا : اما ان يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم ، واما ان يحتمل حدوثه بعده - أو عدم جريان الاستصحاب فيهما ، أو التفصيل بينهما ، وجوه ثلاثة كما يلي :

الوجه الأوّل : جريان الاستصحاب فيهما ، وذلك ( نظرا إلى تيقّنه ) أي : تيقن الكلي فيهما ( سابقا وعدم العلم بارتفاعه ) لاحقا فيتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة

ص: 308

وإن عُلِمَ بارتفاع بعض وجوداته وشك في حدوث ما عداه لأنّ ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي ، كما تقدّم نظيره في القسم الثاني .

أو عدم جريانه فيهما ، لأنّ بقاء الكلّي

-------------------

إلى هذا القسم وهو القسم الثالث من إستصحاب الكلي بجميع صوره ، فيقين سابق وشك لاحق فيستصحب حتى ( وإن ) لم يتم أركان الاستصحاب بالنسبة إلى كل واحد من الفردين : السابق واللاحق ، لأنه ( عُلِمَ بارتفاع بعض وجوداته ) وهو زيد الذي كان في الدار سابقا ( وشك في حدوث ما عداه ) وهو عمرو ، وكذلك بالنسبة إلى الدم العبيط فانه إرتفع قطعا ، والدم الخفيف فانه لم يعلم حدوثه ، فالمعلوم السابق لا شك في إرتفاعه ، والمشكوك اللاحق لا علم بسبقه .

والحاصل : ان أركان الاستصحاب تامة بالنسبة إلى الكلي فيستصحب الكلي ، وان كان كل فرد من فرديه : السابق واللاحق ، لم يتم أركان الاستصحاب بالنسبة إليه ، ولا يضر عدم تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى كل فرد في تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي .

وإنّما لا يضرّ به ( لأنّ ذلك ) أي : عدم تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى الفرد السابق ، والفرد اللاحق ( مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي ) ونحن نريد إستصحاب الكلي التام الأركان وذلك ( كما تقدّم نظيره في القسم الثاني ) من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الطويل والقصير ، حيث كان الاستصحاب يجري في الكلي دون فرديه .

الوجه الثاني : ( أو عدم جريانه فيهما ) أي : عدم جريان الاستصحاب في كلا القسمين من القسم الثالث من إستصحاب الكلي وذلك ( لأنّ بقاء الكلّي

ص: 309

في الخارج عبارةٌ عن إستمرار وجوده الخارجي المتيقن سابقا وهو معلوم العدم .

وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني ، حيث أنّ الباقي في الآن اللاحق بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقن سابقا .

-------------------

في الخارج عبارةٌ عن إستمرار وجوده الخارجي المتيقن سابقا ) فانّ الكلي لا يوجد في الفراغ ، وإنّما يوجد في ضمن الافراد ، كما وجد في فرد هو زيد ( وهو معلوم العدم ) لانا فرضنا ان زيدا خرج من الدار قطعا ، فالكلي التابع لهذا الفرد الأصيل منتف قطعا ، والفرد البديل لا نعلم به فلا نعلم بوجود الكلي الذي هو في ضمنه ، ومعلوم : ان وجود الكلي في ضمن زيد هو غير وجود الكلي في ضمن عمرو .

وعليه : ففي كلا القسمين من القسم الثالث يكون متيقن الوجود سابقا غير محتمل الوجود لاحقا ، لأنه متيقن الزوال ، ومحتمل الوجود لاحقا غير متيقن الوجود سابقا ، فأركان الاستصحاب غير تامة في كلا القسمين من القسم الثالث من إستصحاب الكلي فلا يجري فيه الاستصحاب مطلقا .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من العلم بعدم إستمرار الكلي في فرده الخارجي المتيقن سابقا ( هو الفارق بين ما نحن فيه ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الأصيل والبديل ( والقسم الثاني ) من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الطويل والقصير .

وإنّما كان الفارق بينهما ذلك لأنه كما قال : ( حيث أنّ الباقي في الآن اللاحق ) من القسم الثاني من إستصحاب الكلي يكون بقائه ( بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقن سابقا ) فانه على إحتمال كون الموجود في الدار غرابا ،

ص: 310

أو التفصيل بين القسمين ، فيجري في الأوّل ، لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ، فيتردّد الكلّي المعلوم سابقا ، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد .

-------------------

يكون كلي الحيوان الباقي هو نفس الكلي السابق الذي وجد في ضمن الفرد السابق وهو الغراب ، بخلاف الكلي في القسم الثالث .

الوجه الثالث : ( أو التفصيل بين القسمين ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي ( فيجري ) الاستصحاب ( في ) القسم ( الأوّل ) منه فقط ، وهو ما كان الفرد الجديد محتمل وجوده مع ذلك الفرد السابق المعلوم حاله .

وإنّما يجري الاستصحاب في هذا القسم فقط ( لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ) إذ هذا القسم من الكلي الثالث مردّد من الأوّل بين حصوله في ضمن زيد فقط ، فالكلي لا إستعداد له للبقاء بعد خروج زيد من الدار ، وبين حصوله من الأوّل في ضمن فردين : زيد وعمرو ، فالكلي مستعد للبقاء بعد خروج زيد من الدار ، وحيث يكون المحتمل هو الكلي المستعد للبقاء، فلا مانع من الاستصحاب فيه ، وذلك لتمامية أركانه كما قال :

( فيتردّد الكلّي المعلوم سابقا ، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه ) وذلك بأن يكون الكلي من الأوّل حاصلاً في ضمن فردين : زيد وعمرو ، فإذا إرتفع زيد لم يترفع الكلي ، ( و ) بين ( أن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد ) وذلك بان يكون الكلي من الأوّل حاصلاً في ضمن زيد فقط ، فإذا إرتفع زيد إرتفع الكلي .

ص: 311

فالشك حقيقة إنّما هو في مقدار إستعداد ذلك الكلّي ، وإستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين إستعداد الكلّي وجوهٌ : أقواها الأخير .

-------------------

وعليه : ( فالشك ) في القسم الأوّل من قسمي الكلي الثالث ( حقيقة إنّما هو في مقدار إستعداد ذلك الكلّي ) للبقاء ، وعدم إستعداده ، فيستصحب بقائه لتمامية أركان الاستصحاب فيه .

( و ) ان قلت : الفرد المشكوك حدوثه وهو عمرو في المثال نستصحب عدم حدوثه ، فيثبت عدم إستعداد الكلي للبقاء .

قلت : ( إستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين إستعداد الكلّي ) في عدم بقائه بعد إرتفاع الفرد المتيقن وهو زيد في المثال ، وذلك لأنه أصل مثبت .

إذن : فهناك في القسم الثالث من إستصحاب الكلي بكلا قسميه ( وجوه ) ثلاثة ( أقواها الأخير ) وهو التفصيل المذكور .

لكن ربما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم إطلاقا ، لما عرفت : من ان المتيقن سابقا لم يكن إلاّ وجود الكلي في ضمن هذا الفرد الخارجي وهو زيد في المثال وقد إرتفع قطعا فكيف يجري فيه الاستصحاب ؟ مضافا إلى ان جريانه يستلزم القول بما لا يلتزمون به إطلاقا .

مثلاً : إذا تيقن بالحدث الأصغر ولكن إحتمل معه حصول الحدث الأكبر أيضا ، فانه يلزمه بعد الوضوء إستصحاب الحدث والاتيان بالغسل أيضا ، لتردّد الحدث من الأوّل بين المستعد للبقاء بعد الوضوء ، وبين غيره بينما لا يقولون بذلك .

وكذلك إذا تيقن بالاجارة وإحتمل معها حصول الارث ، بأن ورث العين

ص: 312

ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما يتسامح في العُرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل : ما لو عُلِمَ السواد الشديد في محل ، وشك في تبدّله بالبياض

-------------------

الموجرة حتى يصح له التصرف فيها بعد إنتهاء المدة ، أو إحتمل الهبة ونحوها مع الاجارة ، فانهم لا يقولون بإستصحاب جواز التصرف بعد تمام المدة .

وكذلك إذا إحتمل حصول العقد الدائم مع عقد المتعة ، أو حصول هبة ، أو إرث ، أو تمليك من مالك الاُمة مع كونها محللة له ، وهكذا فانه لا يقول أحد بالاستصحاب فيه .

( ويستثنى من عدم الجريان ) أي : عدم جريان الاستصحاب ( في القسم الثاني ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي وهو ما يحتمل حدوث فرد آخر بعد إرتفاع الفرد السابق اما بتبدله إليه أو مقارنا لارتفاعه ، فيستثنى منه ( ما يتسامح في العُرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ) وذلك لما عرفت سابقا ، وسيأتي إن شاء اللّه مفصلاً : من ان موضوع الاستصحاب عرفي .

وعليه : فإذا رأى العرف ان الموضوع السابق باق ، جاز الاستصحاب وان لم يكن الموضوع باقيا بالدقة العقلية ، وذلك على ما مثلنا له سابقا بالماء الكرّ الذي أخذنا بعض الماء منه ، فانه يستصحب كريته وان كان هذا الفرد من الماء غير الفرد السابق من الماء قطعا .

وكذلك حال العكس بان لم يكن كرا ثم صب عليه بعض الماء بما شك في انه صار كرا أم لا ؟ .

وكذا ( مثل : ما لو عُلِمَ السواد الشديد في محل ، وشك في تبدّله بالبياض

ص: 313

أو بسواد أضعف من الأوّل ، فانّه يُستصحَب السواد ، وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك ، ثم شك من جهة إشتباه المفهوم أو المصداق في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها ،

-------------------

أو بسواد أضعف من الأوّل ، فانّه يُستصحَب السواد ) إذ السواد الضعيف وان كان بالدقة العقلية فردا آخر غير السواد الشديد ، إلاّ ان العرف يرون السواد الضعيف إمتدادا للسواد القوي ، فيحكمون باستمرار الموضوع الأوّل ، ولا يعدّون السواد الضعيف موضوعا مغايرا للسواد الشديد .

وكذلك حال العكس بان كان هناك سواد ضعيف ، فاحتملنا انه تبدّل إلى سواد أشد ، حيث ان السواد عند العرف شيء واحد ، سواء تبدل من الضعف إلى القوة أم من القوة إلى الضعف .

( وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك ، ثم شك ) في كونه كثير الشك ( من جهة إشتباه المفهوم ) بان لم يعرف انّ مفهوم كثرة الشك هل يصدق مع الشك في صلاتين من الصلوات اليومية ، أو لا يصدق إلاّ ان يكون الشك في كل الصلوات الخمس .

( أو ) شك في كونه كثير الشك من جهة ( المصداق ) بان لم يعرف هل شك في صلاتين من الصلوات الخمس ، أو في أكثر من ذلك ، مع علمه بانه لو كان شكه في صلاتين فقط لم يكن ذلك من كثير الشك .

وعليه : فالذي كان في مرتبة عليا من كثرة الشك ، ثم شك ( في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها ) أي : دون تلك المرتبة ، فانه يستصحب بقائها لرؤية العرف المرتبتين كالمستمر الواحد .

هذا بالنسبة إلى من خرج شكه عن المتعارف في شكوك الصلاة حيث يشك

ص: 314

أو علم إضافة المايع ثم شك في زوالها أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف .

-------------------

في زواله أو تبدله إلى الشك المتعارف ، سواء كان شكه من الشبهة المفهومية أم المصداقية ؟ .

وأمّا من خرج ظنه عن المتعارف بالنسبة إلى الظن في الصلاة ، حيث لا يعتمد على الظن غير المتعارف في أفعال الصلاة وأقوالها ، وإنّما يعتمد على الظن المتعارف فيهما وذلك حسب الدليل ، فإذا شك من خرج ظنه عن المتعارف في زواله أو تبدله إلى الظن المتعارف ، سواء كان شكّه في ذلك من الشبهة المفهومية أم من الشبهة المصداقية ، فانه يستصحب بقائها لأن العرف يرون المرتبتين كالمستمر الواحد .

وكذا حال الوسواسي بالنسبة إلى ما يوسوس فيه من الطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة ، وغير ذلك ، فانه إذا شك في زوالها أو تبدلها إلى ما هو متعارف الناس ، سواء كان شكه من الشبهة المفهومية أم من الشبهة المصداقية ؟ فانه يستصحب بقائها ولا يعتني بها وذلك لما عرفت من وحدة الموضوع عرفا في المرتبتين .

وعليه : فما عدّه العرف موضوعا واحدا جرى فيه الاستصحاب ، كما في الأمثلة الماضية ( أو ) كما في الأمثلة الآتية : وذلك مثل ما لو ( علم إضافة المايع ) حيث لا يصح التطهّر به كماء الورد الكامل الطعم والرائحة ( ثم شك في زوالها ) أي زوال الاضافة ( أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف ) أخف من الفرد السابق ، فانه يستصحب بقاء الاضافة فلا يصح التطهر به لرؤية العرف وحدة الموضوع في الحالتين .

ص: 315

وبالجملة : فالعبرةُ في جريان الاستصحاب عدُّ الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق .

ولذا لا إشكال في إستصحاب الأعراض ، حتى على القول فيها بتجدّد الأمثال ،

-------------------

( وبالجملة : فالعبرةُ في جريان الاستصحاب عدُّ الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق ) بحيث يراهما العرف موضوعا واحدا ، فيجري فيه الاستصحاب حتى ( ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق ) إذ قد عرفت : انه لا إعتبار في الاستصحاب بالدقة العقلية وإنّما بالموضوع العرفي .

( ولذا لا إشكال في إستصحاب الأعراض ) من الأوصاف والألوان ، والأفعال والأحوال ، وما أشبه ذلك فالحالات المرضية في الانسان - مثلاً - لو خفّت ، كان لها الحكم السابق فإذا كان مريضا بحيث يضره الصوم ، أو يضره إستعمال الماء من أجل الوضوء للصّلاة ثم خف مرضه بما يشك معه في وجوب الصوم ، أو وجوب الوضوء للصلاة ، فان الاستصحاب محكّم في أمثال ذلك .

وإنّما يكون الاستصحاب محكَّما في مثل ذلك ، لأن العرف يرون الفرد الجديد إمتدادا للفرد القديم ، وذلك ( حتى على القول فيها ) أي : في الاعراض ( بتجدّد الأمثال ) إذ في الأعراض قولان كالتالي :

القول الأوّل : ان الاعراض مثل الجواهر قارة ، فكما ان الجواهر قارة فكذلك الاعراض ، إلاّ ما كان من الاعراض من قبيل الحركة ، فانها تتجدّد آنا فآنا بلا إشكال ، وعلى هذا القول وهو : ان الاعراض قارة ، فلا شك في جريان الاستصحاب فيها ، لأن الوجود الثاني إستمرار للوجود الأوّل ، وإنّما الشك

ص: 316

وسيأتي ما يوضّح عدم إبتناء الاستصحاب على المداقّة العقليّة .

ثم إنّ للفاضل التوني كلاما يناسب المقام مؤيّدا لبعض ما ذكرنا ،

-------------------

فيها شك في البقاء .

القول الثاني : ان الأعراض غير قارة كالزمان ، فان يتجدد آنا فآنا ، فالعرض في الزمان الثاني ، غير العرض في الزمان الأوّل بالدقة العقلية ، إلاّ انه عرفا لما كان موضوعا واحدا ، جرى الاستصحاب فيه ، وهكذا حال النور المتجدّد شيئا فشيئا .

وكذلك ما كان من قبيل القوة والضعف ، فانه قد عرفت جريان الاستصحاب فيه ، فإذا أمره المولى بالبقاء في الدار لحفظ الأثاث من اللصوص ما دام النور ضعيفا ، فإذا إشتد النور قليلاً بحيث شك في زوال الضعف أو تبدله إلى القوي ، إستصحب بقائه لوحدة الموضوع في الحالتين بنظر العرف ، وكذا حال العكس بان شك في زوال قوة النور أو تبدله إلى الضعيف في الجملة .

هذا ( وسيأتي ) إن شاء اللّه تعالى ( ما يوضّح عدم إبتناء الاستصحاب على المداقّة العقليّة ) وإلاّ لم يجر حتى إستصحاب واحد ، وذلك من جهة الشك في ان الزمان من المقيّدات أم لا ؟ حيث قال جمع : بان الزمان أيضا من المقيدات كما نجده مقيدا في كثير من الموارد ولذا يحتمل ان يكون الموضوع في الزمان الثاني غير الموضوع في الزمان الأوّل فلا يجري الاستصحاب ، لكن قد عرفت ان الموضوع العرفي كاف في جريان الاستصحاب .

( ثم إنّ للفاضل التوني كلاما يناسب المقام مؤيّدا لبعض ما ذكرنا ) : من عدم صحة الاستصحاب في القسم الثالث من إستصحاب الكلي ، فلا يستصحب وجود الانسان في الدار - مثلاً - إذا إحتملنا دخول عمرو مع خروج زيد من الدار ،

ص: 317

وإن لم يخل بعضُه عن النظر ، بل المنع .

قال في ردّ تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية : « إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين الحياة والموت حتفَ الأنف ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني أعني : الموت حتف الأنف ،

-------------------

فكلامه يؤيد ما قلناه ( وإن لم يخل بعضُه ) أي : بعض كلام الفاضل المذكور ( عن النظر ، بل المنع ) كما سيأتي الكلام حوله إن شاء اللّه تعالى .

وكيف كان : فان الفاضل المذكور ( قال في ردّ تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح ) الذي لا يعلم تذكيته وعدم تذكيته ، فانهم قالوا بنجاسة هذا الجلد تمسّكا ( باستصحاب عدم التذكية ) لأن الحيوان لما كان حيّا لم يكن الجلد مذكّى فنستصحب عدم تذكيته .

وعلى أي حال : فان الفاضل التوني قال في ردّهم : ( « إنّ عدم المذبوحية لازم لأمرين ) هما كالتالي :

أولاً : ( الحياة ) .

ثانيا : ( والموت حتفَ الأنف ) .

والمراد بالموت حتف الأنف هو : الموت الطبيعي مقابل الموت بسبب الذبح وما أشبه .

وكيف كان : فان عدم المذبوحية لازم اما للحياة ، واما للموت ، على سبيل البدل ، سواء كان الموت لحتف الأنف أم بالذبح على غير الطريقة الشرعية ( والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ) أي : مطلق عدم المذبوحية ( بل ملزومه الثاني أعني : الموت حتف الأنف ) .

ص: 318

فعدم المذبوحية لازمٌ أعمٌّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة ، مغايرٌ لعدم المذبوحية العارض للموت حتفَ أنفه .

والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهرٌ أنّه غير باق في الزمان الثاني ،

-------------------

إذن : فعنوان عدم التذكية كلي صادق على فردين :

الأوّل : ان يكون الحيوان حيا .

الثاني : ان يكون الحيوان ميتا من غير تذكية ، سواء مات بنفسه أم على غير الطريقة الشرعية .

ومن المعلوم : ان النجاسة ليست من آثار الكلي المذكور ، بل من آثار أحد فرديه وهو : الموت بدون تذكية ، فكيف يستصحب عدم التذكية لاثبات النجاسة ؟ فانه من قبيل إستصحاب الحيوان لاثبات الانسان كما قال :

( فعدم المذبوحية لازمٌ أعمُّ لموجب النجاسة ) إذ موجب النجاسة هو خصوص الموت بلا تذكية ، بينما عدم المذبوحية قد يكون في ضمن الحياة ، وقد يكون في ضمن الموت بلا تذكية .

إذن : ( فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة ، مغايرٌ لعدم المذبوحية العارض للموت حتفَ أنفه ) وحينئذ فاستصحاب عنوان الكلي وهو : عدم المذبوحية لا يثبت أحد الفردين بخصوصه .

هذا ( والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل ) أي : عدم المذبوحية اللازم للحياة ( لا الثاني ) أي : عدم المذبوحية العارض للموت حتف الأنف ( وظاهرٌ أنّه ) أي : ان الأوّل وهو الحياة ( غير باق في الزمان الثاني ) أي : زمان الشك في الذبح ، لوضوح ان الجلد المطروح مسلوب الحياة .

ص: 319

ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا معلوم .

قال : وليس مَثَلُ التمسك بهذا الاستصحاب ، إلاّ مَثَلَ مَن تمسك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك ، المتحقق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل ،

-------------------

وعليه : ( ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ) لعدم بقاء الموضوع في اليقين السابق حال الشك اللاحق ، فانه كان في السابق : عدم المذبوحية المقارن للحياة ، وفي اللاحق : عدم المذبوحية المقارن للموت حتف الأنف .

وإنّما يخرج مثل هذا من الاستصحاب ( إذ شرطه ) أي : شرط الاستصحاب ( بقاء الموضوع ) في الحالتين : حال اليقين ، وحال الشك ( وعدمه ) أي : عدم الموضوع ( هنا معلوم ) لفرض ان الموضوع كان : عدم المذبوحية المقارن للحياة، والآن هو : عدم المذبوحية المقارن للموت .

( قال ) الفاضل التوني : ( وليس مَثَلُ ) ومَثَل بفتحتين على وزن فرس ، فانه ليس مَثَل ( التمسك بهذا الاستصحاب ، إلاّ مَثَلَ مَن تمسك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك ، المتحقق بوجود زيد في الدار ) بقاءً ( في الوقت الأوّل ) .

وإنّما مثل ذلك الاستصحاب مثل إستصحاب بقاء الضاحك من حيث الفساد ، إذ كما ان الضاحكية لازم أعم لزيد وعمرو ولا يصح إستصحابها لاثبات وجود عمرو في الدار ، لأنها في زيد قد زالت قطعا ، وهي في عمرو مشكوكة الحدوث ، فكذلك عدم المذبوحية لازم أعم للحياة والموت حتف الأنف ، فلا يصح

ص: 320

وفساده غنيٌّ عن البيان » ، إنتهى .

أقول : ولقد أجاد فيما أفاد : من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظيره ، إلاّ أنّ نظر المشهور ، في تمسكهم على النجاسة ، إلى أنّ النجاسة إنّما رتّبت في الشرع على مجرّد عدم التذكية ،

-------------------

إستصحابه لاثبات الموت حتف الأنف ، لأن عدم المذبوحية اللازم للحياة قد زال قطعا ، وعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف مشكوك الحدوث لاحتمال تذكيته .

وعليه : فان بطلان هذا الاستصحاب ( وفساده غنيٌّ عن البيان » (1) ) وذلك لما عرفت : من تبدل الموضوع فيه ، والموت حتف الأنف الذي هو الموضوع للنجاسة غير معلوم حصوله ، وإذا لم نعلم حصوله لم تثبت نجاسته ، فيكون من مشكوك النجاسة فتجري فيه قاعدة الطهارة ( إنتهى ) كلام الفاضل التوني .

( أقول : ولقد أجاد فيما أفاد : من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ) وهو إستصحاب عدم المذبوحية لاثبات نجاسة الجلد المطروح ( و ) كذا ( نظيره ): وهو إستصحاب بقاء الضاحك بعد خروج زيد من الدار لاحتمال دخول عمرو فيها ( إلاّ أنّ نظر المشهور في تمسكهم على النجاسة ) ليس إلى هذا الاستصحاب الذي ذكره وهو إستصحاب عدم التذكية ، حتى يرد عليهم هذا الاشكال بل نظرهم ( إلى أنّ النجاسة إنّما رتّبت في الشرع على ) أمر عدمي وهو : ( مجرّد عدم التذكية ) .

إذن : فكلام الفاضل التوني في كبراه صحيح ، وإنّما تطبيق هذه الكبرى على الصغرى الخارجية التي ذكرها المشهور غير صحيح ، وذلك لأن الفاضل التوني

ص: 321


1- - الوافية مخطوط .

كما يرشد إليه قوله تعالى : « إلاّ ما ذكّيتم » ، الظاهر في أنَّ المحرّم إنّما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية

-------------------

تصوّر ان موضوع النجاسة عند المشهور أمر وجودي هو : الموت حتف الأنف ، أو الذبح على غير الطريقة الشرعية ، وانهم يريدون باستصحاب عدم التذكية إثبات هذا الموضوع الوجودي ، والحال ان الأمر ليس كذلك ، فان موضوع النجاسة عند المشهور أمر عدمي هو نفس عدم التذكية .

هذا ومن الواضح : ان جلد الحيوان في حال الحياة لم يكن مذكّى ، فبعد الموت لم نعلم انه ذكّي أو لم يذكّ ، فنستصحب عدم تذكيته ، فلا نريد إثبات شيء وجودي باستصحاب عدمي حتى يرد عليه : بانه إثبات لأمر أخص باستصحاب هو أعم .

إذن : فالشارع قد رتب النجاسة على أمر عدمي هو مجرد عدم التذكية ، لا أمر وجودي ( كما يرشد إليه ) أي : إلى كون موضوع النجاسة أمرا عدميا ، وهو عدم التذكية ، لا أمرا وجوديا ، وهو الموت حتف الأنف أو بالذبح الفاسد ( قوله تعالى : « إلاّ ما ذكّيتم » (1) ، الظاهر في ان المحرّم انما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية ) وانما كان الظاهر من هذه الآية المباركة ذلك ، لأن الشارع جعل التذكية سببا للحل ، فإذا إنتفت التذكية إنتفت الحلية بنفسها من دون حاجة إلى أمر وجودي وهو الموت حتف الأنف أو الموت بالذبح الفاسد .

إذن : فالحرام عند الشارع هو مجرد غير المذكّى ، ومن المعلوم : التلازم بين

ص: 322


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

واقعا أو بطريق شرعيّ ولو كان أصلاً ، وقوله تعالى : « ولا تأكُلوا ممّا لم يُذكَرِ اسمُ اللّه ِ عليه » ، وقوله تعالى : « فكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عليه » ،

-------------------

الحرمة والنجاسة في الحيوان الذي له نفس سائلة ولم يذكّ من غير فرق بين ان يكون غير مذكّى ( واقعا ) كما إذا قطعنا بانه لم يذكّ .

( أو ) يكون غير مذكّى ( بطريق شرعيّ ) تعبّدي كقيام شاهدين عادلين على انه لم يذكّ .

أو يكون غير مذكّى تعبّدا ( ولو كان ) ذلك الدليل التعبّدي ( أصلاً ) عمليا ، مثل إستصحاب عدم التذكية .

ومن المعلوم : ان عدم التذكية في الجلد المطروح يدل عليه الأمر الثالث وهو : إستصحاب عدم التذكية ، لأنه لم يكن مذكّى حال الحياة ، فنشك في انه هل ذكّي أم لم يذكّ ، فنستصحب عدمها ؟ .

( و ) كذا يرشد إلى ان موضوع النجاسة أمر عدمي ( قوله تعالى : « ولا تأكُلوا ممّا لم يُذكَرِ اسمُ اللّه ِ عليه » (1) ) فانه ظاهر في ان موضوع الحرمة هو : ما لم يذكّ ، وذلك على التقريب المتقدّم : من التلازم بين ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وبين النجاسة ، فانا إذا شككنا في ان هذا الجلد المطروح هل ذكر اسم اللّه عليه أم لا ؟ قلنا : بانه لم يذكر عليه حال الحياة ، فلا نعلم انه ذكر عليه حال الذبح أم لا ، فالأصل عدمه .

( و ) كذا ( قوله تعالى : « فكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عليه » (2) ) فانّ وجه الدلالة فيه يكون على نحو ما ذكرناه في آية : « ولا تأكلوا ممّا لم يُذكَرِ اسم اللّه ِ عليه » (3) .

ص: 323


1- - سورة الانعام : الآية 121 .
2- - سورة الانعام : الآية 118 .
3- - سورة الانعام : الآية 121 .

وقوله عليه السلام في ذيل موثّقة ابن بُكَير : «إذا كان ذكيّا ذكّاه الذابح» ، وبعض الأخبار المُعلِّلة لحرمة الصيد الذي اُرسل اليه كلابٌ ولم يُعلم أنّه مات بأخذ المعلّم بالشك في إستناد موته إلى المعلّم . إلى غير ذلك ممّا إشترط فيه العلم باستناد القتل إلى الرمي ، والنهي عن الأكل مع الشكّ .

-------------------

( و ) كذا ( قوله عليه السلام في ذيل موثّقة ابن بُكَير: «إذا كان ) الحيوان ( ذكيّا ذكّاه الذابح » (1) ) فيكون مفهومه : انه إذا لم يكن ذكيّا ذكّاه الذابح ، فليس بجائز ، سواء كان غير ذكي بالعلم ، أم غير ذكيّ بالبيّنة ، أم بالأصل ؟ وذلك على التقريب السابق .

( و ) كذا يرشد إليه ( بعض الأخبار المعلِّلة لحرمة الصيد الذي اُرسل اليه كلابٌ ولم يُعلم ) صاحبها وهو الصائد ( أنّه ) أي : الصيد ( مات بأخذ المعلّم ) له ، أو انه مات بغير ذلك ، فان مثل هذا الحيوان حرام وقد علّلت الرواية حرمته ( بالشك في إستناد موته إلى ) الكلب ( المعلّم ) (2) مما يعلم منه : ان مجرد الشك في حصول التذكية يوجب الحرمة .

( إلى غير ذلك ممّا إشترط فيه العلم باستناد القتل ) أي : قتل الصيد ( إلى الرمي ) بالشرائط المذكورة في باب الصيد ( والنهي عن الأكل مع الشكّ ) فيها .

إذن : فالآيات والروايات كلها تدل على ان موضوع الحرمة أمر عدمي هو : عدم التذكية ، ومن الواضح : ان عدم التذكية قابل للاستصحاب ، فلا نريد إثبات أمر وجودي بالأصل العدمي حتى يرد عليه : انه مثبت .

ص: 324


1- - الكافي فروع : ج3 ص397 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج4 ص345 ب2 ح5344 (بالمعنى) .
2- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه : ج75 النذر والصيد والذباحة ، للشارح .

ولا ينافي ذلك ما دلّ على كون حكم النجاسة مرتبا على موضوع الميتة، بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ، لأنّ الميتة عبارة عن : كلّ ما لم يذَكَّ ، لأنّ التذكية أمر شرعي توقيفي ، فما عدا المذكّى ميتةٌ .

-------------------

( و ) ان قلت : ترتب حكم الحرمة والنجاسة على موضوع وجودي هو : الميتة - بحسب الأدلة - ينافي ما ذكرتم : من ان موضوع الحرمة والنجاسة أمر عدمي هو : عدم التذكية ، فالموت والحياة على ما في الأدلة ضدان وجوديان ولذا قال سبحانه : « خلق الموت والحياة » (1) .

وفي الحديث : ان الموت يؤتى به في القيامة على صورة كبش ويذبح بين الجنة والنار ، فيعلم كل فريق انه لا موت بعد ذلك ، فأهل الجنة خالدون إلى الأبد ، وأهل النار خالدون إلى الأبد ، إلاّ ما شاء اللّه ، ولو كان إلى الموت سبيل بعد ذلك ، لمات أهل النار غما وهما ، ولمات أهل الجنة فرحا وسرورا .

وعليه : فإذا كان الموت والحياة أمران وجوديان ، لم يثبت باستصحاب عدم التذكية اللازم للحياة : الميتة ، التي هي موضوع الحرمة والنجاسة ، وذلك لأنه من الأصل المثبت .

ان قلت ذلك قلت : ( لا ينافي ذلك ) الذي ذكرناه : من ان موضوع الحرمة والنجاسة هو عبارة عن عدم التذكية لا ينافيه ( ما دلّ على كون حكم النجاسة مرتبا على موضوع الميتة ، بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ) .

وإنّما لا ينافي ذلك ما دل على ترتّب حكم النجاسة على موضوع الميتة ( لأنّ الميتة ) ليست أمرا وجوديا ، بل هي ( عبارة عن : كلّ ما لم يذَكَّ ، لأنّ التذكية أمر شرعي توقيفي ) ذكرها الشارع بشرائطها المقرّرة ( فما عدا المذكّى ميتةٌ )

ص: 325


1- - سورة الملك : الآية 2 .

والحاصل : أنّ التذكية سببٌ للحل والطهارة ، فكلّ ما شك فيه أو في مدخليّة شيء فيه ، فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمةٌ على أصالة الحلّ والطهارة .

ثمّ

-------------------

لأن الشارع جعل التذكية سببا للحل والطهارة تعبّدا ، فبمجرّد عدمها يحصل الحرمة ، ولا يهمّنا بعد ذلك ان يكون الموت الخارجي أمرا وجوديا أو أمرا عدميا وان اختلفوا في ان الموت هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي كما لا يخفى على من راجع علم الكلام وغيره ؟ .

( والحاصل : أنّ التذكية سبب للحل والطهارة ، فكلّ ما شك فيه ) أي : في تذكيته من اجزاء الحيوان التي تحلها الحياة : من لحم وشحم وجلد ( أو ) شك ( في مدخليّة شيء فيه ) أي : في التذكية بان لم يعلم - مثلاً - هل يشترط في التذكية وضع الحيوان على أحد جنبيه ، أو يكفي توجيهه نحو القبلة ولو واقفا كما يتم ذلك في نحر الابل فانه كلّما شك في شيء من ذلك ( فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمة على أصالة الحلّ والطهارة ) .

وعليه : فليس المقام مجرى لقوله : «كل شيء لك حلال » ، « وكل شيء لك طاهر » لوضوح : ان موضوع أصل الحل وأصل الطهارة هو مشكوك الحلّية والطهارة ، وإستصحاب عدم التذكية يعيّن الحرمة والنجاسة ، وقد تقدّم ويأتي : ان الاستصحاب السببي لا يدع مجالاً للاستصحاب المسبّبي .

( ثمّ ) لا يقال : ان إستصحاب عدم التذكية لاثبات نجاسة الجلد المطروح هو : من إستصحاب الكلي لاثبات الفرد ، وإثبات الفرد لازم عقلي لاستصحاب الكلي ، فيكون من الاستصحاب المثبت .

ص: 326

إنّ الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما هو اللحم ، أو المأكول فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة .

لكنّ الانصاف : أنّه لو علّق حكم النجاسة على من مات حتف الأنف ، لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى - كما يراه بعضٌ - أشكل إثباتُ الموضوع بمجرّد أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ، لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة المستصحب إلى زمان خروج الروح لا يثبتُ

-------------------

لأنه يقال : انا نستصحب عدم تذكية هذا الجلد الخاص ، فلا يكون من الاستصحاب الكلي لاثبات الفرد حتى يكون مثبتا ، وذلك ( إنّ الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما ) أي : الحرمة والنجاسة ( هو اللحم ، أو المأكول ) أو الجلد الخارجي الجزئي ( فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة ) أي : انّ الاستصحاب يجري في نفس الموضوع ، فيثبت به الحرمة والنجاسة ولا يكون من الاستصحاب المثبت .

إلى هنا ردّ المصنِّف تقرير الفاضل التوني طهارة الجلد المطروح ، ثم بدأ هو يقرّر الطهارة في صورة ثانية بقوله : ( لكنّ الانصاف : أنّه لو علّق حكم النجاسة ) والحرمة ( على ) أمر وجودي مثل : ( من مات حتف الأنف ) أو مات بالذبح الفاسد ( لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى ) الوجودي ( كما يراه بعضٌ ) الفقهاء ( أشكل إثباتُ الموضوع ) أي : الميتة ( بمجرّد أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ) .

وإنّما يشكل إثبات الموضوع بذلك ( لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة المستصحب إلى زمان خروج الروح ) من الحيوان ( لا يثبتُ ) الميتة وهو :

ص: 327

كون الخروج حتف الأنف ، فيبقى أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ، وهو الموت حتف الأنف ، سليمةً عن المعارض وإن لم يثبت به التذكية ، كما زعمه السيد الشارح للوافية ، فذكر أنّ أصالة عدم التذكية يُثبت الموت حتف الأنف ، وأصالة عدم حتف الأنف يثبت التذكية ،

-------------------

( كون الخروج حتف الأنف ) أو بالذبح الفاسد ، لأنه أصل مثبت .

وعليه : ( فيبقى أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ، وهو ) أي : سبب النجاسة ( الموت حتف الأنف ) أو الذبح الفاسد ( سليمةً عن المعارض ) فلا أصل يعارض أصالة عدم حدوث سبب النجاسة ، فان الجلد كان حال حياة الحيوان طاهرا ، والآن نحكم بطهارته ، وكذلك سائر أجزاء الحيوان .

إذن : فأصل عدم حدوث سبب النجاسة حسب تقرير المصنِّف للحكم بالطهارة ، يثبت به الطهارة ( وإن لم يثبت به التذكية ، كما زعمه ) أي : زعم ثبوت التذكية ، ( السيد الشارح للوافية ) وهو السيد الصدر ، فانه قرر الحكم بالطهارة بصورة تعتمد على إثبات التذكية حسب زعمه ، بينما المصنِّف أثبت الطهارة دون التذكية .

وأمّا السيد الصدر ( فذكر ) حكم الطهارة بتقرير تعارض الأصلين : أصل عدم الموت حتف الأنف ، وأصل عدم الموت بالتذكية ، فيتعارضان ويتساقطان ويكون المرجع أصالة الحل ، وأصالة الطهارة ، لأنه إذا سقط الأصل السببي وهو أصل عدم التذكية بالتعارض ، لم يكن مانع من جريان الأصل المسبّبي وهو : أصل الحل ، وأصل الطهارة كما قال : ( أنّ أصالة عدم التذكية يُثبت الموت حتف الأنف، وأصالة عدم حتف الأنف يثبت التذكية ) فإذا أجرينا الأصلين المذكورين تعارضا وتساقطا ، فيكون المرجع حينئذ إلى أصل الطهارة أو إستصحابها ، وإلى أصل

ص: 328

فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية - مع أنّ الاباحة والطهارة لا تتوقف عليه بل يكفي إستصحابهما - أنّ إستصحاب عدم التذكية حاكمٌ على إستصحابهما ، فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستندٌ للاباحة والطهارة .

-------------------

الحل أو إستصحابه .

وإنّما نرجع إلى أصل الطهارة أو إستصحابها ، لأن الحيوان حال حياته كان طاهرا ، فإذا شككنا في انه هل تنجس أم لا ؟ إستصحبنا طهارته .

وإنّما نرجع إلى أصل الحل أو إستصحابه ، لأن الحيوان حال حياته كان حلالاً ، فان الحيوان إنّما يحرم إذا مات بدون التذكية ، فما دام لم يمت كان حلالاً ، فإذا شك في انه بموته هل تبدل الحل إلى الحرمة أم لا ؟ كان الأصل الحل .

لا يقال : إذا أجريتم أصالة الحل وأصالة الطهارة في اللحم المشكوك تذكيته ، فلا حاجة إلى إحراز التذكية .

لأنه يقال : الحاجة إليه إنّما هو لأجل إحداث التعارض بين الأصلين والتساقط ، حتى يسلم أصل الحل وأصل الطهارة .

وإلى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية مع انّ الاباحة والطهارة ) في اللحم المشكوك ( لا تتوقف عليه ) أي : على إحراز التذكية كما ذكرتم ( بل يكفي إستصحابهما ) أي : إستصحاب الاباحة وإستصحاب الطهارة في الحكم بالحلية والطهارة .

والجواب : إنّ وجه الحاجة إليه هو : ( أنّ إستصحاب عدم التذكية حاكمٌ على إستصحابهما ) أي : إستصحاب الاباحة والطهارة ( فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستندٌ للاباحة والطهارة ) .

ص: 329

وكأنّ السيد قدس سره ذكر هذا ، لزعمه أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف بأصالة عدم التذكية ،

-------------------

وعليه : فانا نجري أصالة عدم التذكية حتى يثبت الموت حتف الأنف ، ونجري أصالة عدم الموت حتف الأنف حتى يثبت التذكية ، فيتعارضان ويتساقطان ، فإذا تساقطا وصلت النوبة إلى أصالة الطهارة وإستصحابها ، وإلى أصالة الاباحة وإستصحابها .

قال في الأوثق : وحاصل ما ذكره : إنّ إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لاثبات التذكية ، وفرض التعارض بينها وبين أصالة عدم التذكية ، إنّما هو ليسلم إستصحاب الطهارة والحلية من المعارض ، وإلاّ فمع عدم إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لم يكن مستند للطهارة والحلية ، لكون أصالة عدم التذكية حاكمة على إستصحابهما .

ثم قال الأوثق : ان الطهارة يمكن إستنادها إلى القاعدة والاستصحاب ، واما الحلّية فهي مستندة إلى القاعدة ، خاصة فاطلاق الاستصحاب عليهما من باب التغليب (1) .

أقول : لكنّك قد عرفت : صحة إستصحاب الحلّية أيضا ، ويؤيده : انهم ذكروا حليّة بلع السمك الصغير الحي مستدلين عليه بانه حلال فإذا مات صار حراما إذا لم يكن بشروط التذكية .

هذا ( وكأنّ السيد ) الصدر ( قدس سره ذكر هذا ) التعارض بين الاستصحابين وتساقطهما ( لزعمه أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف ) كان ( بأصالة عدم التذكية ) .

ص: 330


1- - أوثق الوسائل : ص492 ما أفاده الفاضل التوني في عدم جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث .

فيستقيم حينئذ معارضتهم بما ذكره السيد قدس سره فيرجع بعد التعارض إلى قاعدة الحلّ والطهارة وإستصحابهما .

لكن هذا كلّه مبنيٌ على ما فرضناه : من تعلّق الحكم على الميتة ، والقول بأنّها ما زهق روحه بحتف الأنف .

-------------------

وعليه : ( فيستقيم حينئذ ) أي : حين كان مبنى تمسكهم لاثبات الحرمة والنجاسة بأصالة عدم التذكية ( معارضتهم بما ذكره السيد قدس سره ) من أصالة عدم الموت حتف الأنف المثبت للتذكية ( فيرجع بعد التعارض ) بين الاستصحابين والتساقط ( إلى قاعدة الحل والطهارة وإستصحابهما ) أي : إستصحاب الحل والطهارة .

( لكن هذا كلّه ) الذي ذكره الفاضل التوني ، والسيد الصدر ، والمصنِّف في تقرير طهارة مشكوك التذكية ( مبنيٌ على ما فرضناه : من تعلّق الحكم ) بالنجاسة ( على ) أمر وجودي هو : ( الميتة ، والقول بأنّها ) أي : الميتة ( ما زهق روحه بحتف الأنف ) موتا طبيعيا ، أو بالذبح الفاسد ، علما بان في مسألة المذكّى والميتة أقوالاً ثلاثة :

الأوّل : ما ذهب إليه الفاضل التوني والسيد الصدر وهو : ان موضوع الطهارة أمر وجودي وذلك بان يكون الحيوان مذكّى ، وان موضوع النجاسة أيضا أمر وجودي وذلك بان يموت بغير الشرائط الشرعية ، سواء كان بحتف الأنف أم بالذبح الفاسد، وهذا هو ا لمراد بالميتة عندهم ، فالمذكّى والميتة عند مثل الفاضل التوني والسيد الصدر من قبيل البياض والسواد أمران وجوديان .

الثاني : ما ذهب إليه المشهور ، وهو : ان موضوع الطهارة أمر وجودي ، وذلك بان يكون الحيوان مذكّى ، وان موضوع النجاسة أمر عدمي وذلك بان لم يذكّ ،

ص: 331

...

-------------------

سواء مات حتف الأنف أم مات بالذبح غير الشرعي ، وهذا هو مراد المشهور من الميتة ، وبناءا على مرادهم فلا محيص عن الحكم بالنجاسة ، إذ يستصحب عدم كون هذا اللحم مذكّى فيثبت نجاسته .

الثالث : ان موضوع النجاسة هو مطلق ما زهق روحه ، سواء كان بالتذكية الصحيحة ، أم بالموت حتف الأنف ، أم بالذبح الفاسد ، وهذا هو المراد بالميتة وقد أخرج الشارع من هذا المطلق المذكّى ، فيكون موضوع الطهارة أخص من موضوع النجاسة ، فكلّما شك في انه هل خرج عن العام أم لا ؟ يتمسك بعموم العام ، فتثبت النجاسة .

إذن : فهو كما إذا قال المولى : اكرم العلماء ولا تكرم الفاسق منهم ، فانه إذا شككنا في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ لزم التمسك فيه بالعموم ، لأن الخارج بحاجة إلى دليل ولا دليل ، كما انه ليس هذا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فان ذلك إنّما هو فيما إذا لم نعلم بان زيدا عالم أم لا ؟ والمفروض : انا نعلم بأنّه عالم ، لكن لا نعلم هل انه خرج من عموم العام لأنه فاسق أم لا ؟ .

وكيف كان : فقد عرفت : ان الحكم بطهارة مشكوك التذكية مبني على كون النجاسة معلقة على أمر وجودي هو : الميتة التي هي عبارة عما زهق روحه بحتف الأنف أو بالذبح الفاسد ، بينما الحكم بنجاسة مشكوك التذكية يكون مبنيا على أحد إحتمالات ثلاثة :

الأوّل : تعلق النجاسة على أمر عدمي وهو : ما لم يذكّ ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه.

الثاني : تعلق الحل على أمر وجودي هو ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر

ص: 332

أمّا إذا قلنا بتعلّق الحكم على لحم لم يذكّ حيوانُه ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر اسم اللّه عليه ، المستلزم لانتفائه بانتفاء أحد الأمرين ولو بحكم الأصل ، ولا ينافي ذلك تعلّق الحكم في بعض الأدلّة الاُخر بالميتة ولا ما علّق فيه الحلّ على ما لم يكن ميتةً ،

-------------------

إسم اللّه عليه ، بحيث يكون الشك في هذا الأمر الوجودي مستلزما لانتفائه فيثبت حرمته ونجاسته .

الثالث : ان تكون الميتة ما زهق روحه مطلقا ، إلاّ ما خرج من المذكّى .

وإلى أول هذه الاحتمالات الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( أمّا إذا قلنا بتعلّق الحكم ) بالنجاسة ( على ) أمر عدمي ، كجلد ، أو ( لحم لم يذكّ حيوانُه ، أو ) كجلد أو لحم ( لم يذكر اسم اللّه عليه ) فان عدم ذكر اسم اللّه سبحانه وتعالى عليه كعدم التذكية أمر عدمي فتثبت النجاسة .

وإلى ثاني الاحتمالات الثلاثة أشار بقوله : ( أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر اسم اللّه عليه ، المستلزم لانتفائه ) أي : إنتفاء الحل ( بانتفاء أحد الأمرين ) فإذا لم تكن الذبيحة للمسلم ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه إنتفاءً ( ولو بحكم الأصل ) أي : بالاستصحاب ، إنتفى الحل ، وإذا إنتفى الحل فانه يثبت حرمته ونجاسته .

هذا ( ولا ينافي ذلك ) أي : ما قلناه في الاحتمال الثاني : من تعلق الحلّ بالتذكية، وتعلق الحرمة والنجاسة بعدم التذكية ( تعلّق الحكم ) بالنجاسة ( في بعض الأدلّة الاُخر بالميتة ) لما تقدّم : من ان المراد بالميتة : ما لم يذكّ ، لا انه عنوان وجودي حتى يكون من الضدّين .

( ولا ما علّق فيه الحلّ على ما لم يكن ميتةً ) لما تقدّم : من ان المراد منه :

ص: 333

كما في آية : « قُل لا أجِدُ » الآية ؛ أو قلنا : إنّ الميتة هو ما زهق روحُه مطلقا ، خرج منه ما ذكّى ، فإذا شك في عنوان المخرج فالأصل عدمه - فلا محيص عن قول المشهور .

ثم إنّ ما ذكره الفاضل التوني - من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك ، المحقّق في ضمن زيد - صحيحٌ .

-------------------

المذكّى ، لا انه عنوان عدمي حتى يكون من الضدين ، فليس الأمر عدميّا ( كما في آية : « قُل لا أجِدُ ) فيما اُوحي إليّ مُحرّما على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة » (1) إلى آخر ( الآية ) فان ظاهر الآية على ان الحل إنّما هو في الحيوان الذي لم يكن ميتة .

وإلى ثالث الاحتمالات الثلاثة أشار بقوله : ( أو قلنا : إنّ الميتة هو ما زهق روحُه مطلقا ) مما يشمل الموت حتف الأنف ، والذبح الفاسد ، والذبح الجامع لشرائط التذكية ، فان كل ذلك ميتة في مقابل الحياة ، لكن ( خرج منه ما ذكّى ) فهو حلال ( فإذا شك في عنوان المخرج ) وانه مذكّى أم لا ؟ ( فالأصل عدمه ) أي : عدم ذلك العنوان وهو فيما نحن فيه : عدم كونه مذكّى فيثبت نجاسته .

إذن : ( ف ) على هذه الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنِّف وعرفتها مفصّلاً ، لم يبق مجال للقول بطهارة مشكوك التذكية ، بل ( لا محيص عن قول المشهور ) وهو : نجاسة مشكوك التذكية .

( ثم إنّ ما ذكره الفاضل التوني : من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك ، المحقّق في ضمن زيد ) وذلك في مثال خروج زيد مع إحتمال دخول عمرو في الدار ، فنستصحب الضاحك الجامع بينهما ، فان عدم جواز إثباته بالاستصحاب ( صحيحٌ ) وذلك على ما تقدّم في أوائل القسم الثالث من أقسام

ص: 334


1- - سورة الانعام : الآية 145 .

وقد عرفت أنّ عدم جواز إستصحاب نفس الكلّي وإن لم يثبت خصوصيّته لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحق فيه : التفصيل ، كما عرفت .

إلاّ أنّ كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محلُّ نظر ،

-------------------

إستصحاب الكلي .

هذا ( وقد عرفت ) هناك : ( أنّ عدم جواز إستصحاب نفس الكلّي وإن لم يثبت خصوصيّته ) للفرد بإستصحابه ، فانه لا يجري لا من أجل إثبات نفس الكلي ، ولا من أجل إثبات خصوص فرد خاص من الكلي ، وهذا ( لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحق فيه : التفصيل ، كما عرفت ) ذلك عند تقسيمنا القسم الثالث من أقسام إستصحاب الكلي ، حيث جوزنا الاستصحاب في مثل الفرد الشديد والضعيف إذا تبدلت الشدة إلى الضعف ، أو الضعف إلى الشدة .

إذن : فما ذكره الفاضل التوني : من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك في ضمن زيد صحيح ، لكن تنظيره إستصحاب عدم المذبوحية الذي هو أمر عدمي ، باستصحاب الضاحك الذي هو أمر وجودي لم يكن صحيحا كما قال : ( إلاّ أنّ كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محلُّ نظر ) .

وإنّما كان ذلك محل نظر ، لأن تنظيره هذا متفرِّع على التغاير الذي إدعاه بقوله : «ان عدم المذبوحية اللازم للحياة ، مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف» مع ان التغاير إنّما يتم في الوجوديات لا في العدميات .

مثلاً : وجود الانسان في ضمن زيد غير وجوده في ضمن عمرو ، فهما حصتان من الوجود ، بينما العدم ليس كذلك ، فان عدم التذكية - مثلاً - عدم أزلي مستمر إلى ان يرفعه رافع ، ولا يتغيّر هذا العدم بتبادل مصاديقه : من الحياة ، أو الموت حتف الأنف ، أو بالذبح الفاسد ، فلا مانع من إستصحاب هذا العدم ، فانه في حال

ص: 335

من حيث أنّ عدم الأزليّ مستمرٌّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ؛ فلا مانع من إستصحابه وترتّب أحكامه عليه عند الشك وإن قُطِعَ بتبادل الوجودات المقارنة له .

-------------------

حياته لم يكن مذكّى ففي حال موته لم يكن مذكّى أيضا ، فالعدم أمر مستمر لا تغاير فيه .

وعلى هذا : فوجه النظر في كلام الفاضل التوني إنّما هو ( من حيث أنّ عدم الأزليّ ) وفي نسخة اُخرى : «العدم الأزلي» وهو أتقن ( مستمرٌّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ) أو بالذبح الفاسد ( فلا مانع من إستصحابه ) أي : إستصحاب هذا العدم الأزلي ( وترتّب أحكامه عليه عند الشك ) في إرتفاعه حتى ( وإن قُطِعَ بتبادل الوجودات المقارنة له ) أي : لهذا العدم ، فان الوجود الأوّل كان وجوده حيا، والوجود الثاني هو وجوده ميتا .

هذا ولا يخفى : إنّ قول المصنِّف : «عدم الأزلي» هو بتقدير الشيء ، يعني : عدم الشيء الأزلي ، ويقصد به هنا : عدم التذكية الأزلي ، غير انه جاء في نسخة اُخرى : «العدم الأزلي» وهو أوفق بالعربية .

وكيف كان : فان الفاضل التوني لم يصب في موردين :

الأوّل : في مراد المشهور حيث إستظهر انهم يقولون : بان موضوع النجاسة أمر وجودي وهو : الموت حتف الأنف ، وانهم يريدون بإستصحاب عدم التذكية إثبات ذلك ، وقد عرفت : ان موضوع النجاسة عند المشهور هو نفس عدم التذكية.

الثاني : ما تقدّم من تصوره ان عدم المذبوحية اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف ، وقد عرفت : ان عدم المذبوحية ليس في أحد الأمرين غير عدم المذبوحية في الأمر الآخر ، فلا مانع إذن من إستصحابه .

ص: 336

بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من الكلّي ، كان الاستصحاب في الأمر العدمي المقارن للوجودات خاليا عن الاشكال إذا لم يُرد به إثبات الموجود المتأخّر المقان له به ، نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية أو إرتباط الموجود المقارن له به .

-------------------

( بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من الكلّي ، كان الاستصحاب في الأمر العدمي ) مثل : عدم التذكية ( المقارن للوجودات ) من الحياة ، والموت حتف الأنف أو بالذبح الفاسد شرعا ( خاليا عن الاشكال ) لما عرفت : من ان العدم أمر مستمر إلاّ أن يرفعه رافع .

ولا يخفى : ان التعبير عن العدم بالمقارن أو بسائر الأوصاف الوجودية ، كالتعبير عنه بكونه سببا أو مسبّبا أو وصفا أو ما أشبه ذلك كلها من التسامح ، كما أشرنا إلى ذلك في ما سبق .

هذا ، ولكن إستصحاب الأمر العدمي إنّما يصح ( إذا ) اُريد به إثبات نفس الأمر العدمي مثل عدم التذكية وما أشبه ذلك يعني : بأن ( لم يُرد به إثبات الموجود المتأخّر المقان له ) أي : للأمر العدمي ، وهو الأمر الوجودي مثل الميتة في المثال (به) أي: بالاستصحاب ، فإذا اُريد به ذلك ، كان من الأصل المثبت الذي ليس بحجة .

إذن : فلا يصح الاستصحاب فيما كان ( نظير إثبات الموت حتف الأنف ) المقارن ( بعدم التذكية ) يعني : مثلاً إذا كانت النجاسة مترتبة على الميتة ، يعني :

على أمر وجودي ، فلا يصح إستصحاب عدم التذكية لاثبات هذا الأمر الوجودي الذي هو الميتة في المثال حتى يترتب عليه النجاسة .

( أو ) لم يرد باستصحاب الأمر العدمي ( إرتباط الموجود المقارن له ) أي : للأمر العدمي ( به ) أي : بذلك الأمر العدمي ، فان الاستصحاب يجري في الأمر

ص: 337

كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهي إستحاضة ، فانّ إستصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب إنطباق هذا السلب على ذلك الدم وصدقه عليه حتى يصدق : « ليس بحيض » على هذا الدم فيحكم عليه بالاستحاضة ،

-------------------

العدمي لاثبات نفس الأمر العدمي دون إثبات غيره .

وعليه : فلا يصح إستصحاب الأمر العدمي إذا اُريد به إثبات الوجود المتأخر المشكوك ، أو اُريد به إثبات الربط بينه وبين الوجود المتأخر المعلوم .

وأمّا مثال لاثبات الربط بينه وبين الوجود المتأخر المعلوم فهو : ( كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهي إستحاضة ) وذلك فيما إذا لم تعلم انه من دم البكارة ، أو دم الجرح ، أو ما أشبه ذلك .

إذن : فالمرأة إذا كانت طاهرة من الدم ، ثم رأت الدم وشكّت في انه حيض أو ليس بحيض ( فانّ إستصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك ) الحيضية ( لا يوجب إنطباق هذا السلب ) أي : عدم الحيضيّة ( على ذلك الدم ) الحادث ( و ) لا يوجب ( صدقه ) أي : صدق عدم الحيضيّة ( عليه ) أي : على هذا الدم .

والحاصل : ان إستصحاب عدم الحيضيّة لا يثبت ان هذا الدم ليس بحيض ، لأن هذا الدم وجود مقارن لعدم الحيض ، لا ان هذا الدم هو نفس عدم الحيض ، فاستصحاب عدم الحيضية لا يثبت ان هذا الدم هو إستحاضة ( حتى يصدق : « ليس بحيض » على هذا الدم ) الحادث ( فيحكم عليه ) أي : على هذا الدم الحادث المشكوك كونه حيضا : ( بالاستحاضة ) .

ص: 338

إذ فرقٌ بين الدم المقارن لعدم الحيض ، وبين الدم المنفي عنه الحيضيّة .

وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجودي والعدمي في الفرق بين الماء المقارن لوجود الكرّ وبين الماء المتصف بالكرّية ،

-------------------

وإنّما لا يحكم عليه بالاستحاضة ، لأنه كما قال : ( إذ فرقٌ بين الدم المقارن لعدم الحيض ، وبين الدم المنفي عنه الحيضيّة ) لوضوح : ان المقارن للشيء ، لا يوجب كونه وصفا لذلك الشيء ، فزيد - مثلاً - إذا كان في الليل ، فان عدم النهار يكون مقارنا لزيد ، لا انه يكون وصفا لزيد ، فعدم الحيضية مقارن لهذا الدم ، لا انه دم ليس بحيض .

( وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجودي ) أي : مثل إستصحاب الضاحك لاثبات وجود عمرو في الدار بعد علمنا بخروج زيد منها وشكنا في انه هل دخل عمرو فيها أم لا ؟ ( و ) كذا نظيره ( العدمي ) أي : مثل إستصحاب عدم التذكية لاثبات وجود الموت حتف الأنف ، أو إستصحاب عدم الحيض لاثبات الربط بينه وبين الدم الموجود ، حتى يكون الدم الموجود ليس بحيض على طريق الوصف ممّا ينتج انه إستحاضة .

وعليه : فانه سيجيء نظيرهما من حيث الصحة وعدم الصحة عند بحثنا ( في الفرق بين الماء المقارن لوجود الكرّ ) فان الاستصحاب فيه مثبت ولا يجري على رأي المصنِّف ورأي المشهور من المتأخرين ( وبين الماء المتصف بالكرّية ) فانه غير مثبت ويجري فيه الاستصحاب .

مثلاً : إذا كان في الحوض ماء بقدر الكر ، ثم نقص من الماء مقدار لا يضرّ في الصدق العرفي ببقاء الموضوع ، فانه يجري فيه الاستصحاب من جهة ، ولا يجري فيه من جهة اُخرى .

ص: 339

والمعيار عدم الخلط بين المتصف بوصف عنواني ، وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ، فانّ إستصحاب وجود المتصف أو عدمه لا يثبتُ كون المحلّ موردا لذلك الوصف العنواني، فافهم .

-------------------

أمّا انه لا يجري فيه الاستصحاب : فلان إستصحاب وجود الكر في الحوض لاثبات الربط بينه وبين هذا الماء الباقي المقارن له من الأصل المثبت ، فهو نظير مقارنة الموت حتف الأنف لعدم التذكية بان يستصحب عدم التذكية ، فيثبت بذلك انه مات حتف أنفه .

وأمّا انه يجري فيه الاستصحاب : فلأن إستصحاب الكرية في نفس الماء المتصف بالكرية ليس من الأصل المثبت فيقال : هذا الماء كان كرا ، فشككنا بعد أخذ شيء منه في انه هل خرج عن الكرية أم لا ؟ فنستصحب كريته لبقاء الموضوع العرفي ، فان العرف يرون بقاء الموضوع في مثله كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

( والمعيار ) في صحة الاستصحاب ، وعدم صحته : ( عدم الخلط بين المتصف بوصف عنواني ، وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ) .

فالأول: كما إذا قيل هذا الدم لم يكن حيضا فهو ليس بحيض فيصح فيه الاستصحاب.

والثاني : كما إذا قيل نستصحب عدم وجود الحيض ، فنحكم بان هذا العدم قائم بهذا الدم الخارج المشكوك كونه حيضا فلا يصح فيه الاستصحاب كما قال : ( فانّ إستصحاب وجود المتصف ) كإستصحاب وجود الكر ( أو عدمه ) كإستصحاب عدم الحيض ( لا يثبت كون المحلّ ) وهو في المثال : الماء الباقي في الحوض بعد أخذ شيء منه ، والدم الخارج بعد ان كانت المرأة طاهرة ( موردا لذلك الوصف العنواني ) لأنه مثبت .

(فافهم) ولعله إشارة إلى ان عدم حجية الأصل المثبت إنّما هو بناءا على إعتبار

ص: 340

الأمر الثاني :

إنّه قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلّته أنّ مورده الشك في البقاء ، وهو : وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ، ويترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ،

-------------------

الاستصحاب من باب الأخبار ، واما بناءا على إعتباره من باب الظن فلا فرق فيه بين الأصل المثبت وغيره ، لأن الظن كالخبر الواحد ونحوه سواء كان ظنا خاصا أم ظنا عاما إنسداديا يثبت مثبتاته : من اللازم والملزوم والملازم ، كما سيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى .

( الأمر الثاني ) من تنبيهات الاستصحاب ، وهو : ( إنّه ) هل يصح إستصحاب الزمان والزمانيات ، أو ان دليل الاستصحاب لا يشملهما ؟ فانه ( قد علم من تعريف الاستصحاب ) وهو « إبقاء ما كان » ( وأدلّته ) الدالة على حجية الاستصحاب مثل «لا يُنقض اليقين بالشك» ونحوه : عُلم ( أنّ مورده الشك في البقاء ، وهو : وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ) بان كان الشك في بقاء الموجود السابق بعينه ، لا ما إذا شك في شيء مغاير للموجود السابق .

( ويترتّب عليه ) أي : على إشتراط الاستصحاب بكونه موجودا في الزمان السابق يعني : بان يكون من الاُمور المستقرة الثابتة عرفا مثل : الحياة والطهارة ، والوجوب والحرمة ، والشرط والجزء ، ونحوها ، فانه حسب هذا الشرط يترتب عليه ( عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ) كالليل والنهار والشهر والاسبوع وما أشبه ذلك .

مثلاً : اذا كان في نهار شهر رمضان فشك في أنه هل انقضى النهار حتى يجوز له الافطار ، أم لا حتى لا يجوز له ذلك ؟ أو كان في الليل فشك في انه هل إنقضى

ص: 341

ولا في الزمانيّ الذي لا إستقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقرّ الذي يؤخذ قيدا له .

إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة جريانُ الاستصحاب في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ،

-------------------

الليل حتى يحرم عليه الأكل أم لا حتى لا يحرم عليه ؟ إلى غير ذلك من أمثلة الزمان فانه لا يجري الاستصحاب فيه .

( ولا ) يجري الاستصحاب أيضا ( في الزمانيّ الذي لا إستقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ) مثل : سيلان الدم في المرأة ، وسيلان النبع في الماء الذي إذا إنقطع نبعه صار قليلاً ، فان الدم السائل في اللحظة الثانية غير الدم في اللحظة الاُولى ، وكذلك الماء النابع في اللحظة الثانية غير الماء الذي نبع في اللحظة الاُولى ، وهكذا يكون التكلم والكتابة وما أشبه ذلك .

( وكذا ) لا يجري الاستصحاب أيضا ( في المستقرّ الذي يؤخذ ) الزمان ( قيدا له ) مثل : وجوب الصوم مقيّدا بيوم الجمعة ، فإذا شك في وجوب الصوم عليه يوم السبت وعدم وجوبه ، لا يجري فيه الاستصحاب ، لوضوح : ان الصوم يوم الجمعة غير الصوم يوم السبت .

( إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة ) من العلماء : ( جريانُ الاستصحاب في الزمان ، فيجري ) الاستصحاب ( في القسمين الأخيرين ) أي : ما كان زمانيا أو كان الزمان قيدا له ( بطريق أولى ) فان عدم الجريان فيهما تابع لعدم الجريان في نفس الزمان ، فإذا جرى في الزمان كان الجريان فيهما أولى بنظر العرف .

والحاصل : ان عدم الجريان في الزمان والزماني إنّما هو لانقطاع الوجود السابق والشك في تجدّد اللاحق ، فلا يصدق البقاء على المشكوك ، والجريان إنّما هو

ص: 342

بل تقدّم من بعض الاخباريين : أنّ إستصحاب الليل والنهار من الضروريات .

والتحقيق : أنّ هنا أقساما ثلاثة :

أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل والنهار ، لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق ، فضلاً عن وصف كونه نهارا أو ليلاً .

-------------------

من جهة الوحدة العرفية وقد عرفت : ان معيار الاستصحاب هو بقاء الموضوع عرفا ( بل تقدّم من بعض الاخباريين : أنّ إستصحاب الليل والنهار من الضروريات ) فإذا جرى الاستصحاب في الليل والنهار ، جرى في الأمر المرتبط بهما بطريق أولى .

( والتحقيق : أنّ هنا أقساما ثلاثة ) كالتالي :

الأوّل : ( أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل والنهار ) فيما إذا شككنا في انه هل إنقضى الليل أم لا ؟ أو هل إنقضى النهار أم لا ؟ .

وإنّما لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ( لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق فضلاً عن وصف كونه نهارا أو ليلاً ) فإذا شك في ان هذا الآن هل هو من أجزاء الليل أم لا ؟ وذلك فيما إذا كان السابق ليلاً ، فلا يصح الاستصحاب في نفس هذا الآن بأن يقال : هذا الآن كان سابقا من الليل فهو ليل ، لوضوح : ان نفس هذا الآن لم يكن موجودا سابقا ، فكيف بوصف كونه ليلاً ؟ وهكذا بالنسبة إلى إستصحاب الآنات في النهار .

ص: 343

نعم ، لو اُخِذَ المستصحب مجموع الليل أو النهار ولوحظ كونه أمرا خارجيا واحدا وجُعل بقاؤه وإرتفاعه عبارة عن عدم تحقق جزئه الأخير وتجدّده أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده ، لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصور العرف له من الوجود ، فيصدق : أنّ الشخص كان

-------------------

( نعم ، لو اُخِذَ المستصحب مجموع الليل أو النهار ) لا خصوص الآن المشكوك ، وذلك بان لم نقسِّم النهار أو الليل إلى آنات متعدّدة ، بل أخذنا الليل أو النهار وحدة واحدة ( ولوحظ كونه ) أي : كون هذا المجموع ( أمرا خارجيا واحدا ) فان العرف يرى النهار بجميع آناته المضيئة شيئا واحدا ، والليل بجميع آناته المظلمة شيئا واحدا ، لا إنه يراه متعدّدا .

هذا ( وجُعل بقاؤه ) أي : بقاء الليل - مثلاً - ( وإرتفاعه عبارة عن عدم تحقق جزئه الأخير ) فما لم يتحقق الجزء الأخير من الليل يستصحب بقاء الليل ( و ) عند ( تجدّده ) أي : تجدّد الجزء الأخير من الليل بان يعلم بتجدّده يرتفع الليل ، فليس له ان يستصحب الليل .

( أو ) جُعل بقاء الليل - مثلاً - عبارة ( عن عدم تجدّد جزء مقابله ) وهو النهار ، فما لم يتجدّد جزء النهار يستصحب بقاء الليل ( و ) عند ( تجدّده ) أي : تجدّد جزء النهار بان يعلم بتجدّده يرتفع الليل ، فليس له ان يستصحب الليل .

وإنّما يُجعل بقاء الليل - مثلاً - وإرتفاعه عبارة عما قلناه ( لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصور العرف له من الوجود ) فالعرف يتصور مجموع النهار شيئا واحدا ، ومجموع ما يقابله من الليل شيئا واحدا .

والحاصل : انه إذا لوحظ الليل أو النهار كذلك ( فيصدق : أنّ الشخص كان

ص: 344

على يقين من وجود الليل فشك فيه ، فالعبرة بالشك في وجوده العلم بتحققه قبل زمان الشك وإن كان تحققه بنفس تحقّق زمان الشك ، وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيات ، حيث جعلوا الكلام

-------------------

على يقين من وجود الليل فشك فيه ) فيستصحب وجود الليل ، كما إنه يصدق عليه : بانه كان على يقين من عدم وجود النهار فيستصحب عدم وجود النهار .

وعلى هذا : ( فالعبرة ) في إستصحاب الزمان كالليل أو النهار إنّما هو ( بالشك في وجوده ) أي : في وجود الزمان بعد ( العلم بتحققه ) أي : بتحقق ذلك الزمان واليقين بوجوده ( قبل زمان الشك ) فيه .

وعليه : فإذا علم - مثلاً - بوجود الليل ، ثم شك في انه هل إنقضى أم لا ؟ فانه يكفي في إستصحاب الليل مجرّد مثل هذا الشك ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه حتى ( وإن كان تحققه ) أي : تحقق وجود الليل ( بنفس تحقّق زمان الشك ) لا شيء واقع في زمان الشك كما في الزمانيات .

مثلاً : لو شك في نهار شهر رمضان في بقاء النهار ، فان وجود النهار في آن الشك يكون بنفس حدوث هذا الآن المشكوك كونه نهارا ، لا ببقاء الآن السابق المتيقن كونه نهارا ، فالشك في ان هذا الآن نهار أم لا وان كان بالدقة العقلية شكا في الحدوث ، إلاّ انه بملاحظة كون المستصحب مجموع النهار وانه وحدة واحدة خارجا يكون شكا في البقاء عرفا ، ولذلك قال :

( وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى ) المذكور للبقاء وهو انّ بقاء كل شيء بحسبه عرفا ، ومنه : معنى البقاء ( في الزمانيات ) ومعنى البقاء في الزمان أيضا ، وذلك ( حيث جعلوا الكلام

ص: 345

في إستصحاب الحال أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحةً .

إلاّ أنّ هذا المعنى

-------------------

في إستصحاب الحال ) وحينئذ فالاستصحاب في الزمان والزماني يكون للمسامحة العرفية .

وعليه : فالتعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان والزماني يكون اما لملاحظة المعنى المذكور للبقاء ( أو لتعميم البقاء لمثل هذا ) الذي هو ليس ببقاء في الحقيقة وذلك ( مسامحةً ) فيكون البقاء في الزمان بقاء مسامحي ، لا بقاء حقيقي .

والحاصل : إنّ إستصحاب الزمان يكون بأحد وجهين :

الأوّل : ان نلاحظ أجزاء الزمان شيئا واحدا ، لأن العرف يراه كذلك ، فالتسامح يكون في المستصحب لا في الاستصحاب .

الثاني : ان نلاحظ أجزاء الزمان آنات متعدّدة ، لأنه حقيقة كذلك ، فالتسامح يكون في البقاء ، حيث أطلق البقاء على ما ليس ببقاء حقيقة ، من قبيل تسمية بقاء الولد بانه بقاء للوالد ، فالتسامح على هذا الثاني في الاستصحاب لا في المستصحب .

هذا ولا يخفى : ان هناك إحتمالاً ثالثا ليس من التصرف ، لا في المستصحب ، ولا في الاستصحاب وهو : ان يطلق النهار ، أو الليل ، أو الأسبوع ، أو الشهر ، أو السنة - مثلاً - على ما بين الحدّين مثل : ما بين الطلوع والغروب بالنسبة إلى النهار ، أو ما بين الغروب والطلوع بالنسبة إلى الليل ، أو ما بين أول الاسبوع وآخر الاسبوع بالنسبة إلى الاسبوع وهكذا فلا يحتاج الاستصحاب فيه إلى أحد التوجيهين المذكورين ، إذ لا تسامح في البين ( إلاّ أنّ هذا المعنى ) الذي ذكره

ص: 346

على تقدير صحته ، والاغماض عمّا فيه لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل حتى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية .

-------------------

المصنّف : من التصرّف في المستصحب ، أو التصرّف في الاستصحاب ( على تقدير صحته ، والاغماض عمّا فيه ) من البعد لما عرفت : من ان الزمان آنات متعدّدة ، وان افراد الآنات مثل : افراد الانسان ، فانه على ذلك ( لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل ) .

وعليه : فان إستصحاب النهار مثلاً لا يثبت كون هذا الآن المشكوك نهارا ، لأنه من قبيل إستصحاب الكلي لاثبات الفرد وهو مع تبادل الافراد غير صحيح ، ولكن على فرض صحته بسبب التصرف في المستصحب أو في الاستصحاب فانه لا ينفعنا هنا ( حتى يصدق على الفعل ) من الأكل والشرب - مثلاً - ( الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا ) سواء كانت الواسطة جلية أم خفية ( أو على بعض الوجوه الآتية ) بأن تكون الواسطة خفية - مثلاً - .

والحاصل : انه قد يقال : بحجية الأصل المثبت حتى مع وضوح الواسطة وجلائها ، وقد يقال : بحجيته بشرط خفاء الواسطة ، فان هناك بين إستصحاب الكلي وبين إثبات الفرد واسطة ، وهي عبارة عن قياس خارجي عقلي ، وهو : انه كلّما كان الكلي موجودا كان الفرد موجودا ، وحيث نثبت بالاستصحاب وجود الكلي ، فلابد ان يكون ذلك الكلي في ضمن فرد فيترتب على ذلك الفرد أحكامه.

وعليه : فلا محيص عند إستصحاب الكلي لاثبات الفرد من واسطة ، سواء

ص: 347

ولو بنينا على ذلك أغنانا عمّا ذكر من التوجيه إستصحابات اُخر ، واُمورا متلازمةً مع الزمان ، كطلوع الفجر

-------------------

كانت جلية أم خفية ، ويمثلون للواسطة الجلية بمثل إستصحاب حياة الولد الموجبة للتصدق - فيما لو غاب الولد وقد نذر الأب التصدق إذا نبتت لحية ولده - فان الواسطة بينهما هو نبات للحية ، لكن يراها العرف جلية ، لأنه يرى ان التصدق مترتب على نبات اللحية لا على نفس الحياة .

ويمثلون للواسطة الخفية بمثل : إستصحاب الرطوبة في النجس الموجبة لتنجس الملاقي ، فان الواسطة بينهما هي السراية لكن يراها العرف خفية ، لأنه يرى ان التنجس مترتّب على نفس الرطوبة لا على السراية .

( و ) كيف كان : فانه ( لو بنينا على ذلك ) أي : على القول بالأصل المثبت سواء أصلاً مثبتا مطلقا ، أم أصلاً مثبتا في صورة خفاء الواسطة ، فقد ( أغنانا ) هذا البناء ( عمّا ذكر من التوجيه ) في صحة إستصحاب الزمان والزماني بأحد التوجيهين : من التصرف في المستصحب ، أو التصرف في الاستصحاب ، فانه يغنينا عن ذلك ( إستصحابات اُخر ، واُمورا متلازمةً مع الزمان ) .

والحاصل : ان إستصحاب الليل أو النهار أو ما أشبه ذلك من الزمان والزماني إذا إحتاج إلى التصرف في المستصحب أو الاستصحاب ، وكان مع ذلك متوقفا على حجية الأصل المثبت وقلنا بحجيته ، فلا داعي إلى مثل هذا الاستصحاب المستلزم للتصرف فيه .

وإنّما لا داعي إلى مثل هذا الاستصحاب ، لأن هناك إستصحابات اُخر مثبتة ولا تحتاج إلى التصرف في المستصحب أو الاستصحاب ( كطلوع الفجر ) فانه إذا شك في الليل بانه هل طلع الفجر حتى يحرم عليه الأكل والشرب ، أو لم يطلع

ص: 348

وغروب الشمس ، وذهاب الحمرة وعدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها .

فالأولى التمسك في هذا المقام

-------------------

حتى يحلّ عليه ؟ فانه يستصحب عدم طلوع الفجر ، ولازمه بقاء الليل وجواز الاتيان بالمفطرات .

( و ) مثل ( غروب الشمس ، وذهاب الحمرة ) فانه إذا شك في النهار بانه هل غربت الشمس وذلك إذا قلنا بان غروب الشمس هو ميزان الافطار والصلاة ، أو انه هل ذهبت الحمرة وذلك إذا قلنا بان ذهاب الحمرة هو الميزان كما هو المشهور عند الشيعة ؟ فانه يستصحب عدم الغروب ، وعدم ذهاب الحمرة ، ويلزمه بقاء النهار وحرمة الاتيان بالمفطرات .

( و ) مثل ( عدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها ) فان القمر إذا إبتعد عن الشمس زهاء إثنتي عشرة درجة وقع فيه النور وصار قابلاً للرؤية وبه يدخل الشهر الجديد ، فإذا شككنا في انه هل وصل القمر إلى هذه الدرجة أم لا ؟ فالأصل عدم وصوله إليها ، مما لازمه بقاء الشهر السابق وعدم دخول الشهر اللاحق ، وهذا يجري في كل الشهور ، لا خصوص شهر رمضان وشوال وذي الحجة .

وكذلك لو شككنا في ان القمر هل وصل إلى درجة المحاق ، حيث يكره الزواج فيه ، أم لا حتى لا يكون الزواج مكروها ؟ .

هذا ، وقد تقدّم من المصنِّف في التنبيه السابق : ان إستصحاب الأمر العدمي المقارن للوجودات المتعاقبة المتجدّدة خال عن الاشكال .

وكيف كان : فبعد كون إستصحاب الزمان يحتاج إلى التوجيه وانه مثبت على ماعرفت ( فالأولى التمسك في هذا المقام ) أي : مقام ترتيب الأحكام السابقة

ص: 349

باستصحاب الحكم المرتّب على الزمان لو كان جاريا فيه ، كعدم تحقق حكم الصوم والافطار عند الشك في هلال رمضان أو شوّال ، ولعلّه المراد بقوله عليه السلام في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة الاستصحاب : « اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُمْ للرؤية ، وأفطِر للرؤية » ،

-------------------

بالنسبة إلى الزمان والزماني ( باستصحاب ) ثالث وهو : إستصحاب ( الحكم المرتّب على الزمان لو كان ) الاستصحاب ( جاريا فيه ) أي : في الزمان .

وعليه : فلا يستصحب الزمان لما عرفت : من انه مثبت ومحتاج إلى التوجيه ، وإنّما يستصحب نفس الحكم المترتب على الزمان ، لأن إستصحاب الحكم لا يحتاج إلى التوجيه السابق ، كما لم يكن مثبتا ، وذلك ( كعدم تحقق حكم الصوم ) فيما إذا شك في انه هل صار شهر رمضان أم لا ؟ ( و ) عدم تحقق حكم ( الافطار ) فيما إذا شك في انه هل صار شهر شوال أم لا ؟ .

إذن : فاستصحاب الحكمين المذكورين ( عند الشك في هلال رمضان أو شوّال ) خالٍ عن المحذور .

وهكذا إستصحاب عدم إستحباب ما ورد في شهر ذي الحجة وما ورد في شهر رجب ، إلى غير ذلك .

( ولعلّه ) أي : لعل الاستصحاب الحكمي هو ( المراد بقوله عليه السلام في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة الاستصحاب : « اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُمْ للرؤية ، وأفطِر للرؤية » (1) ) .

والحاصل : انّه يمكن ان يكون مراده عليه السلام في المكاتبة : إستصحاب

ص: 350


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

إلاّ أنّ جواز الافطار للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكمي ، إلاّ بناءا على جريان إستصحاب الاشتغال والتكليف بصوم رمضان ، مع أنّ

-------------------

الموضوع ، فيكون المعنى حينئذ : اليقين بوجود شعبان لا يدخله الشك في مجيء رمضان فلا يصام قبل الرؤية ، كما ان اليقين بوجود رمضان لا يدخله الشك في دخول شوال فلا يفطر قبل الرؤية .

ويمكن ان يكون مراده عليه السلام في المكاتبة: إستصحاب الحكم على ما ذكرناه من قولنا : فالأولى التمسك في هذا المقام بإستصحاب الحكم المرتب على الزمان، فيكون المعنى حينئذ : اليقين بعدم وجوب الصوم لا يدخله الشك في الوجوب ، فلا يصام بدون الرؤية، كما ان اليقين بحرمة الافطار لا يدخله الشك في عدم الحرمة ، فلا يفطر دون الرؤية .

وعليه : فالرواية محتملة للاستصحاب الموضوعي ، كما انها محتملة للاستصحاب الحكمي أيضا ( إلاّ أنّ ) تفريع جواز الافطار للرؤية على الاستصحاب الحكمي أعني : الوجوب ، لا يخلو من إشكال .

وإنّما قلنا انه لا يخلو من إشكال ، لأن الشك في خروج شهر رمضان ، شك في وجوب الزائد ، والزائد مجري للبرائة ، فلا يصح إستصحاب الوجوب والاشتغال حتى يتفرع عليه : أفطر للرؤية ، فان الانسان إذا شك في ان الواجب عليه صوم ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين ، فالأصل عدم وجوب الزائد ، لأنه من الأقل والأكثر غير الارتباطيين وقد تقدّم انه مجرى للبرائة كما قال :

فان ( جواز الافطار للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكمي ، إلاّ بناءا على جريان إستصحاب الاشتغال و ) إستصحاب ( التكليف بصوم رمضان ، مع أنّ

ص: 351

الحقّ في مثله التمسك بالبرائة لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاً .

وأمّا القسم الثاني : أعني : الاُمور التدريجيّة غير القارّة ، كالتكلّم ، والكتابة ، والمشي ، ونبع الماء من العين ، وسيلان دم الحيض من الرحم ، فالظاهرُ : جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرّا

-------------------

الحقّ في مثله ) من الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ( التمسك بالبرائة ) لا بالاشتغال والاحتياط .

وإنّما كان الحق هنا التمسك بالبرائة لا بالاشتغال ( لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاً ) غير مرتبط ببقية الأفراد ، ولهذا إذا صام كل شهر رمضان إلاّ يوما واحدا لم يصمه عصيانا ، كان صيامه لباقي الأيام صحيحا غير مرتبط بهذا الافطار العمدي في اليوم الواحد ، إلى غير ذلك مما تقدّم في مسألة الأقل والأكثر غير الارتباطيين .

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الاُمور التدريجية غير القارة الذي هو الزمان .

( وأمّا القسم الثاني : أعني : الاُمور التدريجيّة غير القارّة ) التي تسمّى بالزمانيات ( كالتكلّم ، والكتابة ، والمشي ، ونبع الماء من العين ، وسيلان دم الحيض من الرحم ) وغيرها من الزمانيات فما هو حكم الاستصحاب فيها ؟ .

مثلاً : إذا قال المولى لعبده : إبق في الدار ما دام الخطيب يتكلم ، أو ما دام فلان يكتب ، أو مادام يمشي ، أو ما دام ينجر الخشب ، أو يبني الدار ، أو ما أشبه ذلك من الاُمور التدريجية الزمانية ( فالظاهرُ : جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرّا ) عرفا .

وعليه : فما كان من الزمانيات بنظر العرف أمرا واحدا جرى فيه الاستصحاب

ص: 352

نظير ما ذكرناه في نفس الزمان فيفرض التكلّم - مثلاً - مجموعُ أجزائه أمرا واحدا ، والشك في بقائه لأجل الشك في قلّة أجزاء ذلك الفرد الموجود منه في الخارج وكثرتها ، فيستصحب القدر المشترك المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها .

-------------------

مثل تكلم الخطيب في مجلس واحد فان مجموعه يعدُّ عرفا أمرا واحدا وفردا من افراد كلي التكلم الصادق على هذا الفرد من التكلم وعلى غيره ، سواء كان تكلما من هذا الخطيب نفسه أم من سائر الخطباء .

وهكذا يكون بنظر العرف حال الكتابة والمشي ونجر الخشب والاشتغال بالبناء وغير ذلك .

إذن : فما ذكرناه من فرض الوحدة في الزمانيات يكون ( نظير ما ذكرناه ) من فرض الوحدة ( في نفس الزمان ) حيث ذكرنا : ان الزمان شيء واحد عرفا وان كان له أجزاء تدريجية دقة ، لكن عرفت : ان النظرة الدقية ليست مناطا في باب الاستصحاب ، وإنّما المناط هو النظر العرفي ، وإستصحاب كل شيء إنّما هو بحسبه ، كما تقدّم ذلك في الزمان .

وعليه : ( فيفرض التكلّم - مثلاً - مجموعُ أجزائه ) الحاصلة في مجلس واحد من خطيب واحد ( أمرا واحدا ، والشك في بقائه ) يكون حينئذ ( لأجل الشك في قلّة أجزاء ذلك الفرد الموجود منه ) أي : من التكلم ( في الخارج وكثرتها ) أي : كثرة الأجزاء ، فيكون من قبيل الشك في ان الفرد الموجود من الحيوان في حديقة الحيوانات هل هو الفرد الذي يعيش قصيرا - مثلاً - أو يعيش طويلاً ؟ .

وهنا نستصحب كليّ التكلّم كما قال : ( فيستصحب القدر المشترك ) من التكلم ( المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها ) كما نستصحب كلي الحيوان المردّد

ص: 353

ودعوى : « أنّ الشك في بقاء القدر المشترك ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام والأصل عدمه المستلزم لارتفاع القدر المشترك ، فهو من قبيل القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر السابق » ،

-------------------

بين الطويل والقصير ، فيلزم على العبد البقاء في الدار ، ما دام لم يعلم إنتهاء الخطبة ، أو لم يقم دليل شرعي على الانتهاء .

وهكذا يكون حال إستصحاب نبع الماء من العين حتى يكون مطهّرا لأنه جار .

وكذا يكون إستصحاب سيلان الدم من الرحم حتى تكون المرأة في حيض أو نفاس أو إستحاضة .

( و ) ان قلت : لا يصح مثل هذا الاستصحاب ، وذلك لأجل ( دعوى : « أنّ الشك في بقاء القدر المشترك ) من التكلم ، أو الدم ، أو نبع الماء ، أو ما أشبه ذلك ( ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام ) غير الجزء المتيقن سابقا ( والأصل عدمه المستلزم ) هذا العدم ( لارتفاع القدر المشترك ) .

وإنّما يستلزم ذلك إرتفاع القدر المشترك ، لأن الفرد الذي حصل الكلي في ضمنه سابقا قد زال قطعا ، والفرد الذي يحتمل حصول الآن في ضمنه لم يكن متحققا ، والأصل عدمه ، فكيف يمكن إستصحاب الكلي مع انه من قبيل مثال خروج زيد والشك في دخول عمرو مقارنا لخروجه ؟ .

إذن : ( فهو ) أي : إستصحاب كلي التكلم والدم ، ونبع الماء ، وما أشبه ذلك من الزمانيات ( من قبيل ) إستصحاب الكلي ( القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر السابق » ) أي : مثل خروج زيد ودخول عمرو ، وقد قلنا بعدم إستصحاب كلي الانسان فيه .

ص: 354

مدفوعةٌ : بأنّ الظاهر كونه من قبيل الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ، لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطةٌ يوجب عدّها شيئا واحدا ، وفردا من الطبيعة ، لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد فردا واحدا حتى يكون بقاء الطبيعة بتبادل افراده غاية الأمر كون المراد بالبقاء هنا

-------------------

إن قلت ذلك ، قلت : ان هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الظاهر كونه من قبيل ) إستصحاب الكلي القسم ( الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ) .

وإنّما يكون من القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة ( لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب ) في المقام : ( جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطةٌ يوجب عدّها شيئا واحدا ، وفردا من الطبيعة ) لا أن التكلم السابق فرد والتكلم اللاحق فرد ، حتى يكون من قبيل خروج زيد ودخول عمرو .

وعليه : فليس المقام من قبيل إستصحاب الكلي مع تبادل الأفراد ، بل هو من استصحاب الكلي القسم الأوّل وهو ما كان الشك في الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المتحقق هو في ضمنه .

إذن : فالمفروض هو جعل مجموع الكلام الواحد في المثال شيئا واحدا ( لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد فردا واحدا حتى يكون بقاء الطبيعة ) أي : الكلي ( بتبادل افراده ) .

نعم ( غاية الأمر ) ان نقول في توجيه الاستصحاب في الزماني : بانه مثل الاستصحاب في نفس الزمان على ما ذكرناه سابقا : من ( كون المراد بالبقاء هنا

ص: 355

وجود المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزء منه ، ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه .

والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزءا من الكلّ ، لا جزئيّا من الكلّي .

هذا ،

-------------------

وجود المجموع في الزمان الأوّل ) من حيث المجموع ( بوجود جزء منه ، ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه ) وقد تقدّم : ان الجزء الثاني والجزء الأوّل حسب المسامحة العرفية بالتصرف في المستصحب أو الاستصحاب مما يشمله دليل الاستصحاب .

( والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزءا من الكلّ ، لا جزئيّا من الكلّي ) فاذا فرضناه جزءا من الكل كان للكل وحدة واحدة فتكون قابلة للاستصحاب ، بينما إذا فرضناه جزئيا من الكلي مثل : افراد الانسان التي هي جزئيات من كلي الانسان لم تكن للافراد وحدة واحدة ، فلا تكون قابلة للاستصحاب ، ولذا قلنا : بعدم جريان الاستصحاب إذا علم بخروج زيد وشك في دخول عمرو مقارنا لخروج زيد .

والحاصل : انه إذا فرضنا مجموع كلمات الخطيب وحدة واحدة كان من القسم الأوّل ، وإذا فرضنا كل جملة من كلمات الخطيب فردا لكلي الكلام كان من القسم الثالث ، وهكذا بالنسبة إلى قطرات الدم ، وقطرات الماء ، وغيرها من الاُمور التدريجية .

( هذا ) هو توجيه من توجيهات الاستصحاب في التدريجيات ، ويمكن أيضا توجيه الاستصحاب فيها بوجه آخر وهو : ملاحظة ان العرف يرى الفرد اللاحق

ص: 356

مع ما عرفت في الأمر السابق : من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث ، فيما إذا لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل كما في السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فافهم .

-------------------

هو عين الفرد السابق حتى كأنه هو الفرد الأوّل قد بقي مستمرا ، فيكون حينئذ من الموارد الجائزة الاستصحاب من أقسام الكلي القسم الثالث كما قال :

( مع ما عرفت في الأمر السابق : من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث ، فيما إذا لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل كما ) مثّلنا له ( في السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ ) من السواد ( وما نحن فيه من هذا القبيل ) .

وعليه : فالكلام الطويل بنظر العرف فرد ضعيف ، والكلام القصير فرد شديد ، فإذا زال الكلام القصير الذي هو فرد شديد وشك في بقاء الفرد الضعيف ، إستصحب كلي الكلام الشامل لهما ، كاستصحاب كلي السواد الشامل للقوي والضعيف .

وإنّما يفرض الكلام القصير فردا شديدا ، والطويل فردا ضعيفا ، لضعف إستعداد المتكلِّم للكلام الطويل ، بالنسبة إلى استعداده للتكلم بالكلام القصير ، وهكذا بالنسبة إلى أول الماء وآخر الماء المشكوك وجوده وعدمه ، وأول الدم وآخر الدم ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان الجزء الثاني من الأمر التدريجي ليس بنظر العرف ضعيفا والجزء الأوّل شديدا ، حتى يقاس ما نحن فيه بالسواد الشديد والضعيف، أو لعله إشارة إلى الفرق بين التوجيهين فانه دقيق .

ص: 357

ثم إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمرا واحدا موكولةٌ إلى العرف ، فانّ المشتغل بقرائة القرآن لداعٍ يُعَدُّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا ، فإذا شك في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشك في حدوث الصارف أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي ، فالأصل بقاؤه .

-------------------

( ثم إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمرا واحدا ) بعد أن كان في الحقيقة افرادا متعددة ، لأن كل جزء من التدريجي فرد غير الفرد الآخر ، فاللازم وجود الكلي الرابط بين الافراد ، وهذه الرابطة ( موكولةٌ إلى العرف ، فانّ ) العرف هو المعيار في بقاء الشيء السابق وعدم بقائه .

مثلاً : ( المشتغل بقرائة القرآن لداعٍ ) خاص كمجلس ديني ، أو حفل تعليمي ، فانه ( يُعَدُّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا ) عرفا ( فإذا شك في بقاء اشتغاله بها في زمان ) لاحق فانّ شكه يكون على أحد وجهين :

إمّا ( لأجل الشك في حدوث الصارف ) وذلك فيما إذا أحرز المقتضي للاستمرار ، ثم احتمل طروّ المانع والصارف عنه ، بان علم - مثلاً - انه كان يريد قرائة القرآن إلى الظهر ، ثم شك قبل ساعة من الظهر في انه هل إنصرف لأجل مجئضيف له أم لا ؟ .

( أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي ) بان كان الشك في المقتضي ومقدار الاستعداد ، كما إذا شك بانه هل كان يريد قرائة أمّن يجيب ألف مرة أو عشرة آلاف مرة - مثلاً - ؟ .

وعليه : فإذا شك في بقاء إشتغاله بقرائة القرآن سواء كان في المقتضي أم في الرافع ( فالأصل بقاؤه ) أي : بقاء إشتغاله بقرائة القرآن عند من يرى حجية الاستصحاب في الشك في الرافع والشك في المقتضي معا ، امّا من لا يرى حجية

ص: 358

أمّا لو تكلم لداعٍ أو لدواع ثمّ شك في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ، فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن .

وكذا لو شك بعد إنقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا ، فيمكن إجراء الاستصحاب

-------------------

الاستصحاب في الشك المقتضي ، فلا يجري الاستصحاب في الأمر الثاني الذي ذكره المصنِّف بقوله : أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي .

و ( أمّا لو تكلم لداعٍ ) خاص في مجلس ( أو لدواع ) متعددة في مجالس متعددة ( ثمّ شك في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ) في نفس المجلس أو مجلس آخر بان كان - مثلاً - داعيه الأوّل الوعظ والارشاد ، وكان داعيه الثاني الابكاء لأجل مصيبة الامام الحسين عليه السلام ( فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن ) فلا يستصحب بالنسبة إلى المجلس الثاني ، كما لا يستصحب بالنسبة إلى المجلس الأوّل لداع آخر في المتعدّد الدّواعي .

( وكذا لو شك بعد إنقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة ) وذلك قبل تجاوز العشرة فانهم ذكروا : ان دم الحيض يمكن ان يمتد إلى عشرة أيام ( أم لا ) بان لم يُعد في العشرة ، فإذا شك في ذلك ( فيمكن إجراء الاستصحاب ) واعتداد ما بقي إلى العشرة حيضا .

مثلاً : إذا علم بانقطاع السيلان في اليوم الخامس وإحتمل عوده في اليوم السابع ولم يتجاوز العشرة حسب الفرض ، فيمكن إستصحاب الحيض ، لأن سيلان الدم ثانيا وان كان شكا في مقدار إقتضاء الطبيعة لذلك إلاّ انه يعدّ مع سيلانه الأوّل أمرا واحدا عرفا ، فيكون من قبيل الشك في مقدار إقتضاء الحيوان للبقاء في الفرد القصير والطويل حيث يستصحب بقاء الحيوان ، فكذلك يستصحب بقاء الحيض.

ص: 359

نظرا إلى أنّ الشك في إقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان ، فالأصل عدم إنقطاعه .

وكذا لو شُك في اليأس فرأت الدمَ ، فانّه قد يقال : باستصحاب الحيض ، نظرا إلى كون الشك في إنقضاء ما إقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر .

وحاصل وجه الاستصحاب ملاحظة كون الشك في إستمرار الأمر الواحد

-------------------

وإنّما يمكن إجراء إستصحاب الحيض ( نظرا إلى أنّ الشك في إقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان ) هل هو خمسة أيام أو أكثر من ذلك ؟ ( فالأصل عدم إنقطاعه ) أي : عدم إنقطاع الدم .

( وكذا لو شُك في اليأس فرأت الدمَ ) فشُك في انه حيض أو ليس بحيض ( فانّه قد يقال : باستصحاب الحيض ، نظرا إلى كون الشك في إنقضاء ما إقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر ) والأصل عدم إنقضائه ، فهو حيض وذلك لأن العرف يعدّ المجموع أمرا واحدا .

مثلاً : إذا لاحظنا مجموع ما تراه المرأة من الحيض في كل شهر إلى مدة خمسين سنة - وهو سن اليأس في غير القرشية ، أو إلى ستين سنة في القرشية - أمرا واحدا ، لوحدة المنشأ الذي هو إقتضاء الطبيعة للحيض في مدة من العمر ، فيكون الشك في حيضية الدم ناشئا عن الشك في مقدار الاقتضاء ، فيكون حال المقام حال الفرد الطويل والقصير في الحيوان ، وقد عرفت : جريان الاستصحاب في مثله .

( وحاصل وجه الاستصحاب ) فيما ذكرناه هو : ( ملاحظة كون الشك ) إنّما هو ( في إستمرار الأمر الواحد ) عرفا ، مثل الحيض في أيام معدودة وذلك فيما إذا

ص: 360

الذي إقتضاه السبب الواحد ، إذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلاً ، فالأصل عدم الزائد على المتيقن وعدم حدوث سببه .

ومنشأ إختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد إختلاف انظارهم في ملاحظة ذلك الأمر المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة .

والانصاف : وضوحُ الوحدة في بعض الموارد

-------------------

إنقطع حيضها في خمسة وعاد - مثلاً - بعد يوم أو يومين ولم يتجاوز العشرة ، ومثل الحيض إلى مدة من العمر ، وذلك فيما إذا رأت الدم في زمان لا تعلم هل انها وصلت حدّ اليأس أم لا ؟ فيكون وجه الاستصحاب : ملاحظة المجموع شيئا واحدا عرفا ( الذي إقتضاه السبب الواحد ) عرفا .

( و ) لكن ( إذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلاً ) بان لاحظنا سيلان الدم خمسة أيام حادثا مستقلاً ، وعوده ثانيا حادثا مستقلاً آخر ، أو لاحظنا الحيض في كل شهر حادثا مستقلاً لا يرتبط بما بعده وبما قبله ( فالأصل عدم الزائد على المتيقن ) لأنه من الشك في الأقل والأكثر .

( و ) كذا الأصل ( عدم حدوث سببه ) أيضا ، لأن السبب شيء حادث لا نعلم هل انه حدث السبب حتى يحدث المسبّب أم لا ؟ فالأصل عدمه .

( ومنشأ إختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد ) حيث ان بعضهم يستصحب الحيض في المثالين المذكورين ، وبعضهم لا يستصحبه هو: ( إختلاف انظارهم في ملاحظة ذلك الأمر المستمرّ ) فالذي يراه ( حادثا واحدا ) يستصحبه ( أو حوادث متعدّدة ) فلا يستصحبه .

( والانصاف : وضوحُ الوحدة في بعض الموارد ) مثل : ما لو جرى الحيض

ص: 361

وعدمها في بعض وإلتباس الأمر في ثالث ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل ، فتدبّر .

وأمّا القسم الثالث ، وهو ما كان مقيدا بالزمان ،

-------------------

بلا إنقطاع ، وشك في اليوم الرابع بان الدم هل هو حيض أو إستحاضة ؟ .

( و ) وضوح ( عدمها في بعض ) وذلك كما إذا شك في ان الخطيب هل يخطب عشرة أيام أو أحد عشر يوما ؟ فان كل يوم من الخطابة حادث مستقل لا يرتبط بالآخر .

( وإلتباس الأمر في ثالث ) مثل : سيلان الدم مرة ثانية بعد إنقطاعه على خمسة أيام ، فان الوحدة وعدم الوحدة فيه غير واضح خصوصا إذا كان فصل الثاني عن الأوّل عدة أيام بأن رأت الحيض في ثلاثة أيام ثم بعد خمسة أيام رأت يوما آخر - مثلاً - .

ومن المعلوم : ان في موارد الالتباس لا يتمسك بالاستصحاب ، لأن من شرط الاستصحاب إحراز وحدة الموضوع ، ووحدة الموضوع في التدريجيات إنّما يكون بالنظر العرفي ، فاذا شك العرف في انه هل هو موضوع واحد أو ليس بموضوع واحد ؟ لم يحرز وحدة الموضوع حتى يستصحب ( واللّه الهادي إلى سواء السبيل ) وهو المعين .

( فتدبّر ) ولعله إشارة إلى ان تمييز كون الاستصحاب في بعض الموارد الملتبسة بانه هل هو من القسم الأوّل الواضح وحدته ، أو القسم الثاني الواضح عدم وحدته ؟ بحاجة إلى دقة ، وإذا بقي الشك في انه من أيّ القسمين ؟ كان الأصل عدم جريان الاستصحاب .

( وأمّا القسم الثالث ) من الاُمور التدريجية : ( وهو ما كان مقيدا بالزمان ) كما إذا

ص: 362

فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه .

ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء لأنّ البقاء ، وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة

-------------------

قال الشارع : صم النهار ، فان النهارية قيد للصوم ، فإذا شك في انه هل صار الليل أم لا ؟ لا يتمكن من الاستصحاب .

ولذا قال المصنّف ( فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه ) أي : في الشيء المقيد بالزمان ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشيء مظروفا بالزمان ، بأن كان الزمان ظرفا له مثل : خيار الغبن ، فانه غير مقيّد بالزمان في النص ، وإنّما يكون الزمان ظرفا له ، فيحتمل ان يستصحب .

( ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء ) وذلك ( لأنّ البقاء وجود ) نفس ( الموجود الأوّل في الآن الثاني ) فالمتيقن هو وجوب الصوم في النهار ، والمفروض : انه لا يعلم هل النهار باق أم لا ؟ .

هذا ( وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة ) الخمسة ، حيث ذكر المصنِّف في القول السابع من أقوال الاستصحاب ، الاشكال في إستصحاب الأحكام بوجهين :

الأوّل : وهو ما ذكره الفاضل التوني : من ان حدود الأحكام حدوثا وبقاءا وإرتفاعا معلوم بأدلتها الشرعية ، فلا يعقل فيها شك حتى يحتاج فيه إلى الاستصحاب .

الثاني وهو ان الشك في الأحكام إنّما ينشأ من حصول تغيير في موضوعاتها ، وقد عرفت : لزوم بقاء الموضوع وعدم تغيّره في جواز الاستصحاب .

ص: 363

لكون متعلّقاتها هي الأفعال المتشخّصة بالمشخصات التي لها دخلٌ وجودا وعدما في تعلّق الحكم ، ومن جملتها الزمان .

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين ، من تخيّل جريان إستصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا

-------------------

وإنّما أشكلوا على الاستصحاب في الأحكام التكليفية ( لكون متعلّقاتها ) أي : متعلقات الأحكام التكليفية ( هي الأفعال المتشخّصة بالمشخصات التي لها دخلٌ وجودا وعدما في تعلّق الحكم ) فان الشارع يشخّص موضوعه بكل قيوده الوجودية والعدمية ، ثم يحكم على ذلك الموضوع بحكم من الأحكام التكليفيّة الخمسة .

مثلاً : وجود تغير الماء بالنجاسة ، له مدخلية في نجاسة الماء ، وكذا عدم وجدان الماء ، له مدخلية في صحة التيمم ، وهكذا .

( ومن ) المعلوم : ان من ( جملتها ) أي : جملة تلك المشخّصات ( الزمان ) فانه كثيرا ما يكون الزمان أو المكان قيدا بالنسبة إلى الموضوع حتى يترتب الحكم على ذلك الموضوع ، كالزمان في الصوم وفي الاعتكاف وفي الحج وما أشبه ذلك، فالشك في الحكم يكون لأجل إنتفاء شيء من مشخصات الموضوع ، أو وجود شيء زائد في الموضوع ، وقد سبق : ان من شرط الاستصحاب بقاء الموضوع كما هو هو من غير زيادة أو نقيصة .

( وممّا ذكرنا ) : من ان القيود زيادة ونقيصة توجب فقد الموضوع الذي هو شرط للاستصحاب ( يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين ) وهو المحقق النراقي قدس سره ( من تخيّل جريان إستصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا ) كوجوب الجلوس الذي هو أمر وجودي فيما إذا أمره المولى بالجلوس

ص: 364

ومعارضته مع إستصحاب وجوده ، بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر في القطعة الاُولى من الزمان والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزليّ

-------------------

في المسجد من الصبح إلى الظهر ، فانه يستصحب عدم وجوب الجلوس الذي كان قبل أذان الصبح ( ومعارضته ) أي : معارضة هذا الاستصحاب الذي هو عدم الأمر الوجودي ( مع إستصحاب وجوده ) أي : وجود الأمر الوجودي كاستصحاب وجوب الجلوس الذي كان قبل الظهر في المثال ، فيقع التعارض بين الاستصحابين إستصحاب عدم الوجوب الذي كان في الليل ، وإستصحاب الوجوب الذي كان في النهار .

أمّا وجه الفساد : فهو ان وجوب الجلوس المقيّد بما قبل الظهر لا يمكن إستصحابه بعد الظهر ، حتى يتعارض مع عدم الوجوب الثابت قبل الأمر بالجلوس وهو الذي يسمّى بالقدم الأزلي ، وإذا لم يمكن إستصحاب الوجوب بعد الظهر بقي إستصحاب عدم الوجوب الأزلي بعد الظهر بلا معارض .

وإنّما تخيّل بعض المعاصرين جريان الاستصحابين وتعارضهما ( بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر ) العدمي وهو كما في المثال عدم وجوب الجلوس ( في القطعة الاُولى من الزمان ) أي : ما قبل النهار ( والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزليّ ) الذي كان ما قبل النهار ، يعني ان عدم وجوب الجلوس الذي كان قبل النهار يكون باقيا بعد الظهر أيضا بناءا على العدم الأزلي والمفروض : بقاء وجوب الجلوس الذي كان في النهار بعد الظهر أيضا فيتعارضان .

وعليه : فالأصل عند الشك بعد الظهر في وجوب الجلوس : بقاء وجوب الجلوس الذي كان في النهار ، والأصل بقاء العدم الأزلي الذي كان قبل النهار ،

ص: 365

الذي لم يعلم إنقلابه إلى الوجود إلاّ في القطعة السابقة من الزمان . قال في تقريب ما ذكر من تعارض الاستصحابين : « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده فنقول كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة ، وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء

-------------------

وهو بقاء عدم وجوب الجلوس ( الذي لم يعلم إنقلابه ) أي : إنقلاب ذلك العدم ( إلى الوجود ) بان يجب الجلوس ( إلاّ في القطعة السابقة من الزمان ) أي : السابقة على زمان الشك ومصداق زمان الشك هو : ما بعد الظهر ، ومصداق القطعة السابقة هو : من الصبح إلى الظهر الذي وجب الجلوس فيها ، فيكون ما بعد الظهر مسرحا لاستصحابين : إستصحاب الوجوب الذي كان في النهار ، وإستصحاب عدم الوجوب الذي كان قبل النهار لكن قد عرفت : ان الوجوب المقيد بما قبل الظهر لا يمكن إستصحابه بعد الظهر ، فيبقى العدم الأزلي بعد الظهر بلا معارض .

ثم ( قال في تقريب ما ذكر من تعارض الاستصحابين ) : إستصحاب الليل بعدم الجلوس ، وإستصحاب النهار بوجوب الجلوس : ( « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ) كما إذا قال : أجلس في المسجد إلى الظهر ( ولم يعلم وجوبه فيما بعده ) أي : بعد الظهر ( فنقول ) في تقريب تعارض الاستصحابين بالنسبة إلى ما بعد الظهر ما يلي :

( كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة ، وفيه ) أي : في يوم الجمعة ( إلى الزوال ، وبعده ) أي : بعد يوم الجمعة . في كل ذلك كان عدم التكليف ( معلوما قبل ورود أمر الشارع ) بوجوب الجلوس يعني : لم يكن الجلوس قبل الأمر به واجبا ، لا في الليل ، ولا في النهار لا قبل الظهر ولا بعد الظهر ( وعلم بقاء

ص: 366

ذلك العدم قبل يوم الجمعة ، وعلم إرتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، وصار بعده موضع الشك ، فهنا شك ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر .

فان قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس .

قلنا : إنّ الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصلٌ قبل مجيء يوم الجمعة وقت

-------------------

ذلك العدم قبل يوم الجمعة ) أي : في ليلة الجمعة ( وعلم إرتفاعه ) أي : إرتفاع ذلك العدم ( و ) تبدله إلى ( التكليف بالجلوس فيه ) أي : في يوم الجمعة ( قبل الزوال ) إلى الظهر ( وصار بعده ) أي : بعد الزوال ( موضع الشك ) وانه هل يجب الجلوس بعد الظهر أم لا ؟ .

وعليه : ( فهنا شك ) بعد الظهر ( ويقينان ) وهما عبارة عن اليقين بعدم الوجوب قبل يوم الجمعة ، واليقين بالوجوب إلى زوالها ( وليس إبقاء حكم أحد اليقينين ) من العدم أو الوجوب ( أولى من إبقاء حكم الآخر ) لتساوي اليقينين من كل الجهات : اليقين بالعدم ليلاً ، واليقين بالوجوب صباحا ، فيتعارض حينئذ الاستصحابان بالنسبة إلى ما بعد الظهر .

( فان قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس ) لأن اليقين بعدم الوجوب قد إنقطع بوجوب الجلوس صباحا ، فيكون اليقين المُتصل بالشك هو اليقين الثاني وهو اليقين بوجوب الجلوس قبل الظهر ، فهذا اليقين الثاني المتصل بالشك هو المحكوم بالبقاء ، لا اليقين الأوّل الذي كان بالنسبة إلى الليل .

( قلنا : إنّ الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصلٌ قبل مجيء يوم الجمعة وقت

ص: 367

ملاحظة أمر الشارع ، فشك في يوم الخميس - مثلاً - حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا ، واليقين المتصل به هو : عدم التكليف فيستصحب ويستمر ذلك إلى وقت الزوال » ، انتهى .

-------------------

ملاحظة أمر الشارع ) فان الشك في انه هل يجب الجلوس بعد الظهر أو لا يجب ؟ لا يختص بيوم الجمعة بعد الظهر ، حتى يكون متصلاً باليقين الثاني ، بل إذا التفت الانسان قبل يوم الجمعة ولو بسنة - مثلاً - وتوجّه إلى وجوب الجلوس قبل زوال الجمعة لشك في انه هل يجب الجلوس بعد زوالها أم لا ؟ فيكون متصلاً باليقين الأوّل .

مثلاً : إذا التفت في يوم الخميس إلى ذلك ( فشك في يوم الخميس - مثلاً - حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا ) ويوم الخميس من باب المثال ، وإلاّ فانه لو التفت إلى ذلك قبل يوم الخميس أيضا لشك فيه ( و ) معلوم : ان ( اليقين المتصل به ) أي : بهذا الشك ( هو : عدم التكليف ) لأنه شك قبل مجيء الجمعة ، وقبل الجمعة يعلم بعدم التكليف ( فيستصحب ) عدم التكليف ( ويستمر ذلك ) العدم ( إلى وقت الزوال » (1) ) فيحكم بعدم الوجوب بعده أيضا .

والحاصل : ان كلا اليقينين متصلان بالشك : اليقين بانه لم يكن واجبا قبل يوم الجمعة ، وهذا أمر مستمر إلى ما بعد ظهر الجمعة على ما عرفت ، واليقين بانه كان واجبا قبل الزوال ، وهذا أمر مستمر إلى ما بعد الظهر أيضا ، فلا أولوية حينئذ لتقديم اليقين الثاني بوجوب الجلوس على اليقين الأوّل بعدم وجوب الجلوس .

( انتهى ) كلام المحقق النراقي في تعارض الاستصحابين بعد الزوال .

ص: 368


1- - مناهج الأحكام للنراقي ، قاعدة لا ضرر : ص239 .

ثم أجرى ما ذكره : من تعارض إستصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرّة .

فَحَكَمَ في الأوّل : بتعارض إستصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، وإستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم .

-------------------

( ثم أجرى ما ذكره : من تعارض إستصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه ) فانه بعد المرض يكون الصوم مشكوك الوجوب ، وقبل المرض يكون يقينان : يقين بوجوب ما قبل المرض ، ويقين بعدم وجوب ما قبل النهار ، وبعد المرض يتعارض الاستصحابان .

( وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي ) فهنا شك في الطهارة بعد المذي ، ويقينان قبل المذي : يقين بعدم الطهارة سابقا على التوضي ، ويقين بالطهارة بعد التوضي .

( وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرة ) فهنا شك في طهارة الثوب عن الخبث بعد الغَسل ويقينان قبل الغَسل : يقين بنجاسته بعد التنجّس ، ويقين بطهارته قبل التنجس .

( فحكم في الأوّل : بتعارض إستصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، وإستصحاب عدمه الأصلي ) أي : عدم وجوب الصوم الثابت ( قبل وجوب الصوم ) شرعا ، ونتيجة التعارض هو : التساقط .

ص: 369

وفي الثاني : بتعارض إستصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي .

وفي الثالث : حَكَمَ بتعارض إستصحاب النجاسة قبل الغَسل ، وإستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغَسل مرّةً ، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصورة ، إلاّ أن يرجع إلى استصحاب آخر ، حاكم على إستصحاب العدم ، وهو عدم الرافع ، وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا .

-------------------

( وفي الثاني : بتعارض إستصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ) ومعلوم : ان نتيجة التعارض هو التساقط ، فيتساقط الاستصحابان .

( وفي الثالث : حكم بتعارض إستصحاب النجاسة قبل الغَسل ، وإستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغَسل مرّةً ) وإذا كان كذلك ( فيتساقط الاستصحابان في هذه الصورة ) وأمثالها .

( إلاّ أن يرجع إلى استصحاب آخر ، حاكم على إستصحاب العدم ) الثابت قبل تشريع الشارع هذا الحكم ( وهو ) أصل ( عدم الرافع ، وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا ) .

والحاصل : ان ما ذكرناه من تعارض إستصحابي الوجود والعدم يعني : تعارض عدم وجوب الجلوس في المسجد يوم الخميس ، وإستصحاب وجوب الجلوس فيه نهار الجمعة ، إنّما يتم في مورد الشك في المقتضي ، كما في مثال الأمر بالجلوس والأمر بالصوم ، لا في مورد الشك في الرافع ، كمثال المذي بالنسبة إلى الطهارة الحدثية ، والغَسل مرة بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، لوضوح : أنّ أصالة

ص: 370

قال : « ولو لم يُعلم أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ، لم نقل فيه بإستصحاب الوجود » .

ثم قال « هذا في الاُمور الشرعية . وأمّا الاُمور الخارجيّة ، كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها ، ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فإستصحاب الوجود فيها ، حجّةٌ بلا معارض ،

-------------------

عدم الرافع يمنع عن إجراء العدم الأزلي فيجري إستصحاب الوجود فقط ، ولا يتعارض الاستصحابان .

ثم ( قال : « ولو لم يُعلم أنّ الطهارة ) والنجاسة ( ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ) بان لم نعلم هل ان الطهارة والنجاسة تقتضيان البقاء حتى يأتي ما يرفعهما ، أو لا تقتضيان البقاء لقصر مدتهما في أنفسهما ؟ ( لم نقل فيه بإستصحاب الوجود » ) فقط من دون إستصحاب العدم ، بل نقول حينئذ بتعارض الاستصحابين وتساقطهما .

( ثم قال ) المحقق النراقي : ( « هذا ) التعارض إنّما هو ( في الاُمور الشرعية ) كالأمثلة المتقدمة : من الطهارة والصوم والجلوس في المسجد ( وأمّا الاُمور الخارجيّة ) التي لا ترتبط بالشارع ( كاليوم والليل والحياة ) والموت ( والرطوبة والجفاف ونحوها ، ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ) أي : في إعتبارها وإلاّ فان الشارع هو الذي خلق الكائنات وأعدمها ( فإستصحاب الوجود فيها ، حجّةٌ بلا معارض ) .

إذن : فالاُمور الشرعية إنقلابها من العدم إلى الوجود ، ومن الوجود إلى العدم إنّما هو بتعبّد من الشارع وإعتباره ، فقد يعتبره موجودا ، وقد يعتبره معدوما ، وبقائها وفنائها بتعبّد منه فيكتفي في الانقلاب الاعتباري بالقدر المتيقن ، ويرجع في غيره إلى العدم الأزلي ، لأن الاعتبار أمر وجودي أيضا وان لم يكن أمرا

ص: 371

لعدم تحقق إستصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها » ، انتهى .

أقول : الظاهر التباسُ الأمر عليه :

أمّا أولاً : فلأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له

-------------------

خارجيا مع حقيقة تجسمية .

وأمّا الاُمور الخارجية التكوينية فانقلابها من العدم إلى الوجود ، ومن الوجود إلى العدم إنّما هو إنقلاب خارجي تكويني لا يحتاج في حدوثها ، ولا في بقائها ولا في عدمها إلى إعتبار معتبر ، بل إعتبار المعتبر لا يرتبط بها إطلاقا ، فيكون إنقلابها من باب إنقلاب الأصل ، فلا معنى للاكتفاء بالمتيقن والرجوع إلى الأصل الأزلي عند الشك فيها .

وإنّما يكون إستصحاب الوجود لا معارض له في الاُمور الخارجية ( لعدم تحقق إستصحاب حال عقل ) أي : عدم أزلي ( معارض باستصحاب وجودها » (1) ) أي : وجود تلك الاُمور الخارجية ( إنتهى ) كلام المحقق النراقي .

( أقول : الظاهر التباسُ الأمر عليه ) وذلك في موارد ثلاثة :

( أمّا أولاً : ) أي : المورد الأوّل من موارد التباس الأمر عليه فهو : انه قد حكم بتعارض الاستصحابين في مثال الأمر بالجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، ولم يفرّق بين ان يكون الزمان ظرفا ، فيستصحب وجوب الجلوس ، أو قيدا فلا يستصحب الجلوس كما قال : ( فلأنّ الأمر الوجودي المجعول ) مثل : وجوب الجلوس في المسجد إلى زوال الجمعة ( إن لوحظ الزمان قيدا له ) أي : للوجوب نفسه ، لا لمتعلّقه ، وذلك بأن يكون الوجوب إلى الزوال شيئا ، والوجوب بعد الزوال شيئا آخر ، فيكون الوجوبان فردين لكليّ الوجوب .

ص: 372


1- - مناهج الأحكام للنراقي : ص240 .

أو لمتعلّقه ، بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشك في حدوث ما عداه ، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : « صُم يوم الخميس » إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة ؛ وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ، فلا مجال

-------------------

( أو ) لوحظ الزمان قيدا ( لمتعلّقه ) أي : لمتعلق الوجوب لا لنفس الوجوب وهو في المثال : الجلوس في المسجد إلى زوال الجمعة ، وذلك ( بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب ) .

وعليه : فانه سواء كان هناك وجوبان : وجوب قبل الزوال ووجوب بعد الزوال، أم جلوسان : جلوس مقيّد بما قبل الزوال وجلوس مقيّد بما بعد الزوال ( فلا مجال لاستصحاب الوجوب ، للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشك في حدوث ما عداه ) وذلك لأنهما فردان ولا يجوز سحب الحكم من فرد إلى فرد آخر ، كما سبق في القسم الثالث من إستصحاب الكلي .

( ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : « صُم يوم الخميس » ) حيث ان الظاهر منه : ان الوجوب ، أو الصوم مقيّد بيوم الخميس ، فلا يجوز الاستصحاب ( إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة ) لأن يوم الجمعة فرد مستقل لا ربط له بيوم الخميس الذي هو فرد آخر من الكلي .

هذا ان لوحظ الزمان قيدا حيث قلنا لا مجال لاستصحاب الوجوب ( وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ) بأن لم يكن الزمان قيدا ( فلا مجال

ص: 373

لاستصحاب العدم ، لأنّه إذا إنقلب العدمُ إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان وكونه أزيد .

والمفروض تسليم حكم الشارع : بأنّ المتيقن في زمان لابدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم السابق .

وما ذكره قدس سره : من أنّ الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال ، كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس مدفوعٌ : بأنّ ذلك أيضا حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ، مهمل

-------------------

لاستصحاب العدم ) الأزلي ، بل الوجودي فقط : يعني يلزم إستصحاب الوجوب إلى ما بعد زوال الجمعة .

وإنّما لا مجال لاستصحاب العدم الأزلي هنا ( لأنّه إذا إنقلب العدمُ ) الأزلي ( إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان ) كنهار الجمعة حتى الزوال ( وكونه أزيد ) بأن يكون إلى المغرب - مثلاً - مما يشمل بعد الظهر أيضا ( والمفروض تسليم ) حجية الاستصحاب وهو : ( حكم الشارع : بأنّ المتيقن في زمان لابدّ من إبقائه ) في زمان الشك ( فلا وجه لاعتبار العدم السابق ) الأزلي بالنسبة إلى ما بعد الظهر ، بل لابد من إستصحاب الوجوب الذي كان قبل الظهر .

هذا ( وما ذكره قدس سره : من أنّ الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال ، كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ) فيجتمع ما بعد الظهر شك ويقينان متعارضان ( مدفوعٌ : بأنّ ذلك ) أي : الشك في يوم الخميس قبل اليقين بوجوب الجلوس وان كان متصلاً باليقين بالعدم إلاّ انه ( أيضا حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ، مهمل ) لا أثر له ، فالشك مرتفع ، وذلك

ص: 374

بحكم الشارع بابقاء كلّ حادث لا يعلم مدة بقائه ، كما لو شك قبل حدوث حادث في مدّة بقائه .

والحاصل : أنّ الموجود في الزّمان الأوّل ، إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال للاستصحاب الموجود

-------------------

( ب ) بسبب ( حكم الشارع بابقاء كلّ حادث لا يعلم مدة بقائه ) .

وعليه : فما ذكره قدس سره يكون ( كما لو شك قبل حدوث حادث في مدّة بقائه ) حيث يستصحب البقاء لا العدم ، وهنا أيضا كذلك ، فيلزم ان نحكم ببقاء اليقين الذي ترتب عليه الشك ، وهو اليقين بوجوب الجلوس ، لا اليقين السابق وهو اليقين بالعدم الأزلي الذي رفعه الشارع بوجوب الجلوس .

وإن شئت قلت : ان اليقين بعدم الجلوس ليلاً إرتفع بحكم الشارع بالجلوس قبل الظهر الذي كان الزمان ظرفا لهذا الجلوس ، فالاستصحاب إنّما يكون للجلوس الذي كان قبل الشك ، لا لعدم الجلوس الذي إنفصل ذلك العدم بسبب وجوب الجلوس قبل الظهر .

( والحاصل ) : ان هناك فرقا بين الظرف والقيد وهو : ( أنّ الموجود في الزّمان الأوّل إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ) فهو مقياس كون الزمان قيدا للجلوس ، فيكون الجلوس قبل الظهر فردا مستقلاً ، والجلوس بعد الظهر فردا مستقلاً آخر كما قال :

( فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ) من قبيل وجود زيد ووجود بكر ، ومعه ( فلا مجال للاستصحاب الموجود ) ما قبل الظهر ، وسحبه

ص: 375

إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزّمان الأوّل من مقوّماته ؛ وإن لوحظ متّحدا مع الثاني لا مغايرا لها إلاّ من حيث ظرفه الزماني ، فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ، لأنه إنقلب إلى الوجود .

وكأنّ المتوّهم ينظر في دعوى جريان إستصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا واحدا قابلاً للاستمرار بعد زمان الشك ، وفي دعوى جريان إستصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود وجعل كلّ واحد منها

-------------------

إلى ما بعد الظهر ( إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود ) قبل الظهر ( بعد فرض كون الزّمان الأوّل من مقوّماته ) فانه بحصول الظهر ينعدم ذلك الفرد الموجود أولاً .

( وإن لوحظ متّحدا مع الثاني ) بان كان الوجود الثاني إستمرارا للوجود الأوّل ( لا مغايرا لها ) أي : للوجود الأوّل بمقوماته ، وبهذا الاعتبار أتى بالضمير مؤنثا ، ( إلاّ من حيث ظرفه الزماني ) حيث ان الظرف قبل الظهر غير الظرف بعد الظهر وان كان الموجود فيهما شيئا واحدا مستمرا ، ومعه ( فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ، لأنه إنقلب إلى الوجود ) .

هذا ( وكأنّ المتوّهم ) وهو المحقق النراقي ( ينظر في دعوى جريان إستصحاب الوجود إلى كون الموجود ) وهو : وجوب الجلوس ( أمرا واحدا قابلاً للاستمرار بعد زمان الشك ) أي : عند الشك في انه هل بقي أو لم يبق ؟ فهو يجعل الزمان هنا ظرفا لا مفرّدا وقيدا .

( و ) لكنّه ينظر ( في دعوى جريان إستصحاب العدم ) الأزلي الذي كان في الليل ( إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود ) وجعله افرادا متعددة مثل : افراد الانسان زيد وعمرو وبكر ( وجعل كلّ واحد ) وكل قطعة ( منها ) أي : من تلك

ص: 376

بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ، فيؤخذ بالمتيقن منها ويحكم على المشكوك منها بالعدم .

وملخّص الكلام في دفعه : أنّ الزمان إن أخِذ ظرفا للشيء ، فلا يجري إلاّ إستصحاب وجوده ، لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار ، بمقتضى أدلّة الاستصحاب ؛ وإن اُخِذَ قيدا له ،

-------------------

الوجودات ( بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ) الذي تحقق في زمان آخر، وهو مقياس كون الزمان قيدا ومفرّدا ، فهو يجعل الزمان هنا قيدا ومفرّدا لا ظرفا ، وحينئذ ( فيؤخذ بالمتيقن منها ) وهو وجوب الجلوس إلى ظهر الجمعة ( ويحكم على المشكوك منها ) وهو ما بعد ظهر الجمعة ( بالعدم ) .

إذن : فالمحقق النراقي - كما عرفت - : أخذ الزمان ظرفا تارة ، وقيدا تارة اُخرى، مع وضوح : ان الزمان ان كان قيدا فهو قيد دائما ، وان كان ظرفا فهو ظرف دائما .

( وملخّص الكلام في دفعه ) أي : دفع ما ذكره النراقي هو : ( أنّ الزمان إن أخذ ظرفا للشيء ، فلا يجري إلاّ إستصحاب وجوده ) أي : وجود الأمر الوجودي وهو وجوب الجلوس ( لأنّ العدم ) الأزلي قد ( انتقض بالوجود المطلق ) الذي لم يكن مقيّدا بزمان ( وقد حكم عليه ) أي : على هذا الأمر الوجودي وهو وجوب الجلوس ( بالاستمرار ، بمقتضى أدلّة الاستصحاب ) فيجب الجلوس بعد الظهر أيضا ، كما كان واجبا قبل الظهر .

هذا إن أخذ الزمان ظرفا للشيء ( وإن اُخِذَ ) الزمان ( قيدا له ) أي : للشيء بأن كان للجلوس - على ما في المثال - افراد متعددة ، ففرد قبل الظهر ، وفرد

ص: 377

فلا يجري إلاّ إستصحاب العدم ، لأنّ إنتقاض عدم الوجود المقيّد ، لا يستلزم إنتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض . كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ، ولم يثبت غيره .

وأمّا ثانيا :

-------------------

بعد الظهر، من قبيل كون زيد وعمرو فردين للانسان ( فلا يجري إلاّ إستصحاب العدم ) الأزلي الذي كان من الليل .

وإنّما لا يجري إلاّ إستصحاب العدم الأزلي ( لأنّ إنتقاض عدم الوجود المقيّد ، لا يستلزم إنتقاض ) عدم الوجود ( المطلق ) فان عدم وجود الشيء ، كعدم وجوب الجلوس - في المثال - كان قبل الأمر به معدوما مطلقا ، وبعد الأمر به مقيدا بما قبل الزوال ، إنتقض عدم وجوب الجلوس المقيّد بكونه قبل الزوال ( و ) بقي عدم وجوب الجلوس المطلق على حاله ، لأن ( الأصل عدم الانتقاض ) فيستصحب إلى ما بعد الزوال عند الشك فيه .

وعليه : فيكون ما نحن فيه ( كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ، ولم يثبت غيره ) أي : بأن كان الزمان فيه قيدا ومفرّدا ، بحيث يكون الواجب : الصوم المقيّد بيوم الجمعة بالذات ، فانه كما لا يستصحب وجوب الصوم إلى يوم السبت ، لأن يوم السبت فرد آخر ، فكذلك لا يستصحب وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال ، لأن ما بعد الزوال فرد آخر .

( وأمّا ثانيا ) : أي : المورد الثاني من موارد التباس الأمر على المحقق النراقي : فهو انه قد حكم بتعارض الاستصحابين في مثال الطهارة والنجاسة الخبثية والحدثية ، مع انه ان فرض الشك في المقتضي فلا وجه لاستصحاب الوجود ، وان فرض الشك في الرافع فلا وجه لاستصحاب العدم ، فلا تعارض

ص: 378

فلأنّ ما ذكره : من إستصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشك في الرافع غيرُ مستقيم ، لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى إستعدادها ، فليس الشك متعلقا بمقدار سببية السبب ،

-------------------

بين الاستصحابين كما قال :

( فلأنّ ما ذكره : من إستصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشك في الرافع ) أي : ان إستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، والحكم بأن هذا الشخص غير متطهر ، فلا يجوز له الصلاة مع طهارته تلك ، وكذا إستصحاب عدم جعل الشارع الملاقاة للبول سببا للتنجس بعد الغَسل مرة ، فلا نجاسة للثوب بعد ان غسل مرة ، هذا الكلام ( غيرُ مستقيم ) وذلك لانّا إذا علمنا بسببية الوضوء للطهارة الحدثية ، لزم إستصحاب الطهارة بعد المذي ، وكذلك إذا علمنا بسببية البول للنجاسة ، لزم إستصحاب النجاسة الخبثية بعد الغَسل مرة وذلك لتمامية أركان الاستصحاب وعدم المعارض .

وعليه : فاستصحاب عدم السببية غير مستقيم ( لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة ) من الحدث ( وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى إستعدادها ) حيث ان هذه الطهارة مستعدة للبقاء حتى نعلم بالرافع ، وما دام لم نعلم بالرافع فإستصحاب الطهارة محكّم .

إذن : ( فليس الشك متعلقا بمقدار سببية السبب ) حتى يكون من الشك في المقتضي ، بل الشك متعلق بطروّ الرافع ، ومع الشك في الرافع يلزم إستصحاب الطهارة ، فالشك في السببية بعد المذي وإستصحاب عدم السببية غير تام ،

ص: 379

وكذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في إرتفاعها بالغَسل مرّة .

فان قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلاً ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها بالشرع .

قلت :

-------------------

وذلك لفرض العلم بالسببية والشك في الرافعية ، فيلزم إستصحاب الطهارة فقط ، ولا معارض لها .

( وكذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في إرتفاعها ) أي : إرتفاع النجاسة شكا ( ب ) سبب ( الغَسل مرّة ) فان اللازم الحكم باستمرار النجاسة حتى يعلم الرافع ، وحيث لا يعلم الرافع بالغَسل مرة فاللازم إستصحاب النجاسة فقط ، فلا يكون هناك إستصحابان متعارضان كما ذكره النراقي .

( فان قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع ) أي : قبل تشريع الشارع الطهارة ( لم تكن مجعولة أصلاً ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي ) وهي : سببية الوضوء للطهارة ( قبل المذي ، و ) لهذا نقول بالطهارة قبل المذي ثم بعد المذي ( شككنا في الحكم بوجودها ) أي : بوجود الطهارة ( بعده ) أي : بعد المذي ( و ) إذا شككنا ، فان ( الأصل عدم ثبوتها بالشرع ) .

إذن : فالأصل الطهارة قبل المذي من ناحية ، والأصل عدم الطهارة بعد المذي من ناحية اُخرى ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان ، فنرجع إلى أصل ثالث وهو : أصل عدم كون المذي رافعا ، فنحكم ببقاء الطهارة .

( قلت ) : لقد ذكر المحقق النراقي هنا ثلاثة اُصول :

ص: 380

لابدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي الشك في مقدار تأثير المؤثّر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ، أو

-------------------

الأوّل : أصل الطهارة قبل المذي .

الثاني : أصل عدم الطهارة بعد المذي .

الثالث : أصل عدم جعل المذي رافعا .

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك بعد خروج المذي في الطهارة وعدمها يكون شكا في المقتضي ، لا شكا في الرافع ، وإذا كان الشك في المقتضي لم يبق مجال للأصل الثالث الذي ذكره المحقق النراقي بعد حكمه بتعارض الأصلين ، وذلك لأن مع الشك في المقتضي - بنظر المصنِّف - لا يجري الاستصحاب .

وان فرضنا كون الشك في الرافع فلا مجال للأصل الثاني الذي جعله المحقق النراقي معارضا للأول ، لأن أركان الاستصحاب مع الشك في الرافع تامة ، فيجري الاستصحاب .

والحاصل : ان أحد أصليه : الثاني أو الثالث غير تام ، وذلك لأنه ( لابدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي ) هل هو الشك في المقتضي ، أي : ( الشك في مقدار تأثير المؤثر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ) أو ان تأثيره حتى مع وجوده ، وذلك معنى كون الشك في المقتضي .

( أو ) ان منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي هو الشك في الرافع حيث

ص: 381

أنّا نعلمُ قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ ، لولا ما جعله الشارع رافعا .

فعلى الأوّل : لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، لأنّ المتيقن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء والأصل عدم التأثير مع وجوده، إلاّ أن يتمسك باستصحاب وجود المسبّب ، فهو

-------------------

( أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمر ، لولا ما جعله الشارع رافعا ) ولا نعلم بكون المذي مما جعله الشارع رافعا ، وذلك معنى كون الشك في الرافع ؟ .

( فعلى الأوّل ) : وهو الشك في المقتضي ( لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ) بأصل عدم جعل المذي رافعا ، وهو الأصل الثالث الذي أجراه المحقق النراقي ( لأنّ المتيقن تأثير السبب ) الذي هو الوضوء ( مع عدم ذلك الشيء ) المحتمل الرافعية الذي هو المذي ، غاية ما هناك نشك في تأثير السبب مع وجود محتمل الرافعيّة ( والأصل عدم التأثير مع وجوده ) أي : وجود محتمل الرافعية .

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك في الطهارة بعد خروج المذي شك في المقتضي وليس شكا في الرافع ، فلا معنى لقول المحقق النراقي : ان الأصل عدم جعل المذي رافعا ، لأنه ليس الشك في الرافع حسب الفرض ، وإنّما الشك في المقتضي .

( إلاّ أن يتمسك ) المحقق النراقي ( باستصحاب وجود المسبّب ) أي : الطهارة هنا كما فعله وجعله حاكما على إستصحاب العدم .

وكيف كان : ( فهو ) أي : الشك في مقدار سببية الوضوء للطهارة فيما نحن فيه

ص: 382

نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح ، كوضوء التقيّة بعد زوالها ، لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي .

وعلى الثاني : لا معنى لاستصحاب العدم ، إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر حتى يؤخذ بالمتيقن .

وأمّا ثالثا :

-------------------

يكون ( نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح ) للصلاة ، لا الرافع للحدث ( كوضوء التقيّة بعد زوالها ) أي : بعد زوال التقية ، فيكون من الشك في المقتضي ، لأنه يشك في قدر إقتضائه بانه هل هو إلى زوال التقية ، أو حتى بعد زوال التقية ؟ ( لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي ) حتى يكون من الشك في الرافع .

والحاصل : ان الوضوء على قسمين :

الأوّل : ما يكون رافعا كالوضوء في الحالات الاختيارية ، وهنا يكون الشك فيه بعد المذي شكا في الرافع ، لا في المقتضي .

الثاني : الوضوء في الحالات الاضرارية مثل : وضوء التقية ، ووضوء الجبيرة وما أشبه ذلك ، وهنا يكون فيه الشك بعد إرتفاع الاضطرار شكا في المقتضي ، حيث لا يعلم هل يقتضي وضوء التقية الطهارة حتى بعد التقية أم لا ؟ .

هذا على الأوّل : وهو الشك في المقتضي .

( وعلى الثاني ) : وهو الشك في الرافع ( لا معنى لاستصحاب العدم ) أي : عدم الطهارة وهو الأصل الثاني الذي أجراه المحقق النراقي ( إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر ) أي : الوضوء ( حتى يؤخذ بالمتيقن ) منه وهو : الطهارة قبل المذي ، بل الشك في الرافع ، فيستصحب الطهارة .

( وأمّا ثالثا ) : أي : المورد الثالث من موارد التباس الأمر على المحقق النراقي

ص: 383

فلو سُلِّمَ جريان إستصحاب العدم حينئذ لكن ليس إستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، حاكما على هذا الاستصحاب ، لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر ، بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث

-------------------

فهو أنّه قد حكم بان أصالة عدم جعل المذي رافعا - وهو أصله الثالث - حاكم على إستصحاب عدم الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني ، مما يستلزم إستمرار الوضوء ، فانه يرد عليه : ان الشك في أصله الثاني ليس مسبّبا عن الشك في أصله الثالث حتى يكون من الحاكم والمحكوم ، بل كلا الشكين راجعان إلى أمر واحد ، وهو ان حكم الشارع بعد خروج المذي هل هو الحدث أو الطهارة ؟ .

وعليه : ( فلو سُلِّمَ جريان إستصحاب العدم ) أي : عدم جعل الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني ( حينئذ ) أي : حين كان المورد من الشك في الرافع ، لا من الشك في المقتضي ( لكن ليس إستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ) وهو أصله الثالث ( حاكما على هذا الاستصحاب ) أي : إستصحاب عدم الطهارة بعد المذي الذي هو أصله الثاني .

وإنّما لا يكون حاكما عليه ( لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر ) وميزان الحكومة هو : ان يكون أحد الشكين مسبّبا عن الشك في الآخر ، مثل الشك في صحة الصلاة المسبّب عن الشك في بقاء الطهارة ، فانه إذا استصحبت الطهارة إرتفع الشك في صحة الصلاة .

( بل مرجع الشكّ فيهما ) أي : في عدم جعل المذي رافعا ، وعدم جعل الطهارة بعد المذي ( إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول ) من قبل الشارع ( في حقّ المكلّف في هذه الحالة ) أي : بعد خروج المذي هل ( هو الحدث

ص: 384

أو الطهارة .

نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي أعني : وجود المزيل أو عدمه ، لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك مجعولاً في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّبٌ عن الشك في تحقق الرافع ،

-------------------

أو الطهارة ) ؟ .

والحاصل : ان المحقق النراقي جعل التعارض بين إستصحابين : إستصحاب الطهارة قبل المذي ، وإستصحاب عدم الطهارة بعد المذي ، وجعل أصالة عدم رافعية المذي حاكمة على أصالة عدم الطهارة بعد المذي مما نتيجته إستمرار الوضوء ، والمصنّف لم يرتض هذه الحكومة ، لأن الشك في الطهارة بعد المذي هو عين الشك في رافعية المذي ، وليس مسببا عنه ، حتى يكون أحدهما حاكما على الآخر .

( نعم ، يستقيم ذلك ) أي حكومة أحد الاستصحابين وهو أصله الثالث على الآخر وهو أصله الثاني حسب مثاله ( فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي ) بأن كانت الشبهة موضوعية ( أعني : وجود المزيل أو عدمه ) لا فيما إذا كانت الشبهة حكمية كما نحن فيه .

وإنّما تستقيم الحكومة التي ادّعاها المحقق النراقي في الشبهة الموضوعية دون الحكمية ( لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك ) في الموضوع الخارجي بكونه ( مجعولاً في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّبٌ عن الشك في تحقق الرافع ) وعدم تحققه ، فإذا شك في انه هل خرج منه مزيل أم لا ؟ فشك تبعا لذلك في انه هل هو متطهر أم لا ؟ فان إستصحاب عدم خروج المزيل حاكم على الشك

ص: 385

إلاّ أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غيرُ جارٍ .

-------------------

في كونه متطهرا ، إذ يرتفع الشك في الطهارة بسبب إستصحاب عدم خروج المزيل فيكون متطهرا .

( إلاّ أنّ الاستصحاب ) أي : إستصحاب كل من الطهارة قبل المذي ، وعدم الطهارة بعد المذي ( مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين ) من الطهارة ، أو الحدث ، بعد خروج المذي ، هذا الاستصحاب ( في حقّ المكلّف غيرُ جارٍ ) بل يجري في حقه إستصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيحكم بطهارته .

والحاصل : ان المحقق النراقي قال : بأن هنا بعد المذي إستصحابين :

الأوّل : إستصحاب الطهارة قبل خروج المذي .

الثاني : إستصحاب عدم الطهارة من جهة العدم الأزلي بعد خروج المذي .

ثم بعد التعارض قال بتحكيم الأصل الثالث وهو : إستصحاب عدم تحقق الرافع ، فيثبت كونه متطهرا .

لكن المصنِّف قال : حيث انا نعلم بطلان أحد الاستصحابين لعلمنا الاجمالي بأن المكلّف بعد خروج المذي اما متطهر أو محدث ، فلا يجري الاستصحابان رأسا ، لأن العلم الاجمالي عند المصنِّف مانع من جريان الاُصول في أطرافها ، لا أنها جارية وساقطة بالتعارض ، فلا يجريان رأسا ، وإنّما يجري إستصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيثبت انه متطهر .

ص: 386

الأمر الثالث :

إنّ المتيقن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز إستصحابه ، لأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان ، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلاً للعقل الحاكم به .

فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به

-------------------

( الأمر الثالث ) مما ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو ما يلي :

( إنّ المتيقن السابق ) قد يكون موضوعا لحكم شرعي : كما إذا لم نعلم بأن الزوج هل هو حي ، حتى يجب نفقة زوجته ، أم لا ، حتى لا يجب ؟ فانه يستصحب بقائه .

وقد يكون المتيقن السابق حكما شرعيا بنفسه ، كما إذا علمنا بقاء الزوج ، لكن لا نعلم هل سقطت عنه نفقة زوجته ، لاحتمالنا نشوزها ، أم لا ؟ فانه يستصحب بقاء الحكم .

وامّا ( إذا كان ) المتيقن السابق ( ممّا يستقلّ به العقل ) من الأحكام العقلية ( كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما ) مثل وجوب العدل وحسن الاحسان ، وغير ذلك ( من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز إستصحابه ) إذا شككنا فيه .

وإنّما لا يجوز إستصحابه مع الشك فيه ( لأنّ الاستصحاب ) هو عبارة عن ( إبقاء ما كان ) كما مرّ سابقا في تعريفه ( والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلاً للعقل الحاكم به ) فلا تقع الشبهة في الموضوع للحكم العقلي .

وعليه : ( فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به ) أي : بالحكم

ص: 387

حكما قطعيّا ، كما حكم أولاً ، وإن أدرك إرتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم ،

-------------------

المترتب على ذلك الموضوع ( حكما قطعيا ، كما حكم أولاً ) فلا شك له في بقاء الحكم وعدمه .

( وإن أدرك إرتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم ) حكما قطعيا أيضا ، فان العقل لا يحكم إلاّ على موضوع يرى فيه توفّر جميع خصوصياته ، الموجبة تلك الخصوصيات لحسن ذلك الحكم أو لقبحه .

مثلاً : إذا حكم العقل بقبح التصرف في ملك الغير بلا إذن منه ، ولا إذن من الشارع ، فان الشارع قد يأذن في بعض الموارد مع عدم إذن المالك مثل : حلّية التصرف في ملك الغير في حالة الاضطرار ، أو حالة دوران الأمر بين الأهم والمهم، مثل إنقاذ الغريق الذي يتوقف إنقاذه على الغصب ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فإذا علم العقل في الآن الثاني بقاء ذلك الموضوع بكل قيوده وخصوصياته ، لم يكن له شك في بقاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، وإذا لم يعلم ببقاء كل تلك القيود لم يكن له شك في إنتفاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب أيضا .

ثم إنّ الشارع وإن كان حكمه كذلك في متن الواقع ، حيث انه يحكم على موضوع يرى فيه توفّر جميع قيوده وشروطه ، إلاّ انا لا نعلم هل ان الموضوع الذي ذكره الشارع لحكمه هو كل العلة لهذا الحكم ، أو بعض العلة ؟ ولذا يتعقل شكنا في بقاء الحكم الشرعي بسبب زيادة أو نقيصة بعض القيود والشروط .

مثلاً : إذا قال الشارع : الخمر حرام ، لا نعلم هل انه يريد الخمر المسكر ، أو حتى إذا زال اسكاره ؟ فإذا زال اسكاره لا نعلم زال الحكم أم لا ، وحيث نشك في بقاء الحكم في الآن الثاني بعد تيقّننا بوجوده في الزمان الأوّل ، يبقى المجال

ص: 388

ولو ثبت مثله بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد .

-------------------

للاستصحاب ، فيشمله : « لا تنقض اليقين بالشك » .

وعليه : فالفرق بين الحكم العقلي والحكم الشرعي هو : ان الأوّل : معلوم لدينا فلا مجال للاستصحاب فيه ، بينما الثاني قد يكون مجهولاً لنا فمجال الاستصحاب فيه موجود .

وممّا ذكرنا ثبت انه لو زال الموضوع للحكم العقلي - مثلاً - وثبت الحكم بعد زوال ذلك الموضوع ، كان اللازم ان يكون الحكم ثابتا على موضوع جديد كما قال : ( ولو ثبت مثله ) أي : مثل الحكم السابق في الآن اللاحق ثبوتا ( بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد ) لا ان هذا الحكم باق على نفس ذلك الموضوع السابق .

مثلاً : لو حكم العقل بقبح أكل أموال الناس بدون اذنهم ولا إذن من الشارع ، ثم إذن المالك ، ورأينا ان العقل يحكم بقبح أكله أيضا ، لم يكن القبح في الآن الثاني لأجل انه أكل مال الناس بدون إذنهم ولا إذن من الشارع ، بل يكون لأجل انه ضارّ - مثلاً - فالموضوع جديد وهو حكم جديد ، وان كان الحكمان متشابهان من حيث القبح ، وبذلك تبيّن ان الأقسام المتصورة في الحكم العقلي أربعة :

الأوّل : الشك في الحكم مع العلم ببقاء موضوعه ، وهذا غير معقول .

الثاني : الشك في الحكم العقلي مع العلم بارتفاع موضوعه ، وهذا غير معقول أيضا .

الثالث : الشك فيه ، للشك في بقاء موضوعه من جهة الاشتباه الخارجي ، يعني: ان تكون الشبهة موضوعية كما أشار إليه المصنِّف بقوله :

ص: 389

وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقلُ بقبح شربه ، فذلك خارجٌ عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه .

وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً وإحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ،

-------------------

( وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقلُ بقبح شربه ) فان الشك في بقاء الاضرار وعدمه ليس من الشبهة الحكمية ، بل من الشبهة الموضوعية ( فذلك خارجٌ عمّا نحن فيه ) لأن كلامنا في الشبهة الحكمية ( وسيأتي الكلام فيه ) إن شاء اللّه تعالى ، وذلك عند قول المصنِّف : وامّا موضوعه .

الرابع : الشك فيه للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه من أصله ، وذلك كما إذا دار الأمر بين محذورين ، حيث يحكم العقل بالتخيير في الأخذ بهذا أو بذاك ، لكن بعد الأخذ بأحدهما يشك العقل في انه هل كان التخيير إبتدائيا حتى لا يجوز له الأخذ بالشق الثاني في الآن الثاني ، أو كان التخيير إستمراريا حتى يجوز له ان يأخذ في كل واقعة بأحد الشقّين ؟ .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً ) وإنّما يعلمه إجمالاً ( وإحتمال مدخليّة موجود مرتفع ) وهو التحيّر المرتفع باختيار أحد الشقّين ( أو معدوم حادث ) وهو التحيّر الحاد عند تكرّر الواقعة ، حيث يحتمل مدخلية ذلك ( في موضوعيّة الموضوع ) .

والحاصل : انه يحتمل ان يكون موضوع التخيير : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر في أول الأمر ، فبعد الأخذ بأحدهما لم يكن متحيّرا ، فلا يجوز له الأخذ

ص: 390

فهذا غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلُّ بالحكم إلاّ بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلاً ، لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقلُ في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

-------------------

بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار اليه بقوله : « وإحتمال مدخلية موجود مرتفع » .

ويحتمل ان يكون موضوع التخيير هو : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر ما دام لم يأخذ بأحدهما ، فإذا أخذ بأحدهما في واقعة إنعدم التحيّر ، فإذا تكرّرت الواقعة حدث التحيّر من جديد فحدث موضوع التخيير ، فيجوز له الأخذ بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار إليه بقوله : أو معدوم حادث .

وعلى كل حال : ( فهذا ) القسم الرابع من الأقسام المتصورة للحكم العقلي وهو الشك في الحكم للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه ( غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأن العقل لا يستقلُّ بالحكم إلاّ بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلاً ) فلا يحكم مع الشك فيه .

مثلاً : إذا كانت له زوجتان ولا يتمكن من إطعامهما كل يوم ، فالعقل يرى التخيير الاستمراري ، حيث ان العقل يرى ان وفاء بعض الحق لكل منهما أولى من إعطاء إحداهما دائما دون الاُخرى ، بينما إذا كان مريضا ووصف له طبيبان نسختين كل منهما ضد ما وصفه الآخر ، فانه يقطع بشدة مرضه لو عمل كل يوم بما وصف أحدهما ، فهنا يرى العقل التخيير الابتدائي دون الاستمراري ، لأنه مقطوع الضرر ، فلا شك إذن في المقام كما عرفت .

وإنّما قلنا ان القسم الرابع غير متصور ( لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

ص: 391

في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّةٌ تنتهي إلى ضرورية كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل مع أنّك ستعرف

-------------------

في موضوعيّته من قيوده ) وشروطه وموانعه وسائر خصوصياته ، كما ذكرنا سابقا في مثال قبح التصرف في ملك الغير بغير إذنٍ منه ولا إذن من الشارع .

( وإمّا نظريّةٌ تنتهي إلى ضرورية كذلك ) أي : بان لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصور الموضوع بجميع قيوده وشروطه وخصوصياته .

إذن : فالقضية العقلية النظرية لابد وان تنتهي إلى الضرورية ، وإلاّ فمن أين يكون ذلك حكما عقليا ؟ فقد ثبت في الحكمة : ان كل ما بالعرض لابد وان ينتهي إلى ما بالذات ، والنظري المنتهي إلى الضروري في حكم العقل هو مثل : عدم تنجز التكليف على الجاهل ، فان هذا حكم نظري ، لكنه ينتهي إلى حكم ضروري وهو : قبح العقاب بلا بيان ، سواء كان بيانا للحكم أم بيانا للاحتياط .

وعلى أيّ حال : ( فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل ) فلا يصح القسم الرابع .

هذا ( مع أنّك ستعرف ) انه لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل ، كما قال به بعض العلماء ، وذلك بان يكون الموضوع في نظر العقل مجملاً : بين يقيني يؤخذ به ، وبين الزائد على ذلك اليقيني حيث لا يؤخذ به ، كما إذا قلنا بان في التخيير العقلي يجوز الأخذ بأيٍّ منهما إبتداءا من باب القدر المتيقن ، لا إستمرارا ، لأنه مشكوك جواز الأخذ به بعد رفع تحيّره بالأخذ بأحدهما ، فلا يكون التخيير إستمراريا .

وعليه : فانه حتى لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل فستعرف

ص: 392

في مسألة إشتراط بقاء الموضوع : أنّ الشك في الموضوع خصوصا لأجل مدخليّة شيء مانع عن إجراء الاستصحاب .

-------------------

( في مسألة إشتراط بقاء الموضوع : أنّ ) عند ( الشك في الموضوع خصوصا ) إذا كان شكا ( لأجل مدخلية شيء ) في الموضوع ( مانع عن إجراء الاستصحاب ) لأن شرط الاستصحاب الحكمي هو إحراز الموضوع ، فكيف يجوز إجراء الاستصحاب مع الشك في الموضوع ؟ .

هذا ، وقول المصنِّف : خصوصا ، إنّما هو لأجل الاشارة إلى ان الشك في الموضوع على قسمين :

الأوّل : ما إذا كان الشك لأجل الاشتباه في الاُمور الخارجية ، وذلك كما تقدّم من مثال الشك في بقاء الاضرار في السم ، حيث يرى العقل وجوب التحرز عنه .

الثاني : ما إذا كان الشك لاحتمال مدخلية قيد وجودي أو عدمي في الموضوع ، كاحتمال مدخلية التحيّر في أول الأمر في حكم العقل بالتخيير في الدوران بين المحذورين .

هذا كما ان في قول المصنِّف : خصوصا ، إشارة أيضا إلى ان الشك في بقاء الموضوع لاحتمال مدخلية شيء فيه يكون مانعا عن إستصحاب الحكم ، وعن إستصحاب الموضوع معا .

امّا انه مانع عن إستصحاب الحكم فلعدم إحراز الموضوع ، وقد عرفت : لزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب الحكمي .

وامّا انه مانع عن إستصحاب الموضوع ، فلانه مثبت ، إذ إستصحاب بقاء الموضوع ، لا يثبت ان هذا الشيء الخارجي هو الموضوع ، فهو من قبيل إستصحاب الكلي لاثبات الفرد ، كما تقدّم مثله في إستصحاب الكرية لاثبات كون

ص: 393

فان قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه كاشفٌ عن حكم عقلي مستقلّ ، فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع على وجوب الردّ ثمّ عرض ما يوجب الشك مثل : الاضطرار والخوف فيستصحب الحكم مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي .

-------------------

هذا الماء كرا ، وذلك بخلاف الشك في الموضوع لاشتباه خارجي ، فانه لا يمنع عن إستصحاب نفس الموضوع .

والحاصل : ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية ، إنّما هو لأجل عدم إمكان فرض الشك فيها ، مضافا إلى عدم العلم ببقاء الموضوع الذي هو شرط جريان الاستصحاب على ما عرفت .

( فان قلت ) : إذا لم يستصحب الحكم العقلي : ( فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه ) أي : الحكم الشرعي ( كاشفٌ عن حكم عقلي مستقلّ ) ؟ فإذا لم يستصحب في المتبوع الذي هو حكم العقل ، لم يستصحب في التابع الذي هو حكم الشرع أيضا ، وذلك لقاعدة الملازمة القائلة : بأنه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل .

وعليه : ( فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع ) الثابت بالأدلة الثلاثة الاُخر ( على وجوب الردّ ) أيضا ( ثمّ عرض ما يوجب الشك ) في انه هل يجب الردّ أو لا يجب ؟ ( مثل : الاضطرار ) إلى استعمال الوديعة ( والخوف ) بان يكون طريق الردّ غير مأمون ( فيستصحب الحكم ) الشرعي بوجوب الردّ ( مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي ) الذي ذكرتم انه لا إستصحاب فيه ، فالمانع عن إستصحاب حكم العقل هو بعينه جار في إستصحاب حكم الشرع ، مع إنكم تقولون باستصحاب حكم الشرع .

ص: 394

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب .

نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكمٌ شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم

-------------------

( قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب ) ولكن ليس كل حكم شرعي تابع للحكم العقلي ، فالاشكال إنّما هو في الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي ، امّا الحكم الشرعي الذي ليس بتابع للحكم العقلي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه .

لا يقال : انكم تقولون انه كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ، ومعنى ذلك هو : ان كل حكم شرعي فهو تابع للحكم العقلي .

لأنه يقال : معنى تبعية أحكام الشرع للعقل هو ان الشرع لو كشف للعقل عن الموضوع للحكم الشرعي ، لحكم العقل به كما حكم الشرع به ، وذلك لأن الشارع بصير يرى الواقعيات ، بينما العقل لا يرى الواقعيات ، حالهما حال الرياضي والجاهل ، حيث ان الجاهل لو إنكشف له الواقع لحكم بما حكم به الرياضي من الجمع والضرب والطرح والتقسيم .

( نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكمٌ شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ) أي : موضوع العقل ( ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ) كما إذا ورد في العقل والشرع حكمان متطابقان على عدم تكليف غير المميّز ، فإذا حصل تغيّر في موضوع الحكم العقلي بان صار مميّزا ، ذهب الحكم العقلي وبقي الحكم الشرعي ، لأن الشارع لا زال يقول بعدم تكليفه .

ص: 395

جرى الاستصحاب وحُكِمَ بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ، ومن هنا يجري إستصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ

-------------------

ومن ذلك تبيّن : ان حكم العقل وحكم الشرع وان تطابقا في غير المميّز ، لكنهما بملاكين لا بملاك واحد ، فملاك الشارع : انه لم يبلغ الحلُم وهو سبب إرتفاع القلم عنه ، حيث قال : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وملاك العقل : انه لعدم تمييزه رفع عنه القلم ، من غير فرق بين ان يكون حصول التغير لاحتمال مدخلية شيء فُقد ، مثل مدخلية سن خاص كثلاث سنوات وقد فُقد ذلك السن بان صار عمره أكثر ، أو لاحتمال مفقود وُجد ، مثل مدخلية عدم التمييز قبلاً حيث صار مميّزا وان لم يصر بالغا .

وحينئذٍ : ( جرى الاستصحاب ) الشرعي ( وحُكِمَ بأنّ موضوعه ) أي : موضوع حكم الشرع ( أعمّ من موضوع حكم العقل ) لأن موضوع حكم العقل هو غير المميّز بينما موضوع حكم الشرع هو الأعم من ذلك ما دام لم يصل إلى حد البلوغ .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرنا : من انه ليس كل حكمي شرعي بتابع للحكم العقلي وان توافقا في بعض الاُمور ( يجري إستصحاب عدم التكليف ) الثابت ( في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ) كحال عدم التمييز ، فانه بعد التمييز لا يجري الاستصحاب العقلي ، بينما يجري الاستصحاب الشرعي ، وذلك لأن موضوع حكم الشرع هو : عدم التكليف فيستصحب بعد التمييز ، امّا موضوع حكم العقل فهو : قبح التكليف ، وقبح التكليف مرتفع في زمان التمييز .

( لكنّ ) وكأنه جواب سؤال مقدّر وهو : ان الحكم الشرعي لو كان تابعا للحكم

ص: 396

العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح . هذا حالُ نفس الحكم العقلي .

-------------------

العقلي لزم عدم الاستصحاب في الحكم الشرعي ، فكيف تستصحبون العدم الأزلي ، مع ان الحكم الشرعي هنا مستند إلى الحكم العقلي ، إذ العقل يرى عدم امكان الحكم في الأزل ، والشرع يطابقه ؟ .

والجواب : ان العقل يقول بعدم الحكم في الأزل من جهة قبح التكليف بلا بيان، والشارع يقول : بعدم الحكم في الأزل من جهة قوله تعالى : « وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً » (1) والملاك الذي قاله الشرع أعم من الملاك الذي قاله العقل ، فملاك حكم الشرع باق في زمان الشك وان كان لا ملاك لحكم العقل في زمان الشك.

وعليه : فإن ( العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح ) أي : ان العقل والشرع وان كانا متطابقين على عدم الحكم في الأزل ، لكنهما مفترقان من حيث المستند ، فمستند العقل : قبح التكليف بلا بيان ومستند الشرع قاعدة : « وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً » (2) .

( هذا حالُ ) الاستصحاب في ( نفس الحكم العقلي ) حيث ذكرنا : ان الحكم العقلي لا يستصحب ، لأنه مع بقاء موضوعه فالحكم موجود ، ومع فقد موضوعه فالحكم مفقود ، فلا مجال للشك فيه حتى يستصحب .

انتهى الجزء الثاني عشر

ويليه الجزء الثالث عشر في

تتمّة التنبيه الثالث للاستصحاب

وله الشكر

ص: 397


1- - سورة الإسراء : الآية 15 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ص: 398

المحتويات

أدلّة حجّية المفصّلين

أدلّة حجّية القول الثالث ... 5

أدلّة حجّية القول الرابع ... 27

أدلّة حجّية القول الخامس ... 41

أدلّة حجّية القول السادس ... 57

أدلّة حجّية القول السابع ... 57

الإشكال على الدليل ... 69

بيان الحكم الوضعي ... 72

الشبهة في جريان الاستصحاب في التكليفية ... 133

أدلّة حجّية القول الثامن ... 148

الجواب عن الدليل ... 189

أدلّة حجّية القول التاسع ... 190

توجيه كلام المحقق ... 194

أدلّة حجّية القول العاشر ... 202

الاشكال على الدليل ... 208

أدلّة حجّية القول الحادي عشر ... 220

الاشكال على الدليل ... 249

توجيه كلام المحقق الخوانساري ... 262

ص: 399

تنبيهات

التنبيه الأوّل ... 291

التنبيه الثاني ... 341

التنبيه الثالث ... 387

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 13

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث : تتمّة بحث الاستصحاب

ص: 4

وأمّا موضوعه - كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ، فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ، لأنّه يظنّ الضررُ بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كمثال الضرر ؛

-------------------

( وأمّا موضوعه ) أي : استصحاب موضوع الحكم العقلي ، وذلك بان شككنا في الحكم العقلي للشك في بقاء موضوعه لاشتباه خارجي ( - كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ) في شرب الماء المسموم ، فان الاستصحاب يجري فيه بشرطين : الشرط الأوّل ما أشار إليه بقوله :

( فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر ) حجيته ( من باب الظنّ عمل به هنا ) .

وإنّما يعمل بالاستصحاب هنا ان اعتبر من باب الظن ( لأنّه يظنّ الضررُ بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ ) أي : يحمل على مظنون الضرر الحكم العقلي بوجوب الاجتناب .

هذا هو الشرط الأوّل للاستصحاب هنا والشرط الثاني هو : ( إن كان موضوعه ) أي : موضوع الحكم العقلي ( أعمّ من القطع ) بالضرر ( والظنّ ) به ( كمثال الضرر ) في شرب الماء المسموم فانه لا فرق عند العقل بين القطع بالضرر ، أو الظن به في وجوب الاجتناب عنه .

مثلاً : ان العقل يحكم بقبح شرب الماء المسموم ، فإذا شك في بقاء السم في الماء ، أو انه زال عنه لتغيّر حصل في الماء بزيادة الماء ، أو معالجة السم بمواد كيماوية ، فانه يستصحب الضرر ويثبت القبح العقلي المستتبع للحرمة الشرعية ، غير انّ جريان هذا الاستصحاب - على ما مر - مشروط بأمرين :

ص: 5

وإن إعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار فلا يجوز العمل به ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع .

-------------------

الأمر الأوّل : ان يكون الاستصحاب حجة من باب الظن ، كما يقول به جمع من الاُصوليين ، لا من باب التعبد ، على ما سيأتي بقوله : وان اعتبر من باب التعبد ، وإلاّ فانه إذا كان الاستصحاب حجة من باب التعبد كان أصلاً مثبتا ، وقد عرفت : ان الأصل المثبت ليس بحجة .

الأمر الثاني : ان يكون موضوع حكم العقل أعم من مقطوع الضرر ومظنونه ، فانه لو كان للقطع مدخلية في موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب ، إرتفع الحكم بارتفاع القطع ، حيث ان الحكم لا يبقى بعد إرتفاع موضوعه .

لكن لا يخفى : ان موضوع حكم العقل هو : أعم من القطع والظن ، ومن الاحتمال الموهوم فيما لو كان الضرر كثيرا ، وذلك على ما تقدّم في بعض مباحث الكتاب ، فإذا كان - مثلاً - في كلٍ من عشر سيارات ، تنزلق سيارة واحدة فتسقط في الهوة ممّا يوجب هلاك ركابها ، فان الاحتمال يكون موهوما بالنسبة إلى كل سيارة سيارة ، لكن العقل يقول بلزوم الاجتناب .

هذا ( وإن إعتبر ) الاستصحاب ( من باب التعبّد لأجل الأخبار ) الدالة على الاستصحاب لا من باب الظن ( فلا يجوز العمل به ) أي : بهذا الاستصحاب ( للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع ) الضرري ( الذي كان يحكم عليه مع القطع ) به ، يعني : ان الاستصحاب يوجب الظن بالضرر لا القطع به ، والعقل يقول بلزوم الاجتناب عن الضرر المقطوع به ، فالاستصحاب لا يفيد ذلك الموضوع حتى يجب الاجتناب عنه .

ص: 6

مثلاً : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك .

وأمّا الحكم العقلي بالقبح فلا يثبت بذلك .

نعم ، يثبت الحرمة الشرعية بمعنى : نهي الشارع ظاهرا لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي ، ولا منافاة بين إنتفاء الحكم العقلي

-------------------

( مثلاً : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ) بان كان سابقا سمّا ، ثم شككنا في انه هل زال بواسطة أمر عدمي كضعف مفعوله بسبب مرور الزمان عليه ، أو بواسطة أمر وجودي كاضافة الماء عليه أو معالجته بالمواد الكيماوية - مثلاً - ( فمعنى ذلك ) الاستصحاب هو : ( ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك ) فيحكم بوجوب الاجتناب عنه .

( وأمّا الحكم العقلي بالقبح ) لشربه ( فلا يثبت بذلك ) الاستصحاب ، لعدم تحقق موضوع القبح وهو كونه مقطوع الضرر ، أو مظنونه ، لأن الحكم العقلي بالقبح كان مترتبا على أحدهما ، والاستصحاب من باب الاخبار لا يثبت شيئا منهما .

( نعم ، يثبت ) هذا الاستصحاب ( الحرمة الشرعية ) وذلك ( بمعنى : نهي الشارع ظاهرا ) وقال ظاهرا ، لأن الاستصحاب لا يفيد إلاّ النهي الظاهري .

وإنّما يثبت بالاستصحاب الحرمة ( لثبوتها ) أي : الحرمة ( سابقا ) فالشرب منهي عنه ( ولو بواسطة الحكم العقلي ) فانه حين كان هذا الماء مسموما ومضرّا كان العقل يحكم بقبح شربه لتحقق موضوع الحكم العقلي الذي هو القطع بالضرر أو الظن به فرضا ، ولأجل هذا الحكم العقلي حكم الشرع بالحرمة من باب كلما حكم به العقل حكم به الشرع ، امّا عند الشك فالشارع يتعبّدنا بابقاء الضرر ،

ص: 7

وثبوت الحكم الشرعي لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ، إلاّ أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم ظاهريّ هي الحرمة .

وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ، يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها

-------------------

بينما لا يحكم العقل بالقبح .

( و ) ان قلت : انه إذا إرتفع الحكم العقلي الذي كان هو سبب الحكم الشرعي يلزم ان يرتفع الحكم الشرعي أيضا .

قلت : ( لا منافاة بين إنتفاء الحكم العقلي ) لعدم موضوعه في الآن الثاني ( وثبوت الحكم الشرعي ) بالاستصحاب .

وإنّما لا منافاة بينهما ( لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ) أي : عند العقل ، فحيث لا يتم الموضوع عند العقل لا يحكم بالقبح ( وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ) لأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، ومع إشتباه الموضوع يشك في ان الحكم الشرعي باق بعد إنتفاء القطع أو الظن بالضرر أو ليس بباق ؟ ( إلاّ أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي ) لاشتباه موضوعه ( بحكم ظاهريّ ) تعبدا بواسطة الاستصحاب و ( هي الحرمة ) المستصحبة .

( وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ) بعد الشك في موضوعه ( يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها ) كما إذا نسي جزءا كالحمد ، أو شرطا كالستر ، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك ، فانه قال بكفاية هذه الصلاة وعدم إعادتها .

ص: 8

باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان ، وما في إعتراض بعض المعاصرين على من خصّ من القدماء والمتأخرين إستصحاب حال العقل باستصحاب العدم ، بانّه لا وجه للتخصيص ، فانّ حكم العقل المستصحب

-------------------

وإنّما قال هذا البعض ذلك ، تمسّكا منه ( باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان ) فانه كان في حال النسيان غير مكلف ، لقبح توجّه التكليف إلى العاجز عن الامتثال ، والناسي عاجز عن الامتثال ، ولذلك فانه إذا تذكر بعد ذلك قال : لا يجب عليه الاعادة ، لاستصحاب عدم التكليف الذي كان حال النسيان .

وإنّما ظهر ما في هذا الكلام ، لأن عدم التكليف حال النسيان كان حكما عقليا ، والحكم العقلي يرتفع بارتفاع موضوعه وهو النسيان ، فأدلة وجوب الصلاة مع السورة أو مع الستر تشمل هذا الشخص أيضا فيجب عليه الاعادة .

نعم ، إذا كان المنسي غير الاُمور الخمسة المرتفعة بالنص : من القبلة ، والطهور، والوقت ، والركوع ، والسجود ، فانه لا تجب فيه الاعادة للدليل الخاص لا للاستصحاب .

( و ) ظهر أيضا ( ما في إعتراض بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( على من خصّ من القدماء والمتأخرين إستصحاب حال العقل باستصحاب العدم ) فان جماعة من المتأخرين وذلك تبعا لجماعة من المتقدمين قالوا : ان إستصحاب حال العقل خاص باستصحاب العدم فقط ، فاعترض عليهم الفصول قائلاً : ( بانّه لا وجه للتخصيص ) باستصحاب العدم فقط .

وإنّما لا وجه للتخصيص به لأنه كما قال : ( فانّ حكم العقل المستصحب

ص: 9

قد يكون وجوديّا تكليفيّا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ، كالاضطرار والخوف ، أو وضعيا ، كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها .

-------------------

قد يكون وجوديا تكليفيا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، و ) إستصحاب ( وجوب ردّ الأمانة إذا ) شك في بقاء التحريم أو الوجوب فيما إذا ( عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ) أي : زوال الوجوب والتحريم ( كالاضطرار ) إلى التصرف في مال الغير لأجل بقاء حياته كما في المخمصة ، أو بقاء حياة غيره كما في إنقاذ الغريق ( والخوف ) من السارق أو الغاصب في ردّ الأمانة .

( أو وضعيا ) وهذا عطف على قوله « تكليفيا » ( كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها ) أي : بقاء الشرطية ، فان صاحب الفصول قال : بأن الأحكام العقلية هي : وجودية وعدمية ، فلا وجه لانحصار إستصحاب حال العقل في إستصحاب العدم فقط ، ثم مثّل لاثبات قوله بهذه الأمثلة الثلاثة التي عرفتها في التكليفية والوضعية الوجودية .

وإنّما ظهر من كلام المصنِّف ما في إعتراض الفصول ، لأن الاستصحاب لا يجري في نفس حكم العقل إطلاقا ، وذلك لما عرفت : من ان الموضوع ان كان باقيا فالحكم باق ، وان لم يكن باقيا أو شك في بقائه وعدم بقائه فلا يجري الاستصحاب ، ومراد الأصحاب من إستصحاب حال العقل : إستصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها وهو : عدم التكليف ، لا الحال المستندة إلى العقل ، وذلك على ما ذكرناه مفصّلاً في أوائل بحث الاستصحاب .

ص: 10

ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا ، وأمّا المثال الثالث فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان .

نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل

-------------------

وعليه : فاستصحاب العدم أيضا ليس إستصحابا عقليا بل هو إستصحاب يطابق العقل ، فان العقل إذا لم يجد الدليل يقول بعدم الحكم ، لا انه يستصحب العدم .

( و ) اما الأمثلة الثلاثة التي ذكرها الفصول فهي غير تامة ، إذ ( يظهر حال المثالين الأوّلين ) أي : تحريم التصرّف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة ( ممّا ذكرنا سابقا ) : من ان موضوع حكم العقل واضح ، فامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة بشرط عدم الاضطرار والخوف ، فيرتفع وجوبه قطعا بعروض الاضطرار والخوف ، وامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة مطلقا ، فيبقى الحكم قطعا بعد عروضهما ، فلا إستصحاب .

وكذلك الحال في التصرّف في ملك الغير ، فانه ان بقي موضوعه بقي ، وان شك في موضوعه إرتفع ، فلا مجال للاستصحاب .

( وأمّا المثال الثالث ) وهو الحكم الوضعي كشرطية العلم للتكليف فيما إذا عرض ما يوجب الشك في بقاء العلم شرطا للتكليف ( فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان ) من الأزمنة ، لوضوح ان العلم شرط للتكليف في كل حال ، ويكفي وجود العلم آنا مّا في إشتغال الذمة بالتكليف يقينا ولزوم تحصيل البرائة اليقينية منه .

( نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ) كما

ص: 11

ثم إشتبه وصار معلوما بالاجمال .

لكنّه خارج عمّا نحن فيه مع عدم جريان الاستصحاب فيه كما سننبّه عليه .

ويظهر أيضا فساد التمسك باستصحاب البرائة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البرائة والاشتغال .

-------------------

إذا علم بوجوب الصلاة تفصيلاً إلى جهة القبلة ( ثم إشتبه وصار معلوما بالاجمال ) بأن جهل القبلة في أيّ طرف هي ، فانه إذا صلّى صلاة واحدة إلى جهة وشك في بقاء التكليف ، وجب عليه الاتيان بالصلاة إلى بقية الجهات أيضا للاستصحاب .

( لكنّه ) أي : هذا الاستصحاب ( خارج عمّا نحن فيه ) لأمرين :

أولاً : لأنه ليس من إستصحاب حكم العقل ، بل هو من إستصحاب وجود التكليف ، إذ بالاجمال لا يرتفع التكليف الذي قد تنجّز على المكلّف .

ثانيا : ( مع عدم جريان الاستصحاب فيه ) أيضا ، لأنه أصل مثبت ( كما سننبّه عليه ) أي : على انه أصل مثبت بعد أسطر من كلام المصنِّف حيث يقول : لكنه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة إلى الجهة الباقية ، بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ، لكن مجرد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبرائة إلاّ على القول المثبت .

( ويظهر أيضا ) أي : ممّا ذكرنا : من عدم إستصحاب حكم العقل يظهر ( فساد التمسك باستصحاب البرائة والاشتغال ، الثابتين بقاعدتي البرائة والاشتغال ) فانه لا تستصحب البرائة ، ولا يستصحب الاشتغال .

ص: 12

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبرائة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه .

فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبرائة ، ولا حاجة إلى إبقاء البرائة السابقة والحكم بعدم إرتفاعها ظاهرا .

-------------------

( مثال الأوّل ) وهو إستصحاب البرائة : ( ما إذا قطع بالبرائة عن ) حرمة شرب التتن قبل الشرع ، فان قبل الشرع لم يكن شرب التتن حراما ، وعن ( وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع ) فانه لم يكن الغسل والدعاء قبل الشرع واجبا ، إذ لم يكن قبل الشرع حكم وجوبي أو تحريمي إطلاقا .

( أو العثور عليه ) وهذا عطف على قبل الشرع يعني : انه إذا جاء الشرع وفحص المجتهد بالقدر اللازم عن حرمة شرب التتن ، وعن وجوب غسل الجمعة ، وعن وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ولم يظفر بدليل ، فانه يجري البرائة في الأحكام الثلاثة ، وذلك لأن العقل كما كان يحكم بالبرائة قبل الشرع ، فكذلك يحكم بالبرائة بعد الشرع ما لم يظفر بدليله أيضا لبقاء موضوع حكمه الذي هو عدم البيان ، فلا شك في حكم العقل حتى نجري حكم العقل بسبب الاستصحاب .

وإنّما ظهر فساد ذلك لأنه كما قال : ( فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال ) بسبب مجيء الشرع ( كافٍ في حكم العقل بالبرائة ، ولا حاجة إلى إبقاء البرائة السابقة ) قبل الشرع ( و ) لا إلى ( الحكم بعدم إرتفاعها ) أي : إرتفاع البرائة ( ظاهرا ) بالاستصحاب ، إذ الاستصحاب يفيد الحكم الظاهري ولا حاجة لنا إلى مثل هذا الاستصحاب .

ص: 13

فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في إستقلال العقل بقبح التكليف فيهما ، لكون المناط في القبح عدم العلم .

نعم ، لو اُريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من إستصحابه ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك ،

-------------------

إذن : ( فلا فرق بين الحالة السابقة ) قبل الشرع ( واللاحقة ) بعد الشرع ( في إستقلال العقل بقبح التكليف فيهما ) أي في الحالة السابقة وفي الحالة اللاحقة ، وذلك ( لكون المناط في القبح عدم العلم ) وهو حاصل في الحالتين معا : الحالة السابقة والحالة اللاحقة أيضا ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب .

( نعم ، لو اُريد إثبات عدم الحكم ) لا عدم العلم بالحكم ( أمكن إثباته باستصحاب عدمه ) أي : أمكن إثبات عدم الحكم بالاستصحاب .

إذن : فبالنسبة إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فانه حاصل قبل الشرع وبعد الشرع على حد سواء ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب ، وبالنسبة إلى انه لم يكن قبل الشرع حكم واُريد إثبات انه لم يكن بعد الشرع حكم أيضا فانه بحاجة إلى الاستصحاب .

( لكنّ ) هذا الاستصحاب أيضا نحن في غنى عنه ، لأن ( المقصود من إستصحابه ) أي : إستصحاب عدم الحكم ( ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس ) آثار عدم الحكم ( إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به ) أي : يحكم بعدم الاشتغال ( العقل في زمان الشك ) بمجرّد الشك ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، إذ لا نفع في هذا الاستصحاب ، فان أثر هذا الاستصحاب الذي هو نفي التكليف حاصل بحكم العقل المستقل بقبح العقاب ، بلا بيان .

ص: 14

فهو من آثار الشك ، لا المشكوك .

ومثال الثاني : إذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة

-------------------

إذن : ( فهو ) أي : عدم الاشتغال ( من آثار الشك ، لا المشكوك ) فانه بمجرد الشك في التكليف يترتب عدم التكليف ، بلا حاجة إلى سحب الحالة السابقة أعني : بقاء عدم الاشتغال وهو المشكوك إلى الحال اللاحقة حتى يثبت بذلك عدم التكليف .

هذا كله بالنسبة إلى مثال الأوّل وهو : إستصحاب البرائة .

( و ) اما بالنسبة ( مثال الثاني ) وهو إستصحاب الاشتغال فهو : ما ( إذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ) وذلك فيما إذا لم يعلم بأن السورة في الصلاة واجبة أيضا كالفاتحة ، أم لا ؟ .

( و ) كذا ما إذا حكم العقل على ( وجوب الصلاة إلى أربع جهات ) وذلك في صورة إشتباه القبلة إلى جهات أربع .

( و ) كذا ما إذا حكم العقل على ( وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ) الجامعة للشرائط بأن كان أطرافها محل الابتلاء ، وما إلى ذلك من شرائط وجوب الاجتناب .

وعليه : فإذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بالتكليف فعلاً أو تركا ( ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة ) فانه إذا كانت السورة واجبة لم يسقط التكليف ، وإذا لم تكن واجبة سقط التكليف .

ص: 15

أو إلى بعض الجهات أو إجتنب أحدهما ، فربما يتمسك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا .

وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبرائة عن التكليف المعلوم في زمان هو بعينه موجود في هذا الزمان .

نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم

-------------------

( أو ) صلّى ( إلى بعض الجهات ) الأربع دون بعضها الآخر فكذلك .

( أو إجتنب أحدهما ) أي : أحد الانائين المشتبهين بالنجس دون الآخر ، فيشك حينئذ في انه هل بقي التكليف الوجوبي أو التحريمي أم لا ؟ .

( فربما يتمسك حينئذ ) أي : حين الشك في بقاء التكليف ( باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا ) إذ التكليف كان سابقا متيقنا ، فيشك في انه أتى به أم لا ، فيستصحب بقائه .

( وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبرائة عن التكليف المعلوم في زمان ) وهو الزمان الأوّل الذي لم يأت فيه بشيء من المحتملات ( هو ) أي : هذا الحكم العقلي ( بعينه موجود في هذا الزمان ) الثاني الذي أتى فيه ببعض المحتملات ، ومع وجوده لا حاجة إلى الاستصحاب .

وعليه : فان قاعدة الاشتغال الموجودة في الزمان السابق قبل الاتيان بشيء من المحتملات ، موجودة بنفسها في الزمان اللاحق بعد الاتيان ببعض المحتملات ، فاللازم الاتيان ببقية المحتملات لقاعدة الاشتغال لا للاستصحاب .

( نعم ، الفرق بين هذا الزمان ) وهو اللاحق ( والزمان السابق : حصول العلم

ص: 16

بوجود التكليف فعلاً بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان . وهذا لا يؤثر في حكم العقل المذكور ، إذ يكفي فيه العلم بالتكليف الواقعي آنا مّا .

نعم ، يجري إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، وإجتناب المشتبه الباقي ،

-------------------

بوجود التكليف فعلاً بالواقع في السابق ) لأنه قبل الاتيان بشيء من المحتملات يقطع بالتكليف ( وعدم العلم به ) أي : بوجود التكليف فعلاً بالواقع ( في هذا الزمان ) الثاني ، لاحتمال ان يكون الواجب هو ما أتى به ، وان يكون المحرّم هو ما تركه .

( و ) لكن ( هذا ) الفرق ( لا يؤثر في حكم العقل المذكور ) الذي يقول بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة ، لأنه لم يحصل اليقين بالبرائة في الزمانين لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق .

وإنّما لا يؤثر الفرق المذكور في حكم العقل بالاشتغال في الزمانين ( إذ يكفي فيه ) أي : في حكم العقل بالاشتغال ( العلم بالتكليف الواقعي آنا مّا ) مع عدم علمه باتيان ذلك التكليف ، وهذا حاصل في الزمان السابق وفي الزمان اللاحق معا .

( نعم ، يجري إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه ) في الزمان الثاني ( لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، وإجتناب المشتبه الباقي ) .

وإنّما لا يقضي الاستصحاب المذكور بذلك ، لانه من الأصل المثبت ، والأصل

ص: 17

بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ، لكن مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبرائة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني

-------------------

المثبت ليس بحجة فلا ينفع مثل هذا الاستصحاب إلاّ لمن يرى حجية الاستصحاب المثبت أيضا .

( بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ) فان إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي أثره الشرعي : بقاء الوجوب الواقعي ، فيحكم العقل بوجوب طاعته وتحصيل البرائة منه ، وليس أثره الشرعي : وجوب المحتمل الآخر ، لأن الملازمة بين عدم فعل الواجب الواقعي ، وبين وجوب المحتمل الآخر يكون عقليا لا شرعيا ، فإذا أردنا ان نثبت بالاستصحاب وجوب إتيان المحتمل الآخر كان من الأصل المثبت .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( لكن مجرّد ذلك ) أي : الاستصحاب المذكور ( لا يثبت وجوب الاتيان بما ) أي : بالمحتمل الآخر فعلاً أو تركا بحيث ( يقتضي اليقين بالبرائة ، إلاّ على ) أحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( القول بالأصل المثبت ) والأصل المثبت ليس بحجة على ما عرفت .

الوجه الثاني : ( أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ) أي : بضم قاعدة الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فيثبت بهاتين القاعدتين معا وجوب المحتمل الآخر .

هذا ( و ) لكن كلا الوجهين غير تامين لما يلي :

اما الوجه ( الأوّل ) : وهو الأصل المثبت فلأنا ( لا نقول به ، و ) لا بحجيته .

واما الوجه ( الثاني ) : وهو ضم الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فلأن

ص: 18

بعينه موجود في محلّ الشك من دون الاستصحاب .

الأمر الرابع :

قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اُخرى باعتبار كون القضية المستصحبة قضيةً تعليقيّةً حُكِمَ فيها

-------------------

الاشتغال ( بعينه موجود في محلّ الشك ) على ما عرفت ، فلا حاجة في ضمه إلى الاستصحاب ، إذ العقل يحكم بالاشتغال ( من دون ) حاجة إلى ( الاستصحاب ) فلا مجال إذن للاستصحاب في المقام .

( الأمر الرابع ) ممّا ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو : الكلام حول الاستصحاب التقديري أو التعليقي ، علما بان الاستصحاب على قسمين :

الأوّل : التنجيزي .

الثاني : التعليقي ، ويسمّى بالتقديري أيضا .

ذكر بعضهم : ان الاستصحاب التعليقي ليس بحجة ، فأراد المصنِّف هنا الاشارة إلى انه لا فرق بين قسمي الاستصحاب ، فقال : ( قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اُخرى ) وذلك كما إذا غلا الزبيب ، فانه هل يحرم كما كان يحرم إذا غلا العنب ولم يذهب ثلثاه ، أم لا يحرم ؟ .

وإنّما يسمّى تعليقيا ، لأنه يقال : لو كان عنبا وغلا لحرم ، ويسمّى تقديريا ، لأنه يقال : على تقدير انه كان عنبا وغلا لكان حراما .

إذن : فالتسمية ( باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقيّةً حُكِمَ فيها )

ص: 19

بوجود حكم على تقدير وجود آخر ، فربما يتوهّم لأجل ذلك الاشكال في إعتباره بل منعه والرجوع فيه إلى إستصحاب مخالف له .

توضيح ذلك : أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجبت الصلاة فعلاً ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان ثم شك في بقائه وإرتفاعه ،

-------------------

أي : في تلك القضية ( بوجود حكم ) كالحرمة ( على تقدير وجود آخر ) أي : على تقدير كونه عنبا .

وعليه : ( فربما يتوهّم لأجل ذلك ) التعليق ( الاشكال في إعتباره ) أي : إعتبار الاستصحاب التعليقي ( بل منعه ) لأن الوجود التعليقي كالعدم ، فلم يكن له حالة سابقة حتى يستصحب ( والرجوع فيه ) فيما إذا غلا الزبيب - مثلاً - ( إلى إستصحاب مخالف له ) أي : للاستصحاب التعليقي مثل : إستصحاب الحلّية المتحققة قبل الغليان ، فان الزبيب قبل الغليان حلال ، فكذلك بعده .

( توضيح ذلك ) أي : توضيح الاستصحاب التعليقي حتى نرى انه يصح الاستصحاب فيه أو لا يصح ، فنقول : ( أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ) أي : متحقق خارجا ( كما إذا وجبت الصلاة فعلاً ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان ) سابق ( ثم شك في بقائه وإرتفاعه ) .

مثلاً : صلاة الجمعة - كانت واجبة زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأيام خلافة أمير المؤمنين عليه السلام الظاهرية ، فنشك هل انها بقيت على وجوبها زمان خروج الخلافة الظاهرية عن يد المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين كزماننا هذا ، أم لا ؟ أو انّ العصير العنبي كان حراما لأنه غلا في زمان سابق ولم يذهب ثلثاه ، ثم طبخناه بمقدار شككنا في هذا الزمان اللاحق بانه هل بقيت حرمته أم لا ؟ .

ص: 20

وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه .

وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقي ، مثل : أنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه أم لا ، بل يستصحب الاباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان .

-------------------

( وهذا ، لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه ) عند القائلين بالاستصحاب لا النّافين له ، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب : من اليقين السابق ، والشك اللاحق .

( وقد يكون ) المستصحب ( أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ) آخر ( فالمستصحب هو وجوده التعليقي ) لا الوجود الفعلي ( مثل : أنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ) أي : ان الحرمة موجودة في ماء العنب لكن بوجود معلق لفرض انه لم يكن حرما فعليا ، إذ لم يغل بعد حتى يحرم .

إذن : ( فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جف وصار زبيبا ) شككنا في ان ماء الزبيب هل هو حرام معلقا على الغليان كما كان ماء العنب حراما معلقا على الغليان ، أو لا يحرم ماء الزبيب ، لأن الزبيب ليس هو عين العنب حتى يكون محكوما بحكمه لتبدّل موضوعه ؟ .

وعليه : ( فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة ) تلك الحرمة ( على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه ) أي : تحقق الغليان ( أم لا ) يحرم ( بل يستصحب الاباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان ) لأن ماء الزبيب قبل الغليان كان حلالاً ، فنستصحب حلّيته بعد الغليان أيضا ؟ .

ص: 21

وظاهرُ سيّد مشايخنا في المناهل وفاقا لما حكاه عن والده قدس سره ، في «الدرس» : عدم إعتبار الاستصحاب الأوّل والرجوع إلى الاستصحاب الثاني .

قال في المناهل : في ردّ تمسك السيد العلامة الطباطبائي على حرمة العصير من الزبيب إذا غلا بالاستصحاب :

« ودعوى تقديمه على إستصحاب

-------------------

( وظاهرُ سيّد مشايخنا ) وهو السيد محمد المجاهد قدس سره ( في المناهل ) الذي هو كتاب فقهي لهذا السيد العظيم الشأن هو : عدم إعتبار الاستصحاب التعليقي على ما يأتي في كلامه إن شاء اللّه تعالى .

هذا ، ولا يخفى ان السيد محمد المجاهد إنّما لقّب بالمجاهد ، لأنه جاهد الروس ، حيث أرادوا الاستيلاء على إيران ، ولولا جهاده آنذاك لكانت إيران كلها بيد الروس في هذا اليوم ، كما ان من المحبّذ ان يعلم بان حكومة البعث في العراق هدّمت قبره الشريف الذي كان بين الحرمين الطاهرين ، والواجب على المسلمين إعادته بعد سقوط حكم البعث بإذن اللّه تعالى .

وكيف كان : فان ظاهر كلام السيد المجاهد ( وفاقا لما حكاه عن والده ) السيد علي صاحب الرياض ( قدس سره ، في «الدرس» : عدم إعتبار الاستصحاب الأوّل ) وهو : الاستصحاب التعليقي للحرمة المعلقة ( والرجوع إلى الاستصحاب الثاني ) وهو الاستصحاب التنجيزي للحلّية المنجزة قبل الغليان .

( قال في المناهل : في ردّ تمسك السيد العلامة الطباطبائي ) السيد مهدي بحر العلوم قدّس اللّه سره ( على حرمة العصير من الزبيب إذا غلا ) وذلك تمسكا منه ( بالاستصحاب ) التعليقي ( « و ) في ردّ ( دعوى تقديمه على إستصحاب

ص: 22

الاباحة أنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثم يحصل الشك في إرتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطلٌ ، وقد صرّح بذلك الوالد العلامة في أثناء «الدرس» ، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في المسألة » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

الاباحة ) الذي هو إستصحاب تنجيزي ، فان السيد المجاهد قال في ردّ السيد بحر العلوم ما يلي :

( أنّه يشترط في حجية الاستصحاب ثبوت أمر ) خارجي مثل : حياة زيد الذي غاب وطالت غيبته بحيث لم يعلم انه حي أم لا ( أو حكم وضعي ) كطهارة المتوضي إذا خرج منه شيء لم يعلم إنه بول أو مذي ( أو تكليفي ) كوجوب الصوم لمن تمرض في الأثناء بحيث لم يعلم انه يضره صومه أم لا ؟ ويلزم أن يكون ثبوت ذلك ( في زمان من الأزمنة قطعا ) لا تقديرا ( ثم يحصل الشك في إرتفاعه بسبب من الأسباب ) كما مثلنا لذلك بالأسباب المذكورة .

هذا ( ولا يكفي قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ) كالغليان - مثلاً - فان ثبوت الحرمة لعصير الزبيب على تقدير الغليان لا يكفي في الاستصحاب ، وذلك لأن الوجود التقديري ليس وجودا خارجيا حتى يستصحب بل هو وجود فرضي .

إذن : ( فالاستصحاب التقديري باطلٌ ، وقد صرّح بذلك ) البطلان ( الوالد العلامة ) يعني به والده : صاحب الرياض قدس سره وذلك ( في أثناء «الدرس» ، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في المسألة » (1) ) التي نحن فيها من عصير الزبيب ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

ص: 23


1- - المناهل : مخطوط .

أقول : لا إشكال في إعتبار تحقق المستصحب سابقا ، والشك في إرتفاع ذلك المحقق .

ولا إشكال أيضا في عدم إعتبار أزيد من ذلك .

ومن المعلوم : أنّ تحقق كل شيء بحسبه .

فاذا قلنا : العنبُ يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان ، فهناك لازم وملزوم وملازمة ، أمّا الملازمة ، وبعبارة اُخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ، فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق .

-------------------

( أقول ) : أركان الاستصحاب في الاستصحاب التعليقي متوفّرة ، فلماذا لا يستصحب ؟ .

بيان ذلك : انه ( لا إشكال في إعتبار تحقق المستصحب سابقا ) لأنه أحد أركان الاستصحاب ( والشك في إرتفاع ذلك المحقق ) سابقا وهو الركن الثاني من أركان الاستصحاب ( ولا إشكال أيضا في عدم إعتبار أزيد من ذلك ) أي : من الوجود السابق والشك اللاحق ، فمن أين شرط التنجيز الذي ذكره صاحب المناهل حيث قال : إنه يشترط في حجية الاستصحاب : الوجود السابق منجّزا .

هذا ( ومن المعلوم : أنّ تحقق كل شيء بحسبه ) فان الوجود التقديري ليس عدما محضا ، بل هو وجود بحسبه ، كما ان الوجود التحقيقي له وجود بحسبه .

وعليه : ( فاذا قلنا : العنبُ يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان ) كان كل من العبارتين تعبيرا عن الملازمة بين أمرين ( فهناك لازم ) هو الحرمة ( وملزوم ) هو الغليان ( وملازمة ) بين الغليان والحرمة .

( أمّا الملازمة ، وبعبارة اُخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ، فهي متحققة بالفعل ) لا تقديرا ، يعني : انها متحققة ( من دون تعليق ) إذ تحقق الملازمة

ص: 24

وأمّا اللازم وهي : الحرمة ، فله وجودٌ مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمرٌ متحقّق في نفسه في مقابل عدمه .

وحينئذ : فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ،

-------------------

لا يستلزم تحقق اللازم والملزوم .

وعليه : فالملازمة هنا بين غليان العنب وحرمته متحققة بالفعل وان لم يتحقق الغليان بالفعل ولم تحصل الحرمة بعد ، وهكذا الأمر في كل ملازمة ، فإذا قلنا مثلاً :

كلّما وجدت أربعة كانت منقسمة إلى متساويين ، كانت الملازمة بين هذين الأمرين متحققة بالفعل وان لم تتحقق أربعة بالفعل ولم توجد صلاحية الانقسام إلى المتساويين بعد .

هذا كله بالنسبة إلى الملازمة ( وأمّا اللازم وهي : الحرمة ، فله وجودٌ مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ) الذي هو الغليان ( وهذا الوجود التقديري أمرٌ متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ) أي : عدم تحققه ، كما في غير العنب من سائر الثمار ، فان هذا الوجود التقديري غير متحقق فيها ، فالعنب إذا غلا حرم ، بينما الرمان إذا غلا لم يحرم ، وهكذا .

( وحينئذ ) أي : حين كان لحرمة العنب وجود بنحو تقديري ( فإذا شككنا ) بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ( في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ) أو ليس له مدخل فيه ؟ فان قلنا : ان مع هذا الشك لا يجري الاستصحاب كانت النتيجة : ( فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ) فانا إذا قلنا بذلك كنّا قد فرّقنا بين هذا الحكم وبين سائر

ص: 25

فأيُّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها بعد صيرورته زبيبا .

نعم ، ربما يناقش الاستصحاب المذكور تارة : بانتفاء الموضوع وهو العنب واُخرى : بمعارضته باستصحاب الاباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل الشهرة

-------------------

الأحكام الثابتة للعنب عند الشك فيها مع انه لا فارق .

وإلى إستنكار هذا الفرق وعدم وجود دليل عليه أشار المصنِّف حيث قال : ( فأيُّ فرق بين هذا ) أي : حكم الحرمة ( وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها ) ؟ أي : بقاء تلك الأحكام كالملكية وغيرها ( بعد صيرورته زبيبا ) حتى إستوجب التفريق بينهما ؟ .

وعليه : فكما ان الأحكام المنجزّة للعنب ثابتة بعد جفافه وصيرورته زبيبا مثل : كونه ملكا لزيد ، وضارّا للمرض الفلاني ، ونافعا لرفع الغم بالنسبة إلى العنب الأسود ، فكذلك الأحكام التعليقية الثابتة للعنب كالحرمة إذا غلا ولم يذهب ثلثاه ، وما أشبه ذلك .

( نعم ، ربما يناقش الاستصحاب المذكور ) أي : الاستصحاب التعليقي ( تارة : بانتفاء الموضوع ) السابق ( وهو العنب ) لأن الموضوع في السابق كان العنب ، والآن ليس هو بعنب .

( واُخرى : بمعارضته باستصحاب الاباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه ) أي : ترجيح إستصحاب الاباحة ( عليه ) أي : على إستصحاب الحرمة ترجيحا ( بمثل الشهرة ) القائمة على عدم تنجّس الزبيب بالغليان ، ومع تعارض الاستصحابين يرجّح الاستصحاب التنجيزي القائل بالحلّ لموافقته للمشهور .

ص: 26

والعمومات لكنّ الأوّل : لا دخلَ له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ، والثاني

-------------------

( و ) كذا يرجّح بمثل ( العمومات ) الدالة على حلّ كل شيء مثل : قوله تعالى : « أحلّ لكم الطيّبات » (1) وقوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (2) إلى غير ذلك .

( لكنّ ) مناقشة الاستصحاب التعليقي بهذين الاعتراضين فيه ما لا يخفى .

إذ ( الأوّل : لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ) فاشكال عدم بقاء الموضوع لأنه لما صار زبيبا لم يكن عنبا لو كان مانعا عن الاستصحاب ، لمنع عن إستصحاب الأحكام المنجّزة للعنب أيضا ، كالملكية على فرض الشك .

وعليه : فلا فرق بين الأحكام المنجَّزة والأحكام المعلَّقة من حيث الاستصحاب ، فلماذا الفرق باستصحاب الأحكام المنجَّزة دون الأحكام المعلَّقة ؟ مع ان الموضوع ان كان باقيا لزم إستصحاب الحكمين ، وإن لم يكن باقيا لزم عدم إستصحاب الحكمين ، علما بما سيأتي من الكلام في ان هذا المقدار من تغيّر الموضوع ، ليس مضرّا بالاستصحاب لوحدة الموضوع عند العرف ، كما تقدّم الالماع إليه أيضا .

( والثاني ) : وهو : إستشكال معارضة الاستصحاب التعليقي القائل بالحرمة بالاستصحاب التنجيزي القائل بالاباحة وترجيح الثاني بالشهرة أو العمومات ،

ص: 27


1- - سورة المائدة : الآية 4 و 5 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فاسد ، لحكومة إستصحاب الحرمة على تقدير الغليان على إستصحاب الاباحة قبل الغليان .

فالتحقيق : أنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في إعتباره من حيث الأخبار ، أو من حيث العقل بين أنحاء تحقّق المستصحب

-------------------

فانه ( فاسد ، لحكومة إستصحاب الحرمة على تقدير الغليان على إستصحاب الاباحة قبل الغليان ) ومع حكومة الأوّل على الثاني لا يبقى مجال لترجيح الثاني بسبب الشهرة ، أو العمومات أو ما أشبه ذلك .

وإنّما يكون الأوّل حاكما على الثاني لأنهما سببي ومسبّبي ، وقد سبق إن الاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسبّبي ، والشك في الحلّ والحرمة على تقدير الغليان مسبّب عن الشك في بقاء الحرمة المقدّرة حال العنبية ، فيجري الأصل السببي أعني : إستصحاب الحرمة ، ولا يبقى مجال للأصل المسبّبي أعني : إستصحاب الحلّية .

وعليه : فقد أجاب المصنِّف إلى هنا عن الاشكالات الثلاثة التي اُوردت على الاستصحاب التعليقي : من إشتراط التنجيز على ما إدعاه صاحب المناهل ، ومن تبدّل الموضوع ، ومن تعارض الاستصحابين على ما إدعاهما غيره ، ثم قال في النتيجة ما يلي :

( فالتحقيق : أنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ) لتمامية أركانه ( ولا في إعتباره من حيث الأخبار ، أو من حيث العقل ) وذلك بناءا على من قال بحجية الاستصحاب من جهة الأخبار ، أو قال بحجيته من باب دليل العقل فانه لا يعقل فرق ( بين أنحاء تحقّق المستصحب ) سواءً كان تنجيزيا أم تعليقيا .

ص: 28

فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشك في إرتفاعه ، فالأصل بقاؤه .

مع أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببية الملزوم للاّزم موجود بالفعل ، وجد اللازم أم لم يوجد ، لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقف على صدق الشرط .

وهذا الاستصحاب غير متوقف على وجود الملزوم . نعم ، لو اُريد إثبات وجود الحكم فعلاً في الزمان الثاني

-------------------

وعليه : ( فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب ) تنجيزيا كان أم تعليقيا ( وشك في إرتفاعه ، فالأصل بقاؤه ) لتمامية أركان الاستصحاب .

هذا كله حال إستصحاب اللازم وهو : الحرمة المعلقة وعلى الملزوم وهو : الغليان .

امّا إستصحاب الملازمة بين الغليان والحرمة فأمره واضح لا غبار عليه ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( مع أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببية الملزوم ) الذي هو الغليان ( للاّزم ) الذي هو الحرمة ( موجود بالفعل ) حال العنبيّة ، فلا تعليق في الملازمة إطلاقا ، سواء ( وجد اللازم ) والملزوم بالفعل ( أم لم يوجد ، لأنّ صدق الشرطية لا يتوقف على صدق الشرط ) وذلك على ما ذكرناه في مثال : كلّما وجدت أربعة كانت منقسمة إلى متساويين ، حيث ان الملازمة فعلية والشرطية صادقة ، سواء وجدت أربعة بالفعل أم لم توجد ؟ .

( وهذا الاستصحاب ) وهو : إستصحاب الملازمة ، الثابتة بالفعل حال العنبية ( غير متوقف على وجود الملزوم ) الذي هو الغليان ، بل يجري قبل الغليان ويترتب عليه الحرمة المعلقة ، فالملازمة إذن موجودة سابقا ولاحقا .

( نعم ، لو اُريد إثبات وجود الحكم ) أي : الحرمة ( فعلاً في الزمان الثاني )

ص: 29

إعتبر إحرازُ الملزوم فيه ليترتّب عليه بحكم الاستصحاب لازمُه .

وقد يقع الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق، لعدم تعيّنه وإحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يترائى أنّه ملزوم .

الأمر الخامس

إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون

-------------------

وذلك بأن يكون ماء الزبيب حراما فعليا ( إعتبر إحراز الملزوم فيه ) الذي هو الغليان ( ليترتب عليه بحكم الاستصحاب لازمه ) الذي هو الحرمة ، فباستصحاب الملازمة قبل الغليان تثبت الحرمة المعلقة التقديرية ، وبمحض الغليان تثبت الحرمة الفعلية المتحققة .

هذا ( وقد يقع الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق ، لعدم تعيّنه ، وإحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يترائى أنّه ملزوم ) كما إذا شككنا في مثال : حرمة العصير العنبي بالغليان بانه هل مطلق الغليان قبل ذهاب الثلثين يوجب الحرمة أو الغليان بالنار فقط ؟ ففي هذه الصورة إذا غلا بالشمس لا يحكم عليه بالحرمة ، وذلك لأن الملازمة غير متحققة ، ومع عدم تحققها لا يبقى مجال لاستصحابها، فان الملازمة إنّما تستصحب إذا كانت متحققة ثم طرء الغليان .

وإن شئت قلت : ان الزبيب إذا غلا بالشمس وإحتمل مدخلية كون الغليان بالنار ، فان إستصحاب الملازمة حينئذ لا يثبت اللازم الذي هو الحرمة ، لعدم إحراز الملزوم الذي هو الغليان ، لاحتمالنا خصوصية الحرمة في الغليان بالنار فقط لا ما يعم الشمس أيضا .

( الأمر الخامس ) ممّا ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو : بيان الاستصحاب في الشرائع السابقة قال : ( إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون

ص: 30

حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ، إذ المقتضي موجود ، وهو : جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا ، عدا اُمور .

منها : ما ذكره بعض المعاصرين ، من « أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع ،

-------------------

حكما ثابتا في هذه الشريعة ) وإحتملنا نسخة - مثلاً - وغير ذلك من موارد الاستصحاب ( أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ) وقد ثبت وجوده فيها بالكتاب أو السنة أو الاجماع ، لا إستصحاب الاحكام التي هي بأيديهم ممّا قد حرّف كثيرا منها .

وإنّما لا فرق في ذلك من حيث الاستصحاب ( إذ المقتضي موجود ، وهو : جريان دليل الاستصحاب ) لأنه يقين سابق وشك لاحق ، فيشمله أخبار الاستصحاب عند من يرى حجية الاستصحاب من باب الأخبار ، كما يشمله الظن العقلائي عند من يرى حجية الاستصحاب من باب الظن العقلائي .

إذن : فالمقتضي للاستصحاب بالنسبة إلى الشرائع السابقة موجود ، وأما المانع فمفقود كما قال : ( وعدم ما يصلح مانعا ) عن جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الشرائع السابقة ( عدا اُمور ) تالية :

( منها : ما ذكره بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول : ( من « أنّ الحكم الثابت في حق جماعة ) من أهل الشريعة السابقة ( لا يمكن إثباته في حق آخرين ) من أهل هذه الشريعة ، وذلك ( لتغاير الموضوع ) فانه مثل : إستصحاب حكم زيد لبكر .

ص: 31

فانّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه .

ولذا يتمسك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالاجماع ، والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب » .

وفيه :

-------------------

وعليه : ( فانّ ما ثبت في حقّهم ) أي : حق الآخرين هو ( مثله ) أي : مثل ما ثبت من الحكم في الشريعة السابقة ( لا نفسه ) فانه إذا ثبت حكم زيد لبكر ، كان حكم بكر مثل : حكم زيد لا نفس حكم زيد ، بينما الاستصحاب هو إثبات الحكم السابق لموضوع خاص في الزمان الثاني لنفس ذلك الموضوع .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه من تغاير الموضوع بالنسبة إلى أهل شريعتين نرى انه ( يتمسك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين ) حال الخطاب ( إلى الغائبين أو المعدومين ) في زمان الخطاب تسرية ( بالاجماع ، والأخبار الدالّة على الشركة ) في الأحكام ( لا بالاستصحاب » (1) ) فلا يتمسكون لاثبات الأحكام بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمان الخطاب بالاستصحاب .

وعليه : فاذا كانت التسرية للأحكام بالنسبة إلى أهل شريعة واحدة بحاجة إلى الاجماع والأخبار ، فكيف يقال : بتسرية أحكام أهل الشريعة السابقة إلى أهل هذه الشريعة اللاحقة بالاستصحاب ؟ .

( وفيه ) أي : في هذا الاشكال الذي أورده على إستصحاب الشرائع السابقة ما يلي :

ص: 32


1- - مناهج الأحكام للنراقي .

أولاً : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين .

فاذا حرم في حقّه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً .

وفرضُ إنقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد

-------------------

( أولاً : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ) فاذا كان شخص كذلك ، فلا إشكال في تمكنه من إستصحاب الشريعة السابقة بعد مجئهذه الشريعة لوحدة الموضوع ، وإذا ثبت بالاستصحاب ان الحكم بالنسبة إلى هذا المدرك للشريعتين هو نفس الحكم السابق ، تعدّى ذلك إلى سائر الأشخاص الموجودين في هذه الشريعة ، لأنه لا يعقل التفاوت في شريعة واحدة بين أفرادها .

مثلاً : كان أبو طالب عليه السلام مدركا للشريعتين فكان له حكم ضمان ما لم يجب للاستصحاب ، فيكون الذي لم يدرك الشريعة السابقة كجعفر الطيار إبنه له ذلك الحكم أيضا ، وذلك لأن أبا طالب وجعفر لهما حكم واحد في هذه الشريعة ، لا أن أبا طالب له حكم ضمان ما لم يجب ، وجعفر ليس له هذا الحكم .

وعليه : ( فاذا حرم في حقّه ) أي : في حق من أدرك الشريعتين ( شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً ) لتمامية أركانه ، وكذلك إذا وجب في حقه شيء سابقا من الأحكام التكليفية أو الوضعية .

( و ) لا يقال : انا نفرض هلاك جميع أهل الشريعة السابقة ، فلا أحد حتى يصح الاستصحاب بالنسبة إليه ويتعدّى إلى الآخرين .

لأنه يقال : ( فرضُ إنقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد ) الشريعة

ص: 33

اللاحقة نادرٌ ، بل غير واقع .

وثانيا أنّ إختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلاّ لم يجر إستصحاب عدم النسخ .

-------------------

( اللاحقة نادرٌ ، بل غير واقع ) أصلاً ، فقوم نوح - مثلاً - وان هلكوا بالطوفان ، إلاّ انه بقي منهم من كان في السفينة ممن آمن بنوح ، ولذا لم نر في التاريخ ما يدلّنا على ان قوما هلكوا بأجمعهم ثم جائت شريعة لاحقة بعد إنقراضهم .

( و ) فيه ( ثانيا ) نقضا بالنسخ : وذلك حتى على فرض إنقراض أهل الشريعة السابقة جميعا فانه إذا قلنا بعدم الاستصحاب لاختلاف الأشخاص ، كان لازم ذلك أن لا نقول بإستصحاب عدم النسخ أيضا ، لاختلاف الأشخاص مع انه لا أحد يشك في جريانه .

بيان ذلك : انه إذا شك الحاضرون والموجودون زمن الخطاب في نسخ حكم ، حكموا بعدم نسخه لاستصحاب عدم النسخ ، وكذلك إذا شك الغائبون والمعدومون في زمن الخطاب ، حكموا بعدم نسخه أيضا لاستصحاب عدم النسخ ، مع ان النسخ مختص بزمن الخطاب ولا نسخ بعده قطعا ، وواضح : ان أشخاص الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب غير أشخاص الحاضرين والموجودين زمن الخطاب ، ولو كان ذلك مانعا لما جرى الاستصحاب .

وعليه : فظهر : ( أنّ إختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلاّ لم يجر إستصحاب عدم النسخ ) أصلاً حتى في شريعة واحدة ، فكيف بشريعتين ؟ وحيث لم يكن إختلاف الأشخاص في شريعة واحدة مانعا عن إستصحاب عدم النسخ ، لم يكن مانعا أيضا في أهل شريعتين .

هذا هو الجواب النقضي عن الاشكال الذي اُورد على إستصحاب الشرائع السابقة .

ص: 34

وحلّه : أنّ المستصحب هو الحكمُ الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ، فانّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند إنقراض أهل الشريعة الاُولى ، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق

-------------------

وأما الجواب الحلي عنه فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( وحلّه : أنّ المستصحب ) - مثل : ضمان ما لم يجب إذا شك في نسخه - ليس هو الحكم الخاص بجماعة الحاضرين والموجودين ، حتى لم يجر بالنسبة إلى جماعة الغائبين والمعدومين ، بل المستصحب ( هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ) من الحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين من أهل شريعة واحدة أو شريعتين ، فيجري في حقهم جميعا .

إن قلت : كون المستصحب حكما كلّيا يشمل الحاضرين والغائبين ، والموجودين والمعدومين حتى من أهل شريعتين ، إنّما هو لو حدثت الشريعة الثانية مع وجود أهل الشريعة الاُولى ، دون ما إذا حدثت عند إنقراضهم جميعا ، فانه لا يجري في الشريعة الثانية حينئذ .

قلت : إن مجيء الشرائع كان دائما مع وجود بقايا من أهل الشرائع السابقة ، وذلك كما قال : ( فانّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند إنقراض أهل الشريعة الاُولى ) حتى لا يجري حكم الشريعة الاُولى مثل : ضمان ما لم يجب إذا شك في نسخه لأهل الشريعة الثانية ، فان من الواضح : وجود كثير من اُمة عيسى عليه السلام عند حدوث شريعة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإذا كان كذلك جرى الحكم في الشريعة الثانية أيضا .

وإنّما يجري الحكم في الشريعة الثانية أيضا إذا كان كذلك ( إذ لو فرض وجود اللاحقين ) من أهل الشريعة الثانية مثل زماننا هذا ( في السابق ) أي : في زمان

ص: 35

عمّهم الحكم قطعا ، غايةُ الأمر إحتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم .

ومثل : هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات

-------------------

شريعة عيسى عليه السلام قبل مجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( عمّهم الحكم قطعا ) لضرورة إشتراك كل المكلّفين من أهل زمان واحد في شريعة واحدة .

وإلاّ بأن قلنا بعدم إشتراك أهل زمان واحد في شريعة واحدة لأن لاشخاص أهل كل شريعة - مثلاً - مدخلية في أحكامها ، لكان اللازم أوّلاً إنقراض أهل شريعة عيسى عليه السلام ثم حدوث شريعتنا أو وجود شريعتين في زمان واحد ، وكلاهما خلاف الأدلة .

والحاصل : ان الشك قد يكون من جهة الرافع ، كالشك في ان الأحكام السابقة نسخت بسبب الشريعة اللاحقة أم لا ؟ وقد عرفت جوابه .

وقد يكون الشك من جهة المقتضي كالشك في ان أحكام الشريعة السابقة كانت خاصة باُمة عيسى عليه السلام أم لا ؟ وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( غايةُ الأمر إحتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة ) ككونهم اُمة عيسى عليه السلام - مثلاً - ( في موضوع الحكم ) مثل الحكم بضمان ما لم يجب أو غيره من الأحكام التي نريد إستصحابها، ومعه لا يجري الاستصحاب .

لكن فيه : ان هذا الاحتمال أيضا لا يكون مانعا عن الاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما يكون عند الشك في الموضوع من جهة تغيّر بعض خصوصياته، ولذا قال المصنِّف : ( ومثل : هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات ) لأنه لو لم يحصل في الزمان الثاني تغيّر في خصوصية من خصوصيات الموضوع السابق أصلاً ، لم يطرء شك لاحق أبدا .

ص: 36

بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع .

وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسك به ،

-------------------

( بل ) لقدح ذلك ( في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع ) أي : بأن لا يجري الاستصحاب إلاّ مع الشك في الرافع دون الشك في المقتضي ، وذلك لأن الشك في الرافع وحده لا يرجع إلى تغيّر في الموضوع ، بينما الشك في المقتضي فهو يرجع دائما إلى تغيّر ما في الموضوع .

وعليه : فاحتمال مدخلية كونهم من اُمة عيسى عليه السلام في موضوع الحكم لا يقدح في إستصحاب ذلك الحكم وإثباته في حق هذه الاُمة .

ثم إن صاحب الفصول على ما عرفت : جعل إختلاف الأشخاص في الشريعتين مانعا عن إستصحاب أحكام الاُمة السابقة إلى الاُمة اللاحقة ، لتغاير الموضوع وأيد ذلك بتمسك الأصحاب في تسرية حكم الحاضرين إلى الغائبين بالاجماع والأخبار الدالة على إشتراك التكليف ، لا بالاستصحاب ، فأجاب المصنِّف عنه بقوله : ( وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين ) في مجلس الخطاب ( إلى الغائبين ) عن مجلس الخطاب بالاجماع والأخبار فهو لما يلي :

أولاً : لأن مع التمسك بالاجماع والأخبار لم يبق شك ، وإذا لم يبق شك ( فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسك به ) أي : بالاستصحاب لاثباته ، إذ شركة الجميع في الحكم ثابت بالاجماع والأخبار ومعه لا شك حتى يجري فيه الاستصحاب .

ثانيا : ان ما نحن فيه من تسرية حكم الحاضرين إلى الغائبين مع كونهما في زمان واحد لا ربط بمجرى الاستصحاب رأسا ، لوضوح : ان مجرى الاستصحاب

ص: 37

لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين ، والغائبين ، ليس بالزمان ، ولعلّه سهو من قلمه قدس سره .

وأمّا التسريةُ من الموجودين إلى المعدومين فيمكن التمسك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم أو باجرائه فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين

-------------------

هو ما كان المتيقن والمشكوك مختلفان من حيث الزمان ، بينما الحاضر في مجلس الخطاب والغائب عنه ليسا مختلفين من حيث الزمان لفرض إنهما من أهل زمان واحد ، وإنّما هما مختلفان من حيث الحضور والغيبة ، وذلك كما قال : ( لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين ، والغائبين ، ليس بالزمان ) كما عرفت ( ولعلّه سهو من قلمه قدس سره ) وهو واضح .

هذا ( وأمّا التسرية من الموجودين ) في حال الخطاب ( إلى المعدومين ) حال الخطاب ( فيمكن التمسك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم ) أي : انا إذا لم نقل بانه لا شك فلا حاجة للاستصحاب ، لأن الأحكام ثابتة للكل بالنص والاجماع والضرورة ، فانه يمكن أن نقول : على فرض الشك يجري الاستصحاب وذلك بأحد وجهين :

الأوّل : بأن يكون المستصحب - كما مرّ - هو الحكم الكلي الذي لا دخل لأشخاص الموجودين فيه ، فيتعدى الحكم من الموجودين إلى المعدومين بالاستصحاب .

والثاني : ( أو باجرائه ) أي : باجراء الاستصحاب ( فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ) أي : بأن يدرك الجماعتين وذلك على تقريب مدرك الشريعتين .

ص: 38

ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة .

ومنها ما إشتهر : من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع فلا يجوز الحكم بالبقاء .

وفيه : أنّه إن اُريد نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ،

-------------------

( و ) عليه : فاذا تم الحكم بالنسبة إلى مدرك الجماعتين : الموجودين والمعدومين ، فانه ( يتمّ الحكم في المعدومين ) ممن لم يدرك الجماعتين أيضا ، وذلك ( بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ) فيكون حكم المعدومين حكم الموجودين بأمرين :

الأوّل : إثبات الحكم لمن أدرك الجماعتين : الموجودين والمعدومين بالاستصحاب .

الثاني : إثبات حكم من أدرك لمن لم يدرك ، لضرورة وحدة حكم المدرك وغير المدرك ، وان لم يكن إستصحاب في غير المدرك .

( ومنها ) : أي : من الاشكالات التي اُوردت على إستصحاب الشريعة السابقة ( ما إشتهر : من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ) السابقة ( فلا يجوز الحكم بالبقاء ) بالنسبة إلى أي حكم من أحكام تلك الشرائع .

( وفيه : أنّه إن اُريد نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ) لما نرى من بقاء كثير من أحكام الشرائع السابقة ، مثل : الصلاة والصوم والحج والزكاة وبرّ الوالدين ، وحرمة شرب الخمر ونكاح المحارم والزنا واللواط وما أشبه ذلك ممّا دل عليه الكتاب والسنة والاجماع ، بل العقل أحيانا .

ص: 39

وإن اُريد نسخ البعض فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب .

فان قلت : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلاً منها قليل ، في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره .

قلت :

-------------------

( وإن اُريد نسخ البعض ) من أحكام الشريعة السابقة ( فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ) نسخه مثل : نسخ صوم الوصال ، وصوم الصمت ، وما أشبه ذلك ( فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب ) فيما إذا فرض ان دليل تلك الأحكام في الشرائع السابقة ، لم يكن كافيا للبقاء حتى يشمل هذه الاُمة بنفسه .

( فان قلت ) : الاستصحاب يتنافى مع علمنا الاجمالي بنسخ شريعتنا لكثير من أحكام الشرائع السابقة ، وذلك لأن من الواضح ان الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الاجمالي ، كما لا يجري أصالة الطهارة في أطراف المشتبه بالنجس من الانائين ونحوهما .

إذن : ( إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلاً منها قليلٌ في الغاية ) فلا نعلم بالمنسوخ من الأحكام علما تفصيليا حتى نستصحب فيما عداه وإذا فقد العلم التفصيلي بأكثر المنسوخ ( فيعلم ) علما إجماليا ( بوجود المنسوخ في غيره ) أي : في غير علم بالتفصيل نسخه ، فيبقى العلم الاجمالي في الباقي فيمنع من جريان الاستصحاب في كل حكم يشك في بقائه وعدم بقائه للنسخ ، لأنه يكون حينئذ من أطراف العلم الاجمالي .

( قلت ) : أولاً : لا نسلم العلم الاجمالي بوجود المنسوخ في غير ما علم نسخه،

ص: 40

لو سلّم ذلك لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ، لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ، سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها غيرُ محتاج إليها ،

-------------------

لأن العلم الاجمالي بوجود المنسوخ في الشرائع السابقة إنحل بسبب علمنا بمجموعة من المنسوخات الخاصة ، فهو مثل : ما إذا علم إجمالاً بوجود موطوئات في القطيع ، ثم علم بوجود عشرة من الموطوئات ، فان الباقي حلال لأنه لا يعلم لا تفصيلاً ولا إجمالاً بوجود الموطوء في الباقي .

هذا أولاً ، وثانيا : ( لو سلّم ذلك ) العلم الاجمالي بوجود المنسوخ فانه ( لم يقدح ) هذا العلم ( في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ) وذلك لأن المنسوخ وان لم ينحصر في المقدار الذي علمناه من موارد النسخ ، لكن يحتمل إنحصاره بين الأحكام المعلومة لنا في هذه الشريعة .

مثلاً : ان في هذه الشريعة ثبت بوجوب الصيام والزكاة وبرّ الوالدين وغير ذلك من الأحكام المعلومة لنا ، فنضمّ هذه الأحكام التي تكفينا عن الأحكام المشابهة لها من الشريعة السابقة مع ما علمنا بنسخه من أحكام الشريعة السابقة فيوجب إنحلال علمنا الاجمالي بالنسبة إلى الباقي ، فنجري أصالة عدم النسخ في الحكم المشكوك الذي نريد إستصحابه مثل : ضمان ما لم يجب .

وإنّما لم يقدح العلم الاجمالي على فرض وجوده في إجراء عدم النسخ في المشكوك نسخه ( لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ) بها ( سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها ) أي في الأحكام المعلومة في شرعنا ( غيرُ محتاج إليها ) فانا لا نحتاج إلى أصالة عدم النسخ

ص: 41

فيبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض ، لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه ، فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر .

-------------------

فيها بعد العلم بها فلا يجري الاستصحاب بالنسبة إليها ، لأنها معلومة الحكم فلا شك ، فلا حاجة للاستصحاب .

وعليه : ( فيبقى أصالة عدم النسخ ) بعد ضم الأحكام المعلومة إلى ما علم نسخه ( في محلّ الحاجة ) وهو المورد المشكوك نسخه الذي نريد إستصحابه ( سليمة عن المعارض ) .

وإنّما يبقى الأصل سليما عن المعارض فيجري ( لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا ) لكونه خارجا عن محل الابتلاء ، أو مضطرا إليه ( أو لم يحتج إليه ) لأن الحكم معلوم لا شك فيه كما في الأحكام المعلومة في شرعنا ( فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ) لعدم وجود المعارض فيه .

مثلاً : إذا كنا نملك قطيعا نعلم بأن بعضه موطوء فعثرنا على خمس شياه موطوئة وبقي العلم الاجمالي ، ثم قال المولى إجتنب هذه العشر شياه ، إنحل العلم الاجمالي ، لأنا لا نعلم بوجود شياه موطوئة في القطيع غير هذه الخمس عشرة شاة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانا حيث نعلم بالنسخ في جملة من أحكام الشريعة السابقة ، وعثرنا على خمسة أحكام منسوخة فيها ، ثم قال الشارع : إلتزم بهذه العشرة أحكام فعلاً أو تركا ، إنحل العلم الاجمالي لأنا لا نعلم بوجود أحكام منسوخة غير هذه الخمسة عشر حكما ، فيكون الباقي المشكوك نسخه مجرى للاستصحاب .

ص: 42

ولأجل ما ذكرنا إستمر بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتى يطّلعوا على الخلاف .

إلاّ أن يقال : إنّ ذلك كان قبل إكمال شريعتنا . وأمّا بعده فقد جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بجميع ما يحتاج إليه الاُمة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ، فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ، لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين .

-------------------

( ولأجل ما ذكرنا ) : من صحة إستصحاب أحكام الشريعة السابقة إذا لم نعلم بنسخ تلك الأحكام التي نريد إستصحابها نرى قد ( إستمر بناء المسلمين في أول البعثة ) النبوية للرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على الاستمرار على ما كانوا عليه ) من أحكام الشرائع السابقة (حتى يطّلعوا على الخلاف) ويعلموا بنسخ تلك الأحكام .

( إلاّ أن يقال : إنّ ذلك ) الاستصحاب ( كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده فقد ) قال تعالى في كتابه الحكيم : « اليوم أكملت لكم دينكم » (1) وقد ( جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بجميع ما تحتاج إليه الاُمة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ) حتى قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه (2) .

وعليه : ( فنحن ) بعد أن إكتمل الدين ( مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم ) الذي قرّره الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( موافقا أم مخالفا ) للشرائع السابقة ( لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين ) ومعه فلا مجال للاستصحاب .

ص: 43


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 ونظيره في مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

ولكن يدفعه : أنّ المفروض حصولُ الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم اللّه السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا ، فالأمر أوضح ، لكونه

-------------------

وإنّما لا مجال للاستصحاب لأن الأحكام السابقة امّا قد قرّرتها شريعتنا وامّا قد رفضتها ، واللازم علينا ان نعلم ان الحكم الذي كان في الشريعة السابقة قرّر حتى نأخذ به ، أو رفض حتى نتركه ، لا ان نستصحب حكم الشريعة السابقة ، فالمقرّر من أحكام الشريعة السابقة إنّما نأخذ به لأن شرعنا قرّره ، وليس للاستصحاب ، فلا مجال إذن للاستصحاب .

( ولكن يدفعه : أنّ المفروض ) هو انا نستصحب نفس الحكم لا نستصحب ما جاء به عيسى عليه السلام ، ونفس الحكم ليس من مقوّماته مجئعيسى به ، فإذا إستصحبنا نفس الحكم حصل لنا الظن ببقاء حكم اللّه سبحانه وتعالى ، فان قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن كان هذا الاستصحاب حجة .

وإنّما كان هذا الاستصحاب حجة ، لأن المفروض ( حصولُ الظنّ المعتبر من الاستصحاب ) ظنا ( ببقاء حكم اللّه السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وذلك لأن الظن بكونه حكم اللّه يوجب الظن بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم للتلازم بين الظنين .

هذا ( ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا ، فالأمر أوضح ) لأن الشارع قد أمر بابقاء ما كان ونحن نبقي حكم الشريعة السابقة إلى هذه الشريعة بأمر الشارع هذا ، فيثبت كون الحكم المستصحب من أحكام هذه الشريعة .

وإنّما يكون الأمر على الاستصحاب تعبدا أوضح ( لكونه ) أي : الاستصحاب

ص: 44

حكما كلّيا في شريعتنا بابقاء ما ثبت في السابق .

ومنها ما ذكره في القوانين : من : « أنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار » .

-------------------

حينئذ ( حكما كلّيا في شريعتنا بابقاء ما ثبت في السابق ) من شريعة عيسى عليه السلام - مثلاً - فنبقيه بحكم شريعتنا حكما لنا .

وإن شئت قلت : ان الشارع قال : أبق ما كان على ما كان ، وهذا الحكم كان ، فنبقيه حكما لنا بحكم شريعتنا ، وكذا العقل قال : اعمل بالظن ، وهذا المستصحب مظنون فنعمل به .

( ومنها ) : أي : من الاشكالات التي اُوردت على إستصحاب الشريعة السابقة ( ما ذكره في القوانين : من : « أنّ جريان الاستصحاب ) في الشرائع السابقة ( مبني على القول بكون حسن الأشياء ) وكذلك قبحها ( ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار » (1) ) أي : ان الاستصحاب في الشرائع السابقة يجري في صورة ، دون صورة اُخرى .

أما الصورة التي يجري فيها الاستصحاب فهو على القول بكون حسن الأشياء وقبحها ذاتيا ، فما كان في الشريعة السابقة حسنا أو قبيحا ، يكون في هذه الشريعة أيضا حسنا أو قبيحا ، فيستصحب حكم الشريعة السابقة ، فهذه هي الصورة التي يجري فيها الاستصحاب .

وأما الصورة التي لا يجري فيها الاستصحاب فهو على القول بكون حسن الأشياء وقبحها بالوجوه والاعتبارات فان ما كان في السابق حسنا ، فلعله لأنه كان

ص: 45


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص53 .

وفيه : أنّه إن اُريد ب «الذاتي» : المعنى الذي ينافيه النسخ ، وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ،

-------------------

في زمان موسى أو عيسى كان حسنا ، وكذلك بالنسبة إلى القبيح ، فلا يمكن ان نستصحب ما كان مأمورا به ولا ما كان منهيا عنه في السابق إلى الحال ، وذلك لاختلاف الفعل في الحسن والقبح ، باختلاف الأزمنة والأمكنة والشرائط والخصوصيات ، وهذه هي الصورة التي لا يجري فيها الاستصحاب .

هذا ، ولكن حيث ان القول بكون حسن الأشياء وقبحها ذاتيا يستلزم إمتناع النسخ ، بينما وقوع النسخ ضروري ، فاللازم هو القول : بأن الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، وإذا كان بالوجوه والاعتبارات ، فلا يجري إستصحاب أحكام الشريعة السابقة .

( وفيه : أنّه إن اُريد ب «الذاتي» : المعنى الذي ينافيه النسخ ) وهو ما كانت الطبيعة فيه علة تامة للحسن والقبح ، بحيث لا يتغيّر بزيادة أو نقيصة إطلاقا كالصدق النافع والكذب الضار ، فان مثل هذا الحسن والقبح ينافي النسخ ، لأنّ النسخ هو رفع الحكم بالحسن والقبح ، ولا يعقل رفع المعلول وهو الحكم بالحسن والقبح مع وجود علته التامة وهي طبيعة الصدق النافع وطبيعة الكذب الضار .

وعليه : فان اُريد بالذاتي هو هذا المعنى ، فانه يتنافى مع النسخ ، وحيث إنه يتنافى مع النسخ أبطلوه كما قال : ( وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ) فانه حيث كان النسخ موجودا في الشريعة كان دليلاً على بطلان هذا المعنى .

ولكن بطلان هذا المعنى لا يستلزم بطلان الاستصحاب كما إدعاه صاحب القوانين ، بل صحته يستلزم بطلان الاستصحاب ، وذلك لأنه على هذا المعنى نقطع، بعدم النسخ، فلا شك فيه حتى نحتاج إلى إثبات عدم النسخ بالاستصحاب .

ص: 46

فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع .

وان اُريد غيره ، فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ، فانّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة .

-------------------

وعليه : ( فهذا المعنى ) للحسن والقبح ( ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه ) أي : عن الاستصحاب ( للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع ) ونسخ الحكم حتى يحتاج إلى الاستصحاب .

( وان اُريد ) بالذاتي ( غيره ) أي : غير هذا المعنى الذي هو ما كانت الطبيعة فيه علة تامة للحسن والقبح ، بل اُريد به معنى آخر ، وهو كون الفعل مقتضيا للحسن والقبح ، كما في الصدق والكذب حيث أحيانا ينضم إلى الصدق ما يجعله قبيحا ، وإلى الكذب ما يجعله حسنا ، فان اُريد به هذا المعنى فهو كالقول بالوجوه والاعتبارات من حيث المعنى .

إذن : ( فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ) من حيث المعنى ، وإذا كان كذلك لزم القول على ما يدعيه صاحب القوانين بعدم الاستصحاب لأنه كما كان القول بالوجوه مانعا عن الاستصحاب عنده ، كذلك القول بالذاتي يكون مانعا عن الاستصحاب ، فلا إستصحاب إذن مطلقا .

لكن يردّه : ان صاحب القوانين نفسه مع قوله بالوجوه والاعتبارات في باب حسن الأشياء وقبحها يقول بجريان الاستصحاب في هذه الشريعة ممّا يكشف عن عدم كونه مانعا ( فانّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة ) إطلاقا ، بينما هو يقول بالاستصحاب ، فقوله

ص: 47

...

-------------------

بالاستصحاب دليل على عدم مانعيته له .

قال الأوثق في توضيح إشكال المصنِّف على القوانين : «ان الحسن الذاتي يطلق تارة على ما كانت الطبيعة فيه علة تامة له ، كحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب المضرّ ، واُخرى على ما كانت الطبيعة فيه مقتضية له ، بأن كانت فعلية الحسن مشروطة بوجود شرط مفقود أو فقد مانع موجود ، والفرق بينه وبين القول بالوجوه والاعتبار : ان الحسن على الثاني قد ينشأه من إقتران الفعل ببعض الاُمور الخارجة وان لم تكن نفس الفعل من حيث هي مقتضية له .

وعلى الأوّل : لا معنى للاستصحاب لقطعه ببقاء الحكم حينئذ ، وعلى الثاني : لا وجه لمنع جريانه ، لفرض صلاحية حسن الفعل للبقاء والارتفاع ببعض الاُمور الخارجة ، وإذا قلنا بجريانه على الثاني : فلابد أن نقول بجريانه على الثالث أيضا ،

لاشتراك العلة ، وإذا قلنا بعدم جريانه على الثالث : لم يتحقق له مورد أصلاً ، لأن حسن المستصحب ان كان ذاتيا بالمعنى الأوّل ، فقد عرفت : عدم جريان الاستصحاب معه ، وان كان ذاتيا بالمعنى الثاني فقد عرفت : عدم الفرق بينه وبين القول بالوجوه من هذه الجهة ، وإذا كان القول بالوجوه مانعا منه فلابد أن يكون القول بالذاتية بالمعنى المذكور أيضا كذلك ، فلا يبقى مورد للاستصحاب أصلاً » (1) .

أقول : وربما يدفع إشكال صاحب القوانين بما ملخصه : بأن صاحب القوانين لو منع عن الاستصحاب في الشريعة السابقة لزم عليه منع الاستصحاب في هذه الشريعة أيضا ، لكنه حيث يقول بالاستصحاب في هذه الشريعة ، فاللازم عليه

ص: 48


1- - أوثق الوسائل : ص504 التنبيه الخامس فيما اذا كان المستصحب من أحكام الشريعة السابقة .

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشك تبعا لتمهيد القواعد ثمرات .

منها : إثبات وجوب نيّة الاخلاص في العبادة ، بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب : « وما اُمِروا إلاّ ليعبُدوا اللّه َ مخلصينَ له الدينَ

-------------------

أن يقول به بالنسبة إلى الشريعة السابقة أيضا للتلازم بينهما .

( ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشك ) في انه باق إلى شريعتنا أم لا ؟ رتبوا عليه ( تبعا لتمهيد القواعد ثمرات ) تالية :

( منها : إثبات وجوب نية الاخلاص في العبادة ) وذلك فيما إذا قلنا باستصحاب الشرائع السابقة لقول اللّه تعالى عنهم : « وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حُنفاء » بخلاف ما إذا لم نقل باستصحاب الشرائع السابقة ، فإنه مع إنتفاء الاستصحاب لا يعتبر الاخلاص في العبادة ، بل تكفي العبادة حتى مع شوبها بالرياء والسمعة وما أشبه ذلك .

أقول : لا يخفى ان الاخلاص في العبادة لم يشترط في شريعتنا بسبب إستصحاب ما تفيده الآية المباركة : من إشتراطه في الاُمم السابقة ، بل الاخلاص مشروط في شريعتنا بسبب متواتر الروايات الدالة على ذلك ، فسواء قلنا باستصحاب الشريعة السابقة ، أم لم نقل به ، يجب علينا الاخلاص في العبادة .

وكيف كان : فقد جعلوا من ثمرات جريان الاستصحاب في الشرائع السابقة : لزوم الاخلاص في العبادة علينا ، إحتجاجا ( بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب ) في اُممهم السابقة : ( « وما اُمِروا إلاّ ليعبُدوا اللّه َ مخلصينَ له الدينَ» ) أي: يجب عليهم أن يخلصوا الدين للّه تعالى ، فلا يشركوا معه غيره من الأوثان وسائر المعبودات .

ص: 49

حُنفاء ويقيمُوا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلكَ دينُ القيّمة » .

ويرد عليه - بعد الاغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الاخلاص

-------------------

( « حُنفاء » ) وهذا حال عن الفاعل في ليعبدوا ، وهو جمع حنيف مثل : شرفاء جمع شريف ، والمراد بالحنيف المائل عن الشيء ، فان الكفار لما كانوا على طريقة منحرفة ، فالمائل عن تلك الطريقة المنحرفة يكون حنيفا ويستلزمه ان يكون مستقيما ، فيكون قوله : « حنفاء » تأكيدا لقوله : « ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين » ، لوضوح : ان من يعبد اللّه مخلصا يكون حنيفا أيضا .

( « ويقيمُوا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلكَ دينُ » ) الملّة ( « القيّمة » (1) ) فان قوله : « القيّمة » صفة محذوف مثل : الملّة والطريقة وما أشبه ذلك على قول جماعة من المفسّرين ، فهو مثل قول الفقهاء : الرهن وثيقة الدَّين ، فان الوثيقة مؤنّثا لا يكون صفة للرهن وهو مذكّر ، بل الوثيقة صفة مؤنث محذوف هي العين ، يعني : ان الرهن عين وثيقة للدَّين .

وعلى أي حال : فقد إستدلوا بالآية الشريفة على حكمين :

الأوّل : ان جميع ما في الشرع هو تعبّدي لا توصلي إلاّ ما خرج بالدليل .

الثاني : انه يلزم فيها مضافا إلى قصد القربة خلوص النية عن الرياء ونحوه .

ثم انهم سحبوا هذين الحكمين من الشريعة السابقة بسبب الاستصحاب إلى شريعتنا وجعلوهما من ثمرات الاستصحاب .

( ويرد عليه ) أي : يرد على هذا الاستدلال إشكالات أربعة أشار إليها المصنّف على النحو الآتي : ( بعد الاغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الاخلاص

ص: 50


1- - سورة البيّنة : الآية 5 .

بمعنى : القربة في كلّ واجب ، وإنّما تدلّ على وجوب عبادة اللّه خالصة عن الشرك وبعبارة اُخرى وجوب التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه - أنّ الآية إنّما تدلّ على إعتبار الاخلاص ، في واجباتهم فان وجبت علينا ، وجب فيها الاخلاص

-------------------

بمعنى : القربة في كلّ واجب ) من فروع الدين حتى يكون الأصل في الواجبات الفرعية هو التعبّدية ( وإنّما تدلّ ) الآية ( على وجوب عبادة اللّه خالصة عن الشرك ) باللّه ، وهو معنى التوحيد ، فالآية إذن تدل على أصل من اُصول الدين وهو التوحيد في العبادة .

( وبعبارة اُخرى ) : الآية تدل على أحد أركان اُصول الدين فقط وهو ( وجوب التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه ) في كتاب الطهارة .

إذن : فليس معنى الآية المباركة هو : أصالة التعبّدية في كل واجب إلاّ ما خرج ، ولا وجوب الاخلاص في العبادات ، بل تدل الآية على معنى ثالث وهو : لزوم التوحيد ، فلا يستفاد الاستصحاب من الآية ، وذلك لأن المعنيين الأولين لا دلالة للآية عليهما ، والمعنى الثالث وهو عدم الشرك باللّه فانه ثابت بالنسبة إلينا ، فلا حاجة إلى الاستصحاب .

الثاني : سلّمنا ان الآية ليست بصدد المعنى الثالث ، لكن نقول : ترتيب المحمول وهو : الاخلاص فرع على إحراز الموضوع وهو : كون الواجب عبادة ، وذلك ( أنّ الآية إنّما تدلّ على إعتبار الاخلاص في واجباتهم ) العبادية ( فان وجبت ) تلك العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة وما أشبه ذلك ( علينا ، وجب فيها الاخلاص ) علينا أيضا .

ص: 51

لا على وجوب الاخلاص عليهم في كلّ واجب .

وفرقٌ بين وجوب كلّ شيء عليهم لغاية الاخلاص وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كلّ واجب .

وظاهر الآية هو الأوّل ، ومقتضاه : أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ،

-------------------

هذا هو مدلول الآية ( لا ) ان الآية تدل ( على وجوب الاخلاص عليهم في كلّ واجب ) وان لم يكن عبادة حتى يكون دليلاً على ان الأصل في الواجبات هو التعبدية ، فالآية إذن لا تدل على أصالة التعبّدية في كل واجب ، وإنّما تدل على معنى آخر ، وهو : ان الاخلاص واجب عليهم في عبادتهم .

الثالث : بالفرق بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية وذلك كما قال ( وفرقٌ بين وجوب كلّ شيء ) أي : كل واجب عبادة كان وغير عبادة ، فانه يجب ( عليهم لغاية الاخلاص ) وهو حيث تعليلي يعني : حتى يحصلوا نتيجة إتيانهم بهذه الواجبات على الاخلاص فيصبحوا مخلصين للّه تعالى وهذا هو مفاد الآية عند المصنِّف .

( وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كلّ واجب ) وهو حيث تقييدي يعني : انهم إذا لم يقصدوا الاخلاص في الواجبات عبادة كانت أو غير عبادة لم يقبل ذلك الواجب منهم ، ممّا يدل على أصالة التعبدية في الواجبات ، وهذا هو المعنى الذي لم يرتضه المصنِّف ولذلك قال :

( وظاهر الآية هو الأوّل ) أي : وجوب كل شيء عليهم لغاية الاخلاص ( ومقتضاه : أنّ تشريع الواجبات ) على اُولئك الأقوام إنّما كان ( لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ) فانه إنّما أوجب اللّه عليهم الواجبات لأجل

ص: 52

ومرجع ذلك إلى كونها لطفا .

ولا ينافي ذلك كون بعضها بل كلّها توصّليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة .

-------------------

حصولهم على الاخلاص للّه سبحانه وتعالى ، مثل : إيجاب التمرينات الرياضية على الناس لأجل حصولهم على القوة الجسدية - مثلاً - .

( ومرجع ذلك ) أي : ما ذكرناه من قولنا : ومقتضاه ان تشريع الواجبات لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ( إلى كونها ) أي : كون الواجبات ( لطفا ) من اللّه تبارك وتعالى على عباده ، وذلك حسب ما فهمه المصنِّف من هذه الآية المباركة .

وعليه : فان اللّه تعالى أراد أن يتقرّب إليه عبادة قربا معنويا ، وحيث ان ذلك القرب لا يحصل إلاّ بالاخلاص النفسي ، والاخلاص النفسي لا يحصل إلاّ بالعبادة ، أوجب عليهم العبادة لحصول الاخلاص ، وأراد الاخلاص لحصول القرب المعنوي إليه ، فهو كما إذا أراد الملك الغلبة على أعدائه ، والغلبة لا تحصل إلاّ بالقوة الجسدية لأفراد جيشه والقوة الجسدية لا تحصل فيهم إلاّ بالتمرينات الرياضية في كل يوم ، فيوجب عليهم الرياضة كل يوم ويقول : ما أمرتهم بالرياضة إلاّ لأجل الغلبة على الأعداء .

( و ) من المعلوم : انه ( لا ينافي ذلك ) الذي ذكرناه : من الواجبات لغاية الحصول على الاخلاص ( كون بعضها ) أي : بعض الواجبات ( بل كلّها توصّليّا ) كتطهير النجس - مثلاً - ممّا ( لا يعتبر في سقوطه قصد القربة ) فان القرب منه سبحانه يحصل بالاخلاص ، والاخلاص يحصل بالواجبات ، فمن أين يستدل بهذه الآية على وجوب قصد القربة في كل واجب حتى يقال بأصالة التعبّدية

ص: 53

ومقتضى الثاني كون الاخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ، وهو المطلوب .

هذا كلّه مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : « وذلك دينُ القيّمة »

-------------------

في تلك الاُمم ، ثم تستصحب إلى اُمتنا ؟ .

هذا كله مقتضى المعنى الأوّل الذي أشار إليه المصنِّف بقوله : «فرق بين وجوب كل شيء عليهم لغاية الاخلاص» وهو الذي قد إرتضاه المصنِّف .

( و ) اما ( مقتضى الثاني ) الذي أشار إليه المصنِّف بقوله : « وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كل واجب » ، فان مقتضاه الذي لم يرتضه المصنِّف هو : ( كون الاخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ) ممّا يدل على أصالة التعبدية في الواجبات ، فلا واجب توصلي حتى يسقط بدون قصد القربة إلاّ ما خرج بالدليل .

( و ) عليه : فيكون هذا المعنى الثاني ( هو المطلوب ) للمستدل ، حيث ان المستدل أراد أن يستدل بهذه الآية منضما إلى الاستصحاب بانه لا يسقط واجب من الواجبات في هذه الشريعة إلاّ بقصد القربة إلاّ ما خرج بالدليل ، فاذا شك في واجب انه تعبدي أو توصلي ، فالأصل هو التعبّدية ، ولكن هذا المعنى - كما أشرنا إليه - خلاف ظاهر الآية عند المصنِّف .

( هذا كلّه ) هو تمام الاشكالات الثلاثة على الاستدلال بالآية المباركة لاثبات أصالة التعبّدية ووجوب إخلاص النية في هذه الشريعة ، وأما رابع الاشكالات فهو ما أشار إليه بقوله : الرابع : إحتمال معنى الثابتة لكلمة : «القيّمة» كما قال : ( مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » (1) ) فإنه

ص: 54


1- - سورة البينة : الآية 5 .

بناءا على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ .

-------------------

مع وجود هذه التتمة للآية المباركة لا نحتاج إلى الاستصحاب حتى نسحب ما في تلك الشريعة إلى شريعتنا .

وإنّما يكفي في ثبوت الحكم في هذه الشريعة تتمة الآية المباركة ( بناءا على تفسيرها ) أي : تفسير القيّمة ( بالثابتة التي لا تنسخ ) فإذا كان الثابت في الشريعة السابقة هو التعبدية في كل واجب والاخلاص في النية ، فهو ثابت علينا أيضا ، بقوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » بلا حاجة إلى الاستصحاب ، لأن قوله سبحانه : « وذلك » إشارة إلى صدر الآية : « وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخصلين له الدين » .

والمتحصّل من إشكالات المصنِّف على القائلين بالاستصحاب ، لأجل إثبات ما أفادة الآية : من وجوب الاخلاص في نية العبادة وأصالة التعبدية في كل واجب هو : ان الآية المباركة لا تدل على ذلك ، وعلى فرض دلالتها فانها تدل على وجوب الاخلاص في العبادة فقط دون أصالة التعبدية في الواجبات ، وعلى تسليم دلالتها على وجوب الاخلاص عليهم في العبادات ، لا حاجة في إثباته علينا بالاستصحاب لأن معنى دين القيمة : الدين الذي لا ينسخ ، فعدم النسخ يدل على وجوب الاخلاص علينا بدون حاجة إلى الاستصحاب .

أقول : والظاهر من الآية المباركة هو : وجوب الاخلاص عليهم في عباداتهم لأنهم اُمروا بالعبادة عن اخلاص ، فتدل الآية على وجوب الاخلاص في العبادة فقط ، ولا تدل على أصالة التعبّدية في كل واجب ، غاية ما هناك ان الاشكال الأخير من المصنِّف وارد عليه ، إذ ظاهر قوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » (1) انه الدين الذي لا محيد عنه ، ويفهم منه بقائه في كل الشرائع قديما وحديثا ، قبل أهل

ص: 55


1- - سورة البينة : الآية 5 .

ومنها : قوله تعالى ، حكايةً عن مؤذّن يوسف عليه السلام : « ولِمَن جاء به حِملُ بعيرٍ وأنا بهِ زعيمٌ » فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة ، وعلى جواز ضمان ما لم يجب .

وفيه : أنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ،

-------------------

الكتاب ، وبعد أهل الكتاب ، فيكون ذلك ديننا أيضا .

( ومنها : قوله تعالى حكايةً عن مؤذّن يوسف عليه السلام ) كما هو مشهور حيث أعلن فيهم فقدان ما يكال به الأطعمة أعني : صواع الملك ثم قال ( « ولِمَن جاء

به » ) أي : بصواع الملك ( « حِملُ بعير » ) أي : ما يحمله البعير طعاما ( « وأنا به » ) أي : بوفاء ذلك ( « زعيمٌ » (1) ) أي : ضامن ، وهذا يدل على أمرين :

أولاً : ( فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة ) بتقريب : ان حمل البعير مجهول قدرا وان كان معلوما جنسا حسب القرائن التي كانت في تلك الأزمنة ، لكن جهالة المقدار تتعدى إلى جهالة الجنس أيضا ، فيكون مال الجعالة مجهولاً نتيجة ، فيدل على جوازه عندهم ، ونثبت جوازه عندنا بالاستصحاب .

( و ) ثانيا : دل ( على جواز ضمان ما لم يجب ) بتقريب : ان مال الجعالة لم يجب على الجاعل ولم يستقر في ذمته قبل العمل ، فاذا ضمنه المؤذّن فقد ضمن ما لم يجب ، فكان من ضمان ما لم يجب ، فيدل على جوازه عندهم ونثبته علينا بالاستصحاب .

( وفيه ) أولاً : ( أنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ) بحسب القرائن المتعارفة في ذلك الزمان ومعه لا يكون دليلاً على جواز الجهالة في الجعالة .

ص: 56


1- - سورة يوسف : الآية 72 .

مع إحتمال كونه مجرّد وعدٍ ، لا جعالةً ، مع أنّه لا يثبت الشرعُ بمجرّد فعل المؤذّن ، لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذنُ يوسف على نبينا وآله وعليه السلام في ذلك ، ولا تقريره .

ومنه يظهر : عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف .

ولا بأس بذكر معاملة فاسدة

-------------------

وفيه ثانيا : ( مع إحتمال كونه ) أي : قول المؤذّن ( مجرّد وعدٍ لا جعالةً ) حتى يستدل بجواز الجهالة في مال الجعالة فلا يكون إذن دليلاً عليه .

وفيه ثالثا : ( مع أنّه لا يثبت الشرعُ بمجرّد فعل المؤذّن ) أو قوله ( لأنّه غير حجّة ) وإنّما الحجة ، هو قول الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام مع فعلهم وتقريرهم .

إن قلت : لعله حصل على إذن من يوسف عليه السلام ، وتقرير بعده .

قلت : ( ولم يثبت إذن ) قبلي من ( يوسف على نبينا وآله وعليه السلام في ذلك ، ولا تقريره ) بعده .

وفيه رابعا : انه يظهر من إشكال عدم ثبوت شرعية جعالة المؤذن عدم ثبوت شرعية ضمانه أيضا ، كما قال : ( ومنه يظهر : عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور ) أي : ضمان ما لم يجب ، وإذا لم يثبت شرعيته فلا يكون دليلاً على جوازه .

وفيه خامسا : ( خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان ) في مورد الآية كان ( صوريّا ) لا حقيقيا واقعيا ، وذلك لأنه قد ( قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف ) للتوصل عبره إلى إبقاء بنيامين عند يوسف ، وذلك حسب الاتفاق الذي تمّ بينهما ( و ) مع كون الأمر كلّه صوريا ( لا بأس بذكر معاملة فاسدة ) أي : صورية

ص: 57

يحصل به الغرض مع إحتمال إرادة أنّ الحمل من ماله وأنّه ملتزم به ، فانّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغةً : مطلق الالتزام ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ، فيكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الاُولى ، ودفعا لتوهّم كونه من الملك ، فيصعب تحصيله .

-------------------

أيضا من المؤذّن حتى ( يحصل به الغرض ) المتفق عليه ويتحقق عبره الأمر الصوري .

أقول : والظاهر من الآية المباركة هو : صحة ضمان ما لم يجب عندهم كما إستدل بها الفقهاء أيضا لذلك ، وقد ذكرنا في الفقه صحته عندنا ، وذلك لأنه معاملته عقلائية ، ولم يردع الشارع عنها ، وهو متعارف قديما وحديثا ، فاذا قال : أعطه قرضا وانا ضامن، أو آجره سيّارتك وأنا ضامن ، أو ما أشبه ذلك ، صار ضامنا .

وفيه سادسا : ( مع إحتمال إرادة أنّ الحمل من ماله ) أي : من مال المؤذن ( و ) قوله : «وانا به زعيم» تأكيد له ، فيكون معنى أنا به زعيم : ( أنّه ملتزم به ، فانّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغة : مطلق الالتزام ) بالشيء عن نفسه أو عن غيره ( و ) إذا كانا لغة يشملان النفس والغير ( لم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ) .

إذن : ( فيكون ) المعنى بالنسبة إلى ( الفقرة الثانية ) وهو : «أنا به زعيم» ( تأكيدا لظاهر ) الفقرة ( الاُولى ، ودفعا لتوهّم كونه ) أي : الحمل بعير» ( من الملك ، فيصعب تحصيله ) منه ، وحينئذ لا دلالة على كون الحمل من مال يوسف حتى يكون ضمان المؤذن ضمانا إصطلاحيا لما لم يجب ، لكن مرّ ان الظاهر من الآية هو : الضمان الاصطلاحي .

ص: 58

ومنها : قوله تعالى ، حكايةً عن يحيى عليه السلام : « وسيدا وحصورا ونبيّا من الصالحين » فانّ ظاهره يدلّ على مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا ، أي :

ممتنعا عن مباشرة النسوان . فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج .

وفيه : أنّ الآية لا تدلّ إلاّ على حسن هذه الصفة لما فيه من المصالح ، والتخلّص عمّا يترتّب عليه ، ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة اُخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح الاُخروية ،

-------------------

( ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن يحيى عليه السلام : « وسيدا وحصورا ونبيّا من الصالحين » (1) فان ظاهره ) أي : ظاهر السياق حيث مجئ«حصورا» بين «سيدا» وبين «نبيا» ( يدلّ على مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا ، أي : ممتنعا عن مباشرة النسوان ) .

ومنه يظهر : ان هذه الصفة في كونه حصورا صفة فاضلة ، فتدل الآية على فضيلة إتصاف الانسان بهذه الصفة وتستصحب إلى شريعتنا فتدل الآية على فضل ترك التزويج .

إذن : ( فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج ) ومباشرة النساء .

( وفيه : أنّ الآية لا تدلّ إلاّ على حسن هذه الصفة ) بما هي هي وذلك ( لما فيه من المصالح ، والتخلّص عمّا يترتّب عليه ) من الحقوق الاجتماعية والتكاليف الشرعية ( ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة اُخرى ، أعني : المباشرة ) وتزويج النساء .

وإنّما لا دليل فيه على الرجحان ( لبعض المصالح الاُخروية ) الثابتة

ص: 59


1- - سورة آل عمران : الآية 39 .

فانّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الافطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما .

ومنها : قوله تعالى : « وخُذ بيدك ضِغثا

-------------------

في التزويج ، فقد ورد في الحديث : إنّ من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر (1) ، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة في هذا المجال (2) ، فالتزويج هو الأصل ، والتعفف هو العارض الذي يستحب إذا كان سببا لدفع مضار وجلب منافع ، كما في بعض الأنبياء عليهم السلام مثل عيسى ويحيى ، حيث لم تكن ظروفهم تتحمّل الجمع بين التبليغ وإدارة اُمور الزوجة .

وعليه : ( فانّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا ) بالليل ( لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الافطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما ) كالدراسة الدينية ، والكسب للعائلة ، وما أشبه ذلك .

أقول : والظاهر : انه لا مانع من ان نستصحب إستحباب الحصورية بالنسبة إلى شريعتنا لمن إبتلى بما هو أهم ، كالتبليغ الديني وما أشبه ذلك ، وإستطاع أن يحفظ نفسه ، وقد جاء في بعض الروايات : حلّية العزوبة في بعض الأزمنة .

( ومنها : قوله تعالى ) في بيان قصة أيوب عليه السلام حيث حلف على ان يضرب زوجته مائة ضربة ، ثم بدا له المحذور في مثل هذا الضرب فقال له تعالى : ( « وخُذ بيدك ضِغثا » ) وهو مجموعة من الأعواد الصغار كالشمراخ وما أشبه ذلك

ص: 60


1- - الكافي فروع : ج5 ص328 ح2 ، وسائل الشيعة : ج20 ص17 ب1 ح24908 .
2- - وقد تطرّق الامام الشارح الى ما يتعلّق بالزواج وأفضليته وما يتعلّق به من أحكام في موسوعة الفقه ، كتاب الفقه الاسرة وكتاب الفقه النكاح وكذا في كتاب العائلة .

فاضرب به » الآية ، إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضغث .

وفيه : ما لا يخفى .

ومنها : قوله تعالى : « أنّ النّفسَ بالنفس والعينَ بالعين » إلى آخر الآية ،

-------------------

(

« فاضرب به » (1) الآية ) .

وعليه : فان قوله تعالى في هذه الآية ( إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة ) وذلك برّا ليمينه ( بالضرب بالضغث ) فنستصحبه إلى شريعتنا ، فيجوز لمن حلف على ضرب المقصّر مائة ضربة أن يعمل بحلفه بطريق أسهل ، وذلك بأن يضربه بالضغث - مثلاً - .

( وفيه : ما لا يخفى ) لأن اليمين ان كان منعقدا لم يجز التخلف عنه وان لم يكن منعقدا لم يجز العمل به في ضرب الناس حتى ولو كان سوطا واحدا وأقل منه .

أقول : لا إشكال في كون ضربها كان جائزا ، ولذلك إنعقد يمينه عليه السلام ، لكن إنّما وجب عليه ضربها بالضغث للجمع بين الحقين ، لوجود محذور في ضربها بالسياط دون الضغث ، وهذا الحكم يستصحب في شريعتنا أيضا ، وقد ثبت مثل ذلك في حدّ المريض ، كما هو مذكور في كتاب الحدود من الفقه (2) .

( ومنها : قوله تعالى : « أنّ النَّفس بالنفس والعين بالعين » إلى آخر الآية (3)،

ص: 61


1- - سورة ص : الآية 44 .
2- - راجع موسوعة الفقه ج87 - 88 كتاب الحدود والتعزيرات ، للشارح .
3- - سورة المائدة : الآية 45 .

إستدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة .

ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب : « إنّي اُريد أن اُنكِحَكَ إحدَى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني ثمانيَ حِجَجٍ فان أتممتَ عشرا فمِن عندك » .

وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها فلا ثمرة في الاستصحاب .

-------------------

إستدل بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة ) ولكن حيث ان في خصوص هذه المسألة تفصيلاً فقهيا ، نتركه لكتاب القصاص (1) .

أقول : والظاهر من الآية المباركة : ان القصاص كان حكم الاُمّة السابقة في شريعتهم ، وهو أيضا الحكم الجاري في شريعتنا وذلك للنصوص الخاصة عليه عندنا ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب .

( ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب ) عليه السلام ، حيث قال لموسى عليه السلام : ( « إنّي اُريد ان أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرني ثماني حِجَجٍ فان أتممتَ عشرا فمن عندك »» (2) ) وذلك بأن يعمل موسى لشعيب عليهماالسلام ثمان سنوات ، فان ظاهر الآية المباركة جواز جعل المنفعة صداقا في شريعتهم فنثبته في شريعتنا بالاستصحاب.

( وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها ) أي : في المسألة : من ان الصداق يجب ان يكون عينا وذلك على ما ذكره الفقهاء في كتاب النكاح ، وحينئذ ( فلا ثمرة في الاستصحاب ) فان الاستصحاب دليل حيث لا دليل ، فاذا وجد النص الخاص فلا مجال للاستصحاب .

ص: 62


1- - راجع موسوعة الفقه : ج89 كتاب القصاص ، للشارح .
2- - سورة القصص : الآية 27 .

نعم ، في بعض تلك الأخبار إشعارٌ بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لولا المنع عنه ، فراجع وتأمّل .

الأمر السادس :

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن

-------------------

( نعم ، في بعض تلك الأخبار ) الدالة على جواز جعل المنفعة صداقا للمرأة واستشهادها بقصة شعيب ( إشعارٌ بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لولا المنع عنه ) بسبب نسخه بمجيء شريعتنا ( فراجع وتأمّل ) .

والحاصل : ان الظاهر جواز إستصحاب الشرايع السابقة إذا ثبتت في شريعتنا بنص أو إجماع أو ما أشبه ذلك ، ولم يثبت نسخ تلك الشريعة في شريعتنا .

( الأمر السادس ) : في بيان عدم حجية ما إصطلحوا عليه بالأصل المثبت بمعنى : ان الاستصحاب إنّما ينفع في إثبات اللوازم الشرعية للمستصحب ، لا اللوازم العقلية والعادية والعرفية له كما قال :

( قد عرفت ) فيما سبق عند تقريب دلالة الأخبار على إختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ، وهكذا في موارد اُخر من المباحث السابقة : ( أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه ) ليس هو عبارة عن إبقاء نفس اليقين ، لأن نفس اليقين أثر تكويني غير قابل للجعل الشرعي ، وقد إنتقض بسبب الشك ، وكذا ليس هو إبقاء المتيقن واقعا ، لخروجه عن اختيار المكلّف وعدم قبوله الجعل الشرعي وإنّما ( هو ترتيب آثار اليقين السابق ) أي : ترتيب تلك الآثار ( الثابتة بواسطته ) أي : بواسطة اليقين ( للمتيقّن ) فإذا كان - مثلاً - على يقين من الوضوء

ص: 63

ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ، لأنّها القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة .

فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه

-------------------

وشك فيه ، رتب بالاستصحاب الآثار الثابتة لليقين بالوضوء .

( و ) من المعلوم : ان ( وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ) كالآثار الشرعية المجعولة للوضوء - مثلاً - فإذا كان في الصباح على يقين من وضوئه ، ثم شك فيه ظهرا ، إستصحب بقاء وضوئه ، ومعنى إستصحاب وضوئه : ترتيب آثاره الشرعية عليه كجواز الدخول في الصلاة - مثلاً - وهذا إذا كان المستصحب حكما شرعيا ، وإذا كان موضوعا خارجيا كاستصحاب حياة الزوج وعدم موته فمعناه كذلك ترتيب آثاره الشرعية عليه كوجوب نفقة الزوجة - مثلاً - عليه ، وهكذا .

وإنّما لا يعقل ذلك إلاّ في الآثار الشرعية ( لأنّها ) أي : الآثار الشرعية المترتبة من قبل الشارع هي ( القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ) والعرفية .

مثلاً : ان لحياة زيد أثرا عقليا ، هو تنفسه وأثرا عاديا هو نبات لحيته ، وأثرا عرفيا هو توقفه عند الضوء الأحمر مثلاً ، وقد سبق بيان الفرق بين الأخيرين ، فالعادي : ما جرت العادة عليه ، والعرفي : ما لم يشترط فيه جريان العادة عليه؛ إذ قد يكون ما يتعارف عليه شيئا جديدا لم تجر العادة عليه ، كما إذا قرّرت الدولة توقف السيارات عند الضوء الأحمر من هذا اليوم ، فانه عرف وليس بعادة .

وكيف كان : ( فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه ) أي : والمعقول

ص: 64

ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع .

نعم ، لو وقع نفس النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة

-------------------

من إيجاب الشارع وأمره ب- ( ترتيب آثار الحياة في زمان الشك ) في حياة زيد ( هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله ) إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التابعة لحياته .

( لا حكمه بنموّه ) الذي هو أثر عقلي لحياته ( ونبات لحيته ) الذي هو أثر عادي له ، وتوقفه عند الضوء الأحمر - مثلاً - الذي هو أثر عرفي له ، إلى غير ذلك من الآثار غير الشرعية التابعة لحياته .

وإنّما المعقول ترتيب الآثار الشرعية دون العقلية والعادية والعرفية ( لأنّ هذه ) أي : الآثار العقلية والعادية والعرفية ( غير قابلة لجعل الشارع ) بجعل تشريعي ، فان النمو ونبات اللحية وما أشبه ذلك من مجال التكوين ، وليس من مجال التشريع ، فانه وان كان بيد المولى الحقيقي جعل هذه الاُمور جعلاً تكوينيا ، إلاّ ان المقام في المجعولات التشريعية ، لا التكوينية .

( نعم ، لو وقع نفس ) الأثر غير الشرعي مثل : ( النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره ) أي : غير الاستصحاب ( من التنزيلات الشرعيّة ) الاُخرى، ترتب عليهما الأثر الشرعي أيضا فقط .

وإنّما قال : أو غير الاستصحاب من التنزيلات الشرعية ، لأن الاستصحاب هو أيضا تنزيل شرعي ، فقد نزّل الشارع فيه المشكوك بمنزلة المتيقن ، واما تنزيل

ص: 65

أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب .

-------------------

النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب فهو كما إذا نزّل الشارع النمو بمنزلة الولادة ، ونزّل نبات اللحية بمنزلة البلوغ - مثلاً - على غرار : المطلقة الرجعية زوجة .

أمّا مثال وقوع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب ، فهو بأن تتوفر شروط الاستصحاب فيهما : من يقين سابق بالنمو ، ونبات اللحية ، وشك لاحق فيهما مع ترتب أثر شرعي عليهما ، كما إذا نذر التصدق بدرهم في كل يوم لو إستمر نموّ ولده ، أو نبات لحيته ، فإذا شك فيهما إستصحبهما فيترتب عليه وجوب التصدق بدرهم في كل يوم .

وأمّا مثال تنزيل النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب ، فهو كما إذا نزّل الشارع النموّ بمنزلة الولادة ، فانه يثبت للنمو ما ثبت للولادة من الآثار الشرعية لا غير الشرعية ، فاذا قال : يستحب العقيقة للولادة ، إستحب للنمو أيضا ، وكما إذا نزّل الشارع نبات اللحية منزلة البلوغ ، فانه يثبت لنبات اللحية ما ثبت للبلوغ من الآثار الشرعية دون غير الشرعية ، فإذا قال : تجب التكاليف على البالغ وجبت على من نبتت لحيته أيضا .

وعلى أي حال : فلو وقع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو وقعا موردا لتنزيل شرعي غير الاستصحاب ( أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة ) فقط ( دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب ) فيترتب على الحياة أثرها الشرعي لا ورود النمو ونبات اللحية مورد الاستصحاب حتى يترتب عليهما أثرهما الشرعي .

ص: 66

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية المحمولة على المتيقن السابق .

فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة لعدم قابليتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار ، لأنّها ليست آثار نفس المتيقن

-------------------

( والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات ) الشرعية مثل : جعل الطواف بالبيت صلاة ، والفقاع خمر ، وما أشبه ذلك ( إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية ) فقط ( المحمولة على المتيقن السابق ) بلا واسطة ، فإذا كان المتيقن حياة زيد فغاب فشككنا في حياته ، فاستصحبنا حياته ، ترتّب عليه مثل : حرمة التصرّف في ماله ، ووجوب النفقة على زوجته ، وغير ذلك من الآثار الشرعية المحمولة على الحياة بلا واسطة فقط .

وعليه : ( فلا دلالة فيها ) أي : في التنزيلات الشرعية سواء الاستصحاب أم غير الاستصحاب ( على جعل غيرها ) أي : غير الآثار الشرعية ( من الآثار العقليّة والعاديّة ) والعرفية جعلاً شرعيا ، وذلك ( لعدم قابليتها للجعل ) الشرعي .

( و ) أيضا ( لا ) دلالة فيها ( على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار ) العقلية والعادية والعرفية ، فإن إستصحاب حياة زيد لا يثبت أثره العقلي كالنمو ، ولا العادي كنبات لحيته ، ولا العرفي كتوقفه عند الوضوء الأحمر ، حتى يترتب على هذه الآثار غير الشرعية آثارها الشرعية من نذر وما أشبه ، وذلك : ( لأنّها ) أي : الآثار الشرعية المترتبة على الأثر العقلي أو العادي أو العرفي آثار مع الواسطة، فهي ( ليست آثار نفس المتيقن ) الذي هو الحياة ، حتى يترتب عليه وجوب الوفاء بالنذر مثلاً .

ص: 67

ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي عليه .

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها ،

-------------------

كما ( ولم يقع ذوها ) أي : ذو الآثار : من النمو ، ونبات اللحية ، والتوقف عند الوضوء الأحمر بنفسها ( موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي ) أي : تلك الآثار الشرعية من وجوب الوفاء بالنذر ( عليه ) أي : على ذي الأثر ، إذ المفروض : ان مورد التنزيل هو الحياة لا النمو ، ووجوب الوفاء بالنذر ليس أثر الحياة ، وإنّما هو أثر النمو ، والنمو لم يقع مورد التنزيل .

( إذا عرفت هذا ) أي : ما ذكرناه إجمالاً : من عدم إثبات الاستصحاب للآثار العقلية والعادية والعرفية ( فنقول ) في تفصيل ذلك ما يلي :

( إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب ) لصلاة الظهر - مثلاً - فإذا شك المكلّف في إتيانها والوقت لم يخرج بعد ، فانه يجب عليه الاتيان بها ، امّا إذا خرج الوقت فالوقت حائل والشك بعد الوقت لا يعتنى به .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( التحريم ) كحرمة وطي الزوجة فيما إذا شك الزوج بعد نقائها وقبل الغسل في انه هل يجوز وطيها ، لأنّ المعيار النقاء من الدم ، أو لا يجوز ، لأن المعيار الغسل ؟ .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( الإباحة ) كاباحة شرب التتن قبل الشرع فيما لو شك المكلّف في انه هل الشارع حرّم التتن أم لا ؟ .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( غيرها ) أي : غير الوجوب والتحريم والاباحة ، وهو : الاستحباب والكراهة ، وتسمى هذه الخمسة بالأحكام

ص: 68

وإمّا أن يكون من غير المجعولات كالموضوعات الخارجية واللغوية .

فان كان من الأحكام الشرعية فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساوٍ للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ، لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه والعمل به ، وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية

-------------------

الشرعية التكليفية .

( وإمّا أن يكون من غير المجعولات ) الشرعية ( كالموضوعات الخارجية ) مثل حياة زيد ، وطلاق زوجته ، وما أشبه ذلك ( واللغوية ) مثل أصالة الحقيقة وأصالة عدم النقل ونحو ذلك .

وعليه : ( فان كان من الأحكام الشرعية ) أي : الخمسة التكليفية ( فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساوٍ للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ) لوضوح : انا سابقا كنّا نعلم بالوجوب والحال نشك في الوجوب ، فجعل لنا الشارع مثل ذلك الوجوب حكما ظاهريا جعلاً بسبب الاستصحاب .

وإنّما المجعول حكم ظاهري يساوي المتيقن السابق ( لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه ) أي : على المتيقن السابق ( والعمل به ) أي : بذلك المتيقن ، فان الشارع لما قال : اعمل بالمتيقن السابق كان معناه : رتّب أثر المتيقن عند الشك فيه كما كنت ترتبه عليه عند اليقين به ، فانه كما كان يجوز له الدخول في الصلاة - مثلاً - عند يقينه بالوضوء فكذلك يجوز له عند شكه في بقاء وضوئه .

( وإن كان من غيرها ) أي : من غير الأحكام الشرعية كالاُمور الخارجية ( فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية ) أي : لوازم الموضوع التي

ص: 69

دون العقليّة والعاديّة ، ودون ملزومه ، شرعيا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث .

ولعل هذا

-------------------

هي شرعية ، فان اللوازم الشرعية للموضوعات هي القابلة للجعل فقط ، فإذا إستصحبنا حياة الزوج - مثلاً - وجبت النفقة لزوجته ، وحرم على زوجته الزواج بغيره ، إلى غير ذلك .

( دون العقليّة ) كنموه الملازم عقلاً لحياته ( والعاديّة ) كنبات لحيته الملازم عادة لحياته ، والعرفية كتوقفه عند الضوء الأحمر الملازم عرفا لحياته .

وإنّما لا تترتب اللوازم العقلية والعادية والعرفية على إستصحاب الموضوع ، لأن هذه اللوازم ليست قابلة للجعل الشرعي .

( ودون ملزومه ، شرعيا كان ) ذلك الملزوم كما إذا قال لزوجته أنت بتلة ، ثم شك في انها حرمت عليه أم لا ، فاستصحاب عدم حرمتها الذي هو اللازم لا يثبت الملزوم الذي هو عدم كون بتلة محرّما ( أو غيره ) بأن يكون الملزوم غير شرعي كاستصحاب نموّ زيد لاثبات الملزوم وهو حياة زيد - مثلاً - .

( ودون ما هو ملازم معه ) أي : مع المتيقن ( لملزوم ثالث ) كما إذا إستصحب نموّ زيد لاثبات ملازمه وهو نبات لحيته ، فان النمو ونبات اللحية مثلاً زمان ، إذ كلاهما لازمان لملزوم واحد هو : حياة زيد - مثلاً - .

والحاصل : ان الاستصحاب يثبت اللازم الشرعي فقط ، ولا يثبت اللازم العقلي والعادي والعرفي للمتيقن ، كما لا يثبت ملازم المتيقن ولا ملزومه سواء كان الملزوم شرعيا أم غير شرعي .

( ولعل هذا ) الذي ذكرناه : من عدم إثبات الاستصحاب الملزوم سواء كان

ص: 70

هو المراد بما إشتهر على ألسنة أهل العصر من نفي الاُصول المثبتة فيريدون به أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي ، بل مؤداه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا .

فان قلت :

-------------------

شرعيا أم غير شرعي ، ولا اللازم العرفي والعادي والعقلي ، وإنّما الشرعي فقط ( هو المراد بما إشتهر على ألسنة أهل العصر ) من علمائنا : ( من نفي الاُصول المثبتة ) .

وإنّما قال المصنِّف : لعل ، لأن ما ذكره أهل العصر ليس بهذا التفصيل الذي ذكره المصنِّف ، وإنّما ذكروا بعض ذلك ، فلعلهم بذكر البعض أرادوا كل ما ذكره المصنِّف وكان ذكرهم للبعض من باب المثال كما قال :

( فيريدون به ) أي بنفيهم للاُصول المثبتة ما خلاصته : ( أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج ) أي : انه لا يجعل له وجودا خارجيا ( حتى يترتّب عليه ) أي : على وجوده بعد تحققه في الخارج ( حكمه الشرعي ) وذلك على ما عرفت .

إذن : فليس مؤدّى الاستصحاب إثبات الاُمور التكوينية ( بل مؤداه ) إثبات الاُمور التشريعية فيكون مؤدّى الاستصحاب هو : ( أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا ) وذلك بترتيب الآثار الشرعية فقط .

( فان قلت ) : نسلِّم ان أخبار الاستصحاب لا تدل على ترتيب اللوازم العقلية والعادية والعرفية ، لكن لماذا لا تدل عى ترتيب اللوازم الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية والعرفية والعادية ، مثل : وجوب الوفاء بنذره المترتب على نموّ زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، فان النمو والانبات والتوقف عند الضوء الأحمر وان لم تثبت باستصحاب بقاء الحياة ، لكن لازمها الشرعي ،

ص: 71

الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي أو عقلي مترتّب على ذلك المتيقن .

قلت : الواجب على الشاكّ عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به،

-------------------

وهو وجوب الوفاء بالنذر لا مانع من ثبوته ، بسبب بقاء الحياة ، فاللازم الشرعي ثبت ، سواء كان بلا واسطة أم مع الواسطة .

وعليه : فيكون ( الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك ) الذي يريد إستصحابه ( سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة ) كمثال وجوب نفقة الزوجة في إستصحاب حياة الزوج ( أو بواسطة أمر عادي أو عقلي ) أو عرفي ( مترتّب على ذلك المتيقن ) كمثال وجوب الوفاء بالنذر المترتب على لازم غير شرعي لاستصحاب حياة زيد .

وإنّما الظاهر عدم الفرق بينهما لأن الأثر الشرعي مع الواسطة هو أثر شرعي أيضا ، فيكون حاله حال الأثر الشرعي بلا واسطة .

( قلت ) : إذا لم يثبت بسبب إستصحاب الحياة النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر ، فكيف يثبت ما هو لازم لها من وجوب الوفاء بالنذر ؟ .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : فان ( الواجب على الشاكّ ) هو ان يعمل ( عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ) أي : بالمستصحب نفسه ، لا بلوازمه ، فانه إذا كان متيقنا بالمستصحب كيف كان يعمل ، كذلك يعمل مثل ذلك العمل إذا كان شاكا فيه وإستصحبه .

ص: 72

وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلاً أو عادة ، فلا يجب عليه ، لأنّ وجوبها عليه يتوقف على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي أو وجودٍ جعليٍّ بأن يقع موردا لجعل الشارع

-------------------

( وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلاً أو عادة ) أو عرفا مثل : الوفاء بالنذر المترتِّب عليه النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر الملازمة لبقاء حياة زيد - مثلاً - ( فلا يجب عليه ) أي : على الشاك ذلك .

وإنّما لا يجب عليه ذلك لأن دليل الاستصحاب لا يشمل مثل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة ، فان وجوب الوفاء بالنذر مترتِّب على الحياة من حيث اليقين بلوازم الحياة غير الشرعية ، مثل النمو ، بينما أخبار الاستصحاب ظاهرة في الآثار بلا و اسطة ، لا الآثار المترتبة مع واسطة أمر عقلي أو عادي أو عرفي .

وعليه : فلا يجب على الشاك العمل بتلك الأحكام الشرعية المترتبة على ما يلازم المستصحب عقلاً أو عادة أو عرفا ، وذلك ( لأنّ وجوبها عليه ) أي : على الشاك ( يتوقف ) على أحد أمرين :

الأوّل : ( على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي ) أو العرفي ، يعني : بأن يعلم علما وجدانيا مثلاً بنمو زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، حتى يجب عليه الوفاء بنذره والمفروض : انه لا وجود واقعي لذلك .

الثاني : ( أو ) على ( وجودٍ جعليٍّ بأن يقع موردا لجعل الشارع ) أي : موردا للاستصحاب ، وذلك كما إذا توفرت شروط الاستصحاب : من يقين سابق بالنمو، أو بنبات اللحية - مثلاً - وشك لاحق فيه ، فيستصحب النمو أو نبات اللحية ويترتب عليه الحكم الشرعي وهو : وجوب الوفاء بالنذر ، والمفروض : انه

ص: 73

حتى يرجع جعله غير المعقول إلى جعل أحكامه الشرعية .

وحيث فرض عدم الوجود الواقعي والجعلي لذلك الأمر ، كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره .

وهذه المسألة نظير ما هو المشهور في باب الرضاع

-------------------

لا وجود جعلي لذلك ( حتى يرجع جعله ) الشرعي ( غير المعقول ) لما عرفت : من ان النمو أو نبات اللحية - مثلاً - غير قابل للجعل الشرعي وإنّما جعله يكون بالتكوين ، فإذا قال الشارع ، إستصحب النمو أو نبات اللحية ، رجع قول الشارع ( إلى جعل أحكامه الشرعية ) مثل : وجوب الوفاء بالنذر .

هذا ( وحيث فرض عدم الوجود الواقعي ) لأنا لا نعلم بوجود النمو أو نبات اللحية واقعا ( و ) عدم ( الجعلي ) أي : عدم الوجود الجعلي لأنا لا نستصحب النمو أو نبات اللحية ، وإنّما نستصحب الحياة ، فلا وجود واقعي ولا جعلي إذن ( لذلك الأمر ) أي : للنمو ، أو لنبات اللحية ، وحيث فرض ذلك ( كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره ) مثل : وجوب الوفاء بالنذر وعليه :

( وهذه المسألة ) التي ذكرناها : من انه لا يثبت بالاستصحاب اللوازم العقلية والعرفية والعادية تكون ( نظير ما هو المشهور في باب الرضاع ) فان الشارع قال : « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (1) ، فاذا كان أخ واُخت رضاعيان ، فانه يحرم أحدهما على الآخر ، لكن إذا كان عنوان ملازم للأخ أو للاُخت مثل : أخ الأخ ، أو اُخت الاُخت ، فانه لا يحرم أحد الملازمين على أحد الرضاعيّين .

مثلاً : فاطمة وإبراهيم أخ واُخت من الرضاعة ، ولفاطمة اُخت تسمّى زينب ، فانها لا تصبح اُختا لابراهيم حتى تحرم على إبراهيم ، لأن المحرّم هو الاُخت

ص: 74


1- - جامع المقاصد : ح13 ص243 .

من : أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات لم يوجب التحريم ، لأنّ الحكم تابع لذلك العنوان الحاصل بالنسبة أو بالرضاع ، فلا يترتّب على غيره المتّحد معه وجودا .

ومن هنا ، يعلم أنّه لا فرق في الأمر العادي بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ مفهوما

-------------------

من الرضاعة لا اُخت الاُخت ، وهكذا .

ولذا إشتهر بين الفقهاء : ( من أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات ) فان الاُخت من الرضاعة محرّم من المحرّمات ، واُخت الاُخت عنوان ملازم له ، لكنه ( لم يوجب التحريم ) له ، إذ الاُخت الرضاعية محرّمة ، لا اُخت الاُخت .

وإنّما لا يوجب التحريم للملازم ( لأنّ الحكم ) الذي هو التحريم بسبب الرضاع ( تابع لذلك العنوان ) أي : عنوان الاُختية ( الحاصل بالنسبة ، أو بالرضاع ، فلا يترتّب ) الحكم بالتحريم ( على غيره ) أي : الملازم لذلك العنوان ( المتّحد معه ) أي : مع ذلك العنوان ، فاُخت الاُخت ليست بمحرّم رضاعا ، وان كانت اُخت الاُخت متحدة مع عنوان الاُخت ( وجودا ) لوضوح : ان اُخت الاُخت اُخت لكن المحرّم بالرضاع هو الاُخت ، لا اُخت الاُخت .

( ومن هنا ) أي : مّما ذكرنا : من ان دليل الاستصحاب لا يقتضي ترتيب ما كان ثابتا على المستصحب عقلاً أو عادة أو عرفا ( يعلم ) ستة اُمور :

الأوّل : ( أنّه لا فرق في الأمر العادي ) الذي قلنا : بانه لا يثبت بالاستصحاب ( بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ مفهوما ) أي : بأن يكون لهما إتحاد وجودي ومصداقي فقط ، ففي الخارج ليس إلاّ شيئا واحدا ،

ص: 75

كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه

-------------------

لكن مفهومهما شيئان متغايران وذلك : ( كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه ) فان وجود الكرّ في الحوض ، وكرية ماء الحوض، متحدان خارجا متغايران مفهوما .

اما إنهما متحدّان خارجا ، فلأنه ليس في الخارج إلاّ شيء واحد يصدق هذان المفهومان عليه .

وامّا انهما متغايران مفهوما : فلأنه فرق بين أن يقال ، وجد الكر ، أو يقال : الماء كر ، فان ماء الحوض لو كان كرا ، فقد وجد الكر في الحوض .

وعليه : ففي زمان القطع بوجود الكر يحكم بطهارة الثوب النجس المغسول به، وذلك لليقين بكرية ماء الحوض ، لا لليقين بوجود الكر ، ولذا في زمان الشك في بقاء الكرية لا ينفع إستصحاب وجود الكر في الحكم بطهارة الثوب ، لأن الحكم بطهارة الثوب لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث اليقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المتحد معه وهو : كرية الماء .

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في وجود الكر لم ينفع في الحكم بطهارة الثوب، بينما لو أجرينا الاستصحاب في كريّة الماء وقلنا : بأن هذا الماء كان كرا فهو كر ، نفع في الحكم بطهارة الثوب ، وذلك فيما إذا كان الموضوع الفعلي هو الموضوع السابق عرفا ، بأن لم ينقص الماء نقصا فاحشا حتى يرى العرف ان هذا الماء هو غير الماء السابق .

وعليه : فلا فرق في عدم ثبوت الأمر العادي بالاستصحاب ، بين إتحاد وجوده مع المستصحب وقد عرفت مثاله وتفصيله في الأمر الأوّل وبين تغاير وجوده مع المستصحب وذلك على ما يأتي بيانه .

ص: 76

وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لولا المانع حدث وشك في وجود المانع .

وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها وبين المستصحب كلّيا لعلاقة وبين أن يكون إتفاقيا

-------------------

الثاني : ( وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لولا المانع حدث ) ذلك الحادث ( وشك في وجود المانع ) .

مثلاً : لو أخذ خشب الغير وألقاه في النار فانه يقتضي الاحتراق لولا الرطوبة في الخشب ، وإحتراقه يوجب الضمان ، ومعلوم : ان الاحتراق وعدم الرطوبة كما يتغايران مفهوما يتغايران خارجا أيضا ، فإذا شك في الضمان للشك في الرطوبة ، فاستصحاب عدم الرطوبة لا ينفع في الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث اليقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المغاير له وهو : الاحتراق .

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في عدم الرطوبة لم ينفع الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان مع العلم بعدم الرطوبة كان قطعيا ، وذلك لليقين بالاحتراق لا لليقين بعدم الرطوبة حتى يثبت بالاستصحاب .

الثالث : ( وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها ) أي : بين تلك اللوازم ( وبين المستصحب كلّيا لعلاقة ) كعلاقة الفرد والكلي كما تقدَّم من مثال وجود الكر في الحوض ، وكرية ماء الحوض ، فانه كلَّما وجد الكلي وجد الجزئي ، ولا يعقل ان يوجد أحدهما بدون الآخر .

الرابع : ( وبين أن يكون ) اللزوم بين اللوازم وبين المستصحب ( إتفاقيا

ص: 77

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ، ففي الحقيقة عدم الانفكاك إتفاقي من دون ملازمة .

وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين

-------------------

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ) ملازم لموت زيد ، ومن الواضح : ان هذه الملازمة ليست لعلاقة الكلي وجزئية ، ولا غير ذلك ، بل الملازمة إتفاقية ناشئة عن العلم الاجمالي الخارجي .

وعليه : فان مراد المصنِّف من اللزوم الاتفاقي هو : المقارنة الاتفاقية ، فلا يستشكل عليه : بان اللزوم والاتفاق متقابلان لا يصدق أحدهما على الآخر ، وإذا كان مراده ذلك فلا تناقض في قوله المزبور وبين ان يكون اللزوم إتفاقيا ، في قضية جزئية .

ويؤكد إرادة المصنِّف المقارنة الاتفاقية من اللزوم الاتفاقي قوله : ( ففي الحقيقة عدم الانفكاك إتفاقي من دون ملازمة ) بينهما ، فإذا إستصحبنا حياة زيد في المثال، فانه لا يثبت ما إتفق عدم إنفكاكه عنه من موت عمرو ، وذلك لما عرفت : من ان الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية ناهيك عن المقارنات الاتفاقية .

الخامس : ( وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين ) السابقين حيث كان المقصود في المثال الأوّل وهو إستصحاب عدم الرطوبة : إثبات الاحتراق وهو تمام الأثر العادي الموجب للضمان ، في المثال

ص: 78

أو قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو إزهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا ، بناءا على أنّ كلّ دم ليس باستحاضةٍ ، حيضٌ شرعا ، وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت لاتصاف الأجزاء

-------------------

الثاني وهو إستصحاب حياة زيد : إثبات موت عمرو وهو تمام الأثر العقلي الاتفاقي الموجب لتقسيم ماله - مثلاً - .

السادس : ( أو ) يثبت بالمستصحب ( قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو ) قيد وجودي أي : ( إزهاق الحياة ) .

مثلاً : إذا كان زيد ملفوفا بثوب ، فضربه عمرو ضربة بالسيف فقدّه نصفين ، ثم شككنا في انه هل كان ميتا قبل الضربة حتى لا يلزم على زيد دية القتل أو القصاص مثلاً ، أو انه قتل بتلك الضربة حتى يلزمه الدية أو القصاص ؟ فان الموت معلوم لكن قيده وهو : ان الموت مستند إلى ضربة عمرو أم لا ، فمشكوك ، والدية أو القصاص إنّما يترتبان على الموت بازهاق عمرو لروحه ، فيراد باستصحاب الحياة إثبات ذلك .

( وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا ) لأن الدم موجود وجدانا وقيده العدمي وهو : عدم كونه إستحاضة مشكوك ، ويراد إثبات هذا العدم باستصحاب عدم وجود الاستحاضة سابقا وذلك ( بناءا على أنّ كلّ دم ليس باستحاضةٍ ، حيضٌ شرعا ) فيما إذا لم يكن دم بكارة أو جرح أو ما أشبه ذلك .

( وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت ) هذا العدم ( لاتصاف الأجزاء

ص: 79

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة بالتوالي .

وقد إستدلّ بعضٌ تبعا لكاشف الغطاء ، على نفي الأصل المثبت بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني ،

-------------------

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة ) لأن الفصل إذا كان طويلاً ، فاتت الموالاة وبطلت الصلاة ، بخلاف ما إذا لم يكن الفصل طويلاً فتتصف الأجزاء ( بالتوالي ) وتصح الصلاة .

إذن : فالأجزاء للصلاة - مثلاً - معلومة الوجود ، امّا قيدها الوجودي أعني التوالي مشكوك ، لفرض وجود مقدار فصل بين الأجزاء يحتمل مع هذا الفصل فوات الموالاة ، فيراد باستصحاب عدم حدوث الفصل الطويل إثبات الموالاة حتى تصح الصلاة ، فان الفصل لم يكن سابقا موجودا ، فاذا شككنا في انه وجد أم لا ، نستصحب عدمه .

هذا ، ولكن قد عرفت : انّ دليل إعتبار الاستصحاب لا يشمل أيا من هذه الأقسام المذكورة من أقسام الاستصحاب التي يراد بها إثبات أثر عقلي أو عرفي أو عادي ، وقد ذكرنا سابقا : إنّ بالاستصحاب يثبت الأثر الشرعي بدون واسطة فقط ، وهذا هو الذي نراه من عدم صحة مثبتات الاُصول ، وحاصله : عدم شمول الدليل له .

( وقد إستدلّ بعضٌ ) وهو صاحب الفصول وذلك ( تبعا لكاشف الغطاء ، على نفي الأصل المثبت ) بدليل آخر ، وهو ما ذكره بقوله : ( بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني ) فيتساقطان .

ص: 80

قال : « وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيته بالنسبة إلى ذلك لأنّها مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية دون العادية وإن إستتبعت أحكاما شرعية » ، إنتهى .

أقول :

-------------------

مثلاً : أصالة عدم الرطوبة لو أثبتت الاحتراق ، تكون معارضة بأصالة عدم الاحتراق ، وكذا أصالة عدم الاستحاضة لو أثبتت كون الدم حيضا ، تكون معارضة بأصالة عدم الحيض ، وهكذا أصالة حياة الملفوف لو أثبتت القتل تكون معارضة بأصالة عدم القتل ، فيكون أصلان متعارضان ويتساقطان بالتعارض .

( قال : « وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيته ) أي : على حجية هذا الاستصحاب ( بالنسبة إلى ذلك ) الأمر الذي ليس بشرعي ممّا يكون عقليا أو عاديا أو عرفيا ( لأنّها ) أي : أخبار الباب ( مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية ) على الاستصحاب ( دون العادية ) والعقلية والعرفية حتى ( وإن إستتبعت أحكاما شرعية » (1) ) .

مثلاً : إذا كان الحكم الشرعي مترتبا على أمر عادي ، والأمر العادي مترتبا على الاستصحاب ، فانه إذا أثبتنا باستصحاب الحياة القتل فانه يتبع القتل وجوب القصاص أو الدية ، لكنه في مثل هذه الصورة لا يكون الاستصحاب حجة لأنه مثبت ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمثلة المتقدمة ( إنتهى ) كلام الفصول .

( أقول ) : ان ما ذكره كاشف الغطاء وصاحب الفصول مانعا من إجراء الاستصحاب في الأمثلة المذكورة غير تام ، وذلك لأن المانع فيها ان كان هو عدم شمول الأخبار لها كان ذلك كافيا لعدم حجيتها ، ومعه لا يبقى وجه للاستدلال

ص: 81


1- - الفصول الغروية : ص365 .

لا ريب في أنّه لو بُني على أنّ الأصل في الملزوم قابل لاثبات اللازم العادي لم يكن وجه لاجراء أصالة عدم اللازم ، لأنّه حاكم عليها .

فلا معنى للتعارض على ما هو الحق ، وإعترف به هذا المستدلّ من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم ،

-------------------

بتعارض الأصلين ، لأنه - بالاضافة إلى عدم صحة التعارض هنا - لو فرض شمول الأخبار لها لم يبق فيها مانع من جهة التعارض وذلك لأن التعارض لا يتحقق أصلاً، فان الأصل السببي كأصالة عدم الرطوبة ، وأصالة الحياة إلى زمان القدّ ، وأصالة عدم وجود الاستحاضة ، تكون حاكمة على الأصل المسبّبي الذي هو أصل عدم الاحتراق ، وعدم القتل ، وعدم وجود الحيض كما قال :

( لا ريب في أنّه لو بُني على أنّ الأصل ) المثبت ( في الملزوم ) الذي هو الحياة إلى زمان القدّ ، ولازم الحياة إلى زمان القدّ هو القتل ، فيكون الحياة ملزوما والقتل لازما ، فإذا بنينا على انه الأصل في الملزوم ( قابل لاثبات اللازم العادي ) الذي هو القتل في المثال ( لم يكن وجه لاجراء أصالة عدم اللازم ، لأنّه ) أي : الأصل في الملزوم ( حاكم عليها ) أي : على أصالة عدم اللازم .

وعليه : ( فلا معنى للتعارض ) بين الأصلين ( على ما هو الحق ، وإعترف به هذا المستدلّ ) أيضا وهو صاحب الفصول : ( من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم ) لأن الأصل بينهما سببي ومسببّي ، وكلّما جرى الأصل السببي لم يجر الأصل المسببّي ، فإذا جرى - مثلاً - أصالة الحياة إلى زمان القدّ ثبت القتل ، فلا يجري حينئذ أصالة عدم القتل حتى يكون معارضا لأصالة الحياة إلى زمان القدّ .

وعلى هذا : فإذا شككنا في ان هذا اللحم من المذكّى أو من الميتة أجرينا أصالة

ص: 82

فلا تعارض أصالة الطهارة لأصالة عدم التذكية .

فلو بُني على المعارضة لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية ، لأنّ الكلّ أحكام للمستصحب مسبوقة بالعدم .

-------------------

عدم التذكية ، فيكون اللحم محكوما بالنجاسة ، ولا يعارض هذا الأصل أصالة طهارة اللحم ، لأن أصل عدم التذكية سببي فيكون حاكما ، وأصل طهارة اللحم مسبّبي فيكون محكوما ، ولذلك قال المصنِّف : ( فلا تعارض أصالة الطهارة لأصالة عدم التذكية ) بل تتقدّم أصالة عدم التذكية على أصالة الطهارة من باب السببية والمسببية .

هذا إذا بني على ان الأصل في الملزوم حاكم على الأصل في اللازم لما بينهما من السببية والمسببية وليس كذلك لو بُني على المعارضة بينهما كما قال : ( فلو بني على المعارضة ) بينهما ، وذلك على ما قاله صاحب الفصول وكاشف الغطاء ، فحينئذٍ ( لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية ) في تعارضهما وتساقطهما .

وإنّما قال : لم يكن فرق في ذلك ( لأنّ الكلّ أحكام للمستصحب مسبوقة بالعدم ) أي : ان اللوازم غير الشرعية مثل الاحتراق الذي هو من أحكام عدم الرطوبة ومسبوق بالعدم ، كاللوازم الشرعية مثل النجاسة التي هي من أحكام عدم التذكية ومسبوقة بالعدم ، فإنهما متساويان في كونهما أحكاما للمستصحب ، ومسبوقان بالعدم ، فإذا قيل بتعارض الأصلين في اللوازم غير الشرعية ، لزم القول به في الشرعية أيضا ، بينما لا يقول صاحب الفصول بتعارض الأصلين في اللوازم الشرعية مثل أصل الطهارة مع أصل عدم التذكية ، فاللازم عليه أن لا يقول أيضا بتعارض الأصلين في اللوازم غير الشرعية ، مثل : أصل عدم الاحتراق مع أصل عدم الرطوبة .

ص: 83

وأمّا قوله : « ليس في أخبار الباب ، الخ » إن أراد بذلك عدم دلالة الأخبار على ترتّب اللوازم غير الشرعية ، فهو مناف لما ذكره من التعارض إذ يبقى حينئذٍ أصالة عدم الملزوم غير الشرعي سليما عن المعارض .

وإن أراد تتميم الدليل الأوّل بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب إن كان غير الأخبار فالأصل يتعارض من الجانبين وإن كانت الأخبار فلا دلالة فيها ،

-------------------

( وأمّا قوله ) أي : قول صاحب الفصول : ( « ليس في أخبار الباب ، الخ » ) فيرد عليه : انه ما هو مراده منه ، فانه يمكن ان يراد منه أحد أمرين :

الأوّل : بناءا على وحدة المبنى ، فانه ( إن أراد بذلك ) أي : بقوله : ليس في أخبار الباب : ( عدم دلالة الأخبار على ترتّب اللوازم غير الشرعية ، فهو مناف لما ذكره من التعارض ) لأنه إذا لم يترتب اللازم العادي على الاستصحاب ، فكيف يتعارض الأصلان ؟ ( إذ يبقى حينئذ أصالة عدم الملزوم غير الشرعي سليما عن المعارض ) .

وعليه : فانه إذا لم يكن أصل عدم الرطوبة حجة لكونه أصلاً مثبتا ، جرى أصل عدم القتل بلا معارض ، فذيل كلام الفصول بأن الأخبار لا تدل على إعتبار الأصل المثبت ، مناف لصدر كلامه الذي قال بتعارض الأصلين .

الثاني : بناءا على تعدّد المبنى كما قال : ( وإن أراد ) صاحب الفصول من أول كلامه الذي حكم بالتعارض : كون حجية الاستصحاب من باب الظن ، وأراد من آخر كلامه الذي حكم بعدم إعتبار الأصل المثبت : كون حجية الاستصحاب من باب الأخبار ، يعني : قصد ( تتميم الدليل الأوّل ) الذي هو في أول كلامه ، وذلك ( بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب إن كان غير الأخبار ) وهو الظن ( فالأصل يتعارض من الجانبين ) الحاكم والمحكوم ( وإن كانت الأخبار فلا دلالة فيها ) أي :

ص: 84

ففيه أنّ الأصل إذا كان مدركه غير الأخبار ، وهو الظنّ النوعي الحاصل ببقاء ما كان على ما كان ، لم يكن إشكالٌ في أنّ الظنّ بالملزوم يوجب الظنّ باللازم ولو كان عاديا .

ولا يمكن حصول الظنّ بعدم اللازم بعد حصول الظنّ بوجود ملزومه ، كيف ولو حصل الظنّ بعدم اللازم إقتضى الظنّ بعدم الملزوم ، فلا يؤثر

-------------------

في الأخبار على حجية الأصل المثبت ، فانه ان كان المراد ذلك ( ففيه ) ما يلي :

أولاً : ( أنّ الأصل ) أي : الاستصحاب ( إذا كان مدركه غير الأخبار ، وهو الظنّ النوعي الحاصل ببقاء ما كان على ما كان ، لم يكن إشكالٌ في أنّ الظنّ بالملزوم ) كعدم الرطوبة ( يوجب الظنّ باللازم ) وهو الاحتراق ، حتى ( ولو كان ) اللازم ( عاديا ) كما في المثال ( ولا يمكن حصول الظنّ بعدم اللازم ) الذي هو الاحتراق ( بعد حصول الظّن بوجود ملزومه ) الذي هو عدم الرطوبة .

وعليه : فلا يمكن التعارض بين الأصلين ، لأنه لو جرى أصل عدم الرطوبة ، كان معناه : إنّا نظن عدم الرطوبة ، ولازم مثل هذا الظن : انّا نظن بالاحتراق ، فكيف يمكن ظننا بعدم الاحتراق حتى يتعارض الأصلان اللذان هما ظنان أحدهما على خلاف الآخر ؟ .

ثانيا : ( كيف ولو حصل الظنّ بعدم اللازم إقتضى الظن بعدم الملزوم ) أيضا ، يعني : انه لو أمكن حصول الظن بعدم اللازم وهو : عدم الاحتراق مع فرض حصول الظن بالاحتراق ، حتى يتعارض الأصلان ، فانه ان أمكن ذلك لزم التعارض في الاُصول غير المثبتة من اللوازم الشرعية أيضا ، وإذا لزم التعارض فيها لزم التساقط فلا يبقى إستصحاب بالمرة كما قال : ( فلا يؤثر ) الاستصحاب بناءا

ص: 85

في ترتّب اللوازم الشرعية أيضا .

ومن هنا يعلم أنّه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ لم يكن مناصٌ عن الالتزام بالاُصول المثبتة لعدم إنفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم ، شرعيا كان أو غيره .

إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه الشرعية دون غيرها ،

-------------------

على التعارض ( في ترتّب اللوازم الشرعية أيضا ) أي : كما لم يكن يؤثر في ترتب اللوازم العقلية والعادية والعرفية مع انه لم يقل به أحد .

( ومن هنا ) أي : من وجود التلازم بين الظن باللازم والظن بالملزوم ( يعلم أنّه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) النوعي لا من باب الأخبار ( لم يكن مناصٌ عن الالتزام بالاُصول المثبتة ) فيكون الأصل المثبت حجة حينئذ ( لعدم إنفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم شرعيا كان ) كالنجاسة المترتبة على عدم التذكية ( أو غيره ) أي : غير شرعي كالاحتراق المترتب على عدم الرطوبة - مثلاً - فيكون كل لازم حجة شرعيا كان أو عقليا ، عرفيا أو عاديا :

( إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه الشرعية دون غيرها ) أي : بأن يقال : ان بناء العقلاء الذي هو مدرك حجية الظن يفرّق بين اللوازم الشرعية فيؤخذ بها ، واللوازم العقلية والعادية والعرفية فلا يؤخذ بها .

وإنّما يفرّق بينها لأحد اُمور ثلاثة :

الأوّل : قصور أدلة الظن عن شمول كل الآثار .

الثاني : انّ أدلة الظن وان كان لها إطلاق إلاّ انه خرج من ذلك بعض اللوازم العقلية والعرفية والعادية بدليل خارج خروجا في جميع الموارد .

ص: 86

لكنّه إنّما يتمّ إذا كان دليل إعتبار الظنّ مقتصرا فيه على ترتب بعض اللوازم دون آخر ، كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشك في هلال رمضان بشهادة عدل ، فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين من ذلك اليوم أو كان بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرّد الظنّ إمّا مطلقا ، كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة الفرعية ظنٌّ بمسألة اُصوليّة ، فانّه لا يعمل فيه

-------------------

الثالث : ان يكون لأدلة الظن إطلاق ، لكن خرج منه بعض الظنون خروجا في بعض الموارد .

وإلى الوجه الأوّل من هذه الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( لكنّه ) أي : لكن القول بحجية الظن بالنسبة إلى لوازمه الشرعية دون غيرها ( إنّما يتمّ إذا كان دليل إعتبار الظنّ مقتصرا فيه ) أي : في ذلك الدليل ( على ترتب بعض اللوازم ) أي : الشرعية فقط ( دون آخر ) أي : العقلية والعادية والعرفية ، وذلك حسب المثال التالي :

( كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشك في هلال رمضان بشهادة عدل ) واحد ( فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين من ذلك اليوم ) بحجة انه إذا ثبت هلال شهر رمضان قبل ثلاثين يوما ، فبعد الثلاثين يكون قد خرج شهر رمضان ودخل شهر شوال ، فان الشارع كما عرفت هنا قد إقتصر على ترتيب بعض اللوازم ، فلا دليل على ترتيب سائر اللوازم .

ثم أشار المصنِّف إلى الوجه الثاني بقوله : ( أو كان بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرّد الظنّ ) وذلك بدليل خارج وهو ( إمّا مطلقا ) أي : في جميع الموارد ( كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة الفرعية ظنّ بمسألة اُصوليّة ، فانّه لا يعمل فيه )

ص: 87

بذلك الظنّ بناءا على عدم العمل بالظنّ في الاُصول ، وإمّا في خصوص المقام ، كما إذا ظنّ بالقبلة مع تعذّر العلم بها

-------------------

أي : في هذا المورد ( بذلك الظنّ ) الحاصل بالمسألة الاُصولية فانه لا يعمل به ( بناءا على عدم العمل بالظنّ في الاُصول ) .

كما إذا دل الدليل على انه لا عقاب على من أكل الربا وهو لا يعلم ، فان هذا الخبر كما يحصل الظن منه بهذه المسألة الفرعية في خصوص مورد الربا يحصل منه الظن أيضا بمسألة اُصولية ، وهي أصالة البرائة عند الشك في التكليف مطلقا ، لأن العرف يفهم من هذا الخبر هذا الكلي .

وعليه : فان أدلة حجية الخبر وان لم يفرّق بين الظنين : الظن بالمسألة الفقهية ، والظن بالمسألة الاُصولية ، إلاّ ان الدليل الخارجي من إجماع أو نحوه قام على عدم إعتبار الظن في المسائل الاُصولية ، لأنها مسائل تعم الفقه من أوله إلى آخره ، فلا يمكن أن يعمل فيها بالخبر الواحد ، بخلاف المسائل الفقهية ، حيث إنها خاصة ببعض الموارد ، ولذا يعمل فيها بالظن .

ثم أشار المصنِّف إلى الوجه الثالث بقوله : ( وإمّا ) أن يكون بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرد الظن ، وذلك ( في خصوص المقام ) لا في جميع الموارد ( كما إذا ظنّ بالقبلة مع تعذّر العلم بها ) فانه إذا وقف باتجاه القبلة المظنونة وقد إنحرفت الشمس عن عينه اليسرى إلى العين اليمنى لازمه عقلاً حصول الظن بدخول الوقت أيضا ، لكن هذا اللازم العقلي وهو : الظن بدخول وقت ليس بحجة ، إذ يمكنه تحصيل العلم بالوقت ، فلا يبني هنا الظن بالوقت الذي هو لازم على الظن بالقبلة الذي هو ملزوم .

ص: 88

فلزم منه الظنّ بدخول الوقت ، مع عدم العذر المسوّغ للعمل بالظنّ في الوقت .

ولعلّ ما ذكرنا هو الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخّرين بالاُصول المثبتة في كثير من الموارد :

منها : ما ذكره جماعة ، منهم المحقق في الشرائع ، وجماعة ممّن تقدّم عليه وتأخّر عنه : من أنّه لو إتفق الوارثان في أول شعبان ، والآخر في غرّة رمضان ، واختلفا ، فادّعى أحدهما : موت المورّث في شعبان

-------------------

وعليه : فإذا ظن بالقبلة مع تعذّر العلم بها ( فلزم منه الظنّ بدخول الوقت ، مع عدم العذر المسوّغ للعمل بالظنّ في الوقت ) فلا يكون هذا اللازم حجة هنا وان كان الملزوم حجة ، وذلك لخروج هذا الظن باللازم في هذا المورد بالدليل الخاص .

( ولعلّ ما ذكرنا ) : من انه لو إعتبرنا حجية الاستصحاب من باب الظن ، فلا يفرّق فيه بين الاستصحاب المثبت وغير المثبت يكون ( هو الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخّرين بالاُصول المثبتة في كثير من الموارد ) وذلك لأنهم يرون حجية الاستصحاب للظن - كما هو مبنى غالب القدماء - للأخبار حتى لا يكون مثبتات الاُصول عندهم حجة .

مثلاً : ( منها : ما ذكره جماعة ، منهم المحقق في الشرائع ، وجماعة ممّن تقدّم عليه وتأخّر عنه : من أنّه لو إتفق الوارثان في أول شعبان ، والآخر في غرّة رمضان ،

واختلفا ) في موت المورّث ( فادّعى أحدهما : موت المورّث في شعبان ) حتى يكون الوارث المسلم هو الوارث الوحيد ، لأن الوارث الآخر كافر حين موت المورّث والدليل دالّ على انه إذا مات الانسان عن وارث مسلم ووارث كافر ، ورثه

ص: 89

والآخر : موته في أثناء رمضان ، كان المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورّث .

ولا يخفى : أنّ الارث مترتّب على موت المورّث عن وارث مسلم ، وبقاء حياة المورّث إلى غرّة رمضان لا يستلزم بنفسه موت المورّث في حال إسلام الوارث .

-------------------

المسلم فقط دون الكافر .

( و ) ادّعى ( الآخر : موته في أثناء رمضان ) حتى يرثه هو أيضا فيكون كِلا الوارثين الأخوين كما في المثال مسلمين فيرثانه جميعا وإذا كان كذلك ( كان المال بينهما نصفين ) .

وإنّما يرثه الاثنان وينصّف بينهما المال لاستصحاب حياة المورّث إلى غرة شهر رمضان ، فيكون موته عن وارثين مسلمين فيرثانه كما قال : ( لأصالة بقاء حياة المورّث (1) ) إلى غرّة شهر رمضان حيث أسلم فيه الوارث الثاني .

( و ) لكن ( لا يخفى : أنّ ) هذا الاستصحاب مثبت وذلك لأن ( الارث مترتّب على موت المورّث عن وارث مسلم ، و ) الحال ان إستصحاب ( بقاء حياة المورّث إلى غرّة رمضان ) الذي أسلم فيه الوارث الثاني ( لا يستلزم بنفسه ) إرثه ، وإنّما إرثه يترتب على لازم عقلي لاستصحاب حياة المورّث إلى ذلك الحين ، وذلك اللازم العقلي هو : ( موت المورّث في حال إسلام الوارث ) الثاني .

إذن : فالوارث الثاني لا يترتب إرثه على نفس المستصحب يعني : حياة المورّث لأن الحيّ لا يورث ، وإنّما يترتب على موت مورّثه ، والموت هنا ليس هو نفس المستصحب كما عرفت ، وإنّما هو لازم عقلي له ، لأن الاستصحاب

ص: 90


1- - شرائع الاسلام : ج4 ص120 ، تحرير الأحكام : ج2 ص200 .

نعم ، لمّا علم بإسلام الوارث في غرّة رمضان ان لم ينفكّ بقاء حياته حال الاسلام عن موته بعد الاسلام الذي هو سبب الارث .

إلاّ أن يوجّه

-------------------

يقول : ان المورّث حيّ إلى غرة شهر رمضان ، إذن : فموته حصل في أثناء شهر رمضان وهو مثبت ، فارث الوارث الثاني لازم عقلي لحياة المورّث حتى غرة شهر رمضان ، ولذلك قال المصنِّف :

( نعم ، لمّا علم بإسلام الوارث في غرّة رمضان ان لم ينفكّ ) عقلاً ( بقاء حياته ) أي : حياة المورّث ( حال الاسلام ) أي : إسلام الوارث الثاني ( عن موته بعد الاسلام ) أي : بعد إسلام الوارث الثاني ( الذي هو سبب الارث ) فان سبب الارث هو إسلام الوارث حال موت المورّث .

والحاصل : ان حكم الارث لا يترتب على المستصحب بلا واسطة حتى لا يكون مثبتا ، بل يكون مثبتا لأنه يترتب بواسطة لازمه العقلي أعني : موته عن وارث مسلم ، فيكون إستصحاب عدم موته إلى غرة شهر رمضان مستلزما لبقاء وارثين مسلمين فينصّف المال بينهما إذا كانا ابني الميت ، أو إبنتيه ، أو ما أشبه ذلك ممّن يقسّم المال بينهما نصفين .

أمّا إذا كانا ممّن يقسّم المال بينهما بالاختلاف ، كابن وبنت للمورّث ، فانه يأخذ كل منهما نصيبه ، فقولهم بالتنصيف من باب المثال ، كما ان كونهما وارثين اثنين أيضا من باب المثال ، إذ يمكن أن يكون الورّاث ثلاثة أو أكثر .

إذن : فالاستصحاب هنا مثبت وقال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين ، لأنهم يرون حجيته من باب الظن لا الاخبار .

( إلاّ أن يوجّه ) بتوجيه لا يكون الاستصحاب فيه مثبتا فيخرج حينئذ عن كونه

ص: 91

بأنّ المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث في حياة أبيه . كما يعلم من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرايع

-------------------

مثالاً لهؤلاء الجماعة العاملين بالأصل المثبت ، وتوجيهه بأن يقال : نستصحب تأخير موت المورّث لاثبات إسلام الوارث حين موت المورّث ، وهذا مثبت ، وقد نستصحب حياة المورّث إلى زمن إسلام الوارث فإذا ثبت حياته إلى إسلامه ، فهو كاف في الارث ، وذلك لأن إسلام الوارث غرّة شهر رمضان وجداني ، وحياة المورّث أثبتناه بالاستصحاب فيكون هذا القدر كافيا في تحقق الارث .

وعليه : فيوجّه كلام هؤلاء الجماعة ( بأنّ المقصود في المقام ) من سبب الارث ليس هو إحراز موت المورّث بعد إسلام الوارث حتى يكون الاستصحاب مثبتا ، بل سبب الارث هو : ( إحراز إسلام الوارث في حياة أبيه ) وذلك يتم باستصحاب حياة الأب إلى غرة شهر رمضان وإسلام الابن غرة شهر رمضان وجداني ، فتحرر من ضم الأصل إلى الوجدان انّ إسلام الابن كان في حياة الأب فيرث منه ولا يكون مثبتا .

( كما يعلم ) صحة هذا التوجيه الذي ذكرناه لكلام هؤلاء الجماعة ( من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرايع ) في آخر كتاب القضاء ممّا يدل على كفاية ضم مثل هذين الأمرين : الاستصحاب والوجدان في الارث .

وأمّا الفرع الذي ذكره في الشرايع قبل هذا الفرع فهو : «انه لو مات زيد مثلاً وخلّف عمروا وبكرا ، وإتفقا على تقدّم إسلام عمرو على موت الأب ، وإختلفا في بكر للجهل بتاريخ إسلامه ، سواء جهل تاريخ موت الأب أيضا أم لا ؟ إختص الارث بعمرو مع يمينه » إنتهى ، فهنا إختص الارث بعمرو ، وهناك إشتركا

ص: 92

ويكفي في ثبوت الاسلام حال الحياة المستصحبة في تحقق سبب الارث وحدوث الوارثية بين الولد ووالده حال الحياة .

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق - في كُرّ وجد فيه نجاسةٌ لا يعلم سبقُها على الكرّية وتأخّرها -

-------------------

في الارث ، مع إنه لو كان مستندهم الأصل المثبت لزم إشتراكهما في الفرعين ، فاختلاف حكمهم في الفرعين يؤيد توجيهنا للاستصحاب وان إستنادهم إليه بعد إخراجه عن كونه مثبتا ، وإلاّ لزم عدم إختلافهم في حكم الفرعين .

( و ) كيف كان : فانه على هذا التوجيه المخرج للاستصحاب عن كونه مثبتا ( يكفي في ثبوت الاسلام حال الحياة المستصحبة ) كفاية ( في تحقق سبب الارث وحدوث الوارثية بين الولد ووالده حال الحياة ) أي : حال حياة المورّث ، فان ثبوت إسلام الوارث حال حياة المورّث كاف للارث ، والمثال بين الولد والوالد من باب انه أحد مصاديق الكلي الذي يريده الشرايع لا لخصوصية بين الولد والوالد ، بل بين كل مورّث ووارث ، كما لا يخفى .

هذا ، وحيث ان المسألة فقهية ، وإنّما أراد المصنِّف الالماع إلى كون الأصل مثبتا، أو ليس بمثبت ، نكتفي منها بهذا القدر ، والتفصيل في كتاب الجواهر وغيره من كتب الفقه .

( ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق - في كُرّ ) من الماء ( وجد فيه نجاسةٌ ) و ( لا يعلم سبقُها ) أي : سبق النجاسة ( على الكرّية وتأخّرها ) عن الكرية ، وذلك بأن لم نعلم هل صار كرّا أوّلاً ثم وقعت فيه النجاسة حتى يكون الماء طاهرا ، أو وقعت فيه النجاسة أولاً ثم صار كرا حتى يكون الماء نجسا ؟ .

ولا يخفى : ان في إنفعال الماء وعدمه قولين : قول بأن الكرية شرط ، وقول

ص: 93

فانّهم حكموا : بأنّ إستصحاب عدم الكرّية قبل الملاقاة الراجع إلى إستصحاب عدم المانع عن الانفعال حين وجود المقتضي له معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّية .

ولا يخفى أنّ الملاقاة معلومة ، فانّ كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة ، وإلاّ

-------------------

بأن القلة شرط ، فعلى القول الأوّل : يجري هذا إستصحاب عدم الكرية ولا يجري إستصحاب عدم الملاقاة لأنه مثبت ، فينتج نجاسة الماء ، وعلى القول الثاني : يجري هنا إستصحاب عدم الملاقاة حين القلة ، ولا يجري إستصحاب عدم الكرية لأنه مثبت ، فينتج طهارة الماء ، هذا عند القائلين بعدم حجّية الاستصحاب المثبت ، لكن القائلين به حكموا بالتعارض بين الاستصحابين : إستصحاب عدم الكرية ، وإستصحاب عدم الملاقاة على كلا القولين ، فحكم الجماعة هنا بالتعارض دليل على عملهم بالأصل المثبت ، وإليه أشار المصنِّف بقوله :

( فانّهم حكموا : بأنّ إستصحاب عدم الكرّية قبل الملاقاة ) الذي يقتضي نجاسة الماء ( الراجع إلى إستصحاب عدم المانع عن الانفعال ) وهو الكرية وذلك بأن نستصحب عدم الكرية ( حين وجود المقتضي له ) أي : للانفعال وهو الملاقاة، إذ الملاقاة تقتضي النجاسة والكرية تمنع عنها ، فانهم حكموا بأن هذا الاستصحاب المقتضي لنجاسة الماء ( معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّية ) الذي يقتضي طهارة الماء .

( ولا يخفى ) إنه بناءا على كلا القولين لا تعارض وذلك ( أنّ الملاقاة معلومة ) بالوجدان لمشاهدة النجاسة فيه ( فانّ كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة ) لأن القلة موضوع الانفعال ( وإلاّ ) بأن لم يحرز وقوعها

ص: 94

فالأصل : عدم التأثير ، لم يكن وجهٌ لمعارضة الاستصحاب الثاني بالاستصحاب الأوّل ، لأنّ أصالة عدم الكرّية حين الملاقاة لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرّية ، وفي زمان القلّة حتى يثبت النجاسة إلاّ من باب عدم إنفكاك عدم الكرّية حين الملاقاة عن وقوع الملاقاة حين القلّة ، نظير عدم إنفكاك عدم الموت

-------------------

في زمن القلة ( فالأصل : عدم التأثير ) أي : عدم الانفعال فلا نجاسة .

وكذا على القول بأن الكرية موضوع عدم الانفعال ، فان اللازم في الحكم بالطهارة إحراز وقوع النجاسة في زمان الكرية وإلاّ فالأصل الانفعال وقبول التأثير فلا طهارة .

إذن : فعلى كلا القولين ( لم يكن وجهٌ لمعارضة ) الاستصحابين .

أمّا على القول بأن الكرية شرط : فلا وجه لمعارضة الأوّل وهو عدم الكرية ، بالثاني وهو عدم الملاقاة ، لأن الثاني مثبت .

وأمّا على القول بأن القلة شرط : فلا وجه لمعارضة ( الاستصحاب الثاني ) وهو: عدم الملاقاة ، قبل الكرية ( بالاستصحاب الأوّل ) وهو : عدم الكرية قبل الملاقاة ، وذلك لأن الاول مثبت كما قال ، ( لأنّ أصالة عدم الكرّية حين الملاقاة لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرّية ، وفي زمان القلّة ) إلاّ على وجه مثبت ، وهو ليس بحجة ( حتى يثبت النجاسة ) .

إذن : فحكم الجماعة بتعارض الاستصحابين دليل عملهم بالاُصول المثبتة ، وذلك لأنه لا تعارض بينهما على ماعرفت (إلاّ من باب) القول بالأصل المثبت، والأصل المثبت هنا لاثبات النجاسة هو : ( عدم إنفكاك عدم الكرّية حين الملاقاة عن وقوع الملاقاة حين القلّة ) عقلاً فيكون ( نظير عدم إنفكاك عدم الموت

ص: 95

حين الاسلام لوقوع الموت بعد الاسلام ، فافهم .

ومنها : ما في الشرائع والتحرير ، تبعا للمحكيّ عن المبسوط : من أنّه لو ادّعى الجاني أنّ المجني عليه شرب سمّا ، فمات بالسمّ وادّعى الوليّ أنّه مات بالسراية فالاحتمالان فيه سواء ،

-------------------

حين الاسلام لوقوع الموت بعد الاسلام ) كما في المسألة الاُولى .

وبعبارة اُخرى : ان النجاسة هنا لا تترتب على نفس المستصحب يعني : على عدم الكرية حين الملاقاة ، بل تترتب على لازمه العقلي وهو وقوع الملاقاة حين القلة فيكون مثبتا .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان المستفاد من الأخبار : إحتياج النجاسة إلى أن يكون الملاقاة حين القلة ، وهذا لا يثبت بالاستصحاب ، مضافا إلى ان الأصالة التي قام عليها الدليل هي : أصالة الطهارة لا المطهرية .

( ومنها : ما في الشرائع والتحرير ، تبعا للمحكيّ عن المبسوط : من أنّه لو ادّعى الجاني ) الذي جرح غيره ، ومات المجروح ( أنّ المجني عليه شرب سمّا ، فمات بالسمّ ) فليس إذن على الجاني إلاّ قصاص الجرح أو ديته .

( وادّعى الوليّ ) للميت : ( أنّه مات بالسراية ) أي : بسبب سراية الجرح الذي أورده الجاني عليه فأدّى إلى موته ، فعلى الجاني إذن القصاص في النفس ان جرحه عمدا ، والدية الكاملة ان جرحه خطأ .

لكنهم قالوا : ( فالاحتمالان فيه سواء ) وذلك لأن الأصل عدم السراية ، والأصل عدم شرب السم ، وحكمهم هذا إنّما يتم على القول بالتعارض بين الأصلين ، والتعارض لا يكون هنا إلاّ للعمل بالأصل المثبت ، إذ عدم شرب السم وهو الأصل الثاني مثبت ، فحكمهم بالتعارض هنا دليل على عملهم بالاُصول المثبتة .

ص: 96

وكذا الملفوف في الكساء إذا قدّه بنصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا والجاني ، أنّه كان ميّتا فالاحتمالان متساويان .

ثم حكي عن المبسوط : التردّد .

وفي الشرائع : رجّح قول الجاني ، لأنّ الأصل عدم الضمان ، وفيه إحتمال آخر ضعيف .

وفي التحرير « أنّ الأصل عدم الضمان من جانبه وإستمرار الحياة من جانب الملفوف

-------------------

( وكذا الملفوف في الكساء إذا قدّه بنصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا ) فكان موته بسبب القدّ ( و ) إدّعى ( الجاني ، أنّه كان ميّتا ) وليس عليه إلاّ الدية لهذا القدّ .

وهنا أيضا قالوا : ( فالاحتمالان متساويان ) لأن إستصحاب الحياة إلى زمان القدّ معارض باستصحاب عدم القدّ إلى زمان الموت ، والتعارض هنا لا يكون إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فيدل على عمل الجماعة بالاُصول المثبتة .

( ثم حكي عن المبسوط : التردّد ) في حكم الجاني في المسألتين ، للتعارض بين الاستصحابين المذكورين .

( وفي الشرائع : رجّح قول الجاني ) وذلك ( لأنّ الأصل عدم الضمان ) على الجاني إلاّ بالقدر المتيقن منه .

ثم قال الشرايع : ( وفيه إحتمال آخر ضعيف ) وهو : إستصحاب الحياة فيثبت القتل الموجب للضمان .

( وفي التحرير ) قال : ( « أنّ الأصل عدم الضمان من جانبه ) أي : من جانب الجاني ( وإستمرار الحياة من جانب الملفوف ) أي : من جانب المجني عليه ،

ص: 97

فيرجّح قول الجاني وفيه نظر » .

والظاهر : أنّ مراده النظر في عدم الضمان ، من حيث أنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سببٌ في الضمان ، فلا يجري أصالة عدمه . وهو الذي ضعّفه المحقق ، لكن قوّاه بعض محشّيه .

والمستفاد من الكلّ نهوض إستصحاب الحياة لاثبات القتل الذي هو سبب الضمان .

-------------------

فيتعارض الأصلان ( فيرجّح قول الجاني ) ثم قال : ( وفيه نظر » ) أي : في عدم الضمان ، وذلك لأن الأصل سببي وهو إستصحاب الحياة إلى حين القدّ فيقتضي الضمان ، فلا يبقى مجال للاستصحاب المسبّبي الذي هو عدم القدّ إلى زمان الموت حتى لا يقتضي الضمان .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( والظاهر : أنّ مراده ) أي : التحرير من قوله : « وفيه نظر » هو : ( النظر في عدم الضمان ، من حيث أنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ ) يلزمه عقلاً حصول القتل الذي هو ( سببٌ في الضمان ، فلا يجري أصالة عدمه ) أي : عدم الضمان ( و ) عدم الضمان هذا ( هو الذي ضعّفه المحقق ) في قوله المتقدِّم حيث قال : « وفيه إحتمال آخر ضعيف » .

( لكن قوّاه بعض محشّيه ) أي : محشّي الشرايع في قبال تضعيف المحقّق له .

( و ) الحاصل : ان ( المستفاد من الكلّ ) أي : كل هذه الكلمات ( نهوض ) الأصل المثبت الذي هو ( إستصحاب الحياة لاثبات القتل الذي هو سبب الضمان) مع ان إستصحاب الحياة إلى حين القدّ لا يثبت ان القدّ صار سببا للموت - لأنه لازمه العقلي - إلاّ على القول بالأصل المثبت ، بينما أسقط بعض العلماء

ص: 98

ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : « ولو إدّعى الجاني نقصان يد المجني عليه باصبع ، إحتمل تقديمُ قوله عملاً بأصالة عدم القصاص و تقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل السلامةُ .

هذا إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلاً ، وأمّا لو ادّعى زوالها طارئا ، فالأقرب : أنّ القول قول المجنيّ عليه » ، إنتهى .

-------------------

الاحتمالين هنا بالتعارض ورجع إلى دليل ثالث ، وبعضهم رجّح عدم الضمان ، وبعضهم تنظّر فيه ، وبعضهم قوّى الضمان ، ولا أحد منهم ردّ الأصل بأنه مثبت ، ممّا يظهر منهم انهم يعملون بالأصل المثبت .

( ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : « و ) هو : انه ( لو ) قطع الجاني يد المجنى عليه ثم إختلفا فادّعى المجني عليه تماميّة يده وعدم نقص فيها بينما ( إدّعى الجاني نقصان يد المجني عليه باصبع ) فليس له الدية فقط .

وهنا قالوا : ( إحتمل تقديمُ قوله ) أي : قول الجاني ( عملاً بأصالة عدم القصاص ) لأن القصاص أمر حادث لا نعلم انه شرّع في المقام أم لا ، فالأصل عدمه .

( و ) إحتمل أيضا ( تقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل ) أي : الظاهر في حال الانسان والحيوان وغيرهما ( السلامةُ ) فللمجني عليه القصاص .

ثم قالوا : انّ ( هذا ) الذي ذكرناه : من تعارض الأصلين إنّما هو فيما ( إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلاً ) بأن قال : انه وُلِدَ ناقص الاصبع ( وأمّا لو ادّعى زوالها ) أي : زوال السلامة ( طارئا ) بأن قال الجاني : ان يده كانت تامة ثم قطع اصبع منها بسبب حادث ( فالأقرب : أنّ القول قول المجنيّ عليه » (1) ) لاستصحاب السلامة ( إنتهى ) كلام التحرير .

ص: 99


1- - تحرير الاحكام : ج2 ص261 .

ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الاصبع في إثبات الجناية على اليد التامّة .

والظاهر : أنّ مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في نظير المسألة ، وهو : ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه . فانّه قوّى عدم ضمان الصحيح .

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط والشرايع ، في إختلاف الجاني والولي في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله .

-------------------

( ولا يخفى صراحته ) أي : صراحة كلام التحرير ( في العمل بأصالة عدم زوال الاصبع في إثبات ) اللازم العقلي له ، وهو : وقوع ( الجناية على اليد التامّة ) الموجب ذلك للقصاص أو الدية التامة ، فان إستصحاب السلامة لا يثبت وقوع الجناية على اليد التامة إلاّ على القول بالأصل المثبت لأنه لازمه العقلي لا الشرعي .

( والظاهر : أنّ مقابل الأقرب ) في كلام التحرير هو : ( ما يظهر من الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في نظير المسألة ، وهو : ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ) بانه هل كان شللاً أو كان صحيحا مثلاً ؟ ( فانّه قوّى عدم ضمان الصحيح ) فليس القول قول المجني عليه .

( ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط والشرايع في إختلاف الجاني والولي في موت المجنيّ عليه ) بانه مات ( بعد الاندمال أو قبله ) فان مات ، بعد الاندمال ، فقد كان موته من اللّه تعالى لا بالسراية ، فليس على الجاني إلاّ دية الجرح ، وان مات قبل الاندمال كان الموت بالسراية ، فعلى الجاني الدية الكاملة للموت ، لا دية الجرح فقط .

قالوا : الاحتمالان فيه سواء ، فان من هذا الجانب : أصالة عدم الاندمال

ص: 100

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين والشهيدين .

لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب : عدم العمل بكلّ أصل مثبت .

فاذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة على ضرب اللفاف بالسيف على وجه لو كان زيدٌ الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف ، لقتله إلاّ أنّهما إختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللفّ ،

-------------------

ممّا يقتضي الموت بالسراية الموجب لدية كاملة ، ومن ذاك الجانب : أصالة عدم السراية ممّا يقتضي الموت بعد الاندمال الموجب لدية الجرح فقط ، وقولهم هذا يقتضي التعارض بين الأصلين ، والقول بالتعارض هنا لا يكون إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فيدلّ على انهم عملوا بالاُصول المثبتة .

( إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه خصوصا كتب الشيخ والفاضلين ) : المحقق والعلامة ( والشهيدين ) : الأوّل والثاني ( لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب : عدم العمل بكلّ أصل مثبت ) وإنّما هم يعملون ببعض الاُصول المثبتة .

ثم ان المصنِّف يؤيد عدم عملهم بكل أصل مثبت بقوله : ( فاذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة ) كفرع قدّ الملفوف بنصفين - مثلاً - ( على ضرب اللفاف بالسيف على وجه لو كان زيدٌ الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف ، لقتله ) بهذه الضربة ، فاتفقا على ضربه ( إلاّ أنّهما إختلفا في بقائه ملفوفا ) حتى يكون على الضارب القصاص أو الدية ( أو خروجه عن اللفّ ) حتى لا يكون عليه شيء .

ص: 101

فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم : بأنّ الأصل بقاء لفّه ، فيثبت القتل ، إلاّ أن يثبت الآخر خروجه ، أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللف وبقائه على الحياة لتوقف تحقق عنوان القتل عليهما .

وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شك في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب

-------------------

وعليه : ( فهل تجد من نفسك ) أيها الفقيه في هذا المثال ( رمي أحد من الأصحاب بالحكم : بأنّ الأصل بقاء لفّه ، فيثبت ) بذلك لازمه العادي وهو : ( القتل ) الموجب للقصاص ، أو لضمان الدية ( إلاّ أن يثبت ) الخصم ( الآخر خروجه ) أي : خروج زيد من اللفاف ، فانه لا يقول أحد : بأن الأصل بقاؤه في اللفاف ، وان موته صار من أجل ضرب اللفاف الذي كان هو فيه ؟ .

( أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللف ) حيث تركوا العمل فيه بالأصل المثبت ولم يقولوا بوجوب الدية أو القصاص على الضارب ( و ) بين ( بقائه على الحياة ) حيث عملوا فيه بالأصل المثبت وقالوا : بأن الملفوف كان حيا حين ضربه الجاني فاستند موته إليه ؟ .

وكيف كان : فانه لا فرق بينهما ، لانّه ان كان الأصل المثبت في الأوّل غير معمول به ، فالأصل المثبت في الثاني أيضا يلزم أن يكون غير معمول به ( لتوقف تحقق عنوان القتل ) الموجب للقصاص أو لضمان الدية ( عليهما ) أي : على بقاء اللف وبقاء الحياة ، لأنهما من واد واحد .

( وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شك في بقائه فيه ) أي : في بقاء الماء في الحوض ، وعدمه ( فهل يحكم أحد بطهارة الثوب

ص: 102

بثبوت إنغساله بأصالة بقاء الماء .

وكذا لو رمى صيدا ، أو شخصا ، على وجه لو لم يطرء حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل .

إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لاثبات الموضوعات الخارجية التي يترتب عليها الأحكام الشرعية .

-------------------

بثبوت إنغساله بأصالة بقاء الماء ) في الحوض ؟ بأن يقال : نستصحب وجود الماء في الحوض ، فيثبت لازمه العادي وهو : كون الثوب قد غُسل بسبب وقوعه وسط هذا الحوض الذي كان فيه الماء في حين لم نعلم ان وقوع الثوب كان في وقت وجود الماء فيه أم لا ؟ .

( وكذا لو رمى صيدا ، أو شخصا ، على وجه لو لم يطرء حائل لأصابه ) السهم وقتله ، ثم رأينا الصيد أو الشخص مقتولاً ولم نعلم هل انه قتل برمي هذا أو قتل بسبب آخر ؟ ( فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل ) ؟ فانه إذا حكم بقتل الصيد أو الشخص كان معناه : إثبات القتل بالأصل المثبت ، وهذا ما لا يقول به أحد .

( إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لاثبات الموضوعات الخارجية ) بها ، مثل القتل في المثال السابق وما أشبه ( التي يترتب عليها الأحكام الشرعية ) كالدية والقصاص وما أشبه ذلك .

ومثل ما إذا علمنا بأن زيدا وطأ هندا ، وشككنا في انه هل عقد عليها ووطئها أم لا ؟ فان الاستصحاب - لولا انه مثبت - يقتضي عدم العقد إلى حين الوطي ، ممّا يوجب عليه حدا .

هذا ، ولكن لا يخفى : ان المسائل مختلفة : من جهة جريان أصل الصحة

ص: 103

وكيف كان : فالمتّبع هو الدليل ، وقد عرفت : أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر أكثر القدماء فهو كاحدى الأمارات الاجتهادية ، يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي . وأمّا على المختار من إعتباره من باب الاخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعية المترتِّبة على نفس المستصحب .

نعم ،

-------------------

وعدمه ، ومن جهة خفاء الواسطة وعدمه ، ومن جهة حجية الاستصحاب من باب الظن أو من باب الاخبار ، ومن جهة درأ الحدود بالشبهات وعدمه ، ومن جهة علم الفاعل وجهله ، إلى غير ذلك ، فالجميع ليس من باب واحد .

( وكيف كان : فالمتّبع هو الدليل ، وقد عرفت : أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر أكثر القدماء ) على ما نقله المصنِّف عنهم ( فهو كاحدى الأمارات الاجتهادية ، يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب ) كالنمو والالتحاء والتنفس للحياة ، فانها تكون كالمستصحب ( في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي ) وذلك لأن الاستصحاب يكون حينئذ كالشاهدين ، أو كقول أهل الخبرة ، فيثبت به لازمه ، وملزومه ، وملازمه ، العقلي والعادي والعرفي والشرعي .

( وأمّا على المختار من إعتباره ) أي : الاستصحاب ( من باب الاخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعية المترتِّبة على نفس المستصحب ) بلا واسطة ، امّا الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب مع الواسطة ، وكذلك الآثار العقلية والعرفية والعادية فلا تترتب على الاستصحاب .

( نعم ) قد يكون الأصل مثبتا ، ومع ذلك تترتب الآثار ، وهذا ما ِشار إليه بقوله :

ص: 104

هنا شيء ، وهو : أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها أحكاما لنفس المستصحب . وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف .

منها : ما إذا إستصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ،

-------------------

( هنا شيء ، وهو : أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي ) هو ( من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها ) أي : على تلك الوسائط من خفائها ( أحكاما لنفس المستصحب ) فيرى العرف انه لا فاصل بين الآثار وبين المستصحب ، لعدم ملاحظته الواسطة ، فلا يكون الأصل حينئذ مثبتا .

( وهذا المعنى ) الذي ذكرناه : من رؤية العرف ترتب الآثار على المستصحب بدون واسطة ( يختلف وضوحا وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف ) فاللازم ملاحظة هل ان الواسطة خفية حتى يستصحب لأنه ليس من الأصل المثبت ، أو ليست خفية حتى لا يستصحب لأنه حينئذ من الأصل المثبت ؟ .

( منها ) : أي من تلك الموضوعات التي تثبت بالاستصحاب لخفاء الواسطة ( ما إذا إستصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ) بأن كان هناك شيء رطب نجس ، وشيء آخر يابس طاهر فتلاقيا ، وشككنا في بقاء الرطوبة المسرية حين الملاقاة حتى يتنجس الطاهر ، وعدم بقاء الرطوبة حتى لم يتنجّس

ص: 105

فانّه لا يبعد الحكمُ بنجاسته ، مع أنّ تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة .

ومن المعلوم : أنّ إستصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثر الثوب وتنجّسه بها ، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به .

-------------------

( فانّه لا يبعد الحكمُ بنجاسته ) أي : الطاهر ( مع أنّ تنجسه ليس من أحكام ) مجرّد ( ملاقاته للنجس رطبا ) بلا واسطة ( بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها ) أي : بالرطوبة ( بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة ) فان سرايتها إليه ليست من الآثار الشرعية ، بل من الآثار العادية .

( ومن المعلوم : أنّ إستصحاب رطوبة النجس الراجع ) ذلك ( إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير ) في الثوب الطاهر الذي لاقاه ( لا يثبت تأثر الثوب ) الطاهر بالرطوبة ( وتنجّسه بها ) فان التنجس ليس من أحكام ملاقاة النجس رطبا ، بل بينهما واسطة وهي : إنتقال الرطوبة النجسة إلى الشيء الطاهر ، لكن حيث ان الواسطة هنا خفية يرى العرف انه ليس بين المستصحب وبين أثره الشرعي واسطة ، فيستصحب الرطوبة ويحكم بتنجّس الملاقي .

هذا غير ان المصنِّف حيث صوّر عدم خفاء الواسطة هنا في المثال قال : ( فهو أشبه مثال ، بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به ) فكما ان الطهارة هناك مترتبة على واسطة غير شرعية ، فكذلك النجاسة هنا مترتبة على واسطة غير شرعية أيضا ، وهو مثبت وليس بحجة .

لكن الظاهر ان بينهما فرقا وهو : ان العرف يرى في مثال التنجس خفاء

ص: 106

وحكى في الذكرى عن المحقّق : تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة وإرتضاه ، فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب

-------------------

الواسطة ، بينما لا يرى مثل ذلك في مسألة بقاء الماء في الحوض ، فالفرق بينهما رؤية العرف للتنجس بأنه من آثار الاستصحاب ، دون التطهر فانه لا يراه من آثار بقاء الماء في الحوض .

( وحكى في الذكرى عن المحقّق : تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ) حيث لا نعلم هل تنجس الثوب بسبب الرطوبة النجسة في رجل الذبابة أم لم يتنجس ؟ فقال المحقق : بأنه لا يتنجس ( ب ) سبب ( عدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ) ممّا معناه : انه لو جزمنا ببقاء الرطوبة نحكم بنجاسة الثوب ( وإرتضاه ) الذكرى .

لكن إرتضاءه له يحتمل أحد وجهين : ( فيحتمل أن يكون ) الحكم بطهارة الثواب بعد سقوط الذبابة عليه ( لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ) فيما سبق : من ان إستصحاب رطوبة رجل الذباب لا يثبت اللازم العادي الذي هو سراية الرطوبة النجسة إلى الثوب حتى يتنجس ، وحيث نشك في تنجس الثوب كان مجرى الأصالة الطهارة .

( ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب ) فهنا إستصحابان متعارضان : إستصحاب رطوبة رجل الذباب مع إستصحاب طهارة الثوب ، فيتساقطان ويكون المرجع حينئذ قاعدة الطهارة ، لأن « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه نجس » ، ولم نعمل انه تنجس .

ص: 107

إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض ، كما يظهر من المحقق ، حيث عارض إستصحاب طهارة الشاك في الحدث باستصحاب إشتغال ذمّته بالعبادة .

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل ، وغيرهما .

-------------------

وإنّما نقول بمعارضة الاستصحابين مع ان أحدهما حاكم والآخر محكوم ( إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض ) إذ إستصحاب رطوبة الرجل سببي ، وإستصحاب طهارة الثوب مسبّبي ، فلو جرى الاستصحاب السببي لم يبق مجال للاستصحاب المسبّبي حتى يتعارض الاستصحابان .

( كما يظهر ) الاغماض عن قاعدة الحكومة ( من المحقق ، حيث عارض إستصحاب طهارة الشاك في الحدث باستصحاب إشتغال ذمّته بالعبادة ) مع وضوح : ان الشك في الاشتغال والبرائة مسبّب عن الشك في بقاء الطهارة ، فاذا أحرزنا الطهارة بسبب الاستصحاب ، لا يبقى شك في صحة العبادة وبرائة الذمة ، ولكن كان من دأب القدماء جعل التعارض بين السببي والمسبّبي في كثير من الموارد ، كما لا يخفى ذلك لمن راجع الفقه .

( ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك ) وذلك فيما لو شككنا في اليوم الثلاثين بانه هل هو آخر شهر رمضان أو أول شوال ؟ فان الأصل : عدم دخول شوال ( المثبت ) هذا الاستصحاب للازمه العقلي أي : ( لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه ) أي : على الغد ( أحكام العيد ) المستحبة والمكروهة والمباحة والواجبة والمحرمة كما قال : ( من الصلاة ) أي : صلاة العيد ( والغسل ، وغيرهما ) كزيارة الامام الحسين عليه السلام ، والافطار ، وما أشبه ذلك .

ص: 108

فانّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخرّيته ولا أوّلية غده للشهر اللاحق .

لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم إنقضاء رمضان وعدم دخول شوال : إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوّلية غده لشهر آخر فالأول عندهم : ما لم يسبق بمثله والآخر ما إتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر .

-------------------

وعليه : ( فانّ مجرّد عدم ) دخول ( الهلال في يوم لا يثبت آخرّيته ) أي : آخرية هذا اليوم لشهر رمضان ( ولا أوّلية غده للشهر اللاحق ) الذي هو شوال ، لأنهما أمران غير شرعيين ، وقد عرفت : ان الاستصحاب إنّما يثبت الآثار الشرعية، لا العقلية والعادية والعرفية ( لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم إنقضاء رمضان وعدم دخول شوال : إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم ) المشكوك فيه ( لشهر ) رمضان ( وأوّلية غده لشهر آخر ) هو شهر شوال .

إذن : ( فالأول ) أي : أول الشهر معناه عند العرف ليس هو : وصول الهلال إلى درجة يمكن فيه رؤيته حتى يكون واسطة جلية بالنسبة إلى دخول هلال شوال ، بل أول الشهر معناه ( عندهم : ما لم يسبق بمثله ) وهذه واسطة خفية بالنسبة إلى دخول هلال شوال ، فيرى العرف الأثر الشرعي المترتب على أول الشهر بهذا المعنى مترتبا على عدم دخول هلال شوال بلا واسطة ، فيحكم بأن هذا اليوم ليس من شوال قطعا .

( و ) كذا ( الآخر ) أي : آخر شهر رمضان ليس معناه عندهم : وصول الهلال إلى درجة لا يمكن رؤيته حتى يكون واسطة جلية بالنسبة إلى عدم إنقضاء شهر رمضان ، بل معناه عندهم هو : ( ما إتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر )

ص: 109

وكيف كان : فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقليّ بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب .

وربما يتمسك في بعض موارد الاُصول المثبتة بجريان السيرة أو الاجماع على إعتباره هناك ، مثل : اجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محلّ الغَسل أو المسح

-------------------

وهذه واسطة خفية بالنسبة إلى عدم إنقضاء شهر رمضان ، فيرى العرف الأثر الشرعي المترتب على آخر الشهر بهذا المعنى مترتبا على عدم إنقضاء شهر رمضان بلا واسطة ، فيحكم بأن هذا اليوم هو من شهر رمضان قطعا .

هذا ، ولا يخفى : ان ما ذكرناه هنا لم يكن خاصا بآخر شهر رمضان وأول شوال ، بل هو عام يشمل كل شهر ، فيجري في آخر شعبان وأول شهر رمضان أيضا ، وكذلك يجري في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة ، وكذلك يجري بالنسبة إلى الأيام والأسابيع والأشهر كلها حتى في السنوات .

( وكيف كان : فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي ) كتأثر الثوب بالرطوبة في مثال تلاقي نجس وطاهر ( والعقليّ ) كأوّلية الغد في مثال شهر رمضان وشوال ( بحيث يعدّ آثاره ) أي : آثار الأمر العادي أو العقلي أو العرفي بخفائه ( آثارا لنفس المستصحب ) عرفا .

( وربّما يتمسك في بعض موارد الاُصول المثبتة بجريان السيرة أو الاجماع على إعتباره هناك ) أي : إعتبار الاستصحاب في تلك الموارد لكن لا لدليل الاستصحاب وحده ، بل بمعونة السيرة والاجماع ، وذلك ( مثل : اجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محلّ الغَسل أو المسح ) في الوضوء

ص: 110

لاثبات غَسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغُسل ؛ وفيه نظر .

الأمر السابع :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق

-------------------

أو الغُسل ( لاثبات ) لازمه العادي ، أعني : ( غَسل البشرة ومسحها ، المأمور بهما في الوضوء والغُسل ) ولذا تعارف فيهما عدم الفحص عن الحاجب فيما إذا شك في حصول حاجب من دم البرغوث وما أشبه ، خصوصا في المحلات الكثيرة البرغوث.

( وفيه نظر ) ولعله لأن الشك في وجود الحاجب ان كان عقلائيا ولم يكن إطمئنان بعدم الحاجب فالسيرة على الفحص ، إلاّ إذا كان الشك غير عقلائي ، أو كان الشك بعد الفراغ فلا يجب الفحص لكن لا لوجود الأصل المثبت بل لكون الشك غير عقلائي أو لقاعدة الفراغ .

( الأمر السابع ) : في أصالة تأخر الحادث ، فانا قد نعلم بحدوث حادث لكن لا نعلم هل حدث في زمان سابق أو في زمان لاحق ؟ كما إذا علمنا ان زيدا مات لكن لا نعلم هل مات يوم الخميس أو مات يوم الجمعة ؟ .

وقد نعلم بحدوث حادث ، لكن لا نعلم بأنه هل حدث متقدّما أو متأخرا أو مقارنا لحادث آخر ؟ كما إذا علمنا بالكرية وبوقوع نجس في الماء ، لكن لا نعلم هل وقوع النجاسة قبل صيرورته كرا أو مع صيرورته كرا ؟ .

فالأول : هو الحادث المشكوك حدوثه بالنسبة إلى الزمان المتقدِّم أو المتأخِّر .

والثاني : هو الحادث المشكوك حدوثه بالنسبة إلى حادث آخر .

أشار المصنِّف إلى أوّل الفرعين بقوله : ( لا فرق في المستصحب ) الذي يشمله دليل الاستصحاب ( بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق

ص: 111

رأسا وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق ، مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء .

فإذا شك في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق فلا يقدح في جريان إستصحاب حياته وعِلمُنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان .

-------------------

رأسا ) كما إذا شككنا في انه هل مات زيد أو لم يمت ؟ حيث نستصحب عدم موته .

( وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق ، مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء ) كما إذا علمنا بارتفاع حياة زيد في يوم الجمعة ، لكن لا نعلم هل انه إرتفع في يوم الخميس أو لم يرتفع في يوم الخميس ؟ حيث نستصحب عدم إرتفاعه يوم الخميس ؟ .

إذن : فالقاعدة في كلا الفرضين هو أن نستصحب حياة زيد ، لكن في المثال الأوّل نستصحبه مطلقا ، وفي المثال الثاني نستصحبه إلى يوم الخميس .

وعليه : ( فإذا شك في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق ) كيوم الخميس ( فلا يقدح في جريان إستصحاب حياته ) أي : ان إستصحاب حياة زيد في يوم الخميس لا يقدح فيه ( وعِلمُنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان ) كيوم الجمعة الذي نقطع بموته فيه .

وإنّما لا يقدح فيه لوضوح : ان موته يوم الجمعة لا يوجب رفع أركان الاستصحاب بالنسبة إلى يوم الخميس ، فان أركان الاستصحاب في يوم الخميس تامة ، وذلك لليقين السابق بحياته في يوم الأربعاء ، والشك اللاحق بموته يوم الخميس ، فيستصحب حياته .

ص: 112

وهذا هو الذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ويلزمه عقلاً تأخر حدوث ذلك الحادث .

فإذا شكّ في مبدء موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب

-------------------

( وهذا ) الشك في بقاء المستصحب في جزء من الزمان اللاحق ، وان علم بارتفاعه بعد ذلك ( هو الذي يعبّر عنه ) في ألْسنة الاُصوليين : ( بأصالة تأخّر الحادث . يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان ) كعلمهم بموت زيد يوم الجمعة ( وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ) بأن لم نعلم هل الموت وجد في يوم الخميس أم لا ؟ ( فيحكم باستصحاب عدمه ) أي : عدم الموت ( قبل ذلك ) أي : قبل يوم الجمعة كما في المثال .

إذن : فالعلم بالحادث في الزمان المتأخّر لا يمنع من إستصحاب عدم هذا الحادث في الزمان المتقدّم الذي هو مشكوك ( ويلزمه عقلاً تأخر حدوث ذلك الحادث ) .

وعليه : فإذا شككنا في موت زيد في يوم الخميس وإستصحبنا عدم موته في يوم الخميس ، كان لازمه العقلي : تأخر الموت عن يوم الخميس إلى يوم الجمعة كما قال : ( فإذا شكّ في مبدء موت زيد ) بانه هل كان يوم الخميس أو يوم الجمعة ؟ وذلك ( مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ) أي : ان الموت في الجمعة مقطوع به ، لكن الشك في ان يوم الجمعة هل هو مبدء موته ، أو ان يوم الجمعة إمتداد لموته الذي حصل يوم الخميس ؟ ( فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب ) لفرض ان الاستصحاب يقول : انه كان حيا يوم الخميس

ص: 113

مستلزمةٌ عقلاً : لكون مبدء موته يوم الجمعة .

وحيث تقدّم في الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب - بناءا على العمل به من باب الاخبار - لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ، لا على مجرّد حياته قبل الجمعة حكمٌ شرعي ، لم يترتّب على ذلك .

-------------------

( مستلزمةٌ عقلاً : لكون مبدء موته يوم الجمعة ) لا يوم الخميس .

هذا ( وحيث تقدّم في الأمر السابق ) عند بيان الاستصحاب المثبت : ( أنّه لا يثبت بالاستصحاب - بناءا على العمل به من باب الاخبار - ) والروايات ، لا العمل به من باب الظن ، إذ قد عرفت : انه لو كان الاستصحاب حجة من باب الظن ، كانت لوازمه العقلية والعادية والعرفية كلها حجة ، ولكن لو كان حجة من باب الاخبار ، فانه لا يثبت ( لوازمه العقليّة ) والعادية والعرفية .

وعليه : ( فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ، لا على مجرّد حياته قبل الجمعة ) أي : يوم الخميس ( حكمٌ شرعي ، لم يترتّب على ذلك ) فإذا نذر قرائة القرآن على روح زيد ان مات زيد يوم الجمعة ، لم تجب عليه القرائة ، لأنه لا يعلم بانه مات يوم الجمعة ، ولكن لو نذر قرائة القرآن على روح زيد في الجمعة الاُولى من موته ، وجبت عليه القرائة من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك للعلم بموته فيها سواء كانت الجمعة إبتداء موته أم إستمرارا لموته .

وهكذا الحال لو نذر التصدّق بدينار للفقير إذا ولدت زوجته يوم الجمعة ، ثم شك في انها ولدت يوم الخميس أو يوم الجمعة ، فإنه لم يجب عليه التصدّق ، لأن إستصحاب عدم ولادتها يوم الخميس لا يثبت ولادتها يوم الجمعة إذ هو أثر عادي له لا أثر شرعي ، فيكون من الاستصحاب المثبت الذي ليس بحجة ،

ص: 114

نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو كان اللازم العقلي من اللوازم الخفيّة جرى فيه ما تقدّم ذكره .

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، كالمثال المتقدّم .

فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم

-------------------

ولكن لو نذر التصدّق بدينار في أول جمعة من ولادتها وجب عليه التصدق من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك لأنها سواء ولدت يوم الخميس أم يوم الجمعة ، فهو أول جمعة من ولادتها .

هذا ، ان قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الاخبار ، فان مثبتاته على ما عرفت ليست بحجة .

( نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن ) العقلائي ( أو كان اللازم العقلي ) المترتب على المستصحب ( من اللوازم الخفيّة ) بحيث يرى العرف لخفاء الواسطة ترتب الحكم الشرعي على نفس المستصحب كما لو رأى الأثر المترتِّب على تأخّر حدوث الموت إلى يوم الجمعة مترتبا على عدم حدوث الموت يوم الخميس ، وكذا في مثال الولادة ( جرى فيه ما تقدَّم ذكره ) من حجّية الاستصحاب وان كان مثبتا .

هذا مجمل الكلام في المقام ( وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، كالمثال المتقدّم ) بأن لم نعلم هل الموت أو الولادة حصلا في يوم الخميس أو يوم الجمعة ؟ ( فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ) في يوم الخميس :

ص: 115

لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ، إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه ، إلاّ أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل : عدم الشيء سابقا ، وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا إنضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل

-------------------

عن وجوب نفقة زوجته ، وحرمة خروجها من الدار لو كان قد نهاها عن الخروج فيه ، وغير ذلك ( لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ) .

وإنّما لا يترتب على عدم الموت في يوم الخميس أحكام حدوث الموت في يوم الجمعة ( إذ المتيقّن بالوجدان ) هو ( تحقّق الموت يوم الجمعة ) فانه ميت في هذا اليوم على كل تقدير ، سواء كان موته يوم الخميس أم يوم الجمعة ( لا حدوثه ) أي : حدوث الموت في يوم الجمعة ، فانه غير متيقن بالوجدان للشك فيه ، فاذا أردنا أن نقول : ان الموت حدث يوم الجمعة باستصحاب عدم موته يوم الخميس كان من الأصل المثبت .

( إلاّ أن يقال ) : ان الموضوع مركب من : عدم ووجود ، فالعدم يثبت بالاستصحاب ، والوجود يثبت بالوجدان ، وعند ذلك يصح الاستصحاب ويترتب الأثر على ذلك الموضوع المركب ، بتقريب : ( إنّ الحدوث هو ) معنى مركب من : ( الوجود المسبوق بالعدم . وإذا ثبت بالأصل : عدم الشيء سابقا ، وعلم بوجوده بعد ذلك ) أي : ثبت بالأصل - كما في المثال - عدم الموت في يوم الخميس ، وعلم بوجود الموت في يوم الجمعة فانّ من ضم الأصل إلى الوجدان يتحقق معنى الحدوث كما قال :

( فوجوده المطلق في الزمان اللاحق ) وهو يوم الجمعة ( إذا إنضمّ إلى عدمه قبل ذلك ) وهو يوم الخميس ( الثابت بالأصل ) لأن عدم الموت يوم الخميس

ص: 116

تحقّق مفهوم الحدوث ، وقد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل .

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان الحادث ممّا يعلم بارتفاعه بعد حدوثه فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ،

-------------------

ثبت بالأصل فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر ( تحقّق مفهوم الحدوث ) أي : حدوث الموت في يوم الجمعة وهو الموضوع المركب الموجب لترتيب الأثر عليه من الوفاء بالنذر .

( و ) لكن ( قد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل ) فان المصنّف صرّح في التنبيه السابق بعدم حجية الأصل المثبت ، بلا فرق بين ان يثبت به تمام الموضوع الخارجي ، أو أحد جزئي مفهومه ، وذلك حين قال : «وكذا لا فرق بين ان يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي كالمثالين - مثال إستصحاب عدم الحائل لاثبات القتل ، ومثال إستصحاب حياة زيد لاثبات موت عمرو - أو قيد له عدمي أو وجودي كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو ازهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة المثبت لكون الدم الموجود حيضا» إلى آخر كلامه .

( وممّا ذكرنا ) في المثال الآنف : من انه لا يترتب على أصالة عدم الموت يوم الخميس حدوث الموت يوم الجمعة ، وان كنّا نعلم يوم الجمعة انه ميت : امّا بقاءً وامّا حدوثا ( يعلم ) حكم المثال التالي ، وهو : ( أنّه لو كان الحادث ممّا يعلم بارتفاعه بعد حدوثه ) وذلك كما إذا علمنا بارتفاع كرية ماء الحوض بعد العلم بحدوث كريته في أحد اليومين : اما الخميس واما الجمعة ( فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ) أي : كما لا يترتب عليه أحكام الحدوث

ص: 117

لأنّ وجوده مساوق لحدوثه .

نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان مّا من الزمانين .

كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كُرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده وارتفع كرّيته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم كرّيته في يوم الخميس ،

-------------------

كذلك لا يترتب عليه أحكام الوجود .

وإنّما لا يترتب عليه أحكام الوجود أيضا ( لأنّ وجوده مساوق لحدوثه ) أي : ان وجود الكر في الحوض مساوق لحدوث الكر فيه ومساوٍ له ، وكما لا يترتب على أصالة عدم حدوث الكر يوم الخميس حدوثه يوم الجمعة ، كذلك لا يترتب على أصالة عدم وجود الكر يوم الخميس وجوده يوم الجمعة ، إذ لعل حدوث الكر ووجوده حصلا يوم الخميس وزالا بعد ذلك .

( نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق ) أي : وجود الكر ( في زمان مّا من الزمانين ) : في يوم الخميس أو يوم الجمعة ، لأنا نعلم : انه إمّا في يوم الخميس ، وإمّا في يوم الجمعة كان كرا ، وكذا يترتب عليه أحكام حدوثه المطلق أيضا للقطع بحدوثه في زمان مّا من الزمانين : اما الخميس وامّا الجمعة ، فكل واحد من وجوده المطلق ، أو حدوثه المطلق ، إذا كان له حكم ترتّب عليه .

( كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كُرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده ) أي:

بعد الخميس : امّا في يوم الخميس وامّا في يوم الجمعة ( وارتفع كرّيته بعد ذلك ) أي : بعد أن صار كرا ( فنقول : الأصل عدم كرّيته في يوم الخميس ) لاستصحاب عدم كريته المتيقن في يوم الاربعاء ، فيترتب أثر هذا العدم عليه ، فلو غسل - مثلاً - ثوب نجس فيه يوم الخميس حكم ببقاء نجاسته ، ولو إتصل بماء قليل نجس لا يطهر ذلك الماء القليل ، وهكذا .

ص: 118

ولايثبت بذلك كرّيته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ، لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه .

نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حُكِمَ بطهارته من باب إنغسال الثوب بماءين مشتبهين .

-------------------

( و ) لكن ( لا يثبت بذلك ) أي : باستصحاب عدم الكرية لازمه غير الشرعي وهو : ( كرّيته يوم الجمعة ) إذ الكرية يوم الجمعة لازم عقلي لعدم كرية يوم الخميس ، بعد علمنا بانه صار كرا في أحد اليومين .

إذن : ( فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ) لا في يوم الخميس لاستصحاب بقاء عدم الكرية ، ولا في يوم الجمعة ( لأصالة بقاء نجاسته ) أي : نجاسة ذلك الثوب ( وعدم أصل حاكم عليه ) لما عرفت : من ان أصالة عدم الكرية يوم الخميس لا تثبت الكرية يوم الجمعة ، فلعله صار يوم الخميس كرا ثم إرتفع يوم الجمعة .

( نعم ، لو وقع ) ذلك الثوب النجس ( فيه في كلّ من اليومين ) : الخميس والجمعة ( حُكِمَ بطهارته ) لأنه ان كان كرا يوم الخميس فقد طهر الثوب في يوم الخميس ، وان كان كرا يوم الجمعة فقد طهر في يوم الجمعة ، فالثوب طاهر على أيّ حال ، لكن مع فرض ان ماء الحوض صار كرا يوم الجمعة باتصاله بكرّ ، أو مطر ، أو نحوهما ، حتى لا يستشكل : بانه إذا كان غير كر يوم الخميس وتنجس بملاقاة الثوب النجس بقي الماء نجسا ، فلم يكن الكر يوم الجمعة طاهرا ومطهّرا ؟ .

وكيف كان : فإذا غسل هذا الثوب في الحوض يوم الخميس مرة ، ويوم الجمعة اُخرى ، فقد علمنا بطهارته ، وذلك ( من باب إنغسال الثوب بماءين مشتبهين ) أي : الحكم بطهارته هنا من باب الحكم بطهارته فيما إذا كان هناك

ص: 119

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشك في تقدّم أحدهما على الآخر فامّا أن يجهل تاريخهما

-------------------

مائان مشتبهان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، فغسلنا الثوب النجس بصبّ كلٍ منهما عليه فانه نعلم بطهارته ، لأنه امّا طهر بالماء الأوّل ، وامّا طهر بالماء الثاني .

لا يقال : ان كان الماء الثاني نجسا فقد تنجس الثوب .

لأنه يقال : علمنا طهارته بأحد المائين ولم نعلم نجاسته بعد ذلك ، فنستصحب طهارته .

هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل ، وهو : بأن يلاحظ تأخر الحادث بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ، ومثاله : ما إذا علم بوجود موت زيد في الجمعة وشك في وجود موته في الخميس على ما مرّ تفصيله .

وامّا الفرع الثاني : فقد أشار إليه بقوله : ( وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ) كأن يكون هناك حادثان لا نعلم هل هذا متأخّر عن ذاك ، أو ذاك متأخّر عن هذا ؟ ولذلك قال : ( كما إذا علم بحدوث حادثين وشك في تقدّم أحدهما على الآخر ) .

مثلاً : إذا علمنا بأن هذا الماء غير الكر قد ورد عليه حادثان : الكرية والنجاسة ، ولكن لا نعلم هل ان الكرية واردة أولاً حتى لا تؤثر النجاسة ، أو ان النجاسة واردة أولاً حتى لا تؤثر الكرّية ويبقى الماء نجسا ، فان لهذا الفرع صورتين كالتالي :

الأوّل : ( فامّا أن يجهل تاريخهما ) بأن لم نعلم هل ان الكرية كانت يوم الخميس والنجاسة يوم الجمعة ، أو ان النجاسة كانت يوم الخميس والكرية يوم الجمعة ؟ .

ص: 120

أو يعلم تاريخ أحدهما ، فان جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ، لأن التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين .

وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين

-------------------

الثاني : ( أو يعلم تاريخ أحدهما ) بأن علمنا ان الكرية كانت يوم الخميس ، لكن لا نعلم هل النجاسة حصلت يوم الاربعاء أو يوم الجمعة ؟ .

وعليه : ( فان جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ) وذلك ( لأن التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين ) فان التأخر بوصف التأخر لم يكن سابقا حتى يستصحب ، فلا تتم فيه أركان الاستصحاب .

( وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر ) بأن نقول : الأصل عدم الكرية في زمان حدوث الملاقاة ، فالملاقاة يوم الخميس والكرية يوم الجمعة فهو إذن نجس ، أو نقول : ان الأصل عدم ملاقاة النجس في زمان الكرية ، فالكرية يوم الخميس والملاقاة يوم الجمعة ، فهو إذن طاهر ، فأركان الاستصحاب وان كان تاما في هذين الأصلين إلاّ إنهما لا يجريان لأن أصالة العدم في كل منهما معارضة بمثلها كما قال : ( فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط ) .

وإنّما يتعارضان ويتساقطان ( مع ترتب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ) بأن كان هناك أثر لهذا الأصل وأثر لذاك الأصل ، فيتساقطان ، حيث يلزم الرجوع بعده إلى عموم أو أصل فوقه .

نعم ، إذا كان لأحد الأصلين أثر دون الأصل الآخر ، جرى الأصل الذي له الأثر

ص: 121

وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه .

وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ؟ وجهان ، من كون التقارن أمرا وجوديا لازما لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ، ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود ،

-------------------

دون الأصل الآخر ، وذلك لأن الاستصحاب إنّما وضع للأثر ، فإذا كان هناك إستصحاب ولم يكن له أثر شرعي ، فلا مجرى للاستصحاب ( وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه ) تعالى فلا داعي لتفصيل الكلام الآن .

( وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن ) ؟ كما هو فيما نحن فيه حيث يمكن تقارن الكرية والنجاسة بأن نقول : الأصل عدم تقدّم الكرية ، والأصل عدم تقدّم النجاسة ، فهما إذن متقارنان ، وذلك ( لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ) فيتعارضان ويتساقطان وبعد التساقط تصل النوبة إلى التقارن ( وجهان ) :

الأوّل : عدم الحكم بالتقارن ، وقد أشار إليه بقوله : ( من كون التقارن أمرا وجوديا ) فيكون ( لازما لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ) وهو لازم غير شرعي ، ولذا لو أردنا إثباته باجراء الأصلين كان من الأصل المثبت ، وهو ليس بحجة ، فلا يصح الحكم بالتقارن .

( و ) الثاني : الحكم بالتقارن وهو ما أشار إليه بقوله : ( من كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن ) مجرّد ( عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود ) فيحكم به ولا يكون مثبتا ، وذلك لأن العرف يرون معنى تقارن الحادثين : انه مجرد اما إذا لم يصح تقدّم أحدهما على الآخر لا هذا على ذاك ، ولا ذاك على هذا ، وحينئذ فإذا كان التقارن منشاء أثر ، حكم بذلك الأثر ، فإذا نذر

ص: 122

وإن كان أحدهما معلوم التاريخ فلا يحكم على مجهول التاريخ ، إلاّ بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده .

نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت ،

-------------------

الأب - مثلاً - ان يصلي ركعتين إذا تقارن مجيء ولديه من السفر ، فجاءا ، لكن لم يعلم هل جاء أحدهما سابقا على الآخر ، أو تقارنا في المجيء ؟ فانه يجب عليه الوفاء بنذره حينئذ للتقارن بسبب الأصل .

هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى وهي صورة الجهل بتاريخ الحادثين .

واما الصورة الثانية فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( وان كان أحدهما معلوم التاريخ ) بان علمنا انه في الخميس صار كرا ، لكنا لا نعلم بأن ملاقاته للنجاسة كان يوم الاربعاء أو يوم الجمعة ( فلا يحكم على مجهول التاريخ ) وهو الملاقاة في المثال بالنسبة إلى معلوم التاريخ وهو الكرية ( إلاّ بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ) المعلوم فقط ( لا تأخّر وجوده ) أي : وجود المجهول التاريخ وهو الملاقاة ( عنه ) أي : عن المعلوم التاريخ وهو الكرية ( بمعنى حدوثه بعده ) فلا يثبت كون حدوث الملاقاة بعد زمان حدوث الكرية .

وعليه : فعدم وجود الملاقاة في زمان الكرية كما في المثال هو : مقتضى الأصل ولذلك يصح جريانه ، امّا حدوث الملاقاة بعد زمان الكرية ، فهو لازم عقلي لأصالة عدم حدوث الملاقاة يوم الخميس فلا يصح جريانه لأنه مثبت .

( نعم ، يثبت ذلك ) أي : تأخّر الملاقاة عن الكرية ( على القول بالأصل المثبت ) لكنك عرفت : ان مقتضى كون الاستصحاب حجة من باب الاخبار هو : انه لايثبت به لوازمه العقلية والعادية والعرفية .

ص: 123

فاذا علم تاريخ ملاقاة الثوب للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته ، وعدم كرّيته في زمان الملاقاة ، وإذا عُلِمَ تاريخ الكرّية حُكِمَ أيضا بأصالة عدم الملاقاة في زمان الكرّية ، وهكذا .

وربما يتوهّم جريان الأصل في طرف المعلوم بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر .

-------------------

وعليه : ( فاذا علم تاريخ ملاقاة الثوب ) النجس ( للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته ، وعدم كرّيته في زمان الملاقاة ) فهو نجس ، وذلك لأن الكرية مشكوكة ، فيستصحب عدمها إلى زمان الملاقاة ، فيترتب على إستصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة نجاسة الماء ، وذلك بناءا على ان الملاقاة مقتض والكرية مانعة .

( و ) في عكسه : كما ( إذا عُلِمَ تاريخ الكرّية ) وجهل تاريخ الملاقاة ( حُكِمَ أيضا بأصالة عدم الملاقاة في زمان ) حدوث ( الكرّية ) فهو طاهر ، وذلك لأن الملاقاة مشكوكة فيستصحب عدمها إلى زمان الكرية ، فيترتب على إستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية طهارة الماء ، وذلك بناءا على شرطية القلة ، فان ملاقاة النجس إنّما تكون منجسة إذا كان الماء قليلاً ، والمفروض إنا نشك في الملاقاة حال قلة الماء .

( وهكذا ) بالنسبة إلى كل حادثين علم تاريخ أحدهما ، وجهل تاريخ الآخر .

هذا ( وربما يتوهّم جريان الأصل في طرف المعلوم ) أيضا إذا كان لكل من الأصلين : المعلوم والمجهول أثر ، وذلك ( بأن يقال : الأصل عدم وجوده ) أي : وجود المعلوم تاريخه لدينا ( في الزمان الواقعي للآخر ) أي : للحادث الآخر المجهول تاريخه عندنا ، إذ لعله في الواقع حدث قبل معلوم التاريخ ، وإذا جرى

ص: 124

ويندفع بأنّ نفس وجوده غيرُ مشكوك في زمان ، وأمّا وجوده في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم .

ثم إنّه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران :

أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التاريخ ،

-------------------

الأصل في معلوم التاريخ كما يجري في مجهول التاريخ ، تعارض الأصلان وتساقطا ، فيكون حال المعلوم تاريخ أحدهما ، حال مجهولي التاريخ .

( ويندفع ) هذا التوهم ( بأنّ نفس وجوده ) أي : وجود معلوم التاريخ بنفسه لا بالنظر إلى زمان الآخر ( غيرُ مشكوك في زمان ) حتى يستصحب عدمه ، إذ هو قبل التاريخ المعلوم معدوم يقينا ، وبعده موجود يقينا .

( وأمّا وجوده ) أي : وجود معلوم التاريخ لا بنفسه ، بل بالنظر إلى وجوده ( في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم ) حتى يقال : ان وجود معلوم التاريخ في زمان الآخر لم يكن في السابق ، فلا يكون في الحال أيضا ، فانه لم يكن هناك زمان كان مجهول التاريخ موجودا ومعلوم التاريخ معدوما ، حتى يقال : الأصل عدم وجوده في زمان الآخر فيستصحب .

وعليه : فقد تبيّن إلى هنا : انه لو كان تاريخ أحدهما معلوما وتاريخ الآخر مجهولاً ، فانه يستصحب عدم مجهول التاريخ فقط ولا يستصحب عدم معلوم التاريخ ، فبطل قول من قال بأن كليهما يستصحبان ، كما في مجهولي التاريخ .

( ثم إنّه يظهر من الأصحاب هنا ) أي : في الفرع الثاني وهو : ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ ( قولان آخران : ) يدوران بين افراط ، وتفريط ، أشار المصنِّف إلى الأوّل منهما بقوله :

( أحدهما : جريان هذا الأصل ) أي : الاستصحاب ( في طرف مجهول التاريخ،

ص: 125

وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ، وهو ظاهر المشهور وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقق والعلامة والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد .

منها : مسألة إتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان ، وإختلافهما في موت المورّث قبل الغُرّة أو بعدها ؛ فانّهم حكموا : بأنّ القول ، قول مدّعي تأخّر الموت .

نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف في بعض المقامات

-------------------

وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ) الأصل ، وهذا هو الذي قلنا بأنه إفراط ، وذلك لأن جريان أصل العدم في مجهول التاريخ يثبت - كما قلنا - عدم حدوثه إلى زمان معلوم التاريخ ، ولا يثبت تأخره عنه إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فاثبات تأخره عنه بالأصل إفراط بنظر المصنِّف .

( و ) كيف كان : فان هذا القول ( هو ظاهر المشهور ) عن القدماء ( وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقق والعلامة والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد ) من الفقه .

( منها : مسألة إتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان ، وإختلافهما في موت المورّث قبل الغُرّة أو بعدها ) فانه ان كان موته قبل الغرة لم يرثه هذا الوارث لفرض انه كان كافرا حين موت مورّثه ، وان كان موته بعد الغرة ورثه هذا الوارث ( فانّهم حكموا : بأنّ القول ، قول مدّعي تأخّر الموت ) ومعنى ذلك : أن نستصحب عدم الموت إلى الغرة ، ثم يثبت به ان الموت كان متأخرا عن الغرة فنورّثه ، لتحقق موضوع الارث الذي هو موت المورّث عن وارث مسلم .

( نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف في بعض المقامات ) التي تعرّضوا

ص: 126

من غير تفصيل : بين العلم بتاريخ أحد الحادثين ، وبين الجهل بهما - عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تاريخ الآخر ، كمسألة إشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ومسألة إشتباه الجمعتين وإشتباه موت المتوارثين ومسألة إشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الاذن في البيع على وقوع البيع ، أو تأخّره عنه

-------------------

لها ، من موارد توارد الحادثين ( من غير تفصيل : بين العلم بتاريخ أحد الحادثين ، وبين الجهل بهما ) ممّا يظهر منه ( عدم العمل بالأصل في المجهول ) التاريخ ( مع علم تاريخ الآخر ) فان إطلاق قولهم بالتوقف يشمل صورتي : الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما .

أمّا تلك المقامات التي أطلقوا التوقف فيها فهو ( كمسألة إشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ) فيمن تطهّر من الصباح إلى الظهر مرة ، وأحدث مرة ، ولم يعلم المتقدّم منهما ، فانه إذا كانت الطهارة متقدّمة فالآن هو محدث ، وإذا كان الحدث متقدِّم فالآن هو متطهّر ؟ .

( ومسألة إشتباه الجمعتين ) المقامتين في أقل من فرسخ ، فانه إذا اُقيمتا معا بطلتا معا ، وإذا كانت إحداهما سابقة والاُخرى لاحقة بطلت اللاحقة ، والكلام فيما إذا لم يعلم إن أيتهما سابقة حتى تكون صحيحة ، وأيتهما لاحقة حتى تكون باطلة ؟ .

( وإشتباه موت المتوارثين ) كما إذا علم موت الأب والابن ، ولم يعلم ان موت الأب كان أولاً حتى يرثه الابن ، أو موت الابن كان أولاً حتى يرثه الأب ؟ .

( ومسألة إشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الاذن في البيع على وقوع البيع ، أو تأخّره عنه ) أي : تأخر الرجوع عن وقوع البيع ، فان المالك الذي رهن داره لزيد

ص: 127

وغير ذلك .

لكنّ الانصاف : عدم الوثوق بهذا الاطلاق بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما - وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر - أو على محاملَ اُخر .

-------------------

لا يجوز له بيع داره المرهونة ، فلو أذن له زيد في بيعها ، جاز للمالك بيعها ، فإذا رجع زيد عن إذنه وقد باعها المالك ، فانه قد يحصل لهما الشك في ان البيع تقدّم على الرجوع حتى يكون البيع صحيحا ، أو الرجوع تقدّم على البيع حتى يكون البيع باطلاً ؟ .

( وغير ذلك ) من موارد توارد الحادثين الذي لا يعلم هل ان هذا كان متقدّما أو ذاك ؟ ولم يفصّلوا بين الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما ، بل أطلقوا قولهم بالتوقف فيها .

( لكنّ الانصاف : عدم الوثوق بهذا الاطلاق ) الذي ذكرناه قبل أسطر عند قولنا : « نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف » ( بل هو ) أي : هذا الاطلاق ( إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما ) أي : بتاريخ الحادثين معا ( وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما ) دون الآخر ( على ما صرّحوا به في مقام آخر ) مثل مقام إسلام الوارث في غرة شهر رمضان والشك في موت المورّث قبل الغرة أو بعدها ، حيث أجروا أصل العدم في مجهول التاريخ ، وأثبتوا به تأخره عن معلومه .

( أو على محاملَ اُخر ) غيرها ، كالاضطراب - مثلاً - فان كلماتهم بالنسبة إلى الحادثين مضطربة كاضطراب كلماتهم بالنسبة إلى أصل العمل بالاُصول المثبتة ، وذلك على ما سيأتي التصريح به من المصنِّف إن شاء اللّه تعالى .

ص: 128

وكيف كان : فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الاسلام وتأخره مع إطلاقهم في تلك الموارد من قبيل النصّ والظاهر ، مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الاطلاق في موارد ، كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة : الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الاذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلامة الطباطبائي في مسألة : إشتباه السابق من الحدث والطهارة .

-------------------

( وكيف كان : فحكمهم ) بتأخر مجهول التاريخ عن المعلوم ، باجراء الاستصحاب الذي هو أصل مثبت ( في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الاسلام وتأخره ) عنه الذي هو إجراء الاستصحاب في صورة الجهل بتاريخ أحدهما فقط ( مع إطلاقهم ) التوقف ( في تلك الموارد ) المذكورة من توارد الحادثين بلا تفصيل بين صورتي : الجهل بتاريخهما معا ، والجهل بتاريخ أحدهما ( من قبيل النص والظاهر ) ، وإنّما هو من قبيل النص والظاهر : لأن حكمهم بتأخر مجهول التاريخ في صورة الجهل بتاريخ أحدهما نص في التفصيل بين الصورتين ، بينما إطلاقهم التوقف الشامل للصورتين ظاهر في عدم التفصيل بين الصورتين ، ومن المعلوم : ان النص مقدّم على الظاهر .

هذا ( مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الاطلاق ) بصورة الجهل بتاريخهما معا ، وذلك ( في موارد ) من المسائل الفقهية التي توارد الحادثين فيها ، واُولئك الجماعة هم ( كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة : الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الاذن في بيع الرهن على بيعه ، وتأخّره ) عنه .

( والعلامة الطباطبائي ) بحر العلوم قدس سره ( في مسألة : إشتباه السابق من الحدث والطهارة ) فيما لو تواردا معا ، وإلى غير ذلك .

ص: 129

هذا ، مع أنّه لا يخفى على متتبع موارد هذه المسائل وشبهها ، ممّا يرجع في حكمها إلى الاُصول أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم ، عن مجاري الاُصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة .

الثاني : عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما .

-------------------

( هذا ) هو الجمع الذي ذكرناه بين قوليهما ( مع أنّه لا يخفى على متتبع موارد هذه المسائل وشبهها ، ممّا يرجع في حكمها إلى الاُصول ) لا إلى الأخبار ، فانه يرى ( أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم ، عن مجاري الاُصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة ) فانهم حين أطلقوا القول بالتوقف في توارد الحادثين غفلوا عن شقوق المسألة وصورها ، لا إنهم كانوا ملتفتين ومع ذلك أطلقوا حتى يشمل الصورتين .

ولا يخفى : ان هذا الكلام من المصنِّف هو ما أشار إليه قبل أسطر بقوله : « أو على محامل اُخر » .

هذا تمام الكلام في القول الأوّل من القولين الآخرين في فرع المجهول تاريخ أحدهما ، وكان هو القول الافراطي ، واما القول التفريطي منهما فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( الثاني : عدم العمل بالأصل ) لا في المعلوم ، ولا في المجهول حتى وان لم يترتب الأثر على تأخر المجهول ، بل على نفس عدم حدوث المجهول ( و ) ذلك يعني : ( إلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما ) في التوقف عن العمل بالأصل ، فكما ان في صورة جهل تاريخهما لا يعمل بأحدهما ، كذلك لا يعمل بأحدهما في صورة جهل تاريخ أحدهما .

ص: 130

وقد صرّح به بعض المعاصرين ، تبعا لبعض الأساطين ، مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة والحدث ، وموت المتوارثين مستدلاً على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل .

وظاهر إستدلاله : إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر ، وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم .

-------------------

( وقد صرّح به بعض المعاصرين ) وهو صاحب الجواهر ( تبعا لبعض الأساطين ) وهو صاحب مفتاح الكرامة ، فانهما قالا بعدم الفرق بين الصورتين في لزوم التوقف والرجوع إلى قاعدة اُخرى وذلك لما يلي :

أولاً : ( مستشهدا ) أي : بعض الأساطين وهو صاحب مفتاح الكرامة ( على ذلك ) أي : على عدم العمل بالأصل في صورة الجهل بتاريخ أحدهما : ( بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة والحدث ، وموت المتوارثين ) بين صورتي : المجهول تاريخهما ، والمجهول تاريخ أحدهما ، وذلك على ما تقدّم في بيان هذه الأمثلة .

ثانيا : ( مستدلاً على ذلك ) أي : على عدم العمل بالأصل ، في صورة الجهل بتاريخ أحدهما :

( بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل (1) ) ولذا لا يجري الأصل حتى يثبت التأخّر، إنتهى إستدلال صاحب مفتاح الكرامة وإستشهاده ، فأشكل المصنِّف عليهما بقوله : ( وظاهر إستدلاله : إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر ، و ) صفة ( كون المجهول متحقّقا بعد المعلوم ) فان هذه الصفة لا تتحقق إلاّ على القول بالأصل المثبت .

ص: 131


1- - راجع جواهر الكلام : ج2 ص347 .

لكنّ ظاهر إستشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة : إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلاً .

فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده ،

-------------------

( لكنّ ظاهر إستشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة : إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلاً ) حتى في مجرى الاستصحاب، ومعلوم : انه إذا لم يكن له ثمرة ، تعارض الأصلان وتساقطا .

والحاصل : ان إستدلال صاحب مفتاح الكرامة مغاير لاستشهاده ، وذلك لأن إستدلاله يقول : ان أصالة عدم حدوث مجهول التاريخ في زمان معلوم التاريخ ، لا يثبت التأخر ، وهذا هو نفس ما ذكره المصنِّف : من ان أصل عدم الحدوث إنّما يجري لترتيب أثر العدم ، لا لاثبات التأخر ، فالعلم بتاريخ أحدهما ينفع شيئا ويثمر .

بينما إستشهاد صاحب مفتاح الكرامة يقول : انه لا فرق بين صورتي : الجهل بتاريخهما وتاريخ أحدهما في التوقف عن العمل بالأصل ، فالعلم بتاريخ أحدهما لا ينفع شيئا ولا يثمر ، لأنه مثل : الجهل بتاريخهما في كون الاستصحابين على تقدير جريانهما يتعارضان ويتساقطان ، فاللازم الرجوع إلى قاعدة اُخرى ، أو أصل آخر .

وعليه : ( فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ) بان لم نعلم هل انه حي إلى الجمعة حتى يرث منه ، أو ميّت حتى لا يرث منه ؟ ( فالأصل بقاء حياة ولده ) أي : ولد زيد وعدم حدوث موته

ص: 132

فيحكم له بارث أبيه ، وظاهر هذا القائل عدم الحكم بذلك وكون حكمه حكم الجهل بتاريخ موت زيد أيضا في عدم التوارث بينهما .

وكيف كان : فان أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخر ذلك الحادث ، كما هو ظاهر المشهور فانكاره في محلّه ؛ وإن أراد : عدم جواز التمسك باستصحاب عدم ذلك الحادث ، ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره

-------------------

إلى زمان موت زيد الأب ( فيحكم له ) أي : للولد ( بارث أبيه ، و ) هذا الحكم على ما إختاره المصنِّف .

بينما ( ظاهر هذا القائل ) وهو صاحب مفتاح الكرامة المنكر لجريان الأصل في مجهول التاريخ هو : ( عدم الحكم بذلك ) أي : بارث الولد من والده ( وكون حكمه ) أي : حكم العلم بموت زيد في يوم الجمعة ( حكم الجهل بتاريخ موت زيد أيضا في ) عدم جريان الاستصحاب فيه ، ممّا ينتج ( عدم التوارث بينهما ) لأن الاستصحاب إذا لم يجر بالنسبة إلى بقاء أحدهما لا يرث أحدهما من الآخر .

( وكيف كان : فان أراد هذا القائل ) أي : صاحب مفتاح الكرامة من إنكار جريان الأصل في مجهول التاريخ : ( ترتيب آثار تأخر ذلك الحادث ، كما ) ان ترتيب آثار التأخر ( هو ظاهر المشهور ) من القدماء الذين - على ما عرفت - يرتبون أثر التأخر لا أثر نفس المستصحب وهو عدم الحدوث ( فانكاره في محلّه ) لما عرفت من ان الأصل مثبت حينئذ .

( وإن أراد : عدم جواز التمسك باستصحاب عدم ذلك الحادث ، ووجود ضدّه ) أي : بأن لا يجوز إستصحاب عدم موت الولد ولا إستصحاب حياته في المثال ( و ) لا ( ترتيب جميع آثاره ) أي : آثار إستصحاب عدم موته ،

ص: 133

الشرعيّة في زمان الشك ، فلا وجه لانكاره ، إذ لا يعقل الفرق بين مستصحبٍ علم بارتفاعه في زمان ، وما لم يعلم .

وأمّا ما ذكره من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها فقد عرفت ما فيه .

فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشك في تأخّر حادث عن آخر إستصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر .

-------------------

وما لاستصحاب حياته من الآثار ( الشرعيّة في زمان الشك ، فلا وجه لانكاره ) بل اللازم القول بجريان إستصحابه وترتيب آثاره الشرعية عليه .

وإنّما لا وجه لانكاره ( إذ لا يعقل الفرق بين مستصحبٍ علم بارتفاعه في زمان، وما لم يعلم ) بارتفاعه ، فكما انه لو شك في أصل موت زيد يستصحب حياته ، كذلك لو شك في حياته إلى زمن موت أبيه ، لأن المفروض : ان موت الأب معلوم وحياة ولده وموته مجهول ، فاللازم القول باستصحاب حياة الولد إلى زمان موت أبيه .

( وأمّا ما ذكره ) صاحب مفتاح الكرامة : ( من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها ) من بقية مسائل توارد الحادثين ، حيث انهم لم يفصّلوا بين صورتي : الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما ( فقد عرفت ما فيه ) من الحمل على صورة الجهل بتاريخهما ، أو غيره من المحامل .

وعلى هذا : ( فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشك في تأخّر حادث عن ) حادث ( آخر ) هو ( إستصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر ) في ما كان للاستصحاب أثر .

ص: 134

فان كان زمانُ حدوثه معلوما ، فيجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها فإذا علم بتطهّره في الساعة الاُولى من النهار ، وشك في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة .

لكن لا يلزم من ذلك إرتفاع الطهارة المتحققة في الساعة الاُولى ، كما تخيّله بعض الفحول ، وإن كان مجهولاً كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالاً ،

-------------------

وعليه : ( فان كان زمانُ حدوثه ) أي : حدوث الآخر ( معلوما ، فيجري أحكام بقاء المستصحب ) الذي هو في المثال حياة الولد ( في زمان الحادث المعلوم ) وهو موت الأب ( لا غيرها ) من الأحكام فلا يترتب عليه أحكام التأخّر ( فإذا علم بتطهّره في الساعة الاُولى من النهار ، وشك في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ) فلم يعلم بأن الحدث قد إتفق له قبل التطهر أو بعده ؟ ( فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة ) الاُولى .

وإنّما الأصل عدم الحدث قبلها لأن الحدث أمر حادث ، ولا نعلم بحدوثه قبل الساعة الاُولى ، فنستصحب عدمه ( لكن لا ) يترتب على إستصحاب عدم الحدث تأخّر الحدث عن التطهّر الذي هو عنوان وجودي ممّا يستلزم أن يكون في الحال الحاضر محدثا ، لأنه مثبت ، وإذا كان مثبتا فلا ( يلزم من ذلك إرتفاع الطهارة المتحققة في الساعة الاُولى ، كما تخيّله بعض الفحول ) وهو السيد بحر العلوم .

( وإن كان ) زمان حدوث الآخر ( مجهولاً ) أيضا يعني : بان كانا معا مجهولي التاريخ ، لا أن يكون أحدهما معلوم التاريخ ( كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالاً ) أي : بأن يعلم ان بين الحادثين حادثا متأخرا

ص: 135

وسيجيء توضيحه .

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشك في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ، لأنّ تأخّره لازمٌ لحدوث حادث آخر قبله والأصل عدمه وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقري .

مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشك

-------------------

عن الآخر ولكن لا يعلم شخصه ، وحينئذ يتعارض الأصلان : أصل عدم تقدّم هذا ، وأصل عدم تقدّم ذاك ويتساقطان ( وسيجيء توضيحه ) في بحث تعارض الاستصحابين إن شاء اللّه تعالى .

هذا ( واعلم ) بأن المصنِّف قد خرج هنا من الاُصول العملية ودخل في الاُصول اللفظية مثل : أصل عدم النقل وما أشبه ، علما بأن الأصل فيها حجة وان كان مثبتا ، فقال : ( أنّه قد يوجد شيء في زمان ) لاحق مثل : كون الأمر حقيقة في الوجوب في عرف زماننا ( ويشك في مبدئه ) أي : مبدء وجود ذلك الشيء ( ويحكم بتقدّمه ) أي : تقدّم ذلك الشيء بأن يحكم مثلاً عند الشك في كون الأمر كان حقيقة في الوجوب من أول الأمر ، أو انه نقل إلى الوجوب في عرفنا : بانه كان حقيقة في الوجوب من أول الأمر وقبل زماننا هذا .

وإنّما يحكم بتقدّمه ( لأنّ تأخّره لازمٌ لحدوث حادث آخر قبله ) وهو في مثالنا : النقل ، وتعدد الوضع ( والأصل عدمه ) أي : عدم حدوث ذلك الحادث الآخر من النقل وغيره قبله ( وقد يسمّى ذلك ) أي : الحكم بتقدم الشيء تسمية مجازية : ( بالاستصحاب القهقريّ ) والياء في القهقريّ مشدّدة لأنها ياء النسبة .

( مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشك

ص: 136

في كونها كذلك قبل ذلك حتى يحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل : كون الصيغة حقيقة في ذلك الزمان بل قبله ، إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل ، وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه .

وهذا إنّما يصح بناءا على الأصل المثبت ، وقد إستظهرنا سابقا أنّه متّفقٌ عليه في الاُصول اللفظية ،

-------------------

في كونها ) أي : كون صيغة الأمر كانت ( كذلك ) حقيقة في الوجوب ( قبل ذلك ) أي : في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين ( حتى يحمل خطابات الشارع على ذلك ) أي : على الوجوب ( فيقال : مقتضى الأصل : كون الصيغة حقيقة في ذلك الزمان ) أي : زمان الشارع ( بل قبله ) أي : في زمان الجاهلية أيضا ( إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره ) أي : في غير الوجوب ( لزم النقل ، وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه ) أي : عدم كل واحد من النقل ، وتعدّد الوضع .

( وهذا إنّما يصح بناءا على الأصل المثبت ) وذلك لأن أصالة عدم حدوث النقل ، أو أصالة عدم تعدّد الوضع ، مستلزم عقلاً لأن يكون هذا المعنى العرفي لصيغة الأمر الثابت في زماننا على ما في المثال هو الموضوع له أوّلاً .

( وقد إستظهرنا سابقا ) أي : عند دعوانا الاتفاق على إعتبار الاستصحاب في العدميات وحجيته فيها ( أنّه متّفقٌ عليه في الاُصول اللفظية ) فان الاُصول اللفظية لازمها وملزومها وملازمها كلها حجة ، لأنها مبنية على بناء العقلاء والظن النوعي ، ومن المعلوم : ان مثبتات أمثال هذه الاُصول اللفظية ليست بمثل مثبتات الاستصحاب في الاُصول العملية .

هذا كان هو الكلام في المثال الذي مثّله للاُصول اللفظية ، واما الكلام في مورد

ص: 137

ومورده : صورة الشك في وحدة المعنى وتعدّده .

أمّا إذا علم التعدّد ، وشك في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا فمقتضى الأصل : عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم .

ولذا إتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعية على أنّ الأصل فيها : عدم الثبوت .

-------------------

ذلك ، فكما قال : ( ومورده : صورة الشك في وحدة المعنى وتعدّده ) كالذي مرّ في الأمر ، فانه لو كان في الزمانين متّحد المعنى كان معناه : الوجوب في زماننا وفي السابق أيضا ، ولو كان متعدّد المعنى كان معناه : الوجوب في زماننا وفي السابق غير الوجوب كالاستحباب مثلاً .

و ( أمّا إذا علم التعدّد ، وشك في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا ) كما إذا علمنا بأن معنى الزكاة في اللغة : مطلق النمو ، وفي عرفنا : القدر المخصوص من المال ، وشككنا ان لفظ الزكاة هل نقل إلى المعنى الجديد في زمان الشارع حتى يكون المراد من قوله : «زكّ» : القدر المخصوص ، أو بعد زمان الشارع حتى يكون المراد من قوله : «زك» ، دفع شيء من المال فقط بدون الخصوصيات الزكوية ، فانه إذا شك في ذلك ( فمقتضى الأصل : عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ) عندنا .

مثلاً : إذا علمنا بالنقل في زمان الصادقين عليهماالسلام ولم نعلم به قبل ذلك ، لزم أن نحمل كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام على إرادة المعنى اللغوي من الزكاة مثلاً ( ولذا إتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعية على أنّ الأصل فيها : عدم الثبوت ) وذلك لأن الحقيقة الشرعية أمر حادث ، فاذا شك فيها فالأصل عدمها ، فتؤخذ الألفاظ بمعانيها اللغوية .

ص: 138

الأمر الثامن :

قد يستصحب صحّة العبادة عند الشك في طروّ مفسد ، كفقد ما يشك في إعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشك في إعتبار عدمه .

وقد إشتهر التمسك بها بين الأصحاب : كالشيخ ، والحلّي ، والمحقّق ، والعلامة ، وغيرهم .

وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه أنّه لا شك ولا ريب في أنّ المراد بالصحة المستصحبة : ليس صحة

-------------------

( الأمر الثامن ) في انه هل يصح إستصحاب الصحة كما ذكره جماعة أو لا يصح ؟ فانه ( قد يستصحب صحّة العبادة عند الشك ) في أثناء العبادة ( في طروّ مفسد ) في أثنائها ، والشك في طروّ المفسد في العبادة يكون بأحد وجهين : إمّا بالشك فقد ما يشترط وجوده ، وإمّا بالشك في وجود ما يشترط عدمه .

أمّا الأوّل : فهو ما أشار إليه بقوله : ( كفقد ما يشك في إعتبار وجوده في العبادة ) بأن يشك هل إنحرف عن القبلة - مثلاً - أثناء الصلاة أم لا ؟ أو يشك بانه هل وقع ستره أثناء الصلاة - مثلاً - أم لا ؟ أو ما أشبه ذلك .

وأمّا الثاني : فهو كما قال : ( أو وجود ما يشك في إعتبار عدمه ) كما إذا شك في انه هل وقع على جسمه أو ثوبه نجاسة ، أو لم يقع على شيء منهما نجاسة ؟ .

هذا ( وقد إشتهر التمسك بها ) أي : بالصحة المستصحبة فيما ( بين الأصحاب : كالشيخ ، والحلي ، والمحقق ، والعلامة ، وغيرهم ) من المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء .

( و ) اما ( تحقيقه وتوضيح مورد جريانه ) أي : جريان إستصحاب الصحة فهو كما قال : ( أنّه لا شك ولا ريب في أنّ المراد بالصحة المستصحبة : ليس صحة

ص: 139

مجموع العمل ، لأنّ الفرض : التمسّك به عند الشك في الأثناء .

وأمّا صحة الأجزاء السابقة فالمراد بها إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها وإمّا ترتيب الأثر عليها .

أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا ، لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ، ضرورة عدم إنقلاب الشيء

-------------------

مجموع العمل ، لأنّ الفرض : التمسّك به ) أي : بهذا الاستصحاب ( عند الشك في الأثناء ) أي : في أثناء العمل وحينئذ فان مجموع العمل لم يتحقق بعد حتى يقال : بانه صحيح أو ليس بصحيح .

( وأمّا صحة الأجزاء السابقة ) على طروّ ما يشك في انه مفسد أو غير مفسد ( فالمراد بها ) أي : بصحة الأجزاء السابقة أحد معنيين : ( إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ) أي : بتلك الأجزاء ( وإمّا ترتيب الأثر عليها ) أي : صلاحيتها لالتحاق الأجزاء الآتية بها .

( أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ) لا مشكوكة ، لفرض انه أتى بالأجزاء السابقة على النحو المأمور به ، فهي موافقة للأمر ( سواء فسد العمل ) بعد تلك الاجزاء بسبب طروّ المفسد عليه ( أم لا ) بان لم يفسد .

وكيف كان : فالأجزاء السابقة مطابقة للأمر قطعا ( لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج ) ما سبق من ( الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر ) أي : الأمر الشرعي ( المتعلّق بها ) أي : بتلك الاجزاء ، فان طروّ الفساد لا يخرجها ( عن كونها كذلك ) أي : عن كون الأجزاء السابقة مطابقة للأمر ، وذلك ( ضرورة عدم إنقلاب الشيء

ص: 140

عمّا وجد عليه .

وأمّا ترتيب الأثر ، فليس الثابت منه للجزء من حيث أنّه جزء ، إلاّ كونه : بحيث لو ضُمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ .

-------------------

عمّا وجد عليه ) فان الجزء الصحيح لا ينقلب عن الصحة إلى الفساد ، كما ان الجزء الفاسد إذا وقع فاسدا لا ينقلب إلى الجزء الصحيح .

( وأمّا ترتيب الأثر ) على الأجزاء السابقة بمعنى : انه لو إلتحق بها باقي الأجزاء لاكتمل المجموع المركب ، فهذا المعنى كالمعنى الأوّل متيقن وجوده في الأجزاء السابقة أيضا ، إلتحقت بها الأجزاء الباقية أم لم تلتحق .

وعليه : ( فليس الثابت منه ) أي : من الأثر ( للجزء من حيث أنّه جزء ، إلاّ كونه : بحيث لو ضُمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ ) واجتمع المركب .

مثلاً : الفاتحة الصحيحة القرائة ، ذات الأثر هي عبارة : عن الفاتحة التي لو إنضمّ إليها سائر أجزاء الصلاة مع الشرائط ومن دون الموانع ، لكانت الصلاة كاملة ، ويقابلها الفاسدة التي لا يترتب عليها هذا الأثر فتكون عديمة الأثر .

إذن : فالجزء الصحيح ذو الأثر يطلق ( في مقابل الجزء الفاسد ) العديم الأثر ( وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه ) مع فقد الموانع ( وجود الكلّ ) وإجتماع المركب لأن الصلاة إذا كانت فاتحتها فاسدة القرائة عن علم وعمد ، لم تكن صلاة حتى وان كانت مشتملة على سائر الأجزاء والشرائط ، وفاقدة لسائر الموانع والقواطع .

ص: 141

ومن المعلوم : أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية أم قطع بعدمه ، أم شك في ذلك .

فإذا شك في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء فالقطع ببقاء صحة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ ، مع وصف هذا الشك فضلاً عن إستصحاب الصحة .

مع ما عرفت : من أنّه ليس الشك في بقاء صحة تلك الأجزاء بأيّ معنى إعتبر من معاني الصحة .

-------------------

( ومن المعلوم : أنّ هذا الأثر موجود في الجزء ) السابق ( دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية ) إليه الموجب للقطع بصحة العمل ( أم قطع بعدمه ) أي : بعدم ضمّ الأجزاء الباقية إليه الموجب للقطع ببطلان العمل ( أم شك في ذلك ) بانه هل إنضمت إليه الأجزاء الباقية أم لا ؟ وهذا هو المفروض في كلامنا حيث يشك في صحة العمل وعدم صحته ؟ .

وعليه : ( فإذا شك في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ) بان كان الشك من جهة طروّ ما يشك في إفساده ، كما مثّلنا له من الشك في انه هل وقعت عليه نجاسة ؟ أو إنحرف عن القبلة - مثلاً - أم لا ؟ ( فالقطع ببقاء صحة تلك الأجزاء ) السابقة ( لا ينفع في تحقّق الكلّ ، مع وصف هذا الشك ) الذي عرض له، مثل : انه هل سقطت عليه نجاسة أو إنحرف عن القبلة ؟ ( فضلاً عن إستصحاب الصحة ) فانه إذا لم ينفع لتحقق الكل ، القطع بالصحة ، فكيف ينفعه إستصحاب هذه الصحة ؟ .

هذا ( مع ما عرفت : من أنّه ليس الشك في بقاء صحة تلك الأجزاء بأيّ معنى إعتبر من معاني الصحة ) فان صحة الاجزاء السابقة قطعية ، سواء كانت الصحة

ص: 142

ومن هنا ردّ هذا الاستصحاب جماعةٌ من المعاصرين ممّن يرى حجّية الاستصحاب مطلقا .

لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسك بيانه : أنّه قد يكون الشك في الفساد من جهة إحتمال فقْد أمر معتبر أو وجود أمر مانع . وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب الصحة ،

-------------------

بمعنى : موافقة تلك الأجزاء للأمر ، أم بمعنى : ترتب الأثر عليها ، فالشك في الصحة والبطلان لم ينتج منها وإنّما نتج من طروّ ما يشك إفساده في الأثناء .

( ومن هنا ) أي : وممّا ذكرنا : من انه لا تلازم بين صحة الأجزاء السابقة ، وصحة العمل ، لامكان صحة الأجزاء السابقة مع بطلان العمل ، وذلك لعدم التحاق الأجزاء الباقية بالأجزاء السابقة - مثلاً - ( ردّ هذا الاستصحاب ) أي : إستصحاب الصحة ( جماعةٌ من المعاصرين ممّن يرى حجّية الاستصحاب مطلقا ) سواء كان الشك في المقتضي أم في المانع ، أو كان الاستصحاب مثبتا أم غير مثبت .

( لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسك ) باستصحاب الصحة ، ففي بعض الموارد يصح التمسك باستصحاب الصحة ، وفي بعض الموارد لا يصح التمسك بها .

( بيانه : أنّه قد يكون الشك في الفساد من جهة إحتمال فقْد أمر معتبر ) في العبادة كترك جزء أو شرط ( أو ) من جهة إحتمال ( وجود أمر مانع ) عنها كزيادة جزء عمدا أو ركن ولو سهوا ( وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب الصحة ) فان إستصحاب الصحة لا مجال له في هذين الموردين .

ص: 143

لما عرفت : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الاُمور اللاحقة لا يقدح في صحة الأجزاء السابقة ؛ وقد يكون من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة .

فاذا إستكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع أنّ للصلاة هيئة إتصاليّة ينافيها توسّط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابلية الانضمام

-------------------

وإنّما لا يعتنى باستصحاب الصحة هنا في نفيه ( لما عرفت : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الاُمور اللاحقة ) الموجبة لبطلان العمل ( لا يقدح في صحة الأجزاء السابقة ) فان الاُمور الاعتبارية كالاُمور التكوينية يشتركان في انه : إذا لم يصح المجموع ، فليس معناه : عدم صحة الأجزاء السابقة فإذا بنى جدران الغرفة مثلاً بناءا صحيحا ، وبنى السقف بناءا غير صحيح ، فالغرفة غير صحيحة ، لكن ليس بمعنى عدم صحة بناء الجدران .

هذا ( وقد يكون ) الشك في الفساد ( من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة ) كما إذا بكى أو ضحك قليلاً ممّا شك في ان ذلك قاطع للهيئة الاتصالية ، أو ليس بقاطع لها ؟ .

وإنّما يشك في قطعه للهيئة الاتصالية لأنه كما قال : ( فاذا إستكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة ) مثل الضحك والبكاء ( بالقواطع ) فانا فهمنا من هذا التعبير : ( أنّ للصلاة هيئة إتصالية ينافيها ) أي : ينافي تلك الهيئة الاتصالية ( توسّط بعض الأشياء في ) أثناء الصلاة ، أي : ( خلال أجزائها ، الموجب ) ذلك التوسط ( لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابلية الانضمام )

ص: 144

والأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام إليها ، فإذا شك في شيء من ذلك وجودا أو صفة ، جرى إستصحاب صحة الأجزاء بمعنى : بقائها على القابلية المذكورة : فيتفرّع على ذلك عدم وجوب إستينافها أو إستصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة ، وما يلحقها من الأجزاء الباقية فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالاتمام .

وهذا الكلام وإن كان قابلاً للنقض والابرام ، إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفية في كثير

-------------------

إلى الأجزاء السابقة ( والأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام إليها ) أي : إلى الأجزاء اللاحقة ، فان هذا التوسط يوجب إنقطاع الهيئة الاتصالية بحيث لا يدع الأجزاء السابقة ، والأجزاء اللاحقة تصلح للاتصال وبذلك تبطل الصلاة .

وعليه : ( فإذا شك في شيء من ذلك ) القاطع ( وجودا ) بانه هل وجد الضحك - مثلاً - أم لا ؟ ( أو صفة ) بأن وجد الضحك لكن لم يعلم هل انه قاطع أو ليس بقاطع ؟ ( جرى إستصحاب صحة الأجزاء ) السابقة ( بمعنى : بقائها على القابلية المذكورة ) وهي : إتصال الأجزاء اللاحقة بها ( فيتفرّع على ذلك ) أي : على هذا الاستصحاب : ( عدم وجوب إستينافها ) أي : إستيناف الصلاة .

( أو ) جرى ( إستصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة ، وما يلحقها من الأجزاء الباقية ) للصلاة ( فيتفرّع عليه ) أي : على هذا الاستصحاب : ( بقاء الأمر ) من الشارع ( بالاتمام ) فيتم الصلاة من دون حاجة إلى الاعادة .

( وهذا الكلام وإن كان قابلاً للنقض والابرام ) بأن يقال : هذا الاستصحاب مثبت ، إذ يترتب عليه لازم عقلي وهو : حصول الكل بعد إنضمام الأجزاء الباقية إلى الأجزاء السابقة ( إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفية في كثير

ص: 145

من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام .

وربّما يتمسك في مطلق الشك في الفساد باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ .

وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشك في الصحة .

-------------------

من الاستصحابات ) على ما عرفت سابقا من ان الميزان هو العرف : ( جريان الاستصحاب في المقام ) لأن الواسطة خفية فيراه العرف بانه أثر نفس المستصحب ، وقد تقدّم : ان الواسطة لو كانت بنظر العرف خفية جرى فيها الاستصحاب .

هذا تمام الكلام في إستصحاب الصحة وهناك إستصحاب آخر أشار إليه المصنِّف بقوله : ( وربّما يتمسك في مطلق الشك في الفساد ) سواء كان الشك في المانع أم في القاطع ، وجودا أم صفة ؟ ( باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ ) في العبادة ، فانه قبل عروض إحتمال الفساد كان القطع حراما والمضيّ فيها واجبا ، فيستصحب ذلك .

هذا بالنسبة إلى الصلاة الواجبة ، وامّا بالنسبة إلى الصلاة المستحبة فانه قبل طروّ إحتمال الفساد ، كان القطع مرجوحا والمضيّ فيها راجحا ، فيستصحب ذلك، علما بانه لا فرق في الاستصحاب بين أن يكون بالنسبة إلى الحكم الاقتضائي ، أو الحكم اللااقتضائي الراجح فعلاً أو تركا ، وذلك على ما سبق في أوّل مبحث الاستصحاب .

( وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشك في الصحة ) فان حرمة القطع في الصلاة الواجبة ، ومرجوحية

ص: 146

وربّما يتمسك في إثبات الصحة في محلّ الشك بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » ، وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البرائة عند الكلام في مسألة الشك في الشرطية ، وكذلك التمسك بما عداها من العمومات المقتضية للصحة .

-------------------

القطع في الصلاة المستحبة ، إنّما هو فيما إذا كانت الصلاة صحيحة ، والمفروض : انا لا نعلم بصحة الصلاة بعد طروّ محتمل المفسدية عليها ، وقد سبق في بعض المباحث السابقة : ان الشك في الموضوع يوجب عدم صحة الاستصحاب .

هذا ( وربّما يتمسك في إثبات الصحة ) بعد طروّ محتمل المفسدية ( في محلّ الشك بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » (1) ) وحينئذ ، فاللازم على الشاك الاستمرار في العبادة المحتملة الفساد ، وذلك لهذه الآية المباركة ، لا للاستصحاب .

( و ) لكن فيه : انا ( قد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البرائة عند الكلام في ) تنبيهات ( مسألة الشك في الشرطية ) والجزئية ، حيث قلنا هناك : ان ظاهر الآية عبارة عن حرمة إبطال العمل بعد إتيانه بمثل الشرك والمعاصي الموجبة لأن يكون العمل هباءً منثورا ، حيث قال سبحانه : « وقدمنا إلى ما عَمِلوا من عملٍ فجعلناهُ هباءً منثورا » (2) مضافا إلى ان الابطال غير محرز في المقام ، لاحتمال حصول البطلان بنفسه عند طروّ المفسد ، فلا يكون إبطالاً لأنه كان باطلاً.

( وكذلك ) ظهر من البيان المتقدِّم : عدم جواز ( التمسك بما عداها ) أي : بغير هذه الآية المباركة ( من العمومات المقتضية للصحة ) كاطلاقات الصلاة ، بأن يقال : إطلاقاتها تقتضي إتمامها ، ومعنى إتمامها : عدم إبطالها ، وكذلك بالنسبة

ص: 147


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - سورة الفرقان : الآية 23 .

الأمر التاسع :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجية أو اللغوية أو الأحكام الشرعية العمليّة اُصولية كانت أو فرعيّة .

-------------------

إلى إطلاقات الصوم والحج والاعتكاف والوضوء والغسل ونحوها من سائر العبادات .

قال في الأوثق : « و وجه ضعف التمسك بها : انها على القول بالصحيح مجملة وعلى القول بالأعم واردة في مقام بيان أحكام اُخر ، كالتشريع ، أو بيان الفضيلة، أو الخاصية ، أو نحو ذلك » (1) ، إذن : لا إطلاق لها حتى يتمسك بها من هذه الجهة .

( الأمر التاسع ) : في انه هل يصح إستصحاب النبوة إذا شككنا في بقائها أو لا يصح ؟ فانه ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجية ) مثل : إستصحاب حياة زيد فيما لو شككنا في حياته وموته لاثبات ، وجوب النفقة لزوجته - مثلاً - .

( أو اللغوية ) مثل : أصالة عدم النقل فيما إذا شككنا في ان الصلاة هل نقلت من معناها اللغوي وهو الدعاء إلى المعنى الشرعي الذي هو الأركان المخصوصة أم لا ؟ .

( أو الأحكام الشرعية العمليّة ) أي : المرتبة بالعمل ( اُصولية كانت ) تلك الأحكام مثل جواز البقاء على تقليد الميت ، حيث ان هذه المسألة هي مسألة اُصولية ، ولهذا ذكرها الاُصوليون في كتب الاُصول ، وان جاء بها صاحب العروة في أول كتابه : العروة الوثقى ( أو فرعيّة ) مثل إستصحاب الطهارة أو الحدث

ص: 148


1- - أوثق الوسائل : ص514 التنبيه الثامن في استصحاب صحة العبادة مع الشك في طرو المفسد .

وأمّا الشرعية الاعتقادية ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ، لأنّه إن كان من باب الاخبار ، فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان معمولاً به على تقدير اليقين به ، والمفروض : أنّ وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف .

-------------------

أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا الشرعية الاعتقادية ) كاستصحاب نبوة موسى أو نبوة عيسى على نبينا وآله وعليهما السلام ( فلا يعتبر الاستصحاب فيها ) لأنه لا دليل على إعتبار مثل هذا الاستصحاب من عقل أو نقل .

وإنّما لا يعتبر فيها الاستصحاب ( لأنّه ) أي : إعتبار الاستصحاب ( إن كان من باب الاخبار ، فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان معمولاً به على تقدير اليقين به ) سابقا ، كوجوب نفقة الزوجة فيما إذا خرج الزوج وطالت غيبته فلم يعلم هل انه مات أو لم يمت ؟ فانه يستصحب وجوب النفقة لها حتى يثبت موت زوجها .

هذا ( والمفروض : أنّ وجوب الاعتقاد بشيء ) كنبوة موسى أو نبوة عيسى على نبينا وآله وعليهما السلام ( على تقدير اليقين به ) سابقا ( لا يمكن الحكم به ) أي : بهذا الوجوب ( عند الشك ) لاحقا في انه هل إنقطعت نبوتهما أو لم تنقطع ، وذلك ( لزوال ) موضوعه الذي هو ( الاعتقاد ) وقد عرفت سابقا : لزوم بقاء الموضوع حتى يستصحب .

إذن : ( فلا يعقل التكليف ) السابق ، لتبدل الموضوع ، وثبوت الحكم لموضوع آخر ليس معناه : بقاء الحكم السابق ، فان الاستصحاب يقول : ان وجوب نفقة الزوجة ، المعمول به في زمان اليقين بحياة الزوج ، ثابت في زمان الشك في حياته، بينما الاستصحاب لا يقول : ان وجوب الاعتقاد بشيء ، المعمول به

ص: 149

وإن كان من باب الظنّ فهو مبنيّ على إعتبار الظنّ في اُصول الدين ، بل الظنّ غير حاصل فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعي ، لأنّ الشك إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب .

نعم ، لو شك في نسخه ، أمكن دعوى الظنّ لو لم يكن إحتمال النسخ ناشئا عن إحتمال نسخ أصل الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة .

-------------------

في زمان اليقين به ، ثابت في زمان الشك فيه أيضا ، لما عرفت : من زوال الموضوع الذي هو الاعتقاد ومع زواله يزول حكم الوجوب ، فان كان الحكم مع ذلك ثابتا ، كان من تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وليس هذا من الاستصحاب في شيء ، بل يحتاج إلى دليل جديد .

هذا ( وإن كان ) إعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ ) النوعي لبناء العقلاء ( فهو مبنيّ على إعتبار الظنّ في اُصول الدين ) وقد تقدّم سابقا : الاختلاف في انه هل يكفي الظن في اُصول الدين أم لا ؟ ( بل الظنّ غير حاصل ، فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعي ) .

وإنّما يكون الظن هنا غير حاصل ( لأنّ الشك إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب ) كالذي نحن فيه - مثلاً - فان الشك في النبوة إنّما يكون لتغيّر ما له دخل في تغيّر الموضوع ، ومع حصول التغيّر في الموضوع لا يحصل الظن بالبقاء .

( نعم ، لو شك في نسخه ، أمكن دعوى الظنّ ) بالبقاء ، لأن إحتمال النسخ هو إحتمال للرافع مع وجود المقتضي ، ومعه يكون الظن بالبقاء حاصلاً ( لو لم يكن إحتمال النسخ ناشئا عن إحتمال نسخ أصل الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة ).

ص: 150

...

-------------------

قال الفقيه الهمداني : «ان محطّ النظر في المقام هو : التكلم في صحة إستصحاب نبوة نبي بعد الشك في إنقضاء نبوته ونسخها ، فنقول : إذا ثبتت نبوة نبي في زمان بدليل عقلي ، كما إذا علم بانه أكمل أهل زمانه من جميع الوجوه التي لها دخل في إستحقاق منصب النبوة فحكم العقل بكونه نبيا في ذلك الزمان ، أو دلّ دليل شرعي عليه ، كاخبار النبي السابق بنبوته ، فشك في بقائها بعد وجود من يحتمل أكمليته منه ، وجب عقلاً الفحص عن حاله ، وتحصيل العلم ببقاء شريعته وعدم نسخها ، للخروج عن عهدة التكاليف الشرعية المنجزّة عليه بابلاغ نبي زمانه .

كما انه يجب عليه أيضا ذلك ، أي : معرفة نبي زمانه عقلاً من حيث هو لو دلّ دليل عقلي أو نقلي - وان كان خبر النبي اللاحق الذي يحتمل نبوته - بان معرفة نبي زمانه شرط في الايمان ، وخروج المكلّف عن حدّ الكفر ، فاذا تعذّر عليه تحصيل العلم بذلك إمتنع بقاء وجوبه ، سواء كان نفسيا أم مقدّميا ، وإستصحاب بقاء نبوته غير مجد ، لأنه لا يؤثر في حصول العلم كي يعقل بقاء حكمه .

نعم ، لو قلنا : بافادة الظن وكفاية الاعتقاد الظني في الخروج عن حدّ الكفر ، امّا مطلقا أو لدى تعذّر العلم عوّل على إستصحابه .

هذا بالنسبة إلى نفس الاعتقاد ووجوب الاذعان بالنبوة ، وامّا إستصحابها بملاحظة سائر الآثار العملية المتفرّعة على بقاء نبوته ، أي : إستصحاب الشريعة السابقة التي لم يعلم نسخها ، فلا مانع عنه ، بل قد أشرنا فيما سبق إلى ان : إستصحابات الشريعة من أظهر مصاديق الاستصحابات المعتبرة لدى العقلاء ، وان إعتباره لديهم من باب عدم الاعتناء باحتمال نسخها ما لم يتحقق ،

ص: 151

أمّا الاحتمال الناشيء عن إحتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظنّ بعدمه ، لأنّ نسخ الشرائع ، شايع بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة ، فانّ الغالب بقاء الأحكام .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لو شك في نسخ أصل الشريعة لم يجز التمسك بالاستصحاب لاثبات بقائها ، مع أنّه لو سلمنا حصول الظنّ ، فلا دليل على حجّيته حينئذ ،

-------------------

لا من حيث الظن ، ولا من باب التعبّد» .

هذا بالنسبة إلى إحتمال النسخ غير الناشى ء من إحتمال نسخ الشريعة ، فانه يظن فيه بالبقاء ، و ( أمّا الاحتمال الناشيء عن إحتمال نسخ الشريعة فلايحصل الظنّ بعدمه ) أي : بعدم نسخ الشريعة ( لأنّ نسخ الشرائع شايع ) وإذا شاع النسخ لا يظن بعدمه : بل يظن به ومع الظن بنسخ أصل الشريعة لا يبقى ظن ببقاء فرعه وهو الحكم بل يظن بعدمه ، فلا يظن إذن فيما نحن فيه ببقاء الحكم عند الشك فيه .

( بخلاف نسخ الحكم ) وحده دون إحتمال نسخ أصل الشريعة ( في شريعة واحدة ، فانّ الغالب بقاء الأحكام ) عند بقاء الشريعة ، فيظن حينئذ ببقاء الحكم عند الشك فيه .

( وممّا ذكرنا ) من ان نسخ الشرائع شايع فلا يظن ببقاء الشريعة عند الشك في انها هل نسخت أم لا ؟ ( يظهر : أنّه لو شك في نسخ أصل الشريعة ) لظهور مدّع جديد للنبوة وإتيانه بدين جديد ( لم يجز التمسك بالاستصحاب لاثبات بقائها ) أي : بقاء تلك الشريعة السابقة التي إحتملنا نسخها بسبب إدعاء النبوة من شخص جديد .

هذا ( مع أنّه لو سلّمنا حصول الظنّ ، فلا دليل على حجّيته حينئذ ) أي : حين

ص: 152

لعدم مساعدة العقل عليه ، وإن إنسدّ باب العلم لامكان الاحتياط إلاّ فيما لا يمكن .

والدليل النقلي الدّال عليه لا يجدي ، لعدم ثبوت الشريعة السابقة ، ولا اللاحقة .

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما يحكى من تمسّك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء السادة

-------------------

كان الشك في الاعتقاديات ، وذلك ( لعدم مساعدة العقل عليه ، وان إنسدّ باب العلم ) فانه عند الانفتاح يتعيّن تحصيل العلم ، وعند الانسداد يحتاط ( لامكان الاحتياط ) وذلك بأن يعمل بكلا الشريعتين ( إلاّ فيما لا يمكن ) الاحتياط فيه ، فيعمل فيما لا يمكنه الاحتياط فيه حسب ظنه بالبقاء من باب الانسداد .

( و ) ان قلت : نتمسك بالاستصحاب من جهة الدليل النقلي مثل : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) فنثبت به بقاء الشريعة السابقة .

قلت : ( الدليل النقلي الدّال عليه ) أي : على الاستصحاب ، هنا ( لا يجدي ، لعدم ثبوت الشريعة السابقة ، ولا اللاحقة ) حتى يأخذ من إحداهما الاستصحاب ، امّا الشريعة السابقة : فلاحتمال نسخها ، وامّا الشريعة اللاحقة : فلعدم ثبوتها بعد .

وعليه : ( فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما يحكى من تمسّك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء السادة ) وهو العلامة السيد باقر القزويني ، حيث ناظر عالما يهوديا يسكن قرية ذي الكفل القريبة من الكوفة ، وكانت آنذاك مجمعا لليهود

ص: 153


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

باستصحاب شرعه ، ممّا لا وجه له ، إلاّ أن يريد جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ، إمّا لدفع كلفة الاستدلال

-------------------

إلى ما قبل نصف قرن تقريبا ، حيث تمسّك اليهودي في المناظرة ( باستصحاب شرعه ) فان تمسكه بالاستصحاب لاثبات شرعه ونبوة نبيه ( ممّا لا وجه له ) وذلك على ما عرفت لأمرين :

أولاً : لأن إثبات الشريعة بحاجة إلى اليقين حتى يكون مؤمّنا من العقاب ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب لا يفيد اليقين .

ثانيا : انه على تقدير كفاية الظن ، لا يظن ببقاء الشريعة السابقة بعد ظهور الشريعة اللاحقة بأدلتها الواضحة ، ومعجزاتها القاطعة .

ثم لا يخفى : ان إطالة الكلام في مثل هذه المسألة له فائدتان :

الاُولى ، ان أهل الكتاب يتمسكون بالاستصحاب إلى يومنا هذا ، فاللازم التعرف على إشكالهم وإستحضار جوابهم .

الثانية : ان التدقيق في هذه المسائل يوجب قوة الذهن ويعطي القدرة على التدقيق في إشكالات اُخر للتعرف على أجوبتها ، ومعه فلا مجال لأن يقال : ما فائدة التدقيق في مسألة غابرة لا شأن لها بالحياة الفعلية ؟ .

وكيف كان : فانّ تمسّك الكتابي بالاستصحاب لاثبات بقاء شريعته ونبوة نبيه ليس في محله ( إلاّ أن يريد ) الكتابي ( جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ) أي : ان غرض الكتابي من الاستدلال بالاستصحاب ليس هو لاثبات صحة شريعته ، بل لمجرد بيان ان قوله مطابق للأصل ، فهو منكر للشريعة الجديدة ، والمسلم مدّع على المدّعي إثبات دعواه .

وعليه : فيكون إستدلال الكتابي بالاستصحاب ( إمّا لدفع كلفة الاستدلال

ص: 154

عن نفسه ، وإمّا لابطال دعوى المدّعي ، بناءا على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوة يحتاج إلى برهان قاطع .

فعدم الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد - كالنبي الجديد - دليلٌ قطعي على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابي إثبات حقيّة دينه بأسهل الوجهين .

-------------------

عن نفسه ) حتى لا يقال له : أثبت بقاء شريعتك ونبوة نبيك ( وإمّا لابطال دعوى المدّعي ) المسلم للدين الجديد ، وذلك ( بناءا على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوة يحتاج إلى برهان قاطع ) لاثبات دعواه ، فإذا لم يأت مدّعي الدين الجديد بدليل قاطع ، كان كمن يدّعي النبوة بلا دليل قاطع ، دليل على العدم .

هذا مع العلم بأن بين مدّعي النبوة ومدّعي الدين الجديد فرقا واضحا ، فان مدعي الدين الجديد لو عجز عن الاستدلال لاثباته لم يكن دليلاً على عدمه ، بينما مدّعي النبوة لو عجز عن الاستدلال عليه كان دليلاً على عدم نبوته ، لكن المصنِّف فرض تساويهما في جهة عدم الدليل دليل العدم ، ليجيب به عن إستصحاب الكتابي .

وعليه : ( فعدم الدليل القاطع للعذر ) أي : عدم إقامة المدعي الدليل القطعي ( على الدين الجديد - كالنبي الجديد - دليلٌ قطعي على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ) فان النبي الجديد ، والدين الجديد كلاهما بحاجة إلى دليل قطعي ، فعدم الدليل القطعي لاثباتهما دليل على العدم .

إذن : ( فغرض الكتابي ) من الاستصحاب : ( إثبات حقيّة دينه بأسهل الوجهين ) إذ قد يكون إثبات دينه بإقامة البرهان عليه وهذا أمر صعب ، وقد يكون بابطال دعوى المدّعي للدين الجديد ، لعدم إقامته الدليل القاطع للعذر على الدين

ص: 155

ثمّ إنّه قد اُجيب عن إستصحاب الكتابي المذكور بأجوبة .

منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له ، وهو : أنّا نؤمن ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكافرٌ بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ، وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق .

وهذا الجواب بظاهره مخدوشٌ بما عن الكتابي : من أنّ

-------------------

الجديد ، وهذا أسهل الأمرين .

( ثمّ إنّه قد اُجيب عن إستصحاب الكتابي المذكور بأجوبة ) ثمانية على ما تعرّض له المصنِّف في الكتاب :

الأوّل : ما تقدّم عن المصنِّف رحمه اللّه آنفا .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له ) أي : الكتابي ، أعني : السيد باقر القزويني ( وهو : أنّا نؤمن ونعترف بنبّوة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكافرٌ بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ) فنحن لا يقين لنا إلاّ بنبوة نبي أقرّ بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فان أقر نبيك بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم، فقد تمّ المطلوب ، وان لم يقر نبيك بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم فلا يقين لنا بنبوة نبيك حتى نستصحب نبوته وشريعته .

( وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق ) الذي كان من علماء أهل الكتاب ، وقد ناظر الإمام الرضا عليه السلام في خراسان حول بقاء نبوة نبيه .

( و ) لكن ( هذا الجواب ) الذي أجاب به السيد القزويني عن إستصحاب ذلك الكتابي ( بظاهره مخدوشٌ ) هنا ، والخدشة هنا إنّما هي ( بما عن الكتابي : من أنّ

ص: 156

موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم ، شخص واحد وجزئي حقيقي إعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها .

وأمّا ما ذكره الإمام عليه السلام : فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق ، وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به .

ومنها : ما ذكره

-------------------

موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم ، شخص واحد وجزئي حقيقي إعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين ) الذين يدّعون نسخ نبوته بعد إعترافهم به إثبات ( نسخها ) بدليل قاطع ، لا بجعل موسى أو عيسى كليا وتقسيمه إلى مقرّ وغير مقرّ ، إذ لا معنى لتقسيم الجزئي الحقيقي .

إن قلت : فكيف اجاب الإمام عليه السلام الجاثليق بمثل هذا الجواب ؟ .

قلت : ( وأمّا ما ذكره الإمام عليه السلام : فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق ) فانه قد يقال : الشيخ المرتضى كلي له افراد وهذا غير تام ، وقد يقال : الشيخ المرتضى ان كان أعلم من سائر المجتهدين وجب تقليده ، وان كان مساويا لسائر المجتهدين تخيّر الانسان بين تقليده وتقليد غيره ، وهذا الكلام على ما فيه من التقسيم كلام تام .

وعليه : فلعل الإمام عليه السلام أراد هذا المعنى من كلامه يعني : أراد ما ذكرناه : من انّ نبي الكتابي ان أقرّ بنبوة نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم من بعده فهو نبي واقعي ، وهذا يوجب إنقضاء نبوته ونسخ شريعته ، وإلاّ لم يكن نبيا ، فلا نستصحب شريعة ولا نبوّة من ليس بنبي ( وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به ) كلام الإمام الرضا عليه السلام وهو يقرِّب ممّا ألمعنا إليه .

الثالث من الأجوبة : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( ومنها : ما ذكره

ص: 157

بعض المعاصرين من « أنّ إستصحاب النبوة مُعارض باستصحاب عدمها ، الثابت قبل حدوث أصل النبوة » بناءا على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه وهو : أنّ الحكم الشرعي الموجود ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن وبعده يتعارض إستصحاب وجوده وإستصحاب عدمه .

وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه .

-------------------

بعض المعاصرين ) وهو المحقق النراقي في المناهج : ( من « أنّ إستصحاب النبوة مُعارض باستصحاب عدمها ، الثابت قبل حدوث أصل النبوة » ) أي : ان نبوة موسى أو عيسى كانت متحققة في قطعة من الزمن الفاصل بينه وبين نبيّنا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فنستصحب نبوته بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لكن قبل تلك القطعة من الزمان لم تكن نبوة موسى أو عيسى متحققة ، فنستصحب عدم نبوته بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فنبوته وعدم نبوته بمتعارضان ويتساقطان .

وإنّما قال المحقق النراقي بذلك ( بناءا على أصل فاسد تقدّم حكايته ) أي : حكاية ذلك الأصل ( عنه ) أي : عن النراقي ( وهو : أنّ الحكم الشرعي الموجود ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن ) والقدر المتيقن ، هنا هو الزمن الفاصل بين نبوة موسى ونبوة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ( وبعده ) أي : بعد ذلك القدر المتيقن وهو بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ( يتعارض إستصحاب وجوده ) أي : وجود نبوة موسى ( وإستصحاب عدمه ) أي : عدم نبوة موسى الذي كان قبل مجيئه .

هذا ( وقد أوضحنا ) نحن المصنِّف ( فساده ) أي : فساد تعارض الاستصحابين هنا ( بما لا مزيد عليه ) لأنا قلنا : ان العبرة إنّما هي باليقين المتصل بالشك ، لا اليقين المنفصل السابق على نبوة موسى على ما في المثال .

ص: 158

ومنها : ما ذكره في القوانين ، بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل من : « أنّ الاستصحاب مشروطٌ بمعرفة إستعداد المستصحب ، فلا يجوز إستصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد ، بعد إنقضاء مدّة إستعداد أقلّهما إستعدادا ، قال إنّ موضوع الاستصحاب لابدّ أن

-------------------

الرابع من الأجوبة : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( ومنها : ما ذكره في القوانين بانيا له ) أي : للجواب هنا عن إستصحاب الكتابي ( على ما تقدّم منه ) أي : من القوانين هناك ( في الأمر الأوّل من ) تنبيهات الاستصحاب وذلك عند تعرّضه للقسم الثاني من إستصحاب الكلي المردّد بين قصير العمد وطويله حيث قال هناك ما يلي :

( « أنّ الاستصحاب مشروطٌ بمعرفة إستعداد المستصحب ) للبقاء ، وذلك بأن يكون الشك في الرافع ، لا في المقتضي ، وفي المقام الشك في المقتضي ، لأن الشك في ان نبوة موسى هل لها إستعداد البقاء إلى اليوم ، أو إلى مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم هو كالشك في المردد بين العمر وطويله من حيث كونه شكا في المقتضي، فلا يستصحب .

إذن : فقد بنى القوانين الاستصحاب هنا على ما بناه هناك في مسألة الحيوان المردّد بين قصير العمر وطويله حيث صرّح هناك قائلاً : ( فلا يجوز إستصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد ، بعد إنقضاء مدّة إستعداد أقلّهما إستعدادا ) فإذا كان الحيوان مردّدا بين كونه عصفورا فيعيش سنة ، أو غرابا فيعيش كثيرا ، فبعد مضيّ سنة لا يجوز إستصحاب وجود الحيوان الكلي .

ثم ( قال ) في القوانين توضيحا لذلك : ( إنّ موضوع الاستصحاب لابدّ أن

ص: 159

يكون متعيّنا حتى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي كلّي من حيث إنّها قابلة للنبوة إلى آخر الأبد ، بأن يقول اللّه جل ذكره لموسى عليه السلام : « أنت نبيٌّ وصاحبُ دينٍ إلى آخر الأبد » ، ولأن يكون إلى زمان محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولأن يكون غير مغيّىً بغاية بأن يقول « أنت نبيّ » بدون أحد القيدين فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد أو الاطلاق ، ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب ؛

-------------------

يكون متعيّنا حتى يجري على منواله ) أي : على منوال ذلك الموضوع المتعيّن ، ولا يكون الموضوع متعيّنا إلاّ إذا كان الشك في الرافع ، لا في المقتضي ، بينما إستصحاب الكتابي هنا من الشك في المقتضي كما قال : ( ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي ) أي : النبوة في الجملة بلا تعيين موضوعها ( كلّي من حيث إنّها قابلة للنبوة إلى آخر الأبد ، بأن يقول اللّه جل ذكره لموسى عليه السلام : « أنت نبيٌّ وصاحبُ دينٍ إلى آخر الأبد » ، ولأن يكون إلى زمان محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولأن يكون غير مغيّىً بغاية ) وذلك ( بأن يقول ) له : ( « أنت نبيّ » بدون ) أن يضيف على كلامه هذا ( أحد القيدين ) : لا قيد التأبيد ، ولا قيد التوقيت بكونه إلى زمان نبي الاسلام .

وعليه : ( فعلى الخصم ) وهو الكتابي ( أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد ) بأن يأتي بدليل يدل على ان موسى نبي إلى الأبد ( أو الاطلاق ) بأن يأتي بدليل يدلّ على ان اللّه تعالى قال لموسى : «أنت نبيّ» .

( ولا سبيل إلى الأوّل ) أي : إلى إثبات ان اللّه تعالى قال لموسى : أنت نبيّ إلى الأبد ( مع أنّه ) لو فرض السبيل إليه ، فانه ( يخرج عن الاستصحاب ) لوضوح : ان مع التصريح بالامتداد إلى الأبد لا يبقى مجال للاستصحاب ، لأن الاستصحاب

ص: 160

ولا إلى الثاني لأنّ الاطلاق في معنى القيد لابدّ من إثباته .

ومن المعلوم : أنّ مطلق النبوة غير النبوة المطلقة .

والذي يمكن إستصحابه هو الثاني ، دون الأوّل ،

-------------------

انما هو مع الشك وعلى فرض التصريح فلا شك .

( ولا إلى الثاني ) أي : إلى إثبات انه تعالى قال لموسى : «أنت نبيّ» ، فانه لا سبيل إليه أيضا ( لأنّ الاطلاق في معنى القيد لابدّ من إثباته ) أي : إثبات هذا القيد وهو : الاطلاق ، فكما ان النبوة المؤبدة بحاجة إلى إثبات فكذلك النبوة المطلقة ، ولا سبيل إلى إثباته فلا يصح الاستصحاب فيه .

هذا ( ومن المعلوم : أنّ ) المتيقن السابق هو : ( مطلق النبوة ) الذي هو مقسم يعني : النبوة في الجملة المردّدة بين الأقسام الثلاثة بين كونها : موقتة ، أو مؤبدة ، أو بلا أحد القيدين ، وهذا المعنى من النبوة المجملة ( غير النبوة المطلقة ) التي هي قسم خاص من الأقسام الثلاثة المعبّر عنها بقوله تعالى لموسى : «أنت نبيّ » .

( و ) قد عرفت : ان على الخصم إثبات نبوة موسى بالمعنى الثاني أعني النبوة المطلقة ، لا المعنى الأوّل أعني : مطلق النبوة ، بينما ( الذي يمكن إستصحابه هو الثاني ، دون الأوّل ) .

وعليه : فان الثابت لنا من نبوة موسى هو المعنى الأوّل ، ولا يفيد الخصم لأنه لا يصح الاستصحاب فيه على ما سيأتي ، وأما المعنى الثاني وهو الذي يصح الاستصحاب فيه على فرض ثبوته ، فانه غير ثابت لنا ، ولا سبيل للخصم أيضا إلى إثباته حتى يتمكن من إستصحابه ، فهو بين ما لا يقين سابق له ، أو لا شك لاحق فيه .

إذن : فلا يصح التمسك بالاستصحاب على المعنيين : أما على المعنى الثاني

ص: 161

إذ الكلّي لا يمكن إستصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ افراده » ، إنتهى موضع الحاجة .

وفيه :

أولاً : ما تقدّم من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز إستعداد المستصحب .

وثانيا : أنّ ما ذكره : من أنّ الاطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد - غير صحيح - لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل .

-------------------

يعني : النبوة المطلقة فلما عرفت ، واما على المعنى الأوّل وهو : مطلق النبوة فلعدم يقين سابق له ( إذ الكلّي ) فيما نحن فيه وهو : مطلق النبوة مردّد بين ما لا إستعداد له للبقاء ، وبين ما هو مستعدّ له ، كتردّد كلي الحيوان بين العصفور والغراب ، وقد عرفت ان في هذه الصورة ( لا يمكن إستصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقل افراده » (1) ) وهو لا يفيد الخصم لأن عليه إثبات بقاء أطول افراده .

( إنتهى موضع الحاجة ) من كلام القوانين في ردّه على الكتابي .

( وفيه ) أي : في ردّ القوانين على الكتابي مواقع للنظر كالتالي :

( أولاً : ما تقدّم : من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز إستعداد المستصحب ) للبقاء حتى يختص الاستصحاب ، بمورد الشك في الرافع فقط ، فان الشك في المقتضي أيضا مورد للاستصحاب ، كما هو المشهور .

( وثانيا : أنّ ما ذكره : من أنّ الاطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ) إذ الماهية قد تكون مقيّدة بقيد ، وقد تكون مقيّدة بالاطلاق ( - غير صحيح - لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل ) وما كان مطابقا للأصل لا يحتاج إلى إثبات ، فإذا قال المولى مثلاً :

ص: 162


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص70 .

نعم ، المخالف للأصل الاطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام .

والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر نبوّةً مستدامةً الى آخر الأبد ، ونبوّة مغيّاة إلى وقت خاص ، ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة - بمعنى غير المقيّدة - ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت .

-------------------

اكرم العلماء ، وشككنا في انه هل قيّده بالعدالة أم لا ؟ فالأصل عدم التقييد ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك ، فأصالة الاطلاق في مورد الشك في الاطلاق والتقييد محكّمة .

( نعم ، المخالف للأصل ) الذي يحتاج إلى إثبات هو : ( الاطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام ) لأن كل واحد من التقيّد بزمان خاص والدوام قيد ، فيجب إثباته ، ولكن لم يكن مراد القوانين من النبوة المطلقة هذا المعنى ، بل مراده منها هو الاطلاق في قبال الموقتة والمؤبّدة ، وهو كما عرفت مطابق للأصل ، فلا يحتاج إلى إثبات .

( والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر ) أمرين إثنين : ( نبوّةً مستدامةً إلى آخر الأبد ، ونبوة مغيّاة إلى وقت خاص ، ولا ثالث لهما في الواقع ) أي : في عالم الثبوت ، وامّا في عالم الاثبات ( فالنبوّة المطلقة - بمعنى غير المقيّدة - ومطلق النبوّة ، سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ) من دون فرق بين العبارتين .

إذن : فالنبوة في عالم الثبوت والواقع تدور بين التوقيت والتأبيد ، بينما في عالم الاثبات والدلالة تدور بين كونها موقتة ، أو مؤبدة ، أو مطلقة مردّدة بينهما ، والاطلاق في العبارتين : النبوة المطلقة ، ومطلق النبوة ، بمعنى واحد ، وكما انه لو علمنا بالنبوة المطلقة بان قال تعالى : «أنت نبيّ» نتردّد بين كون النبوة موقتة

ص: 163

فلا وجه لاجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ، إلاّ أن يريد بقرينة ما ذكره بعد ذلك : من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء : الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع : أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشك فيه شك في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ، فانّ إستعداده غير محرز عند الشك ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد .

-------------------

أو مؤبدة ، فكذلك إذا علمنا بمطلق النبوة .

وعليه : فالعبارتان بمعنى واحد ، وإذا كانتا بمعنى واحد ( فلا وجه لاجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ) كما ذكره القوانين .

( إلاّ أن يريد ) القوانين في فرض ثبوت النبوة المطلقة بأن قال سبحانه : «أنت نبيّ» جريان الاستصحاب فيه من جهة ان مطلقات كل شريعة مثل : الصلاة واجبة، والخمر حرام ، وما أشبه ذلك ، لها إستعداد البقاء بحكم الاستقراء ، فيجري الاستصحاب فيها عند الشك في بقائها بخلاف مطلق النبوة فان إستعدادها للبقاء غير محرز فلا يجري فيها الاستصحاب .

وعليه : فاجراء الاستصحاب في أحدهما لا وجه له إلاّ إذا أراد ما قلناه ( بقرينة ما ذكره بعد ذلك : من أنّ المراد من مطلقات كل شريعة بحكم الاستقراء : الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ) يريد بذلك : ( أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشك فيه شك في الرافع ) وليس شكا في المقتضي ، يجري فيه الاستصحاب .

( بخلاف مطلق النبوّة ، فانّ إستعداده غير محرز عند الشك ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد ) فيكون الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي ، فلا يجري فيه الاستصحاب .

ص: 164

وثالثا : أنّ ما ذكره منقوضٌ بالاستصحاب في الأحكام الشرعية ، لجريان ما ذكر في كثير منها ، بل في أكثرها .

وقد تفطّن لورود هذا عليه ، ودفعه بما لا يندفع به فقال : « إنّ التتبع والاستقراء يحكمان :

-------------------

( وثالثا ) : وهو جواب نقضي وخلاصته : ( أنّ ما ذكره ) القوانين في الرد على إستصحاب الكتابي : من عدم جريان الاستصحاب هنا لأنه من الشك في المقتضي ( منقوضٌ بالاستصحاب في الأحكام الشرعية ، لجريان ما ذكر ) من كونه من الشك في المقتضي ( في كثير منها ، بل في أكثرها ) أي : ان أكثر موارد إستصحاب الحكم الشرعي يكون مع حصول تغير في الموضوع ممّا يكون الشك في المقتضي ، مثل : إستصحاب خيار الغبن عند الشك في بقائه ، وإستصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره وما أشبه ذلك ، ومع هذا كله لا يمنع القوانين الاستصحاب فيه فكيف يمنعه هنا ؟ .

( وقد تفطّن ) القوانين ( لورود هذا ) الايراد النقضي ( عليه ، ودفعه بما لا يندفع به ) وذلك لأن دفعه لم يكن تاما ، فانه قال ما خلاصته :

إنّا نجد في الشريعة مطلقاتٍ كثيرة نعلم من الخارج بسبب الاستقراء انها مستمرة حتى يثبت الرافع الشرعي فيرفعها ، مثل : الطهارة والنجاسة والملكية والزوجية والحرية والرقيّة والحدث والتطهر وغير ذلك ، فاستقراء هذه الموارد يوجب الظن القوي بارادة الاستمرار في سائر المطلقات من الأحكام الفرعية التي لم يثبت من الخارج إستمرارها ولا توقيتها ، فنحكم للاستقراء في كل ما نشك في إستمراره أو توقيته بانه مجرى الاستصحاب .

وإلى هذا المعنى تعرّض القوانين ( فقال : « إنّ التتبع والاستقراء يحكمان :

ص: 165

بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ماثبت له حدّ ليست بآنيّة ولا محدودة إلى حدّ معيّن وأنّ الشارع إكتفى فيما ورد عنه مطلقا في إستمراره .

فإنّ من تتبّع أكثر الموارد واستقرءها يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار ، ويظهر من الخارج : أنه اراد الاستمرار الى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي » ، إنتهى .

-------------------

بأنّ غالب الأحكام الشرعية في غير ما ثبت له حدّ ) بنص أو إجماع أو ما أشبه ذلك ( ليست بآنيّة ) أي : ليست فورية ( ولا محدودة إلى حدّ معيّن ) من ساعة أو يوم أو أقل أو أكثر ، وإنّما هي مستمرة ( و ) ذلك ( أنّ الشارع إكتفى فيما ورد عنه مطلقا ) بجعل الاطلاق علامة ( في إستمراره ) فالاستقراء يوجب أن يكون المشكوك أيضا ملحقا بالأعم الأغلب .

وعليه : ( فانّ من تتبّع أكثر الموارد ) الشرعية الفرعية ( وإستقرءها يحصل ) على ( الظنّ القوي بأنّ مراده ) أي : مراد الشارع ( من تلك المطلقات ) التي نشك في إستمرارها ( هو : الاستمرار ، ويظهر من الخارج : أنّه أراد الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي » (1) ) فيرفعه .

هذا ولا يخفى : ان التتبع والاستقراء يطلق كل واحد منهما على الآخر ، والقوانين امّا أراد منهما عطف التفسير ، أو أراد بالتتبع : الصغريات ، وبالاستقراء : الكبريات ، كما ويؤيده انه قال : يحكمان ، فليس ذلك بعطف تفسير ، وكان الاستقراء للكبريات لأنه مأخوذ من الذهاب إلى قرية قرية ، ثم في كل قرية يقوم الانسان بالتتبع وذلك كما إذا إستقرئنا باب الصلاة وباب الصوم وباب الحج ، وفي كل واحد من هذه الأبواب تتبّعنا مسائلها مسألة مسألة ، (إنتهى) كلامه رفع مقامه .

ص: 166


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص73 .

ولا يخفى ما فيه : أمّا أولاً : فلأنّ مورد النقض لا يختص بما شك في رفع الحكم الشرعي الكلّي ، بل قد يكون الشك لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة .

وأمّا ثانيا : فلأنّ

-------------------

( ولا يخفى ما فيه ) أي : ما في دفع القوانين للاشكال الثالث من النقض الوارد على كلامه .

( أمّا أولاً : فلأنّ مورد النقض لا يختص بما شك في رفع الحكم الشرعي الكلّي ) مثل إحتمال إرتفاع خيار الغبن بعد الآن الأوّل لكونه فوريا ، وما أشبه ذلك حتى يكون الشك دائما في فوريته وتوقيته ، فيحكم للاستقراء باستمراره ( بل قد يكون الشك لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة ) فلا يكون من الشك في الفورية والتوقيت حتى يحكم للاستقراء باستمراره .

وعليه : فقول القوانين : ان الشارع أراد الاستمرار من مطلقاته إلى ان يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي ، لا يجري في كل موارد الشك ، بل يجري في موارد الشك في الفورية والتوقيت فقط ، فإذا شك في بقاء الحكم لاحتمال كونه فوريا أو موقتا حكم باستمراره للاستقراء ، اما إذا شك في بقاء الحكم لحصول تغير في موضوعه كما في زوال تغيّر الماء النجس ، فلا يكون الشك ناشئا من إحتمال كون الحكم فوريا أو موقتا حتى يحكم للاستقراء باستمراره .

( وأمّا ثانيا : فلأنّ ) قول القوانين : ان الشارع أراد الاستمرار من مطلقاته إلى ان يثبت الرافع ، ليس معنى ثبوت الرافع : كون الشك في الرافع إلاّ بلحاظ لسان الدليل ، والاّ فان الشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في بقاء مقدار إستعداده نظير الحيوان المردّد بين ما يستعد للبقاء سنة ، وما يستعد للبقاء

ص: 167

الشك في رفع الحكم الشرعي إنّما هو بحسب ظاهر دليله ، الظاهر في الاستمرار بنفسه ، أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات .

لكنّ الحكم الشرعي الكلّي في الحقيقة إنّما

-------------------

كثيرا ، فانه شك في المقتضي وليس شكا في الرافع .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ان ( الشك في رفع الحكم الشرعي إنّما هو بحسب ظاهر دليله ، الظاهر في الاستمرار بنفسه ، أو بمعونة القرائن ) الخارجية يعني : ان الظاهر هو إستمرار الحكم إلى ان يثبت الرافع ظهورا من جهة نفس الدليل ، أو ظهورا من قرينة خارجية .

أما الظهور من نفس الدليل فهو : مثل ما إذا قال الشارع - مثلاً - : النكاح مستمر حتى يحصل الطلاق فيرفعه ، ثم قال الزوج لزوجته : أنت خليّة ، فلم نعلم هل بقي النكاح بعد ذلك أم لا ، فنحكم ببقائه ، والشاهد في تسمية الشك هنا بالشك في الرافع للرفع الذي جاء في نفس الدليل .

وأما الظهور من القرائن الخارجية فهو : ( مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ) فان الشارع إذا قال - مثلاً - : الوضوء يوجب الطهارة ، وشككنا بعد خروج المذي في بقاء الطهارة وعدم بقائها ، فانه حيث قام الاجماع ، أو كان غالب مطلقات الشارع للاستمرار حتى حصول الرافع ، كان ذلك الاجماع ، أو الاستقراء، قرينة على إستمرار الطهارة وبقائها ، فنحكم ببقائها ، والشاهد في تسمية الشك بالشك في الرافع للرفع الظاهر من الاجماع أو الاستقراء .

والحاصل : ان التعبير بكون الشك في الرافع إنّما هو أمر ظاهري بسبب نفس الدليل ، أو بسبب القرائن الخارجية ( لكنّ الحكم الشرعي الكلّي في الحقيقة إنّما

ص: 168

يرتفع بتمام إستعداده حتى في النسخ فضلاً عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي .

والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته : انتهاء إستعداد الحكم ، فالشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في مقدار إستعداده ، نظير الحيوان المجهول إستعداده .

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره من حصول الظنّ بارادة الاستمرار من الاطلاق ، لو تمّ يكون دليلاً إجتهاديا مغنيا عن التمسك بالاستصحاب .

-------------------

يرتفع بتمام إستعداده ) ممّا يكون الشك في المقتضي وكذلك يكون ( حتى في النسخ ) الذي هو أظهر مصاديق الشك في الرافع ، فانه في الحقيقة شك في المقتضي ( فضلاً عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ) لوضوح كون الشك فيه شكا في المقتضي ، وكذا مثال النسخ ، فانه كما قال : ( والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته : انتهاء إستعداد الحكم ) .

وعليه : ( فالشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في مقدار إستعداده ، نظير الحيوان المجهول إستعداده ) بين ما يعيش سنة وبين ما يعيش كثيرا ، حيث انه شك في المقتضي ، فيكون قول القوانين : «ان من تتبع أكثر الموارد وإستقرئها يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار» غير تام .

( وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره ) القوانين : ( من حصول الظنّ بارادة الاستمرار من الاطلاق ، لو تمّ يكون دليلاً إجتهاديا ) لبقاء الأحكام السابقة ، فيكون ( مغنيا عن

التمسك بالاستصحاب ) فلا مجال للاستصحاب فيما نعلم أو نظن ظنا قويا بانه باق ومستمر .

ص: 169

فانّ التحقيق : أنّ الشك في نفس الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر في نفسه ، أو بمعونة دليل خارجي في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشك ، وهو : ظنّ الاستمرار .

نعم ، هو من قبيل إستصحاب حكم العام إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس إستصحابا في حكم شرعي ، كما لا يخفى .

ثم إنّه أورد على ما ذكره : من قضاء التتبع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الاطلاق ، بأنّ النبوة أيضا من تلك الأحكام .

-------------------

وعليه : ( فانّ التحقيق : أنّ الشك في نفس الحكم ، المدلول عليه ) أي : على ذلك الحكم المشكوك ( بدليل ظاهر ) في الاستمرار ، ظهورا ( في نفسه ، أو بمعونة دليل خارجي ) كالاجماع وكالاستقراء وما أشبه ذلك ، فان مع ظهور الدليل ( في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب ) .

وإنّما لم يكن موردا للاستصحاب ( لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشك وهو : ظنّ الاستمرار ) وظن الاستمرار حجة لبناء العقلاء عليه .

( نعم ، هو ) أي : التمسك بالاطلاق يكون ( من قبيل إستصحاب حكم العام ) والجريان عليه ( إلى أن يرد المخصّص ، وهو ) أي : الجريان على حكم العام إلى ورود المخصّص ( ليس إستصحابا في حكم شرعي ، كما لا يخفى ) بل هو ظهور عقلائي يرتبط بالاُصول اللفظية ، فهو دليل إجتهادي عليه بناء العقلاء ، وليس أصلاً عمليا .

( ثم إنّه ) أي : صاحب القوانين قدس سره قد ( أورد على ما ذكره : من قضاء التتبع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الاطلاق ) قائلاً : ( بأنّ النبوة أيضا من تلك الأحكام ) أي : من ان قوله تعالى لموسى : أنت نبيّ من المطلقات الشرعية التي إقتضى

ص: 170

ثم أجاب بأنّ غالب النبوّات محدودةٌ . والذي ثبت علينا إستمراره نبوة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ولا يخفى ما في هذا الجواب .

أمّا أولاً : فلأنّ ، نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها في أنفسها أو بمعونة الاستقراء

-------------------

الاستقراء إستمرارها ، فيظن باستمرارها لغلبة إرادة الشارع ذلك من مطلقاته سواء في الاُصول أم في الفروع .

( ثم أجاب ) عن هذا الايراد : ( بأنّ غالب النبوّات محدودةٌ ) لوضوح : ان كل نبوة جديدة كانت تنسخ النبوة السابقة ( والذي ثبت علينا إستمراره ) هو ( نبوة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فقط ، فالنبوة في غير النبي الخاتم ليست من قبيل سائر المطلقات الشرعية حتى يظن ببقائها عند الشك فيها .

( ولا يخفى ما في هذا الجواب ) من مواقع للنظر :

( أمّا أولاً : فلأنّ ) قول القوانين : «غالب النبوات محدودة» ظاهر في انه إستفاد هذه الغالبية من غالبية النسخ التي رآها في النبوات ، مع انه لا تلازم بين غلبة النسخ وغلبة التحديد ، فمن أين ان نبوة موسى محدّدة بمجيء نبي الاسلام ، ولذا قال المصنِّف : ان ( نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ) وإذا لم يثبت التلازم بينهما لم يثبت المدّعى وهو : تحديد نبوة موسى بمجيء نبي الاسلام .

وإنّما لم يثبت المدّعى لأنه كما قال : ( فللخصم ) اليهودي حينئذ ( أن يدّعي ظهور أدلّتها ) أي : أدلة النبوات ( في أنفسها ) لا بالقرائن الخارجية لأنها مطلقات ( أو بمعونة الاستقراء ) والقرائن الخارجية ، فيدّعي لذلك ظهورها

ص: 171

في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه .

وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مُجدية ، للقطع بكون إحداها مستمرّة .

فليس ما وقع الكلام في إستمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب ، وإلحاقه بالنادر ،

-------------------

( في الاستمرار، فانكشف نسخ ما نسخ ) كنبوة نوح - مثلاً - ( وبقي ما لم يثبت نسخه ) كنبوة موسى عند اليهودي ، أو نبوة عيسى عند المسيحي ظاهرا في الاستمرار .

( وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات ) على فرض التلازم بينهما وبين غلبة النسخ ( غير مُجدية ) أيضا لاثبات المدّعى وهو : ان نبوة موسى محدّدة بمجيء نبي الاسلام محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وإنّما لم تكن مجدية أيضا ( للقطع بكون إحداها ) أي : إحدى تلك النبوات وهي النبوة الأخيرة ( مستمرّة ) فلليهودي أن يقول : لعل نبوة موسى هي المستمرة إلى الأبد ، فمن أين لكم أيها المسلمون إثبات ان نبوّة موسى محددة وليست بمستمرة مع إنكم تدّعون : ان غالب النبوات محدّدة لا جميعها ، وان نبوة واحدةً من هذه النبوات مستمرة ؟ فمن أين لا تكون تلك المستمرة هي نبوة موسى ؟ .

وعليه : ( فليس ما وقع الكلام في إستمراره ) من نبوة موسى ( أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب ، وإلحاقه بالنادر ) حتى يظن لحوقه بالغالب ، لأن المشكوك قد يكون مردّدا بين كونه ملحقا بالغالب ، أو ملحقا بالنادر ، وقد يكون مردّدا بين كونه ملحقا بالغالب ، أو هو نفس الفرد النادر ، ففي الأوّل يظن بلحوق المشكوك بالغالب ، بينما في الثاني لا يظن بلحوقه بالغالب ، وما وقع الكلام في إستمراره

ص: 172

بل يشك في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب .

والحاصل : أنّ هنا أفرادا غالبا وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير النادر أو ما قبله الغالب ،

-------------------

هنا من قبيل الثاني لا الأوّل كما قال : ( بل يشك في أنّه ) أي : ما وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى هل هو نفس ( الفرد النادر ) المستمر ( أو النادر غيره ) يجيء بعده فينسخه ويبقى ذلك النادر مستمرا ، وهو نبوة نبي الاسلام نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ فانه لا يظن في هذا الفرض لحوق المشكوك بالغالب .

وعليه : ( فيكون هذا ) الذي وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى على الفرض الأوّل ( ملحقا بالغالب ) لا على الفرض الثاني .

مثلاً : إذا كان العصفور يعيش سنة والغراب يعيش كثيرا ، وشك في اللقلق بانه كالعصفور أو كالغراب ؟ فهنا يصح أن يقال : هذا ملحق بالعصفور أو ملحق بالغراب ، بينما إذا كان في الدار طائر لا نعلم بانه عصفور أو غراب ؟ فهنا لا يصح أن يقال : انه ملحق بالعصفور أو ملحق بالغراب ؟ بل يجب ان يقال : هل أنّه عصفور أو غراب لأنّه لا ثالث ؟ وما وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى من قبيل الثاني ، لا من قبيل الأوّل .

( والحاصل : أنّ هنا ) في باب النبوة ( أفرادا غالبا ) هي النبوات غير المستمرة ( وفردا نادرا ) هو النبوة المستمرة ( وليس هنا ) قسم ثالث ( مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد ) المشكوك هل ( هو الأخير النادر ) الذي يبقى مستمرا ( أو ما قبله الغالب ) أي : ما قبل الأخير من افراد النبوات غير المستمرة وهي الافراد الغالبة ؟ فان المشكوك هنا ليس قسما ثالثا

ص: 173

بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه كون هذا هو الأخير المغاير للباقي .

ثم أورد قدس سره على نفسه : بجواز إستصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة .

وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع إقترانها ببشارة مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لا ينفعهم .

وربما يورد عليه أنّ الكتابي

-------------------

حتى يلحق بأحد القسمين .

( بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه ) أي : يثبت باستصحاب ما عدا هذا المشكوك من نبوة موسى ( كون هذا هو الأخير المغاير للباقي ) من افراد النبوات غير المستمرة ، وهذا ما لا يريد القوانين إثباته لأنه يثبت مطلوب الكتابي ، لا مطلوبه ، فعليه ان يجيب بجواب غير هذا .

( ثم ) ان القوانين قد تفطّن إلى ما يمكن للكتابي التمسك به وذلك بان يقول : إذا لم يجر الاستصحاب في نبوة موسى لغلبة تحديد النبوات ، فليجر في أحكام شريعته ، إذ لا غلبة في تحديدها ، بل الغالب إستمرارها ، ولردّ ذلك ( أورد قدس سره على نفسه : بجواز إستصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة ) أي : التي لم تقيّد بزمان خاص فيثبت بذلك مطلوب الكتابي .

( وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع إقترانها ببشارة مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لا ينفعهم ) فانه لا ينفع الكتابي ذلك ، لأن الأحكام السابقة لشريعة موسى - مثلاً - حيث كانت مقترنة ببشارة مجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان معنى ذلك : انها موقتة ، فيكون الشك فيها من الشك في المقتضي الذي لا يجري الاستصحاب فيه .

هذا ( وربما يورد عليه ) أي : على هذا الكلام من القوانين : ( أنّ الكتابي

ص: 174

لا يسلّم البشارة المذكورة حتى يضُرُّه في التمسك بالاستصحاب ، ولا ينفعه .

ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الاطلاق مع إقترانها بالبشارة فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة ، غير دالّة إلاّ على مطلق النبوة ، فلا ينفع الاطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوة ، فانّها تصير أيضا حينئذ مهملة .

-------------------

لا يسلّم البشارة المذكورة ) بمجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( حتى يضرّه ) ذلك ( في التمسك بالاستصحاب ، و ) حتى ( لا ينفعه ) الاستصحاب حينئذ .

( و ) لكن ( يمكن توجيه كلامه ) أي : كلام القوانين ( بأنّ المراد ) ليس هو المناظرة مع الكتابي حتى يمنع الكتابي البشارة ، بل المراد : إثبات انه مع تقارن إطلاقات أحكام الأنبياء السابقين بالبشارة بمجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لم يحصل الظن باستمرار تلك الأحكام عند الشك فيها بعد مجيء من بشّروا به ، كما لم يحصل الظن باستمرار أحكامهم أيضا مع كون نبواتهم مهملة ، لأن الشرايع ملازمة للنبوات ، فإذا كانت النبوات مهملة ولا يصح إستصحابها ، كانت الشرايع مهملة ولا يصح إستصحابها أيضا .

والحاصل : ( أنّه إذا لم ينفع الاطلاق مع إقترانها بالبشارة ) في حصول الظن باستمرار الأحكام ( ف ) كذلك ( إذا فرض قضيّة نبوّته مهملة ، غير دالّة إلاّ على مطلق النبوة ، فلا ينفع الاطلاق ) أي : إطلاق أحكام شريعته في حصول الظن باستمرارها عند الشك فيها أيضا ( بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوة ) فيها وذلك للملازمة بينهما على ما عرفت ( فانّها ) أي : الأحكام ( تصير أيضا حينئذ ) أي : حين إهمال النبوة ( مهملة ) فلا يصح إستصحابها .

ص: 175

ثم إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :

الأوّل : أنّ المقصود من التمسك به ، إن كان الاقتناع به في العمل عند الشك ، فهو مع مخالفته للمحكي عنه من قوله : « فعليكم كذا وكذا » ، فانّه ظاهرٌ في أنّ غرضه الاسكات والالزام - فاسدٌ جدا - لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث . وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين

-------------------

( ثم إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه ) خمسة ، إضافة إلى الوجوه الأربعة الماضية التي ذكرناها سابقا :

الوجه ( الأوّل : أنّ ) الاستصحاب الذي ذكره الكتابي ، امّا إقناعي يريد به إقناع نفسه بدينه ، وامّا الزامي يريد به الزام خصمه المسلم بقبول مدّعاه ، وعلى كل تقدير لم يكن الاستصحاب تاما .

أمّا على تقدير كونه إقناعيا فنقول : ( المقصود من التمسك به ، إن كان الاقتناع به في العمل ) لنفسه ( عند الشك ) العارض له أعني : للكتابي في ان نبوة موسى باقية أم لا ( فهو مع مخالفته للمحكي عنه ) أي : المحكي عن ذلك الكتابي ( من قوله : « فعليكم كذا وكذا » ، فانّه ظاهرٌ ) من كلامه هذا ( في أنّ غرضه الاسكات والالزام ) لا إقناع نفسه به .

وعليه : فان كان مقصوده منه هو إقتناعه به فانه ( فاسدٌ جدا ) لأنه لا يتمكن ان يقتنع بسبب الاستصحاب ببقاء نبوة موسى ( لأنّ العمل به ) أي : بالاستصحاب ( على تقدير تسليم جوازه ) هنا وعدم ورود الاشكالات السابقة على إستصحاب النبوات عليه ( غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث ، وحينئذ ) أي : حين فحص وبحث ( يحصل العلم بأحد الطرفين ) : امّا نبي لازم الطاعة ، وامّا انه قد إنقضت

ص: 176

بناءا على ما ثبت من إنفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفار والاجماع المدّعى على عدم معذورية الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشيء في بلاد الاسلام .

وكيف كان : فلا يبقى مجال للتمسك بالاستصحاب .

-------------------

نبوته فيلزم إطاعة نبي آخر .

إذن : فلا يبقى شك ( بناءا على ما ثبت ) عندنا ( من إنفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ) الاُصولية التي هي من الاعتقادات المهمة ( كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفار ) لوضوح : ان تعذيب العاجز عن العلم قبيح قطعا ، فما دلّ على تعذيبهم إنّما هو من جهة تقصيرهم في البحث مع إمكان تحصيل العلم ، أو عنادهم بعد علمهم بانه نبي ، كما قال سبحانه : « وجَحدوا بها وإستيقَنتْها أنفسهم » (1) .

( و ) كما يدل عليه أيضا ( الاجماع المدّعى على عدم معذورية الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ) المهمة التي هي من أركان اُمهات مسائل اُصول الدين، و ( خصوصا من مثل هذا الشخص ) الكتابي ( الناشيء في بلاد الاسلام ) حيث قد تقدّم انه كان في قرية ذي الكفل القريبة من النجف الأشرف والكوفة المقدسة .

( وكيف كان : فلا يبقى مجال ) للكتابي ( للتمسك بالاستصحاب ) والاقتناع به لبقاء نبوة موسى على نبينا وآله وعليه السلام ، وإنّما يجب عليه الفحص وتحصيل العلم .

ص: 177


1- - سورة النمل : الآية 14 .

وإن أراد به الاسكات والالزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلاً إسكاتيّا، لأنّه فرع الشك ، وهو أمر وجداني كالقطع ، لا يلتزم به أحد .

وإن أراد بيان : أنّ مدّعي إرتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلطٌ ، لأنّ مدّعي البقاء في مثل المسألة أيضا يحتاج إلى الاستدلال عليه .

-------------------

هذا ان أراد بالاستصحاب الاقتناع لنفسه ( وإن أراد به الاسكات والالزام ) للمسلم المخاصم له ( ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلاً إسكاتيّا ، لأنّه فرع الشك ، و ) الشك ( هو أمر وجداني كالقطع ، لا يلتزم به أحد ) أي : ان الشك كالقطع أمر قلبي لا يمكن تحميله على الطرف ، والمسلم هنا لا شك له ، لا بالنسبة إلى نسخ نبوة موسى ، ولا بالنسبة إلى ثبوت نبوة نبي الاسلام ، فلا مجال للاستصحاب .

( وإن أراد بيان : أنّ مدّعي إرتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ) على دعواه يعني : ان الكتابي إنّما جاء بالاستصحاب حتى يكون منكرا ، ويلجيء المسلم المدّعي إلى إقامة الدليل على معتقده ، فليس هو لاقناع نفسه ، ولا هو لالزام غيره ، فان كان مراده هذا ( فهو غلطٌ ) أيضا .

وإنّما هو ليس بصحيح أيضا ( لأنّ مدّعي البقاء ) أي : بقاء نبوة موسى وهو الكتابي لا يكفيه الاستصحاب ( في مثل المسألة ) التي هي من أهم الاعتقاديات ، فهو ( أيضا يحتاج إلى الاستدلال عليه ) فانّ كل واحد من مدّعي النسخ ، أو مدّعي البقاء لنبوة نبي من الأنبياء يحتاج إلى الاستدلال الموجب للعلم والقطع ، وإلاّ فكل واحد ممن يدين بنبوة نبي : موسى كان ، أو قبل موسى ، أو بعد موسى ، يتمكن أن يتمسك بالاستصحاب على من بعده ، لاثبات صحة دينه وبطلان دين اللاحق ، وهو واضح البطلان .

ص: 178

الثاني : أنّ إعتبار الاستصحاب إن كان من باب الاخبار ، فلا ينفع الكتابي التمسك به ، لأنّ ثبوته في شرعنا مانعٌ عن إستصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم .

نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسك به ، لصيرورته حكما إلهيا غير منسوخ ، يجب تعبّد الفريقين به ، وإن كان

-------------------

الوجه ( الثاني : أنّ إعتبار الاستصحاب إن كان من باب الاخبار ) مثل : « لا تنقض اليقين بالشك» (1) ( فلا ينفع الكتابي التمسك به ، لأنّ ثبوته في شرعنا مانعٌ عن إستصحاب النبوّة ) السابقة ، فان الأخذ به من شرعنا يعني : قبول حقانية شرعنا وإعتراف بنسخ ما قبله ( وثبوته في شرعهم غير معلوم ) لنا ، فلا يصح التمسك بالاستصحاب لاثبات الكتابي مطلوبه .

( نعم ، لو ثبت ذلك ) أي : حجية الاستصحاب ( من شريعتهم أمكن التمسك به ) أي : بالاستصحاب ( لصيرورته ) أي : الاستصحاب حينئذ ( حكما إلهيا غير منسوخ ، يجب تعبّد الفريقين به ) إذ هو حجة عندنا وعندهم فكلانا نقول بحجية الاستصحاب ، لكن ذلك لا ينفع الكتابي أيضا ، لا لنفسه لأن النبوة - كما عرفت - من أركان اُصول الدين ولا يكفي الاستصحاب لاثباتها ، ولا لغيره لأنا نرى حجية الاستصحاب في مورد الشك ، ونحن لا نشك في نبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ولا في إنقضاء نبوة موسى ، فهو كما إذا قال : الليل باق ، وأراد إثبات بقاء الليل بالاستصحاب لمن يعلم وجدانا بأن الآن نهار وليس بليل .

هذا ان كان حجية الاستصحاب من باب الاخبار ( وإن كان ) حجيّة

ص: 179


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

من باب الظنّ ، فقد عرفت في صدر المبحث : أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعي الكلّي ممنوع جدا .

وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوعٌ .

وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد غير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف والاحتياط في العمل ،

-------------------

الاستصحاب ( من باب الظنّ ) العقلائي ( فقد عرفت في صدر المبحث : أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعي الكلّي ) كنبوة موسى وإستمرار شريعته ( ممنوع جدا ) بعد كونه شكا في مقدار إستعداده للبقاء ممّا يكون شكا في المقتضي ، وبعد شيوع لنسخ النبوات والشرايع ، فلا يحصل مع ذلك الظن الشخصي ولا النوعي ببقائه .

( وعلى تقديره ) أي : على تقدير حصول الظن ( فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوعٌ ) حيث قد عرفت سابقا : ان الاعتقادات لا يكفي الظن فيها .

إن قلت : نرجع الظن بالنبوة إلى الظن بأحكام الشريعة ، والغالب في الأحكام بقاءها ، فنستصحبها لحصول الظن فيها .

قلت : ( وإرجاع الظنّ بها ) أي : بالنبوة ( إلى الظنّ بالأحكام الكلّية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ) .

وإنّما لا يجري الاستصحاب فيها وان حصل الظن ( لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد غير الجاري في المقام ) فان دليل الانسداد لا يجري ( مع التمكّن من التوقّف ) في الاعتقاد ( والاحتياط في العمل ) وهنا يمكن التوقف في الاعتقاد ، ويمكن الاحتياط من حيث العمل أيضا ، فلا مسرح للعمل

ص: 180

ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث .

ودعوى « قيام الدليل الخاص على إعتبار هذا الظنّ ، بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ، من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ،

-------------------

بالظن الانسدادي .

( و ) إن قلت : انا لا نتمكن من الاحتياط في العمل بالشريعتين ، لأنه حرج .

قلت : إنّ ( نفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث ) فان أهل الشريعة السابقة ما داموا لم يفحصوا أو فحصوا ولم يحصل لهم العلم بأحد الطرفين ، عليهم ان يحتاطوا بالجمع بين الشريعتين ، بل ربما يظهر من جملة من الآيات والروايات : ان الحرج كان في الشرايع السابقة لتعنّت الاُمم الماضية وعدم إنصياعهم للحق .

هذا ( ودعوى قيام الدليل الخاص على إعتبار هذا الظنّ ) ببقاء النبوة والشريعة، وذلك ( بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول : ( من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ) كمائة سنة أو خمسمائة سنة مثلاً ، ( بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ) .

وعليه : فان العقلاء إذا شكّوا في مجيء النبي اللاحق وعدم مجيئه ، ولم يكن لهم طريق إلى إثبات نبوة النبي اللاحق بالقطع واليقين ، فانهم يستصحبون نبوة

ص: 181

ولولا ذلك لاختلّ على الاُمم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم » ، مدفوعة : بأنّ إستقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلاّ لزم كونُهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوّة نبيهم في أكثر الأوقات ، لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناءا على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد .

وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب

-------------------

النبي السابق وشريعته .

( ولولا ذلك ) أي : الاستصحاب حين الشك في مجيء النبي الجديد والشريعة الجديدة ( لاختلّ على الاُمم السابقة نظام شرائعهم ) وذلك ( من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة ) فإذا لم يستصحبوا مع ذلك نبوة النبي اللاحق وشريعته ( فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم » ) التي عملوا بها في صلاتهم وصيامهم وعقودهم وإيقاعاتهم ، ونكاحهم ومواريثهم ، وغير ذلك .

وكيف كان : فان هذه الدعوى ( مدفوعة : بأنّ إستقرار الشرائع ) عند أهل كل شريعة : إنّما هو بسبب علمهم ، فانه ( لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلاّ ) بان كان بالاستصحاب ( لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوة نبيهم في أكثر الأوقات ) .

وإنّما لزم كونهم شاكين ( لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناءا على كونه من باب الظنّ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد ) فكيف يلتزمون بنبوة نبيهم وبقاء شريعتهم مع انه لا قطع ولا ظن شخصي لهم بذلك ، وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به أحد ؟ .

( وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب ) لنبوة النبي اللاحق

ص: 182

هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اُصول الدين .

فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق .

نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال .

وحينئذ : فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء

-------------------

وشريعته على فرض حصول الشك لهم في ذلك ( هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق ) فقط ( دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اُصول الدين ) فانهم لا يبنون عليها للاستصحاب أو الظنون الشخصية ، وحينئذ ( فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق ) مثلاً .

( نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم ) في الغالب عند التفاتهم إلى ذلك يصبحون ( شاكّين في ) حقيّة ( دينهم ) ولذا كان كثير منهم يفحصون ويبحثون ، ويناظرون ويجادلون ولكن ( مع بقائهم على الأعمال ) السابقة بالاستصحاب حتى يتبين لهم ان الحق في أيّ الطرفين ؟ .

( وحينئذ ) أي : حين يصبحون شاكّين في دينهم بعد ظهور النبي الجديد ( فللمسلمين أيضا أن يطالبوا ) هؤلاء الشاكين من ( اليهود ) والنصارى وسائر أهل الكتاب والشرايع السابقة ( باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها ) أي : على حقيّة دينهم ( وإن كان لهم الدليل ) وهو الاستصحاب ( على البقاء

ص: 183

على الأعمال في الظاهر .

الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلاّ بأخبار نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ونصّ القرآن ،

-------------------

على الأعمال في الظاهر ) ما داموا شاكين - على ما عرفت - ولكن لا يخفى : انهم لو شكوا في حقيّة دينهم شكوا في بقاء شريعتهم أيضا ، لأنه فرع الدين ، ومثل هذا لا يبني العقلاء عليه بالاستصحاب .

الوجه ( الثالث ) : من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو : ان الاستصحاب لا يكون دليلاً ملزما لنا نحن المسلمين ، وذلك ( أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلاّ باخبار نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم (1) ونصّ القرآن ) (2) الذي هو معجزة نبينا ، ويدل على عدم جزمنا به لولا إخبار رسول الاسلام وقرآنه عدم جزمنا بنبوة مثل بوذا أو كنفوشيوس وسقراط وغيرهم ممن يدّعي أتباعهم نبوتهم ، لأن نبيّنا لم يخبرنا عن نبوتهم .

هذا بالاضافة إلى أنّ في الموجود الآن بين يدي أهل الكتاب من دين موسى وعيسى ومن توراتهم وانجيلهم ما يندى له الجبين من كثرة الخرافات المنسوبة إلى شخص النبيين وإلى شرائعهم ، حتى انه لو لم يكن أخبرنا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بأنهما نبيّان ، وان أصل كتابيهما : التوراة والانجيل - لا هذان الموجودان الآن - من اللّه سبحانه وتعالى ، لكنّا نعتقد بعدم نبوتهما ، وعدم صحة إنتساب التوراة والانجيل إلى اللّه سبحانه (3) .

ص: 184


1- - بصائر الدرجات : ص121 ح1 ، بحار الانوار : ج23 ص96 ب5 ح3 و ج69 ص11 ب28 ح12 .
2- - راجع سورة البقرة : الآية 36 ، وسورة الاعراف : الآية 104 ، وسورة المائدة : الآية 46 .
3- - وقد تطرّق الشارح الى مثالب المسيحية في كتابه : ماذا في كتب النصارى ؟ .

وحينئذٍ : فلا معنى للاستصحاب .

ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة على صدق نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم « لا على نبوته » ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث ثبوته .

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين لم نجزم بالمستصحب إلاّ بأخبار نبينا ( فلا معنى للاستصحاب ) بعد ذلك ، لأن اليقين بنبوة موسى أو عيسى لم يحصل لنا إلاّ من اليقين بنبوة نبينا وحقانية كتابه وشريعته ونسخ ما قبلها من النبوات والشرايع ، ومعه لا شك فلا إستصحاب .

هذا ( ودعوى : أنّ النبوّة ) لموسى أو لعيسى غير موقوفة على نبوة نبينا حتى تكون نبوة نبينا ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، وإنّما هي ( موقوفة على صدق نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم « لا على نبوته » ) وإذا لم تكن نبوة موسى أو عيسى موقوفة على نبوة نبينا ، بل على صدقه فقط ، فلا نبوة لنبينا فرضا حتى تكون ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، فيجري إستصحاب نبوة موسى أو عيسى بلا مانع .

وبعبارة اُخرى : ان كون موسى وعيسى نبيّين موقوف على صدق المخبر ، لا على نبوته ، وذلك لأن الصادق إذا أخبر بشيء قُبل خبره ، فإذا أخبرنا الصادق الأمين يعني : محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بنبوة موسى وعيسى يحصل لنا اليقين بنبوتهما ، فيجري الاستصحاب عند الشك في بقاء نبوتهما .

لكن هذه الدعوى ( مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث ثبوته ) أي : ان صدق محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بحيث يحصل من خبره العلم بنبوة موسى وعيسى لم يعرف إلاّ من جهة نبوته ، فانا إذا لم نكن نعرف انه نبي لم نكن نعرف انه صادق ، فالمعجزة دلت على نبوته ، ونبوته أوجبت علمنا بصدقه .

ص: 185

والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة .

وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، لامكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود .

الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي ،

-------------------

( والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ) أي : على المستصحب من جهة ثبوته خارجا بالمعجزة ( لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة ) فان إتفق الكل على المستصحب لثبوته خارجا بالمعجزة كان إلزام الكتابي لنا صحيحا ، وامّا ان يثبت المستصحب بنص شريعتنا فان ذلك ممّا لا ينفع الكتابي ، لأنا نصدّق بشريعتنا ، ومعنى تصديقنا بشريعتنا : ان نبوتهما قد إنقطعت .

هذا ، ولكن تسالم الجميع على المستصحب ممنوع كما قال : ( وهو ) أي : التسالم ( مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، لامكان معارضة قول النصارى ) القائلين ان عيسى نبي ( بتكذيب اليهود ) لهم ، فان اليهود ينكرون نبوة عيسى ، ويكذّبون النصارى في ذلك ، كما ان النصارى ينكرون نبوة موسى ويكذبون اليهود في ذلك ، وأما نحن المسلمين ، فانا وان قلنا بنبوة موسى وعيسى من جهة النص عليهما في شريعتنا ، إلاّ انا نقول بانقطاع نبوتهما ، فأين التسالم مع وجود هذا الاختلاف الكبير ؟ .

الوجه ( الرابع ) : من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو : ( أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي ) وهو

ص: 186

وإلاّ فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليته للارتفاع أبدا .

ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق الاخبار بنبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

-------------------

موسى في المثال فإذا تديّنا بجميع ما جاء به موسى ، ومن جملة ما جاء به بلا ريب هو : نبوة نبينا ، فيلزم من وجوب التديّن بما جاء به موسى التديّن بانقطاع نبوته بمجيء نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

توضيحه : إنّ النبوة التي يريد الكتابي إستصحابها ان كانت بمعنى الصفات الرفيعة الموجودة في نفس موسى التي تؤهله لتلقّي الوحي والرسالة ، فاستصحابها لا ينفعنا ، لأن كون النفس رفيعة لا توجب لنا تكليفا .

وإن كانت بمعنى : السلطة التي بها يتصرّف في الآفاق والأنفس بسبب إرتفاع نفسيته ومكانته من اللّه سبحانه وتعالى ، فاستصحابها لا ينفعنا أيضا ، لأنه لا يحدث لنا تكليفا أيضا .

وإن كانت بمعنى : الرياسة الالهية العامة ، المستلزمة وجوب إطاعته وإتباع شريعته ، فذلك لا ينفع الكتابي ، لأن ممّا جاء به موسى هو : البشارة بنبينا ، وإذا ثبتت بشارته بنبينا كما نحن نقطع بذلك ، فليس علينا إتباعه بعد مجيء نبينا .

( وإلاّ ) بأن لم تكن النبوة بمعنى وجوب التديّن الذي ذكرناه في المعنى الثالث ( فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لا معنى لاستصحابه ) بل هو مقطوع به ( لعدم قابليته للارتفاع أبدا ) فان النبي لا ينقلب عن كونه نبيا .

هذا ( ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق ) هو ( الاخبار بنبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ممّا يوجب عدم كون الاستصحاب ملزما لنا نحن المسلمين

ص: 187

كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : « إنّي رسولُ اللّه إليكُم مُصدِّقا لِما بينَ يديَّ من التوراةِ ومُبشِّرا برسولٍ يأتي من بعدي إسمُه أحمَد » فيكون كلّ ما جاء به من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّى بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم.

فدين عيسى على نبينا وآله وعليه السلام المختص به ، عبارةٌ عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالاً بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ

-------------------

( كما يشهد به ) أي : بأخبار النبي السابق بنبوة نبينا ( الاهتمام بشأنه ) أي : بشأن نبينا ( في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : « إنّي رسول اللّه إليكم مُصدِّقا لِما بين يديّ من التوراةِ ومبشّرا برسولٍ يأتي من بعدي إسمُه أحمَد » (1)) فالبشارة برسول الاسلام من أعظم ما بشر به عيسى .

وعليه : ( فيكون كلّ ما جاء به ) النبي السابق ( من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّى بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وإذا ثبتت هذه البشارة كما هي ثابتة لدينا ، فلا يبقى مجال للكتابي حتى يلزمنا بسبب الاستصحاب .

إذن : ( فدين عيسى على نبينا وآله وعليه السلام المختص به ، عبارةٌ عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالاً بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وكذلك بقية أديان الأنبياء السابقين فانها مغيّاة بمجيء نبينا .

( ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين ) السابق كدين موسى أو دين عيسى إلى زمان مجيء نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم على ما نعتقد به نحن ( لا يضرّ

ص: 188


1- - سورة الصف : الآية 6 .

المسلمين فضلاً عن إستصحابه .

فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالاً بالبشارة المذكورة فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ : إنتهاء مدّة الحكم المعلوم إجمالاً .

-------------------

المسلمين فضلاً عن إستصحابه ) أي : انه إذا كان إعترافنا نحن المسلمين ببقاء الأديان السابقة إلى مجيء نبينا لا يضر باعتقادنا بنبينا وشريعتنا ، فاستصحاب بقائها لا يضر باعتقادنا بطريق أولى .

وعليه : ( فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة ) من شريعة موسى أو عيسى ( المغيّاة إجمالاً بالبشارة المذكورة ) بنبينا ( فنحن منكرون له ) أي : لذلك الدين الخالي عن البشارة بنبينا .

( وإن أراد هذه الجملة ) المشتملة على البشارة بنبينا ( فهو عين مذهب المسلمين ) فلا يكون الكتابي بسبب الاستصحاب ملزما للمسلمين ، وإنّما يكون المسلمون بسبب مجيء نبينا ونسخ ما قبله ملزمين للكتابي ، مضافا إلى ان الاستصحاب هنا لا مجال له ، لانتهاء أمد الأديان السابقة بمجيء نبينا ، فلا شك ، وعلى فرض الشك فهو في المقتضي لا في الرافع كما قال :

( وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم ) أي : أحكام الأديان السابقة ( مغيّاة ) بمجيء نبينا ( لا رفع حقيقة ) حتى يكون الشك في الرفع ، وإنّما تنتهي الأديان السابقة بانتهاء أمدها ( و ) ذلك معنى النسخ ، فان ( معنى النسخ : إنتهاء مدة الحكم المعلوم إجمالاً ) وهذا ليس معناه الرفع ، وإنّما معناه : إنتهاء المقتضي .

ص: 189

فان قُلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب .

قُلت : المسلّم هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص ، لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في إنطباقه على هذا الشخص و يتمسك بالاستصحاب .

الخامس : أن يقال :

-------------------

( فان قُلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ ) ليس في أصل الغاية ، بل ( في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به ) من جهة النبي السابق ( أم لا ) وإنّما يأتي بعد ذلك ؟ وحينئذ ( فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب ) .

وإنّما يصح تمسك الكتابي حينئذ بالاستصحاب ، لأنّه قد إعترف بأن دينه ينتهي بمجيء نبي الاسلام محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإنّما يشك في الصغرى يعني : في ان محمدا الذي ينسخ دين الكتابي هل هو محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم المبعوث قبل أربعة عشر قرنا ، أو هو محمد آخر يأتي بعد ذلك ؟ فالكتابي بادعاء هذا النوع من الشك يريد أن يلزم المسلمين باستصحاب شريعته حتى يثبت له مجيء محمد الذي بشّر به موسى .

( قُلت : المسلّم ) وجوده من الدين في الزمان السابق والذي يراد إستصحابه ( هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص ) الذي جاء قبل أربعة عشر قرنا ( لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في إنطباقه على هذا الشخص و ) عدم إنطباقه حتى ( يتمسك بالاستصحاب ) لبقاء الدين السابق ، فلا مسرح إذن للاستصحاب هنا على ما يدّعيه الكتابي .

الوجه ( الخامس ) من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو ( أن يقال :

ص: 190

إنّا معاشر المسلمين ، لمّا علمنا أنّ النبي السالف أخبر بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم والنبوّة التقديرية لا تضرّنا ولا تنفعهم في بقاء شريعتهم .

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات اللّه عليه في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه السلام :

« ما تقول في نبوة عيسى

-------------------

إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبي السالف ) كالنبي موسى أو عيسى - مثلاً - كان قد ( أخبر بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأنّ ذلك ) أي : اخباره بمجيء نبينا ( كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته ) لأن النبي معصوم ، فلا يمكنه ترك التبليغ ، وإذا كان كذلك ( صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ ) ذلك النبي السالف ( نبوة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) .

وعليه : فالنبوة التحقيقية عندنا لموسى أو عيسى هي المبشرة بنبينا ، ممّا يوجب إنقطاع نبوتهما عند مجيء نبينا ( والنبوة التقديرية ) التي لم تبشر بنبينا ( لا تضرّنا ) لأنا لا نسلم بتلك النبوة ( ولا تنفعهم ) أي : لا تنفع الكتابي أيضا ، لأنه لا يستطيع إلزامنا بها ( في بقاء شريعتهم ) لأنا لا نسلّم النبوة السابقة التي لم تبشر بمجيء نبينا ولا نعترف بها ، ومع عدم الاعتراف لا مسرح للاستصحاب .

( ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات اللّه عليه في جواب الجاثليق حيث قال ) الجاثليق ( له عليه السلام : « ما تقول في نبوة عيسى

ص: 191

وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئا ؟ قال عليه السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به اُمّته ، وأقرّت به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به اُمته . ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ قال عليه السلام : بلى . قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة ، وسلْنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ، قال عليه السلام : « الآن جئت بالنصفة يانصراني ! » .

-------------------

وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئا ؟ قال عليه السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به اُمّته ، وأقرّت به الحواريون ) من النبوة التي فيها بشارة لنبينا ( وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به اُمته ) فليس لي يقين بنبوة لم تبشر بنبينا حتى يتم الاستصحاب .

( ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام ) أي النزاعات ( بشاهدي عدل ؟ ) فإذا لم أتمكن من إثبات نبوّة نبيّ بالاستصحاب ، أليس فصل الأمر إلى الشهود ؟ ( قال عليه السلام : بلى ) .

وحينئذٍ : ( قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك ) أي : من غير المسلمين ، لأن المسلمين في نظر الجاثليق متهمون بأنهم يجرّون النار إلى قرصهم ، فيشهدان ( على نبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة ) لأن الشاهد يجب ان يكون مقبولاً عند الطرفين : المدّعي والمنكر ( وسلْنا مثل ذلك ) أعني : شاهدين عادلين ( من غير أهل ملتنا ) أي : من غير النصارى على صحة دين عيسى .

( قال عليه السلام : « الآن جئت بالنصفة يانصراني ! » ) والانصاف والنصفة بمعنى واحد ، وذلك باعتبار أن كل واحد من المتنازعين يأخذ النصف ، لا ان يجوز أحدهما على الآخر بأخذ الكل أو الأكثر .

ص: 192

ثم ذكر عليه السلام أخبار خواصّ عيسى

عليه السلام بنبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

-------------------

( ثم ذكر عليه السلام أخبار خواصّ عيسى عليه السلام ) من الحواريين ( بنبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) فأقام الإمام عليه السلام شاهدين عادلين مقبولين لدى الجاثليق على إنهما بشّرا بنبوة نبي الاسلام فقال عليه السلام : ما تقول في يوحنا الديلمي ؟ .

قال الجاثليق : بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح .

قال الإمام عليه السلام : أقسمت عليك هل نطق الانجيل بأن يوحنا قال : إنّما المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به انه يكون من بعدي ، فبشّرت به الحواريون فآمنوا به ؟ .

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ؟ ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم .

أقول : قد إعترف الجاثليق بكلامه هذا بأصل البشارة ، لكن إدعى انه لم يعيّن ان محمدا الذي يأتي من بعد عيسى هو محمد رسول اللّه الذي يعترف به المسلمون ، وانه لم يسمّ عليا وفاطمة والحسن والحسين ومن إليهم من أله بيتهما صلوات اللّه عليهما وعليهم أجمعين .

وبعبارة اُخرى : إنّ الجاثليق بعد إنقطاعه عن الكبرى تمسك بالصغرى ، وادّعى ان الصغرى غير متحققة لديه وان كان قد قبل الكبرى ببشارة عيسى بنبي المسلمين .

قال عليه السلام : فإن جئناك بمن يقرء الانجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته واُمته أتؤمن به ؟.

ص: 193


1- - انظر عيون أخبار الرضا : ج1 ص156 - 157 ح1 ، التوحيد : ص420 ، الاحتجاج : ص417 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

ولا يخفى : أنّ الاقرار بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ، إلاّ إذا اُريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة .

-------------------

أقول : ان الإمام عليه السلام بكلامه هذا أوضح للجاثليق : بانه مستعدّ لأن يدلّه على ما جاء في الانجيل من التصريح بالصغرى أيضا .

قال الجاثليق : أمر سديد .

عندها قال الإمام عليه السلام : خذ عليّ السفر الثالث من الانجيل ، ثم قرأ منه حتى بلغ ذكر محمد وأهل بيته واُمته ، ممّا دل على الصغرى الشخصية أيضا ، ثم انجرّ الكلام إلى ان قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الانجيل واني لمقرٌّ به ،(1) وتفصيل القصة مذكور في الاحتجاج والبحار وغيرهما .

هذا ( ولا يخفى : أنّ الاقرار ) من الإمام عليه السلام ( بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمته ) بنحو الاجمال ( لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ) أي : رادا له حتى ينقطع إستصحابه ( إلاّ إذا اُريد ) أي أراد الإمام عليه السلام ( المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة ) يعني : بأن جعل الإمام عليه السلام الاقرار معلّقا على نبوة مركّبة مع التبليغ والبشارة على نحو المركب الارتباطي بحيث لو أنكر انهم الجزء إنعدم المركب كلّه ، وحينئذ ينقطع الكتابي في تمسكه بالاستصحاب .

ص: 194


1- - الاحتجاج : ص417 ، التوحيد : ص420 ، عيون اخبار الرضا : ص156 - 158 ح1 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

ويشهد له قوله عليه السلام بعد ذلك : « كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشِّر» فانّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق .

وأمّا التزامه عليه السلام بالبيّنة على دعواه فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ،

-------------------

( ويشهد له ) أي : لارادة المجموع من حيث المجموع ( قوله عليه السلام بعد ذلك : « كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشِّر » ) بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فانّ هذا ) الكلام من الإمام عليه السلام هنا ( في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق ) وهو قوله عليه السلام : انا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به اُمته ، وأقرّت به الحواريون (1) .

إذن : فالاقرار معلق على إعتراف الكتابي بمركب إرتباطي جزء منه : النبوة ، وجزء منه : البشارة بنبي الاسلام ، فإذا قبل الكتابي المركب كله فقد إنقطع إستصحابه ، لأنه قد إعترف بنبوة نبي الاسلام ، وإذا لم يقبل الكتابي جزء البشارة ، فقد إنعدم المركب كله ، فلا إقرار منّا حتى يلزمنا بالاستصحاب ، فلا إستصحاب هنا على كل تقدير ( و ) ان قلت : إذا كان الإمام عليه السلام لم يقبل إستصحاب الجاثليق ، فلماذا قبل من الجاثليق أن يأتيه بالبينة ؟ .

قلت : ( أمّا التزامه عليه السلام بالبيّنة على دعواه ) الظاهر من قوله عليه السلام للجاثليق : الآن جئت بالنصفة ( فلا يدلّ على تسليمه ) عليه السلام من الجاثليق ( الاستصحاب وصيرورته ) أي الجاثليق بالاستصحاب ( مثبتا ) ومدّعيا ( بمجرّد ذلك ) أي :

ص: 195


1- - عيون أخبار الرضا : ص157 ، التوحيد : ص420 ، الاحتجاج : ص417 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

بل لأنّه عليه السلام من أوّل المناظرة ملتزمٌ بالاثبات . وإلاّ فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : « وسلنا مثل ذلك » ، كون كلّ منهما مدّعيا ، إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه السلام

-------------------

بمجرد الالتزام منه عليه السلام باقامة البيّنة ( بل لأنّه عليه السلام من أول المناظرة ملتزمٌ بالاثبات ) لنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم وليس للجاثليق فحسب ، بل لكل من يطلب الحق ، ومن المعلوم : ان كل من يريد إثبات أمر لأحد فعليه أن يأتي لذلك بالبيّنة .

( وإلاّ ) بان لم نقل ان الإمام عليه السلام ملتزم بالاثبات وإقامة البينة من أول المناظرة ( فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : « وسلنا مثل ذلك » ، كون كلّ منهما مدّعيا ) مع انه ليس كذلك قطعا ، فان الإمام عليه السلام إدّعى لعيسى النبوة المركبة مع التبليغ والبشارة، والجاثليق أنكر جزء البشارة ، فالجاثليق هنا منكر والإمام عليه السلام مدّع ، وليس كلاهما مدّعيين ، فليس إذن التزامه عليه السلام بالبينة تسليما للاستصحاب هنا .

نعم ، يمكن إخراج بينة الجاثليق عن كونها بينة إصطلاحية ، وذلك بارادته من البينة : اعتراف الإمام عليه السلام نفسه بنبوة نبيهم ، فإذا خرجت عن كونها بينة إصطلاحية، صح كون الجاثليق منكرا وكون الإمام عليه السلام مدعيا ، وبهذا الاخراج لا يكون أيضا التزام الإمام عليه السلام بالبينة تسليما للاستصحاب .

وإلى هذا الاخراج أشار المصنِّف حيث قال : ( إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته ) التي عرض على الإمام عليه السلام ان يسأله عنها بأنها ليست هي البينة الاصطلاحية ، بل هي إعتراف ( نفس الإمام ) عليه السلام ( وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه السلام ) ومن المعلوم : ان هذا الاعتراف ليس هو بينة إصطلاحية .

وإنّما أخرج المصنِّف بينة الجاثليق عن كونها بينة إصطلاحية وقال : بأنه يريد

ص: 196

إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم .

الأمر العاشر :

إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ، إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » وكقوله : « لا تُهِن فقيرا » ، حيث انّ النهي للدوام ؛

-------------------

من البينة إعتراف الإمام عليه السلام نفسه ، لأنه كما قال : ( إذ لا بيّنة له ) أي : للجاثليق بينة إصطلاحية بأن يقيم شاهدين عادلين ( ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ) أي سوى إعتراف الإمام عليه السلام نفسه وسائر المسلمين بنبوة نبيهم .

( فافهم ) إشكال من المصنِّف على ما قاله قبل قليل من قوله : إلاّ ان يريد الجاثليق ، لأن الظاهر من كلام الجاثليق هو : ان يأت الإمام عليه السلام ببينة ممن يقبله النصارى ، وان يأت هو أيضا ببينة يقبله الإمام عليه السلام والمسلمون ، لا ان المراد ببينة الجاثليق إعتراف الإمام عليه السلام وسائر المسلمين .

( الأمر العاشر ) : في بيان عموم العام وإستصحاب المخصص ، إعلم ( إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ) على ثلاثة أقسام :

الأوّل : وله شقان : ( إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ) تصريحا ( كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » ) أو أكرم العلماء دائما ، أو وأكرم العلماء طول عمرك ، وغيره ممّا يدل على الدوام في كل الأزمنة تصريحا ( و ) إما التزاما ( كقوله : « لا تُهِن فقيرا » ، حيث انّ النهي للدوام ) إذ هو لطلب ترك الطبيعة ، والطبيعة سارية في الزمان الأوّل والزمان الثاني وسائر الأزمنة .

ص: 197

وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» بناءا على مفهوم الغاية » .

وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ، إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين إستتار القرص وذهاب الحمرة ، وإمّا لقصور دلالته ،

-------------------

الثاني : ( وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ) أي : لعدم ثبوت الحكم في الزمان الثاني ( نحو : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا » ) فانه دليل على عدم وجوب اكرامهم بعد فسقهم ، وذلك ( بناءا على مفهوم الغاية ) كما هو المشهور بين الاُصوليين والفقهاء: من ان الغاية لها مفهوم مثل قوله سبحانه : « أتمّوا الصيام إلى الليل » (1) وغيره من سائر الآيات والروايات المشتملة على الغاية الدالة على إنقضاء الحكم بمجيء الغاية .

الثالث : ( وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ) فلا يدل على ثبوت الحكم في الزماني الثاني ولا على نفيه فيه ، وعدم دلالته لأحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين إستتار القرص وذهاب الحمرة ) فان الدليل لما كان مجملاً لا نعلم هل الحكم مستمر إلى ذهاب الحمرة ، أو يكفي فيه إستتار القرص الذي هو قبل ذهاب الحمرة بمقدار ربع ساعة تقريبا ؟ .

الوجه الثاني : ( وإمّا لقصور دلالته ) وذلك يكون بالاهمال ، فانه فرق

ص: 198


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

كما إذا قال : « إذا تغيّر الماء نَجِسَ » ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان ، فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان .

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني ،

-------------------

بين الاجمال والاهمال ، فان المجمل ما له دلالة ولكنّا لا نعلم هل دلالته على هذا الشيء أو ذاك الشيء ؟ وبينما المهمل ما ليس له دلالة أصلاً ، وذلك ( كما إذا قال : « إذا تغيّر الماء نَجِسَ » ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ) بسبب التغيّر ، وهذا الدليل مهمل لحكم النجاسة أو اللانجاسة بعد زوال التغيّر .

( ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان ) كخيار العيب ، حيث لا نعلم هل ان الحكم بالخيار ، الثابت في أول زمن العلم بالعيب موجود بعد ذلك الزمان حتى يصح الأخذ به ، أو ليس بموجود حتى لا يصح الأخذ به ( فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان ) لأنه مهمل بالنسبة إليه .

إذن : فالدليل القائل : « إذا تغيّر الماء نجس » ، والاجماع ، كلاهما مهمل ، ولكن مع فرق بينهما وهو : ان الأوّل مهمل لفظي ، والثاني مهمل لبّي ، كما انه علم ممّا تقدّم : إنّ الاجمال لا يكون إلاّ في الدليل اللفظي ، بينما الاهمال قد يكون في الدليل اللفظي وقد يكون في الدليل اللبّي .

هذا ( ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ) بكلا شقّيه : المجمل والمهمل ، وذلك لأن أركان الاستصحاب تامة فيه ، لوجود اليقين السابق، والشك اللاحق ، وهما ركنا الاستصحاب فيجري الاستصحاب بلا إشكال .

( وأمّا القسم الثاني ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «واما ان يكون مبيّنا

ص: 199

فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على إرتفاع الحكم في الزمان الثاني .

وكذلك القسم الأوّل ، لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كافٍ ومُغنٍ عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ، إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة .

ثم إذا فرض خروجُ بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ،

-------------------

لعدمه» ( فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على إرتفاع الحكم في الزمان الثاني ) فلا شك في الزمان الثاني حتى يجري فيه الاستصحاب .

( وكذلك القسم الأوّل ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «اما ان يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني» فانه لا يجري فيه الاستصحاب أيضا ( لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق ) الذي هو دليل إجتهادي ( كافٍ ومُغنٍ عن الاستصحاب ) الذي هو دليل فقاهي .

إذن : فلا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي ، لان الدليل الاجتهادي ينفي موضوع الاستصحاب الذي هو الشك ، فلا شك معه ( بل ) عموم اللفظ للزمان الثاني ( مانع عنه ) أي : عن الاستصحاب في الزمان الثاني لما عرفت : من عدم الشك الذي هو موضوع الاستصحاب في الزمان الثاني .

وإنّما يكون عموم اللفظ للزمان الثاني مانعا عن الاستصحاب ( إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة ) فإذا كان دليل على طبق الحالة السابقة ، أو دليل على خلاف الحالة السابقة ، لم يكن مجرى للاستصحاب.

( ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ) بأن قال - مثلاً - : اكرم العلماء دائما ثم قال : لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة ، فالسؤال

ص: 200

فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج بالنسبة إلى ذلك الفرد هل هو ملحقٌ به في الحكم أو ملحقٌ بما قبله ؟ الحق هو التفصيل في المقام ، بأن يقال :

إن اُخِذَ فيه عموم الأزمان افراديا ، بأن اُخِذ كلّ زمان موضوعا مستقلاً لحكم مستقل ، لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان كقوله : « أكرم العلماء كلّ يوم »

-------------------

هو انه هل نكرم زيدا العالم يوم السبت ، لعموم اكرم العلماء الشامل لكل زمان إلاّ ما خرج وهو يوم الجمعة فقط ، أو لا نكرمه يوم السبت أيضا لاستصحاب حال يوم الجمعة ؟ .

والحاصل : انه إذا خرج من عموم وجوب الاكرام العلماء وجوب اكرام زيد العالم يوم الجمعة ( فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج ) والمخرج بصيغة المفعول يعني : شك في يوم السبت ( بالنسبة إلى ذلك الفرد ) الذي هو زيد العالم في المثال ، بانه ( هل هو ملحقٌ به ) أي : بيوم الجمعة ( في الحكم ) من عدم الاكرام فلا يكرم يوم السبت أيضا إستصحابا ( أو ملحقٌ بما قبله ) أي : بما قبل يوم الجمعة من وجوب الاكرام ، فيجب اكرامه يوم السبت كما كان يجب اكرامه يوم الخميس ، لأنه باق تحت العام ، وإنّما الخارج منه هو يوم الجمعة فقط ؟ .

( الحق هو التفصيل في المقام ، بأن يقال : إن اُخِذَ فيه ) أي : في العام ( عموم الأزمان افراديا ) يعني : ( بأن أخِذ كلّ زمان موضوعا مستقلاً لحكم مستقل ) فاكرام زيد في يوم الخميس فرد من الواجب ، وفي يوم الجمعة فرد من الواجب ، وفي يوم السبت فرد من الواجب ، وهكذا ( لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ) فيكون ( كقوله : « أكرم العلماء كلّ يوم » ) حيث ان كل يوم الذي هو عموم أزماني بالنسبة إلى كل عالم الذي هو عموم أفرادي موضوع مستقل ،

ص: 201

فقام الاجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة .

ومثله : ما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تُكرم زيدا يومَ الجمعة » ، إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلاً ، فحينئذ يُعمل عند الشك بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب

-------------------

وله معصية وطاعة مستقلة .

وعليه : فاذا كان للعام عموم أزماني ، بأن كان الزمان مفردا ( فقام الاجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة ) أي : بأن أخرج الاجماع الذي هو دليل لبّي هذا الفرد الخاص من عموم الافراد ومن عموم الازمان بالتخصيص ، فانه إذا شك بعد يوم الجمعة في وجوب إكرام زيد وعدمه ، عمل بالعموم دون المخصّص .

( ومثله : ما لو قال : « أكرم العلماء » ) فقط وسكت عن بيان الزمان ، فلم يقل كل يوم ( ثم قال : « لا تُكرم زيدا يومَ الجمعة » ) فان هذا أيضا يكون دليلاً على ان عموم الزمان أفرادي يعني : بأن يكون إكرام كل عالم في كل يوم فردا مستقلاً ، وذلك فيما ( إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلاً ) .

وإنّما يفرض هذا الاستثناء قرينة على كون الزمان مفرّدا لوضوح : ان الاستثناء المذكور يفيد إرادة دوام إكرام العلماء ، وانه إستثنى من هذا الدوام فردا واحدا من العلماء في زمان واحد وهو يوم الجمعة فقط .

وعليه : فإذا كان العام أفراديا من حيث الزمان والافراد وخرج فرد في زمان بدليل مخصص ( فحينئذ يعمل عند الشك بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب ) أي: إستصحاب المخصّص لفرض ان كل يوم هو فرد من الواجب وموضوع مستقل ، والاستصحاب لا يوجب سحب الحكم من موضوع إلى موضوع ، فهو مثل ما إذا قال : أكرم زيدا ، فنستصحب وجوب الاكرام إلى عمرو ، وهذا واضح البطلان .

ص: 202

بل لو لم يكن عمومٌ وجب الرجوع إلى سائر الاُصول ، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب .

وإن اُخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : « أكرم العلماء دائما » ثمّ خرج فردٌ في زمان ، ويشك في حكم ذلك

-------------------

( بل لو لم يكن عموم ) رأسا ، وذلك بأن كان كلام المولى مجملاً بالنسبة إلى أفراد العلماء وأفراد الأزمنة ، فاستثنى يوم الجمعة ( وجب الرجوع ) عند ذلك بالنسبة إلى اكرام زيد يوم السبت ( إلى سائر الاُصول ) العملية غير الاستصحاب من البرائة ، أو الاحتياط ، أو ما أشبه ذلك .

وإنّما يجب الرجوع هنا إلى سائر الاُصول العملية غير الاستصحاب ( لعدم قابلية المورد للاستصحاب ) لفرض ان الاستثناء قرينة على أخذ كل زمان فردا مستقلاً ، فلا يمكن إستصحاب فرد سابق وهو يوم الجمعة إلى فرد لاحق وهو يوم السبت ، لتبدل الموضوع .

هذا فيما إذا كان الزمان مفرّدا ، حيث ان المرجع هو العام إذا كان عام ، وإذا لم يكن عام فالمرجع حينئذ هو سائر الاُصول العملية غير الاستصحاب .

وامّا إذا كان الزمان ظرفا يعني : بأن يكون إكرام زيد طول حياته فردا واحدا من الواجب ، لا أفرادا متعدّدة ، فهنا محل إستصحاب المخصّص ، لا محل الرجوع إلى العام ، وإليه أشار المصنِّف حيث قال :

( وان اُخذ ) عموم الأزمان في العام ( لبيان الاستمرار ) يعني : بأن اُخذ الزمان ظرفا لا مفرّدا ( كقوله : « أكرم العلماء دائما » ) بمعنى : ان اكرامهم مطلوب واحد مستمر ( ثمّ خرج فردٌ في زمان ، و ) ذلك للدليل المخصّص ، كما إذا قال : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فانه إذا كان يوم السبت وصار موردا لأن ( يشك في حكم ذلك

ص: 203

الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر : جريان الاستصحاب إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيصٌ زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الافراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل .

-------------------

الفرد بعد ذلك الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة في انه هل يكرم أو لا يكرم ؟ ( فالظاهر : جريان الاستصحاب ) أي : إستصحاب المخصّص بعد الجمعة وعدم إكرامه يوم السبت ( إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد ) أي : حكم عدم الاكرام لزيد ( بعد ذلك الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة ( تخصيصٌ زائد على التخصيص المعلوم ) .

وإنّما لا يلزم منه تخصيص زائد ( لأنّ مورد التخصيص ) هنا ( الافراد ) فقط كزيد وعمرو وبكر ( دون الأزمنة ) لفرض ان الزمان لم يكن مفرّدا حتى يكون يوم الخميس فردا ويوم الجمعة فردا ، وهكذا ، بل الزمان بمجيئه يكون ظرفا لهذا الواجب الواحد ، فسواء كان الخارج يوم الجمعة فقط ، أم كان خارجا إلى الأبد ، لم يخرج من عموم اكرم العلماء إلاّ فرد واحد فقط ، ولذا يكون المجال لاستصحاب المخصّص ، ولم يكن سحب عدم الاكرام من الجمعة إلى يوم السبت من باب سحب الحكم من فرد إلى فرد آخر .

( بخلاف القسم الأوّل ) وهو ما كان العام مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني تصريحا كقوله : أكرم العلماء كل يوم ، أو التزاما كقوله : لا تهن الفقير ، حيث انه يلزم من إستصحاب المخصّص بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، وكلما دار الأمر بين التخصيص الزائد والتخصيص الأقل ، كان الأصل هو التخصيص الأقل ، لأنه المتيقن ، امّا التخصيص الزائد فهو مشكوك والأصل عدمه .

ص: 204

بل لو لم يكن هنا إستصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاُصول الاُخر .

ولا فرق بين إستفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ، أو من الاطلاق ، كقوله : « تواضع للناس » ، بناءا على إستفادة الاستمرار منه ، فانّه إذا خرج منه ، التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا

-------------------

( بل لو لم يكن هنا إستصحاب ) أي : ان الاستصحاب هنا في الخاص الذي خرج عن العموم بدليل مخصّص لو لم يجر ، لاختلال شرط من شروطه أو لتبدل الموضوع فيه ، فانه مع ذلك ( لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاُصول الاُخر ) من البرائة وما أشبه ، فلو قال مثلاً : اكرم العلماء دائما ، وقال : لا تكرم منهم زيدا الفاسق يوم الجمعة ، ثم صار زيد يوم السبت عادلاً ، فانه لا يستصحب حكم المخصّص وهو : حرمة الاكرام لتبدل الموضوع ، كما لا يرجع إلى العموم السابق وهو: اكرم العلماء دائما ، لانقطاع ذلك العموم بالنسبة إلى هذا الفرد، فيرجع إلى أصل آخر يكون المرجع عند فقد الاستصحاب والعموم ، وهو : أصل الاباحة - مثلاً - .

هذا ( ولا فرق بين إستفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ) في قوله : اكرم العلماء دائما ، أو أبدا ، أو ما دمت حيّا ، أو ما أشبه ذلك ( أو من الاطلاق ، كقوله : « تواضع للناس » ، بناءا على إستفادة الاستمرار منه ) أي : من الاطلاق بمقدمات الحكمة وذلك بأن يكون المولى في مقام البيان ، ولم يكن هناك قدر متيقّن ، ولم ينصب قرينة على الخلاف من لفظ أو عقل .

وعليه : فإذا استفيد الاستمرار من تواضع للناس ( فانّه إذا خرج منه ، التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا

ص: 205

مستقلاً لمتعلّق الحكم إستصحب حكمه بعد الخروج وليس هذا من باب تخصيص العام بالاستصحاب .

وقد صدر خلافُ ما ذكرنا : من أنّ مثل هذا من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العام به ، في موضعين :

أحدهما : ما ذكره المحقق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان

-------------------

مستقلاً لمتعلّق الحكم ) بل فهم منه كون الزمان فيه من باب الظرف ( إستصحب حكمه ) أي : حكم المخصّص ، فلا يلزم التواضع ( بعد الخروج ) لفرض ان الزمان ظرف ، فالفرد الخارج يبقى خارجا ، إذ ليس الآن الثاني فردا آخر حتى يستلزم دوران التخصيص بين الأقل والأكثر فيقال : ان التخصيص الأقل هو مقتضى القاعدة ، وذلك لأنه على كل حال تخصيص واحد .

( و ) من المعلوم : انه ( ليس هذا ) أي : ليس إستصحاب حكم المخصّص فيما إذا لم يكن العام مفرّدا بالنسبة إلى الزمان ( من باب تخصيص العام بالاستصحاب ) حتى يقال : ان الاستصحاب أصل والعام دليل والأصل لا يخصّص الدليل ، بل من باب إبقاء التخصيص ، فهو رفع اليد عن دليل عام بدليل خاص دال على التخصيص .

هذا ( وقد صدر خلافُ ما ذكرنا : من ) قولنا : ( أنّ مثل هذا ) يكون ( من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العام به ) أي : بالاستصحاب فانه قد صدر الخلاف لما ذكرنا ( في موضعين ) على ما يلي :

( أحدهما : ما ذكره المحقق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان ) وتلقّي الركبان عبارة عن تلقّي الذين يأتون من القرى والأرياف إلى المدينة لأجل

ص: 206

من أنّه فوريّ ، لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان .

وحاصله : منعُ جريان الاستصحاب ، لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطلاع على الغبن وبقي الباقي .

-------------------

بيع ما معهم من البضائع ، فقد كره رسول صلى اللّه عليه و آله وسلم تلقّيهم قبل وصولهم إلى المدينة ، لأنهم غالبا لا يعلمون الأسعار فيسبّب بيعهم خارج المدينة غبنهم ، امّا إذا وردوا المدينة فيسألون عن الأسعار فلا يُغبنون .

وكيف كان : فان ما ذكره المحقق هناك : ( من أنّه ) أي : خيار الغبن ( فوريّ ، لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد ) الشامل لكل عقد عقد ، مثل : عقد البيع ، وعقد الاجارة ، وعقد الرهن ، وعقد المضاربة ، وغيرها ( يستتبع عموم الأزمان ) الاشمل لزمان يوم الخميس الذي وقع فيه العقد ولما بعده من الأزمنة كيوم الجمعة ، ويوم السبت ، ويوم الأحد وهكذا .

( وحاصله ) أي : حاصل ما ذكره المحقق : من فورية خيار الغبن وانه لو علم بالغبن فلم يأخذ بالخيار فلا حق له في الخيار في الآن الثاني ، هو : ( منعُ جريان الاستصحاب ) أي : إستصحاب المخصص لوجوب الوفاء بالعقد الذي هو إستصحاب الخيار بعد الآن الأوّل .

وإنّما قال بمنع جريان إستصحاب الخيار بعد الآن الأوّل ( لأجل عموم وجوب الوفاء ) بالعقد الشامل لكل زمان زمان ( خرج منه ) أي : من عموم وجوب الوفاء ( أول زمان الاطلاع على الغبن ) لأنه المتيقّن ( وبقي الباقي ) وهو المشكوك من الأزمنة تحت عموم وجوب الوفاء .

ص: 207

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار .

وهو الأقوى بناءا على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء ، إلاّ كون الحكم مستمرّا ، إلاّ أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب

-------------------

وعليه : فان الآية المباركة : « اُوفوا بالعُقود » (1) تدل على وجوب الوفاء بالعقود دائما ، خرج منه العقد الغبني فلا يجب الوفاء به ، غير ان المتيقن من خروجه هو أول زمان العلم بالغبن ، وبعد الزمان الأوّل حيث يشك في الزمان الثاني - مثلاً - فيرجع فيه إلى عموم الوفاء بالعقد فلا يحقّ له الفسخ في الآن الثاني ، يعني : ليس له في الآن الثاني ان يرجع إلى إستصحاب حقه في الغبن .

والحاصل : ان المحقق الثاني منع من إستصحاب حكم المخصّص وان كان العام مفيدا للعموم الزماني الاستمراري ، وهذا خلاف ما ذكرناه : من ان المقام مورد للاستصحاب ، لأن خروج الغبن قطعي ، فلا فرق بين أن يستمر هذا الخروج ، أو لا يستمر ، لأن الزمان ظرف .

( و ) هو أيضا خلاف ( ظاهر الشهيد الثاني في المسالك ) حيث ان بناء المسالك هو : ( إجراء الاستصحاب في هذا الخيار ) بالنسبة إلى الزمان الثاني وإثبات الخيار للمغبون ، ثم قال المصنِّف : ( و ) ظاهر كلام الشهيد الثاني ( هو الأقوى ) عندنا ، وذلك ( بناءا على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء ، إلاّ كون الحكم مستمرّا ) والزمان ظرفا لا مفرّدا ، فهو نظير قوله : تواضع للناس .

( إلاّ أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ ) وفرد بنفسه ( محكوم بوجوب

ص: 208


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

مستقلّ ، حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي .

نعم ، لو إستظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمانٍ بالاضافة إلى غيره من الأزمنة ،

-------------------

مستقلّ ) حتى يكون نظير قوله : أكرم العلماء كل يوم ، حيث ان إكرام زيد في يوم الجمعة يكون حينئذ واجبا مستقلاً ، وفي يوم السبت واجبا ثانيا ، وفي يوم الأحد واجبا ثالثا ، وهكذا ، فانه ليس كذلك ( حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت ) أي : على القدر المتيقن ( من جواز نقض العقد في جزء من الزمان ) وهو أول زمان العلم بالغبن ( وبقي الباقي ) من الأزمنة تحت عموم وجوب الوفاء ، فلا يجوز له الفسخ في الآن الثاني ، فانه ليس كذلك حتى لا يجري فيه إستصحاب المخصص .

والحاصل : ان المحقق يرى الزمان مفرّدا ، والشهيد يرى الزمان ظرفا ، ولذا فالأول : لا يستصحب ، بل يرجع إلى العموم ، والثاني : يستصحب ، فيرجع إلى المخصّص بالنسبة إلى الآن الثاني .

( نعم ، لو إستظهر من وجوب الوفاء بالعقد ) لقوله سبحانه : « اُوفوا بالعقود » (1) بالاضافة إلى العموم الافرادي ( عموم ) أزماني أيضا ، يعني : بأن كان الزمان فيه مفرّدا ، فانه ( لا ينتقض ) ذلك العموم بالنسبة إلى الزمان الثاني ( ب ) سبب ( جواز نقضه في زمانٍ ) أي : في الزمان الأوّل ، فان جواز النقض في أول زمان العلم بالغبن ، لا يسبّب جواز النقض ( بالاضافة إلى غيره من الأزمنة )

ص: 209


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس سره ، لكنّه بعيد .

ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعةٌ من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك ، إلاّ أنّ بعضهم قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو : الاجماع ، لا أدلّة نفي الضرر لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل .

-------------------

وذلك لأن عموم وجوب الوفاء شمل كل زمان ، وإنّما خرج منه الزمان الأوّل ، فيرجع في سائر الأزمنة إلى العموم .

وعليه : فإذا إستظهرنا ذلك من وجوب الوفاء بالعقد ( صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس سره ) : من عدم إستصحاب المخصّص وهو الخيار ( لكنّه بعيد ) لأن لوجوب الوفاء بالعقد إطلاق ، والاطلاق يفيد الاستمرارية ممّا يكون الزمان ظرفا ، لا مفرّدا ، وإذا كان ظرفا فالمجال لاستصحاب الخيار لا للتمسّك بالعموم .

( ولهذا ) أي : لما ذكرناه : من ان الزمان في وجوب الوفاء بالعقد ليس مفرّدا ، وإنّما الزمان يكون ظرفا ، وإذا كان ظرفا لزم الرجوع إلى الاستصحاب لا إلى العموم في الزمان الثاني ، ولذا نرى انه قد ( رجع إلى الاستصحاب في المسألة ) أي : مسألة الغبن ( جماعةٌ من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك إلاّ أنّ بعضهم ) وهو صاحب الرياض ( قيّده ) أي : قيّد جواز الاستصحاب ( بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو : الاجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ) .

وإنّما قيّده بكون مدرك الخيار : الاجماع ، لا دليل : «لا ضرر» ( لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل ) فلا يستصحب بعد الزمن الأوّل .

والحاصل : ان خيار الغبن قد يستدل عليه بالاجماع ، وقد يستدل عليه بدليل : «لا ضرر» ، فمن إستدل له بالأول صح له الاستصحاب ، لأن الاجماع يفيد جواز العقد وعدم لزومه ، ولا يتعرّض إلى انه فور أو متراخ ، ولذا يصح إستصحاب

ص: 210

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ، لأنّ نفي الضرر إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز .

فان كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ويرجع في الزائد إلى العموم ، فالاجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده .

-------------------

الخيار في الزمان الثاني ، بينما من إستدل له بالثاني لا يصح له إستصحاب الخيار في الزمان الثاني ، لأن لا ضرر يتضمن الفورية بملاحظة ان الضرر يندفع بوجود الخيار في الزمان الأوّل ، فلا يكون في زمان الثاني ضرر حتى يكون خيار .

ثم قال المصنِّف : ( ولا أجد وجها لهذا التفصيل ) فان خيار الغبن يستصحب ، سواء كان دليله الاجماع أم دليله لا ضرر ، وذلك ( لأنّ نفي الضرر ) كالاجماع ( إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز ) بأنه على الفور أو على التراخي ، وإذا كان ساكتا عن تحديد الزمان ، لزم النظر إلى عموم أزمنة وجوب الوفاء بالعقد لنراه مفرّدا أو ظرفا ( فان كان عموم أزمنة وجوب الوفاء ) مفرّدا ، فانه ( يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ) أي : على القدر المتيقن وهو الفور ( ويرجع في الزائد إلى العموم ) أي : عموم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا خيار في الزمان الثاني، وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني .

وكيف كان : فإذا عرفت حكم نفي الضرر بالنسبة إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد ( فالاجماع أيضا كذلك ) بالنسبة إليه ، فان كان عموم الزمان مفرّدا ، فانه ( يقتصر فيه على ) القدر المتيقن من ( معقده ) أي : من معقد الاجماع وهو الفور ، ويرجع في الزائد إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا خيار في الزمان الثاني ،

ص: 211

وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول ، من : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ،

-------------------

وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني .

والحاصل : ان الاجماع ، ولا ضرر ، نسبتهما إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد نسبة واحدة ، فان كان عموم الزمان مفرّدا أخذ من الاجماع ومن نفي الضرر بقدرهما المتيقن ، وهو الزمان الأوّل فلا خيار في الزمان الثاني ، وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني سواء كان دليل الخيار هو الاجماع أم نفي الضرر ، فلا وجه إذن للتفصيل الذي إدعاه صاحب الرياض بينهما .

( وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول ) وهو السيد بحر العلوم : ( من : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل ) كأصل البرائة ( دليل شرعي مخصّص للعمومات ) وقوله : « مخصص للعمومات » يفيد ان مقصوده منه هو التخصيص الزائد على التخصيص المعلوم ، فيكون مراده من العموم ما كان الزمان فيه مفرّدا لا ظرفا ، وقد عرفت انه لا يرجع إلى إستصحاب حكم المخصص فيما كان الزمان فيه مفرّدا ، بل يرجع إلى العموم ان كان ، وإلى الاُصول غير الاستصحاب ان لم يكن عموم أو كان ولكنه كان مجملاً ، فيكون ما ذكره السيد خلاف ما ذكرناه .

وكيف كان : فان السيد قال : يُخصّص العام بالاستصحاب المخالف للأصل ، وذلك كما إذا قال المولى : أكرم العلماء كل يوم ممّا كان الزمان فيه مفرّدا ، ثم قال : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فشك المكلّف في يوم السبت بانه هل يجب إكرام زيد أو يحرم إكرامه للنهي عنه يوم الجمعة ؟ كان إستصحاب حرمة إكرامه الذي

ص: 212

ولا ينافيه عموم أدلة حجّيته من أخبار الباب ، الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقن ، إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل

-------------------

هو مخالف لأصل البرائة مخصّصا لعموم وجوب : أكرم العلماء كل يوم ، فيحكم بعدم وجوب إكرام زيد يوم السبت للاستصحاب المخصّص للعموم .

( و ) إن قلت : كيف يخصّص الاستصحاب عموم العام ، مع أنّ النسبة بينهما عموم من وجه وليس عموما مطلقا حتى يكون الاستصحاب مخصّصا للعام ؟ .

قلت : ( لا ينافيه ) أي : لا ينافي تخصيص العام باستصحاب حكم المخصّص ( عموم أدلة حجّيته ) أي : حجية الاستصحاب ( من أخبار الباب ، الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقن ) وعدم منافاته له يتم عبر إشكال وجواب يكون حاصلهما ما يلي :

إنّ المستشكل أشكل على السيد بحر العلوم : بأنكم كيف تخصّصون العام بالاستصحاب مع ان النسبة بينهما عموم من وجه ، وليس عموما مطلقا حتى يكون الاستصحاب مخصّصا للعام ؟ وذلك لأن عموم : « أكرم العلماء » ، يشمل غير مورد الاستصحاب من سائر العلماء ، وعموم : لا تنقض اليقين بالشك ، الدال على الاستصحاب يشمل غير مورد : « أكرام العلماء » من سائر موارد الاستصحاب ، فيتعارضان في مادة الاجتماع ، وهو : أكرام زيد يوم السبت ، فيرجع فيه إلى التخيير لا إلى تخصيص العام بالاستصحاب ، فكيف خصّصتم العام بالاستصحاب ؟ .

هذا حاصل قول المستشكل ، والسيد يقول في جوابه : أنّه لا محل لهذا الاشكال ( إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ) والدليل هنا هو : إستصحاب حرمة أكرام زيد يوم الجمعة الموجب لحرمة إكرامه يوم السبت ،

ص: 213

وإلاّ لم يتحقق لنا في الادلّة دليل خاصّ ، لانتهاء كلّ دليل الى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل .

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاص لا يتعدّى الى غيره ، فيقدّم على العامّ ،

-------------------

ودليل هذا الدليل هو : عموم لا تنقض اليقين بالشك ، الدال على الاستصحاب ، فانه لا عبرة بدليل الدليل ( وإلاّ ) بأن كانت العبرة بدليل الدليل ( لم يتحقق لنا في الأدلة دليل خاصّ ) حتى يكون مخصصا للعمومات حتى في مثل : اكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ، وذلك ( لانتهاء كلّ دليل الى أدلّة عامّة ) .

مثلاً : ان قوله : لا تكرم زيدا ، الذي هو دليل خاص ينتهي الى دليل عام وهو حجية خبر العادل ، فاذا قام الاجماع - مثلاً - على وجوب اكرام العلماء ، وقام خبر العادل على حرمة اكرام زيد العالم ، فالنسبة بينهما على قول هذا المستشكل : هي العموم من وجه ، لأن اكرم العلماء يشمل ماعدا زيدٍ من سائر العلماء ، وحجية خبر الواحد في لا تكرم زيدا يشمل ماعدا وجوب اكرام العلماء من سائر الاحكام التي دَلّ عليها خبر الواحد ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهو في مثالنا : زيد العالم ، فإنّ أكرم العلماء يقول : أكرمه ، وحجية خبر الواحد يقول : لا تكرمه ، وحيث ان هذا النوع من التعارض بين الادلة باطل لم تكن العبرة به ، ( بل العبرة بنفس الدليل ) فقط ، لا بدليل الدليل .

هذا ( ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاص لا يتعدّى الى غيره ) فاستصحاب حرمة اكرام زيد في يوم السبت مختص بمورده ولا يشمل غيره ، فيكون استصحاب لا تكرم زيدا أخص مطلقا من عموم اكرم العلماء ( فيقدّم ) الخاص وهو استصحاب حرمة اكرام زيد ( على العامّ ) وهو اكرم العلماء

ص: 214

كما يقدّم على غيره من الأدلّة ، ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابله ما دلّ على البرائة الأصلية ، وطهاره الاشياء وحلّيتها .

ومن ذلك إستنادهم الى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشك في ذهاب ثلثي العصير

-------------------

في مثالنا ( كما يقدّم على غيره من الأدلّة ) العامة في أمثلة اخرى مثل : تقديم استصحاب خيار الغبن على عموم : «أوفوا بالعقود» وتقديم استصحاب النجاسة على أصالة الطهارة ، وتقديم استصحاب الحرمة على أصالة الحلية ، وغير ذلك .

وعليه : فان استصحاب الخاص في كل الموارد يكون مقدّما على العمومات والاطلاقات ، ومنها ما نحن فيه فانه من هذا القبيل ، فاستصحاب : لا تكرم زيدا بالنسبة الى يوم السبت يقدّم على عموم : اكرم العلماء ، لأنّ : لا تكرم زيدا أخص مطلقا منه ، فليس أمر كما توهمه المستشكل : من ان النسبة بينهما عموم من وجه .

( ولذا ) أي : لما ذكرناه : من ان العبرة بنفس الدليل ، تكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فيلزم تقديم استصحاب الخاص على العام ( ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابله ما دلّ على البرائة الأصلية ، وطهارة الاشياء وحلّيتها ) كما عرفتها في الأمثلة التي ذكرناها ، ولو كانت العبرة بدليل الدليل ، لكانت النسبة هي العموم من وجه ، وفي العموم من وجه يحصل التعارض فيلزم أحكام التعارض لا تقديم الاستصحاب على تلك العمومات .

( ومن ذلك ) أي : تقديمهم استصحاب الخاص على العام ( إستنادهم الى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشك في ذهاب ثلثي العصير ) فانهم

ص: 215

وفي كون التحديد تحقيقّيا او تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا الى غير ذلك » ، انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين .

ولا يخفى ما في ظاهره لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم

-------------------

يقولون بالنجاسة والتحريم فيه ، تقديما لاستصحاب حكم الخاص وهو : نجاسة العصير وحرمته ، على العام وهو : اصالة الطهارة وأصالة الحلية في كل شيء .

( و ) كذا في صورة الشك ( في كون التحديد ) بذهاب الثلثين ( تحقيقّيا أو تقريبيّا ) فانهم يقولون بلزوم التحقيق لا التقريب ، لمكان استصحاب الخاص وهو : الحكم بنجاسة العصير وحرمته اذا ذهب الثلثان تقريبا لا تحقيقا وتقديمه على عموم الطهارة والحلية .

( و ) كذلك ايضا يكون حكمهم بالنسبة الى العصير ( في صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ) حيث يشك في طهارته وحليته حينئذ فانهم يستصحبون حكم العصير الخاص يعني : النجاسة والحرمة ويقدّمونه ، على عموم الطهارة والحلية .

( الى غير ذلك » (1) ) من موارد تقديمهم الاستصحاب على العموم ، مثل : تقديم استصحاب الاشتغال على أصالة البرائة .

( انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول .

( ولا يخفى ما في ظاهره ) اي : ظاهر كلام السيد بحر العلوم : من تخصيص ما كان عموم الزمان فيه مفرّدا باستصحاب حكم المخصص ، ما ان التخصيص بالاستصحاب إنّما يكون فيما كان الزمان فيه ظرفا ، لا فيما كان الزمان فيه مفرّدا ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم ) وهو ما كان عموم الزمان فيه

ص: 216


1- - الفصول الغروية : القول في العامّ والخاصّ : ص213 عن بعض أفاضل متأخري المتأخرين بحر العلوم .

لا يجري الاستصحاب حتى لو لم يكن عموم ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع الى العموم ولو لم يكن استصحابٌ .

ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارجٌ عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ، لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة الى الاستصحاب ليست من قبيل العام بالنسبة الى الخاصّ ،

-------------------

مفرّدا مثل : اكرم العلماء كل يوم ( لا يجري الاستصحاب ) حتى يكون الاستصحاب مخصصا للعام ، فانه ( حتى لو لم يكن عموم ) هناك أصلاً لم يجر الاستصحاب ، لانه ليس موردا للاستصحاب ، بل يرجع فيه الى الاصول العملية غير الاستصحاب على ما عرفت .

هذا في مورد جريان العموم ( و ) أما في ( مورد جريان الاستصحاب ) وهو ما كان عموم الزمان فيه ظرفا لا مفرّدا ، فانه ( لا يرجع الى العموم ولو لم يكن استصحابٌ ) في مورد الخاص وعدم وجود الاستصحاب إما الاختلال شرط من شروطه أو لتبدل الموضوع فيه ، بل يرجع الى الاصول الاخر من البرائة وما اشبه ، وذلك على مرّ مفصّلاً .

( ثمّ ما ذكره ) السند بحر العلوم ( من الأمثلة ) كاستصحاب الشغل والنجاسة والتحريم داخل في مسألة حكومة الاستصحاب على سائر الاصول ، فهو ( خارجٌ عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ) فكيف يقول السيد بحر العلوم : بأن هذه الأمثلة من مورد تخصيص الاستصحاب للعمومات ؟ .

وإنّما خرج ما ذكره من الامثلة عن ذلك ( لأنّ الاصول المذكورة ) اي : أصل البرائة وأصل الحلية وأصل الطهارة ( بالنسبة الى الاستصحاب ليست من قبيل العام بالنسبة الى الخاصّ ) حتى يقال : بان هذا الاستصحاب يخصص

ص: 217

كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول .

نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية الى عموم حلّ الطيّبات ، وحلّ الانتفاع بما في الارض ، كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين مثالاً لمطلبه دون المثال الأوّل ، لأنّه من قبيل الشك في موضوع الحكم الشرعي ، لا في نفسه .

-------------------

هذه العمومات ، وذلك ( كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول ) عند التعرض الى ان هذه الاصول ليست من قبيل العمومات بالنسبة الى الاستصحاب حتى يكون الاستصحاب بالنسبة الى هذه الاصول من قبيل الخاص .

( نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية الى عموم حلّ الطيّبات ، وحلّ الانتفاع بما في الارض ) بأن يكون الحلّ دليلاً لا أصلاً ( كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين ) وهما : مثال الشك في كون التحليل بالثلثين تحقيقيا أو تقريبيا ، ومثال : صيرورة العصير قبل ذهاب الثلثين دبسا ( مثالاً لمطلبه ) لكونه شبهة حكمية ( دون المثال الاول ) الذي هو الشك في ذهاب الثلثين .

وإنّما لا يكون الأوّل مثالاً لمطلبه ( لأنّه من قبيل الشك في موضوع الحكم الشرعي ) الذي يستطرق فيه باب العرف ( لا في نفسه ) اي : ليس الشك في نفس الحكم الشرعي ، حتى يستطرق فيه باب الشرع .

ومن المعلوم : انه اذا كان الشك في الموضوع ، استصحب الموضوع وهو هنا : العصير بعد الغليان ، وقدّم على أصل الطهارة وأصل الحل من باب تقدّم الاصل الموضوعي على الاصل الحكمي .

ص: 218

ففي الأوّل : يستصحب عنوان الخاص ، وفي الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الاول .

-------------------

وعليه : ( ففي الأوّل ) اي : في مثال الشك في ذهاب الثلثين الذي هو شبهة موضوعية خارجية ( يستصحب عنوان الخاص ) اي : عنوان : ان العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين يكون نجسا وحراما ، والأصل الموضوعي حاكم على الاصل الحكمي - على ما سبق - لا أنّه مخصص له .

( وفي الثاني ) اي : في المثالين الاخرين وهما : الشك في كفاية الدبسية ، والشك في ان ذهاب الثلثين تقريبي أو تحقيقي فانه عند الشك في كل منهما ( يستصحب حكمه ) اي : حكم الخاص من الحرمة والنجاسة لانه مورد الاستصحاب ، فيتوهم انه يخصص به العموم .

( و ) عليه : فان الثاني الشامل للمثالين الاخرين : من الشك في كفاية الدبسية والشك في كون ذهاب الثلثين تقريبيا او تحقيقيا ( هو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم ) الاجتهادي مثل قوله سبحانه : « أحلّ لكم الطيبات » (1) وقوله سبحانه : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (2) ونحو ذلك ( دون الاول ) وهو الشك في ذهاب الثلثين الذي هو من الشبهة الموضوعية ، وذلك لما عرفت : من ان الاصل الموضوعي يكون حاكما على الاصل الحكمي ، لا ان الاصل الموضوعي مخصص له .

وإنّما قال : يتوهم كونه مخصصا ، ولم يقل : بانه مخصص ، لانه في الواقع لم يكن مخصصا ، بل المورد هنا للاستصحاب ، لان زمان العام في قوله تعالى :

ص: 219


1- - سورة المائدة : الآية 4 و الآية 5 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .

ويمكن توجيه كلامه قدس سره بأنّ مراده من العمومات بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف هي : عمومات الاصول .

ومراده بالتخصيص للعمومات

-------------------

« احلّ لكم الطيبات » ظرف وليس مفرّدا ، فليس المورد هنا للعموم حتى يكون الاستصحاب مخصصا له .

( و ) حيث ان السيد بحر العلوم هو أجلّ من ان يشتبه بمثل هذا الاشتباه ، لذلك ( يمكن توجيه كلامه قدس سره بأنّ مراده من العمومات ) في قوله المتقدِّم : ان الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصص للعمومات ( بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ) للأصل : ان مراده منها ( هي : عمومات الاصول ) العملية مثل : « كل شيء لك حلال » (1) « وكل شيء طاهر » (2) ، لا عمومات الأدلة الاجتهادية مثل : « اوفوا بالعقود » (3) و « احلّ لكم الطيبات » (4) .

وإنّما كان مراده من العمومات ذلك ، لأنّ الاستصحاب سواء كان مخالفا أم موافقا يخصص عمومات الاصول الاجتهادية ، اما عمومات الاصول العملية فلا يخصصها الاّ الاستصحاب المخالف ، فتخصيص كلامه بالاستصحاب المخالف ، يكون قرينة على ارادة عمومات الاصول العمليّة ، لا الاجتهادية .

( ومراده بالتخصيص للعمومات ) في قوله المتقدِّم : « ان الاستصحاب مخصص للعمومات » ، ليس معنى التخصيص الاصطلاحي المقابل للحكومة ،

ص: 220


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - سورة المائدة : الآية 1 .
4- - سورة المائدة : الآية 4 و الآية 5 .

ما يعمّ الحكومة ، كما ذكرنا في اول أصالة البرائة ، وغرضه أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشك ، فكما أنّ دليل المستصحب أخص من الاصول

-------------------

مثل تخصيص : أكرم العلماء كل يوم ، باستصحاب حكم المخصص ، بل مراده من التخصيص : ( ما يعمّ الحكومة ) فيكون مراده بالتخصيص : مطلق تقديم الأخص على الأعّم ، سواء كان بنحو التخصيص أم بنحو الحكومة .

إذن : فمراده من كون الاستصحاب مخصصا للعمومات بنحو المسامحة : انه على عمومات الاصول العملية ( كما ذكرنا في اول أصالة البرائة ) ذلك ، حيث قلنا : بانه قد يتسامح في التعبير فيقال : بالتخصيص ويراد به الحكومة ، لا التخصيص الاصطلاحي ، وهنا كذلك ، فانه ليس مراد السيد من التخصيص : التخصيص الاصطلاحي بل ما يعمّ الحكومة ، وذلك بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ، لانه لو كان مراده منه : التخصيص الاصطلاحي لم يكن وجه لتقييد كلامه بالاستصحاب المخالف ، اذ عمومات الأدلة الاجتهادية يخصّصها الاستصحاب بلا فرق بين مخالف الاصل وموافقه ، أما الذي لا يخصصه الاّ الاستصحاب المخالف فهو عموم الاصول العملية ، فيكون مراده بهذه القرينة : ان الاستصحاب المخالف للاصول مخصص لعمومات الاصول .

هذا ( وغرضه ) اي : غرض السيد من كلامه هذا هو : ( أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب ) هو : ( إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشك ) فيه ، لا الاصل ( فكما أنّ دليل المستصحب ) كالخبر الواحد ( أخص من الاصول ) العملية كالبرائة ، وقد ( سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك

ص: 221

سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ، ومجريه في الزمان اللاحق .

وكذلك الاستصحاب بالنسبة الى العمومات الاجتهاديّة ، فانّه اذا خرج المستصحب من العموم بدليله ،

-------------------

متمّم لحكم ذلك الدليل ، ومجريه ) اي : مجري حكم ذلك الدليل المستصحب عند الشك فيه ومتمّمه له ( في الزمان اللاحق ) فيسمّى أيضا مخصصا .

مثلاً : إنّ «كل شيء لك حلال» و «كل شيء طاهر» وأشباههما ، شامل لكل مشكوك الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة ، والنص الدال على حرمة العصير بالغليان ، وعلى نجاسته قبل ذهاب الثلثين ، مختص بمورده ، فيتسامح في اطلاق التخصيص عليه ويقال : يخصص الاصل الذي هو الطهارة والحل ، بهذا الدليل الدال على حرمة العصير ونجاسته بالغليان ، مع ان الدليل إمّا وارد على الاصل ، وإمّا حاكم عليه ، فكذلك اذا شككنا في بقاء الحرمة والنجاسة فيما اذا صار دبسا - مثلاً - فانه يستصحب كل من الحرمة النجاسة المستفاد من النص الدال على حرمة العصير ونجاسته قبل ذهاب الثلثين ، ويطلق عليه التخصيص ، مع ان مثل هذا الاستصحاب حاكم على سائر الاصول وانه مخصص لها .

( وكذلك الاستصحاب بالنسبة الى العمومات الاجتهاديّة ) مثل قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » (1) وقوله سبحانه : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (2) ( فإنّه اذا خرج المستصحب ) وهو العصير في المثال ( من العموم ) اي : من قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » مثلاً ( بدليله ) الخاص وهو النص الدال على خروجه سمّي

ص: 222


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - سورة المائدة : الآية 4 والآية 5 .

والمفروض : أنّ الاستصحاب مُجرٍ لحكم ذلك الدليل في اللاحق ، فكأنّه أيضا مخصّصٌ يعني : موجب للخروج عن الحكم العامّ ، فافهم .

الأمر الحادي عشر :

قد أجرى بعضهم الاستصحاب فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركب ،

-------------------

تخصيصا ( والمفروض : أنّ الاستصحاب مُجرٍ لحكم ذلك الدليل في اللاحق ، فكأنّه أيضا مخصّصٌ ) للعموم ، فيسمّى تخصيصا .

وعليه : فإنّ قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » عام ، والاستصحاب مخرج لهذا الفرد وهو العصير بعد الغليان في ثاني الأزمنة عند الشك في ذهاب ثلثيه او كفاية الدبسية من تحت ذلك العام ، فيشبه هذا الاستصحاب المخصص ، لا انه مخصص حقيقة .

إذن : فقولنا : الاستصحاب مخصص ( يعني : موجب للخروج عن الحكم العامّ ) الذي هو حلية الطيبات - مثلاً - وليس بتخصيص في الحقيقة .

وإن شئت قلت : إنّ الاستصحاب يوسِّع دائرة التخصيص للعام ، لاانه مخصص للعام حقيقة .

( فافهم ) فان السيد إذا أراد بالتخصيص هذا المعنى الذي وجّهنا كلامه به ، كان خلاف الاصطلاح ، وهو بعيد عن مثل السيد .

( الأمر الحادي عشر ) في انه هل يجري الاستصحاب اذا تعذّر جزء أو شرط من الواجب المركب كالصلاة مثلاً ، أم لا ؟ قال المصنِّف : ( قد أجرى بعضهم الاستصحاب فيما اذا تعذّر بعض أجزاء المركب ) ممّا يبقى معه صدق المركب على حاله تسامحا ، كما اذا لم يتمكن من قرائة السورة ، أو من ذكر الركوع ،

ص: 223

فيستصحب وجوب الباقي الممكن .

وهو بظاهره ، كما صرّح به بعض المحققين - غيرُ صحيح - لأنّ الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء : وجوبُ هذه الأجزاء الباقية تبعا لوجوب الكلّ ، ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ، والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو :الوجوب النفسي الاستقلالي ، وهو معلوم الانتقاء سابقا .

-------------------

أو من ذكر السجود ، أو ما أشبه ذلك في الصلاة فهل حاله مثل حال ماء الكر الذي نقص منه شيء قليل بحيث لم يعلم بسقوطه عن الكرية ، أم لا ؟ قال : ( فيستصحب وجوب الباقي الممكن ) اتيانه فيجب إذن الاتيان به .

ثم قال المصنّف : ( وهو ) اي : هذا الاستصحاب ( بظاهره ) ومع غضّ النظر عن التوجيهات الثلاثة الآتية ( كما صرّح به بعض المحققين - غيرُ صحيح ) .

وإنّما لم يكن بظاهره صحيحا لعدم بقاء الموضوع فيه ، وذلك ( لأنّ الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء : وجوب هذه الأجزاء الباقية ) الممكنة ( تبعا لوجوب الكلّ ، ومن باب المقدّمة ) الداخلية ، فان الأجزاء كلها مقدّمات داخلية للمجموع من حيث المجموع ( وهو مرتفع قطعا ) لانه لا وجوب للكل بعد عدم التمكن منه ، فلا شك لاحق حتى يصح الاستصحاب .

هذا قبل تعذّر البعض ، وأما بعد تعذّر البعض فكما قال : ( والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض ) بسبب الاستصحاب ( هو :الوجوب النفسي الاستقلالي ) الذي كان سابقا حين امكان الكل ( وهو معلوم الانتقاء سابقا ) فلا يقين سابق ، ومع عدم يقين سابق ، أو شك لاحق ، لا يصح الاستصحاب .

والحاصل : انّه اذا تعذر جزء من المركب ، فالاجزاء الباقية منه لم يكن لها في حال التمكن من الكل وجوب استقلالي حتى يستصحب ، وإنّما كان الثابت لها

ص: 224

ويمكن توجيهه ، بناءا على ما عرفت : من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ، ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ، بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحققة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ .

-------------------

هو الوجوب التبعي المقدّمي وقد انتفى ذلك قطعا لانه بعد تعذر الجزء لا يجب الكل حتى يجب هذه الأجزاء مقدمة له ، والذي يراد إبقاؤه بالاستصحاب هو الوجوب النفسي لهذه الأجزاء ، والوجوب النفسي لهذه الأجزاء الباقية مشكوك الحدوث ، ومعه فلا يتم أركان الاستصحاب حتى يستصحب ، فالاستصحاب إذن لا يصح على ظاهره .

هذا ( ويمكن توجيهه ) أي : توجيه هذا الاستصحاب بالمسامحة العرفية في المستصحب ، وذلك ( بناءا على ما عرفت : من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ، ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له ) اي : المشخّص للقدر المشترك ( سابقا ) فان الوجوب الثابت بين الجزء والكل يستصحب بقاؤه من باب استصحاب الكلي .

وعليه : فيقال في تقريب الاستصحاب : ( بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحققة سابقا لهذا الجزء ) فانه لا شك ان هذا الجزء كان في السابق مطلوبا للمولى ( ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ) اي : المطلوبية المقدّمية فتستصحب تلك المطلوبية التي هي عبارة اخرى عن الوجوب فيثبت به الوجوب للاجزاء الباقية .

إن قلت : استصحاب مطلوبية الكل الذي هو وجوب مقدمي لا يثبت الوجوب النفسي المطلوب الاّ على وجه مثبت .

ص: 225

إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرةً في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه .

ويمكن توجيهه بوجه آخر يستصحب معه الوجوب النفسي ، بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار اليه بقولنا : « هذا الفعل كان واجبا » هو الباقي ، إلاّ أنّه يشك في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي مطلقا أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ،

-------------------

قلت : صحيح ذلك ( إلاّ أنّ العرف لا يرونها ) أي : المطلوبية المقدّمية التي كانت للجزء في السابق ( مغايرةً في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه ) اي : المطلوبية النفسية له وذلك الخفاء ، فتستصحب تلك المطلوبية .

إذن : فمطلق المطلوبية ، وبعبارة اوضح : كلي الوجوب المقدّمي متحد بنظر العرف مع الوجوب النفسي لانهم يرون كل الآثار المترتِّبة على الوجوب النفسي مترتبة على الوجوب الكلي المقدّمي ، وهذا القدر كاف في الاستصحاب ، فيكون حاصل هذا التوجيه هو : استصحاب الوجوب .

( ويمكن توجيهه بوجه آخر ) وهو : بالمسامحة في موضوع المستصحب ، وذلك بأن ( يستصحب معه الوجوب النفسي ) لا مطلق المطلوبية الأعم من الوجوب النفسي والوجوب المقدّمي الذي ذكرناه في التوجيه السابق .

وعليه : فتوجيهه يكون على التقريب التالي ، وذلك ( بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار اليه بقولنا : « هذا الفعل كان واجبا » ، هو الباقي ) من الأجزاء ( إلاّ أنّه يشك في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي ) اي : يُشك في ان ذلك الجزاء المفقود هل له مدخلية فيه ( مطلقا ) حتى في حال عدم التمكن منه ممّا يكون معناه : عدم وجوب الباقي ( أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ) فقط ، وأمّا في حال عدم التمكن فلا مدخلية له فيه ممّا يكون

ص: 226

فيكون محلّ الوجوب النفسي هو الباقي .

ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمُه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها .

-------------------

معناه : وجوب الباقي .

إذن : ( فيكون محلّ الوجوب النفسي ) وموضوعه ( هو الباقي ) من الاجزاء ( ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمُه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها ) اي : مدخلية الاجزاء فيه ، فالموضوع - كالصلاة مثلاً - في نظر العرف هو المركب الأعم من واجد السورة المفقودة وفاقدها .

وعليه : فحال السورة في الصلاة وعدمها بنظر العرف حال التغيّر في الماء وعدمه ، فكما يرى العرف التغيّر في الماء وعدمه من الحالات المتبادلة للماء وإنّما النجاسة قائمة بذات الماء الموجود في كلتا الحالتين : التغيّر وعدم التغير ، فكذلك يرى العرف السورة وعدمها في الصلاة من الحالات المتبادلة للصلاة ، وإنّما الوجوب قائم بذات الصلاة الموجودة في كلتا الحالتين ؛ مع السورة وعدمها، فيكون الموضوع حينئذ باقيا ويستصحب ذلك الموضوع الباقي ، فيكون استصحاب الوجوب النفسي لبقاء الموضوع تاما .

هذا ، ولا يخفى : ان الفرق بين التوجيه السابق ، وهذا التوجيه هو : ان في التوجيه السابق كنّا نستصحب كلي المطلوبية الأعم من الوجوب النفسي والمقدمي، وفي هذا التوجيه نستصحب الوجوب النفسي ، ففي التوجيه الاول كان التسامح في المستصحب ، وذلك بأن استصحبنا كلّي الوجوب ، وقلنا : بأن هذه الاجزاء كانت واجبة بكلّي الوجوب ، فهي كما كانت في السابق باقية

ص: 227

وهذا نظير استصحاب الكرّية في ماء نقص منه مقدارٌ ، فشك في بقاءه على الكرّية ، فيقال : هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته ، مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكرّيته .

وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدارٌ .

وهنا توجيهٌ ثالثٌ ، وهو : استصحابُ الوجوب النفسي

-------------------

على وجوبها، وفي التوجيه الثاني يكون التسامح في الموضوع ، وذلك بأن استصحبنا نفس الوجوب النفسي الخاص المتعلِّق بهذه الأجزاء وقلنا بأن هذه الأجزاء كانت واجبة بوجوب نفسي ، فهي كما كانت في السابق باقية على وجوبها .

( وهذا ) التوجيه الثاني : ( نظير استصحاب الكرّية في ماء نقص منه مقدارٌ ، فشك في بقاءه على الكرّية ) وكان ذلك النقص قليلاً بحيث لا يضر بالصدق العرفي ( فيقال : هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته ) من باب التسامح في الموضوع فيحكم بمطهريّته وعدم انفعاله ( مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي ) من الماء ( لم يعلم بكرّيته ) سابقا ، لان معلوم الكرية سابقا هو الماء الذي لم ينقص منه شيء .

( وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدارٌ ) لا يضر بالصدق العرفي بحيث نشك في انه هل خرج عن القلة حتى لا يتنجس بملاقاة النجس ، او لم يخرج عن القلة حتى يتنجس بملاقاة النجس ؟ فيقال : هذا الماء كان قليلاً ، والاصل بقاء قلّته من باب التسامح في الموضوع ، فيحكم بانه اذا لاقى النجس تنجس .

( وهنا ) ك ( توجيهٌ ثالثٌ وهو : استصحابُ الوجوب النفسي ) المتعلق

ص: 228

المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره ، والاصل بقاؤه ، فثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني .

وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء لاثبات كرّية الباقي فيه .

-------------------

بالموضوع المجمل ( المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا ) في حال الاختيار وحال التعذر ( فيسقط الوجوب بتعذّره ) اي : بتعذر ذلك الجزء ، فلا وجوب للباقي ( وبين تعلّقه ) اي : الوجوب النفسي ( بالمركب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا ) فقط فاذا تعذّر ( يبقى التكليف ) بالمركب الفاقد للجزء المتعذر ( بعد تعذّره ) اي : بعد تعذر ذلك الجزء الاختياري، كالسورة في المثال على حاله ( والاصل بقاؤه ) حينئذ .

إذن : ( فثبت به ) اي : بهذا الاصل وهو : استصحاب بقاء التكليف بالمركب الفاقد للجزء المتعذّر ( تعلّقه ) اي : تعلق الوجب ( بالمركّب على الوجه الثاني ) وهو ما كان الجزء المتعذّر فيه جزءا في حال الاختيار فقط لا مطلقا .

ولا يخفى : ان هذا الاصل مثبت لكن الواسطة خفيّة ( وهذا ) التوجيه الثالث : ( نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء لاثبات كرّية) الماء (الباقي فيه) وذلك بان يقال : هذا الماء الموجود الآن في الاناء هو نفس الماء الموجود فيه سابقا ، وكان في السابق كرا فهو الآن كر ، بلا حاجة الى التسامح لا في المستصحب كما كان في التوجيه الاول ، ولا في الموضوع كما كان في التوجيه الثاني .

ص: 229

ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما اذا لم يبق إلاّ قليل من أجزاء المركّب ، فانّه يجري التوجيه الأوّل

-------------------

وعليه : فقد تبين ان الاستصحاب في الاول هو : استصحاب مطلق المطلوبية الأعم من النفسي و المقدّمي ، وذلك من باب التسامح في المستصحب وهو الوجوب ، وفي الثاني هو : استصحاب الوجوب النفسي وذلك من باب التسامح في موضوع الوجوب لاثبات ان الباقي هو عين السابق عرفا ، وفي الثالث هو : استصحاب الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع المجمل لاثبات ان الباقي هو نفس الموضوع السابق ، وان الجزء المتعذر كان واجبا في حال الاختيار فقط دون التعذّر ، يعني : بأن كان ذلك الجزء في حال الاختيار زائدا على الموضوع بحيث ان فقده في حال عدم التمكن منه لا يوجب نقصا ومعه لا حاجة الى التسامح في الموضوع ولا في المستصحب .

( ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات ) اي : اختلاف التوجيهات الثلاثة التي ذكرناها تظهر فائدتها ( فيما اذا لم يبق إلاّ قليل من أجزاء المركّب ) وذلك كما اذا لم يبق من الصلاة الاّ تكبيرة الاحرام والركوع والسجود والسلام فقط ، فانه يظهر فيها ثمرة اختلاف التوجيهات المذكورة ويظهر الفرق بينها ، بينما اذا تعذر بعض الأجزاء القليلة من المركب مثل : تعذر السورة فقط ، أو ذكر الركوع فقط أو ذكر السجود فقط ، فانه يجري فيها الاستصحاب على جميع التوجيهات من دون فرق بينها .

وعليه : ( فانّه ) في صورة تعذر اكثر الأجزاء يظهر الفرق بين التوجيهات المذكورة ، فان فيها ( يجري التوجيه الاول ) لان مبناه على المسامحة في نفس الوجوب الذي هو المستصحب ، لا في الموضوع ، فسواء زاد الموضوع أم نقص

ص: 230

والثالث دون الثاني ، لأنّ العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحةً لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم له وفيما لو كان

-------------------

لا يضرّ الحكم الذي هو الوجوب ، فيقال : سابقا كان واجبا وفي الحال يكون واجبا ايضا .

( و ) كذا يجري فيها التوجيه ( الثالث ) ايضا ، لان الثالث على ما عرفت كان مبنيا على استصحاب الوجوب المتعلّق بالموضوع المجمل .

وزيادة الموضوع ونقصانه لا يضر بالحكم الذي هو الوجوب فيكون الباقي واجبا ( دون الثاني ، لأنّ ) مبناه كما عرفت كان على المسامحة في الموضوع ، ومن المعلوم : انه لو تعذر اكثر الأجزاء لا يبقى الموضوع ، فكون كالكر الذي أخذ ثلاثة ارباع مائه فان ( العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود ) الباقي القليل ( وبين جامع الكلّ ) الذي كان يشتمل - مثلاً - على عشرة أجزاء ثم تعذّر أكثرها وبقي منها ثلاثة أجزاء ، فان الموضوع بنظر العرف ليس بباق هنا ( ولو مسامحةً ) .

وإنّما لا يساعد على بقاء الموضوع هنا مع مسامحته ( لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء ) بقاءا ( الفاقد لما لا يقدح ) ولا يضرّ فقده ( في إثبات الاسم ) كفقد السورة او ذكر الركوع أو السجود - مثلاً - ( و ) اذا بقي معظم الأجزاء فحينئذ يثبت ( الحكم له ) اي : لهذا المعظم ايضا ويقال : ان الموضوع باق بنظر العرف المسامحي ، دون ما اذا تعذّر اكثر الأجزاء .

( و ) كذلك يظهر ايضا فائدة اختلاف التوجيهات المذكورة ( فيما لو كان

ص: 231

المفقود شرطا ، فانّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ، ويجري على الأخيرين .

وحيث إنّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب

-------------------

المفقود شرطا ) كما اذا تعذرت القبلة او الطهارة - مثلاً - في الصلاة ( فانّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ) لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فاذا تعذرت القبلة او الطهارة لا تكون صلاة ، فالوجوب المتعلق بالصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط قد انتفى قطعا ، ووجوب آخر متعلق بالصلاة بلا شرائط ، هو مشكوك الحدوث ، فلا معنى إذن لاستصحاب كلي الوجوب هنا .

( ويجري على الأخيرين ) وذلك بأن يقال : ان موضوع الوجوب النفسي على التسامح العرفي هو المركب الأعم من واجد الشرط وفاقده ، وهذا الموضوع باق بعد فقد الشرط على حالة ، كما مرّ في التوجيه الثاني ، او يقال على التوجيه الثالث:

بأن نستصحب الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل المردّد بين ان يكون الشرط شرطا له مطلقا ، او في حال الاختيار فقط وذلك الى آخر ما تقدَّم بيانه في التوجيه الثالث .

والحاصل : ان العرف يتسامح ويحكم باتحاد الواجد للشرائط والفاقد لها ، فيستصحب الوجوب النفسي المتعقل بالاجزاء الباقية ، ويستصحب الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل ، وذلك على التوجيهين الاخيرين : الثاني والثالث .

ولكن التوجيه الثالث كالتوجيه الاول ممّا لا يساعد العرف على صحته واليه اشار المصنِّف بقوله : ( وحيث انّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب

ص: 232

في فاقد معظم الأجزاء ، واجرائه في فاقد الشرط ، كَشَفَ عن فساد التوجيه الأوّل ، وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية دون الذات المتصف بها كَشَفَ عن صحة الأوّل من الأخيرين ، وقد عرفت : أنّه لولا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين .

-------------------

في فاقد معظم الأجزاء ، واجرائه في فاقد الشرط ، كَشَفَ عن فساد التوجيه الأوّل ) المبني على عكس ذلك ، فان التوجيه الاول - كما عرفت - كان يجري الاستصحاب في فاقد المعظم ولا يجريه في فاقد الشرط .

وإنّما كان بناء العرف المذكور كاشفا عن فساد التوجيه الاول ، لان العرف هو المخاطب من جهة الشارع ، فاذا لم ير العرف انطباق أخبار الاستصحاب على هذا التوجيه تبيّن ان التوجيه فاسد .

هذا بالنسبة الى التوجيه الأوّل وأمّا التوجيه الثاني فكما قال : ( وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية ) عند الشك في الكرية فيقولون : كان هذا الماء سابقا كرا فالآن كرّ ( دون الذات المتصف بها ) اي : بالكرية ، فانهم لا يستصحبون وجود الماء الكرّ ، حتى يثبتوا أن ما في الحوض كرّ ، فان بناءهم هذا ( كَشَفَ عن صحة الأوّل من الأخيرين ) اي : صحة التوجيه الثاني ، لأنّ فيه استصحاب الوجوب النفسي المتعلّق بهذه الأجزاء ، فهناك يقال : يستصحب كرّية الماء ، وهنا يقال : يستصحب وجوب الأجزاء .

( و ) امّا التوجيه الثالث : فلا يراه العرف صحيحا ايضا ، كما لم ير التوجيه الأوّل صحيحا ، وذلك لانه ( قد عرفت : أنّه لولا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ) الأخيرين ، فتماميّتهما متوقف على رؤية العرف والعرف يرى صحة أولهما دون ثانيهما ، فيكون التوجيه

ص: 233

لكنّ الاشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر : أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب . والظاهر : عدم الفرق .

ثم إنّه

-------------------

الثالث غير صحيح ، لان العرف في مثل الشك في الكريّة يستصحبون كرية هذا الماء على ما عرفت ، ولا يستصحبون وجود الماء الكرّ ، والتوجيه الثالث كان من قبيل استصحاب وجود الماء الكرّ .

هذا ، و ( لكنّ الاشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ) وهو انه هل المسامحة العرفية توجب صحة الاستصحاب ام لا ؟ وعلى فرضه هل يفهم العرف من اخبار الاستصحاب مثل هذه المسامحة ام لا ؟ ( إلاّ أنّ الظاهر : أنّ استصحاب الكرّية ) في الماء الذي أخذ بعضه ممّا يراه العرف هو الماء السابق مسامحة ، فهو ( من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب و ) حجيته .

وعليه : فاذا تمّ استصحاب الكرية نقول : ( الظاهر : عدم الفرق ) بين نقص مقدار من الكرّ ، ونقص مثل السورة ، أو ذكر الركوع ، أو السجود ، أو ما اشبه ذلك من الصلاة ، فكما يستصحب هناك الكرية كذلك يستصحب هنا الوجوب .

( ثم إنّه ) لا يقال : ان استصحاب الوجوب بعد تعذّر السورة - مثلاً - إنّما يتم بعد تمكن المكلّف من الصلاة بأن دخل الوقت ولم يصلّها ثم تعذرت السورة ، وامّا اذا لم يدخل الوقت بعدُ وكانت السورة متعذّرةً لتقية شديدة او ما اشبه ، فانه لم تجب الصلاة بعدُ حتى يستصحب الوجوب لقوله عليه السلام : «اذا دخل الوقت

ص: 234

لا فرق ، بناءا على جريان الاستصحاب ، بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما اذا زالت الشمس ، متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما اذا فقده قبل الزوال ، لأنّ المستصحب هو : الوجوب النوعي المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلاً ،

-------------------

وجب الطهور والصلاة » (1) والمفروض : أنّه لم يدخل الوقت بعد ، فكيف يستصحب الوجوب ؟ .

لأنّه يقال : ( لا فرق بناءا على جريان الاستصحاب ) عند المثبتين للاستصحاب في الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء ( بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ) بدخول الوقت ( كما اذا زالت الشمس ) في حال كون المكلّف ( متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ) لتعذّر أو تعسّر ( وبين ما اذا فقده قبل الزوال ) .

وإنّما قلنا : لا فرق بينهما ( لأنّ المستصحب هو : الوجوب النوعي المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ) اي :بأن يكون تنجزّه معلقا على تحقق شروطه : من دخول الوقت وما اشبه ، وهذا الوجوب النوعي لا فرق فيه قبل الوقت وبعد الوقت، وذلك لانه قبل الوقت متوجّه الى نوع المكلفين معلقا ، فله وجود تعليقي، والوجود التعليقي قابل للاستصحاب فيستصحب .

( لا ) الوجوب ( الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلاً ) اي : لا التكليف المنجزّ الشخصي ، حتى يقال : بأنه لم يكن واجبا ، فماذا

ص: 235


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص253 ب14 ح1929 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4

نعم هنا أوضح .

وكذا لا فرق ، بناءا على عدم الجريان بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال .

وربما يتخيّل : أنّه لا اشكال في الاستصحاب

-------------------

تستصحبون ؟ .

( نعم ) جريان الاستصحاب ( هنا ) فيما اذا حصل التعذر بعد دخول الوقت يعني : عند تنجزّ الوجوب الشخصي على المكلّف يكون ( أوضح ) من جريان الاستصحاب بالنسبة الى الوجود التعليقي في الوجوب النوعي الذي كان واجبا قبل دخول الوقت .

( وكذا لا فرق ، بناءا على عدم الجريان ) وذلك عند المانعين من جريان الاستصحاب في الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء فإنّه لا فرق عندهم ( بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي ) كما اذا ورد نص على ان السورة جزء ( وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال ) كما اذا اشككنا في ان السورة جزء او ليست بجزء وبنينا على جزيئيتها ، لانه من الشك بين الأقل والاكثر الارتباطين وقلنا فيه - مثلاً - بوجوب الاحتياط باتيان الاكثر .

وإنّما قلنا : لا فرق بين القسمين : الاول والثاني ، في سقوط وجوب الباقي - بناءا على عدم جريان الاستصحاب - لأنّ المانعين يرون اختلاف القضيتين : المتيقنة والمشكوكة فيما نحن فيه ، فيرون الموضوع غير باق ، فلا يجرون الاستصحاب ، سواء ثبت جزيئة الجزء المتعذِّر بالدليل الاجتهادي ، أم بقاعدة الاشتغال .

( وربما يتخيّل : أنّه لا اشكال في الاستصحاب ) أي : استصحاب التكليف

ص: 236

في القسم الثاني ، لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتضٍ لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء .

-------------------

لاثبات وجوب الاجزاء الباقية ( في القسم الثاني ) وهو ما ثبت جزئيته بقاعدة الاشتغال ( لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء ، لم يكن ) الدليل اجتهادي ، وإنّما لقاعدة الاشتغال ، فلا يكون وجوب اتيانه ( إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ) الذي هو مقتضى استصحاب التكليف بعد الاتيان بالصلاة بلاسورة - مثلاً - .

( وهذا بعينه ) اي : استصحاب التكليف ، المقتضي لوجوب الخروج عن عهدة التكليف بالنسبة الى الاجزاء الباقية من الصلاة بعد تعذر السورة - مثلاً - موجود ايضا ، وهو بنفسه ( مقتضٍ لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء ) فيثبت وجوب الباقي ، اذ في فرض ثبوت وجوب الجزء - كالسورة مثلاً - بالاستصحاب ، يحتمل ان يكون الواجب بالنسبة الى المركب من اول الامر هو عبارة عن الاقل - كالصلاة بالسورة مثلاً - فتكون الصلاة بعد تعذر السورة واجبة ايضا .

وعليه : فاذا شك في ان الواجب هل هي الصلاة مع السورة او بدونها ولا دليل اجتهادي ؟ فيقال : انه مع التمكن من الصلاة مع السورة فاستصحاب التكليف يقتضي : وجوب الاتيان بالاكثر فتجب السورة ، ومع عدم التمكن من السّورة فاستصحاب التكليف يقتضي : وجوب الاتيان بالباقي فيجب الباقي ، ففرق بين ثبوت الجزء بدليل اجتهادي فلا استصحاب ، وبين ثبوته بقاعدة الاشتغال فالاستصحاب جار .

ص: 237

وفيه ما تقدّم ، من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع هنا إلاّ بناءا على الأصل المثبت .

ولو قلنا به

-------------------

( وفيه ما تقدّم ) في بحث البرائة ( من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل ) المردّد بين الأقل والاكثر المستلزم للاحتياط والاتيان بالاكثر ( إنّما هو بحكم العقل ) القائل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، من باب ان التكليف قطعي ، فاذا اُتي به من دون هذا الجزء المشكوك ، لم يُعلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولذا يجب الاتيان بالأكثر ، فالوجوب إذن بحكم العقل ( لا بالاستصحاب ) اي : ان الأثر للشك لا للمشكوك .

هذا ( والاستصحاب لا ينفع هنا إلاّ بناءا على الأصل المثبت ) وذلك بأن نستصحب الوجوب الكلي السابق فنقول : إذن هذا الفاقد للجزء هو الواجب ، فيكون من قبيل استصحاب الكلي لاثبات فرد منه ، وهو مثبت ، والاصل المثبت كما عرفت ليس بحجة .

وكيف كان : فانه مع التمكن من الاتيان بذلك الجزء يجب الاتيان بالمجموع لكن لا من باب استصحاب التكليف لانه مثبت ، بل من باب القول بوجوب الاكثر لقاعدة الاشتغال فيما اذا كان الشك بين الأقل والاكثر الارتباطيين كما نحن فيه ، وذلك لانه شك في اسقاط التكليف وهو مجرى الاحتياط ، بينما مثل هذا لا يجري عند الشك في وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الاجزاء وذلك لانه شك في اثبات التكليف وهو مجرى البرائة .

هذا ، ان لم نقل باعتبار الاصل المثبت ( ولو قلنا به ) اي : باعتبار الأصل المثبت

ص: 238

لم يفرّق بين ثبوت الجزء بالدليل او بالأصل ، لما عرفت : من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف وإن كان بينهما فرقٌ من حيث أنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن

-------------------

وحجيته ( لم يفرّق ) في القول بوجوب الباقي ( بين ثبوت الجزء بالدليل او بالأصل ) وذلك لأنّ ثبوت الجزء المتعذّر سواء كان بالدليل ام بالاصل ، فان استصحاب الوجوب للاجزاء الباقية لا يُثبت لها الوجوب النفسي الاّ على وجه مثبت كما عرفت .

إذن : فمن جهة أنّ القول بوجوب الباقي ، لا يكون الاّ على القول بالاصل المثبت ، لم يفرّق بين ان يكون الجزء المتعذر ثابتا بالدليل او بالاصل ، وذلك ( لما عرفت : من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف ) .

وأمّا من جهة مورد جريان الاستصحاب ، فهناك فرق بين كون الجزء ثابتا بالدليل ، وبين كونه ثابتا بالاصل ، كما قال : ( وإن كان بينهما فرقٌ ) .

وإنّما يكون بينهما فرق ( من حيث أنّ استصحاب التكليف في المقام ) وهو تعذر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي ( من قبيل استصحاب الكلّي المتحقق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ) وهذا هو القسم الثابت من أقسام استصحاب الكلي ، فإنّ استصحاب كلي الوجوب مع تردّده بين الوجوب المقدّمي بالنسبة الى الباقي المرتفع قطعا بارتفاع الكل ، والوجوب النفسي المشكوك حدوثه في الباقي مكان الكل ، يكون من قبيل استصحاب كلي الانسان المردّد بين زيد المرتفع قطعا لخروجه من الدار ، وعمرو المشكوك حدوثه مكان زيد لاحتمال دخوله في الدار ، والاستصحاب فيه لا يجري

ص: 239

وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف .

-------------------

الاّ في بعض الصور المتسامح فيه عرفا .

هذا مورد جريان الاستصحاب في الاجزاء الباقية بعد تعذر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي والذي عبّر عنه بقوله : « في المقام » .

وأمّا مورد جريان الاستصحاب في الاجزاء الباقية بعد تعذر الجزء الثابت بالاصل ، كالثابت فيما نحن فيه بقاعدة الاشتغال ، فهو كما أشار اليه بقوله : ( وفي استصحاب الاشتغال ) يكون ( من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ) حيث انه من القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلي ، مثل استصحاب كلي الحيوان المردّد بين كونه عصفورا لا يعيش إلاّ سنة أو غرابا يعيش طويلاً .

هذا ( وقد عرفت ) ممّا ذكرناه سابقا في التنبيه الاول ( عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ) من هاتين الصورتين المذكورتين ، وذلك لانها من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي فلا يجري فيها الاستصحاب ( إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف ) وذلك بأن يرى العرف أنّ الفرد الباقي هو استمرار الفرد السابق ، وما نحن فيه هو من الموارد التي يرى العرف فيها ذلك ، فيصح استصحاب الكلي في هذا المورد ، لكنه لا يثبت بقاء الوجوب النفسسي لبقية الاجزاء الاّ على القول بالأصل المثبت ، أو فرض خفاء الواسطة ، وذلك لانه من استصحاب الكلي لاثبات بعض أفراده .

ص: 240

ثمّ إعلم أنّه نُسِبَ الى الفاضلين ، التمسكُ بالاستصحاب في هذه المسألة في مسألة الأقطع .

والمذكور في المعتبر والمنتهى : « الاستدلال على وجوب غَسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق أنّ غَسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجبٌ ، فاذا زال البعض لم يسقط الآخر » انتهى .

وهذا الاستدلال

-------------------

( ثمّ إعلم أنّه نُسِبَ الى الفاضلين ) : المحقق والعلامة ( «قدس سرهما» ، التمسكُ بالاستصحاب في هذه المسألة ) اي : مسألة تعذر الجزء من غير تفصيل بين الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي ، والثابت بالأصل العملي ( في مسألة الأقطع ) الذي قطعت يده ، وبقي بعضها ، فانه كان سابقا يجب عليه غَسل هذا البعض في ضمن غَسل كل اليد ، فلمّا قطع بعضها نشك في انه هل بقى وجوب غَسل هذا البعض أم لا ؟ فنستصحب وجوب غَسله .

( والمذكور في ) كتابي الفاضلين : ( المعتبر ) للمحقق قدس سره ( والمنتهى ) للعلامة قدس سره ( « الاستدلال على وجوب غَسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق ) فيما اذا بقي شيء من محل الغَسل ، وذلك بتقريب : ( أنّ غَسل الجميع ) اي : جميع اليد ( بتقدير وجود ذلك البعض ) المقطوع ( واجبٌ ) اي : كان سابقا واجبا ( فاذا زال البعض لم يسقط الآخر » (1) ) عن الوجوب ، فيجب غَسل البعض الآخر الباقي الى المرفق .

( انتهى ، وهذا الاستدلال ) له احتمالات ثلاثة : فاحتمال انه تمسك بقاعدة

ص: 241


1- - المعتبر : ص39 .

يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة : « الميسور لا يسقُط بالمعسور » ، ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة ؛ ويحتمل أن يراد منه : الاستصحاب ، بأن يراد أنّ هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب .

فاذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه أو لم يسقط بحكم الاستصحاب .

-------------------

الميسور ، واحتمال انه تمسك بالاصل العملي وهو الاستصحاب ، واحتمال انه تمسك بالأصل اللفظي وهو عموم قوله تعالى : « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ... »(1) فانه شامل لجميع أجزاء اليد ، فاذا سقط بعض الأجزاء وجب غَسل الباقي .

وعليه : فالاحتمالات هنا ثلاثة ، اشار المصنِّف الى أولها بقوله : ( يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة : « الميسور لا يسقُط بالمعسور » (2) ) لا الاستصحاب ( ولذا أبدله ) اي : أبدل الاستدلال المذكور الشهيد الاول ( في الذكرى بنفس القاعدة ) اي : بقاعدة الميسور ، حيث انه قال : يجب غَسل ما بقي لقاعدة الميسور .

وأشار الى ثانيها بقوله : ( ويحتمل أن يراد منه : الاستصحاب ، بأن يراد أنّ هذا الموجود ) من اليد الى المرفق ( بتقدير وجود المفقود في زمان سابق ، واجب ) غَسله ( فاذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه ) اي : عدم سقوط الباقي وهذا تمسّك بالاصل العدمي ( أو ) يتمسك بالاصل الوجودي وذلك بأن يقال : هذا الموجود من اليد على تقدير وجود المفقود كان واجبا غَسله سابقا ، ولآن واجب ايضا حيث ان وجوبه ( لم يسقط بحكم الاستصحاب ) .

ص: 242


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح205 بالمعنى ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .

ويحتمل أن يراد به : التمسك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء ، من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ، لكنّه ضعيفٌ احتمالاً ومحتملاً .

-------------------

وأشار الى ثالثها بقوله : ( ويحتمل أن يراد به : التمسك ) بالاصل اللفظي أي : ( بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء ، من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ) وذلك بأن أوجب الشارع غسل اليد بنحو العموم الشامل لغسل ما بين المرفق الى رؤوس الاصابع ، فاذا سقط بعضه لقطع أو نحوه بأن سقطت أصابعه ، أو سقطت كفه من الزند ، أو سقط ممّا دون المرفق - مثلاً - وجب غَسل الباقي .

( لكنّه ) اي : التمسك بالعموم اللفظي من الفاضلين ( ضعيفٌ احتمالاً ومحتملاً ) أمّا احتمالاً وهو ان يكون في كلامهما ما يشعر بذلك ، فلأن كلامهما لا ظهور له في انهما يريدان التمسك بالعام بالنسبة الى ما بقي من اليد بل له ظهور في ارادتهما دليل الميسور .

وأمّا محتملاً : فلأن وجوب غَسل البعض بعد سقوط البعض الآخر غير مشمول للعموم ، اذ الظاهر من الآية والرواية غَسل الجميع ، فاذا انتفى الجميع بانتفاء البعض لم يبق أمر حتى يشمل عمومه البعض الآخر الباقي .

هذا ، ولا يخفى : ان ما ذكروه جار في غير اليد أيضا ، كبعض مواضع المسح ، وبعض الوجه ، وكذلك الحال فيمن لا يتمكن في الغُسل من غَسل جميع بدنه ، فهل يجب عليه غَسل الرأس والرقبة أو مع الطرف الايمن - مثلاً - أم لا ؟ وكذا الحال في المتيمم الذي لا يتمكن من المسح على جبهته ، أو على احدى يديه ، او على كلتا اليدين ، فهل يجب عليه ذلك أم لا ؟ .

ص: 243

الأمر الثاني عشر :

إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة .

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار .

-------------------

وهكذا حال غُسل الميت اذا لم يتمكن الغاسل من تغسيل جميع جسده ، أو في تيممه اذا لم يتمكن من مسح كل اعضاء تيممه ، وكذا في الميت الذي قطع رأسه ، فهل يجب تغسيل جانبه الأيمن وجانبه الأيسر ام لا ؟ وهكذا حال تيممه أيضا .

وكذا الحال بالنسبة الى الصلاة والصوم والحج ، وغيرها من الواجبات ، فان نفس المسئلة تأتي فيها ايضا ، وذلك كما اذا علم بانه بعد صلاة ركعتين من الظهر الرباعية يقتل أو يجنّ او ما اشبه ذلك ممّا لا يتمكن معه من اتمام الصلاة ، او في الصوم تحيض المرأة ، او يقتل الرجل ، او ما اشبه ذلك ، وهكذا في باب الحج ، فهل يجب عليه ذلك أم لا ؟ .

( الأمر الثاني عشر ) : في ان المراد بالشك المأخوذ في الاستصحاب هو الأعم من الشك الاصطلاحي المتساوي الطرفين ، والظن بالبقاء ، والظن بالانتفاء ، وذلك ( إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة ) للذي يجري الاستصحاب حينئذ ( بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة ) .

وقال : غير معتبرة ، لأنّ الأمارة كانت معتبرة لم يبق مجال للاستصحاب ، بل لزم الاخذ بتلك الأمارة المعتبرة .

( ويدلّ عليه ) اي : على ان احتمال خلاف الحالة السابقة أعم ( وجوه ) كالتالي :

( الأوّل : الاجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار )

ص: 244

الثاني: أنّ المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي، وهو: خلاف اليقين ، كما في الصحاح ، ولا خلاف فيه ظاهرا .

ودعوى : « انصراف المطلق في الروايات الى معناه الأخص ، وهو : الاحتمال المساوي » ، لا شاهد لها ، بل يشهد بخلافها - مضافا الى تعارف الشك في الاخبار على المعنى الأعمّ - مواردُ من الأخبار الواردة .

منها : مقابلة الشك باليقين في جميع الاخبار .

-------------------

فان كل اولئك الذين يرون حجية الاستصحاب تعبدا من باب الاخبار ، مجمعون على عدم الفرق بين الشك الاصطلاحي والظن بالوفاق او بالخلاف .

( الثاني : أنّ المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي وهو : خلاف اليقين ) فيكون شاملاً للشك والظن والوهم لانها جميعا خلاف اليقين ، وذلك ( كما في الصحاح ) للجوهري ( و ) ارادة المعنى اللغوي من الشك الوارد في الروايات هو ممّا ( لا خلاف فيه ظاهرا ) فاحتمال ان الشارع قد غيرّ المعنى اللغوي الى المعنى الاصطلاحي المنطقي غير ظاهر .

( ودعوى : « انصراف ) الشك ( المطلق في الروايات الى معناه الأخص ، وهو : الاحتمال المساوي » ) الطرفين المصطلح لدى المنطقيين ( لا شاهد لها ) اي : لهذه الدعوى اذ لا وجه لهذا الانصراف بعد كون الاصل في النقل هو العدم ، فإنّ اثبات تغيير اللغة الى اصطلاح خاص يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليه هنا .

( بل يشهد بخلافها ) اي : بخلاف هذه الدعوى ( مضافا الى تعارف ) اطلاق ( الشك في الاخبار على المعنى الأعمّ ) الشامل للوهم والظن والشك الاصطلاحي، يشهد له ( موارد من الأخبار الواردة ) في الاستصحاب .

( منها : مقابلة الشك باليقين في جميع الاخبار ) التي جعلت الشك في مقابل

ص: 245

ومنها : قوله في صحيحة زرارة الاُولى : « فان حُرِّكَ الى جنبِه شيءٌ وهو لا يعلم به » الى آخره ، فان ظاهره : فرض السؤال فيما كان معه أمارةُ النوم .

ومنها : قوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن » حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ، ومجيء أمر بيّن منه .

-------------------

اليقين وظاهر التقابل هو التناقض ، يعني : كل ما ليس بيقين ، وما ليس بيقين يشمل الشك الاصطلاحي والظن والوهم .

( ومنها : قوله ) عليه السلام ( في صحيحة زرارة الاُولى ) المفيدة بقاء الوضوء الى ان يتيقن بالنوم ، وعدم نقض الوضوء بالخفقة ونحوها حيث قال فيها عليه السلام : ( « فان حُرِّكَ الى جنبه شيءٌ وهو لا يعلم به » (1) الى آخره ، فان ظاهره : فرض السؤال فيما كان معه أمارةُ النوم ) .

ومن المعلوم : ان الأمارة على النوم بتحريك شيء الى جنبه وهو لا يعلم يوجب الظن بالخلاف ، ومع ذلك فان الشارع قال : عليه بعدم الاعتناء بظنه وباستصحاب وضوءه .

( ومنها : قوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن » (2) حيث جعل غاية وجوب الوضوء ) الجديد للصلاة : هو ( الاستيقان بالنوم ، ومجيء أمر بيّن منه ) فانه في هذه الصورة فقط ينتقض وضوءه ، امّا اذا لم يأت أمر بيّن منه فيستصحب وضوءه .

ومن المعلوم : انه بدون الأمر البيّن المورث لليقين بالنوم قد يكون النوم مظنونا ، كما قد يكون مشكوكا ، أو موهوما ، فيعم الجميع .

ص: 246


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

ومنها : قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » فانّ الظاهر : سَوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين .

ومنها : قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية : «فلعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقين بالشكِّ » ، فانّ كلمة : « لعل » ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك ، كما في المقام ،

-------------------

( ومنها : قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » (1) فانّ الظاهر : سَوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين ) فقط ، فيعم عدم النقض بكل ماليس بيقين من الوهم والشك والظن بالنقض .

( ومنها : قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية : « فلعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقين بالشكِّ » (2) فانّ كلمة : « لعل » ظاهرة في مجرّد الاحتمال ) سواء كان الاحتمال متساوي الطرفين ، أو راجح الفعل ، أم راجح الترك ، فان لعل يستعمل في مقام الاحتمال المقابل لليقين ، فاذا قيل للمريض - مثلاً - اشرب الدواء الفلاني لعله ينفعك ، كان معناه : انه يحتمل انتفاعه به ، سواء كان الاحتمال مظنونا أم مشكوكا أم موهوما .

( خصوصا مع وروده ) اي : ورود « لعلّ » من : «لعله شيء أوقع عليك» ( في مقام إبداء ذلك ) اي : ابداء الاحتمال وابقائه ( كما في المقام ) فإنّ رؤية الانسان الدم في ثوبه بعد الصلاة لا يوجب بطلان صلاته ، لأنّه يحتمل ولو ضعيفا وقوعه بعد الصلاة ، فتكون صلاته صحيحة بابقاء هذا الاحتمال

ص: 247


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

فيكون الحكم متفرّعا عليه .

ومنها : تفريع قوله عليه السلام : « صُم للرّؤية وافطِر للرّؤيةِ » على قوله عليه السلام : «اليقينُ لا يدخلُه الشك » .

الثالث : أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه : أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده ،

-------------------

( فيكون الحكم ) بعدم النّقض ( متفرّعا عليه ) اي : على مجرد الاحتمال .

( ومنها : تفريع قوله عليه السلام : « صُم للرّؤية وافطِر للرّؤيةِ » على قوله عليه السلام : «اليقينُ لا يدخلُه الشك » ) (1) فان الرؤية يقين وما سواها شك ، فيكون التفريع المذكور هنا شاملاً لكل ما هو ليس بيقين ورؤية ، وما ليس هو بيقين ورؤية يعم الظن والشك والوهم ، فالتفريع المذكور اذان يشهد بأن المراد هنا هو : ان اليقين لا يدخله غير اليقين ، سواء كان غير اليقين ظنا ام وهما ام شكا .

( الثالث ) من الشواهد على ان المراد من الشك : الأعم من متساوي الطرفين ومن الظن بالخلاف هو : ( أنّ الظنّ غير المعتبر ) القائم على خلاف الحالة السابقة ( إن علم بعدم اعتباره بالدليل ) كما في الظن الحاصل من القياس والاستحسان والرأي وخبر الفاسق وما اشبه ذلك ( فمعناه : أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ) لأنّ الشارع لم يعتبره كما هو المفروض ، بل ( وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه ، فهو المترتّب على تقدير وجوده ) لأنّ وجوده كالعدم على ما عرفت فاذا لم يكن هذا الظن القياسي ماذا كنّا نعمل ؟ فكذلك نعمل اذا كان هذا الظن

ص: 248


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وإن كان ممّا شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه الى نقض اليقين بالشك فتأمّل ، جدّا .

وهذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار .

-------------------

القياسي موجودا ، فالاستصحاب إذن لا يختلف هنا سواء كان الظن القياسي على خلافه ، أم لا ؟ .

( وإن كان ممّا شك في اعتباره ) كالشهرة في الفتوى - مثلاً - ( فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه ) اي : بسبب هذا الظن المشكوك الاعتبار ، كالظن الحاصل من الشهرة على خلاف الاستصحاب السابق ، يكون ( الى نقض اليقين بالشك ) لأنّا لا نعلم هل الشهرة معتبرة ام لا ؟ فاذا نقضنا اليقين السابق بسبب هذه الشهرة ، كان معناه : إنّا نقضنا اليقين بالشك ، وهذا ما نهى الشارع عنه في الأخبار .

( فتأمّل جدّا ) حتى لا يخفى عليك ما ذكرناه : من ان الاستصحاب يجري بلا فرق بين ان يكون الشك متساوي الطرفين ، او راجح احد الطرفين على الآخر ، ومن المشهور عند الأساتيذ انه لو قال المصنِّف : فتأمل جدا ، أو فتأمل جيدا ، وما اشبه ذلك ، لم يكن اشارة الى شيء ، وإنّما هو اشارة الى دقة المطلب وأهميته.

( وهذا كلّه ) أي ما قلناه : من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الشك ، والظن على الخلاف ، او الظن على الوفاق ، هو ( على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار ) وذلك لما عرفت : من اطلاق الشك على الثلاثة .

ص: 249

وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم : أنّه لا يقدح فيه ايضا وجود الأمارة غير المعتبرة ، فيكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعي وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه .

ولذا تمسكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلّي من غير التفات الى وجود الأمارات غير المعتبرة في خصوصيّات الموارد .

واعلم أنّ الشهيد قدس سره في الذكرى بعد ما ذكر مسألة الشك في تقديم

-------------------

( وأمّا على تقدير اعتباره ) اي : اعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ) ظنا نوعيا ( فظاهر كلماتهم : أنّه لا يقدح فيه أيضا وجود الأمارة غير المعتبرة ) من قياس او ما اشبه على خلافه ( فيكون العبرة فيه ) اي : في الاستصحاب ( عندهم بالظنّ النوعي ) لان النوع يظنون من كون الشيء متحققا سابقا باقٍ لاحقا ، وان كان بعض الاشخاص لا يظنون بذلك ، او يظنون بالخلاف ، لبعض القرائن المناسبة ، فان الاستصحاب يجري حتى ( وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه ) اي : خلاف الاستصحاب .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرنا : من انه لا فرق بين ان يكون الظن على الخلاف والوفاق ، فيما اذا كان الاستصحاب معتبرا من باب الظن النوعي نراهم قد ( تمسكوا به ) اي : بالاستصحاب ( في مقامات غير محصورة ) من كثرتها ، وذلك ( على الوجه الكلّي ) فانهم قالوا : الاستصحاب حجة مطلقا ( من غير التفات الى وجود الأمارات غير المعتبرة في خصوصيّات الموارد ) التي كانت تلك الأمارة مخالفة للحالة السابقة .

هذا ( واعلم أنّ الشهيد قدس سره في الذكرى بعد ما ذكر مسألة الشك في تقديم

ص: 250

الحدث على الطهارة ، قال : « تنبيه ، معنى قولنا : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا نعني به : اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ، لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشك في احد النقيضين يرفع يقين الآخر .

بل المعنيّ به أنّ اليقين الذي كان في الزمن الاول لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني ، لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، فيؤول الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ،

-------------------

الحدث على الطهارة ، قال : « تنبيه ، معنى قولنا : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا نعني به : اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ) بأن يكون الانسان المتطهّر صباحا في الزمان الثاني كالظهر - مثلاً - متيقنا ببقاء الطهارة وشاكا في بقائها في آن واحد .

وإنّما قال : لا يغني به هذا المعنى ( لامتناع ذلك ) اي : امتناع اجتماعهما ، فان المتيقِّن ليس بشاك ، والشاك ليس بمتيقِّن ( ضرورة أنّ الشك في احد النقيضين يرفع يقين الآخر ) فاحتمالنا بقاء الطهارة يرفع اليقين بانتفائها ، لوضوح : انا لو تيقّنّا ببقاء الّطهارة كان ، معناه : عدم شكنا في بقاء الطهارة ، وكذلك في سائر الموارد .

( بل المعنيّ به ) اي : بقولنا : اليقين لا يرفعه الشك هو : ( أنّ اليقين الذي كان في الزمن الاول ) كاليقين بالطهارة صباحا ( لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني ) كالشك ظهرا في انه هل بقي على طهارته ام لا ؟ فان اليقين لا يخرج عن حكمه بالظن ( لأصالة بقاء ما كان على ما كان ) وهذا يورث الظن بالبقاء ( فيؤول ) الأمر ( الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ) وهو في مثالنا : الظهر حيث يجتمع فيه حينئذ ظن بانه متطهّر ، وشك بانه هل بطلت طهارته ام لا ؟ واذا اجتمع

ص: 251

فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات وغيرها » ، انتهى .

ومراده من الشك : معناه اللغوي ، وهو : مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان .

فلا يرد ما اُورد عليه : من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك .

-------------------

ظن وشك ( فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات وغيرها » (1) ) حيث ان الظن في العبادة يؤخذ به حسب الأدلة الخاصة .

( انتهى ) كلام الشهيد في الذكرى ( ومراده من الشك : معناه اللغوي ، وهو : مجرّد الاحتمال ) الشامل للوهم ، ففي الزمان الثاني هو يظن ببقاء الطهارة ، ويتوهم عدم البقاء ، لانه دائما اذا كان احد الطرفين راجحا وظنا ، كان الطرف الآخر مرجوحا ووهما ( المنافي ) هذا الوهم ( لليقين ) السابق الذي صار في الآن الثاني ظنا ( فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان ) على ما كان ، لأن الاصل يوجب الظن النوعي والوهم على خلافه .

وعليه : ( فلا يرد ما اُورد عليه : من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك ) فان الشهيد قال : « اليقين لا يجتمع مع الشك لكن الظن يجتمع مع الشك » ، فاورد عليه : أنّه كما لا يجتمع اليقين مع الشك ، كذلك لا يجتمع الظن مع الشك ، وذلك لان الظن معناه : رجحان احد الطرفين ، والشك معناه : تساوي الطرفين ، فلا يجتمعان .

واُجيب : بأنّ مراده من الشك : الوهم .

ومن المعلوم : ان الظن والوهم على طرفي نقيض يجتمعان .

ص: 252


1- - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة : ص98 .

نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه أنّ الشهيد قدس سره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : « اليقين لا يرفَعُهُ الشك » .

ولا ريب أنّ الشك الذي حُكِمَ بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه : الاحتمال الموهوم ، لأنّه إنّما يصيرُ موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد الحاقه بالغالب ، فانّه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة ،

-------------------

( نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه ) الذي وجّهنا به كلام الشهيد قدس سره لرفع التناقض منه : ( أنّ الشهيد قدس سره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ) اي : انه في صدد بيان انه لا يجتمع اليقين والشك ( ولا ريب أنّ الشك الذي حُكِمَ ) به من قبل المشهور : ( بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه : الاحتمال الموهوم ) بل الاعم من الاحتمال الموهوم والمتساوي الطرفين .

وإنّما لم يكن المراد منه الاحتمال الموهوم ( لأنّه ) اي : الاحتمال في اول حدوثه متساوي الطرفين ، و ( إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ) اي : بعد ملاحظة الحالة السابقة وجريان الاستصحاب ، فانه بعد ذلك يصير احد طرفي الاحتمال ظنا والآخر وهما ، فهو إذن ( نظير المشكوك الذي يراد الحاقه بالغالب ، فانّه ) اي : المشكوك متساوي الطرفين ، وإنّما ( يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة ) .

مثلاً : اذا كان غالب المسلمين يعملون صحيحا ، ونادر منهم يعملون فاسدا ، ثم رأينا انسانا لا نعرف انه من الغالب او من غير الغالب ، فيكون الأمر بالنسبة

ص: 253

وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ، كما ذكر المدقّق الخوانساري ، فلا يندفع به توهّمُ اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني وإرادة اليقين السابق ، والشك اللاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشك .

-------------------

الى هذا الانسان في باديء الأمر مشكوكا يعني : متساوي الطرفين ، لكن بعد ملاحظتنا غلبة المسلمين على العمل الصحيح ، يصير صحة عمله لنا مظنونا ، وفساد عمله عندنا موهوما ، واذا كان كذلك ، فيكون مراد المشهور من الشك هو : المتساوي الطرفين ، لا الموهوم ، ومتساوي الطرفين لا يجتمع مع العلم كما انه لا يجتمع مع الظن ايضا ، فيكون اشكال عدم اجتماع الظن مع الشك واردا عليه .

هذا ( وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ) من الشك في كلام الشهيد ( كما ذكر المدقّق الخوانساري ) ذلك ايضا في توجيه كلام الشهيد وذلك دفعا للتناقض ( فلا يندفع به ) اي : بهذا التوجيه التناقض الموجود هنا، وهو : ( توهّمُ اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل ) اي : الوهم ( للثاني و ) هو اليقين ، بينما ( إرادة اليقين السابق ، والشك اللاحق ) منه كافٍ لرفع التناقض فهو كما قال : ( يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشك ) .

إذن : فالتناقض المتوهم في كلام الشهيد ، لا يصح دفعه بحمل الشك على الوهم كما صنعه الخوانساري ، وإنّما يندفع بارادة تعدّد زمان اليقين والشك كما ذكره الشهيد .

ومن المعلوم : انه لو كان زمان اليقين والشك مختلفين ، فلا يبقى معه حاجة الى حمل الشك على الوهم حتى يقال : بأنّ اليقين يراد به الظن ، والشك يراد

ص: 254

وكيف كان : فما ذكره المُورِد من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشك مطلقا - في محلّه .

فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلاّ من حيث الحكم في تلك القضية بعدم الرفع .

ولاريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ، لانّه كذبٌ ، وليس حكما شرعيّا بابقاء نفس اليقين أيضا ، لأنّه غير معقول ،

-------------------

به الوهم وهما يجتمعان .

( وكيف كان : فما ذكره المورد ) في الايراد على الشهيد : ( من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشك مطلقا ) اي : مع الشك الاعم من الموهوم وان اجتمع مع الشك الموهوم ( في محلّه ) وذلك لأنّ الشك يعني : تساوي الطرفين وكل من اليقين والظن رجحان احد الطرفين ، ومن المعلوم : انه لا يعقل اجتماع تساوي الطرفين مع رجحان احد الطرفين في مكان واحد .

إذن : ( فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ) لا لوهم تناقضا في الكلام كي يكون بحاجة الى توجيه ، وذلك لانه ( لا دلالة فيه على اجتماعهما ) اي : اليقين والشك ( في زمان واحد ، إلاّ من حيث الحكم في تلك القضية بعدم الرفع ) اي : الحكم ببقاء الآثار لليقين السابق حتى بعد الشك .

هذا ( ولاريب أنّ هذا ) الكلام وهو قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ( ليس إخبارا عن الواقع ، لانّه كذبٌ ) اذ من المعلوم : ان الانسان اذا شك في شيء ارتفع يقينه عن ذهنه بلا اختيار ارتفاعا تكوينيا ( وليس حكما شرعيّا بابقاء نفس اليقين أيضا، لأنّه ) اي : أمر الشارع بابقاء نفس اليقين في حال شكه ( غير معقول ) أيضا،

ص: 255

وإنّما هو حكم شرعي ، لعدم رفع آثار اليقين السابق بالشك اللاحق ، سواء كان احتمالاً متساويا أو مرجوحا .

-------------------

لانه ليس بيد الشارع رفعه او وضعه ( وإنّما هو حكم شرعي لعدم رفع آثار اليقين السابق ) كجواز الدخول في الصلاة فيما اذا كان سابقا متطهرا ( بالشك اللاحق ) في انه هل بقي على طهارته ام لا ؟ ( سواء كان ) الشك اللاحق ( احتمالاً متساويا او مرجوحا ) أو راجحا .

* * *

ص: 256

خاتمة

ذكر بعضُهم للعمل بالاستصحاب شروطا : كبقاء الموضوع وعدم المعارض ووجوب الفحص .

والتحقيق رجوع الكلّ الى شروط جريان الاستصحاب .

وتوضيح ذلك أنّك قد عرفت : أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شك في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع الشك في بقاء القضية المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق ، والشك على هذا الوجه لا يتحقق إلاّ بأمور .

الأوّل :

بقاء الموضوع في الزمان اللاحق ،

-------------------

( خاتمة : ذكر بعضُهم للعمل بالاستصحاب شروطا : كبقاء الموضوع ) ولو عرفا ( وعدم المعارض ) أي : عدم معارضة استصحاب لاستصحاب آخر ( ووجوب الفحص ) عن الدليل ، فانه اذا كان هناك دليل لم يكن استصحاب .

هذا ( والتحقيق رجوع الكلّ ) أي : كل هذه الشروط ( الى شروط جريان الاستصحاب ) وتحقق مفهومه ، لا الى شروط تحقق حجية الاستصحاب وصحة العمل به ( وتوضيح ذلك ) على ما يلي :

( أنّك قد عرفت : أنّ الاستصحاب عبارة عن ابقاء ما شك في بقائه ، وهذا ) المفهوم ( لا يتحقق إلاّ مع الشك في بقاء القضية المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق ، و ) ذلك بأن يكون موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة واحدا .

ومن المعلوم : ان ( الشك على هذا الوجه لا يتحقق إلاّ بأمور ) تالية :

( الأوّل : بقاء الموضوع ) بجميع قيوده وأجزائه وشرائطه ( في الزمان اللاحق )

ص: 257

والمراد به معروض المستصحب ، فاذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده ، فلابدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا .

-------------------

على ما كان عليه في الزمان السابق ، فاذا أردنا - مثلاً - ان نستصحب وجوب اكرام زيد العالم ، فلابد من احراز وجود زيد وعلمه في الآن الثاني ، وإنّما الشك في الآن الثاني يكون في انه هل يكرم او لا يكرم ؟ فاللازم حينئذ ان يكون زيد العالم موجودا حتى نستصحب وجوب اكرامه .

( والمراد به ) أي : بالموضوع ( معروض المستصحب ) والمستصحب في مثالنا هو : وجوب الاكرام ، ومعروضه هو : زيد العالم ، والمعروض هو : القابل لأنْ يحكم عليه بالمستصحب يعني : بوجوب الاكرام ، وبخلاف المستصحب يعني : بعدم وجوب الاكرام وذلك كما في مثال : وجوب إكرام زيد العالم ، وهذا مثال كون المعروض على نحو مفاد كان الناقصة بان كان موجودا في الخارج ثم حكم باكرامه ، واذا كان المعروض على نحو مفاد كان التامة بان يكون صرف المهية كزيد في مثال : كان زيد موجودا ، فان المعروض هو زيد الذهني القابل لان يحكم عليه ، فالمعروض إذن في كلا الصورتين يلزم بقاؤه لاحقا على ما كان عليه سابقا من الخارجية أو الذهنية .

وعليه : ( فاذا اريد استصحاب قيام زيد ) وهو مفاد كان الناقصة ( أو وجوده ) وهو مفاد كان التامة ( فلابدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ) من الخارجية والذهنية ، كما قال : ( سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا ) فيما اذا اردنا استصحاب وجود زيد ( أو بوجوده خارجا )

ص: 258

فزيدٌ معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي و للوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا وجوده الخارجي .

وبهذا اندفع ما استشكله بعضٌ في أمر كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ،

-------------------

فيما اذا اردنا استصحاب قيامه او وجوب اكرامه .

إذن : ( فزيدٌ معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي و ) هو معروض ( للوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا ) بوصف ( وجوده الخارجي ) وذلك لان زيدا الموجود في الذهن هو الذي يمكن ان يوجد في الخارج او لا يوجد ، وامّا زيد الموجود في الخارج ، فلا معنى لوجوده ثانيا .

والحاصل : إنّا اذا اردنا استصحاب وجود زيد فنقول : زيد الذهني الذي كان موجودا في الآن الاول وشككنا في وجوده في الآن الثاني مع احتمال وجوده وعدم وجوده نستصحب وجوده ، وإنّما قلنا : زيد الذهني ، لانه هو القابل لان يحكم عليه بالوجود الخارجي وبالعدم الخارجي ، وامّا اذا اردنا استصحاب وجوب اكرامه فنقول : زيد الموجود في الخارج الذي كان واجب الاكرام في الآن الاول وشككنا في وجوب اكرامه في الآن الثاني مع احتمال انه يجب اكرامه او لا يجب ، نستصحب وجوب اكرامه .

وبعبارة اخرى : إنّا اذا اردنا استصحاب الموضوع يلزم ان يكون له وجود ذهني ، واذا اردنا استصحاب الحكم يلزم ان يكون للموضوع وجود خارجي .

( وبهذا ) التفسير المتقدّم للموضوع ( اندفع ما استشكله بعضٌ في أمر كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ) حيث قال : ان هذه الكلية غير صحيحة ،

ص: 259

بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشك في بقائها زعما منه : أنّ المراد ببقائه وجوده الخارجي الثانوي ، وغفلةً عن أنّ المراد : وجوده الثانوي على نحو وجوده الأوّلي الصالح ، لأن يُحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ،

-------------------

وذلك ( بانتقاضها ) اي : بسبب انتقاض هذه الكلية ( باستصحاب وجود الموجودات عند الشك في بقائها ) فانه اذا شككنا - مثلاً - في بقاء زيد وعدم بقائه لا معنى لاستصحابه على قول هذا الزاعم ، وذلك ( زعما منه : أنّ المراد ببقائه ) اي : ببقاء الموضوع هو : ( وجوده الخارجي الثانوي ) الواقع في الزمان الثاني ، يعني : في زمان الشك .

والحاصل : ان المستشكل توهّم ان المراد من احراز الموضوع الذي ذكره الفقهاء شرطا لجريان الاستصحاب هو : احراز بقاء الموضوع الخارجي ، ولذلك قال : هذا إنّما يتم في مثل استصحاب قيام زيد ، وذلك لأنه يمكن ان يكون زيد الموجود في الزمان الثاني قائما او غير قائم فيجري الاستصحاب عند الشك فيه ، وبينما لا يتم هذا في مثل استصحاب وجود زيد وذلك لانه لا يمكن ان يكون زيد الموجود في الزمان الثاني موجودا بوجود ثان ، فانه مع احراز بقائه لا يبقى مجال للشك في وجوده حتى يجري الاستصحاب ، ومع احراز عدم بقائه فهو مقطوع العدم ، فلا معنى إذن للاستصحاب فيه .

وعليه : فتوهّم المستشكل بأنّ المراد من بقاء الموضوع هو وجوده الخارجي في كل صورة ، أوقعه في هذا الاشكال ( و ) ذلك ( غفلةً عن أنّ المراد : وجوده الثانوي على نحو وجوده الأوّلي الصالح لأن يُحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ) فزيد الموجود خارجا صالح لان يحكم عليه بالقيام وبعدم القيام : كما ان زيدا

ص: 260

وإلاّ لم يجز أن يُحمل عليه المستصحب في الزمان السابق .

-------------------

الموجود ذهنا صالح لأن يحكم عليه بالوجود خارجا وبعدمه .

إذن : فليس المراد من بقاء الموضوع في الزمان الثاني يعني : في زمان الشك الذي عبّر عنه المصنّف بقوله : الثانوي ، هو : وجوده الخارجي في كل صورة ، بل هو وجوده بنحو الوجود الاول يعني بنحو وجوده في زمان اليقين ، فان كان ذهنيا فذهني ، وان كان خارجيا فخارجي .

( وإلاّ ) بأن لم يكن المراد من بقاء الموضوع وجوده على نحو الوجود الاول الصالح للحكم عليه بالوجود وبالعدم ، كصلاحه لوجوب الاكرام وعدم وجوب الاكرام في استصحاب الحكم ، وصلاحه للوجود الخارجي وعدم الوجود الخارجي في استصحاب الموضوع ( لم يجز أن يُحمل عليه ) اي : على الموضوع ( المستصحب في الزمان السابق ) الاوّلي ايضا ، وذلك لانه تحصيل للحاصل .

وإنّما يكون من تحصيل الحاصل ولا يجوز ، لانه اذا كان الموضوع مع لحاظ تحققه في الخارج نريد ان نحمل عليه الوجود فهو تحصيل للحاصل ، وان كان مع لحاظ عدم تحققه في الخارج نريد ان نحمل عليه الوجود فهو محال ، فلابد إذن من ملاحظة الموضوع على وجه قابل لان نحمل عليه الوجود او العدم ، وهو : الموضوع بما هو هو .

مثلاً اذا قلنا : زيد يجب اكرامه ، فلابد من لحاظ زيد على وجه قابل لوجوب الاكرام وعدم الوجوب ، حتى نحمل عليه الوجوب - مثلاً - والاّ فزيد الواجب اكرامه لا يحمل عليه الوجوب لانه تحصيل للحاصل ، ولا عدم الوجوب لأنّه تناقض ومحال ، وكذا اذا قلنا : زيد موجود فيما اذا اردنا استصحابه لوجوب النفقة على زوجته ، فلابد ان نلاحظ زيدا على وجه قابل للوجود والعدم حتى نحمل

ص: 261

فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو : زيدٌ القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارةً ، وبالموت أخرى .

وهذا المعنى لا شك في تحقّقه عند الشك في بقاء حياته .

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضحٌ ، لأنّه لو لم يعلم

-------------------

عليه الوجود - مثلاً - والاّ فزيد الموجود لا يحمل عليه الوجود لانه تحصيل للحاصل ، ولا العدم لانه تناقض ومحال ، فالموضوع إذن في كلتا القضيتين : المتيقنة والمشكوكة يلاحظ بما هو هو القابل للوجوب وعدم الوجوب خارجا فنستصحب وجوبه في الاستصحاب الحكمي ، و القابل للوجود وعدم الوجود خارجا فنستصحب وجوده في الاستصحاب الموضوعي .

وعليه : ( فالموضوع في استصحاب حياة زيد ) او وجوب اكرامه ( هو : زيدٌ ) بما هو هو ، اي : ( القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارةً ، وبالموت أخرى ) وبوجوب الاكرام مرة وبعدم الوجوب اخرى ( وهذا المعنى ) الذي فسرنا به الموضوع في القضية المتيقنة ( لا شك في تحقّقه عند الشك في بقاء حياته ) اي : في القضية المشكوكة ايضا ، فيجري الاستصحاب من دون ورود اشكال المستشكل عليه.

( ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط ) اي : بقاء الموضوع وتحققه ( في جريان الاستصحاب واضحٌ ) وذلك لان نقض اليقين بالشك المنهي عنه في الاخبار ، لا يصدق الاّ مع اتحاد القضية المشكوكة والقضية المتيقنة ، وإنّما الفارق بين القضيتين : ان في الاولى : اليقين موجود وفي الثانية : الشك .

هذا بالاضافة الى ما ذكره المصنّف من وجه هذا الشرط بقوله : ( لأنّه لو لم يعلم

ص: 262

تحقّقه لاحقا ، فاذا أريد ابقاء المستصحب العارض له المتقوّم به ، فامّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع وهو محال ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق .

ومن المعلوم : أنّ هذا ليس إبقاءا لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ،

-------------------

تحقّقه ) اي : تحقق الموضوع كزيد في مثال : اكرم زيدا ( لاحقا ) اي : عند ارادة الاستصحاب زمان الشك ( فاذا أريد ابقاء المستصحب ) كوجوب الاكرام في مثال : اكرم زيدا ، وذلك فيما اذا كان زيد متيقنا سابقا وجوب اكرامه وشك فيه لاحقا ، فالمستصحب هنا : وجوب الاكرام ( العارض له ) اي : للموضوع وهو زيد في المثال ( المتقوّم ) ذلك الوجوب ( به ) اي : بالموضوع ، فاذا كان الموضوع حسب الفرض مشكوك البقاء فكيف يتقوّم وجوب الاكرام به ؟ فابقاء وجوب الاكرام حينئذ يبتلى باحد امرين كلاهما محال ، وهما كالتالي :

الأوّل : ( فامّا أن يبقى ) وجوب الاكرام ( في غير محلّ وموضوع ) كان الموضوع مشكوك بقاؤه بحسب الفرض ( وهو محال ) لوضوح : ان وجوب الاكرام باعتبار كونه عرضا ، مستحيل ان يوجد بلا محل ولا في موضوع ، فهل يمكن ان يكون هناك وجوب اكرام في الفراغ من دون ان يكون له موضوع ؟ .

الثاني : ( وإمّا أن يبقى ) وجوب الاكرام ( في موضوع غير الموضوع السابق ) كما اذا استصحبنا وجوب اكرام زيد لاثبات وجوب اكرام عمرو ( ومن المعلوم : أنّ هذا ) اي : استصحاب وجوب اكرام زيد لاثبات وجوب اكرام عمرو ( ليس إبقاءا لنفس ذلك العارض ) الذي كان هو وجوب الاكرام ( وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله ) اي : مثل وجوب الاكرام الاول ( في موضوع جديد ) اي :

ص: 263

فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده .

وبعبارة أخرى : بقاء المستصحب لا في موضوع محالٌ ، وكذا في موضوع آخر ؛ إمّا لاستحالة انتقال العَرَض ، وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا وجوده

-------------------

في عمرو ( فيخرج عن الاستصحاب ) لان الاستصحاب هو ابقاء ما كان على ما كان ، وهذا ليس ابقاء ما كان على ما كان ، وإنّما هو اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر .

( بل حدوثه للموضوع الجديد ) اي : حدوث وجوب الاكرام لعمرو ( كان مسبوقا بالعدم ) لان عمروا بحسب الفرض لم يكن واجب الاكرام سابقا ( فهو ) اي : عدم وجوب الاكرام حينئذ يجب ان يكون هو ( المستصحب دون وجوده ) اي : يلزم ان نستصحب عدم وجوب الاكرام ، لا وجوب الاكرام ، لان عمروا لم يجب اكرامه سابقا .

( وبعبارة أخرى : بقاء المستصحب ) وهو : وجوب الاكرام في المثال ( لا في موضوع ) يعني : في الفراغ ( محالٌ ) لما عرفت : من ان العَرَض يحتاج الى موضوع ومحل .

( وكذا في موضوع آخر ) يكون محالاً ايضا وذلك كما يلي :

( إمّا لاستحالة انتقال العَرَض ) فان نفس انتقال وجوب الاكرام من زيد الى عمرو غير ممكن - كما قال الحكماء والمتكلمون - وذلك لانه يلزم ان يبقى وجوب الاكرام في آن انتقاله من زيد الى عمرو في الفراغ بلا موضوع ومحل وهو مستحيل عقلاً .

( وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا ) هو ( وجوده ) اي : وجود العَرَض الذي هو وجوب

ص: 264

في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق .

وممّا ذكرنا يُعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ، إذ لابدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاءا والحكم بعدمه نقضا .

فان قلت : اذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز احرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب .

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه

-------------------

الاكرام ( في الموضوع السابق ) الذي هو زيد ( و ) معه يكون ( الحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ) اي : الحكم بعدم وجوب الاكرام لعمرو ( ليس نقضا للمتيقن السابق ) المنهيّ عنه شرعا .

( وممّا ذكرنا ) في صحة الاستصحاب : من اشتراط احراز الموضوع في الزمان الثاني ( يُعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ) علما يقينيا ( ولا يكفي احتمال البقاء ) في جريان الاستصحاب ( اذ لابدّ ) في صحّة الاستصحاب وتحقق مفهومه ( من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب ، ابقاءا ) لما كان على ما كان ( والحكم بعدمه ، نقضا ) لما كان ، ومن المعلوم : ان هذا لا يتحقق الاّ بان نعلم سابقا بالموضوع ونعلم لاحقا ببقائه .

( فانّ قلت : اذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز احرازه ) اي : احراز الموضوع المحتمل بقاؤه ( في الزمان اللاحق بالاستصحاب ) فنستصحب الموضوع ونثبت له المحمول والحكم .

( قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه ) اي : استصحاب الموضوع

ص: 265

في بعض الصور ، إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه .

بيان ذلك : أنّ الشك في بقاء الحكم الذي يراد استصحابُه ، إمّا أن يكون مسبّبا من سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ، مثل : أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته ،

-------------------

الذي احتملنا بقاءه ، او رفعه ( في بعض الصور ) مثل ما اذا كان الشك في الحكم مسبّبا عن الشك في الموضوع من جهة الشبهة الموضوعية ، فانه يجوز فيه استصحاب الموضوع واثبات الحكم له ، وذلك كما اذا كان هذا المايع سابقا خمرا ثم طرأ عليه ما شككنا في انه هل زالت خمريته حتى يزول التحريم المستند الى الخمرية أم لا ؟ فان هذا الشك في الحرمة مستند الى الشك في الخمرية ، والشك في الخمرية يوجب استصحاب خمريته السابقة فيثبت لها التحريم ( إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه ) لأنّا اذا استصحبنا الموضوع كفانا عن استصحاب الحكم ، وذلك لما ذكروه : من انه اذا جرى الاستصحاب في السببي لا يجري في المسبّبي ، لانه مع جريان الاستصحاب في السببي يثبت الموضوع ، فيترتب عليه الحكم بلا استصحاب .

( بيان ذلك : أنّ الشك في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه ) فيما اذا كان الشك في بقاء الموضوع أيضا ، يكون على ثلاث صور :

الصورة الاولى : ( إمّا أن يكون مسبّبا من سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ) أي : بأن كان الحكم والموضوع كلاهما مشكوكا ، الاّ ان الشك في الحكم يكون مسبّبا عن احتمال عروض شيء يضادّ الحكم ، ولم يكن مسبّبا عن احتمال انتفاء الموضوع ( مثل : أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته ) فان الشك في عدالة مجتهده يكون مسبّبا عن احتمال عروض

ص: 266

وإمّا أن يكون مسبّبا عنه .

فان كان الأوّل ، فلا اشكال في استصحاب الموضوع عند الشك ، لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلاً لا يحتاج الى ابقاء حياة زيد ، لأنّ موضوع العدالة زيدٌ على تقدير الحياة ، إذ لا شك فيها إلاّ على فرض الحياة ،

-------------------

موجب لفسقه ، وليس مسببا عن احتمال موته ، ولذلك قد يكون قاطعا بحياته ، ومع ذلك يشك في عدالته لاحتمال تبدلها الى الفسق .

الصورة الثانية : ( وإمّا أن يكون ) الشك في بقاء الحكم ( مسبّبا عنه ) اي : عن الشك في بقاء الموضوع ، وذلك على ما تقدّم من مثال الشك في بقاء حرمة مايع ، للشك في بقاء خمريته ، وهذه الصورة مقسم لصورتين هما : الثانية والثالثة من صور الشك في بقاء الموضوع على ما يأتي قريبا انشاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فان كان الأوّل ) : وهو مثال الاجتهاد والعدالة ( فلا اشكال في استصحاب الموضوع عند الشك ) فانا نستصحب حياة المجتهد لترتيب الآثار الشرعية المتوقفة على حياته ، لكن هذا الاستصحاب لا يؤثر في عدالته لا مكان ان يكون المجتهد حيا لكن تبدلت عدالته الى الفسق ، وذلك لان الاستصحابين هنا غير مرتبط احدهما بالآخر ، لوضوح ان كل واحد من العدالة والحياة مشكوك بشك مستقل ، من غير ان يكون الشك في بقائه او ارتفاعه مربوطا بالشك في بقاء وارتفاع الآخر .

وكذا قال المصنّف : ( لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلاً لا يحتاج الى ابقاء حياة زيد ) فيما اذا اردنا استصحاب العدالة التقديرية ( لأنّ موضوع العدالة ) حينئذ هو ( زيدٌ على تقدير الحياة ) وذلك بمعنى الملازمة بينهما ( إذ لا شك فيها ) اي : في العدالة ( إلاّ على فرض الحياة ) فان زيدا لو كان حيا ، شك في انه

ص: 267

فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة .

وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة ، حياة زيد ، وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة .

وعلى الثاني ، فالموضوع إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع

-------------------

هل هو عادل او ليس بعادل ؟ ( فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة ) وهذا هو معنى استصحاب العدالة التقديرية حيث انه يكفي فيها الحياة التقديرية لزيد ، فيجري فيها الاستصحاب على تقدير الحياة ، وان لم يكن الآن زيد حيا ولا فعلية لحياته .

نعم ، ان اعتبرت العدالة الفعلية ، وذلك للصلاة خلفه ، او لقبول شهادته ، أو ما اشبه ذلك ، احتاج الى الحياة الفعلية ايضا ، بينما العدالة التقديرية يكفي فيها الحياة التقديرية .

( وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة ) الأوّل : ( حياة زيد ، و ) الثاني : ( عدالته على تقدير الحياة ) فانه قد يشك في ان زيدا هل بقي حيا او ليس بحي ؟ وقد يشك في انه بعد كونه حيا هل هو عادل او ليس بعادل ؟ ( ولا يعتبر في الثاني ) اي : الشك في عدالته ( إثبات الحياة ) لما عرفت : من ان الشك إنّما هو في العدالة التقديرية ، لا العدالة الفعلية .

( وعلى الثاني ) وهي : الصورة الثانية التي اشار اليها المصنّف قبل قليل بقوله : «واما ان يكون مسببا عنه» يعني : بان يكون من قبيل الشك السببي والمسببي فهذه الصورة مقسم لصورتين كا قال : ( فالموضوع ) فيها إذن على قسمين :

الأوّل : ( إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما اذا علم أنّ الموضوع

ص: 268

لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّرية هو الماء بوصف الكرّية والاطلاق ، ثم شك في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكرّية الماء الثاني أو اطلاقه ، وإمّا أن يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما اذا لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو : الماء الذي حدث فيه التغيّر آنا مّا أو الماء المتلبّس فعلاً بالتغيّر .

وكما اذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب

-------------------

لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّرية هو الماء بوصف الكرّية والاطلاق ، ثم شك ) بشبهة موضوعية ( في بقاء تغيّر الماء الأوّل ) وهو يوجب الشك في بقاء النجاسة ( وكرّية الماء الثاني أو اطلاقه ) وهو يوجب الشك في المطهّرية ، فان كل واحد منهما من قبيل السببي والمسببّي ، ومن المعلوم : انه مادام يجري الاستصحاب في السبب ، لا يجري في المسبّب .

الثاني : ( وإمّا أن يكون ) الموضوع ( غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما اذا ) شك بشبهة حكمية اي : بان ( لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو : الماء الذي حدث فيه التغيّر آنا مّا ) حتى يكون التغيّر علة محدثة ، فاذا زال التغيّر لا تزول النجاسة ( أو ) ان الموضوع هو : ( الماء المتلبّس فعلاً بالتغيّر ) حتى يكون التغيّر علة محدثة ومبقية ، فاذا زال التغيّر زالت النجاسة .

( وكما اذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب ) حتى تكون الصورة النوعية قيدا للموضوع فتنتفي النجاسة بانتفاء الصورة النوعية ، والمراد بالصورة النوعية : ليست هي الخصوصية الكلبية الخارجية بل حتى وان

ص: 269

أو المشترك بين الكلب ، وبين ما يستحال اليه من الملح أو غيره .

وأمّا الأوّل : فلا إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية أنّ استصحاب الموضوع حقيقته : ترتيب الأحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا .

-------------------

ذهبت هذه الصورة وصارت قطعة من اللحم المتعفّن ( أو ) ان النجاسة محمولة على الجسم المادي ( المشترك بين الكلب ، وبين ما يستحال اليه من الملح ) اذا وقع في المملحة وصار ملحا ( أو غيره ) بان استحال ترابا - مثلاً - فتكون الصور النوعية علّة محدثة غير محتاج اليها في بقاء النجاسة .

وكذا يكون الكلام فيما لو اتخذ الصابون من العذرة على ما هو المتعارف الآن ، حيث قال بعض المعاصرين بطهارته ، لان الشارع قال : العذرة نجسة ، وهذه ليست بعذرة ، فيشمله « كل شيء لك طاهر » ، وقال بعضهم : بالنجاسة لعدم خصوصية الصورة النوعية .

( وأمّا الأوّل ) : وهو ما ذكره المصنّف بقوله : «فالموضوع اما ان يكون معلوما معيّنا شك في بقائه ...» ( فلا إشكال في استصحاب الموضوع ) لتمامية اركان الاستصحاب فيه ( وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية ) كحياة زيد فيما اذا اشتهر موته وأرادت زوجته الزواج بآخر ، أو اُريد تقسيم ماله فاستصحبنا حياته ( أنّ استصحاب الموضوع حقيقته : ترتيب الأحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ) فمعنى استصحاب حياته : انه لا يجوز لزوجته الزواج ، ولا لماله التقسيم بين الورثة ، كا يجب اعطاء نفقة زوجته، وهكذا .

ص: 270

فحقيقةُ استصحاب التغيّر والكرّية والاطلاق في الماء : ترتيبُ أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل والمطهّرية في الأخيرين .

فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب اجراء الاحكام ، فلا مجال لاستصحاب الاحكام حينئذ ، لا رتفاع الشك .

بل لو اُريد استصحابها لم يجر،

-------------------

وعليه : ( فحقيقةُ استصحاب التغيّر والكرّية والاطلاق في الماء : ترتيبُ أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل ) اي : في استصحاب التغيّر ( والمطهّرية في الأخيرين ) اي : في استصحاب الكرية واستصحاب الاطلاق ، وهذه الامثلة الثلاثة من امثلة استصحاب الموضوع ، وبمجرّد ثبوت الموضوع بالاستصحاب يترتّب عليه الحكم ، بلا حاجة الى استصحاب الحكم .

والى هذا المعنى اشار المصنّف بقوله : ( فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب اجراء الاحكام ) وذلك لما تقدّم : من ان وجه استصحاب الموضوع الذي جعله الشارع هو : ترتيب الاحكام ، ومعه ( فلا مجال لاستصحاب الاحكام حينئذ ) لوضوح : انه تحصيل للحاصل ، فبعد ان قال الشارع هذا كرّ بحكم استصحاب الموضوع ، او زيد حتى بحكم استصحاب الموضوع ، لا معنى لان نستصحب الحكم ( لا رتفاع الشك ) في الحكم بسبب استصحاب الموضوع .

( بل لو اُريد استصحابها ) اي : استصحاب الاحكام في الامثلة الثلاثة وما شابهها ( لم يجر ) وهذا جواب ثانٍ من الشيخ وهو : ان كل ما ثبت للموضوع المتيقن سابقا يثبت للموضوع المنزّل لاحقا ، والذي ثبت اولاً للماء المتغير هو النجاسة ، لا صحة استصحاب النجاسة ، فلا يجري صحة استصحاب النجاسة في الموضوع المنزّل لاحقا .

ص: 271

لأنّ صحة استصحاب النجاسة - مثلاً - ليس من أحكام التغيّر الواقعي ليثبت باستصحابه ، لأنّ أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعية ، لا استصحابها ، إذ مع فرض التغيّر لا شك في النجاسة .

مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل باشتراط بقائه فيه ،

-------------------

وإنّما لا يجري ( لأنّ صحة استصحاب النجاسة - مثلاً - ليس من أحكام التغيّر الواقعي ليثبت باستصحابه ) اي : باستصحاب التغيّر ، فانه قبل استصحاب الموضوع لا تحرز النجاسة ، وبعد استصحاب الموضوع لم يصح استصحاب النجاسة ، لان النجاسة السابقة على استصحاب التغيّر إنّما هي من احكام التغيّر الواقعي فتثبت بالتنزيل للتغيّر التنزيلي ، بينما صحة استصحاب النجاسة ليست من احكام التغيّر الواقعي حتى تثبت بالتنزيل للتغيّر التنزيلي ، فالثابت إذن في التغيّر المنزّل منزلة التغيّر الواقعي هي : النجاسة المنزّلة منزلة النجاسة الواقعية لااستصحاب النجاسة .

والحاصل :إنّا لو استصحبنا التغيّر لم يكن من آثاره استصحاب النجاسة حتى يصح استصحابها ، وذلك ( لأنّ أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعية ، لا استصحابها ) اي : لا استصحاب النجاسة ( إذ مع فرض التغيّر ) واثباته بالاستصحاب يترتّب عليه حكم النجاسة ، ومعه ( لا شك في النجاسة ) حتى يجري فيها الاستصحاب ، فلا يجري إذن فيما نحن فيه استصحاب النجاسة .

( مع أنّ قضيّة ) اي : مقتضى ( ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب ) إنّما هو : ( حكم العقل باشتراط بقائه فيه ) اي : بقاء الموضوع في صحة الاستصحاب ، وهذا جواب ثالث من الشيخ وهو : ان الحاكم باشتراط

ص: 272

فالتغيير الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل .

فهذا الحكم ، أعني : ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ، ليس أمرا جعليّا حتى يترتّب على وجوده الاستصحابي ، فتأمّل .

-------------------

بقاء الموضوع في صحة الاستصحاب هو العقل ، لما عرفت : من امتناع انتقال العَرَض من موضوع الى موضوع ، أو بقاء العَرَض في الفراغ .

وعليه : ( فالتغيير الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل ) اي : ان العقل هو الذي يحكم بصحة الاستصحاب وجوازه عندما يرى توفّر شروط الاستصحاب وتمامية اركانه ، فاذا علمنا ببقاء التغيّر وشككنا في بقاء النجاسة يحكم العقل بصحة الاستصحاب ، فالعقل يرى وجود الشرط العقلي في الاستصحاب وان كان الحاكم بالاستصحاب من حيث انه ابقاء ما كان هو الشرع ، فجزء منه عقلي ، وجزء منه شرعي .

إذن : ( فهذا الحكم ، أعني : ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ) هو امر عقلي لوضوح : ان ترتّب المشروط على الشرط قهري ، فترتب الاستصحاب هنا وتحقق مفهومه إذن ( ليس أمرا جعليّا حتى يترتّب على وجوده ) اي : وجود الموضوع ( الاستصحابي ) وهذا هو ما ذكرناه سابقا : من ان المترتب على الاستصحاب هو الآثار الشرعية المجعولة من الشارع ، لا الآثار العقلية ، على العلم بوجود التغيّر الواقعي حكم عقلي ، فلا يترتب على وجود التغيّر الاستصحابي الجعلي الاّ اذا قلنا بالاصل المثبت ، وذلك بأن نستصحب التغيّر فيترتب عليه الأثر العقلي وهو : صحة الاستصحاب ، ثم يترتب عليه الأثر الشرعي وهو : استصحاب النجاسة وقد عرفت سابقا : ان الاستصحاب اذا كان مثبتا لم يكن حجة .

( فتأمّل ) لعله اشارة الى حجية هذا الاستصحاب هنا وذلك لخفاء الواسطة

ص: 273

وعلى الثاني : فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم .

أمّا الأوّل : فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة إلاّ بناءا على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة الكرّية المشكوك بقاؤه على الكرّية .

-------------------

المذكورة فيه ، وقد ذكرنا سابقا : انه مع خفاء الواسطة يصح الاستصحاب لرؤية العرف ترتيب الأثر على الاستصحاب بدون ملاحظة ان هناك واسطة بين الاثر وبين المستصحب .

هذا هو تمام الكلام على الاول .

( وعلى الثاني ) وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وامّا ان يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع » وذلك فيما اذا كان الشك في الحكم مسبّبا عن تردّد الموضوع بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو معلوم البقاء ( فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم ) فيه ، وذلك لما يلي :

( أمّا الأوّل ) اي : استصحاب الموضوع ( ف ) لانه مثبت وذلك ( لأنّ أصالة بقاء ) كلي ( الموضوع ) المردّد بين الأمر المعلوم البقاء أو الارتفاع ( لا يثبت كون هذا الأمر الباقي ) وهو الماء المتغيّر الذي زال تغيّره - مثلاً - ( متصفا بالموضوعيّة ) وانه هو الفرد المعلوم البقاء المحكوم بالنجاسة ( إلاّ بناءا على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة الكرّية ) هذا الماء ( المشكوك بقاؤه على الكرّية ) فاذا قلنا - مثلاً - : هذا الماء كان كرا ، والاصل بقاؤه على كرّيته ، فلازمه العقلي هو إذن كرّ ، وكذلك اذا قلنا فيما نحن فيه : هذا الماء كان موضوعا للنجاسة، والاصل بقاؤه على موضوعيته ، فلازمه العقلي هو إذن موضوع ، وهذا اصل مثبت كما سبق .

ص: 274

وعلى هذا القول ، فحكمُ هذا القسم حكمُ القسم الأوّل .

وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا ، فهو في معنى استصحاب الحكم ، لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ، ملازمٌ لانشاء الحكم من الشارع باستصحابه .

-------------------

( وعلى هذا القول ) وهو حجية الأصل المثبت ( فحكم هذا القسم ) الثاني هو ( حكمُ القسم الأوّل ) الذي كان فيه الاستصحاب سببيا ومسبّبيا ، فانه نستصحب الموضوع الذي هو سبب فيترتب عليه الحكم بلا حاجة الى استصحابه ، وذلك لأن الحكم يترتب بنفسه على الموضوع المستصحب من غير احتياج الى استصحاب حينئذ .

( و ) إن قلت : لا نقصد باصالة بقاء الموضوع كلي الموضوع المردّد حتى يكون مثبتا ، وإنّما نقصد به بقاء الموضوع بوصف انه موضوع ، فيترتب عليه الحكم ولا يكون مثبتا .

قلت : ( أمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا ) للتخلص بذلك من محذور الأصل المثبت ( فهو في معنى استصحاب الحكم ) اي : انا لو قلنا : بأن هذا كان موضوعا وهو باق على موضوعيته ، فهو وان لم يكن مثبتا الاّ انه ليس من استصحاب الموضوع في شيء ، بل هو استصحاب نفس الحكم فكأنه قيل : هذا كان نجسا فهو نجس .

وإنّما هو في معنى استصحاب الحكم ( لأنّ صفة الموضوعية ) التي نريد اثباتها بالاستصحاب ( للموضوع ، ملازم لانشاء الحكم من الشارع باستصحابه ) اي : باستصحاب الموضوع الثابت له وصف الموضوعية ، فيرجع استصحاب موضوعيته الى استصحاب نجاسته وذلك لما عرفت : من ان ثبوت الموضوع

ص: 275

وأمّا استصحاب الحكم ، فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ، وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ، ليس قياما بنفس ما قام به أولاً حتى يكون اثباته إبقاءا ونفيه نقضا .

اذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه كثيرا مّا يقع الشك في الحكم من جهة الشك في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته ،

-------------------

بهذا الوصف مستلزم الانشاء الحكم من الشارع .

هذا كله في استصحاب الموضوع وقد عرفت : عدم صحته .

( وأمّا استصحاب الحكم ف ) هو غير صحيح ايضا ( لأنّه ) اي : الحكم ( كان ثابتا لأمر ) اي : لموضوع ( لا يعلم بقاؤه ) اي : بقاء ذلك الموضوع في الزمان الثاني ، اذ لا نعلم ان موضوع النجاسة - مثلاً - هل هو نفس الماء والتغيّر علة محدثة لها حتى يبقى الموضوع بعد زوال التغيّر ، أو هو الماء المتغيّر حتى يزول الموضوع بزواله ؟ ( و ) اذا كان كذلك ، فالحكم لا يستصحب ، اذ ( بقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ، ليس قياما بنفس ما قام به أولاً ) اي : ان النجاسة في المثال كانت قائمة بالماء المتغيّر ، لا بهذا الماء ، فالمتيقن هو كون النجاسة للماء بواسطة التغيّر، فاذا زال التغيّر لا نعلم بأن الموضوع باق ( حتى يكون اثباته إبقاءا ونفيه نقضا ) فلا تتم أركان الاستصحاب .

( اذا عرفت ما ذكرنا ) : من اعتبار بقاء الموضوع ( فاعلم أنّه كثيرا ما يقع الشك في الحكم ) بان نشك في ان الحكم باق او ليس بباق ، وذلك ( من جهة الشك في أنّ موضوعه ومحلّه ) اي : محل الحكم هل ( هو الأمر الزائل ) كالماء المتغيّر الذي زال تغيرّه بنفسه ( ولو بزوال قيده ) اي بزوال التغيّر ( المأخوذ في موضوعيّته ،

ص: 276

حتى يكون الحكم مرتفعا ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شك في الحكم كان من جهة اُخرى غير الموضوع .

كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه نفس الماء ، والغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشك في علّيته للبقاء .

-------------------

حتى يكون الحكم مرتفعا ) بزوال موضوعه ، فنحكم على الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه بالطهارة ، لان موضوع النجاسة هو : الماء المتغيّر بالفعل وقد زال .

( أو هو الأمر الباقي ) كالماء في المثال ( والزائل ) الذي هو التغيّر في الآن الثاني ( ليس موضوعا ) للنجاسة ( ولا مأخوذا فيه ) اي : في موضوع النجاسة ، وذلك بان كان موضوع النجاسة نفس الماء ، والتغيّر علة محدثة ، فانه مع زوال التغيّر يبقى الموضوع فنحكم بنجاسته ، ولكن حيث لا نعلم ان الموضوع هذا او ذاك نشك في بقاء النجاسة .

وعليه : ( فلو فرض ) بالنسبة الى الفرض الثاني وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « أو هو ، اي : الموضوع ، الامر الباقي والزائل ليس موضوعا » فلو ( شك في الحكم ) في الآن الثاني ( كان ) ذلك الشك حينئذ ( من جهة اُخرى غير الموضوع ) لفرض ان الموضوع على الفرض الثاني باق ( كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه ) هو ( نفس الماء ) الذي كان سابقا وهو باق الآن ( والغيّر علة محدثة للحكم ) بالنجاسة فيبقى الموضوع بعد زوال التغيّر ( فيشك في علّيته ) اي : علّية التغيّر ( للبقاء ) اي : لبقاء النجاسة ، وعدم علّيّته ، اذ قد عرفت : انه يُحتمل كون التغيّر علة محدثة فقط فلا تزول النجاسة بزوال التغيّر ، ويحتمل انه علّة محدثة ومبقية أيضا فتزول بزواله .

وعلى هذا الذي ذكرنا : من انه كثيرا ما يشك في ان الموضوع هذا او ذاك ،

ص: 277

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخودة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد أمور :

الأوّل : العقل فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد يجمعها ؛ وذلك لأنّ كلّ قضية ، وإن كثرت قيودها

-------------------

كما في مثال الماء اذا تغيّر حيث لم يُعلم ان الموضوع هل هو الماء المتغيّر ، أو الماء وحده والتغيّر علة محدثة ؟ ( فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخودة في الموضوع ) حتى اذا ذهبت تلك القيود ذهب الموضوع فيميّزها ( عن غيرها ) من القيود التي لم تؤخذ في الموضوع ، حتى اذا ذهبت لم يذهب الموضوع بل يكون باقيا ، فيجري فيه الاستصحاب .

( وهو ) اي : هذا الميزان ( أحد أمور ) تالية :

( الأوّل : العقل ) وذلك بأن يميّز العقل ان هذا القيد هل هو من قيود الموضوع او ليس من قيوده ؟ ( فيقال : إنّ مقتضاه ) اي : مقتضى العقل : ( كون جميع القيود قيودا للموضوع ) بلا فرق بين ان يكون القيد في لفظ الدليل قيدا للموضوع أو قيدا للحكم ، او يكون الدليل مجملاً من هذه الجهة ، فان العقل يرى كل القيود في الحقيقة ( مأخوذة فيه ) اي : في الموضوع حدوثا وبقاءا ، فمادام ذلك القيد موجودا فالحكم موجود ، فاذا ذهب القيد ذهب الحكم ، فالعقل يرى مدخلية جميع القيود في حصول مناط الحكم .

وعليه : ( فيكون الحكم ثابتا لأمر ) اي : لموضوع ( واحد يجمعها ) اي : يجمع ذلك الموضوع كل تلك القيود ، فاذا انتفى أحد القيود انتفى الموضوع بانتفائه .

( و ) إنّما كان مقتضى العقل ( ذلك ، لأنّ كلّ قضية ، وإن كثرت قيودها

ص: 278

المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة الى موضوع واحد ، ومحمول واحد .

فاذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم بكونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز الاستصحاب ، لأنّه اثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشك في أحدهما .

-------------------

المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة الى موضوع واحد ، ومحمول واحد ) اعتبارا ، لوضوح : ان المولى لا يأتي بقيد في كلامه الاّ مع مدخلية ذلك القيد في حصول مطلوبه ، فاذا قال - مثلاً - : اكرم زيدا يوم الجمعة بالضيافة حال كونه عالما عادلاً خلوقا مداريا ، كان لكل تلك القيود : من يوم الجمعة الى مداريا ، دخل في الموضوع ، بحيث اذا ذهب احدها لم يجب الاكرام ، كما اذا كان في يوم السبت ، أو كان الاكرام بالمال ، او كان زيد قد ذهب علمه او عدالته او أخلاقه او مداراته .

وعليه : ( فاذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء ) كان الزائل بعض قيود الموضوع ام بعض قيود الحكم ، وسواء ( علم بكونه قيدا للموضوع ) بأن قال - مثلاً - : الماء المتغيّر نجس ( أو للمحمول ) بأن قال - مثلاً - : الماء نجس اذا تغيّر ( أو لم يعلم أحدهما ) بأن قال - مثلاً - : التغيّر يوجب تنجّس الماء ، حيث ان لفظ التغيّر لا يعلم هل هو مربوط بالموضوع او بالحكم ؟ ( فلا يجوز الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب ( لأنّه ) اي : الاستصحاب ( اثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ) في الزمان الثاني ( ولا يصدق هذا ) التعريف للاستصحاب يعني : انه عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ( مع الشك في أحدهما ) اي : الشك في انه هل هو عين الحكم السابق ، او هو عين

ص: 279

نعم ، لو شك بسبب تغيّر الزمان ، المجعول ظرفا للحكم كالخيار ، لم يقدح في جريان الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب مبني على الغاء خصوصية الزمان الأوّل .

فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشك من جهة الرافع ذاتا أو وصفا ، وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان .

-------------------

الموضوع السابق ؟ .

( نعم ، لو شك بسبب تغيّر الزمان ، المجعول ظرفا للحكم ) لا قيدا مفرّدا ( كالخيار ) بان احتملنا ان الحكم ثابت في الزمان الاول فقط دون سائر الازمنة ، كما في مثل خيار الغبن حيث لم نعلم بانه فوري او متراخ ، فانه ( لم يقدح ) هذا التغيّر ( في جريان الاستصحاب ) فنستصحب بقاء الخيار في الزمان الثاني وذلك ( لأنّ الاستصحاب مبني على الغاء خصوصية الزمان الأوّل ) فان الاستصحاب هو عبارة عن ابقاء ما كان سابقا يعني : في الزمان الاول ، لاحقا يعني : في الزمان الثاني .

إذن ( فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ ) في الموارد التالية :

الأوّل : ( في الشك من جهة الرافع ذاتا ) بان لم يعلم هل جاء ذات الرافع او لم يجيء ؟ كما اذا شك بعد الوضوء في انه هل جاءه النوم او لم يجيء فانه مع هذا الشك الذي هو في وجود الرافع يجري الاستصحاب .

الثاني : ( أو وصفا ) اي : لاذاتا ، وذلك بان جاءه شيء ، لكن لا يعلم هل هو نوم حتى يكون ناقضا ، او ليس بنوم بل مجّرد خفقة حتى لا يكون ناقضا ؟ فانه مع هذا الشك الذي هو في رافعية الموجود يجري الاستصحاب ايضا .

الثالث : ( وفيما كان ) الشك ( من جهة مدخليّة الزمان ) بان شك في ان الزمان

ص: 280

نعم ، يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها .

ثم لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع ، كفى في عدم جريان الاستصحاب ، الشك في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلاً .

-------------------

هل له دخل في خيار الغبن - مثلاً - حتى يكون في الآن الاول فقط ، او ليس له دخل حتى يجري في الآن الثاني ايضا ؟ فانه مع هذا الشك الذي هو من جهة مدخلية الزمان يجري الاستصحاب أيضا .

وعليه : فان الاستصحاب في الحكم الشرعي يجري في هذه الموارد الثلاثة التي هي من الشك في الرافع فقط ، ولا يجري في موارد الشك في المقتضي ، وذلك لحصول تغيّر في الموضوع فيها - ولو في الجملة - ممّا لا يرى العرف الموضوع باقيا ، مثل : زوال التغيّر في الماء ، ومثل : وجدان الماء في المتيمّم ، وما اشبه ذلك من موارد الشك في المقتضي .

( نعم ، يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها ) اي : سواء كان من الشك في الرافع ام من الشك في المقتضي ، وذلك لا حراز الموضوع في الامور الخارجية فاذا شككنا - مثلاً - في حياة زيد نستصحب حياته ، سواء شككنا في حياته لاحتمال انقضاء استعداده بان كان استعداده الجسمي والروحي لخمسين سنة فقط ممّا هو شك في المقتضي ، أم لاحتمال طرو رافع من قتل او غرق ، أو سقوط من شاهق ، او ما اشبه ذلك ، ممّا هو شك في الرافع وذلك لاحراز الموضوع فيها .

( ثم لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب، الشك ) والشك هنا فاعل كفى يعني : يكفينا لعدم الاستصحاب ، الشك ( في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلاً ) عند قول المصنّف قبل اسطر :

ص: 281

الثاني : أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام الى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ، وبين قوله : « الماء ينجس اذا تغيّر » ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء ، فيستصحبُ النجاسةُ لو شك في مدخليّة التغيّر في بقائها ،

-------------------

« سواء علم بكونه قيدا للموضوع او المحمول أو لم يعلم احدهما » فإنّه بمجرد الشك في ذلك لا يجري الاستصحاب فيها ايضا .

( الثاني ) ممّا يميّز به كون القيود مأخوذة في الموضوع فلا يستصحب ، او غير مأخوذة فيه فيستصحب : ( أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام ) ليرى ان الموضوع هل هو المقيد او ان الموضوع بلا قيد ؟ ( الى الأدلّة ) الشرعية ( ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ، وبين قوله : «الماء ينجس اذا تغيّر» ) والفارق هو ماذكره بقوله : ( فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ) فعلاً ، لأن الوصف له مدخلية في الموضوع ، فهو مثل : قلّد زيدا العالم ، وأقم الصلاة خلف زيد العادل ، واذا كان كذلك ( فيزول الحكم بزواله ) اي : بزوال هذا القيد المأخوذ في الموضوع فلا يجوز فيه الاستصحاب .

( وفي الثاني ) اي في مثل قوله : « الماء ينجس اذ تغيّر » ، يجعل الموضوع فيه ( نفس الماء ) لانه مقتضى ظاهر اطلاق لفظ الماء بدون تقييده بشيء ، ويكون التغيّر علة محدثة ، فمع زوالها في الآن الثاني لا يزول الموضوع واذا كان كذلك ( فيستصحب النجاسة ) لهذا الماء الذي زال تغيّره وذلك فيما ( لو شك في مدخليّة التغيّر في بقائها ) اي : في بقاء النجاسة وعدم مدخليته فيها بأن شككنا في ان التغيّر هل هي علة مبقية حتى لا يبقى الماء نجسا بعد زوال تغيّره ، أو علة

ص: 282

وهكذا .

وعلى هذا : فلا يجري الاستصحاب ، فيما كان الشك من غير جهة الرافع ، إذا كان الدليل غير لفظي لا يتميّز فيه الموضوع ،

-------------------

محدثة حتى اذا زال التغيّر بقيت النجاسة .

( وهكذا ) في سائر الموارد الواردة في لسان الشارع ، فانه قد يكون القيد بعد الموضوع ، وقد يكون القيد بعد الحكم فكلّما كان القيد بعد الموضوع زال الموضوع بزوال القيد فلا يستصحب الحكم لزوال الموضوع ، بخلاف ما اذا كان القيد بعد الحكم ، فانه لا يزول الموضوع بزوال القيد فيستصحب الحكم لبقاء الموضوع .

( وعلى هذا ) الذي ذكرناه في الميزان الثاني من ان لسان الدليل هو الميزان لتمييز الموضوع ( فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشك من غير جهة الرافع ) بان كان من جهة المقتضي ( إذا كان الدليل غير لفظي ) بان كان لبيا كالاجماع - مثلاً - وذلك لأنّ الشك إذا كان من جهة الرافع كان معناه : ان الموضوع بجميع قيوده باق ، وإنّما الشك في انه هل رفعه شيء ام لا ؟ فيستصحب .

بخلاف ما اذا كان الشك من جهة المقتضي ، فإنّه لابدّ فيه من لفظٍ حتى يتميّز به الموضوع ، بينما اذا كان الدليل لبيا فحيث لا لفظ ( لا يتميّز فيه الموضوع ) فلا يستصحب لو كان الشك فيه من جهة المقتضي ، وذلك لأنّا لا نعلم هل الموضوع هو الذات المطلقة او الذات المقيّدة ؟ وحيث نشك في الموضوع لا يجوز لنا الاستصحاب ، وذلك كما اذا قام الاجماع - مثلاً - على تقليد المجتهد الحي ، فاذا مات المجتهد لا يجوز لنا استصحاب جواز تقليده بعد موته ، لاحتمال كون الحياة قيدا للموضوع بحيث ينتفي موضوع جواز التقليد بانتفاء الحياة .

ص: 283

لاحتمال مدخليّة القيد الزائد فيه .

الثالث : أن يرجع في ذلك الى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا : أنّ هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب ، وإن كان المُشار اليه لا يُعلم بالتدقيق ، او بملاحظة الأدلة ، كونه موضوعا ، بل عُلِمَ عدمُه .

-------------------

وإنّما لا يجوز فيه الاستصحاب ( لاحتمال مدخليّة القيد الزائد فيه ) اي : في الموضوع ومع هذا الاحتمال لا يعلم بقاء الموضوع ، وقد عرفت : لزوم العلم ببقاء الموضوع حتى يجوز فيه الاستصحاب .

( الثالث ) : ممّا يميّز به كون القيود مأخوذة في الموضوع فلا يستصحب ، او غير مأخودة فيه فيستصحب ( أن يرجع في ذلك الى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا : أنّ هذا كان كذا سابقا ) بأن لم يكن التغيّر الحاصل فيه رافعا للموضوع بنظر العرف ( جرى فيه الاستصحاب ) لان العرف هو الذي اُلقي اليه الكلام ، فيكون فهمه هو الميزان ، لقوله تعالى : « وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه » (1) .

وعليه : فان رأى العرف كون القيد من مقوّمات الموضوع حدوثا وبقاءا لم يجر الاستصحاب ، وان رأى القيد من مقوّمات الموضوع حدوثا لابقاءا جرى الاستصحاب حتى ( وإن كان المُشار اليه ) بقول العرف : هذا كان كذا ( لا يُعلم بالتدقيق ، او بملاحظة الأدلة ، كونه موضوعا ) و «كونه موضوعا» فاعل لقوله : «لا يُعلم» يعني : لا يُعلم كونه موضوعا بالتدقيق حسب الميزان الاول ، او بملاحظة الادلة حسب الميزان الثاني ( بل عُلِمَ عدمُه ) وذلك لما عرفت : من ان الدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع بعد ذهاب بعض الخصوصيات ، فاذا قال : الماء اذا تغيّر نجس ، فالدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع بعد زوال التغيّر ،

ص: 284


1- - سورة ابراهيم : الآية 4 .

مثلاً : قد ثبت بالأدلّة أنّ الانسان طاهرٌ والكلب نجسٌ ، فاذا ماتا حكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء هنا بحسب التدقيق فيهما ، لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ، وقد ارتفعت الحيوانيّة ،

-------------------

لكن العرف يرى ان الموضوع هو الماء ، وان التغيّر علة محدثة فقط ، فيرى بقاء الحكم .

( مثلاً : قد ثبت بالأدلّة ) الشرعية ( أنّ الانسان طاهرٌ ) اذا كان مسلما ( والكلب نجسٌ ) اذا كان برّيا ( فاذا ماتا حكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل ) عند المصنّف ، لكنه عندنا غير ظاهر ، لان العرف يرى ان الانسان حيّه وميّته طاهر ، فاذا حكم بنجاسة الانسان بالموت كان من باب الدليل الخاص كما ان العرف يرى ان الكلب حيّه وميته نجس ، فالعرف إذن يرى الحي والميت في حكم واحد ، سواء بالنسبة الى النجس كالكلب ، ام بالنسبة الى الطاهر كالانسان .

وكيف كان : فان المصنّف قال : ان العرف يحكم بارتفاع طهارة الاول وهو الانسان ( وبقاء نجاسة الثاني ) وهو الكلب ( مع عدم صدق الارتفاع ) اي : ارتفاع الطهارة في الانسان ( و ) عدم صدق ( البقاء ) اي : بقاء النجاسة في الكلب ( هنا بحسب التدقيق فيهما ) .

وإنّما لم يصدق ذلك فيهما بحسب التدقيق ( لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ) الانسان والكلب ( وقد ارتفعت الحيوانيّة ) فيهما بالموت ، وحدث موضوع جديد ، فان الحيوان بعد الموت

ص: 285

فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل ، وبقاء الثاني بعد صيرورته جمادا .

ونحوه حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد الزوجين ، وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كرّية ما كان كرّا سابقا و وجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها

-------------------

يصير جمادا وليس بحيوان ، ومعه ( فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل ، و ) هو الطهارة في الانسان ، لانه ليس ارتفاعا بحسب التدقيق بل قد حدث موضوع جديد بالموت ، كما لا معنى لصدق ( بقاء الثاني ) اي : النجاسة في الكلب ، لانه ليس بقاءا لها ( بعد صيرورته جمادا ) وخروجه بالموت عن الحيوانية ، بل هو من باب انتفاء الموضوع الاول وحدوث موضوع جديد للنجاسة بحسب التدقيق .

( ونحوه ) اي : نحو المثال السابق وحكم العرف فيه ( حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد الزوجين ) فان العرف يرى الموضوع في المثال هو هذا الموجود الخارجي الباقي بعد الموت ايضا ، فاذا شك في بقاء الزوجية بعد الموت يجري الاستصحاب فيترتب عليه الأثر ، كجواز النظر واللمس ، امّا عدم جواز الوطي، فللاجماع ونحوه ، كما ان جواز التزوج باختها والخامسة فمن باب الدليل .

والحاصل : ان الميزان في كل موارد الاستصحاب التي هي من هذا القبيل هو : حكم العرف بالبقاء ( وقد تقدّم ) من المصنّف بعض الامثلة على ذلك مثل ( حكم العرف ببقاء كرّية ما كان كرّا سابقا ) بعد ان اُخذ منه بعض الماء ممّا شك في كريته .

( و ) مثل حكم العرف ببقاء ( وجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها ) كما في تعذّر السورة بالنسبة الى الصلاة - مثلاً - حيث يرى العرف ان ناقص

ص: 286

واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ، ويشك في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ، الى غير ذلك .

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين « قدّس سرّهما » في المعتبر والمنتهى : « الاستدلال على بقاء نجاسة الاعيان النجسة بعد الاستحالة بأنّ النجاسة قائمة بالأشياء النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها ،

-------------------

الأجزاء وكامل الأجزاء شيء واحد ، فالوجوب السابق باقٍ .

ومثل حكم العرف ببقاء الموضوع ( واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ، ويشك في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ) وذلك لأنّ في نظرهم السواد الخفيف والسواد القوي شيئا واحدا .

( الى غير ذلك ) من الأمثلة كاستصحاب الزمانيات كما مثلنا له سابقا : بأن الماء لو كان قليلاً ، ثم اضيف عليه بمقدار يشك في كرّيته ، فانه يستصحب قلته ايضا ، مع ان الموضوع السابق بالدقة ليس هو الباقي وإنّما حدث فيه تغيّر .

( وبهذا الوجه ) الذي ذكرناه : من ان الميزان في بقاء الموضوع هو العرف ( يصحّ للفاضلين ) : المحقق والعلامة ( «قدّس سرّهما» في المعتبر والمنتهى « الاستدلال على بقاء نجاسة الاعيان النجسة بعد الاستحالة ) الى الرماد او التراب او الملح أو ما اشبه ذلك ، ممّا سبق الالماع اليه ، فانهم يرون - مثلاً - ان الكلب اذا تحوّل الى ملح بقي نجسا مستدلين لذلك : ( بأنّ النجاسة قائمة بالأشياء النجسة ) بذواتها ( لا بأوصاف الأجزاء ) وبعبارة اُخرى : ان موضوع النجاسة في الكلب - مثلاً - هو جسم الكل لا عنوانه ، فلا مدخلية لخصوصيّة الكلب في نجاسته ، واذا كان كذلك ( فلا تزول ) النجاسة ( بتغيّر أوصاف محلّها ) اي : محلّ النجاسة اعني :

ص: 287

وتلك الأجزاء باقية ، فلا ترتفع النجاسة ، لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها » ، انتهى كلام المعتبر .

واحتجّ فخر الدين « للنجاسة بأصالة بقائها وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله » ، انتهى .

-------------------

عنوان الكلبية ، فانّ عنوان الكلبية وان زال بصيرورة الكلب ملحا الاّ ان جسمه ( وتلك الأجزاء ) من جسمه ( باقية ) فيستصحب نجاستها .

إذن : ( فلا ترتفع النجاسة ) الموجودة - مثلاً - في جسم الكلب باستحالته ملحا ( لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها» (1) ) اي ارتفاع النجاسة ، فان ارتفاع النجاسة إنّما يكون بالتطهير ، ولم يحصل تطهير ( انتهى كلام المعتبر ) ونحوه كلام المنتهى .

( واحتجّ فخر الدين ) ابن العلامة ( «للنجاسة ) في مثل الكلب المتحوّل الى ملح - مثلاً - بدليلين :

الأوّل : ( بأصالة بقائها ) اي : بقاء النجاسة ، فانه عند الاستحالة نشك في زوالها،

فنستصحب بقاءها .

الثاني : ( وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله » (2) ) اي : بزوال الاسم ، وذلك لأنّ الشارع لما قال : الكلب نجس ، اراد نجاسة هذه الذات ، وكونه كلبا اسم وعلامة لتلك الذات فقط ، فاذا زال الاسم والعلامة ، لا يزول الذات ، فتبقى النجاسة ، فهو كما اذا نصب أحد علامة على الفرسخ ، فانه لا تكون لتلك العلامة مدخلية في الفرسخية ولذا اذا زالت العلامة بقيت الفرسخية ( انتهى ) كلام فخر الدين بن العلاّمة .

ص: 288


1- - المعتبر : ص125 .
2- - ايضاح الفرائد في شرح القواعد : ج1 ص31 .

وهذه الكلمات وإن كانت محلَّ الايراد ، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب ، المشترك بين الحيوان والجماد ، بل ظهور عدمُه ، لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الاحكام للاسماء ، كما اعترف به في المنتهى في استحالة الاعيان النجسة ، إلاّ أنّه شاهدٌ على إمكان موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده .

-------------------

( و ) كيف كان : فان ( هذه الكلمات ) من الاعلام الثلاثة ( وإن كانت محل الايراد ، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة ) اي : بنجاسة الاعيان النجسة ، فان الشارع لما حكم بنجاسة الكلب - مثلاً - لم يلاحظ كون النجاسة قائمة ( بجسم الكلب ، المشترك بين الحيوان ) عندما كان حيا ( والجماد ) بعد ان صار ملحا ( بل ظهور عدمه ) اي : عدم قيام حكم النجاسة بالجسم ، وإنّما بالاسم والعنوان ، وذلك ( لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الاحكام للاسماء ، كما اعترف به في المنتهى ) .

وعليه : فاذا قال الشارع - مثلاً - الكلب نجس ، فظاهر معناه : انه مادام يسمّى كلبا فهو نجس ، فاذا تحوّل الكلب الى ملح لم يصدق قوله : الكلب نجس حينئذ عليه ، وهذا الكلام ممّا قد صرّح به العلامة في المنتهى عند حديثه ( في استحالة الاعيان النجسة ) الى أشياء طاهرة كالملح وما اشبه .

والحاصل : ان كلمات الاعلام الثلاثة وان كانت محل اشكال كما عرفت ( إلاّ أنّه شاهد على امكان موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده ) اي : انا وان قلنا : بأن الشيء اذا استحال يكون طاهرا - كما هو المشهور - الاّ ان المستفاد من كلمات هؤلاء الاعلام الثلاثة ؛ امكان كون الموضوع هو المشترك بين واجد العنوان وفاقد العنوان ولو في نظر العرف ، فاذا قال الشارع - مثلاً - : الحنطة ملك زيد ، فالملكية حكم للجسم المتحقق في ضمن صورة الحنطة والطحين

ص: 289

كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث أنّ أهل العرف لايفهمون نجاسة أخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون ارتفاع طهارة الانسان ، الى غير ذلك مّما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني والفاقد .

ثم

-------------------

والعجين والخبز وما اشبه ، وذلك لأنّ العرف يرون الملكية وصف الجسم ، لا وصف الجسم المتصف بكونه حنطة حتى اذا زالت الحنطية يزول الملك .

( كما ذكرنا ) ذلك ايضا ( في نجاسة الكلب بالموت ، حيث ) قلنا : ان العرف يرون النجاسة قائمة بهذا الجسم ، سواء كان حيا ام ميتا ، وذلك ( أنّ أهل العرف لايفهمون نجاسة أخرى حاصلة بالموت ) غير النجاسة الاولى التي كانت للكلب حال الحياة ، بل يرون هذه النجاسة هي نفس تلك النجاسة ، كما ( ويفهمون ارتفاع طهارة الانسان ) - عند المصنّف بسبب الموت مع انه ليس بارتفاع بل هو من تبدّل الموضوع .

وإنّما قلنا : عند المصنّف ، لانه قد عرفت فيما سبق اشكالنا في هذا الكلام من المصنّف ، وذلك لأنّ العرف بنظرنا يرون ان الحي والميت من الانسان كلاهما طاهر ، وإنّما يحتاج النجاسة بعد الموت الى دليل خاص .

وعلى اي حال : فحيث كان الموضوع بنظر العرف واحدا في الحالين ، يصحّ الاستصحاب كما في الأمثلة التي سبق ذكرها ، و ( الى غير ذلك مّما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني ) كالكلب الذي هو وصف عنواني لهذا الجسم ( والفاقد ) حيث يتحول الى ملح ويكون جمادا .

( ثم ) ان المصنّف ذكر الى هنا قولين في المسألة : قول المشهور بالطهارة

ص: 290

إنّ بعض المتأخّرين فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع دون الثاني ، لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ، أعني : الخشب - مثلاً - وإنّما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة .

وهو حسنٌ في بادي النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ،

-------------------

لدى الاستحالة ، وقول غير المشهور بعدم الطهارة لدى الاستحالة وبقاؤه على النجاسة السابقة ، وهنا قول ثالث بالتفصيل وقد اشار اليه المصنّف بقوله فيما يلي .

( إنّ بعض المتأخرين ) وهو الفاضل الهندي ( فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ) اي : قال بالتفصيل بينهما ( فحكم بطهارة الأوّل ) وهو نجس العين ( لزوال الموضوع ) فيه بالاستحالة ، فان الكلب بعد تحوله الى الملح ليس بكلب ، والدليل قال : الكلب نجس : ممّا ظاهره عنوان المستحيل اعني : الكلب وقد زال بالاستحالة ( دون الثاني ) وهو المتنجس كالخشب المتحوّل الى الرماد فلم يحكم بطهارته بالاستحالة ( لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ، أعني : الخشب - مثلاً - وإنّما هو الجسم ) لان الاجماع قام على ان كل جسم لا قى نجسا برطوبة تنجّس ( و ) من المعلوم انه ( لم يزل ) الجسم ( بالاستحالة ) فان الجسم في كل من الخشب والرماد باق ، وحيث كانت النجاسة حكما للجسم فهي باقية حتى بعد الرمادية .

ثم قال المصنّف : ( وهو ) اي : هذا التفصيل المذكور ( حسنٌ في بادي النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ) ويرى انه لا فرق بين تحوّل الكلب ملحا او الخشب النجس رمادا .

ص: 291

إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجسٌ .

إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة .

-------------------

وإنّما يقتضي النظر الدقيق خلافه ( إذ لم يعلم ) من ظاهر الدليل ( أنّ النجاسة في المتنجّسات ) هل هي محمولة على الصورة النوعية حتى يقال : ان الجسم لا خصوصية له فيها سوى انه لبيان شمول الحكم ، او هي ( محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ) حتى يقال : ان الجسم باق بعد الرمادية ، فالنجاسة باقية ؟ .

وعليه : فحيث انه لم يعلم ايّهما المراد منه ، لا يحكم ببقاء النجاسة بعد الاستحالة حتى ( وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات ) ما يوهم ان النجاسة قائمة بالجسم بما هو جسم ، لا بالخصوصية العنوانية للجسم ، وذلك لقولهم :( أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجسٌ ) فانه يوهم ان النجاسة قائمة بالجسم ، والجسم متحقق في كل واحد من الخشب النجس والرماد .

والحاصل : انه وان اشتهر ما يوهم بأن للجسم خصوصية في تعبيرهم ( إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم ) فيما اشتهر عنهم إنّما هو ( لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة ) فان تعبيرهم - بالجسم - عند بيان حكم الانفعال بالملاقاة ليس لبيان موضوعية الجسم بما هو جسم ، بل لبيان ان حكم الانفعال بالملاقاة عام لكل شيء هو قابل للملاقاة والانفعال ، فذكروا الجنس العام لهذه الامور .

ص: 292

وبتقرير آخر : الحكم ثابتٌ لاشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة .

فقولهم : « كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجسٌ » ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة ، من غير تعرّض للمحل الذي يتقوّم به ، كما اذا قال القائل : « إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير » مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الأنواع .

-------------------

( وبتقرير آخر : الحكم ثابت لاشخاص الجسم ) وأفراده لا لكلي الجسم ومفهومه ، وذلك لأن الحكم يحمل على الجسم تارة لبيان مفهوم الجسم كما اذا قلنا : الجسم هو ما يقبل الأبعاد الثلاثة : وتارة لبيان شمول الحكم لافراد الجسم كما اذا قلنا : كل جسم لاقى النجس يتنجس ، فاذا كان لبيان شمول الحكم لاشخاص الجسم وافراده ( فلا ينافي ) ثبوت الحكم للاشخاص ( ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه ) اي : نوع ذلك الشخص كالسؤال من الاجسام ( أو صنفه ) اي : صنف ذلك الشخص كالماء من الاجسام السائلة ( المتقوّم ) ذلك الحكم ( به ) اي : بذلك النوع او الصنف ( عند الملاقاة ) بالنجس ، فالحكم بالنجاسة إنّما هو على النوع او الصنف ، لا على الجسم بما هو جسم .

إذن : ( فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجسٌ» ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة ، من غير تعرّض للمحل الذي يتقوّم به ) الحكم وانه هل هو الصورة الجنسية او الصورة النوعية - مثلاً - ؟ وذلك ( كما اذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير» ) معيّن ( مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الأنواع ) لا الأجناس فقولهم : كل جسم له خاصية ، واضح بأنّه لا يراد به كون الخاصية للجسم بما هو جسم .

ص: 293

وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور معقد الاجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول لا شك أنّ مستند هذا العموم هي الأدلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة ، مثل : الثوب والبدن والماء ، وغير ذلك .

فاستنباط القضيّة الكليّة المذكورة منها ليس إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما تقوّم به ، وإلاّ فاللازم إناطة

-------------------

( وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور معقد الاجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ) فلا يكون للصورة النوعية او ما اشبه مدخلاً في النجاسة .

( فنقول ) : لا نتمكن ان نأخذ بهذا الظهور ، لان اجماعهم قد انعقد من الادلة الخاصة ، فاللازم مراجعة الادلة الخاصة فانه ( لا شك أنّ مستند هذا العموم ) في قولهم : « كل جسم لاقى نجسا تنجس » ( هي الأدلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة ، مثل : الثوب والبدن والماء ، وغير ذلك ) ممّا في الروايات : من ان الثوب يتنجس بالملاقاة مع النجس ، والبدن يتنجس بذلك ، والماء يتنجس به ، وهكذا ( فاستنباط ) الفقهاء ( القضيّة الكليّة المذكورة منها ) اي : من هذه الموارد الخاصة ( ليس إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما تقوّم به ) النجاسة .

إذن : فهنا حيثيتان : حيثية عنوان حدوث النجاسة ، وحيثية عنوان ما يتقوّم به النجاسة والجسم في معقد اجماعهم هو عنوان لحدوث النجاسة ، وليس عنوانا لما يتقوّم به النجاسة حتى اذا بقي الجسم بقيت النجاسة وان ذهب العنوان الخاص كعنوان الثوبية والبدنية والمائية بالاستحالة الى الرماد او التراب او البُخار - مثلاً - .

( وإلاّ ) بان لم تكن القضية الكلية المستنبطة من الموارد الخاصة مستنبطة من حيثية عنوان حدوث النجاسة ، بل من حيثية عنوان ما يتقوّم به ( فاللازم إناطة

ص: 294

النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله .

ودعوى : « أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما » ، ليس بأولى من دعوى : كون التعبير بالجسم في القضية العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوُّم النجاسة بالجسم .

-------------------

النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله ) بأن يقولوا : الثوب يتنجّس بملاقاة كذا والبدن يتنجّس بملاقاة كذا ، والماء يتنجّس بملاقاة كذا ، وهكذا سائر العناوين الواردة في النصوص ، فحيث لم يقولوا ذلك ظهر : انهم ارادوا من قولهم : « كلّ جسم يتنجّس بالملاقاة » استنباط قضية كلية ، لا أن الجسم بما هو جسم يتنجّس حتى يستصحب بعد الرمادية وما اشبه ذلك .

( و ) ان قلت : كما انكم تصرّفتم في قول الفقهاء : « كل جسم يتنجّس بالملاقاة » ، فقلتم : المراد به : العناوين الخاصة لا الجسم ، يمكن ان نتصرّف في الادلة الخاصة الواردة في الروايات فنقول قولهم عليهم السلام : الثوب يتنجّس بكذا ، والبدن يتنجّس بكذا ، والماء يتنجّس بكذا ، وهكذا ليس المقصود منه ان الثوب بما هو ثوب والبدن بما هو بدن ، والماء بما هو ماء يتنجّس ، بل مقصود الروايات انه بما هو جسم يتنجّس .

قلت : التصّرف في الادلة الخاصة ب ( دعوى : «أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاص ) في الروايات إنّما هو ( من حيث كونه جسما» ) لا من حيث كونه ثوبا - مثلاً - هذا التصرّف ( ليس بأولى من ) التصرّف في معقد الاجماع المستنبط من هذه الادلة ب ( دعوى : كون التعبير بالجسم في القضية العامة ) : «كل جسم لاقى نجسا تنجّس» إنّما هو ( من حيث ) بيان ( عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوُّم النجاسة بالجسم ) بما هو جسم ، فان التصرّف في ما قاله الفقهاء

ص: 295

نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل وفي المتنجّس محتمل البقاء .

ولكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعدما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب .

أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّية أو الحرمة

-------------------

هو الاولى عرفا من التصرف في الادلة الخاصة .

( نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس ) فيما اذا تحوّل الى شيء آخر ، كما اذا تحوّل الكلب ملحا ، والخشبة المتنجّسة رمادا هو : ( أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل ) القائل - مثلاً - : الكلب نجس ، لوضوح : ان الملح ليس بكلب ، فلا يستصحب . ( وفي المتنجّس محتمل البقاء ) للاجماع القائم على : ان كل جسم لاقى نجسا تنجّس ، فيحتمل ان يكون الموضوع هو الجسم ، ومن الواضح : ان الجسم باقٍ بعد استحالة الخشبة رمادا فيستصحب .

( ولكنّ هذا المقدار ) من الفرق بين النجس والمتنجّس ( لا يوجب الفرق ) بينهما من حيث الاستصحاب وعدمه بعد استحالتهم او ذلك خصوصا ( بعدما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب ) والعرف لا يرون بقاء الموضوع في كل منهما واذا انتفى الموضوع العرفي في كل من النجس والمتنجّس ، فلا مجال لاستصحاب النجاسة في شيء منهما .

( أرأيت ) وهذا لبيان ان العرف إنّما يجري الاستصحاب اذا رأى وحدة الموضوع ، وهو لا يجري الاستصحاب اذا رأى تبدّل الموضوع وتعدّده ، فاما مثال وحدة الموضوع فهو : ( أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّية أو الحرمة

ص: 296

أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الاحكام على الدقيق والزبيب .

كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولاً لمأكول اللحم ، خصوصا اذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة .

كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع .

-------------------

أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الاحكام على الدقيق والزبيب ) ؟ كلا ، لأن العرف حيث يرون الموضوع واحدا لا يتأملون في جريان احكام الحنطة والعنب على الدقيق والزبيب فيهما .

وأمّا مثال تبدّل الموضوع وتعدّده ، فهو : ما اشار اليه بقوله : ( كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب ) لتبدّل الموضوع في نظرهم ( في استحالة الخشب ) المتنجّس ( دخانا ) او رمادا او ما اشبه ذلك ( والماء المتنجّس بولاً لمأكول اللحم ) بعد سقيه له ، او ثمرا للاشجار بعد سقيه لها ، او ما اشبه ذلك .

( خصوصا اذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة ) اي : باستحالة الاعيان النجسة ، فانهم اذا علموا ان استحالة الأعيان النجسة كاستحالة الكلب - مثلاً - الى الملح يوجب طهارته ، لا يشكون بسبب تنقيح المناط في طهارة الخشب المتنجّس اذا استحال رمادا بطريق اولى .

( كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبع ) فان من تتبع كلام العلماء وتصفّح كتبهم رأى ان المشهور منهم قالوا : بأن الاستحالة توجب الطهارة سواء كانت الاستحالة من النجس

ص: 297

بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة القطعيّة حتى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجيّة مطلق الظنّ .

ومّما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة ، تبعا للفاضل الهندي قدس سره من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم ، حتى يطهّر بالاستحالة رمادا .

-------------------

الى شيء آخر ، ام من المتنجس الى شيء آخر .

( بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة القطعيّة ) فان عين النجس اذا طهر بالاستحالة طهر المتنجّس بطريق أولى ( حتى تمسّك بها ) اي : بهذه الأولوية ( في المقام ) صاحب المعالم وهو ( من لا يقول بحجيّة مطلق الظنّ ) ممّا يدل على ان الاولوية هنا قطعية ، فان صاحب المعالم تمسك في مسألتنا بالأولوية ، لأنّ الأولوية أمر عرفي مع انه لا يقول بالظن المطلق ، ولا بالظن الخاص في المقام ، أمّا الظن المطلق ، فلأن الانسداد ليس عنده بحجة ، وامّا الظن الخاص ، فلأنه لا دليل في المقام على طهارة الخشب المتنجّس اذا استحال رمادا - مثلاً - فيدل على ان الاولية عنده قطعية .

( ومّما ذكرنا ) : من ان النجاسة دائرة مدار الأسم في العرف بلا فرق بين النجس والمتنجّس ، فاذا استحال لا يبقى الاسم ، فلا تبقى النجاسة ( يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة تبعا للفاضل الهندي قدس سره من أنّ الحكم في المتنجّسات ) كالخشبة المتنجّسة - مثلاً - ثابت للجسم بما هو جسم ، والجسم موجود في كلا الحالين حال الخشبية وحال الرمادية وانه ( ليس دائرا مدار الاسم ) اي : اسم كونه خشبا - مثلاً - ( حتى يطهّر بالاستحالة رمادا ) .

ص: 298

فالتحقيق : أنّ مراتب تغيّر الصورة في الاجسام مختلفة بل الاحكام أيضا مختلفة ، ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب .

وفي بعض آخر ، لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم

-------------------

وعليه : ( فالتحقيق ) بعدما عرفت : من ان الموضوع العرفي باق في مكان ، وليس بباق في مكان آخر ، يعلم ( أنّ مراتب تغيّر الصورة في الاجسام مختلفة ) حيث ان التغيّر في بعضها يوجب انتفاء الموضوع كالخشب والرماد ، وفي بعضها لا يوجب انتفاء الموضوع كالعنب والزبيب .

( بل الاحكام أيضا مختلفة ) في نفسها حيث ان بعض الاحكام يدور مدار الاسم وبعضها لا يدور مدار الاسم وان كان الموضوع واحدا ، فالحنطة - مثلاً - موضوع واحد ، لكنه اذا نذر ان يعطي منّا من الحنطة للفقير لا يبرّ نذره بأعطائه الخبز اوالدقيق بينما نفس الحنطة لو كانت ملكا لانسان لا يزول ملكه عنها بتحولها الى الدقيق ونحوه .

وعليه : ( ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب ) وذلك لأنّ العرف يرى هذا هو ذاك ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق من مثال الملكية في الحنطة والدقيق ، فانه لا يستصحب الملكية الى الدقيق ، وذلك لانّ العرف يرى ان الحنطة والدقيق في الملكية واحد ، وكذا فيما اذا تنجست الحنطة ، فان الدقيق ايضا حسب النظر العرفي هو الموضوع الاول ، فهو نجس بدليل نجاسة الحنطة ، لا بالاستصحاب .

( وفي بعض آخر ، لا يحكمون بذلك ) اي : لا يحكمون بجريان دليل العنوان بلا استصحاب ، وذلك لان الموضوع عندهم قد تغيّر ( و ) إنّما ( يثبتون الحكم

ص: 299

بالاستصحاب .

وفي ثالث : لا يُجرون الاستصحاب أيضا من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس .

فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّية أو الطهارة أو النجاسة ، فانّ الظاهر : جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ، فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ مّما جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا .

مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين ،

-------------------

بالاستصحاب ) لشكهم في بقاء الحكم وعدم بقاء الحكم بعد علمهم ببقاء الموضوع .

( وفي ثالث : لا يُجرون الاستصحاب أيضا ) لأنّهم يرون ان الموضوع غير باق، كما عرفت من مثال الخشب والرماد ، وذلك ( من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس ) في كل تلك المراتب الثلاث ، فانه قد يكون الحكم على ما عرفت باقيا بنفسه ، وقد يكون باقيا بالاستصحاب ، وقد لا يكون باقيا .

( فمن الأوّل ) : وهو ما ذكره بقوله : «ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب» ( ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّية أو الطهارة أو النجاسة ) او الحرمة ( فانّ الظاهر : جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ) ايضا من غير حاجة الى الاستصحاب ، وذلك لوحدة موضوعهما بنظرهم ( فكأنّهم ) اي : العرف ( يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ مّما جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ) .

هذا ( مع أنّ الظاهر ) عند العرف ( تغاير الاسمين ) حتى عدّوا اطلاق احدهما

ص: 300

ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنَث بأكل الآخر .

والظاهر : أنّهم لا يحتاجون في إجراء الاحكام المذكورة الى الاستصحاب .

ومن الثاني : إجراءُ حكم بول غير المأكول اذا صار بولاً لمأكول ، وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خَلاً ، وصيرورة الكلب أو الانسان جمادا بالموت ،

-------------------

مكان الآخر مجازا ، فاذا قال المولى لعبده - مثلاً - : اشتر العنب لا يشتري الزبيب ، وكذلك العكس ، او قال له : اشتر الرطب لا يشتري التمر ، وكذا العكس ( ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنَث بأكل الآخر ) اللّهم الاّ اذا كان مرتكز ذهنه الأعم منه ، ( و ) لكن مع كل ذلك فان ( الظاهر : أنّهم لا يحتاجون في إجراء الاحكام المذكورة ) التي يجرونها من العنب الى الزبيب ، ومن الرطب الى التمر ( الى الاستصحاب ) بل يرون ان حكم العنب هو حكم الزبيب ، وهكذا .

( ومن الثاني ) : وهو ما يحتاج اثبات الحكم في الحالة الثانية الى الاستصحاب ( إجراءُ حكم بول غير المأكول اذا صار بولاً لمأكول ، وبالعكس ) وذلك للشك في جريان دليل العنوان الاول للتغيّر الحاصل في الحال الثاني ، فيحتاج لاثباته الى الاستصحاب .

( وكذا صيرورة الخمر خَلاً ) والخل خمرا - مثلاً - فانه بحاجة الى الاستصحاب لاثبات دليل العنوان الاول في الحال الثاني .

( و ) هكذا ( صيرورة الكلب أو الانسان جمادا بالموت ) وقال : صيرورتهما جمادا بالموت مقابل استحالتهما الى التراب والملح ونحوهما ، لأنّه بالاستحالة يرى العرف انتفاء الموضوع ، بينما لا يرى العرف ذلك بمجرد الموت ، غير انه

ص: 301

إلاّ أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنص الخاص كما في الخمر ، وإمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل اليه ، فانّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال اليه اذا كان بولاً لمأكول ، ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ، بل هو من الدليل ، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولاً لغير مأكول .

-------------------

يشك في جريان دليل عنوانيهما ، فيثبته لهما بالاستصحاب ، وذلك بعد رؤيته بقاء الموضوع في الامثلة الثلاثة المذكورة رغم التغيّر الحاصل فيها .

( إلاّ أنّ ) مراجعة الأدلة الشرعية قد لا تسمح باجراء الاستصحاب ، وذلك لأن ( الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنص الخاص كما في الخمر ) الذي انقلب خلاً .

( وإمّا لعموم ما دلّ ) اي : للدليل العام الدال ( على حكم المنتقل اليه ) فان العرف حيث يرى موضوعا جديدا بسبب الاستحالة ان يرى هذا الموضوع الجديد داخل في حكم هذا العموم الجديد ، مثل عموم نجاسة الميتة او الخمر بعد انتفاء موضوع الانسان او الخل باستحالة الانسان ميتةً والخمر خلاً .

وعليه : ( فانّ الظاهر ) من انتفاء الموضوع العرفي بالاستحالة هو : ( أنّ استفادة طهارة المستحال اليه اذا كان بولاً لمأكول ، ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ) فان الاستصحاب لا يجري لانتفاء الموضوع العرفي بالاستحالة ( بل هو من الدليل ) الدال على طهارة بول الحيوان المأكول اللحم ، فهو ( نظير استفادة نجاسة بول المأكول ) اللحم الذي هو طاهر ( إذا صار بولاً لغير مأكول ) اللحم ، وذلك كما اذا اشرب الكلب بول الشاة فصار بولاً للكلب ، حيث انه خرج عن الموضوع الاول الطاهر ، ودخل في الموضوع الثاني النجس .

ص: 302

ومن الثالث : إستحالة العذرة أو الدهن المتنجس دخانا، والمنيّ حيوانا.

ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل .

-------------------

ومنه يعلم : حال ما اذا اُخذ جزء من انسان او حيوان ووصل بانسان او حيوان آخر ، وكان أحدهما طاهرا كالمسلم والشاة ، والآخر نجسا كالكافر والكلب ، فإنّ النجاسة والطهارة فيهما تابعتان للحيوان او الانسان المنتقل اليه ، وكذلك في الحل والحرمة اذا صار ذلك الجزء جزءا من الحلال او الحرام ، فان ذلك مثل : البول الذي يتحول من الحرام الى الحلال ، او الحلال الى الحرام ، ومن الطاهر الى النجس ، ومن النجس الى الطاهر (1) .

( ومن الثالث ) وهو الذي لا يُجري العرف فيه الاستصحاب ايضا لانه لا يحكم بجريان دليل العنوان الاول فيه لتبدّل الموضوع ( إستحالة العذرة أو الدهن المتنجس دخانا ، والمنيّ حيوانا ) والكلب ملحا ، وغير ذلك من الامثلة التي يرى العرف تبدل الموضوع فيها ، فلا يجري فيها الاستصحاب لذلك .

هذا ( ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ) وانه هل هو من القسم الاول او الثاني او الثالث ؟ ( فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل ) فان مقصودنا هنا هو : تقسيم الموضوع بعد الاستحالة بغيره الى الأقسام الثلاثة ، وليس مقصودنا خصوصية الأمثلة المذكورة .

كما انه لو شُك في تحقق الاستحالة وعدمه ، يُستصحب الحكم السابق ، فاذا امتصّ البعوض دم الانسان - مثلاً - وقبل انفصاله وطيرانه قتله في مكان ، حيث يُشك في انه هل استحال دمه الى دمه ام لا ؟ فتُستصحب النجاسة .

ص: 303


1- - وقد تطرّق الامام الشارح الى أشباه هذه المسائل في كتابه « المسائل المتجددة» .

ومّما ذكرنا يظهر : أنّ معنى قولهم : « الأحكام تدور مدار الأسماء » : أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها .

فاذا قال الشارع : « العنب حلال » ، فان ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم دار الحكم مدارَه ، فينتفي عند صيرورته زبيبا .

أمّا اذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير دار الحكم مداره أيضا .

-------------------

( ومّما ذكرنا ) من تحكيم العرف في موضوع الاستصحاب بعد الاستحالة واختلاف رؤيته له ، وتقسيم مراتبه الى ثلاثة اقسام ( يظهر : أنّ معنى قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء» : أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها ) العرفية ( التي هي المعيار في وجودها ) اي : وجود تلك الاحكام ( وعدمها ) اي : عدم تلك الاحكام فليس المراد دورانها مدار الاسماء المذكورة في لسان الدليل ، او الاسماء بالدقة العقلية ، وإنّما المراد : العرفية على ما عرفت .

وعليه : ( فاذا قال الشارع : « العنب حلال » ، فان ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم ) كالمسمّى بالعنب بما هو عنب مثلاً ( دار الحكم مدارَه ) اي : مدار الاسم ( فينتفي عند صيرورته زبيبا ) لاّن الزبيب ليس بعنب ، كما ذكرنا في مثال النذر .

( أمّا اذا علم من العرف أو غيره ) كابلاغ الشارع بسبب اجماع او شبهه : ( أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب ) اي : الجنس ( المشترك بينه ) اي : بين العنب ( وبين الزبيب ) فقط ، بدون التعدّي الى العصير ( أو بينهما وبين العصير ) أيضا ، او بينها وبين مسحوقه بعد اليبس ( دار الحكم مداره أيضا ) فينتفي عند

ص: 304

نعم ، يبقى دعوى : « أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان ، وتقوّم الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه .

لكنّك عرفت : أنّ العناوين مختلفة ، والأحكام أيضا مختلفة .

وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له .

-------------------

انتفاء هذا القدر المشترك ، كما اذا صار دخانا او خلاً او رمادا او ترابا .

( نعم ، يبقى دعوى : «أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة ) التي ذكرها الشارع بقوله : العنب حلال ( كون الموضوع هو العنوان ، وتقوّم الحكم به ) اي : بهذا العنوان الذي ورد في النص ( المستلزم لانتفائه ) اي : انتفاء الموضوع ( بانتفائه ) اي : بانتفاء العنوان ومعه ينتفي الحكم فلا استصحاب .

ان قيل ذلك قلت : ( لكنّك عرفت : أنّ العناوين مختلفة ، والأحكام أيضا مختلفة ) فربّ عنوان يُعمّمه العرف فيجري في المنتقل اليه نفسه الحكم الاول بلا حاجة الى الاستصحاب ، ورب ، عنوان لا يُعمّمه العرف فيحتاج فيه الى الاستصحاب ، ورب عنوان يرى العرف ان لا استصحاب فيه ايضا لانتفاء الموضوع عنده بانتفاء عنوانه ، وقد عرفت سابقا مثال اختلاف الاحكام عند قول المصنّف قبل عدة صفحات : «بل الاحكام ايضا مختلفة» .

هذا ( وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له ) اي : لبقاء النجاسة في الخنزير المستحيل الى الملح ، ولكنك كما عرفت : ان المتقدّم كان هو نجاسة الكلب المستحيل ملحا لا الخنزير فلعل جعل الخنزير مكانه من اشتباه النسّاخ ، او ان الخنزير كان مذكورا ايضا في الكلام المتقدّم لكن اُسقط منه سهوا .

ص: 305

ودعوى « احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ الى القرينة الخارجيّة ، وإلاّ فظاهر اللفظ كون القضية ما دام الوصف العنواني » ، لا يضرُّنا فيما نحن بصدده ، لأن المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع ، وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي ، اذا كان العرف بالنسبة الى القضية الخاصة على خلافه .

-------------------

( و ) كيف كان : فان قلت : ان ما ذكرته وان كان تاما ، لكنه محتاج الى قرينة خارجية ، والاّ فظاهر اللفظ هو إناطة الحكم بالموضوع الظاهر في الوصف العنواني .

قلت : ( دعوى «احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ الى القرينة الخارجيّة ) لتدل تلك القرينة الخارجية من عقل او نقل ، في لفظ او خارج لفظ على خلاف ظاهره ( وإلاّ فظاهر اللفظ ) هو : ( كون القضية ما دام الوصف العنواني» ) فيدور الحكم مدار العنوان هذا الادّعاء ( لا يضرُّنا فيما نحن بصدده ) الآن من بيان كون المعيار هو الفهم العرفي .

وإنّما لا يضرّنا هذا الادعاء ( لأن المقصود ) هنا كما عرفت هو : ( مراعاة العرف في تشخيص الموضوع ، وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ) لأنّ الشارع انمّا يتكلم على مقتضى العرف .

( ولا ) الاقتصار ( على ما يقتضيه الدليل اللفظي ، اذا كان العرف بالنسبة الى القضية الخاصة ) وفي مورد خاص من موارد كلام الشارع ( على خلافه ) اي : على خلاف الدليل اللفظي .

إذن : فالمتبع هو فهم العرف ، لا اللفظ ، ولا الدقة العقلية .

ص: 306

وحينئذٍ : فيستقيم أن يراد من قولهم : « إنّ الأحكامَ تدور مدار الأسماء » : أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ، فيراد من هذه القضية تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، فافهم .

-------------------

وعليه : فاذا قال المولى : اقطع لسانه فيمن يطلب من المولى معونة ، او اقطع رجله فيمن يزاحم المولى بمجيئه كل يوم اليه ، او اقطع يده فيمن يتصرّف في اموال المولى بما لا ينبغي ، يفهم العرف : ان المولى يريد ان يقول لعبده : إعطه شيئا حتى لايطلب ، او إنصحه بأن لا يأتي الى المولى كل يوم ، أو عِظْهُ بأن لا يتصرف في اموال المولى ، الى غير ذلك من امثال هذه الأمثلة .

( وحينئذ ) اي : حين قلنا : بأن اللفظ هو المعيار ، لكن حسب فهم العرف ( فيستقيم أن يراد من قولهم : «إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء» : أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم ) لو لم يقم دليل خارجي من عقل او نقل في لفظ او خارج لفظ على خلافه ، هو : ( تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ) فتكون الاحكام دائرة مدار الأسماء حسب فهم العرف ، لا الأسماء حسب الفهم اللغوي الجاف .

وعليه : ( فيراد من هذه القضية ) اي : قضية كون الحكم يدور مدار اسماء موضوعاتها هو : ( تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ) اي : غير العرف كإخبار الشارع بنفسه ، فاذا اخبر الشارع ، أو فهم العرف من العنب ما يعم الزبيب ، ومن الرطب ما يعم التمر، ومن الحنطة ما يعم الدقيق ، فالحكم يدور مدار اللفظ لكن بضميمة فهم العرف أو إخبار الشارع نفسه .

( فافهم ) ولعله اشارة الى ان المعيار هو : فهم العرف من اللفظ ، لا ان اللفظ

ص: 307

الأمر الثاني :

مّما يعتبر في تحقّق الاستصحاب أن يكون في حال الشك متيقّنا بوجود المستصحب في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء .

فلو كان الشك في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا - كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالة زيد يوم الجمعة ، بأن زال مدرك اعتقاده السابق فشك في مطابقته للواقع ، أو كونه جهلاً

-------------------

هو المعيار باستثناء ما اذا فهم العرف غيره ، وحينئذ فلا يتم ما قاله المصنِّف : «فيراد من هذه القضية تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف» .

هذا كله تمام الكلام في الأمر الاول من خاتمة الاستصحاب ، وكان في بيان اشتراط بقاء الموضوع في الزمان الثاني وهو زمان الاستصحاب .

( الأمر الثاني ) : في بيان ان روايات الاستصحاب لا تشمل قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ ( مّما يعتبر في تحقّق ) مفهوم ( الاستصحاب ) الثابت بالأخبار هو : ( أن يكون في حال الشك متيقّنا بوجود المستصحب ) اي : المتيقن ( في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء ) فقط ، لا في نفس المتيقّن حال تيقنه به .

وعليه : ( فلو كان الشك في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا ) وذلك ، ( كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالة زيد يوم الجمعة ، بأن ) شك يوم السبت في ان يقينه بعدالة زيد في يوم الجمعة هل كان صحيحا ، أو لم يكن صحيحا ؟ لاستناده - مثلاً - الى قول من لا يوجب اليقين ولذلك ( زال مدرك اعتقاده السابق ) ، الذي اعتقد بسببه عدالة زيد يوم الجمعة ( فشك في مطابقته ) اي : مطابقة اعتقاده السابق ( للواقع ، أو كونه جهلاً

ص: 308

مركّبا - لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغةً ، ولا اصطلاحا .

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب لغةً : أخذ الشيء مصاحبا ، فلابدّ من إحراز ذلك حتى يأخذه مصاحبا ، فاذا شك في حدوثه من أصله فلا استصحاب .

-------------------

مركّبا ) لا واقع له في ذلك الحين ؟ .

إذن : فلو شك في مورد بأن يقينه السابق كان مطابقا للواقع ام لا ، وذلك بان سرى الشك الى نفس اليقين ( لم يكن هذا ) المورد المسمّى بالشك الساري والمعروف بقاعدة اليقين ( من مورد الاستصحاب لغةً ، ولا اصطلاحا ) وانمّا هو مورد لقاعدة اليقين ، ولا ربط له بالاستصحاب .

( أمّا الأوّل ) : وهو انه ليس من مورد الاستصحاب لغة ( فلأنّ الاستصحاب لغةً : أخذ الشيء مصاحبا ، فلابدّ من إحراز ذلك ) الشيء أوّلاً في مكانه ، كاحراز العدالة لزيد في يوم الجمعة اولاً ( حتى يأخذه مصاحبا ) معه ثانيا في يوم السبت عند الشك فيه .

وعليه : ( فاذا شك في حدوثه ) اي : حدوث الشيء وهو - مثلاً - عدالة زيد يوم الجمعة ( من أصله ) لا في بقائه الى يوم السبت بعد تسليم اصله ( فلا استصحاب ) لانه لا يقين سابق حتى يستصحب ، فانّ اليقين السابق قد تزلزل بعد سراية الشك اليه .

أقول : الاستصحاب لغة من باب الاستفعال ، وهو طلبٌ - كما قالوا - فالاستصحاب لغة معناه : طلب الصحبة ، وإنّما قيل للاستصحاب الاصطلاحي : استصحابا ، لان المستصحب لا يعلم هل صحبه ذلك واقعا او لم يصحبه ؟ فهو يطلب صحبة طهارته السابقة ، ومعنى طلب الصحبة : ترتيب الآثار .

ص: 309

وأمّا إصطلاحا : فلانّهم اتفقوا على أخذ الشك في البقاء أو ما يؤدّي هذا المعنى في معنى الاستصحاب .

نعم ، لو ثبت أنّ الشك بعد اليقين بهذا المعنى ملغىً في نظر الشارع ، فهي قاعدة اُخرى مباينة للاستصحاب ، سنتكلّم فيها ، بعد دفع توهّم

-------------------

( وأمّا ) الثاني : وهو انه ليس من مورد الاستصحاب ( إصطلاحا : فلانّهم اتفقوا على أخذ الشك في البقاء ) ولذلك قالوا : يقين سابق وشك لاحق ( أو ما يؤدّي هذا المعنى ) مثل تعريفهم له : بانه ابقاء ما كان ، او ابقاء ما كان على ما كان ، فالشك إذن ( في معنى الاستصحاب ) مأخوذ في البقاء لا في الحدث ، فاذا سرى الشك الى يوم الجمعة في المثال المتقدّم لم يكن الشك في البقاء ، وإنّما كان الشك في الحدوث .

( نعم ، لو ثبت أنّ الشك بعد اليقين بهذا المعنى ) اي : بمعنى قاعدة اليقين والشك الساري ، كالشك بعد اليقين بمعنى الاستصحاب والشك الطاري ، ( ملغىً في نظر الشارع ) يعني : كما ان الشارع لا يعتني بالشك الطاريء على اليقين المسمّى بقاعدة الاستصحاب ، كذلك كان لا يعتني بالشك الساري الى نفس اليقين المسمّى بقاعدة اليقين ، وذلك بان قال - مثلاً - : لو تُيقّن عدالة زيد يوم الجمعة ثم شك يوم السبت في نفس اليقين وانه هل كان اليقين في وقته صحيحا ام لا ؟ فلا يُعتنى بهذا الشك ، بل يحكم بعدالة زيد حينه ، اذا كان كذلك ، فهذه قاعدة ثانية غير الاستصحاب .

وعليه : فاذا اثبت الغاء الشارع هذا الشك ايضا ( فهي قاعدة اُخرى ) تسمّى بقاعدة اليقين ، كما تسمّى بالشك الساري ، وهي ( مباينة ) كليا ( للاستصحاب ) .

هذا ولا يخفى : انا ( سنتكلّم فيها ) اي : في قاعدة اليقين ( بعد دفع توهّم

ص: 310

من توهّم أنّ أدلة الاستصحاب يشملها وأنّ مدلولها لا يختص بالشك في البقاء ، بل الشك بعد اليقين ملغىً مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا أم ببقائه .

وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة : من شك في بعض أفعال الوضوء حيث قال : « والتحقيق أنّه فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ثمّ عرض له الشك ، فالظاهر :

-------------------

من توهّم أنّ أدلة الاستصحاب يشملها ) اي : يشمل قاعدة اليقين ( وأنّ مدلولها ) اي : مدلول ادلة الاستصحاب ( لا يختص بالشك في البقاء ، بل ) يشمل الشك في الحدوث ايضا .

وبعبارة اخرى : مدلول أدلة الاستصحاب هو : ان ( الشك بعد اليقين ملغىً مطلقا ) فعلى الشاك العمل بحسب اليقين السابق ( سواء تعلّق ) شكه اللاحق ( بنفس ما تيقّنه سابقا ) من عدالة زيد يوم الجمعة حيث تزلزل يقينه بها ممّا يسمّى بقاعدة اليقين ( أم ببقائه ) واستمرار ما تيقنه سابقا من عدالة زيد يوم الجمعة حيث ان ما تيقنه محرز في وقته ، وإنّما يشك في استمراره الى يوم السبت ممّا يسمّى بقاعدة الاستصحاب .

( وأوّل من صرّح بذلك ) التوهّم المذكور وقال : ان ادلة الاستصحاب تشمل قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين معا هو ( الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة : من شك في بعض أفعال الوضوء حيث قال : « والتحقيق أنّه فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ) وقاطعا بانه قد أكمل وضوءه ( ثمّ عرض له الشك ) في انه هل أكمل وضوءه ام لا ؟ بأن سرى شكه الى ما تيقّنه ، قال : ( فالظاهر :

ص: 311

عدم وجوب اعادة شيء لصحيحة زرارة : « ولا تنقُض اليقينَ ابدا بالشك » ، انتهى .

ولعلّه قدس سره تفطّن له من كلام الحلّي في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة ب « أنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها ، وليس ينقُض الشكُ اليقين » ، انتهى .

لكن هذا التعبير من الحّلي لا يلزم أن يكون استفادةً من أخبار عدم نقض اليقين بالشك .

-------------------

عدم وجوب اعادة شيء لصحيحة زرارة : « ولا تنقُض اليقينَ ابدا بالشك (1) » (2) ) وهي من ادلة الاستصحاب فاستدل بها على قاعدة اليقين .

( انتهى ) كلام الفاضل السبزواري ( ولعلّه ) اي : الفاضل المذكور ( قدس سره تفطّن له ) اي : لشمول ادلة الاستصحاب لقاعدة اليقين ( من كلام ) ابن ادريس ( الحلّي في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة ) وهي : ما اذا خرج من الوضوء متيقّنا بالاكمال ، ثم عرض له الشك في انه هل أكمل وضوءه ام لا ؟ قال : ( ب «أنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها ) لفرض انه في حال الوضوء قد تيقّن كماله ( وليس ينقُض الشكُ اليقين» (3) ، انتهى ) كلام ابن ادريس ، وهو ظاهر في قاعدة اليقين .

( لكن هذا التعبير من الحّلي لا يلزم أن يكون استفادةً من أخبار عدم نقض اليقين بالشك ) اي : من اخبار الاستصحاب ، اذ لعلّ ابن ادريس فهم الشك الساري من ادلّة اُخر .

ص: 312


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - ذخيرة المعاد : ص44 .
3- - السرائر : ص18 .

ويقرب من هذا التعبير عبارةُ جماعة من القدماء .

لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين ، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا بين مدّعٍ لانصرافها الى خصوص الاستصحاب وبين منكر له عامل بعمومه .

وتوضيح دفعه : أنّ المناط في القاعدتين مختلف ، بحيث لا يجمعهما مناط واحد ،

-------------------

( ويقرب من هذا التعبير ) اي : تعبير ابن ادريس ( عبارةُ جماعة من القدماء ) ايضا حيث ان ظاهرهم : عدم الاعتناء بالشك الساري والبقاء على اليقين السابق وان تزحزح اليقين السابق في مكانه .

( لكنّ التعبير ) المذكور عن ابن ادريس وعن الجماعة على ما عرفت ( لا يلزم دعوى شمول الأخبار ) اي : اخبار الاستصحاب ( للقاعدتين ) : قاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين معا ( على ما توهّمه ) اي : توهّم الشمول ( غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا ) اي : اختلف المتوهّمون ( بين مدّعٍ لانصرافها ) اي : انصراف الاخبار ( الى خصوص الاستصحاب ) وذلك لكثرة وجود موارد الاستصحاب ، بينما موارد قاعدة اليقين قليلة ( وبين منكر له ) اي : منكر لهذا الانصراف ( عامل بعمومه ) اي : بعموم أخبار الاستصحاب للقاعدتين : الاستصحاب واليقين معا .

( وتوضيح دفعه ) اي : دفع توهّم شمول روايات الاستصحاب للقاعدتين هو : ( أنّ المناط في القاعدتين مختلف ، بحيث لا يجمعهما مناط واحد ) اضافة الى ان اللفظ لا يشمل معنيين ، وذلك اما لاستحالته كما يقوله الآخوند ، واما لانه خلاف الظاهر ولا يصار اليه الاّ بدليل قطعي ، وهنا لا دليل قطعي عليه .

ص: 313

فانّ مناط الاستصحاب هو اتحاد متعلّق الشك واليقين ، مع قطع النظر عن الزمان ، لتعلّق الشك ببقاء ما تيقّن سابقا ، ولازمه كون القضية المتيقّنة ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة حين الشك أيضا من غير جهة الزمان .

ومناط هذه القاعدة اتحاد متعلّقيهما من جهة الزمان ، ومعناه : كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما تيقّنه سابقا

-------------------

وكيف كان : ( فانّ مناط الاستصحاب هو اتحاد متعلّق الشك واليقين ، مع قطع النظر عن الزمان ، لتعلّق الشك ببقاء ما تيقّن سابقا ) فعدالة زيد التي هي متعلّق اليقين يوم الجمعة تكون هي بنفسها متعلق الشك يوم السبت .

( و ) عليه : فاذا كان كذلك كان ( لازمه ) اي : لازم اتحاد متعلّق الشك واليقين مع قطع النظر عن الزمان هو : ( كون القضية المتيقّنة ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة حين الشك أيضا ) يعني : العدالة التي هي متعلق اليقين يوم الجمعة هي بنفسها بلا دخل لزمان الجمعة فيها متعلّق الشك في يوم السبت ، فالعدالة حين كونها مشكوكة لزيد متيقنة له ايضا لكن ( من غير جهة الزمان ) وامّا من جهة الزمان : فالمتيقّن كان في وقتٍ وهو يوم الجمعة ، بينما المشكوك في وقت آخر وهو يوم السبت ، فمناط الاستصحاب اتحاد متعلق الشك واليقين لكن لا من جهة الزمان .

( ومناط هذه القاعدة ) اي : قاعدة اليقين على العكس وهو : ( اتحاد متعلّقيهما ) اي : متعلق الشك واليقين ( من جهة الزمان ) فان عدالة زيد يوم الجمعة كانت متيقنة ثم صارت عدالة زيد يوم الجمعة في نفسها مشكوكة ، فمناط قاعدة اليقين على عكس قاعدة الاستصحاب ، لان في قاعدة الاستصحاب الاتحاد لا من جهة الزمان ، وفي قاعدة اليقين الاتحاد من جهة الزمان ( ومعناه : كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما ) اي : في نفس الذي ( تيقّنه سابقا ) من عدالة زيد شكا

ص: 314

بوصف وجوده في السابق .

فإلغاء الشك في القاعدة الاُولى عبارةٌ عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقا من حيث انه متيقّن من غير تعرّض لحال حدوثه .

وفي القاعدة الثانية هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه من غير تعرّض لحكم ابقائه ،

-------------------

فيه ( بوصف وجوده في السابق ) اي : في يوم الجمعة ، وهل انه كان حينها عادلاً ام لا ؟ .

وعليه : ( فإلغاء الشك في القاعدة الاُولى ) وهي قاعدة الاستصحاب ( عبارةٌ عن الحكم ببقاء ) عدالة زيد يوم الجمعة الذي هو ( المتيقّن سابقا من حيث انه متيقّن ) في نفسه وابقائه الى يوم السبت ( من غير تعرّض لحال حدوثه ) اي : حدوث المتيقّن في يوم الجمعة من عدالة زيد وهل انه كان حينها عادلاً ام لا ؟ لان المفروض : ان عدالة زيد في يوم الجمعة محرزة حينها في يوم السبت ايضا.

( و ) الغاء الشك ( في القاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين معناه : ( هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه ) من عدالة زيد يوم الجمعة والقطع بتحققها في حينها ، نافيا للشك الذي يريد ان يسري اليها يوم السبت ليزلزلها في حينها ( من غير تعرّض لحكم ابقائه ) اي : ابقاء ما تيقن حدوثه في يوم الجمعة من عدالة زيد الى يوم السبت ، وذلك لأنّ الكلام في قاعدة اليقين ليس هو في بقاء عدالته وعدم بقائها ، بل الكلام في انه هل كان عادلاً حينها ام لا ؟ .

مثلاً : اذا طلّق الزوج زوجته يوم الجمعة امام زيد الذي كان يتيقّن انه عادل ، فشك في يوم السبت هل انه كان عادلاً يوم الجمعة ام لا ؟ فان هذا الزوج لا يريد استصحاب عدالة زيد الى يوم السبت ، لانه لا يهمّه أن يكون زيد عادلاً

ص: 315

فقد يكون بقاؤه معلوما ، أو معلوم العدم ، أو مشكوكا .

واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ، بأن يقول الشارع : اذا حصل بعد اليقين بشيءٍ شكٌ له ، تعلّق بذلك الشيء

-------------------

يوم السبت او لا يكون عادلاً ، بل يريد ان يعلم حدوث عدالته يوم الجمعة وتحققها حينها ليعلم هل ان طلاقه يوم الجمعة كان صحيحا حتى تكون الزوجة مطلّقة ، أم لا حتى تكون بعدُ زوجة له ؟ .

هذا من جهة حدوث ما تيقنه من عدالة زيد يوم الجمعة ، وأما من جهة بقاء عدالته الى يوم السبت ( فقد يكون بقاؤه ) اي : بقاء زيد على عدالته الى يوم السبت ( معلوما ، أو معلوم العدم ، أو مشكوكا ) بلا فرق بينها في قاعدة اليقين ، وذلك لما عرفت : من ان الزوج المطلّق زوجته امام زيد يوم الجمعة لا يهمه عدالة زيد وعدم عدالته في يوم السبت ، وإنّما يريد ان يتحقق من عدالته يوم الجمعة حتى يكون طلاقه صحيحا .

( و ) ان قلت : يمكن هنا تصوير جامع يشمل القاعدتين ، فيمكن الاستدلال به على كل من القاعدتين بلا اشكال .

قلت ( اختلاف مؤدّى القاعدتين ) : قاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين - على ما عرفت - ( وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ) بالقرينة الخارجية ، او بوجود جامع بينهما ، كما اذا قال - مثلاً - : الشك لا اعتبار به بعد اليقين ، سواء يقينٌ

زال ، ام يقين لم يزل .

او ( بأن يقول الشارع : اذا حصل ) للانسان ( بعد اليقين بشيءٍ ) كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ( شكٌ له ، تعلّق بذلك الشيء ) بأن شك في العدالة يوم السبت

ص: 316

فلا عبرة به ، سواء تعلّق ببقائه أو بحدوثه ، واُحكِمَ بالبقاء في الأوّل ، وبالحدوث في الثاني ، إلاّ أنّه مانعٌ عن إرادتهما من قوله عليه السلام : « فليمض على يقينه » فانّ المضيّ على اليقين السابق ، المفروض تحقّقه في القاعدتين ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة بمعنى : الحكم بعدالته في ذلك اليوم ، من غير تعرّض لعدالته فيما بعده ، كما هو مفاد القاعدة الثانية ، يغايرُ المضيّ عليه بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة ، من غير تعرّض

-------------------

( فلا عبرة به ) اي : بهذا الشك ( سواء تعلّق ببقائه ) اي : ببقاء اليقين واستمراره الى يوم السبت وهي قاعدة الاستصحاب ( أو بحدوثه ، و ) تحقق ما تيقّنه يوم الجمعة من عدالة زيد حينها وهي قاعدة اليقين فاذا اتفق ذلك ( اُحكِمَ بالبقاء في الأوّل ، وبالحدوث في الثاني ) فيشمل هذا الكلام القاعدتين معا .

( إلاّ أنّه ) اي : اختلاف مؤدّى القاعدتين ( مانعٌ عن إرادتهما ) معا ( من قوله عليه السلام : «فليمض على يقينه » ) (1) لانها عبارة واحدة وهما معنيان ، ولا جامع بينهما، فظاهرها : قاعدة الاستصحاب فقط .

وإنّما يمنع عن ارادتهما معا لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فانّ المضيّ على اليقين السابق ، المفروض تحقّقه في القاعدتين ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة ) حيث انها كانت متيقنة حينها ، فيكون المضيّ على اليقين بها في قاعدة اليقين ( بمعنى : الحكم بعدالته في ذلك اليوم ، من غير تعرّض لعدالته فيما بعده ، كما هو مفاد القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين .

ومن المعلوم : ان هذا المعنى ( يغايرُ المضيّ عليه ) اي : على اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة المضي عليه ( بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة ، من غير تعرّض

ص: 317


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح646 .

لحال يوم الجمعة ، كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ، فلا يصح ارادة المعنيين منه .

فان قلت : إنّ معنى المضيّ على اليقين عدمُ التوقّف من أجل الشك العارض وفرض الشك كعدمه ، وهذا يختلف باختلاف متعلّق الشك ، فالمضيّ مع الشك في الحدوث بمعنى : الحكم بالحدوث

-------------------

لحال يوم الجمعة ، كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ) فان قاعدة الاستصحاب لا تتعرض ليوم الجمعة وإنّما تتعرض ليوم السبت .

وعليه : ( فلا يصح ارادة المعنيين ) للقاعدتين ( منه ) اي : من المضي على اليقين .

وان شئت قلت : ان قاعدة الاستصحاب تقول : هل ان حكم اليقين السابق باق ومستمر الى الزمان اللاحق ام لا ؟ وقاعدة اليقين تقول : هل ان حكم اليقين السابق باق ومتحقق في حينه ام لا ؟ .

( فان قلت : إنّ ) لفظ المضي شامل للمعنيين ، فهما فردان له ، لاانهما معنيان حتى يكون من استعمال اللفظ الواحد في معنيين ، وكذلك لفظ الشك ، فيكون ( معنى المضيّ على اليقين ) هو : ( عدمُ التوقف من أجل الشك العارض وفرض الشك كعدمه ) فكما انه اذا لم يشك الزوج في عدالة زيد صح طلاق زوجته امامه يوم الجمعة ، كذلك يصح له الاقتداء به يوم السبت .

( و ) عليه : فان ( هذا ) المعنى الواحد للمضي والشك لا يختلف في نفسه ، وإنّما ( يختلف باختلاف متعلّق الشك ، فالمضيّ مع الشك في الحدوث ) وانه هل كان عادلاً يوم الجمعة ام لا ؟ .

( بمعنى : الحكم بالحدوث ) وتحقق عدالته حينه ، اذ لا اعتبار بالشك .

ص: 318

ومع الشك في البقاء بمعنى الحكم به .

قلت : لاريب في اتحاد متعلّقي الشك واليقين ، وكون المراد المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما تعلّق به الشك .

والمفروض : أن ليس في السابق إلاّ يقين واحد ، وهو : اليقين بعدالة

-------------------

( ومع الشك في البقاء ) وانه هل بقي على عدالته الى يوم السبت ام لا ؟ ( بمعنى الحكم به ) اي : الحكم بالبقاء الى السبت ، اذ لا اعتبار بالشك ايضا ، فاين استعمال اللفظ في معنيين ؟ .

( قلت ) : ان لفظ : المضي ، ولفظ : الشك ، وان كان لهما معنى يصلح لِشمول الفردين ، وينطبق على القاعدتين معا ، الاّ ان ظاهر الاخبار : اعتبار اتحاد متعلقي اليقين والشك ، وهو يوجب التنافي بين المعنيين كما قال : ( لاريب في اتحاد متعلّقي الشك واليقين ، و ) ذلك لوضوح : انه لولا اتحاد متعلّقيهما كان الشك متعلّقا بشيء ، واليقين بشيء آخر ، ومعه لا يكون احدهما ناقضا للآخر ، حتى يشمله : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) .

وكذا لا ريب في ( كون المراد ) من المضي على اليقين ، وعدم الاعتناء بالشك هو : ( المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما تعلّق به الشك ) فان عدالة زيد - مثلاً - قد تعلق بها اليقين تارة ، وقد تعلق بها الشك اخرى . فالعدالة بنفسها هي متعلق اليقين وهي متعلق الشك ايضا ، فلا يعتنى بالشك فيها ، وإنّما يعتنى باليقين بها فقط .

هذا ( والمفروض : أن ليس في السابق إلاّ يقين واحد ، وهو : اليقين بعدالة

ص: 319


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

زيد ، والشك فيها وليس له هنا فردان يتعلّق أحدهما بالحدوث والآخر بالبقاء ، بل المراد : الشك في نفس ما تيقّن .

وحينئذ : فان اعتبر المتكلّم في كلامه : الشك في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ، فالمضي على هذا اليقين عبارةٌ عن : الحكم باستمرار هذا المتيقّن وإن اعتبر الشك فيه مقيّدا بذلك اليوم ، فالمضيّ على ذلك

-------------------

زيد ) يوم الجمعة ( والشك فيها ) أي : في تلك العدالة يوم السبت فان الشك هذا ( و ) ان كان له فردان : الشك في الحدوث ، والشك في البقاء ، الاّ انه ( ليس له هنا ) عند اتحاد متعلقي الشك واليقين ( فردان ) حتى ( يتعلّق أحدهما بالحدوث ) والتحقق الذي هو قاعدة اليقين ( والآخر بالبقاء ) والاستمرار الذي هو قاعدة الاستصحاب .

( بل المراد : الشك في نفس ما تيقّن ) فانه تيقّن عدالة زيد وشك في نفس عدالة زيد ، فالعدالة هي متعلّق الشك واليقين .

( وحينئذٍ ) اي : حين دلّت الاخبار على اعتبار اتحاد متعلّقي الشك واليقين المانع من تحقق فردين للشك ( فان اعتبر المتكلّم في كلامه : الشك في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ) كما في الاستصحاب ( فالمضي على هذا اليقين عبارةٌ عن : الحكم باستمرار هذا المتيقّن ) الذي هو عدالة زيد - كما في المثال - فانه يحكم باستمرارها من يوم الجمعة الى يوم السبت ولا يعتني بالشك فيها ، فيصح ان يصلي خلفه يوم السبت .

( وإن اعتبر الشك فيه ) اي : في هذا المتيقّن من عدالة زيد ( مقيّدا بذلك اليوم ) بأن كان يوم الجمعة قد تيقن بها فطلّق امامه ، ثم شك في يوم السبت في منشأ يقينه في يوم الجمعة ، فشك في صحة طلاقه ( فالمضيّ على ذلك

ص: 320

المتيقّن الذي تعلّق به الشك عبارةٌ عن الحكم بحدوثها من غير تعرّض للبقاء كأنّه قال : مَن كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها ، فليمض على يقينه السابق .

وقس على هذا سائر الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشك ، فانّ الظاهر اتحاد متعلّق الشك واليقين ، فلابدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان

-------------------

المتيقّن الذي تعلّق به الشك ) هو : ( عبارةٌ عن الحكم بحدوثها ) اي : حدوث العدالة وتحققها يوم الجمعة وان طلاقه كان صحيحا ، وذلك ( من غير تعرّض للبقاء ) والاستمرار الى يوم السبت ، وهذه هي قاعدة اليقين .

وعليه : ففي قاعدة اليقين ( كأنّه قال : مَن كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها ) اي : في نفس عدالة زيد التي تيقن بها يوم الجمعة وطلق امامه ( فليمض على يقينه السابق ) وليحكم بعدالته حينها وصحة طلاقه .

إذن : ففي قاعدة الاستصحاب يقول : ابق يقينك الى يوم السبت ، وفي قاعدة اليقين يقول : ابق على يقينك في يوم الجمعة ، ومن المعلوم : انهما مفهومان لا مفهوم واحد وفردان لا فرد واحد وان كان لهما جامع .

( وقس على هذا سائر الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشك ) غير صحيحة زرارة ( فانّ الظاهر ) من تلك الاخبار هو : اعتبار ( اتحاد متعلّق الشك واليقين ) الموجب للتنافي بين قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب ، واذا كان كذلك ( فلابدّ ) في دلالة هذه الاخبار على الاستصحاب - لا على قاعدة اليقين - بعد عدم شمول الاخبار للاستصحاب وقاعدة اليقين معا ( أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان ) بل مجرّدين عنه ، وذلك لان اليقين السابق يراد سحبه

ص: 321

وإلاّ لم يجر استصحابه كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد .

والمفروض في القاعدة الثانية كون الشك متعلّقا بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق .

-------------------

الى الآن اللاحق ، فلا يكون اليقين مقيّدا بيوم الجمعة .

( وإلاّ ) بان قيّد المتيقن والمشكوك بالزمان وذلك كما لو قال : من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة ، فشك يوم السبت في تحقق عدالته حينها ، فليمض على يقينه ، ممّا هو مفاد قاعدة اليقين ( لم يجر استصحابه ) لعدم يقين سابق اذ اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة قد تبدل الى الشك في العدالة يوم الجمعة.

( كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد ) حيث قد تقدّم : من انه لو أمر المولى عبده بالجلوس الى الظهر من يوم الجمعة ، ثم شك في وجوبه بعد الظهر كيف يفعل ؟ قال بعض : باجتماع استصحابين بعد الظهر : استصحاب الوجوب الموجود قبل الظهر ، واستصحاب عدم الوجوب الموجود قبل يوم الجمعة ، فيتعارضان ويتساقطان ، فرّده المصنِّف : بان هذا غير تام ، وإنّما اللازم هو استصحاب وجوب الجلوس ، فيما اذا لم يكن الزمان مفرّدا ، والاّ فاستصحاب عدم الجلوس فيما اذا كان الزمان مفرّدا .

هذا ( والمفروض في القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين هو : ( كون الشك متعلّقا بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق ) فعدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة في يوم الجمعة ، وفي يوم السبت نفس عدالة زيد يوم الجمعة مشكوكة التحقق في حينها .

إذن : فالملاحظ في قاعدة الاستصحاب عدم التقييد بالزمان ، والملاحظ

ص: 322

ومن المعلوم : عدم جواز إرادة الاعتبارين من اليقين والشك في تلك الاخبار .

ودعوى : « أنّ اليقين بكلّ من الاعتبارين فرد من اليقين ، وكذلك الشك المتعلق فرد من الشك ، فكلّ فرد لا ينقض بشكّه » ،

-------------------

في قاعدة اليقين هو التقييد بالزمان ( ومن المعلوم : عدم جواز إرادة الاعتبارين ) : عدم التقيد كما في قاعدة الاستصحاب ، والتقييد كما في قاعدة اليقين ( من اليقين والشك في تلك الاخبار ) وذلك لأنّ احدهما حدوث والآخر بقاء ، فاللازم ان يلاحظ إمّا الحدوث وإمّا البقاء ، لا ان يلاحظ اللحاظين على سبيل البدل .

هذا ( ودعوى : «أنّ اليقين بكلّ من الاعتبارين ) : الاطلاق والتقييد ( فرد من اليقين ، وكذلك الشك المتعلق ) اي : بكل من الاعتبارين الاطلاق والتقييد ( فرد من الشك ، فكلّ فرد ) من اليقين ( لا ينقض بشكّه » ) .

وعليه : فالشك في عدالة زيد يوم الجمعة له فردان : الشك في الحدوث ومقّيد بزمان الجمعة كما في قاعدة اليقين ، والشك في البقاء وغير مقيدّ بزمان الجمعة ، كما في الاستصحاب ، وكذلك اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ، له فردان ايضا : فرد مقيد بزمان الجمعة كما في قاعدة اليقين ، وآخر غير مقّيد بزمان الجمعة كما في الاستصحاب ، وحيث كان لكل من الشك واليقين - كما عرفت - فردان ، فلا مانع من ارادة الرواية القاعدتين ، لانه ليس من استعمال اللفظ في المعنيين ، بل من استعمال اللفظ في الكلي الذي له فردان وذلك غير ممنوع .

والحاصل من هذه ا لدعوى هو : ان اليقين بعدالة زيد يقينا مقّيدا بيوم الجمعة ، لا ينقض بالشك في حدوث عدالته شكا مقيدا بيوم الجمعة ، وهي قاعدة اليقين ، وان اليقين بعدالة زيد يقينا غير مقّيد بيوم الجمعة ، لا ينقض بالشك في بقاء

ص: 323

مدفوعةٌ : بأنّ تعدّد اللحاظ والاعتبار في المتيقّن به السابق ، بأخذه تارةً مقيّدا بالزمان السابق ، واُخرى : بأخذه مطلقا ، لا يوجبُ تعدّد أفراد اليقين .

وليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، فردين من اليقين تحت عموم الخبر ، بل الخبر بمثابة أن يقال : « مَن كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته فشك فيه ، فليمض على يقينه بذلك » ، فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

-------------------

عدالته شكا غير مقيّد بيوم الجمعة ، كما اذا اراد ان يصلي خلفه يوم السبت ، وهي قاعدة الاستصحاب .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ تعدّد اللحاظ والاعتبار في المتيقّن به السابق ، بأخذه ) اي : بأخذ المتيقن وهو : عدالة زيد كما في المثال ( تارةً مقيّدا بالزمان السابق ، واُخرى : بأخذه مطلقا ) غير مقيّد بالزمان ( لا يوجب تعدّد أفراد اليقين ) فان تعدّد لحاظ المتعلّق لا يجعل اليقين متعدّدا ، فاللازم اما ان يكون بلحاظ التقييد ، واما ان يكون بلحاظ الاطلاق ، لانهما لا يجتمعان .

( و ) كيف كان : فانه ( ليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم الجمعة ) اي : بالمطلق غير المقيّد ( واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، فردين من اليقين تحت عموم الخبر ) حتى يقال : ان الكلي شامل لهما ( بل الخبر بمثابة أن يقال : «مَن كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته ) الاخرى المترتّب عليها آثار شرعية ( فشك فيه ، فليمض على يقينه بذلك » ) اي : بالفسق فلا يصلّي خلفه ، او بالعدالة فيصّلي خلفه ، وهكذا ، فيفيد الاستصحاب فقط ، لان تعدّد اللحاظ من الفسق والعدالة لا يفيد تعدّد اليقين المذكور في العبارة الآنفة ( فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة ) .

ص: 324

ثمّ اذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ، فلابدّ أن يختصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب ، لورودها في موارد تلك القاعدة كالشك في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوال .

هذا كلّه ، لو اُريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقّن عند الشك ، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً - .

-------------------

هذا ، ولكن المستفاد العرفي من الخبر القائل : « ان الشك لا ينقض اليقين » (1) ، هو : المعنى الأعم الشامل لقاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين ، وما ذكره المصنِّف فهو الى الدقة العقلية أقرب منه الى المفهوم العرفي .

( ثم اذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ) : معنى الاستصحاب ، ومعنى قاعدة اليقين من الاخبار ( فلابدّ أن يختصّ مدلولها ) اي : مدلول هذه الاخبار ( بقاعدة الاستصحاب ، لورودها في موارد تلك القاعدة ) : اي : الاستصحاب ( كالشك في الطهارة من الحدث والخبث ) حيث استدل عليه السلام بهذه القاعدة لبقاء الطهارة منهما ( ودخول هلال شهر رمضان أو شوال ) ايضا حيث استدل عليه السلام بهذه القاعدة لبقاء شعبان وشهر رمضان .

( هذا كلّه ) اي : كل ما اوردناه من اشكال على ارادة المعنيين من الاخبار ان لم نقل بارادتها الاستصحاب فقط إنّما هو فيما ( لو اُريد من القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين ( إثبات نفس المتيقّن عند الشك ، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً - ) اي : أريد من قاعدة اليقين معنى واحدا وهو : اثبات عدالة زيد في نفس يوم الجمعة على ما في المثال فقط .

ص: 325


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح646 .

أمّا لو أريد منها إثباتُ عدالته من يوم الجمعة مستمرّة الى زمان الشك ، وما بعده الى اليقين بطروّ الفسق ، فيلزم استعمال الكلام في معنيين أيضا ، لأنّ الشك في عدالة زيد يوم الجمعة ، غيرُ الشك في استمرارها الى الزمان اللاحق .

وقد تقدّم نظير ذلك في قوله : عليه السلام « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » .

-------------------

( أمّا لو أريد منها ) اي : من قاعدة اليقين بالاضافة الى اثبات نفس المتيقن ( إثباتُ عدالته من يوم الجمعة مستمرّة الى زمان الشك ، وما بعده الى اليقين بطروّ الفسق ) عليه ، وذلك بان اريد من قاعدة اليقين معنيان : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة ، واثبات استمرار تلك العدالة الى يوم السبت على ما في المثال ( فيلزم استعمال الكلام في ) خصوص قاعدة اليقين في ( معنيين أيضا ) اي : بالاضافة الى الاستصحاب ، وذلك لان قاعدة اليقين حينئذ تفيد : قاعدة يقين واستصحاب لتلك القاعدة ، مضافا الى أصل دلالة الأخبار على الاستصحاب .

وإنّما يلزم استعمال اللفظ فيها في معنيين اضافة الى ما تقدّم فيما لو اردنا من قاعدة اليقين معنيين ( لأنّ الشك في عدالة زيد يوم الجمعة ، غيرُ الشك في استمرارها ) اي : استمرار العدالة ( الى الزمان اللاحق ) الذي هو يوم السبت .

إذن : فالاخبار حينئذ تدل على ثلاثة امور : على الاستصحاب ، وعلى قاعدة اليقين ، وعلى استمرار قاعدة اليقين الى زمان الشك .

( وقد تقدّم نظير ذلك ) عن المحقق النراقي ( في قوله : عليه السلام «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر (1) » ) فانه قال : ان هذه الرواية تشمل قاعدة الطهارة واستمرار تلك القاعدة ، فيكون معناه على قول النراقي : ان الأشياء محكومة في الظاهر

ص: 326


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

ثم لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ، لأنّه اذا شك في ما تيقّن سابقا ، أعني : عدالة زيد في يوم الجمعة ، فهذا الشك معارض لفردين من اليقين ، أحدهما : اليقينُ بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ،

-------------------

بالطهارة ، وان هذه الطهارة الظاهرية الثابتة للأشياء مستمرة الى زمن العلم بالنجاسة ، وقد ذكرنا هناك عند البحث في «كل شيء طاهر» ردّه .

( ثم لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين ) بأن قلنا : ان المراد بالشك هو : الشامل للشك الساري والشك الطاريء معا ، والمراد باليقين هو : الشامل لليقين الذي يراد استصحابه واليقين الذي يراد ابقاؤه معا ( لزم حصول التعارض في مدلول الرواية ) القائلة : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ( المسقط ) ذلك التعارض ( له ) اي : لمدلول الرواية ( عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين ، لان في كل موارد القاعدة يجري الاستصحاب المعارض لها دون العكس .

وإنّما يقع التعارض في مدلولها ( لأنّه اذا شك في ما تيقّن سابقا ، أعني : عدالة زيد في يوم الجمعة ) وذلك بان شك فيها يوم السبت ( فهذا الشك معارض لفردين من اليقين ) بالبيان التالي : -

( أحدهما : اليقينُ بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ) الذي هو من الشك الساري وقاعدة اليقين .

ص: 327


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص317 ب10 ح10462 .

الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ، فيدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان ، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب : على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في يوم الجمعة ، فكلّ من طرفي الشك معارضٌ لفرد من اليقين .

-------------------

( الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ) الذي هو من الشك الطاري وقاعدة الاستصحاب .

وعليه : ( فيدلّ بمقتضى القاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين : ( على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ) وذلك ( باحتمال انتفائها ) اي : العدالة ( في ذلك الزمان ) اي : في نفس يوم الجمعة ، كما ( و ) يدل ايضا ( بمقتضى قاعدة الاستصحاب : على عدم نقض اليقين بعدم عدالته ) اي : بعدم عدالة زيد المطلقة ( قبل الجمعة ) وذلك ( باحتمال حدوثها في يوم الجمعة ) وهما كما ترى متعارضان .

مثلاً : اذا حصل له يوم الجمعة اليقين بعدالة زيد ، ثم حصل له يوم السبت الشك في عدالته يوم الجمعة ، فهنا يقينان يقين قبل الجمعة بعدم العدالة المطلقة ، ويقين يوم الجمعة بالعدالة في يوم الجمعة ، وشك يوم السبت ذو طرفين : طرف سارٍ في عدالة يوم الجمعة ، وطرف طاريء في عدم العدالة المطلقة ( فكلّ من طرفي الشك معارض لفرد من اليقين ) في موارد قاعدة اليقين ، فان الشك في عدالة زيد يوم الجمعة معارض لليقين بعدم عدالته قبلها ، والشك في عدم عدالته يوم الجمعة معارض لليقين بعدالته فيها ، فاذا قلنا بشمول الاخبار لاعتبار الاستصحاب والقاعدة معا ، لزم التعارض في مدلولها في موارد القاعدة ، فتسقط

ص: 328

ودعوى : « أنّ اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة، والقاعدة الثانية تُثبِتُ وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق » ، مدفوعةٌ : بأنّ الشك الطاريء في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمِها عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق .

واحتمالُ انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ،

-------------------

القاعدة عن الحجية بالتعارض ، ويبقى الاستصحاب سليما عن المعارض ، فتكون الاخبار مختصة باعتبار الاستصحاب فقط .

( ودعوى : «أنّ اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة ) فلا استصحاب لعدم العدالة ( والقاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين ( تُثبِتُ وجوب اعتبار هذا اليقين ) اللاحق وهو اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ( الناقض لليقين السابق» ) وهو اليقين بعدم عدالة زيد قبل الجمعة ، واذا انتقض اليقين بعدم العدالة لم يصح استصحابه حتى يعارض اليقين بالعدالة ، فتبقى قاعدة اليقين سالمة عن المعارض ، فيتم دلالة الاخبار على اعتبار الاستصحاب والقاعدة معا .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الشك الطاريء ) اي : الحادث يوم السبت ( في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمِها ) هو : ( عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق ) على الجمعة وعدمه ، واذا كان كذلك فاليقين السابق بعدم العدالة المطلقة قبل الجمعة كيف ينتقض باليقين اللاحق بعدالة يوم الجمعة مع انه لا يقين لاحقا لسراية الشك فيه ؟ .

هذا ( واحتمالُ انتقاضه وعدمه ) اي : احتمال انتقاض اليقين السابق معارض لليقين السابق نفسه ، واحتمال عدم انتقاض اليقين السابق مُعارض لليقين اللاحق بعده ، فالاحتمالان ( معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ) واذا كان كذلك

ص: 329

فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه .

ثم إنّ هذا من باب التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فالتحقيق ما ذكرناه : من منع الشمول بالتقريب المتقدّم ، مضافا الى ما ربما يدّعى : من ظهور الاخبار في الشك في البقاء .

بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية غير هذه

-------------------

( فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه ) لانه لما تعارضا تساقطا ، والرواية اذا اشتملت على مثل هذه المعارضة لم يبق مجال لدلالتها على قاعدة اليقين ، فتختص بالاستصحاب .

( ثم إنّ هذا ) الذي ذكره المصنِّف : من عدم صحة الاستدلال بالاخبار على قاعدة اليقين لحصول التعارض في مدلولها ، إنّما هو ( من باب التنزّل والمماشاة ) مع الخصم القائل بأنها تدل على القاعدتين معا ( وإلاّ فالتحقيق ما ذكرناه : من منع الشمول ) للقاعدتين معا ، وذلك ( بالتقريب المتقدّم ) من قولنا : ان ظاهر الاخبار هو : اعتبار الاتحاد في متعلّق اليقين والشك الموجب للتنافي بين ارادة الاخبار للقاعدتين معا .

( مضافا الى ما ربما يدّعى : من ظهور الاخبار في الشك في البقاء ) والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب ، لا الشك في الحدوث والتحقق الذي هو مفاد قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ العرف يفهمون من الاخبار هذا المعنى فقط ، بالاضافة الى ان كثيرا من موارد الاخبار هو الاستصحاب على ما عرفت .

هذا ، ولكنا ذكرنا فيما مضى : ان الاخبار لها ظهور عرفي في ان الشك بعد اليقين، لا يعتنى به سواء كان طاريا أم ساريا وهو شامل للقاعدتين معا .

( بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية ) وهي : قاعدة اليقين ( غير هذه

ص: 330

الاخبار فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة إمّا أن يكون اثبات حدوث المشكوك فيه ، وبقائه مستمرا الى اليقين بارتفاعه ، وإمّا أن يكون مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده بأن يراد : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ،

-------------------

الاخبار ) اي: غير أخبار الاستصحاب التي عُلمت من المصنِّف القول بعدم دلالتها على هذه القاعدة ( فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة ) اي : قاعدة اليقين احد ثلاثة معانٍ : -

الأوّل : ( إمّا أن يكون اثبات حدوث المشكوك فيه ، و ) هو عدالة زيد يوم الجمعة على ما في المثال ، واثبات ( بقائه مستمرا الى اليقين بارتفاعه ) فيكون المطلوب من القاعدة معنيين : اثبات عدالة زيد يوم الجمعة ، واثبات استمرار تلك العدالة الى يوم السبت ، فاذا علم - مثلاً - بعدالة زيد يوم الجمعة وطلّق امامه ، ثم شك في يوم السبت بانه هل كان عادلاً ام لا ؟ فالطلاق في يوم الجمعة صحيح لثبوت العدالة ، كما ويصح الطلاق امامه مرة أخرى في يوم السبت ايضا لاستمرار العدالة .

الثاني : ( وإمّا أن يكون مجرّد حدوثه ) أي : حدوث المشكوك فيه وهو العدالة ( في الزمان السابق بدون إثباته بعده ) وذلك ( بأن يراد : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ) لا اثبات بقائها الى يوم السبت ، واذا كان المطلوب من القاعدة : اثبات نفس العدالة كان مقتضاه : ثبوت ما للعدالة من لوازمٍ شرعية سابقة كصحة طلاقه أمامه يوم الجمعة ، ولوازم شرعية لاحقة كصحة نذره ووجوب اعطائه كل يوم دينارا للفقير فيما اذا نذر ذلك معلقا على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة فقط لا استمرار عدالته ايضا .

ص: 331

وإمّا أن يراد مجرّد امضاء الآثار التي ترتّبت عليها سابقا ، وصحة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه .

فاذا تيقّن الطهارة سابقا وصلّى بها ثم شك في طهارته في ذلك الزمان فصلاتُه ماضيةٌ .

-------------------

الثالث : ( وإمّا أن ) لا يراد من القاعدة اثبات شيء من المعنيين حتى اثبات نفس العدالة ، بل ( يراد مجرّد امضاء الآثار التي ترتّبت عليها ) اي : على العدالة ( سابقا ، وصحة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ) فقط ، فليس المطلوب من القاعدة اثبات حدوث المشكوك فيه من العدالة وغيرها حتى يقتضي ذلك ثبوت مالها من لوازم شرعية سابقة ولاحقة ، بل المطلوب امضاء الآثار المترتبة وصحة الاعمال المتفرّعة عليها .

وعليه : ( فاذا تيقّن ) - مثلاً - ( الطهارة سابقا ) حين الزوال ( وصلّى بها ) صلاة الظهر ( ثم شك في طهارته في ذلك الزمان ) عندما اراد أن يصلي العصر ( فصلاته ) التي صلاها ظهرا ( ماضيةٌ ) اي : نافذة وصحيحة وليس اكثر من ذلك ، وهذا هو ثالث المعاني التي يمكن قصدها من القاعدة .

وان شئت قلت : -

الأوّل : الحكم بالعدالة واستمرارها الى يوم السبت .

الثاني : الحكم بالعدالة يوم الجمعة فقط ومقتضى الحكم بالعدالة ترتب آثارها الشرعية سابقا ولاحقا .

الثالث : الحكم بترتب الآثار وصحة الاعمال المتفرّعة على العدالة سابقا فقط دون اثبات نفس العدالة .

ص: 332

فان اُريد الأوّل ، فالظاهر : عدم دليل يدلّ عليه ، اذ قد عرفت أنّه لو سلّم اختصاص الاخبار - المعتبرة لليقين السابق - بهذه القاعدة لم يمكن أن يراد منها اثبات حدوث العدالة وبقائها ، لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكا مستقلاً .

نعم ، لوفرض القطع ببقائها على تقدير الحدوث ، أمكن أن يقال : إنّه اذا اثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة ثبت بقاؤها ، للعلم ببقائها على تقدير الحدوث ،

-------------------

وكيف كان : ( فان اُريد الأوّل ) وهو ماذكره بقوله : «اما ان يكون اثبات حدوث المشكوك فيه و - اثبات - بقائه مستمرا» ( فالظاهر : عدم دليل يدلّ عليه ، اذ قد عرفت أنّه لو سلّم اختصاص الأخبار - المعتبرة ) بالكسر ( لليقين السابق - بهذه القاعدة ) اي : بقاعدة اليقين ( لم يمكن أن يراد منها اثبات حدوث العدالة وبقائها ) معا لماذكرناه : من انه استعمال للّفظ في المتنافيين ، بالاضافة الى احتياجه للحاظين .

وإنّما لم يمكن ان يراد من القاعدة اثبات الحدوث والبقاء معا ( لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكا مستقلاً ) ففي قاعدة اليقين شك في انه هل حدث ام لا ؟ وفي الاستصحاب شك في انه هل بقي ام لا ؟ ولفظ واحد لا يتمكن ان يشمل كلا المعنيين .

( نعم ، لوفرض ) في مورد من الموارد ( القطع ببقائها على تقدير الحدوث ) بان قطعنا انه لو حدث بقي قطعا ( أمكن أن يقال : إنّه اذا أثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة ) اي : بقاعدة اليقين ( ثبت بقاؤها ) ايضا ، ولكن لا للاستصحاب ، بل ( للعلم ببقائها على تقدير الحدوث ) الثابت بقاعدة اليقين .

ص: 333

لكنّه لا يتمّ إلاّ على الأصل المثبت ، فهو تقدير على تقدير .

وربما يتوهّم الاستدلال لاثبات هذا المطلب بما دلّ الى عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد تجاوز محلّه .

لكنّه فاسد ، لأنّه على تقدير الدلالة لايدلّ على استمرار المشكوك ،

-------------------

هذا ( لكنّه ) اي : اثبات البقاء - لأجل القطع بالبقاء - على تقدير الحدوث الثابت بقاعدة اليقين ( لا يتمّ إلاّ على الأصل المثبت ) وذلك لان قاعدة اليقين تثبت الحدوث ، والقطع بالتلازم بين الحدوث والبقاء الذي هو لازم غير شرعي ، يثبت البقاء .

ومن المعلوم : ان اللوازم غير الشرعية ليست بحجة سواء في الاستصحاب أم في قاعدة اليقين ( فهو ) إذن ( تقدير على تقدير ) على ما عرفت : من انه إنّما يتم على تقدير العلم بالبقاء الملازم لتقدير الحدوث .

( وربما يتوهّم الاستدلال لاثبات هذا المطلب ) اي : اثبات المعنى الأوّل للقاعدة وهو اثبات المشكوك واثبات استمراره ( بما دلّ الى عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد تجاوز محلّه ) حيث قال عليه الصلاة والسلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) قالوا : ان هذا الدليل الدال على قاعدة التجاوز يدلّ عليه .

( لكنّه فاسد ، لأنّه على تقدير الدلالة ) فان الظاهر هو عدم دلالته على قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ مناط قاعدة التجاوز تجاوز المحل لا اليقين السابق ، فانه مع تسليم ذلك ( لا يدلّ على استمرار المشكوك ) بل يدلّ على اصل ثبوته في محله ،

ص: 334


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

لأنّ الشك في الاستمرار ، ليس شكا بعد تجاوز المحلّ .

وأضعف منه الاستدلال له بما سيجيء : من دعوى أصالة الصحة في اعتقاد المسلم ،

-------------------

ففي مثال الشك في متحقق عدالة زيد يوم الجمعة يدل على ثبوت العدالة يوم الجمعة ، لا استمرار العدالة الى يوم السبت .

وإنّما لا دلالة لهذا الدليل على الاستمرار ( لأنّ الشك في الاستمرار ، ليس شكا بعد تجاوز المحلّ ) فان الشك في استمرار عدالة زيد الى يوم السبت - مثلاً - ليس شكا بعد ما تجاوز المحل ، اذ ليس للعدالة محل .

( وأضعف منه ) اي : من الاستدلال لاثبات المعنى الاول للقاعدة بما دل على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ( الاستدلال له بما سيجيء : من دعوى أصالة الصحة في اعتقاد المسلم ) بتقريب : ان اعتقاده بعدالة زيد يوم الجمعة كان صحيحا ، فاذا شك في اعتقاده حمل اعتقاده على الصحيح ، ودليل صحة الاعتقاد ما دل على صحة أمر المسلم ووضعه على الصحيح ، فانه يشمل نفسه ايضا ، ولذا قالوا : انه اذا شك في ان عباداته في اول البلوغ كانت صحيحة ام لا ، يحملها على الصحة ؟ .

وإنّما كان هذا الاستدلال أضعف لما ذكره الأوثق : بقوله : «ان الحمل على الصحة فرع قابلية المحمول للصحة والفساد ، وصحة الاعتقاد ليست كذلك ، لان المدار في جواز العمل به وعدمه ، على حصول نفس الصفة وعدمه ، وليس له قسم صحيح يجوز العمل به ، وقسم فاسد لا يجوز العمل به ، كالظن الخبري والقياسي حتى يجب الحمل على الصحيح عند دوران الأمر بين الصحيح والفاسد منه » (1) .

ص: 335


1- - أوثق الوسائل : ص538 الشرط الثاني يتيقن وجود المستصحب سابقا في حال الشك .

مع أنّه كالأول في عدم اثباته الاستمرار .

وكيف كان : فلا مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى .

وربما فصّل بعضُ الأساطين بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله وأنّه غير قابل للاستناد اليه وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ، ثم غاب المستند وغفل زمانا ،

-------------------

وعلى ايّ حال : فان هذا الاستدلال يعتمد على استدلال كاشف الغطاء الذي ادعى أصالة الصحة في جميع الموجودات حتى الاعتقاد وسيأتي نقله عنه انشاء اللّه تعالى .

هذا ( مع أنّه ) اي : هذا الاستدلال ( كالأول ) اي : كالاستدلال الاول الذي توهّمه المستدل لاثبات المعنى الاول للقاعدة ( في عدم اثباته الاستمرار ) وإنّما يثبت - على فرض تسليم دلالته - : ان عدالة زيد في يوم الجمعة كانت صحيحة ، لا أن عدالته مستمرة الى يوم السبت - مثلاً - .

( وكيف كان : فلا مدرك لهذه القاعدة ) اي : قاعدة اليقين ( بهذا المعنى ) اي : بالمعنى الاول الذي هو الثبوت ثم البقاء .

( وربما فصّل بعضُ الأساطين ) وهو كاشف الغطاء ( بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله ) اي : بعد زوال الاعتقاد ( وأنّه غير قابل للاستناد اليه ) كما اذا اعتقد بعدالة زيد من إخبار عمرو وبكر ، ثم علم في يوم السبت ان عمروا وبكرا ليسا بعادلين حتى يكون خبرهما حجة ، ففي هذا المورد قال كاشف الغطاء بعدم جريان قاعدة اليقين فيه .

( وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ، ثم غاب المستند ) عن ذهنه بأن نسي مدرك اعتقاده ( وغفل زمانا ) ومدّة عن ذلك

ص: 336

فشك في طهارته ونجاسته ، فيبني على معتقده هنا ، لا في الصورة الاُولى ، وهو وإن كان أجود من الاطلاق ، لكن إتمامه بالدليل مشكل .

وإن اُريد بها الثاني ، فلا مدرك له بعد عدم دلالة اخبار الاستصحاب إلاّ ما تقدّم : من اخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحلّ .

لكنّها لو تمّت ،

-------------------

( فشك ) بعدها ( في طهارته ونجاسته ، فيبني على معتقده هنا ) اي : في هذه الصورة الثانية فقط ( لا في الصورة الاُولى ) فقاعدة اليقين إذن حجة في بعض الموارد وليست بحجة في بعضها الآخر .

( وهو ) اي : هذا التفصيل الذي ذكره كاشف الغطاء ( وإن كان أجود من الاطلاق ) لان كاشف الغطاء يمنع بعض صور قاعدة اليقين على المعنى الاول ، ولا يقول بحجيتها كلها، بينما الاطلاق يقول بحجية قاعدة اليقين على المعنى الاول في كل صورها ، فهذا التفصيل وان كان اجود ( لكن إتمامه ) اي : اتمام اعتبار الحجية للقاعدة بالمعنى الاول واسناده ( بالدليل مشكل ) لما عرفت : من ان روايات الاستصحاب ، وكذا قاعدة التجاوز ، مضافا الى اصل الصحة لا يشمل شيء منها قاعدة اليقين بالمعنى الاول .

( وإن اُريد بها ) اي : بقاعدة اليقين المعنى ( الثاني ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «وامّا ان يكون مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون اثباته بعده» بأن يراد اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ( فلا مدرك له ) يدل عليه ( بعد عدم دلالة اخبار الاستصحاب ) على قاعدة اليقين كما عرفت تفصيله ( إلاّ ما تقدّم : من اخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحلّ ) المعبّر عنها بقاعدة التجاوز .

هذا ، وقد مضى عدم دلالتها ( لكنّها لو تمّت ) اي : اخبار قاعدة التجاوز سندا

ص: 337

فانّما تنفع في الآثار المترتّبة عليه سابقا ، فلا يثبت بها إلاّ صحة ما ترتّبت عليها .

وأمّا اثبات نفس ما اعتقده سابقا حتى يترتب عليه بعد ذلك الآثار المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت السابق فلا ، فضلاً عن اثبات مقارناته غير الشرعية ،

-------------------

ودلالة ( فانّما تنفع في ) اثبات المعنى الثالث لقاعدة اليقين دون المعنى الثاني الذي هو محل كلامنا الآن ، اذ دليل التجاوز يفيد امضاء ( الآثار المترتّبة عليه سابقا ) فقط يعني : ان دليل التجاوز يقول : ان الصلاة التي صلّيتها خلف هذا الانسان صحيحة ، لا ان هذا الانسان عادل ، وهذا هو المعنى الثالث لقاعدة اليقين .

إذن : ( فلا يثبت بها إلاّ صحة ما ترتّبت عليها ) سابقا من الصلوات التي صلاها - مثلاً - خلفه حين يقينه بعدالته .

( وأمّا اثبات نفس ما اعتقده سابقا ) من عدالته يعني : اثبات نفس العدالة ( حتى يترتب عليه بعد ذلك ) اي : لاحقا في يوم السبت - مثلاً - لوازمه الشرعية ايضا من ( الآثار المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة ) كوجوب التصدق بدينار كل يوم فيما لو علّق نذره على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة ( و ) الآثار المترتبة على ( طهارة ثوبه في الوقت السابق ) فيما لو كان معتقدا بطهارة ثوبه ثم شك في معتقده ، حتى يكون ما لاقاه برطوبة طاهرا الآن ايضا ، فيتمكن من ان يُصلي فيه ( فلا ) لان قاعدة التجاوز تثبت الأثر لا المؤثر .

وعليه : فان قاعدة التجاوز لا تنفع ، الاّ لاثبات الآثار الشرعية السابقة ، فلا تثبت الآثار الشرعية اللاحقة للمتيقن ( فضلاً عن اثبات مقارناته غير الشرعية ،

ص: 338

مثل كونها على تقدير الحدوث باقية .

وإن اُريد بها الثالث ، فله وجهٌ ، بناءا على تماميّة قاعدة الشك بعد الفراغ وتجاوز المحلّ .

فاذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثم شك في صحة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان بنى على صحّة الصلاة ، لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق .

ولذا لو فرض في السابق غافلاً غير معتقد لشيء من الطهارة والحدث

-------------------

مثل كونها ) اي : العدالة والطهارة وأشباههما ( على تقدير الحدوث باقية ) ومستمرة لاحقا .

( وإن اُريد بها ) اي : بقاعدة اليقين المعنى ( الثالث ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «واما ان يراد مجرد امضاء الآثار التي ترتب عليها سابقا» ( فله وجهٌ ) وذلك

( بناءا على تماميّة قاعدة الشك بعد الفراغ وتجاوز المحلّ ) علما بان قاعدة الفراغ اعم مطلقا من قاعدة التجاوز اذ كل فراغ تجاوز ، وليس كل تجاوز فراغا ، فاذا شك بعد الصلاة في شيء من اجزاء الصلاة كان شكا بعد الفراغ وتجاوز ايضا ، بينما اذا شك في اثناء السورة بانه قرء الحمد ام لا ، كان شكا بعد التجاوز وليس فراغا .

وعلى اي حال : ( فاذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثم شك في صحة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان ) الذي صلّى فيه ام لا ( بنى على صحة الصلاة ) لانه شك بعد الفراغ ( لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق ) حتى يكون ذلك من جهة قاعدة اليقين ، بل صحة الصلاة من جهة عدم اعتبار الشك بعد الفراغ .

( ولذا لو فرض ) كونه ( في السابق غافلاً غير معتقد لشيء من الطهارة والحدث ) وصلّى غافلاً عن الصحة والفساد ، وبعد تمام الصلاة شك في ان

ص: 339

بنى على الصحة أيضا ، من جهة أنّ الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به ، على المشهور بين الاصحاب ، خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين ، كصاحب المدارك ، وكاشف اللثام ، حيث منعا البناء على صحة الطواف اذا شك بعد الفراغ في كونه مع الطهارة ، والظاهر كما يظهر من الأخير أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل .

ولعلّ بعض الكلام في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحة في الأفعال

-------------------

صلاته كانت بطهارة ام لا ( بنى على الصحة أيضا ) مع انه لا يقين في السابق ، اذ المفروض انه غافل حين الصلاة عن كونه متطهرا ام محدثا فيكون بناؤه على الصحة ( من جهة أنّ الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به ) اي : بهذا الشك وذلك ( على المشهور بين الاصحاب ) وكذا يكون بالنسبة الى الصوم والحج والوضوء والغسل وما اشبه ذلك ، كما ذكروه في الفقه ( خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين ، كصاحب المدارك ، وكاشف اللثام ، حيث منعا البناء على صحة الطواف اذا شك بعد الفراغ في كونه مع الطهارة ) طاف ام لا ؟ ( والظاهر كما يظهر من الأخير ) اي : من كاشف اللثام : ( أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل ) ولعله لانهم لا يرون اثنينيّةً بين الفراغ والتجاوز ، بل يعدّونهما قاعدة واحدة فيخصون جريانها في الأجزاء فقط ، كما اذا شك حال الركوع في القراءة ، او شك حال السجود في الركوع ، وهكذا ، فانه يبني على الصحة ، لا بعد مجموع العمل ، كالمثال المذكور من الشك بعد الفراغ من الطواف فانه شك بعد مجموع العمل ، بالاضافة الى انه شك في الشرط لا في الجزء .

( ولعلّ بعض الكلام في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحة في الأفعال

ص: 340

انشاء اللّه .

وحاصل الكلام في هذا المقام هو : أنّه اذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا بشيء في زمان ، موضوعا كان أو حكما إجتهاديا أو تقليديا ، ثم زال اعتقاده ، فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتّب آثار المعتقد ، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد الى ما يقتضيه الاصول بالنسبة الى نفس المعتقد والى الآثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا .

-------------------

انشاء اللّه ) تعالى ، كما ان تفصيل الكلام حوله مذكور في الفقه .

( وحاصل الكلام في هذا المقام ) عن قاعدة اليقين ( هو : أنّه اذا اعتقد المكلّف قصورا ) في مدرك اعتقاده كما لو اعتمد على عدلين تبين فسقهما ( أو تقصيرا ) كالاعتماد على من لم يعتدّ بخبره ، فاعتقده من اجله ( بشيء في زمان ) كيوم الجمعة ( موضوعا كان ) ذلك الشيء كعدالة زيد ( أو حكما ) كطهارة عرق الجنب من الحرام ( إجتهاديا ) بان اجتهد فاعتقد بطهارة عرق الجنب من الحرام ( أو تقليديا ) بان قلّد فاعتقد بالطهارة المذكورة ( ثم زال اعتقاده ) يوم السبت ( فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتّب آثار المعتقد ) من العدالة والطهارة وغير ذلك ، لعدم الدليل على قاعدة اليقين بمعانيها الثلاثة .

( بل يرجع بعد زوال الاعتقاد الى ما يقتضيه الاصول بالنسبة الى نفس المعتقد ) فيرجع الى أصالة الفسق في زيد الذي اعتقد عدالته يوم الجمعة ، كما يرجع الى استصحاب نجاسة عرق الجنب من الحرام ، فيما اذا كان اجتهاده السابق النجاسة ( و ) كذا يرجع الى ما تقتضيه الاصول بالنسبة ( الى الآثار المترتبة عليه ) اي : على معتقده ( سابقا ) فيرجع الى قاعدة الفراغ ويحكم بصحة صلاته التي صلاّها خلفّ زيد يوم الجمعة ( أو لاحقا ) فيرجع الى اصل البرائة من وجوب

ص: 341

الثالث :

أن يكون كلُّ من بقاء ما أحرز حدوثه سابقا ، وارتفاعه غير معلوم ، فلو علم احدهما فلا استصحاب ، وهذا مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعي واقعي واضحٌ .

وإنّما الكلام فيما أقامه الشارعُ مقام العلم بالواقع ،

-------------------

التصدق كل يوم بدينار فيما لو علق نذره على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة .

( الثالث ) ممّا يعتبر في تحقق مفهوم الاستصحاب هو عدم العلم بالبقاء ولا بالارتفاع ، يعني ( أن يكون كلُّ من بقاء ما أحرز حدوثه سابقا ، وارتفاعه غير معلوم ) لنا في الزمان الثاني فاذا علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة ، ثم في يوم السبت علمنا بانه عادل او علمنا بانه ليس بعادل ، فلا مورد للاستصحاب كما قال : ( فلو علم احدهما ) اي : البقاء او الارتفاع ( فلا استصحاب ) لانه لا شك وقد عرفت : بأن من مقومات الاستصحاب الشك اللاحق .

( وهذا ) اي : عدم الاستصحاب ( مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعي واقعي واضحٌ ) لأنه لا شك اذا قطع بانه باق ، أو قطع بانه مرتفع ، ومع عدم الشك لا استصحاب .

إذن : فلا كلام في عدم الاستصحاب فيما لو علم بالبقاء او الارتفاع من دليل قطعي ( وإنّما الكلام فيما أقامه الشارعُ مقام العلم بالواقع ) من الأمارات والطرق :

كالخبر الواحد والاجماع المنقول في الاحكام ، وكالبينة والسوق في الموضوعات، وذلك كما اذا اقتضى الاستصحاب طهارة شيء وقامت البينة على نجاسته ، او اقتضى الاستصحاب نجاسة شيء ولكن دلّ السوق على طهارته ، كاللحم الذي يباع في سوق المسلمين فايّهما يكون المقدّم ؟ .

ص: 342

فانّ الشك الوقعي في البقاء والارتفاع لا يزول معه ، ولاريب في العمل به دون الحالة السابقة .

لكنّ الشأن في أنّ العمل به من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب أو من باب التخصّص .

الظاهر : أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ،

-------------------

وكيف كان : ( فانّ الشك الوقعي في البقاء والارتفاع لا يزول معه ) اي : مع ما أقامه الشارع مقام العلم ، حتى لا يجري الاستصحاب ، وذلك لان الانسان مع قيام البينة أو السوق على النجاسة او الطهارة لا يزول شكه ، بل يبقى شاكا في الطهارة وعدمها حقيقة ، غاية الامر انه يكون مع قيام البينة او السوق - مثلاً - متعبّدا من قبل الشارع بخلاف الحالة السابقة ، لا عالما بخلاف الحالة السابقة .

هذا ، ولكن لا شك ( ولاريب في العمل به ) اي : العمل بما اقامه الشارع من الدليل مقام العلم دون الاستصحاب ، يعني : ( دون الحالة السابقة ) فانه لا يصح العمل بالحالة السابقة قطعا ( لكنّ الشأن ) والكلام ( في أنّ العمل به ) اي : بما اقامه الشارع من الدليل المضادّ للحالة السابقة هل هو ( من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب ) علما بأن التخصيص هو اخراج حكمي ، وذلك كأن يقول الشارع : اعمل بالاستصحاب الاّ اذا قام الدليل على خلافه ( أو من باب التخصّص ) علما بأن التخصّص هو خروج موضوعي ، فيكون من قبيل عدم اكرام زيد الجاهل فيما اذا قام الدليل على اكرام العلماء ، فان عدم اكرام زيد الجاهل من باب التخصّص لا التخصيص ؟ .

( الظاهر : أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور ) من الخبر الواحد والاجماع والبيّنة والسوق وما اشبه ذلك ( على أدلّة الاستصحاب ) علما بأن الحكومة هي :

ص: 343

وليس تخصيصا بمعنى : رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما رفع اليد عنها في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها بما دلّت على وجوب البناء على الأكثر ولاتخصّصا بمعنى خروج المورد بمجرّد

-------------------

توسيع او تضييق في دائرة الموضوع ، وذلك كأن يقول الشارع فيما نحن فيه : اعمل بالاستصحاب ولكن اذا قام الدليل على خلافه ضيّق دائرة الاستصحاب عن شمول هذا المورد ، فلا يشمله تضييقا ، للحكومة ، ومنه يعرف عكسه في التوسيع .

إذن : فما نحن فيه هو من باب الحكومة ( وليس تخصيصا ) كما يراه صاحب الرياض حيث قال في محكي كلامه : ان الأمارة تتقدم على الاصول بألوان التخصيص ، والتخصيص على ما عرفت ( بمعنى : رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما رفع اليد عنها ) اي : عن ادلة الاستصحاب ( في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها ) اذا كان الشك فيها بعد اكمال السجدتين ، فانه يرفع اليد عن الاستصحاب الدال على الأقل ( بما ) اي : بالادلة التي ( دلّت على وجوب البناء على الأكثر ) فان الشارع الغى الاستصحاب في ركعات الصلاة مع تمامية اركانه ، وجعل بدله العمل بالبناء على الاكثر ، وذلك على ما هو مذكور في الفقه .

وعليه : فما نحن فيه من باب الحكومة لا تخصيصا على ما عرفت ( ولا تخصّصا ) والمراد بالتخصّص هنا ليس هو التخصّص الاصطلاحي بل هو : الورود ، علما بأن الورود هو : نسف للموضوع بحيث يكون وجود احد الدليلين مخرجا للشيء عن موضوع الدليل الآخر ، اي : ( بمعنى خروج المورد بمجرّد

ص: 344

وجود الدليل - عن مورد الاستصحاب ، لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلمي المزيل بوجوده للشك المأخوذ في مجرى الاستصحاب .

-------------------

وجود الدليل - عن مورد الاستصحاب ) .

مثلا : اذا شككنا في طهارة ماء كان مسبوقا بالنجاسة ، فالاستصحاب يقول بنجاسة الماء ، فاذا قامت البينة على طهارته كانت البينة حاكمة على الاستصحاب لا واردة عليه ، وذلك لان مجرّد وجود البينة لا يزيل الشك في بقاء النجاسة ، لوضوح : ان البيّنة تقوم ، ومع ذلك يكون الانسان شاكا في انه هل هو نجس او طاهر ؟ .

نعم ، دليل اعتبار البيّنة يوجب تقدّم البيّنة على الاستصحاب بعنوان الحكومة ، بينما الدليل الوارد هو ما كان يزيل الشك فينسف موضوع ما لا يعلمون بورود دليل على حرمة التتن - مثلاً - فيتحوّل اللاعلم الى العلم ، كما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( لأنّ هذا ) اي : التخصّص بمعنى الورود ( مختصّ بالدليل العلمي المزيل بوجوده ) اي : بوجود هذا الدليل العلمي ( للشك المأخوذ في مجرى الاستصحاب ) .

إذن : فالورود إنّما هو من قبيل ما اذا بيّن الشارع حكما ، حيث ان البيان ينسف موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وهو الشك - ويزيله ، وليس كذلك الطرق والأمارات في مورد الاستصحاب فانه لا يزول الشك بها ، فيكون مثل الخبر الواحد والاجماع في الاحكام ، والبيّنة والسوق في الموضوعات حاكمة على الاستصحاب لا مخصصة ، ولا واردة ، وقد عبّر المصنِّف عن الورود بالتخصّص حيث قال : وليس تخصيصا ولا تخصّصا .

ص: 345

ومعنى الحكومة : على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر ، لولا هذا الدليل الحاكم أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لولا

-------------------

هذا ( ومعنى الحكومة : على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح ) ان شاء اللّه تعالى وعلى ما سبق من تعريفنا له هو : ان يكون الدليل الحاكم ناظرا الى الدليل المحكوم ومفسرا له ، اما بتضيق دائرة موضوعه يعني : باخراج شيء منه ، او بتوسيع دائرة موضوعه ، يعني : بادخال شيء فيه .

إذن : فالتضييق هو : ( أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر ، لولا هذا الدليل الحاكم ) .

مثلاً : اذا قال الشارع : « اذا شككت فابن على الاكثر » (1) ، كان هذا دليلاً على وجوب البناء على الاكثر مطلقا ، سواء كان شك الإمام والمأموم ام غيرهما ، لكن الشارع لما ذكر انه لا اعتبار بشك الإمام مع حفظ المأموم او شك المأموم مع حفظ الإمام ، سقط قاعدة وجوب البناء على الاكثر فيما لو شك احدهما مع حفظ الآخر، فالدليل الحاكم ضيّق موضوع دليل المحكوم ، حيث ان دليل المحكوم كان شاملاً لشك الإمام والمأموم والدليل الحاكم ضيّقه واخرج من البناء على الاكثر شك الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، وهذه هي الحكومة المضيّقة .

وأمّا الحكومة الموسّعة ، فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( أو ) ان يحكم الشارع ( بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله ) اي : دليل ذلك المورد ( لولا

ص: 346


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، جامع احاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 .

الدليل الحاكم ، وسيجيء توضيحه إن شاء اللّه .

ففي ما نحن فيه اذا قال الشارع : « إعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك » والمفروض : أنّ الشك موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ، فانّ الشارع حكم

-------------------

الدليل الحاكم ) بأن يكون الدليل الحاكم أعم ، كما اذا قال الشارع : «لا صلاة الاّ بطهور » (1) ، ثم قال : « الطواف بالبيت صلاة » (2) فالدليل الثاني يقتضي وجوب الطهور عند الطواف ، مع ان الدليل الاول اقتضى اختصاص الطهور بالصلاة فقط ، لكن الطواف بالبيت صلاة وسّع دائرة الصلاة بحيث جعلها تشمل الصلاة المتعارفة والطواف ، ولذلك يكون الدليل القائل : الطواف بالبيت صلاة ، حاكم: على الدليل : القائل : لا صلاة الاّ بطهور ( وسيجيء توضيحه إن شاء اللّه ) تعالى مفصّلاً .

وكيف كان : ( ففي ما نحن فيه ) من كون دليل الاستصحاب محكوما ، ودليل الخبر او الاجماع في الاحكام ، او البيّنة والسوق في الموضوعات حاكما ، قد اجتمع التضييق والتوسعة فيه معا ، وذلك كما ( اذا قال الشارع : « إعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك » ) الذي هو مجرى استصحاب الطهارة فيما اذا قامت البيّنة على نجاسته ، فعامله معاملة النجس وان احتملت الخلاف .

هذا ( والمفروض : أنّ الشك موجود ) تكوينا ( مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ) الذي جرى فيه استصحاب الطهارة ، ولكن مع ذلك ( فانّ الشارع حكم

ص: 347


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و4 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1، الامالي للصدوق : ص645 .
2- - نهج الحق : ص472 ، غوالي اللئالي : ج1 ص414 و ج2 ص167 ح3 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

في دليل وجوب العمل بالبيّنة برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبينّة ، التي منها استصحاب الطهارة .

وربما يُجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص ، بناءا على أنّ المراد من الشك عدم الدليل والطريق ، والتحيّرُ في العمل ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لاحيرة .

-------------------

في دليل وجوب العمل بالبيّنة ) حيث قال : «والاشياء كلها على ذلك حتى تستبين او تقوم به البينة » (1) ( برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبينّة ) اي : نزَّلَ مؤدّى البيّنة بالتوسعة منزلة العلم وجعله علما ، ففسّر به دليل الاستصحاب بتضييق موضوعه وهو الشك وجعله كلا شك ، فحكم من اجل البينة برفع اليد عن الآثار المترتبة على الاحتمال المخالف للبينة ، و ( التي منها ) اي : من تلك الآثار ( استصحاب الطهارة ) فلا تستصحب الطهارة حينئذ من باب الحكومة .

هذا ( وربما يُجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص ) وفي بعض النسخ : «من باب التخصّص» والمراد من التخصّص الورود ، والتخصّص بهذا المعنى هو الأوفق هنا نظرا لما بعده من عبارة المصنِّف حيث يقول : ( بناءا على أنّ المراد من الشك ) الذي هو موضوع الاستصحاب ليس هو عدم العلم الذي لا يرتفع الاّ بالعلم ، بل المراد بالشك هو : إما ( عدم الدليل والطريق ، و ) إما ( التحيّرُ في العمل ، و ) من المعلوم : انه ( مع قيام الدليل الاجتهادي لاحيرة ) فلا استصحاب .

إذن : فحيث انه لا يبقى مع الدليل الاجتهادي موضوع للاستصحاب ، يكون

ص: 348


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليلاً قطعيُّ الاعتبار ، فنقضُ الحالة السابقة نقضٌ باليقين .

وفيه :

-------------------

الدليل الاجتهادي واردا ، لما عرفت : من ان الورود عبارة عن ان احد الدليلين يرفع موضوع الدليل الآخر ، وهنا كان موضوع الاستصحاب حسب الفرض : عدم الدليل ، وقد ورد الدليل من خبر او اجماع على خلاف الاستصحاب ، فارتفع به موضوع الاستصحاب ، بينما يكون الدليل على ما ذكره المصنِّف ، حاكما ، لان موضوع الاستصحاب عنده هو عدم العلم ، والدليل لا يقلب عدم العلم علما حتى يكون ورودا .

( وإن شئت قلت : ) في تقريب كون الادلة واردة على الاستصحاب : ( إنّ المفروض دليلاً ) كالبينة والسوق ، والخبر والاجماع ( قطعيُّ الاعتبار ) فاذا كان اعتباره قطعيا يقينيا ( فنقضُ الحالة السابقة ) إنّما هو ( نقضٌ باليقين ) لا نقض بالشك حتى يشمله دليل : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ومعه لم يبق موضوع للاستصحاب ، وهو معنى الورود .

والحاصل : ان موضوع الاستصحاب على هذا التقريب هو : الشك بمعنى : عدم العلم ، والمراد بالعلم هو : ما يعم الواقعي ، وما قامت البينة والسوق عليه ، او ما قام الخبر والاجماع عليه ، فمؤدّاه علم ، فينتفي عدم العلم الذي هو موضوع الاستصحاب ، فالدليل إذن وارد لا حاكم عليه .

( وفيه : ) إنّ أدلّة حجية الخبر ، وحجية البيّنة ، شارحة لدليل اعتبار

ص: 349


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

أنّه لا يرفع التحيّر ، ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلاّ بعد اثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، وإلاّ أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوبُ العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا ؟ ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا ؟.

-------------------

الاستصحاب ومفسّرة له ، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بالحكومة ، من قبيل شك الإمام والمأموم الحاكم على : « ان شككت فابن على الاكثر » (1) ونحوه ، وذلك ( أنّه ) اي : ان قيام الدليل الاجتهادي كالخبر ( لا يرفع التحيّر ، ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب ) حتى يكون الدليل الاجتهادي واردا على دليل الاستصحاب ( إلاّ بعد اثبات كون مؤدّاه ) أي : مؤدّى ذلك الدليل الاجتهادي (حاكما على مؤدّى الاستصحاب) وشارحا ومفسرا له.

( وإلاّ ) بان لم يثبت كون مؤدّى الدليل حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، لم يكن وجه لتقديم الأمارة على الاستصحاب ، بل ( أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب ) هو : ( وجوبُ العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة ) على الخلاف كالبينة ( أم لا ؟ ) هذا مؤدّى الاستصحاب ( ومؤدّى دليل تلك الأمارة ) هو : ( وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة ) بان كان في مورد الاستصحاب ( أم لا ؟ ) فعموم الدليلين - : الاستصحاب والأمارة - في مادة التعارض ان لم نقل بحكومة دليل اعتبار الأمارة

ص: 350


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .

ولا يندفع مغالطةُ هذا الكلام إلاّ بما ذكرنا : من طريق الحكومة ، كما لا يخفى .

وكيف كان : فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب لا يخلو من مسامحة ، لأنّ مرجع ذلك بظاهره الى عدم المعارض لعموم « لا تنقض » ،

-------------------

لم يكن وجه لتقديمه على الاستصحاب .

إذن : فلا يتم تقديم الأمارة على الاستصحاب في مادّة تعارضهما ( ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلاّ بما ذكرنا : من طريق الحكومة كما لا يخفى ) ذلك على كل اصولي دقيق .

( وكيف كان ) فانه سواء كان تقدّم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة كما يراه المصنِّف ، أم من باب الورود كما يراه غيره ( فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب ) مع انه من شرايط جريان الاستصحاب ، لان وجوده يكون مانعا من جريانه ومخصصا لعموم لا تنقض ، فهو ( لا يخلو من مسامحة ) في التعبير ، فاللازم ان يأتي هذا البعض بكلمة : « ارتفاع » مكان كلمة : « خلاف » فيقول : من شرائط العمل بالاستصحاب عدم الدليل الاجتهادي على ارتفاع الحالة السابقة ، بدل قوله : على خلاف الحالة السابقة ، حتى يكون من شرائط العمل بالاستصحاب .

وإنّما لا يخلو هذا التعبير من مسامحة ( لأنّ مرجع ذلك ) التعبير يعني : على خلاف الحالة السابقة ( بظاهره الى ) شرط تحقق جريان الاستصحاب وهو : ( عدم ) وجود الدليل الاجتهادي ( المعارض لعموم « لا تنقض » ) فإنّ وجود الدليل الاجتهادي المعارض يكون مانعا عن جريان الاستصحاب ومخصصا

ص: 351

كما في مسألة البناء على الأكثر ، لكنّه ليس مراد هذا المشترط قطعا ، بل مراده عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة .

ولعلّ ما أورده عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من « أنّ الاستصحاب أيضا أحدٌ من الأدلّة فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدُهما على الآخر .

-------------------

لعموم دليله ( كما في مسألة البناء على الأكثر ) عند الشك في ركعات الصلاة ، فانه دليل اجتهادي مانع من جريان الاستصحاب ومخصص لعموم دليله في البناء على الاقل ، وهذا ليس من شرائط العمل بعموم دليل الاستصحاب فقط ، بل من شرائط العمل بعموم كل عام ، ( لكنّه ) اي : اشتراط عدم وجود الدليل الاجتهادي المعارض للاستصحاب ( ليس مراد هذا المشترط قطعا ) لان وجود الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة يكون مانعا عن جريان الاستصحاب ومخصصا لعموم دليله ، وليس حاكما ، ولا واردا على الاستصحاب ، مضافا الى ان هذا الشرط ليس مختصا بعموم دليل الاستصحاب فقط، بل يجري في عموم كل عام.

إذن : فليس مراد المشترط : عدم وجود الدليل الاجتهادي المعارض ، الذي هو مانع من جريان الاستصحاب ومخصّصا لعموم دليله على ما يظهر من تعبيره ( بل مراده ) من تعبيره بذلك : ( عدم الدليل ) الاجتهادي ( على ارتفاع الحالة السابقة ) الذي هو حاكم برأي المصنِّف أو وارد برأي غيره على الاستصحاب .

( ولعلّ ما أورده عليه ) اي : على هذا المشترط ( المحقق القمي رحمه اللّه : من « أنّ الاستصحاب ) على كلام هذا المشترط يكون ( أيضا أحدٌ من الأدلّة ) فيكون حال الاستصحاب حال سائر الادلة عند وجود المعارض ( فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح ) هو ( على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدُهما على الآخر ) بل يتعارضان

ص: 352

قال قدس سره « ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود : أنّه في حكم ماله حتى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة - المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحققين - الدالة على وجوب الفحص أربع سنين » ، مبنيٌّ على ظاهر كلامه ، من إرادة العمل بعموم « لا تنقض » .

-------------------

ويتساقطان ، فاللازم حينئذ التماس دليل ثالث .

ثم ( قال قدس سره ) في اثبات ايراده هذا على المشترط : ( « ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود : أنّه في حكم ماله ) اي : مال المفقود من حيث عدم جواز التصرف فيه ، وعَدم جواز تقسيمه بين الورثة ( حتى يحصل العلم العادي ) اي : الاطيمنان ( بموته ) .

وإنّما قال هذا البعض : لا يجوز تقسيم مال المفقود على الورثة ( استصحابا لحياته ) فانه جعل الاستصحاب كواحد من الأدلة وافتى طبقه ، وذلك ( مع وجود الروايات المعتبرة - المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحققين - الدالة على وجوب الفحص أربع سنين » ) والقائلة : بانه اذا عُثر عليه في هذه المدة - فبها ، وإلاّ قسمت أمواله بين ورثته ، وهذا لم يعمل بها وإنّما رجّح الاستصحاب وعمل به دونها .

وكيف كان : فان ما أورده المحقق القمي على هذا المشترط مؤيّدا له بالمثال المذكور ، لعله ( مبنيٌّ على ظاهر كلامه ) اي : ظاهر كلام المشترط : ( من إرادة العمل بعموم « لا تنقض » ) لا ما حققه المصنِّف : من ان ارادة هذا المشترط من كلامه هو : عدم الدليل الاجتهادي على ارتفاع الحالة السابقة .

والحاصل: ان ما ذكرناه هو : انه يشترط في العمل بالاستصحاب ان لا يكون

ص: 353

وأمّا على ما جزمنا به : من أنّ مرادَه عدم ما يدلّ علما أو ظنا على ارتفاع الحالة السابقة ، فلا وجه لورود ذلك ، لأنّ الاستصحاب إن اُخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت : حكومة أدلة جميع الأمارات الاجتهادية على دليله ،

-------------------

هناك دليل رافع له ، وما ذكره المشترط هو : ان لا يكون هناك دليل مخالف له ، وما أورده المحقق القمي وأيدّه بالمثال مبني على ظاهر كلام هذا المشترط ، لا على كلامنا ، والفرق بين كلامنا وكلام المشترط هو : ان كلامنا معناه : شرط العمل ، وكلام المشترط معناه : شرط الجريان .

مثلاً : قد نقول : ان شرط جريان الخبر الواحد أن لا يكون له مخالف ، كوجود خبر آخر معارض له ، وقد نقول : ان شرط العمل بالخبر الواحد أن لا يكون المخبر فاسقا ، وكلامنا فيما نحن فيه في شرط العمل ، فاللازم التعبير : بان لا يكون له رافع ، حتى يكون الدليل الرافع حاكما او واردا على الاستصحاب ، لا التعبير : بان لا يكون له مخالف حتى يكون الدليل المخالف مانعا من جريان الاستصحاب ، وما أوره المحقق القمي إنّما يرد على ما ذكره المشترط ، لا على ما ذكرناه نحن .

ولذا قال المصنِّف : ( وأمّا على ما جزمنا به : من أنّ مرادَه ) اي : مراد المشترط :

( عدم ما يدلّ علما أو ظنا على ارتفاع الحالة السابقة ، فلا وجه لورود ذلك ) اي : لا وجه لما اورده المحقق القمي وما أيده بالمثال عليه :

وإنّما لا وجه لوروده عليه ( لأنّ الاستصحاب إن اُخذ من باب التعبّد ) اي : من الروايات ( فقد عرفت : حكومة أدلة جميع الأمارات الاجتهادية على دليله ) ومحكوميته لها ، ومعه لا يوجد مورد يرجّح فيه الاستصحاب على الدليل الاجتهادي ، أو يساوي الدليل الاجتهادي ، فكيف قال المحقق القمي : « فقد

ص: 354

وإن اُخِذَ من باب الظن ، فالظاهر : أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه .

ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له مع اعترافه بحجّيتها لولا الاستصحاب ، لا في الاحكام

-------------------

يرجّح عليه الدليل وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح احدهما على الآخر » ؟ .

( وإن اُخِذَ ) الاستصحاب ( من باب الظن ) النوعي لا من باب الاخبار ( فالظاهر : أنّه لا تأمّل لأحد ) من الفقهاء والاصوليين ( في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ ) هو ( عدم وجود أمارة في مورده ) اي : في مورد الاستصحاب ( على خلافه ) اي : خلاف الاستصحاب ، فانه على هذا القول ، فلا يكون مورد يرجّح الاستصحاب على سائر الأدلة او يُساويها .

( ولما ذكرنا ) : من تقدّم الأدلة الاجتهادية على الاستصحاب ، سواء كان الاستصحاب حجة من باب الاخبار ام من باب الظن ( لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له ) فلم يقدّم أحد منهم الاستصحاب على البينة ، أو على سوق المسلمين ، أو على أصالة الصحة في عمل المسلم ، او ما اشبه ذلك ( مع اعترافه بحجّيتها ) اي : حجية تلك الأمارات ( لولا الاستصحاب ) .

وعليه : فان من يعترف بحجية الأمارات لا يقدّم الاستصحاب عليها اطلاقا ، وهذا دليل على انه لا يتقدّم الاستصحاب على الأمارات ولا يُساويها ، فكيف قال المحقق القمي : «فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح احدهما على الآخر ؟» .

وعلى ايّ حال : فالاستصحاب لا يقدّم على الحجج الأخرى ( لا في الاحكام ) كما اذا اقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، وقام خبر صحيح على نجاسة عرق

ص: 355

ولا في الموضوعات .

وأمّا ما استشهد به رحمه اللّه من عمل بعض الاصحاب بالاستصحاب في مال «المفقود » وطرح ما دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده - فلا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ تلك الاخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام دليل معتبر على موته .

وهذه الاخبار

-------------------

الجنب من الحرام ( ولا في الموضوعات ) كما اذا اقتضى الاستصحاب بقاء الفاكهة على ملك صاحب البستان ، ورأينا شخصا يبيعها ممّا نحتمل انها غصب او ما يقدّمان على الاستصحاب .

( وأمّا ما استشهد به ) المحقق القمي ( رحمه اللّه من عمل بعض الاصحاب بالاستصحاب في مال « المفقود » وطرح ما دلّ ) فيه من الاخبار ( على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده ) اي : بعد أربع سنين ( فلا دخل له بما نحن فيه ) من القول : بأن الأمارة مقدّمة على الاستصحاب .

وإنّما لا دخل له فيما نحن فيه ( لأنّ تلك الاخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ) حتى تكون حاكمة او واردة عليه ( وإنّما المقابل له ) اي : لاستصحاب الحياة هو : ( قيام دليل معتبر على موته ) كالبينة - مثلاً - فاذا قامت البينة على موته كانت حاكمة او واردة على استصحاب حياته .

وعليه : فان تلك الاخبار إنّما هي مخصّصة لعموم : «لا تنقض» لا ان الاستصحاب دليل ، وتلك الاخبار دليل ويتقابلان ، وعند التقابل قد يقدّم هذا ، وقد يقدّم ذاك ، وقد يتساويان ، كما قاله المحقق القمي .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وهذه الاخبار ) التي دلت

ص: 356

على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلة الاستصحاب ، دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات .

فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها لقصور فيها بقي أدلة الاستصحاب عنده على عمومها .

-------------------

على الفحص أربع سنوات ( على تقدير تماميّتها ) سندا ودلالة ( مخصّصة لعموم أدلة الاستصحاب ، دالّة ) أي : هذه الاخبار بعد تماميّتها ( على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ) مدة أربع سنوات ، فتكون ( نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات ) حيث لا يستصحب ، وإنّما يبني على الاكثر ويكون البناء على الاكثر مخصّصا للاستصحاب .

وحينئذ : ( فمن عمل بها ) اي : بالاخبار الدالة على وجوب البناء على الاكثر ( خصّص بها عمومات الاستصحاب ، و ) لكن ( من طرحها لقصور فيها ) وقال : بأن دليل الاستصحاب هو المحكّم في المقام ، وان أدلة البناء على الاكثر ليست بحجة ( بقي أدلة الاستصحاب عنده على عمومها ) فيعمل بأدلة الاستصحاب في الشك في الركعات ، ويبني على الأقل .

والحاصل من اشكال المصنِّف على المحقق القمي هو : انه ان كانت روايات الفحص عن المفقود مدة اربع سنوات دليلاً معتبرا لتماميّة سندها ودلالتها ، فالعمل يكون بالدليل ، والاّ فالعمل يكون بالاستصحاب ، والذي عمل بالاستصحاب في مثال المحقق القمي إنّما هو لأنه لم ير روايات الفحص معتبرة ، لا انه مع تسليم اعتبارها قدّم الاستصحاب عليها حتى جعله المحقق القمي مثالاً مؤيدا لايراده : بانه قد يقدّم هذا على هذا ، وقد يعكس ، وقد يتساويان .

ص: 357

ثم المراد بالدليل الاجتهادي كلُّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث أنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ويسمّى في نفس الاحكام : أدلّةً اجتهاديةً وفي الموضوعات أمارات معتبرة .

فما كان ممّا نصّبه الشارع غير ناظر الى الواقع أو كان ناظرا ، لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ، فليس اجتهاديّا ، وهو من الأصول ، وإن كان مقدّما على بعض الاصول الاُخر .

-------------------

( ثم المراد بالدليل الاجتهادي ) الذي ذكرناه في طيّ كلماتنا هو : ( كلُّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث أنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ) اي : بان يكون لها شأنية الكشف عن الواقع وان لم تفده في بعض الموارد لبعض المحاذير الخارجية ، فالمراد بالدليل الاجتهادي إذن هو كل ما كان له هذا المعنى ( ويسمّى في نفس الاحكام : أدلّةً اجتهاديةً ) كالخبر الواحد ، والاجماع ، والشهرة ، والسيرة، وما اشبه ذلك ( وفي الموضوعات أمارات معتبرة ) كالبينة ويد المسلم ، وسوق المسلم ، وأرض المسلم ، وما اشبه ذلك .

وعليه : ( فما كان ممّا نصّبه الشارع غير ناظر الى الواقع ) مثل أصالة البرائة وأصالة الاحتياط واصالة التخيير ممّا لا كشف لها اصلاً ، فهي اصول عملية غير تنزيلية وليست أدلة اجتهادية .

( أو كان ناظرا ) الى الواقع ( لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ) كالاستصحاب ( فليس ) دليلاً ( اجتهاديّا ، و ) إنّما ( هو من الأصول ) العملّية التنزيلية وهو مقدّم على غير التنزيلية كما قال : ( وإن كان مقدّما على بعض الاصول الاُخر ) فإنّ الاستصحاب

ص: 358

والظاهر : أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل .

ومصاديق الأدلّة والأمارات في الاحكام والموضوعات واضحةٌ غالبا ، وقد يختفي ، فيتردّد الشيء ، بين كونه دليلاً ، وبين كونه أصلاً ، لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا الى الواقع أو من حيث هو ، كما في كون اليد المنصوبة دليلاً على الملك ،

-------------------

مقدّم على البرائة والاحتياط والتخيير، لان الاستصحاب فيه نوع كشف عن الواقع، بخلاف هذه الاصول الثلاثة الأخر ، ولذلك قال : ( والظاهر : أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ) الأخير المقدّم على البرائة والاحتياط والتخيير .

وعليه : فان الاستصحاب والقرعة كاشفان وناظران الى الواقع ، لكن اعتبارهما لم يكن من حيث الكشف والنظر بل من حيث احتمال مطابقة الواقع ، ولهذا قالوا : بانّ الاسصحاب والقرعة مؤخران عن الادلة الاجتهادية ومقدّمان على الاصول العملية .

هذا ( ومصاديق الأدلّة ) الاجتهادية ( والأمارات في الاحكام والموضوعات واضحةٌ غالبا ، و ) لكن ( قد يختفي ) ذلك في بعض المصاديق ( فيتردّد الشيء ، بين كونه دليلاً ، وبين كونه أصلاً ) واذا تردّد بينهما ما لم يعلم هل انه مقدّم ايضا على سائر الاصول ام لا ؟ .

وإنّما يتردّد في ذلك ( لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا الى الواقع ) وكاشفا عنه ، حتى يكون دليلاً اجتهاديا ( أو من حيث هو ) لا بما هو ناظر الى الواقع وكاشف عنه ، حتى يكون أصلاً عمليا ، وذلك ( كما في كون اليد المنصوبة دليلاً على الملك ) فيما لو خفي علينا حيثية اعتبارها ، فان اليد على شيء - عند الشك في ان صاحب اليد مالك له أم لا - يكون دليلاً على ان صاحب اليد مالك لهذا الشيء الذي في يده .

ص: 359

وكذلك أصالة الصحة عند الشك في عمل نفسه بعد الفراغ وأصالة الصحة في عمل الغير .

وقد يعلم عدم كونه ناظرا الى الواقع وكاشفا عنه وأنّه من القواعد التعبّدية ، لكن يخفى حكومته مع ذلك على الاستصحاب ، لأنّا قد ذكرنا : أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف منصوبا

-------------------

( وكذلك أصالة الصحة عند الشك في عمل نفسه بعد الفراغ ) منه ، مع اختفاء حيثية اعتبارها ، فان الانسان اذا عمل عملاً ، ثم شك بعد الفراغ منه في انه هل أتى به صحيحا أو أتى به فاسدا ؟ فانه سواء كان عبادة كالصلاة والصيام ، ام معاملة كالبيع والرهن ، فانه يحمل على الصحيح .

( و ) كذا ( أصالة الصحة في عمل الغير ) حيث ورد : «ضع أمر أخيك على أحسنه » (1) والى غير ذلك ممّا يتردد في انه دليل أو اصل لاختفاء حيثية اعتباره .

هذا ( وقد يعلم عدم كونه ناظرا الى الواقع و ) لا ( كاشفا عنه ) اي : عن الواقع ( و ) إنّما يعلم ( أنّه من القواعد التعبّدية ، لكن يخفى حكومته مع ذلك على الاستصحاب ) فلا يعلم مع انه أصل تعبدّي هل هو حاكم على الاستصحاب او ليس بحاكم عليه ؟ .

وإنّما يخفى علينا مع ذلك ( لأنّا قد ذكرنا : أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف ) كقاعدة التجاوز والفراغ ، او حتى الكاشف كالاستصحاب والقرعة ( منصوبا

ص: 360


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .

من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلةَ الواقع ، إلاّ أنّ الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه .

-------------------

من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له ) اي : للواقع ( منزلةَ الواقع ) لا من حيث انه كاشف عن الواقع ، كالخبر والاجماع والشهرة والسيرة وما أشبه ( إلاّ أنّ الاختفاء ) علينا والشك عندنا يكون ( في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه ) وانه هل هذا مقدَّم على ذاك ، او ذاك مقدَّم على هذا ؟ .

والحاصل : ان الادلة على اربعة اقسام :

الاول : ما كان كاشفا عن الواقع وناظرا اليه مع اعتبار هذه الجهة فيه ، كالخبر والاجماع وما اشبه ذلك في الأحكام ويسمّى بالطريق ، وكالبينة والسوق وما اشبه ذلك في الموضوعات ويسمّى بالأمارة ، وهذا الاوّل - بقسميه ويسمى بالدليل الاجتهادي - إنّما وجد فهو مقدّم على غيره .

الثاني : ما هو وظيفة مقررة للجاهل بلا كشفٍ عن الواقع ولا نظرٍ اليه اطلاقا ، كالاحتياط والتخيير ونحوهما ، ويُسّمى هذا القسم من الأدلة بالاصول العملية غير التنزيلية أو غير المحرزة ، وهذا الثاني متأخر عن الجميع .

الثالث : ما كان ناظرا الى الواقع وكاشفا عنه ، الاّ انه اعتبر بمجرد احتمال المطابقة للواقع كالاستصحاب والقرعة ، ويسمّى هذا القسم من الأدلة بالاصول العملية التنزيلية أو المحرزة ، وهذا الثالث متأخر عن الأدلة الاجتهادية ومقدَّم على غيره من الاصول .

الرابع : ما اعتبره الشارع بمجرد احتمال المطابقة للواقع ، لكنه لا كشف ولا نظر له الى الواقع ، كقاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما ، وهذا الرابع مردّد في تقدّمه وتأخره لاختفائه علينا .

ص: 361

تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة

ثم إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاُصول الثلاثة ، أعني : البراءة والاحتياط والتخيير ، إلاّ أنّه قد يختفي وجهه على المبتدي .

فلابدّ من التكلّم هنا في مقامات :

الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول ، كاليد ونحوه .

الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها .

الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب .

-------------------

اذا عرفت ذلك نقول : ( ثم إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة أعني : البراءة والاحتياط والتخيير ) فانه اذا كان هناك استصحاب ، فلا مجال معه للبراءة ولا للاحتياط ولا للتخيير ( إلاّ أنّه قد يختفي وجهه ) اي : وجه تقديم الاستصحاب على هذه الاصول الثلاثة ( على المبتدي ) في الاصول ( فلابدّ من التكلّم هنا في مقامات ) ثلاثة ليتضح وجه التقديم :

( الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول ، كاليد ونحوه ) مثل : أصالة الصحة وما أشبه ذلك ، فانه اذا كان هناك استصحاب ويد ، فاليد مقدَّمة على الاستصحاب .

( الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها ) اي : نحو القرعة مما هو ناظر الى الواقع وكاشف عنه ، لكن الشارع اعتبره لمجرد احتمال المطابقة للواقع ، فاذا كان هناك استصحاب وقرعة فهل يعمل بالقرعة او بالاستصحاب ؟ .

( الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب ) وإنّما يقدّم الاستصحاب عليها ، ولذا يقدّم على أصل البراءة والاحتياط والتخيير .

ص: 362

أمّا الكلام في المقام الأوّل :

فيقع في مسائل :

الاُولى :

أنّ اليد مّما لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه .

بيان ذلك : أنّ اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه .

وأنّ اليد المستقلة غير المالكيّة

-------------------

( أمّا الكلام في المقام الأوّل ) وهو عدم مُعارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول كاليد ونحو اليد ( فيقع في مسائل ) :

المسألة ( الاولى : أنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي ) اي : اليد ( حاكمة عليه ) اي : على الاستصحاب ، فاذا كان شيء لغير زيد ثم رأيناه في زيد وهو يدّعي انه له ، فيده حاكمة على الاستصحاب ، الاّ اذا تنازعا وأثبت من كان الشي سابقا في يده انه له .

( بيان ذلك : أنّ اليد إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة ) حتى يكون حالها حال البينّة في الحجية ، فان اليد إنّما تكون دليلاً على الملكية لامور تالية :

أوّلاً : ( من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ) أي : عن المالك إمّا بالوكالة أو بالوصاية أو بالقيمومة أو نحوها .

ثانيا : ( وأنّ اليد المستقلة غير المالكيّة ) اي : العدوانية ، سواء مع علم صاحب

ص: 363

قليل بالنسبة إليها .

وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلاً على العباد ، فلا اشكال في تقديمها على الاستصحاب ، على ما عرفت : من حكومة أدلّة الأمارات على دليل الاستصحاب .

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة ، أو أنّها كاشفة - لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ

-------------------

اليد ام بدون علمه ( قليل بالنسبة إليها ) اي : الى اليد المالكية او المأذونة من قبل المالك .

ثالثا : ( وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة ) الخارجية ( تسهيلاً على العباد ) كما هي قاعدة المقنّنين ، حيث يعتبرون الغلبة في غالب الموارد .

وعليه : ( فلا اشكال في تقديمها ) اي : تقديم اليد حينئذ ( على الاستصحاب ) وذلك ( على ما عرفت : من حكومة أدلّة الأمارات على دليل الاستصحاب ) .

وإنّما تكون حاكمة عليه لأنّ اليد كاشفة ، وان الاستصحاب ليس بكاشف ، ولذا قال عليه السلام : « والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) فاليد حينئذ كالبينة يرتفع بها موضوع الاستصحاب الذي هو الشك ، اذ مع اليد لاشك .

هذا إن قلنا بأن اليد كالبينة أمارة كاشفة عن الملكية ( وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكية ، أو أنّها كاشفة - لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ) اي : من حيثية الكشف ( بل جعلها ) اي : جعل الشارع اليد معتبرة ( في محل

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

الشك تعبّدا ، لتوقف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير اليه قوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد المسلمين « ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » - فالأظهر أيضا تقديمُها على الاستصحاب ، اذ لولا هذا

-------------------

الشك ) في الملكية ، ذلك ( تعبّدا ) أي : لا من حيث كونه كاشفا .

وإنّما اعتبرها الشارع كذلك ( لتوقف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ) والمراد بالمعاملات هنا ليس هو المعنى الأخص ، بل مطلق التعامل ، فتكون قاعدة اليد حينئذ ( نظير أصالة الطهارة ، كما يشير اليه ) اي : الى توقف استقامة النظام على اعتبارها ( قوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكية على ما في يد المسلمين ) فان في ذيل الرواية - بعد قول السائل : «اذا رأيتُ في يد رجل شيئا ، أيجوز أن اشهد انه له ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فلعله لغيره ؟ قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه وتصيّره ملك لك ثم تقول بعد ذلك : هو لي وتحلف عليه ؟ » - ما يدل على أن الشارع إنّما اعتبر اليد لتوقف نظام المعاملات على اعتبارها حيث قال عليه السلام في ذيلها : ( « ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » ) (1) والمراد بالسوق الخارجية ، لا مطلق المُعاملات والتصرفات .

وكيف كان : فان قلنا بأن اليد غير كاشفة ، أو لم يعتبر كاشفيتها ( - فالأظهر أيضا تقديمُها على الاستصحاب ، اذ لولا هذا ) التقديم بأن قيل : بالتعارض والتساقط ،

ص: 365


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

لم يجز التمسك بها في أكثر المقامات ، فيلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق ، وبطلان الحقوق ، اذ الغالب العلم بكون ما في اليد مسبوقا بكونه ملكا للغير ، كما لا يخفى .

وأمّا حكم المشهور : بأنّه لو اعترف ذو اليد : بكونه سابقا ملكا للمدّعي انتزع منه العين ، إلاّ أن يقيم البيّنة على انتقالها اليه - فليس من تقديم الاستصحاب ، بل لأجل أنّ دعواه الملكيّة في الحال

-------------------

أو قيل بتقديم الاستصحاب على اليد ( لم يجز التمسك بها في أكثر المقامات ) للعلم غالبا بسبق ملك الغير فيها ( فيلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق ، وبطلان الحقوق ) .

وإنّما يختل السوق وتبطل الحقوق ( اذ الغالب العلم بكون ما في اليد ) اي : ما في يد الناس ( مسبوقا بكونه ملكا للغير ) فاللازم ان لا يبقى لليد الاّ الموارد النادرة جدا ( كما لا يخفى ) ذلك على أحد ( و ) ان قلت : اذا كانت اليد مقدّمة على الاستصحاب ، فلماذا حكم المشهور بانتزاع المال من ذي اليد فيما اذا اعترف : بأنه اشتراه من المدّعي وأنكر المدّعي ذلك ، فإن تقديم قول المدّعي معناه : ان الاستصحاب مقدّم على اليد ، لا أن اليد مقدّمة على الاستصحاب ؟ .

قلت : ( أمّا حكم المشهور : بأنّه لو اعترف ذو اليد : بكونه ) اي : بكون ما في يده كان ( سابقا ملكا للمدّعي انتزع منه العين ) واعطيت للمّدعي ( إلاّ أن يقيم ) ذو اليد ( البيّنة على انتقالها اليه ) ببيع أو هبة أو ما أشبه ذلك ، أما هذا الحكم ( - فليس من تقديم الاستصحاب ) على اليد .

وإنّما لم يكن من تقديم الاستصحاب على اليد ، لانه كما قال : ( بل لأجل أنّ دعواه ) اي : دعوى اليد ( الملكيّة في الحال ) فانّ من في يده العين يدّعي أنها

ص: 366

اذا انضمّت الى إقراره بكونه قبل ذلك للمدّعي ، يرجع الى دعوى انتقالها اليه فينقلب مدّعيا ، والمدّعي منكرا .

ولذا لو لم يكن في مقابله مدّعٍ ، لم يقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيّته أو كان في مقابله مدّعٍ ، لكن أسند الملك السابق الى غيره ، كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريتُه من عمرو .

-------------------

الآن ملك له ، فانه ( اذا انضمّت ) هذه الدعوى ( الى إقراره ) اي : اقرار ذي اليد ( بكونه قبل ذلك للمدّعي ، يرجع الى دعوى انتقالها ) اي : العين ( اليه ) اي : الى ذي اليد ( فينقلب ) ذو اليد ( مدّعيا ، و ) ينقلب ( المدّعي ) الذي يقول : ان المال له ولم يعطه لذي اليد ( منكرا ) فتدخل المسألة في موازين المدّعي والمنكر ، فعلى المدّعي الذي هو ذو اليد البيّينة ، وعلى المنكر وهو الذي كان الملك سابقا له اليمين .

( ولذا ) اي : لما قلنا : من ان الحكم بانتزاع العين من ذي اليد وتسليمها لمالكها السابق ، إنّما يكون لاجل انقلاب العنوان وصيرورة ذي اليد مدّعيا والمدّعي منكرا ، لا لتقديم الاستصحاب على اليد ، نرى انه ( لو لم يكن في مقابله ) اي : مقابل ذي اليد المعترف بان مافي يده كان للمدّعي سابقا ( مدّعٍ ، لم يقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيّته ) يحكم بأنه مالك للشيء الذي في يده ويقدّم على الاستصحاب .

هذا ان لم يكن في مقابله مدّع ( أو كان في مقابله مدّعٍ ، لكن أسند الملك السابق الى غيره ) اي : الى غير المدعي ( كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريتُه من عمرو ) لا منك ، فانه يحكم بملكية ذي اليد على ما في يده تقديما لليد على الاستصحاب .

ص: 367

بل يظهر مّما ورد في محاجّة علي عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك المرويّة في الاحتجاج : أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليه السلام ، باليد دعواها ، تلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مع أنّه قد يقال إنّها حينئذٍ صارت مدّعيةً لا تنفعها اليد .

-------------------

والحاصل : ان هنا فرضين :

الفرض الأوّل : هو ان يقول ذو اليد : اني اشتريته من زيد المدّعي ، حيث ينقلب ذو اليد مدّعيا لمكان اقراره ، لا لأن الاستصحاب يقتضي بان المال لزيد والاستصحاب مقدّم على اليد ، ولهذا قلنا : بان ذا اليد يلزم عليه ان يأتي بالبينة في مقابل زيد .

الفرض الثاني : هو ان يقول ذو اليد : اني اشتريته من عمرو لا من زيد المدّعي ، فان زيدا المدّعي يبقى مدّعيا حينئذ ، فيحتاج هو لا صاحب اليد الى البينة ، كما لا يكون باستصحاب كونه مال عمرو لعدم ادعائه ، فلا تقديم إذن للاستصحاب على اليد .

( بل يظهر مّما ورد في محاجّة علي عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك المروية في الاحتجاج : أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليهاالسلام ، باليد ) اعترافها و ( دعواها تلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) وذلك لاحتجاج علي عليه السلام مع ذلك على ابي بكر : بأنّ فاطمة عليهاالسلام ذو يدٍ على فدك وذو اليد لا يطالب بالبينة .

هذا ( مع أنّه قد يقال ) هنا قولاً غير صحيح وهو : ( إنّها حينئذٍ ) اي : حين اعترافها عليها السلام بتلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ( صارت مدّعيةً لا تنفعها اليد ) وإنّما لم يكن هذا صحيحا ، لانها عليه السلام أسندت الملك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم

ص: 368


1- - راجع الاحتجاج : ج1 ص95 - 96 .

وكيف كان ،

-------------------

لا الى أبي بكر ، ولم يكن المدعي مقابلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وإنّما كان أبا بكر ، وذلك زعما منه بأنّه فيء للمسلمين : وهذا من ابي بكر مجرّد ادعاء فعليه البينة ، لا على صاحب اليد - وهي فاطمة عليهاالسلام - اضافة الى انه لو اقام ابو بكر على ادعائه هذا الف بينة ، فهو حيث لم يكن من أهل آية التطهير - باعتراف جميع المسلمين - لا ينفعه بصريح القرآن ذلك ، مقابل يد فاطمة عليها السلام التي هي باعتراف كل المسلمين من أهل آية التطهير ، وقد شهد اللّه تعالى لها بالامانة والطهارة ، وهل يجرأ أحد على ردّ شهادة اللّه سبحانه وتعالى ؟ .

( وكيف كان ) فان هذه القصة تكون دليلاً على ما ذكره المصنِّف في الفرض الثاني بقوله : «او كان في مقابله مدّعٍ ، لكن اسند الملك السابق الى غيره» يعني : الى غير المدعي ، فان في مقابل فاطمة عليها السلام كان ابا بكر ، وهي عليها السلام لم تسند الملك اليه ، وإنّما اسندته الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وقالت : انه صلى اللّه عليه و آله وسلم هو الذي منحه إياها نحلة لها، وبُلغة لابنيها عليهماالسلام ، وذلك بأمر من اللّه تعالى حين انزل عليه سبحانه : « وآت ذا القربى حقه » (1) ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم مدعيا في مقابلها .

وإنّما قال المصنِّف : «بل» الذي ظاهره الاضراب ، مع ان الرواية المذكورة في الاحتجاج موافقة للقاعدة ، لان قوله قبلها : «لكن اسند الملك السابق الى غيره» كان على القاعدة ، ومطابقا لهذه الرواية ، فيكون مقام «بل» هنا نظير قولنا : البرائة

موافقة للقاعدة بل للروايات ، فهو اضراب من الادنى الى الاعلى .

ص: 369


1- - سورة الاسراء : الآية 26 .

فاليد على تقدير كونها من الاصول التعبّديّة فهي أيضا مقدمةٌ على الاستصحاب وإن جعلناه من الأمارات الظنّية ، لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب .

وإن شئت قلت : إنّ دليله أخصّ من عمومات الاستصحاب .

هذا مع أنّ الظاهر من الفتوى والنص الوارد في اليد ، مثل : رواية حفص بن غياث ،

-------------------

إذن : ( فاليد على تقدير كونها من الاصول التعبّديّة ) وانها ليست - فرضا - من الأمارات ( فهي أيضا مقدمةٌ على الاستصحاب ) حتى ( وإن جعلناه ) اي : الاستصحاب ( من الأمارات الظنّية ) لا من الاصول التعبدية .

وإنّما تكون اليد وان فرضناها اصلاً مقدمة على الاستصحاب وان فرضناه أمارة ( لأنّ الشارع نصبها ) أي : اليد ( في مورد الاستصحاب ) كما ألمعنا اليه سابقا ، فلو قدّم الاستصحاب على اليد لكان اعتبار اليد لغوا أو شبه لغو .

( وإن شئت قلت : إنّ دليله ) اي : دليل اليد ( أخصّ من عمومات الاستصحاب ) وكل دليل أخصّ يقدّم على الدليل الأعم ، لانه لو أخذ بالدليل الأعم لم يبق مورد للدليل الأخص .

( هذا ) كله في بيان ان تقديم اليد على الاستصحاب لازم على كل حال ، سواء قلنا بكونهما أمارتين ، ام أصلين ، ام احدهما أصلاً والآخر أمارة ، فكيف لاتُقدّم اليد ( مع أنّ الظاهر من الفتوى والنص الوارد في اليد ) كون اليد أمارة ، كما ان الظاهر من دليل الاستصحاب انه أصل ؟ .

أما النص فهو ( مثل : رواية حفص بن غياث ) المتقدّمة حيث قال عليه السلام في جواب من سأله : «اذا رايتُ في يد رجل شيئا ، أيجوز ان اشهد انه له ؟ قال عليه السلام:

ص: 370

أنّ اعتبار اليد أمرٌ كان مبنى عمل الناس في امورهم ، وقد أمضاه الشارع .

ولا يخفى : أنّ عمل العرف عليه من باب الأمارة ، لا من باب الاصل التعبدي .

وأمّا تقديم البيّنة على اليد وعدم ملاحظة التعارض بينهما أصلاً ، فلا يكشف عن كونها من الاصول ، لأنّ اليد إنّما جعلت

-------------------

نعم ، قال : قلت : فلعله لغيره ؟ قال عليه السلام : ومن اين جاز لك ان تشريه وتصيِّره ملكا لك ثم تقول بعد ذلك : هو لي وتحلف عليه ؟ » (1) فان هذا ظاهر في ( أنّ اعتبار اليد أمرٌ كان مبنى عمل الناس في امورهم ، وقد أمضاه الشارع ) .

ومن المعلوم : ان العرف يرون اليد أمارة لاأصلاً كما قال : ( ولا يخفى : أنّ عمل العرف عليه من باب الأمارة ) والكشف عن الواقع ( لا من باب الاصل التعبدي ) لأنّ موازين العقلاء على الأمارات ، لا على الاصول التعبدية .

هذا كله في تقديم اليد على الاستصحاب .

( وأمّا تقديم البيّنة على اليد ) اذا تخالفا ، كما لو كان شيء في يد زيد فادّعاه بكر وأقام عليه البينة ، فانه يؤخذ من زيد ويُعطى لبكر ( و ) ذلك تقديما للبينة مع ( عدم ملاحظة التعارض بينهما أصلاً ) حتى يقال : هل هذا مقدّم أو ذاك ؟ فأما هذا ( فلا يكشف عن كونها ) اي : عن كون اليد ( من الاصول ) لوضوح : ان الأمارة كما تتقدم على الاصول تتقدم على الأمارات ايضا ، كتقدم البينة على اليد .

وإنّما لا يكشف تقديم البينة على اليد كون اليد أصلاً ( لأنّ اليد إنّما جعلت

ص: 371


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

أمارةً على الملك عند الجهل بسببها ، والبيّنة مبيّنة لسببها .

والسرّ في ذلك أنّ مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة انّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك ، فلا يبقى موردٌ للالحاق ، ولذا كانت جميع الأمارات في أنفسها مقدّمة على الغلبة .

-------------------

أمارةً على الملك عند الجهل بسببها ) اي : بسبب اليد ( والبيّنة مبيّنة لسببها ) وقائلة : بأن الشيء ليس لذي اليد ، سواء كان متعدّيا : كالغاصب ام غير متعدٍّ كالجاهل القاصر .

( والسرّ في ) ان اليد أمارة الملك عند الجهل بسببها هو كما قال : ( ذلك أنّ مستند الكشف في اليد هي الغلبة ) على ما تقدّم ( والغلبة انّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب ) فيما اذا لم تكن هناك بيّنة أو نحو البينة يزيل الشك ( فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك ) كالبينة ( فلا يبقى موردٌ للالحاق ) .

ولهذا السبب نرى ان الاقرار يقدّم على اليد، فيما اذا أقرّ ذو اليد على ان الشيء الذي في يده ليس له وإنّما هو لغيره ، وذلك لان الاقرار مزيل للشك ، وكذلك اذا كانت القرائن الخارجية تؤيّد عدم الملكية ، كما اذا رأينا على البحر سمكا يوزن بأطنان ويدّعيه انسان ضعيف لايتمكن وحده من صيده .

( و ) عليه : فحيث قلنا بأن الأمارة توجب زوال حكم الغلبة ( لذا كانت جميع الأمارات في أنفسها مقدّمة على الغلبة ) كالسوق - مثلاً - فان الصحة فيه مبنية على الغلبة ، فانّها هي سبب جريان أصالة الصحة في اعمال أهله ، فاذا قامت البيّنة على ان بضاعة احدهم غصب ، قدمت البيّنة على الغلبة ، فلا يمكن اشتراء تلك

ص: 372

وحال اليد مع الغلبة حالُ أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد مع أمارات المجاز ،

-------------------

البضاعة منه .

هذا حال اليد مع البيّنة اذا تخالفتا .

( وحال اليد مع الغلبة ) فيما اذا تخالفتا هو : تقديم الغلبة على اليد ، بخلاف ما ذكرناه سابقا : من تقديم البينة على الغلبة .

مثلاً : الدلاّل ، فان الغالب فيه كون ما في يده لغيره ، بينما يده تدلّ على انه لنفسه ، وكذلك متولّي الوقف ، فان الغالب كون ما في يده للوقف ، بينما يده تدلّ على انه لنفسه ، وكذا المصدّق والمرجع والحاكم ، فان الغالب كونه ما في أيديهم أموال الناس بينما أيديهم تدل على انها لهم ، الى غير ذلك ، فان في هذه الموارد تقدّم الغلبة على اليد ، لان السرّ في مستند كشف اليد عن الملك - على ما قاله المصنِّف - هي الغلبة ، وقد انعكست الغلبة هنا وصارت كاشفة عن عدم الملك فتقدّم الغلبة .

وبعبارة اخرى : ان اليد أمارة الملك عند الجهل بسببها ، وهنا لاجهل للغلبة ، فتقدم الغلبة على اليد .

وعليه : فيكون حال اليد حينئذ مع الغلبة ( حالُ أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد ) المرتضى الذي يرى الاستعمال علامة الحقيقة ، خلافا للمشهور الذين يرون الاستعمال أعم ، وذلك اذا تقابلت ( مع أمارات المجاز ) فان الاستعمال عند السيد المرتضى أمارة الحقيقة عند الجهل بسببه ، وهنا لا جهل للقرينة ، فتقدّم قرينة المجاز على أصالة الحقيقة .

إذن : فحال اليد مع الغلبة ، حال أصالة الحقيقة في الاستعمال مع القرائن

ص: 373

بل حال مطلق الظاهر والنصّ ، فافهم .

-------------------

المجازية ( بل حال مطلق الظاهر والنصّ ) فانه عند تقابل الظاهر والنص ، يتقدّم النص على الظاهر ، وذلك كما اذا قال : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ، فإن العلماء أمارة على أكرم زيد العالم لظهور العموم في ذلك ، بينما المخصّص لا تكرم زيدا نص في عدم إكرامه ، والظهور مقدّم مالم يكن نص على خلافه ، وهنا وجد النص المخالف ، فيقدّم النص على الظاهر .

( فافهم ) ولعله اشارة الى انه يشك في تقديم الغلبة على اليد كما في الأمثلة التي ذكرتموها ، وذلك لاطلاق دليل اليد .

لكن ربما يقال : انه لا اطلاق ، لانصراف ما دل على اليد عن مثل ما اذا كانت الغلبة هي المحكَّمة عرفا ، والشارع قد صدّق الغلبة في موردها واليد في موردها ، ففي غير الدلاّل وأمثاله تكون اليد مقدّمة اذا شككنا ان الشيء لذي اليد او لغيره ، أمّا في الدلاّل وأمثاله فالغلبة تكون مقدّمة اذا شككنا أن ما في يده هل هو له أو لغيره ؟ .

ولذا حكم بعضهم - فيما اذا مات الزوجان ولم يعلم ان أثاث البيت لمن منهما - بأن يجعل ما يختص بالنساء للزوجة ، وما يختص بالرجال للزوج .

هذا تمام الكلام في بيان عبارة الكتاب : «وحال اليد مع الغلبة» لكن هناك نسخة اخرى فيها مكان لفظ «الغلبة» كلمة «البينة» فيكون الكلام على تلك النسخة واضحا ، وتكون العبارة مثالاً لقوله قبلها : «ان مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة إنّما يوجب الحاق المشكوك بالاعم الاغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك - كالبينة - فلا يبقى مورد للالحاق» ثم مثّل لذلك بقوله : «وحال اليد مع البيّنة حال أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد

ص: 374

المسألة الثانية :

في أنّ أصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها الاستصحاب ،

إمّا لكونها من الأمارات ، كما يشعر به قوله عليه السلام : في بعض روايات ذلك الأصل : « هو حينَ يَتَوضّأ أذْكَرُ منهُ حينَ يَشُكُّ » .

-------------------

مع أمارات المجاز» اي : كما أنّ أصالة الحقيقة في الاستعمال عند السيد يلحق المشكوك بالاعم الاغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة تزيل الشك - كأمارات المجاز - فلا يبقى مورد للالحاق ، بل يقدَّم المجاز على الحقيقة ، فكذلك هنا تقدّم البينة على اليد ، ثم ترقّى المصنِّف في المثال فقال : «بل حال مطلق الظاهر والنص» ثم قال : «فافهم» أشارة الى التأمل في التنظير وأن حال اليد مع البينة ليس حال مطلق الظاهر والنص من كل جهة .

( المسألة الثانية : في أنّ أصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها ) اي : بأصالة الصحة ( الاستصحاب ) فان الاستصحاب يقتضي العدم ، وأمثال الصحة يقتضي الوجود ، فاذا فرغ - مثلاً - من الصلاة وشك في انه هل أتى بالركوع ام لا ؟ فأصالة الصحة تقول : قد اتى به ، والاستصحاب يقول : لم يأت به ، وأصالة الصحة مقدّمة على الاستصحاب ، وسبب تقدّمها أحد امرين :

( إمّا لكونها من الأمارات ) الشرعية وقد عرفت ان الأمارة مقدّمة على الأصل ( كما يشعر به ) اي : بكون أصالة الصحة أمارة ( قوله عليه السلام: في بعض روايات ذلك الأصل ) اي : أصل الصحة ( « هو حين يتوضّأ أذكَرُ منهُ حين يَشُكُّ » (1) ) فانه

ص: 375


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ، ص101 ب4 ، ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وإمّا لانّها وإن كانت من الاصول إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه ، فهي خاصة بالنسبة اليه يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا اشكال في شيء من ذلك .

إنّما الاشكال في تعيين مورد ذلك الأصل من وجهين :

أحدُهما : من جهة تعيين معنى الفراغ والتجاوز المعتبر

-------------------

اذا شك - مثلاً - بعد تمام الوضوء في انه هل مسح رأسه أم لا ؟ فان قوله عليه السلام : «هو حين يتوضأ أذكر» الحاكم بالصحة مشعر بأماريته ، وذلك من باب تقديم الظاهر على الاصل ، فان ظاهر الشخص العامل ان يكون غالبا ملتفتا حين العمل ، ولا يأتي الملتفت بعمله إلاّ تامّا .

( وإمّا لانّها وإن كانت من الاصول ) التعبدية لا من الأمارات الشرعية ( إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها ) اي : بأصالة الصحة جاء ( في مورد الاستصحاب ) بحيث لو اردنا ان نترك أصالة الصحة ونأخذ بالاستصحاب لزم ان لا يبقى مورد للعمل بأصالة الصحة اطلاقا أو غالبا ، وهذا ( يدلّ على تقديمها ) اي : تقديم أصالة الصحة ( عليه ) اي : على الاستصحاب ، فانه لو لم تتقدم أصالة الصحة على الاستصحاب لزم لغوية أصالة الصحة أو شبة لغويّتها .

إذن : ( فهي ) اي : أصالة الصحة ( خاصة بالنسبة اليه ) اي : الى الاستصحاب ، فيكون بينهما عموم مطلق : الاستصحاب أعم ، وأصالة الصحة أخص ، والخاص دائما يُقدّم على العام ، ومعه ( يخصّص بأدلّتها أدلّته ) اي : يخصّص بأدلة أصالة الصحة أدلة الاستصحاب ( ولا اشكال في شيء من ذلك ، إنّما الاشكال في تعيين مورد ذلك الأصل ) أصل الصحة ( من وجهين ) تاليين :

( أحدُهما : من جهة تعيين معنى الفراغ والتجاوز ) والمضيّ ( المعتبر

ص: 376

في الحكم بالصحة ، وأنّه هل يكتفي به أو يُعتبر الدخول في غيره ، وأنّ المراد بالغير ما هو ؟ .

الثاني : من جهة أنّ الشك في وصف الصحة للشيء ملحقٌ بالشك في أصل الشيء أم لا .

وتوضيح الاشكال من الوجهين موقوف على ذكر الاخبار الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الاخبار كل شبهّة حدثت أو تحدث في هذا المضمار .

-------------------

في الحكم بالصحة ) لان تعبير الروايات فيه مختلفة ، فتارة جاء التعبير بالفراغ ، واخرى بالتجاوز ، وثالثة بالمضيّ .

( و ) ايضا من جهة تعيين ( أنّه هل يكتفي به ) اي : بمجرّد المضيّ والتجاوز والفراغ فقط ( أو يُعتبر الدخول في غيره ) ايضا حتى يحكم بأصالة الصحة ؟ ( و ) هكذا من جهة تعيين ( أنّ المراد بالغير ما هو ؟ ) هل هو مطلق الغير ، ركنا كان ام غير ركن ، او هو غيرٌ خاص ، شرعي - مثلاً - أو عقلي أو عادي أو عرفي ؟ .

( الثاني : من جهة أنّ الشك في وصف الصحة للشيء ) بعد العلم بالاتيان به ، كما هو علم بانه اتى بالشيء لكن شك في انه أتى به صحيحا أو غير صحيح ، فهل هذا ( ملحقٌ بالشك في أصل ) اتيان ( الشيء أم لا ) غير ملحق به ؟ فانه قد يشك في انه أتى بالركوع أم لا ، وقد يعلم انه أتى بالركوع لكن يشك في انه أتى به صحيحا او فاسدا ، فهل الصحة تجري في الموردين معا أم تختصّ بأحدهما ؟ .

قال المصنِّف : ( وتوضيح الاشكال من الوجهين موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الاخبار كل شبهّة حدثت أو تحدث في هذا المضمار ) فان هناك فروعا مشكلة لا يعلم بانها هل هي مجرى قاعدتي

ص: 377

فنقول مستعينا باللّه : روى زرارة في الصحيح عن ابن عبد اللّه عليه السلام قال : « اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء » .

وروى اسماعيل بن جابر عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : « إن شكَّ في الركوع بعدما سَجَدَ فليَمض ، وإن شكَّ في السجود بعد ما قام فليَمض ، كلّ شيء شكَّ فيه وقد جاوزَهُ ودخل في غيرهِ ، فليمض عليه » .

وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في غير المشكوك .

-------------------

التجاوز والفراغ ام لا ؟ وبذكر الأخبار ومراجعتها يظهر لنا دخول تلك الفروع في هذه الجانب او ذلك الجانب جليّا ان شاء اللّه تعالى .

( فنقول مستعينا باللّه : روى زرارة في الصحيح عن ابن عبد اللّه عليه السلام قال : « اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء » (1) ) ومعناه : عدم الاعتناء بالشك الحادث في الشيء الذي كان قد تجاوزه الى غيره .

( وروى اسماعيل بن جابر عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : «ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » ) (2) اي : ليحكم بصحته ما أتى به .

( وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في ) شيء آخر ( غير المشكوك ) وذلك بأن شك في الركوع وقد سجد ، او في السجود وقد قام وشرع في الحمد ، أو شرع في التشهد ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 378


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الإسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

وفي الموثّقة : « كلُّ ما شككت فيه مّما قد مضى فأمضِهِ كما هو » .

وهذه الموثّقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير .

وفي موثّقة ابن ابي يعفور : « اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلتَ في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » .

-------------------

( وفي الموثّقة ) اي : موثقة محمد بن مسلم قال : ( « كلُّ ما شككت فيه مّما قد مضى فأمضِهِ كما هو » (1) ) بمعنى : عدم الاعتناء بالشك .

( وهذه الموثّقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير ) اي : في غير المشكوك ، وإنّما اعتبرت ملاك الحكم بالصحة : مجرّد المضي ، فاذا شك في صحة الركوع وقد قام منه فانه وان لم يسجد بعدُ ، يبني على صحة ركوعه ، وهكذا .

( وفي موثّقة ابن ابي يعفور : « اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلتَ في غيره ) كما لو شككت - مثلاً - في غسل الوجه وقد شرعت في غسل اليد ، او شككت في مسح الرأس وقد شرعت في مسح الرجلين ، على ما هو ظاهر هذه الرواية وان كان المشهور لا يقولون بجريان قاعدة التجاوز بالنسبة الى أجزاء الوضوء ، فاذا شككت كذلك ( فشكُّكَ ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » (2) ) اي : اذا شككت في صحة غَسل يدك - مثلاً - وانت بعد في غَسل اليد ، أو شككت في الركوع وانت بعد في الركوع فتداركه ، والاّ فاحكم بصحته .

ص: 379


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

وظاهر صدر هذه الموثّقة كالأوليين ، وظاهر عجزها كالثالثة .

هذه تمام ما وصل الينا من الأخبار العامّة .

وربما يستفاد العموم من بعض ما ورد في الموارد الخاصة :

مثل : قوله عليه السلام ، في الشك في فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، من قوله عليه السلام : « وإن كان بعدما خرج وقتُها فقد دخل حائلٌ ، فلا إعادة » .

-------------------

( وظاهر صدر هذه الموثّقة كالأوليين ) (1) اي : كالروايتين الظاهرتين في اعتبار الدخول في غير المشكوك ، فلا يحكم بالصحة الاّ بعد الدخول في الغير .

( وظاهر عجزها كالثالثة ) اي : كموثقة محمد بن مسلم (2) الظاهرة في عدم اعتبار الدخول في غير المشكوك ، وانه يكفي للحكم بالصحة : التجاوز عنه والفراغ منه وان لم يدخل في غيره ( هذه تمام ما وصل الينا من الأخبار العامّة ) ومجموعها يفيد قاعدة كلية ، وهي: ان الشك إنّما يعتبر اذا كان الشخص داخلاً في نفس الشيء ، أما الشك بعد الفراغ والتجاوز والمضيّ فلا اعتبار به .

( وربما يستفاد العموم ) اي : عموم قاعدتي التجاوز والفراغ ( من بعض ما ورد في الموارد الخاصة ) فيتعدّى من تلك الموارد الخاصة الى غيرها لفهم المناط والملاك ، وذلك ( مثل : قوله عليه السلام ، في الشك في فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، من قوله عليه السلام : « وإن كان بعد ما خرج وقتُها فقد دخل حائلٌ ، فلا إعادة » (3) )

ص: 380


1- - كرواية زرارة ورواية اسماعيل ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 و ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 و ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 .
2- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص294 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص277 ب13 ح135 ، وسائل الشيعة : ج4 ص283 ب60 ح5168 .

وقوله عليه السلام : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَه تذكُّرا فأمضِهِ كما هُو » ، وقوله عليه السلام : فيمن شك في الوضوء بعدما فرغ : « هو حين يتوضّأ

أذكَرُ منه حين يَشُكُّ » .

ولعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك ،

-------------------

فانه يدل على ان الملاك هو حصول الحيلولة ، والحيلولة إنّما تحصل بحالة مغايرة للحالة الاولى ، وواضح ان الشك بعد التجاوز والفراغ سواء في العبادات أم المعاملات كله من هذا القبيل ( وقوله عليه السلام : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَه تذكُّرا ) بأن لم تعلم هل أتممته او لم تتمّه ؟ ( فأمضِهِ كما هُو » (1) ) اي : احكم بانه صحيح ، فان العرف يفهم من مثل : « ذكرته تذكّرا فأمضه » الملاك ، فلا خصوصية للصلاة والطهور ، بل يأتي في الحج والصيام وغير ذلك .

( وقوله عليه السلام ) الذي اشار اليه المصنِّف قبل قليل أول المسئلة الثانية وهي رواية بكير بن أعين : ( فيمن شك في الوضوء بعدما فرغ ) منه وانه هل أتى به صحيحا ام لا ؟ فكان فيما قاله عليه السلام : ( « هو حين يتوضّأ أذكَرُ منه حين يَشُكُّ » (2) ) اي : لا يعتني بشكه ويبني على أصالة الصحة ، فانه عليه السلام لما علّل عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد تمامه بالأذكرية حين العمل ، دلّ ذلك على مسلّمية كبرى كلية تقول : بأن كل عامل في حال عمله أذكر ، فاذا شك بعد ذلك فلا يعتني بشكه .

هذا ( ولعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك ) فيما نحن فيه من الروايات فقد ورد في مضمون رواية الفقيه عن محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه عليه السلام انه قال :

ص: 381


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وحيث انّ مضمونها لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما ، كالحج ، فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ، فنقول مستعينا باللّه ، فانّه وليّ التوفيق :

إنّ الكلام يقع في مواضع :

-------------------

«ان شك الرجل بعدما صلّى ، فلم يدر ثلاثا صلّى ام اربعا ، وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم ، لم يُعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك » (1) .

ومنها : ما في ذيل صحيحة زرارة : «فاذا قمت عن الوضوء وفرغت عنه ، وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة او غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه مما أوجب اللّه ، لا شيء عليك » (2) .

ومنها : ما رواه محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق عليه السلام : « رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ؟ قال : يمضي على صلاته ولا يعيد » (3) .

وهذه الروايات ذكرها الأوثق ، وهناك روايات أخرى يجدها المتتبع في المجاميع .

هذا ( وحيث انّ مضمونها لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما، كالحج ) والصوم والاعتكاف وسائر المعاملات ( فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ) حتى يعلم ان أيّا من الفروع المشكوكة داخل في قاعدتي التجاوز والفراغ ، وأيا منها غير داخل فيالقاعدتين؟.

( فنقول مستعينا باللّه ، فانّه وليّ التوفيق : إنّ الكلام يقع في مواضع ) سبعة :

ص: 382


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص352 ح1027 ، وسائل الشيعة : ج8 ص246 ب27 ح10552 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص100 ب4 ح110 ، وسائل الشيعة : ج1 ص469 ب42 ح1243 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح113 و ص102 ب4 ح116 .
الموضع الأوّل :

إنّ الشك في الشيء ، ظاهرٌ - لغةً وعرفا - في الشك في وجوده ، إلاّ أنّ تقييد ذلك في الروايات بالخروج عنه ومضيّه والتجاوز عنه ربما يصيرُ قرينةً على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغا عنه ، وكون الشك فيه باعتبار الشك في بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا .

-------------------

( الموضوع الأوّل : إنّ ) ما ورد في الأخبار المتقدّمة من لفظ ( الشك في الشيء ، ظاهرٌ لغةً وعرفا في الشك في ) أصل ( وجوده ) اي : وجود الشيء المشكوك وعدمه وذلك كما اذا شك في انه هل ركع ام لا - مثلاً - ؟ لا في صحته بعد الفراغ عن وجوده ( إلاّ أنّ تقييد ذلك ) أي : تقييد الشك ( في الروايات بالخروج عنه ) اي : عن ذلك الشيء المشكوك كما تقدَّم في رواية زرارة (1) ( ومضيّه ) على ما تقدّم في موثّقة محمد بن مسلم (2) ( والتجاوز عنه ) على ما في رواية اسماعيل (3) وموثّقة ابن ابي يعفور (4) ( ربما يصيرُ قرينةً على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغا عنه ، و ) مسلّما وقوعه ، وإنّما (كون الشك فيه باعتبار الشك في بعض مايعتبر فيه شرطا أو شطرا ).

مثلاً : يعلم انه أتى بالركوع قطعا ، لكنه لا يعلم هل انه أتى به في حال الستر

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .
4- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

نعم ، لو أريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشك في الشيء .

وهذا هو المتعيّن ، لأنّ ارادة الأعمّ من الشك في وجود الشيء والشك الواقع في الشيء الموجود في استعمال واحد غير صحيح .

-------------------

والاستقبال من جهة الشرط ؟ او هل انه أتى به مع الذكر والتسبيح من جهة الشرط والجزء فيما اذا قلنا : بأن الذكر جزء وشطر من الركوع ؟ وهكذا حال ما اذا شك في انه هل أتى به مع المانع او بدون المانع ؟ .

( نعم ، لو أريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشك في الشيء ) بمعنى : انه ان أريد من الخروج والمضيّ والتجاوز : التجاوز عن نفس الشيء ، يكون الشك في جزئه وشرطه وعدم ما نعه ، وان أريد منه : التجاوز عن محل الشيء ، يكون الشك في أصل وجود الشيء وانه هل أتى به أم لا ؟ .

( وهذا ) اي : إرادة معنى التجاوز عن محل الشيء من ألفاظ الروايات ( هو المتعيّن ) عند المصنِّف ، فلابدّ من حمل الفاظ : الخروج والمضي والتجاوز في الروايات على التجاوز عن محل الشيء لا نفس الشيء ، فيكون الشك في الشيء معناه : انه شك في أصل وجوده وعدمه .

وإنّما قال المصنِّف : «هذا هو المتعيّن» ( لأنّ ارادة الأعمّ من الشك في وجود الشيء ) كما اذا شك في انه ركع أو لم يركع ( والشك الواقع في الشيء الموجود ) كما اذا شك في ان ركوعه الذي ركعه كان مع الستر والاستقبال ام لا ، فانّ ارادة الأعم ( في استعمال واحد غير صحيح ) لانه يراد به معنيان ، واللفظ الواحد لايتمكن ان يشمل معنيين ، وذلك إما استحالة كما يقوله الآخوند ، أو لأنه يحتاج

ص: 384

وكذا إرادة خصوص الثاني ، لأنّ مورد غير واحد من تلك الاخبار هو الأوّل .

ولكن يبعد ذلك في ظاهر موثّقة محمّد بن مسلم ، من جهة قوله عليه السلام : «فأمضه كما هو» ، بل لا يصحّ ذلك

-------------------

الى قرينة مفقودة في المقام كما يراه المشهور .

( وكذا إرادة خصوص الثاني ) اي : ارادة الروايات من الشك في الشيء : خصوص الشك الواقع في صحة الشيء الموجود ، فانه غير صحيح بنظر المصنِّف أيضا . وإنّما لم يكن صحيحا أيضا بنظره ( لأنّ مورد غير واحد من تلك الاخبار ) كرواية اسماعيل (1) بن جابر عن الإمام الصادق عليه السلام ( هو الأوّل ) أي : الشك في وجود اصل الشيء ، لا في صحة الشيء الموجود ، واذا كان كذلك ، فاللازم حمل سائر الأخبار على هذا المعنى ايضا ، فيكون مفادها : انه اذا شك في اصل الشيء ، بأن لم يعلم هل انه أتى به او لم يأت به وقد تجاوزه ، أو دخل في غيره بعد تجاوزه عنه فلا يعتني بشكه ؟ .

( لكن يبعد ذلك ) اي : يبعد كون الشك في أصل وجود الشيء ( في ظاهر موثّقة محمد بن مسلم من جهة قوله ) عليه السلام : ( « فأمضه كما هو » (2) ) اذ ظاهر :

امضه كما هو : الشك في انه هل أتى بالعمل جامعا للشرائط ام لا ؟ فليس الشك في أصل الاتيان بالعمل وعدمه ، وإنّما الشك في صحة العمل وعدم صحته .

( بل لا يصحّ ذلك ) اي : لا يصح ان يكون الشك في أصل وجود الشيء

ص: 385


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .

في موثّقة ابن أبي يعفور ، كما لا يخفى .

لكنّ الانصاف : إمكان تطبيق موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات

.

وأمّا هذه الموثّقة فسيأتي توجيهُها على وجه

-------------------

( في موثّقة ابن أبي يعفور (1) ، كما لا يخفى ) على من راجعها حيث يدلّ صدرها على عدم اعتبار الشك في شيء من الوضوء بعد الفراغ منه ، وإنّما العبرة به قبل الفراغ منه ، وذلك ظاهر في انه قد أتى قطعا بالوضوء ، وإنّما شك في بعض خصوصياته.

( لكنّ الانصاف : إمكان تطبيق موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات ) الأخر ، وذلك على ان يكون قوله عليه السلام : «فأمضه كما هو» (2) بمعنى : ابن على وقوع الشيء المشكوك وتحققه ، فيكون الشك في أصل الشيء وعدمه لا في خصوصياته وصحته .

أقول : لكن الظاهر أن ما يستظهره العرف من موثقة محمد بن مسلم هو : الأعم من الشك في أصل الشيء او في خصوصياته ، فان قوله عليه السلام : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» يشمل الأمرين عرفا ، فهما فردان من كلي أفادته الموثقة المذكورة .

( وأمّا هذه الموثّقة ) اي : موثقة ابن أبي يعفور (3) ( فسيأتي توجيهُها على وجه

ص: 386


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص438 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

لا يعارض الروايات إن شاء اللّه .

الموضع الثاني :

إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده هو : الموضوع الذي لو اُتى به فيه لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرّر .

وبعبارة أخرى : محلّ الشيء ، هي المرتبة المقرّرة له بحكم العقل

-------------------

لا يعارض الروايات إن شاء اللّه ) تعالى ، وذلك حتى يكون المراد من هذه الموثقة عند المصنِّف ايضا هو : الشك في أصل الشيء ، لا الشك في خصوصياته ، والتوجيه الذي يأتي هو : ان الوضوء قد اعتبر شرعا أمرا بسيطا ، واذا كان كذلك فلا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ منه .

أقول : لكن يظهر ان هذا غير تام ، وذلك لأنّ الصناعة تقتضي بنظرنا ان يكون الوضوء ايضا مما يأتي فيه قاعدة التجاوز ، وهو الذي أيّده العلامة وولده .

( الموضع الثاني : إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده ) وعدم وجوده، وذلك فيما لوشك في انه هل أتى بالفعل الفلاني ام لا بعد ان تجاوز محله ؟ فانه - كما عرفت - يبني على انه أتى به ، فما المراد من المحل هنا ؟ علما بانه ليس في الروايات لفظ المحل ، وإنّما فهم الفقهاء المحل من مثل قوله عليه السلام : «اذا كنت في شيء لم تجزه» (1) وما اشبه ذلك ، قال المصنِّف : المراد به : ( هو : الموضوع الذي لو اُتى به ) اي : بالفعل المشكوك ( فيه ) اي : في ذلك المحل ( لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرّر ) شرعا .

( وبعبارة أخرى : محلّ الشيء ، هي المرتبة المقرّرة له ) إمّا ( بحكم العقل )

ص: 387


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

أو بوضع الشارع أو غيره ولو كان نفس المكلّف ، من جهة اعتياده باتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ .

فمحلُّ تكبيرة الاحرام قبل الشروع في الاستعاذة لاجل القراءة بحكم الشارع ، ومحلّ « اكبر » قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام ، ومحلّ الراء من « أكبر » قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن

-------------------

كما يأتي ان شاء اللّه تعالى في مثال الابتداء بالحرف الساكن .

( أو بوضع الشارع ) كما في جعل الشارع محل ا لسورة بعد الحمد في الصلاة - مثلاً - .

( أو غيره ) اي : غير الشارع كالعرف على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى في مثال الصلاة قبل الطعام لمن اعتاد ذلك ، حتى ( ولو كان ) هذا الغير ( نفس المكلّف ، من جهة اعتياده باتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ ) وان لم يكن محلاً عقليا ولا محلاً شرعيا .

وعليه : ( فمحلُّ تكبيرة الاحرام قبل الشروع في الاستعاذة لاجل القراءة ) يكون ( بحكم الشارع ) لان الشارع هو الذي قال : يستحب الاتيان بالاستعاذة قبل القراءة .

( ومحلّ « اكبر » قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة ) يعني : أن يأتي بهما متلاصقين ، وهو يكون ( بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام ) الذي صدّقه الشارع ايضا ، وكذا عدم الفصل الطويل بين المبتدأ والخبر ، والموصوف والصفة ، وذي الحال والحال ، الى غير ذلك

( ومحلّ الراء من « أكبر » قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن ) يكون

ص: 388

بحكم العقل ، ومحلّ غَسل الجانب الأيسر أو بعضه في غُسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة .

هذا كلّه مّما لا اشكال فيه ، إلاّ الأخير ، فانّه ربما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار الى غيره .

-------------------

(

بحكم العقل ) لانه لابد من توالي حروف الكلمة الواحدة بلا أدنى فصل بينها ، فاذا فصل حرف الراء عما قبله من الحروف في كلمة اكبر ، لزم الابتداء بالساكن ، والابتداء بالساكن محال عقلاً ، فيكون محل الراء في كلمة اكبر بعد حرف الباء بلا فصل بحكم العقل .

( ومحلّ غَسل الجانب الأيسر أو بعضه في غُسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه ) في الغُسل دون تفريق أجزاء الغُسل في أوقات مختلفة ، يكون ( قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة ) فاذا كان - مثلاً - قد اعتاد على الموالاة في الغُسل ، ثم شك بعد الفصل الطويل المخلّ بالموالاة بأنه هل غسل الجانب الأيسر أم لا فهذا الشك يكون شكا بعد تجاوز المحل العادي لانه على خلاف معتاده في الغُسل .

( هذا كلّه مّما لا اشكال فيه ، إلاّ الأخير ) وهو التجاوز عن المحل العادي ثم الشك فيه ( فانّه ربما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار ) الدالة على عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل ( الى غيره ) اي : الى غير المحل العادي ، فان المنصرف من اطلاق تجاوز المحل هو المحل الشرعي والعقلي والعرفي لا المحل العادي ، وقد سبق منا الفرق بين العرف والعادة ، فانه قد يكون العرف على شيء ، لكن عادة هذا الانسان ليس على ذلك الشيء ، وقد يكون العكس .

ص: 389

مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة .

فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقته أو مع الجماعة ، فشك في فعلها بعد ذلك فلايجب عليه الفعل .

وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه

-------------------

( مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة ) فيما لو قيل : بانه لا عبرة بالشك بعد تجاوز المحل العادي ( يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة ) تدل تلك الاطلاقات على لزوم الاتيان بالفعل المشكوك ، فاذا كان - مثلاً - من عادته انه يصلّي اول الوقت ، او يقضي صيام شهر رمضان من اليوم الثاني من شوال ، أو يزكّي ماله في اول يوم يتعلق به الزكاة ، أو يعطي خمس ماله أول السنة الجديدة ، او يطوف للعمرة بمجرد وصوله الى مكة ، وبعدها عرض له الشك في انه هل أتى بها كما هو اعتياده أم لا ؟ وحينئذ لو قلنا : بانه يجري حكم التجاوز ، ولا يلزم عليه الاتيان بهذه الامور كان مخالفا لاطلاقات : « أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة » (1) وغيرهما من النصوص المطلقة .

وعليه : ( فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقته أو مع الجماعة ، فشك في فعلها بعد ذلك ) الوقت او بعد انتهاء الجماعة فان قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا ( فلا يجب عليه الفعل ) اي : ليس عليه أن يأتي بالصلاة لانه قد تجاوز المحل العادي للصلاة .

( وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة ) كأكل طعامه ، او الشروع في درسه بعد الصلاة ( فرأى نفسه فيه ) اي : في مثل أكل الطعام ، أو الشروع

ص: 390


1- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 .

وشك في فعل الصلاة .

وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به ، أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ فشك بعد ذلك في الوضوء ، الى غير ذلك من الفروع التي يبعدُ إلتزامُ الفقيه بها .

نعم ، ذكر جماعةٌ من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الأخير ، كالعلامة وولده والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم «قدس اللّه أسرارهم» .

-------------------

في الدرس ، أو ما اشبه ذلك ( وشك في فعل الصلاة ) فلا يجب عليه ان يأتي بالصلاة لو قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا ، لانه قد تجاوز المحل العادي للصلاة.

( وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به ، أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ ) الى الصلاة كما يعتاده كثير من الناس ( فشك بعد ذلك في الوضوء ) بانه هل توضأ حسب عادته ام لا ؟ فلو قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا فلا يجب عليه ان يتوضأ لانه قد تجاوز المحل العادي للوضوء .

( الى غير ذلك من الفروع التي يبعدُ إلتزامُ الفقيه بها ) للانصراف الذي ذكره المصنِّف هنا ولأن المحكّم في المقام بنظره هو : قاعدة الاشتغال لا التجاوز .

( نعم ، ذكر جماعةٌ من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الأخير ، كالعلامة وولده والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم «قدس اللّه أسرارهم» ) وناقشوا في جريان قاعدة التجاوز هنا وعدم جريانها

ص: 391

واستدلّ فخر الدين على مختاره في المسألة ، بعد صحيحة زرارة المتقدّمة : بأنّ خرق العادة على خلاف الاصل .

ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلابدّ من التتبّع والتأمل .

-------------------

( واستدلّ فخر الدين على مختاره ) وهو جريانها ( في المسألة ، بعد صحيحة زرارة (1) المتقدّمة : بأنّ خرق العادة ) اي : الظاهر ( على خلاف الاصل ) ويلزم تقديم الظاهر على الاصل ، وذلك لأنّ الاصل هنا : عدم الاتيان بالجزء المشكوك ، بينما الظاهر من حال معتاد الموالاة في الغُسل ظاهرا عقلائيا : انه قد أتى به ، فيقدّم الظاهر على الأصل .

ثم قال المصنِّف : ( ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلابدّ من التتبّع ) في فتاواهم حتى يعلم هل انهم أفتوا بذلك في مقام آخر ام لا ؟ علما بأن بعض الفقهاء ذكر مثل ذلك أيضا فيمن شك في غَسل محلّ النجو بعد خروجه عن الكنيف ممن كان عادته الغَسل .

( و ) كذا لابدّ من ( التأمّل ) ايضا في وجه الفتوى المذكورة وفيما لو كانوا قد أفتوا بمثل هذه الفتوى ، وان كان يحتمل بنظرنا جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الامور العادية ، وذلك لبعض الأخبار الآتية ، ولوجوه اُخر : مثل : الاجماع في الجملة ، ومثل : بناء العقلاء على الصحة بعد تجاوز المحل ، ومثل : ظهور حال العاقل المريد لايقاع الفعل على وجه الصحة ، ومثل : الغلبة ، لان الغالب من عادته ذلك ، والغلبة حجّة باعتبار انها طريقة عقلائية لم يردع عنها الشارع .

ص: 392


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .

والذي يقرب في نفسي عاجلاً هو : الالتفات الى الشك ، وإن كان الظاهر من قوله عليه السلام فيما تقدّم : « هو حين يتوضأ اذكَرُ منه حين يشكّ » أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل ؛ فهو دائرٌ مدار الظهور النوعي من العادة ،

-------------------

هذا ، ولكن المصنّف قال : ( والذي يقرب في نفسي عاجلاً هو : الالتفات الى الشك ) والعمل بقاعدة الاشتغال لا بقاعدة التجاوز ، وذلك حتى لا يُضطر الى الالتزام بفروع لا يلتزم الفقهاء بها .

ثم أضاف المصنِّف بعد ذلك قوله : ( وإن كان الظاهر من قوله عليه السلام فيما تقدّم : « هو حين يتوضأ اذكَرُ منه حين يشك » (1) أنّ هذه القاعدة ) هي أمارة ظنية عقلائية قرّرها الشارع (من باب تقديم الظاهر على الأصل) فإن بعض الفقهاء قال : ان الأصل لا حكم له مع الظاهر اذا كان الظاهر على خلافه ، مثل غسالة الحمّام ، حيث ان الظاهر نجاستها مع ان الاصل الطهارة ، ومثل ادّعاء الصرّاف تماميّة ما سلّمه الى صاحب النقد ، وادّعاء صاحب النقد النقص بعد ان استلم نقده منه وذهب ثم رجع حيث ان الظاهر التمامية ، بينما الاصل النقص ، الى غير ذلك من الامثلة .

وعليه : ( فهو ) اي : ما استظهرناه من تقديم الظاهر على الاصل ( دائرٌ مدار الظهور النوعي ) فأين ما وجد ظهور نوعي لزم تقديمه على الاصل حتى وان كان ذلك الظهور النوعي حاصلاً ( من العادة ) وكان التجاوز عنه تجاوزا عن المحل العادي .

ص: 393


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح104 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكلٌ ، فتأمّل .

والأحوط ما ذكرنا

الموضع الثالث :

الدخول في غير المشكوك إن كان محققا للتجاوز عن المحلّ ، فلا اشكال في اعتباره ، وإلاّ

-------------------

ثم استدرك المصنِّف كلامه بقوله : ( لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكلٌ ) لانه لو التزمنا به كان معناه تأسيس فقه جديد ( فتأمّل ) فان الظاهر عند المصنِّف هو : التجاوز من المحل الذي جعله الشارع ، لا حسب العادة ، فحتى لو لم يستلزم ذلك تأسيس فقه جديد لا يمكن الالتزام به لأنّ النص لا يشمله .

( و ) على ايّ حال : فان ( الأحوط ما ذكرنا ) : من الالتفات الى الشك بالنسبة الى المحل العادي والعمل فيه بقاعدة الاشتغال لا التجاوز .

( الموضع الثالث ) : في ان المعيار لجريان قاعدة التجاوز هل هو الدخول في الغير ، أو تجاوز المحل وان لم يدخل في الغير ؟ علما بأن ( الدخول في غير المشكوك ) ، أي : في الغير ( إن كان محققا للتجاوز عن المحلّ ، فلا اشكال في اعتباره ) اي : في اشتراط الدخول في الغير ، كما اذا شك في الحمد بعد الدخول في السورة حيث ان محل الحمد بين تكبيرة الاحرام وبين السورة فالغير هنا محقق للتجاوز فيكون شرطا لجريان القاعدة .

( وإلاّ ) بأن لم يكن الدخول في الغير محققا للتجاوز ، وإنّما تحقق التجاوز بغيره ، وذلك كما اذا فرغ عن تكبيرة الاحرام ومضى زمان عليه بمقدار قراءة الحمد ولم يشرع بعد في السورة ، ثم شك في انه هل قرء الحمد أو لم يقرءه ؟

ص: 394

فظاهرُ الصحيحتين الاُولَيَن : اعتباره ، وظاهرُ اطلاق موثّقة ابن مسلم عدمُ اعتباره .

ويمكن حمل التقييد في الصحيحين على الغالب خصوصا في أفعال الصلاة ، فانّ الخروج من أفعال الصلاة يتحقق غالبا

-------------------

ففي هذه الصورة هل يصدق التجاوز حتى لا يحتاج الى قراءة الحمد ، أو لايصدق التجاوز لانه لا دخول في الغير ، فاللازم ان يقرء الحمد ؟ احتمالان :

( فظاهرُ الصحيحتين الاُولَيَن : (1) اعتباره ) اي : اعتبار الدخول في الغير في صدق التجاوز عن المحل .

( وظاهرُ اطلاق موثّقة ابن مسلم (2) عدمُ اعتباره ) اي : عدم اعتبار الدخول في الغير ، وإنّما يكفي مجرّد التجاوز عن محلّ الشيء في الحكم بأنه قد أتى بالشيء المشكوك :

هذا (ويمكن حمل التقييد في الصحيحين ) حيث دلاّ على لزوم الدخول في الغير (على الغالب) لا على انه احترازي، اذ الغالب في الامور هو حصول التجاوز بالدخول في الغير ، ولذلك عبرّ عن التجاوز بالدخول في الغير ، والاّ فالمناط هو : عنوان التجاوز ، وذلك حسب قوله عليه السلام: «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجره»(3) (خصوصا في أفعال الصلاة ، فانّ الخروج من أفعال الصلاة يتحقق غالبا

ص: 395


1- - وهي صحيحة زرارة ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 ، وصحيحة اسماعيل بن جابر ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .
2- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

بالدخول في الغير ، وحينئذ ، فيلغوا القيد .

ويحتمل ورود المطلق على الغالب ، فلا يحكم بالاطلاق .

ويؤيّد الأوّل ظاهر التعليل المستفاد من قوله عليه السلام : « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشك » ،

-------------------

بالدخول في الغير ) ولذا جاء التعبير في الصحيحتين بالدخول في الغير .

( وحينئذ ) اي : حين ، تمّ حمل القيد على الغالب ( فيلغوا القيد ) ولا حاجة حينئذ في صدق التجاوز الى الدخول في الغير .

( ويحتمل ) اعتبار القيد ويكون ذلك من باب ( ورود المطلق على الغالب ) فان الغالب كونه مقيدّا بالدخول في الغير ( فلا يحكم بالاطلاق ) لان الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز ، وإنّما لم يذكر ذلك في بعض الروايات لعدم الحاجة الى ذكره ، حيث ان الغالب هو كون التجاوز يتحقق بالدخول في الغير .

( ويؤيّد الأوّل ) وهو : عدم اعتبار القيد وكفاية مجرّد تجاوز المحل : ( ظاهر التعليل المستفاد من قوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشك » (1) ) اي : سواء دخل في الغير أم لم يدخل ، وذلك لأنّ ظاهر هذا التعليل هو : ان الحكم دائر مدار الظهور النوعي ، واقتضاء الظهور النوعي هو : ان الانسان يأتي بالشيء في محله ، فاذا تجاوز المحل سواء دخل في الغير ام لم يدخل في الغير يبني على انه قد أتى به .

ص: 396


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وقوله عليه السلام : « إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تَجزه » ، بناءا على ما سيجيء من التقريب ، وقوله عليه السلام : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ، الخبر » .

-------------------

( وقوله عليه السلام : « إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » (1) ، بناءا على ما سيجيء من التقريب ) فيكون المعيار التجاوز وعدم التجاوز ، لا الدخول في الغير وعدم الدخول في الغير .

( وقوله ) عليه السلام : ( كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ) فذكرته تذكّرا ، فأمضه كما هو ، أي : سواء دخلت في غيره أم لا ، فانّ ظاهر هذا ( الخبر ) (2) هو تأسيس قاعدة كلية المناط العمل بالمشكوك ، وعدم العمل به ، وهو : مجرد المضي والتجاوز ، الى غير ذلك من المؤيدات ، خصوصا مفهوم الحصر في قوله عليه السلام : « إنّما الشك » (3) حيث دلّ على أنه لا اعتبار بالشك بعد التجاوز عنه والفراغ منه سواء دخل في الغير أم لم يدخل فيه .

انتهى الجزء الثالث عشر

ويليه الجزء الرابع عشر في

تتمة الكلام عن المسألة الثانية

وله الحمد والشكر

ص: 397


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع احاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب 4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

ص: 398

المحتويات

تتمّة التنبيه الثالث ... 5

التنبيه الرابع ... 19

التنبيه الخامس ... 30

التنبيه السادس ... 63

التنبيه السابع ... 111

التنبيه الثامن ... 139

التنبيه التاسع ... 148

التنبيه العاشر ... 197

التنبيه الحادي عشر ... 223

التنبيه الثاني عشر ... 244

خاتمة في شروط جريان الاستصحاب

الأمر الأوّل ... 257

الأمر الثاني ... 308

الأمر الثالث ... 342

تقديم الاستصحاب على الاُصول الثلاثة ... 362

المقام الأوّل ... 363

المسألة الاُولى ... 363

المسألة الثانية ... 375

ص: 399

الموضع الأوّل : معنى الشّك في قاعدة الفراغ ... 383

الموضع الثاني : محل الشّك ... 387

الموضع الثالث : اعتبار التجاوز ... 394

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 14

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمّة بحث الاستصحاب

ص: 4

لكنّ الذي يبعّده أنّ الظاهر من الغير - في صحيحة إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد ، وإن شك في السجود بعد ما قام ، فليمضِ » بملاحظة مقام التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقرّرة بقوله ، بعد ذلك : « كلّ شيء شك فيه ، الخ » - ، كونُ السجود والقيام حدّا للغير ، الذي يعتبر الدخول فيه

-------------------

( لكنّ الذي يبعّده ) اي : يبعّد الاحتمال الأوّل ويقرّب الاحتمال الثاني وهو : اعتبار قيد الدخول في الغير وعدم كفاية مجردّ التجاوز هو : ( أنّ الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام ، فليمضِ » (1) ) فان الظاهر منه ( بملاحظة مقام التحديد ) اعتبار الدخول في الغير ، كما في المثالين المذكورين ( و ) كذا بملاحظة ( مقام التوطئة ) لان التحديد في المثالين المذكورين في الصدر تمهيد لبيان قاعدة كلية مذكورة في الذيل واذا كان التحديد في المثالين تمهيدا ( للقاعدة المقرّرة بقوله ، بعد ذلك ) أي : بعد المثالين : ( « كلّ شيء شك فيه ، الخ » ) فلا يجوز حمل الدخول في الغير على الغالب .

وعليه : فان ما يبعّد الاحتمال الأوّل ويقرّب الاحتمال الثاني في الصحيحة هو أمران :

الأوّل : ( كونُ السجود والقيام حدّا للغير ، الذي يعتبر الدخول فيه ) اي : في الغير حتى يصدق عليه التجاوز عنه ، واذا كان التحديد هذا في مقام يراد به التمهيد لبيان أمر كلّي - كما هو المراد هنا في الصحيحة - فلا يجوز حمله على الغالب حتى يقال : بانه لا يلزم الدخول في الغير .

ص: 5


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص891 بالمعنى .

وأنّه ، لا غيرَ ، أقربُ من الأوّل بالنسبة الى الركوع ، ومن الثاني بالنسبة الى السجود ، اذ لو كان الهُوِيُّ للسجود كافيا عند الشك في الركوع ، والنهوض للقيام كافيا عند الشك في السجود ، قَبُحَ في مقام التوطئة للقاعدة الآتية التحديد بالسجود والقيام ولم يكن وجهٌ لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شك قبل الاستواء قائما .

-------------------

الثاني : ( وأنّه لا غيرَ ، أقربُ من الأوّل ) اي : من السجود ( بالنسبة الى الركوع ، ومن الثاني ) اي : من القيام ( بالنسبة الى السجود ، اذ لو كان الهُوِيُّ للسجود كافيا عند الشك في الركوع ، والنهوض للقيام كافيا عند الشك في السجود ) حتى يكون تجاوزا ( قَبُحَ في مقام التوطئة ) والتمهيد ( للقاعدة الآتية ) وهي قوله عليه السلام : « كلّ شيء شك فيه ، الخ » (1) ( التحديد بالسجود والقيام ) وإنّما كان يلزم التحديد بالهويّ للسجود ، والنهوض للقيام ، وهكذا .

كما ( ولم يكن وجهٌ لجزم المشهور بوجوب الالتفات ) والاتيان بالمشكوك فيما ( إذا شك ) في السجود - مثلاً - حال النهوض ( قبل الاستواء قائما ) والاتيان بالركوع اذا شك فيه حال الهويّ وقبل السجود .

لكن فيه : ان السجود وكذا القيام في الصحيحة من باب المثال الظاهر ، والغالب انّ الانسان يأتي بالمثال الظاهر للقواعد الكلية وان كانت هناك أمثلة أخرى ، واذا كان كذلك فكون الرواية في مقام التحديد في المثال غير ظاهر ، خصوصا عند الجمع بين هذه الرواية والروايات السابقة ، الظاهرة في كفاية التجاوز وان لم يدخل في الغير .

ص: 6


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج60 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

ومّما ذكرنا يظهر : أنّ ما ارتكب بعضُ مّمن تأخّر : من التزام عموم الغير وإخراج الشك في السجود قبل تمام القيام بمفهوم الرواية - ضعيفٌ جدا ، لأنّ الظاهر : أنّ القيد وارد في مقام التحديد .

والظاهر : أنّ التحديد بذلك توطئة للقاعدة ، وهي بمنزلة

-------------------

( و ) كيف كان : فانه ( مّما ذكرنا ) : من انّ الصدر ظاهر في التحديد ، وان التحديد ظاهر في مقام التمهيد للذيل ( يظهر : أنّ ما ارتكب بعضُ مّمن تأخّر : من التزام عموم الغير ) للتجاوز وان لم يدخل في غيره ، وكفاية التجاوز الى كل غير ، لقوله عليه السلام في بيان قاعدة كلية : «كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره ، فليمض عليه » (1) ( وإخراج الشك في السجود قبل تمام القيام ) من عموم الغير ( بمفهوم الرواية ) اي : بمفهوم القيد المذكور في صحيحة اسماعيل حيث قال عليه السلام : «بعدما قام» عقيب قوله : «وان شك في السجود» فان الغير الذي يعتبر الدخول فيه يشمل بعمومه النهوض من السجود الى القيام ، ومفهوم القيد مخرج له من العموم ، فان هذا الذي توهّمه بعض من تأخر بنظر المصنِّف ( ضعيفٌ جدا ) .

وإنّما هو بنظر المصنِّف ضعيف جدا ( لأنّ الظاهر : أنّ القيد وارد في مقام التحديد ) .

( والظاهر : أنّ التحديد بذلك ) اي : «بالقيام» في مثال الشك في السجود ( توطئة للقاعدة ) اي : لقاعدة التجاوز المذكورة في آخر الصحيحة ( وهي بمنزلة

ص: 7


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

ضابطة كلّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام .

فكيف يجعل فردا خارجا بمفهوم القيد عن عموم القاعدة ؟ .

فالأولى أن يُجعل هذا كاشفا عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم الغير ، فلا يكفي في الصلاة مجرّد الدّخول ولو في فعل غير أصلّي ، فضلاً عن كفاية مجرّد الفراغ .

-------------------

ضابطة كلّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام ) .

وعليه : ( فكيف يجعل ) هذا البعض الشك في السجود قبل القيام ( فردا خارجا بمفهوم القيد عن عموم القاعدة ؟ ) مع ان ظاهر الكلام هو : ان القاعدة المذكورة في آخر الصحيحة محدودة بالقيد المذكور في صدرها ، فيكون القيد توطئة لها كما ذكرناه ، وحينئذ فلا مجال لما فعله هذا البعض من حمل الصحيحة على الاطلاق واخراج المورد بمفهوم القيد ، لاستهجانه وبُعده .

هذا ، ولكنك قد عرفت : إنّا ذكرنا فيما سبق : ان المثالين الذين ذكرهما الإمام عليه السلام هما من باب أظهر المصاديق ، فلا يرد على المرتكب لذلك هذا الاشكال .

وعلى ايّ حال : ( فالأولى أن يُجعل هذا ) اي : يجعل القيد الوارد في مقام التحديد ، الظاهر في كونه تمهيدا لقاعدة التجاوز الكلية ( كاشفا عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم الغير ) وعلى هذا ( فلا يكفي في الصلاة مجرّد ) التجاوز ، ولا مجرّد ( الدّخول ولو في فعل غير أصلّي ) كالهوىّ للسجود ، أو الأخذ في النهوض للقيام ، أو الشروع في رفع اليدين لاجل القنوت ، أو ما أشبه ذلك ( فضلاً عن كفاية مجرّد الفراغ ) .

ص: 8

والأقوى اعتبار الدخول في الغير ، وعدم كفاية مجرّد الفراغ ، إلاّ أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فانّ حالة عدم الاشتغال بهما يعدُّ مغايرة لحالهما ، وإن لم يشتغل بفعل وجودي فهو دخولٌ في الغير بالنسبة اليهما .

وأمّا التفصيل بين الصلاة والوضوء ،

-------------------

لكن قد عرفت : ان ظاهر الروايات بعد ضمّها بعضا الى بعض هو : كفاية الفراغ ولو لم يدخل في الغير ولا في مقدماته .

هذا ، ولكن المصنِّف قال : ( والأقوى ) عندنا ( اعتبار الدخول في الغير ، وعدم كفاية مجرّد الفراغ ) وذلك لما عرفت : من تقييد المصنِّف اطلاق ما دل على كفاية مجرد الفراغ بما دل على الدخول في الغير .

( إلاّ أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فانّ حالة عدم الاشتغال بهما ) بعد ان كان فيهما قطعا ( يعدُّ مغايرة لحالهما ، وإن لم يشتغل بفعل وجودي ) كالأكل والمشي والدرس وما اشبه ذلك ( فهو ) اي : الفراغ حينئذ ( دخولٌ في الغير بالنسبة اليهما ) اي : الى الصلاة والوضوء ، وهكذا بالنسبة الى اعمال الحج .

وعليه : فهنا فرق بين الشك في أثناء العمل ، حيث ان الفراغ لا يتحقق الاّ بعد الدخول في الغير حقيقة ، وبين الشك بعد تمام العمل ، فانه شك بعد الدخول في الغير ، وان لم يشتغل بعمل آخر ، اذ مجرّد الفراغ دخول في الغير .

( وأمّا التفصيل بين الصلاة والوضوء ) وهو قول ثالث في المسألة ، لأنّ بعض الفقهاء قال : إنّ مناط عدم العبرة بالشك هو مجرد التجاوز عن المحل مطلقا ، من غير فرق بين الصلاة والوضوء وسائر الاعمال ، كأعمال الحج ونحوه .

ص: 9

بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه ؛

-------------------

وبعض الفقهاء قال : ان المناط هو الدخول في الغير مطلقا ، وان الفراغ إنّما يتحقق مع الدخول في الغير - على ما مرّ الكلام فيهما - .

وقول ثالث هنا بالتفصيل بين الوضوء وغيره ، فقال في الوضوء : ان المناط فيه مجرد التجاوز حتى عند الشك في الجزء الأخير الذي هو مسح الرجل اليسرى ، وقال في غير الوضوء كالصلاة واعمال الحج ونحوهما : ان المناط فيها هو الدخول في الغير ، فهذا القائل فصّل بين الوضوء وغيره ( بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه ) فانه مع ذلك حكم بصحة الوضوء وعدم الالتفات الى الشك فيه بمجرّد الفراغ منه ، بخلاف غير الوضوء حيث انه قيّد الصحة فيها بالدخول في الغير .

ثم استدل لكفاية مجرّد الفراغ في الوضوء بقوله عليه السلام فيمن شك في الوضوء بعد الفراغ : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (1) بتقريب ان اطلاق : «حين يشك» يشمل الدخول في الغير ، وعدم الدخول فيه ، وبقوله عليه السلام في مورد الشك في الوضوء بعد الفراغ : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (2) بتقريب : انه اذا شك بعد الفراغ من الجزء الأخير كان شكا في شيء قد جازه .

واستدل لعدم كفاية مجرّد الفراغ في غير الوضوء بسائر الروايات الدالة على اعتبار الدخول في الغير ، فانه اذا لم يدخل في الغير لم يحكم بالصحة وعدم الالتفات الى الشك .

ص: 10


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

فيردّه اتحاد الدليل في البابين ، لأنّ ما ورد من قوله عليه السلام فيمن شك في

الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : « هو حين يتوضّأ اذكَرُ منه حين يشكّ » عامٌّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا .

ولذا استفيد منه حكم الغسل والصلاة أيضا .

وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرُها دالّ على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم العبرة بالشك بمجرّد التجاوز مطلقا من غير تقييد بالوضوء ،

-------------------

وعلى ايّ حال : ( فيردّه اتحاد الدليل في البابين ) فانا اذا اعتبرنا الدخول في الغير لم يختلف فيه الوضوء وغيره ، وان اكتفينا بالتجاوز لم يختلف فيه الوضوء عن غيره مطلقا ( لأنّ ما ورد من قوله عليه السلام فيمن شك في الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : « هو حين يتوضّأ اذكَرُ منه حين يشك » (1) عامٌّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا ) وانه كالقاعدة الكلية ، وان الوضوء يكون موردا ، ممّا يظهر منه ان الشارع قدّم الظاهر على الأصل في مورد قاعدة الفراغ سواء في الوضوء وغيره .

( ولذا ) اي : لأجل ما ذكرناه : من انه يفهم منه المناط الشامل لغير الوضوء ايضا ( استفيد منه ) اي : استفاد العلماء من هذا الحديث ( حكم الغسل والصلاة أيضا ) وحكم اعمال الحج وغيره .

( وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرُها دالّ على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم العبرة بالشك بمجرّد التجاوز مطلقا ) ومعنى الاطلاق ما ذكره بقوله : ( من غير تقييد بالوضوء ) فلا مجال إذن للتفصيل

ص: 11


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

بل ظاهره يأبى عن التقييد .

وكذلك روايتا : زرارة وأبي بصير المتقدّمتان آبيتان عن التقييد .

وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة قولُه عليه السلام : في الرواية المتقدمة : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَهُ تذكّرا فأمضه » .

-------------------

الذي ذكره هذا المفصل ، بالفرق بين الوضوء وسائر الاعمال .

( بل ظاهره ) حيث قال عليه السلام : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» (1) ( يأبى عن التقييد ) بكونه حكم الوضوء فقط ، لظهوره في انه قاعدة كلية شاملة للوضوء وغيره ، خصوصا مع كلمة « انّما » الدالة على الحصر .

( وكذلك روايتا : زرارة ) حيث قال عليه السلام فيها : «اذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (2) ( وأبي بصير ) وهي الموثقة التي قال عليه السلام فيها : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » (3) فهاتان الروايتان ( المتقدّمتان آبيتان عن التقييد ) بكونهما لبيان حكم وشك في غير الوضوء .

( وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة ) وبيان ان حكم الجميع واحد ( قولُه عليه السلام : في الرواية المتقدِّمة : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَهُ تذكّرا فأمضه » (4) ) فانه قد جمع بين الطهارة والصلاة

ص: 12


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
4- - تهذيب الأحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .

الموضع الرابع :

قد خرج من الكلّية المذكورة أفعال الطهارات الثلاث ، فانّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل اتمام الوضوء ، يأتي به وإن دخل في فعل آخر .

وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك فيهما بعضُهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ، وقد نصّ على الحكم في الغسل جمعٌ مّمن تأخر عن المحقق ، كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني ،

-------------------

في الحكم، فكيف يفرّق بينهما ؟ بل انه كما قلنا : يفهم من الرواية عرفا انهما من باب المثال ، والاّ فالأمر جار في الحج وفي غيره ايضا .

( الموضع الرابع ) : في المستثنيات من قاعدة التجاوز ، وهي كما قال : ( قد خرج من الكلّية المذكورة ) اي : كلية عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل والدخول في الغير ( أفعال الطهارات الثلاث ) من الغسل والوضوء والتيمم ، والخروج إنّما هو بالاجماع لا بنص خاص ( فانّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل اتمام الوضوء ، يأتي به وإن دخل في فعل آخر ) فالشاك في غسل اليد اليمنى يأتي به وان كان شارعا في غسل اليسرى ، والشاك في مسح الرأس يأتي به وان كان شارعا في مسح الرجل .

( وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك ) اي : بعدم اعتبار قاعدة التجاوز ( فيهما بعضُهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ) ولعل ذلك لتنقيح المناط الذي ذكروه في الوضوء .

( وقد نصّ على الحكم ) اي : الاتيان بالمشكوك وان دخل في فعل آخر ( في الغسل جمعٌ مّمن تأخر عن المحقق ، كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني ،

ص: 13

ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمم كذلك .

وكيف كان : فمستندُ الخروج قبل الاجماع : الاخبارُ الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ،

-------------------

ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمم كذلك ) أي : كالغسل في الحكم ، لكن كلام بعضهم خاص بالوضوء مقتصرا على مورد النص ، ومعه فلا اجماع في الغسل والتيمم .

( وكيف كان : فمستندُ الخروج ) اي : خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز ( قبل الاجماع : الاخبارُ الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ) وإنّما قال : ان مستند الاستثناء هو الاجماع ، لأنّ الاخبار الدالة على الاستثناء متعارضة على تقدير الدلالة ، فبعد التساقط يكون المرجع كليات قاعدة التجاوز ، ومن تلك الاخبار الكثيرة المخصصة لقاعدة التجاوز ما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام قال : «اذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك ام لا ؟ فأعد عليهما ، وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه ، ما دمت في حال الوضوء ، فاذا قمت عن الوضوء وفرغت منه ، وقد صرت في حال أخرى ، في الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه تعالى ممّا أوجب اللّه تعالى عليك فيه وضوءا فلا شيء عليك فيه » (1) الحديث .

أقول : لا يخفى انّ هنا مقابل هذا الحديث - على ضعف دلالته ايضا - جملة من الأحاديث ، ممّا لو فرضنا تكافؤهما يجب الجمع بينهما ، وذلك بحمل هذا الحديث على الاستحباب .

ص: 14


1- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص100 ب4 ح110 ، وسائل الشيعة : ج1 ص469 ب42 ح1243 .

إلاّ أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ، وهي قوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ اذا كنت في شيء لم تجزه » ، أنّ حكم

-------------------

« فعن عبد اللّه بن ابي يعفور ، عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) كذا رواه التهذيب ، كما في الوسائل ، ورواه ايضا آخر السرائر .

« وعن عبد اللّه بن بكير عن محمد بن مسلم قال : سمعت ابا عبد اللّه عليه السلام يقول : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه كما هو ولا اعادة عليك فيه » (2) .

« وعن بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشك بعدما يتوضأ ؟ قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (3) .

وعلى هذا ، فمقتضى القاعدة هو : ان يكون حال الطهارات الثلاث حال غيرها من الصلاة والحج وغيرهما .

وكيف كان : فقد قال المصنِّف: ( إلاّ أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ، وهي قوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ اذا كنت في شيء لم تجزه » (4) أنّ حكم

ص: 15


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .
4- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها ، بناءا على عود ضمير « غيره » إلى الوضوء ، لئلا يخالف الاجماع على وجوب الالتفات اذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء .

-------------------

الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها ) اي : ليس الوضوء خارجا عن القاعدة الكلية الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ، وهذا المعنى يتم بارجاع الضمير في : «غيره» الى الشيء ، فيكون معناه حينئذ : اذا شككت في شيء من الوضوء كالشك في غسل اليد اليمنى ، وقد دخلت في غير ذلك الشيء كالشروع بغسل اليد اليسرى ، فشكك ليس بشيء بل احكم باتيانه ولا تلتفت اليه ، فحكم الوضوء على مقتضى القاعدة .

وأما ( بناءا على عود ضمير «غيره» ) في قوله عليه السلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره» ( إلى الوضوء ) فيكون حكم الوضوء خارجا عن القاعدة ، ويجب الاعتناء بالشك واتيان الامر المشكوك ، اذ يكون معناه حينئذ : اذا شككت في شيء من الوضوء كالشك في غسل الوجه ، وقد دخلت في غير الوضوء كالدخول في الصلاة ، فشكك ليس بشيء ، ومفهومه : انك اذا كنت بعد في الوضوء فعليك الاعتناء بالشك واتيان الأمر المشكوك ، وهو خروج لحكم الوضوء عن القاعدة .

وإنّما قال المصنِّف : بناءا على ان الضمير في « غيره » عائد الى الوضوء لا الى « شيء » ( لئلا يخالف الاجماع ) القائم ( على وجوب الالتفات اذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء ) فقد قام الاجماع على انه اذا شك - مثلاً - في غسل الوجه وقد دخل في غسل اليد اليمنى ، أو شك في غسل اليد اليمنى وقد دخل

ص: 16

وحينئذ فقوله عليه السلام : « إنّما الشك » مسوقٌ لبيان قاعدة الشك المتعلّق بجزء من أجزاء عمل ، وأنّه إنّما يعتبر اذا كان مشتغلاً بذلك العمل غير متجاوز عنه .

هذا ، ولكن الاعتماد على ظاهر ذيل الرواية

-------------------

في غسل اليد اليسرى ، وغير ذلك ، فانه يجب عليه الاعتناء به واتيانه ، وحيث ان ظاهر هذا الحديث مخالف لهذا الاجماع ، فلابد من ارجاع ضمير غيره الى الوضوء ، لا الى ما هو ظاهر الحديث من الارجاع الى شيء .

( وحينئذ ) اي : حين كان الضمير عائدا الى الوضوء لا الى شيء من الوضوء ( فقوله ) عليه السلام : ( « إنّما الشك ) اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) ( مسوقٌ لبيان قاعدة الشك المتعلّق بجزء من أجزاء عمل ) من اعمال الوضوء ( وأنّه ) أي : الشك ( إنّما يعتبر ) ويلتفت اليه ( اذا كان مشتغلاً بذلك العمل غير متجاوز عنه ) الى غيره ، فيكون حينئذ مراد المصنِّف من قوله : «ان حكم الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها بناءا على عود ضمير غيره الى الوضوء» هو ما سيشير اليه : من ان الوضوء امر بسيط ولا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ منه .

( هذا ) تمام الكلام في معنى الرواية وعدم الاعتماد على ظاهرها بارجاع الضمير في «غيره» الى الوضوء حتى لا يخالف الاجماع .

( ولكن الاعتماد على ) ظاهرها وارجاع الضمير في «غيره» الى الشيء ، لدلالة ( ظاهر ذيل الرواية ) القائل : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» عليه

ص: 17


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

مشكلٌ ، من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر : أنّ الشك الواقع في غَسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يُعتنى به اذا جاوز غسل اليد مضافا الى أنّه معارض للاخبار السابقة ، فيما اذا شك في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء آخر قبل الفراغ منه ، لأنّه باعتبار أنّه شك في وجود شيء بعد تجاوز محلّه يدخل في الأخبار السابقة ،

-------------------

( مشكلٌ، من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر : أنّ الشك الواقع في غَسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يُعتنى به اذا جاوز غسل اليد ) وقد عرفت : انه مخالف للاجماع .

وإن شئت قلت : ان ضمير « غيره » ان عاد الى الشي كما هو ظاهر الرواية خالف الاجماع ووافق أخبار التجاوز ، وان عاد الى الوضوء وافق الاجماع وخالف اخبار التجاوز ، ولذلك قال : ( مضافا الى أنّه معارض للاخبار السابقة فيما اذا شك في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء آخر قبل الفراغ منه ) وذلك كما اذا شك في غسل الوجه حال كونه يغسل اليد اليمنى ، ولم يفرغ بعد من الوضوء .

وإنّما يكون ذلك معارضا لأخبار التجاوز ( لأنّه باعتبار أنّه شك في وجود شيء بعد تجاوز محلّه يدخل في الأخبار السابقة ) الدالة على التجاوز ، حيث ان ظاهر تلك الاخبار هو : عدم الاعتناء بهذا الشك الذي قد تجاوزه ودخل في غيره .

هذا كله من جهة ، ومن جهة اخرى : ان الوضوء كلّه عمل واحد ، والتجاوز لا يعقل فيه الاّ بالفراغ منه ، فيكون مشمولاً للخبر القائل بالاعتناء بالشك واتيان

ص: 18

ومن حيث أنّه شك في أجزاء عمل قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر .

ويمكن أن يقال لدفع جميع ما في الخبر من الاشكال : إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعلٌ واحدٌ باعتبار وحدة مسبّبه ، وهي الطهارة ، فلا يلاحظ كلّ فعل منه بحاله حتى يكون موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، ولا يلاحظ بعض أجزائه ، كغسل اليد - مثلاً - شيئا مستقلاً يشك في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ،

-------------------

المشكوك ، كما قال : ( ومن حيث أنّه شك في أجزاء عمل ) واحد ( قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر ) القائل بالاعتناء بالشك قبل الفراغ من العمل واتيان الأمر المشكوك .

( ويمكن أن يقال : لدفع جميع ما في الخبر من الاشكال ) من معارضة الاجماع من جهة ، ومعارضة الاخبار من جهة أخرى : ( إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعلٌ واحدٌ ) بسيط وليست افعالاً متعددة ، وذلك ( باعتبار وحدة مسبّبه وهي الطهارة ) .

وعلى هذا ( فلا يلاحظ كلّ فعل منه ) اي : من الوضوء ( بحاله ) اي : شيئا مستقلاً برأسه كي يكون هناك ستة اعمال : غسل الوجه وغسل اليدين والمسح ثلاث مرات ( حتى يكون موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، و ) هو : كون هذا الخبر دالاً على عدم الاعتناء بالشك والأخبار السابقة دالة على الاعتناء به .

كما ( لا يلاحظ بعض أجزائه ) اي : اجزاء الوضوء ( كغسل اليد - مثلاً - شيئا مستقلاً يشك في بعض أجزائه ) اي : اجزاء اليد من غسل الاصابع أو الكف أو الزند أو الذراع ، وذلك ( قبل تجاوزه ) اي : قبل تجاوز غسل اليد كاملاً ( أو بعده )

ص: 19

ليوجب ذلك الاشكال في الحصر المستفاد من الذيل .

-------------------

أي : بعد غسل تمام اليد .

وعليه : فانه لو لوحظ الوضوء أجزاءا ستة - مثلاً - كان معناه : انه اذا غسل اليد اليمنى وشك في غسل الوجه كان اللازم عدم الاعتناء به والحكم بانه قد غسل وجهه ، وكذلك اذا لوحظ اليد أجزاءا متعدّدة كان اللازم انه اذا شك في غسل الذراع وهو مشتغل بغسل الكف ان لا يعتني بغسل الذراع ويحكم بانه قد غسله ، بل يلاحظ الوضوء كله عملاً واحدا كما يلاحظ كل اليد شيئا واحدا ، واذا كان كذلك فلا يعقل التجاوز فيه الاّ بالفراغ منه ، ومعه لا يكون القول بالاعتناء بالشك في الوضوء مخالفا للاجماع ولا معارضا لاخبار التجاوز .

والحاصل : انا لا نقول بأن الوضوء أجزاء ، واليد أجزاء ( ليوجب ذلك الاشكال في الحصر المستفاد من الذيل ) اي : ذيل الرواية حيث قال عليه السلام فيه : « إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) .

فان مفهوم هذا الحصر هنا هو : انه اذا شك في جزء من عمل واحد أو شيء واحد بعد تمامه لا يلتفت اليه ، فلا يلاحظ للوضوء اجزاء ، كما لا يلاحظ لليد اجزاء ، وإنّما يلاحظ الوضوء عملاً واحدا كما يلاحظ اليد شيئا واحدا ، فاذا شك في غسل الذراع وهو في الكف ، أو شك في غسل اليمنى وهو في اليسرى يلزم الاعتناء بهذا الشك لانه لم يجزه .

ص: 20


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

وبالجملة : إذا فرض الوضوء فعلاً واحدا لم يلاحظ الشارع أجزاءه أفعالاً مستقلةً يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجّه شيء من الاشكالين في الاعتماد على الخبر ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ، إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلاّ شكّا واقعا في شيء قبل التجاوز عنه ، والقرينة على هذا الاعتبار جعل القاعدة ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه أو بعده .

-------------------

( وبالجملة : إذا فرض الوضوء فعلاً واحدا ) وذلك بمعنى : انه ( لم يلاحظ الشارع أجزاءه أفعالاً مستقلةً ) كي ( يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجه شيء من الاشكالين في الاعتماد على الخبر ) من مخالفته للاجماع ، ومخالفته لقاعدة التجاوز .

( و ) على جعل الوضوء أمرا بسيطا ( لم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ) اي : قاعدة التجاوز المستفادة من الأخبار ، بل تكون هذه الرواية ايضا على نفس معنى قاعدة التجاوز ، وإنّما يجب الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء ، لاعتبار الشارع الوضوء أمرا بسيطا لا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ من تمام الوضوء ، كما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلاّ شكّا واقعا في شيء قبل التجاوز عنه ) فيكون هذا الخبر حينئذ موافقا لسائر الأخبار .

( والقرينة على هذا الاعتبار ) اي : اعتبار الشارع الوضوء عملاً واحدا هو : ( جعل القاعدة ) الكلية للتجاوز في ذيل الرواية ( ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء ) وهو : عدم الالتفات للشك سواء كان ( قبل الفراغ عنه أو بعده ) وحينئذ فلا يكون المراد من هذه الضابطة : ان الشك قبل الفراغ يوجب الاتيان بالمشكوك وبعد الفراغ لا يوجبه ، وذلك لورود الاشكالين ، فاذا قلنا به للاجماع تبيّن

ص: 21

ثمّ إنّ فرض الوضوء فعلاً واحدا لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى أجزائه ليس أمرا غريبا ، فقد ارتكب المشهور مثله في الأخبار السابقة بالنسبة الى افعال الصلاة ، حيث لم يُجروا حكم الشك بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتى الكلمات والحروف ، بل الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلاً واحدا

-------------------

انّ الشارع اعتبر الوضوء كله عملاً واحدا بسيطا .

هذا ، ولكن لا يخفى : إنّ الخبر بنظرنا ظاهر في معارضته للاجماع ، لا انه ظاهر في نفس المعنى المجمع عليه ، وحينئذ فلو أخذنا بالاجماع لزم طرح هذا الخبر والاّ لم نعمل بالاجماع المنقول ، ويكون حال الوضوء بالنسبة الى قاعدة التجاوز حال سائر الاعمال ، سواء قبل الفراغ منه ام بعده ، من جهة الغسلات والمسحات ، أم من جهة أجزاء الغسلات والمسحات .

( ثمّ إنّ فرض الوضوء فعلاً واحدا ) لا أفعالاً متعددة بحيث ( لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى أجزائه ) وإنّما يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى مجموعة من حيث هو مجموع ( ليس أمرا غريبا ) في الفقه ( فقد ارتكب المشهور مثله ) اي : مثل هذا الفرض ( في الأخبار السابقة ) الحاكمة بعدم اعتبار الشك بعد التجاوز ، وذلك ( بالنسبة الى افعال الصلاة ، حيث لم يُجروا حكم الشك بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتى الكلمات والحروف ، بل الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلاً واحدا ) فاذا شك في انه هل قرء الحمد أم لا وهو في آخرها ؟ لا يجرون قاعدة التجاوز ، فكيف بالشك في الكلمة الاولى وهو في الثانية ؟ أو الشك في الحرف الأوّل وقد بدأ بالحرف الثاني ؟ .

نعم ، قال المحقق الأردبيلي - كما حكي عنه - بجريان قاعدة التجاوز في هذه

ص: 22

بل جعل بعضهم القراءة فعلاً واحدا .

وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود والنهوض للقيام .

ومّما يشهد لهذا التوجيه إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم إذ لا وجه له ظاهرا، إلاّ ملاحظة كون الوضوء امرا واحدا يُطلب منه أمرٌ واحدٌ غير قابل للتّبعيض ، أعني : الطهارة .

-------------------

الامور أيضا .

وكيف كان : فانه لم يكن الاظهر عند المشهور جعلُ الفاتحة عملاً واحدا فحسب ( بل جعل بعضهم ) كما يحكى عن الشيخ والشهيد الثاني كل ( القراءة فعلاً واحدا ) لا افعالاً متعدّدة .

هذا ( وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود والنهوض للقيام ) لصريح : حتى يسجد وحتى يقوم ، والاّ لم يكن من قاعدة التجاوز اذا شك في السجود وهو في حال النهوض ، أو شك في الركوع وهو في حال الهويّ الى السجود ، فيظهر من ذلك كله انه لا بُعد في عدم اعتبار الدخول بجزء آخر من الوضوء ، ووجوب الاتيان بالمشكوك ما لم يحصل الفراغ من كل الوضوء ، فلا تجري إذن قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء ، كما لا تجري في أجزاء الوجه واليد .

( ومّما يشهد لهذا التوجيه ) وهو اعتبارهم الوضوء شيئا واحدا ، لا شيئا ذا أجزاء ( إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم ) فلا يجرون قاعدة الفراغ في الغسل والتيمم الاّ بعد الفراغ من الجميع .

وإنّما يشهد له هذا الالحاق (إذ لا وجه له) اي : للالحاق هنا وجها (ظاهرا، إلاّ ملاحظة كون الوضوء امرا واحدا يُطلب منه أمرٌ واحدٌ غير قابل للتّبعيض ، أعني : الطهارة)

ص: 23

الموضع الخامس :

ذكر بعض الأساطين : « أنّ الشك في الشروط بالنسبة الى الفراغ عن المشروط ، بل الدخول فيه ، بل الكون على هيئة الداخل ، حكمُ الأجزاء في عدم الالتفات .

-------------------

وبتنقيح المناط في الوضوء أجروا حكمه في الغسل والتيمم .

لكن لا يخفى : انّ كل ما ذكره المصنِّف قدس سره هو أشبه شيء بالاستيناس ، والاّ فاللازم العمل بالرواية ، والاجماع المدّعى لا يمكن الاستناد اليه الاّ من باب الاحتياط .

( الموضع الخامس : ) في انه هل يجري التجاوز والفراغ بالنسبة الى الشرط ايضا ، أو ان القاعدتين مختصتان بالجزء فقط ؟ .

( ذكر بعض الأساطين ) وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء : ( « أنّ الشك في الشروط بالنسبة الى الفراغ عن المشروط ) كما اذا شك بعد ان فرغ من الصلاة في انه كان متطهّرا ام لا ؟ ( بل الدخول فيه ) اي : في المشروط كما اذا شرع في الصلاة ثم شك في انه دخلها بطهارة ام لا ؟ ( بل الكون على هيئة الداخل ) في الصلاة كما اذا رأى نفسه مستقبل القبلة متهّيئا ، فشك في انه هل كبّر حتى يكون داخلاً في الصلاة أو لم يكبّر حتى لا يكون داخلاً فيها ؟ وفي نفس الوقت شك في انه متطهر أم لا ؟ ففي كل هذه الصُور من الشك في الشروط ، قال : بأن الحكم فيها ( حكمُ ) الشك في ( الأجزاء في عدم الالتفات ) اليها ايضا .

واستدل عليه : بأنّ الروايات لبيان اعتبار ظاهر حال العاقل ، حيث ان العاقل لا يُقدم على عمل وهو يريد ابراء ذمته الاّ بعد احراز ما يعتبر فيه ، وهذه قاعدة

ص: 24

فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية ، و لا فرق بين الوضوء وغيره»، انتهى .

وتبعه بعض من تأخّر عنه ، واستقرب في مقام آخر : إجراء الغاء الشك في الشرط بالنسبة الى غير ما دخل فيه من الغايات .

وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب

-------------------

عقلية صدّقها الشارع ، وحينئذ ( فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها ) حدثية وخبثية ، والحدثية غسلاً كان ام وضوءا ام تيمما (والاستقرار) وهو الطمأنينة ( ونحوها ) من الشروط ( بعد الدخول في الغاية ، و ) هي هنا الصلاة علما بانه ( لا فرق بين الوضوء وغيره » ) من الشروط .

( انتهى ) كلام كاشف الغطاء ( وتبعه ) اي : تبع كاشف الغطاء في جعل حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء من عدم الالتفات ( بعض من تأخّر عنه ) كما يحكى عن الشيخ مهدي النوري في حاشيته على كشف الغطاء .

( واستقرب ) الشيخ كاشف الغطاء ايضا ، ولكن ( في مقام آخر : إجراء الغاء الشك في الشرط ) حتى ( بالنسبة الى غير ما دخل فيه من الغايات ) كالصلاة ، فانه لا يلتفت الى الشك في شيء من شروطها حتى بالنسبة الى الصلاة والثانية ، فاذا شك - مثلاً - بعد صلاة الظهر في انه هل كان متوضئا ام لا ؟ أجرى قاعدة الفراغ وحكم بصحة صلاة الظهر وكان له ان يأتي بصلاة العصر بدون ان يجدّد الوضوء .

ثم قال المصنِّف : ( وما أبعد ما بينه ) اي : ما بين الشيخ كاشف الغطاء القائل بالغاء الشك في الشرط حتى للصلاة الثانية ( وبين ما ذكره بعض الأصحاب )

ص: 25

من اعتبار الشك في الشرط حتى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب اعادة المشروط .

والأقوى التفصيل بين الفراغ عن المشروط ، فيلغوا الشك في الشرط بالنسبة اليه ، لعموم لغويّة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه .

أمّا بالنسبة الى مشروط آخر لم يدخل فيه ، فلا ينبغي الاشكال في اعتبار الشك فيه ،

-------------------

مثل صاحب المدارك والفاضل الهندي ( من اعتبار الشك في الشرط حتى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب اعادة المشروط ) وقال : بانّه اذا شك بعد ان صلّى الظهرين - مثلاً - في انه هل كان متوضئا أم لا ؟ فاللازم عليه ان يتوضأ ويعيد صلاة الظهرين .

ثم بعد أن ذكر المصنِّف القولين والبعد بينهما أبدى نظره قائلاً : ( والأقوى ) حسب المستفاد من الأدلة قول ثالث وهو : ( التفصيل بين الفراغ عن المشروط فيلغوا الشك في الشرط بالنسبة اليه ) فاذا فرغ من صلاة الظهر - مثلاً - ثم شك في انه هل كان متوضئا ام لا ؟ لغى شكه فيما فرغ منه وصح ظهره ، وذلك ( لعموم لغويّة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ) فان الغاء الشك الأمرة به روايات التجاوز يعمّ الشك في مثل هذا الشرط بعد الاتيان بالمشروط .

هذا بالنسبة الى المشروط الأوّل الذي فرغ منه ، و ( أمّا بالنسبة الى مشروط آخر ) الذي هو صلاة العصر - مثلاً - اذا ( لم يدخل فيه ) بعد ( فلا ينبغي الاشكال في اعتبار الشك فيه ) اي : الالتفات الى الشرط المشكوك والاتيان به ثم الدخول في المشروط ، بمعنى : انه اذا أراد أن يصلّي العصر لزم عليه ان يتوضأ لها .

ص: 26

لأنّ الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا المشروط لم يتجاوز عنه ، بل محلّه باقٍ ، فالشك في تحقّق شرط هذا المشروط شك في الشيء قبل تجاوز محلّه .

وربما بنى بعضهم ذلك على أنّ معنى عدم العبرة بالشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ هو : البناءُ على الحصول

-------------------

وإنّما يعتبر الشك فيه ويلزم الاتيان به ( لأنّ الشرط المذكور ) اي : الطهارة ( من حيث كونه شرطا لهذا المشروط ) الذي هو صلاة العصر - في المثال - ( لم يتجاوز عنه ، بل محلّه ) اي : محل الشرط الذي هو الوضوء - في المثال - ( باقٍ ، فالشك في تحقّق شرط هذا المشروط ) الآخر ما دام لم يدخل فيه ولم يفرغ منه هو ( شك في الشيء قبل تجاوز محلّه ) فيلزم إذن ان يأتي بالشرط أولاً ثم يأتي بالمشروط .

لا يقال : كيف تقولون بصحة الظهر ولزوم الطهارة للعصر ، مع انه ان كان متوضئا حين أتى بالظهر صح اتيانه بالعصر بدون الطهارة ، وان لم يكن متوضئا بطل ظهره فلا يتمكن من الاتيان بالعصر حتى بعد التطهير لاشتراط الترتب بين العصر والظهر ؟ .

لأنّه يقال : التفكيك بين المتلازمين في الشرع غير عزيز كما تقدَّم أمثلة كثيرة لذلك ممّا لا حاجة الى اعادتها .

هذا ( وربّما بنى بعضهم ) اي : علّق بعض الفقهاء ( ذلك ) اي : القول بلغوية الشك وعدم لغويته بالنسبة الى سائر الغايات المستقبلة ( على أنّ معنى عدم العبرة بالشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ ) هل ( هو : البناءُ على الحصول ) اي : حصول الشيء المشكوك وتحققه حتى يكون معنى قاعدة التجاوز فيما نحن فيه : انه ابنِ على حصول الطهارة ، وحينئذ تتساوى فيه الغايات السابقة واللاحقة .

ص: 27

أو يختص بالدخول .

أقول : لا اشكال في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحلّ لا مطلقا .

ولو شك في أثناء العصر في فعل

-------------------

( أو يختص بالدخول ) وفي بعض النسخ : «بالمدخول» وكلاهما . بمعنى واحد وهو : أو يختص عدم الاعتبار بالشك في الشيء الذي دخل فيه فقط ، دون مالم يدخل فيه ، حتى يكون معنى قاعدة التجاوز فيما نحن فيه : لا تلفت الى الشك في الطهارة بالنسبة الى الظهر الذي دخلت فيه ، دون العصر الذي لم تدخل فيه ، وحينئذ تختص الصحة بالظهر فقط ؟ .

( أقول : ) هذا الذي ذكره بعض الفقهاء غير تام ، اذ ( لا اشكال في أنّ معناه ) اي: معنى قاعدة التجاوز بحسب فهم العرف هو : ( البناء على حصول المشكوك فيه ) وهو الطهارة فيما نحن فيه ( لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحلّ ) يعني : ان الوضوء المشكوك إنّما يكون محكوما بالحصول بعنوان شرطيته للظهر ، فان الوضوء بعنوان شرطيته للظهر قد تجاوز محله ( لا مطلقا ) اي : حتى بعنوان شرطيته للعصر ممّا لم يأت به بعدُ .

وبعبارة اخرى : ان الشارع من خلال قاعدة التجاوز كأنه قال : اني أقبل منك الظهر متطهرا ، وليس معنى ذلك انه يقبل منه العصر الذي لم يأت به بعد مع شكه الآن في انه متطهر أم لا ؟ .

( و ) عليه : فان هذا الذي ذكرناه من العنوانين في الطهارة ، هو نظير وجوب تحقق الظهر قبل العصر ، حيث ان له عنوانين : عنوان كونه واجبا في نفسه ، وعنوان كونه شرطا لصحة العصر ، وحينئذ ( لو شك في أثناء العصر في فعل

ص: 28

الظهر ، بنى على تحقق الظهر بعنوان أنّه شرط للعصر ، ولعدم وجوب العدول اليه لا على تحقّقه مطلقا حتى لايحتاج الى إعادتها بعد فعل العصر .

فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه ، إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل .

ومن هنا يظهر : أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي

-------------------

الظهر، بنى على تحقق الظهر ) وحصوله مقيّدا ( بعنوان أنّه شرط للعصر ، و ) انه شرط ايضا ( لعدم وجوب العدول اليه ) اي : الى الظهر ، لان الظهر مقيدا بهذا العنوان قد تحقق التجاوز عنه ( لا على تحقّقه مطلقا ) اي : تحقق الظهر وحصوله ، سواء بعنوان وجوبه المقدّمي ام بعنوان وجوبه النفسي ( حتى لا يحتاج الى إعادتها بعد فعل العصر ) .

والحاصل : انه اذا شك في أثناء العصر بأنه هل أتى بالظهر ام لا ؟ فحيث انه تجاوز محلها ، بنى على حصولها ، لكن لا مطلقا ، بل بعنوان وجوبها المقدّمي للعصر فقط ، لا حتى بعنوان وجوبها النفسي ، ولذلك لا يلزم عليه العدول الى الظهر ، بل يتم صلاته عصرا وبعد اتمام العصر يلزم ان يأتي بالظهر ، لانه لا يعلم هل انه أتى بالظهر ام لم يأت بها ؟ فالاصل الاشتغال .

وعلى هذا : ( فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه ، إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل ) فصح ظهره المتحقق وأتى بالوضوء للعصر المستقبل .

( ومن هنا ) اي : من انه يحكم بحصول المشكوك بعنوانه الذي يتحقق معه التجاوز ، لا بعنوانه المستقبلي ( يظهر : أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي

ص: 29

في الغاء الشك في الشرط ، بل لابد من الفراغ عنه ، لأنّ نسبة الشرط الى جميع أجزاء المشروط نسبة واحدة وتجاوز محلّه باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلابدّ من إحرازه للأجزاء المستقبليّة .

نعم ، ربما يدّعى في مثل الوضوء أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة ، لا عند كلّ جزء .

ومن هنا : قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء، مّما يكون محلّ

-------------------

في الغاء الشك في الشرط ) فاذا شك في أثناء الظهر بانه هل توضأ للصلاة بعد ان كان محدثا أو لم يتوضأ ؟ لا يصح له اتمام الصلاة ( بل لابد من الفراغ عنه ) اي : عن المشروط مثل : ان يفرغ عن الظهر فيحكم بصحته وانه قد أتى به متطهرا لقاعدة الفراغ .

وإنّما يشترط الفراغ من المشروط ( لأنّ نسبة الشرط ) وهي الطهارة فيما نحن فيه ( الى جميع أجزاء المشروط ) وهي الصلاة في المثال ( نسبة واحدة ) وهي الشرطية ( وتجاوز محلّه ) اي : محل الشرط عند الشك في الاثناء إنّما هو ( باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلابدّ من إحرازه للأجزاء المستقبليّة ) وحيث انه ليس بمحرز فلابد من ابطال الصلاة والتطهر للاتيان بها من أولها ثانية .

( نعم ) هنا قول آخر يقول بالتفصيل بين الشرط المتقدِّم والشرط المقارن وهو انه : ( ربما يدّعى في مثل الوضوء ) الذي هو شرط متقدّم للصلاة ( أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة ، لا عند كلّ جزء ) فاذا دخل في الصلاة فهو من الشك بعد تجاوز المحل ، فيبنى معه على الوضوء في بقية الصلاة .

( ومن هنا ) اي : من حيث تحقق التجاوز عن محل الشرط المتقدّم بسبب الدخول في الصلاة ( قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء، مّما يكون محلّ

ص: 30

إحرازه قبل الدخول في العبادة وبين غيره مّما ليس كذلك ، كالاستقبال والنيّة ، فانّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ، وليس المحلّ الموظّف لاحرازهما قبل الصلاة بالخصوص بخلاف الوضوء .

وحينئذ : فلو شك في أثناء الصلاة في الستر أو السائر وجب عليه احرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة .

والمسألة لا تخلو عن اشكال ،

-------------------

إحرازه قبل الدخول في العبادة ) لأنّه شرط متقدِّم لها ، صلاة كانت أو طوافا أو نحوهما ( وبين غيره ) من الشرائط ( مّما ليس كذلك ) اي : لم يكن شرطا متقدما ( كالاستقبال والنيّة ، فانّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ) من اجزاء الصلاة ( وليس المحلّ الموظّف لاحرازهما قبل الصلاة بالخصوص ) ولذا فاذا شك في النية أو الاستقبال في الأثناء لا يتمكن من اجراء قاعدة التجاوز ( بخلاف الوضوء ) والغسل والتيمم ، حيث ان محل هذا الشرط قبل الصلاة ومتقدّم على المشروط .

( وحينئذ ) اي : حين كان الاستقبال والنية من الشرط المقارن وليس كالوضوء من الشرط المتقدِّم ( فلو شك في أثناء الصلاة في الستر أو السائر ) وانه هل هو مستور العورة ام لا ؟ أو ان الساتر الذي عليه هل يجوز فيه الصلاة ام لا ؟ أو غير ذلك من الشرط المقارن ( وجب عليه احرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة ) ولا يكفي احرازه لها بقاعدة التجاوز ،لعدم تحقق التجاوز بالنسبة اليها من الأجزاء المستقبلة .

هذا ( والمسألة ) بعد ( لا تخلو عن اشكال ) وذلك من حيث ان الوضوء هل هو شرط متقدّم فقط حتى يصدق التجاوز اذا كان داخلاً في الصلاة وشك فيه ، فيصح له ان يأتي ببقية الصلاة ، أو هو شرط مقارن أيضا حتى يجب احرازه

ص: 31

إلاّ أنّه ربما يشهد لما ذكرنا من التفصيل : بين الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ، وفيه بعده - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكونُ على وضوء ، ثمّ يشكّ على وضوء هو أم لا ؟ قال : إذا ذكرها وهو في صلاته إنصرف وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزءه ذلك » .

بناءا على أنّ مورد السؤال : الكون على الوضوء باعتقاده ثمّ شك في ذلك .

-------------------

للاجزاء الباقية ، فاللازم ان يرفع يده عن الصلاة ويتوضا ويستأنف ؟ .

( إلاّ أنّه ربما يشهد لما ذكرنا من التفصيل : بين الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ) فيستأنف بعد ان يتوضا ( و ) بين الشك ( فيه ) : اي : في الوضوء ( بعده ) اي : بعد الفراغ من الصلاة فيبني على صحة الصلاة ( صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكونُ على وضوء ، ثمّ يشكّ على وضوء هو أم لا ) فماذا يفعل ؟ ( قال : إذا ذكرها ) اي ذكر الطهارة فشك فيها ( وهو في ) أثناء ( صلاته إنصرف ) عن الصلاة فتطهّر ( وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزءه ذلك » ) (1) .

لكن دلالة هذه الرواية على ما نحن فيه إنّما هو ( بناءا على أنّ مورد السؤال : الكون على الوضوء باعتقاده ) أولاً ( ثمّ شك في ذلك ) الذي اعتقده أولاً ، وانه هل كان في محله صحيحا أم لا ؟ يعني : كان شكه من الشك الساري الراجع الى قاعدة اليقين ، لامن الشك الطاري الراجع الى الاستصحاب ، فانه بناءا على الشك الساري تكون الرواية مؤيدة لما ادعاه في مثل الطهارة من التفصيل : بين الشك في الأثناء فاللازم الاستيناف ، وبين الشك بعد الفراغ فلا يحتاج الى الاستيناف ،

ص: 32


1- - مسائل علي بن جعفر : ص206 ، وسائل الشيعة : ج1 ص473 ب44 ح1253 .

الموضع السادس :

انّ الشك في صحّة المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لأنّ مرجعه الى الشك في وجود الشيء الصحيح .

-------------------

وذلك لمكان قاعدة الفراغ في الثاني دون الأوّل .

أقول : لكن من المحتمل ان تكون الرواية مؤيدة للقول بالتفصيل فيما نحن فيه حتى بناءا على كون الشك من الشك الطاري الراجع الى الاستصحاب ، وذلك بأن يكون الشخص قد دخل في الصلاة وهو متطهر قطعا ، ثم شك في أثناء الصلاة في بقاء طهارته ، فان مقتضى القاعدة والذي يؤيّده الفتوى هو استصحاب طهارته وصحة صلاته ، لكن الرواية تقول برفع اليد عن الصلاة والاستيناف من باب الاستحباب فتكون الرواية اذا حملت على الاستحباب مؤيدة للتفصيل المذكور ايضا .

( الموضع السادس : انّ الشك في صحة المأتي به ) بعد الفراغ من اصل وجوده : وذلك كما لو علم بأنه أتى بالشيء لكن لم يعلم هل انه أتى به صحيحا أم لا ؟ كالشك في صحة القرائة ، أو في مراعاة الترتيب بين الكلمات والآيات ، أو في رعاية الموالاة بين أفعال الصلاة ، أو غير ذلك ، فان ( حكمه حكم الشك في ) اصل ( الاتيان ) والوجود ، فكما انه لو شك ، وهو في حال الركوع بأنه هل قرء الحمد والسورة أو لم يقرءها ؟ تجري قاعدة التجاوز ، فكذلك اذا شك وهو في الركوع بانه هل قرأهما صحيحا ام لا ؟ .

( بل هو هو ) اي : ان الشك في الصحة هو عبارة أخرى عن الشك في اصل الاتيان والوجود ( لأنّ مرجعه ) اي : مرجع الشك في صحة الذي أتى به ( الى الشك في وجود الشيء الصحيح ) فقاعدة التجاوز إذن تشمل الشك في الصحة ،

ص: 33

ومحلّ الكلام ما لا يرجع فيه الشك الى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية .

لكنّ الانصاف : أنّ الالحاق لا يخلو عن اشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء مختصّ بغير هذه الصورة ، إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط ،

-------------------

لانه من أفراد الشك في الوجود ، اذ من المعلوم : ان الصلاة الباطلة وعدمها سيّان .

( ومحلّ الكلام ) في هذا البحث : ( ما لا يرجع فيه الشك الى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ) فإن الشك قد يرجع الى انه هل جاء بالشيء كاملاً أو غير كامل ؟ كما لو شك بانه هل ترك البسملة أو لم يتركها ؟ وقد يعلم انه أتى به كاملاً لكن لا يعلم هل انه كان متصفا بوصف الصحة ام لا ؟ وذلك ( كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية ) فانه يعلم بانه أتى بجميع الأجزاء ، لكن يشك في وصف الصحة ، والفرق بينهما : ان الشك في انه هل جاء بالبسملة ام لا هو شك في اصل وجود الشيء وعدم وجوده ؟ بينما الشك في مثل الترتيب والموالاة وغير ذلك ممّا لا يعدّ مغايرا للقراءة هو شك في وصف الصحة ، وهذا القسم الأخير هو محل الكلام هنا .

( لكنّ الانصاف أنّ الالحاق ) اي : الحاق الشك في الصحة بالشك في الوجود في كونه مجرى لقاعدة التجاوز ( لا يخلو عن اشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء مختصّ بغير هذه الصورة ) لظهورها عند المصنِّف في الشك في الوجود والعدم ، لا في وصف الصحة وعدم وصف الصحة .

( إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط ) فمناط عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل في الوجود والعدم ، آتٍ في الشك بعد تجاوز المحل في الصحة وعدم الصحة ، فيعمّ

ص: 34

أو يستند فيه الى بعض ما يستفاد منه العموم ، مثل : موثّقة ابن أبي يعفور، أو يجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ، ومدركهُ ظهورُ حال المسلم .

-------------------

أخبار التجاوز بالمناط الموردين : الشك في الوجود ، والشك في الصحة ، وهذا المناط هو الذي يستفيده العرف من أخبار التجاوز .

( أو يستند فيه ) اي : في الالحاق ( الى بعض ما يستفاد منه العموم مثل : موثّقة ابن أبي يعفور ) التي جاء فيها : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) فالشيء في الموثقة كما يشمل الشرط والجزء ، كذلك يشمل وصف الموالاة والترتيب ونحوهما فيعم أخبار التجاوز لاجلها الموردين : الشك في الوجود وفي الصحة .

( أو يجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ) وذلك من دون التمسك بقاعدة التجاوز المحتملة الاختصاص بالشك في الوجود ، وإنّما اذا شك في الترتيب والموالاة بعد تمام القراءة يتمسك بأصالة الصحة ( ومدركهُ ) اي : مدرك أصل الصحة ( ظهورُ حال المسلم ) في انه لا يأتي الاّ بالعمل الصحيح ، وقد ذكرنا فيما سبق : ان حال الكافر بالنسبة الى أعماله كذلك ، فانه أيضا يُبنى عمله على الصحيح في مثل المعاملات ، ولذا يرتّب المسلمون أثر الصحة على معاملات الكفار ، ويتعاملون معهم بالبيع والاجارة والرهن والمضاربة وغيرها .

هذا أو يؤيّد كون أصل الصحة أصلاً برأسه وانه غير قاعدة الفراغ كلام بعض

ص: 35


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

قال فخر الدين في الايضاح في مسألة الشك في بعض أفعال الطهارة : « إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفيّة والكميّة الصحّة » ، انتهى .

ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشكّ » فانّه بمنزلة صغرى لقوله ، فاذا كان أذكر فلا يترك مّما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمته ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف إرادة الابراء .

-------------------

الفقهاء في ذلك ، فقد ( قال فخر الدين في الايضاح في مسألة الشك في بعض أفعال الطهارة : « إنّ الأصل ) اي : ظاهر الحال ، لا الأصل بمعنى الاستصحاب ( في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد برائة ذمته بفعل صحيح ) اي : لانه يعتقد انه لو فعل الشيء صحيحا برئت ذمته ، والاّ لم تبرء ذمته ( وهو يعلم الكيفيّة والكميّة ) ككمية ركعات الصلاة وكيفيتها هو : ( الصحّة » ) وهذا خبر قوله : «ان الاصل» ( انتهى ) كلام الايضاح .

هذا ( ويمكن استفادة اعتباره ) اي : اعتبار أصل الصحة في فعل الفاعد ( من عموم التعليل المتقدّم في قوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشكّ »(1) ) وإنّما يستفاد ذلك منه ، لانه كما قال : ( فانّه بمنزلة صغرى لقوله : فاذا كان أذكر فلا يترك مّما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمته ) منه شيئا ( لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ) الذي أشار اليه بقوله عليه السلام : « أذكر » ( وعمدا خلاف إرادة الابراء ) التي هي ظاهر حال كل عاقل ، فان ظاهر حال العاقل انه يريد

ص: 36


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

الموضع السابع :

الظاهر أنّ المراد بالشك في موضع هذا الاصل هو الشك الطاريء بسبب الغفلة عن صورة العمل ، فلو علم كيفية غَسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ، ففي الحكم بعدم الالتفات ،

-------------------

ابراء ذمته ، لا اللعب والعبث وما أشبه ذلك ، فان الترك امّا عمدي واما سهوي ، وكلاهما ممنوع لما ذكرناه ، فالعمل يكون صحيحا .

( الموضع السابع ) : لو التفت الى وجود شيء في اعضائه وشك في مانعية الموجود ، وذلك حال الوضوء أو الغسل أو التيمم ، فلم يفحص عنه واتى بالعمل مع ذلك الشك ، فقاعدة الشك بعد الفراغ لا تشمله ، لان ظاهر الشك في القاعدة ان يكون العامل شاكا بعد العمل في انه هل غفل حال العمل ام لم يغفل ؟ لا ان يعلم انه كان ملتفتا حال العمل ، وإنّما كان شكه في مانعية الموجود ، وذلك لأن ( الظاهر أنّ المراد بالشك في موضع هذا الاصل ) أي : قاعدة الفراغ ( هو الشك الطاريء ) اي : الحادث ( بسبب الغفلة عن صورة العمل ) بأن شك بعد الوضوء - مثلاً - في انه هل غفل عند العمل فلم يأت بالوضوء صحيحا ، أو لم يأت بجزء أو شرط منه اصلاً ، أو انه لم يغفل حتى جاء بوضوء صحيح ؟ .

وعليه : ( فلو علم كيفية غَسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في ) مانعية الموجود حين الغَسل لانه شك - مثلاً - في ( أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ) أو ان شيئا كان على يده لكن لا يعلم هل ان له جرما حتى يبطل وضوءه ، أو ليس له جرم حتى يصح وضوءه ؟ ( ففي الحكم بعدم الالتفات ) الى الشك ، واجراء قاعدة الفراغ ، أو اللازم الالتفات الى الشك وعدم اجراء قاعدة

ص: 37

وجهان : من إطلاق بعض الأخبار ، ومن التعليل بقوله : « هو حين يتوضا أذكَر منه حين يشك » ؛ فانّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده مع عموم السؤال ، فدلّ على نفيه عن غير مورد العلّة .

-------------------

الفراغ ( وجهان ) كالتالي :

( من إطلاق بعض الأخبار ) مثل : قول الإمام الصادق عليه السلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكك ليس بشيء » (1) حيث ان اطلاق الشك يشمل القسمين من الشك فتجري قاعدة الفراغ فيه .

( ومن التعليل بقوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضا أذكَر منه حين يشك » (2) ) فلا يشمل مثل هذا الشك ( فانّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده ) اي : بمورد التعليل الذي هو الأذكرية حتى ( مع عموم السؤال ) .

إذن : فالشك بعد الوضوء الذي هو مسئول عن حكمه من الإمام الصادق عليه السلام هنا وان كان يعم كل شك ، الاّ ان العلة في الجواب تضيّق دائرة السؤال ، وذلك لأن العلة مضيّقة وموسّعة حسب القرائن الخارجية ، فاذا قال - مثلاً - : لا تأكل الرمان لأنّه حامض ، وسّعت العلة دائرة الرمان الى كل حامض ، فيجب الاجتناب عن كل حامض ، كما انّ العلة نفسها تضيّق دائرة الرمان الى الرمان الحامض فقط ، فلا بأس بأكل الرمان الحلو ( فدلّ ) التعليل بالأذكرية في قاعدة الفراغ ( على نفيه ) اي: نفي حكم الفراغ ( عن غير مورد العلّة ) وهو مورد الشك في مانعية الموجود ، فلا تجري قاعدة الفراغ فيه .

ص: 38


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

نعم ، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا ، أو تركَه تعمّدا ، والتعليل المذكور بضميمة الكبرى المتقدّمة يَدلّ على نفي الاحتمالين .

ولو كان الشك من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ، ففي شمول الأخبار له الوجهان .

نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل ، فيحكم بعدمه

-------------------

( نعم ، لا فرق ) في جريان قاعدة الفراغ ( بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا ، أو تركَه تعمّدا ) وكذلك بالنسبة الى ترك الوصف ( و ) ذلك لأنّ ( التعليل المذكور ) في الرواية بالأذكرية ( بضميمة الكبرى المتقدّمة ) التي ذكرها المصنِّف آخر الموضع السادس بقوله : «فاذا كان أذكر ، فلا يترك ممّا يعتبر في صحة عمله الذي يريد براءة ذمته ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف ارادة الابراء» ( يَدلّ على نفي الاحتمالين ) الترك نسيانا ، أو تركه تعمدا ، اذ مورد التعليل هو : من يريد الابراء وهو متذكر حال الوضوء وليس بغافل أو ساهٍ أو ناس أو مغمى عليه أو ما أشبه ذلك ، فهو اذا كان أذكر لا يترك شيئا عمدا ولا نسيانا - على ما عرفت - فتجري القاعدة فيهما معا .

هذا ( ولو كان الشك من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ) لا مانعية الموجود ، كما اذا شك في انه هل يوجد على ظهره شيء لاصق به يوجب عدم وصول الماء الى البدن في الغُسل ام لا ؟ ( ففي شمول الأخبار له الوجهان ) اللذان تقدما في احتمال مانعية الموجود من جريان قاعدة الفراغ وعدم جريانها .

( نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل فيحكم بعدمه ) من باب الاستصحاب ، لانه لم يكن قبل ان يتوضأ أو يغتسل حائل على اعضائه ، فاذا شك

ص: 39

حتى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل لم يشرع في غَسل موضع احتمال الحائل ، لكنّه من الاصول المثبتة ، وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في بعض الامور المتقدّمة .

-------------------

في انه هل وُجد حائل ام لا ؟ يستصحب عدمه ، وذلك ( حتى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل ) حتى ولو ( لم يشرع في غَسل موضع احتمال الحائل ) فانه مع ذلك لا يلزم التحقيق والتدقيق ( لكنّه من الاصول المثبتة ) وهو غير حجة ، لوضوح : ان وصول الماء الى البشرة من اللوازم العادية لعدم الحائل .

وربّما يفصّل بين ما كان الشك في وجود الحائل عقلائيا ، كشك من يعمل في القير والصبغ وشبههما ، فلا تجري القاعدة ويلزم التحقيق عند ارادة الغسل ونحوه ، وبين ما كان الشك فيه غير عقلائي ، كشك من لا ربط له بالقير وما أشبه ، فلا يلزم التحقيق ، ولو شك بعد ذلك تجري القاعدة ، وحيث ان المسألة مفصلة في الفقه نكتفي بهذا المقدار من بيانها .

هذا ( وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك ) اي : في الاصل المثبت ، وذلك ( في بعض الامور المتقدّمة ) اي : في الأمر السادس من الامور التي قال المصنِّف فيها : «وينبغي التنبيه على امور» حيث تقدّم هناك أمثلة لهذا الاصل مثل : أصالة بقاء زيد في اللفاف المثبت للقتل ، وذلك فيما اذا ضرب عمرو بالسيف على اللفاف وشك في انه هل كان زيد باقيا فيه حتى يكون مقتولاً ام لا ؟ وقلنا : انه لا عتبار بالاصل المثبت بناءا على كون الاصل حجة من باب الاخبار ، بخلاف ما اذا كان حجة من باب الظن ، الاّ اذا اختفت الواسطة وذلك على التفصيل المتقدّم .

ص: 40

المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل الغير

اشارة

وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوىً وعملاً بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد .

إلاّ أنّ معرفة مواردها ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول

-------------------

( المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل الغير ) سواء كان عملاً من الاعمال أم قولاً من الاقوال ( وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوىً وعملاً بين المسلمين ) بل وبين غيرهم ، كما ان الامر كذلك اذا كان احد الطرفين مسلما والطرف الآخر غير مسلم ، وقول المصنِّف : «في الجملة» اشارة الى بعض الصور التي سيأتي الكلام حولها ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فلا عبرة في موردها ) اي : في كل مورد جرت أصالة الصحة فيه لا عبرة ( بأصالة الفساد ) في ذلك المورد ، لان الاستصحاب الموجود في مورد أصالة الصحة وان اقتضى عدم انعقاد المعاملة وفسادها ، لكن أصالة الصحة حاكمة على أصالة الفساد .

( إلاّ أنّ معرفة مواردها ) اي : موارد أصالة الصحة ، وهذا اشارة الى ما ذكره المصنِّف قبل سطر بقوله : «في الجملة» ( ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ) كما سيأتي الكلام حوله ان شاء اللّه تعالى في الأمر الخامس من المسألة الثالثة التي نحن فيها ( ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ) مثل : أصالة عدم البلوغ فيما لو شك في بلوغ البايع أو المشتري أو الراهن أو المرتهن

ص: 41

يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة .

ولابدّ من تقديم ما فيه اشارةٌ الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة .

أمّا الكتاب :

فمنه آيات :

منها : قوله تعالى : « وقُولُوا للنّاسِ حُسنا »

-------------------

أو ما أشبه ، فان معرفة كل ذلك ( يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة ) ليعرف ان اصل الصحة في ايّ مورد يجري حتى يسقط في ذلك المورد الاستصحاب ، لان هذا البحث هو بحث التعارض بين الاستصحاب وبين أصل الصحة .

( ولابدّ من تقديم ما فيه اشارة الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة ) وقوله هنا : «في الجملة» اشارة الى ما سيأتي قريبا ان شاء اللّه تعالى : من ان مفاد الكتاب والسنة هو : حرمة سوء الظن بالمؤمن ، بمعنى : حرمة حمل فعله وقوله على الحرام وترتيب الاثر عليه ، لا وجوب حمل ما صدر منه من قول أو فعل على الحسن بمعنى : وجوب ترتيب آثار الصحة عليه ، حتى اذا شك في انه سلّم أو شتم وجب عليه أن يرد السلام ، الى غير ذلك ممّا سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى .

( أمّا الكتاب : فمنه آيات ، منها : قوله تعالى : « وقُولُوا للنّاسِ حُسنا » (1) ) والقول الحسن الذي امر به تعالى هنا ، له معنيان : معنى الكلمة والكلام الحسن ، ومعنى الظن والاعتقاد الحسن ، وهنا بناءا على المعنى الثاني كالأول ، وذلك

ص: 42


1- - سورة البقرة : الآية 83 .

بناءا على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه السلام : « لاتقولوا إلاّ خيرا حتى تعلموا ما هو » ، ولعلّ مبناه على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول .

ومنها : قوله تعالى : « اجتَنِبُوا كثيرا من الظنّ إنّ بعضَ الظنّ إثمٌ » ، فانّ ظنّ السوء إثم ،

-------------------

- كما قال - فان هذه الآية إنّما تكون دليلاً على أصالة الصحة في فعل الغير ( بناءا على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه السلام : « لاتقولوا ) اي : لا تظنوا باحد ( إلاّ خيرا حتى تعلموا ما هو » (1) ) فيكون معنى الآية : انه اذا رأى الانسان من احد عملاً ، أو سمع منه قولاً لا يعلم انه خير أو شر ، حمله على الخير لا على الشر ، فاذا رآه يشرب مايعا مشبوها ولم يعلم هل انه يشرب الماء أو يشرب الخمر ؟ حمله على انه يشرب الماء ، وكذا اذا سمعه يقول له شيئا ولم يعلم هل انه يسبّه أو يسلّم عليه ؟ حمله على الصحيح الحسن .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( ولعلّ مبناه ) اي : مبنى هذا التفسير ( على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول ) وذلك بان يظن بالناس خيرا ، فالقول على ذلك يكون مرادا به خصوص الامر القلبي ، لكن الظاهر - وحسب بعض التفاسير - ان قوله تعالى : « وقولوا للناس حسنا » (2) يعني : عاملوهم بخُلق جميل ، فيكون المراد بالقول الأعم من القول والفعل .

( ومنها : قوله تعالى : « اجتَنِبُوا كثيرا من الظنّ إنّ بعضَ الظنّ إثمٌ » (3) فانّ ظنّ السوء إثم ) واذا كان ظن السوء اثما ، فالعمل بذلك الظن وترتيب الاثر عليه يكون إثما بطريق أولى ، وقد ذكرنا سابقا : ان هذه الآية تدل على وجوب الاجتناب

ص: 43


1- - الكافي اصول : ج2 ص164 ح9 ، وسائل الشيعة : ج16 ص341 ب21 ح21710 .
2- - سورة البقرة : الآية 83 .
3- - سورة الحجرات : الآية 12 .

وإلاّ لم يكن شيء من الظنّ اثما .

ومنها : قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » بناءا على أنّ الخارج من عمومه ليس إلاّ ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن .

وكذا قوله تعالى : « إلاّ أن تكونَ تِجارةً عن تراضٍ » .

-------------------

عن اطراف العلم الاجمالي ، فانه لمّا كان بعض الظن اثما حرّم الشارع كثيرا من الظن ، والمراد بالكثير في مقابل الظن القليل الذي يعلم بانه ليس باثم .

هذا ، ولا يخفى ان المراد من النهي عن ظن السوء هو النهي عن تحصيل مقدمات مثل هذا الظن وتنميته في النفس حتى يكون الشيء اختباريا للانسان ، فيترتب التكليف عليه ، وذلك لأنّ نفس الظن أمر قهري ولا يترتب عليه التكليف .

( وإلاّ ) بان لم يكن المراد من الظن المنهي عنه ظن السوء الذي هو اقبح الظنون ( لم يكن شيء من الظنّ اثما ) اي : لم يبق هناك موردٌ يكون مصداقا للظن الاثم حتى يتعلق به الأمر بالاجتناب عنه .

( ومنها : قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » (1) بناءا على أنّ الخارج من عمومه ليس إلاّ ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن ) اي : ان المتيقن الفساد هو الذي يكون خارجا قطعا من عموم : «أوفوا بالعقود» ، واما مشكوك الفساد ، فيحمل على الصحة ولا يكون خارجا من عموم : «أوفوا بالعقود» فالآية إذن تدل على لزوم الوفاء بالعقد اذا علم بصحته ، بل وحتى اذا شك في صحته وفساده ، فيكون معنى لزوم الوفاء بالعقد عند الشك في الصحة حمله على الصحيح .

( وكذا قوله تعالى : « إلاّ أن تكونَ تِجارةً عن تراضٍ » (2) ) وذلك بتقريب : ان المتيقن خروجه من الآية المباركة هو معلوم البطلان باحراز الكُره وعدم الرضا

ص: 44


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - سورة النساء : الآية 29 .

والاستدلال به يظهر من المحقق الثاني ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا بسبق إذْن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق ؛ إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد .

لكن لا يخفى ما فيه من الضعف .

وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاُولتين .

-------------------

فيه ، اما مشكوكه فيحمل على الرضا والصحة ولا يكون خارجا من عموم : « تجارة عن تراض » فالآية تدل إذن على الحمل على الصحة بالتقريب المتقدِّم في الآية السابقة .

هذا ( والاستدلال به ) اي : بقوله تعالى : «أوفوا بالعقود» و«تجارة عن تراض» على أصالة الصحة ( يظهر من المحقق الثاني ) صاحب جامع المقاصد ايضا ( حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن ) العين المرهونة ( مدّعيا ) ذلك الراهن ( بسبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق ) قائلاً : باني لم آذن لك في البيع قال المحقق ( إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد ) فمع ان الاستصحاب مع المرتهن حكم للراهن لأن أصل الصحة مع الراهن .

( لكن لا يخفى ما فيه ) اي : في هذا الاستدلال ( من الضعف ) لان اثبات صحة هذا البيع بعموم : « أوفوا بالعقود » و « تجارة عن تراض » مع الشك في انه من مصاديق الخارج من تحت العام ، أو الباقي تحته ؟ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد ثبت في الاصول عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، مثل التمسك بعموم النهي عن الخمر في وجوب الاجتناب عن مشكوك المائية والخمرية .

( وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاُولتين ) يعني قوله تعالى :

ص: 45

وأمّا السنّة :

فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « ضَع أمرَ أخيك على أحسَنِهِ حتى يأتيك ما يُقَلِّبُكَ عنهُ ، ولا تظُنّنَّ بكلمةٍ خرجَتْ مِن أخيكَ سُوءا وانتَ تجد لها في الخير سبيلاً » .

ومنها : قول الصادق عليه السلام لمحمّد بن الفضل : « يا محمّد كذِّب سمعَك وبصرَك عن أخيكَ ،

-------------------

« وقولوا للناس حسنا » (1) و « اجتنبوا كثيرا من الظن » (2) على اصالة الصحة ، وذلك لان غاية مدلولهما حرمة سوء الظن بالناس ممّا يظهر أثره العملي على لسانهم وفعلهم ، وهذا لا يُثبت دلالة الآيتين على أصالة الصحة المبحوث عنها حتى نرتّب على هذه الأصالة أثرها .

( وأمّا السنّة : فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « ضَع أمرَ أخيك على أحسنِهِ حتى يأتيك ما يُقَلِّبُكَ عنهُ ) يعني ؟ يَقلبك الى اليقين بالقبح ، ومن هذا المعنى يظهر ان المراد بالأحسن هنا هو : الحسن مثل قوله سبحانه : « اتبعوا احسن ما اُنزل اليكم » (3) وقوله تعالى : « وامر قومك يأخذوا بأحسنها » (4) ومنه ايضا يعلم معنى تتمة الحديث ( ولا تظُنّنَّ بكلمةٍ خرجَتْ مِن أخيكَ سُوءا وانتَ تجد لها في الخير سبيلاً » (5) ) فاللازم الحمل على الخير ، الاّ اذا تعذّر .

( ومنها : قول الصادق عليه السلام لمحمّد بن الفضل : « يا محمّد كذِّب سمعَك وبصرَك عن أخيكَ ) اي : خطّئهما فيما سمعا أو رأيا منه من سوء ، وقل :

ص: 46


1- - سورة البقرة : الآية 83 .
2- - سورة الحجرات : الآية 12 .
3- - سورة الزمر : الآية 55 .
4- - سورة الاعراف : الآية 145 .
5- - الكافي الاصول : ج2 ص362 ح3 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج12 ص10 .

فان شَهِدَ عندكَ خمسونَ قسامةً أنّه قال ، وقال : لم أقل فصدّقهُ وكَذِّبهُم » .

ومنها : ما ورد مستفيضا : « إنّ المؤمنَ لا يَتّهِمُ أخاه ، وأنّه إذا إتّهم أخاه

-------------------

انه لم يقل ولم يعمل سوءا ( فان شَهِدَ عندكَ خمسونَ قسامةً ) بفتح القاف والمراد منه : خمسون شخصا يحلفون على ( أنّه قال ) قولاً سيئا أو فعل فعلاً سيئا ( و ) لكنه ( قال : لم أقل ) أو لم افعل سوءا ( فصدّقهُ وكَذِّبهُم » (1) ) اي : لا ترتب اثرا على ما قالوا في اخيك من سوء ، وهذا من آداب الاسلام الاجتماعية ، واخلاق المعاشرة مع الناس ، حيث ان له تاثيرا كبيرا في نشر الثقة وحفظ الالفة والمحبة بين افراد المجتمع ، وهو ما يحثّ الاسلام عليه بقوله : « هل الدين الاّ الحبّ » (2) وغير ذلك .

ومعلوم ان هذا في غير مسئلة الدعاوي والمخاصمات ، كما انه ليس في مسئلة أخذ الحذر ممّن تناله الألسن بالسوء ، فان اخذ الحذر لازم كما في قصة اسماعيل بن الإمام الصادق عليه السلام ومضاربته مع من نالته الالسن بانه يشرب الخمر (3) ، وذلك لان اخذ الحذر مسئلة غير مسئلة حسن المعاشرة مع الناس ، وهو واضح .

( ومنها : ما ورد مستفيضا : « إنّ المؤمنَ لا يتّهِمُ أخاه ، وأنّه إذا إتّهم أخاه

ص: 47


1- - الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ص295 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، أعلام الدين : ص405 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 .
2- - الكافي روضة : ج8 ص79 ح35 ، الخصال : ص21 ، دعائم الاسلام : ج1 ص71 و72 ، اعلام الدين : ص449 ، تفسير العياشي : ج1 ص167 ح27 ، المحاسن : ص262 ح327 ، مشكاة الانوار : ص120 .
3- - انظر الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

إنماثَ الايمانُ في قلبه ، كانمياث الملح في الماء ، وأنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ، وأنّ مَن اتّهم أخاه فهو ملعونٌ ملعونٌ » ، إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين أو ما يقرب منها .

-------------------

إنماثَ ) اي : ذاب ( الايمانُ في قلبه كانمياث الملح في الماء ) (1) ومعنى ذلك :

لزوم اجتناب تهمة الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح .

( و ) منها : ما ورد من ( أنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ) (2) لانه بادر الى نقض حرمة اخيه باتهامه له ، ومعنى ذلك : لزوم الاجتناب عن اتهام الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح .

( و ) منها : ما ورد من ( أنّ مَن اتّهم أخاه فهو ملعونٌ ملعونٌ » (3) ) فاستحقاقه اللعنة إنّما هو لأجل الاتهام ، فيلزم عليه اجتنابا من اللعنة ان يحمل قول اخيه وفعله على الصحيح .

( إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين ) مثل : تحريم إضمار السوء على الأخ المسلم ، فان حمل قول الاخ وفعله على الفاسد هو نوع من اضمار السوء له .

( أو ما يقرب منها ) اي : من هذه المضامين ، مثل مضمون قوله عليه السلام : « المؤمن وحده جماعة » (4) وكما ان خبر الجماعة يُحمل على الصدق ، فكذلك خبر

ص: 48


1- - انظر الكافي اصول : ج2 ص361 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16359 ، مشكاة الانوار : ص319 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص361 ح2 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16360 ، كشف الريبة : ص21 .
3- - وسائل الشيعة : ج12 ص231 ب13 ح16165 .
4- - الكافي ( فروع ) : ج3 ص371 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص297 ب4 ح10710 ، الخصال : ص584 ح10 وفيه (عن الرسول) ، دعائم الاسلام : ج1 ص154 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : عدم دلالة هذه الأخبار إلاّ على أنّه لابدّ من أن يحمل ما يصدر من الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل ولا يحمل على الوجه القبيح عنده .

وهذا غير ما نحن بصدده ، فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح ،

-------------------

المؤمن الواحد ، فمضمون هذه الاخبار ايجابا وسلبا يدل على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح .

( هذا ) غاية مايستدل به من السنة على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح ( ولكنّ الانصاف ) بنظر المصنِّف ( عدم دلالة هذه الأخبار إلاّ على ) الحُسن الفاعلي ، بمعنى : ( أنّه لابد من أن يحمل ما يصدر من الفاعل ) قولاً وفعلاً ( على الوجه الحسن عند الفاعل ) وان كان ذلك القول أو الفعل الصادر غير حسن في نفسه ( ولا يحمل على الوجه القبيح عنده ) اي : عند الفاعل لقبح الصادر من قول أو فعل منه ( وهذا ) المعنى ( غير ما نحن بصدده ) من حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح شرعا ، وترتيب الأثر عليه .

وإنّما كان هذا المعنى غير ما نحن بصدده لانه كما قال المصنِّف ( فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه ) اي : من المسلم ( بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح ) فان بين الفساد والقبح عموما من وجه ، اذ قد يكون الشيُ فاسدا ، لكنه لا يكون قبيحا ، والروايات المتقدّمة تقول : لا تحمل فعل اخيك المسلم وقوله على القبيح ، ولا تقول : احمله على الصحيح ، فمن اين يستفاد من هذه الروايات حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح مع ان بينهما عموما من وجه ؟ .

ص: 49

بل فرضنا الأمرين في حقّه مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن واقعا أو قبله ، فانّ الحكم بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع - مثلاً - لا يُوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ، خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما هو الفاسد عند الحامل .

-------------------

( بل ) لو ( فرضنا الأمرين ) اي : فرضنا كلاً من الصحيح والفاسد ( في حقّه ) اي : في حق الفاعل كان ( مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن ) وهو لا يعلم برجوعه ، فيكون البيع فاسدا ( واقعا ، أو قبله ) اي : قبل رجوعه ، حتى يكون البيع صحيحا واقعا ، لكن في الصورتين لا قبح ، لان بيعه كان مباحا ( فانّ الحكم ) في هذا البيع المباح بالفساد ، اي : ( بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع - مثلاً - لا يُوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ) لان البيع المذكور وان كان فاسدا واقعا الاّ انه مباح وحسن .

أقول : لكن الظاهر العرفي هو : التلازم بين الحسن والصحيح ، لأنّ المنصرف منهما الواقعيان ، لا عند الفاعل - كما قاله المصنِّف - ولذا فهم المشهور من تلك الاحاديث الحمل على الصحة .

وكيف كان : فانه لا يلزم من الحكم بالفساد مخالفة للروايات المتقدمة - على ما عرفت - ( خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن ) لانه ليس بأخ واقعا وان كان أخا ظاهرا ، والمنصرف من الأخ هو الأخ الواقعي ( أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما ) يقوله ويفعله هو اجتهادا أو تقليدا ، لكن كان (هو الفاسد عند الحامل) اجتهادا أو تقليدا ، فالحكم بالفساد الذي هو عدم ترتيب الاثر في الصورتين الاخيرتين أوضح من غيرهما في عدم استلزامه مخالفة الروايات المتقدّمة .

ص: 50

ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحَسَن ترتيبُ الآثار ومن القبيح عدم الترتيب ، كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها ، لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار الحكمُ بترتّب الآثار ، لأنّ مفادها الحكم بصفة

-------------------

لكن الظاهر عدم تمامية هذا الوجه الذي ذكره المصنِّف بقوله : « خصوصا اذا كان المشكوك فعل غير المؤمن» لانه ، كما قد تقدّم : ان الحمل على الصحيح لا فرق فيه بين الاُخوّة الاسلامية والاُخوّة الايمانية ، بل يحمل فعل الكافر على الصحيح ايضا ، وذلك امّا باعتبار كونه أخا نوعيا ، كما قال عليه السلام : « أو نظيرٌ لك في الخَلق » (1) واما باعتبار كونه اخا اجتماعيا ، كما قال سبحانه : « واخوان لوط »(2) وقال سبحانه : « والى ثمود أخاهم صالحا » (3) وامّا باعتبار السيرة القائمة من زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الى هذا اليوم من التعامل مع الكفار .

( ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحَسَن ) الشرعي الذي جاء في قوله عليه السلام : « ضع أمر أخيك على احسنه » (4) ( ترتيبُ الآثار ) الشرعية على الاقوال والافعال ( ومن القبيح ) الذي هو خلاف الحسن ( عدم الترتيب ) للآثار الشرعية عليها ( كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها ) فانه ( لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار ) المتقدّمة ( الحكمُ بترتّب الآثار ) .

وإنّما لم يلزم منه ذلك ، لانه لا تلازم بين الحسن والصحة - على ما عرفت - وذلك ( لأنّ مفادها ) اي : مفاد تلك الأخبار ( الحكم بصفة

ص: 51


1- - تحف العقول : ص127 ، بحار الانوار : ج33 ص600 ب30 ح744 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج17 ص32 ح53 .
2- - سورة ق : الآية 13 .
3- - سورة الاعراف : الآية 73 ، سورة هود : الآية 61 ، سورة النمل : الآية 45 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج13 ص10 .

الحُسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحَسَن .

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيدٍ سلاما أو تحيّة أو شتما ، لم يلزم من الحمل على الحسن وجوبُ ردّ السلام .

ومّما يؤيّد ما ذكرنا جمعُ الإمام عليه السلام ، في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

-------------------

الحُسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح ) اي : عدم الطعن ( في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحَسَن ) عليه ، اذ ليس كل شيء حسن صحيح أيضا .

( ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيدٍ سلاما ) حتى يجب جوابه ( أو تحيّة ) وثناءا حتى يستحب جوابه ( أو شتما ) وسبّا حتى يكون لا جواب له ( لم يلزم من الحمل على الحسن وجوبُ ردّ السلام ) وكذلك لا يستحب ايضا لعدم ثبوت الموضوع فيه ، لكن لا يخفى : ان المنصرف من الحسن عرفا هو الصحيح شرعا ، فاذا شك في كونه سلّم أو شتم ، لزم حمله على السلام ، فيلزم جوابه ، فهو كما اذا لم يعلم المشتري بأن هذا البايع ، هل يبيع عليه بضاعة مغصوبة كان قد سرقها ، أو بضاعته التي امتلكها ملكا صحيحا ؟ فانه يلزم عليه اعطاؤه الثمن - لا انه يكون من مجهول المالك - وذلك لان معنى الصحة : ترتيب الآثار عرفا .

( ومّما يؤيّد ما ذكرنا ) من ان مراد الروايات المتقدّمة - بنظر المصنِّف - هو حمل فعل الاخ وقوله على الحسن صورة ، لا الحسن الواقعي حتى يرتّب عليه آثاره ( جمعُ الإمام عليه السلام في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

ص: 52

قسامة ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن فانّه مّما لا يمكن إلاّ بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع ، المستلزم لتكذيب القَسامة ، بمعنى : المخالفة للواقع مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ، لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد .

فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبُهما فيما يفهمان

-------------------

قسامة (1) ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن ) فيما اذا قال هو : ما قلت ، وقالوا : قال، أو قال هو : ما فعلت ، وقالوا : فعل ( فانّه ) اي : الجمع المذكور ( مّما لا يمكن إلاّ بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة ) كلامه صورة مع ( الواقع ، المستلزم ) هذا التصديق الصوري ( لتكذيب القَسامة ، بمعنى : المخالفة ) اي : مخالفة كلامهم ( للواقع ) وعدم ترتيب الاثر عليه ، لكن ( مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ) وإنّما نحكم بصدقهم في اعتقادهم ( لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد ) .

ومن المعلوم : ان في هذا الكلام من رواية الفضل حكمة رفيعة ، فان الغالب على المجتمعات البشرية هو : ان الناس فيها - مالم يهذّبوا انفسهم - يلمز بعضهم البعض وينبزه ، وينتقص بعضهم بعضا ويتّهمه ، فلو أخذنا بذلك ورتّبنا عليه اثره، لزم تفكّك الاجتماع وتفسّخه ، ووقاية لسلامة المجتمع أمرتنا الرواية بتصديق الاخ ما لم تتم موازين الشهادة ، فاذا تمت موازين الشهادة لزم اجراء الحدود درءا للفساد وقمعا للمفسدين .

وعليه : ( فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبهما فيما يفهمان

ص: 53


1- - انظر الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 ، ثواب الاعمال : ص295 ح1 ، اعلام الدين : ص405 .

من ظواهر بعض الافعال من القبح ، كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب .

وكيف كان : فعدم وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن يحتاج الى البيان حتى المرسل الأوّل ، بقرينة ذكر الأخ وقوله : « ولا تظنَّنَّ ، الخبر

» .

-------------------

من ظواهر بعض الافعال من القبح ) اي : تخطئتهما فيما سمعاه وما رأياه ، وذلك ( كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب ) ما يظن انه ( الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب ) فتكذب بصرك عنه وتقول : انه يشرب السكنجبين لا الخمر ، وكذلك اذا سمعت شخصا يتكلم في مجلس يظن انه يغتاب فتكذّب سمعك عنه وتقول : انه لا يغتاب وإنّما ينقل القصة .

( وكيف كان : فعدم وفاء ) دلالة ( الأخبار بما نحن بصدده ) من اثبات الملازمة بين الحسن وبين ترتيب الآثار الشرعية ( أوضح من أن يحتاج الى البيان ) عند المصنِّف ، لظهورها بنظره في اكرام المؤمن وعدم اتهامه ( حتى المرسل الأوّل ) وهو : « ضع أمر أخيك على أحسنه » (1) لانه - بنظره - ليس بلازم وضعه على الأحسن ، حتى يقال : إنّ الأحسن هو : ما ترتّب عليه الاثر ، بل يكفي فيه عدم إتهامه ، وذلك ( بقرينة ذكر الأخ ) فان ذكره قرينة على ان الرواية تريد عدم اتّهامه حتى لا تنقطع الاُخوّة بينهما ( و ) بقرينة ( قوله : « ولا تظنَّنَّ ) بكلمة خرجت من أخيك سوءا ... » (2) الى آخر ( الخبر » ) فانه صريح بنظر المصنِّف في نفي ظن السوء عن الاخ وليس اكثر من ذلك .

ص: 54


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج12 ص10 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .

وممّا يؤيد ما ذكرنا أيضا ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق :

مثل : رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثِّقة ، فانّ صرعَةَ الاسترسال لا تُستقالُ » .

-------------------

أقول : لكن لا يخفى : ان امثال هذه الشواهد لا تضر بدلالة الروايات على التلازم الذي فهمه المشهور منها .

( ومّما يؤيد ما ذكرنا أيضا ) من انه لا دلالة في هذه الروايات بنظر المصنِّف على التلازم المذكور ( ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق ) والاعتماد عليه كل الاعتماد ، بل يلزم على الانسان ان يكون حذرا تجاهه ويعمل متوسطا معه ، حتى اذا ظهر الخلاف بينهما لا يكون قد سقط في مشكلة لا خلاص له منها .

( مثل : رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثِّقة ، فانّ صرعَةَ الاسترسال لا تُستقالُ » (1) ) والاسترسال : هو الاستيناس والطمأنينة الى الانسان والثقة به فيما يحدّثه ، يعني : ان من يسترسل الى اخيه ويحدثه بكل اسراره وثوقا به ، قد يصرع احيانا - عند ظهور خلاف بينهما - صرعة لا يستطيع النهوض منها ، وذلك لان الصرعة - يعني : السقوط والهلالك - الناشئة من الاسترسال لا تتدارك .

أقول : لا يخفى ان حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح غير الاسترسال اليه والثقة به كل الثقة ، وذلك لأن الاسترسال هو : ان يطمئن اليه ويحدثه بنقاط ضعفه

ص: 55


1- - وسائل الشيعة : ج12 ص147 ب102 ح15898 ، امالي الصدوق : ص669 ، مصادقة الاخوان : ص82 ح6 .

ومّما في نهج البلاغة عنه عليه السلام : « إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ، ثم أساء رجلٌ الظنّ برجلٍ لم يظهر منه خِزيةٌ فقد ظلم ، واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسنَ رجُلٌ الظنَّ برجل فقد غُرّر » .

وفي معناه : قول أبي الحسن عليه السلام في رواية محمّد بن هارون الجلاّب : « إذا كان الجورُ أغلبَ من الحق ، لا يحلُّ لاحدٍ أن يَظنَّ بأحد خيرا ، حتى يعرف ذلك

-------------------

وموارد اتهامه ، بحيث لو ظهر بينهما خلاف عرف الطرف بانه من اين يوجّه الضربة اليه ، وهذا المعنى لا ينافي حمل فعله على الصحيح ، فلا تعارض إذن بين هذه الرواية والروايات السابقة .

( ومّما في نهج البلاغة عنه عليه السلام : « إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ، ثم أساء رجلٌ الظنّ برجلٍ لم يظهر منه خِزيةٌ ) اي : قبيح ( فقد ظلم ) فاللازم ان يحسن الانسان الظن بالناس حتى لا يكون ظالما ( واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسنَ رجُلٌ الظنَّ برجل فقد غُرّر » (1) ) اي : صار مغرورا، ولعل الفرق بين الزمان وأهله هو : ان الزمان قد يكون زمان رخاءٍ ، فلا داعي للناس في السرقة - مثلاً - وقد يكون زمان قحط ، لكن أهل ذلك الزمان متخلّقون بالاخلاق الاسلامية فلا يسرقون ، وهذا الحديث ايضا لاينافي الحمل على الصحة ، اذ حسن الظن شيء ، والحمل على الصحيح شيء آخر ، وإن كانا قد يتصادقان .

( وفي معناه : قول أبي الحسن عليه السلام في رواية محمّد بن هارون الجلاّب : « إذا كان الجورُ أغلبَ من الحق ، لا يحلُّ لاحدٍ أن يَظنَّ بأحد خيرا حتى يعرف ذلك )

ص: 56


1- - نهج البلاغة : قصار الحكم 114 .

منه » ، الى غير ذلك مّما يجده المتتبّع ، فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة يحصل : بأن يراد من الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، والتوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار .

-------------------

الخير ( منه » (1) ) أي : من ذلك الذي يراد به ظن الخير ( الى غير ذلك مّما يجده المتتبّع ) في الروايات الواردة في هذا المجال .

وأمّا وجه التأييد : ( فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة ) الآمرة بحمل فعل الغير على الحسن ( يحصل : بأن يراد من ) مجموع هذه ( الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، و ) معنى مجرّد الحسن المستفاد - بنظر المصنِّف - من الجمع بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار هو : ( التوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار ) فلا يرتب الأثر الشرعي عليه ، كوجوب ردّ السلام فيما لو شك في انه سلّم أو سبّ ، وإنّما لايتهمه بالشتم ليترتب عليه الفسق ، وسقوط العدالة ، وما أشبه ذلك .

أقول : الظاهر : ان وجه الجمع العرفي بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار - على ما مرّ منّا - هو : حمل فعل الاخ وقوله على الحسن الملازم لحمله على الصحيح وترتيب الآثار الشرعية عليه ، وذلك في غير مجال الدعاوي والخصومات ، وفي غير مجال اخذ الحذر ممن تناله الالسن بسوء ، فان ترك الحذر منه والاعتماد عليه ويوقع الانسان في ندم ، وذلك كما لو اعطى ابنته بمجرد حسن الظن لخاطب تناله الالسن بانه خمّار ، أو اعطى سلعته نسيئة بلا استشهاد

ص: 57


1- - الكافي فروع : ج5 ص298 ح2 ، اعلام الدين : ص312 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج19 ص87 ب9 ح24216 .

ويشهد له ماورد من: «أنّ المؤمنَ لايخلو عن ثلاثة: الظنّ والحسد والطيرة ، فاذا حسدت فلا تَبْغِ ، وإذا ظننتَ فلا تُحقّق ، وإذا تطيّرتَ فامْضِ » .

الثالث : الاجماع القولي والعملي

أمّا القولي : فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ،

-------------------

-

مثلاً - لشخص تناله الالسن بانه متقلّب ، أو غير ذلك من اشباههما .

( ويشهد له ) اي : لهذا الجمع الذي ذكره المصنِّف : ( ما ورد من : « أنّ المؤمنَ لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة ) ومن الواضح ان لفظ : «المؤمن» باعتبار انه هو محل الكلام ، والاّ فكل انسان الاّ ماندر لا يخلو عن هذه الثلاثة ( فاذا حسدت فلا تَبْغِ ) والبغي هو الظلم يعني : لا تظلم من حسدته باظهار أثره بيد أو لسان ( وإذا ظننتَ فلا تُحقّق ) يعني : لا تحسبه حقيقة حتى ترتب عليه اثر ، بل كذّب ظنك وخطّئه ( وإذا تطيّرتَ فامْضِ » (1) ) ولا تلتفت اليه حتى ترّتب عليه اثره وتتوقف عن العمل ، والشاهد في هذا الحديث هو : الردع عن ترتيب الاثر على هذه الامور الثلاثة ، فيكون مؤيدا لجمع المصنِّف بحسب نظره ، وقد ورد : ان « التوكل يذهب الطيرة » (2) ، كما في جملة من الأخبار ، وقد ذكرناها في كتاب الآداب والسنن (3) من الفقه .

(الثالث : الاجماع القولي والعملي) من الفقهاء على حمل فعل المسلم على الصحيح .

( أمّا القولي : فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ) خصوصا

ص: 58


1- - مجموعة ورام : ج1 ص127 بالمعنى ، بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 (بالمعنى) ، النهاية لابن الاثير : ج3 ص153 .
2- - فقد ورد في الكافي روضة : ج8 ص198 ب8 ح236 ، وسائل الشيعة : ج22 ص404 ب35 ، بحار الانوار : ج55 ص322 (كفارة الطيرة التوكّل) .
3- - راجع موسوعة الفقه ج94 - 97 كتاب الآداب والسنن للشارح .

فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابقٌ للاصل وإن اختلفوا في ترجيحه على سائر الاصول كما ستعرف .

وأمّا العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلاّ مكابرةً .

-------------------

في مسألة التداعي من كتاب القضاء ( فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابقٌ للاصل ) اي : ان الاصل مع مدعي الصحة فهو الذي يلزم قبول قوله، أمّا مدعي الفساد ، فاللازم عليه ان يأتي بالدليل ، سواء في البيع أو الرهن أو الاجارة أو النكاح أو غيرها .

وإنّما قال المصنِّف : «في الجملة» ولم يقل : مطلقا ، لانه اراد ان يشير بذلك الى ما اختُلف فيه هنا بقوله : ( وإن اختلفوا في ترجيحه ) اي : ترجيح أصل الصحة ( على سائر الاصول ) اي : انهم وان لم يختلفوا في تقديم أصالة الصحة على أصل الفساد، لكنهم اختلفوا في ان أصل الصحة هل يقدّم على سائر الاصول ايضا عند التعارض ام لا ؟ كأصل البرائة فيما لو قال زيد : وهبني عمرو دينارا وانا قبضت منه الدينار ، وقال عمرو : لم أهبه حين وهبته وانا جامع للشرائط ، فان مع عمرو أصل البرائة ، ومع زيد أصل الصحة ، فهل يقدّم على البرائة ايضا أم لا ؟ ، (كما ستعرف) ذلك عن قريب ان شاء اللّه تعالى .

( وأمّا ) الاجماع ( العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار ) والأمصار ( على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم ) الأعم من مثل الايقاعات كالطلاق والعتق وما اشبه ذلك ( ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلاّ مكابرةً ) بل قد عرفت سابقا : إنّ الحمل

ص: 59

الرابع :

العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يُبنَ على هذا الاصل لزم اختلالُ نظام المعاد والمعاش ،

-------------------

على الصحيح جار بين الكفار بعضهم مع بعض ، وبين المسلمين والكفار بعضهم مع بعض ، فهو أصل عقلائي يلتزم به الكل ، الاّ في مورد علم الخلاف أو قيام دليل عليه .

( الرابع : العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يُبنَ على هذا الاصل لزم ) ما يلي :

أوّلاً : ( اختلالُ نظام المعاد ) وقال : «المستقل» لأنّ بعض أحكام العقل يتمّ بانضمام الحكم الشرعي ، بينما بعض احكام العقل يكون مستقلاً سواء كان شرعا أو لم يكن ، فأصالة الصحة إذن من المستقلات العقلية .

وقال : «اختلال نظام المعاد» لانه لولا اصل الصحة لم يتمكن احد من الصلاة في ثوب اشتراه من الغير ، لاحتمال كونه سرقة ، ولا في ثوب طهّره الغير ، لاحتمال كونه نجسا ، كما لم يتمكن احد من الاكتفاء باعمال الغير في الواجبات الكفائية ، لاحتمال عدم القيام بها صحيحا ، ولا أن يأخذ نائبا في قضاء العبادات عن ميّته ، ولا عن نفسه فيما يجوز له ذلك ، كاستنابته لرمي الجمار ، أو للذبح ، أو للطواف عنه ، أو ما أشبه ذلك اذا كان هو غير قادر عليها ، لاحتمال عدم اتيان النائب بها ، وهكذا .

ثانيا : ( والمعاش ) اي : يلزم من عدم البناء على الصحة اختلال نظام المعاش ايضا لأنه اذا لم نحمل فعل الغير على الصحيح ، يلزم ان لا نتمكن من المعاملة مع أكثر الناس ، للشك في صحة معاملاتهم ، فلعل ما يبيعونه سرقة أو غصب أو ما أشبه ذلك .

ص: 60

بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الاصل أزيدُ من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلم .

مع أنّ الإمام عليه السلام قال لحفص بن غياث - بعد الحكم بأنّ اليد دليلُ الملك ، ويجوز الشهادة بالملك بمجرّد اليد - : « أنّه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » ، فيدلّ بفحواه على اعتبار أصالة الصحة في أعمال المسلمين ، مضافا الى دلالته بظاهر اللفظ ،

-------------------

ثالثا : ( بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الاصل ) في نظام المعاش والمعاد ( أزيدُ من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلم ) وقد تقدّم : ان الشارع جعل يد المسلم حجة ، فاذا كان اليد حجة كان أصل الصحة حجة بطريق أولى .

رابعا : ( مع أنّ الإمام عليه السلام قال لحفص بن غياث - بعد الحكم بأنّ اليد دليلُ الملك ، ويجوز الشهادة بالملك بمجرّد اليد - ) يعني : اليد كافية لجواز الشهادة طبقها : فاذا كان - مثلاً - قلم بيد زيد وادعى زيد ان القلم ملكه ، تمكن عمرو من أن يَشهد عند الحاكم بأن هذا القلم ملك لزيد ، والإمام عليه السلام بعد ان بيّن ذلك قال : ( « أنّه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » (1) ، فيدلّ بفحواه ) اي : بمناطه القطعي ومفهوم الاولوية القطعية ( على اعتبار أصالة الصحة في أعمال المسلمين ) .

خامسا : ( مضافا الى دلالته بظاهر اللفظ ) اي : بالمنطوق ، فان التعليل ظاهر في العموم ، وانه كلّما يوجب عدم قيام السوق للمسلمين يكون باطلاً كما قال :

ص: 61


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

حيث انّ الظاهر : أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال ، فهو حقّ ، لأنّ الاختلال باطلٌ ، والمستلزم للباطل باطلٌ ، فنقيضه حقّ ، وهو اعتبار أصالة الصحة عند الشك في صحة ما صدر عن الغير .

ويشير إليه أيضا : ما ورد من نفي الحرج ، وتوسعة الدّين وذمّ مَن ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم .

-------------------

( حيث انّ الظاهر : أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال ) بمعاش المسلمين ومعادهم ( فهو حقّ ) يدا كان أو سوق المسلمين أو أرض الاسلام أو اصالة الصحة أو غيرها ، وذلك ( لأنّ الاختلال باطلٌ ) قطعا ، لانه خلاف الغرض ( والمستلزم للباطل ) مثل: عدم اعتبار أصالة الصحة : أو اليد أو السوق أو ما أشبه ( باطلٌ فنقيضه حقّ ) .

وإنّما كان نقيضه حقا ، لعدم امكان الجمع بين النقيضين ( وهو ) اي : نقيضه : ( اعتبار أصالة الصحة عند الشك في صحة ما صدر عن الغير ) ومن الواضح : ان هذا دليل عقلي ، لا انه حكم العقل ، فان حكم العقل مثل استحالة اجتماع النقيضين ممّا لا يعقل خلافه ، امّا الدليل العقلي فمن الممكن خلافه ، الاّ انه خلاف موازين العقلاء ، كما سبق في بعض مباحث الكتاب الالماع اليه .

سادسا : ( ويشير إليه ) اي : الى بطلان ما كان موجبا لاختلال أمر المعاش والمعاد ( أيضا : ما ورد من نفي الحرج ، وتوسعة الدّين ) حيث قال سبحانه : « ماجعل عليكم في الدين من حرج » (1) وقال عليه السلام : « ان شيعتنا في أوسع ممّا بين ذه وذه » وأشار الى السماء والارض(2) (وذمّ مَن ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم) مثل:

ص: 62


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - تأويل الآيات : ص176 وقريب منه في بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 .

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

إنّ المحمول عليه فعل المسلم هل الصحة باعتقاد الفاعل أو الصحة الواقعيّة ؟ .

-------------------

قوله عليه السلام : « ان الخوارج ضيّقوا على انفسهم بجهالتهم » (1) أي : ان جهلهم بالاحكام - ومنها أصالة الصحة في فعل الغير ، وخاصّة في فعل علي عليه السلام مع عملهم بنص الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عليه ، وقوله فيه : «علي مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار » (2) - سبّب الضيق عليهم ، كما ورد مثل ذلك بالنسبة لأهل الكتاب من قبلهم حيث قال سبحانه : « فبظلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم »(3) .

ومن المعلوم: ان ترك العمل بأصل الصحة يوجب ضيقا وحرجا على الانسان .

( وينبغي التنبيه على أمور ) تالية :

( الأوّل : إنّ المحمول عليه فعل المسلم هل الصحة ) الاعتقادية ، وهو الصحيح ( باعتقاد الفاعل ) وتطابقه مع اعتقاد الحامل ( أو الصحة الواقعيّة ) الاعم من تطابق الاعتقادين ؟ احتمالان بل قولان .

مثلاً : لو كان زيد يرى تحريم عشر رضعات ، وعمرو لا يرى التحريم ، فتزوّج عمرو بالتي ارتضعت معه عشر رضعات ، وبعد موت عمرو جاء الورثة الى زيد

ص: 63


1- - قرب الاسناد : ص171 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، وسائل الشيعة : ج3 ص491 ب50 ح4262 و ج4 ص456 ب55 ح5701 .
2- - تاريخ ابن عساكر : ج42 ص449 ، ينابيع المودة : ج1 ص269 ، المعيار والموازنة : ص119 ، تاريخ بغداد : ج14 ص322 .
3- - سورة النساء : الآية 160 .

فلو علم أنّ معتقد الفاعل - اعتقادا يُعذَر فيه صحة البيع ، أو النكاح بالفارسي ،

-------------------

ليُقسّم الارث بينهم ، فان كان المعيار الصحة الاعتقادية بمعنى : تطابق الاعتقادين ، فزيد لا يتمكن ان يورّث زوجة عمرو من عمرو لانها باعتقاد زيد ليست زوجة عمرو ، واما اذا كان المعيار الصحة الواقعية الاعم من تطابق الاعتقادين ، فعلى زيد ان يورّث زوجة عمرو من عمرو ، لانها زوجة عمرو باعتقاد عمرو .

هذا ، وقبل الدخول في المطلب نقول : ان ما نراه هنا هو : ان اصالة الصحة جارية مطلقا ، سواء تطابق الاعتقادان للفاعل والحامل على الصحيح أو لا ، الاّ في صورة واحدة وهي : صورة تباين الاعتقادين ، وذلك بان علم الحامل بان اعتقاد الفاعل مخالف لاعتقاده وقطعي البطلان ، وعلم ايضا ان الفاعل يأتي به حسب اعتقاده هو ، في حين انه يرى ان الصحيح عند الفاعل لا يكفي ، فان هذه الصورة فقط يُقطع بخروجها عن السيرة وعن الاجماع وعن التعليل : « لما قام للمسلمين سوق » (1) وما أشبهها من الادلة ، وذلك : كما لو كان الإمام يرى وجوب الجهر في القراءة يوم الجمعة ، والمأموم يرى وجوب الاخفات ، مع قطعه ببطلان اعتقاد الإمام ، وعلم ايضا ان الإمام يأتي بالقرائة حسب اعتقاده هو ، في حين انه يرى ان الصحيح عند الإمام لا يكفي حتى يصح له الاقتداء به ، ففي هذه الصورة فقط لا تجري أصالة الصحة ، ولا يتمكن من الاقتداء به ، دون سائر الصور .

وكيف كان : ( فلو علم أنّ معتقد الفاعل - اعتقادا يُعذَر فيه ) لاجتهادٍ أو تقليدٍ أو قطعٍ - ( صحة البيع ، أو النكاح بالفارسي ) كما انه يصح عنده بالعربية ايضا

ص: 64


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

فشك فيما صدر عنه مع اعتقاد الشاك اعتبار العربية ، فهل يحمل على كونه واقعا بالعربي ؟ حتى اذا ادّعي عليه أنّه أوقعه بالفارسي وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربي ، فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد الفارسي بوقوعه بالعربي أم لا ؟ وجهان بل قولان .

ظاهرُ المشهور : الحملُ على الصحة الواقعية ، فاذا شك المأموم في أنّ الإمام المعتقد لعدم وجوب السورة قرأها أم لا ، جاز له الائتمام به وإن لم يكن له ذلك اذا علم بتركها .

-------------------

( فشك ) الحامل ( فيما صدر عنه ) أي : عن الفاعل من بيع أو نكاح في عربيته وفارسيته ( مع اعتقاد الشاك ) أي : الحامل ( اعتبار العربية ) في البيع والنكاح وبطلان الفارسية ( فهل يحمل ) عقد الفاعل نكاحا أو بيعا ( على كونه واقعا بالعربي ؟ حتى اذا ) حدث اختلافٌ وترافعٌ الى الحاكم الشرعي و ( ادّعي عليه أنّه أوقعه بالفارسي ) فعقده باطل ( وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربي ) فعقده صحيح ( فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد الفارسي بوقوعه بالعربي ) لأصالة الصحة وهو معنى الصحة الواقعية ( أم لا ؟ ) لانه ليس هنا مجال الحمل على الصحيح وهو معنى الصحة الاعتقادية ؟ .

( وجهان ) في المسألة ( بل قولان ) للفقهاء فيها :

( ظاهرُ المشهور : الحملُ على الصحة الواقعية ، فاذا شك المأموم في أنّ الإمام المعتقد لعدم وجوب السورة قرأها أم لا ، جاز له الائتمام به ) أي : بهذا الإمام ، فان جواز الائتمام هنا من آثار الحمل على الصحة الواقعية ( وإن لم يكن له ) أي : للمأموم ( ذلك ) الائتمام ( اذا علم بتركها ) أي : علم بأن الإمام يترك السورة ، لان المفروض : ان المأموم يعتقد بلزوم السورة ، وكذلك نراهم في المخاصمات

ص: 65

ويظهر من بعض المتأخّرين خلافه .

قال في المدارك ، في شرح قول المحقق : « ولو اختلف الزوجان : فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الاحرام وأنكر الآخر ، فالقولُ ، قول مَن يدّعي الاحلال ، ترجيحا لجانب الصحة » ، قال : « إنّ : الحمل على الصحة ، إنّما يتمّ اذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الاحرام عالما بفساد ذلك ، أمّا مع اعترافه بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة » ،

-------------------

يحكمون بان الاصل الصحة ، فيما اذا اختلفا في ان العقد الذي أجرياه كان صحيحا أم لا ، ومعلوم : ان الحكم بصحة فعل الغير من دون تقيد بصورة تطابق الاعتقادين دليل على انهم يحملون فعل الغير على الصحة الواقعية .

( ويظهر من بعض المتأخّرين خلافه ) أي : خلاف الحمل على الصحة الواقعية بل الحمل على الصحة الاعتقادية ، فقد ( قال في المدارك ، في شرح قول المحقق ) في الشرايع : ( « ولو اختلف الزوجان : فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الاحرام ) حتى يكون العقد باطلاً ( وأنكر الآخر ) وقوعه في حال الاحرام وادّعى وقوعه حال الاحلال حتى يكون العقد صحيحا ، قال : ( فالقولُ ، قول من يدّعي الاحلال ، ترجيحا لجانب الصحة » ) وهذا هو معنى الصحة الواقعية .

لكن ( قال ) صاحب المدارك في شرح هذا الكلام : ( « إنّ : الحمل على الصحة، إنّما يتمّ اذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الاحرام عالما بفساد ذلك ) أي : عالما بأن العقد في حال الاحرام باطل ، ومعلوم ان المسلم لا يفعل ما هو باطل مع علمه بالبطلان ، فيحمل على الصحة ويترتب عليه الاثر ( أمّا مع اعترافه ) أي : مع اعتراف المدعي لوقوع العَقد في حال الاحرام ( بالجهل ) وعدم العلم بأنّ العقد في حال الاحرام باطل ( فلا وجه للحمل على الصحة » ) حينئذ حتى يترتب

ص: 66

انتهى .

ويظهر ذلك من بعض من عاصرناه ، في اصوله وفروعه حيث تمسّك في الأصل بالغلبة ، بل ويمكن إسناد هذا القول الى كلّ من استند في هذا الاصل

-------------------

عليه الاثر ، بل اللازم التماس دليل آخر يؤيّد الصحة أو البطلان ، وهذا هو معنى الصحة الاعتقادية .

( انتهى ) كلام السيد محمد صاحب المدارك ، فانه يظهر من كلامه هذا : بأنّ الصحة عنده هي الصحة الاعتقادية دون الواقعية ، لوضوح : انه لو كان يحمل فعل الغير على الصحة الواقعية ، لم يفرّق في ترتيب الأثر بين صورة علم العاقد بفساد العقد ، وبين جهله بالفساد ، وإنّما كان يطلق الحكم بذلك كما اطلق المحقق .

( ويظهر ذلك ) أي : الحمل على الصحة الاعتقادية توافقا للمدارك على خلاف المشهور ( من بعض من عاصرناه في اصوله وفروعه ) وهو صاحب القوانين ( حيث تمسّك في الأصل ) أي : أصالة الصحة في فعل الغير ( بالغلبة ) فان الغالب على المسلمين هو : ان أحدهم يأتي بالعمل الصحيح بحسب اعتقاده ، لا بالعمل الصحيح في الواقع ، ومن المعلوم : ان الصحيح بحسب اعتقاده قد يكون باطلاً واقعا ، اذ بين الصحيح الاعتقادي والصحيح الواقعي عموم من وجه ، واذا كان العمل صحيحا في اعتقاد الفاعل غير صحيح في اعتقاد الحامل ، لا يصح للحامل ترتيب أثر الصحيح على فعل الفاعل ،فاللازم ان يقال إنّما يُحمل فعل الغير على الصحيح اذا تطابق الاعتقادان وهو معنى الحمل على الصحة الاعتقادية .

( بل ويمكن إسناد هذا القول ) وهو الحمل على الصحة الاعتقادية المطابق للمدارك والقوانين ( الى كلّ من استند في هذا الاصل ) أي : اصل الصحة

ص: 67

الى ظاهر حال المسلم ، كالعلاّمة وجماعة مّمن تأخر عنه ، فانّه لا يشمل صورة اعتقاد الصحة ، خصوصا اذا كان قد أمضاه الشارع لاجتهاد أو تقليد أو قيام بيّنة أو غير ذلك .

والمسألة محلّ اشكال ، من إطلاق الأصحاب

-------------------

( الى ظاهر حال المسلم ، كالعلاّمة وجماعة مّمن تأخر عنه ) فان ظاهر حال المسلم وان كان هو العمل حسب ما يصح في اعتقاده ، الاّ انه قد يكون اعتقاده باطلاً واقعا ، فلا يصح للحامل المختلف اعتقاده مع اعتقاد الفاعل ، ترتيب أثر الصحيح على فعل الفاعل ، الصحيح عنده فقط ( فانّه لا يشمل صورة اعتقاد الصحة ) من الفاعل فقط ، فكيف بصورة جهله بالمسألة ؟ وإنّما يلزم حمله على الصحيح في صورة تطابق الاعتقادين ، وهذا هو معنى الحمل على الصحة الاعتقادية .

( خصوصا اذا كان قد أمضاه ) أي : امضى اعتقاد الفاعل ( الشارع لاجتهاد أو تقليد ) في الاحكام ( أو قيام بيّنة أو غير ذلك ) من يدٍ وسوقٍ وأرضٍ وما اشبه ذلك في الموضوعات ، فانه بالاضافة الى عدم اقتضاء دليل حال المسلم اكثر من الحمل على الصحة الاعتقادية ، ان مع حجية اعتقاد الفاعل شرعا يبعد الحمل على الصحة الواقعية .

هذا ( والمسألة ) بعد ( محلّ اشكال ) وتأمل في انه ما هو المراد من الحمل على الصحة ؟ هو هو الحمل على الصحة الواقعية ، أو الصحة الاعتقادية ؟ وهذا الاشكال ناشيء ( من إطلاق الأصحاب ) القول بالحمل على الصحة ، وعدم تقييده بصورة تطابق الاعتقادين ممّا يكشف عن كون الحمل على الصحة عندهم هي الصحة الواقعية .

ص: 68

ومن عدم مساعدة أدلّتهم ، فانّ العمدة الاجماع ولزوم الاختلال .

والاجماع الفتوائي مع ما عرفت مشكل ، والعملي في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحة أيضا مشكلٌ .

والاختلال يندفع بالحمل على الصحة في غير المورد المذكور .

-------------------

( ومن عدم مساعدة أدلّتهم ) على الاطلاق ممّا يكشف عن ان الحمل على الصحة إنّما هي الصحة الاعتقادية أي : في صورة تطابق الاعتقادين وذلك كما قال: ( فانّ العمدة ) أي : عمدة أدلة الاصحاب هو : ( الاجماع ولزوم الاختلال ) وكلاهما قاصران عن الادلة على الاطلاق ، فلا يشملان الاّ صورة تطابق الاعتقادين .

أما الاجماع بقسميه : الفتوائي والعملي فلأنه كما قال : ( والاجماع الفتوائي مع ما عرفت ) من ظهور مخالفة صاحب المدارك وصاحب القوانين ، بل كل من استند في أصل الصحة الى الغلبة أو الى ظاهر حال المسلم ، فإنّه ( مشكل ) اذ لا اجماع في المسألة ، لان ظاهر فتاوى جماعة هو : مجرد الحمل على الصحة الاعتقادية ، لا ترتيب الآثار حتى في صورة عدم تطابق الاعتقادين .

هذا بالنسبة الى الاجماع الفتوائي ( و ) اما بالنسبة الى الاجماع ( العملي ) الذي هو عبارة أخرى عن السيرة ، فانها ( في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحة ايضا مشكلٌ ) اذ قد عرفت : ان المتسالم عليه هو : ترتيب آثار الصحة الواقعية في صورة تطابق الاعتقادين لا مطلقا .

( و ) أمّا دليلهم الثاني وهو : لزوم ( الاختلال ) في امر المعاد والمعاش ، فانه ( يندفع بالحمل على الصحة في غير المورد المذكور ) الذي يتخالف فيه الاعتقادان ، فانا اذا عملنا بأصل الصحة في صورة تطابق الاعتقادين لا يلزم

ص: 69

وتفصيل المسألة ان الشاكّ في الفعل الصادر من غيره ، إمّا أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ، وإمّا أن يكون عالما بجهله ، وإمّا أن يكون جاهلاً بحاله .

فان عَلِمَ بعلمه بالصحيح والفاسد ، فامّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاك ، أو يعلم مخالفته ، أو يجهل الحال ،

-------------------

منه الاختلال ، وحيث لا اجماع ولا اختلال ، فمن اين يثبت القول بحمل فعل الغير على الصحة مطلقا ، حتى يكون بمعنى الصحة الواقعيّة ؟.

هذا هواجمال المسألة ( و ) اما ( تفصيل المسألة ) فهو على ما ذكره المصنِّف ذو صور خمس ، اذ ( ان الشاكّ في الفعل الصادر من غيره إمّا أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ) أي : يعلم الحامل بانّ الفاعل يعلم ان الصلاة بلا وضوء فاسدة ، وانها مع الوضوء صحيحة - مثلاً - علما بان هذه الصّورة مقسم لثلاث صور ( وإمّا أن يكون عالما بجهله ) أي : جهل الفاعل بالصحيح والفاسد وهذه صورة رابعة ( وإمّا أن يكون ) الحامل ( جاهلاً بحاله ) أي : جاهلاً بحال الفاعل وهذه هي الصورة الخامسة .

أما الصورة الاولى فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( فان عَلِمَ بعلمه بالصحيح والفاسد ) أي : علم الحامل بأنّ الفاعل يعلم الصحيح والفاسد ، فهي على ثلاث صور :

الاُولى : ( فامّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاك ) أي : يعلم بتطابق الاعتقادين .

الثانية : ( أو يعلم مخالفته ) أي : يعلم بتخالف الاعتقادين .

الثالثة : ( أو يجهل الحال ) من حيث تطابق الاعتقادين ، وعدم تطابقهما ،

ص: 70

لا اشكال في الحمل في الصورة الاولى .

وأمّا الثانية ، فانْ لم يتصادق اعتقادُهما بالصحة في فعل كأن اعتقد أحدُهما : وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر : وجوب الاخفات ، فلا اشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل ؛ وإن تصادقا - كما في العقد بالعربي والفارسي -

-------------------

وهذا هو تصوير الصور الثلاث .

وأمّا أحكام هذه الصور الثلاث فهي كما قال : ( لا اشكال في الحمل ) على الصحة بترتيب الآثار على فعل الغير ( في الصورة الاولى ) وهي : صورة تطابق الاعتقادين .

( وأمّا الثانية ) وهي صورة تخالف الاعتقادين ( فانْ لم يتصادق اعتقادُهما بالصحة في فعل ) وذلك بأن كان اعتقادهما متباينين ( كأن اعتقد أحدُهما : وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر : وجوب الاخفات ، فلا اشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل ) بأن يقال : ان المصلّي - بحسب اعتقاده الممضى شرعا لاجتهاد أو تقليد - صلاته صحيحة يقينا باعتقاده ، أمّا حمل فعله على الصحيح الواقعي، حتى يصح المخالفه في الاعتقاد ان يأتمّ به، فلا.

هذا اذا تخالفا بالتباين ، واما اذا تخالفا بالعموم المطلق ، فهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( وإن تصادقا ) بالصحة في فعل ( كما في العقد بالعربي والفارسي ) وذلك بان يعتقد الفاعل صحة النكاح بكل من العربي والفارسي ، ويعتقد الحامل صحته بالعربي فقط ، وأجرى الفاعل عقدا لم يعلم الحامل هل انه عقدا فارسيا حتى يبطل عقده ، أو عقدا عربيا حتى يصح عقده ؟ فإنّ لهذا احتمالين :

ص: 71

فان قلنا : إنّ العقد بالفارسي منه سببٌ لترتب الآثار عليه ، من كلّ أحد ، حتى المعتقد بفساده ، فلا ثمرة في الحمل على مُعتقَد الحامل أو الفاعل .

وإن قلنا بالعدم ، كما هو الأقوى ففيه الاشكال المتقدّم : من تعميم الاصحاب في فتاواهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم على تقديم قول مدّعي الصحة ، ومن اختصاص الأدلة بغير هذه الصورة .

وإن جهل الحال ،

-------------------

( فان قلنا : إنّ العقد بالفارسي منه ) أي : من المعتقد بصحة العقد الفارسي ( سببٌ لترتب الآثار عليه ، من كلّ أحد ، حتى المعتقد بفساده ) بمعنى : ان الحكم الظاهري في حق أحد يكون نافذا في حق الآخر ايضا ( فلا ثمرة ) للخلاف بين الفاعل والحامل ( في الحمل على مُعتقَد الحامل أو الفاعل ) لانه حينئذ يحكم بترتيب الآثار عليه ويكون صورة التخالف بالعموم المطلق صورة التطابق الكلي من حيث الحكم ، وكذا يكون حال ما اذا كان التخالف بينهما على نحو العموم من وجه .

( وإن قلنا بالعدم ) أي : بعدم ترتيب الأثر عليه من كل احد حتى المعتقد بفساده ( كما هو الأقوى ) عند المصنِّف ( ففيه الاشكال المتقدّم : من تعميم الاصحاب في فتاواهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم ) المنقولة عنهم ( على تقديم قول مدّعي الصحة ) الكاشف عن ان الحمل على الصحة عندهم هي الصحة الواقعية ( ومن اختصاص الأدلة بغير هذه الصورة ) أي : غير صورة الاطلاق الظاهر من الاصحاب، وذلك لانصرافها الى صورة تطابق الاعتقادين ممّا يكشف عن كون الحمل على الصحة هي الصحة الاعتقادية ، لا الصحة الواقعية .

الثالثة : ( وإن جهل ) الحامل ( الحال ) ولم يعلم بانّ اعتقاد الفاعل

ص: 72

فالظاهر الحمل لجريان الأدلّة بل يمكن جريان الحمل على الصحة في اعتقاده ، فيحمل على كونه مطابقا لاعتقاد الحامل ، لأنّه الصحيح .

وإن كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد ، ففيه ايضا الاشكال

-------------------

هل هو مطابق لاعتقاده أو مخالف له ؟ ( فالظاهر الحمل ) لفعل الفاعل في هذه الصورة على الصحة ، وذلك ( لجريان الأدلّة ) فان أدلة الحمل على الصحة تشمل هذه الصورة ، لان اغلب موارد الشك في الصحة من هذا القبيل ، فاذا لم يرتب الحامل الصحة في هذه الصورة على فعل الفاعل لزم منه اختلال النظام ، مضافا الى ان السيرة في هذه الصورة جارية على حمل فعل الفاعل على الصحة .

( بل يمكن جريان الحمل على الصحة ) هنا لا في فعل الفاعل فحسب ، بل ( في اعتقاده ) ايضا ، فكما ان فعل الفاعل الخارجي ، المشكوك الصحة والفساد يجري فيه الحمل على الصحة ، كذلك اعتقاده القلبي المشكوك الصحة والفساد ( فيحمل ) الحامل ( على كونه ) أي : اعتقاد الفاعل ( مطابقا لاعتقاد الحامل ، لأنّه الصحيح ) باعتقاد الحامل ، فيكون حاصل الصورة الثالثة هو : الحمل على الصحة فعلاً واعتقادا بمعنى ان يقول الحامل : ان فعل الفاعل واعتقاد الفاعل كلاهما مطابقان لاعتقادي .

وأمّا الصورة الرابعة وحكمها ، فهو ما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( وإن كان ) أي: الحامل ( عالما بجهله بالحال ) أي : عالما بأن الفاعل جاهل بالمسئلة ( وعدم علمه ) أي : وعالما بعدم علم الفاعل ( بالصحيح والفاسد ) ومع ذلك عمل عملاً ، ولم نعلم هل انه اتى به صحيحا أو باطلاً ؟ كما اذا علمنا بانه لا يعلم بوجوب الوضوء عليه وصلّى ، فهل يصح لنا ان نأتم به ام لا ؟ ( ففيه ايضا الاشكال

ص: 73

المتقدّم ، خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ، كما اذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس ، إلاّ أنّه يحتمل أن يكون قد اتفق المبيع غير نجس .

وكذا إن كان جاهلاً بحاله .

إلاّ أنّ الاشكال في بعض هذه الصور أهون منه في بعض ،

-------------------

المتقدّم ) من الاطلاق من ناحية ، ومن عدم شمول الأدلة لمثله من ناحية ثانية .

( خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ) عمّا وقع العقد عليه - مثلاً - لكونه طرفا للشبهة المحصورة ( كما اذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس ) فانه اذا كان شيئان احدهما نجس ، لزم على المالك ان يجتنب عن بيعهما معا للعلم الاجمالي ( إلاّ أنّه ) مع علمنا بذلك ( يحتمل أن يكون قد اتفق المبيع غير نجس ) وانه كان ظاهرا واقعا ، فهل هذا الاحتمال مع علمنا ذلك يكون مبررا لحمل فعله على الصحيح أم لا ؟ يقول المصنِّف : انه مشكل خصوصا هذه الصورة ، وقال : خصوصا ، لاضافة اشكال الشبهة المحصورة فيها الى اشكال عدم شمول الأدلة لها .

وأمّا الصورة الخامسة وحكمها ، فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( وكذا ) يجيء الاشكال المتقدِّم : من ان الأدلّة لا تشمل مثل هذه الصورة الخامسة ايضا ، وهي ( إن كان ) الحامل ( جاهلاً بحاله ) أي : بحال الفاعل ، وذلك بان لا يعلم الحامل هل إنّ الفاعل جاهل بالمسألة ، أو هو عالم بها ؟ .

ثمّ ان المصنِّف قال بعد اتمام كلامه في الصور الخمس وبيانه لاحكامها : ( إلاّ أنّ الاشكال في بعض هذه الصور أهون منه ) أي : من الاشكال ( في بعض )

ص: 74

فلابد من التتبع والتأمّل .

-------------------

الصور الأخرى ، مثلاً : الاشكال في قوله : « وان كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد » أهون من الاشكال في الصورة التي ذكرها بقوله بعد ذلك : « خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب » وهكذا .

وعليه : ( فلابد من التتبع والتأمّل ) في الصور كلها حتى يظهر : ان ايّ صورة منها يطابق الأدلة فيحمل على الصحيح ، وايّ صورة منها لا يطابق الادلة فلا يحمل على الصحيح ، علما بان صور المسألة - على البيان التالي - تكون ثمان صور :

الاُولى : التطابق بين الاعتقادين .

الثانية : كون اعتقاد الحامل أعم من اعتقاد الفاعل .

الثالثة : عكس ذلك .

الرابعة : كون العموم من وجه بين الاعتقادين .

الخامسة : تباين الاعتقادين .

السادسة : الجهل بالتطابق والتباين .

السابعة : كون الفاعل جاهلاً بالمسألة .

الثامنة : كون الفاعل مجهول الحال من حيث العلم والجهل بالمسألة .

هذا ، وقد عرفت - على ما سبق منا - إنّ مقتضى القاعدة هو : الحمل على الصحة في جميعها ، الاّ الصورة التي استثنيناها في أوّل التنبيه ، وهي صورة مقيدة بأربعة قيود .

ص: 75

الأمر الثاني :

إنّ الظاهر من المحقق الثاني أنّ أصالة الصحة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان .

قال في جامع المقاصد : فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنتُ وأنا صبيّ - بعد ما رجّح تقديم قول الضامن -

-------------------

( الأمر الثاني : ) ان الشك في صحة العقد وفساده ، قد يكون من جهة احتمال فقد ركن مقوّم ، وهذا يسمّى : الشك في المقتضى ، وقد يكون من جهة احتمال طروّ مفسد ، وهذا يسمّى : الشك في وجود المانع ، والكلام هنا في هذا الأمر هو في انه هل يحمل على الصحة في كلا الشكّين أم لا ؟ .

الظاهر : الحمل في كليهما ، الاّ ما ذكرناه في التنبيه الاول ، خلافا لآخرين ، حيث فصّلوا في المسألة على ما ستعرفه منهم انشاء اللّه تعالى .

قال المصنِّف : ( إنّ الظاهر من المحقق الثاني ) وهو المحقق الكركي صاحب جامع المقاصد ( أنّ أصالة الصحة انّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان ) من جهة المتعاقدين والعوضين والعقد ، ومعناه : انه اذا كان الشك في وجود المانع جرت أصالة الصحة فيه ، واما اذا كان الشك في المقتضي فلا تجري أصالة الصحة فيه .

(قال في جامع المقاصد : فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن: ضمنتُ وأنا صبيّ ) وأنكر الصباوة المضمون له وقال : بل ضمنتَ وانت كامل ، قال المحقق الكركي ذلك ( بعد ما رجّح تقديم قول الضامن ) الذي يدّعي الصباوة حال الضمان ، وإنّما رجّح تقديم قول الضامن لدليلين : لأصالة الفساد ، وبرائة ذمة

ص: 76

ما هذا لفظه : « فان قلت : للمضمون له أصالة الصحة في العقود ، و ظاهر حال البالغ أنّه لا يتصرّف باطلاً .

قلنا إنّ الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له ، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحرّ ، أو العبد ؟ حَلَفَ منكرُ وقوع العقد على العبد ،

-------------------

الضامن ، فانه قال بعد ذلك ( ما هذا لفظه : « فان قلت : للمضمون له ) دليلان :

أولاً : ( أصالة الصحة في العقود ، و ) أصل الصحة مقدّم على أصل الفساد .

ثانيا : ظهور حال المسلم في الصحة ، لان ( ظاهر حال البالغ أنّه لا يتصرّف باطلاً ) بل صحيحا ، فيلزم من هذين الدليلين الدالين على صحة العقد ، تقديم قول المضمون له ، الذي يدعي الصحة بكمال الضامن .

قال المحقق الكركي : إن قلتم ذلك ( قلنا ) في الجواب عن الدليل الاول : ( إنّ الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ) أي : بعد تمام المقتضي ، وذلك ( ليتحقق وجود العقد ) ويكون الشك في وجود المانع ( أمّا قبله ) أي : قبل استكمال الاركان ( فلا وجود له ) أي : للعقد حتى نقول : بان الأصل الصحة ، ومعنى ذلك : انه اذا كان الشك في طروّ المفسد جرى أصل الصحة ، لأنّ الأصل بعد تحقق العقد هو : عدم طروّ المفسد عليه ، وامّا اذا كان الشك في وجود المقتضي فلا عقد حتى يجري فيه أصل الصحة .

وعليه : ( فلو اختلفا في كون ) المعوّض في باب البيع ( المعقود عليه ) بثمن خاص ( هو الحرّ ، أو العبد ؟ ) بان قال أحد المتبايعين : تبايعنا على العبد فالبيع صحيح ، وقال الآخر : تبايعنا على الحر فالبيع باطل قال : ( حَلَفَ منكرُ وقوع العقد على العبد ) وحكم ببطلان المعاملة ، تقديما لقول مدّعى الفساد على مدّعي

ص: 77

وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا » ، انتهى .

وقال في باب الاجارة ما هذا لفظه : « لا شك في أنّه اذا حصل الاتفاق على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ، من الايجاب والقبول من الكاملين وجريانهما على العوضين المعتبرين ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول ، قول مدّعي الصحة بيمينه لأنّه الموافق للأصل ، لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد

-------------------

الصحة ، وذلك لرجوع الاختلاف هنا الى الشك في العقد قبل استكمال اركانه : والعقد قبل استكمال اركانه لا وجود له حتى يجري فيه اصل الصحة .

( وكذا ) الجواب عن الدليل الثاني وهو ظاهر حال المسلم : فان ( الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ) أي : استكمال الاركان من جهة البلوغ والعقل ونحوهما ( لا مطلقا » ) سواء استكمل الاركان ام لم يَستكملها ( انتهى ) كلام المحقق الثاني في باب الضمان .

( وقال ) المحقق المذكور ( في باب الاجارة ) ايضا ( ما هذا لفظه : « لا شك في أنّه اذا حصل الاتفاق ) من طرفي المعاملة ( على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ، من الايجاب والقبول من الكاملين ) أي : البالغين العاقلين المختارين ( وجريانهما على العوضين المعتبرين ) بأن لا يكون احد العوضين خمرا ، أو خنزيرا ، أو وقفا ، أو ما أشبه ذلك ( ووقع الاختلاف في شرط مفسد ) كاشتراط عدم انتقال المبيع الى المشتري ( فالقول ، قول مدّعي الصحة بيمينه ) وذلك لدليلين :

أولاً : ( لأنّه الموافق للأصل ) أي : لأنّ قول مدّعي الصحة يوافق اصالة الصحة في العقود ، وذلك ( لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد ) أي : عدم وجود المانع

ص: 78

والاصل في فعل المسلم : الصحيح .

أمّا اذا حصل الشك في الصحة والفساد في بعض الامور المعتبرة وعدمه ، فانّ الأصل لا يُثمِرُ هنا ، فانّ الأصل عدم السبب الناقل .

ومن ذلك ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد ، فقال : بعتك الحرّ » ، انتهى .

-------------------

بعد تمامية الاركان .

ثانيا : ( والاصل في فعل المسلم : الصحيح ) وعدم التصرف الباطل ، فاذا شككنا بسبب الاختلاف بينهما في انه هل فعل صحيحا أم لا ؟ نحمل فعله بعد تمامية الاركان على الصحة ونحكم له بيمينه .

هذا فيما لو حصل الشك في الصحة والفساد لوجود المانع من الشرط المفسد ( أمّا اذا حصل الشك في الصحة والفساد في ) وجود ( بعض الامور المعتبرة ، وعدمه ) أي : في أركان المعاملة ، كالشك في بلوغ احد المتعاملين - مثلاً - ( فانّ الأصل ) أي : أصل الصحة ( لا يُثمِرُ هنا ) لما عرفت : من انه من الشك في المقتضي ، ومعه لا عقد حتى يقال : بان الأصل الصحة ، فيقدّم قول مدعي الفساد مع يمينه ، وذلك لانه كما قال : ( فانّ الأصل عدم السبب الناقل ) عند الشك في تمامية السبب المقتضي للنقل ، فاللازم حينئذ تقديم قول مدعي الفساد مع يمينه والحكم بالبطلان .

( ومن ذلك ) أي : من موارد الحكم بالبطلان المسئلة السابقة وهي : ( ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد ، فقال : بعتك الحر » ) لان المملوكية من أركان المعاملة ( انتهى ) كلام المحقق الثاني .

ص: 79

ويظهر هذا من بعض كلمات العلامة ، قال في القواعد : « لا يصح ضمان الصبي ولو أذن له الوليّ ، فان اختلفا قدمّ قول الضامن ، لأصالة برائة الذمّة وعدم البلوغ ، وليس لمدّعي الصحة أصل يستند اليه ، ولا ظاهر يرجع اليه .

بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ،

-------------------

( ويظهر هذا ) الذي ذهب اليه المحقق الثاني ( من بعض كلمات العلامة ) أيضا ( قال في القواعد : « لا يصح ضمان الصبي ولو أذن له الوليّ ) أي : حتى مع الاذن من وليه ( فان اختلفا ) بأن قال الضامن : ضمنتُ وانا صبي فالضمان باطل ، وأنكره المضمون له وقال : بل كامل فالضمان صحيح ( قدمّ قول الضامن ) المدّعي للفساد مع يمينه وذلك لدليلين :

أوّلاً : ( لأصالة برائة الذمّة ) أي : برائة ذمة الضامن ، لانه سابقا لم يكن مشغول الذمة ، فاذا شككنا في انه اشتغلت ذمته ام لا ؟ فالاصل عَدم اشتغال ذمته .

ثانيا : ( وعدم البلوغ ) أي : أصل عدم البلوغ لان البلوغ أمر طاريء ، واذا اثبت عدم بلوغه لم يثبت له ظهور حال المسلم في الصحة : ومعه يقدّم قوله بالفساد مع يمينه ويحكم ببطلان المعاملة .

ثم قال العلامة بعد ذلك : ( وليس لمدّعي الصحة ) هنا وهو المضمون له الذي يدّعي كمال الضامن ( أصل يستند اليه ، ولا ظاهر يرجع اليه ) وذلك لما عرفت : من ان أصل الصحة مختص بالشك في المانع وطروّ المفسد بعد تمامية اركان المعاملة ، وهذا ليس كذلك ، وهكذا ظهور حال المسلم فانه مختص بالبالغ ، اما من ليس ببالغ ، أو لا نعلم هل انه كان بالغا ام لا ؟ فليس له هذا الظهور .

ثم قال العلامة : ( بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ) فانه حينئذ يقدّم قول

ص: 80

لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرفان باطلاً ، وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون » ، انتهى .

وقال في التذكرة : « لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ وقال الضامن : بل ضمنتُ لك قبله ، فان عيّنا له وقتا لا يحتمل بلوغه قدّم قول الصّبي

-------------------

مدّعي الصحة ، لأنّ الأركان تامة ، وإنّما الشك في المفسد والاصل عدمه ، فاصالة الصحة في العقود هنا هو الدليل ، وظاهر حال المسلم هو الدليل الثاني كما قال : ( لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرّفان باطلاً ) بل صحيحا ، فيلزم من هذين الدليلين تقديم قول مدَّعي الصحة .

( وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون » (1) ) ادواري ، فاختلفا في انه هل ضمن في حال جنونه الأدواري حتى يكون ضمانه باطلاً ، أو في حال افاقته حتى يكون ضمانه صحيحا ؟ فانّه يقدّم قول مدّعي الفساد ، لانه ليس لمدّعي الصحة هنا اصل يستند اليه بعد كون الشك في اركان العقد ، ولا ظاهر حال يرجع اليه بعد كون احدهما مجنونا ادواريا ، ( انتهى ) كلام العلاّمة في القواعد .

( وقال في التذكرة : « لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ ) فالضمان صحيح ( وقال الضامن : بل ضمنتُ لك قبله ) أي : قبل البلوغ ، فالضمان باطل ؟ قال : ( فان عيّنا له ) أي : للضمان ( وقتا ) بحيث ( لا يحتمل بلوغه ) أي : بلوغ الضامن فيه ( قدّم قول الصّبي ) وحكم بالبطلان ، لان ذلك يعيّن انه ضمن قبل بلوغه .

ص: 81


1- - قواعد الأحكام : ص177 .

- إلى أن قال : - وإن لم يعيّنا له وقتا ، فالقول قول الضامن بيمينه ، وبه قال الشافعي ، لأصالة عدم البلوغ .

وقال أحمد : القول قول المضمون له ، لأنّ الأصل صحة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل .

والفرق أنّ المختلفين في الشرط المفسد يقدّم فيه قول مدّعي الصحة لاتفاقهما على أهليّة التصرّف ، إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلاّ تصرّفا صحيحا ،

-------------------

( إلى أن قال : وإن لم يعيّنا له وقتا ) لنسيان أو غيره ( فالقول قول الضامن بيمينه ) وذلك تقديما لقول مدّعي الفساد ، اذ ليس لمدّعي الصحة هنا وهو المضمون له اصل يستند اليه ، ولا ظاهر حال - يعوّل عليه - على ما عرفت سابقا - ( وبه قال الشافعي ) ايضا ( لأصالة عدم البلوغ ) واذا اثبت عدم بلوغه لم يثبت له ظهور حال المسلم في الصحة ، فيقدّم قول مدعي الفساد مع يمينه ( وقال أحمد ) بن حنبل هنا : ( القول قول المضمون له ، لأنّ الأصل صحة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل ) فانه سوّى بين الشك الراجع الى اركان العقد ، والشك الراجع الى طروّ المفسد ، ولم يفرق كالمحقق والعلامة بينهما .

هذا ( و الفرق ) بين الشكيّن هو : ( أنّ المختلفين في الشرط المفسد ) إنّما ( يقدّم فيه قول مدّعي الصحة ) لدليلين :

أولاً : ( لاتفاقهما على أهليّة التصرّف ) بسبب تمامية أركان العقد ، ومع تمامية أركان العقد تجري أصالة الصحة في العقود .

ثانيا : ظهور حال من له أهليّة التصرّف في الصحة ( إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلاّ تصرّفا صحيحا ) واذا كان هذان الدليلان في فرض الاختلاف

ص: 82

فكان القولُ قول مدّعي الصحة ، لأنّه مدّعٍ للظاهر . وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ، فليس مع مَن يدّعي الأهليّة : ظاهر يستند اليه ، ولا أصل يرجع اليه .

وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد » ، انتهى موضع الحاجة .

لكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى

-------------------

في الشرط المفسد لمدّعي الصحة (فكان القولُ قول مدّعي الصحة، لأنّه مدّعٍ للظاهر ) اضافة الى اصالة الصحة في العقود بعد تسالمهما على تمامية اركانه كما عرفت .

هذا فيما لو اختلفا في الشروط : واما لو اختلفا في الاركان ، فليس لمدّعي الصحة الدليلان المذكوران كما قال : ( وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ) وهي من اركان العقد ، واذا كان الاختلاف في الاركان ( فليس مع مَن يدّعي الأهليّة : ظاهر يستند اليه ، ولا أصل يرجع اليه ) فيقدّم قول مدّعي الفساد مع يمينه ، ولهذا فرّق المحقق والعلاّمة بين الشكّين .

( وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد » (1) ) لوضوح : ان الرشد ركن في صحة المعاملات والعقود ، فقد قال سبحانه : « فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم » (2) ومع الشك في الركن يقدّم قول مدّعي الفساد ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام العلاّمة في التذكرة .

هذا هو الفرق بين الشكين ( لكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر ) حيث حكم المحقق الثاني والعلامة بعدم جريان أصالة الصحة فيها ( وبين دعوى

ص: 83


1- - تذكرة الفقهاء : ج1 ص87 .
2- - سورة النساء : الآية 6 .

البايع إيّاه ، حيث صرّح المحقق الثاني والعلامة بجريان أصالة الصحة وإن اختلفا بين من عارضها بأصالة عدم البلوغ وبين من ضعّف هذه المعارضة .

وقد حُكِيَ عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلاّمة في مسألة الضمان

-------------------

البايع إيّاه ) أي : الصغر ( حيث صرّح المحقق الثاني والعلامة بجريان أصالة الصحة ) فيها ، مع انهما معا من الشك في المقتضي ، لاختلافهما في المثالين معا في الصغر الذي هو من اركان العقد ( وإن اختلفا ) أي : المحقق والعلامة ( بين من عارضها ) أي : عارض أصالة الصحة وهو العلامة ( بأصالة عدم البلوغ ) وقال : بتساقطهما ( وبين من ضعّف هذه المعارضة ) وقال بجريان أصالة الصحة وهو المحقق الثاني .

وكيف كان : فقد قال العلامة : « لو قال البائع : بعتك وانا صبي ، وقال المشتري : بعتني وانت بالغ ، احتمل تقديم قول المشتري ، لأصالة الصحة ، واحتمل تقديم قول البائع لأصالة عدم البلوغ ، فيتعارضان ويتساقطان ، فيرجع الى أصالة البرائة » أي : البرائة عن الزام احدهما الآخر ببطلان البيع ، لان المفروض ان العلامة يرى صحة البيع ، وقال المحقق الثاني : « ان أصالة عدم البلوغ ضعيفة ، لانهما قد أقرّا بالبيع ، فتجري أصالة الصحة ، فلا يبقى مجال الأصالة عدم البلوغ حتى يعارض » أي : يعارض بأصالة الصحة ويتساقطان ، فأشكل المصنِّف : بانه ما الفرق بين الموردين حتى استدعى الصحة هنا ، والفساد هناك ؟ .

هذا ( وقد حُكِيَ عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلاّمة ) القائل بأصالة الفساد عند الاختلاف في البلوغ وعدمه ( في مسألة الضمان ) اعتراضا

ص: 84

بأصالة الصحة فعارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبقي أصالة البراءة سليمة عن المعارض .

أقول : والأقوى بالنظر الى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال هو التعميم. ولذا لو شك المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره بنى على الصحة .

ولو قيل إنّ ذلك من حيث الشك في تمليك البايع البالغ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ؟

-------------------

( بأصالة الصحة ) في العقود ، وذلك بأن قال لشيخه : ان الاصل في المعاملات الصحة لا الفساد ( فعارضها ) أي : عارض العلامة اصالة الصحة التي اعترض بها عليه تلميذه قطب الدين ( بأصالة عدم البلوغ ) واذا تعارضا تساقطا ( وبقي أصالة البرائة سليمة عن المعارض ) فتكون البرائة هي المحكّمة .

( أقول : والأقوى بالنظر الى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال ) فيما اذا لم يُعمل بأصالة الصحة ( هو التعميم ) لأصالة الصحة في الشكين ، وكذلك عدم التفريق بين الموردين المذكورين ، وذلك باجراء اصالة الصحة فيهما ( ولذا لو شك المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه ) هو بنفسه ( هل اشتراه في حال صغره ) حتى يكون باطلاً ، أو اشتراه في حال كبره حتى يكون صحيحا ؟ ( بنى على الصحة ) حسب قول المشهور ، فانهم عممّوا جريان أصالة الصحة فيها بلا فرق بين الشك بالنسبة الى نفسه أو الشك بالنسبة الى الغير .

هذا ( ولو قيل إنّ ذلك ) أي : البناء على الصحة في معاملة نفسه هو : ( من حيث الشك في تمليك البايع البالغ ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ؟ ) بمعنى : ان القول بجريان أصل الصحة عند شك الانسان في عمل نفسه إنّما هو : لأن طرفه

ص: 85

جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا .

ثم إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانها إن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحة ، وإن أراد الوجود العرفي فهو متحقق

-------------------

كان عند البيع بالغ قطعا ، وأصالة الصحة في عمل طرفه يقتضي الصحة من طرف أيضا وان شك هو في نفسه بانه هل كان بالغا أم لا ؟ .

قلنا : ( جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا ) فان في مورد دعوى احد المتعاملين الصغر ، ايضا ينبغي رعاية حال الطرف الآخر والحكم بالصحة ، لان الطرف لما كان بالغا جرت أصالة الصحة في حقه ، وتتلازم الصحة في عمل احدهما مع الصحة في عمل الآخر ، لان العقد لا يمكن ان يكون بالنسبة الى احدهما صحيحا وبالنسبة الى الآخر باطلاً .

( ثم إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانها ) فلا تجري أصالة الصحة فيما اذا شك - مثلاً - في البلوغ وعدمه لانه من الاركان فما هو المراد من قوله : « لا وجود للعقد » ؟ فانه ( إن أراد الوجود الشرعي فهو ) أي : الوجود الشرعي ( عين الصحة ) ونفسها ، ولا اثنينية بينهما ، فيكون معنى كلام المحقق : انه حيث لا وجود شرعي للعقد قبل استكمال الأركان فلا صحة ، فاشكل عليه المصنِّف : بأنّ الصحة والوجود الشرعي ليس أمرين ، بل هما أمر واحد ، ومع احراز احدهما يحرز الآخر ، فلا يبقى شك ليجري فيه اصالة الصحة .

( وإن أراد الوجود العرفي ) وذلك بان يكون معنى كلام المحقق : انه حيث لا وجود عرفي للعقد فلا صحة شرعي ، فاشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو ) أي : الوجود العرفي متحقق وان لم يكن صحيحا ، اذ الوجود العرفي ( متحقق

ص: 86

مع الشك ، بل مع القطع بالعدم .

وأمّا ما ذكره - من الاختلاف في كون المعقود عليه هو : الحرّ ، أو العبد ؟ - فهو داخل في المسألة المُعَنْوَنة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي « ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ » فراجع كتب الفاضلين والشهيدين .

وأمّا ما ذكره من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال

-------------------

مع الشك ) في بعض الأركان كالبلوغ والعقل وما أشبه ( بل مع القطع بالعدم ) أيضا ، فانا اذا قطعنا بعدم بلوغ البائع وأجرى مع ذلك العقد ، قطعنا بان البيع قد حصل له وجود عرفي ، ومعه لا شك حتى يجري فيه اصالة الصحة .

هذا ما ذكره المحقق الكركي : « من انه لا وجود للعقد قبل استكمال اركانه » ( وأمّا ما ذكره ) مثالاً لعدم جريان الصحة عند الشك في الاركان : ( من الاختلاف في كون المعقود عليه هو : الحرّ ، أو العبد ؟ ) فليس في محله .

وإنّما لم يكن في محله ، لانه قال بعده : « حلف منكر وقوع العقد على العبد » أي : يسلّم الحكم ببطلانه في حين اختلاف الاصحاب قديما وحديثا فيه ، ولذا اشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو داخل في المسألة المُعَنْوَنة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي « ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ » ) حيث قال في الشرايع : « اذا قال : بعتك بعبد فقال : بل بحرّ ، فالقول قول من يدّعي صحة العقد مع يمينه » وقال في المسالك : « ويشكل ذلك مع التعيين ، بان قال : بعتك بهذا العبد ، فقال : بل بهذا الحرّ » . فانه يظهر من ذلك : الاختلاف في هذه المسألة ، فكيف جعل جامع المقاصد هذه المسألة مسلّمة وقاس عليها فيما اذا اختلفا في البلوغ ؟ واذا أردت الاطلاع الاكثر ( فراجع كتب الفاضلين والشهيدين ) وغيرهما .

( وأمّا ما ذكره ) المحقق الثاني : ( من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال

ص: 87

المذكور ، لا مطلقا ، فهو إنّما يتم اذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله ، صحة فعل هذا الفاعل .

كما لو شك في أنّ الابراء أو الوصيّة ، هل صدر منه حال البلوغ أم قبله .

أمّا اذا كان الشك في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ،

-------------------

المذكور ) فهو ليس بتامّ ايضا ، وذلك لان ظهور حال المسلم في الصحة على قول المحقق صار متوقفا على ما اذا استكمل العقد تمام المقتضي وكان الشك في الرافع والمانع والمفسد ( لا مطلقا ) فانه ليس هناك في مقام الشك في المقتضي ظهور ، فاشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو ) أي : التوقف المذكور ( إنّما يتم اذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ ) بحيث ( يستلزم صحة فعله ، صحة فعل هذا الفاعل ) المشكوك البلوغ ، فانه كما سبق : ان الصحة في احد طرفي العقد يلازم الصحة في الطرف الآخر ايضا .

والحاصل : ان التوقف إنّما يتمّ اذا لم يكن احد الطرفين جامعا للشرائط ، فاذا كان جرت الصحة في الطرف الآخر ، سواء كان الشك في المقتضي والاركان ، أم في المانع وطروّ المفسد ، وسواء كان في الضمان ام البيع ام غير ذلك ؟ .

ثم مثّل المصنِّف لقوله : « ولم يكن هناك طرف آخر » مثالاً وهو : ( كما لو شك في أنّ الابراء ، أو الوصيّة ، هل صدر منه حال البلوغ ) حتى يكون صحيحا ( أم قبله ) أي : قبل البلوغ حتى يكون باطلاً ؟ فانه لا مورد هنا للتمسك بظهور حال المسلم البالغ ، اذ لا بالغ مقطوع به في المقام حتى يقال : بان ظاهر هذا الطرف الصحة ، فيتعدّى منه الى الصحة في الطرف الآخر المشكوك بلوغه - مثلاً - .

( أمّا اذا ) علم تمامية بعض اركان العقد وكمال طرف منه ، لكن ( كان الشك في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ) بان اختلفا - مثلاً - في انه هل كان مملوكا

ص: 88

أو في أهليّة أحد طرفي العقد فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الاول ومن الطرف الآخر في الثاني أنّه لا يتصرّف فاسدا .

نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأوّل إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ولا قبول من الغريم ، فانّ الضامن حينئذ فعل واحد ، وشك في صدور من بالغ أو غيره وليس له طرف آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرفه فاسدا .

-------------------

حتى يصح البيع ، أو حرا حتى يبطل ؟ ( أو في أهليّة أحد طرفي العقد ) بان اختلفا - مثلاً - في بلوغه وعدم بلوغه ( فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الاول ) أي : فيما كان الشك في احد العوضين ( ومن الطرف الآخر في الثاني ) أي : فيما كان الشك في أهلية أحد المتعاقدين هو : ( أنّه لا يتصرّف فاسدا ) بل صحيحا ، والصحة من طرف يستلزم الصحة من الطرف الآخر ، فيلزم منه ، ومن اصالة الصحة في العقود ، تقديم قول المدعي الصحة وان كان الشك في الاركان .

( نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من ) المثال ( الأوّل ) وهو : ما اذا كان له طرف واحد فقط، ثم حدث الشك في هذا الطرف الواحد بانه هل كان بالغا - مثلاً - أم لا ؟ وذلك فيما ( إذا فرض وقوعه ) أي : وقوع الضمان ( بغير إذن من المديون ) فلا المديون قد أذن له حتى يكون له طرفان : الضامن والمديون ( ولا قبول من الغريم ) وهو الدائن ، بل تبرّع الضامن هو من نفسه ( فانّ الضامن حينئذ فعل واحد ، و ) لا طرف آخر له ، فلو ( شك في صدور من بالغ أو غيره ) أي : غير بالغ - مثلاً - ( و ) الحال انه ( ليس له طرف آخر ) مقطوع البلوغ حتى يتعدّى منه الصحّة الى هذا الطرف المشكوك البلوغ ، ومعه ( فلا ظهور في عدم كون تصرفه فاسدا ) لانه حسب الفرض لا طرف له .

ص: 89

لكنّ الظاهر : أنّ المحقق لم يُرِد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشملُ كلامه الصورتين الأخيرتين فراجع .

نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة .

ثمّ إنّ

-------------------

هذا ( لكنّ الظاهر ) المستفاد من العبارة هو : ( أنّ المحقق لم يُرِد خصوص ما كان من هذا القبيل ) الذي له طرف واحد ( بل يشملُ كلامه ) أي : كلام المحقق بعدم جريان اصل الصحة ( الصورتين الأخيرتين ) ايضا ، وهما : ما اذا كان الشك في ركن آخر من العقد كأحد العوضين ، وما اذا كان الشك في اهلية احد طرفي العقد ، وهاتان الصورتان يشتركان في كونهما ذا طرفين ، وفي انهما من الشك في الأركان ، وقد قال المحقق بعدم جريان أصل الصحة لو كان الشك في الاركان ( فراجع ) كلام المحقق لتعرف أنّه يشمل حتى هاتين الصورتين .

( نعم ، يحتمل ذلك ) أي : ارادة خصوص الصورة الاولى ذي الطرف الواحد فقط ( في عبارة التذكرة ) للعلامة ، فان عبارته المتقدمة صالحة للحمل على الصورة الاولى فحسب ، وهي : صورة دعوى الضامن الصغر - مثلاً - مع عدم إذن من المديون ، ولا قبول من الغريم ، دون الصورتين الاخيرتين ، وذلك لأنه رحمه اللّه لم يقيّد - كما قيد المحقق - ظهور حال المسلم في الصحة بصورة استكمال الاركان ، حتى تشمل عبارته الصورتين الاخيرتين ايضا .

( ثمّ إنّ ) تقييد المحقق ظهور حال المسلم بصورة استكمال الاركان ، وحصره تقديم قول مدعي الصحة بصورة الاختلاف والشك في الشرط المفسد ، يرجع الى ابطال أصالة الصحة رأسا ، وذلك لأنّ تقديم قول منكر الشرط المفسد وان كان نتيجته الصحة ، إلاّ انه ليس لأن الاصل الصحة ، بل لان الشرط صحيحا كان

ص: 90

تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس تقديم قول مدّعي الصحة ، بل لأنّ القولُ قول منكر الشرط ، صحيحا كان أو فاسدا ، لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا بحديث أصالة الصحة وإن كان مؤدّاه صحة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا .

هذا ، ولابدّ من التأمّل والتتبّع .

-------------------

أو فاسدا اذا شك في وجوده وعدمه ، كان الأصل عدمه .

وعليه : فان ( تقديم قول منكر الشرط المفسد ) للعقد ( ليس تقديم قول مدّعي الصحة ، بل ) أي تقديم قوله إنّما هو ( لأنّ القولُ قول منكر الشرط ، صحيحا كان ) ذلك الشرط كشرط الخيار - مثلاً - ( أو فاسدا ) كان ، كشرط عدم انتقال المبيع إلى المشتري - مثلاً - .

وإنّما القول هنا قول منكر الشرط ( لأصالة عدم الاشتراط ) فان الشرط أمر حادث ، فإذا شك فيه فالأصل عدمه ( ولا دخل لهذا ) أي : لأصل عدم الاشتراط ( بحديث أصالة الصحة ) إذ هو تمسك باستصحاب عدم الشرط ، لا بأصالة الصحة ( وإن كان مؤدّاه ) أي : مؤدّى استصحاب عدم الشرط هو : ( صحة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا ) للعقد ، وذلك بأن كان خلافا للكتاب والسنة ، أو خلافا لمقتضى العقد .

( هذا ) هو بعض الكلام في أصالة الصحة وانها هل تجري مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي ، أم في المانع ، أو لا تجري إلاّ في صورة الشك في المانع فقط ؟ ( ولابدّ من التأمّل والتتبّع ) لأقوال الفقهاء حتى يظهر انهم ماذا فهموا من السيرة وغيرها من الأدلة التي تقدمت دليلاً على أصالة الصحة ؟ .

ص: 91

الثالث :

إنّ هذا الأصل إنّما يُثبت صحة الفعل إذا وقع الشك في بعض الاُمور المعتبرة شرعا في صحته بمعنى : ترتّب الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه .

مثلاً : صحة الايجاب عبارةٌ عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد

-------------------

الأمر ( الثالث : إنّ ) الصحة في المقام يراد بها : ترتيب الأثر المطلوب من الفعل على ذلك الفعل ، لا ترتيب أثر شيء آخر عليه ، فإذا شك - مثلاً - في عقد الفضولي، رتّب عليه النقل والانتقال إذا لحقته الاجازة ، لأن النقل والانتقال من آثار صحة العقد ، وأما إذا شك في ان المالك هل أجاز أم لا؟ لم يرتّب على صحة العقد ان المالك أجاز ، لأن اجازة المالك ليست من آثار صحة العقد .

وعليه : فإنّ ( هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( إنّما يُثبت صحة الفعل إذا وقع الشك في بعض الاُمور المعتبرة شرعا في صحته ) كما إذا شك في انه هل عقد بالعربية أو بالفارسية ، أو كان حين العقد بالغا أو غير بالغ ، أو باع الحر أو العبد ، إلى غير ذلك ؟ ( بمعنى : ترتّب الأثر المقصود منه عليه ) أي : على ذلك الفعل ، لا ترتّب شيء آخر عليه ، وإذا كان كذلك ( فصحّة كلّ شيء بحسبه ) لأن الصحة كما عرفت هو ترتيب الأثر ، والأشياء مختلفة في ترتيب الآثار عليها ، فالأثر المترتّب على الايجاب وحده غير الأثر المترتب عليه مع القبول ، وهكذا .

( مثلاً : صحة الايجاب عبارةٌ عن كونه ) أي : كون الايجاب ( بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد ) فيما إذا كانا جامعين لكل الشرائط فاقدين لكل

ص: 92

في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ، كالايجاب بالفارسي بناء على القول باعتبار العربية ، فلو تجرّد الايجاب عن القبول ، لم يوجب ذلك فساد الايجاب .

فإذا شك في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الايجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحة في الايجاب بوجود القبول ، لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الايجاب .

وكذا لو شك في تحقّق القبض في الهبة ، أو في الصرف ، أو السلم بعد العلم بتحقّق الايجاب والقبول لم يحكم بتحققه ، من حيث أصالة صحة العقد .

-------------------

الموانع ، وذلك ( في مقابل فاسده ) أي : فاسد الايجاب ( الذي لا يكون كذلك ) يعني : انه لا يترتب عليه الأثر ( كالايجاب بالفارسي بناء على القول باعتبار العربية ) أو الايجاب بالعربية الدارجة إذا اشترطنا العربية الفصحى في الايجاب .

وعليه : ( فلو تجرّد الايجاب عن القبول ، لم يوجب ذلك فساد الايجاب ) بما هو هو ، لأن الايجاب قد عمل أثره المترقّب منه ، وهو الأهلية لأن يكون جزء السبب ، ومعه ( فإذا شك في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الايجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحة في الايجاب ) الحكم ( بوجود القبول ) من المشتري ، وذلك ( لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الايجاب ) وحده.

( وكذا لو شك في تحقّق القبض في الهبة ، أو في الصرف ، أو السلم ) حيث ان كل ذلك مشروط صحته بالقبض كما ذكروه في الفقه ، وذلك ( بعد العلم بتحقّق الايجاب والقبول ) فانه لو شك فيه بعدهما ( لم يحكم بتحققه ) أي : تحقق القبض ( من حيث أصالة صحة العقد ) لأنّ أصالة صحة العقد - كما عرفت -

ص: 93

وكذا لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي لم يصح احرازها بأصالة

الصحة .

وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خُلِّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طاريا عليه ، كما لو ادّعى بايع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي

-------------------

لايثمر القبض .

( وكذا لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي لم يصح احرازها ) أي احراز الاجازة ( بأصالة الصحة ) في العقد - وذلك لما عرفت أيضا - .

( وأولى بعدم الجريان ) أي : عدم جريان أصالة الصحة ( ما لو كان العقد في نفسه لو خُلِّي وطبعه ) أي : من دون عروض عارض مصحّح عليه ( مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طاريا عليه ) كبيع الوقف ، فانه ما لم يطرأ عليه مسوّغات البيع لا يجوز بيعه ، فبيع الوقف مبني على الفساد .

وإنّما كان هذا أولى بعدم جريان الصحة ، لأن العقد ونفسه لا يوجب طروّ المصحّح عليه ، وذلك ( كما لو ادّعى بايع الوقف وجود المصحّح له ) أي : لبيع الوقف ، والمصحّح لبيع الوقف هو ما ذكروه في الفقه من المسوّغات العارضة على الوقف ، فإذا باع أحد الوقف ولم يُعلم هل له ما يسوّغ بيعه أم لا؟ لا يمكن القول بوجود المسوّغ من جهة اجراء أصالة الصحة في العقد .

( وكذا ) لو باع ( الراهن ) العين المرهونة ولم يُعلم هل البيع كان باجازة المرتهن أم لا ؟ ( أو ) اشترى ( المشتري من الفضولي ) ولم يُعلم هل أجاز المالك أم لا ؟ فان هذين العقدين لو خلّي وطبعهما من دون اجازة المرتهن والمالك ، اقتضى الفساد ، فأصالة الصحة في العقد لا يوجب في هذين العقدين احراز

ص: 94

إجازة المرتهن والمالك .

ومّما يتفرّع على ذلك أيضا أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن ، والراهن البايع له ، بعد اتفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه في تقديم الرجوع على البيع ، فيفسد أو تأخّره فيصح - فلا يمكن أن يقال ، كما قيل : من أنّ أصالة صحة الاذن يقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحة الرجوع يقضي بكون البيع فاسدا ، لأنّ الإذن والرجوع كلاهما قد فرض

-------------------

( إجازة المرتهن والمالك ) وإنّما يلزم احراز اجازتهما من الخارج ، وكذلك يلزم احراز صحة بيع الوقف من الخارج أيضا ، فالفساد في هذه العقود حاصل بالطبع ولا يرفعه أصالة صحة العقد .

( ومّما يتفرّع على ذلك أيضا ) أي : على الذي ذكرناه : من ان أصل الصحة لا يُثبت شيئا آخر غير ، أثر العقد ، وان صحة الجزء لا يثبت صحة الكل ( أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن ، والراهن البايع له ، بعد ) الاتفاق منهما على صدور الاذن ، وبعد ( اتفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ) وإنّما اختلفا ( في تقديم الرجوع على البيع ، فيفسد ) البيع ، لأنه صدر بلا إذن ( أو تأخره ) أي : تأخر الرجوع عن البيع ( فيصح ) البيع ؟ .

وحينئذ : ( فلا يمكن أن يقال ، كما قيل : ) عن صاحب الجواهر : ( من أنّ أصالة صحة الاذن يقضي بوقوع البيع صحيحا ) وذلك بأن يقال : ان من مقتضيات صحة الاذن : وقوع البيع قبل رجوع الآذن عن اذنه فيكون صحيحا ( ولا أنّ أصالة صحة الرجوع يقضي بكون البيع فاسدا ) وذلك بأن يقال : ان من مقتضيات صحة رجوع الآذن : وقوع البيع بعد الرجوع عن الاذن ، فيكون فاسدا .

وإنّما قلنا : لا يمكن القول بذلك ( لأنّ الإذن والرجوع كلاهما قد فرض

ص: 95

وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره عمّن له أهليّة ذلك والتسلط عليه .

فمعنى ترتب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل المأذون عقيبَ الإذن ترتّب عليه الأثر ولو وقع فعله بعد الرجوع كان فاسدا .

أمّا لو لم يقع عقيب الأوّل فعل ، بل وقع في زمان ارتفاعه ، ففسادُ هذا الواقع لا يخلّ بصحة الإذن ، وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى .

-------------------

وقوعهما على الوجه الصحيح ، و ) معنى وقوعهما على الوجه الصحيح : ( هو صدوره عمّن له أهليّة ذلك ) الاذن والرجوع ( والتسلط عليه ) أي : بأن كان الآذن مسلطا على الاذن ، والراجع مسلّطا على الرجوع .

وعليه : ( فمعنى ترتب الأثر عليهما ) أي : على الاذن والرجوع هو : ( أنّه لو وقع فعل المأذون عقيبَ الإذن ترتّب عليه الأثر ) الذي هو صحة البيع ( ولو وقع فعله ) أي : فعل المأذون ( بعد الرجوع ) من الآذن في اذنه ( كان ) أثره وقوع البيع ( فاسدا ) ومن المعلوم : ان أصل الصحة بهذا المعنى موجود في الاذن وفي الرجوع .

( أمّا لو لم يقع عقيب الأوّل ) أي : عقيب الاذن ( فعل ) أي : فعل البيع ( بل وقع ) ذلك الفعل ( في زمان ارتفاعه ) أي : ارتفاع الاذن ، بأن رجَع الآذن عن اذنه ( ففسادُ هذا ) البيع ( الواقع ) بعد رجوع الآذن عن اذنه ( لا يخلّ بصحة الإذن ) كما هو واضح .

( وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع ) بأن كان البيع قبل الرجوع ( فانعقد ) البيع ( صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى )

ص: 96

نعم ، بقاء الاذن إلى أن يقع البيع ، قد يقضي بصحته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربما يقال : إنّها يقضي بفساده .

لكنّهما لو تمّا لم يكونا من أصالة صحة الإذن بناءا على ان عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ، ولا من أصالة صحة الرجوع التي تمسّك بهما بعض المعاصرين

-------------------

على من له تأمل في البحث .

وعليه : فقول صاحب الجواهر : ان أصالة الصحة في الاذن يقتضي وقوع البيع صحيحا ، وان أصالة الصحة في الرجوع يقتضي وقوع البيع فاسدا ، محلّ نظر .

( نعم ، بقاء الاذن ) من الآذن بالاستصحاب ( إلى أن يقع البيع ، قد يقضي بصحته ) أي : صحة البيع ( وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ) عن الاذن للاستصحاب ( ربما يقال : إنّها ) أي : أصالة عدم البيع على ما قاله صاحب الجواهر ( يقضي بفساده ) أي : فساد البيع أيضا .

( لكنّهما لو تمّا ) أي : تمّ هذان الأصلان : أصل بقاء الاذن ، وأصل عدم البيع قبل الرجوع فهما من الاستصحاب ، لا من أصالة الصحة ، وقال : « لو تمّا » لأنهما من الأصل المثبت ، والأصل المثبت ليس بحجة ، فانه على فرض تماميتهما ( لم يكونا من أصالة صحة الاذن ) وان انتج أصل بقاء الاذن صحة البيع .

وإنّما لم يكن أصل بقاء الاذن من أصالة الصحة وان انتج صحة البيع ( بناءا على ان عدم وقوع البيع بعده ) أي : بعد الاذن ( يوجب لغويّته ) أي : لغوية الاذن ، واحترازا من لغوية الاذن جعل صاحب الجواهر أصل بقاء الاذن من أصل الصحة ( ولا ) ان أصالة عدم البيع قبل الرجوع عن الاذن المقتضي لفساد البيع ( من أصالة صحة الرجوع التي تمسّك بهما بعض المعاصرين ) وهو صاحب الجواهر ، فانه

ص: 97

تبعا لبعض .

والحقّ في المسألة ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع وعدم جريان أصالة الصحة في المقام ، لا في البيع ، كما استظهره الكركي ولا في الإذن ، ولا في الرجوع .

-------------------

جعل أصالة عدم البيع من أصالة صحة الرجوع مع انه لم يكن منها ، احترازا من لغوية الرجوع لو لم يقع البيع بعده ، وذلك ( تبعا لبعض ) آخر من الفقهاء .

والحاصل : ان صاحب الجواهر تصور ان صحة الاذن عبارة عن وقوع البيع بعده ، حتى إذا لم يقع البيع بعده لم يكن الاذن صحيحا ، وكذلك صحة الرجوع عبارة عن تأخر البيع عنه ، فإذا لم يتأخر البيع عنه لم يكن الرجوع صحيحا ، لكن ما تصوّره صاحب الجواهر غير تام ، إذ قد عرفت : ان صحة الاذن عبارة عن كونه بحيث لو وقع البيع بعده لصحّ ، لا ان الصحة تقتضي وقوع البيع بعده فعلاً ، وكذلك صحة الرجوع معناها : كون الرجوع بحيث لو تأخر البيع عنه لفسد ، لا أنّه متأخر عنه فعلاً .

( والحقّ في المسألة ) أي : المسألة التي ذكرها صاحب الجواهر ( ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع ) فان البيع إنّما يصح إذا وقع قبل رجوع الآذن ، والمفروض : عدم العلم به ، فيحكم بفساده ( وعدم جريان أصالة الصحة في المقام ، لا في البيع ، كما استظهره الكركي ) أي : المحقق الثاني قدس سره ( ولا في الإذن ) بعد الاتفاق على صدوره ( ولا في الرجوع ) عن الاذن أيضا ، فانه لو علم برجوع الآذن ، لكن لم يُعلم هل ان رجوعه كان قبل البيع أو كان بعده ؟ حكم بفساد البيع لعدم جريان الصحة فيه .

ص: 98

أمّا في البيع ، فلأنّ الشك إنّما وقع في رضا من له الحق ، وهو المرتهن ، وقد تقدّم : أنّ صحة الايجاب والقبول لا يقضي بتحقق الرضا مّمن يعتبر رضاه ، سواء كان مالكا كما في البيع الفضولي ، أم كان له حقّ في المبيع كالمرتهن .

وأمّا في الإذن ، فيما عرفت من أنّ صحّته يقضي بصحة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ، كما أنّ صحة الرجوع يقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده .

-------------------

( أمّا ) عدم جريان أصالة الصحة ( في البيع ) نفسه ( فلأنّ الشك إنّما وقع في رضا من له الحق ، وهو المرتهن ) وإذا لم نعلم برضاه لم يتمكن من الحكم بصحة البيع ( وقد تقدّم : أنّ صحة الايجاب والقبول ) المقتضي لصحة العقد ( لا يقضي بتحقق الرضا مّمن يعتبر رضاه ) في صحة العقد ( سواء كان ) من يعتبر رضاه ( مالكا كما في البيع الفضولي ، أم كان له حقّ في المبيع كالمرتهن ) أو كالمتولي للوقف ، أو القيّم على أموال الأيتام ، أو ما أشبه ذلك ؟ .

( وأمّا ) عدم جريان أصالة الصحة ( في الإذن ، فيما عرفت ) أيضا : ( من أنّ صحّته يقضي بصحة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه ) أي : وقوع البيع عقيب الاذن ( لا ) انه يقضي ( بوقوعه عقيبه ) فعلاً ، فان وقوع البيع عقيب الاذن إنّما يلزم أن يعرف من الخارج .

( كما أنّ صحة الرجوع يقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ) أي : بعد الرجوع، لكنه ( لا ) يقضي ( أنّ البيع وقع بعده ) أي : بعد الرجوع فان ذلك يلزم أن يعرف من الخارج .

ص: 99

والمسألة بعد محتاجةٌ إلى التأمّل ، بعد التتبّع في كلمات الأصحاب .

الرابع :

إنّ مقتضى الأصل ترتيب الشاك جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده .

-------------------

( و ) كيف كان : فان ( المسألة بعد محتاجةٌ إلى التأمّل ، بعد التتبع في كلمات الأصحاب ) رضوان اللّه عليهم ، وهذا تأدّب من المصنّف امام صاحب الجواهر - كما لا يخفى - وإلاّ فالمطلب حسب القواعد على نحو ما ذكره المصنِّف .

الأمر ( الرابع : ) في البحث عن مطلبين وهما :

1 - ترتيب جميع الآثار على ما اُجري فيه أصالة الصحة .

2 - احراز العنوان على العمل المأتي به .

وعليه : فلو ان شخصا صلّى أو صام أو حج عن الميت أو حج عن الحي الذي لا يتمكن من الحج ، ثم شككنا في صحته وفساده ، فهل يشترط في جريان الصحة احراز العنوان على العمل المأتي به أم لا؟ وإذا أحرزنا العنوان فهل يحمل على الصحيح بأن لا يحتاج الوصي ولا الولي إلى اعطاء صلاة وصيام وحج عن الميت مرة اُخرى، وكذا لا يحتاج الحي إلى الاستنابة ثانيا ، أو لا يحمل على الصحيح؟ احتمالان .

قال المصنّف : ( إنّ مقتضى الأصل ) أي : أصل الصحة في عمل الغير هو : ( ترتيب الشاك جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده ) بحيث يسقط التكليف عن الشاك فيما إذا كان التكليف كفائيا ، ويستحق الفاعل الاجرة فيما إذا كان العمل جائز الاستنابة ، وكان أخذ الاجرة عليه جائزا .

ص: 100

فلو صلّى شخص على ميّت سقط عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته ، وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده على النجاسة لا إن علم بمجرّد غسله ، فانّ الغَسل من حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد .

ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج ولم يُعلم قصدُه تحقّق هذه العبادات لم يُحمل على ذلك .

-------------------

وعليه : ( فلو صلّى شخص على ميّت ) بعنوان صلاة الميّت ( سقط عنه ) أي : عن الشاك الذي يشك في ان هذه الصلاة من هذا المصلّي هل كانت صحيحة أم لا ؟ ( ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير ) الشرعي ، لا مجرّد الغسل ( حكم بطهارته ) ورتّب الشاك آثار الطهارة على هذا الثوب ، واستحق الغاسل الاجرة ، حتى ( وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده ) أي : ورود الماء ( على النجاسة ) فيما إذا غسله بالقليل ، وغير ذلك .

( لا إن علم بمجرّد غسله ) بدون احراز عنوان التطهير من الغاسل ( فانّ ) ظاهر ( الغَسل من حيث هو ) أي : بلا لحاظ عنوان التطهير ( ليس فيه صحيح وفاسد ) لأنه فعل تكويني خارجي وقد تحقق خارجا ، سواء قصد أم لم يقصد ، وإنّما الشيء الذي يحتاج إلى القصد هو الغَسل الشرعي الذي يتعقبه الطهارة ، فانه ما لم يحرز العنوان لم يجر فيه أصالة الصحة حتى يترتب عليه الآثار .

وكذلك يكون حال الصلاة والصيام والحج عن الميت ، أو الحج عن العاجز ، أو غير ذلك من الامور القصدية ( ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج ) من رمي ، أو ذبح ، أو ما أشبه ( ولم يُعلم ) هل كان ( قصدُه تحقّق هذه العبادات ) بعناوينها أم لا؟ ( لم يُحمل على ) انه قصد ( ذلك )

ص: 101

نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل أو من حيثية اُخرى .

وقد يشكل الفرق بين ما ذكر :

-------------------

أي : قصد عنوان تحقق العبادة والعمل الشرعي .

( نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه ) أي : تحقق ذلك العمل ، كما لو أخبر بأنه قصد عنوان الطهارة ، أو الصلاة ، أو نسك الحج ، أو ما أشبه ذلك ( أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل ) وخبر العادل حجة في ما عدا المنازعات ، حيث ان في المنازعات يحتاج الأمر إلى عادلين ( أو من حيثية اُخرى ) كما لو كان المخبر ثقة ، فان خبر الثقة كافٍ لقوله عليه السلام : « والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) ومن المعلوم : ان خبر الثقة استبانة ، أو كان المخبر ذا يد ، وقول ذي اليد معتبر ، أو كان الأمر ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، وقد ذكر الفقهاء : ان ما لا يعلم إلاّ من قبله يكون قول الشخص فيه حجة .

( و ) إن قلت : إذا كان الفعل القصدي من النائب والأجير ، لا يحمل على الصحيح ليُرتب عليه آثاره ما لم يحرز انه قصد عنوانه كما ذكرتم ، فلماذا قال الفقهاء في الواجبات الكفائية : انه - مثلاً - إذا غُسّل الميّت وصلّي عليه اكتفى الشاك بغسله وصلاته ، مع أنّهما عنوانان قصديّان يحتمل فيهما قصد تنظيف الميت لا غسله ، والدعاء للميت لا الصلاة عليه؟ فما هو الفرق بين الواجبات الكفائية والاُمور النيابية حتى استدعى التفريق بينهما ؟ .

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( قد يشكل الفرق بين ما ذكر :

ص: 102


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها ، إلاّ أن يكون عادلاً ، ولو فرّق بينهما بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ، لإحتمال تركه لها بالمرّة أو إتيانه بمجرّد الصورة ، لا بعنوان أنّها صلاة عنه ،

-------------------

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله ) أي : حمل الشاك تلك الصلاة التي هي من الواجبات الكفائية ( على الصحيح ، وبين الصلاة ) نيابة ( عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها ) أي : بهذه الصلاة التي هي من الاُمور النيابية ( إلاّ أن يكون ) النائب ( عادلاً ) ويُخبر بأنه قد صلّى صلاة صحيحة عن ميتهم .

وعليه : فلماذا هذا الفرق بين الموردين ، مع انه لا فارق بينهما؟ فاللازم امّا عدم حمل شيء من الموردين على الصحيح ، واما حملهما معا على الصحيح .

هذا ( ولو فرّق بينهما ) أي : بين الموردين : ( بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة ) أي : ابراء ذمة الميت ، إذ لا نعلم انه قصد بالصلاة عنوان الابراء أم لا ؟ ( و ) لا نعلم أيضا ( إتيان الصلاة على أنّها صلاة ) إذ لعله قصد مجرّد الدعاء ، وإنّما لا نعلم ذلك ( لإحتمال تركه لها بالمرّة ) بأن لم يأت بالصلاة إطلاقا ( أو إتيانه بمجرّد الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه ) أي : عن الميت ، ولذا يشترط عدالته بينما الصلاة على الميت في الواجب الكفائي ليس كذلك لاحراز العنوان فيه غالبا والشك في صحته ، فلا يشترط فيه العدالة .

والحاصل : إن الفارق بين الموردين هو : ان الصلاة على الميت يُكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا أحرز قصد عنوان صلاة الميت من المصلي وشك في الصحة كما هو الغالب ، حيث نرى ان بعض الناس يصلون على الأموات ،

ص: 103

اختصّ الاشكال بما إذا علم من حاله : كونُه في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت ، إلاّ أنّه يُحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ،

-------------------

لكن لا نعلم هل انهم يصلون صحيحا أم لا؟ فالحمل على الصحة يقتضي أن نحمل صلاتهم على الصحيح ، بينما الصلاة نيابة عن الميت لا يُكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا لم يحرز قصد العنوان ، بل احتمل الترك رأسا ، أو الاتيان بالصورة بدون قصد الصلاة ، أو قصد النيابة ، ومن المعلوم : ان أصالة الصحة لا تنفع لاحراز قصد العنوان ، فلابدّ من اعتبار العدالة في النائب حتى إذا أخبر بأنه صلّى عن ميّتهم يُكتفى به .

ثم أشكل المصنّف على هذا الفرق : بأن الفقهاء يشترطون العدالة في النائب ، سواء عُلم بأنه قصد العنوان أم لا ، مع ان مقتضى ما ذكرتم من الفارق ، إنّما يوجب العدالة فيما إذا لم يُعلم بأنه قصد العنوان أم لا فقط ، دون ما لو علم بأنه قصد العنوان فيبقى الاشكال عليهم مختصا بصورة ما اذا علم بأنه قصد العنوان ليقال لهم : إذا عُلم عنوان صلاة الميت ، وعنوان صلاة النائب ، فلماذا تكتفون بصلاة الميت وان لم يكن المصلي عادلاً ، ولا تكتفون بالصلاة عن الميت إذا لم يكن المصلي عادلاً ؟ .

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( اختصّ الاشكال ) أي : إشكال الفرق باشتراط العدالة في النائب دون غيره ( بما إذا علم من حاله : كونه ) أي : النائب ( في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت ) في الصلاة نيابة عنه ( إلاّ أنّه يُحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ) حتى يكون الشك لهذا الاحتمال في الصحة وعدم الصحة ( كما يحتمل ذلك ) أي : عدم المبالاة ( في الصلاة على الميّت ) أيضا ،

ص: 104

إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة .

وقد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّى ء العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّى ء صحيحا .

ولعلّه لعدم احراز كونه في مقام إبراء ذمّة العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه .

-------------------

فيكون الموردان متساويين من هذه الجهة ، فلماذا فرّقوا بينهما من جهة الحمل على الصحة باشتراط العدالة في النائب دون غيره؟ ( إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة ) التي ثبت انه صلّى عن الميت لكن شك فيها لاحتمال عدم مبالاته بما يخلّ بها ، فيلتزم فيها بالصحة بلا اشتراط العدالة فيه .

( و ) من ذلك الاشكال المتقدّم يظهر الاشكال فيما ( قد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّى ء العاجز عن الوضوء ) حيث قالوا : ان فعل الموضّئ لا يحمل على الصحيح ، فان إطلاقه يشمل حتى صورة ما ( إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّى ء صحيحا ) أي : بأن شك العاجز في صحته وفساده بعد احرازه قصد العنوان .

( ولعلّه ) أي : لعلّ هذا الحكم على إطلاقه إنّما هو ( لعدم احراز كونه ) أي : الموضّئ( في مقام إبراء ذمّة العاجز ) وقد سبق ان احرازه شرط لاجراء الصحة ، فيحمل كلام المطلقين على هذه الصورة ، لا على صورة مجرّد الشك في الصحة واللاصحة كما قال : ( لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه ) أيضا ، فانه في هذه الصورة ، وهي صورة احراز العاجز من الموضّى قصد العنوان ، لكن شك في صحته لمجرّد احتمال عدم مبالاة الموضّى ، فانه كالشك في صحة وضوئه لمجرّد عدم مبالاته ، هو يكون من موارد

ص: 105

ويمكن أن يقال - فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير ،

-------------------

جريان أصالة الصحة .

أقول : حيث ان مستند أصل الصحة بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع ، اختص بما يوجد فيه الدليل المذكور ، وهو : ما إذا تعارف الاعتماد على الغير ، سواء علم بالعمل أم لم يعلم به ، فإذا مات في جوار الانسان شخص - مثلاً - حمل الجار عمل أهل الميت على الصحيح ، مع انه لا يعلم هل انهم يغسلوه ويكفّنوه ويصلون عليه ويدفنونه حسب الموازين الشرعية أم لا؟ ولا يقال لوجود الاطمئنان ، إذ أن ذلك كافٍ حتى في الأرياف البعيدة والقرى المنقطعة ، بينما في مسائل النيابة لا يتعارف الاعتماد على الغير إلاّ على الثقة ، ولذا لا يكتفون فيها بغير الثقة ، وبعد كونه ثقة لا يحتاج إلى اخباره بأنه عمل أم لا ؟ .

( ويمكن أن يقال ) في توجيه الفرق بين الموردين ، يعني : بين اعتمادهم على المصلّي في الصلاة على الميت وان لم يكن عادلاً ، وعدم اعتمادهم على المصلي في الصلاة عن الميت إلاّ إذا كان عادلاً هو : ان أصل الصحة يجري في الأوّل ، دون الثاني ، وذلك لأن الثاني فيه حيثيتان : حيثية الصدور عن النائب ، وحيثية الوقوع عن المنوب عنه ، فمن حيث ان الصلاة فعل النائب يجري فيه اصل الصحة ، ومن حيث أنّها لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه ، فلا دليل على الاسقاط ، فلا يجري فيه أصالة الصحة ، ولذا لا يكتفون بأصالة الصحة في الصلاة النيابية حتى ولو أحرز فيها العنوان ، إلاّ مع عدالة النائب .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : ويمكن القول ( فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير ) أي : عن المنوب عنه ،

ص: 106

المكلّف بالعمل أوّلاً وبالذات ، كالعاجز عن الحج - : إنّ لفعل النائب عنوانين .

أحدُهما : من حيث أنّه فعلٌ من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط .

وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل : استحقاق الأجرة وجواز استيجاره ثانيا ، بناءا على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا .

والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة

-------------------

وهو ( المكلّف بالعمل أوّلاً وبالذات ، كالعاجز عن الحج ) فان التكليف أولاً وبالذات متوجه إلى العاجز ، وثانيا وبالعرض إلى النائب ، فالنائب يفعل فعل العاجز ، ولهذا فقد ظهر ( إنّ لفعل النائب عنوانين ) كالتالي :

( أحدهما : من حيث أنّه فعلٌ من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة ) كل ما يلزم رعايته في فعله الشخصي من ( الأجزاء والشروط ) وفقد الموانع والقواطع ( وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ) أي : من النائب لجريان أصالة الصحة فيه ( مثل : استحقاق الاجرة وجواز استيجاره ثانيا ) لحج آخر ( بناءا على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا ) وإلى غير ذلك من آثار صدور الفعل الصحيح منه .

( والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه ) أي : المنوب عنه ( بمنزلة الفاعل ) فانه إذا ناب إنسان عن إنسان كان كل واحد منهما بمنزلة الآخر ، وذلك ( بالتسبيب أو الآلة ) فان معنى كونه بمنزلة الفاعل : انه سبب لفعل النائب

ص: 107

وكان الفعل - بعد قصد النيابة والبدليّة - قائما بالمنوب عنه .

وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والاتمام في الصلاة ، والتمتع والقِران في الحج ، والترتيب بالفوائت .

والصحة من الحيثية الاُولى لا يثبتُ الصحة من هذه الحيثية الثانية ،

-------------------

كما في الحج عن العاجز ، أو انه آلة للفعل كما في المُوضّئ للعاجز عن الوضوء ( و ) إذا كان كذلك ( كان الفعل - بعد قصد النيابة والبدليّة - قائما بالمنوب عنه ) لأنه لهذا الفعل يسقط التكليف عن ذمة المنوب عنه .

( وبهذا الاعتبار ) المذكور يلزم على النائب ان ( يراعى فيه ) أي : في العمل النيابي تكليف المنوب عنه من ( القصر والاتمام في الصلاة ) النيابية ، فلو كان النائب حاضرا فعليه أن يصلّي قصرا عن الميت الذي فاتته صلاة القصر ، وبالعكس ( و ) كذلك على النائب ان يراعي تكليف المنوب عنه من ( التمتع والقِران في الحج ) النيابي ، فإذا كان تكليف النائب نفسه القران ، لكنه حج عمّن كان تكليفه التمتع فعليه أن يأتي بالتمتع ، وبالعكس ( والترتيب بالفوائت ) النيابية ، فان النائب إذا لم ير الترتيب في الفوائت ، لكنه ناب عمّن يرى الترتيب فيها ، لزم عليه مراعاة الترتيب .

والحاصل : ان على النائب ان يأتي بتكليف المنوب عنه لا بتكليف نفسه ، ممّا يدلّ على ان لفعل النائب حيثيتين : صدورية ووقوعية ، وأصالة الصحة إنّما تجري فيما يأتي به النائب من حيث انه فعل النائب ، وهي الحيثية الصدورية ، لا من حيث انه فعل المنوب عنه التي هي الحيثية الوقوعية ( والصحة من الحيثية الاُولى ) أي : من حيث الصدور وكونه فعل النائب ( لا يثبتُ الصحة من هذه الحيثية الثانية ) أي : من حيث الوقوع وكونه فعل المنوب عنه .

ص: 108

بل لابدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب .

وبعبارة اُخرى : إن كان فعلُ الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث انّه فعل الغير ، كَفَت أصالة الصحة في السقوط ، كما في الصلاة على الميت .

-------------------

( بل لابدّ من ) ان يكون النائب عادلاً ، حتى إذا أخبر بأنه أتى بالعمل النيابي صحيحا يكون قوله حجة ، فيوجب قوله ذلك ( إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب ) كما في مثال الحج عن العاجز ، وعن الميّت ، أو على وجه الآلية ، كما في مثال العاجز الذي يستعين بمن يوضّئه .

وعلى هذا : فما يأتي به النائب من فعل ، فمن حيث انه فعله وصادر عنه يحمل على الصحة ، ومن حيث وقوعه عن المنوب عنه أو عمن اتخذه آلة ، ليسقط ما في ذمتهما من التكليف فلا يجري فيه الصحة ، ولذا يلزم من هذه الحيثية أن يكون النائب عادلاً حتى يكون خبره حجّة يعتمد عليه لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه من التكليف .

هذا ، ولا يخفى وجه النظر في هذا الكلام ، وذلك لأن التلازم بين اتيان النائب بالعمل صحيحا ، وبين كون عمله هذا مسقطا لما في ذمة المنوب عنه من التكليف ، هو ما يفهمه العرف ، فإذا كان أصل الصحة يدل على الأوّل فانه يدلّ على الثاني أيضا .

ثم إنّ المصنّف لخّص هنا توجيه الفرق بين الموردين بقوله : ( وبعبارة اُخرى : ) انّ الفرق بين الصلاة على الميت ، حيث تجري فيها الصحة ، وبين الصلاة عن الميت حيث لا تجري فيه الصحة ، هو : ( إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ) أي : عن الآخر ( من حيث انّه فعل الغير ) أي : بلا قصد نيابة عن الآخر ( كفت أصالة الصحة في السقوط ) عن الآخر ( كما في الصلاة على الميت )

ص: 109

وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلاً له ولو على وجه التسبيب - كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه وببدن غيره ، كما في استنابة العاجز للحج - لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ، فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة

-------------------

فان المصلّي على الميت يؤدّي تكليف نفسه ، لكن اسقاط التكليف عن نفسه يوجب سقوط تكليف الباقين أيضا لفرض كون الواجب كفائيا ، ففي هذا الفرض يجري أصل الصحة .

( وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه ) أي : عن الآخر ( من حيث اعتبار كونه فعلاً له ) أي : فعلاً للآخر ( ولو على وجه التسبيب ) أي : لا على وجه المباشرة ، فان المباشر هو النائب لكن الآخر هو السبب لفعل النائب ، وذلك ( كما إذا كلّف ) الآخر ( بتحصيل فعل ) كالحج - مثلاً - ( بنفسه ) لو كان متمكنا منه ( وببدن غيره ) أي : ببدن النائب لو كان عاجزا عنه ( كما في ) مثال ( استنابة العاجز للحج ) فان التكليف أولاً وبالذات متوجّه إلى الآخر ، لكنه لعجزه لزم عليه أن يأتي به ببدن الغير ، فحج الغير يسقط التكليف عن الآخر من حيث انه حج الآخر لكن مع الاحراز ، لا مع الشك ، فلو شك ( لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه ) أي : سقوط التكليف عن الآخر ، لعدم الدليل على هذا السقوط حتى وان نفع أصل الصحة من حيث انه فعل الغير .

( بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ) : حيثيّة الصدور من الغير وهو النائب ، وحيثية الوقوع عن الآخر وهو المنوب عنه ( فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة ) من حيث الصدور ، لجريان أصل الصحة فيه وان لم يكن عادلاً

ص: 110

وعدم برائة ذمّة المنوب عنه من الفعل ، وكما في استئجار الوليّ للعمل عن الميت .

لكن يبقى الاشكال في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ وبرائة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله ، لا من حيث اعتباره فعلاً للوليّ .

-------------------

( وعدم برائة ذمة المنوب عنه من الفعل ) من حيث الوقوع ان لم يكن النائب عادلاً ، لعدم جريان أصل الصحة فيه .

( وكما في ) مثال ( استئجار الوليّ ) أي : ولي الميت نائبا ( للعمل عن الميت ) فانه إذا استأجر ولي الميت من يصلّي أو يصوم أو يحج عن الميت ، فيلزم على الولي اعطاء الأجير والنائب الأجرة ، لكن إنّما يسقط التكليف من مثل الصوم والصلاة والحج وما أشبه عن ميته إذا كان ذلك الأجير والنائب عادلاً ، وذلك على ما عرفت .

( لكن يبقى الاشكال ) هُنا يعني : ( في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ ) فيه حيث واحد لا حيثيتان ، لانه يكفي فيه مجرد قصد اتيان ما على الميت ، و ( لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ ) وذلك لأن المقصود منه ابراء ذمة الميّت عمّا عليه من التكليف ( وبرائة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله ) أي فعل الغير فقط ( لا من حيث اعتباره فعلاً للوليّ ) أي : للآخر أيضا ، فالنيابة عن الميت لها حيثية واحدة لا حيثيتان ، وإذا كان كذلك فالتوجيه الذي ذكر لعدم اسقاط فعل النائب ، الحج عن ذمة العاجز الحي ، لا يأتي هنا في مسألة الاستنابة والاستيجار للعمل عن الميت .

ص: 111

فلابدّ من أن يكتفي باحراز اتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة الميت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الاُخر .

ولابدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التامّ في كلمات الأعلام .

-------------------

وعليه : فإذا كان في الاستيجار للعمل عن الميت حيث واحد ( فلابدّ من أن يكتفي باحراز اتيان ) النائب والأجير ( صورة الفعل بقصد ابراء ذمّة الميت ) فقط وليس أكثر ، يعني : لابدّ فيه من احراز حيث الصدور ، فإذا احرز ، فلا يشك فيه من حيث الوقوع عن الميت واسقاط ما في ذمته ، إلاّ من جهة احتمالات اُخرى : ككون النائب غير مبال بالاجزاء والشرائط - مثلاً - فلا يعتنى به ( ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الاُخر ) وذلك لجريان أصالة الصحة فيها .

أقول : لكن يمكن فرض الحيثيتين هنا أيضا ، لأن اسقاط النائب تكليف الوصي أو الولي باستيجاره للعمل عن ميته ، لا دليل عليه ، فلا تجري أصالة الصحة في عمل النائب والأجير من حيث الوقوع عن الميت حتى يسقط ما في ذمة الميّت ، وحينئذ فلا فرق بين استيجار الحي للعمل عن العاجز ، وبين استيجار الولي أو الوصي للعمل عن الميت من هذا الحيث .

هذا ( ولابدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التام في كلمات الأعلام ) لكن قد عرفت سابقا : إنّ الأصح هو : جريان أصالة الصحة في الحيثيتين للتلازم بينهما .

ص: 112

الخامس :

إنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح .

إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه ، فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يُملك ، كالخمر والخنزير ، أو بعينٍ من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين

-------------------

( الخامس ) : إذا أجرى زيد بيعا - مثلاً - فلم نعلم هل انه باع خنزيره أو شاته؟ فهل أصل الصحة يُثبت انه باع شاته - الذي هو من الاُمور الخارجة عن حقيقة البيع الصحيح وليس من آثاره بل من لوازمه - حتى يكون معناه : انه إذا مات زيد كان وارثه مكلّفا باعطاء شاة زيد للمشتري ، أو ان اصل الصحة لايثبت الاّ ما هو من آثار العقد الصحيح ، وهذا ليس من آثاره ؟ .

قال المصنِّف : ( إنّ الثابت من القاعدة المذكورة ) أي : أصالة الصحة هو : ( الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح ) كالنقل والانتقال في البيع والاجرة في الاجارة ، وما أشبه ذلك ( إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة ) الفعل ( الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه ) أي : لا دليل على ترتب ما يلازم الصحة على العمل المشكوك الذي أجري فيه الصحة .

وعليه : ( فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير ) كزيد الذي قد مات ، هل ( كان بما لا يُملك كالخمر والخنزير ) حتى تفسُد المعاملة ( أو بعينٍ من أعيان ماله ) الذي يصح اجراء المعاملة عليه كالماء والشاة حتى تصح المعاملة ؟ ( فلا يحكم بخروج تلك العين ) المعيّنة بجريان أصالة الصحة في المعاملة

ص: 113

من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأصالة عدمه .

وهذا نظير ما ذكرنا سابقا من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ، أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ،

-------------------

( من تركته ) أي : من تركة زيد على ما في المثال ( بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته ) أي : تركة زيد ( إلى البائع ، لأصالة عدمه ) أي : عدم الانتقال .

وإنّما يحكم هنا بالصحة ، وعدم الانتقال : لأن أصالة الصحة في العقود تقول بصحة المعاملة ، وأصالة عدم انتقال الشاة عند الشك في الانتقال وعدمه تقول بعدم انتقال الشاة ، وحينئذ فلابدّ من الصلح ، أو اقامة البينة ، أو ما أشبه ذلك من الاُمور التي هي المرجع في أمثال هذه المنازعات ، أو اجراء قاعدة العدل بتنصيف ما لكل من الوارث والبائع بينهما ، وذلك لأن البائع امّا له الشاة أو الثمن ، وكذلك الوارث امّا له هذا أو هذه ، فيُعطى كل واحد منهما نصف الشاة ونصف الثمن لقاعدة العدل ، أو تجري قاعدة القرعة ، لكنّا ذكرنا في مباحث مفصّلة في الفقه وغيره : إنّ قاعدة القرعة لا تجري مع جريان قاعدة العدل .

( وهذا ) الذي ذكرناه من الحكم بشيء لجهة أصالة الصحة وعدم الحكم بلازمه هو ( نظير ما ذكرنا سابقا ) في قاعدة التجاوز : ( من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ) وهو في وسط الصلاة ؟ فان للظهر حيثيتين : حيثيّة نفسية لوجوبها النفسي ، وحيثيّة مقدّميّة ليصح بعدها العصر ، قلنا : ( أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ) أي : من حيثيّته المقدّميّة ، فيكون الدخول في العصر موردا لأصالة الصحة ، بينما

ص: 114

لا فعل الظهر من حيث هو ، حتى لا يجب اتيانه ثانيا ، إلاّ أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه .

قال العلاّمة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : « لو قال آجرتُك كلّ شهر بدرهم ، فقال بل سنةً بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظرٌ ،

-------------------

( لا ) يُحكم بلازمه وهو : ( فعل الظهر من حيث هو ) أي : من حيثيّته النفسية لأن أصالة الصحة لا تثبت أكثر من صحة الدخول في العصر ، اما الظهر من حيث هو واجب نفسي فلا تثبت فعله ( حتى لا يجب اتيانه ثانيا ) بل عليه إذا أتمّ العصر أن يأتي بالظهر أيضا ( إلاّ أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ) وحينئذ فلا يجب إتيان الظهر ثانيا ، وذلك لأن الدخول في العصر يعدّ تجاوزا عن الظهر ، فيشمل الظهر قاعدة التجاوز القائلة بعدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه ، وحينئذ فإذا أتم العصر لايلزمه الاتيان بالظهر ثانيا أيضا .

وهذا أيضا نظير ما ذكره العلاّمة في قواعده ( قال العلاّمة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : « لو قال ) الموجر : ( آجرتُك كلّ شهر بدرهم ) فان مقتضى القاعدة بطلان هذه المعاملة ، لأنها غرريّة حيث لم يعيّن فيها عدد الأشهر - على ما هو المشهور - وان كنا نستظهر عدم البطلان ، حيث انه ليس بغرر ، ولا دليل خاص على بطلان مثله ، ولكن بناءا على المشهور ، لو قال الموجر ذلك لتكون المعاملة باطلة ( فقال ) المستأجر : ( بل سنةً بدينار ) لتكون المعاملة صحيحة لانتفاء الغرر حينئذ بتعيّن المدة ( ففي تقديم قول المستأجر ) تمسّكا بأصالة الصحة ( نظرٌ ) لأن أصالة الصحة تفيد ترتيب آثار العقد ، وليس اجارة سنة بدينار من آثار العقد ، بل هو لازم عقلي لتعيّن المدّة ، ولازم الشيء لا يثبت بأصالة الصحة ، فيقدّم قول مدّعي الفساد .

ص: 115

فان قدّمنا قول المالك ، فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل .

وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » ، انتهى .

-------------------

ثم قال العلاّمة : ( فان قدّمنا قول المالك ) وهو الموجر الذي قال : « آجرتك كل شهر بدرهم » المدّعي لفساد المعاملة ( فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل ) فقط ، لأنه متفق عليه بينهما ، وإنّما المجهول ما زاد على الشهر ، فتكون الاجارة فاسدة بالنسبة إلى الأكثر من الشهر .

ثم أضاف العلامة بعد ذلك قائلاً : ( وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة ) لتكون المعاملة صحيحة ، كسنة - مثلاً - بعد اتفاقهما على مقدار الاُجرة ( أو عوضا معيّنا ) كدينار - مثلاً - لتكون المعاملة صحيحة بعد اتفاقهما على مقدار المدة ( وأنكر المالك التعيين فيهما ) أي : في المدة بالنسبة للشق الأوّل ، والعوض بالنسبة للشق الثاني لتكون المعاملة باطلة ، فهل يؤخذ بأصل الصحة الذي هو مقتضى كلام المستأجر أم بأصل الفساد الذي هو كلام المالك ؟ .

قال العلامة : ( والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » (1) ) أي : يُقدّم قول مدّعي الصحة ما لم يتضمن دعواه إدّعاء شيء زائد على الصحة ، لازم له ، فان أصل الصحة - كما عرفت - إنّما يثبت ما هو أثر العقد ، ولا يثبت ما هو خارج عن حقيقة العقد وان كان لازما له ، كما في المثال الاول للعلامة ، فان المستأجر يقدّم قوله في الشهر الأوّل فقط ، لأنه لا يدعي زيادة على الصحة شيئا ، ولا يقدّم قوله في لازمه وهو: اجارة سنة بدينار ، لأنه يتضمن دعوى شيء زائد على الصحة (انتهى) كلام العلامة .

ص: 116


1- - قواعد الأحكام : ص236 .
السادس :

في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب .

فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد وما في معناه فواضحٌ ، لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة على الفعل المشكوك وارتفاعها ناشٍ عن الشك في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك الشك ،

-------------------

( السادس : في بيان ورود هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( على الاستصحاب ) بقسميه : الحكمي وهو ما ذكره بقوله : « فنقول : إمّا تقديمه » والموضوعي وهو ما ذكره بعد أسطر بقوله : « وإمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية » . فان أصل الصحة لا شك حاكم على الاستصحاب بقسميه ، لكن قد يخفى كيفية حكومته ، فيحتاج إلى بيان ( فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد ) المفيد لعدم النقل والانتقال في المعاملات .

( وما في معناه ) أي : ما في معنى إستصحاب الفساد مثل : أصالة عدم وجوب اعطاء كل من المتعاملين ما عنده للآخر ( فواضحٌ ) .

وإنّما يكون هذا التقديم واضحا ( لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة ) كعدم النقل ، المتقدِّمة ( على الفعل المشكوك ) من البيع - مثلاً - ( وارتفاعها ) أي : ارتفاع تلك الحالة السابقة المتقدمة على البيع ( ناشٍ عن الشك في سببيّة هذا الفعل ) وهو البيع في المثال ( وتأثيره ) من حيث حصول النقل والانتقال ، فان الشك في ذلك مسبّب عن الشك في ان البيع - مثلاً - هل هو جامع لشرائط الصحة أم لا ؟ ( فإذا حكم بتأثيره ) أي : بتأثير هذا البيع لأصالة الصحة ( فلا حكم لذلك الشك ) لأنه إذا جرى الأصل السببي ، لا يبقى مجال لجريان الأصل المسبّبي ،

ص: 117

خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ، فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولاً الحاكم على أصالة بقاء الطهارة .

-------------------

فان أصل الصحة القائل بأن البيع جامع للشرائط ، يكون حاكما على الأصل المسبّبي القائل بعدم تحقق البيع .

( خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( من الظواهر المعتبرة ) أي : جعلنا حجيته من جهة الظهور النوعي بأن يكون أمارة عقلائية ، لا من جهة كونه أصلاً عمليا ، وذلك لما تقدّم : من احتمال ان يكون أصل الصحة مستندا إلى ظاهر حال المسلم ، أو غلبة الصحة في أفعال المسلمين ، وهذا الظهور العرفي حاكم على الأصل الذي هو الفساد .

وعليه : ( فيكون ) أصل الصحة ( نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولاً ) وناقضا للطهارة ، فانه مع ان مقتضى الاستصحاب هو بقاء الطهارة، لكن يحكم بأن الخارج منه محدث للدليل ( الحاكم ) وهو حكم الشارع عليه بكونه بولاً ، فإنّه حاكم ( على أصالة بقاء الطهارة ) إذ حكم الشارع هذا ظاهر ، واستصحاب بقاء الطهارة أصل ، والظاهر مقدّم على الأصل .

والحاصل : إنّ من توضّأ بعد أن بال ولم يستبرئ ، ثم خرج منه بلل مشتبه يحتمل كونه بولاً ، ويحتمل كونه من الحبائل ، فإذا كان بولاً وجب عليه الوضوء ، وإذا كان من الحبائل لم يجب عليه الوضوء ، فان مقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، لكن حكم الشارع بوجوب الوضوء بعد خروج البلل المشتبه يكشف عن ان الشارع قدّم هنا الظاهر على الأصل ، إذ الظاهر كون الرطوبة الخارجة قبل الاستبراء من بقايا البول التي بقيت في المجرى ، وحينئذ فلا مجال لاستصحاب الطهارة ، وكذا الحال لو قلنا بأن الشارع قدّم ظاهر حال المسلم المسمّى بأصل

ص: 118

وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو الكيل أو الوزن ، فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه .

والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ، كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر فلا إشكال في تقديمه على ذلك الاستصحاب ،

-------------------

الصحة على استصحاب عدم النقل في المعاملات ، فإنّه حينئذ لا مجال لأصل الفساد فيها .

هذا في تقديم أصل الصحة على الاستصحاب الحكمي ( وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية ) إذا كانت مخالفة لأصل الصحة ( المترتب عليها ) أي: على تلك الاستصحابات الموضوعية ( الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو ) عدم ضبطه بسبب ( الكيل أو الوزن ) أو عدم العقل فيما إذا كان أحد المتعاملين مجنونا ثم عقل ، أو غير ذلك من الاستصحابات الموضوعية المتعارض معها أصل الصحة ( فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه ) فتارة قدّموا الاستصحاب ، واُخرى قدّموا أصل الصحة .

( والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( من الظواهر ) بأن كان أمارة عقلائية ( كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر ) وانّه ليس أصلاً عمليا ( فلا إشكال في تقديمه ) أي : تقديم أصل الصحة ( على ذلك الاستصحاب ) الموضوعي المقتضي للفساد ، وذلك لما عرفته سابقا : من حكومة الأمارة على الاُصول ، إذ مع وجود الأمارة يرتفع الشك الذي هو موضوع الأصل ، فلا موضوع للأصل رأسا .

ص: 119

وإن جعلناه من الاُصول ، ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع يُثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة ، وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحة ، فيتعارضان .

-------------------

( وإن جعلناه ) أي : أصل الصحة ( من الاُصول ، ففي تقديمه ) أي : تقديم أصل الصحة ( على الاستصحاب الموضوعي نظر ) ناشيء ( من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع ) أو المشتري - مثلاً - ( يُثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ) وإذا ثبت ذلك بالإستصحاب ( فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة ) فان موضوع الفساد هنا هو : البيع الصادر عن غير البالغ ، فالبيع الصادر موضوع وجودي قد قيّد بقيد عدمي هو : عن غير البالغ ، والقيد العدمي المشكوك يحرز بالاستصحاب فيتمّ الموضوع، ويلزمه الحكم بالفساد .

لكن لا يخفى : ان العدم لا يمكن أن يكون قيدا ، كما سبق الالماع إليه في بعض المباحث السابقة ، فهو إذن نوع تسامح .

هذا هو وجه الفساد الذي قد يقال بحكومته على أصل الصحة ، وأمّا وجه الصحة فهو ما أشار إليه بقوله : ( وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع ) في الخارج ( بيعا صادرا عن بالغ ) لأن البيع لا يكون صحيحا إلاّ إذا كان صادرا عن البالغ ( فيترتّب عليه الصحة ) ومع ترتّبه والقول بعدم حكومة الفساد عليه - كما هو المشهور - يجتمع أصلان : أصل الفساد كما مرّ ، وأصل الصحة كما ذُكر هنا ( فيتعارضان ) حينئذ ويتساقطان ، ويكون المرجع أصل عدم البيع وفساده ،

ص: 120

لكن التحقيق : أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ، لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فانّ بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعي .

-------------------

لا أصل الصحة ، ولهذا قال المصنّف : بأن في تقديمه نظر .

ثم إنّ المصنِّف رجع وقال : ( لكن التحقيق ) أن ما ذكرناه من قولنا : « ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر » غير تام ، بل اللازم القول بتقديم أصالة الصحة على أصالة الفساد ممّا يترتب عليه صحة مثل هذا العقد ، ووجه ذلك هو : ( أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ) لكن ( لا من حيث الحكم شرعا ) بوجود الضدّ ، يعني : الحكم ( بصدور العقد من غير بالغ ) فانه ليس هناك في الشريعة موضوعان : العقد الصادر عن البالغ وهو صحيح ، والعقد الصادر من غير البالغ وهو فاسد ، حتى يكون الصحة والفساد حكمين متضادّين ، بل هما حكمان متناقضان لموضوعين متناقضين ، فموضوع الصحة : صدور العقد من البالغ ، وموضوع الفساد : عدم صدوره منه ، كما قال : ( بل من حيث الحكم ) شرعا بنقيض : صدور العقد من البالغ وهو : الحكم ( بعدم صدور عقد من بالغ ) فان البلوغ شرط للمتعاقدين ، فإذا لم يكن أحد المتعاقدين بالغا لم يكن العقد مستجمعا للشرائط فلم يكن عقد من بالغ ، لا انه كان عقد من غير بالغ .

وعليه : ( فانّ ) الفساد الموجب ( بقاء الآثار السابقة للعوضين ) وذلك بأن يكون كل واحد من العوضين لمالكه السابق ، هذا الفساد ( مستند إلى ) نقيض السبب الشرعي يعني : ( عدم السبب الشرعي ) الذي هو : عدم صدور العقد من بالغ ، وليس مستندا إلى ضد السبب الشرعي الذي هو : صدور العقد من غير البالغ ، وإذا كان كذلك لم يكن الأصلان : الصحة والفساد في رتبة واحدة

ص: 121

فالحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع الصادر من بالغ ، وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد .

وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة من حيث احراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب ، لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة

-------------------

حتى يتساقطان ، بل أحد الأصلين وهو أصل الصحة حاكم على أصل الفساد ، لأن أصل الصحة يُثبت ان هذا الموجود سبب للنقل ، بينما أصل الفساد يقول : لا سبب للنقل ، فهما من قبيل بيّنتين إحداهما تقول : لا أعلم عدالة زيد ، والاُخرى تقول : أعلم عدالته ، فمدّعي العلم مقدّم على مدّعي عدم العلم بالحكومة .

إذن : ( فالحمل على الصحيح ) في المعاملة الخارجية المشكوك كون أحد المتعاملين فيها بالغا أم لا ( يقتضي كون الواقع ) في الخارج هو ( البيع الصادر من بالغ ) فالعقد جامع للشرائط ( وهو سبب شرعي في ) صحة المعاملة وإفادة ( ارتفاع الحالة السابقة على العقد ) من كون كل من العوضين لمالكه السابق .

ان قلت : أصالة عدم البلوغ واستصحابه يوجب الفساد ، فيعارض أصل الصحة ويتساقطان ويكون المرجع عدم البيع .

قلت : أصالة عدم البلوغ إنّما يوجب الفساد من حيث احراز نقيضه وهو : عدم صدور العقد من بالغ ، لكنك قد عرفت : ان الفساد الذي هو نقيض الصحة متأخر رتبة عن الصحة ، فيكون أصل الصحة حاكما عليه ، وأمّا أصالة عدم البلوغ الذي يحرز الضد ، فلا يوجب الفساد كما قال : ( وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة ) أي : لا يوجب الفساد ( من حيث احراز ) ضده وهو : ( البيع الصادر عن غير بالغ ) احرازا ( بحكم الاستصحاب ) وذلك ( لأنّه ) أي : الضد وهو صدور البيع من غير البالغ ( لا يوجب ) الفساد أعني : ( الرجوع إلى الحالة

ص: 122

السابقة على هذا العقد ، فانّه ليس مّما يترتب عليه ، لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السبب ، لا من آثار ضدّه .

وإن فرضنا أنّه يترتب عليه آثار اُخر ، فنقول حينئذ : الأصل : عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده .

وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع

-------------------

السابقة على هذا العقد ) من عدم النقل والانتقال وذلك لما عرفت : من ان الصحة الفساد ليسا ضدين بل هما نقيضان ، وإذا كانا كذلك ( فانّه ) أي : الفساد ( ليس مّما يترتب عليه ) أي : على الضد الذي هو صدور العقد من غير البالغ .

وإنّما لم يترتب الفساد على الضد ( لأنّ عدم المسبّب ) أي عدم صحة العقد ( من آثار ) نقيضه وهو : ( عدم السبب ، لا من آثار ضدّه ) وهو : الصدور من غير البالغ ، فعدم الصحة ليس من آثار الضد حتى ( وإن فرضنا أنّه يترتب عليه ) أي : على الضد ( آثار اُخر ) غير عدم الصحة ، كما لو نذر التصدق بدرهم عند وقوع العقد من غير بالغ ، فانه عند الشك فيه يستصحب عدم البلوغ ، فيثبت موضوع النذر ، فيلزمه الوفاء بنذره مع انه لم يثبت به الفساد .

وعليه : ( فنقول حينئذ : ) أي : حين عرفت ان الصحة والفساد متناقضان يعني : من باب الموضوع واللاموضوع ، لا من باب الموضوع والموضوع المضادّ، نقول: ان ( الأصل : عدم وجود السبب ) أي : عدم وجود عقد صحيح عند الشك فيه ( ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده ) أي : على وجود العقد الصحيح مثل أصل الصحة وقد دلّ هنا أصل الصحة على وجود العقد الصحيح فيترتب عليه آثاره .

( وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع ) من عدم النقل والانتقال

ص: 123

مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فإذا شك فيه بني على البقاء وعدم وجود السبب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين السبب وغيره ؛ هو السبب .

فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر من غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ، لأن الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي عدمه .

-------------------

( مستند إلى عدم السبب الشرعي ) الذي هو النقيض ، لا الضدّ كما عرفت ( فإذا شك فيه ) أي : في البقاء على الحالة السابقة للشك في السبب الشرعي ( بني على البقاء وعدم وجود السبب ) الشرعي ( ما لم يدلّ دليل ) مثل أصل الصحة ( على كون الموجود ) وهو البيع الواقع خارجا ( المردّد بين السبب وغيره ، هو السبب ) فإذا دلّ أصل الصحة على انه الموجود سبب انتفى الشك وتحقق البيع .

( فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على ) الضد وهو : ( البيع الصادر من غير بالغ ) كالنذر على وقوع العقد من غير بالغ ( وترتّب الآثار المترتّبة على ) السبب وهو : ( البيع الصادر عن بالغ ) وذلك لأن أصل الصحة يُفيد صدور العقد من البالغ فيترتّب عليه آثار الصحة ، واستصحاب عدم البلوغ يُفيد صدور العقد من غير البالغ ، لكنه لا يوجب الفساد ، لأنه - كما عرفت - ضد وليس نقيضا ، فيترتب عليه أثر الضد وهو : وجوب الوفاء بالنذر بلا منافاة بين الحكمين .

وإنّما لا تنافي بين الحكمين ( لأن الثاني ) أي : الحكم بصدور البيع من البالغ لأجل أصالة الصحّة ( يقتضي انتقال المال عن البائع ) إلى المشتري ( و ) هو معنى الصحة ، بينما ( الأوّل ) وهو الحكم بصدور البيع من غير البالغ لأجل إستصحاب عدم البلوغ ( لا يقتضيه ) أي : لا يقتضي الانتقال ( لا أنّه يقتضي عدمه ) أي :

ص: 124

بقي الكلام : في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات

أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين : الأوّل : من حيث كونه حركةً من حركات المكلّف ، فيكون الشك من حيث كونه مباحا أو محرّما .

ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثيّة .

-------------------

عدم الانتقال حتى يحصل التعارض بينهما .

والحاصل : ان أصل الصحة يقتضي الانتقال ، وأصل عدم البلوغ لا يقتضي الانتقال ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، لا ان أصل عدم البلوغ يقتضي عدم الانتقال ، حتى يتعارض مع أصل الصحة المقتضي للانتقال .

ثم انه لما انتهى المصنّف من الكلام في أصل الصحة ، سواء في فعل النفس أم في فعل الغير قال : ( بقي الكلام في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات ) فإذا شككنا في ان قول زيد - مثلاً - صدق وصحيح أم لا ، أو ان اعتقاده حق وصحيح أم لا ، فهل يجري فيها أصل الصحة أم لا ؟ .

قال المصنّف : ( أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين ) على ما يلي :

( الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشك ) في صحتها وفسادها ( من حيث كونه مباحا ) فهو صحيح ( أو محرّما ) فهو فاسد ، وذلك كما إذا كذب زيد فشككنا في انه هل هو كذب مباح لوجود المصلحة فيه كالإصلاح بين اثنين ، أو كذب محرم لعدم وجود المصلحة فيه ؟ .

( ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثية ) أي : من حيث كونه حركة من الحركات ، فإنّ الأدلّة العامة من الآيات والروايات والسيرة وبناء العقلاء

ص: 125

الثاني : من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلم ، والشك من هذه الحيثية يكون من وجوه :

أحدها : من جهة أنّ المتكلّم بذلك القول قَصَدَ الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى ؟ .

-------------------

وما أشبه ذلك، كلها شاملة للأقوال من هذا الحيث أيضا، ويؤيّده: انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم: لم يحمل كلام المنافق الذي حلف أنّه لم ينمّ عليه على الكذب ، بل سكت صلى اللّه عليه و آله وسلم عنه ، حتى قال سبحانه يمدح نبيّه : «يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين »(1) .

أقول : لكن لا يبعد أن يكون هناك فرق : بين ما لم نعلم صدقه وكذبه فنحمله على الصدق ، وبين ما نعلم كذبه لكن لا نعلم هل هو صادر عن مجوّز شرعي للكذب أم لا ؟ فانه لا يحمل على الصحة حتى يثبت ذلك ، وهذا كالفرق بين من نراه يشرب مايعا مردّدا بين الخمر والماء فحيث لا نعلم بأنه خمر نحمله على انه يشرب الماء ، وبين من نعلم انه يشرب الخمر لكن لا نعلم هل انه يشربه عن وجه صحيح أو فاسد ؟ فانه لا يحمل على الصحيح حتى يثبت ذلك .

( الثاني : من حيث كونه ) أي : الكلام ( كاشفا عن مقصود المتكلّم ، و ) لا يخفى : انّ هذا العنوان لا ينطبق على الوجه الثالث من وجوه هذا البحث الذي سيذكره المصنِّف إن شاء اللّه تعالى بعد قليل ، وكيف كان : فإنّ ( الشك من هذه الحيثية يكون من وجوه ) تالية :

( أحدها : من جهة ) القصد واللاقصد ، وهو : هل ( أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى ؟ ) أي : بأن تكلّم لغوا ، أو هزلاً ، أو نحو ذلك .

ص: 126


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثية ، بحيث لو ادعى كون التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه .

الثاني : من جهة أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، ومعتقد لمؤدّى مايقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده ؟ ، ولا إشكال في أصالة الصحة هنا.

فإذا أُخبِر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ، ولا يُسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله .

-------------------

( ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثيّة ) أي : حيثية القصد واللاقصد ، فإنّه يحمل على القصد وهو معنى الصحة وذلك ( بحيث لو ادعى ) المتكلِّم ( كون التكلّم لغوا ) ومن باب المزاح - مثلاً - ( أو غلطا ) ومن باب الاشتباه والسهو - مثلاً - ( لم يسمع منه ) في باب الاقرار ، وباب التداعي ، وما أشبههما ، وذلك لبناء العقلاء ، وإلاّ لملك كل متكلّم أن لا يلتزم بلوازم كلامه ، ويدّعي الغلط والهزل ونحوهما .

( الثاني : من جهة ) المطابقة وعدم المطابقة له وهو : هل ( أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، و ) بتعبير أدق : هل ان ارادته الجدّية تطابق ارادته الاستعمالية أم لا ؟ يعني : هل هو ( معتقد لمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده ؟ ) سواء في اخباراته كما إذا قال : جاء زيد ، أم في انشاءاته كما إذا قال : اُنصر زيدا؟

( ولا إشكال في أصالة الصحة هنا ) أي : بأن يُحمل على التطابق وهو معنى الصحة ، وذلك بأن يقال : انه كان يعتقد مجيء زيد ، ويريد نصرة زيد .

وعليه : ( فإذا أُخبِر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ) كما إذا قال - مثلاً - أشهد أن محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فانه يجوز نسبة الإسلام إليه ( ولا يُسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله ) فيما إذا أنكره بعد ذلك وقال :

ص: 127

وكذا إذا قال : « إفعل كذا » جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة كالتوطين أو لمفسدة .

وهذان الأصلان مّما قامت عليهما السيرة القطعيّة مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام ، لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة .

-------------------

انّي قلت ذلك غير معتقد به ، إلاّ إذا أسقط صحة دعواه بشواهد وقرائن عرفية .

( وكذا إذا قال : « إفعل كذا » جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة ) وكذلك في باب النهي ، والدعاء ، والترجي ، والتمني ، وما أشبه ذلك ، فلا يقبل منه لو ادّعى ان كلامه صوري وانه قاله ( لمصلحة ) فلم يطابق إرادته الاستعمالية ارادته الجدية ( كالتوطين ) فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : توطين المأمور نفسه على الامتثال ليؤجره عليه ( أو لمفسدة ) كالتشهير ، فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : تشهير المأمور باظهار ما في باطنه من المخالفة ليعاقبه عليه ، فانه لا يقبل منه .

وإنّما لا يقبل ذلك منه ، لأصالة القصد ، وأصالة المطابقة ( وهذان الأصلان ) أي : أصالة القصد ، وأصالة المطابقة بين الارادتين : الجدّية والاستعمالية ( مّما قامت عليهما السيرة القطعيّة ) وبناء العقلاء كافة ، فإذا لم يعمل بهذين الأصلين لزم اختلال النظام وهدم الاجتماع .

هذا ( مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام ) أيضا ، وذلك لأن القول اللغو والقول الكذب قبيح ، والمسلم منزّه عن فعل القبيح ( لكنّ المستند ) الآن ( فيه ) أي : في تنزيه فعل المسلم من القبح المستلزم من مخالفة الأصلين المذكورين ( ليس تلك الأدلّة ) السابقة ، بل مستنده

ص: 128

الثالث : من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا ، وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجيّة خبره : صدقه .

والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى .

والظاهر : عدم الخلاف في ذلك إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه حتى تُرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل .

-------------------

في المقام السيرة القطعية واختلال النظام الناتج من مخالفة الأصلين .

( الثالث : من جهة ) المطابقة للواقع وعدم المطابقة له ، أي : في ( كونه صادقا في الواقع أو كاذبا ) يعني : صدقا أو كذبا خبريا لا مخبريا ، وبعبارة أدق : هل انّ خبره حجة ومطابق للواقع أم لا؟ ( وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ) إذ الغير إنّما يهمّه مطابقة الخبر وعدم مطابقته للواقع ( فمعنى حجيّة خبره : صدقه ) صدقا مطابقا للواقع ، وهذه المطابقة غير المطابقة للاعتقاد ، إذ ربما يقول الشخص ما يطابق اعتقاده ، لكن لا يطابق الواقع ، والناس يريدون مطابقة الخبر للواقع بعد مطابقته لاعتقاد المخبر ، لا مطابقته لاعتقاد المخبر وعدم مطابقته للواقع .

( والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح . بهذا المعنى ) الأخير ، إذ ليس معنى : « احمل فعل أخيك على أحسنه » انه مطابق للواقع .

( و ) كذا ( الظاهر : عدم الخلاف في ذلك ) أي : انهم اتفقوا على انه لا دليل يوجب حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع ( إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه ) أي : وليس هناك دليل عام يشمل هذا المعنى ( حتى تُرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل ) تحت العموم ، يعني : انه لا عموم حتى يدّعي أحد وجود الدليل العام على حجية خبر المسلم

ص: 129

وربما يتوهّم وجود الدليل العام من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما ، وخصوص قوله عليه السلام : « إذا شَهِدَ عندك المسلمونَ فصدِّقهُم » ، وغير ذلك مّما ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها .

-------------------

ومطابقته للواقع ، ثم يدّعي خروج مثل الأخبار الحدسية والشهادات والروايات من عموم ذلك الدليل ، فيقول - مثلاً - بخروج باب الشهادات لاحتياجها إلى نفرين ، وخروج باب الروايات لاحتياجها إلى عدالة الراوي ، وخروج الحدسيات الاجتهادية لاحتياجها إلى الفقاهة والعدالة ، وهكذا.

( وربما يتوهّم وجود الدليل العام ) الدال على حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع ( من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ) (1) وذلك بتقريب أنّ الأمر أعمّ من القول والفعل ( و ) كذا مثل ( ما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما ) (2) أي : لا في قوله ولا في فعله معا .

( و ) مثل ( خصوص قوله عليه السلام : « إذا شَهِدَ عندك المسلمونَ فصدِّقهُم » (3) وغير ذلك مّما ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا ) هناك ( عدم دلالتها )

ص: 130


1- - انظر الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص10 .
2- - كرواية محمد بن الفضيل انظر الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الاعمال : ص595 ح1 ، أعلام الدين : ص405 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح86343 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 ، وكرواية عمر اليماني انظر الكافي ( اصول ) : ج2 ص361 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16359 ، مشكاة الانوار : ص319 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 .

مع أنّه لو فرض دليل عامٌ على حجيّة خبر كل مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل ، لقيام الاجماع على عدم اعتباره في الشهادات ، ولا في الروايات إلا مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلاّ في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها .

نعم ، يمكن أن يُدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية لجملة مّما ذكرناه في أخبار الآحاد وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع .

-------------------

على حجيّة خبر المسلم ولا مطابقتها للواقع ، وإنّما غاية دلالتهم من الأمر بحمل فعل المسلم وقوله على الصحيح هو : انه مطابق لاعتقاده لا انه حجة ومطابق للواقع .

هذا ( مع أنّه لو فرض دليل عام على حجيّة خبر كل مسلم ) ومطابقته للواقع ، أوجب تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، إذ حينئذ ( كان الخارج منه أكثر من الداخل ) الباقي تحت العام ، وذلك ( لقيام الاجماع على عدم اعتباره ) أي : خبر المسلم ( في الشهادات ، ولا في الروايات إلاّ مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلاّ في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها ) أي : شبه الفتوى كخبر المقوّمين الذين يخبرون عن حدس ونظرية ، وإذا كان الخارج من العام أكثر من الداخل تحته لزم منه إضافة إلى الاستهجان ، سقوط الظهور حتى لا يمكن أن يُتمسّك بالعام .

( نعم ، يمكن أن يُدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية ) والمطابقة للواقع ( لجملة مّما ذكرناه في أخبار الآحاد ) كآية النبأ ، وآية النفر ، وآية الأذن ، وغيرها من الآيات والروايات ( و ) لكن ( ذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع ) بحث الظن لترى ما تقدَّم من المصنّف هناك ، فانه قال - مثلاً - في تحقيق آية النبأ

ص: 131

أمّا الاعتقاداتُ ، فنقول :

إذا كان الشك في أنّ اعتقاده ناشٍ عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ، فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح لظاهر بعض ما مرّ

-------------------

ما حاصله : ان الآية إنّما تنفي من العادل احتمال تعمّده الكذب والوضع ، وأمّا احتمال نسيانه وخطأه وما أشبه ذلك فلا تنفيه الآية ، فيكون الفرق بين خبر العادل وخبر الفاسق هو : ان العادل يُنفى عن خبره تعمّد الكذب ، بينما الفاسق لا يُنفى عن خبره ذلك ، وأين هذا المعنى من أصالة حجيّة خبر العدل حتى يقال بدلالة الأدلة عليه إلاّ ما خرج بالدليل ؟ .

هذا تمام الكلام في أصالة الصحة في الأقوال ، واما الكلام فيها بالنسبة إلى الاعتقادات فهو كما قال : ( أمّا الاعتقاداتُ ) وذلك كما إذا اعتقد - مثلاً - بأن قوله سبحانه : « لها سبعة أبواب » (1) يراد به الكثرة ، لأن سبعة تُستعمل للكثرة كالسبعين ، وليس من باب الدقة والتحديد ، فهنا إضافة إلى السؤال عن انه هل يلزم أن يقال : ان مدرك اعتقاده هذا صحيح لا تقصير منه في مقدماته؟ هل يلزم أيضا ان يقال : انه حجة ومطابق للواقع أم لا؟ جريان أصل الصحة في الاعتقادات يُلزم القول بالأول وهو ان مدرك اعتقاده صحيح : بلا تقصير منه في المقدمات ، دون الثاني .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( فنقول : إذا كان الشك في أنّ اعتقاده ) هذا هل هو ( ناشٍ عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ) أي : في مقدّمات ذلك المدرك لذلك المعتقد ؟ ( فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح ) وذلك ( لظاهر بعض ما مرّ

ص: 132


1- - سورة الحجر : الآية 44 .

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحَسَن دون القبيح .

وأمّا إذا شك في صحّته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ، لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر .

-------------------

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحَسَن دون القبيح ) ومن المعلوم : ان التقصير في المقدمات ، أو الاعتقاد من دون مدرك صحيح ، قبيح يلزم تنزيه المسلم عنه ، وعلى هذا فلا يجوز رميه بانه تعمّد اعتقادا باطلاً أو قصّر في تحصيل مقدّماته .

( وأمّا إذا شك في صحته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ) أي : على الصحة بمعنى : المطابقة للواقع ( ولو ثبت ذلك ) أي: ثبت وجوب الحمل على مطابقة اعتقاده للواقع ( أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ) ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر ) فلذا كان اعتقاد المخبر حجة ومطابقا للواقع ، كان قوله أيضا حجة ومطابقا للواقع ، لكنك قد عرفت ممّا مضى : انه لا دليل على حجية خبر المسلم ومطابقته للواقع ، فلا يكون اعتقاده أيضا مطابقا للواقع .

والحاصل : انّه ان قلنا بحجية اعتقاد المسلم كان لازمه حجيّة خبره أيضا ، لأن الأصل - كما مرّ - في الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ، فإذا كان الأصل أيضا مطابقة اعتقاد المخبر للواقع ، تشكّل قياس منطقي من صغرى وهي : الأصل ان الخبر مطابق لاعتقاد المخبر ، وكبرى وهي : والأصل ان كل مطابق لاعتقاد المخبر مطابق للواقع ، والنتيجة : فالخبر مطابق للواقع .

مع انّه قد مضى : ان هذه النتيجة وهي حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع

ص: 133

أمّا لو ثبت حجّية خبره ، فقد يُعلم أنّ العبرة باعتقاده بالمخبَر به ، كما في المفتي ، وغيره مّمن يعتبر نظره في المطلب ، فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها ، وقد يُعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : « اعتقد بكذا » ،

-------------------

لا دليل عليه إضافة إلى انه يستلزم التنافي في الواقع لوضوح كثرة التخالف في الاعتقادات ، بينما ليس كذلك في عكسه ، فلو قلنا بحجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع - فرضا - لم يكن تلازم بينه وبين حجيّة اعتقاده .

ثم إنّ المصنّف قال : ( أمّا لو ثبت حجّية خبره ) أي : حجيّة خبر المسلم ، فمناط حجيّته يمكن أن يكون أحد اُمور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : ( فقد يُعلم أنّ العبرة باعتقاده ) أي : بسبب اعتقاد المخبر ( بالمخبَر به ، كما في المفتي ، وغيره ) أي : غير المفتي ( مّمن يعتبر نظره في المطلب ) كأهل الخبرة والمقوّمين ، فان اعتقادهم المستند إلى حدسهم حجة ، ويكون خبرهم كاشفا عن اعتقادهم الحجة ، فالحجة هي نفس اعتقاد المفتي أو الخبير والمقوّم بمطلب ، بأي طريق بكشف ، سواء انكشف بالإخبار أم بالكتابة أم بالاشارة أم بالظهور من قسمات الوجه ، كما ورد ان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم كان يظهر على قسمات وجهه الكراهة من المحرّمات ، وإذا كان اعتقاده هو الحجة ( فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها ) فإذا قال المفتي - مثلاً - : الماء القليل يتنجسّ بملاقاة النجاسة كشف ذلك عن اعتقاده به واعتقاده حجة ، فخبره إذن بما هو خبر ليس بحجة ، وإنّما حجيّته من جهة كشفه عن اعتقاده .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( وقد يُعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : « اعتقد بكذا » ) كما في باب الروايات المروية

ص: 134

وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واُخرى بالإخبار بعلمه به ، والمتّبع في كلّ مورد ، ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل .

ويترتّب على ما ذكرنا قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، وصحة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين .

-------------------

عن الأئمة عليهم السلام ، فإذا قال أحد الرواة الثقات - مثلاً - : قال الصادق عليه السلام كذا ، كان حجة ، امّا إذا قال وهو يخبر عما في نفيه:اعتقد كذا ، فليس بحجة .

الثالث : ما أشار إليه بقوله : ( وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واُخرى بالإخبار بعلمه به ) أي : بالواقع فان الشاهد كل من قوله واعتقاده حجّة ، فلا فرق بين ان يقول : ان هذه المرأة زوجة زيد ، أو يقول : اني أعلم بأن هذه المرأة زوجة زيد .

هذا ( والمتّبع في كلّ مورد ) من هذه الموارد الثلاثة هو : ( ما دلّ عليه الدليل ، و ) حينئذ فيجب مراجعة الدليل في كل من الموارد الثلاثة ليعلم هل انه يدلّ على حجيّة الاعتقاد ، أو الخبر ، أو أيّ منهما ، أم لا يدل؟ وذلك لانه ( قد يشتبه مقدار دلالة الدليل ) فلا يعلم ان الحجة هل هو اعتقاد الشخص أو إخباره ، كما في باب الجرح والتعديل بالنسبة إلى علم الرجال ، فان في المعدّل أو الجارح لا يعلم هل يكفي في حجيته لنا اعتقاده بالجرح أو التعديل بأي طريق انكشف لنا ولو بالكتابة ، أو لابدّ من اخباره بهما ؟ .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( ويترتّب على ما ذكرنا ) أخيرا ( قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، و ) جرحهم ، وكذلك ( صحة التعويل في العدالة ) بالنسبة إلى امام الجماعة ( على اقتداء العدلين ) به ، وغير ذلك .

ص: 135

المقام الثاني :

في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة .

وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ،

-------------------

قال الآشتياني : ويفرّع على كفاية مجرّد الاعتقاد : الحكم بعدالة الإمام بواسطة اقتداء العدلين ، والحكم بدخول الوقت من جهة صلاة عدلين معتقدين بدخول الوقت ، والحكم باعتبار تعديلات أهل الرجال في مكتوباتهم كالكشي والنجاشي والشيخ قدس سرّهم ، ثم قال : وقد يدّعى الاجماع على اعتبار هذه التعديلات من دون حاجة إلى ثبوت ان الأصل اعتبار الاعتقاد في مورد ثبوت اعتبار الخبر .

( المقام الثاني : في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة ) كما إذا قال زيد : هذه الدار ملكي ، وقال عمرو بل هي ملكي ، وكان كلاهما خارجا أو داخلاً ، وكان مع زيد الاستصحاب لأنها كانت ملكه سابقا ، وأقرعنا فخرجت القرعة باسم عمرو ، فهل يقدّم الاستصحاب على القرعة أو القرعة على الاستصحاب ؟ .

قال المصنِّف : ( وتفصيل القول فيها ) أي : في القرعة ( يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ) لأن مسألة القرعة مسألة فقهية ، ونحن بصدد المبحث الاُصولي .

ثم انه لا يخفى : ان القرعة ممّا دلت عليه الأدلّة الأربعة : فمن الكتاب مثل قوله سبحانه : « يُلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم » (1) وقوله سبحانه : « فساهم فكان من المدحضين » (2) ومن السنّة مثل قوله عليه السلام : « القرعة لكل أمر مشكل » (3) وقول الصادق عليه السلام : « أيّ فقيه أعدل من القرعة إذا فوّض أمره إلى اللّه تعالى ؟ أليس اللّه

ص: 136


1- - سورة آل عمران : الآية 44 .
2- - سورة الصافات : الآية 141 .
3- - فتح الأبواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 .

ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ، فلابدّ من تخصيصها بها ، فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب .

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير

-------------------

يقول : « فساهم » (1) ؟ » (2) والاجماع قطعي فيها بين المسلمين كافة ، والعقل يدل عليها ، بل القرعة جارية إلى اليوم في المحافل الدولية والعالمية .

هذا ( ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها ) أي : أخبار القرعة ( أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ) فتكون أدلة الاستصحاب أخص من أدلة القرعة ، وإذا كانت أخص ( فلابدّ من تخصيصها ) أي : تخصيص أدلة القرعة ( بها ) أي : بأخبار الاستصحاب ، إذ الأخص دائما يقدّم على الأعم ( فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب ) .

مثلاً ، قوله عليه السلام : « القرعة لكل أمر مشكل » (3) يبيّن انه : إذا كان الموضوع مشكلاً فالمجال للقرعة ، والاستصحاب يبيّن عدم مشكلية الموضوع ، وذلك لأن الشارع جعل له حلاً بالاستصحاب ، وكما لا مجال للقرعة مع وجود الخبر أو البينة أو السوق أو اليد أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، فكذلك لا مجال للقرعة مع وجود الاستصحاب .

( نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير ) وذلك لأن التخيير إنّما يكون

ص: 137


1- - سورة الصافات : الآية 141 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3390 ، وسائل الشيعة : ج27 ص261 ب13 ح33722 ، بحار الانوار : ج104 ص325 ب6 ح5 .
3- - غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 ، فتح الابواب : ص292 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

وأصالتي : الاباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما ،

-------------------

مع التحيّر ، والقرعة تزيل التحيّر ، فإذا حلف - مثلاً - على شيء ثم شك في انه هل كان حلفه على أن يذبح الشاة في النجف الأشرف أو في كربلاء المقدسة ، فحيث التحيّر لزمت القرعة ، فإذا أقرع وخرج أحدهما فلا تحيّر حتى يكون تخيير .

( و ) كذا القرعة واردة على ( أصالتي : الاباحة والاحتياط ) فإذا شك - مثلاً - في انه هل هذا المايع هو خلّ أو خمر ؟ أو شك في انه هل هذا الاناء الأبيض نجس أو ذاك الاناء الأحمر؟ فحيث ان الأصل في الأوّل الاباحة ، وفي الثاني الاحتياط ، تكون القرعة واردة عليهما ، وذلك لأنّا إذا أقرعنا وخرج ان المايع خمر ، أو ان الاناء الأبيض نجس ، فلا مجال لاجراء أصل الاباحة في المايع ، كما لا مجال لاجراء أصل الاحتياط بين الاناء الأبيض والأحمر ، وذلك فيما ( إذا كان مدركهما ) أي مدرك الاباحة والاحتياط هو ( العقل ) .

وإنّما تكون القرعة واردة على أصالة الاباحة العقلية وعلى أصالة الاحتياط العقلي ، لأن موضوع الاباحة العقلية هو : عدم البيان والقرعة بيان ، كما ان موضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب ، والقرعة تعيّن المكلّف به ، فلا يحتمل العقاب في الطرف الآخر ، حتى يجب الاجتناب عنه ، فالقرعة واردة عليهما ، وقد تقدّم سابقا : انّ معنى الورود هو : رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر ، والقرعة في مقامنا يرفع موضوع أصل التخيير ، وأصل الاباحة وأصل الاحتياط على ما عرفت ، فيما إذا كان مدرك الأصلين الأخيرين العقل .

( وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما ) أي : بأن جعلنا حجيّتهما لا للدليل العقلي ، بل للدليل الشرعي ، وذلك لأن الشارع قال : « كل شيء مطلق

ص: 138

فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا يخفى .

-------------------

حتى يرد فيه نهي » (1) وقال : « أخوك دينك فاحتط لدينك » (2) ( فدليل القرعة ) لا يكون واردا عليهما ، بل هو حينئذ ( حاكم عليهما ، كما لا يخفى ) والحكومة على ما تقدَّم : عبارة عن تفسير أحد الدليلين للدليل الآخر بالتوسعة أو بالتضييق .

أمّا مثال التضييق فكما في رواية : « لا شك لكثير الشك » (3) ورواية : « إذا شككت فابن على الأكثر » (4) فان « لا شك لكثير الشك » يضيّق دائرة « ابن على الأكثر » ويقول : ان البناء على الأكثر إنّما يكون فيما إذا لم يكن كثير الشك .

وأمّا مثال التوسعة فكما في رواية : « لا صلاة إلاّ بطهور » (5) ورواية : « الطواف بالبيت صلاة » (6) حيث ان « الطواف بالبيت صلاة » يوسّع دائرة « لا صلاة إلاّ بطهور » يعني : ان الطواف أيضا محتاج إلى الطهور ، لأنه نوع من الصلاة .

وأمّا بيان انه لماذا يكون دليل القرعة حاكما على أصالتي : الاباحة والاحتياط الشرعيين ، فلأن موضوع الاباحة الشرعية هو : الشك في الحلّية ، وموضوع

ص: 139


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 .
2- - الامالي للمفيد : ص383 المجلس الثالث والثلاثون ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - من القواعد الفقهيّة المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 ح2 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 ، وسائل الشيعة : ج8 ص228 ب16 ح10496 و 10497 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
4- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .
5- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و 4 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، مفتاح الفلاح : ص202 .
6- - نهج الحق : ص472 ، غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يُعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، واللّه العالم .

-------------------

الاحتياط الشرعي هو : الشك في المكلّف به ، والشك في كل منهما وإن كان لا يزول بالقرعة وجدانا ، إلاّ ان دليل القرعة ناظر إليهما ومفسر لدليلهما ، بحيث لا يبقى معه شك فيهما تعبدا ، فيكون المراد من الشك غير الشك الموجود مع القرعة ، لأن الشك الموجود مع القرعة ليس بشك تعبدا .

ثم قال المصنّف بعد كلّ ذلك ( لكن ذكر في محلّه ) من الكتب الفقهية : ( أنّ أدلّة القرعة لا يُعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو ) على الأقل بعمل ( جماعة منهم ) أي : من الأصحاب ، فان كل ما ذكره المصنِّف : من كون القرعة واردة على الاُصول الثلاثة : الاستصحاب ، والاباحة ، والاحتياط ، أو حاكمة عليها، إنّما هو مع غض النظر عن عروض الوهن ودخول الضعف على عمومات القرعة بسبب كثرة التخصيص الداخلة عليها ، واما مع النظر إلى وهن عمومها فلا يصح العمل بها إلاّ في مورد انجبر وهن عمومها بعمل الأصحاب ، ولذا نراهم لا يعملون بها في موارد العلم الاجمالي الكثيرة المذكورة في الفقه والاُصول ، وفي كل مورد لم يعمل الأصحاب فيه بالقرعة ، سواء كان في المنازعات أم في غيرها ، يكون المرجع الاُصول العملية ، لأن الاُصول العملية سالمة حينئذ عن الوارد والحاكم بعد عدم العمل بالقرعة ، وعدم الحجيّة لها في هذه الموارد .

( واللّه العالم ) فان مبحث القرعة من المباحث المشكلة ، حيث نراهم تارة يعملون بها من دون عمل الأصحاب ، واُخرى لا يعملون بها بدليل ان الأصحاب لم يعملوا بها في المسألة الفلانية - مثلاً - .

ص: 140

المقام الثالث :

اشارة

في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاُصول العمليّة أعني : البراءة والاشتغال والتخيير .

الأوّل : تعارض البرائة مع الاستصحاب

أمّا أصالة البراءة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاُصول والأدلة ، سواء كان مدركه العقل أو النقل .

-------------------

( المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاُصول العمليّة ) فانّه قد يتعارض الاستصحاب مع استصحاب آخر ، وقد يتعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول الاُخرى ( أعني : البرائة والاشتغال والتخيير ) وذلك بأن يكون الاستصحاب في جانب ، والبرائة في جانب آخر ، أو الاستصحاب في جانب ، وفي الجانب الآخر اشتغال أو تخيير .

( أمّا أصالة البرائة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاُصول ) أعني : الاحتياط والتخيير ، لأنها متباينة من حيث المورد ، فالاستصحاب وكذلك الاحتياط والتخيير كلها مقدّم على البرائة ( و ) هكذا ( الأدلة ) مقدّمة على البرائة ، فأصل البرائة لا يُعارض شيئا من الاُصول ولا من الأدلة ( سواء كان مدركه ) أي : مدرك أصل البرائة ( العقل ) مثل : قبح العقاب بلا بيان ( أو النقل ) مثل : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) ونحوه .

ص: 141


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص : ص31 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

أمّا العقل ، فواضحٌ ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلاّ مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا .

وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتضح

-------------------

( أمّا العقل ، فواضحٌ ) في ان دليل العقل القائم على البرائة لا يتمكن من ان يعارض الاستصحاب أو سائر الاُصول والأدلة ، وذلك ( لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلاّ مع عدم الدليل على التكليف ) فإذا كان هناك دليل يدلّ على التكليف قدّم على البرائة ، سواء دلّ على التكليف ( واقعا ) كالخبر الدال على التكليف واقعا ( أو ظاهرا ) كالاستصحاب المثبت للتكليف ظاهرا ، فان الاستصحاب دليل ظاهري وهو كالدليل الواقعي يرفع موضوع البرائة ، لأن الشارع لما قال : «لا تنقض اليقين بالشك» (1) كان معناه : انه حكم على طبق اليقين السابق، وهذا هو بيان كما ان الدليل الواقعي بيان ، ومعه لا يجري « قبح العقاب بلا بيان » ، فيكون الاستصحاب كالخبر المعتبر واردا على أصل البرائة الذي مدركه العقل .

( وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل ) ومشابها له ، وهو ما ينفي التكليف ، لأن العقل يحكم بنفي التكليف مع عدم البيان ، مثل قوله عليه السلام : « رفع ... ما لا يعلمون » (2) و « الناس في سعة ما لا يعلموا » (3) وما أشبههما ( فقد اتضح

ص: 142


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص : ص31 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 وقريب منه في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 ، المحاسن : ص452 ح365 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

أمرُه ، والاستصحاب وارد عليه ، وأمّا مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلقٌ حتى يرِد فيه نهيٌ » فقد يقال : إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه لورود النهي في المستصحب ، ولو بالنسبة إلى الزمان السابق .

وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

-------------------

أمرُه ، و) ذلك لأن ( الاستصحاب وارد عليه ) أي : على مثل هذا الدليل الشرعي الذي أخذ الجهل فيه أيضا ، كما كان واردا على الدليل العقلي الذي أخذ عدم البيان فيه ، وذلك لأن الاستصحاب هو ممّا يعلمون ، فلا يبقى موضوع لما لا يعلمون ، ومن المعلوم : أن « العلم » هنا هو أعم من العلم الظاهري أو العلم الواقعي .

( وأمّا مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلقٌ حتى يرِد فيه نهيٌ » (1) ) ممّا لم يؤخذ الجهل فيه ( فقد يقال : ) بورود الاستصحاب عليه أيضا ، إذ ( إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه ) أي : عن « كلّ شيء مطلق » وذلك ( لورود النهي في المستصحب ) أي : في الشيء الذي نهي عن فعله أو عن تركه ( ولو ) كان هذا النهي ثابتا ( بالنسبة إلى الزمان السابق ) كالنهي عن العصير العنبي لو غلا وذهب ثلثاه لكن لا بالنار بل بالهواء ، فكل شيء مطلق يقول بحلّية كل ما لم يرد فيه نهي ، وهذا العصير قد ورد فيه النهي سابقا ، فليس هو حينئذ بمطلق .

وعليه : فيكون معنى قول المصنِّف : « فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه » هو : ان النهي السابق كاف في عدم جريان البرائة حالاً ، فيكون خارجا عن « كل شيء مطلق » لكن أشكل عليه المصنّف نفسه : بأن النهي السابق لا يكفي هنا، وإنّما اللازم وجود النهي حالاً ، ولذا قال : ( وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

حرمته لم يرد نهيٌ عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلابدّ من أن يكون مرخّصا فيه .

فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عن بَعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده .

-------------------

حرمته ) الآن ، كالعصير العنبي الذي غلا ثم ذهب ثلثاه بالهواء ، فانه ( لم يرد نهيٌ عن ارتكابه في هذا الزمان ) اللاحق وهو زمان الشك ( فلابدّ من أن يكون مرخّصا فيه ) أي : حلالاً ، وذلك لأنه مشكوك الآن في انه هل هو حرام أو حلال؟ فيشمله دليل البرائة .

وعليه : ( فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه ) بالنار لا شك في حليّته ، امّا إذا ذهب ثلثاه ( بالهواء ) فيُشك في انّه حرام أو حلال وهو ممّا ( لم يرد فيه نهي ) بعد ذهاب ثلثيه بالهواء ( وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع ) أي : الحرمة ( عن بَعده ) أي : بعد ذهب ثلثيه .

هذا ( كما أنّ وروده ) أي : ورود النهي وتعميمه ( في مطلق العصير ) وكلّيه وذلك : ( باعتبار وروده في بعض أفراده ) كالنهي الوارد في العصير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فإن هذا ( لو كفى في الدخول ) أي : في إدخال مطلق العصير الذي هو من المغيّى المشمول لجملة : « كل شيء مطلق » وحلال ( فيما بعد الغاية ) أي : في جملة : « حتى يرد فيه نهي » وتحريم ، حتى يكون الآن حراما ، فانه لو كفى المنع عن ذلك الفرد في المنع عن مطلق العصير ( لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده ) مع ان هذا ما لا يقول به أحد .

ص: 144

والفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها شططٌ من الكلام .

-------------------

والحاصل : ان العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فرد آخر غير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فلا يُسحب الحكم بالحرمة من الفرد السابق قبل ذهاب الثلثين ، إلى الفرد اللاحق بعد ذهاب الثلثين ، كما انه إذا نهي عن فرد من أفراد الكلي ، لا يتعدّى النهي من ذلك الفرد إلى كل أفراد الكلي ، لأنه من سحب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

( و ) ان قلت : فرق بين فردين متغايرين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان ، كما في مورد الاستصحاب ، فإن العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه فردان متغايران بسبب تبدّل الأحوال من ذهاب الثلثين وعدمه ، والأزمان قبل الذهاب وبعده ، وفيهما تكون الحرمة السابقة كافية في الحرمة اللاحقة ، وبين فردين متغايرين بأسباب اُخرى كفردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر ، وفيهما لا يسحب الحكم من المحرّم إلى المحلل ، فقولكم : « لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلي ورد المنع عن بعض أفراده » لا يكون تاما .

قلت : ( الفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان ) كما في مورد الاستصحاب مثل تغاير العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه والقول بكفاية الحرمة السابقة فيه ( دون غيرها ) من الافراد التي يكون تغايرها بأسباب اُخرى غير تبدلّ الأحوال والأزمان ، مثل تغاير فردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر والقول بعدم سحب الحكم من فرد إلى فرد ، فان هذا الفرق ( شططٌ من الكلام ) أي : بعيد عن الحق ولا يقول به فقيه ، لوضوح : انه

ص: 145

ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب .

ويتلوه في الضعف ما يقال : من أنّ النهي - الثابت بالاستصحاب - عن نقض اليقين ، نهيٌ وارد في دفع الرخصة .

-------------------

لا فرق في عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد ، سواء كان تغاير الفردين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان أم بغيره من الأسباب .

( ولهذا ) أي : لما ذكرناه : من عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد سواء كانا متغايرين بتبدّل الأحوال والأزمان أم بغيرهما ( لا إشكال في الرجوع إلى البرائة ) في الفرد المتغيّر المشكوك ( مع عدم القول باعتبار الاستصحاب ) أي : مع انكاره ، فانّ المنكرين للاستصحاب يتمسّكون فيما نحن فيه من العصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء بأصالة البرائة ، لا بدليل حرمة العصير إذا غلى ، وذلك لوضوح : ان العصير قبل ذهاب الثلثين فرد ، وبعد ذهاب الثلثين فرد آخر .

( ويتلوه في الضعف ) أي : يتلو ما ذكره المصنّف آنفا بقوله : « فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه » أي : عن « كل شيء مطلق » حيث كان خلاصته : ان النهي الأوّل مستمر إلى الزمان الثاني ، وخلاصة هذا القول : استصحاب النهي السابق والتعبد بالنهي في الزمان الثاني وهو ( ما يقال : من أنّ النهي - الثابت بالاستصحاب - عن نقض اليقين ، نهيٌ وارد في دفع الرخصة ) المستفادة من : « كل شيء مطلق » فمورد الاستصحاب وان لم يرد فيه نهي واقعي ، حيث لم يقل الشارع : لا تشرب العصير بعد إذهاب الهواء ثلثيه بالخصوص ، إلاّ انه ممّا ورد فيه

ص: 146

وجهُ الضعف : أنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص ، لا من حيث أنّه مشكوك الحكم ،

-------------------

النهي الظاهري بالعموم حيث قال الشارع : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) والعصير الذي غلى ورد النهي فيه يقينا ، فإذا ذهب ثلثاه بالهواء نشك في خروجه عن النهي ودخوله في الرخصة « كل شيء مطلق » فاستصحاب النهي يدفع دخوله في الرخصة : « كل شيء مطلق » فلا مجال للبرائة فيه .

( وجهُ الضعف : أنّ الظاهر من الرواية ) : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) ( بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص ) أي : بما هو ، كالعصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه لم يرد فيه نهي بعنوانه الخاص ( لا ) انه لم يرد فيه نهي ( من حيث ) عنوانه العام أي : العصير بما ( أنّه مشكوك الحكم ) فالعصير المشكوك الحكم ، كالعصير الذي غلى وذهب ثلثاه لكن بالهواء ، ان جاء فيه نهي بعنوانه الخاص يعني : نهي واقعي بأن قال : لا تشرب العصير ان ذهب ثلثاه بالهواء ، دخل في المنهي عنه ، وإلاّ فمجيء النهي بعنوانه العام أي : نهي ظاهري بسبب الاستصحاب ، فانه لا يخرجه عن : « كل شيء مطلق » لأن ظاهر : « كل شيء مطلق » بيان الرخصة فيما لم ينه عنه بعنوانه الخاصّ ، فيكون مشمولاً للبرائة .

وعليه : فالنهي لا يشمل كلا العنوانين : النهي الخاص والعام أي : النهي الواقعي الحاصل من الدليل المعتبر كالخبر ، والنهي الظاهري الحاصل من الأصل العملي

ص: 147


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح 7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وإلاّ فيمكن العكس ، بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة

-------------------

كالاستصحاب ، حتى يكون الاستصحاب واردا على « كل شيء مطلق » ( وإلاّ فيمكن العكس ) بأن يكون : « كل شيء مطلق » واردا على الاستصحاب ، وذلك بأن يشمل اليقين على خلاف الحالة السابقة كلا العنوانين أيضا : اليقين الخاص والعام أي : اليقين الواقعي الحاصل من : يجوز شرب العصير ان ذهب ثلثاه ولو بالهواء - على فرض وجوده - والظاهري الحاصل من : « كل شيء مطلق » فانه يقين ظاهري على خلاف الحالة السابقة للعصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء ، فيخرجه من : « لا تنقض اليقين بالشك » ويدخله في : « بل انقضه بيقين آخر » (1) فيكون « كل شيء مطلق » واردا على الاستصحاب .

هذا ان لم نقل بالتعارض والتساقط فيها ، وذلك لأن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء مشمول من جهةٍ للحرمة المستصحبة المتيقنة سابقا ، ومن جهةٍ للرخصة الظاهرة من « كل شيء مطلق » لأنه لم يرد فيه نهي خاص ، فيتعارضان ويتساقطان ويكون العصير مجرى للبرائة العقلية .

وكيف كان : فان من يقول : بأن « لا تنقض اليقين بالشك » محكّم في المقام فيقتضي الحرمة ، قيل له : « ان كل شيء مطلق » محكّم في المقام ممّا يوجب الحلية .

هذا ، وقد بيّن المصنّف العكس بقوله : ( بأن يقال : إنّ النهي عن النقض ) الذي هو مقتضى الاستصحاب إنّما يكون ( في مورد عدم ثبوت الرخصة ) في الشيء لكن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه قد ثبت فيه الرخصة ولو ( بأصالة

ص: 148


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

الاباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة .

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق .

فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من ابقائه ، وفرض عمومه للزمان اللاحق ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق مّما ورد فيه النهي أيضا .

-------------------

الاباحة ) التي هي مفاد « كل شيء مطلق » فيكون واردا على الاستصحاب ، وحينئذ ( فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البرائة ) التي هي مفاد « كل شيء مطلق » .

وعليه : فحين سقط الجوابان السابقان اللذان ذكرهما المصنِّف بقوله : « فقد يقال : أنّ مورد الاستصحاب خارج عنه » وبقوله : « ويتلوه في الضعف » ( فالأولى في الجواب ) الموجب للقول بحرمة العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء ( أن يقال : ) بالحكومة لا بالورود ، وهو : ( إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق ) أي : قبل ذهاب الثلثين في المثال تعميما ( بالنسبة إلى الزمان اللاحق ) أي : بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، فالعصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه بالهواء كان محرّما ، والآن بعد الذهاب بالهواء يقول الاستصحاب ببقاء هذا التحريم .

وكيف كان : ( فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » يدلّ على أنّ النهي الوارد ) سابقا عن شرب العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه ( لابدّ من ابقائه ) أي : ابقاء ذلك النهي ( و ) كذا لابدّ من ( فرض عمومه ) أي : عموم النهي السابق قبل ذهاب الثلثين ( للزمان اللاحق ، و ) هو بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، بمعنى : ( فرض الشيء في الزمان اللاحق مّما ورد فيه النهي أيضا ) لأنّ ذلك النهي عام شامل

ص: 149

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : « كلُّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ، وكلّ نهي ورد في شيء ، فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغيّى بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي ،

-------------------

للزمان اللاحق .

إذن : ( فمجموع الرواية المذكورة ) الدالة على الرخصة : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) ( ودليل الاستصحاب ) : « لا تنقض اليقين بالشك » منضما أحدهما إلى الآخر يكونان ( بمنزلة أن يقول : « كلُّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ) هذا من جهة الرواية ( وكلّ نهي ورد في شيء ، فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ) أي : احتمال النهي وابقائه إلى الزمان الثاني ، وهذا من جهة دليل الاستصحاب ( فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه ) أي : « كل شيء مطلق » و « كل شيء مرخّص فيه » ( مغيّى بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام ) لأن النهي بمقتضى الاستصحاب دائم إلى الحالة الثانية ( و ) ب ( عموم الأزمان ) الشامل للزمان الثاني أيضا .

وعليه : ( فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر ) الذي هو البرائة ( في مورد الشك ) أي : بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فيما نحن فيه ( لولا النهي ) أي : انه لولا النهي كان اللازم الأخذ بالأصل الآخر الذي هو البرائة ، لكن لما ورد النهي واستصحبناه إلى الحالة الثانية ، كان اللازم أن نقول بالتحريم ،

ص: 150


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض .

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والموضوعية ، بل الآمرُ في الشبهة الموضوعية أوضح ، لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة .

مثلاً : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

-------------------

فإنّ استصحاب الحرمة يفيد : أن هذا الشك ليس بشك ، وان قوله : « كل شيء مطلق » لا يعم هذا المورد ، فيكون الاستصحاب حاكما على البرائة ( وهذا ) هو ( معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض ) إن شاء اللّه تعالى : من ان الحكومة هي : كون دليل موسّعا لدليل أو مضيّقا له .

هذا ( ولا فرق فيما ذكرنا ) من حكومة الاستصحاب ( بين الشبهة الحكميّة ) كما تقدَّم في مثال : الشكّ في حصول الطهارة والحلية بذهاب الثلثين بالهواء ، أو البقاء على الحرمة والنجاسة ( و ) بين الشبهة ( الموضوعية ) كما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدم ذهابهما ، وذلك فيما إذا كان الموضوع العرفي باقيا ، فانه يستصحب عدم ذهاب الثلثين .

( بل الآمرُ ) أي : الحكومة ( في الشبهة الموضوعية أوضح ) من الشبهة الحكمية ( لأنّ الاستصحاب الجاري فيها ) أي : في الشبهة الموضوعية ( جار في الموضوع ) فيستصحب بقاء الموضوع السابق ( فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة ) وإذا دخل فيه ، فلا يبقى شك في الحكم حتى يقال : بجريان أصل الحل أو أصل البرائة .

( مثلاً : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

ص: 151

الشك في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمتُه بالأدلة ، فيخرج عن قوله « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » .

نعم ، هنا إشكالٌ في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ،

-------------------

الشك في الذهاب ) أي : في ذهاب الثلثين ( يدخله ) أي يدخل هذا العصير المشكوك ( في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته ) أي : حرمة هذا العصير ( بالأدلة ) الدالة على ان كل عصير غلى ولم يذهب ثلثاه فهو حرام ( فيخرج عن قوله ) عليه السلام : ( « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » (1) ) الدال على البرائة ، لوضوح : ان جريان الأصل في الموضوع حاكم على جريان الأصل في الحكم ، فيُقدّم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، كما ألمعنا إليه سابقا .

( نعم ، هنا ) في حكومة الاستصحاب الموضوعي السببي على الأصل الحكمي المسبّبي ( إشكالٌ في بعض أخبار أصالة البرائة في الشبهة الموضوعية ) والاشكال هو ان الظاهر : كون الحلّية في الأمثلة المذكورة في هذا البعض من أخبار البرائة مستندة إلى الكلية المذكورة في صدرها ، وهي : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » مع ان هذه الأمثلة معارضة باستصحاب الحرمة فيها ، ممّا يظهر من الرواية حكومة البرائة على الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، لا حكومة الاستصحاب على البرائة ، لكن بعض العلماء حاول حلّ الاشكال المذكور ودفعه عن ظاهر الموثقة بجعل الأمثلة المذكورة في الرواية لمجرد الحلية المستندة إلى غير الكلية المذكورة ، كالاستناد إلى أصالة الصحة في الشراء

ص: 152


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ج22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وهو قوله عليه السلام من الموثّقة : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعَهُ من قِبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقةٌ ، والمملوك عندك ، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه أو قُهِرَ فبِيع أو خُدِعَ فبِيع ، أو إمرأة تحتَك وهي أختُك أو رضيعتُك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غيره أو يقومَ به البيّنة » .

-------------------

من ذي اليد ، وعدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة وغير ذلك .

( و ) هذا البعض من الأخبار ( هو قوله عليه السلام من الموثّقة : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقةٌ ) قد باعه السارق أو أهداه إليك وأنت لا تعلم انه سرقة ( والمملوك عندك ، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه ) حيث كان المسيحيون يبيعون أنفسهم ويهدون أثمانهم لدينهم ، وكذلك كان يفعل بعض الفقراء ، حيث كانوا يبيعون أنفسهم حتى يستريحوا عن كدّ المعاش ويكون معاشهم على مواليهم ( أو قُهِرَ فبِيع ) أي : هدّده الغاصبون بالقتل إذا لم يعترف بأنه عبد ثم باعوه ( أو خُدِعَ فبِيع ) وذلك بأن أوقعوا في ذهنه انه عبد فتصور صحة كونه عبدا ( أو إمرأة تحتَك وهي أختُك ) من النسب ( أو رضيعتُك ) أو أم زوجتك أو ما أشبه ذلك .

ثم أعطى عليه السلام قاعدة كلية فقال : ( والأشياء كلّها على هذا ) أي : على الحلية ( حتى يستبين لك غيره ) أي : غير الحلّ بسبب العلم والاطمينان وما أشبه ذلك ( أو يقومَ به البيّنة » (1) ) الشرعية كشاهدين عادلين - مثلاً - على غير ذلك .

ص: 153


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فانّه قد استدلّ بها جماعة - كالعلامة في التذكرة ، وغيره - على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة هنا معارضةٌ باستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب ، والحريّة في المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة .

ولو اُريد من الحلّية في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة

-------------------

وكيف كان : ( فانّه قد استدلّ بها ) أي : بهذه الرواية ( جماعة - كالعلامة في التذكرة ، وغيره - على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة ) التي هي أصل حكمي مسبّبي ( هنا ) في الأمثلة المذكورة ( معارضةٌ باستصحاب ) موضوعي سببي وهو استصحاب موضوع ( حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية ) وذلك ( كأصالة عدم التملّك في الثوب ، و ) أصالة ( الحريّة في المملوك ، و ) أصالة ( عدم تأثير العقد في الامرأة ) .

هذا ان أريد بأصل الحلّ البرائة ( ولو اُريد من الحلّية في الرواية ما ) ما ذكرناه :

من الحل الذي ( يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب ) وقد تقدّم سابقا : ان أصالة الصحة مقدّمة على الاستصحاب ( و ) كذا أصالة الصحة في شراء ( المملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة ) التي هي زوجته ، وذلك بمعنى : انه لم يحكم بحلّية هذه الأشياء لأصل البرائة ، بل لاُصولٍ موضوعيّة اُخرى حاكمة على الاستصحاب الموضوعي الجاري في هذه الأمثلة ، فان الاستصحابين إذا تعارضا فقد يحكّم بعضهما على بعض ، وذلك كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

ص: 154

كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية .

وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، واللّه الهادي ، هذا كلّه قاعدة البراءة .

وأمّا استصحابها ،

-------------------

وعليه : فانه وان كان الحكم لذلك صحيحا ، لكنه ( كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية ) فان الاباحة الثابتة بالاُصول الموضوعية ، كأصالة الصحة ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع ، غير الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، بينما ظاهر الرواية هو : ان الإمام استند إلى أصالة الاباحة ، لأنه قال عليه السلام في صدر هذه الرواية : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » وقال في ذيلها : « والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة » فيلزم من الرواية : امّا حكومة البرائة على الاستصحاب ، وامّا عدم انطباق الأمثلة على الكلية التي ذكرها الإمام عليه السلام ، وكلاهما خلاف الموازين الأوّلية .

هذا ( وقد ذكرنا في مسألة أصالة البرائة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ) هناك حتى يتبيّن لك امكان عدم الالتزام بأحد المحذورين ( واللّه الهادي ) إلى سواء السبيل .

كان ( هذا كلّه ) حال ( قاعدة البرائة ) المختصة بالشك في التكليف فيما لو تعارضت مع الاستصحاب ، وقد عرفت : حكومة الاستصحاب عليها .

( وأمّا استصحابها ) أي : استصحاب البرائة - المختص بالشك في بقاء البرائة الثابتة سابقا - على فرض جريانه في البرائة ، فانّا قد قلنا سابقا : ان استصحاب البرائة لا يجري بعد كون الأثر للشك لا للمشكوك ، كما إذا استصحبنا البرائة السابقة حال الصغر أو حال الجنون أو ما أشبه ، وذلك بأن نقول : إنّ التتن

ص: 155

فهو لا يجامع استصحاب التكليف ، لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه إلاّ على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : « صم يوم الخميس » .

-------------------

حال الصغر وحال الجنون كان جلالاً ، لرفع القلم حالهما ، فإذا شككنا في حرمته بعد البلوغ والافاقة نستصحب حلّيته .

وكيف كان : فانه على فرض جريانه ( فهو لا يجامع استصحاب التكليف ) إذ ليس هناك مورد يتعارض فيه استصحاب التكليف مع استصحاب البرائة حتى يبحث عن تقدّم هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا .

وإنّما لا يجامع استصحاب البرائة استصحاب التكليف ( لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف ) كما تقدَّم من مثال الشك في حصول الحلّية بذهاب الثلثين بالهواء ، فإنّه يستصحب الحرمة ، لا البرائة ( أو عدمه ) أي : عدم وجود التكليف سابقا ، كالشك في حرمة التتن مع عدم التكليف ، فانه على كلا التقديرين لا اجتماع للاستصحابين .

إذن : فاستصحاب البرائة لا يجتمع مع استصحاب التكليف حتى يتعارضان ( إلاّ على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين ) وهو النراقي ( إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : « صم يوم الخميس » ) فان في يوم الجمعة استصحابين : استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس ، لكنّا ذكرنا سابقا : عدم صحة مثل هذا الاستصحاب وقلنا :

ص: 156

الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب

ولا اشكال بعد التأمّل في ورود الاستصحاب عليها ، لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشك في براءة الذمّة بدون الاحتياط .

فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب ، فلا مورد للقاعدة ،

-------------------

ان الزمان لو كان مفرّدا كان الحكم بعد يوم الخميس عدم الوجوب ، وان كان الزمان ظرفا كان الحكم بعد يوم الخميس الوجوب ، لما كان في يوم الخميس من الصوم في المثال المذكور .

( الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ) كما إذا سافر إلى محل يشك في انه هل هو ثمانية فراسخ أم لا؟ فان الاستصحاب يقول بعدم كونه ثمانية فراسخ فيجب عليه التمام ، والاشتغال يقول بانه مكلّف باحدى صلاتين : القصر أو التمام ولا يعلم أيّهما فيجب عليه الجمع بينهما ، فيتعارض الاستصحاب مع الاشتغال .

هذا ( ولا اشكال بعد التأمّل في ) هذين القاعدتين من ( ورود الاستصحاب عليها ) أي : على قاعدة الاشتغال ، وذلك ( لأنّ المأخوذ في موردها ) أي : في مورد قاعدة الاشتغال ( بحكم العقل ) هو ( الشك في برائة الذمّة بدون الاحتياط ) أي : انه إذا لم يحتط لم يقطع ببرائة ذمته ، فيحتاط بالجمع كما في المثال لإبراء ذمته عن التكليف الموجّه إليه ( فإذا قطع بها ) أي : بالبرائة ( بحكم الاستصحاب ) حيث يستصحب وجوب التمام ، أو يستصحب عدم الوصول إلى ثمانية فراسخ ( فلا مورد للقاعدة ) أي : لقاعدة الاشتغال ، فلا تعارض .

ص: 157

كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط : الجمعَ فيها بين القصر والتمام ، فانّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرءٌ قطعيٌ لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجود ، هذا حال القاعدة .

وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة

-------------------

وأمّا مثاله : فهو ( كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد ، التي يقتضي الاحتياط : الجمعَ فيها ) أي : في تلك الموارد ( بين القصر والتمام ) كالمثال الذي ذكرناه آنفا ( فانّ استصحاب وجوب أحدهما ) كالتمام في مثالنا ( وعدم وجوب الآخر ) كالقصر ، لأنه لم يكن سابقا يجب عليه القصر ، فإذا شك في انه وجب عليه القصر أم لا؟ استصحب عدم وجوب القصر ( مبرءٌ قطعيٌ لذمة المكلّف عند الاقتصار على ) امتثال ( مستصحب الوجود ) أي : الذي كان سابقا موجودا موضوعا أو حكما .

نعم ، إذا كان استصحاب الموضوع ممكنا لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم ، لأنهما من قبيل الاستصحاب السببي والمسبّبي ، وقد سبق ان قلنا : انه ما دام يجري الاستصحاب السببي لا مجال للاستصحاب المسبّبي .

( هذا حال القاعدة ) أي : قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب .

( وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة ) أي : في مورد قاعدة الاشتغال ، فقد ذكرنا : انه لا فائدة فيه ، لأنه تحصيل للحاصل ، إذ مورد جريان قاعدة الاشتغال هو : الشك في المكلّف به ، كما في مثال القصر والتمام ، فانه قبل الاتيان بأحدهما، وكذا بعد الاتيان بأحدهما ، مجرى لقاعدة الاشتغال ، ومع جريان قاعدة الاشتغال نستغني عن استصحاب الاشتغال .

ص: 158

على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه غير مجدٍ في مورد القاعدة لاثبات ما يثبته القاعدة ، فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين .

وحاصله : أنّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكمٌ على استصحابه .

-------------------

لكن ( على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه ) أي : استصحاب الاشتغال ( غير مجدٍ ) أي : غير مفيد ( في مورد القاعدة ) وإنّما لم يكن مفيدا في موردٍ تجري فيه قاعدة الاشتغال ( لاثبات ما يثبته القاعدة ) أي : لأن استصحاب الاشتغال لا يثبت شيئا سوى ما تثبته قاعدة الاشتغال ، فيكون مع جريانها مستغنىً عن جريانه ، لأنه تحصيل للحاصل .

وكيف كان : فإنّه على تقدير وجود فائدة لاستصحاب الاشتغال في مورد جريان قاعدة الاشتغال ، والاغماض عما ذكرناه سابقا من عدم الفائدة فيه ( فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين ) عن قريب إن شاء اللّه تعالى .

( وحاصله : انّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال ) قبل أن يأتي المكلّف بأحد المحتملين كالتمام في المثال ( حاكمٌ على استصحابه ) أي : استصحاب الاشتغال بعد أن يأتي بأحدهما ، وذلك لوضوح ان الشك في بقاء الاشتغال مسبّب عن الشك في كون المكلّف به هو ما أتى به من التمام أو غيره من القصر في المثال ، فإذا جرى الأصل في الشك السببي وقال : انّ التكليف هو التمام للاستصحاب ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال حتى يعارض استصحاب التمام .

ص: 159

الثالث : التخيير

ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ، إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ، فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال مع استصحاب عدم الهلال .

-------------------

( الثالث ) : تعارض الاستصحاب مع ( التخيير ) كما إذا تردّد اليوم الثلاثون من شهر رمضان بين انه آخر شهر رمضان حتى يجب صومه ، أو أول شهر شوال حتى يحرم صومه ، فإنّه لا تعارض هنا بين الاستصحاب والتخيير ، لأنا إذا استصحبنا بقاء شهر رمضان ، كان الحكم : وجوب صيامه ، فلا تخيير في البين حتى يتعارض التخيير مع الاستصحاب ، وذلك لورود الاستصحاب على التخيير كما قال : ( ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ) أي : على التخيير .

وإنّما يكون واردا عليه ( إذ ) باستصحاب وجوب الصوم ، أو استصحاب كونه من شهر رمضان ( لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ) فان التخيير حكم المتحيّر ، ومع قول الشارع : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) لا يبقى تحيّر .

وعليه : ( فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال ) أي : في اليوم الثلاثين من شهر رمضان ، المحتمل لأن يكون أول شوال فيحرم صومه ، أو آخر شهر رمضان فيجب صومه ، فانه لا يحكم فيه بالتخيير ( مع استصحاب عدم الهلال ) فانه كان سابقا شهر رمضان ، ولم نعلم بانه هل دخل شهر شوال أو لم يدخل ؟ فنستصحب بقاء شهر رمضان فيجب صومه .

ص: 160


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

ولذا فرّع الإمام عليه السلام قوله : « صُم للرؤية وافطِر للرؤية » على قوله : «اليقين لا يدخله الشك » .

وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين

وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاُصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاُصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع .

فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

-------------------

( ولذا ) أي : لورود الاستصحاب على التخيير ( فرّع الإمام عليه السلام قوله ) في جواب السائل عن حكم الشك : ( « صُم للرؤية وافطِر للرؤية » على قوله : « اليقين لا يدخله الشك » ) فان الرواية تقول : « اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية » (1) فالجملة الاولى منها تمهيد لقاعدة الاستصحاب والجملة الثانية تفريع عليها ، وهو انه إذا شك وكان في الثلاثين من شهر شعبان فليستصحب شعبان ، وإذا كان في الثلاثين من شهر رمضان فليستصحب شهر رمضان ، فالاستصحاب مقدّم على التخيير وان تردّد الأمر بادي النظر بين المحذورين .

( وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين ، وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاُصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاُصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع ) في كلماتهم ، حيث انهم تارة قدّموا هذا الاستصحاب ، وتارة قدّموا الاستصحاب الثاني عليه ، ممّا أوقعهم في التدافع بين كلامهم .

وكيف كان : ( فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

ص: 161


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

من حيث كونهما موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين ،

-------------------

من حيث كونهما موضوعيّين ) كاستصحاب عدم موت زيد إلى حين موت عمرو ، واستصحاب عدم موت عمرو إلى حين موت زيد ، فيما إذا اشتبه تقدّم موت أحدهما على الآخر ( أو حكميّين ) كاستصحاب نجاسة الثوب المغسول فيما كان نجسا سابقا ، وبقاء طهارة الماء المغسول به فيما كان طاهرا سابقا ، لأنه كان كرا مثلاً ، فيشك الآن في كريّته ، فان الاستصحابين متعارضان في الظاهر ، لكن التعارض بينهما فيما نحن فيه ليس حقيقة التقابل ، ممّا يُتحيّر في انه هل يؤخذ بهذا أو بذاك ؟ بل مجرّد التقابل الصوري البدوي ولو بأن كان أحدهما سببيا والآخر مسبّبيا أو ما أشبه ذلك .

( أو مختلفين وجوديّين ) كاستصحاب كريّة الماء فيما كان كرّا سابقا ، واستصحاب نجاسة الثوب الواقع فيه فيما كان نجسا سابقا ، فان كرّية الماء من استصحاب الموضوع ونجاسة الثوب من استصحاب الحكم ، وهما وجوديّان ( أو عدميّين ) كاستصحاب عدم حصول ملاقاة النجاسة مع الماء إلى زمان الكرّية، واستصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة .

( أو مختلفين ) كاستصحاب عدم التذكية عدما ، واستصحاب طهارة الجلد المطروح في الصحراء الثابتة حال الحياة وجودا .

( وكونهما في موضوع واحد ) كما تقدّم من كلام النراقي في مثال : « صم يوم الخميس » حيث استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس .

( أو ) في ( موضوعين ) كاستصحاب كرّية الماء ، واستصحاب نجاسة الثوب

ص: 162

وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج ، إلى غير ذلك .

إلاّ أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلاّ من جهة واحدة ، وهي أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس ، وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث ،

-------------------

الواقع فيه - مثلاً - .

( وكون تعارضهما بأنفسهما ) أي : لا بأمر خارج عنهما - على ما يأتي مثال الخارج - وذلك كجملة من الأمثلة السابقة .

( أو بواسطة أمر خارج ) عنهما كحصول العلم الاجمالي - بعد التوضّؤ بماء مشتبه بالنجس - بارتفاع أحد أمرين : إمّا ارتفاع الحدث ، أو ارتفاع طهارة البدن ، فان استصحاب طهارة البدن يعارضه استصحاب الحدث .

( إلى غير ذلك ) من التقسيمات ، مثل وجود المرجّح لأحد الاستصحابين ، وعدم وجود المرجّح للآخر ، ونحو ذلك .

( إلاّ أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلاّ من جهة واحدة ، وهي ) أي : تلك الجهة ( أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس ) أي : بأن لا يكون الآخر مسبّبا عنه ، لأنّ ذلك محال كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، فإنّ السببية والمسبّبية لا يمكن التقابل فيهما ، بل إذا كانت هناك سببية ومسبّبية كان أحدهما سببا والآخر مسبّبا .

( وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث ) كاستصحاب عدم حصول الكرية إلى زمان ملاقاة النجاسة مع الماء ، واستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمان الكرية .

ص: 163

وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول .

وما تُوهّم له : « من التمثيل بالعامّين من وجه وأنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشّك في أصالة العموم في الآخر مندفعٌ : بأنّ الشّك في الأصلين مسبّب عن العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما .

وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

-------------------

هذا ( وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول ) لوضوح : ان السبب لشيء لا يكون مسبّبا عن نفس ذلك الشيء ، إذ لا يُعقل ان يكون هناك شيئان كل واحد منهما سببا للآخر ومسبّبا عنه .

( وما تُوهّم له : « من التمثيل بالعامّين من وجه ) كما إذا قال المولى : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم الفساق ، الذي يبدو انهما متعارضان في مادّة الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، فان أحد العامين في مادة الاجتماع هذه إمّا أن يخصّص بالآخر لمرجّح ، أو يكون له حكم ثالث كالتخيير - مثلاً - ( و ) ذلك لاحتمال السببي والمسبّبي في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر يعني : ( أنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشك في أصالة العموم في الآخر » ) وبعبارة اُخرى : ان الشك في بقاء عموم كل منهما مسبّب عن الشك في بقاء عموم الآخر .

وعلى كل حال : فإنّ هذا التوهّم ( مندفعٌ : بأنّ الشك في الأصلين مسبّب عن ) شيء ثالث وهو : ( العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما ) بالآخر في مادة الاجتماع، ولذا فان كان مرجّح خصّصنا به أحدهما ، وإلاّ فالتخيير بينهما وهو حكم ثالث ، لا أنّ كل واحد منهما سبب للآخر ومسبّب عنه .

( وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين ) كالتالي :

ص: 164

القسم الأوّل :

ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ، مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّبٌ عن الشك في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيُستصحَب طهارتُه ويُحكم بارتفاع نجاسة الثوب ، خلافا لجماعة .

-------------------

( القسم الأوّل : ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ) كالشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاع النجاسة ، المسبّب هذا الشك عن الشك في بقاء طهارة الماء المسبوق بالكرية وارتفاعها ( فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه ) أي : في الشك السببي ( ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ) الذي هو الشك المسبّبي .

( مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ) فيما إذا كان هناك ماء مسبوق بالكرّية ، ثم أُخذ منه مقدار يشك معه بقاء كرّيته ، ثم غُسل فيه ثوب نجس ، فشككنا بعده في انه هل طهر هذا الثوب أم لا؟ وهل تنجس ذلك الماء أم لا ؟ ( فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها ) أي : ارتفاع نجاسة الثوب ( مسبّبٌ عن الشك في بقاء طهارة الماء ) المسبوق بالكرية ( وارتفاعها ) أي : ارتفاع طهارة الماء ( فيُستصحَب طهارتُه ) أي : طهارة الماء ، لأنه سببي ( ويُحكم بارتفاع نجاسة الثوب ) لأنه مسبّبي ، ومعه لا يبقى مجال لاجراء استصحاب النجاسة ، وذلك ( خلافا لجماعة ) من الفقهاء ، حيث قالوا بالتعارض بين الاستصحابين المذكورين .

ص: 165

لوجوه :

أحدها : الاجماع على ذلك في موارد لا تحصى ، فانّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية - كالطهارة من الحدث والخبث ، وكرّية الماء وإطلاقه ، وحياة المفقود ،

-------------------

وإنّما قلنا بلزوم تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي ( لوجوه ) أربعة ، كما في كلام المصنِّف ، علما بأن المصنِّف أيّد الوجه الأوّل بأمرين آخرين إضافة إلى الوجوه الأربعة ، وهما : السيرة وبناء العقلاء ، والوجوه الأربعة هي كما يلي :

( أحدها : ) أي : الوجه الأوّل من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : ( الاجماع على ) تقديم السببي على المسبّبي ، و ( ذلك في موارد لا تحصى ) من الفقه ( فانّه لا يحتمل الخلاف ) من أحد من الفقهاء ( في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية ) دون الاستصحاب في لوازمها والمصنّف يُشير إلى بعض من أمثلته :

( كالطهارة من الحدث والخبث ) فان الانسان إذا كان طاهرا من الحدث والخبث وشرع في الصلاة ، ثم شك في انه هل بقي على طهارته أم لا؟ فانه يستصحب الملزوم وهو هنا الطهارة ويحكم بصحة الصلاة ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم صحة الصلاة .

( وكرّية الماء واطلاقه ) فانه إذا شك في بقائهما يُستصحبان لأنهما ملزومان ، فيُحكم بطهارة الثوب النجس المغسول بهذا الماء ، ولا يستصحب نجاسة الثوب لأنه لازم .

( وحياة المفقود ) فيما إذا مات أبوه - مثلاً - وهو غائب ، فلم نعلم هل انه موجود حتى يرث من مورّثه الذي مات ، أو انه ميت حتى لا يرث منه ؟

ص: 166

وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج ونحو ذلك - على استصحاب عدم لوازمها الشرعيّة ، كما لا يخفى على الفطن المتتبّع .

نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات يُعارِضُ أحدَهما بالآخر ، كما سيجيء ، ويؤيده السيرةُ المستمرّةُ بين الناس على ذلك

-------------------

فنستصحب الملزوم وهو هنا حياة المفقود ، فيرث من مورّثه ، ولا نستصحب اللازم وهو هنا عدم انتقال شيء من المال إليه .

( وبرائة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج ) فانه إذا شك من اشتغال ذمته بدين لا يتمكن مع هذا الدين من الحج لعدم استطاعته ، فانه يستصحب الملزوم وهو هنا عدم اشتغال ذمته بالدين ، فيجب عليه الحج ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب الحج عليه .

( ونحو ذلك ) كاستصحاب الزوجية فيما لو قال الزوج لزوجته : « أنت بتلة » ثم شك في بقاء الزوجيّة المستلزمة لوجوب النفقة فانه يستصحب بقاءها ، فتجب النفقة ، لا انه يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب النفقة ، فان هذا الاستصحاب وغيره من أمثاله ، الجاري في الملزومات الشرعية مقدّم ( على استصحاب عدم لوازمها الشرعية ) بلا إشكال من أحد ( كما لا يخفى على الفطن المتتبّع ) لكلمات الفقهاء .

( نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات ) من الفقه ( يُعارض أحدَهما ) أي : أحد هذين الاستصحابين ( بالآخر ، كما سيجيء ) إن شاء اللّه تعالى عند ذكر الأقوال في المسألة .

( ويؤيده ) أي : يؤيّد الاجماع القائم على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ( السيرةُ المستمرّةُ بين الناس على ذلك ) أي : على التقديم

ص: 167

بعد الاطّلاع على حجيّة الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة .

الثاني أنّ قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي مانعٌ

-------------------

المذكور ، لكن ( بعد الاطلاع على حجيّة الاستصحاب ) فان سيرة المسلمين بعد اطلاعهم على اعتبار الاستصحاب يكون بتقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي .

( كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة ) وديدن العقلاء ، فان بناء العقلاء أيضا على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ، فإذا غاب الزوج عن زوجته طويلاً - مثلاً - بحيث صارت المرأة تشك في انه هل مات زوجها أم لا ؟ تستصحب بقاء الزوج فلا تتزوج ، وإذا شكّوا في الموكّل هل مات حتى لا تصح أعمال الوكيل ، أو هو حي حتى تصحّ أعماله؟ يستصحبون حياته ، وإذا مات أحدهم عزلوا من تركته حصة الغائب من ورثته ، إلى غير ذلك .

( الثاني ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : ان الدليل الشرعي الدال على حجية الاستصحاب ، إنّما يختصّ بالأصل السببي فقط ، ولا يشمل الأصل المسبّبي لما قال : ( أنّ قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ) عام يشمل بلا إشكال ولا خلاف الشك السببي ، وذلك ( باعتبار ) دلالة : « لا تنقض اليقين بالشك » عليه ، فان ( دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي ) لأنه فرد من أفراد هذا العام ( مانعٌ ) للعام :

ص: 168


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي .

يعني : أنّ نقض اليقين يصيرُ نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في « لا تنقض » .

واللازمُ من شمول « لا تنقض » للشك المسبّبي نقضُ اليقين في مورد الشك السببي ، لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ،

-------------------

«

لا تنقض » ( عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي ) .

مثلاً : إذا شك في طهارة الماء الذي كان مسبوقا بالكرية والاطلاق ، بعد غسل ثوب نجس فيه ، فانه يستصحب الكرّية والاطلاق ويحكم بطهارته ، فيزول شكه في نجاسة الثوب المغسول به ، فلا يبقى معه مجال لاستصحاب نجاسة الثوب .

وبعبارة اُخرى : ( يعني : أنّ نقض اليقين ) بنجاسة الثوب حيث يُحكم بطهارته بعد غسله بذلك الماء المستصحب الكرية والاطلاق ( يصيرُ نقضا بالدليل لا بالشك ) وإذا كان نقضا بالدليل ( فلا يشمله النهي في « لا تنقض » ) حتى يقال : بأن نجاسة الثوب كانت متيقّنة ، فشككنا في طهارته بعد غسله بهذا الماء فنستصحب نجاسته ؟.

هذا ( و ) لا يمكن العكس ، بأن نستصحب نجاسة الثوب ، ونخرج استصحاب كرّية الماء وإطلاقه من دليل لا تنقض ، لأن ( اللازم من شمول « لا تنقض » للشك المسبّبي ) الذي هو نجاسة الثوب ( نقضُ اليقين في مورد الشك السببي ) الذي هو كرية الماء وإطلاقه وذلك ( لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ) أي : في مورد الشك السببي ، والقول بلا دليل تحكّم .

والحاصل : انّ الشك السببي فرد للعام : « لا تنقض » فإذا شمله العام خرج الشك المسبّبي عن كونه فردا له ، لانتفاء موضوع الشك في المسبّبي ، امّا إذا قلنا

ص: 169

فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي طرحُ عموم : « لا تنقض » من غير مخصّص ، وهو باطل .

واللازمُ من اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر .

وتبيانُ ذلك أنّ معنى عدم نقض اليقين رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ،

-------------------

بشمول العام للمسبّبي ، فبماذا يخرج الشك السببي عن كونه فردا للعام ؟ .

وبعبارة اُخرى : ( فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي ) واجراء الاستصحاب في الشك المسبّبي ( طرحُ عموم : « لا تنقض » ) بالنسبة إلى الشك السببي ( من غير مخصّص ، وهو باطل ) لأن العام إنّما يُخصّص لو كان هناك دليل مخصّص ( و ) هنا لا مخصّص للشك السببي .

بينما ( اللازمُ من ) اجراء الاستصحاب في الشك السببي ، و ( اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم ) أي : عموم « لا تنقض » ( لشمول المورد ) أي : مورد الشك المسبّبي ( وهو غير منكر ) عند أهل اللسان ، لأنه من باب الحكومة ، كما بيّنا ذلك سابقا ، فاستصحاب الشك السببي حاكم على استصحاب الشك المسبّبي .

( و ) أمّا ( تبيانُ ذلك ) أي : بيان وجه تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي فهو : ( أنّ معنى عدم نقض اليقين ) الوارد في الرواية هو : ( رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ) فالشارع منع عن رفع اليد حيث قال : « لا تنقض » فمعنى استصحاب إطلاق الماء وكريّته بمقتضى : « لا تنقض اليقين بالشك » هو : رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء .

ص: 170

فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلاّ رفعُ اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ، إذ الحكم بنجاسته نقضٌ لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة ، وهو طرحٌ لعموم : « لا تنقض » من غير مخصّص .

أمّا الحكم بزوال النجاسة ، فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلاّ بحكم

-------------------

وعليه : ( فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلاّ رفعُ اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ) المغسول بهذا الماء ، وإلاّ فأيّ معنى لاستصحاب طهارة الماء ؟ ( إذ الحكم بنجاسته ) أي : نجاسة الثوب بعد غسله بهذا الماء المستصحب الطهارة ( نقضٌ لليقين بالطهارة المذكورة ) للماء ، وذلك ( بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة ) في الثوب ، لأن الشارع إذا حكم بنجاسة الثوب ، فامّا أن يحكم بالنجاسة السابقة ( وهو ) نقض لطهارة الماء بلا دليل ، وامّا أن يحكم بالنجاسة لأجل نجاسة جديدة بعد غسله بهذا الماء ، ومعلوم : انه لم يحكم الشارع بطروّ نجاسة على هذا الثوب .

إذن : فالحكم ببقاء نجاسة الثوب ( طرحٌ لعموم : « لا تنقض » ) اليقين بالشك ( من غير مخصّص ) وذلك لأنّا إذا لم نحكم بطهارة الماء الثابتة بالاستصحاب كنّا قد خصّصنا لا تنقض بلا مخصّص ، بينما إذا لم نحكم بنجاسة الثوب كنا قد خصّصنا لا تنقض بسبب مخصّص ، والمخصّص هو : خروج هذا الفرد المستصحب النجاسة عن عموم : « لا تنقض » خروجا بسبب بقاء طهارة الماء تحت عموم : « لا تنقض » .

ولذا قال المصنِّف : ( أمّا الحكم بزوال النجاسة ) عن الثوب المغسول بهذا الماء المستصحب الطهارة ( فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلاّ بحكم

ص: 171

الشارع بطروّ الطهارة على الثوب .

والحاصل : أنّ مقتضى عموم : « لا تنقض » للشك السببي نقضُ الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي .

ودعوى « أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء » ، مدفوعةٌ :

أولاً : بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة

-------------------

الشارع ) الذي حكم ( بطروّ الطهارة على الثوب ) بسبب ان الماء طاهر ، فحكومة طهارة الماء على نجاسة الثوب حكومة شرعية .

( والحاصل : أنّ مقتضى عموم : « لا تنقض » للشك السببي ) حيث إنّ : «لا تنقض» يشمل الشك السببي ( نقضُ الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي ) لأنه بعد جريان « لا تنقض » في الشك السببي لا يبقى مورد للشك المسبّبي .

هذا ( ودعوى ) انه لا فرق بين الفردين السببي والمسبّبي في الدخول تحت العام ، فما وجه اخراج أحدهما دون الآخر؟ فإنّه كما قال : ( « أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ) الذي هو « لا تنقض » ( فلا وجه لطرحه ) أي : طرح هذا الفرد ( وإدخال اليقين بطهارة الماء » ) وهو الفرد الآخر في عموم « لا تنقض » .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : ) بما عرفت : من حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، دون العكس ، فليس الأصل المسببي حاكما على الأصل السببي حتى يكون المسبّبي مخرجا للسببي ، فالدعوى إذن مدفوعة بذلك حلاً ، وبغيره نقضا كما قال المصنّف :

( أولاً : ) نقضا ( بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة ) في الثوب هو

ص: 172

أيضا : رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور إلاّ أن نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده .

وثانيا : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غُسل بماء طاهر فقد طهُر ،

-------------------

( أيضا : رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه ) أي : ملاقي هذا الثوب ( وغيرها ) أي : غير الطهارة من الآثار الاُخرى ( فيعود المحذور ) الذي هو : تقديم الشك السببي على المسبّبي ، يعني : انّه إذا قلتم ببقاء نجاسة الثوب ، ثم لاقى الثوب ماءً قليلاً ، فانكم تقولون بنجاسة هذا الماء الملاقي للثوب ، مع انه من الأصل السببي والمسبّبي ، فيستشكل : بأنّه لماذا قلتم بنجاسة هذا الماء القليل ، الملاقي للثوب المستصحب النجاسة ، ولم تقولوا بجريان استصحاب الطهارة فيه ، مع انكم أجريتم استصحاب النجاسة في نفس الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ؟ فالفرق لماذا مع انه لا فرق بينهما ؟ .

( إلاّ أن ) يقول المدّعي : ( نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة ) الماء القليل ( الملاقي ) للثوب المستصحب النجاسة ، وذلك بأن يقول : أي : المدّعي - إنّا كما نقول ببقاء نجاسة الثوب هناك وان غسل بذلك الماء المستصحب الطهارة ، فكذلك نقول هنا ببقاء طهارة هذا الماء القليل وان لاقاه الثوب المستصحب النجاسة ( و ) لكن ( سيجيء فساده ) أي : فساد هذا الالتزام فيما بعد إن شاء اللّه تعالى .

( وثانيا : ) حلاً بالحكومة ، وهو : ( أنّ نقض يقين النجاسة ) في الثوب إنّما هو ( بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غُسل بماء طاهر فقد طهُر )

ص: 173

وفائدةُ استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة .

بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة كُنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعي على نجاسته ، لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ، بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل

-------------------

هذه هي الكبرى ، وقد ثبتت بالدليل ، والصغرى وهي : ان هذا الماء طاهر يثبت بالأصل كما قال : ( وفائدةُ استصحاب الطهارة ) في الماء هو : ( إثبات كون الماء طاهرا به ) أي : بالأصل وهو الاستصحاب ، فإذا تشكلت صغرى تقول : هذا الماء طاهر ، وكبرى تقول : الماء الطاهر يُطهّر كل نجس يُغسل به مثل الثوب وغيره ، أنتج : هذا الثوب المغسول بهذا الماء قد طهر .

وإنّما نحكم بدخول هذا الفرد وهو الماء في المثال في دليل الاستصحاب ، دون الفرد الآخر وهو الثوب ، للحكومة ، فيكون التخصيص بدليل ( بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة ) أي : بخلاف ما إذا قلنا بأن الماء ليس بطاهر لأن الثوب نجس ، فانه لم يكن هناك دليل على عدم طهارة الماء ، فيكون التخصيص بلا دليل .

( بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة ) في الثوب ( كُنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء ) الذي غُسل به هذا الثوب ( من غير ورود دليل شرعي على نجاسته ) أي : نجاسة الماء ، وذلك ( لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ) المستصحب كرّيته كما هو واضح ( بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانه يوجب زوال نجاسة الثوب ) زوالاً ( بالدليل

ص: 174

الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بالنجاسة لقيام الدليل على طهارته .

هذا ، وقد يشكل بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلّ منهما يقين سابق شُكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدٍّ سواء ،

-------------------

الشرعي ، وهو ) أي : ذلك الدليل الشرعي : ( ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر ) طهارة واقعية ، أو طهارة استصحابية ( يطهر ) .

إذن : ( فطرح اليقين بالنجاسة ) في الثوب إنّما هو ( لقيام الدليل على طهارته ) أي : طهارة هذا الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة دون العكس .

( هذا ) هو جواب اشكال المدّعي الذي ذكره المصنّف بقوله : « ودعوى إنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العام ... » .

( وقد يشكل ) باشكال ثان غير اشكال الدعوى ، وهو : انا نسلّم بأن اجراء الأصل في الشك السببي موجب لارتفاع الشك المسبّبي ، الباعث على أن يكون الشك السببي حاكما على الشك المسبّبي ، إلاّ انه لا وجه لاعتبار الاستصحاب أولاً في جانب السبب حتى يكون حاكما على المسبّب ، بل ينبغي اعتبار الاستصحابين : السببي والمسبّبي في عرض واحد دفعة واحدة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويكون المرجع شيء ثالث ، لا تقديم السببي .

إذن : فالاشكال يقول : ( بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به ) أي : بذلك الماء ( كلّ منهما يقين سابق شُكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته ) أي : نسبة هذا الحكم ( إليهما ) أي : إلى اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب ( على حدٍّ سواء ) فلا يكون أحدهما مقدّما

ص: 175

لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أولاً حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه .

والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ، كما فيما نحن فيه ، فاسدٌ بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم .

ويُدفع

-------------------

على الآخر ( لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على ) حدٍ ( سواء ، فكيف يلاحظ ) كما تذكرون أنتم ( ثبوت هذا الحكم ) الاستصحابي ( لليقين بالطهارة أولاً ) ليكون حاكما على اليقين بنجاسة الثوب ( حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة ) بسبب محكوميّته ، وذلك ( لأنّه ) أي : نقض اليقين بالنجاسة ( مدلوله ) أي : مدلول استصحاب طهارة الماء ( ومقتضاه ) حينئذ ؟ .

( والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ ) « لا تنقض » ( لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم ) ويسمّى تخصيصا ، وذلك كما إذا كان السببي والمسبّبي بين حكمين ( أو ) سببا لخروج بعض الأفراد ( عن الموضوع ) ويسمّى تخصّصا ، وذلك ( كما فيما نحن فيه ) أي : بأن كان السببي والمسبّبي بين موضوعين ( فاسدٌ بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة ) لذلك العام : « لا تنقض » فلا وجه لتقديم أحد الفردين على الفرد الآخر ، وذلك طبعا ( مع قطع النظر عن ثبوت الحكم ) وهو حرمة النقض لبعض الافراد الموجب لتخصيص الآخر ، أو تخصّصه .

( ويُدفع ) هذا الاشكال بوجهين على النحو التالي :

ص: 176

بأنّ فرديّة أحد الشيئين إذا توقف على خروج الآخر المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ولم يجز رفع اليد عن العموم ، لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقّف على شمول العامّ لذلك الشيء المفروض توقف فرديّته على رفع اليد عن العموم ، وهو دور محال .

-------------------

الوجه الأوّل : ( بأنّ فرديّة أحد الشيئين ) للعام كالمسبّبي ( إذا توقف على خروج ) الفرد السببي ، وهو الفرد ( الآخر المفروض الفرديّة ) خروجا له ( عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ) أي : فرديّة المسبّبي ( ولم يجز رفع اليد عن العموم ) في السببي .

وبعبارة اُخرى : إن فردية الشك المسبّبي لعموم « لا تنقض » يتوقف على خروج الشك السببي عن الفردية ، لأن مقتضى فردية الشك السببي لعموم « لا تنقض » وجريان الاستصحاب فيه هو : انتفاء الشك في جانب المسبّب ، فينتفي فردية المسبّبي ، وإذا كان الأمر كذلك لزم الحكم من الأوّل بعدم فردية الشك المسبّبي ، لا خروج الشك السببي عن الفردية ، إذ خروج الشك السببي عن الفردية بالاضافة إلى انه يكون بلا دليل مستلزم للدور كما يلي :

قال : وإنّما لم يجز رفع اليد في الشك السببي عن عموم : « لا تنقض » ( لأنّ رفع اليد حينئذ ) أي : حين توقف فردية الشك المسبّبي على خروج فردية الشك السببي ( عنه ) أي : عن عموم : « لا تنقض » مع فرض انه شامل له ( يتوقّف على شمول العامّ ) « لا تنقض » ( لذلك الشيء ) الذي هو الشك المسبّبي ( المفروض توقف فرديّته ) أي : الشك المسبّبي ( على رفع اليد عن العموم ) في الشك السببي ( وهو دور محال ) لأن دخول هذا متوقف على خروج ذاك ، وخروج ذاك متوقف على دخول هذا .

ص: 177

وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ من قبيل لازم الوجود للشك السببي ، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلاّ محكوما .

-------------------

وبعبارة اُخرى : انّ فردية الشك المسببي لعموم « لاتنقض » موقوف على عدم شمول هذا العموم للشك السببي ، وعدم شمول العموم للشك السببي موقوف على فردية الشك المسبّبي لهذا العموم ، وهو دور صريح ، لأن حاصله : انّ فردية الشك المسبّبي موقوف على فردية الشك المسبّبي .

الوجه الثاني : ( وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ ) في « لا تنقض » وهو : حرمة النقض لازم لموضوع العام الذي هو العموم ، فيكون الحكم متأخرا عن العام ، لأن المحمول متأخر عن الموضوع طبعا ، والشك المسبّبي أيضا لازم للشك السببي ، فيكون متأخرا عن الشك السببي ، فالشك السببي إذن ملزوم له لازمان ، وإذا كان كذلك ، كان اللازمان : الشك المسبّبي ، وحكم العام ، كلاهما في مرتبة واحدة متقارنين وحينئذ لا يمكن أن يكون حكم العام حكما للشك المسبّبي ، لأن الشيء الذي في مرتبة شيء آخر لا يكون حكما لذلك الشيء الآخر ، إذ مرتبة الحكم متأخرة ، ومرتبة الشيء المقارن مقارنة ، ولا يمكن أن يكون المقارن مؤخّرا .

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ان حكم العام الذي هو حرمة النقض ( من قبيل لازم الوجود للشك السببي ) وذلك لأنّ فردية الشك السببي للعام : « لا تنقض » لا يتوقف على شيء آخر ( كما ) لا تتوقف الزوجية اللازمة الوجود للأربعة على شيء آخر ، وهذا التلازم ( هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ) أي : موضوع الحكم الشرعي ، فإن الحكم دائما يكون متأخرا عن موضوعه ولازما له ، فإذا قلنا - مثلاً - : الماء مباح ، كانت الاباحة حكما للماء ولازما له ، وحينئذ ( فلا يوجد ) الشك السببي ( في الخارج إلاّ محكوما ) بحرمة النقض .

ص: 178

والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ، فيكون حكم العامّ وهذا الشكّ لازمان لملزوم ثالث في مرتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر ، لتقدّم الموضوع طبعا .

الثالث :

-------------------

هذا ( والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ) السببي ، وذلك لأنه لو لم يكن شك في طهارة الماء لم يكن شك في بقاء نجاسة الثوب ( فيكون حكم العامّ ) الذي هو حرمة النقض ( وهذا الشكّ ) المسبّبي ( لازمان لملزوم ثالث ) وهو العام ، فيكونان ( في مرتبة واحدة ) لأنهما لازمان ، واللازمان مرتبتهما واحدة مثل : ضوء الشمس وحرارتها ، حيث ان الضوء والحرارة في مرتبة واحدة ( فلا يجوز أن يكون أحدهما ) الذي هو الشك المسبّبي ( موضوعا للآخر ) يعني : لحرمة النقض حتى يكون الشك المسبّبي محرّم النقض ، كما لا يجوز أن يكون النور أو الحرارة أحدهما موضوعا للآخر ( لتقدّم الموضوع طبعا ) .

والحاصل : ان الشك المسبّبي في مرتبة الحكم للعام ، فكيف يكون الشك المسبّبي موضوعا لحكم العام ؟ .

( الثالث : ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : إدخال افراد أكثر في الاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية :

الأوّل : الاستصحاب الحكمي ، وهو أن نستصحب حكما تكليفيا ، مثل استصحاب وجوب الصوم في يوم الشك من آخر شهر رمضان .

الثاني : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، وهو

ص: 179

أنّه لو لم يُبْنَ على تقديم الاستصحاب في الشك السببي كان الاستصحاب قليل

-------------------

ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي ثابت سابقا ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر ، ممّا يكون استصحاب الموضوع موافقا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل: استصحاب حياة الزوج الموافق لاستصحاب وجوب نفقة زوجته .

الثالث : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي المخالف ، وهو ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي حادث مسبوق بالعدم ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر الحادث ، ممّا يكون استصحاب الموضوع معارضا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل استصحاب طهارة الماء لترتيب طهارة الثوب المغسول به ، المعارض لاستصحاب نجاسة الثوب ، وتعارضهما على نحو السببي والمسبّبي .

وعلى هذا : فان قلنا بتقديم السببي على المسبّبي ، كان للاستصحاب فردان : القسم الأوّل ، والقسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني وهو الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، فهو مستغني عنه ، لأنّ استصحاب الحكم فيه يغني عن استصحاب الموضوع ، فيكون من القسم الأوّل .

هذا لو قلنا بتقديم السببي ، لكن لو قلنا بتعارض السببي والمسبّبي فانه لم يبق للاستصحاب إلاّ فرد واحد فقط وهو الاستصحاب الحكمي ، فلا يجري حينئذ الاستصحاب الموضوعي أصلاً ، ويكون الاستصحاب قليل الفائدة ، فحمل « لا تنقض » على ما تقل فائدته غير تامّ ، بعد امكان حمله على ما تكثر فائدته .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( أنّه لو لم يُبْنَ على تقديم الاستصحاب في الشك السببي ) على الاستصحاب في الشك المسبّبي ( كان الاستصحاب قليل

ص: 180

الفائدة جدا ، لأن المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب ، وتلك الآثار إن كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها .

فتنحصر الفائدة في الآثار التي كانت معدومة .

فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم باستصحاب عدم تلك اللوازم

-------------------

الفائدة جدا ) لانحصار جريانه حينئذ في القسم الأوّل وهو الاستصحاب الحكمي فقط ، وهو قليل ، مثل استصحاب وجوب الصوم عند الشك في اليوم الثلاثين من شهر رمضان بأنّه عيد أو ليس بعيد ؟ فيكون الاستصحاب قليل الفائدة .

وإنّما يكون الاستصحاب حينئذ قليل الفائدة ( لأن المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار ) الشرعية ( الثابتة للمستصحب ) كما مثّلنا له بزوال نجاسة الثوب ، المترتّب زوالها على طهارة الماء ، ووجوب نفقة الزوجة المترتب وجوبها على حياة الزوج ( و ) هكذا ، فان ( تلك الآثار ) الشرعية التي يراد ابقاؤها بسبب استصحاب الموضوع ( إن كانت موجودة سابقا ) كوجوب نفقة الزوجة ( أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ) أي : الموضوع ، فانه لا حاجة إلى أن نستصحب حياة الزوج لنحكم بوجوب النفقة، بل نستصحب وجوب النفقة رأسا.

وعليه : ( فتنحصر الفائدة ) أي : فائدة الاستصحاب حينئذ ( في الآثار التي كانت معدومة ) مثل : استصحاب طهارة الماء لاثبات حدوث الطهارة للثوب النجس المغسول به ( فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم ) كما في استصحاب طهارة الماء في المثال ( باستصحاب عدم تلك اللوازم ) أي : مع استصحاب بقاء نجاسة الثوب وعدم زوالها بالتطهير بهذا الماء المستصحب

ص: 181

والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة التي يراد بالاستصحاب إبقاء لنفسها في الزمان اللاحق .

ويرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة ، بناءا على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار موقوف على إحراز الموضوع

-------------------

الطهارة ( والمعاملة معها ) أي : مع هذه المعارضة ( على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ) من التساقط ، فانه ان كان ذلك ( لغى الاستصحاب في الملزوم ) فلم يبق هناك حتى مورد واحد للاستصحاب الموضوعي ( وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة ) فقط وهو القسم الأوّل من أقسام الاستصحاب ، وهي ( التي يراد بالاستصحاب إبقاء لنفسها في الزمان اللاحق ) لا ترتيب آثارها ، لأن الأحكام التكليفية هي مستصحبة بأنفسها ، لا ان لها آثارا فوق المستصحب ، وهي قليلة المورد .

إذن : فيلزم أن نقول بصحة الاستصحاب في الملزوم ولا نعارضه باستصحاب عدم اللازم ، حتى يكون لقاعدة : « لا تنقض » موارد أكثر .

( و ) لكن هذا الذي ذكرناه : من عدم الحاجة إلى الاستصحاب الموضوعي ذي الأثر الشرعي الموافق ، لأن استصحاب الحكم فيه يغني عن استصحاب الموضوع ، ومعه لا يبقى استصحاب موضوعي أصلاً ، هذا الكلام غير تام ، لأنّه ( يرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في ) الموضوع لترتيب ( الآثار السابقة ) على المستصحب ، ووجه المنع هو : ( بناءا على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار ) كوجوب النفقة على الزوجة ( موقوف على إحراز الموضوع

ص: 182

لها ، وهو مشكوك فيه .

فلابدّ من استصحاب الموضوع ، إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار ، فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا ، كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ؛ وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ، كما توهّمه بعضٌ فيما قدّمناه سابقا : من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يُحرز بالاستصحاب ،

-------------------

لها ، وهو ) أي : موضوع وجوب النفقة الذي هو حياة الزوج هنا ( مشكوك فيه ) لغيبة الزوج - مثلاً - طويلاً بحيث شك وكيله في حياته ، فانه لا يعقل هنا اثبات الحكم بدون احراز الموضوع .

وعليه : ( فلابدّ من استصحاب الموضوع ) الذي هو حياة الزوج ، وذلك ( إمّا ليترتّب عليه ) أي : على استصحاب الموضوع ( تلك الآثار ) الشرعية : من وجوب نفقة زوجته ، وحرمة تزوّجها بشخص آخر ، وحرمة تقسيم ماله بين ورثته ، وغير ذلك ترتّبا تلقائيا ، يعني : ( فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها ) أي : نفس تلك الآثار الشرعية ( المتوقّفة ) تلك الآثار ( على بقاء الموضوع يقينا ) ولو تعبديا ( كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ) حيث قلنا : بأنّه يكفي استصحاب الموضوع في ترتيب الآثار عليه بلا حاجة إلى استصحاب كل أثر أثر .

( وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ) والشرط فيها هو بقاء الموضوع ، فلابدّ من احرازه ولو بالاستصحاب ، ثم الحمل عليه ، ففي المثال نستصحب حياة الزوج شرطا لاستصحاب وجوب النفقة ، وحرمة تزوج امرأته ، وحرمة تقسيم ماله بين ورثته ، وغير ذلك ( كما توهّمه بعضٌ فيما قدّمناه سابقا : من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يُحرز بالاستصحاب ،

ص: 183

فيستصحب .

والحاصل : أنّ الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كلّ تقدير .

الرابع : أنّ المستفاد من الأخبار : عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشك المسببّي .

بيان ذلك : أنّ الإمام عليه السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق في صحيحة زرارة بمجرّد كونه متيقّنا سابقا غير متيقّن الارتفاع في اللاحق .

-------------------

فيستصحب ) الحكم بعده .

( والحاصل : أنّ ) استصحاب الموضوع لازم ، وذلك إمّا لأنه لا حاجة بعد ذلك إلى استصحاب الحكم كما نقوله نحن ، وإمّا لأن استصحاب الموضوع شرط لاستصحاب الحكم كما يقوله المتوهّم ، فان ( الاستصحاب في الملزومات ) كحياة الزوج ( محتاج إليه على كلّ تقدير ) سواء قلنا بأن استصحاب الموضوع يغني عن استصحاب الأثر ، أم قلنا : بأن استصحاب الموضوع شرط لاستصحاب الأثر ، فالوجه الثالث من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي إذن غير تام .

( الرابع ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو: ( أنّ المستفاد من الأخبار : عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشك المسببّي ) وإنّما الاعتبار باليقين السابق في الشك السببي فقط ( بيان ذلك : ان الإمام عليه السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق ) الذي شك فيه لاحقا بسبب الخفقة ، كما ( في صحيحة زرارة (1) ) علّله ( بمجرّد كونه متيقّنا سابقا ) من وضوئه ( غير متيقّن الارتفاع في ) الحال ( اللاحق ) فان حكمه عليه السلام بأن الخفقة

ص: 184


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وبعبارة اُخرى : علّل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرّد الاستصحاب .

ومن المعلوم : أنّ مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدمُ براءة الذمّة بهذه الصلاة ، حتى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة ، وهذا الاستصحاب من الاستصحابين المتعارضين .

-------------------

والخفقتين لا تضر ببقاء الوضوء للاستصحاب ، وعدم حكمه ببقاء اشتغال ذمته بالصلاة مع ان الاستصحاب يجري فيه أيضا ، غير ان الشك فيه مسبّب من الشك في بقاء الوضوء ، ممّا يدل على ان الاستصحاب السببي هو المحكَّم في المقام ، فلا مجال للاستصحاب المسبّبي .

( وبعبارة اُخرى : علّل ) الإمام عليه السلام ( بقاء الطهارة المستلزم ) بقاؤها ( لجواز الدخول في الصلاة ) تعليلاً ( بمجرّد الاستصحاب ) لوضوئه السابق ( ومن المعلوم : أنّ ) الاستصحاب يتصوّر في جانب المسبّب وهو الاشتغال أيضا ، فان ( مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة ) التي وقعت مع الوضوء المشكوك ( عدمُ برائة الذمّة بهذه الصلاة ) فعدم تعرّض الإمام عليه السلام لاستصحاب الاشتغال هنا ممّا يدلّ على ان الاعتبار عند الإمام عليه السلام باستصحاب السبب فقط وهو الوضوء ، لا باستصحاب المسبّب الذي هو الاشتغال .

ويدل على تصوّر الاستصحاب في جانب المسبّب وهو الاشتغال بالصلاة هنا قول المصنّف : ( حتى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة ، وهذا الاستصحاب ) أي : استصحاب الاشتغال بالصلاة ( من الاستصحابين المتعارضين ) حيث رأوا انّهما في مرتبة واحدة ، بينما نرى إنّ الإمام عليه السلام قدّم استصحاب الطهارة

ص: 185

فلولا عدم جريان هذا الاستصحاب وانحصار الاستصحاب في المقا باستصحاب الطهارة ، لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ، لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح ، بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح .

-------------------

على استصحاب الاشتغال ( فلولا عدم جريان هذا الاستصحاب ) المسبّبي بالاشتغال بالصلاة ( وانحصار الاستصحاب في المقام ) بالاستصحاب السببي ، يعني : ( باستصحاب الطهارة ) الموجب لرفع الاشتغال إذا صلّى مع هذه الطهارة ( لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ) .

وإنّما لم يصح التعليل هنا : بنفس الاستصحاب ( لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين ) كبقاء الوضوء ( على الآخر ) على بقاء الاشتغال ( بأمر مشترك بينهما ) وهو الاستصحاب ( قبيح ) فانه كما لا يصح أن يقال : زيد العالم مقدّم على عمرو العالم ، لأن زيدا عالم ، فكذلك لا يصح ما نحن فيه ، وحينئذ فلو كان اعتبار الاستصحاب مشتركا بين السببي والمسبّبي يعني : بأن كان عموم : « لا تنقض » يشملهما على حدّ سواء ، كان تقديم جانب السبب بعلّة الاستصحاب قبيحا ، فيكون مفاد كلام الإمام عليه السلام وهو تقديم جانب السبب قبيحا وذلك ما لا يكون .

( بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح ) لوضوح : ان قبح ترجيح ما ليس فيه مرجّح إنّما هو من جهة عدم وجود المقتضي للترجيح ، بينما قبح ما نحن فيه إنّما يكون من جهة الترجيح بما يقتضي عدم الترجيح ، وهو : العلة المشتركة بين السبب والمسبّب الذي هو الاستصحاب ، فالاستصحاب هنا لو كان معتبرا في الطرفين اقتضى عدم الترجيح به ، بينما نرى الإمام عليه السلام قد علّل بقاءه على الوضوء وهو

ص: 186

وبالجملة : فأرى المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر ، ولذا لا يتأمّل العامّي بعد افتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك في رفع الحدث والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه .

هذا كلّه إذا عملنا باستصحاب الطهارة من باب الاخبار .

أمّا لو عملنا به من باب الظنّ ،

-------------------

السبب المصحّح لجواز دخوله في الصلاة بعلة الاستصحاب ، ممّا يدل على عدم جريان الاستصحاب في الاشتغال بالصلاة الذي هو المسبّب ، إذ لو كان الاستصحاب جاريا في المسبّب وهو اشتغال ذمته بالصلاة أيضا ، لم يكن وجه لتقديم هذا الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي .

( وبالجملة : فأرى المسألة ) في تقديم السببي على المسبّبي ( غير محتاجة إلى إتعاب النظر ، ولذا لا يتأمّل العامّي بعد افتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك ) فيما لو سأل عن انه ماذا يصنع لو أصبح الماء مشكوك الطهارة والنجاسة بعد أن كان سابقا طاهرا؟ فانه إذا أفتاه المفتي بأنه يستصحب طهارته ، فلا نراه يتأمّل بعدها ( في رفع الحدث والخبث به ) أي : بهذا الماء المستصحب الطهارة ( و ) كما لا يتأمل في ( بيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه ) أي : على هذا الماء المشكوك الذي حكم بطهارته للاستصحاب ، كحصول الطهارة للصلاة بالتوضّؤ به - مثلاً - .

( هذا كلّه إذا عملنا باستصحاب الطهارة من باب الاخبار ) مثل « لا تنقض اليقين بالشك » (1) وما أشبه ذلك ، و ( أمّا لو عملنا به من باب الظنّ ) وبناء العقلاء

ص: 187


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ، لأنّ الظنّ بعدم اللازم مع فرض الظنّ بالملزوم محالٌ عقلاً ، فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشك ، فيلزمه عقلاً الظنّ بزوال النجاسة عن الثوب والشك في طهارة الماء ونجاسة الثوب ، وإن كانا في زمان واحد ، إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان سببا للثاني

-------------------

( فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ) أيضا وهو تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، وذلك ( لأنّ الظنّ بعدم اللازم ) أي : الظن بعدم طهارة الثوب المغسول بماء مسبوق بالطهارة ( مع فرض الظنّ بالملزوم ) أي : بطهارة هذا الماء الذي قد غسل الثوب فيه ( محالٌ عقلاً ) إذ كما لا يمكن ان يظن الانسان بالأربعة ويظن بانه فرد ، أو يظن بطلوع الشمس ويظن ببقاء الليل كذلك لا يمكن أن يظن بالملزوم ويظن أيضا بعدم اللازم .

وعليه : ( فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشك ) في أنّه هل بقي على طهارته أو لم يبق على طهارته ؟ فانّه بعدما يستصحب البقاء من باب الظن ( فيلزمه عقلاً الظنّ بزوال النجاسة عن الثوب ) وجواز شربه وجواز بيعه وغير ذلك من الأحكام المترتّبة على الطهارة ، فالطهارة المظنونة إذن توجب الظن بهذه الآثار ، كما إنّ الطهارة المقطوعة توجب القطع بهذه الآثار .

( و ) ان قلت : نعكس المسألة ونقول : إنّ الظن ببقاء نجاسة الثوب يوجب الظن بعدم طهارة الماء ، فلماذا تقدّمون الظن السببي على الظن المسبّبي دون العكس ؟ .

قلت : ( الشك في طهارة الماء ونجاسة الثوب ، وان كانا في زمان واحد ، إلاّ أنّ الأوّل ) طهارة الماء ( لمّا كان سببا للثاني ) أي : لزوال نجاسة الثوب المغسول

ص: 188

كان حالُ الذهن في الثاني تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ، فلابدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ، فاختص الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشك فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة .

ويشهد لما ذكرنا أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب

-------------------

بهذا الماء ( كان حالُ الذهن في الثاني ) وهو الثوب سواء كان وهما ، أو شكا ، أو ظنا ، أو قطعا ، ( تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ) وهو طهارة الماء ، فان الظن في الملزوم مقدّم على الظن في اللازم ، ولذا لو ظننا بالأربعة ظننا بالزوجية ، وحينئذ ( فلابدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ) أي : مثال استصحاب طهارة الماء ، واستصحاب نجاسة الثوب .

إذن : ( فاختص الاستصحاب المفيد للظنّ ) سواء كان ظنا شخصيا أو ظنا نوعيا ( بما كان الشك فيه ) مستقلاً كالسببي ، فانه ( غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ) كالمسبّبي ، فانه تابع للسببي ، وحكم التابع حكم المتبوع في الصفات النفسية الأربع : من وهم وشك وظن وقطع ، فإذا حصل الظن الاستصحابي بطهارة الماء حصل الظن بطهارة الثوب المغسول به ( فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة ) .

لا يقال : إذا ظنّ ببقاء النجاسة يظن بعدم طهارة الماء .

لأنّه يقال : لو توجّه أولاً إلى الثوب ظن بنجاسته ، لكنه بمجرّد التوجّه إلى استصحاب طهارة الماء ينقلب ظنه من النجاسة إلى الظن بالطهارة ، حاله حال الالتفات إلى كل معلول قبل الالتفات إلى علته ، فانه بمجرّد الالتفات إلى العلّة ينقلب ظنّه من المعلول إلى الظن بالعلة ، وفي مثالنا من النجاسة إلى الطهارة .

( ويشهد لما ذكرنا ) من ان الاستصحاب المعتبر عند العقلاء من باب الظن ، إنّما يجرونه في الشك السببي لا المسبّبي ( أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب )

ص: 189

في اُمور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا .

ولو نبّههم أحد لم يعتنوا فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ويصحّحون معاملة وكلائه ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ، إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب .

-------------------

من باب الظن النوعي أو الشخصي - مثلاً - تراهم ( في اُمور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات ) أي : مقامات وجود الشك السببي والشك المسبّبي ( إلى هذا الاستصحاب ) المسبّبي ( أبدا ، و ) إنّما يجرون الاستصحاب في الشك السببي فقط ، حتى انه ( لو نبّههم أحد لم يعتنوا ) بالشك المسبّبي .

وأمّا مثاله : فكما قال : ( فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ) لاستصحاب حياة ذلك الغائب ، ولا يعتنون باستصحاب عدم ارثه الذي كان قبل موت مورّثه ، فإنّ الغائب قبل موت مورّثه لم يكن وارثا ، فإذا مات المورّث شككنا في انه هل يرث أو لا يرث ؟ فلا يستصحبون انه لا يرث ، بل يقدّمون على هذا الاستصحاب المسبّبي استصحاب بقائه وهو الاستصحاب السببي .

( ويصحّحون معاملة وكلائه ) أي : وكلاء الغائب باستصحاب حياة الموكّل ، ويقدّمون هذا الاستصحاب السببي ، على استصحاب عدم صحة المعاملات المسبّبي .

( ويؤدّون عنه ) أي : عن الغائب ( فطرته إذا كان عيالهم ) وذلك استصحابا لبقائه ، ولا يستصحبون عدم وجوب الفطرة عليهم المسبّبي .

( إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة ) كطهارة الثوب المغسول بماء مستصحب الطهارة ، إضافة إلى ترتيب الآثار الثابتة ( على المستصحب ) كوجوب

ص: 190

ثم إنّه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة ، منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله ، وجماعة من متأخّري المتأخّرين .

فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يُعلم خبره .

واستحسنه المحقّق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ،

-------------------

نفقة الزوجة ، فانهم في الموردين يقدّمون الاستصحاب السببي على المسبّبي ، فلا يحكمون بأصالة عدم وجوب النفقة ، كما لا يحكمون بأصالة عدم الارث ، وأصالة عدم صحة المعاملات ، وأصالة عدم وجوب الفطرة عليهم .

( ثم إنّه يظهر الخلاف في المسألة ) وانه هل السببي مقدّم على المسبّبي أم لا ؟ ( من جماعة ) من الفقهاء ( منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله ، وجماعة من متأخّري المتأخّرين ، فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يُعلم خبره ، و ) ذلك فيما إذا هرب ولم يعلم هل انه بعد في قيد الحياة أو قد مات ؟ .

هذا ، وقد ( استحسنه المحقّق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب ) أي : استدلال القائلين بوجوب فطرة العبد على المولى ( بأصالة البقاء ) أي : باستصحاب حياة العبد الذي قد غاب ولم يُعلم خبره ، ومعه لا يصح الحكم بعدم وجوب فطرته على المولى ، فأجاب المحقق : ( بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ) أي : قال بتعارض أصلين هنا : أصل عدم وجوب الفطرة مع أصل بقاء العبد ، فإذا تعارضا تساقطا ، وإذا تساقطا لم يجب فطرته على مولاه ، مع وضوح : انّ أصل البقاء حاكم على أصل عدم وجوب الفطرة .

ص: 191

وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفارة ، بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اُخرى .

وقد صرّح في اُصول المعتبر

-------------------

( و ) كذا أجاب المحقق ( عن تنظير ) المستدلين على ( وجوب الفطرة عنه ) أي : عن العبد الذي لم يُعلم خبره ( بجواز عتقه في الكفارة ) أي قالوا : ان استصحاب حياة العبد كما يصحّح عتقه عن الكفارة ، فكذلك يوجب فطرته أيضا ، فأجاب عنه المحقّق بجوابين :

أوّلاً : ( بالمنع عن الأصل تارة ) وذلك لأن أصل بقاء حياة العبد معارض - بنظر المحقق كما عرفت - بأصل عدم جواز عتقه ، ومع التعارض يتساقطان ، فلا يجوز عتقه لمولاه .

ثانيا : ( والفرق بينهما اُخرى ) أي : أجاب بعد تسليم جواز عتق العبد الذي لم يعلم خبره ، بالفرق بين وجوب الفطرة على مولاه وجواز عتقه له في الكفارة ، وذلك لأنّ العتق هو إسقاط ما في ذمة المولى من حق اللّه المبني على التخفيف ، فيكفي فيه عتق العبد الهارب الذي لم يُعلم خبره ، بينما الفطرة انتزاع مال على المولى ، فلا يجب ما دام لم يثبت سببه الذي هو حياة العبد .

لكن لا يخفى : ان كلا الجوابين غير تام ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من حجيّة الاستصحاب وحكومة الأصل السببي على المسبّبي .

وأما الثاني : فلأنّ العبد إذا كان موجودا - ولو بالاستصحاب - صحّ العتق ووجبت الفطرة أيضا ، وإذا لم يكن موجودا حتى ولو بالاستصحاب ، فلا يصحّ العتق ، كما لا تجب فطرته على المولى أيضا .

هذا ( وقد صرّح ) المحقّق صاحب الشرائع ( في اُصول المعتبر ) علما بأنّ

ص: 192

بأنّ استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث ، معارضٌ باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة .

وقد عرفت : أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العملُ باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوُّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال .

وحكي عن العلامة في بعض كتبه : الحكم بطهارة الماء القليل الواقع

-------------------

« المعتبر » هو كتاب فقهي قد صدّره المحقق بشيء من الاُصول وقال فيه : ( بأنّ ) الأصل السببي الذي هو ( استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث ، معارضٌ ) بالأصل المسبّبي يعني : ( باستصحاب عدم برائة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة ) ومع تعارضهما يتساقطان ، فيرجع إلى قاعدة اشتغال ذمته بالصلاة ، فيجب عليه أداء الصلاة ثانية بطهارة قطعية .

وإنّما صرّح المحقق بالتساقط لأنه يرى المعارضة بين الاستصحابين : السببي والمسبّبي ( وقد عرفت : أنّ المنصوص في صحيحة زرارة (1) ) المتقدّمة ، الواردة فيمن توضأ ثم عرضت عليه الخفقة والخفقتان هو : ( العملُ باستصحاب الطهارة ) وصحة الصلاة ، وذلك ( على وجه يظهر منه خلوُّه ) أي : خلوّ استصحاب الطهارة السببي ( عن المعارض ، و ) هو استصحاب الاشتغال المسبّبي ، يعني : ( عدم جريان استصحاب الاشتغال ) فلا يجري استصحاب اشتغال ذمته بالصلاة التي صلاها بالطهارة المستصحبة لأنّه استصحاب مسبّبي .

هذا ( وحكي عن العلامة في بعض كتبه : الحكم بطهارة الماء القليل الواقع

ص: 193


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فيه صيدٌ مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرّمي ، لكنّه اختار في غير واحد الحكم بنجاسة الماء .

وتبعه عليه الشهيدان ، وغيرهما ، وهو المختار ، بناءا على ما عرفت تحقيقه وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة ، التي منها : انفعال الماء الملاقي له .

-------------------

فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرّمي ) يعني : انه إذا رمى الصياد صيدا ، ثم وجده ميتا في ماء قليل ولم يعلم هل انه وقع في الماء القليل قبل موته ومات بسبب الماء حتى يكون حراما ويكون الماء نجسا ، أو انه مات بالرمي حتى يكون حلالاً ويكون الماء طاهرا ؟ فان العلامة حكم في هذه المسألة بطهارة الماء مع ان مقتضى استصحاب عدم التذكية الذي هو سببي : حرمة الحيوان ونجاسة الماء ، فالعلامة هنا حيث لم يقدّم الأصل السببي ، فهو ما قد عارض بين الأصل السببي والأصل المسبّبي ورجع بعد تساقطهما إلى قاعدة الطهارة ، وامّا جمع بين الأصل السببي والأصل المسبّبي ، وذلك باستصحاب عدم تذكية الصيد فهو حرام ونجس ، واستصحاب طهارة الماء فهو طاهر ومطهّر ، وسيأتي ان شاء اللّه تعالى بعض الكلام في ذلك .

( لكنّه ) أي : العلاّمة ( اختار في غير واحد ) من كتبه الفقهية ( الحكم بنجاسة الماء ) وذلك تقديما للأصل السببي على الأصل المسبّبي ( وتبعه عليه ) أي : على هذا الاختيار ( الشهيدان ، وغيرهما ، وهو المختار ) أي الحكم بنجاسة الماء هو مختار المصنّف أيضا وذلك ( بناءا على ما عرفت تحقيقه وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد ) بلا تذكية ( جرى عليه ) أي : على هذا الصيد ( جميع أحكام الميتة ، التي منها : انفعال الماء الملاقي له ) وتنجّسه ، إضافة إلى حرمة الصيد

ص: 194

نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية ، فلا يوجب تنجّس الملاقي ، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتجه الحكم بالتنجيس .

ومرجع الأوّل إلى كون حرمة الصيد مع الشك في التذكية للتعبّد من جهة الاخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بتذكيته .

-------------------

ونجاسته ، وغير ذلك ، فلا يجري استصحاب الطهارة في الماء .

( نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصيد ) إنّما يكون نتيجة لأحد أمرين :

أولاً : ( إن كان لعدم العلم بالتذكية ) أي : بأن قال الشارع : ان كل ما لم يُعلم تذكيته فهو حرام تعبّدا بمعنى : أصالة الحرمة في اللحوم ، وهو غير أصالة عدم التذكية ، ومعه ( فلا يوجب تنجّس الملاقي ) لأن حكم الشارع إنّما كان على الحرمة فقط ، ولم يكن على انه غير مذكّى حتى يحكم بنجاسة ملاقيه .

ثانيا : ( وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها ) أي : وان كان تحريم الصيد المشكوك تذكيته إنّما هو من جهة حكم الشرع بعدم التذكية ، وذلك بأن قال الشارع : إنّ كل ما لم يُعلم تذكيته فهو غير مذكّى ، بمعنى : أصالة عدم التذكية ، وهو غير أصالة الحرمة ، ومعه فقد ( اتجه الحكم بالتنجيس ) لأن غير المذكّى حرام ونجس ، فيكون متنجّسا .

( ومرجع الأوّل ) أي : كون التحريم لعدم العلم بالتذكية الذي مرّ انه بمعنى أصالة الحرمة ( إلى كون حرمة الصيد مع الشك في التذكية ) إنّما هو ( للتعبّد من جهة الاخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة ) أي : المشكوك التذكية تعليلاً ( بعدم العلم بتذكيته ) أي : ان الاخبار تقول : ان كل ما لم يعلم تذكيته فهو حرام تعبّدا ، وهذا هو معنى أصالة الحرمة ، وهو غير أصالة عدم التذكية على ما عرفت - والحرمة

ص: 195

وهو حسنٌ لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ولا أظنّ أحدا يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ، ولذا

-------------------

لا تستلزم النجاسة .

وبعبارة اُخرى : انّ الذين حكموا بحرمة ما شك في تذكيته تعبدا بالأخبار ، جعلوا أصالة الحرمة - وهي غير أصالة عدم التذكية - في اللحوم اصلاً برأسه ، فقالوا بالحرمة فقط ولم يقولوا بالنجاسة لأن الحرمة لا تلازم النجاسة ، كما نرى في التراب حيث انه حرام وليس بنجس ، فلا يتنجس الملاقي ، بينما الذين حكموا بحرمة ما شك في تذكيته لحكم الشارع عليه بانه غير مذكّى ، جعلوا أصالة عدم التذكية - وهي غير أصالة الحرمة - في اللحوم أصلاً برأسه ، فقالوا بحرمته وبنجاسته أيضا ، لأن غير المذكّى من آثاره الحرمة والنجاسة وعدم جواز استصحاب شيء منه في الصلاة وغير ذلك ، فيتنجس ملاقيه .

( وهو ) أي : الأوّل ( حسنٌ ) لكن لو تم ما يلي :

أولاً : ( لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ) أي : انّ الشارع إنّما تعبّدنا بعدم جواز أكله فقط دون سائر أحكام الميتة ، فيجوز استصحاب شيء منه في الصلاة ، ولا ينجس ملاقيه وهكذا ( ولا أظنّ أحدا يلتزمه ) فان الفقهاء حتى من يقول منهم بأن الحرمة تعبدية يقولون بملازمة الحرمة للنجاسة ، وعدم جواز الصلاة في شيء منه ، وتنجس ملاقيه ، وغير ذلك ، فلا قائل بالتفكيك .

ثانيا : ( مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل ) الوارد في الأخبار هو : ( كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ) أي : انّ الظاهر من الأخبار هو الحكم بالحرمة من جهة الحكم بكونها ميتة شرعا ، لا ان أصل الحرمة في اللحوم أمر قرره الشارع مجرّدا من دون ان يكون نجسا ولا منجّسا ( ولذا ) أي : لأن حرمة الأكل إنّما هو لكونه ميتة ،

ص: 196

استفيد بعض ما يعتبر في التذكية من النهي عن الأكل بدونه .

ثم إنّ بعض مَن يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام صرّح بالجمع بينهما ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا .

ويرد عليه : أنّه لا معنى للجمع في مثل هذين الاستصحابين ،

-------------------

لا لمجرّد التعبد بتحريم الأكل فقط ( استفيد بعض ما يعتبر ) من الشروط ( في التذكية ) استفادة ( من النهي عن الأكل بدونه ) أي : بدون تلك الشروط كقوله سبحانه : « ولا تأكلوا مّما لم يذكر اسم اللّه عليه » (1) فإنّه يفيد كون الحيوان ميتة بدون التسمية ، لا انّه حرام الأكل تعبدا فقط .

وعليه : فإذا استفيد من الآية الكريمة وغيرها ان التسمية من شرائط التذكية ، كان معنى ذلك : انه إذا لم يذكر اسم اللّه عليه فهو غير مذكّى ، ومن المعلوم : ان غير المذكّى ميتة ، والميتة يلازمها حرمة الأكل والتنجيس والنجاسة وعدم جواز الصلاة في شيء منها ، وغير ذلك .

( ثم إنّ ) هنا بعد القول الأوّل بتقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي ، وبعد القول الثاني بالتعارض بين الاستصحابين ، قولاً ثالثا يقول بالجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي ، وذلك لأن ( بعض مَن يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام ) أي : في مقام توارد الأصلين : السببي والمسبّبي قد ( صرّح بالجمع بينهما ) أي : قال بأعمال كلٍ منهما في مورده ( فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة ) لا يجوز أكله ( و ) حكم على ( الماء ) القليل الملاقي له بكونه ( طاهرا ) فيجوز استعماله فيما يشترط فيه الطهارة .

( ويرد عليه : أنّه لا معنى للجمع في مثل هذين الاستصحابين ) السببي

ص: 197


1- - سورة الانعام : الآية 121 .

فانّ الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب آثار الطهارة : من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء بعينها نسبةُ استصحاب طهارة الماء إلى استصحاب عدم التذكية .

وكذا الحكم بموت الصيد ، فانّه إن كان بمعنى انفعال الملاقي له بعد ذلك

-------------------

والمسبّبي .

وإنّما لا معنى للجمع بينهما لأنه كما قال : ( فانّ الحكم بطهارة الماء ) ان كان بمعنى جواز شربه فقط فهو ، ولكن ( إن كان بمعنى ترتيب ) كل ( آثار الطهارة : من رفع الحدث والخبث به ) لا جواز شربه فقط ( فلا ريب ) في انه يرد عليه : ( أنّ نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث ) بعد التطهّر بهذا الماء مسبّب ومستند ( إلى استصحاب طهارة الماء ) وهذه النسبة : مسبّبية والمسبّبية ( بعينها نسبةُ استصحاب طهارة الماء ) بعد وقوع الصيد فيه ( إلى استصحاب عدم التذكية ) وإذا كانت نسبتهما واحدة ، فلماذا التفريق بينهما ؟ .

وبعبارة اُخرى : انا لو أجرينا استصحاب طهارة الماء المسبّبي ولم نقدّم استصحاب عدم التذكية السببي عليه ، لزم أن نجري استصحاب الحدث والخبث المسبّبي بعد التطهّر بذلك الماء أيضا ولا نقدّم استصحاب طهارة الماء السببي عليه ، بينما لا تجرون استصحاب الحدث والخبث ، لأنكم - حسب الفرض - ترفعون الحدث والخبث بهذا الماء ، فلماذا التفريق بين الموردين مع ان نسبتهما واحدة ؟ .

( وكذا الحكم بموت الصيد ) وعدم التذكية ( فانّه إن كان بمعنى ) حرمة الأكل فقط فهو ، ولكن ان كان بمعنى ( انفعال الملاقي له بعد ذلك ) أي : تنجّس سائر

ص: 198

والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب طهارة الملاقي ، واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ، نسبتُهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه .

ومّما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الايضاح تقريبا للجمع بين الأصلين في الصيد الواقع في الماء

-------------------

ما يلاقي هذا الصيد بعد الحكم بموته ( والمنع عن استصحابه ) أي : عن حمل شيء من الصيد معه ( في الصلاة ، فلا ريب ) في انه يرد عليه : ( أنّ استصحاب طهارة الملاقي ، واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ) المسبّب عن الشك في التذكية ( نسبتُهما إليه ) أي : نسبة طهارة سائر ما يلاقي الصيد ، وحمل شيء منه في الصلاة إلى الحكم بموت الصيد ( كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه ) أي : إلى الحكم بموت الصيد : فانه مسبّب عن الشك في التذكية أيضا ، فلماذا التفكيك بينهما ؟ .

وبعبارة اُخرى : إنّا لو أجرينا استصحاب طهارة الماء ، ولم نقدّم استصحاب عدم التذكية عليه ، لزم أن نجري استصحاب طهارة سائر ما يلاقي الصيد ، وأن نجري أيضا استصحاب ما كان قبل زهاق روح الصّيد من جواز حمل المصلّي شيئا من أجزائه معه في الصلاة ، والمفروض انكم لا تجرونه فيهما : فإذا لم تجروا الاستصحابين الأخيرين لزم أن لا تجروا الاستصحاب الأوّل أيضا ، وذلك لأن نسبتهما ونسبته إليه واحدة ، فالتفريق بين الموردين لماذا ؟ .

( ومّما ذكرنا ) في ردّ القول الثالث : من انه لا معنى للجمع بين الاستصحابين : السببي والمسبّبي ( يظهر النظر فيما ذكره في الايضاح تقريبا للجمع بين الأصلين ) السببي والمسبّبي ، وذلك كما ( في الصيد الواقع ) ميّتا ( في الماء

ص: 199

القليل ، من : « أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء وحلّ الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في نفسه لأصالته دون الآخر

-------------------

القليل ) حيث لم نعلم هل انّ موته مستند إلى الماء ، أو انّ موته مستند إلى الرمي؟ فإن ما ذكره في الإيضاح ( من ) الجمع بين الأصلين هنا هو على ما يلي :

قال : ( « أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء ) وهو أولاً وبالذات يعني بمدلوله المطابقي ( وحلّ الصيد ) وهو ثانيا وبالعرض يعني بمدلوله الالتزامي ، فان استصحاب طهارة الماء يقتضي بالأصالة والدلالة المطابقية طهارة الماء ، كما انه يقتضي بالعرض والدلالة الالتزامية حلّية الصيد ، فطهارة الماء متبوع وملزوم ، وحلّ الصيد تابع ولازم .

( ولأصالة الموت ) وعدم التذكية أيضا ( حكمان : لحوق أحكام الميتة ) وهو أوّلاً وبالذات وبالمدلول المطابقي ( للصيد ) المذكور ( ونجاسة الماء ) الملاقي لهذا الصيد وهو ثانيا وبالعرض وبالمدلول الالتزامي ، فان استصحاب عدم التذكية يقتضي بالأصالة والدلالة المطابقية كون الصيد ميتة ، كما انه يقتضي بالعرض والدلالة الالتزامية تنجّس الماء الملاقي له ، فعدم التذكية متبوع وملزوم ، وتنجس ملاقيه تابع ولازم .

قال : ( فيعمل بكلّ من الأصلين ) المتبوعين ( في نفسه ) أي : في مدلوله المطابقي ( لأصالته ) أي : لأن الحكم في كل من هذين الأصلين المتبوعين كان أولاً وبالذات ( دون الآخر ) أي : دون كل من الأصلين التّابعين ، اللذين كان الحكم في كل منهما بالمدلول الالتزامي ، فانه لا يعمل بكل من هذين الأصلين التابعين

ص: 200

لفرعيّته فيه » ، انتهى .

وليت شعري ! هل نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة ؟ فأين الأصالة والفرعية ، وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه .

ويظهر ضعفُ ذلك مّما تقدّم .

-------------------

( لفرعيّته فيه » (1) ) أي : لفرعية الحكم في كل منهما ، لأنه كان ثانيا وبالعرض ، فلا يجري الاستصحاب فيه .

وعليه : فيكون خلاصة قوله بالجمع هو : أن نعمل بأصالة الطهارة في الماء دون الصيد ، فلا نقول بحلّية الصيد ، وكذلك نعمل بأصالة عدم التذكية في الصيد دون الماء ، فلا نقول بنجاسة الماء ، وبذلك نكون قد جمعنا بين الأصلين : السببي والمسبّبي ( انتهى ) كلام الايضاح .

( وليت شعري ) أي : ليت علمي - كما في كتاب العين للخليل - ( هل نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة ؟ فأين الأصالة والفرعية ) حتى نفكّك بينهما ؟ .

( وتبعه ) أي : تبع الايضاح ( في ذلك ) التقريب الذي قرّب به الجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي ( بعض من عاصرناه ) وهو صاحب القوانين المحقّق القمي رحمه اللّه ( فحكم في الجلد المطروح ) في أرض يشك معه في تذكية الجلد ( بأصالة الطهارة ) في ذلك الجلد ، فلا يتنجّس ملاقيه ( وحرمة الصلاة فيه ) أي : في ذلك الجلد ، وذلك لأصالة الاشتغال في الصلاة إلاّ ما إذا أحرز حلّية وطهارة لباس المصلي .

( ويظهر ضعفُ ذلك مّما تقدّم ) من انه لا تفكيك بين الأمرين ، لوضوح :

ص: 201


1- - إيضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص24 .

وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض بطهارة الأرض ، إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس .

وليت شعري ! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب

-------------------

انّ الشك في تنجّس الملاقي لهذا الجلد ، وكذا الشك في جواز الصلاة مع هذا الجلد، كلاهما مسبّبان عن الشك في التذكية ، فان أجرينا استصحاب عدم التذكية يلزم القول بتنجّس الملاقي ، وبعدم جواز الصلاة فيه معا ، وإلاّ فلا ، وحينئذ لا معنى لترتب أحد الأثرين الذي هو حرمة الصلاة مع هذا الجلد ، دون الأثر الآخر الذي هو تنجس ملاقيه .

( وأضعف من ذلك حكمه ) أي حكم المحقق القمّي رحمه اللّه ( في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ) حكما ( بطهارة الأرض ) مع ان النجس الرطب يسري نجاسته إلى ما يلاقيه .

قال : ( إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس ) ممّا يظهر منه ان المحقّق القمي يرى ان النجس ، المعلوم بالوجدان أو بالبينة منجّس لا غيره ، فإذا استصحبنا نجاسة الثوب فيما لو لم نعلم هل طهّره أحد أو لم يطهّره؟ لا يكون منجّسا .

هذا هو ما يراه المحقّق القمي هنا من الجمع بين الاستصحابين : استصحاب طهارة الأرض ، واستصحاب نجاسة الثوب ، وأمّا كون هذا أضعف من سابقه ، فلتعليله الجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي بعدم الدليل على انّ مستصحب النجاسة منجّس .

قال المصنّف في جوابه : ( وليت شعري إذا لم يكن النجس بالاستصحاب

ص: 202

منجّسا ، ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ، لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ فائدة في الاستصحاب ؟ .

وقال في الوافية في شرائط الاستصحاب : « الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب في أمر ملزوم له

-------------------

منجّسا ، ولا الطاهر به ) أي : بالاستصحاب كالماء المستصحب الطهارة ( مطهّرا ) على ما يظهر من كلام القمي .

إذن : ( فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ) فلا يترتب على مستصحب النجاسة آثار النجس، كما لا يترتب على مستصحب الطهارة آثار الطاهر ، وهكذا .

وإنّما يستلزم هذا الجمع عدم ترتيب الآثار الشرعية لكل ما يثبت بالاستصحاب ( لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ) الحادثة التي نريد ترتيبها بسبب الاستصحاب ، كترتيب الطهارة على الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، وترتيب النجاسة على الأرض الطاهرة المنشور عليها الثوب الرطب المستصحب الطهارة ، وهكذا ، ومعه ( فأيّ فائدة في الاستصحاب ؟ ) علما بأنّ الاستصحاب إنّما هو لترتيب الآثار ، فإذا لم يفد ذلك لغى الاستصحاب بالمرّة ، وذلك ما لا يقول به أحد .

( وقال ) صاحب كتاب الوافية وهو الفاضل التوني ( في الوافية في شرائط الاستصحاب ) ما يؤيّد قول المصنّف في تقديم الأصل السببي على المسبّبي ، فانه قال : ( « الخامس : أن لا يكون هناك ) عند اجراء الاستصحاب في شيء كاستصحاب طهارة الأرض ( استصحاب في أمر ملزوم له ) أي : ملزوم لذلك

ص: 203

بخلاف ذلك المستصحب مثلاً : إذا ثبت في الشرع : أنّ الحكم بكون الشيء ميتةً يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع فيه ، فلا يجوز الحكم بطهارة الماء القليل ونجاسة الحيوان في مسألة الصيد المرميّ الواقع فيه وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم وحكم بنجاسة الصيد وطهارة الماء » ، انتهى .

-------------------

الشيء كاستصحاب نجاسة الثوب الرطب المنشور على الأرض فيما لو كان ( بخلاف ذلك المستصحب ) وهو في مثالنا طهارة الأرض ، فان استصحاب طهارة الأرض يخالفه استصحاب نجاسة الثوب المنشور عليها .

قال : ( مثلاً : إذا ثبت في الشرع : أنّ الحكم بكون الشيء ميتةً ) كالصيد المشكوك ذكاته الواقع في الماء القليل ، فانه ( يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع فيه ) أي : الذي وقع فيه ذلك الصيد ( فلا يجوز ) الجمع بين الاستصحابين السببي والمسبّبي ، يعني : لا يجوز ( الحكم بطهارة الماء القليل ) لاستصحاب طهارته ( ونجاسة الحيوان ) لاستصحاب عدم التذكية ( في مسألة الصيد المرميّ الواقع فيه ) أي : في ذلك الماء ، فان الاستصحابين لا يجتمعان ، لأن الاستصحاب في الملزوم السببي يمنع من الاستصحاب في اللازم المسبّبي .

ثم قال : ( وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم ) في ظاهر الشرع بين استصحاب عدم التذكية السببي ، وبين نجاسة الماء المسبّبي ، فلم يقل بتقديم الأصل السببي على المسبّبي ، بل جمع بين الأصلين على ما مرّ سابقا ( و ) لذلك ( حكم بنجاسة الصيد وطهارة الماء » (1) ، انتهى ) كلام الفاضل التوني ممّا يؤيّد

ص: 204


1- - الوافية : مخطوط .

ثمّ اعلم أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة : « دعوى الاجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي » .

ولعلّها مستنبطةٌ حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، إذ لا يعارض أحدٌ استصحاب كرّية الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ،

-------------------

ما ذكره المصنّف : من انه لا يمكن الجمع بين الأصلين المذكورين ، وإنّما يلزم تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي .

( ثمّ اعلم أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين ) ولعله أراد به استاذه شريف العلماء رحمه اللّه ( عن الشيخ علي ) حفيد الشهيد الثاني ( في حاشية الروضة : « دعوى الاجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي ) كاستصحاب عدم التذكية ( على الحكمي » ) كاستصحاب طهارة الماء ، فانه إذا كان هناك استصحاب موضوعي واستصحاب حكمي قدّم الاستصحاب الموضوعي على الاستصحاب الحكمي ، فيتقدّم استصحاب عدم التذكية على استصحاب طهارة الماء القليل الملاقي له .

( ولعلّها ) أي : لعل دعوى الاجماع هذه من الشيخ علي - حفيد الشهيد الثاني - تكون ( مستنبطةٌ حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ) لا حسا ، فكأن الشيخ علي تتبّع فتاوى العلماء في الجملة فوجد أنهم يقدّمون الأصل الموضوعي على الحكمي ، فظن انهم مجمعون على ذلك ، فادّعى الاجماع حدسا من فتاواهم ( إذ ) من المعلوم : انه ( لا يعارض أحدٌ استصحاب كرّية الماء ) الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به )

ص: 205

ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله .

لكنّك قد عرفت فيما تقدّم من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك ، هذا

-------------------

الذي هو استصحاب حكمي ، بل يقدّمون الاستصحاب الموضوعي على الحكمي ويحكمون بطهارة ما غسل به .

( ولا ) يعارض أحد ( استصحاب القلّة ) في الماء ، الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ) الذي هو استصحاب حكمي ، بل يقدّمون الأوّل على الثاني ويحكمون بنجاسة الماء المتلاقي مع النجس .

( ولا ) يعارض أحد ( استصحاب حياة الموكّل ) الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب فساد تصرّفات وكيله ) الذي هو استصحاب حكمي ، بل انهم يستصحبون حياة الموكل الموضوعي ، ويحكمون بصحة تصرفاته الحكمي، وإلى غير ذلك من الموارد الاُخرى ، التي أفتى بها الفقهاء ، وحَدسَ الشيخ علي ، الاجماع منها .

( لكنّك قد عرفت ) انه لا اجماع في المسألة لوجهين :

الوجه الأوّل : انّه قد سبق ( فيما تقدّم من الشيخ ) الطوسي في المبسوط ( والمحقّق ) في المعتبر ( خلاف ذلك ) الذي ادّعاه الشيخ علي من الاجماع ، فان الشيخ الطوسي وكذلك العلاّمة والمحقق قالوا بتعارض استصحاب حياة العبد مع استصحاب عدم وجوب الفطرة عنه ، ولم يقدّموا ( هذا ) الأصل الموضوعي وهو هنا : استصحاب الحياة ، على الحكمي .

ص: 206

مع أنّ الاستصحاب في الشك السببي دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ، لأنّ زوال المستصحب الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ، فهو له من قبيل الموضوع للحكم ، فانّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليها زوال النجاسة عن المغسول به .

-------------------

الوجه الثاني : ( مع أنّ الاستصحاب في الشك السببي ) سواء كان مورده في الموضوع كالأمثلة المتقدمة ، أو في الحكم كاستصحاب الطهارة للماء الذي غسل به ثوب نجس ، يكون ( دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ) أي : إلى الاستصحاب المسبّبي .

وذلك ( لأنّ زوال المستصحب الآخر ) المسبّب هو ( من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ) كما ذكرناه في الأمثلة السابقة .

إذن : ( فهو ) أي : الاستصحاب السببي ( له ) أي : بالنسبة إلى_'feالاستصحاب المسبّبي ( من قبيل الموضوع للحكم ) أي : ان المستصحب السببي كالموضوع ، والمستصحب المسبّبي كالحكم ، وكلّما وجد الموضوع ترتَّب عليه الحكم .

وعليه : ( فانّ طهارة الماء ) الذي هو سببي ( من أحكام الموضوع الذي حمل عليها ) أي : على الطهارة المستصحبة ( زوال النجاسة عن المغسول به ) أي : عن الثوب المغسول بذلك الماء ، فبقاء طهارة الماء بمنزلة الموضوع ، وزوال نجاسة الثوب بمنزلة الحكم ، فيترتب عليه ، كما يترتب زوال نجاسة الثوب الذي هو بمنزلة الحكم ، على بقاء كرّية الماء الذي هو بمنزلة الموضوع ، بلا فرق بين الموردين : السببي الحكمي ، وهو طهارة الماء والسببي الموضوعي وهو كرّية

ص: 207

وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كرّيته .

هذا كلّه فيما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر .

-------------------

الماء ، ولذلك قال : ( وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء ) الذي هو سببي حكمي لإثبات زوال نجاسة الثوب المغسول به ( واستصحاب كرّيته ) أي : كرّية الماء الذي هو سببي موضوعي لإثبات عدم تنجسّه وزوال نجاسة الثوب المغسول به ؟ فما الفرق بينهما حتى اختلفوا فيهما على ثلاثة أقوال : بين مقدّم للسببي على المسبّبي ، وبين معارض بينهما ، وبين جامع لهما ، مع ان جانب السبب مثل كل من الكرّية والطهارة في المثال موضوع دائما لطرف المسبّب ؟ .

والحاصل : إنّ المصنِّف أشكل على اجماع الشيخ علي باشكالين :

أحدهما : انّه ينافيه خلاف مثل الشيخ والمحقق والعلامة في مثال وجوب الفطرة عن العبد الغائب الذي لم يعلم بقاؤه وعدم بقائه ، وذلك على ما عرفت ، فليس هناك اجماع في المسألة .

الثاني : انّ الشك السببي والمسبّبي من قبيل الموضوع والحكم دائما ، ومع ذلك اختلفوا في تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي إلى ثلاثة أقوال : فقول بتقديم السببي ، وقول بتعارضهما وتساقطهما ، و قول بالجمع بينهما ، فكيف يمكن مع ذلك ادعاء الاجماع في المسألة .

( هذا كلّه فيما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ) حيث يجري الاستصحاب في الشك السببي لا في الشك المسبّبي ، فلا تعارض بينهما .

ص: 208

وأمّا القسم الثاني

وهو ما إذا كان الشك في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده : ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه فامّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية لذلك العلم الاجمالي ، كما لو علم اجمالاً بنجاسة أحد الطاهرين ، وإمّا ان لا يكون .

وعلى الثاني فامّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع ،

-------------------

( وأمّا القسم الثاني ) من تعارض الاستصحابين ( وهو ما إذا كان الشك في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ) كالعلم الاجمالي الحاصل للمكلّف بأن أحد الاستصحابين غير صحيح ( فمورده : ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه ) كما إذا علم بطهارة كلٍ من الانائين ، ثم علم بنجاسة أحدهما ، فإنّ أحد استصحابي الطهارة مرفوع قطعا ، لكن المكلّف لا يعلم هل ارتفع استصحاب الطهارة عن هذا الاناء الأبيض أو عن ذاك الاناء؟ وهذا على أقسام :

الأوّل : ( فامّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية لذلك العلم الاجمالي ) بأن لم تكن المخالفة للعلم الاجمالي احتمالية بل قطعية ، كما انها ليست التزامية بل عملية ، وذلك ( كما لو علم اجمالاً بنجاسة أحد الطاهرين ) حيث انهما مستصحبا الطهارة ، فإذا شربهما - مثلاً - علم بأنّه قد شرب النجس ، وهو مخالفة عملية قطعية للعلم الاجمالي .

الثاني : ( وإمّا ان لا يكون ) العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية ( وعلى الثاني ) هذا ، وهو : ان لا يكون مستلزما لمخالفة قطعية عملية للعلم الاجمالي ( فامّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع ) بين الاستصحابين

ص: 209

كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين أولاً .

وعلى الثاني إمّا أن يترتب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من توضأ غافلاً بمايع مردّد بين الماء والبول .

-------------------

( كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث ) ان الماء النجس مستصحب النجاسة ، والماء الطاهر مستصحب الطهارة ، لكنّا نعلم من الخارج أنّه لا يمكن الجمع بينهما في كرّ واحد ، لأنّه - مثلاً - قد ( قام الاجماع على اتحاد حكم المائين ) بعد جعلهما ماءً واحدا في كرّ ، فلا يمكن أن نستصحب الطهارة في طرف من هذا الكر ، والنجاسة في طرف آخر منه .

الثالث : ( أولاً ) بأن لم يقم دليل من الخارج على عدم الجمع ( وعلى ) هذا الشق ( الثاني ) من القسم الثاني ، يعني : القسم الثالث من الأقسام وهو : بأن لم يقم دليل من الخارج على عدم الجمع ، فانّه ( إمّا أن يترتب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ) كليهما ( في من توضأ غافلاً بمايع مردّد بين الماء والبول ) فانّه حيث لا اجماع على عدم الجمع ، إذ لم يستلزم الجمع بين الاستصحابين مخالفة عملية للعلم الاجمالي وان استلزم المخالفة الالتزامية ، يستصحب طهارة بدنه فيحكم بعدم وجوب التطهير ، كما ويستصحب عدم تطهّره فيحكم بوجوب الوضوء ، مع انّه يعلم اجمالاً بزوال إما طهارة البدن ، أو حدث النفس ، لأنّ المايع إن كان ماءً ذهب حدث نفسه ، وإن كان بولاً ذهبت طهارة بدنه .

ص: 210

ومثله استصحاب طهارة المحلّ من واجدي المني في الثوب المشترك؛ وإمّا أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية .

-------------------

( ومثله ) : أي : مثل المثال السابق في ترتب الأثر الشرعي على كل من المستصحبين في الزمان اللاحق ( استصحاب طهارة المحلّ من واجدي المني في الثوب المشترك ) فانّه إذا كان نفران لهما ثوب مشترك ، فوجدا فيه منيّا يعلمان بأنه من أحدهما قطعا ، لكن اجمالاً وليس تفصيلاً ، فان لكل واحد منهما ان يستصحب طهارة بدنه عن خبث المني ، وأثره : عدم وجوب تطهير المحل ، وعن حدث الجنابة وأثره : عدم وجوب الغُسل عليه ، وإنّما يجوز لكل منهما ذلك ، لأنّه لم يحصل من عمل كل منهما بالاستصحاب مخالفة عملية للعلم الاجمالي ، ولا دليل من الخارج يوجب على أحدهما أو كليهما أن يرتّب على هذا المني المحتمل أحكام المني من حدث وخبث .

الرابع : ( وإمّا أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية ) فان زيدا إذا وكّل عمرا في شراء شيء ، ثم اختلفا ، فقال زيد : ان التوكيل كان في شراء العبد ، وقال عمرو : ان التوكيل كان في شراء الجارية ، فان استصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية معارض باستصحاب عدم التوكيل في شراء العبد ، غير ان الأثر لم يكن للاستصحابين معا ، بل لأحدهما فقط ، وهو : استصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية ، للزومه استرجاع الجارية من جانب مالكها ، واسترجاع المال من جانب مالكه ، فيُعمل بهذا الاستصحاب ، لأنّه لم يستلزم مخالفة عملية للعلم الاجمالي ، كما انّه لا دليل من اجماع ونحوه على عدمه ، بينما لا يُعمل

ص: 211

فهناك صور أربع :

أمّا الاُوليان :
اشارة

فيُحكَم فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير ، وهنا دعويان .

إحداهما :

عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات

-------------------

باستصحاب عدم التوكيل في شراء العبد ، لأنّه لا أثر له إذ هو مثبت .

إذن : ( فهناك صور أربع ) للمسألة وهي كالتالي :

الصورة الأولى : ما ذكره بقوله : « فاما أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية » .

الصورة الثانية: ما ذكره بقوله : «فاما ان يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع».

الصورة الثالثة : ما ذكره بقوله : « إمّا أن يترتب أثر شرعي على كل من المستصحبين في الزمان اللاحق » .

الصورة الرابعة : ما ذكره بقوله : «وإما أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر» .

( أمّا الاُوّليان ) وهما ما ذكره بقوله : « فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين » مستلزما لمخالفة قطعية ، وقوله : «فإمّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع» ( فيُحكم فيهما بالتساقط ) للتعارض بينهما ( دون الترجيح ) لأحدهما على الآخر ( و ) دون ( التخيير ) بينهما ، فلا يكون المكلّف مخيّرا بين هذا وبين ذاك .

( وهنا دعويان ) كالتالي :

( إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات ) أي : بأن يكون هناك مرجح لأحدهما ، لكن لا نقول بالترجيح به ، وذلك كما إذا فرض

ص: 212

خلافا لجماعة .

قال في محكيّ تمهيد القواعد : « إذا تعارض أصلان ، عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه ، فان تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا ،

-------------------

نصفي كرٍّ من الماء أحدهما نجس والآخر طاهر فتلاقيا ، حيث يستصحب نجاسة النجس وطهارة الطاهر فيتعارضان ويتساقطان ، لكن المشهور حكموا بنجاسته ، والشهرة هنا تكون مرجّحا لاستصحاب النجاسة ، إلاّ انّا ندّعي : ان مثل هذه الشهرة لا توجب تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة .

( خلافا لجماعة ) حيث رجّحوا أحد الاستصحابين المتعارضين بمرجّح خارجي ، فقد ( قال ) الشهيد الثاني رحمه اللّه ( في محكيّ تمهيد القواعد : « إذا تعارض أصلان ، عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه ) من دليل أو أصل ، ففي المثال السابق قدّم استصحاب النجاسة لاعتضاده بالشهرة وحكم بنجاسة الماء .

ثم قال : ( فان تساويا ) بأن لم يكن لأحدهما مرجّح يعضده ، كما إذا كان هناك ماءان طاهران فتنجّس أحدهما ، حيث يستصحب الطهارة فيهما بلا مرجّح لأحدهما على الآخر ، ففي مثال التساوي قال : ( خرج في المسألة وجهان غالبا ) أي : لا دائما ، والوجهان هما كما يلي :

الوجه الأوّل : تساقط الأصلين والرجوع : إلى أصل ثالث ، وذلك استنادا إلى التعارض الموجب للتساقط عند المشهور .

الوجه الثاني : العمل بالأصلين معا ، وذلك استنادا إلى قول الشارع : « حتى تعلم انّه حرام بعينه » (1) وحيث لا نعلم بأنّ أحد المائين حرام بعينه أو نجس

ص: 213


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

ثم مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء » إلى آخر ما ذكره .

وصرّح بذلك

-------------------

بعينه ، نجري الأصلين معا فنحكم عليهما بالطهارة جميعا .

وإنّما قال المصنّف : « غالبا » ولم يقل : دائما ، ليشير - على ما قيل - إلى عدم خروج الوجهين في بعض الموارد ، بل خروج وجه واحد فقط ، وهو الحكم بالتساقط ، والرجوع إلى أصل ثالث ، وذلك كما في باب الدماء والاعراض - مثلاً - فان فيها يتساقط الأصلان ويرجع إلى أصل الاحتياط ، فإذا علم شخص بأن إحدى هاتين المرأتين اخته من الرضاعة ، فلا يجوز له اجراء الأصلين معا والحكم بجواز الزواج منهما ، أو علم الأب بأن أحد هذين الشخصين قتل ابنه عمدا ، فلا يجوز له قتلهما ، أو علم القاضي بأن أحدهما شرب الخمر ممّا يستحق الحدّ ، فانّه لا يجوز له الحكم بحدّهما ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

( ثم مثّل ) الشهيد الثاني في محكي تمهيده ( له ) أي : لخروج الوجهين : من التساقط ، أو العمل بالأصلين معا ( بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء » ) القليل ، ورأى - مع ان المسألة من السببي والمسبّبي - التعارض في المقام بين استصحاب عدم التذكية مع استصحاب طهارة الماء ( إلى آخر ما ذكره (1) ) في محكي التمهيد من الوجهين في المسألة : التساقط والرجوع إلى أصل الحل والطهارة ، أو العمل بالاصلين معا .

ثم قال المصنّف : ( وصرّح بذلك ) الذي ذكره الشهيد الثاني في الأصلين المتعارضين : من التراجيح مع وجود المرجّح لأحد الأصلين ، وخروج الوجهين

ص: 214


1- - تمهيد القواعد : ص40 .

جماعة من متأخّري المتأخّرين .

والحقّ على المختار : من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد هو : عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يُجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ، لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتى يوجب اعتضاده .

-------------------

مع عدم المرجّح ( جماعة من متأخّري المتأخّرين ) من العلماء .

هذا (والحقّ على المختار : من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد) للروايات ، لا من باب الظن النوعي ، أو الظن الشخصي كما قال بهما بعض ( هو : عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ) وبالدليل الاجتهادي ، وذلك ( لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ) إذ قد عرفت سابقا : ان الاستصحاب موضوعه الشك المسبوق باليقين ، وكل ما أخذ في موضوعه الشك ، فهو حكم ظاهري لا واقعي ، وإذا كان كذلك ( فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي ) كالاجماع أو الشهرة ( لا يُجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ) من الاستصحاب الذي نحن فيه .

وعليه : فإذا كان الاجماع أو الشهرة أو ما أشبه ذلك من الأدلة الدالة على الأحكام الواقعية مطابقا للاستصحاب ، فاللازم الأخذ بتلك الأدلة لا بالاستصحاب ، لأنّه لا مجال للأصل مع وجود الدليل ، فكما ان الأصل لا يعضد الدليل ، فكذلك الدليل لا يعضد الأصل ، لاختلاف مرتبتهما على ما عرفت ، فالمرجّح هذا إذن لايعضد الأصل ( لعدم موافقة المرجّح ) الاجتهادي ( لمدلوله ) أي : لمدلول الأصل ( حتى يوجب اعتضاده ) أي : اعتضاد الأصل بذلك المرجّح

ص: 215

وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاُصول حتى يعاضدها .

وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية ، فلا يرجّح بعضها على بعض ، لموافقة الاُصول التعبّدية .

نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب

-------------------

الاجتهادي .

( وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاُصول ) لأن مضمون أحدهما الحكم الواقعي ، ومضمون الآخر الحكم الظاهري ، فالمرجح الاجتهادي لا يوافق مضمون الاُصول ( حتى يعاضدها ) أي : حتى يعاضد الاُصول ويكون مرجحا لها .

( وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية ) فان الاُصول التعبدية العملية لا تعضد الأدلة الاجتهادية حتى تكون مرجحا لها ( فلا يرجّح بعضها ) أي : بعض الأدلة الاجتهادية المتعارضة ( على بعض ، لموافقة الاُصول التعبّدية ) العملية لها ، فإذا كان هناك دليلان اجتهاديان متعارضان - مثلاً - وكان الأصل مع أحدهما ، فإنّه لا يعضد الأصل ذلك الدليل الاجتهادي حتى يكون مرجحا له على الدليل الآخر .

وأمّا ما نراه من بعض الفقهاء المتأخرين حيث يذكرون في كتبهم الاستدلالية الأصل العملي إلى جانب الدليل الاجتهادي ، فهو لبيان انّه إذا لم يكن - بنظر المستدل - الدليل الاجتهادي نافعا في الدلالة على الفرع الفقهي المبحوث عنه ، يكون المجال للأصل العملي ، وبيان ان الأصل ماذا يكون في هذا المقام ؟ .

هذا كله على مختار المصنّف من اعتبار الاستصحاب تعبدا للروايات ، وامّا لو كان من باب الظن النوعي ، فهو كما قال : ( نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب

ص: 216

من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، بناءا على ما يظهر : من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهادية ، كما إدّعاه صريحا بعضهم .

لكنّك عرفت فيما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريا ،

-------------------

من باب الظنّ النوعي ) للدليل العقلي كما قال به جماعة من المتقدمين ( أمكن الترجيح ) أي : ترجيح أحد الاستصحابين المتعارضين ( بالمرجّحات الاجتهادية ) كالاجماع والشهرة ، فيكون الاستصحاب حينئذ مرجّحا للدليل الاجتهادي ، كما يكون الدليل الاجتهادي مرجّحا للاستصحاب أيضا ، وذلك لأنّ كليهما حينئذ في اُفق واحد .

وإنّما يمكن الترجيح حينئذ بالمرجحات الاجتهادية كالاجماع والشهرة ( بناءا على ما يظهر : من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلة الاجتهادية ) عند التعارض ، وعدم اختصاص اعمال التراجيح ، بالاخبار المتعارضة ( كما إدّعاه ) أي : ادعى نفي الخلاف في ذلك ( صريحا بعضهم ) أي : إنّما يكون الاستصحاب مرجّحا للدليل الاجتهادي وبالعكس ، لو لم نخصّص قانون الترجيح بالاخبار المتعارضة ، بل قلنا بجريانه في كل الأدلة ، فحينئذ نرجّح الاستصحاب المعتضد بالشهرة - كما في المثال - على الاستصحاب الآخر .

( لكنّك عرفت فيما مضى ) من المصنّف أول كتاب الاستصحاب ( عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه ) أي : الاستصحاب ( حكما ظاهريا ) فلا يكون الاستصحاب على ذلك في اُفق الأدلة الاجتهادية ،

ص: 217

فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها .

هذا كلّه مع الاغماض عمّا سيجيء من عدم شمول « لا تنقض » للمتعارضين وفرض شمولها لهما من حيث الذاتية نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلاً ، لامتناع ذلك ، بناءا على المختار في اثبات الدعوى الثانية ،

-------------------

ومعه ( فلا ينفع ولا يقدح فيه ) أي : في الاستصحاب ( موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها ) له ، فلا يكون الاجماع أو الشهرة - مثلاً - عاضدا للاستصحاب ان كان موافقا له ، ولا موهنا للاستصحاب ان كان مخالفا له .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من عدم اعتضاد الأصل بالدليل الاجتهادي إنّما هو ( مع الاغماض عمّا سيجيء ) بعد قليل إن شاء اللّه تعالى نقلاً عن بعض المعاصرين : ( من عدم شمول « لا تنقض ) اليقين بالشك » ( للمتعارضين ) فان بعض المعاصرين قال : ان الاستصحابين المتعارضين لا يشملهما « لا تنقض اليقين بالشك » من حيث العمل ( و ) ذلك مع ( فرض شمولها لهما ) أي : شمول « لا تنقض » للمتعارضين ( من حيث الذاتية ) أي : مع قطع النظر عن العمل ، فيكون ( نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين ) الذين أتى بهما عادلان ، حتى (وإن لم يجب العمل بهما) أي : بالخبرين المتعارضين ( فعلاً ، لامتناع ذلك ) بسبب التعارض بينهما .

وعليه : فان هذا كله كان بناءا على شمول : « لا تنقض » للخبرين المتعارضين ، وأمّا ( بناءا على المختار في اثبات الدعوى الثانية ) التي تأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وقد أشار إليها المصنّف أخيرا بقوله : « مع الاغماض عمّا سيجيء من عدم شمول « لا تنقض » للمتعارضين » فإنّه بناءا على ما سينقله المصنّف في دعواه

ص: 218

فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلاً ، لأنّه إنّما يكون مع التعارض ، وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل .

الدعوى الثانية

أنّه إذا لم يكن مرجّح ،

-------------------

الثانية عن بعض المعاصرين : من تساقط المتعارضين لعدم شمول « لا تنقض » لهما ( فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلاً ، لأنّه ) أي : المرجّح ( إنّما يكون مع التعارض ، و ) المفروض : انهما قد تساقطا ، ومع ( قابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل ) والمفروض بعد عدم شمول « لا تنقض » لهما هو : عدم قابليتهما في أنفسهما للعمل والحجة .

والحاصل : انّ ترجيح أحد الاستصحابين المتعارضين بالمرجح الاجتهادي غير تام لوجهين :

الأوّل : انّ دليل « لا تنقض اليقين بالشك » لا يشملهما ، فينتفي قابليتهما في أنفسهما للعمل والحجيّة .

الثاني : انّه على تقدير شمول « لا تنقض اليقين بالشك » للاستصحابين المتعارضين كشمول آية النبأ للخبرين المتعارضين ، لا معنى لترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بالمرجّحات الاجتهادية ، وذلك لما تقدّم : من اختلاف الرتبة بينهما ، فلا يكون الأصل العملي ولا الدليل الاجتهادي أحدهما مرجّحا للآخر .

هذا تمام الكلام في الدعوى الاولى التي ادّعاها المصنّف بقوله : « وهنا دعويان إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات » وأمّا ( الدعوى الثانية ) للمصنّف فهي : ( أنّه إذا لم يكن مرجّح ) لأحد الاستصحابين على الآخر ،

ص: 219

فالحق التساقط دون التخيير - لا لما ذكره بعضُ المعاصرين : من « أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ، لعدم تناول دليل حجيّتهما لصورة التعارض ، لما تقرّر في باب التعارض : من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا الطريقيّة » -

-------------------

وذلك على المختار : من انّ الاستصحاب حجّة من باب التعبّد بالاخبار ، لا من باب الظنّ ، فانّه حينئذ يمكن وجود استصحابين متعارضين ، فإذا وُجدا ( فالحق التساقط ) لكلا الاستصحابين ( دون التخيير ) بينهما ، فلا يكون المكلّف مخيّرا بين العمل بهذا الاستصحاب أو بذاك الاستصحاب عند التعارض ، كما كان مخيّرا في العمل بأحد الخبرين المتعارضين .

وإنّما يقول المصنّف بالتساقط ( لا لما ذكره بعضُ المعاصرين : من « أنّ الأصل في تعارض الدليلين ) مطلقا هو ( التساقط ) ثم استدل هذا البعض للتساقط بقوله : ( لعدم تناول دليل حجيّتهما لصورة التعارض ) فان بعض المعاصرين قال بتساقط مطلق المتعارضين ، سواء كانا خبرين ، أم أصلين أم مختلفين ، مستدلاً له بأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين ، فاعترض عليه المصنّف : بأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين إذا كانا أصلين ، ويشملهما إذا كانا من الأمارات الظنية ، غير انّه حيث لم يمكن الجمع بينهما للتعارض ، كان الحكم هو : التخيير بينهما ، وذلك على القول بالسببية لا الطريقية .

وعليه : فانّ المصنّف إنّما اعترض على هذا المعاصر بذلك ( لما تقرّر في باب التعارض : من أنّ الأصل في المتعارضين ) لو كانا من الأمارات الظنية - كالاستصحاب من باب الظن - هو : ( التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد ) يعني : على السببية والموضوعية ( لا الطريقيّة » ) المحضة ، فإنّه على السببية

ص: 220

بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » لأنّ قوله : « لا تنقُض اليقين بالشك ، ولكن تنقُضُه بيقين مثله » يدلّ على حرمة النقض بالشك ،

-------------------

يكون المتعارضان بمنزلة الغريقين حيث يوجد في انقاذ كل منهما مصلحة ، لكن لمّا لم يتمكن المكلّف من انقاذهما معا وجب انقاذ أحدهما تخييرا ، بينما الأصل بناء على الطريقية المحضة هو : التوقف ، بمعنى : ان أحدهما فقط دليل في مؤدّاه دون الآخر ، وحيث انّه لا سبيل لمعرفته ، ولا يتمكن منهما معا يتخيّر في العمل بأحدهما .

إذن : فالحق في الاستصحابين المتعارضين - إذا لم يكن مرجّح لأحدهما ، أو كان ولم نرجح به - بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب التعبد بالاخبار هو : التساقط ، لكن ليس لأن دليل الحجية لا يشملهما كما استدل به بعض المعاصرين ( بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين ) في الاستصحابين المتعارضين ، كما إذا كان هناك انائان طاهران تنجّس أحدهما ، فإنّ الطهارة المستصحبة فيهما قد انتقضت إحداهما قطعا ، لكن اجمالاً ، وهذا العلم الاجمالي ( يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » ) اليقين بالشك » وذلك للزوم التناقض في أطراف نفس دليل « لا تنقض اليقين بالشك » .

وإنّما يوجب ذلك خروج المتعارضين عن مدلول الدليل ( لأنّ قوله ) عليه السلام : ( « لا تنقُض اليقين بالشك ، ولكن تنقُضُه بيقين مثله » (1) يدلّ على ) أمرين :

أولاً : ( حرمة النقض بالشك ) فلا يجوز نقض اليقين السابق بسبب الشك

ص: 221


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح .

-------------------

اللاحق الطاريء عليه .

ثانيا : نقض اليقين السابق باليقين اللاحق الذي هو على خلاف ذلك اليقين السابق .

وعليه : فانّ صدر الدليل يقول : « لا تنقض اليقين بالشك » وذيل الدليل يقول : « انقضه بيقين آخر » ( فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ) كالعلم بنجاسة أحد الانائين الذين كانا طاهرين سابقا ( فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ) وذلك ( لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ) .

إذن : فلو كان هناك انائان طاهران تنجّس أحدهما ، فانّه يكون كل منهما في نفسه مشكوك الطهارة ، كما انّه يكون أحدهما المردّد معلوم النجاسة ، ومعه فلو اُبقي تحت عموم دليل الاستصحاب كلاًّ من الانائين ، وذلك بأن حكم في كليهما بقاعدة : « حرمة نقض اليقين بالشك » لأدّى إلى عدم العمل بقاعدة : « وجوب نقض اليقين باليقين » فيكون من التناقض في أطراف الدليل وهذا غير صحيح .

كما ( ولا ) يجوز أيضا ( إبقاء أحدهما المعيّن ) تحت عموم « لا تنقض » واخراج الآخر ، وذلك ( لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول ) فيكون ابقاء المعيّن واخراج الآخر ترجيحا ( من غير مرجّح ) فكما انّه لا يجوز ابقاء كل من الاستصحابين المتعارضين تحت عموم : « لا تنقض » لأنّه من التناقض في أطراف

ص: 222

وأمّا أحدهما المخيّر ، فليس من أفراد العام ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا ، لم يبق شيء .

وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، و أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء

حلال حتى تعرف أنّه حرام » ، لا يشمل شيئا من المشتبهين .

-------------------

الدليل ، فكذلك لا يجوز ابقاء أحدهما المعيّن لأنّه من الترجيح من غير مرجّح ، فلا يصحّ أن يقال بابقاء الانائين معا ، كما لا يصح أن يقال بابقاء هذا الاناء بالخصوص دون ذاك تحت عموم : « لا تنقض اليقين بالشك » .

( وأمّا ) القول بابقاء ( أحدهما المخيّر ، فليس ) أحدهما المخيّر الذي يراد ابقاؤه تحت عموم « لا تنقض » ( من أفراد العام ، إذ ليس ) الفرد المردّد ( فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ) فانّه على ما عرفت : ان العلم الاجمالي أوجب خروج المتعارضين من مدلول : « لا تنقض » فلا يجوز ابقاء كليهما معا ، ولا ابقاء واحدٍ منهما معيّنا ( فإذا خرجا ، لم يبق شيء ) ثالث يسمّى بالفرد المخيّر حتى يبقى تحت عموم : « لا تنقض » .

هذا ( وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، و ) قلنا هناك : ( أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام » (1) لا يشمل شيئا من المشتبهين ) فان دليل أصل الحِل : « كل شيء حلال » لا يشمل كليهما لأنّه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي بالحرمة ، ولا أحدهما المعيّن لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا أحدهما المخيّر ، لأن الواحد المخيّر ليس فردا ثالثا غير المشتبهين ، وإنّما هو أمر منتزع من المشتبهين الذين قد عرفت عدم شمول الدليل لهما إطلاقا ، فزيد

ص: 223


1- - الكافي : ج5 ص313 ح40 بالمعنى وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

وربّما يُتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ، نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لابدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر ،

-------------------

في الخارج - مثلاً - شيء ، وعمرو في الخارج شيء آخر ، وليس هناك شيء ثالث في الخارج يكون عبارة عن الفرد المردّد بين زيد وعمرو .

( وربّما ) يقال : بأن الأصل عند التعارض وعدم التمكّن من العمل بالاستصحابين هو : التخيير ، ولذلك ( يُتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ) الشامل لكل فرد فرد من أفراد المشكوك يكون ( نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر ) أي : نظيره ( في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين ) كما لو يتمكّن من اكرام العالمَين ، أو انقاذ الغريقين ، أو العمل بالخبرين، وإنّما يتمكن من أحدهما فقط ، فانّه ( لم يجز طرح كليهما ، بل لابدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر ) .

وعليه : ففي مثال : انقاذ الغريقين ، يختار العمل بأحدهما ، فينقذ غريقا ويطرح انقاذ الغريق الآخر ، وفي مثال : اكرام العالمَين ، أيضا كذلك ، فانّه يكرم أحدهما ويطرح اكرام الآخر ، وهكذا في مثال الخبرين المتعارضين مثل : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) فانّه يأخذ بأحد الخبرين ويترك الخبر

ص: 224


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

لأنّ هذا غاية المقدور .

ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصلَ في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط ، والاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحُهما .

-------------------

الآخر تخييرا ، وذلك فيما إذا لم يكن لأحدهما مرجّح ، أو كان ولكن لم نرجّح به ، لا انّه يطرحهما معا ، ويترك العمل بهما جميعا .

وإنّما يجب عليه أن يتخيّر هنا في العمل بأحدهما عند التعارض ( لأنّ هذا غاية المقدور ) للمكلّف ( ولذا ذكرنا في باب التعارض ) في الأخبار : ( أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير ) بين العمل بهذا الخبر أو بذاك، لكن ( بالشرط المتقدّم ) وهو بناءا على أنّ حجية المتعارضين من باب السببية ، لا من باب الطريقية ، فإنّ من قال بحجية الخبر من باب الطريقية ، يلزمه التوقف ، كما سيأتي تفصيله في باب التعادل والتراجيح إن شاء اللّه تعالى ، فالأصل إذن في المتعارضين على السببية هو : التخيير ( لا التساقط ) .

وعليه : فكما ان الحكم في عموم كل دليل قد تعارض فرداه ولم يكن مرجّح : التخيير ، فكذلك يكون الحكم في عموم الاستصحاب ( و ) ذلك لأن ( الاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما ) بسبب العلم الاجمالي بارتفاع أحدهما، كما في الانائين الطاهرين الذين علم بتنجّس أحدهما ( وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحُهما ) معا ، فيكون حال الاستصحابين المتعارضين حينئذ حال : اكرم العلماء ، وانقذ كل غريق ، واعمل بكل خبر ، فيما لو تعارض

ص: 225

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما ، فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدورٌ فلا يجوز تركه .

وفي ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد العلم الاجمالي لا يكون المقتضي

-------------------

فردان منها وتعذر العمل بكليهما ، فانّه يجب أن يعمل بأحدهما ، ومعه كيف تقولون : بأنه يجب طرحهما معا لا العمل بأحدهما ؟ .

( ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة ) للمكلّف ( على ذلك ) أي : على العمل بكلا الفردين ، وذلك ( مع قيام المقتضي للعمل فيهما ) كالغريقين ، حيث ان المقتضي لإنقاذ كل منهما موجود ، وإنّما المكلّف لا يتمكَّن من إنقاذهما معا ( فالخارج ) من عموم الدليل ( هو غير المقدور ، وهو ) أي : غير المقدور ( العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ) فان المكلّف لا يتمكن من انقاذ زيد الغريق مجامعا مع انقاذ عمرو الغريق ( وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدورٌ ) للمكلف ، إذ المفروض انّه يتمكّن من انقاذ أحد الغريقين ( فلا يجوز تركه ) أي : ترك المقدور مخيّرا بينهما .

هذا ( و ) لكن ( في ما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين ( ليس ) الأمر ( كذلك ) أي : ليس المانع فيهما هو : عدم قدرة المكلّف على العمل بهما مع وجود المقتضي والملاك للعمل في كليهما ، لا وإنّما لا وجود للمقتضي فيهما رأسا .

وإنّما لم يكن الأمر فيما نحن فيه - من تعارض الاستصحابين - كذلك ( إذ بعد العلم الاجمالي ) بارتفاع أحد الاستصحابين ( لا يكون المقتضي ) والملاك

ص: 226

لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدمُ القدرة .

نعم ، مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما .

وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض

-------------------

( لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا ) حينئذ حتى يكون قد ( منع عنهما ) أي : عن كليهما معا ( عدمُ القدرة ) من المكلّف على العمل بهما ، بل انّه لا مقتضي في البين رأسا ، بعد العلم الاجمالي بتنجّس أحد الانائين .

( نعم ، مثال هذا ) الذي يكون المقتضي والملاك للعمل بهما موجودا في الفردين ، لكن المكلّف لا قدرة له على العمل بكليهما فيما نحن فيه ، أي : ( في الاستصحاب ) هو : ( أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين ) أي : بلا وجود علم اجمالي في البين مخالف لأحد الاستصحابين ، ولكن مع ذلك قد ( امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ) أي : بأن لا يكون كما في مثال اليقين بتنجّس أحد الانائين الطاهرين ( فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ) كما كان يجب في مثال : اكرام العالمَين ، وانقاذ الغريقين ، والأخذ بالخبرين ، حيث يعمل حينئذ بأحد الاستصحابين تخييرا ( فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما ) فقط دون الآخر .

( وإنّما لم نذكر هذا القسم ) الأخير قسما خامسا ( في أقسام تعارض

ص: 227

الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت : أنّ عدمَ العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم : « لا تنقض » عنوانٌ

-------------------

الاستصحابين ) الأربعة السابقة ( لعدم العثور على مصداق ) خارجي ( له ) أي : لهذا القسم الأخير من التعارض بين الاستصحابين ( فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ) ولذا لا يمكن فيهما جريان الاستصحابين معا ، أو لا جريان أحدهما منفردا .

هذا ( وقد عرفت : أنّ عدم العمل ) بعموم : « انقذ كل غريق » - مثلاً - في انقاذ الغريقين مخالفة لدليل : « انقذ كل غريق » الشامل لهما ، لكن سوّغ هذه المخالفة عجز المكلّف عن انقاذهما معا فينقذ أحدهما ، بينما عدم العمل ( بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها ) أي : سوّغ تلك المخالفة ( العجز ) عن العمل بهما معا حتى يختار العمل بأحدهما كما في انقاذ الغريقين ، بل عدم العمل بهما هو امتثال لدليل الاستصحاب ، حيث قال في ذيله : « ولكن انقضه بيقين آخر » (1) فانّه لمّا علم بارتفاع أحد اليقينين علما اجماليا ، لزم منه عدم العمل بالاستصحابين السابقين ، وذلك ( لأنّه نقض اليقين باليقين ) الآخر وهو هنا العلم الاجمالي المخالف للاستصحابين السابقين .

إذن : ( فلم يخرج ) بنقض اليقين باليقين ( عن عموم : « لا تنقض » عنوان

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

ينطبق على الواحد التخييري .

وأيضا فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر غير المعيّن باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ،

-------------------

ينطبق على الواحد التخييري ) كما كان يخرج - مثلاً - عن عموم : « انقذ كل غريق » حيث ان عمومه يشمل انقاذ الغريقين معا ، لكن عجز المكلّف أوجب مخالفته ، فخرج عن عمومه عنوان ينطبق ذلك العنوان على ما يكون معناه : وجوب العمل بانقاذ أحد الغريقين تخييرا ، فيختار أحدهما ، بينما ما نحن فيه ليس كذلك .

( و ) هنا توهم ثانٍ وهو : انّه يوجد في مورد تعارض الاستصحابين قبل طروّ العلم الاجمالي استصحابين ، لكن بعد طروّ العلم الاجمالي يزول أحدهما ويبقى الآخر المعيّن في الواقع المجهول عندنا ، فيكون من الدوران بين المحذورين : حرمة نقض أحد الاستصحابين للنهي : « لا تنقض » ووجوب نقض الآخر للرأي : « بل انقضه بيقين آخر » وحكمه التخيير ، فيعمل بأحد الاستصحابين تخييرا ، فانّ هذا الكلام الجديد غير تام ( أيضا ) كما لم يتم الكلام السابق .

وإنّما لم يتم هذا أيضا ، لأنّه كما قال : ( فليس المقام ) أي : مقام تعارض الاستصحابين ( من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر ) المعيّن في الواقع ( غير المعيّن ) عندنا ( باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ) معيّن في الواقع ، وذلك كما لو قال بعد قوله « اكرم العلماء » : لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد

ص: 229

فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ، لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاُخرى .

نعم ، نظيره في الاستصحاب ما

-------------------

بين فردين : زيد بن بكر ، وزيد بن خالد ( ف ) انّه يدور الامر حينئذ بين محذورين : وجوب اكرام أحدهما لعموم : « اكرم العلماء » وحرمة اكرام الآخر لخصوص : « لا تكرم زيدا » فيتخيّر ، لكن ليس ما نحن فيه وهو تعارض الاستصحابين من قبيل هذا المثال حتى ( يمكن هنا أيضا ) كما كان يمكن في المثال المذكور ( الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ) .

وإنّما لم يمكن هنا في تعارض الاستصحابين الحكم بالتخيير كما كان يمكن هناك في المثال المذكور آنفا ( إذ لا استصحاب في الواقع ) في مقام تعارض الاستصحابين ( حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ) كي يكون من قبيل العام وخروج زيد المردّد بين فردين ، الدائر بين محذورين وذلك ( لأنّ الواقع ) هنا لم يكن إلاّ ( بقاء إحدى الحالتين وارتفاع ) الحالة ( الاُخرى ) واقعا لا ظاهرا وبالاستصحاب ، فانّه إذا علم بتنجّس أحد الانائين ، لم يكن في الواقع انائان طاهران ، بل اناء طاهر واقعا ، والاناء الآخر ليس بطاهر واقعا ، فلا مجال هنا للاستصحاب رأسا ، ومعه لا يكون تعارض الاستصحابين نظير العام الذي خرج منه فرد غير معيّن وبقي الآخر حتى يحكم بالتخيير .

( نعم ، نظيره في الاستصحاب ما ) ذكره المصنّف قبل قليل بقوله : « نعم ، مثال هذا في الاستصحاب ان يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين » وذلك

ص: 230

لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به .

ومعلومٌ : أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ المعلوم اجمالاً فيما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد

-------------------

كما ( لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ) اللذين كانا بشكّين مستقلين ( ووجوب طرح الآخر ) يعني : ( بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به ) فيكون من الدوران بين المحذورين ، فيجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، كما كان يجب في مثال : « اكرم العلماء » الذي أخرج الدليل منه فردا غير معيّن بقوله : « لا تكرم زيدا » وبقي الآخر ، لتردّد زيد بين زيدين .

لكن ( ومعلومٌ : أنّ ما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين الناتج من العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، كما في الانائين الذين تنجّس أحدهما ( ليس كذلك ) أي : ليس كما في مثال : « اكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » الذي تردّد فيه زيد بين فردين ، حتى يحكم فيه بالتخيير .

وإنّما لم يكن ما نحن فيه كذلك ( لأنّ المعلوم اجمالاً فيما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين هو : ( بقاء أحد المستصحبين ) طاهرا - في مثال الانائين - واقعا ، أي : ( لا بوصف زائد ) على الواقع ، الذي هو الاستصحاب ، علما بأن الاستصحاب حكم ظاهري ، إذ لا معنى للاستصحاب والحكم ببقاء الطهارة ظاهرا فيما هو طاهر واقعا .

إذن : فمراد المصنّف من قوله : « لا بوصف زائد » هو : الاستصحاب ، فيكون حاصل كلامه : ان أحد المستصحبين معلوم الطهارة من جهة الواقع ، لا من جهة

ص: 231

وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر .

فتبيّن أنّ الخارج من عموم : « لا تنقض » ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيّرا ،

-------------------

الاستصحاب ، إذ بعد العلم بنجاسة أحد الانائين ، يُعلم طهارة أحدهما واقعا ( وارتفاع الآخر ) عن طهارته بسبب تنجّسه واقعا .

وعليه : فالمعلوم اجمالاً في تعارض الاستصحابين هو : بقاء أحد المستصحبين واقعا ، وارتفاع الآخر واقعا ، يعني : بأن لا يكون المقام موردا لجريان شيء من الاستصحابين رأسا ( لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر ) يعني : بأن يكون الاستصحابان جاريين في المقام ، لكن الشارع ألغى استصحابا وأبقى استصحابا .

إذن : ( فتبيّن ) خروج الاستصحابين المتعارضين معا عن مدلول : « لا تنقض » ومعه ظهر ( أنّ الخارج من عموم : « لا تنقض » ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ) عندنا معيّنا عند الشارع ، حتى يكون من قبيل : « اكرم العلماء » و« لا تكرم زيدا » حيث تردّد زيد الخارج من عموم : « الاكرام » بين زيدين ، فان عموم « الاكرام » كان يشملهما معا لولا اخراج أحدهما المعيّن عند اللّه المردّد عندنا .

( ولا ) كون الخارج من عموم : « لا تنقض » واحدا ( مخيّرا ) كما في انقاذ الغريقين ، فان عموم دليل الاستصحاب ليس من قبيل عموم : « انقذ كل غريق » حتى إذا غرق اثنان وعجز المكلّف من انقاذهما وجب عليه انقاذ أحدهما تخييرا .

والحاصل : ان الاستصحابين المتعارضين خرجا جميعا بسبب التعارض عن مدلول : « لا تنقض » بينما لم يخرج من عموم دليل : « اكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » إلاّ واحدا من الزيدين لا معيّنا ، كما لم يخرج من عموم : « انقذ كل غريق »

ص: 232

بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد اُخر ، غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة .

-------------------

إلاّ واحدا من الغريقين مخيّرا ، وان كان خروج أحد الزيدين بسبب العلم بعدم شمول العام له ، وخروج أحد الغريقين بسبب العجز عن امتثاله .

وعليه : فقد ظهر خروج الاستصحابين المتعارضين معا من عموم : « لا تنقض » لا خروج أحدهما لا معيّنا ، ولا أحدهما مخيّرا ( بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين ) بحكم أخبار الاستصحاب ، المذيّلة بقوله : « بل انقضه بيقين آخر » ( وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي ) فالذي هو طاهر من الانائين واقعا يترتب عليه آثار الطهارة ، والذي هو نجس من بين الانائين واقعا يترتب عليه آثار النجاسة ، ولا يبقى مجال للاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما مجاله في الظاهر ، والطهارة والنجاسة هنا واقعيان لا ظاهريان كما قال : ( من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ) أي : في المتعارضين ، فلا يكون شيء منهما موردا للاستصحاب : لا استصحاب النجاسة ، ولا استصحاب الطهارة .

هذا ، وحيث انّه قد خرج المتعارضان من دليل الاستصحاب ، وكان الباقي على طهارته واقعا ، وكذا المرتفع عن طهارته واقعا ، هو غير معيّن عندنا معيّن عند اللّه سبحانه وتعالى ( فيرجع إلى قواعد اُخر ، غير الاستصحاب ) مثل : قاعدة الاحتياط - مثلاً - ويحكم فيهما طبق قاعدة الاحتياط ( كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة ) رأسا .

ص: 233

ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى الاحتياط فيهما ،

-------------------

مثلاً : إذا كان عندنا إناءان قد طرأ على كل و احد منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لا نعلم الحالة السابقة لهذا الاناء ، ولا الحالة السابقة لذلك الاناء ، فانّه لا يجري استصحاب الطهارة ولا استصحاب النجاسة في أحدهما ، بل اللازم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة ، وكذا ما نحن فيه ، فانّه لمّا كان عندنا إناءان طاهران ، وتنجس أحدهما غير المعيّن ، لم يجر شيء من الاستصحاب فيهما ، أو في أحدهما ، بل يلزم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا تلاحظ الحالة السابقة للمتعارضين في مورد العلم الاجمالي حتى تستصحب تلك الحالة ( لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة ) بأن كان انائان طاهران ثم تنجّس أحدهما ( أو النجاسة ) بأن كان انائان نجسان ثم تطهّر أحدهما ( وبين عدم حالة سابقة معلومة ) كما مثّلنا له بانائين طرء على كل منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لم نعلم الحالة السابقة لهما .

وعليه : ( فإنّ ) هذه الصور الثلاث كلها ليست مجرى الاستصحاب ، بل ( مقتضى ) القاعدة بالنسبة للمتعارضين فيها ( الاحتياط فيهما ) أي : في المتعارضين منها ، وذلك لمكان العلم الاجمالي المانع من جريان الاستصحاب فيها - على ما عرفت - والمانع من قاعدة الطهارة أيضا ، إذ لا مجال لقاعدة الطهارة مع العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

ص: 234

وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا .

ومّما ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد .

فالترجيح بكثرة الاُصول بناءا على اعتبارها من باب التعبّد

-------------------

هذا ( و ) لكن مقتضى القاعدة ( فيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا ) كما لو كان نصف كرّ طاهرا ونصف كرّ نجسا ، ثم اتصل أحدهما بالآخر ولم نعلم هل انّه تطهر كل الماء أو تنجس كل الماء بعد علمنا بأن الماء الواحد لا يكون له حكمان ؟ هو : ( الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا ) ففي كل مقام كان من قبيل الإنائين ، فالقاعدة : الاحتياط ، وفي كل مقام كان من قبيل نصفي الكرّ فالأصل الطهارة.

( ومّما ذكرنا ) في مثال الانائين الذين علم اجمالاً بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما حيث قلنا بتساقط الاستصحابين فيهما ( يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ) كما مثّلنا له بالإنائين ( وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد ) كما إذا كان عندنا انائان : أحدهما طاهر قطعا ، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، ثم علم اجمالاً بتنجّس أحدهما ، فهنا يكون في الإناء الأوّل أصلان : أصل الطهارة والاستصحاب ، بينما لا يكون في الإناء الثاني إلاّ أصل الطهارة فقط : ففي هذا المثال أيضا كالمثال الأوّل يتساقط الأصلان المتعارضان ، ومع التساقط لا يبقى مجال للترجيح بالأصل الزائد .

إذن : ( فالترجيح بكثرة الاُصول بناءا على اعتبارها ) أي اعتبار : الاُصول ( من باب التعبّد ) أي : من باب ان حجيّة الاستصحاب من جهة الاخبار والروايات الشرعية ، لا من جهة الظن النوعي العقلائي أو الشخصي ، فانّه بناءا عليه

ص: 235

لا وجه له ، لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاُصول عن مدلول : « لا تنقض » على ما عرفت .

نعم ، يتّجه الترجيح بناءا على اعتبار الاُصول من باب الظنّ النوعي .

وأمّا الصورة الثالثة :

وهي ما يُعمل فيه بالاستصحابين ، فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه

-------------------

( لا وجه له ) أي : للترجيح بكثرة الاُصول .

وإنّما لا وجه له ( لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاُصول ) أي : جميع أطراف العلم الاجمالي ( عن مدلول : « لا تنقض » على ما عرفت ) آنفا : من انّه لا يجوز ابقاؤهما جميعا ، لأنّه يوجب التناقض في أطراف دليل : « لا تنقض » ولا إبقاء أحدهما معيّنا لأنّه ترجيح بلا مرجح ، ولا ابقاء أحدهما مخيّرا لأنّه لا خارجية له .

( نعم ، يتّجه الترجيح ) بكثرة الاُصول ( بناءا على اعتبار الاُصول من باب الظنّ النوعي ) العقلائي ، فانّه على ذلك يصبح دليل الاستصحاب مثل دليل الخبر ، فكما ان دليل حجية الخبر يشمل الخبرين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلاّ بأحدهما للتعارض ، فكذلك دليل حجية الاستصحاب الذي هو الظن النوعي يشمل الاستصحابين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلاّ بأحدهما من باب التعارض ، وذلك على ما تقدَّم بيانه .

( وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما ) أي : المورد الذي ( يُعمل فيه بالاستصحابين ) معا ( فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه ) أي : في ذلك

ص: 236

غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا يوجب مخالفة عملية لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمايع مردّد بين البول والماء ، فانّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما .

وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ، إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبُه مانعا

-------------------

المورد ( غير مؤثّر شيئا ) لعدم تنجّز خطاب تكليفي على المكلّف ( فمخالفته لا يوجب مخالفة عملية ) قطعية ( لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمايع مردّد بين البول والماء ، فانّه ) حينئذ ( يحكم ببقاء الحدث ) فلا وضوء له ( وطهارة الأعضاء ) فلم تتنجّس أعضاؤه .

وإنّما قال المصنّف : « ولو توضأ اشتباها » ليشير إلى انّه لو توضأ بذلك عمدا ، فانّه لا يصح وضوءه ، لعدم تمشّي قصد القربة منه ، ولو فرض تمشّي قصد القربة منه كان الأمر موكولاً إلى الواقع في عالم الثبوت ، فان كان ماءً كان متوضّئا ، وإلاّ فلا ، وتظهر الثمرة فيما إذا انكشف كونه ماءً - مثلاً - وحينئذ فقول بعض المحشّين : فلو وقع عمدا كان بقاء الحدث مقطوعا به لا مشكوكا فيه وخرج عن تعارض الاستصحابين ، محل نظر .

وكيف كان : فان المتوضئبالمايع المردّد اشتباها يحكم ببقاء حدثه ، وطهارة أعضائه ، وذلك ( استصحابا لهما ) أي : للحدث والطهارة ( وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ) أي : من جريان الاستصحابين ( إذ الواحد المردّد ) الذي زال ولم نعلمه بعينه ، فانّه لتردّده ( بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه ) أي : ترتيب ذلك الحكم الشرعي ( مانعا

ص: 237

عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا .

نعم ، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية ،

-------------------

عن العمل بالاستصحابين ) بخلاف ما إذا كان هناك انائان طاهران فتنجّس أحدهما ، وتردّد النجس بين مستصحبي الطهارة ، فانّه يترتّب عليه حكم شرعي وهو : وجود الاجتناب عنه ، فيكون مانعا عن العمل بالاستصحابين ، إذ يلزم من العمل بهما مخالفة عملية قطعية .

هذا ( و ) من الواضح : انّه ( لا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا ) أي : كما انّه لم يكن العلم الاجمالي هنا بالزائل المردّد بين كونه الحدث أو الطهارة مانعا ، لأنّ لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فكذلك لم يكن الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء مانعا ، لأنّه لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فانّه لو لم يغسل أعضائه لا يقطع بالمخالفة ، كما انّه لو توضأ لا يقطع بالمخالفة إلاّ المخالفة الالتزامية المجرّدة ، وقد سبق من المصنّف انّه لا دليل على حرمة المخالفة الالتزامية مجرّدة .

( نعم ، ربما يشكل ذلك ) أي : العمل بالاستصحابين للزوم المخالفة العملية القطعية منه ( في الشبهة الحكمية ) التي تكون الوقائع فيها متعدّدة فتؤدّي إلى المخالفة العملية تدريجا ، وذلك كما إذا شك في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة ، فأجرى استصحاب عدم الوجوب مرّة فتركها ، ثم أجرى استصحاب عدم الحرمة اُخرى ، فأتى بها ، فانّه يعلم حينئذ بأنّه خالف عملاً ، لأنّ صلاة الجمعة ان كانت واجبة فقد تركها ، وان كانت محرمة فقد فعلها ، وحينئذ يقطع

ص: 238

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم .

وأمّا الصورة الرابعة :

وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين ، وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدِهما مّما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر ، بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه .

-------------------

بالمخالفة العملية ( وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة ) أي : في حكم هذه المسألة التي توجب تدريجا العلم بالمخالفة العملية وذلك ( في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم ) أوّل الكتاب فراجع هناك .

( وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين ) أي : بأن يكون أحدهما فقط حجة ، دون الآخر ( وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدِهما مّما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر ) أي : أنّ الآخر لم يكن محل ابتلائه ، فإنّه لا يجري في هذا الآخر الاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما هو للعمل ، والمفروض انّه لم يكن محل الابتلاء ليعمل به ، ومعه يجري الاستصحاب في المبتلى به بلا معارض ، وذلك لأنّه لم يتوجه إلى المكلّف تكليف منجّز على أحد التقديرين ، وقد سبق أن قلنا : انّه إنّما لا يجري شيء من الاستصحابات في مورد العلم الاجمالي اذا كان التكليف فيه منجزا على كل تقدير ، لا على تقدير دون تقدير كما نحن فيه الذي هو ( بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه ) أي : على التقدير الآخر .

ص: 239

وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ قوله : « لا تنقض اليقين » لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي ، بحيث لا تعلّق له به أصلاً .

كما إذا علم اجمالاً بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك .

-------------------

( و ) عليه : فقد اتضح انّه ( في الحقيقة هذا ) التصوير الذي صوّره المصنّف في الصورة الرابعة ( خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ ) الاستصحاب فيه يكون في طرف واحد لا في الطرفين ، فيخرج عن التعارض لأن ( قوله : « لا تنقض اليقين ) بالشك » ( لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه ) أي : على ذلك اليقين ( في حقّ المكلّف أثر شرعي ) وذلك ( بحيث لا تعلّق له ) أي : لذلك الأثر الشرعي ( به ) أي : بالمكلف ( أصلاً ) لخروجه عن محل ابتلائه ، فيكون عدّ المصنّف هذه الصورة من موارد تعارض الاستصحابين إنّما هو لوجود العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، لكن حيث ان هذا العلم ليس له أثر لخروج أحد طرفيه عن ابتلاء المكلّف ، فيجري الاستصحاب فيما هو محل ابتلائه بلا معارض .

وأمّا مثال ذلك فهو : ( كما إذا علم اجمالاً بطروّ الجنابة ) إما ( عليه ) حتى يتنجز

عليه وجوب الغسل ( أو على غيره ) حتى لا يكون عليه شيء من التكليف ( وقد تقدّم ) في مبحث البرائة في تنبيهات الشبهة المحصورة ( أمثلة ذلك ) ممّا يكون أحد طرفي العلم غير منجّزٍ ، لخروجه عن محل الابتلاء ، أو للاضطرار إليه ، أو لأنّه كان مكلّفا به سابقا ، كما إذا كان أحد الانائين المعيّن نجسا والآخر طاهرا ، فوقعت قطرة دم في أحدهما ولم يعرف هل أنّها وقعت في الطاهر أو في النجس؟ وإلى غير ذلك .

ص: 240

ونظير هذا كثيرٌ ، مثل أنّه علم اجمالاً بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فانّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد : بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا .

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ،

-------------------

( ونظير هذا كثيرٌ ، مثل أنّه علم اجمالاً بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ) كشراء الجارية التي قد اشتراها ( والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ) أي : في شراء الجارية المشتراة ويدّعي انعقد وكلّه - مثلاً - في شراء العبد الذي لم يشتره بعد ، فإذا اختلفا ( فانّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل ) .

وإنّما يقدّم قوله ( لأصالة عدم توكيله ) أي : توكيل الموكّل ( فيما يدّعيه الوكيل ) هنا : من شراء الجارية ، وأثر هذا الأصل هو : ان الجارية لا تنتقل عن مالكها إلى الموكّل ، والثمن لا ينتقل من الموكّل إلى مالك الجارية ( و ) هذا الأصل سالم من المعارض حيث ( لم يعارضه أحد : بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا ) أي : كما كان الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، وحيث لم يعارضه به أحد لا يتساقطان ، وذلك لأن ما يدّعيه الوكيل : من توكيله في شراء الجارية - مثلاً - هو محل الابتلاء ، لأنّه اشتراها للموكّل وهو ينكر توكيله فيه ، فيترتب عليه الأثر ، وأمّا ما يدّعيه الموكّل : من توكيله في شراء العبد ، فليس محل الابتلاء ، لأنّه لم يشتره بعد ، فلا يترتب عليه أثر سواء وقع التوكيل أم لم يقع التوكيل .

( وكذا لو تداعيا ) - مثلاً - الرجل وزوجته ( في كون النكاح دائما أو منقطعا ،

ص: 241

فانّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث أنّه سبب للارث ، ووجوب النفقة والقَسم .

ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه .

-------------------

فانّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث أنّه سبب للارث ، ووجوب النفقة والقَسم ) ومعنى القسم : هو عبارة عن المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال ، وغير ذلك من أحكام الدوام .

هذا ما يظهر من المصنّف ، لكن لا يبعد أن يقال : بأن الأصل عدم النكاح المنقطع ، حيث ان المنقطع يحتاج إلى قيد زائد ، وهو : الوقت ، فإذا شككنا في هذا القيد الزائد كان الأصل عدمه ، فيكون النكاح دائما ، كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب النكاح من « الفقه » (1) .

( ويتّضح ذلك ) الذي صوّره المصنّف في الصورة الرابعة لتعارض الأصلين : من عدم التساقط لجريان أحد الأصلين فقط وهو الذي له أثر شرعي ، دون الآخر الذي ليس له أثر شرعي ، يتّضح ( بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه ) كما قد تقدَّم من المصنّف أمثلة لذلك في التنبيهين : السادس والسابع من تنبيهات الاستصحاب ، والتي منها : ما لو ادّعى الجاني الذي جرح شخصا : ان المجني عليه قد شرب سما فمات به ، فلا دية عليه لموته وإنّما الذي عليه هو دية جرحه فقط ، وادعى الولي : انّه مات بسراية الجراحة ، فعلى الجاني الدية الكاملة لقتل النفس فانّه يقدّم قول مدّعي عدم السراية ، لأن الأثر وهو هنا عدم ضمان كامل الدية مختص بأصالة عدم السراية ، ولا أثر لأصالة عدم شرب السم ، فيجري الأصل

ص: 242


1- - راجع موسوعة الفقه : ج62 - 68 للشارح .

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات ، والرجوع إلى الاُصول الاُخر الجارية في لوازم المشتبهين .

إلاّ أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الاُمور الخارجيّة ،

-------------------

في الأوّل دون الثاني .

هذا ، ولا يخفى : ان مسألة التداعي إنّما نظر إليها المصنّف من زاوية جريان الاستصحاب وعدم جريان الاستصحاب فقط ، وإلاّ فالبحث فيها مفصّل مذكور في الأبواب الخاصة بها .

( ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات ، و ) ذلك بناءا على اعتبار الأصل المثبت ، ثم ( الرجوع إلى الاُصول الاُخر الجارية في لوازم المشتبهين ) إذ بناءا على حجية الأصل المثبت يتعارض - مثلاً - أصل عدم النكاح الدائم ذي الأثر الشرعي وهو : عدم الارث ، مع أصل عدم النكاح المنقطع ذي الأثر العقلي وهو : كون النكاح دائما فالارث ، فيتساقط الأصلان ويرجع إلى عدم الارث ، علما بأن في مسألة التنازع الدائر بين كون النكاح دائما أو منقطعا ثلاثة أقوال :

الأوّل : انّه من قبيل التداعي ، فيحلف كل على نفي ما يدّعيه الآخر ويسقط عنه ما يدّعيه الآخر .

ثانيها : تقديم قول مدّعي الانقطاع باستصحاب عدم لوازم الدائم من النفقة والارث والقَسم وغيرها .

ثالثها : تقديم قول مدّعي الدوام ، لأن الأصل عدم تقييد العقد بالأجل ، ومن المعلوم : ان الأصل اللفظي مقدّم على الأصل العملي .

( إلاّ أنّ ذلك ) أي : التساقط بناءا على اعتبار الأصل المثبت على ما عرفت ( إنّما يتمشّى في استصحاب الاُمور الخارجية ) أي : في الموضوعات ، كالنكاح

ص: 243

أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ واجدي المنّي ، فانّه لا وجه للتساقط هنا .

-------------------

وعدمه ، والتوكيل وعدمه ، والسراية وعدمها ( أمّا ) في الأحكام الشرعية ( مثل أصالة الطهارة في كلّ ) واحد من ( واجدي المنّي ، فانّه لا وجه للتساقط هنا ) .

وعليه : فإنّ المستصحب إذا كان من الموضوعات الخارجية ، كعدم التوكيل ، وعدم النكاح ، وعدم السراية ، على ما سبق من الأمثلة التي ذكرناها آنفا ، فانّه يجوز الحكم بالتساقط ، وامّا إذا كان المستصحب من الأحكام الشرعية ، كطهارة كل واحد من واجدي المني فلا يصح الحكم بالتساقط ، والفارق بين الاُمور الخارجية والاُمور الشرعية هو : عدم اختلاف النتيجة في الاُمور الخارجية ، واختلافها في الاُمور الشرعية .

مثلاً : لو قلنا بتساقط الأصلين في الاُمور الشرعية ، كما لو قلنا به في مثال واجدي المني لزم الرجوع إلى قاعدة الاشتغال بالصلاة ، بينما لو عمل كل واحد منهما بما يخصّه من استصحاب طهارته ، فلا يجب عليه الغسل حتى تشتغل ذمته بالصلاة ، والمفروض هنا عدم لزوم مخالفة عملية من اجراء الأصل ، ومعه فلا داعي إلى التساقط ، فيعمل كل واحد منهما بأصله ويبني على عدم جنابته .

وأمّا بالنسبة إلى الاُمور الخارجية : فيجوز فيها التساقط ، لاتحاد نتيجة كل من التساقط ، والعمل بالأصل الذي له أثر شرعي منهما ، فانّه - مثلاً - لو حكم بجريان أصالة عدم النكاح الدائم فقط دون أصالة عدم النكاح المنقطع ، ترتب عليه أثره الشرعي : من عدم الارث والقَسم وما أشبه ذلك ، وكذلك يكون لو حكم بجريانهما وتساقطهما ، فان المرجع حينئذ يكون أيضا هو : أصالة عدم الارث والقَسم وما أشبه ذلك .

وإنّما قال بجواز التساقط في الاُمور الخارجية ، ولم يقل بوجوب التساقط فيها،

ص: 244

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثرٌ لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل ، إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم اجمالي معتبر في العمل ،

-------------------

لأنّه لا يمكن المخالفة العملية للعلم الاجمالي في هذه الموارد ، فيجوز الاكتفاء فيها بالأصل الذي له أثر شرعي دون الآخر ، وقد ذكرنا تفصيل التداعي في « الفقه » بأن له صورا : لأنهما إمّا لهما شهود ، أو يحلفان ، أو لأحدهما شهود دون الآخر ، أو أحدهما يحلف دون الآخر ، أو لا شهود لأحدهما ولا حلف ، وحيث إنّ المسألة فقهية ندعها لموضعها .

( ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ) الذي فرض انّه لا أثر له لخروجه عن محل الابتلاء - مثلاً - ( دخل في القسم الأوّل ) المستلزم للمخالفة العملية القطعية ، المحكوم فيه بالتساقط ، وذلك فيما ( إن كان الجمع بينه ) أي : بين جريان الأصل في الآخر ( وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم اجمالي معتبر في العمل ) كما إذا أراد كل واحد من واجدي المني الاقتداء بالآخر ، أو أراد شخص ثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة أو في صلاتين ، وذلك بناءا على ان الطهارة عند الامام لا تكفي للمأموم ، وإنّما يلزم على المأموم احراز طهارة الامام ولو بالأصل ، فانّه حينئذ لو أجرى المأموم أصالة الطهارة في حق نفسه وفي حق إمامه معا في المثال الأوّل ، أو في حق إماميه معا في صلاة واحدة أو صلاتين في المثال الثاني ، لزم مخالفة خطاب : « لا تصلّ جنبا » أو خطاب : « لا تصل مع جنب » فيتساقط الأصلان حينئذ ويرجع إلى الاحتياط بترك الائتمام ، أو الاحتياط بالاغتسال معا .

هذا ، ولا يخفى ان ما ذكره المصنّف هنا : من انّه لا يجوز اجراء الأصل فيما إذا

ص: 245

ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة غير المحصورة ؛ وفي القسم الثاني إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر .

فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الاجمالي من عقل أو شرع ، أو غيرهما

-------------------

ترتب الأثر على الاستصحاب الآخر أيضا ، بل حكم فيهما بالتساقط ، إنّما يتم في الشبهة المحصورة ، لا في الشبهة غير المحصورة ، وذلك لما تقدّم : من انّه لا عبرة بالعلم الاجمالي في غير المحصورة ، فلا يلزم الاجتناب عن أطرافها ، بل يجري الأصل في جميع الأطراف إمّا مطلقا ، أو في جميع الأطراف إلاّ بقدر ما يستلزم العلم بالمخالفة العملية ، وحيث ذكرنا سابقا تفصيله فلا حاجة إلى اعادته .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( ولا عبرة بغير المعتبر ) من العلم الاجمالي ، وذلك ( كما في الشبهة غير المحصورة ) فانّه يجري الأصل في كل أطرافها ، أو في غير ما يستلزم المخالفة القطعية من الأطراف لعدم اعتبار العلم الاجمالي فيها ( و ) أيضا كما ( في القسم الثاني ) ممّا يجري فيه الأصلان معا مع وجود العلم الاجمالي ، وهو ما جعله المصنّف الصورة الثالثة ، وذلك فيما ( إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر ) وإلاّ لم يجر فيه شيء من الاُصول ، لأن جريانها ينافي العلم الاجمالي المعتبر .

إذن : ( فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الاجمالي ) المخالف لهما ، سواء كان هذا العلم الاجمالي بالمخالفة ناشئا ( من عقل ، أو شرع ، أو غيرهما ) أي : غير العقل والشرع كالحس - مثلاً - .

أمّا العقل : فهو كما في مسألة التوكيل واختلاف الموكّل مع الوكيل ، فإنّه يؤدّي إلى التناقض من التوكيل وعدمه في آن واحد ، والتناقض محال عقلاً فيكون المانع

ص: 246

بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر .

والعلماء ، وإن كان ظاهرهم : الاتفاق على عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعيّة ، ولازمه : جواز اجراء المقلّد لها

-------------------

من جريان الأصل هنا هو العقل .

وأمّا الشرع : فهو كما في مسألة الوضوء والكرّ المتمّم بماء طاهر ، فان الماء النجس المتمّم كرا بماء طاهر ، إذا توضّئفيه ، حصل الشك للعلم الاجمالي الناشئمن حكم الشارع بنجاسة الماء الأوّل وتنجيسه للماء الثاني الطاهر الذي تمّم به الكر ، فانّه لولا حكم الشارع هذا لجرى الاستصحابان : طهارة الماء الثاني ونجاسة الماء الأوّل ، فالمانع من جريان الأصل هنا هو : الشرع .

وأمّا الحس : فهو كما لو رأى - مثلاً - بعينيه وقوع نجاسة في أحد الانائين ، فإنّ المانع من جريان الأصل هنا هو : الحس .

وعليه : فالمانع من جريان الأصل هو العلم الاجمالي ( بارتفاع أحدهما ) أي : أحد الأصلين ( وبقاء الآخر ) ولكن بشرط أن يكون العلم الاجمالي منجّزا ومعتبرا على لما عرفت .

هذا ( والعلماء ، وإن كان ظاهرهم : الاتفاق على ) وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الحكمية ، وعلى ( عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعيّة ) إلاّ انّه قد ذكرنا سابقا : بأن هذا الاتفاق غير تام في الشبهات الموضوعية ، لاختلاف الحكم فيها من حيث وجوب الفحص وعدمه حسب اختلاف الشبهات الموضوعية .

( و ) كيف كان : فانّه على فرض عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعية يكون ( لازمه : جواز اجراء المقلّد لها ) أي : للاُصول

ص: 247

بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلاّ أنّ تشخيص سلامتها عند الاُصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد .

فلابدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاُصول ، على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاُصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ،

-------------------

العملية في الشبهات الموضوعية ، وذلك ( بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها ) أي : الأخذ بهذه الاُصول العملية ( من المجتهد ) فيجوز للمقلد حينئذ اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعية على فرض عدم وجوب الفحص فيها ( إلاّ أنّ تشخيص سلامتها ) أي : سلامة هذه الاُصول ( عند الاُصول الحاكمة عليها ) ومعرفة الحاكم من المحكوم ، يجعل اجراء الأصل في الشبهات الموضوعية كالشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص خاصا بالمجتهد ، إذ الفحص ( ليس وظيفة كلّ أحد ) بل هو وظيفة المجتهد ، ولذلك لا يجوز للمقلد أن يجري الأصل في الشبهات الموضوعية كالحكمية ، مع احتمال ان يكون هناك أصل حاكم على هذا الأصل ، أو أصل معارض لهذا الأصل بصور التعارض الأربع ، وذلك لأنّه لا يعرف ماذا يصنع فيها ( فلابدّ ) حينئذ لاجراء المقلّد ، الأصل من أحد أمرين :

أولاً : ( إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص ) الأصل ( الحاكم من الاُصول ، على غيره منها ) أي : من الاُصول الاُخرى ، حتى يتمكن من تشخيص انّه لا حاكم على هذا الأصل الذي يريد اجراءه .

ثانيا : ( وإمّا من أخذ خصوصيّات ) ومشخّصات ( الاُصول السليمة عن الحاكم ) عليها ( من المجتهد ) الذي يقلّده ، حتى لا يقع في المخالفة عند اجراء الاُصول العملية في الشبهات الموضوعية .

ص: 248

وإلاّ فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى استصحاب الحاكم .

وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها .

عصمنا اللّه وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن هو قادرا على التشخيص ، ولا آخذا للمشخّصات من المجتهد ( فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى استصحاب الحاكم ) وذلك كما إذا وقع ثوب مسبوق بالنجاسة في ماء قليل طاهر ، فانّه لو استصحب طهارة الماء هنا بلا التفات منه إلى استصحاب نجاسة الثوب الحاكم على استصحاب طهارة الماء وقع في المخالفة العملية .

( وهذا ) الذي ذكرنا انّه من وظائف المجتهد وان كان يبدو انّه من تشخيص الموضوع الخارجي ، إلاّ انّه ( يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها ) أي : عدم حجيّته ، فكما انّه ليس من شأن المقلّد تشخيص الحكم الشرعي ، فكذلك ليس من شأنه تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب ، ولا تعيين الأصل الحاكم من المحكوم ، فليس إذن أمثال هذه الاُمور من الاُمور الموضوعية الخارجة عن وظيفة المجتهد ( عصمنا اللّه وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ) و « سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون ، وسلام على المُرسلين، والحمْدُ للّه ربّ العالمين » .

ص: 249

ص: 250

الوصائل الى الرسائل

خاتمة : في التعادل والتراجيح

اشارة

ص: 251

ص: 252

خاتمة : في التعادل والترجيح

-------------------

( بسم اللّه الرحمن الرحيم )

( الحمد للّه ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين ) .

وبعد :

( خاتمةٌ : في التعادل والتراجيح ) .

إعلم أن المراد من التعادل هو : تساوي الدليلين ، وذلك بأن يكون كل منهما معادلاً للآخر يعني : بأن لايوجد في أحدهما مرجّح بحيث يوجب الأخذ به دون الآخر ، والمراد من التراجيح هو : بأن يوجد في أحدهما مرجّح بحيث يوجب الآخذ به وتقديمه على الآخر الذي لا مرجِّح فيه .

هذا ، وحيث أن التعادل لايكون الاّ واحداً ، والترجيح يكون بمرجّحات متعدّدة ، جاء المصنّف بلفظ الأوّل مفرداً ، فقال : « التعادل » وبلفظ الثاني جمعاً ، فقال : « التراجيح » .

وإنّما جاء بلفظ التعادل من باب التفاعل دون المفاعلة لانّ التفاعل اولاً وبالذات للدلالة على التساوي في الزمان ، بخلاف المفاعلة فانّه ليس كذلك ، فاذا قال - مثلاً - ضارب زيد عمرواً ، كأن معناه : أنه ضرب أحدهما اولاً ثم ضرب الثاني ، بينما التعادل إنّما يكون في زمان واحد لا في زمانين .

وإنّما جعل المصنّف مسئلة التعادل والتراجيح خاتمة مع أنها من المسائل الاصولية ، لأنه بها ختم المسائل ، لا لأنها خارج عن المسائل ، فقوله : « خاتمة » هنا ليس من قبيل قولهم في الكتاب : مقدمة ومسائل وخاتمة ، بل من قبيل :

ص: 253

وحيث إنّ موردهما الدليلان المتعارضان ، فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه .

وهو لغةً : من العرض ، بمعنى الاظهار وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما

-------------------

« ولكن رسول اللّه وخاتم النبيّن » (1) ، وقال : « خاتمة » مع تاء التأنيث باعتبار تقدير المسألة ، مثل قولهم الرهن واثقة الدين ، باعتبار لفظ العين المقدَّر في الكلام .

( وحيث إنّ موردهما ) أي مورد التعادل والتراجح ، ( الدليلان المتعارضان ) والمراد بالمتعارضين هو : أن يكون أحدهما باطلاً في الواقع ، لكن لانعلم بأن أيهما الباطل ؟ وهذا التعارض في قِبال التزاحم وهو : ان يكون كلاهما حقاً واقعاً لكن المكلّف لا يتمكن من أدائهما معاً ، كانقاذ الغريقين ، وحينئذٍ . ( فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه ) علماً بأن المراد من قوله : « وبيانه » إمّا عطف بيان ، وإمّا ان يراد به المصداق ، فيكون المراد بالتعريف في قوله : « تعريف التعارض » بيان حقيقة التعارض وماهيته .

( وهو ) أي التعارض لغويّ واصطلاحي ، فإنّه ( لغةً من العرض ) بمعناه الوصفي المصدري لا بمعناه الاسمي الذي هو مقابل الطول ، فيكون حينئذٍ ( بمعنى : الاظهار ) فكأنّ كل واحد من الدليلين يظهر نفسه على الآخر حتى يغلبه .

هذا هو معناه اللغويّ ، وأما معناه الاصطلاحي ، فكما قال : ( وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما ) .

ص: 254


1- - سورة الاحزاب : الآية 40 .

باعتبار مدلولهما .

ولذا ذكروا : إنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ .

وكيف كان : فلا يتحقّق إلاّ بعد اتّحاد الموضوع ،

-------------------

من قبيل : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و « لا بأس بِبيع العَذَرَةِ » (2) فإن كل واحد منهما يمنع عن العمل بالآخر ، لأن مضمونه مخالف لمضمون الآخر .

وإنّما يكون التمانع بين الدليلين .

( باعتبار مدلولهما ) ومفهومهما ، لا باعتبار لفظهما ، لوضوح : أن لفظهما ليس يمتنع احدهما عن الآخر ويمنعة ، وبعبارة اخرى : التمانع بالعرض ، لا بالذات ( ولذا ) أي: لاجل ما ذكرناه : من أن التمانع باعتبار المدلولين وعرضيا وليس ذاتياً.

( ذكروا إنّ التعارض ) هو : ( تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض ) بأن يكون أحدهما ايجابياً والآخر سلبياً ، كما لو قال : صلّ الجمعة ، ولا تصلّ الجمعة ، فانه يكون فيهما تناقض ( أو التضادّ ) بأن يكون أحدهما ضداً للآخر ، كما لو قال : صلّ الظهر ، ثم قال : صلّ الجمعة ، فيكون بينهما تضاد .

( وكيف كان : ) فانّه سواء عرّف التعارض بما ذكرناه أو بغيره ( فلا يتحقّق إلاّ بعد اتحاد الموضوع ) في المتعارضين ، وذلك كما إذا قال أحد الدليلين : أكرم العالم ، وقال الآخر : لا تكرم العالم ، أوقال أحد الدليلين : أكرم العالم ، وقال الآخر : أهن العالم .

ص: 255


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وإلاّ لم يمتنع اجتماعُهُما .

ومنه يعلمُ أنّه لاتعارضَ بين الاُصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّ موضوعَ الحكم في الاُصول ، الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم ، فالحكم بحليّة العصير - مثلاً - من حيث انّه مجهول الحكم وموضوع الحكم الواقعي ، الفعل من حيث هو .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن اتحاد الموضوع فيهما ( لم يمتنع اجتماعُهُما ) كما اذا قال : صلّ ولا تشرب الخمر .

( ومنه ) أي : ممّا ذكرناه : من لزوم اعتبار اتحاد الموضوع في المتعارضين ( يعلم أنّه لا تعارض بين الاُصول ) العملية ( و ) بين ( ما يحصّله المجتهد من الأدلة الاجتهاديّة ) وقد مرّ سابقاً بيان ذلك في أواخر بحث الاستصحاب .

وإنّما لا تعارض بينهما ( لأنّ موضوع الحكم في الاصول ) العملية هو : ( الشئ بوصف أنّه مجهول الحكم ، فالحكم بحلية العصير - مثلاً - ) إنّما هو (من حيث أنه مجهول الحكم ) أي : انّ موضوع العملية الشك ( و ) عدم العلم ، وقد قال الشارع : « لاتنقض اليقين بالشك » (1) وقال : « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (2) و « كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام » (3) بينما ( موضوع الحكم الواقعي ) هو ( الفعل من حيث هو ) لا من حيث أنه مجهول الحكم ، فالعصير العنبي - مثلاً - قد يكون موضوعاً للحلّ فيما لو كان مشكوكاً ، فالحكم بما هو مشكوك حلال ، وقد يكون نفسه موضوعاً للحرمة فيما لو كان حرام واقعاً ، فالحكم بما هو عصير حرام

ص: 256


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الاحكام : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

فاذا لم يطّلع عليه المجتهد ، كان موضوع الحكم في الاصول باقيا على حاله ، فيعمل على طبقه .

واذا اطّلع المجتهد على دليل يكشف عن الحكم الواقعي ، فان كان بنفسه يفيد العلم صار المحصّل له عالما بحكم العصير - مثلاً - فلا يقتضي الأصل حلّيته ، لأنّه إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم .

-------------------

من حيث هو ، ومعه لا تعارض .

وعليه : ( فاذا لم يطّلع عليه ) أي : على الحكم الواقعي ( المجتهد ) بأن شك في أن الحكم الواقعي للعصير - مثلاً - ما هو ؟ ( كان موضوع الحكم في الاصول ) العملية ، وهو كما في المثال : العصير من حيث أنه مجهول الحكم ( باقياً على حاله ، فيعمل على طبقه ) أي ؛ على طبق ذلك الحكم الثابت للاصول العملية من البرائة وغيرها .

هذا إذا لم يطّلع المجتهد على الحكم الواقعي ( وإذا اطّلع المجتهد على دليل يكشف عن الحكم الواقعي ) كما اذا ورد دليل يقول : العصير العنبي حرام - مثلاً - ( فإن كان ) ذلك الدليل الاجتهادي ( بنفسه ) أي لا بواسطة دليل آخر يدلّ على حجيّته ( يفيد العلم ) للمجتهد كالخبر المتواتر ، والخبر المحفوف بالقرائن القطعية ، والاجماع المحصّل ، وما أشبه ذلك ( صار ) ذلك المجتهد ( المحصّل له ) أي المحصّل للدليل الكاشف عن الحكم الواقعي للعصير ( عالماً بحكم العصير - مثلاً - ) ومعه ( فلا يقتضي الأصل حلّيته ، لأنّه ) أي : الاصل ( إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم ) وقد صار هذا معلوم الحكم ، فخرج بذلك عن موضوع الأصل لأن موضوع الأصل العملي - على ما عرفت - هو : بالشئالمجهول الحكم ، وهذا شئمعلوم الحكم .

ص: 257

فالحكم بالحرمة ليس طرحاً للأصل ، بل هو بنفسه غير جارٍ وغير مقتضٍ ، لأنّ موضوعه مجهولُ الحكم وإن كان بنفسه لا يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علميّ .

فإن كان الأصلُ ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليين ،

-------------------

وعليه : ( فالحكم بالحرمة ليس طرحاً للاصل ، بل ) الأصل ( هو بنفسه غير جارٍ وغير مقتضٍ ) لأنه كما عرفت لاجهل ، والأصل إنّما يكون في مورد الجهل وذلك كما قال : ( لأنّ موضوعه ) أي : موضوع الأصل هو : ( مجهول الحكم ) ومن المعلوم : إنّ التواتر ، أو الاحتفاف بالقرينة القطعية ، أو الاجماع المحصّل المقطوع به ، معلوم الحكم ، وبذلك يرتفع موضوع الاصل .

هذا إن كان الدليل الاجتهادي بنفسه يفيد العلم ( وإن كان ) الدليل الاجتهادي ( بنفسه ) لولا دليل آخر يدلّ على حجيته ( لا يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علميّ ) كما في الخبر الواحد فأنه يحتمل كونه مخالفاً للواقع إلاّ أن الأدلة الدالة على حجيّته من الكتاب والسنة والاجماع والعقل جعلته حجة ، بحيث يكون معنى حجيته : ألغ احتمال الخلاف فيه .

وعليه : ( فإن كان الأصل ) المقابل لهذا الدليل الذي هو الخبر الواحد على مافي المثال ( ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ) فحسب ( كأصالة البرائة العقليّة ) المبتنية على « قبح العقاب بلا بيان » ، فإن البرائة هذه هو حكم العقل في مورد الشك في التكليف ( و ) كأصالتي ( الاحتياط والتخيير العقليين ) فإنّ الاحتياط هو حكم العقل في مورد الشك في المكلّف به ، كما أن التخيير هو حكم العقل فى مورد الشك الدائر بين المحذورين ، وذلك كما اذا شك في أنه هل حلف على ترك

ص: 258

فالدليلُ واردٌ عليه ورافعٌ لموضوعه ، لأنّ موضوعَ الأوّل عدمُ البيان ، وموضوعَ الثاني احتمالُ العقاب ، وموردَ الثالث عدمُ الترجيح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك مرتفعٌ بالدليل الظني .

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليلُ حاكماً على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه

-------------------

الوطي أو فعل الوطي ؟ ( فالدليل ) العلمي من الخبر الواحد ( وارد عليه ) أي : على هذا الأصل العقلي من البرائة أوالاحتياط ، أوالتخيير ( ورافعٌ لموضوعه ) فانّه مع الخبر لا موضوع لهذه الاصول الثلاثة العقلية ، وأن الموضوع لها ( لأنّ موضوع الأوّل ) أي : البرائة العقلية : ( عدم البيان ، وموضوع الثاني ) أي : الاحتياط العقلي : ( احتمال العقاب ) ، ( ومورد الثالث ) وهو التخيير العقلي : ( عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير ، و ) من المعلوم : انّ ( كلّ ذلك مرتفع بالدليل الظني ) المعتبر ، فإنّ مؤدّى الخبر وإن كان ظناً لا قطعاً ، لكنه ظن معتبر وحجّة .

هذا إن كان مؤدّى الأصل بحكم العقل ( وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة : كالاستصحاب ونحوه ) ممّا يكون حجّة بحكم الشرع كالبرائة الشرعية المستندة الى : « رفع ... مالايعلمون » (1) وكالاحتياط الشرعي المستند الى : « احتط لدينك » (2) ( كان ذلك الدليل ) الظني المعتبر من الخبر الواحد ( حاكماً على الأصل ) الشرعي من هذه الاُصول المذكورة ، وحكومة الدليل هنا ( بمعنى أنه ) أي : الدليل الظني المعتبر ( يحكم عليه ) أي : على الاصل الشرعي المذكور

ص: 259


1- - وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الاختصاص : ص31 .
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

بخروج مورده عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه ، أعني الشكّ ، إلاّ إنّه يرفع حكم الشكّ ، أعني الاستصحاب .

-------------------

( بخروج مورده ) أي : مورد ذلك الدليل المعتبر ( عن مجرى الأصل ) الشرعي ، فإن « الأصل الأصيل حيث لادليل » .

إذن : فمورد الدليل الظني المعتبر خارج عن مجرى الأصل الشرعي : من البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ، وذلك لأنّ البرائة الشرعية تقول : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) والخبر يقول : « هذا ممّا لايعلمون » .

ومن الواضح : إنّ العلم والعلمي في نظر العقل والشرع سواء من حيث رفعه : « لايعلمون » وكذا الاحتياط الشرعي فانّه يقول : « احتط لدينك » (2) فيما لو كان يحتمل الحكم ، والخبر يقول : لاحكم ، وهكذا الاستصحاب الذي هو أصل شرعي ، فانه يقول : « لاتنقض اليقين بالشك » (3) والخبر يقول :« لاشك » .

وعليه : ( فالدليل العلمي المذكور ) من الخبر الواحد على ما في المثال ( وإن لم يرفع موضوعه ) أي : وإن لم يكن كالخبر المتواتر المورث للعلم يرفع موضوع الأصل الشرعي ( أعني ) بموضوع الأصل الشرعي ( الشكّ ) لأن الشك في الحكم الواقعي مع الخبر الواحد المورث للظن باقٍ وجداناً ( إلاّ إنّه يرفع حكم الشك ، أعني : الاستصحاب ) وكذلك البرائة والاحتياط الشرعيين ، فإن الدليل الظني المعتبر من الخبر الواحد يرفع حكم الشك في الاُصول الشرعية المذكورة ،

ص: 260


1- - الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وضابط الحكومة : أن يكون أحدُ الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخَر ،

-------------------

فيخرج مورد الخبر الواحد من مجرى الأصل الشرعي ، فلا مجرى للأصل مع الخبر .

والحاصل : إنّ الاُصول العملية عقليّها وشرعيّها ستة ، فالعقلية ثلاثة : التخير ، وكذا البرائة والاحتياط العقليان ، والشرعية ثلاثة أيضاً : الاستصحاب ، وكذا البرائة والاحتياط الشرعيان ، وهذه الستة يقابلها إما علم قطعي كالخبر المتواتر أو علمي ظنّي كالخبر الواحد ، فتكون الأقسام اثني عشر قسماً : تسعة منها من باب الورود وهي : ما قابلها علم قطعي في الجميع ، وعلمي ظنّي في الثلاثة العقلية .

وثلاثة منها فقط من باب الحكومة ، وهي : ما قابلها علمي ظنّي في الثلاثة الشرعية فقط .

علماً بأنّ الورود هو : رفع الشك ، كالشك مع الدليل ، والحكومة هو : رفع حكم الشك وإن كان الشك باق وجداناً .

وبعبارة اخرى : الورود هو : رفع الموضوع ونسفه ، والحكومة هي : توسعة الموضوع أوتضييقه .

وبعبارة ثالثة : الورود هو : تخصّص في المعنى ، والحكومة هي : تخصيص في المعنى .

( وضابط الحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ) أي : لا بحكم العقل ، كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى في ضابط التخصيص ( متعرِّضاً لحال الدليل الآخر ) الذي ذكره الشارع ، فكلا الدليلين ذكرهما الشارع ، لكن أحد

ص: 261

ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله ، مسوقاً لبيان حاله متعرّضا عليه ،

-------------------

الدليلين ناظر الى الدليل الآخر نظر توسعة أوتضييق ، فقول الشارع - مثلاً - : « لاشك لكثير الشك » (1) يكون حاكماً على قوله : « اذا شككت فابن على الأكثر » (2) وهذا الحاكم مضيِّق للمحكوم . وقول الشارع - مثلاً - : « لاصلاة إلاّ بطهور » (3) يكون حاكماً على قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (4) وهذا الحاكم موسّع للمحكوم ، يعني يوسّع دائرة الصلاة بحيث يشمل الطواف من جهة وجوب الطهور له .

هذا ، والمصنّف إنمّا تعرّض هنا الى القسم الاول من الحكومة فقط وهو : المضيّق للمحكوم ، ولهذا قال ؛ أن احد الدليلين يتعرّض للدليل الآخر ( و ) يكون ( رافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ) أي : موضوع الدليل الآخر ( فيكون ) الدليل الحاكم ( مبيّناً لمقدار مدلوله ) أي : مدلول المحكوم ، و ( مسوقاً لبيان حاله ) أي : حال المحكوم ، و( متعرّضاً عليه ) أي : على المحكوم ، وذلك كما عرفت في مثل قول الشارع : « لاشك لكثير الشك »

ص: 262


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ، ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و ح16 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 .
4- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

نظير الدليل على أنّه لاحكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام المشكوك ، فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لاعموماً ولاخصوصاً ، لم يكن

-------------------

مع قوله : « اذا شككت فابن على الاكثر » (1) فان « لا شك لكثير الشك » يضيّق دائرة « اذا شككت فابن على الاكثر » حتى يكون المعنى ، إذا شككت فابن على الأكثر إلاّ إذا كنت كثير الشك .

وكذا ( نظير الدليل على أنّه لاحكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ ، أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل ) أوبعد التجاوز ( فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام المشكوك ) في الأمثلة المذكورة وما شابهها ، يعني : رافع لحكم الشك فيها حتى كأنه لاشك ، ومعه ، فلا اعتبار للبناء على الأكثر فيمن شك بين الأقل والأكثر وهو يصلّي النافلة وصار كثير الشك ، أو مع حفظ الإمام أو المأموم للأقل ، وهكذا بالنسبة الى الفراغ ، لو شك بعد العمل أو بعد التجاوز .

وعليه : ففي الحكومة لابدّ - مثلاً - أدلة متكفّلة لأحكام المشكوك حتى يكون الدليل الناظر اليها حاكماً عليها ، ولذا ( فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لاعموماً ) كما في قوله : « إذا شككت فابن على الأكثر » ( ولاخصوصاً ) كما في قوله : « اذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع » (2) ( لم يكن

ص: 263


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص216 ب10 ح10461 .

موردٌ للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور .

والفرقُ بينه وبين التخصيص : إنّ كونَ التخصيص بياناً للعامّ بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، وهذا بيانٌ بلفظه للمراد ومفسّر للمراد من العامّ ،

-------------------

موردٌ للأدلّة ) الحاكمة ( النافية لحكم الشكّ في هذه الصور ) المذكورة ؛ فإنه إذا قال ابتداءاً : « لا شك لكثير الشك » يتساءل : ما معنى هذا الكلام ؟ ولكن إذا قال قبل ذلك : « إذا شككت فابن على الأكثر » علم أن قوله : « لاشك لكثير الشك » ناظر الى كلامه السابق ، ومفسّر له ، ومضيّق لدائرته .

( و ) إن قلت : أن الحاكم هنا في باب الحكومة هو كالمخصّص هناك في باب التخصيص ، فما هو الفرق بينهما حتى ذكرا على حدة ؟ .

قلت : ( الفرق بينه ) أي : بين الحاكم ( وبين التخصيص ) يكون بما يلي : الفرق الأوّل : ( انّ كون التخصيص بياناً للعامّ ) لا يتمّ بمدلوله اللفظي ، بل ( بحكم العقل ) فان العقل هو ( الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، و ) ذلك كما إذا قال الشارع - مثلاً - أكرم كل عالم ، ثم قال لاتكرم الفاسق من العلماء ، فالعقل هو الذي يجمع بينهما ثم يحكم بأنه أراد من العام غير الخاص ، بينما ( هذا ) الدليل الحاكم القائل - مثلاً - : « لا شك لكثير الشك » ( بيانٌ بلفظه للمراد ، ومفسّر للمراد من العامّ ) القائل : « إذا شككت فابن على الأكثر » يعني : لفظ « لاشك لكثير الشك » بنفسه يفسّر أن المراد من قوله :« إذا شككت فابن على الأكثر » هو غير كثير الشك .

والحاصل من الفرق الأوّل هو : أن التخصيص يكون بحكم العقل ، والحكومة

ص: 264

فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير .

ثمّ الخاصُّ إن كان قطعيّاً تعيّن طرحُ العامّ ، وإن كان ظنّياً دار الأمرُ بين طرحه وطرح العموم .

ويصلح كلٌّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ، فلابدّ من الترجيح .

-------------------

تكون بحكم اللفظ ( فهو ) أي : الحاكم إذن ( تخصيص في المعنى ) عن العام المحكوم ولكن ( بعبارة التفسير ) والتوضيح ، فكأنه قال :« إذا شككت فابن على الأكثر » أي : في غير كثير الشك ، وفي غير الإمام والمأموم ، وهكذا .

الفرق الثاني :( ثمّ الخاصُّ إن كان قطعيّاً ) أي : من حيث الدلالة بأن كان نصاً ، كما إذا قال : يحرم إكرام الفساق ، ثم قال : يجب إكرام زيد الفاسق لأنّه أبوك ( تعيّن طرح العامّ ) لأنّ العام ظنّي والخاص قطعي .

هذا ، إن كان الخاص قطعياً ( وإن كان ) الخاص ( ظنّياً ) من حيث الدلالة ، يعنى بأن كان ظاهراً ف( دار الأمر بين طرحه وطرح العموم ، و) ذلك لأن كلاً منهما كان ظني الدلالة بحيث . ( يصلح كلٌّ منهما ) أي : من العام والخاص ( لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ) أي : بأن يكون العام هو المعمول به لا الخاص ، أوالخاص هو المعمول به لا العام ، وحينئذ ( فلا بدّ من الترجيح ) بمرجّح داخلي أوخارجي ، يكون قرينة على تقديم أحد الظاهرين .

مثلاً : لو قال الشارع لاتجتنب عن غير النجاسات العشرة ، ثم قال في كلام آخر : اجتنب عن الحديد ، ممّا يمكن التصرّف في العام بتخصيصه بالحديد ، أو التصرّف في الخاص بحمله على الاستحباب ، فاللاّزم التماس ما يكون قرينة للتصرّف في الأوّل أوفي الثاني ، سواء كانت قرينة داخلية أو خارجية ، والقرينة

ص: 265

بخلاف الحاكم ، فإنّه يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، ولا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة

-------------------

في المقام شرعية خارجية ، وهي : الاجماع على عدم نجاسة الحديد ، فتوجب التصرّف في الثاني بحمل اجتنب عن الحديد على الاستحباب .

هذا ، لا يخفى : أن القرينة على أربعة اقسام : وذلك لأنها أمّا داخلية أو خارجية ، وكل واحدة منهما أمّا شرعية أو عقلية ، فالمجموع أربعة أقسام ، فالقرينة العقلية الداخلية ما كانت من الوضوح بحيث يفهمها المخاطب من أمر شارع فلا تأمل ، بخلاف العقلية الخارجية حيث لا يفهمها المخاطب إلاّ بعد التأمّل .

فمن الأوّل مالو قال : يحرم جرح أيّ إنسان ، فانّه يفهم منه غير الكافر الحربي في حال الحرب .

ومن الثاني : مالو قال يجب ردّ السلام على المسلم فانه اذا لاحظ العقل أنه قد يكون محذور في ردّ السلام من جهة عدو يعرف موضع المسلم فيناله بأذى ، يرى أنه لايجب عليه الردّ في هذه الحالة .

إذن : فالفرق الثاني بين التخصيص والحكومة هو : أن الخاص لو كان نصاً قطعياً خصّص العالم ، لا أن كان ظاهراً ظنياً ، فانّه حينئذ لابّد من مرجّح ( بخلاف الحاكم ، فإنّه ) سواء كان نصّاً قطعياً أوظاهراً ظنيّاً ، فإنّه ( يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، و) إن كان ظاهر المحكوم أقوى ، بينما ( لا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ) وإن كان ظاهر الحاكم أضعف ، فالحكم حاكم سواء كان أضعف دلالة ، أوأقوى دلالة ، أومسا ودلالة بالنسبة إلى المحكوم ، ومعه فلا يصرف المحكوم الحاكم عن ظاهره بمجرّد ( بل يحتاج الى قرينة

ص: 266

اُخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة .

فالثمرةُ بين التخصيص والحكومة ، تظهرُ في الظاهرين حينئذٍ لايقدّم المحكوم ولو كان الحاكمُ أضعفَ منه ،

-------------------

اُخرى ) حتى يستطاع صرف الحاكم عن ظاهره ( كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة ) .

مثلاً : قول الشارع : « إذا شككت فابن على الأكثر » (1) المحكوم ، لا يكون بمجرّده قرينة على التصرّف في قوله : « لاشك لكثير الشك » (2) الحاكم بل لابدّ من قرينة خارجية أخرى تقول - مثلاً - بان المراد من :« لاشك لكثير الشك » هو : أن كثير الشك قليل جداً في الخارج بحيث يكون موجوده كعدمه ، ومعه يكون المحكّم في كثير الشك أيضا البناء على الأكثر ، فيبقى عموم :« اذا شككت فابن على الأكثر » على حاله ، وذلك سواء في كثير الشك أو في غير كثير الشك ، فالتصرّف في الحاكم إذن ليس كالتصرف في الخاص كي يكون بمجرّد ضعف دلالته ، بل لابدّ فيه من قرينة خارجية تدل على أن المراد من :« لاشك لكثير الشك » الحاكم هو : أن هذا القسم من الشك قليل - مثلاً - أوما أشبه ذلك .

وعليه : ( فالثمرة بين التخصيص والحكومة ، تظهرُ في الظاهرين ) مثل : « إذا شككت فابن على الأكثر » مع « لاشك لكثير الشك » ( حينئذٍ لا يقدّم المحكوم ) على الحاكم حتى ( ولو كان الحاكمُ أضعفَ منه ) أي : من المحكوم في الظهور

ص: 267


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
2- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ، ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 ح2، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 .

لأنّ صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اُخرى مدفوعة بالأصل .

وأمّا الحكمُ بالتخصيص ، فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ ، وإلاّ أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه .

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلّة الظنيّة على الاُصول ، فنقول : قد جعل الشارعُ للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكماً شرعيّاً أعني : الحلّ ،

-------------------

والدلالة ، وذلك ( لأنّ صرفه ) أي : صرف الدليل الحاكم ( عن ظاهره لايحسن بلا قرينة أُخرى ) كالقرينة التي ذكرناها في الدلالة على عدم الفرق بين كثير الشك وغير كثير الشك ، في مسئلة البناء على الأكثر عند الشك ، وحيث أن القرينة الاُخرى ( مدفوعة بالأصل ) فاللازم هو : تحكيم الحاكم على المحكوم ، لاجعل التعارض بينهما ، أو تحكيم المحكوم على الحاكم .

هذا في الحكومة ( وأمّا الحكم بالتخصيص ، فيتوقَّف على ترجيح ظهور الخاصّ ) بمرجّح داخلي أوخارجي ، عقلي أولفظي ( وإلاّ ) بأن لم يكن هناك مرجّح ( أمكن رفع اليد عن ظهوره ) أي : ظهور الخاص ( وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه ) الذي هو الظهور في العام .

إذا عرفت معنى الحكومة والتخصيص والفرق بينهما ( فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلّة الظنّية ) كالخبر الواحد ( على الاُصول ) العملية ، من الاحتياط ، والبرائة ، وما أشبه ذلك ( فنقول : قد جعل الشارع للشئالمحتمل للحلّ والحرمة ) كالعصير العنبي ( حكماً شرعيّاً ) ظاهرياً ( أعني : الحلّ ) حيث قال : « كل شئلك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (1) فإذا شك في العصير

ص: 268


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة - كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير - حجّة، بمعنى أنّه لايُعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لايترتّب عليه حكم شرعي كان يترتّب عليه لولا هذه الأمارة .

وهو ما ذكرنا من الحكم بالحلّية الظاهرية ، فمؤدّى الأمارات

-------------------

أنه حلال أوحرام ، فالشارع جعله حلالاً ( ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة - كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير - ) إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ( حجّة ) وجعله خبر العادل حجّة ( بمعنى : أنّه لا يُعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه ) أي : مؤدّى ذلك الخبر ( للواقع ) فإنّه إذا ورد الخبر بحرمة العصير ، فانه يحتمل مع ذلك أن الخبر اشتباه وأن العصير حلال في الواقع ، لكن الشارع لمّا قال : « صدّق العادل » كان معناه : ألغ احتمال الخلاف .

وعليه : ( فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة ) التي هي هنا خبر العادل الدال على حرمة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين إنّما يكون ( بمنزلة العدم ) بمعنى : انّه ( لا يترتّب عليه ) أي على هذا الاحتمال المخالف للخبر ( حكم شرعي ) ظاهري بحيث لو كان هذا الاحتمال لوحده ( كان يترتّب عليه لولا هذه الأمارة ، وهو ) أي : ذلك الحكم الشرعي الظاهري ( ما ذكرنا : من الحكم بالحلّية الظاهرية ) للعصير ، فإنّه لولا هذا الخبر كان يترتّب على العصير حكم الحلّية الظاهريّة ، وذلك بمقتضى : « كل شئلك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (1) .

إذن : ( فمؤدّى الأمارات ) والأدلة الاجتهادية ، مثل مؤدّى خبر العادل

ص: 269


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

بحكم الشارع كالمعلوم لايترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات .

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جارٍ في الاُصول اللفظيّة أيضاً .

فإنّ أصالة الحقيقة ، أو العموم معتبرةٌ إذا لم يعلم هناك قرينةٌ على المجاز .

-------------------

فيما نحن فيه الذي هو حرمة العصير ، يكون ( بحكم الشارع كالمعلوم ) لنا حرمته ، ومن الواضح أنه كما يجب الأخذ بالحرمة لو علمنا حرمة العصير علماً وجدانياً ، فكذلك لو علمنا بحرمته من خبر العادل ، ومعه ( لايترتّب عليه ) أي : على هذا المعلوم الحرمة ( الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات ) من البرائة والاحتياط وغير ذلك من الاُصول العملية والأدلّة الفقاهتية .

( ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة ) في الاُصول العملية ( جارٍ في الاُصول اللفظيّة أيضاً ) فإنه ربّما يكون لفظ حاكماً على لفظ ، ولفظ وارداً على لفظ آخر ( فإنّ أصالة الحقيقة ، أوالعموم ) أوأصالة الاطلاق ، أوغير ذلك ( معتبرةٌ إذا لم يعلم هناك قرينةٌ على المجاز ) أوقرينة على التخصيص ، أوقرينة على التقييد ، وهكذا ، فإنّ الاُصول العملية كما هي معتبرة فيما إذا لم يقم على خلافها دليل اجتهادي معتبر ، فكذلك الاُصول اللفظية معتبرة فيما إذا لم يقم على خلافها قرينة معتبرة تدّل على سقوط هذه الاُصول اللفظية عندها .

إذن : فالأصول اللفظية كالأصول العملية ، تكون معرّضة للورود والحكومة ، يعني يكون ما يقابلها كما يقابل الاُصول العملية على قسمين : إما علم قطعي فيكون واردا عليها ، أوعلمي ظني : فيكون حاكماً عليها ، وذلك كما قال :

ص: 270

فإنّ كان المخصّص - مثلا - دليلاً علميّاً كان وارداً على الأصل المذكور ، فالعمل بالنّص القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي .

وإنّ كان المخصّص ظنّياً معتبراً

-------------------

( فإنّ كان المخصّص - مثلاً - دليلاً علميّاً ) أي : بأن كان مورثاً للعلم القطعي كالمتواتر متناً وسنداً وجهةً ( كان وارداً على الأصل المذكور ) فإنّ أصل الحقيقة - مثلاً - معتبر مع عدم العلم بالخلاف ، والدليل المتواتر المورث للعلم القطعي رافع لهذا الموضوع ، فيرتفع اعتبار الأصل .

وعليه : ( فالعمل بالنّص القطعي ) أي : بالدليل المورث للعلم القطعي كالخبر المتواتر سنداً ، ومتناً ، وجهة ، بمعنى : عدم كونه تقية ، اذا قام على عدم إكرام زيد ، كان العمل به ( في مقابل الظاهر ) أي : الأصل اللفظي ( كالعمل بالدليل العلمي ) أي : المورث للعلم القطعي ( في مقابل الأصل العملي ) أي كما أن الخبر المتواتر الدال على حرمة العصير العنبي يكون وارداً على أصالة الحلّ لخروج العصير بسبب الخبر المتواتر عن كونه مشكوك الحكم إلى كونه معلوم الحكم ، فلا موضوع معه لأصالة الحل ، فكذلك في المقام فإنّ الخبر المتواتر على عدم إكرم زيد ، إذا كان نصّاً مبيّناً للواقع من غير جهة التقية ، يكون وارداً على أصالة العموم اللفظي في : أكرم العلماء ، وذلك لإرتفاع موضوع أصالة العموم بسبب العلم بالقرينة ، الحاصل من جهة الخبر المتواتر على عدم إكرام زيد .

هذا إن كان المخصّص دليلاً علمياً ، بمعنى العلم القطعي كالخبر المتواتر ( وإن كان المخصّص ظنّياً معتبراً ) بمعنى : العلمي الظني كالخبر الواحد إذا كان نصّاً - مثلاً - في عدم إكرام زيد ، فإنّ هذا الخبر الواحد الذي هو نص من جهة الدلالة

ص: 271

كان حاكماً على الأصل ، لأنّ معنى حجيّة الظنّ جعلُ احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لولا حجيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ، عند احتمال وجود المخصّص وعدمه .

-------------------

على عدم إكرام زيد ، وإن كان ظنياً من جهة السند ، أومن جهة الصدور ، أومن كلا الجهتين ( كان حاكماً على الأصل ) اللفظي .

وإنّما يكون الدليل العلمي الظني حاكماً في هذه الصورة على الأصل اللفظي ( لأنّ معنى حجيّة الظنّ ) المخصّص كالخبر الواحد الخاص هو : ( جعل احتمال مخالفة مؤدّاة للواقع ) أي : جعل إحتمال خلاف مؤدّى هذا الخبر الواحد الخاص ( بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لولا حجيّة هذه الأمارة ) الذي هو الخبر الواحد الخاص ( و ) ذلك الأثر الذي كان يترتب على الاصل اللفظي في أكرم العلماء ، لولا مجيئ خبر العادل بعدم إكرام زيد ( هو : وجوب العمل بالعموم ، عند احتمال وجود المخصّص وعدمه ) أي : عدم وجود المخصّص .

وعليه : فإذا قال الشارع : أكرم العلماء ، ثم احتمل وجود المخصّص لم يعتن بهذا الاحتمال ، بل لَعمِل بأصالة العموم ، وأمّا اذا جاء بعد ذلك عادل بخبر خاص عن الشارع يقول : لا تكرم زيداً ، كان الخاص : لاتكرم زيداً ، مخصّصاً لعموم : أكرم العلماء ، لانّه نص في الدلالة على التخصيص ، وإن كان ظناً معتبراً من حيث السند ، أومن حيث جهة الصدور ، ومعنى اعتباره : عدم الاعتناء باحتمال عدم التخصيص ، أي إلغاء أصالة العموم التي كانت تجري هذه الأصالة ، لولا هذا الخبر الظني الخاص .

ص: 272

فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم ، فثبت أنّ النصّ واردٌ على أصالة الحقيقة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات وحاكمٌ عليه إذا كان ظنّيّاً في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند - مثلاً - ويحتمل أن يكون الظنُّ - أيضاً - وارداً بناءاً على كون العمل بالظاهر - عرفاً وشرعاً - معلقاً على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاُصول العقليّة ،

-------------------

إذن : ( فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص ) معناه : ( إلغاء للعمل بالعموم ، فثبت ) ومن ذلك كله انّه كما تكون الأمارة واردة على الاصول العملية تارة ، وحاكمة عليها أخرى ، فكذلك تكون بالنسبة الى الاُصول اللفظية إذ ( أنّ النصّ ) القطعي المتواتر ( واردٌ على أصالة الحقيقة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات ) أي : بأن كان متواتراً من حيث السند والجهة أيضاً ( وحاكمٌ عليه إذا كان ) النص ( ظنّيّاً في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند - مثلاً - ) أوظّني الجهة - مثلاً - أوهما معاً وإن كان نصاً من جهة الدلالة .

هذا ( ويحتمل أن يكون الظنّ أيضاً ) كالقطع ( وارداً ) على الاصل اللفظي لاحاكماً عليه ، وذلك ( بناءاً على كون العمل بالظاهر - عرفاً وشرعاً - ) أي : إمضاءاً منه للعرف ( معلّقاً على عدم ) القرينة المعتبرة على الخلاف ، أي : ( التعبّد بالتخصيص ) الأعم من العلم بالتخصيص ، وذلك لأن التخصيص من القرائن ، وحجية الظواهر معلّقة على عدم القرينة على الخلاف ، ومعه فإذا وجدت قرينة مخالفة ، كانت تلك القرينة واردة على الأصل اللفظي ورافعة لموضوعه ، بلا فرق بين العلم بالقرينة ، كالدّليل القطعي المتواتر ، وبين التعبّد بالقرينة ، كالدّليل الظني المعتبر ( فحالها ) أي : حال الظواهر والاُصول اللفظية حينئذ ( حال الاُصول العقليّة ) في كون الظن المعتبر وارداً عليها ، سواء كان علماً قطعياً أم علمياً ظنياً ،

ص: 273

فتأمّل .

هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة ، وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي ، الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة

-------------------

وذلك على ما مرّ آنفاً .

( فتأمّل ) إشارة إلى ما سيأتي قريباً انشاء اللّه تعالى من قول المصنّف : بأن هذا الكلام كلّه مبني على أن الظواهر حجّة من باب التعبّد العقلائي، لا من باب الظن النوعي ؛ فيأمر المصنّف بالتأمّل ليشير الى عدم تمامية هذا المبنى ، إذ كون الظواهر حجة من باب التعبّد العقلائي لامن باب الظن النوعي ، غير تام .

( هذا كلّه ) هو ما أمر المصنّف قبل قليل بالتأمل فيه ، وهو : أنّ كل ما ذكر : من أنّ النسبة بين الاُصول اللفظية والظنون المعتبرة الاخرى هي الورود إذا كان النصّ قطعياً من جميع الجهات كالخبر المتواتر الخاص ، أوكان النص ظنياً من بعض الجهات كالخبر الواحد الخاص ، لكن بناءاً على تقيّد موضوع الاُصول اللفظية بعدم القرينة المعتبرة ، بمعنى : التعبد بالتخصيص كما مرّ ، والحكومة إذا كان النص ظنياً من بعض الجهات كالخبر الواحد الخاص ، لكن بناءاً على تقيّد موضوع الاُصول اللفظية بعدم القرينة القطعية ، بمعنى : العلم بالقرينة ، فإنّ ذلك كله إنّما هو ( على تقدير كون أصالة الظهور ) حجة ( من حيث ) التعبّد العقلائي معلّقاً على ( أصالة عدم القرينة ) فإنّ هناك قولاً بأنّ بناء العقلاء على التعبّد بأصالة الظهور ، من غير أن يكون هناك ظن نوعي .

( وأمّا إذا كان ) أصالة الظهور حجة ( من جهة الظنّ النوعي ، الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل ) ذلك الظن النوعي ( من الغلبة ) في محاورات المتكلّمين ، فإنّ

ص: 274

أو من غيرها ، فالظاهرُ أنّ النصّ وارد عليه مطلقاً وإن كان النصّ ظنيّاً ، لأنّ الظاهر أنّ دليلَ حجيّة الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند اصالة الظهور مقيّد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل .

-------------------

المتكلّمين غالباً مّا ، يريدون الحقيقة في كلامهم ، ممّا يسبّب ذلك ظناً نوعياً للمخاطبين ( أومن غيرها ) أي : من غير الغلبة ، كالظن النوعي الحاصل للمخاطبين من أصالة عدم القرينة - مثلاً - فإنه إذا كان الاصل اللفظي حجة للظن النوعي ( فالظاهر : أنّ النّص وارد عليه ) أي : على الأصل اللفظي ( مطلقاً ) أي : حتى ( وإن كان النصّ ظنّياً ) من جهة السند .

والحاصل : أنهم اختلفوا في أن حجيّة الظواهر هل هي من باب التعبّد من العقلاء ؟ وعلى هذا : فالنص المخالف للظواهر يكون محكّماً عليها ، إمّا من باب الحكومة أومن باب الورود ، وذلك على ما مرّ من وجه الاحتمالين آنفاً ، أوإنّ حجيّة الظواهر من باب الظن النوعي ؟ وعلى هذا ، فالنص المخالف للظواهر يكون محكّماً عليها من باب الورود مطلقاً ، فلا حكومة معها .

وإنّما يكون النص وارداً على الاصل اللفظي لاحاكّماً إذا كان حجية الظواهر من باب الظنّ النوعي ( لأنّ الظاهر : أنّ دليل حجيّة الظنّ ) النوعي ( الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور ) وملاك حجيّته إنّما هو ( مقيّد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه ) أي : على خلاف الظاهر ( فإذا وجد ) ظن معتبر على خلاف الظاهر ( ارتفع موضوع ذلك الدليل ) الدال على حجية الظن النوعي ( نظير ارتفاع موضوع الأصل ) العقلي ( بالدليل ) الشرعي ، فكما أنّه لاموضوع

ص: 275

ويكشف عمّا ذكرنا أنا لم أجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيه العامّ - من حيث هو - على الخاصّ ، وإنّ فرض كونُه أضعفَ الظنون المعتبرة .

فلو كان حجيّة ظهور العامّ غيرَ معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه لَوُجِدَ موردٌ نَفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العام حتى يقدّم عليه ،

-------------------

للأصل بعد قيام الدليل ، فكذلك لا موضوع للظاهر بعد ورود ظن معتبر على خلافه .

( ويكشف عمّا ذكرنا ) من أنّ حجية الظهور مقيّد بعدم ظن معتبر على خلافه ، فإذا جاء ظن معتبر على خلافه ، كان وارداً على الظاهر ( أنا لم أجد ) في كلام أحد من الفقهاء والاُصوليين وأهل اللسان ( ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيه العامّ من حيث هو ) عام يعني : بغضّ النظر عن القرائن الخارجية ( على الخاصّ ، وإن فرض كونه ) أي : الخاص ( أضعف الظنون المعتبرة ) من حيث السند ، وذلك بأن كان العام ظناً قوياً والخاص ظناً ضعيفاً ، فإذا ورد دليل قوي يقول : أكرم العلماء ، ودليل آخر ليس بتلك القوة يقول : لاتكرم العالم الفاسق ، فإنه يقدّم هذا الخاص على ذلك العام حتى وإن كان العام قوياً جداً والخاص ليس بتلك القوة ، وهذا ممّا يدلّ على أن حجية ظهور العام مقيّد بعدم وجود ظن معتبر على الخلاف .

وعليه : ( فلو كان حجيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه ) أي : خلاف ذلك العام حتى ولو كان اعتبار هذا الظن المخالف ليس بقوة ذلك العام ، فإنه لو لم يكن حجيته معلقاً ( لَوجِدَ موردٌ نفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ ) المخصّص للعام ( من ظنّ العام ) الذي يراد تخصيصه بهذا الخاص ( حتى يقدّم ) هذا العام لقوّته ( عليه ) أي : على ذلك الخاص لضعفه ، مع أنه لم يوجب .

ص: 276

أو مكافأته له حتى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع مورداً يتوقّف في مقابلة العامّ من حيث هو والخاصّ ، فضلاً عن أن يرجّح عليه .

نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهراً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين فربّما يقدّم العامّ .

وهذا

-------------------

( أو ) لوجد مورد نفرض فيه ( مكافئته له ) أي : بأن كان الظهور في العام والظهور في الخاص متكافئين ، بحيث لايعلم هل يقدّم العام ويؤوّل الخاص ، أو يقدّم الخاص ويخصّص العام ، فيتوقف على أثره كما قال : ( حتى يتوقّف ) في تقديم العام أوفي تقديم الخاص ؟ .

( مع إنّا لم نسمع مورداً يتوقّف في مقابلة العامّ من حيث هو ) عام ( والخاصّ ) من حيث هو خاص يعني : بغض النظر عن القرائن ( فضلاً عن أن يرجّح ) العام ( عليه ) أي : على الخاص .

لكن لا يخفى : إنّ تقديم الخاص على العام إنّما هو فيما إذا فرض العام ظاهراً والخاص نصّاً ، أوالعام ظاهراً والخاص أظهر ، وإما إذا تساويا في الظهور ، فانّهما يتعارضان ، كما قال : ( نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهراً ) كالعام بأن يكون ظهورهما متساويين ( خرج ) الخاص ( عن النصّ ) والأظهرية ( وصار ) الخاص والعام ( من باب تعارض الظاهرين ) بفرض أن العام له ظاهر ، والخاص له ظاهر ، وظهورهما في مرتبة واحدة .

وحينئذ : ( فربّما يقدّم العامّ ) ويؤوَّل في الخاص ، وربما يقدّم الخاص ويخصّص به العام .

( وهذا ) مثل ما إذا قال أحد : رأيت أسداً في الحمام ، فإنّ « في الحمام » قرينة

ص: 277

نظير ظنّ الاستصحاب على القول به ، فأنّه لم يُسمع موردٌ يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ، فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ أو اعتبار ظنّه النوعي مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه ،

-------------------

على إرادة الرجل الشجاع من الأسد ، إذ الحيوان المفترس لايدخل الحمام ، ومثل ما إذا قال : رأيت أسداً في أقفاص حديقة الحيوانات ، فإن « في أقفاص حديقة الحيوانات » قرينة على ارادة الحيوان المفترس ، إذ الرجل الشجاع لايدخل في أقفاص حديقة الحيوانات ، وأمّا إذا قال : رأيت أسداً فوق الجبل يرمي ، فإنّه يشك في أن « أسد » قرينة للتصرّف في « يرمي » أو« يرمي » قرينة للتصرّف في « أسد » ، إذ لم يعلم هل أراد المتكلّم الحيوان المفترس حتى يكون رميه عبارة عن رمي الحجر بيده ورجله ، أوأراد الرجل الشجاع حتى يكون رميه عبارة عن رمي السهم .

وكيف كان : فإنّ ما نحن فيه إنّما هو ( نظير ظنّ الاستصحاب على القول به ) أي : على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظن كالظواهر ، لا التعبّد بالروايات ( فإنّه لم يُسمع موردٌ يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ) أي : للإستصحاب ، بل الأمارة المعتبرة تقدّم على الاستصحاب حتى وإن كانت تلك الأمارة المعتبرة من أضعف الظنون وكان الاستصحاب من أقوى الظنون ، وذلك لانَّ الأمارة لا تدع موضوعاً للاستصحاب الذي هو الشك .

وعليه : فاذا كان الاستصحاب حجّة للظن ( فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ ) أي : إفادة الاستصحاب للظن الشخصي عند من يرى أنّ الاستصحاب حجّة من باب الظنّ الشخصي ( أو اعتبار ظنّه النوعي ) أي : بأن كان الاستصحاب حجّة من باب الظنّ النوعي كما قاله المشهور ، إنّما هو ( مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه )

ص: 278

فافهم .

ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت من تعريفه ، لايكون في الأدلّة القطعيّة ، لأنّ حجيّتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غيرُ ممكن ، ومنه يعلم عدمُ وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجيّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي .

-------------------

أي : أن حجيته تكون معلّقة على عدم وجود ظن الأمارة ، فإذا وجد ذلك لايدع مجالاً للإستصحاب ، حتى وإن كان الاستصحاب من أقوى الظنون والأمارة المعتبرة التي هي على خلافه من أضعف الظنون .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى أنّ النص الخاص ، لاشك في تقدّمه على العام ، لكن هل التقدّم بعنوان الترجيح العقلائي ، أوبعنوان الورود ، أوبعنوان الحكومة ؛ قد يكون بكل العناوين ؟ .

( ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت من تعريفه ) الذي هو عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين كما إنّه لم يكن بين الأدلة والاُصول العملية واللفظية لاختلاف رتبتهما ، فكذلك أيضاً ( لا يكون في الأدلّة القطعيّة ، لأنّ حجيّتها ) أي : حجّية تلك الأدلة القطعية ( إنّما هي من حيث صفة القطع ) وانكشاف الواقع ، ( و ) من المعلوم : أن ( القطع بالمتنافيين أوبأحدهما مع الظنّ بالآخر ) أوالشك في الآخر ، أواحتمال الوهم في الآخر ( غير ممكن ) لأنّ القطع عبارة عن الانكشاف ، فإذا انكشف للانسان أن الوقت نهار ، فهل يمكن أن ينكشف له أن هذا الوقت ليل أيضاً ، أو يظن بأنه ليل ، أويشك بأنه ليل ، أويحتمل بأنه ليل ؟ .

( ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين ) اللذين ( يكون حجيّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي ) أي : الظن الشخصي ، وذلك كما لو ظنّ الشخص فعلاً

ص: 279

لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي ، فإنّ بقي الظنّ في أحدهما فهو المعتبر ، وإلاّ تساقطا .

والمراد بقولهم : « إنّ التعارض لايكون إلاّ في الظنّين » يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ ،

-------------------

بوجوب الجمعة ، وظن فعلاً أيضاً بعدم وجوبها ، فأنه لم يقع التعارّض بينهما بهذا الاعتبار ( لأنّ اجتماع الظنّين ) الشخصيين ( بالمتنافيين محال ) كاجتماع القطعين ، كما إن إجتماع الوهمين في طرفي النقيضين أو الضدين محال أيضاً .

وعليه : ( فإذا تعارض سببان للظن الفعلي ) كما لو تعارض استصحابان - على القول بأن حجيّة الاستصحاب للظن الشخصي - في الماء المكمّل كراً ، وذلك بأن كان نصف كرٍّ من الماء نجساً ، ونصف كرٍّ طاهراً ، فاجتمعا ممّا صارا ماءاً واحداً كرّاً ، فهل يعقل أن يظن الشخص فعلاً بأن هذا النصف نجس ، ويظن فعلاً أيضاً بأنّ ذاك النصف الآخر طاهر ، مع العلم بأنه لايكون للماء الواحد إلاّ حكم واحد ؟ .

ومعه ( فإنّ بقي الظنّ في أحدهما ) وسقط الظن في الآخر ( فهو المعتبر ) والحجة ، لفرض : أنّ الظن الذي : هو معتبر موجود في المقام بلا معارض ( وإلاّ تساقطا ) أي : تساقط الاستصحابان ، لاستحالة إجتماع ظنّين شخصيّين بمتنافيين ، وبعده يرجع إلى قاعدة أخرى مثل : « كل شيء لك طاهر » (1) أو ما أشبه ذلك .

هذا ( والمراد بقولهم : «إنّ التعارض لايكون إلاّ في الظنّين» ) لا يريدون ظنّين فعليّين شخصيّين ، بل ( يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ ) كما إذا تعارض استصحابان وقلنا بأنّ الاستصحاب حجّة من باب الظن

ص: 280


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الاحكام : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وإنّما أطلقوا القول في ذلك ، لأنّ أغلبَ الأمارات ، بل جميعها عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصره معتبرةٌ من هذه الحيثية ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به .

-------------------

النوعي ، فإنهم لم يقيّدوا الظنّين بالنوعيّين ( وإنّما أطلقوا القول في ذلك ) حيث قالوا : بأن التعارض يقع بين الظنّين ، ولم يقولوا : يقع بين الظنّين النوعيين ، ( لأنّ أغلب الأمارات ، بل جميعها ) عندما استقريناها رأيناها ( عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصره ) من عصرنا كالميرزا القمّي والوحيد البهباني ( معتبرةٌ من هذه الحيثية ) أي : من حيث إفادة الظن النوعي ( لا ) أن اعتبارها ( لافادة الظن الفعلي بحيث يناط الاعتبار به ) أي : بحيث يجعل مناط حجية الدليل وملاك اعتباره بالظن الفعلي .

نعم ، ربّما قيل بأنه يظهر من الميرزا القمي ومن الوحيد البهبهاني : اعتبار الظن الشخصي في جميع الأمارات للإنسداد ، وكذا قيل : بأنّه يظهر من صاحب الاشارات ومن صاحب المناهل أيضاً : اعتبار الظن الشخصي في الظواهر فقط ، ومعنى اعتبار الظن الشخصي في شئهو : أنّه إذا حصل للانسان الظن منه شخصاً كان حجّة ، وإذا لم يحصل له الظن منه شخصاً فإنّه وإن كان يفيد الظن نوعاً فليس بحجّة ، وكذا قيل : بأنه يظهر من الشيخ البهائي : إعتبار الظن الشخصي في الاستصحاب فقط ، كما ويظهر ذلك من المحقق الخوانساري في الاستصحاب أيضاً ، لكن بناءاً على القول بكون الاستصحاب من الأمارات ، كما تقدّم في بحث الاستصحاب ، علماً بأنّه كلّما اعتبر فيه الظن الشخصي لحق بالقطع في عدم وقوع التعارض فيه .

ص: 281

ومثلُ هذا في القطعيّات غير موجود ، إذ ليس هنا مايكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ، لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل - حينئذٍ - في الأدلّة الغير القطعيّة ، لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع ، وهي في المقام منتفية فيدخل في الأدلّة غير القطعيّة .

-------------------

( ومثل هذا ) أي : اعتبار الحجيّة من جهة الظن النوعي ( في القطعيّات غير موجود ) ولذا يمكن وقوع التعارض بين الظنيّن النوعيّين ، ولايمكن وقوعه بين الظنيّن الشخصيّين ، ولا بين القطعيّين ( إذ ليس هنا ) في القطعيات ( ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ) فالقطع إمّا أن يكون وإما أن لا يكون ، وذلك ( لأنّ هذا ) أي اعتباره لافادته القطع النوعي ( يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل - حينئذٍ - ) أي : حين جعل الشارع له ( في الأدلة غير القطعية ) لوضوح : أن القطع حجّة بنفسه ، وما جعله الشارع إمّا كونه قطعاً نوعياً فليس بقطع شخصي حتى يكون حجّة ، وإما ليس كونه قطعاً نوعياً فليس ممّا جعله الشارع حتى يكون حجة من باب الجعل الشرعي .

وإنّما يدخل ذلك بجعل الشارع في الأدلة غير القطعية ( لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع ) أي : قيام القطع بذات القاطع ( و ) هذه الصفة النفسية ( هي في المقام ) أي : مقام الجعل الشرعي ( منتفية ) لما عرفت من أنّ حجية القطع ذاتية ، وحجيّة المجعول الشرعي عرضية ( فيدخل ) المجعول الشرعي حينئذ ( في الأدلّة غير القطعيّة ) .

والحاصل : إنّ وقوع التعارض بين القطعين الشخصيين لايعقل ، ووقوع التعارض بين القطعين النوعيّين وإن كان يعقل لكنّه خارج عن القطع الى المجعول شرعاً ، وقد عرفت إنّ المجعول الشرعي أجنبي عن القطع .

ص: 282

إذا عرفتَ ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ، لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لايكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين .

وقبل الشروع في بيان حكمها لابدّ من الكلام في القضيّة المشهورة ، وهي : أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح ، والمرادُ بالطرح على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر أعمُّ من طرح أحدهما

-------------------

( إذا عرفت ما ذكرنا ) من أن التعارض أين يكون وأين لايكون ، كما عرفت تعريف التعارض أيضاً ( فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ) وذلك ( لأنّ المتعارضين : إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ) بأحد المرجّحات السندية ، أوالدلالية ، أوجهة الصدور ( وإمّا أن لا يكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين ) أي : متساويين فلا ترجيح لأحدهما على الآخر .

هذا ( وقبل الشروع في بيان حكمها ) أي : حكم القسمين : ما يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وما لايكون لأحدهما مرجّح على الآخر ( لابدّ من الكلام في القضية المشهورة ) على الألسن من القاعدة التي ادّعى البعض الاجماع عليها ( وهي : أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن اولى من الطرح ، و) من الاسقاط ، علماً بانّ ( المراد بالطرح على الظاهر ) أي : حسب ما يستظهر من إطلاقهم لفظ الطرح ، وأحياناً ( المصرّح به ) أي : بهذا الظاهر ( في كلام بعضهم ) كابن أبي جمهور الاحسائي ، حيث يصرّح فيما يأتي : بأنّ المرجع بعد عدم إمكان الجمع إلى أخبار العلاج ، لاطرحهما أوطرح أحدهما ( و) كذا المصرّح به ( في معقد إجماع بعض آخر ) هو : ( أعمّ من طرح أحدهما ) المخيّر أوأحدهما المعيّن .

ص: 283

لمرجّح في الآخر ، فيكون الجمعُ مع التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح .

قال الشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي في غوالي اللئالي ،

-------------------

وإنّما يطرح أحدهما المخيّر ، لأنه حيث يكون المتعارضان متساويين ولا مرجّح لأحدهما بالنسبة الى الآخر ، فيتخيّر المكلّف في الآخذ بهذا أو بذاك .

وإنّما يطرح أحدهما المعيّن ( لمرجّح في الآخر ) فيكون ماله مرجّح هو المأخوذ به ، ومالامرجّح له هو المعرض عنه .

وعليه : ( فيكون الجمع ) الدلالي حسب هذه القاعدة ( مع التعادل ) والتكافؤ ( أولى من التخيير و) يكون الجمع ( مع وجود المرجّح أولى من الترجيح ) أي : مع التعادل بين الخبرين نجمع بينهما ، لا أن نقول بالتخيير بينهما ، ومع وجود الترجيح لأحدهما أيضاً نجمع بينهما ، لا أن نرجح الراجح على المرجوح .

هذا ، ولايخفى : أن الأولوية في قولهم :« الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » هي : الأولوية التعيينيّة ، لا الأولوية الترجيحيّة الدالة على الأفضلية ، فهي إذن مثل قوله سبحانه : « اولى لك فأولى » (1) فإن النار متعيّنة للكافر ، لا أن النار أفضل للكافر من الجنة .

وكذلك مثل قوله سبحانه : « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه » (2) فأولوا الأرحام متعيّن بالنسبة إلى رحمه ، لا أنه أولى بالأفضلية .

وكيف كان : فقد ( قال الشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي ) وهو من كبار علماء الشيعة ( في ) كتابه : ( غوالياللئالي ) علماً بأن هذا الكتاب يصلح أن يكون مؤيداً ، والظاهر : أنه بالغين المعجمة ، لا بالعين المهملة وأن رجّحه الحاج النوري ، فإنه

ص: 284


1- - سورة القيامة : الآية 34 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 6 .

على ما حكي عنه : « إن كلّ حديثين ظاهرُهما التعارض يجب عليك أوّلاً البحثُ عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العملَ بالدليلين مهما أمكن خيرٌ من ترك أحدهما وتعطيله

-------------------

قال : ( على ما حكي عنه : إن كلّ حديثين ظاهرُهما التعارض يجب عليك أوّلاً البحث عن معناهما ) لتقف عليهما من حيث الاطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ، والاجمال والتبيين ، وغير ذلك ( وكيفيّة دلالة ألفاظهما ) لتعرف منهما الحقيقة والمجاز ، والظاهر والأظهر ، وغير ذلك .

وعليه : فإذا وقفت على كل ذلك في المتعارضين ( فإن أمكنك التوفيق ) والجمع العرفي ( بينهما بالحمل على جهات التأويل ) والمراد بالتأويل هنا ما يؤل اليه الكلام ، لا التأويل المصطلح ، فإنّ الجمع بين العام والخاص - مثلاً - يؤول الى تخصيص العام بالخاص ، وهكذا بالنسبة الى التقييد وغيره ( والدلالات ) مثل : جعل الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر - مثلاً - فإذا أمكنك ذلك ( فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ) غاية الاجتهاد ، وذلك لأن تحصيل القرائن الداخلية والخارجية تساعد الانسان على فهم مراد المتكلم من الكلامين المتعارضين الواردين منه ، فيعرف كيف يجمع بينهما .

وإنّما قال بالحرص والاجتهاد في الجمع بين المتعارضين لأنّ قاعدة الجمع تقول ( فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خيرٌ من ترك أحدهما وتعطيله ) أي : طرحه ، وذلك لفرض أنهما دليلان معتبران ، فاللازم الجمع بينهما وعدم طرح شئمنهما مهما أمكن ، وقوله : « خير » هنا ليس بمعنى التفضيل ، بل بمعنى « اللزوم » ، من قبيل قوله سبحانه : « أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم

ص: 285

بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهُهُ ، فارجع الى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة » انتهى .

واستدلّ عليه تارةً : بأنّ الأصلَ في الدليلين الاعمالُ ، فيجب الجمعُ بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح .

-------------------

القيامة » (1) فالجمع إذن خير من تعطيل أحدهما وطرحه ، وذلك ( بإجماع العلماء ) .

وعليه : ( فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه ) في الجمع بينهما ( فارجع الى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا الى مقبولة عمر بن حنظلة ) (2) الدالة على الأخذ بالراجح من الحديثين المتعارضين وطرح المرجوح منهما ، فاذا لم يكن رجحان في البين يؤخذ بالتخيير ( انتهى ) كلام الشيخ الاحسائي .

هذا ( واستدلّ ) بصيغة المجهول ( عليه ) أي : على لزوم الجمع بين الدليلين مهما أمكن بوجوه سبعة كالتالي :

الأوّل : الاجماع ، وقد مضى ذكره في كلام ابن أبي جمهور الاحسائي .

الثاني : الأصل العقلائي المتّبع عند العقلاء ، وهو استدلال بما ذكره الشهيد الثاني قال : ( تارةً : بأنّ الأصل في الدليلين الاعمال ) والمراد بالأصل هنا : القاعدة المتبعّة عند العقلاء ، حيث يرون الدليلين كليهما حجّة من جهة المولى ، ومعه ( فيجب الجمع بينهما ) أي : بين الدليلين ( مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ) وذلك لأنّ الأمر دائر بين : العمل بهما وهو ما يكون بناء العقلاء عليه ،

ص: 286


1- - سورة فصلت : الآية 40 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح2233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وأخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة ، وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصليّة .

-------------------

أو تركهما وهو خلاف حجيّة الدليلين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر وهو ترجيح من غير مرجّح ، كما أن المراد بالإستحالة هنا : الاستحالة العقلائية ، لا الاستحالة العقلية ، وذلك لأن الترجيح يمكن أن يكون اعتباطاً ، وإنّما المحال عقلاً هو الترجّح من غير مرجّح ، كما ذكروه في الكتب المعنيّة بالكلام والحكمة .

الثالث : الدلالة المطابقيّة والتضمنيّة ، وهو استدلال بما ذكره العلامة قال ( وأخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه ) بالمطابقة ( أصليّة ، وعلى جزئه ) بالتضمن ( تبعيّة ) فإذا ورد - مثلاً - دليلان : أحدهما يقول : العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه حرام ، والآخر يقول : العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه حلال ، فإنّ العصير يدلّ بالمطابقة على العنبي وغيره ، وبالتضمن على خصوص أحدهما ، والجمع بين الدليلين يقتضي أن يقال : العصير الذي يحرم إذا غلى هو خصوص العنبي ، والذي لا يحرم إذا غلى هو خصوص غيره ، وبذلك فقد عمل بالدليلين غير أنه اُهمل في كل منهما دلالة تضمنية تبعية .

( وعلى ) هذا فقد عرفت : أنه على ( تقدير الجمع ) بين الدليلين ( يلزم إهمال دلالة تبعيّة ) تضمنية فقط وهي : إهمال دلالة العصير الحرام على عصير غير العنب ، وإهمال دلالة العصير الحلال على عصير العنب ( و ) من المعلوم : إنّ إهمال دلالة تبعيّة تضمنيّة ( هو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ) أي : عدم الجمع ( هو إهمال دلالة أصليّة ) مطابقيّة ، فإنّه إذا ترك أحد المتعارضين ، فقد ترك كل معناه المطابقي كاملاً .

ص: 287

ولا يخفى : إنّ العملَ بهذه القضية على ظاهرها يوجبُ سدّ باب الترجيح

-------------------

الرابع : التعبّد بالصدور والظهور معاً ، وذلك بحكومة جهة صدور الدليلين على جهة ظهورهما ، وهذا الوجه من الاستدلال على قاعدة : « الجمع أولى من الطرح » إلى آخر الوجوه السبعة لم يذكرها المصنّف إلاّ في ضمن الرّد على هذه القاعدة ، فإن لكل من الدليلين المتعارضين جهة صدور ، وجهة ظهور ، وحجيّة الظهور فرع على حجية الصدور ومقيّد بعدم القرينة على الخلاف ، بينما حجية الصدور هذا قرينة على خلاف الظهور : فيؤخذ بالصدورين ، ويترك ظهورهما ، وهو لايكون إلاّ بالجمع بين الدليلين .

الخامس : التعبد بالصدور فقط ، فإنّ التعبّد بصدور كل من الخبرين المتعارضين يجعلهما بمنزلة قطعيّي الصدور ، والقطعيّين لا يعقل وقوع التعارض فيهما ، فيجب الجمع بينهما .

السادس : التقديم للنص على الظاهر ، فكما أنّ في مورد تعارض النص والظاهر نرفع اليد عن ظهور الظاهر فقط دون سند النصّ ، فكذلك هنا نرفع اليد عن الظهور فقط دون السند .

السابع : التقديم للإجماع على الظاهر ، فإنه إذا كان ظاهر خبر مخالفاً للإجماع تركنا ظاهر ذلك الخبر لا سنده ، ولهذا يُأوّل مثل هذا الخبر لا أن يطرحه ، وكذلك ما نحن فيه .

هذا ، وقد أجاب المصنِّف عن هذه الاستدلالات بقوله :( ولا يخفى : أنّ العملَ بهذه القضية ) وهي قاعدة :« الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » ( على ظاهرها يوجب ) ما يلي :

أولاً : ( سدّ باب الترجيح ) في وجه المتعارضين مطلقاً ، إذ لو عمل

ص: 288

والهرج في الفقه - كما لايخفى - ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الاجماع والنصّ .

-------------------

بقاعدة : « الجمع أولى من الطرح » لم يبق موضع لترجيح خبر على خبر ، مع أن لزوم ترجيح خبر على خبر هو ممّا دل عليه أخبار العلاج وقام عليه إجماع العلماء .

ثانياً : ( والهرج في الفقه ) فإنّ العمل بقاعدة : « الجمع » يستلزم التناقض الكثير في الفقه ، وذلك لأنّه يكون لكل أحد الحق في توجيه مورد التعارض مع كثرته بحسب ما يؤدّي إليه نظر الفقيه في التوجيه ، فيجمع - مثلاً - بين قول الشارع : « ثَمنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) وبين قوله : « لا بأسَ ببيعِ العَذَرةِ » (2) تارة : بأنّ ما يحرم ثمنه هو : عذرة الانسان ، وإنّ ما يحلّ بيعه هو : عذرة غيره ، وأخرى : بأنّ الحرام هو ثمن عذرة غير مأكول اللحم وأن الحلال هو بيع عذرة مأكول اللحم ، وثالثة : بأنّ الحلال ما كان موضع الفائدة كالتسميد وأن الحرام مالم يكن موضع الفائدة ، ورابعة : بأنّ الحرام هو البيع للمسلم والحلال هو البيع للكافر ، وخامسة : بأنّ الحرام هو البيع في البلاد الحارّة حيث أنه يتعفّن كثيراً والحلال هو البيع في البلاد الباردة حيث أنه لا يتعفّن كثيراً ، وهكذا ( كما لا يخفى ) ذلك على من لاحظ الاحتمالات في المتعارضين .

ثالثاً : ( ولا دليل عليه ) أي : لادليل على العمل بهذه القاعدة التي تقول :« الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » على إطلاقها ( بل الدليل على خلافه من الاجماع والنصّ )

ص: 289


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

أمّا عدمُ الدليل ، فلأنّ ما ذكر - من أنّ الأصل في الدليل الاعمال - مسلّمٌ لكنّ المفروضَ عدمُ إمكانه في المقام ، فإنّ العمل بقوله عليه السلام : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » وقوله عليه السلام : « لابَأسَ بِبَيعِ العَذَرَةِ » على ظاهرهما غيرُ ممكن ، وإلاّ لم يكونا متعارضين ،

-------------------

أمّا الاجماع فقد قام على العمل بالمرجّحات السنديّة ، وأما النصّ فقد عرفت : أنّ نصوص التراجيح تدل على لزوم ترجيح خبر على خبر ، لا على الجمع بقوله بينهما مهما أمكن .

ثم أن المصنّف أخذ يشرح ما قاله قبل قليل : من أنه لادليل على قاعدة « الجمع » بقوله : ( أمّا عدم الدليل ، فلأنّ ما ذكر ) عن الشيخ الاحسائي من الاجماع ، فالمتيقن منه هو الجمع العرفي لا التبرعي ، وأمّا ما ذكر عن العلامة : من أنّ إهمال دلالة تبعية أولى من إهمال دلالة أصلية ؛ ففيه : أن الدلالة فرع الصدور ، وما لم يثبت صدروه لم تثبت دلالته ، فلا دلالة حتى يصدق اهمالهما ، وأما ما ذكر عن الشهيد الثاني ( - من أنّ الأصل في الدليل الاعمال - مسلّم ) لاينكره أحد ، لأنه مقتضى شمول دليل الحجيّة للمتعارضين ، فإنّ كونه دليلاً معناه : العمل به ( لكن المفروض عدمُ إمكانه ) أي : أنه لايمكن إعمال الدليلين المتعارضين ( في المقام ) الذي هو مقام التعارض ( فإنّ العمل بقوله عليه السلام : « ثَمنُ العَذَرةِ سُحتٌ » (1) وقوله عليه السلام : « لابأسَ بِبيعِ العَذَرةِ » (2) على ظاهرهما غير ممكن ) لأنه موجب للتناقض أوتضاد ( وإلاّ ) بأن أمكن العمل بهما ( لم يكونا متعارضين )

ص: 290


1- - الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وإخراجُهما عن ظاهرهما بحمل الأولى على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ليس عملاً بهما .

إذ كما يجبُ مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ، كذلك يجبُ التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهرَ الكلامٌ المفروض وجوب التعبّد بصدوره اذا لم يكن هناك قرينة صارفة

-------------------

والفرض أنهما متعارضان .

وإن قلت : رعاية لجهة الصدور ، نتصرّف في جهة الظهور على ما قال به المستدل للجمع في الوجه الرابع : من الحكومة ، وذلك بإخراج الدليلين عن ظاهرهما الى مالا تعارض معه .

قلت : ( وإخراجهُما عن ظاهرهما بحمل الاُولى ) من دون قرينة : ( على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني : على عذرة مأكول اللحم ) أوما أشبه ذلك من الجمع التبرّعي ، كما تقدَّم بعض أقسامه ( ليس عملاً بهما ) أي : بالدليلين ، وذلك لانّ معنى العمل بالدليل هو : الأخذ بظاهره ، وهذا لم يؤخذ بظاهره لا في هذا ، ولا في ذاك .

وإنّما لم يكن إخراجهما عن ظاهرهما عملاً بهما ، لأنّه قال ( إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ) علماً بأنّ قوله : « والتعبّد » عطف بيان لقوله : « مراعاة السند » ( كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام ، المفروض وجوب التعبّد بصدوره ) إذ أنّه كما يجب التعبّد بالصدور يجب العمل بالظاهر أيضاً فيما ( إذا لم يكن هناك قرينة صارفة ) عن الظاهر ، فإذا كانت قرينة صارفة عن الظاهر ويجب الأخذ بالظاهر من الأصل والقرينة معاً .

ص: 291

ولا ريب انّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن اذا كان هناك مرجّح والمتخيّر اذا لم يكن ثابت على تقدير الجمع وعدمه فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر - أيضاً - واجب .

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق

-------------------

هذا ( ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح ) لأحدهما على الآخر ( و) كذا التعبّد بصدور أحدهما ( المخيّر اذا لم يكن ) هناك مرجّح لأحدهما ( ثابت على تقدير الجمع وعدمه ) أي : سواء جمعنا بينهما أولم نجمع بينهما ، فنحن متعبّدون بصدور أحدهما المعيّن ، أواحدهما المخيّر ، وذلك لأنّا لو جمعنا بينهما ، فقد أخذنا بالسندين وطرحنا الظاهرين ، ولو أخذنا بأحدهما ، فقد أخذنا بظاهر واحدٍ وسند واحدٍ وطرحنا الآخر سنداً وظهوراً ، فنحن على كلا التقديرين : الجمع بينهما أوالطرح لأحدهما ، متعبّدون بالصدور والظهور في الجملة .

وعليه: (فالتعبّد بظاهره) أي : ظاهر أحدهما الذي تعبّدنا بصدوره (واجب) لأنّ حجيّة الظاهر فرع حجيّة الصدور (كما أنّ التعبّد بصدور الآخر - أيضاً - واجب) لأنّ دليل الحجيّة يشمله فإذا تعبّدنا بصدور الآخر تفرّع عليه التعبّد بظاهره أيضاً ، وظاهره متعارض مع ظاهر الأوّل ( فيدور الأمر بين ) وجهين : طرح أحد المتعارضين كاملاً صدورا وظهورا أي ( عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين ) الجمع بينهما بالتعبّد بالصدورين دون الظهورين ، لأنّ جهة الصدور قرينة على ارادة خلاف الظهور أي : ( عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق

ص: 292

على التعبّد به ، ولا أولويّة للثاني .

بل قد يتخيّل العكس فيه من حيث إنّ في الجمع تركَ التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما ترك التعبّد ، بسند واحد ، لكنّه فاسد ، من حيث إنّ تركَ التعبّد بظاهر مالم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ليس مخالفاً للأصل ، بل التعبّد غير معقول ،

-------------------

على التعبّد به ) صدوراً ( و ) من المعلوم : أنّه ( لا أولويّة للثاني ) وهو : الجمع بين

المتعارضين على الأوّل وهو : طرح أحد المتعارضين ، وحيث أنّه لا أولويّة للجمع ، ظهر عدم تمامية الاستدلال له بالحكومة .

( بل قد يتخيّل العكس فيه ) أي : عكس قاعدة الجمع التي تقول : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » وعكسها يكون : « الطرح مهما أمكن أولى من الجمع » وذلك ( من حيث إنّ في الجمع : ترك التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما : ترك التعبّد بسند واحد ) ومن المعلوم : أنّ ترك أمرين أبعد من ترك أمر واحد فيكون الطرح أولى .

( لكنّه ) أي : تخيّل العكس لأجل أنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين وفي الطرح ترك التعبّد بسند واحد ، فالطرح أولى ( فاسد ، من حيث إنّ ترك التعبّد بظاهر ما ) أي : بظاهر الدليل الذي ( لم يثبت التعبّد بصدوره ، و ) بظاهر الدليل الذي ( لم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، و) ذلك الدليل الذي لم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز صدوره ( هو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ) معيّناً أومخيراً على ما عرفت ، فانّ ترك التعبّد بظاهر هذا الدليل ( ليس مخالفاً للأصل ، بل التعبّد غير معقول ) .

ص: 293

إذ لاظاهر حتى يتعبّد به ، وليس مخالفاً للأصل ، وتركاً للتعبّد بما يجب التعبّد به .

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهم أنّه إذا عملنا بدليل حجّية الأمارة فيهما وقلنا : بأنَّ الخبرين معتبران سندا فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا اشكال ولا خلاف في أنّه إذا

-------------------

وإنّما لم يكن التعبّد بالظاهر هنا معقولاً ( إذ لاظاهر ) فيما لم يكن صدور ، علماً بأنّ الظهور فرع الصدور ، والمفروض : أنّه لاصدور ( حتى يتعبّد به ) أي : بذلك الظهور ، ( وليس ) ادعاء استحالة التعبّد بالظهور هنا فيما لم يكن صدور ( مخالفاً للأصل ، و) ذلك لأنّه لم يكن هذا الادّعاء هنا حسب الفرض ( تركاً للتعبّد بما يجب التعبّد به ) لأنّه إنّما يجب التعبّد بالظهور بعد الفراغ عن التعبّد بالصدور ، وهنا لاصدور حتى يجب التعبّد بظهوره ، وذلك لأنّ المسلّم صدوره هو أحد المتعارضين معيّناً أومخيراً ، فالواجب هو التعبّد بظاهره فقط ، فاذا جمعنا فقد خالفنا الأصل بالنسبة الى أحد الظاهرين ، وإذا طرحنا فقد خالفنا الأصل بالنسبة الى أحد السندين ، فلا أولوية حيث قلنا : بل قد يتخيّل العكس .

( وممّا ذكرنا ) من دوران الأمر بين طرح سندٍ واحد ، أوظاهرٍ واحد ( يظهرُ فساد) ما تقدّم في الوجه الخامس من الاستدلال للجمع : بأنّ التعبّد بالصدور يجعل الخبرين بمنزلة قطعيّي الصدور ، فيجب الجمع بينهما لا طرح أحدهما ، وذلك كما قال : فقد ( توهم أنّه إذا عملنا بدليل حجيّة الأمارة فيهما ) أي : في المتعارضين ( وقلنا : بأنّ الخبرين معتبران سنداً ) من حيث شمول دليل الاعتبار لهما ( فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف ) من أحد ( في أنّه إذا

ص: 294

وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين أو متواترين وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم قرينةً صارفةً لتأويل كلّ من الظاهرين وتوضيح الفرق وفساد القياس ،

-------------------

وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين ) مثل : قرائتين على ما قيل في « يَطهُرن » و« يطَّهَّرن » ( أو) خبرين ( متواترين ) حيث أنّ الآيتين والخبرين المتواترين مقطوع صدورهما ، فاذا وقع التعارض بينهما ( وجب تأويلُهما والعمل بخلاف ظاهرهُما ) إذ لايعقل حذف السند ، فيلزم حذف دلالة هذا أو دلالة ذاك .

وعليه :( فيكون القطع بُصدورهما عن المعصوم ) عليه السلام عملاً بدليل حجيّة الأمارة في الخبرين المتعارضين ، حيث يكونان بذلك كمقطوعي الصدور ( قرينةً صارفةً ) تصرف عن الظاهر ، فنضطر عندها ( لتأويل كلّ من الظاهرين ) في الجمع بينهما ، فاذا قطعنا - مثلاً - بصدور : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتً » (1) و « لابأسَ بِبيعِ العَذَرَةِ » (2) وجب علينا تأويلهما ، وذلك بحمل كل واحد منهما على مالا ينافي الثاني ، مثل أن تحمل الحرمة على العذرة النجسة ، والحلّية على الطاهرة ، أوسائر المحامل الاُخر ، لانّا لانتمكن من طرح أحد السندين حتى نأخذ بظهور الثاني كاملاً .

هذا ( وتوضيح الفرق ) بين مقطوعي الصدور ، وبين معتبري الصدور ( وفساد القياس ) أي : قياس الخبرين المعتبرين صدوراً بما يكون مقطوعاً صدوراً ،

ص: 295


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص373 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينةٌ على إرادة خلاف الظاهر ، وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند .

وبعبارة أخرى العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ، غير ممكن ، والممكن من هذه الاُمور الأربعة اثنان لا غير ،

-------------------

كالخبرين المتواترين هو : ( إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لايزاحمُ القطعَ بالصدور ) فإنّ الخبرين لو كانا مقطوعي الصدور لايصحّح العمل بظواهرهما ( بل القطعُ بالصدور قرينةٌ ) عقليّةٌ ( على إرادة خلاف الظاهر ) إمّا فيهما أوفي أحدهما بحيث لايتنافيان ( وفيما نحن فيه ) الذي هو معتبر الصدور ( يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحماً لوجوب التعبّد بالسند ) لتساوي مرتبتي : التعبّد بالظاهر ، والتعبّد بالسند ، فلا يقدّم التعبّد في السند على التعبّد بالظاهر ، فيدور الأمر بسبب تنافي الظاهرين بين سقوط السند في أحدهما ، أو سقوط الدلالة في أحدهما أوفي كليهما .

( وبعبارة اُخرى ) نقول في بيان فساد القياس المذكور : أنّ ( العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند و) العمل بمقتضى أدلّة اعتبار ( الظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ، غيرُ ممكن ) لأنّه يلزم التناقض أوالتضاد ( والممكن من هذه الاُمور الأربعة إثنان لا غير ) أوغير الممكن إثنان أيضاً ، وهما : الأخذ بالسندين والدلالتين معاً أو طرح السندين والدلالتين معا ، وقد عرفت : أنّ الأخذ بهما معاً غير معقول ، كما أنّ الطرح لهما معاً مناف لأدلّة حجيّة السند .

إذن : فيبقى اثنان من الاحتمالات الأربعة فقط ، وهما ما أشار اليه المصنّف

ص: 296

إمّا الأخذ بالسندين ، وإمّا الأخذ بظاهرٍ وسندٍ من أحدهما .

فالسند الواحد ، منهما متيقّن الأخذ به وطرح أحد الظاهرين ، وهو ظاهر الآخر غير المتيقّن الآخذ بسنده ، ليس مخالفا للأصل ، لأنّ المخالف للأصل: ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، فيدور الأمرُ بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في

-------------------

بقوله ( إمّا الأخذُ بالسندين ) والتأويل في الظاهرين ، أوفي ظاهر واحد منهما بحيث يرتفع التنافي بينهما ( وإمّا الأخذُ بظاهرٍ وسندٍ من أحدهما ) وترك الظاهر والسند من الآخر .

وعليه : ( فالسندُ الواحد ، منهما ) أي : من المتعارضين معيّناً أومخيّراً ( متيقّن الأَخذ به ) عند الجميع ، سواء على تقدير الجمع أوعلى تقدير الطرح ( و ) قد تقدّم : أنّ ( طرح أحد الظاهرين ، وهو : ظاهر الآخر غير المتيقّن الآخذ بسنده ) أيضاً متيقّن عند الجميع ، و ( ليس مخالفاً للأصل ) وذلك ( لأنّ المخالف للأصل : ارتكاب التأويل ) بإسقاط الظهور ( في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ) فإذا لم يكن تعبّد بالصدور لم يكن الظاهر حجّة ، والمفروض هنا : أنّ الآخر لم يتعبّد بصدوره فلم يكن ظاهره حجّة ، فترك التعبّد بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، وهو : ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ، لا يكون مخالفاً للأصل .

وإن شئت قلت : أنّ سند الواحد منهما متيقّن الأخذ على التقديرين ؛ الجمع والطرح ، لانّه لايمكننا طرح السندين ، كما أنّ ظاهر الواحد منهما متيقن الطرح على التقديرين : الجمع والطرح أيضاً ، لأنّه لايمكننا العمل بالظاهرين ( فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في ) أحدهما

ص: 297

غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكماً على الآخر ، لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان .

ومنه يظهر فسادُ قياس ذلك بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لاسند النصّ .

توضيحه :

-------------------

وهو ( غير المتيقّن التعبّد ) وبذلك نكون قد طرحنا أحدهما ( وإمّا ) الجمع بينهما و( مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، و ) بذلك نكون قد جمعنا بينهما ، ومن المعلوم : أنّ ( أحدهما ) أي : أحد الأصلين من : أصالة اعتبار الظاهر ، أوأصالة اعتبار السند ( ليس حاكماً على الآخر ) حتى يقدّم أحدهما على الآخر .

وإنّما لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر ( لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ) وهو العلم الاجمالي بعدم إعمال أحد الأصلين ( فيتعارضان ) أي : يتعارض الأصلان : أصل التعبّد بالسندين ، مع أصل التعبّد بالظاهرين ، وذلك لحكم العقل هنا بعدم إمكان التعبّد بهما معاً ، ومعه فلا أولوية لأحد الأصلين على الآخر لتساويهما في الرتبة .

( ومنه ) أي : ممّا تقدّم من أن مظنوني السند ليسا كمقطوعي السند ( يظهر فساد ) ما تقدّم في الوجه السادس من الاستدلال للجمع بتقديم النص على الظاهر ، فكما أنّه في مورد تعارض النص والظاهر نرفع اليد عن ظهور الظاهر لاعن سند النص ، فكذلك في المقام ، فإنّ المستدل جعل ( قياس ذلك ) أي : التعارض بين النصين ( بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب ) التعارض فيهما ( الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النص ) .

أمّا ( توضيحه ) أي : توضيح الفساد فهو أنّ قوله :« أكرم العلماء » الظاهر

ص: 298

إنّ سند الظاهر لايزاحم دلالته بديهية وسند النصّ ولا دلالته ، وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده .

وهما حاكمان على ظهوره ، لأنّ من آثار التعبّد به رفعَ اليد عن ذلك الظهور ، لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ .

-------------------

في أكرم زيد العالم ، وقوله : « لا تكرم زيداً » النص في عدم إكرام زيد ، يحدث التعارض بين ظاهر « اكرم العلماء » ونص « لا تكرم زيداً » ومن الواضح : ( انّ سند الظاهر ) في العام ( لا يزاحم دلالته بديهية ) لوضوح أنّ سند « أكرم العلماء » ودلالة « اكرم العلماء » لا يزاحم أحدهما الآخر ( و ) كذلك سند : الظاهر لايزاحم ( سند النص ولا دلالته ) أي : دلالة النص ، فإنّ سند : « أكرم العلماء » لايزاحم سند « لا تكرم زيداً » ولا نص « لا تكرم زيداً » .

إذن : فلا مزاحم من هذه الجهة ( وإمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده ) أي : يزاحمان ظاهر الظاهر في العام الذي هو « أكرم العلماء » لا سند « أكرم العلماء » فإنّ صدور « لا تكرم زيداً » ودلالة « لا تكرم زيداً » على حرمة إكرام زيد ، يمنعان عن ظهور « أكرم العلماء » في الجميع حتى يشمل زيداً أيضاً ، لكنهما لايمنعان عن صدور : « أكرم العلماء » ( وهما ) أي : سند النص ودلالته ( حاكمان على ظهوره ) أي : ظهور الظاهر في العام ( لأنّ من آثار التعبّد به ) أي : بالنص هو : ( رفع اليد عن ذلك الظهور ) الظاهر من العام : « أكرم العلماء » ( لأنّ الشكّ فيه ) أي : في ظاهر « أكرم العلماء » ( مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ ) وحيث ثبت التعبّد بالنص ، فلا يبقى شك في أن ظهور « أكرم العلماء » لا يراد به ظاهره .

ص: 299

وأضعف ممّا ذكر توهّمُ قياس ذلك بما إذا كان خبرٌ بلا معارض لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله .

-------------------

وإن شئت قلت : أنّ النص لكونه قطعي الدلالة يكون قرينة على صرف ظاهر « أكرم العلماء » عن العموم ، فيكون اللازم : إكرام العلماء الاّ زيداً ، وإنّما لايُكرم زيد ، لمقام النصّ في « لا تكرم زيداً » .

( وأضعفُ ممّا ذكر ) في الوجه السّادس ( توهّم ) وجه آخر هو سابع الوجوه ، وآخر ما استدل به للجمع ، وهو : تقديم الاجماع على الظاهر ، فإنّه إذا كان ظاهر خبر مخالفاً للاجماع ، تركنا ظاهر الخبر لا سنده ، فكذلك ما نحن فيه ، فجعل المستدِّل ( قياس ذلك ) الذي نحن فيه من تعارض النصين ( بما إذا كان خبرٌ بلا معارض ) من خبر آخر ، بل معارض بإجماع مخالف لظاهر الخبر كما قال : ( لكن ظاهره ) أي : ظاهر ذلك الخبر ( مخالف للاجماع ) كما إذا دلّ الاجماع على وجوب صلاة الجمعة والخبر على عدم وجوبها ( فإنّه ) حيث أنّ الاجماع قطعي ( يحكم بمقتضى اعتبار سنده ) أي : سند الخبر ( بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله ) أي : من مدلول الخبر ، فنتصرّف في ظاهر الخبر لأجل الاجماع ، وذلك لأنّ الاجماع مقطوع به ، فلا يمكن التصرّف فيه ، كما لايمكن التصرّف في سند الخبر ، لأنه معتبر .

وأمّا وجه فساد هذا القياس فهو : أنّ سند الظاهر لايزاحم دلالة الظاهر كما لايزاحم الاجماع أيضاً ، وذلك لأنّ الاجماع دليل قطعي ، فيكون الاجماع قرينة لأرادة خلاف الظاهر من الخبر ، لا لطرح سند الخبر ، لأنّ الاجماع لايزاحم سند الخبر ، وإنّما يزاحم ظاهره بينما فيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بظاهر أحد

ص: 300

لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ، إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبقَ مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين

-------------------

المتعارضين المتفق عليه ، مزاحماً بوجوب التعبّد بسند الآخر من دون أولوية بينهما ، لأنهما كما عرفت سابقاً يكونان في مرتبة واحدة ، ولا حكومة لأحدهما على الآخر .

وإنّما قال المصنّف بأنّ هذا الوجه أضعف من سابقه ، لأنّ هناك في تعارض النص والظاهر ، يدور الأمر بين طرح الظهور وطرح السند ، منتهى الأمر كون الثاني حاكماً على الأوّل ، بينما هنا في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ، لامعنى لدوران الأمر بين طرح الظهور وطرح السند ، لأنّ سند الاجماع قطعي ، وسند الخبر لو طرح لا يعقل التعبّد بظاهره ، فإنّ الشارع والعقلاء إنّما يتعبّدون بظاهر ما ثبت حجية سنده ، فاذا طرح السند لم يبق تعبّد بالظاهر .

هذا وجه كونه أضعف من سابقه ، وأما وجه بطلان قياسه بما نحن فيه من تعارض الخبرين فهو : أن هنا في تعارض الخبرين يدور الأمر بين طرح السند والعمل بالظاهر ، أوطرح الظاهر والعمل بالسند ، بينما هناك في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ليس كذلك ، ولذا قال المصنّف :( لكن لا دوران هناك ) في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ( بين طرح السند ) أي : طرح سند الخبر ( والعمل بالظاهر ) أي : بظاهر الخبر ( وبين العكس ) أي : طرح الظاهر والعمل بالسند ، بل الأمر منحصر هناك بطرح ظاهر الخبر فقط ( إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ) فإنّ مالا سند له ، لايعمل بظاهره ( بخلاف ما نحن فيه ) هنا من الخبرين المتعارضين ( فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين )

ص: 301

أمكننا العملُ بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك .

بل الظاهر هو الطرح ، لأنّ المرجّحَ والمحكّم في الامكان الذي قيّد به وجوبُ العمل بالخبرين هو العرفُ .

ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ، ولاتكرم العلماء .

-------------------

وهو الآخر الذي لم نتعبّد بصدوره ( أمكننا العملُ بظاهر الآخر ) أي : الأوّل الذي تعبّدنا بصدوره ( ولا مرجّح لعكس ذلك ) أي : لطرح الظاهر والعمل بسند الآخر ، كما يدّعيه القائل بالجمع ، وهذا هو نفس ما ذكره المصنّف سابقاً من أنّه لا أولوية في الخبرين المتعارضين للجمع على الطرح .

ثم لا يخفى : أنّ المصنّف قال قبل صفحة تقريباً ما لفظه : « ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الاجماع والنص » وقد أجاب إلى هنا عن الوجوه السبعة التي استدّل بها للجمع بين الخبرين ، وحيث انتهى من الجواب على الوجوه السبعة شرع في بيان الدليل على وجوب الطرح بقوله :( بل الظاهر هو الطرح ) لا الجمع ، وذلك لوجوه تالية :

الوجه الأوّل : لوجوب الطرح هو قوله ( لأنّ المرجّح والمحكَّم في الامكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين ) حيث قالوا : العمل بالخبرين والجمع بينهما مهما أمكن أولى من الطرح ( هو العرف ) لا العقل ، فإنّ الامكان هنا يراد به الامكان العرفي عند أهل اللسان ، لا الامكان العقلي الدّقي عند أهل الحكمة ( ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ) فيكف يمكن الجمع بينهما ؟ علماً بأنّ قوله - مثلاً - : أكرم

ص: 302

نعم ، لو فرض علمُهُم بصدور كليهما حملوا أمر الآمِر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ، ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة

-------------------

العلماء ولا تكرم العلماء ، يكون من قبيل « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و « لاَ بأسَ بِبيعِ العَذَرَةِ » (2) .

( نعم ، لو فرض علمهُمُ بصدور كليهما ) كما اذا سُمع كلاهما عن المعصوم عليه السلام ، أودلّ عليها خبران متواتران ( حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ) والمراد بقوله « ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه » يعني : ما يعمّ العمل بخلاف الظاهر ، فإمّا يُأوّلون كليهما أويأوّلون أحدهما لأجل الآخر فإذا ورد - مثلاً - زيارة الحسين عليه السلام واجبة ، وورد أيضاً زيارة الحسين عليه السلام ليست واجبة ، أوّل العرُف أحدهما ، وهو قوله « زيارة الحسين عليه السلام واجبة » الى تأكد الاستحباب ، وإذا ورد - مثلاً - « الكُرّ ألف ومائتا رطل » وورد أيضاً « الكُرّ ستمائة رطل » أوّل العرُف كليهما بحمل « الألف ومائتا رطل » على العراقي ، و« الستمائة رطل » على المدني ، وهذا مثال للتأويل في كليهما من باب التقريب .

الوجه الثاني لوجوب الطرح هو قوله : ( ولأجل ما ذكرنا ) من عدم إمكان العمل بالخبرين حيث كانا متنافيين بحسب العرف وأهل اللسان ( وقع من جماعة

ص: 303


1- - الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

من أجلاّء الرواة السؤالُ عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ واحد : من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العملُ به مهما أمكن ، فلو لم يفهموا عدمَ الامكان في المتعارضين ، لم يبق وجهٌ للتحيّر الموجب للسؤال مع أنّه لم يقع الجوابُ في شيء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معاً ،

-------------------

من أجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ) حيث سألوا المعصومين عليهم السلام عن العلاج في ذلك ( مع ما هو مركوز في ذهن كلّ واحد : من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العملُ بِه مهما أمكن ) ممّا يكون سؤالهم دليلاً على ما ذكره المصنّف بقوله : ( فلو لم يفهموا عدم الامكان في المتعارضين ، لم يبق وجهٌ للتحيّر الموجب للسؤال ) عن المعصومين عليهم السلام .

والحاصل : أنّ وجوب العمل بالدليل الشرعي مهما أمكن إمكاناً عرفياً من أوّليان العقلاء ومرتكزاتهم ، ومع ذلك نرى أنّ أصحاب المعصومين عليهم السلام قد تحيّروا في المتعارضين ولم يعرفوا كيف يعملون بهما ، ولذا سألوهم عليهم السلام عن علاجهما ، ممّا يكشف ذلك عن أنّ المتعارضين خارجان عن دائرة إمكان العمل بهما إمكاناً عرفياً ، الذي هو المعيار في المقام ، لا إمكاناً عقلياً الذي لاربط له بمباحث الألفاظ .

الوجه الثالث لوجوب الطرح هو قوله : ( مع أنّه لم يقع الجواب في شئمن تلك الأخبار العلاجيّة ) التي ذكرها الإمام عليه السلام ( بوجوب الجمع بتأويلهما معاً ) أوتأويل أحدهما بسبب الآخر .

إن قلت : لعل سؤال الأجلاء من الرواة كان في مورد لا يتيّسر معه تأويل ظاهر الخبرين المتعارضين ، ولذلك كان الجواب مطابقاً له .

ص: 304

وحملُ مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيداً ، تقييدٌ بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة .

وهذا دليلٌ آخَرُ على عدم كلّية هذه القاعدة ، هذا كلّه مضافاً إلى مخالفتها للإجماع ، فإنّ علماء الاسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا

-------------------

قلت : ( وحملُ مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيداً ، تقييدٌ بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة ) وذلك لأنّ ما وقع في الأخبار المتعارضة إنّما كان قابلاً للتأويل ولو بتأويل بعيد ، وإطلاق السؤال ينصرف إليه .

وعليه : فلا يقال : أن المعصوم عليه السلام إنّما لم يتعرّض في الجواب عن وجوب التأويل في الخبرين أوفي أحد الخبرين ، لأنّ كلام السائلين كان فيما إذا تعارض الخبران ولم يمكن تأويلهما .

لأنه يقال : حمل ما سأله الرواة عن المعصوم عليه السلام على هذا المورد من التعارض ، حملٌ على فردٍ نادرٍ جداً ، وهو خلاف ظاهر كلام السائلين .

( و) عليه : فانّ ( هذا ) الذي ذكره المصنّف آنفاً من الوجه الثالث لوجوب الطرح وعدم الجمع هو ( دليلٌ آخر على عدم كليّة هذه القاعدة ) أي : قاعدة : « الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » فلا تشمل الامكان العرفي والعقلي معاً بل لابدّ من تقييد إطلاقها وتأويل ظهور الامكان فيها الى الامكان العرفي كما في الجمع بالنص والظاهر ، أوالظاهر والأظهر .

الوجه الرابع لوجوب الطرح هو قوله :(هذا كلّه مضافاً الى مخالفتها) أي:مخالفة كليّة هذه القاعدة (للإجماع ، فإنّ علماء الاسلام من زمن الصحابة الى يومنا هذا) من غير فرق بين العامة والخاصة ، كما يجده الانسان في كتبهم وكتبنا (لم يزالوا

ص: 305

يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثمّ اختيار أحدهما وطرح الآخر ، من دون تأويلهما معاً ، لأجل الجمع .

وأمّا ما تقدّم من غوالي اللئالي ، فليس نصّاً بل ولا ظاهراً في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيح والتخيير ، فإنّ الظاهر من الامكان في قوله : « فإن أمكنك التوفيق بينهما » هو الامكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة ، غيرُ ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف

-------------------

يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثمّ ) أنّه بعد الحصول على القرائن المرجّحة يتم منهم ( إختيار أحدهما وطرح الآخر ، من دون تأويلهما معاً ، لأجل الجمع ) فلا يأوّلون ظاهريّ الخبرين ، وإنّما يقدِّمون خبراً على خبر .

إن قلت : لقد ادّعى - على ما سبق - الشيخ الاحسائي الاجماع على الجمع لا على الطرح .

قلت : ( وأمّا ما تقدّم من غوالي اللئالي ، فليس نصّاً بل ولا ظاهراً في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو ) الكلّي الشامل للإمكان العرضي والعقلي معاً ( على الترجيح ) إن كان مرجّح ( والتخيير ) إن لم يكن مرجّح ( فإنّ الظاهر من الامكان ) ظهوراً عرفياً ( في قوله : « فإن أمكنك التوفيق بينهما » ، هو : الامكان العرفي ) لا العقلي ، فيكون ( في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ) علماً بأنّ أهل اللسان يرون في مكان امتناعاً وفي مكان إمكانا ، وإذا كان كذلك ( فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة ، غير ممكن عند أهل اللسان ) من أي لغة كانوا ( بخلاف ) حمل الظاهر على الأظهر ، أوالظاهر على النص مثل :

ص: 306

حمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد .

ويؤيده قوله أخيراً : « فإذا لم يتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجههُ فارجع إلى العمل بهذا الحديث » فإنّ مورد عدم التمكّن نادر جداً .

وبالجملة : فلا يظنّ بصاحب الغوالي ولا بمن هو دونه ، أن يقتصر في الترجيح على موارد لايمكن تأويل كليهما ، فضلاً عن دعواه الاجماعَ

-------------------

( حمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد ) ومثل : حمل المجمل على المبيّن ، والى غير ذلك .

( ويؤيّده ) أي : يؤيّد ما ادّعياناه من أن مراد الغوالي من الامكان هو : الامكان العرفي لا العقلي ( قوله أخيراً : فاذا لم يتمكّن من ذلك ) أي : من الجمع ( ولم يظهر لك وجهه ) أي : وجه الجمع بين الخبرين ( فارجع الى العمل بهذا الحديث ) أي : إلى العمل بمقبولة عمر بن حنظلة التي هي من جملة الروايات العلاجية .

وإنّما يكون قوله الأخير مؤيداً لإرادة الامكان العرفي ، لأنّه كما قال المصنّف ( فإنّ مورد عدم التمكّن ) من الجمع عقلاً غير موجود اطلاقاً ، لأنّ الانسان يتمكّن من الجمع التبّرعي بين حديثين حتى ولو كانا من المتناقضين ، أوعلى الاقلّ ( نادر جداً ) بحيث لا يُعتنى به إطلاقاً . فلا يكون الكلام حوله لانصرافه عنه ، وبذلك لايمكننا أن نحمل قوله : « فاذا لم يتمكن من ذلك ، ولم يظهر لك وجهة ... » على هذا المعنى ، المحال عقلائياً ، أوالنادر جداً .

( وبالجملة : فلا يُظنّ بصاحب الغوالي ) العالم الكبير (ولا بمن هو دونه ، أن يقتصر في الترجيح على موارد لايمكن تأويل كليهما ) ولو تأويلاً بعيداً ، حيث قد عرفت أنّ هكذا مورد غير موجود رأساً ، أونادر جداً ( فضلاً عن دعواه الاجماع

ص: 307

على ذلك .

والتحقيقُ الذي عليه أهله : إنّ الجمعَ بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما ، على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما يكون متوقّفاً على تأويلهما معاً .

والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن .

والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لا بعينه .

-------------------

على ذلك ) وحينئذ لابدّ أن يكون مراد الغوالي من إدعائه الاجماع على وجوب « الجمع مهما أمكن » ، هو : وجوب الجمع في مورد إمكانه العرفي ، وأما في غير المورد العرفي فإنه يُرجع إلى المقبولة .

هذا ( والتحقيق الذي عليه أهله ) أي : أهل التحقيق من الفقهاء المحققين ، والاُصوليين المدققين هو : ( إنّ الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما ، على أقسام ثلاثة ) الأوّل منهما جمع تبرّعي مردود ، والآخران منهما جمع عرفي مقبول ، وذلك على ما يلي :

( أحدها : ما يكون متوقّفاً على تأويلهما معاً ) كالمتباينين والمتضادين ، وذلك كما إذا قال : أكرم زيداً ولا تكرم زيداً ، أوقال : بيّض هذا الحائط وسوّده ، وإلى غير ذلك .

( والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن ) كما في العموم والخصوص المطلق ، أو المطلق والمقيّد ، أو المجمل والمبيّن .

( والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لابعينه ) كما في العموم من وجه حيث يمكن أن نعطي مورد الاجتماع لهذا الطرف ، أونعطيه لذلك الطرف ، فإذا قال - مثلاً - أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فاالعالم الفاسق يمكن أن يعطى لأكرم

ص: 308

وأمّا الأوّل : فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والاجماع .

وأمّا الثاني : فهو تعارض النصّ والظاهر الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة .

وأمّا الثالث : فمن أمثلته العامّ والخاص من وجه ، حيث يحصل الجمعُ بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره .

ومثل قوله : « اغتسل يوم الجمعة » بناءا على أنّ ظاهر الصيغة الوجوبُ .

-------------------

العلماء فيجب إكرامه ، وأن يُعطى للا تكرم الفساق فيحرم إكرامه .

( وأمّا الأوّل : فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والاجماع ) حيث قد ذكرنا بطلان الوجوه السّبعة التي استدل بها للجمع بين الخبرين المتعارضين ، وذكرنا وجوهاً أربعة لوجوب طرح أحدهما وردّ علمه الى أهله ، وهذا هو : الجمع التبرّعي المردود .

( وأمّا الثاني : فهو تعارض النصّ ، والظاهر ) أوالظاهر والأظهر ( الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة ) وإنّما يكون تعارضاً في بادئالنظر ، وهذا مع الثالث الآتي هو : الجمع العرفي المقبول .

( وأمّا الثالث ) : وهو ما يتوقف على التأويل في أحدهما لابعينه ( فمن أمثلته : العامّ والخاصّ من وجه ) وذلك كما في مثال : أكرم العلماء ولاتكرم الفساق (حيث) أنهما يتعارضان في مادة الاجتماع وهو : العالم الفاسق وفي مثله ( يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره ) وذلك على ماعرفت آنفاً .

( و ) من أمثلته أيضاً : المتعارضان بالتباين ، وذلك ( مثل قوله : « اغتسل يوم الجمعة » بناءاً على أنّ ظاهر الصيغة الوجوب ) .

ص: 309

وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناءا على ظهور هذه المادّة في الاستحباب فإنّ الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما .

وحينئذٍ : فإن كان لأحد الظاهرين مزيّةٌ وقوةٌ على الآخر ، بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو : رأيت أسداً يرمي ، أو اتّصلا في كلامين لمتكلّم واحد

-------------------

( وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناءاً على ظهور هذه المادّة ) أي : مادّة ينبغي ( في الاستحباب ) وإن كان كل واحد من لفظي ينبغي ولا ينبغي يستعملان حتى في المحال أيضاً ، مثل قوله سبحانه : « وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً » (1) ، وفي خلاف المصلحة مثل قوله تعالى : « وما علّمناه الشعر وما ينبغي له » (2) .

وكيف كان : ( فإنّ الجمع ) في مثال المتعارضين بالتباين ( يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما ) إمّا عن ظاهر « اغتسل » الظاهر في الوجوب ، وإمّا عن ظاهر « ينبغي » الظاهر في الاستحباب ( وحينئذٍ ) أي : حين كان اللازم رفع اليد عن أحد الظاهرين ( فان كان لأحد الظاهرين مزيّةٌ وقوةٌ ) في دلالته ( على الآخر ، بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ) قدّم الأقوى ( نحو : رأيت أسداً يرمي ) فإنّ يرمي أقوى دلالة في رمي الانسان السهم إذا اجتمع مع الأسد ، من دلالة الأسد على الحيوان المفترس ، فيكون يرمي قرينة على رفع اليد عن ظاهر الأسد ، فنرفع اليد لظاهر يرمي عن ظاهر الأسد ونقول : بأنّ المراد من الأسد هو : الرجل الشجاع .

( أواتّصلا ) أي : اتصل الظاهران المتباينان ( في كلامين لمتكلّم واحد ) وذلك كما إذا قال : رأيت أسد ثم قال : وكان يرمي ، حيث أنّ الصدر والذيل كلامان متباينان لكن أحدهما وهو يرمي أقوى دلالة ، فيكون قرينة على الاخر ،

ص: 310


1- - سورة مريم : الآية 92 .
2- - سورة يس : الآية : 69 .

تعيّن العملُ بالأظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه ، كان حكمُ هذا حكمَ القسم الثاني في أنّه إذا تعبّد بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس .

نعم ، الفرق بينه وبين القسم الثاني : إنّ التعبّد بصدور النصّ لايمكن إلاّ بكونه صارفاً

-------------------

وكالمتكلّم الواحد : المتكلّمان إذا كانا يتكلمان بأمر واحد ، وذلك كالائمة المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجمعين » ، حيث أن كلامهم جميعاً كلام شخصي واحد عن جدّهم عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى .

وعليه : فإن كان أحد الظاهرين المتنافيين أقوى دلالة من الآخر ( تعيّن العمل بالأظهر وصرف الظاهر الى مالا يخالفه ) أي : مالا يخالف الأظهر ، وإذا كان المتعيّن ذلك ( كان حكم هذا ) أي : القسم الثالث ( حكم القسم الثاني ) أي : حكم تعارض النص والظاهر ، فكما كنّا هناك نتصرّف في الظاهر بسبب النص ، فكذلك هنا نتصرّف في الظاهر بسبب الأظهر .

والحاصل : أنّه يكون حال القسم الثالث الذي نحن فيه حال القسم الثاني ( في أنّه إذا تعبّد بصدور الأظهر ) كما هو المفروض ، حيث أنّ الشارع جعل السند حجة ( يصير ) الأظهر ( قرينة صارفة للظاهر ) فنحمل الظاهر على معنى الأظهر ( من دون عكس ) أي : فلا يكون الظاهر قرينة على التصرّف في الأظهر ، وذلك لأنّ الأظهر قرينة بحكم أهل اللسان لرفع اليد عن الظاهر ، لا أنّ الظاهر قرينة لرفع اليد عن الأظهر .

( نعم ، الفرق بينه ) أي : بين القسم الثالث وهو الظاهر والأظهر ( وبين القسم الثاني ) وهو النص والظاهر هو ( أنّ التعبّد بصدور النصّ لايمكن إلاّ بكونه صارفاً

ص: 311

عن الظاهر ، ولامعنى له غير ذلك ، ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه بين طرح دلالة الظاهر ، وطرح سند النصّ ، وفي ما نحن فيه يمكن التعبّدُ بصدور الأظهر ، وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ، لأنّ كلاًّ من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة .

إلاّ أنّ العرف يرجّحون أحدَ الظهورين على الآخر ، فالتعارضُ موجودٌ والترجيحُ بالعرف

-------------------

عن الظاهر ، ولا معنى له غير ذلك ) ومعه لايمكن أن يتصرّف في النص بسبب الظاهر ( ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه ) أي : في القسم الثاني ( بين طرح دلالة الظاهر ، وطرح سند النصّ ) لانا إذا أخذنا بالظاهر لايبقى مجال للنص ، وحيث لامجال للنص ، فلا معنى للتعبّد بسند النص .

هذا ( و) لكن ليس الأمر كذلك ( فيما نحن فيه ) أي : في القسم الثالث وهو تعارض الظاهر والأظهر ، اذ فيه ( يمكن التعبّد بصدور الأظهر ، وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ) إلى معنى الظاهر ( لأنّ كلاً من الظهورين ) : الظاهر والأظهر ( مستند إلى أصالة الحقيقة ) وهو أصالة الظهور ، فيمكن أن يكون كل منهما دليلاً للتصرّف في الآخر ، وان كان الأظهر عند أهل اللسان هو الذي يكون قرينة للتصرّف في الظاهر ، لا أنّ الظاهر يكون قرينة للتصرّف في الأظهر ، وذلك كما قال : ( إلاّ أنّ العرف يرجّحون أحد الظهورين على الآخر ) فيصير الظاهر والأظهر بحكم الظاهر والنص .

وعليه : ( فالتعارض ) بين الأظهر والظاهر ( موجودٌ ، و) ذلك بالنظر البدوي ، فإنّ في بادئالنظر يُتصور التعارض بينهما بملاحظة أنّ كلاً منهما يصلح صارفاً للآخر ، غير أن ( الترجيح ) للأظهر على الظاهر يكون ( بالعرف ) الذين هم أهل

ص: 312

بخلاف النصّ والظاهر ، أمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّةٌ على الآخر ، فالظاهرُ أنّ الدليل المتقدّم في الجمع ، وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ، غيرُ جارٍ هنا .

إذ لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما ،

-------------------

اللسان ، فيرتفع التعارض البدوي بينهما ( بخلاف النصّ والظاهر ) فإنّه ليس كذلك ، وذلك لأنّ الظاهر لايمكن أن يكون قرينة للتصرّف في النص ، لانّ النص قرينة عقلاً - وليس كالأظهر قرينة عرفاً - للتصرّف في الظاهر ، فيلزم فيه التصرّف في الظاهر بسبب النص .

هذا إذا كان لاحد الظاهرين مزية على الآخر و ( إمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّةٌ على الآخر ) وذلك كما تقدّم من مثال العموم من وجه : « أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » فإنّه في مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، لم يكن مزية للعالم على الفاسق ، ولا للفاسق على العالم ، حتى يقدّم هذا على ذلك ، أوذاك على هذا ، وكذا ما تقدّم من مثال المتباينين : « اغتسل الجمعة » الظاهر في الوجوب ، و« ينبغي غسل الجمعة » الظاهر في الاستحباب ، فإنّه لم يكن مزية للوجوب على الاستحباب ، ولا للاستحباب على الوجوب ، حتى يقدّم هذا على ذاك ، أوذاك على هذا ( فالظاهر ) عند أهل اللسان هنا ( أنّ الدليل المتقدّم في الجمع ) الآنف بالنسبة الى ما كان لأحد الظاهرين مزية على الآخر كالنص والظاهر ( وهو ) أي : ذلك الدليل ( ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ، غيرُ جارٍ هنا ) حتى نقول : أنّهما صادران ، فنرفع اليد عن ظهورهما .

وإنّما لم يجر الدليل المتقدّم في الجمع هنا ( إذ لو جمع بينهما ) أي : بين الظاهرين ( وحكم باعتبار سندهما ) والتعبّد بصدورهما بالتصرّف في ظهورهما

ص: 313

بأنّ أحدَهما لابعينه مؤوّلٌ لم يترتّب على ذلك أزيدُ من الأخذ بظاهر أحدهما .

إمّا من باب عروض الاجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كلّ منهما لأجل التعارض ، فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما .

-------------------

( بأنّ أحدهما لابعينه مؤوّل ) فأنّه حينئذ ( لم يترتّب على ذلك أزيد من الأخذ بظاهر أحدهما ) وطرح ظاهر الآخر ، لفرض أن الظاهرين لايجتمعان مع أن الأخذ بظاهر أحدهما وطرح ظاهر الآخر هنا ، حيث لامزيّة لأخذ الظاهرين على الآخر ، يحتاج الى دليل من الخارج ، فإن لم يكن هناك دليل على ترجيح هذا ، أوترجيح ذاك لزم أحد أمرين : إما طرح الظاهرين بالتعارض وإجمالهما ، وذلك بناءا على أنّ حجيّة الظواهر من باب الطريقيّة ، ومعه فلا يحكم في العالم الفاسق بوجوب الاكرام ولا بحرمة الاكرام ، بل يرجع إلى الأصل ، وأما طرح أحد الظاهرين والعمل بالآخر الموافق للأصل رأساً فيحكم باستحباب غسل الجمعة ، وذلك من باب التخيير بينهما بناءاً على السببية .

وعليه : فإنه سواء عُمل هنا بقاعدة الجمع ، ام الطرح ، فالنتيجة واحدة ، وهي : العمل بأحد الظاهرين فقط ، وذلك ( إمّا من باب عروض الاجمال لهما ) أي : للظاهرين ( بتساقط أصالتي الحقيقة ) أي : الظهور ( في كلّ منهما لأجل التعارض ) فانّه بناءاً على إعتبار الأمارات ، ومنها أصالة الظهور من باب الطريقيّة تتعارض أصالتي الظهور فيتساقطان ويحصل الاجمال ( فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما ) أي : لأحد الظاهرين ، فيكون الأصل في مثل : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » موافقاً لينبغي ، وذلك لأنّ الأصل هو البرائة من التكليف .

ص: 314

وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة على أضعف الوجهين ، في تعارض الأحوال إذا تكافأت .

-------------------

( وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة ) والظهور وذلك بناءاً ( على أضعف الوجهين ، في ) اعتبار الأمارات ، ومنها أصالة الظهور من باب السببية عند ( تعارض الأحوال إذا تكافأت ) فيكون الأصل في مثل :« أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » في مورد الاجتماع وهو « العالم الفاسق » التخيير عقلاً لدورانّه بين المحذورين : وجوب الاكرام وحرمته ، فإنّه حيث لم يمكن جمعهما يُتخيّر أحدهما .

ثم أنه قد ذكر في القوانين وغيره ، بحث تعارض الأحوال ، مثل تعارض للاشتراك والنقل والتخصيص والاضمار والمجاز وغير ذلك ، فإذا دار الأمر بين حالين من هذه الأحوال فهل يقدّم هذا أويقدّم ذاك ؟ ففي مثل قوله سبحانه : « واسأل القرية » (1) حيث أن القرية لا تُسأل فاللازم : إمّا الاضمار ، وإمّا المجاز ، فعلى الاضمار تكون الآية هكذا : واسأل أهل القرية ، وعلى المجاز تكون الآية قد ذكرت المحل وهي القرية ، مكان الحالّ وهي أهل القرية .

وعليه : فقول المصنِّف : « بناءاً على أضعف الوجهين » إنّما قصد بهما الوجهين في بحث تعارض الأحوال ، وهما : إعتبار الأمارات من باب السببية ، أومن باب الطريقية ، فأما بناءاً على كون الأمارات حجّة من باب السببية وهو أضعف الوجهين ، فاللازم اختيار أحد الظاهرين وأمّا بناءاً على أقوى الوجهين وهو كون الأمارات حجّة من باب الطريقة ، فأصالتي الظهور هنا يتعارضان ويتساقطان ويحصل الاجمال ، ومعه فاللازم الرجوع إلى الأصل العملي إن وافق أحدهما ،

ص: 315


1- - سورة يوسف : الآية 82 .

وعلى كلّ تقدير يجب طرحُ احدهما .

نعم ، تظهر الثمرة في إعمال المرجّحات السنديّة في هذا القسم ، إذ على إعمال قاعدة الجمع ، يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ،

-------------------

كما مثّلنا في :« اغتسل للجمعة » و« ينبغي غسل الجمعة » وإن خالفهما كما في مثال : « أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » حيث أن مورد الاجتماع وهو « العالم الفاسق » يدور الحكم فيه بين محذورين ، لأنّه إما واجب الاكرام وإمّا محرّم الاكرام ، ولا أصل يوافق أحدهما ، فيُخيّر بين هذا وذاك .

( وعلى كلّ تقدير ) أي : سواء كان الحكم مع التكافؤ هو : التساقط ، ثم الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، أوالتخيير بينهما إن خالفهما الأصل رأساً ، فانّه على التقديرين ( يجب طرح أحدهما ) وذلك على ما عرفت ، فتكون النتيجة في هذا القسم من المتعارضين ، الذي لا مزية لأحدهما على الآخر هو : أنه يستوي فيه الجمع والطرح من حيث العمل ، لأنّه على كل تقدير يعمل بأحدهما دون الآخر ، فلا ثمرة عملية بين القولين : القول بالتخيير بين الأصلين والقول بتساقطهما .

( نعم ، تظهر الثمرة ) بين القولين لافي العمل ، بل ( في إعمال المرجّحات السنديّة ) وغير السنديّة ( في هذا القسم ) الذي لامزيّة لأحد الظاهرين فيه على الآخر ، ومن أمثلته : العموم من وجه ، ومن أمثلته : « اغتسل » و« ينبغي » فإنّه بناءاً على القول بالجمع يتساقط الظهوران ثم يرجع إلى الاصل ، وعلى القول بالطرح يرجع أوّلاً الى المرجّحات ثم الأصل ، كما قال : ( إذ على إعمال قاعدة الجمع ، يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ) فإنه إذا كان الخبران مقطوعي الصدور ، أوتعبّدنا بصدورهما ، كنّا نقول فيهما بتساقط ظهورهما

ص: 316

بخلاف ما إذا ادرجناه ، فيما لايمكن الجمعُ ، فإنّه يرجع فيه حينئذٍ إلى المرجّحات .

وقد عرفت : أنّ هذا هو الأقوى ، وأنّه لا محصّل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ، ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما .

ويؤيّد ذلك ، بل يدلّ عليه : أنّ الظاهرَ من العرف

-------------------

بالتعارض وإجمالهما ، ثمّ الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان ، وإلاّ فالى التخيير بينهما ، فكذلك في هذا القسم .

( بخلاف ما إذا ) قلنا بإعمال قاعدة الطرح في هذا القسم ، وذلك بأن ( أدرجناه ، فيما لايمكن الجمع ، فإنّه يرجع فيه حينئذٍ إلى المرجّحات ) السنديّة والمتنيّة وغيرهما من سائر المرجّحات أوّلاً ، ثم على تقدير تكافؤ المرجّحات أوعدمها يُتخييّر بينهما .

هذا ( وقد عرفت : أنّ هذا ) الذي ذكرناه من الطرح وهو الادراج فيما لايمكن جمعه والرجوع الى المرجّحات ( هو الأقوى ، و ) ذلك لما قد سبق من ( أنّه لامحصّل ) للجمع أي : ( للعمل بهما على أن يكونا مجملين ، ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما ) إذ لايترتب على ذلك إلاّ مايترتب على الطرح من العمل بأحدهما ، فيكون التعبّد بالصدور لغواً ، لأنّ التعبّد بالصدور إنّما يصح فيما إذا كانت هناك فائدة تترتّب على هذا التعبّد ، فإذا لم تكن هناك فائدة تترتّب عليه لأنّ الدلالة مجملة ولايمكن العمل بها ، فأيّة فائدة في هذا التعبّد ؟ .

( ويؤيّد ذلك ) أي : الطرح والرجوع إلى المرجّحات الادراج ( بل يدلّ عليه : أنّ الظاهر من العرف ) الذين يتحيّرون في هذا القسم من المتعارضين الذي لامزيّة لأحد الظاهرين فيه ، ويعدّونه من قبيل ما لايمكن فيه الجمع ، وذلك لأنّه إذا قيل

ص: 317

دخولُ هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات .

لكن يوهنه : إنّ اللازمَ - حينئذٍ - بعد فقد المرجّحات ، التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ، مع أنّ الظاهرَ من سيرة العلماء - عدا ما سيجيء من الشيخ رحمه اللّه في النهاية والاستبصار - في مقام الاستنباط التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا من باب الترجيح بالأصل

-------------------

لهم : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » تحيّروا في « العالم الفاسق » ولم يعرفوا هل أنّه يجب إكرامه أويحرم إكرامه ؟ فالظاهر منهم ( دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ) فيكون هذا القسم عند العرف ممّا لايمكن الجمع فيه ، وقد استقرت سيرة العلماء على ملاحظة المرجّحات فيمثله.

هذا ، و ( لكن يوهنه ) أي : يوهن الطرح الرجوع إلى المرجّحات ( إنّ اللازم حينئذٍ ) أي : حين إدراج هذا القسم في قاعدة الطرح ، وذلك بإعمال المرجّحات إن كانت ، وإلاّ بأن تكافأت أوفقدت ، فاللازم ( بعد فقد المرجّحات ، التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر بإعمال المرجّحات أوّلاً ، ومع عدمها تأمر بالتخيير ، بينهما لم تكن سيرة العلماء بهذا الترتيب ، بل كما قال : ( مع أنّ الظاهر من سيرة العلماء - عدا ما سيجئمن الشيخ رحمه اللّه في النهاية والاستبصار - ) أنها كانت ( في مقام الاستنباط : التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) لا التخيير بينهما ، وهذا ممّا يوهن إدراج هذا القسم من المتعارضين فيما لايمكن الجمع بينهما ، وذلك لأنّ سيرتهم جرت عند انتفاء المرجّح على الرجوع إلى الأصل لا الى التخيير .

( إلاّ أن يقال : إنّ هذا ) الطرح والرجوع إلى الأصل ( من باب الترجيح بالأصل )

ص: 318

يعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما .

ومع مخالفتهما للأصل فاللازمُ التخييرُ على كلّ تقدير ، غاية الأمر أنّ التخيير شرعي إن قلنا بدخولهما في عموم الأخبار ، وعقليّ ان لم نقل .

وقد يُفَصَّل بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين

-------------------

لأحد الخبرين على الآخر ، فانّهم إنّما ( يعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما ) فليس الأصل مرجعاً ، وإنّما يكون مرجّحاً .

هذا فيما لو كان أحدهما موافقاً للأصل ( ومع مخالفتهما للأصل ) كما في مثل : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » حيث أنّ مورد الاجتماع مردد بين المحذورين : الوجوب والتحريم ، وكلاهما مخالف للأصل ، لأنّ الأصل هو البرائة ( فاللازم التخيير على كلّ تقدير ) سواء كان الأصل مرجّحاً لأحدهما على الآخر ، أم مرجعاً عند موافقة أحدهما له ، فكما لاتظهر ثمرة بين الجمع والطرح من حيث العمل ، فكذلك لاتظهر ثمرة بينهما فيما إذا فقد المرجّح .

( غاية الأمر : إنّ التخيير شرعي إن قلنا بدخولهما ) أي : دخول المتعارضين ( في عموم الأخبار ) العلاجية ، حيث أن الشارع أمر بالتخيير بقوله : « إذن فتخير » (1) ( وعقليّ ان لم نقل ) أي : لم نقل بدخول المتعارضين في الأخبار العلاجيّة ، بل من باب الدوران بين المحذورين ، حيث أن العقل يرى فيه التخيير بين الأخذ بهذا أوبذاك ، فيكون التخيير على هذا عقلياً ، لا شرعياً .

( وقد يُفصَّل ) في المسألة ( بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين ) المتعارضين

ص: 319


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

مورد سليم عن المعارض ، كالعامّين من وجه ، حيث إنّ مادّة الافتراق في كلّ منهما سليم عن المعارض ، وبين غيره ، كقوله : «إغتسل للجمعة» ، و «ينبغي غسل الجمعة» ، فرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ، لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ، فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع

-------------------

( مورد سليم عن المعارض ، كالعامّين من وجه ) مثل : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » ( حيث إنّ ) العالم العادل داخل في « أكرم العلماء » والفاسق غير العالم داخل في « لاتكرم الفساق » وحينئذٍ فإنّ ( مادّة الافتراق في كلّ منهما سليم عن المعارض ) إذ « العالم العادل » لايعارضه « لا تكرم الفساق » و « الفاسق الجاهل » لايعارضه « أكرم العلماء » وإنّما التعارض في مادة الاجتماع وهو « العالم الفاسق » ( وبين غيره ) أي : غير ما كان من قبيل العامّين من وجه ، وذلك بأن كانا متباينين - مثلاً - ( كقوله : « اغتسل للجمعة » ) حيث أنّ ظاهره الوجوب ( و « ينبغي غسل الجمعة » ) حيث أن ظاهره الاستحباب .

وعليه : فالمفصّل قد فصّل بين ما كان من قبيل العاميّن من وجه ، وبين ما كان من قبيل المتباينين ( فرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ) أي : في العامين من وجه الذي لكل منهما مورد سليم عن المعارض وهو : مادة الافتراق ، وذلك ( لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ) أي : في مادة الافتراق ، ومعه ( فيستبعد الطرح في مادةّ الاجتماع ) لأنّه يستلزم أن يكون الخبر الواحد يؤخذ به في بعض ، ولا يؤخذ به في بعض ، وذلك بأن يكون - مثلاً - « أكرم العلماء » محكوماً بالصدق في « العالم العادل » ، وبالكذب في « العالم الفاسق » ، و« لا تكرم الفساق » محكوماً بالصدق في « الفاسق الجاهل » ، وبالكذب في « الفاسق العالم » وحتى لايستلزم ذلك ، قال المفصّل : يُجمع بين العاميّن من وجه بالعمل بهما في موردي

ص: 320

بخلاف الثاني ، وسيجيء تتمّة الكلام إنشاء اللّه تعالى .

بقي في المقام : إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه اللّه فرّع في تمهيده « على قضيتة أولويّة الجمع ،

-------------------

الافتراق ، وفي مورد الاجتماع لو كان دليل لترجيح أحدهما على الآخر يؤخذ به ، وإن لم يكن دليل على ترجيح أحدهما على الآخر يُتخيير فيه أويرجع إلى الأصل .

( بخلاف الثاني ) الذي هو من قبيل المتباينين مثل : « اغتسل للجمعة » و« ينبغي غسل الجمعة » فإنّه حيث لامانع من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، فلا مانع فيه من الرجوع الى أخبار العلاج ( وسيجئتتمّة الكلام إنشاء اللّه تعالى ) .

هذا ، ولكن ربّما يقال : أنّ أخبار العلاج تشمل المتعارضين من قبيل المتباينين كلاً ، والعامين من وجه في مادة الاجتماع منهما ، ولا محذور ، إذ أيّ مانع من أن يتعبّدنا الشارع بالعلاج أولاً ، ثم التخيير ، أوالرجوع إلى الأصل في مادة الاجتماع ؟ ثم أن من الكلام في العامّين من وجه يظهر الكلام في العموم المطلق أيضاً ؛ وذلك فيما إذا طرح العام في مادة الاجتماع .

( بقي في المقام ) أي : في مقام البحث عن قاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » مورد آخر للجمع ، وهو ( إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه اللّه فرّع في تمهيده على قضية أولويّة الجمع ) من الطرح مورداً ثالثاً للجمع وهو الجمع العملي ، اضافة الى الموردين اللذين سبقا : من الجمع العرفي والجمع التبرعي : فإنّ الجمع على ما عرفت قد يكون دلالياً كالظاهر والأظهر والنص والظاهر وهو الجمع العرفي المقبول ، وقد يكون تبرعيّاً كالجمع بما يرفع التناقض أوالتضاد

ص: 321

الحكمَ بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما، أو لايد لأحدهما، وأقاما بيّنة »

-------------------

بين الخبرين وإن لم يكن له شاهد عليه ، وهو الجمع التبرعي المردود .

مثلاً : حمل العذرة في : « لابأس ببيع العَذَرَةِ » (1) على عذرة حلال اللحم ، وفي « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (2) على حرام اللحم من الجمع التبرعي ، وقد صنعه الشيخ كثيراً للردّ على من قال : إنّ في الأخبار تناقضاً ، فأراد الشيخ بذلك بيان أنّه لاتناقض في كلام الحكيم ، وإنّه إذا رأينا في كلامه تهافتاً ، فلا بدّ من حمله على بعض وجوه الجمع ، وعلى أن صورة التهافت حصلت لاختلاف الأسئلة ، أو إختلاف الأفهام ، أوإختلاف عُرف الرواة مثل : « الكُرّ ألف ومائتا رطل » لكون الراوي عراقياً ، و« ستمائة رطل » لكون الراوي حجازياً ، وإلى غير ذلك ممّا يرفع صورة التهافت من كلام الحكيم ، وذلك لأنّ مَثل كلام الحكيم مَثَل ما إذا رأينا ساعة نعرف أن الخبير صنعها ، لكن لم نعرف فائدة بعض أجهزتها ، فإنّه يجب أن نحملها على عدم فهمنا لا على عدم الفائدة في هذا الجهاز المجهول عندنا .

وكيف كان : فهذان نوعان من الجمع بين الخبرين المتعارضين : عرفياً مقبولاً ، وتبرعياً مردوداً ، وقد أضاف إليهما الشهيد الثاني ثالثاً : جمعاً عملياً بين البيّنتين المتعارضتين : مثل ( الحكمَ بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أولايد لأحدهما ، وأقاما بيّنة ) أولم يكن لأحدهما بيّنة ولكن حلفا ، أولم يحلف أحد منهما ، فإنّ الحكم بالتنصيف بينهما فيما إذا كانا متساويين من هذه الجهات وإلاّ بأن أقام أحدهما البينة فالدار له ، أوحلف أحدهما فالدار له أيضاً ، إمّا اذا لم يكن

ص: 322


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب4 ح22285 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

انتهى المحكي عنه .

ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ،

-------------------

لأحدٍ منهما بينة ولا حلف ، أو كان لكليهما بيّنة أوحلف فالدار تنصّف بينهما ، وقد جعله الشهيد من باب الجمع العملي بين البينتيّن المتعارضتين ( انتهى المحكي عنه ) أي : عن الشهيد الثاني رحمه اللّه .

ثم علّق عليه المصنّف بقوله : ( ولو خصّ المثال بالصورة الثانية ) أي : قوله : « لا يد لأحدهما » ( لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ) فإن المحقق القمي أورد على ما إذا كانت الدار في يدهما : بان الحكم بالتنصيف في صورة اليد إنّما هو من باب الترجيح لبينة الداخل أوبينة الخارج ، لامن باب أولوية الجمع على الطرح الذي ادّعاه الشهيد الثاني .

توضيح الايراد : أنه إذا ادعى اثنان داراً كانت في يد أحدهما ، وأقام كل منهما بيّنة - مثلاً - فإنّه ربّما يقال : بترجيح بيّنة الداخل ، وربّما يقال : بترجيح بيّنة الخارج ، فإنّ الذي حكم بترجيح بيّنته تكون كل الدار له ، وهذا هو المثال الثاني ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في المثال الأوّل وهو مالو فرض كون الدار في يدهما بأن كانا معاً في الدار ، فكلّ منهما بالنسبة إلى النصف داخل ، وبالنسبة إلى النصف الآخر خارج ، وهنا إمّا يرجّح بيّنة الداخل فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يده ، وإمّا يرجّح بيّنة الخارج فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يد الآخر وعلى التقديرين يكون التنصيف من أجل الترجيح ، لامن أجل الجمع بين البينتين ، وهذا الإيراد الخاص بالمثال الأوّل ، دون المثال الثاني ، فإنّ في المثال الثاني يمكن أن يكون حكمهم بالتنصيف لأجل الجمع بين البينتين ، لا لأجل

ص: 323

وإن كان ذلك - أيضاً - لايخلو عن مناقشة تظهر بالتأمّل .

وكيف كان : فالأولى التمثيلُ بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح ، وكيف كان ، فالكلامُ في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

-------------------

الداخل والخارج .

وهذا ( وإن كان ذلك ) أي : المثال الثاني ( - أيضاً - لايخلو عن مناقشة تظهر بالتأملّ ) فيه ، وذلك بتقريب : أن التنصيف فيما لايد لهما عليه لم يكن من أجل الجمع ، بل من أجل تساقط البينتين ، فيكون المرجع حينئذٍ التنصيف لقاعدة العدل ، أوللقرعة ، إذ هي لكل أمر مشكل ، لكنّا ذكرنا : أن قاعدة العدل مقدّمة على القرعة ، لأن قاعدة العدل ترفع الاشكال فلا يتحقق موضوع القرعة .

( وكيف كان : فالأولى التمثيل بها ) أي : بالصورة الثانية ( وبما أشبهها مثل : حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح ) فإذا قوّم الصحيح أحد المقوّمين - مثلاً - بعشرة ، والمعيب بثمانية ممّا يكون معناه : لزوم إرجاع البايع دينارين إلى المشتري الذي اشتراه بعشرة بزعم الصحة ، وقوّم الصحيح المقوّم الآخر بأثني عشر ، والمعيب بثمانية ، حيث اللازم ارجاعه أربعة ، فنجمع بين الاثنين والأربعة ، ونحكم بلزوم إرجاع البايع ثلاثة دنانير إلى المشتري ، والثلاثة هو نصف التقويمين .

( وكيف كان ) : سواء تمّ كلام الشهيد في أنّ الدليل على الجمع في الأحكام والموضوعات هو أمر واحد ، أولم يكن كذلك ، وإنّما الدليل في باب الأخبار هو الأخبار العلاجية ، وفي باب الموضوعات هي القاعدة العقلائية ( فالكلامُ في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

ص: 324

مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين لأنّ الدليل الواحد لايتبعّض في الصدق والكذب .

ومثلُ هذا غيرُ جارٍ في أدلّة الأحكام الشرعيّة .

والتحقيقُ : إنّ العملَ بالدليلين بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما غيرُ ممكن مطلقاً

-------------------

مدلولهما المستلزم ) هذه الكيفية من الجمع ( للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين ) لأنّه إذا أخذنا بنصف هذه البيّنة ، ونصف البيّنة الأخرى ، كان معنى ذلك : إنّا لم نأخذ بأيّ من البيّنتين ، بل خالفنا كل واحد منهما مخالفة قطعية .

وإنّما يستلزم هذا النحو من الجمع المخالفة القطعية للدليلين ( لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب ) وذلك بأن تكون البيّنة التي تقول : أن الدار ربما لزيد صادقةً في نصفها وكاذبةً في نصفها ، وكذلك البيّنة التي تقول : ان الدار لعمرو ، فانّ البيّنة ان كانت صادقة فهي صادقة في تمامها ، وإن كانت كاذبة فهي كاذبة في تمامها ، لكن مقتضى قاعدة العدل ما ورد في الروايات وبنى عليها العقلاء ، وليس معنى ذلك : إنّ البيّنة صادقة وكاذبة ، بل معنى ذلك أن التعارض بينهما يستلزم التنصيف .

( و ) لكن ( مثل هذا ) الجمع العملي بين البينتين ( غير جارٍ في أدلّة الأحكام الشرعيّة ) فلا يصحّ الأخذ بنصف هذا الدليل ونصف ذاك الدليل ، بل اللازم إعمال المرجّحات أوّلاً ، فاذا لم تكن مرجّحات فالتخيير ، أوالتساقط والرجوع إلى الأصل .

هذا ( والتحقيق ) أنّ دليل الجمع في الموضوعات ، غير دليل الجمع في الأحكام ، واللازم أن نبيّن ذلك أوّلاً ، فنقول ( إنّ العمل بالدليلين بمعنى : الحركة والسكون على طبق مدلولهما ) معاً ، وهو ( غير ممكن مطلقاً ) لافي أدلة

ص: 325

فلابدّ - على القول بعموم القضيّة المشهورة - من العمل على وجه يكون فيه جمعٌ بينهما من جهة ، وإن كان طرحاً من جهة اُخرى في مقابل طرح أحدهما رأساً ، والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما ، وإن كان فيه طرحٌ لهما

-------------------

الموضوعات ، ولافي أدلة الأحكام ، لأنّ المفروض : وجود التعارض بينهما ، فكيف يمكن أن يعمل - مثلاً - ببيّنة زيد كاملاً ، وببيّنة عمروكاملاً ، أويعمل - مثلاً - بقوله : « اغتسل للجمعة » وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » ؟ وإلى غير ذلك ممّا بينهما تباين أو عموم من وجه .

وعليه : ( فلا بدّ - على القول بعموم القضيّة المشهورة - من ) أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ( العمل على وجه يكون فيه جمعٌ بينهما من جهة ، وإن كان طرحاً من جهة أخرى ) لفرض انّنا نعمل بكل بيّنة من البيّنتين في نصف مدّعاها ، وذلك ( في مقابل طرح أحدهما رأساً ) أي : بأن نطرح بيّنة زيد - مثلاً - ونأخذ ببيّنة عمرو ، أو العكس .

إذن : فالجمع في أدلة الموضوعات إنّما كان بالتبعيض في العمل لا التصرّف في الدلالة ، بينما الجمع في أدلة الأحكام يكون بالتصرف في الدلالة لا التبعيض في العمل كما قال : ( والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما ) أي : بالدليلين ( من حيث الحكم بصدقهما ) معاً من حيث السند ، فنقول : أن سند كل من « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و« لا بأسَ ببيعِ العَذَرَةِ » (2) صادق ( وإن كان فيه طرحٌ لهما

ص: 326


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب4 ح22285 .

من حيث ظاهرهما ، وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يكن ذلك ، لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجهُ الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به .

فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

-------------------

من حيث ظاهرهما ) بالتصرّف في دلالتهما ، حيث أنّا لم نأخذ بظاهر الروايتين في كل مفادهما ، بل نحمل « لابأس ببيع العذرة » على عذرة حلال اللحم « وثمن العذرة سحت » على عذرة حرام اللحم - مثلاً - وهو أخذٌ ببعض مفاد الروايتين على ما عرفت .

هذا ( وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك ) أي : التصرّف الدلالي فيهما ( لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ) لوضوح : أنّ الشهود يشهدون بالصراحة : بأنّ الدار لزيد ، وأن الدار لعمرو ، فلا يأتي التأويل في كلماتهما .

وحينئذٍ : ( فهي ) أي : البيّنات ( بمنزلة النصّين المتعارضين ) حيث لايمكن الجمع الدلالي بينهما فيما لو كانا متباينين صريحاً ، وإذا كان كذلك ( انحصر وجه الجمع ) بين البيّنتين المتعارضتين ( في التبعيض فيهما من حيث التصديق ) وذلك ( بأن يُصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به ) ، ولا يصدّق في البعض الآخر .

وعليه : ( فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

ص: 327

بأنّ قيمة هذا الشئصحيحاً كذا ومعيباً كذا ، نصدّقه في أنّ قيمةَ كلّ نصف منه منضمّاً إلى نصفه الآخر نصفُ القيمة ، وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني : صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه السلام غير قابل للتبعيض .

-------------------

بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحاً كذا ومعيباً كذا ، نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه ) أي : من هذا الشيئ ( منضمّاً إلى نصفه الآخر نصف القيمة ) وذلك على ما عرفت في مثال تقويم الصحيح والمعيب بعشرة وثمانية ، واثني عشر وثمانية .

ثم أنه لايخفى : أنّ الكلام ليس خاصاً بالقولين كالبينتين والمقوّمين ، بل يأتي في الأقوال المتعدّدة أيضاً ، وذلك كما إذا قالت بينة : بان الدار لزيد ، وأخرى : بأنّها لعمرو ، وثالثة : بأنّها لبكر ، فإنّ الدار تثلّث بينهم ، وهكذا في باب التقويم ، فإنّه إذا قال مقوّم : بأنّ قيمة دار اليتيم التي يُراد بيعها ألف ، وقال مقوّم ثان : بأن قيمتها ألفان ، وقال مقوّم ثالث : بأنّ قيمتها ثلاثة آلاف ، ونحن نريد أن نشتريها أونبيعها ، فاللازم هو : الجَمع بين هذه الأقوال الثلاثة ، فيكون المجموع ستة ثم نقسّمه بعدد الأقوال وهي هنا ثلاثة ، فثلّثه ونشتري الدار أونبيعها بألفين ، وهكذا بالنسبة إلى الأقوال المتعدّدة في قيمة الصحيح والمعيب .

( و ) لكن ( هذا النحو ) من الجمع العملي في الموضوعات القابلة للتبعيض ( غير ممكن في الأخبار، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني: صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه السلام غير قابل للتبعيض ) فلا يمكن أن يؤخذ ببعض قوله دون بعض قوله الآخر، لأنّ الراوي إن كان صادقاً لزم الأخذ بكل قوله ، وإن كان كاذباً لزم ترك كل قوله .

ص: 328

بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب .

نعم ، قد يتصوّر التبعيضُ في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّاً ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعضَ العلماء ويهين بعضَهُم ، فيما إذا ورد : « أكرم العلماء» وورد أيضاً : «أهِن العلماء» سواء كانا نصّين بحيث لايمكن التجوّز في أحدهما ،

-------------------

( بل هو ) أي : مضمون خبر العادل ( نظير تعارض البيّنات في ) موضوع لا يمكن تبعيضه مثل : ( الزوجيّة ) إذا ادّعاها اثنان ، فإنّه لا يمكن تنصيف الزوجة نصفها لهذا ونصفها لذاك ( أو النسب ) كما إذا ادّعى الولد اثنان : زيد وعمرو، فلا يمكن أن يكون نصف الولد لزيد ونصفه لعمرو، وكذلك إذا نذر - مثلاً - أن يذبح شاة في مشهد معيّنٍ من المشاهد المشرّفة ، ثم نسى أنّ نذره كان لمشهد النجف الأشرف ، أولمشهد كربلاء المقدسة ، فإنّه لايمكن أن يذبح الشاة نصفها في النجف الاشرف ونصفها في كربلاء المقدسة ، والى غير ذلك ممّا لا يمكن التبعيض العملي فيهما إذا لوحظت حيثية الصدور .

( نعم ، قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّاً ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله ) أي : قوله العادل ( في بعضها ) أي : في بعض تلك الآثار ( وبقول الآخر في بعضها ) الآخر ( فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم ، فيما اذا ورد : « أكرم العلماء » وورد أيضاً : « أهن العلماء » ) إذ من الممكن أن يهين خمسة ويكرم خمسة .

وعليه : فإنّ التبعيض العملي في الدليلين المذكورين ممكن إذا لوحظت حيثيّة ترتّب الآثار ، بلا فرق بين كونها نصين أوظاهرين كما قال : ( سواء كانا ) أي : الدليلان ( نصّين بحيث لايمكن التجوّز في أحدهما ) كما إذا قال : إذا اكرمت

ص: 329

أو ظاهرين ، فيمكن الجمعُ بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض .

إلاّ أنّ المخالفة القطعيّة في الأحكام الشرعيّة ، لايرتكب في واقعة واحدة ،

-------------------

العلماء عاقبتك عقاباً شديداً ، وقال أيضاً : إذا أهنت العلماء عاقبتك عقاباً شديداً ( أوظاهرين ) كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم العلماء ، حيث أن الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في التحريم ، لا إنهما نصّان في الوجوب والتحريم ( فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز ) جمعاً دلالياً ( و ) ذلك بأن يحمل كل منهما على المجازية ، لا على الحقيقة حتى يتعارضان ، كما ويمكن الجمع بينهما ( على طريق التبعيض ) جمعاً عملياً أيضاً ، وذلك وعلى ما عرفت .

والحاصل : إنّ متعلّق خبر العادل وهو صدور القول الخاص عن الإمام عليه السلام لايقبل التبعيض من حيث الصدور ، فهو إمّا صادر أوليس بصادر ، وإمّا من حيث الأثر المترتِّب على تصديق خبره ، فربما يمكن فيه التبعيض ، وذلك بأن يكرم عالماً ويهين عالماً كما قد تقدّم ، غير أنّ هناك فرقاً بين ورود الدليلين القائلين أكرم العلماء ، وأهن العلماء ، وبين قيام البينتين القائلتين : أن الدار لزيد ولعمرو، فإن الحق في الدليلين الواردين من الشارع للّه وحده ، فلا يبعّضان بإكرام عالم واهانة عالم في واقعة وإن جاز ذلك بنظر - المصنِّف - في وقائع متدرِّجة ، بل يؤخذ فيهما أوّلاً بالمرجّحات ومع عدمها بالتخيير ، وإمّا الحق في البينتين القائمتين في الموضوعات فهو للناس ، فيلزم فيهما التبعيض ، حيث أنه حقان فيعطى لكل واحد منهما نصف الحق - مثلاً - .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله ( إلاّ أنّ المخالفة القطعيّة ) لمقتضى الدليلين الواردين ( في الأحكام الشرعيّة ، لا يُرتكب في واقعة واحدة ) أي :

ص: 330

لأنّ الحقّ فيها للشارع ، ولا يرضى بالمعصية القطيّة مقدّمةً للعلم بالاطاعة ، فيجب اختيارُ أحدهما وطرحُ الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإنّ الحقّ فيها لمتعدّدٍ ، فالعملُ بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ،

-------------------

لاتجوز المخالفة القطعية لإكرام العلماء وأهن العلماء - مثلاً - دفعة ، وإن جازت بنظر المصنّف تدريجاً بأن يكرم يوماً ويهين يوماً .

وإنّما لا يجوز ارتكاب ذلك دفعة ( لأنّ الحقّ فيها ) أي : في الواقعة الشرعية الواحدة ( للشارع ، ولايرضى بالمعصية القطعيّة ) دفعة ( مقدّمةً للعلم بالاطاعة ) لما يقتضيه الدليلان ، وذلك لأنّه إذا اكرم عالماً وأهان عالماً ، فإنّه خالف قطعاً كما أنه وافق قطعاً ، لكن المخالفة والموافقة القطعيتين حصلتا في كل من الدليلين الشرعيين دفعة ، وحيث انّ الشارع لايرضى بذلك ( فيجب إختيار أحدهما ) أي : أحد الدليلين ( وطرح الآخر ) فيما إذا كان هناك مرجّح وإلاّ فالتخيير .

هذا كله في الجمع الحكمي ( بخلاف حقوق الناس ) الذي هو جمع موضوعي ( فإنّ الحقّ فيها ) أي : في حقوق الناس ( لمتعدّد ) من الأشخاص ( فالعمل بالبعض في كلّ منهما ) أي : في كل من البينتين إنّما هو ( جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ) علماً بأن الدواعي النفسانية هناك تخالف العدالة ، وذلك لأنّ العادل إذا كان من حقه أن يعطي لهذا ، أويعطي لذاك ، فقدّم أحدهما على الآخر لقرابة أو صداقة أوما أشبه ذلك لم يسقط عن عدالته .

ص: 331

فهو أولى من الاهمال الكلّي لأحدهما ، وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد .

ولأجل هذا يعدّ الجمعُ بهذا النحو مصالحةً بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّدُ به في بعض النصوص أيضاً ، فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الجمعَ في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

-------------------

وكيف كان : ( فهو ) أي : الجمع العملي بين الحقين هنا ( أولى من الاهمال الكليّ لأحدهما ، و) ذلك بأن يعطي الحق كله لأحدهما ويحرم الآخر منه رأساً ، كما أن الجمع هنا أولى من ( تفويض تعيين ذلك ) أي : ترجيح أحدهما ( إلى إختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد ) المختلفة فإنّه من المعلوم : إنّ الدواعي النفسانية لاتكون منضبطة لوضوح ؛ أنّه قد يرجّح أحدهما على الآخر لقرابة ، أوصداقة ، أوجوار ، أوطمع في مستقبل ، أوما أشبه ذلك ممّا هو كثير .

( و) عليه : فقال تبيّن أنه ( لأجل هذا ) الذي ذكره المصنّف : من أن الحق في حقوق الناس لمتعدّد ، فاللازم التنصيف بينهما - مثلاً - ( يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحةً بين الخصمين عند العرف ، و) هذا هو مقتضى قاعدة العدل أيضاً ، حيث ينصّف الحق الذي يقبل التبعيض في المدعيين ، ويثلث في الثلاثة ، وهكذا ، إضافة إلى أنه ( قد وقع التعبّد به ) أي : بالتبعيض ( في بعض النصوص أيضاً ) وهي نصوص متعدّدة ذكر المصنّف واحدةً منها فقط ، وذكرنا ما بجملتها في موارد متعدّدة من « الفقه » .

إذن : ( فظهر ممّا ذكرنا : أن الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

ص: 332

كليهما لا أولويّة له أصلاً على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس ؛ وأمّا الجمعُ بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة ، لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرقَ في مخالفتهما بين الأخذ لا بكلّ منهما، بل بأحدهما

-------------------

كليهما ) أي : كلا الظاهرين المتنافيين ، كما في « لابأسَ ببيع العَذَرَةِ » (1) و « ثمن العذرة سحت » (2) - مثلاً - وذلك تبعاً لقاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » ( لا أولويّة له أصلاً على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ) أي : لا أولوية للجمع الدلالي في الأحكام إذا كان مستلزماً لتأويل كلا الظاهرين معاً على الطرح ، كما أن الجمع العملي في الأحكام فيما يمكن التبعيض فيه ، كما في مثال « أكرم العلماء » و « أهن العلماء » لا أولوية له على الطرح أيضاً لعدم رضا الشارع به ( بل الأمر بالعكس ) أي : بأن اللازم الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وذلك لأنّ هذا هو مقتضى روايات العلاج .

( وإمّا الجمعُ بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولوية فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة ) وإنّما لا أولوية للجمع فيه ( لأنّها ) أي : أدلة حجيّة البيّنة ( تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما ) أي : بكلٍ من البيّنتين ( في تمام مضمونه ) وإذا كان الواجب ذلك ( فلا فرق في مخالفتهما ) أي : في حصول المخالفة للبيّنتين في الجملة ( بين الأخذ لا بكلّ منهما ، بل بأحدهما ) فقط

ص: 333


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه .

إلاّ أنّ ما ذكره من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحاً للثاني على الأوّل .

ويؤيّده ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها ، في من أودعه رجلٌ درهمين وآخرُ درهماً ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما .

-------------------

( أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه ) أي : في بعض مضمونه ، فإنّه سواء عملنا بإحدى البيّنتين وطرحنا الأخرى ، أم عملنا ببعض مضمون كل منهما ، فقد خالفنا دليل حجيّة البيّنة ( إلاّ أنّ ما ذكره من الاعتبار ) العرفي في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنتين ، وذلك حسب قاعدة العدل ( لعلّه يكون مرجّحاً للثاني ) أي : للأخذ بكل منهما لافي تمام مضمونه بل في بعض مضمونه ( على الأوّل ) أي : على طرح إحدى البيّنتين والأخذ بالآخرى .

( ويؤيّده ) أي : يؤيد هذا النحو من الجمع بين البيّنتين ( ورود الأمر بالجمع بين الحقيّن بهذا النحو ) المذكور من التنصيف - مثلاً - لقاعدة العدل ( في رواية السكوني (1) المعمول بها ، فيمن أودعه رجلٌ درهمين وآخرُ درهماً ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما ) أي : أحد الدراهم الثلاثة ، حيث أنه - بحسب الرواية - يلزم إعطاء صاحب الدرهمين درهماً وتنصيف الدرهم الآخر بينهما ، مع أن الدرهم الآخر إمّا لهذا وإمّا لذاك ، وهكذا حكم الإمام بتنصيف الناقة التي تداعاها اثنان ، وكان لكل منهما بيّنة ، وإلى غير ذلك من الموارد الواردة في الفقه حسب مقتضى قاعدة العدل .

ص: 334


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص181 ب22 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص37 ب2 ح3278 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة .

نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعاً بعد تساقط البيّنتين .

-------------------

( هذا ) هو غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنات وشبه البيّنات ممّا هي في الموضوعات ( ولكنّ الإنصاف ) عند المصنّف ( إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها ) أي : شبه البيّنات كتعارض أقوال المقومين - مثلاً - ( هي القرعة ) فيقرع بينهما ويُعطى الكل لمن خرجت القرعة باسمه ، وذلك لما ورد من قوله عليه السلام : « القرعة لكلّ أمر مشكل » (1) لكن قد عرفت : أن قاعدة العدل هي التي وردت بها روايات متعدّدة ، وقد عمل بها الفقهاء في غير مورد من الفقه ، وهي مقدَّمة على قاعدة القرعة - وذلك على ما تقدّم - فلا تصل النوبة إلى قاعدة القرعة خصوصاً وقد قالوا : « إنّ القرعة تحتاج إلى العمل والالّزم تأسيس فقه جديد » .

( نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها ) يعني : إذا كانت هنالك بيّنتان متعارضتان وأقرعنا ، فخرجت القرعة مطابقة لأحداهما ، فهل تكون القرعة مرجّحة : ( أو مرجعاً بعد تساقط البيّنتين ) بالتعارض وعدّهما كأن لم يكن عندنا بيّنة أصلاً ؟ فإنّ هناك من يقول : بأنّ القرعة مرجح هنا لاستفادة الملاك في الترجيح بكل مرجّح عقلائي من النصوص ، وعدم التوقف على المرجحات المنصوصة ، وهناك من يقول : بأنّ القرعة لا تصلح مرجّحاً ، لأن اُفق القرعة

ص: 335


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 وج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لايكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين .

وللكلام موردٌ آخر ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدمُ تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير

-------------------

غير اُفق البيّنة ، فإنّ البيّنة أمارة ظنّية والقرعة أمر تعبّدي ، فلا يصلح أحدهما أن يكون مرجّحاً للآخر ، كما تقدّم في مثل الأصل والأمارة حيث قلنا : أنه لايمكن أن يكون أحدهما مرجّحاً للآخر .

( وكذا ) أي : يبقى أيضاً ( الكلام في عموم موارد القرعة ) أي : هل أنها عامة لكل مورد حتى فيما كان هناك أصل عملي أم لا ؟ كما قال : ( أواختصاصها بما لايكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين ) فإذا قامت بيّنتان على طهارة شئونجاسته - مثلاً - فإنّ الأصل العملي هنا على الطهارة ، فلا يكون معه مجال للقرعة ، لأن الشارع عيّن كونه ظاهراً ، فليس بمشكل حتى يدخل في عموم : « القرعة لكل أمر مشكل » (1) .

هذا ( وللكلام ) في خصوصيّات القرعة ( موردٌ آخر ) من الفقه ..، وأما الآن هنا ( فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع ) في أدلة الأحكام بين المتعارضين عدا ما يراه العرف من الجمع بين النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، فالجمع غير مقدّم إذن ( على الترجيح ) فيما إذا كان هناك لأحد الخبرين مرجّح ( ولا على التخيير ) فيما إذا تشابه الخبران ولم يكن هناك لأحدهما مرجّح على الآخر ، ممّا يكون حاصله : إنّه لا مجال للجمع إطلاقاً ، لأنّه إذا كان ترجيح ،

ص: 336


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 وج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول :

المقام الأوّل : في المتكافئين

والكلامُ فيه :

أوّلاً : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقطُ وفرضُهما كأن لم يكونا أوّلاً ، ثمّ الّلازمُ - بعد عدم التساقط - الاحتياطُ

-------------------

فالعمل على المرجّح ، وإذا لم يكن ترجيح ، فالعمل على التخيير ومعه ( فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول ) في بيانهما مايلي :

( المقام الأوّل في المتكافئين ) من الأخبار وسائر الأدلة ( والكلام فيه ) يكون على النحو التالي :

( أوّلاً : في أنّ الأصل ) الأوّلي ( في المتكافئين ) ما هو ؟ هل هو ( التساقط وفرضُهما كأن لم يكونا ) وذلك لأنّ دليل الحجيّة لايشمل المتعارضين ، سواء كان الأصل موافقاً لأحدهما ، أم مخالفاً لهما ( أوّلاً ) بأن لم يكن الأصل الاّولي فيهما هو التساقط ؟ ( ثمّ ) أنّه على عدم التساقط ماهو اللازم تجاههما ؟ هل ( الّلازم - بعد عدم التساقط - ) إن قلنا به هو ( الاحتياط ) وذلك من جهة أدلة الاحتياط ، والتي منها : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (1) وما أشبه ذلك ؟ .

ص: 337


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

أو التخييرُ ، أو التوقّفُ ، والرجوعُ إلى الأصل المطابق لأحدهما دون المخالف لهما ، لأنّه معنى تساقطهما ، فنقول وباللّه المستعان .

قد يقال ، بل قيل :

-------------------

( أوالتخيير ) لأن أدلة الحجيّة تشمل كلا المتعارضين ، وحيث لايمكن العمل بهماً معاً ، فلا بد من العلم بأحدهما ، أخذاً بالقدر الممكن ، فيكون ما نحن فيه من قبيل الغريقين الذين لا نتمكن من انقاذهما معاً ؟ .

( أو التوقّف ) كما عليه المصنّف ، ومعنى التوقف هو : تساقط المتعارضين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، وإمّا بالنسبة إلى نفي الثالث فهما حجّة ، وذلك كما إذا دلّ أحدهما على وجوب صلاة الجمعة ، والآخر على حرمة صلاة الجمعة ، فإنهما يتساقطان من حيث الوجوب والحرمة ، ويثبتان من حيث نفي كون صلاة الجمعة مستحبة - مثلاً - فإذا قلنا بالتوقف كالمصنّف ، فالتوقف ( والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) فيما إذا كان هناك أصل مطابق لأحدهما ( دون المخالف لهما ، لأنّه ) أي : الرجوع إلى الأصل المخالف هو ( معنى تساقطهما ) ؟ .

وعلى هذا : فالفرق بين التساقط والتوقّف هو : أن التساقط عبارة عن فرض الدليلين كأن لم يكونا ، فيرجع إلى الأصل سواء وافق أحدهما أوخالفهما ، وذلك لأنّ الأصل هو المرجع حيث لم يكن دليل ، والمفروض : أنه بالتساقط لم يبق في المقام دليل بينما التوقف عبارة عن تساقط الدليلين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، لا بالنسبة الى نفي الثالث ، فيرجع الى الأصل إن كان هناك أصل يوافق أحدهما ، وإلاّ فالى التخيير بين الاحتمالين .

إذا عرفت ذلك ( فنقول وباللّه المستعان : قد يقال ) أي : يمكن لقائل أن يقول ، ثم أضرب المصنّف عنه وقال : ( بل قيل ) أي : أنه ليس مجرّد احتمال

ص: 338

إنّ الأصلَ في المتعارضين عدمُ حجيّة أحدهما ، لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض .

أمّا إذا كان إجماعاً ، فلاختصاصه بغير المتعارضين وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم .

وأمّا إذا كان لفظاً ، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

-------------------

القول ، بل هناك بعض من قال : ( إنّ الأصل ) الأوّلي مع غض النظر عن ملاحظة أخبار العلاج ( في المتعارضين ) هو : ( عدم حجيّة أحدهما ) فاللازم إسقاطهما وفرضهما كأن لم يكونا أصلاً : وذلك ( لأنّ دليل الحجيّة مختص بغير صورة التعارض ) وأما صورة التعارض فلا يشملها أخبار الحجيّة ، فإذا قال المولى لعبده - مثلاً - إسأل أهل الخبرة عن طريق كربلاء ، فاختلفت أقوالهم ، فقال أحدهم : إنها باتجاه الشمال ، وقال ثانٍ : إنها باتجاه الجنوب ، لم يشمل دليل الرجوع الى أهل الخبرة قول هذين بل يتساقطان .

وإنّما يختص دليل الحجية بغير صورة التعارض ، لأنّ الدليل إما لفظي أولبّي ، وكلاهما لايشملان صورة التعارض ، أما اللبّي فلعدم وجود المقتضي ، وأما اللفظي فلوجود المانع كما قال ( أمّا إذا كان ) دليل الحجية ( إجماعاً ، فلاختصاصه بغير المتعارضين ) لأنّ المتيقن من الاجماع هو مالم يكن هناك تعارض في البين ، فإنّ الاجماع دليل لبّي ( و ) لا مقتضى له لشمول المتعارضين ، إذ ( ليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم ) بحيث يشمل المتعارضين أيضاً .

هذا ، إذا كان دليل الحجيّة إجماعاً ( وأمّا إذا كان ) دليل الحجية ( لفظاً ) كآية النبأ وآية الأذن ، وغيرهما من الآيات والأخبار ( فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

ص: 339

من عموم ذلك اللفظ ، لأنّه يدلّ على وجوب العمل عيناً بكلّ خبر - مثلاً - .

ولاريب أنّ وجوب العمل عيناً بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعملُ بكلّ منهما تخييراً فلا يدلّ الكلام عليه ، إذ لا يجوز إرادةُ الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد .

-------------------

من عموم ذلك اللفظ ) لوجود المانع ، وقد بيّن المصنّف المانع بقوله : ( لأنّه يدلّ على وجوب العمل عيناً بكلّ خبر - مثلاً - ) فإن ظاهر قوله : « صدِّق العادل » هو : أنه يجب العمل بعين كلّما أخبر به العادل : أي حتى وإن كانا متعارضين ، لكن المتعارضين بأنفسهما ممتنعان عن العمل بهما عيناً ، كما قال : ( ولاريب أنّ وجوب العمل عيناً بكلّ من المتعارضين ممتنع ) فلا يمكن إرادته لاستحالة الجمع بينهما ، سواء كانا نقيضين أم ضدّين .

إن قلت : في المتعارضين يكون العمل بكل منهما تخييراً كما أن في غير المتعارضين يكون العمل عيناً .

قلت : ( والعمل بكلّ منهما تخييراً ) بأن ينصبّ الوجوب على المصداق مخيّراً ( فلا يدّل الكلام عليه ) لأن ظاهر : « صدّق العادل » ليس ذلك ، إضافة إلى أنه مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى كما قال : ( إذ لايجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة الى المتعارضين من لفظ واحد ) فإنّه إذا قال المولى : أكرم زيداً وعمرواً ، فلا يمكن أن يقال : أن المولى: يريد إكرامهما مع الامكان ، والتخيير بين إكرام هذا أو ذاك مع عدم إمكان الجمع ، لأنّه يكون من إستعمال اللفظ في معنيين ، وذلك : إما محال كما قاله بعض ، أو محتاج إلى قرينة - ولا قرينة - كما قاله بعض آخر .

ص: 340

وأمّا العمل بأحدهما الكلّي عيناً ، فليس من أفراد العامّ ، لأنّ أفراده هي المشخّصات الخارجيّة ، وليس الواحدُ على البدل فرداً آخر ، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم عليه بحكم نفس المشخّصات

-------------------

( و ) إن قلت : إنّا لانقول بأن معنى « صدّق العادل » هو : اعمل بالخبر الواحد عيناً مع الوحدة ، وبأحدهما تخييراً مع التعارض ، حتى يستلزم إستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل نقول بأنّ معنى « صدّق العادل » هو : اعمل بالواحد الكلي ، فحيث كان واحد نعلم أنّه هو فنعمل به علناً ، وحيث كان اثنان متعارضان فنعمل بكل منهما تخييراً عقلياً بينهما .

قلت : ( أمّا العمل بأحدهما الكليّ عيناً ) يعني : بأن ينصبّ الوجوب العيني في « صدّق العادل » على المفهوم المردّد وحيث أن المفهوم المردّد ذهني لا خارج له ، فلا يكون فرداً للعام ، كما قال ( فليس من أفراد العامّ ) وذلك ( لأنّ أفراده ) أي : أفراد العام ( هي المشخّصات الخارجيّة ) التي رويت في كتب الروايات ، فإنّ هذه الأخبار المتشخّصة هي المشمولة لصدّق العادل .

إن قلت : أعني بالمفهوم المردّد : الواحد على البدل ، فينطبق هذا الكلي : « المفهوم المردّد » على أحد المتعارضين في الجملة .

قلت : ( وليس الواحد على البدل فرداً آخر ) متشخّصاً في الخارج في عداد سائر الأفراد المتشخّصة خارجاً : حتى يكون « صدّق العادل » يشمل ألف فرد ممّا ذكر في الكتب الأربعة - مثلاً - وفرداً آخر فوق ذلك الألف ، وهو : الواحد على البدل ، فإنّه ليس كذلك ( بل هو ) أي : الواحد على البدل ( عنوان منتزع منها ) أي : من تلك الأفراد الخارجية التي وقع التعارض بينها ، وذلك العنوان الانتزاعي ( غير محكوم عليه بحكم نفس المشخّصات ) الخارجية المتمّثلة بالأخبار الواردة

ص: 341

بعد الحكم بوجوب العمل بها عيناً .

هذا ، لكن ما ذكره - من الفرق بين الاجماع والدليل اللفظي - لامحصّلَ ولا ثمرةَ له في ما نحن فيه ،

-------------------

في الكتب الأربعة وغيرها ( بعد الحكم بوجوب العمل بها ) أي : بتلك الأفراد المتشخّصة في الخارج ( عيناً ) ففي كل مورد ثبت الحكم لنفس الأخبار المتشخِّصة في الخارج عيناً ، لا يثبت للمفهوم المردّد ، بمعنى : الواحد على البدل المنتزع من تلك الأفراد الخارجيّة تخييراً ، لوضوح : تغاير الوجوب العيني والتخييري ، وحينئذ فدليل الحجية شامل للمتشخّصات العينيّة ، ولايشمل الخبرين المتعارضين على نحو التشخّص البدلي .

( هذا ) هو غاية ما هنا من تقريب عدم شمول دليل الحجيّة للخبرين المتعارضين ؛ فإنه لايشملهما أدلة الحجيّة مطلقاً ، لا الاجماع لأنّه لبّي ولا مقتضي له ، ولا الأدلة اللفظية لأنّ شمول الأدلة اللفظية للمتعارضين يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مانع من شمولها لهما .

( لكن ما ذكره ) القائل هنا ( من الفرق بين الاجماع والدليل اللفظي لا محصّل ) له ( ولاثمرة له فيما نحن فيه ) فإنّ ما نحن فيه هو : القول بعدم شمول دليل حجية الخبر صورة التعارض سواء كان دليل الحجية إجماعاً أم لفظاً ، فإنّه لايشملهما .

وإنّما لم يكن الفرق بين الدليل اللبّي ، وبين الدليل اللفظي فارقاً هنا ، لأن الدليل اللبّي إنّما يُحمل على القدر المتيقن إذا لم يكن دليل على أن هذا الدليل اللبّي يشمل كل الأفراد ، بل كان الدليل اللبّي مجملاً له فرد معلوم وله فرد مشكوك ، فالدليل اللبّي حينئذ يشمل الفرد المعلوم ولايشمل الفرد المشكوك ، بينهما

ص: 342

لأنّ المفروض : قيام الاجماع على أنّ كّلاً منهما واجب العمل ، لولا المانع الشرعي ، وهو وجوب العمل بالآخر ، إذ لا نعني بالمتعارضين إلاّ ما كان كذلك .

وأمّا ماكان وجود أحدهما مانعاً عن وجوب العمل بالآخر ، فهو خارجٌ عن موضوع التعارض ، لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوبَ للعمل بها ، والأمارة المانعة إنّ كانت واجبة العمل تعيّن العملُ بها لسلامته عن معارضة

-------------------

الاجماع على حجية الخبر هنا ليس من هذا القبيل ، وذلك لأنّ المجمعين أرادوا حتى صورة تعارض الخبرين أيضاً .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال ( لأنّ المفروض : قيام الاجماع على أنّ كلاً منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( واجب العمل ، لولا المانع الشرعي وهو ) أي : المانع الشرعي ( وجوب العمل بالآخر ، إذ ) إن المجمعين قد أجمعوا على حجيّة كل خبر جامع للشرائط حتى المتعارضين ، غير أن المكلّف لايتمكّن من العمل بهما معاً ، لعدم قدرته على الجمع بينهما ، فهو غير قادر على أن يعمل في وقت واحد بوجوب الجمعة وبحرمة الجمعة - مثلاً - ونحن ( لانعني بالمتعارضين إلاّ ما كان كذلك ) أي : كان كل منهما مشمولاً لدليل الحجيّة ، وإنّما لايمكن العمل بهما معاً من حيث عجز المكلّف عن ذلك .

( وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعاً عن وجوب العمل بالآخر ) كالدليل الحاكم والمحكوم حيث لا وجود الملاك في الدليل الممنوع ( فهو خارجٌ عن موضوع التعارض ) وذلك ( لأنّ الأمارة الممنوعة ) مثل : البناء على الاكثر عند الشك في الصلاة ( لا وجوب للعمل بها ، والأمارة المانعة ) مثل : لاشك لكثير الشك ( إن كانت واجبة العمل ) عليها كما في المثال ( تعيّن العمل بها لسلامته عن معارضة

ص: 343

الاُخرى ، فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه ، لا بوجودها ولا بوجوبها فافهم .

والغرضُ من هذا التطويل حسمُ مادّة الشبهة التي توهّمها بعضُهُم ،

-------------------

الاُخرى ، فهي ) أي : الأمارة المانعة ( بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ) الأمارة الممنوعة ( وتلك ) الأمارة الممنوعة ( لا تمنع وجوب العمل بهذه ) الأمارة المانعة ( لا بوجودها ) الخارجي ( ولا بوجوبها ) الشرعي .

والحاصل : إنّ التعارض فرع شمول دليل الحجية ، فكيف تقولون : إنّ الاجماع لايشمل المتعارضين ، بمعنى : عدم حجيّة أحدهما ؟ فإنّ الاجماع إذا لم يشمل المتعارضين لايكونان متعارضين ، وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم ، نعم إذا كان بين الخبرين حاكم ومحكوم ، أووارد ومورد ، كان الحجّة في الحاكم والوارد فقط ، وهذا ليس من باب التعارض في شئ، كما أنّه لا يرتبط بكون الاجماع دليلاً لبياً ، حتى يقال : أنّ الدليل اللبي له قدر متيقن ، وقول المصنّف : « لا بوجودها » يعني : حتى يكون حاكماً أووارداً ، وقوله : « ولا بوجوبها » يعني : حتى يكون معارضاً .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى أنّ الخبرين المتعارضين الذين هما حجّة في نفسهما لولا جهة المعارضة لا يكونان مشمولين لدليل الاجماع ، لأنّ الاجماع دليل لبّي ، فلا يَشمل الدليلين المتعارضين وذلك لأنّ للدليل اللبّي قدر متيقن ؛ والقدر المتيقن من الاجماع هنا هو الخبر الذي ليس له معارض ، كما أنهما لايكونان مشمولين للأدلة اللفظية أيضاً للزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ومعه فيعود المحذور ، ولذلك أمر المصنّف بالتفهّم .

( و ) كيف كان : فإنّ ( الغرض من هذا التطويل ) في دفع الاشكال الذي ذكره الفارق بين الاجماع والدليل اللفظي هو : ( حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضُهم ،

ص: 344

من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظي هو حجيّتها مع الخلوّ عن المعارض ، وحيث اتّضح عدمُ الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات ، أو من قبيل الاجماع .

فنقول : إنّ الحكمَ بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ، ليس لأجل شمول العموم الفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ،

-------------------

من ) قولهم ( أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات ) تلك الأدلة ( التي ليس لها عموم لفظي ) كالإجماع - مثلاً - ( هو : حجيتّها ) أي : حجيّة الأمارات من الخبر والبينة وغير ذلك ( مع الخلوّ عن المعارض ) وأما إذا كان لها معارض فلا يشملها دليل الاجماع ، فإنّ هذا التوهم وهو : أنّ الاجماع لايشمل الأخبار المتعارضة ، وإنّما يشمل الأخبار التي لا معارض لها توهم باطل .

هذا ( وحيث اتضّح عدم الفرق في المقام ) أي : مقام التعارض ( بين كون أدلّة الأمارات من العمومات ، أو من قبيل الاجماع ) وذلك لما ذكرناه : من أن الاجماع أيضاً كالدليل اللفظي يعمّ المتعارضين .

( فنقول : أن ) مقتضى القاعدة شمول الاجماع والأدلة اللفظية لكلا المتعارضين ، غير أنّ المكلّف حيث لا يتمكن من العمل بهما يكون مخيراً عقلاً في أن يعمل بهذا أوبذاك ، فإنّ ( الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة ) أي : من باب التخيير ، أوالتوقف والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ( وعدم تساقطهما ) رأساً بالتعارض إنّما هو لعدم قدرة المكلّف بامتثالهما معاً ، فالأخذ بأحدهما في الجملة إذن ( ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم ) الذهني ( المنتزع ) وهو الواحد على البدل فإنّه

ص: 345

لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة .

لكن ، لمّا كان امتثالُ التكليف بالعمل بكلّ واحد منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ كّلاً منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور ، يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه .

-------------------

ليس لأجل ذلك ( لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة ) حيث قال المصنّف هناك : بأنّ التكليف متعلق بالأفراد الخارجية ، لا الذهنية .

إذن : فالدليل اللبّي ، كالدليل اللفظي شامل لكلا المتعارضين ( لكن ، لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ واحد منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة ) الفردية مثل : التكليف بوجوب صلاة الظهر ، والتكليف بحرمة شرب الخمر - مثلاً - ( مشروطاً بالقدرة ) لأن غير المقدور لايعقل التكليف به ( والمفروض : أنّ كلاً منهما ) ذوملاك ، وهو ( مقدور في حال ترك الآخر ) لأنّ القدرة تتعلق بواحد واحد على سبيل البدل ( وغير مقدور مع إيجاد الآخر ) لانهما لايجتمعان ، فلا يقدر المكلّف في وقت واحد بأن يكون فاعلاً لصلاة الجمعة وتاركاً لها فيما إذا كان خبران متعارضان يدل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على حرمتها .

وعليه : فلّما كان امتثال كل واحد من المتعارضين مشروطاً بالقدرة ( فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور ) وإذا كان مقدوراً ، فإنّه ( يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولايعاقب عليه ) فيكون حال المقام مثل حال : أنقذ الغريق ، حيث أنه إذا كان غير قان ولم يستطع انقاذهما معاً ، فإنه إذا أنقذ أحدهما كان مطيعاً وكان تركه للآخر غير معاقب عليه ، أمّا إذا تركهما عوقب على

ص: 346

فوجوبُ الأخذ بأحدهما نتيجةُ أدلّة وجوب الامتثال ، والعمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا يحكم به بديهةُ العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ تعيّن الآخر عليه كذلك .

-------------------

ترك المقدور .

إذن : ( فوجوب الأخذ بأحدهما ) أي : بأحد المتعارضين تخييراً ، لم يكن نتيجة لمجرّد دليل حجيّة الخبر لفظاً كان أم لبّاً ، لأنّ الدليل يدل على وجوب العمل بكل خبر عيناً لاتخييراً ، وذلك على ما عرفت بل هو ( نتيجة أدلّة وجوب الامتثال ، و) كذلك نتيجة أدلة وجوب ( العمل بكلّ منهما ) لكن ( بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ) فاللفظ إذن لم يستعمل في أكثر من معنى : بل لأنّه حيث كان في كل من المتعارضين ملاك ، ولم يتمكن المكلّف من امتثالهما يرى العقل وجوب إمتثال أحدهما تخييراً ، وذلك كما قال ( وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل ، كما في كلّ واجبين ) متزاحمين كأنقاذ غريقين ( اجتمعا على المكلّف ) وكان المكلّف لا يتمكن إلاّ من أحدهما .

إن قلت : كيف يحكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما تخييراً ، مع أن دليل حجيّة الخبر دل على تعيين كل منهما ؟ .

قلت : ( ولامانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ ) عجز المكلّف عن جمعهما ، المانع من ( تعيّن الآخر عليه كذلك ) أي : بمقتضى دليله ، فإنّ كل منهما واجب على المكلّف بدليل حجيّته ومتعيّن عليه الاتيان به ، غير أنّ عجز المكلّف عن جمعهما والاتيان بهما معاً يمنع من تعيّن الآخر عليه ، وحيث يمنع العجز من الجمع بينهما يحكم العقل بوجوب الاتيان بأحدهما تخييراً .

ص: 347

والسرُّ في ذلك : إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوبُ كلٍّ منهما ثابتاً بمجرّد الامكان ، ولزم كون وجوب كلّ منهما مشروطاً بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال بأزيد من الامكان ،

-------------------

( والسرُّ في ذلك ) الذي ذكرناه : من حكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما تخييراً هو : ( إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما ) معاً ، وذلك ( مع إمكان أحدهما على البدل ) لأنّ المفروض : أن المكلّف قادر على أن يأخذ بأحدهما ، وإنّما عاجز عن الأخذ بكليهما ( لم يكن وجوب كلٍّ منهما ثابتاً بمجرّد الامكان ، و) وجود المقتضي ، بل ( لزم كون وجوب كلٍّ منهما مشروطاً بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا : من ) السببية ووجود الملاك في كليهما المنتج : ( عدم تقييد كل منهما في مقام الامتثال ) والفعلية ( بأزيد من الامكان ) والقدرة على الاتيان بأحدهما .

هذا ، وقول المصنّف : « في مقام الامتثال » أراد به مقابل مقام الجعل ، حيث أنه لاتعارض في مقام الجعل ، فإنّ المولى يتمكن أن يقول : أنقذ الغريقين ، وإنّما الامتثال لايمكن لعجز المكلّف ، حتى أنه لو فرض بعدم عجزه وجب إنقاذ كليهما لتمامية الملاك فيهما ، فإنّ المولى قد يقول : أنقذ الغريق ، ومعنى ذلك مع الامكان ، فإذا كان غريقان وأمكنه إنقاذ أحدهما على البدل وجب ، وقد يقول ، أنقذ الغريق بعينه ، وهذا ليس معناه مع الامكان ، فإذا كان غريقان ولم يمكنه انقاذ غريق بعينه ، بل أمكنه إنقاذ غريق على البدل فلا يجب ، وظاهر : « صدّق العادل » هو الأوّل ، ولذا يجب في المتعارضين العمل بأحدهما على البدل ، لا الثاني حيث يسقط العمل فيه رأساً بسبب التعارض .

ص: 348

سواء كان وجوبُ كلّ منهما بأمر أو كان بأمر واحد يشمل واجبين ، وليس التخييرُ في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير .

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشئواحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي والشرعي ، وإذا أمر بشيئين

-------------------

وعليه : فوجوب كل منهما مطلق ، لا أنه مشروط بعدم انضمامه مع الآخر ، وذلك ( سواء كان وجوب كل منهما بأمرٍ ) مستقل يعني بأن يكون هناك أمران أمر بهذا وأمر بذلك ، كما إذا قال : « فِ بدَينك » و« حُجّ » وكان الوقت ضيّقاً ( أوكان بأمر واحد يشمل واجبين ) كما إذا قال : « صدّق العادل » وكان هناك خبران متعاقبان وقال : أنقذ الغريق وكان هناك غريقان متزامنان ، وقال : أطعم الجائع وكان هناك جائعان ، أوما أشبه ذلك .

( و) من المعلوم : أنه ( ليس التخيير ) كائناً ( في القسم الأوّل ) وهو الذي كان لكل من الواجبين أمر مستقل ، وذلك ( لإستعمال الأمر في التخيير ) مع انّه ليس معنى الأمر هو التخيير ، وإنّما التخيير هو نتيجة وجوب الامتثال لكل منهما مقيّداً بالامكان ، فإذا أمكنه جمعهما بأن يفي دَينه ، ويحجّ ، وجب ، وإن لم يتمكن إلاّ من أحدهما وجب أحدهما عليه ، وكذلك في القسم الثاني ، فانّ « صدّق العادل » ليس معناه التخيير بين الخبرين المتنافيين ، وإنّما التخيير هو نتيجة إمكان الامتثال فحيث لايتمكن المكلّف من الجمع بينهما يتخيير .

( والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشئواحد ) مثل :« فِ بدَينك » ( استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي ) كالعجز عنه ( والشرعي ) كالحيض في الصلاة ( وإذا أمر بشيئين ) وكان كلّ منهما بأمر مستقل كما في مثال : « فِ بدَينك » و« حجّ » أوكانا بأمر وأحد ، كما في « صدّق العادل »

ص: 349

واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ، استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لابعينه ، لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها .

لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة .

بأن يكون قيامُ الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعيّاً لوجوبه ظاهراً على المكلّف ،

-------------------

وقد جاء العادل بخبرين متنافيين ، وانقذ الغريق وكان هناك غريقان متزامنان ( واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ) لضيق الوقت - مثلاً - كما في وفاء الدَين وأداء الحج أولعجز المكلّف كما في الغريقين وتعارض الخبرين ، ( استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لابعينه ) أي : يكون المكلّف مخيراً بين أن يأتي بهذا الفرد أوبذلك الفرد .

وإنّما يستقل العقل بالاطاعة التخييرية هنا ( لأنّها ) أي : الاطاعة التخييرية هنا بالنسبة الى أحد الفردين ( ممكنة ، فيقبح تركها ) أي : ترك هذه الاطاعة ويكون موجباً للعقاب .

( لكن هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من وجوب العمل بأحدهما على سبيل البدل ( على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة ) أي : الموضوعية ، فإنّ الخبر علّة للاطاعة ، سواء كان مؤدّاه مطابقاً للواقع أولم يكن مطابقاً للواقع ، وعلى التقديرين فإنّه أريد منا تطبيق العمل مع الخبر - لما في ذلك من المصلحة - فإنّ طابق مؤدّى الخبر الواقع فهو ، وإن لم يطابقه كان حكماً ظاهرياً في حقنا ، وذلك كما قال : ( بأن يكون قيام الخبر على وجوب شئ) - مثلاً - أوعلى حرمته ، أوما أشبه ذلك ( واقعاً ) لأن الخبر يحكي عن الواقع ، فيكون قيامه عليه ( سبباً شرعيّاً لوجوبه ظاهراً على المكلّف ) فيجب عليه أن يأتي به .

ص: 350

فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدُهما ، مع وجود وصف السببّية فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين .

أمّا لو جعلناه من باب الطريقيّة ، كما هو ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار ،

-------------------

وعليه : ( فيصير ) الخبران ( المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ) أي : من قبيل أنقذ زيداً الغريق وأنقذ عمرواً الغريق ، حيث أنّ في إنقاذ كل منهما مصلحة تامة ، غير أن المكلّف لايقدر على انقاذهما معاً ( فيُلغى أحدهما ، مع وجود وصف السببيّة فيه ) أي : في الملغى : فإنّه إنّما يلغى مع ذلك ( لإعمال الآخر ) فإنّ إلغاء أحدهما إنّما هو لأنّ المكلّف عاجز عن إمتثال كليهما ، وليس لأنّ الملاك غير موجود في أحدهما ، وذلك ( كما في كلّ واجبين متزاحمين ) مثل إطعام الجائعين الذين يشرفان على الموت ولم يكن عندنا طعام الاّ ما يكفي أحدهما ، ومثل أنقاذ الغريقين الذين يشرفان على الهلاك ولم نستطيع الاّ انقاذ أحدهما .

( أمّا لو جعلناه ) أي : جعلنا قضية العمل بالخبر ( من باب الطريقيّة ) وذلك على أن يكون الملحوظ في حجية الخبر مصلحة الواقع ، فالخبر طريق الى الواقع ، والشارع انّما يريد الخبر لانّه موصل الى الواقع ، فلا مصلحة في الخبر بنفسه ( كما هو ) أي : حجية الخبر من باب الطريقية لاالسببية ( ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار ) حيث قال سبحانه : « ان جائكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة » (1) فالمعيار : اصابة القوم وعدم اصابتهم ، لاكون المعيار الخبر بما هو خبر ، وكذلك بالنسبة الى الروايات مثل قوله عليه السلام « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك

ص: 351


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

بل غيرها من الأمارات ، بمعنى أن الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة ايصاله إلى الواقع .

فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً .

-------------------

فيما يرويه عنا ثقاتنا ، لانهم علموا انّا نفاوضهم أمرنا » (1) حيث ان ظاهر التعليل هو : ان وجوب الأخذ بالخبر لانّه طريق الى أمرهم عليهم السلام ، اضافة الى ما ورد في أخبار العلاج من الاصدقية والأوثقية والأعدلية وما أشبه ذلك .

( بل غيرها ) أي : غير الاخبار ( من الأمارات ) الظنية الاخرى الواردة في الشريعة مثل : اعتبار العدد والعدالة في باب الشاهد وما أشبه ذلك ، ممّا يدل على ان الشاهد بما هو هو ليس بحجة ، وانّما هو حجّة من باب الطريقية والوصول الى الواقع ( بمعنى : أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل اليه من هذا الطريق ) أي : من طريق الخبر ، أوطريق الشهادة - مثلاً - فانّه انّما أمر الشارع بهذا الطريق ( لغلبة ايصاله الى الواقع ) ممّا يوجب حصول الظنّ النوعي بمطابقتها للواقع .

وعليه : ( فالمتعارضان ) على الطريقية « لا السببية » ( لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ) أي : لا يصير الخبران المتعارضان بناءاً على الطريقية كالمتزاحمين مثل الغريقين واطعام الجائعين ، وذلك ( للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ) .

وانّما نعلم بأن الشارع لايريد سلوك كلا الطريقين ( لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً ) ومن المعلوم : ان الشارع لايريد الوصول الى خلاف الواقع

ص: 352


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالاً إمكانُ العمل بهما ، كما يعلم إرادتُهُ لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع .

مثلاً : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الايصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ،

-------------------

( فلا يكونان طريقين الى الواقع ) معاً ، وانّما أحدهما فقط طريق الى الواقع ، فيكونان من قبيل الطريق من النجف الاشرف الى كربلاء المقدسة - مثلاً - عند اختلاف قول الخبراء فيها ، بأن قال بعضهم أنها باتجاه الشمال ، وقال الآخر : أنها باتجاه الجنوب ، ومن الواضح انّه ليس كلاهما طريقاً الى الواقع لتضادهما ، والمتضادّان لايوصلان الى شئواحد .

هذا ( ولو فرض محالاً إمكان العمل بهما ) معاً ، فانّه لامقتضي في كليهما بناءاً على الطريقية ، بخلاف المتزاحمين ، فانّ المقتضي في كل منهما موجود وانّما لايتمكن المكلّف من امتثالهما ، وذلك ( كما يعلم إرادته ) أي : ارادة الشارع ( لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع ) بينهما ، فإنه لو فرض محالاً إمكان امتثالهما معاً ، فإنّه بناءاً على السببية لايرضى الشارع بأحدهما ، بل يريد إمتثال كل منهما بعينه ، فيجب المتزاحمات كلاهما لبقاء الملاك فيهما ، غير أنه يسقط أحدهما لعجز المكلّف ، بينما على الطريقية ينتفي الملاك عنهما ، فلا يجب امتثالهما حتى وإن تمكن المكلّف - فرضاً محالاً - من امتثالهما معاً .

( مثلاً : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر ) الجامع لشرائط الحجيّة ( غالب الايصال الى الواقع ) كما هو كذلك عند كافة العقلاء ، حيث أنهم يوصلون أوامرهم إلى التابعين لهم عن طريق الخبر ، وعندما لاحظ الشارع أن الخبر كذلك ( فأمر بالعمل به في جميع الموارد ) الموصلة للواقع وغير الموصلة للواقع فإنّه إنّما أمر

ص: 353

لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره .

فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما بحيث لو أمكن الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين .

-------------------

الشارع بالعمل بالخبر في جميع الموارد الموصلة وغير الموصلة ( لعدم المائز بين الفرد الموصل منه ) أي : من الخبر ( وغيره ) أي : غير الموصل من الخبر ، وحيث أنه لامائز بين الفردين ، ولا طريق للوصول إلى الواقع أغلب أصابة من الخبر ، أمر الشارع بالعمل به في جميع الموارد .

وعليه : ( فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة ) من العدالة والضبط ونحوهما ( لم يعقل بقاء تلك المصلحة ) وهي : مصلحة الايصال إلى الواقع ( في كلّ منهما ) لوضوح : أن أحدهما مخالف للواقع ، ومعلوم أن الواقع لايكون متضاداً ولامتناقضاً ، مع أن الخبرين المتعارضين متضادان أومتناقضان ، ومعه لايعقل بقاء المصلحة في كليهما ( بحيث لو أمكن ) فرضاً محالاً ( الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين ) فإنّ الشارع حتى على فرض امكان الجمع ، لايريد الجمع بناءاً على الطريقية . وذلك لأنّه ليست هذا مصلحتان ، وإنّما مصلحة واحدة اشتُبهت بين هذا الخبر وذاك الخبر .

والحاصل : إنّه بناءاً على أنّ العمل بالخبر من باب الطريقية لأدراك مصلحة الواقع ، لم تكن المصلحة موجودة في كلا الخبرين المتعارضين ، حتى تكون النتيجة : إنّه اذا لم يمكن العمل بهما فليعمل بأحدهما من باب القدر الممكن ، بل يكون الخبران المتعارضان على الطريقية من قبيل الطريق من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة حيث كان هناك خبيران وقد اختلفا فقال أحدهما : أنها بطرف

ص: 354

بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّدٌ بعدم معارضته بمثله ، ومن هنا يتّجه الحكمُ حينئذٍ بالتوقف .

لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعاً طريقٌ ولا نعلمه بعينه ،

-------------------

الشمال ، وقال الآخر : أنها بطرف الجنوب ، فإنّه لامصلحة في الطريقين ، ولا يتمكن المكلّف من العمل بهما ولا بأحدهما .

( بل وجود تلك المصلحة ) التي هي عبارة عن مصلحة الايصال إلى الواقع ( في كلّ منهما بخصوصه مقيّدٌ بعدم معارضته بمثله ) فإذا كان الخبر معارضاً بخبر مثله ، انتفت تلك المصلحة الموجودة في كل من الخبرين بالتعارض ، ممّا يكشف عن أن حجيّة الخبر - بناءاً على الطريقية - مشروط بعد القدرة على الامتثال ، بعدم معارضته الخبر بمثله ، فإذا تعارض بمثله لم يتمكن أن يعمل لا بهذا ولا بذلك ، كما قال ( ومن هنا يتّجه الحكم حينئذٍ ) أي : حين يتعارض الخبر بخبر مثله ( بالتوقف ) في المتعارضين ،وقد تقدّم الفرق بين التوقف والتساقط ، فليراجع .

وعليه : فقد اتضح أنه بناءاً على الطريقية لايُعقل بقاء مصلحة الايصال إلى الواقع في كل من المتعارضين وعدم بقائها في كل منهما ( لابمعنى أنّ أحدهما المعيّن ) عند اللّه ( واقعاً طريقٌ ولا نعلمه بعينه ) وحيث لا نعلمه بعينه فنأخذ بأحدهما تخييراً ، فإنّه ليس بهذا المعنى ، لأنّه ليس في الطريقين المتعارضين ملاك الطريقية حتى ولو طابق الواقع أحدهما ، وذلك لأنّ العرف لايرى الطريق المتعارض طريقاً ، فقول الخبير بالطرق الذي يقول : بأنّ طريق كربلاء المقدسة من النجف الأشرف باتجاه الشمال ، ليس بطريق ، كما أن قول الخبير الآخر المعارض له الذي يقول : بأن الطريق باتجاه الجنوب ليس بطريق أيضاً .

ص: 355

كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ، بل بمعنى : أنّ شيئاً منهما ليس طريقاً في مؤدّاه بخصوصه .

ومقتضاه

-------------------

إذن : فليس تعارض الخبرين ( كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ) حيث أن أحدهما طريق لكن لانعلمه نحن ، فيكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، وذلك كما إذا كان خبر زيد بن بكر حجّة ، وخبر زيد بن خالد ليس بحجّة ، وجاءنا منهم خبران : أحدهما من هذا والآخر من ذاك ، لكنّا لم نعلم أنّ أيّ الخبرين من زيد بن بكر وأيّهما من زيد بن خالد ؟ فهو من اشتباه الحجّة باللاحجّة ، واللازم حينئذ الاحتياط لو تمكنّ المكلّف من جمعهما ، وإلاّ اختار أحدهما ، بينما في تعارض الطريقين كلاهما يسقطان عن الطريقية ، إذ بناء العقلاء على عدم طريقية شئمن المتعارضين ، وقد قرّر الشارع هذه الطريقة العقلائية وأمضاها .

وعليه : فعدم بقاء مصلحة الايصال في كل من المتعارضين لم يكن بمعنى أن أحدهما المعيّن واقعاً طريق ولا نعلمه نحن بعينه ( بل بمعنى : أنّ شيئاً منهما ليس طريقاً في مؤدّاه بخصوصه ) فإنّ كل واحد منهما لايؤخذ بمؤدّاه بالنسبة إلى المعنى المطابقي له ، وأما بالنسبة إلى معناهما الالتزامي وهو : نفي الثالث ، فملاك حجيتهما باق بحاله ، فيكونان دليلاً على عدم الثالث ، وذلك كما إذا دلّ أحد الخبرين على وجوب الجمعة ، والآخر على حرمة الجمعة ، فإنّه لايمكن العمل بهذا ولا بذاك في الوجوب أوفي الحرمة ، وإنّما يمكن العمل بهما في نفي الثالث الذي هو الاستحباب - مثلاً - .

إذن : فلو كان معنى انتفاء المصلحة في كل من المتعارضين هو عدم طريقية شئمنهما ، كان اللازم التوقف فيهما ( ومقتضاه ) أي : مقتضى التوقف فيهما

ص: 356

الرجوع إلى الاُصول العمليّة إن لم يرجّح بالأصل المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج عن مورد الكلام ، أعني : التكافؤ ، فلابدّ من فرض الكلام فيما لم يكن أصلٌ مع أحدهما ، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ منهما ، لعدم كونهما طريقين ،

-------------------

هو ( الرجوع إلى الأصول العمليّة ) فان طابق الأصل العملي أحدهما أخذ به وإن خالفهما أخذ بالتخيير ، فإذا ورد - مثلاً - خبران أحدهما على حرمة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه بسبب النار ، بل ذهب ثلثاه بسبب الهواء ، والآخر على كراهته ، عُمل بأصل البرائة الموافق للكراهة ، وأمّا إذا ورد خبران أحدهما على وجوب الجمعة ، والآخر على تحريمها ، فلا أصل عملي بالنسبة إلى أحدهما ، فاللازم الرجوع إلى التخيير .

هذا كله ( إن لم يرجّح بالأصل المطابق له ) أي : لأحد المتعارضين فيما إذا كان أحدهما مطابقاً للأصل ، والآخر مخالفاً له ( وإن قلنا بأنّه ) أي : بأنّ الأصل العملي المطابق لأحدهما ( مرجّح ) لأحد المتعارضين ( خرج عن مورد الكلام أعني : التكافؤ ) لأنّه لاتكافؤ حينئذٍ ، بل يؤخذ بما رجّح بواسطة الأصل العملي ، كما في مثال : العصير الذي ذهب ثلثاه بسبب الهواء .

إذن : ( فلابدّ من فرض الكلام فيما لم يكن أصلٌ مع أحدهما ) أوكان أصل مطابق لأحدهما لكن لم نقل بالترجيح به ، فإذا لم نقل بالترجيح بالأصل الموافق ، أو فرضنا أنه لا أصل يوافق أحدهما ( فيتساقطان من حيث ) مدلولهما المطابقي ، لامن حيث الحجية ، فإنّه قد ثبت بدليل حجيّة الأمارات ومنها الخبر ( جواز العمل بكلّ منهما ) أي : بكل من المتعارضين في نفسهما لولا تعارضهما .

وإنّما يتساقطان في مدلولهما المطابقي ( لعدم كونهما طريقين ) موصلين

ص: 357

كما أنّ التخيير مرجعة إلى التساقط من حيث وجوب العمل .

هذا ما تقتضيه القاعدة

-------------------

إلى الواقع ، وذلك على ما عرفت .

والحاصل : أنّه على تقدير كون الأصل مرجّحاً ، لا يتصور التكافؤ ، بين المتعارضين فيما لو وافق الأصل أحدهما ، لأنّ هذا يدخل في باب الترجيح ، فيلزم أن يؤخذ فيه بموافق الأصل ويترك المخالف للأصل ، وأما على تقدير أنه لايصلح الأصل مرجّحا ، بل مرجعاً بعد التساقط ، فإنه يحصل التكافؤ ، بين المتعارضين ويلزم التوقف ، سواء في مثال غسل الجمعة حيث دلّ دليل على وجوبه ودليل على استحبابه ، أم في مثال الظهر والجمعة ، حيث دلّ دليل على وجوب هذا ودليل على وجوب ذاك ، ففي مثال غسل الجمعة يكون المرجع البرائة ، وفي مثال الجمعة والظهر يكون المرجع التخيير .

( كما أنّ التخيير ) على ما ذكرنا : من أنه مقتضى القاعدة بناءاً على سببية الخبر لا على طريقيّته ( مرجعة إلى التساقط ) لا من حيث وجوب العمل بأحدهما على البدل ، لأنّه معنى التخيير ، وإنّما ( من حيث وجوب العمل ) بكل منهما متعيّناً ، إذ لا يتعيّن العمل بهذا ولا بذاك سواء وافق أحدهما الأصل أم لا ومعه فيعمل بأحدهما تخييراً كما في باب التزاحم غير أن في باب التزاحم إذا كان أحدهما أهم يؤخذ بالأهم ويترك المهم ، فيكون حاله حال الغريقين فيما إذا كان انقاذ أحدهما أهم من انقاذ الآخر ، لكن يجب أن تكون الأهمية بحيث تمنع عن النقيض ، لا الأهمية الاستحبابية على ما ذكر في محله .

( هذا ) كالذي ذكرناه من التساقط على القول بأنّ الخبرين حجة من باب الطريقية لا الموضوعية والسببية إنّما هو ( ما تقتضيه القاعدة ) والأصل الأوّلي

ص: 358

في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، إلاّ أنّ الأخبار المستفيضة - بل المتواترة - قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح .

وحينئذٍ : فهل يُحكمُ بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط ، أو بالاحتياط ، ولو كان مخالفاً لهما ،

-------------------

( في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ) وذلك على ما عرفت : من أنّ بناء العقلاء في أنّ الطريقين المتعارضين يتساقطان ، لا أنه يؤخذ بأحدهما .

وعليه : فالأصل الأوّلي - بناءا على الطريقية - وبغض النظر عن الأخبار هو التساقط في المتعارضين ( إلاّ أنّ الأخبار المستفيضة - بل المتواترة - قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح ) .

( وحينئذ ) أي : حين بنينا على عدم التساقط ما يكون الحكم في المتعارضين ، فإنّه يتصور فيهما وجوه .

أولاً : ( فهل يُحكَم بالتخيير ) فيهما على ما هو مقتضى الأخبار العلاجية ؟ فيكون التخيير بين المتعارضين تخييراً شرعياً ، لأنّ الشارع هو الذي خيّرنا بينهما بقول : « إذن فتخير » (1) .

ثانياً : ( أوالعمل بما طابق منهما الاحتياط ) فيكون الاحتياط مرجّحاً ، وذلك فيما إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مطابقاً للإحتياط ، كمثال غسل الجمعة ، حيث دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الاستحباب ، فيؤخذ بالوجوب لأنّه يطابق الاحتياط .

ثالثاً : ( أو بالاحتياط ، ولو كان مخالفاً لهما ) أي : للخبرين المتعارضين ، فيكون

ص: 359


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين القصر والاتمام ؟ وجوهٌ :

المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل للأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالّة عليه ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللئالي ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة .

-------------------

الاحتياط مرجعاً ، وذلك فيما يمكن الاحتياط فيه ، فيؤخذ بالاحتياط وإن لم يكن أحدهما موافقاً للاحتياط والآخر مخالفاً للاحتياط ( كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ) حيث يدل أحد الدليلين على وجوب الظهر ، ويدل الدليل الآخر على وجوب الجمعة ، فاللازم على المكلّف أن يحتاط بالاتيان بهما ( وكذا ) الجمع ( بين القصر والاتمام ) بالنسبة إلى المسافر الذي يريد الرجوع في أثناء العشرة ، وقد سافر أربعة فراسخ ولم يعلم هل أنه يقصّر أو يتم ؟ فإنّه يحتاط بالجمع بينهما .

هذا مع إمكان الاحتياط والجمع بينهما ، وامّا مع عدم إمكان الاحتياط والجمع بينهما ، مثل : دوران الجمعة بين الوجوب والحرمة ، فالمرجع فيهما أخبار التخيير .

هذه ( وجوهٌ ) ثلاثة لكن ( المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل ) وهو التخيير ، وذلك ( للأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة عليه ) أي : على التخيير في صورة فقد المرجّح .

إن قلت : هناك من الأخبار ما يعارضها ، ومع التعارض كيف نستند اليها ؟ .

قلت : ( ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللئالي ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة ) وهو العمل بما طابق منهما

ص: 360

وقد طَعَنَ في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدّثُ البحرانيّ قدس سره في مقدّمات

الحدائق .

وأمّا أخبارُ التوقف الدالّة على الوجه الثالث

-------------------

الاحتياط ، وذلك على أن يكون الاحتياط مرجّحاً ، فإنه جاء في المرفوعة المذكورة : « فقلت : أنهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركهُ وخُذ بما خالف ، فإنّ الحق فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا موافقين لهم أومخالفين فكيف اصنع ؟ قال : إذن فخُذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر ، قلت : فانهما معاً موافقان للاحتياط أومخالفان له ، فكيف أصنع ؟ فقال : إذن فتخييّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » .

( و ) لكن لا تصلح هذه الموفوعة لمعارضة أخبار التخيير ، وذلك لأنهما إذ لم يُذكر السند فيها الى زرارة ، كما هو دأب غوالي اللئالي ( قد طعن في ذلك التأليف ) أي : في كتاب الغوالي ( وفي مؤلفه ) وهو ابن ابي جمهور الاحسائي صاحب الحدائق : ( المحدّث البحراني قدس سره في مقدّمات الحدائق ) ونسبه فيها الى التساهل في نقل الأخبار ، لكن لايخفى : إن ابن أبي جمهور هو من كبار علمائنا ، غير أن رواياته لعدم ذكر السند لاتصلح مستنداً وإنّما تصلح مؤيّداً ، وقد جمع كتابه هذا من كتب معتبرة لعدّة من أعاظم العلماء ، كما لايخفى على من راجع أحوال الكتاب ومؤلّفه ، فطعن الحدايق إذن محل تأمل .

إن قلت : سلّمنا عدم معارضة مرفوعة زرارة الأخبار التخيير ، فما تقول في أخبار التوقف المستلزمة للاحتياط وهو الوجه الثالث ؟ .

قلت : ( وأمّا أخبار التوقف الدالّة على الوجه الثالث ) وهو الاحتياط ، فإنّها

ص: 361

من حيث إنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في مالا نصّ فيه ، فهي محمولةٌ على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه السلام كما يظهر من بعضها .

فيظهر : إنّ المراد ترك العمل وإرجاءُ الواقعة إلى لقاء الإمام عليه السلام ، لا العملُ فيها بالاحتياط .

-------------------

إنّما تكون دالة على الاحتياط ( من حيث أنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في ما لانصّ فيه ) بناءاً على القول بالتوقف فيه ، فإنه إذا وصل الأمرّ إلى التوقف عن الافتاء في حكم من الأحكام ، فلا بدّ من الالتجاء الى الاحتياط في العمل ، لوضوح : أن كل واحد من الأحكام التكليفية حتى وجوب الاحتياط موقوف على الحكم والافتاء وإلاّ كان تشريعاً ، إلاّ العمل بالاحتياط فإنّه غير محتاج الى الافتاء .

وعليه : ( فهي ) أي : أخبار التوقف ( محمولةٌ على صورة التمكّن من الوصول الى الإمام عليه السلام ، كما يظهر من بعضها ) أي : بعض تلك الأخبار حيث جاء فيها : « أرجه حتى تلقى إمامك » (1) ( فيظهر : إنّ المراد ) من التوقف في هذه الأخبار ليس هو التوقف عن الفتوى المستلزم للاحتياط عملاً بل هو ( ترك العمل ) بالخبرين المتعارضين ( وإرجاء الواقعة ) أي تأخيرها ( إلى لقاء الإمام عليه السلام ) .

إذن : فالمراد بالتوقف في الواقعة التي تعارض فيها الخبران هو ترك العمل فيها بالخبرين ( لا العمل فيها بالاحتياط ) علماً بأنّه يجب أن يقيّد ذلك بما إذا كان الارجاء الى لقاء الإمام غير مفوّت للواقعة ، وإلاّ لم يمكن الارجاء ، وحينئذٍ

ص: 362


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ثمّ إنّ حكمَ الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين ، لايدلُّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة .

وإلاّ وجب التوقف ، لقوّة احتمال أن يكون التخييرُ حكماً ظاهريّاً عمليّاً في مورد التوقف ، لاحكماً واقعيّاً ناشئاً من تزاحم الواجبين ،

-------------------

فالإرجاء لايكون إلاّ في زمان حضور الإمام عليه السلام ، كما أنه لايكون إلاّ فيما أمكن تأخير الواقعة ، وذلك بأن كان الأمر في دَين أوميراث أوما أشبههما ، ممّا يمكن تأخيره حتى يلقى الإمام عليه السلام ويأخذ منه الجواب ، وأمّا إذا كان في ميّت لايعرف هل يُيمّم أويُغسّل - مثلاً - ممّا لايمكن تأخيره حيث أن تأخيره يوجب فساده ، فالمرجع على المشهور هو : التخيير ، وعلى غير المشهور هو : الاحتياط أوالرجوع إلى أحدهما مطابقاً للأصل - مثلاً - .

( ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر ( بالتخيير في تكافؤ الخبرين ، لايدلُّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة ) والموضوعية حتى يقال : أنّ من يقول بالتخيير يرى السببية ، ومن يقول بالتوقف يرى الطريقية ( وإلاّ ) أي : وإن لم يكن حجيّتها من باب السببية ، بل الطريقية ( وجب التوقف ) فإنّ حكم الأخبار بالتخيير هنا إنّما لايدّل على ذلك لما يلي :

أوّلاً : ( لقوّة احتمال أن يكون التخيير ) هنا بعد فقد المرجّحات ( حكماً ظاهريّاً عمليّاً ) أي : من حيث العمل ، وذلك ( في مورد التوقف ) بالنسبة إلى الحكم الواقعي ( لاحكماً واقعيّاً ناشئاً من تزاحم الواجبين ) فليس حال الخبرين المتعارضين حال الغريقين ، بل حال الطريقين حيث يقول أحد الخبراء : أنّ طريق كربلاء ذات اليمين ، ويقول الآخر : أنها ذات الشمال ، وحيث كان هذا الانسان الذي يريد السفر الى كربلاء متحيّراً اُمر بالأخذ بعد فقد المرجّحات بأحد

ص: 363

بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدقُ شاهد على ما استظهرناه : من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح .

ومرادُ من جعلها من باب الأسباب عدمُ إناطتها

-------------------

الطريقين تخييراً حتى لايبقى متحيِّراً ، بينما على السببية يلزم الحكم بالتخيير ابتداءاً ، لا بعد فقد المرجّحات .

ثانياً : ( بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها ) أي : تعليلات تلك الترجيحات ( أصدقُ شاهد على ما استظهرناه : من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح ) لأنّ الإمام عليه السلام علّل الترجيح في تلك الأخبار بما يدل على كونه طريقاً ، مثل « فإنّ المُجمَعَ عليه لاريب فيه » (1) ومثل : « ما خالف العامة ففيه الرشد » (2) ومثل : « فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فذروه » (3) .

ومن الواضح : أن مخالف الكتاب ليس طريقاً الى الواقع ، ومثل : « وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول اللّه » (4) الى غير ذلك ممّا يدّل على الطريقية .

هذا ( ومراد من جعلها ) أي : جعل الحجيّة ( من باب الأسباب ) ليس هو السببية المصطلحة التي هي مقابل الطريقية ، بل مراده من ذلك : ( عدم إناطتها )

ص: 364


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33362 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح20 .
4- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33354 .

بالظنّ الشخصي ، كما يظهر من صاحب المعالم رحمه اللّه في تقرير دليل الانسداد .

ثمّ المحكيّ عن جماعة ، بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ، أنّ التعادلّ إن وقع للمجتهد كان مخيّراً في عمل نفسه ، وإن وقع للمفتي لأجل الافتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي .

-------------------

أي : إناطة الحجيّة ( بالظنّ الشخصي ، كما يظهر ) اناطتها بالظن الشخصي ( من صاحب المعالم رحمه اللّه في تقرير دليل الانسداد ) وذلك على ما تقدّم نقله عنه ، فإنّ اعتبار الأمارات إن كان منوطاً بالظن الشخصي يعني : بأن يحصل للمكلّف منها ظناً شخصياً بالواقع ، فهو مناسب للطريقية المحضة ، ولذا لم يعمل بها اذا لم تفد وظن الشخصية بينما إذا كان منوطاً بالظن النوعي احتمل الأمران : السببية والطريقية ، ولذا يعمل بها وإن لم تفد الظن الشخصي .

( ثمّ ) أنّه ينبغي التنبيه على أمور مهمة في المقام ، وهي كالتالي :

الأمر الأوّل : هل التخيير يسري إلى المقلّد ام وظيفة المجتهد فقط ؟ ( المحكيّ عن جماعة ) منهم العلامة رحمه اللّه ( بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه : إنّ التعادل إن وقع للمجتهد ) في استنباطه بأن لم يكن في نظره مرجّح لهذا الطرف ولا لذاك الطرف ( كان مخيّراً في عمل نفسه ) وذلك بأن يعمل بمضمون هذا الخبر ، أومضمون ذلك الخبر .

( وأن وقع ) التعادل ( للمفتي لأجل الافتاء ) وبيان حكم الواقعة التي جاء فيها خبران متعارضان بالنسبة إلى مقلديه ، وأنهم كيف يعملون فيها ؟ ( فحكمه : أن يخيّر المستفتي ) في المسئلة ( فيتخيّر ) المقلّد ( في العمل كالمفتي ) فكما أن المجتهد يتخيّر في أن يعمل بما دلّ على وجوب الظهر أوأن يعمل بما دلّ

ص: 365

ووجهُ الأوّل واضح ، وأمّا وجهُ الثاني ، فلأنّ نصبَ الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها .

فإذا أثبت ذلك المجتهد جوازَ العمل لكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّدُ كالمجتهد .

-------------------

على وجوب الجمعة ، فكذلك المستفتي يتخيّر في أن يعمل بأيّهما شاء .

( ووجه الأوّل ) وهو تخيّر المجتهد في عمل نفسه ، فإنّه ( واضح ) وذلك لأنّ المجتهد عندما يتعارض عنده الخبران في مسئلة يصير فيها متحيِّراً بينهما ، وقد تقدّم أن الأخبار العلاجية تدل على أن التخيير إنّما هو للشخص المتحيّر الذي لم يقم عنده ترجيح في أحد الخبرين على الآخر .

( وأمّا وجه الثاني ) وهو تخيّر المقلّد فلما يلي :

أولا ً ( فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ) معاً ، فكما أن المجتهد يكون مخيّراً فكذلك المقلّد يكون مخيراً أيضاً ( إلاّ أن المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ) ومعرفة أنه ماذا يراد من هذا الحديث ، وماذا يراد من الحديث الآخر ، وأن السند صحيح أم لا، وأنه صدر تقية أو غير تقية ؟ ( ودفع موانعها ) من الوارد والحاكم والمخصص وغير ذلك من موانع الأدلة ( فإذا أثبت ذلك المجتهد ) و « ذلك » اشارة الى المجتهد المتحيّر الذي حكم بالتخيير لنفسه ( جواز العمل لكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلِّد والمجتهد ) فإن الأحكام لا فرق فيها بين المجتهد والمقلِّد ( تخيّر المقلّد ) في العمل بأي الخبرين أيضاً ( كالمجتهد ) لاشتراك التكليف بينهما .

ص: 366

ولأنّ إيجابَ مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريعٌ ، ويحتمل أن يكون التخييرُ للمفتي ، فيفتي بما اختار ، لأنّه حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد ، ولا يقاسُ هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه - وهو البناء على الحالة السابقة -

-------------------

ثانياً : ( ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد ) وذلك بأن يفتي المجتهد - مثلاً - بوجوب الظهر لمقلّده ، أوبوجوب الجمعة عليه : فيما إذا دلّ خبران : أحدهما على وجوب الظهر ، والآخر على وجوب الجمعة ، فإنّ إيجابه هذا ممّا ( لم يقم عليه دليل ، فهو ) أي : ايجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد بلا دليل ( تشريع ) محرّم بالأدلة الأربعة .

هذا ( و ) لكن ( يحتمل أن يكون التخيير للمفتي ) فقط ، فهو يختار أحد المتعارضين ، فإذا اختار وجوب الظهر - مثلاً - ( فيفتي بما اختار ) لمقلّده ، وذلك ( لأنّه ) أي : التخيير ( حكم للمتحيّر ، وهو ) أي : المتحيّر ( المجتهد ) فقط لا المقلّد ، لأنّ المقلّد لا يعرف التعارض وغير ذلك حتى يتخيّر .

إن قلت : إن التخيير أصل كالاستصحاب ، وكما أن الاستصحاب مشترك بين المجتهد والمقلد ، فكذلك التخيير .

قلت : ( ولا يقاس هذا ) الذي نحن فيه من التخيير في باب الأخبار المتعارضة ( بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ) فإنّه إذا شك المجتهد في زوال نجاسة الماء بزوال تغيره من نفسه - مثلاً - يستصحب الحالة السابقة في علمه ، ويفتي بذلك الاستصحاب لمقلّده أيضاً ، وذلك كما قال : ( مع أن حكمه ) أي : حكم الشك ( وهو البناء على الحالة السابقة ) المسمى بالاستصحاب

ص: 367

مشتركٌ بينه وبين المقلّد .

لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك .

والتخيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ، لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما

-------------------

( مشتركٌ بينه وبين المقلّد ) فكذلك يكون التخيير مشتركا بينهما أيضاً .

وإنّما لا يقاس ما نحن فيه بالاستصحاب ( لأنّ الشكّ هناك ) في مورد الاستصحاب ( في نفس الحكم الفرعي المشترك ) بين المجتهد والمقلّد فكما أن المجتهد يشك في زوال نجاسة الماء إذا زال تغيّره من نفسه - مثلاً - فكذلك المقلّد يشك فيه أيضاً ( و ) هذا الشك المشترك بين المجتهد والمقلّد ( له حكم مشترك ) بين المجتهد والمقلّد أيضاً وهو الاستصحاب .

( و ) لكن ( التخيّر هنا ) في باب تعارض الأدلة وأخبار العلاج ليس في نفس الحكم ، بل ( في الطريق إلى الحكم ) وما كان في طريق الحكم - وهو التحيّر - فهو مختص بالمجتهد ( فعلاجه ) أي : علاج التخيّر ( بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ) الذي هو المجتهد أيضاً ، فيختار هو أحدهما ، ويفتي بما اختاره لمقلده ، لا أنه يفتي لمقلده بأنه مخيّر أن يعمل بهذا أوذاك .

( كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ) أي : بالمجتهد أيضاً ( فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ، لأنّه ) أي : المقلّد ( أخبر وأعرف به ) من المجتهد ، فلو عرّف المقلّد - مثلاً - بأن زيداً أعدل من عمرووقد روى زيد وعمروحديثين متعارضين عن الأئمة عليهم السلام ( مع تساويهما ) أي :

ص: 368

عند المجتهد ، أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرةَ بنظر المقلّد .

وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية .

فالعبرة بتخيّر المجتهد ، لا تخيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر ،

-------------------

تساوي هذين الراويين ( عند المجتهد ، أوانعكاس الأمر عنده ) بأن يرى المجتهد أن زيداً أعدل من عمرو، مع تساويهما عند المقلّد ( فلا عبرة بنظر المقلّد ) لأنّ المجتهد هو المأمور بالاجتهاد والأخذ بالأوثق والأعدل فيأخذ بالأعدل والأوثق عنده ويُفتي على طبقه ، ويجب على المقلّد إطاعته .

( وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية ) ممّا يورث التخيّر للمجتهد وللمقلّد معاً ، كما لو قال لغوي : بأنّ الغناء هو الصوت المطرب ، وقال لغوي آخر بأنه الصوت المرجّع فيه ( فالعبرة بتخيّر المجتهد ، لا تخيّر المقلّد ) فإنّ المجتهد هو الذي يتخيّر ( بين حكم يتفرّع على أحد القولين ) مثل تفرّع حرمة الصوت المرجّع فيه ، على القول بأنّ الغناء هو الصوت المرجّع فيه ( و ) بين حكم ( آخر يتفرّع على ) القول ( الآخر ) مثل تفرّع حرمة الصوت المطرب على القول بأنّ الغناء هو الصوت المطرب .

وعليه : فإن الافتاء من شأن المجتهد ، وهو الذي يختار أحد القولين ويفتي بحسبه ، فيقول : إنّ الصوت الفلاني حرام ، وأنّ الصوت الفلاني ليس بحرام ، وليس من شأن المقلّد ذلك ، فلا يحّق له أن يتدخل ويقول : إني أرى عدم التساوي - مثلاً - بين قول اللغويين فأرى تقديم ما ذكره « المصباح المنير » على ماذكره صاحب « القاموس » ، وهكذا وحينئذٍ فإنّه حيث كان الأمر منوطاً باجتهاد المجتهد في هذين البابين ، فكذلك يكون الأمر منوطاً باجتهاد المجتهد

ص: 369

والمسألة محتاجةٌ إلى التأمل ، وإن كان وجه المشهور أقوى ، هذا حكم المفتي ، وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهرُ - كما عن جماعة - أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به .

-------------------

في إختياره أحد الخبرين .

هذا ( و ) لكن ( المسألة محتاجةٌ الى التأمل ، وإن كان وجه المشهور ) هو : إفتاء المجتهد بتخيير المقلد كالتخيير لنفسه ، يكون ( أقوى ) وذلك لأنّ المجتهد نائب عن المقلّد ، فأنّ المقلّد لمّا لم يتمكن من الاستنباط استناب عنه المجتهد ، فرأي المجتهد يكون حجّة على المقلّد ولذا كان المجتهد مخيّراً ، فكذلك يكون المقلّد مخيّراً ، اضافة إلى أن الزام المجتهد ، المقلّد بأحد الخبرين لم يدل عليه دليل ؛ ولايخفى : أنه لايلزم على المقلّد في مورد التخيير أن يطابق المجتهد في العمل ، فإذا اختار المجتهد في عمله التخييري الجمعة تمكن المقلّد أن يختار الظهر ، كما أنه لايلزم أن يكون مورد التخيير ممّا عمل به المجتهد ، فإذا كان مورد التخيير - مثلاً - في مسألة من مسائل الحج ولم يستطع المجتهد للحج حتى يختار في تلك المسئلة ، فإنّه مع ذلك يجوز لكل مقلّد من مقلّديه أن يعمل بأحد طرفي التخيير .

( هذا حكم المفتي ، وأمّا الحاكم والقاضي ) علماً بأنهما من قبيل ما إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا ، ولعل الفرق بينهما إذا اجتمعا كما فيما نحن فيه هو : أن الحاكم مَن يحكم البلاد ، كمالك الأشتر في زمان الإمام علي عليه السلام فلا يطلق عليه القاضي ، بينما القاضي مَن كان يفصل بين المترافعين كشريح مثلاً في زمانه عليه السلام فلا يطلق عليه الحاكم إلاّ بنحو من التوسع .

وكيف كان :(فالظاهر - كما عن جماعة - ) من الفقهاء ( أنّه يتخيّر أحدهما ) أي : أحد الخبرين ( فيقضي به ) لا أنه يقول بالتخيير ، لانّ التخيير لا يرفع الخصومة ،

ص: 370

لأنّ القضاء والحكم عمل له لا لغيره ، فهو المخيّر ، ولما عن بعض : من أنّ تخيّر المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة ، ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكمُ على طبق الاُخرى في واقعة اُخرى ؟ .

-------------------

ولا يحسم المشكلة ، وذلك لما يلي :

أولاً : ( لأنّ القضاء ) بالنسبة الى القاضيبين الناس في الخصومات والمنازعات وما أشبه ذلك ( والحكم ) بالنسبة الى حاكم البلاد فيما إذا رأى مصلحة الأمة في أن يحكم بجهاد الأعداء أوبعدم الجهاد أوما أشبه ذلك ( عمل له ) أي : للحاكم والقاضي ( لا لغيره ) من المتنازعين ، والأمّة ، وحينئذ ( فهو المخيّر ) بين أن يأخذ بهذا الخبر أوبذاك الخبر ، دون غيره .

ثانياً : ( ولما عن بعض ) الفقهاء : ( من أنّ تخيّر المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة ) كما أن تخيّر الأمّة في الجهاد ونحوه لايحسم المشكلة ، نعم إذا أمكن رفع الخصومة وحسم المشكلة بالتخيير ، جاز للقاضي والحاكم الأمر به ، فلو تنازع الى القاضي - مثلاً - اثنان وكلّ منهما يدّعي أنّه هو المتولّي للوقف المعيّن ؟ فإنّ له أن يخيّرهما في أن يتولاّه واحد منهما ، أويقول لهما بأن يختارا بينهما تولّي شئون الوقف كل واحد منهما ستة أشهر - مثلاً - أوما أشبه ذلك ( و ) هكذا في بقية المسائل المشابهة ، فانه لامجال هنا للتفصيل أكثر من ذلك .

الأمر الثاني : هل التخيير استمراري أوابتدائي فقط ؟ فإنه ( لو حكم ) المجتهد أوالقاضي أوالحاكم ( على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق ) الأمارة ( الآخرى في واقعة اخرى ) حتى يكون التخيير استمرارياً ، أويكون التخيير ابتدائياً ، فإذا حكم بحكم يجب عليه أن يحكم بمثل ذلك الحكم في الواقعة الثانية والثالثة وهكذا ؟ .

ص: 371

المحكيّ عن العّلامة رحمه اللّه وغيره : الجوازُ ، بل حكي نسبته إلى المحقّقين ، لما عن النهاية من : « أنّه ليس في العقل ما يدّل على خلاف ذلك » .

ولا يستبعد وقوعه ، كما لو تغيّر اجتهاده ، إلاّ أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال لأبي بكر : « لا تَقضِ فِي الشئالواحدِ بحكمين مُختلفين » .

-------------------

( المحكي عن العلامة رحمه اللّه وغيره : الجواز ، بل حكي نسبته الى المحققين ، لما عن النهاية ) أي : نهاية الاحكام للعلامة وهو كتاب أصولي ( من أنه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ) وذلك لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، أمّا المقتضي : فللتخيير الوارد في الروايات ، وأمّا المانع : فلأنه لا يُتصور مانعاً إذا التزم المكلّف عند كل واقعة بحكم ظاهري ، كما أنه لم يقيّد الإمام عليه السلام التخيير بالابتدائي ، فيكون تخييراً استمرارياً .

هنا ( ولا يستبعد وقوعه ) بأن يكون تخييراً استمرارياً لوجود شبهه في الشريعة ، وذلك ( كما لو تغيّر اجتهاده ) أي : اجتهاد المجتهد ، فإنّه يعمل في الزمان الأوّل باجتهاده الأوّل ، وفي الزمان الثاني باجتهاده الثاني دون أن يقال فيه : أنه يقبح أحد الاجتهادين لأنه يخالف الواقع .

نعم ، (إلاّ أن يدلّ دليل شرعيّ خارج) عن أخبار العلاج - مثلاً - (على عدم جوازه، كما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال لابي بكر: «لا تقض في الشئالواحد بحكمين مختلفين (1)») فإنّ هذه الرواية على تقدير صحتها سنداً غير وافية الدلالة على ما نحن فيه ، وذلك لأنّ ظاهرها : النهي عن القضاء في قضية واحدة شخصية بحكمين مختلفين ، مثل أن يقول مرة: هند زوجة زيد ، وأخرى : هند ليست

ص: 372


1- - النهاية : مخطوط .

أقول : يشكل الجوازُ لعدم الدليل عليه ، لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما .

وأمّا العقلُ الحاكمُ بعدم جواز طرح كليهما ، فهو ساكتٌ من هذه الجهة .

-------------------

زوجة زيد ، أوأن يقول تارة : أنّ هذا الوقف متوليه زيد ، ويقول أخرى أن متولّية عمرو .

( أقول : ) الظاهر : هو ما ذكره المشهور من كون التخيير استمرارياً ، لكن المصنّف رحمه اللّه لم يرتض ذلك ، بل يرى التخيير ابتدائياً ، ولذلك قال : ( يشكل الجوازُ لعدم الدليل عليه ) أي : على جواز التخيير الاستمراري ، وذلك ( لأنّ دليل التخيير إن كان ) هو : ( الأخبار الدالّة عليه ) أي : على التخيير ( فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها ) أي : في هذه الأخبار ( بالنسبة الى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما ) ولكن لا يخفى : أنه لو كان الأمر كذلك على ما يقوله المصنّف ، لكان اللازم على الإمام عليه السلام التنبيه عليه ، فعدم التنبيه دليل العدم ، فإنّ كون التخيير هو تكليف المتحيّر ابتداءاً لااستمراراً ، تقييد من غير مقيّد .

هذا إن كان دليل التخيير : الأخبّار ( وأمّا ) إن كان دليل التخيير : ( العقل الحاكمُ

بعدم جواز طرح كليهما ) لأنّ أحدهما مطابق للواقع ( فهو ساكتٌ من هذه الجهة ) أي : من جهة كون التخيير ابتدائياً أوإستمرارياً ، فإنّ العقل بعد إطلاعه على أن الحكم الواقعي ينحصر في هذين الخبرين ، يحكم بأنه لايجوز طرح كليهما ، وأما أنّه يجوز الأخذ بالثاني بعد أخذه بالأول أم لا في واقعة ثانية ، فلا دلالة للعقل عليه .

ص: 373

والأصلُ عدمُ حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله .

نعم ، لو كان الحكمُ بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمرارَهُ ، لأنّ المقتضي له في السابق موجودٌ بعينه .

بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين ،

-------------------

( و ) إن قلت : إن المكلّف الذي أخذ بأحد الخبرين في الواقعة الاولى ، يشك في جواز أخذه بالآخر في واقعة ثانية ، فيكون أمره دائراً ما بين التعيين والتخيير ، وقد تقدّم : أن الأصل في دوران الأمر بينهما هو التخيير ، فيكون التخيير استمرارياً .

قلت : ( الأصل عدم حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد الى مثله ) فانّ المشهور بين الفقهاء المتأخرين هو : عدم جواز استمرار التخيير في العدول من فتوى مجتهد الى مجتهد آخر ، وذلك لأنّهم يقولون بأصالة عدم حجيّة فتوى المجتهد الآخر بعد الأخذ بفتوى المجتهد الأوّل ومثل هذا الدليل جارٍ في المقام أيضاً .

( نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام ) أي : في مقام تعارض الخبرين ( من باب ) السببية كما في ( تزاحم الواجبين ) حيث يكون الملاك في كل منهما تاماً ، والتخيير بينهما تخييراً واقعياً ، كما في مورد انقاذ الغريقين ( كان الأقوى استمراره ) أي : استمرار التخيير ، وذلك ، ( لأنّ المقتضي له ) أي : للتخيير وهو تزاحم المصلحتين كان موجوداً ( في السابق ) أي : قبل الأخذ بأحدهما ، وهو الآن ( موجودٌ بعينه ) في اللاحق .

( بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين ) كما فيما نحن فيه ،

ص: 374

فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعي ، فتأمّل .

واستصحابُ التخيير غيرُ جارٍ ، لأنّ الثابت سابقاً ثبوت الاختيار

-------------------

إذ قد عرفت : أن دليل التخيير هنا إما الأخبار وإما العقل ، وأيّ منهما لايدل على الاستمرار بنظر المصنّف ، إضافة إلى أنه بناءاً على الطريقية لايكون الطريق إلاّ أحدهما ، فإذا التزم أحدهما ( فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ) كما أن أصل عدم حجيّة الآخر بعد الأخذ بأحدهما مؤيد لهذا الاحتمال ، فيكون التخيير الظاهري تخييراً ابتدائياً فقط .

وهذا ( بخلاف التخيير الواقعي ) في باب تزاحم المصلحتين كما في إنقاذ الغريقين ، أوفي الخبرين المتعارضين بناءاً على السببية ، حيث يكون لكل منهما ملاك تام ، فلا فرق بين أن يلتزم بأحدهما أوّلاً ، ثم يلتزم بالآخر ثانياً ، إذ لايجري هنا أصل عدم حجيّة الآخر بعد الأخذ بالأوّل ، فإذا غرق زيد وعمرو- مثلاً - فأنقذ زيداً ، ثم غرقا مرة ثانية - فرضاً - كان له أن ينقذ عمرواً ، وذلك لوجود الملاك التام في كل منهما ، ومعه يكون التخيير الواقعي تخييراً استمرارياً أبداً .

( فتأمل ) فإنّه حتى بناءا على الطريقية يمكن القول بالاستمرار أيضاً ، وذلك لأنّ ملاك حكم العقل بالتخيير هو تعارض الطريقين ، وهذا موجود في كل واقعة أوّلاً ، وثانياً ، وثالثاً ، وهكذا ، ممّا يدل على استمرار التخيير حتى على الطريقية ، ولعل هذا هو الأقرب .

( و ) إن قلت : نستصحب التخيير عند الشك في الواقعة الثانية ، وذلك لأنّ التخيير كان سابقاً في الواقعة الاولى متيّقناً ، وعند الشك فيه في الواقعة الثانية نستصحبه .

قلت : ( استصحاب التخيير غيرُ جارٍ ، لأن الثابت سابقاً ثبوت الاختيار

ص: 375

لمن لم يتخيّر ، فإثباتُه لمن اختار والتزم ، إثباتٌ للحكم في غير موضعه الأوّل .

وبعض المعاصرين استجود هنا كلام العلامة ، مع أنّه منع من العدول عن أمارة إلى اُخرى وعن مجتهد إلى آخر ، فتدبّر .

-------------------

لمن لم يتخيّر ) والمفروض أنه قد تخيّر في الواقعة الاولى وخرج بذلك عن التخيّر ، فالموضوع متبدّل في الواقعة الثانية ، ومعه لااستصحاب كما قال : ( فإثباته ) أي : اثبات التخيير ( لمن اختار والتزم ) بأحد الطرفين ( إثباتٌ للحكم في غير موضعه الأوّل ، و) معه لا تتم أركان الاستصحاب ، ولذا لايصح استصحابه.

هذا ، ولكن ( بعض المعاصرين استجود هنا ) أي : في تعارض الخبرين ( كلام العلاّمة ) الظاهر في استمرار التخيير ، ولَعلَّ مستند كلامه هو : اطلاق أخبار التخيير ، حيث أنّ الاخبار غير مقيّدة للتخيير بالواقعة الأولى وغيرها ( مع أنّه منع من العدول عن أمارة الى أخرى ) في غير الخبرين ، كما اذا تعارض أهل الخبرة في التقويم وما أشبه ذلك ، فإنّه منع من العُدول الى الآخر بعد الأخذ بأحدهما ، كما ( و ) منع أيضاً من العدول ( عن مجتهد الى آخر ) بعد الأخذ بفتوى أحدهما وإن كانا متساويين من جميع الحيثيات ، وأشكل المصنّف على هذا المعاصر : بأنّهُ إن كان التخيير استمرارياً لزم أن يكون في كل الموارد الثلاثة ، فلماذا التفصيل بينها ؟ .

( فتدبّر ) ولعله اشارة الى أن مقتضى القاعدة هو : استمرار التخيير في كل الموارد الثلاثة ، إلاّ إذا كان دليل من الخارج على كون التخيير فيها جميعاً أوفي بعضها ابتدائياً ، وحينئذ فللمعاصر أن يقول : أن التخيير في الموردين الأخيرين ممّا دلّ الدليل من الخارج على عدم استمراريته ، وأما التخيير في باب

ص: 376

ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ، كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال وجب التوقف .

-------------------

المتعارضين من الروايات فاطلاق أخبار التخيير محكّم ممّا يدل على استمراريته .

الأمر الثالث : هل حكم التعارض في الأخبار وهو التخيير يجري في بقيّة الأمارات المنصوبة في الأحكام كالاجماع وفي الأمارات المنصوبة في غير الأحكام كالبينة ؟ قال المصنّف ( ثمّ إنّ حكم التعادل ) المذكور في الاخبار وهو التخيير لايجري في بقية الأمارات المنصوبة في الأحكام كالاجماع ، ولا ( في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ) كالبينة إذا تعارضت - مثلاً - في الوقت أوالقبلة ، أوالهلال أوالطهارة ، أوفي موارد التنازع والتداعي أوالحدود والديات ، أوما أشبه ( كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ) بل التعادل فيها والتعارض بينها ( وجب التوقف ) فيها ، لأنه لادليل على إعمال التراجيح ولا على التخيير بينها ، لإختصاص الأخبار العلاجية بتعارض الأخبار ، دون تعارض الاجماعين أوالبينتين أوغير ذلك .

مثلاً : إذا قام أربعة شهود على أن الزاني زيد بن بكر ، وقام أربعة شهود اُخر على أن الزاني في نفس الوقت وبنفس الخصوصيات زيد بن خالد ، لم يقدِّم الحاكم احداهما على الاُخرى ، ببعض المرجّحات كالأصدقية والأوثقية والأعدلية ، ولا يتخيّر بينهما ، كما أن الأمر كذلك بالنسبة الى الوقت ، والقبلة ، والهلال أوغيرها ، وهذا فيما إذا كان كلاهما شهود اثبات ، لا أن يقول أحدهما : انّي أعرف عدالة زيد ، ويقول الآخر : انّي لا أعرف عدالته ، فإنّه إن رجع اختلافهما الى العلم وعدم العلم كان العلم مقدّماً على عدم العلم ، لكن إذا لم يرجع اختلافهما الى ذلك حصل التعارض بينهما ، كما لو كان اختلافهما بين العلم بهذا الضد

ص: 377

لأنّ الظاهرَ اعتبارُها من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة وإن لم يكن منوطاً بالظن الفعلي .

-------------------

والعلم بضده الآخر ، أوالعلم بهذا النقيض والعلم بنقيضه الآخر ، وكذلك الحال في قول أهل اللغة ، كما إذا قال المصباح - مثلاً - : إنّ الغناء هو الصوت المرجّع فيه ،

وقال القاموس : إن الغناء هو الصوت المطرب .

وإنّما قلنا بعدم الترجيح وكذلك عدم التخيير في بقية الأمارات المتعارضة غير الأخبار ( لأنّ الظاهر إعتبارُها ) أي : اعتبار سائر الأمارات ( من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة ) وقد سبق : أنّ بناء العقلاء في الطريقين المتعارضين إنّما هو على عدم العمل بهما وتساقطهما بالتعارض .

ثم لا يخفى : أن تقييد المصنّف السببيّة هنا ب- « المحضة » اشارة الى أن السببية على قسمين : إما محضة بأن يكون المقصود لادراك مصلحة العمل بالأمارة فقط ، وأما منضمة إلى الطريقية بأن يكون المقصود لأدراك مصلحة العمل بالأمارة والواقع معاً ، كما أن الطريقية كذلك أيضاً ، فإنّها إمّا أن تكون طريقاً محضاً بأن يكون المقصود : درك مصلحة الواقع فقط من غير مدخليّة للأمارة وإمّا أن يكون منضماً الى السببية ، بأن يكون المقصود : درك مصلحة الواقع مع مصلحة العمل بالأمارة .

وعليه : فالظاهر أن اعتبار سائر الأمارات - غير الخبر - إنّما هو من باب الطريقية حتى ( وإن لم يكن ) كل منها ( منوطاً بالظن الفعلي ) بل بالظنّ النوعي يعني : أنه لو كان اعتبار هذه الأمارات منوطاً بالظن الفعلي كان ذلك - على ما سبق - أظهر في كونها من باب الطريقية المحضة ، بمعنى كون المقصود منها درك مصلحة الواقع فقط ، غير أن حجيّة تلك الأمارات ، مع أنها لم تكن منوطة بالظن الفعلي بل منوطة

ص: 378

وقد عرفت : أنّ الّلازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّفُ والرجوعُ إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام .

إلاّ أنّه إن جعلنا الأصلَ من المرجّحات - كما هو المشهور ، وسيجيء - لم يتحقّق التعادلُ بين الأمارتين إلاّ بعد عدم موافقة شئمنها للأصل .

-------------------

بالظن النوعي المحتمل للطريقية والسببية لا السببية المحضة ، لو تعارضت أوجب التعارض فيها التساقط ، وإذا تساقطت الأمارتان وجب الرجوع إلى الأصل في المسألة .

هذا ( وقد عرفت : أنّ اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل ) أي : من قبيل المتعارضين الذين ليسا من باب التزاحم كالغريقين ، بل من باب الطريقية كقول اللغويَّين هو ( التوقّف والرجوع الى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام ) من استصحاب وغيره ، فلو ادعى أحد اللغويين : أنّ فعل الأمر - مثلاً - وضع للوجوب ، وادّعى الآخر : أنه مشترك بين الوجوب والندب ، كان الأصل عدم الاشتراك ، لأنه شئزائد ، وأمّا لو ادّعى أحدهما : أنّ فعل الأمر وضع للوجوب ، وادّعى الآخر : أنه وضع للندب ، فانهما يتعارضان ويتساقطان ، فإذا لم يكن أصل في المسألة الأصولية ، يُتمسك بالأصل في المسألة الفرعية ، يعني : أصالة عدم الوجوب .

( إلاّ أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات - كما هو المشهور ، وسيجيء - ) انشاء اللّه تعالى الكلام في أن الأصل هو مرجّح ، أومرجع بعد التعارض والتساقط ؟ فإن كان مرجّحاً ( لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلاّ بعد عدم موافقة شئمنها للأصل ) لفرض أنه لو وافق الأصل شيئاً منها ، لزم تقديم الأماراة الموافقة للأصل ،

ص: 379

والمفروضُ : عدمُ جواز الرجوع إلى الثالث ، لأنّه طرحٌ للأمارتين ، فالأصل الذي يُرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو الصعيد أو الجذع من الشاة في الاُضحية ، فإنّه يُرجَعُ إلى الأصل في المسألة

-------------------

وهو خروج عن التعادل والتعارض .

إن قلت : على فرض التعادل وعدم موافقة الأصل لشئمنها ، نرجع الى الثالث ونحكم طبقه .

قلت : ( والمفروض : عدم جواز الرجوع الى الثالث ) لأنّ الأمارتين المتعارضتين ، وإن لم يمكن الأخذ بمضمون أحداهما لتعارضهما ، لكنّهما ينفيان الشئالثالث بالدلالة الالتزامية كما سبق .

وإنّما لايجوز الرجوع الى الثالث ( لأنّه طرحٌ للأمارتين ) في مدلولهما الالتزامي ، ومن الواضح : أن المدلول الالتزامي لاتعارض بينهما فيه .

وحينئذ : ( فالأصل الذي يُرجع إليه ) بعد التوقف ( هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ) لأنّه حيث لا أصل في المسألة الأصولية ، لذا يجب الرجوع إلى الأصل في المسألة الفرعية .

وأما مثال ذلك فهو ( كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء ) بأن قال أحدهم أنه الصوت المطرب ، وقال الآخر : أنه الصوت المرجّع فيه ( أو الصعيد ) حيث قال أحدهم : هو مطلق وجه الأرض ، وقال الآخر ؛ هو خصوص التراب ( أو الجذع من الشاة في الاُضحية ) بأن قال أحدهم : هو ماله ستة أشهر ، وقال الآخر : هو ماله سبعة أشهر ، وهكذا ( فإنّه يُرجَعُ إلى الأصل في المسألة

ص: 380

الفرعيّة .

بقي هنا ما يجب التنبيهُ عليه خاتمةً للتخيير ومقدّمةً للترجيح ، وهو أنّ الرجوعَ إلى التخيير غير جارٍ ، إلاّ بعد الفحص التامّ عن المرجّحات .

لأنّ مأخذَ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدمَ إمكان الجمع في العمل لايوجبُ إلاّ طرحَ البعض ، فهو لايستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلاّ بعد عدم مزيّة

-------------------

الفرعيّة ) فيرجع - مثلاً- إلى البرائة في الصوت غير الجامع للوصفين ، لأنّا لانعلم صدق الغناء عليه ، ويرجع الى الاحتياط فيغير التراب ، لانّا لانعلم صدق الصعيد عليه ، كما يرجع إلى الاحتياط فيما ليس له سبعة أشهر ، لأنّا لانعلم صدق الجذع عليه ، والكلام في المقام طويل نكتفي منه بما يوضح المتن ، كما هو دأب هذا الكتاب ، اللّهم إلاّ في نادر خرج من الأصل لجهة من الجهات .

الأمر الرابع : هل الرجوع الى التخيير مشروط بالفحص واليأس عن المرجحات أم لا ؟ قال المصنِّف ( بقي هنا ما يجب التنبيه عليه ) ليكون ( خاتمةً للتخيير ومقدّمةً للترجيح ، وهو : أنّ الرجوع الى التخيير غير جارٍ ، إلاّ بعد الفحص التامّ عن المرجّحات ) بحيث يطمئن الانسان الى أنه لا مرجح فلا يلزم القطع ، كما انه لايكتفى بما هو دون الاطمينان .

وإنّما لايجري التخيير إلاّ بعد الفحص واليأس ( لأنّ مأخذَ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لايوجبُ إلاّ طرح البعض ) لا طرح كليهما ( فهو ) أي : العقل هنا ( لايستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح ) أي : في ما يُطرح من أحد المتعارضين وما يُؤخذ من أحد المتعارضين ( إلاّ بعد عدم مزيّة

ص: 381

في أحدهما اعتبر الشارعُ في العمل ، والحكمُ بعدمها لايمكنُ إلاّ بعد القطع بالعدم ، أو الظنّ المعتبر .

أو إجراء أصالة العدم التي لاتعبر فيما له دخلٌ في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلاّ بعد الفحص التامّ ، مع أنّ أصالة العدم ، لايجدي في استقلال العقل بالتخيير ،

-------------------

في أحدهما ) على الآخر مزيّة ( اعتبر الشارع في العمل ) بالترجيح ، عدمها من شهرة وغيرها ( و ) من المعلوم : أن ( الحكم بعدمها ) أي : بعدم تلك المزية ( لايمكن إلاّ بعد ) فحص يوجب ( القطع بالعدم ، أو الظنّ المعتبر ) العقلائي وهو ما يبلغ درجة الاطمينان العرفي ، أمّا الظن الذي لم يبلغ مرتبة الاطمينان ، فليس بمعتبر لاشرعاً ولاعرفاً .

والحاصل : أنّ الشارع اعتبر في تعارض الخبرين مزايا ومرجّحات للعمل بأحدهما ، فلا يحكم بالتخيير إلاّ بعد احراز عدم المزية ، وانكشاف عدم المزية لايكون إلاّ بالقطع : أو بالظن المعتبر ( أوإجراء أصالة العدم ) لكن أصالة العدم لاتجري هنا لأنّها هي ( التي لا تعبّر فيما له دخلٌ في الأحكام الشرعيّة الكلّية ) كتعارض الخبرين ( إلاّ بعد الفحص التامّ ) ومعلوم : أن الفحص التام عن المرجّحات واليأس منها لايحصل إلاّ بالقطع بالعدم ، أوبالظن المعتبر بالعدم ، فلا يكتفى بأصالة العدم ، لأنّ أصل العدم لا يلازم القطع أوالظن المعتبر ، هذا أوّلاً .

( مع أنّ أصالة العدم ، لا يجدي في استقلال العقل بالتخيير ) ثانياً ، وذلك لأنّ العقل لايستقل بحكم الاّ بعد إحاطته الكاملة بجميع ماله دخل في ذلك الحكم ، كما تقدّم بيان ذلك في بعض مباحث الكتاب ، ومن المعلوم : أنّ حكم العقل بالتخيير هنا في المتعارضين ، إنّما هو فيما إذا حصل القطع ، أوالاطمينان بعدم

ص: 382

كما لايخفى .

وإن كان مأخذُه الأخبارَ ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات وإن كان جوازَ الأخذ بالتخيير ابتداءً ، إلاّ أنّه يكفي في تقييدها

-------------------

المرجّح ، ولايحصل شئمنهما إلاّ بالفحص واليأس ، لا بأصالة العدم ، ومادام لم يحصل أحدهما ، لا يحكم العقل بالتخيير ( كما لايخفى ) ذلك بأقل تأمّل .

ثمّ إنّ هنا اشكالاً ثالثاً وهو : أنّ أصالة العدم هنا يكون مثبتاً ، وذلك لأنّا بأصالة العدم يزيد إثبات التكافؤ ، حتى يكون موضوعاً للتخيير ، وهو أثرٌ عقلي لا شرعي، فيكون مثبتاً ، والأصل المثبت غير حجه على ما سبق .

هذا إن كان مأخذ التخيير ومدركه هو العقل ( وإن كان مأخذه ) أي : مأخذ التخيير ومدركه هو ( الأخبار ) العلاجية ( فالمترائى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات ) حيث أن بعض تلك الأخبار ساكتة عن المرجّحات ، وإنّما أمرت بالتخيير ابتداءاً ، مثل رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا عليه السلام قال : « فقلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين متنافيين ، فلا نعلم أيهما الحق ؟ فقال عليه السلام : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيهما أخذت » (1) ومثل قول الإمام الحجّة صلوات اللّه عليه في حديث جاء فيه : «...وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » (2) .

وعليه : فانّ المترائي من أخبار العلاج ( وان كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداءاً ) من دون ملاحظة المرجّحات ( إلاّ انّه يكفي في تقييدها ) أي : تقييد تلك الأخبار

ص: 383


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .
2- - الاحتجاج : ص483 ، الغيبة للطوسي : ص378 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372.

دلالةُ بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينهما .

-------------------

المطلقة ( دلالة بعضها الآخر ) أي : بعض أخبار العلاج الدالّة ( على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ) كالترجيح بموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، أوالأوثقية ، والأعدلية ، أوما أشبه ذلك ( المتوقّف ) ذلك الوجوب ( على الفحص عنها ) أي : عن المرجحات ، فإنّه بعد ما ألزم الشارع الترجيح بأمور مذكورة في الروايات ، لايتمكن الانسان أن يقول بالتخيير ، إلاّ بعد أن يفحص عن تلك المرجّحات ، فإن لم يجدها ، فانّه حينئذ يتمكنّ من التخيير بين المتعارضين، وبدون الفحص لايحصل الاطمينان بعدم وجود شئمن تلك المرجّحات .

إذن : فدلالة بعض أخبار العلاج على الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة ، كافية لتقييد المطلقة منها ( المتمَّمة ) بصيغة المفعول وهي صفة لقوله : « دلالة بعضها الآخر » ( فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة ) تتميماً ( بعدم القول بالفصل بينهما ) أي : بين المرجّحات ، فإنّ من يقول بوجوب الترجيح يقول به في كلّ مرجّح معتبر ، سواء كان منصوصاً أم غير منصوص ، وذلك يستلزم الفحص عن المرجّحات المعتبرة مطلقاً ، المنصوصة وغيرها ، فإذا يئس عن وجود مرجّح في أيّ طرف من المتعارضين عمل بالتخيير ، وإنّ من لايقول بوجوب الترجيح لايقول به مطلقاً منصوصة كانت أم غير منصوصة ، فليس هناك من يقول بالفصل بين المرجّحات بقبول بعض دون بعض ، وحينئذ فمن أوجب الترجيح أوجب الفحص عن كل مرجّح مطلقاً ، ومن لم يوجب الترجيح

ص: 384

هذا ، مضافاً إلى لزوم الهرج والمرج ، نظيرُ ما يلزم من العمل بالاُصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص .

هذا ، مضافاً إلى الاجماع القطعي ، بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ، فإنّ الخلاف وإن

-------------------

لم يوجب الفحص مطلقاً .

( هذا ) كله كان هو الدليل الأوّل على وجوب الفحص عن المرجّحات ، فإنّه بعد الفحص عنها واليأس منها يكون الحكم التخيير .

الدليل الثاني على وجوب الفحص واليأس هو قوله : ( مضافاً إلى لزوم الهرج والمرج ، نظيرُ ما يلزم من ) الهرج والمرج لو كان ( العمل بالأُصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص ) .

علماً بأنّ في الهرج والمرج إشارة إلى حدوث الاختلاف والفوضى ، والفتنة والفساد في أمور الفقه والدين ، فإنّه إنّما يلزم الهرج والمرج إذا لم يفحص عن المرجّح إلى حدّ القطع بالعدم ، أو الأطمينان بالعدم ، لأنه لو اقتصر على المرجّحات المعلومة ولم يبذل الجهد في الفحص الدقيق عنها إلى حد القطع ، أو الاطمينان بالعدم ، لزم إختلال أمر الاجتهاد بتعطيل أكثر المرجّحات ، والأخذ غالباً بالمرجوح بدل الأخذ بالراجح ، وإن يكون لكل مجتهدٍ فتوى في مقابل المجتهدٍ الآخر ، وغير ذلك .

الدليل الثالث: على وجوب الفحص عن المرجّحات حتى اليأس منها هو قوله: (هذا ، مضافاً إلى الاجماع القطعي) على وجوب الفحص (بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالرّاجح من الأمارتين) عند التعارض (فإنّ الخلاف وإن

ص: 385

وقع عن جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ، لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين .

إلاّ أنّ من أوجبَ العملَ بالراجح أوجبَ الفحصَ عنه ولم يجعله واجباً مشروطاً بالاطّلاع عليه .

وحينئذٍ : فيجبُ على المجتهد الفحصُ التامّ عن وجود المرجّح لاحدى الأمارتين .

-------------------

وقع عن جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ) وكان سبب إختلافهم أنّهم لايرون الظن - كالشهرة مثلاً - في أحد الطرفين موجباً لترجيح ذلك الطرف ، وذلك ( لعدم إعتبار الظنّ في أحد الطرفين ) عندهم ، فإنّ هؤلاء حيث لايرون الظنّ مرجّحاً قالوا بالتخيير ابتداءاً بدون الرجوع إلى المرجّحات لأنها ظنية .

( إلاّ أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص ) التام ( عنه ) أي : عن الراجح إلى حدّ القطع أوالاطمينان بالعدم ( ولم يجعله ) أي : العمل بالراجح ( واجباً مشروطاً بالاطّلاع عليه ) إتفاقاً ، حتى أنه لو اتفق له الاطلاع عليه عمل به ، وإلاّ لم يجب الفحص عنه .

( وحينئذ ) أي : حين قد عرفت أنّ العمل بالراجح لم يكن واجباً مشروطاً بالاطلاع عليه اتفاقاً ، بل هو واجب مطلق ، ولذلك قال : ( فيجب على المجتهد الفحص التامّ عن وجود المرجّح لاحدى الأمارتين ) فإن ظفر بالمرجّح عمل به ، وإن لم يظفر بالمرجّح أخذ بالتخيير .

هذا هو الكلام في المقام الأوّل يعني : في المتكافئين .

ص: 386

المقام الثاني : في التراجيح

اشارة

الترجيح تقديم احدى الأمارتين على الأخرى في العمل ، لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه ، وفيه مقامات :

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزية الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه .

الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة .

-------------------

( المقام الثاني : في التراجيح ) والترجيح إصطلاحاً : رجحان إحدى الأمارتين على الاخرى ، ولغة : ( الترجيح تقديم إحدى الأمارتين على الاُخرى في العمل ) لافي الحجيّة لأنّ المفروض تساويهما في الحجيّة ، فإنّ المتعارضين ، وإن كانا حجّة في أنفسهما ، إلاّ أنه إذا وجد في أحدهما ترجيح قُدّم ذو المرجّح ويعمل على طبقه .

وإنّما يُقدّم عملاً إحدى الأمارتين على الأخرى ( لمزيّة لها عليها ) أي : لمزّية في الأمارة ذات الترجيح ، على الأمارة التي لا ترجيح لها ، مزية ( بوجه من الوجوه ) الآتية المذكورة في الرّوايات وغيرها ( وفيه مقامات ) تالية :

المقام ( الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزية الداخليّة ) من حيث السند - مثلاً - والدلالة ( أو الخارجيّة ) من حيث الموافقة للكتاب أو المخالفة للعامة - مثلاً - ( الموجودة فيه ) أي في ذي المزيّة من الخبرين .

المقام ( الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة ) في هذا الشأن .

ص: 387

الثالث : في وجوب الاقتصار عليها ، أو التعدّي إلى غيرها .

الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجية .

أمّا المقام الأوّل :

فالمشهورُ فيه : وجوبُ الترجيح ، وحكي عن جماعة ، منهم الباقّلائي والجبّائيان ، عدمُ الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل .

ويدلُّ على المشهور - مضافاً إلى الاجماع المحقّق

-------------------

المقام ( الثالث : في وجوب الاقتصار عليها ، أو التعدّي إلى غيرها ) لكشف الجامع المشترك بينها ، يعني : هل أنّه يجب الاقتصار على المزايا المنصوصة في الرّوايات ، أو يجوز أن يتعدّى منها إلى كل مزية وإن لم تكن مذكورة في الروايات ؟ .

المقام ( الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة ) الشاملة للمذكورة في الرّوايات وفي غيرها ، وذلك فيما إذا جاز أن يتعدّى منها الى سائر المزايا التي لم تذكر في الرّوايات بسبب الملاك وتنقيح المناط .

( أمّا المقام الأوّل ) وهو وجوب الترجيح بالمزيّة ( فالمشهور فيه : وجوبُ الترجيح ) بالمزيّة إذا كانت في أحد الطرفين ( وحكي عن جماعة ، منهم الباقلائي والجبّائيان : عدم الاعتبار بالمزيّة ) إطلاقاً ، وإنّما يؤخذ بأحد الخبرين تخييراً وإن كان أحدهما ذا مزية ، وهذا هو معنى : قولهم ( وجريان حكم التعادل ) في كل خبرين متعارضين يعني : التخيير بينهما مطلقاً .

( ويدلُّ على المشهور ) الذي هو وجوب الترجيح بالمزيّة ( مضافاً الى الاجماع المحقّق ) أي : المحصّل ، فإنّا قد حصلنا الاجماع في المسألة من تتبّع

ص: 388

والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف .

وتواتر الأخبار بذلك - أنّ حكمَ المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معاً .

إمّا التخييرُ لو كانت الحجيّة من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإما التوقفُ لو كانت حجيّتها من باب الطريقية ، ومرجعُ التوقف أيضاً إلى التخيير

-------------------

الأقوال ( و ) مضافاً إلى ( السيرة القطعيّة ) أي : الاجماع العملي من المسلمين ، حيث أنّهم يرجّحون بالمزية بعض الروايات على بعضها ( و ) مضافاً إلى السيرة ( المحكيّة عن الخلف والسلف ) أي : سيرة المتأخرين من الفقهاء والمتقدمين منهم ، فإنّا تارة نجد السيرة بأنفسنا ، وتارة نحكي السيرة عن العلماء ، حيث أنهم نقلوا لنا وجود السيرة العملية على الترجيح ( و ) مضافاً إلى ( تواتر الأخبار بذلك ) أي : بوجوب الترجيح فإنّ الأخبار قد تواترت بترجيح بعض الروايات على بعض ، فإنّه مضافاً إلى ذلك كله يحكم العقل بالترجيح أيضاً .

وإنّما يحكم العقل بالترجيح أيضاً ، لأنه قال ويدل على المشهور مضافاً إلى كل ذلك ( أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معاً ) يعني : بعد أن عرفت أنهما لايسقطان بسبب المعارضة هو : ( إمّا التخيير لو كانت الحجيّة من باب الموضوعية والسببيّة ) بأن يكون حال الخبرين حال الغريقين ( وإما التوقف لو كانت حجيتها من باب الطريقية ، و ) ذلك بأن يكون المقصود منها درك مصلحة الواقع فقط ، علماً بأن ( مرجع التوقف أيضاً ) كالسببية ( إلى التخيير ) وذلك لما عرفت : من أنّ الدلالة الالتزامية باقية بالنسبة إلى الخبرين ، فينفى بها الثالث ، ومعنى نفي الثالث : أنه يعمل بهذا أو بذاك تخييراً .

ص: 389

إذا لم يُجعل الأصل من المرجّحات .

أو فرض الكلام في مخالفي الأصل ، إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما عن مورد التعادل ، فالحكمُ بالتخيير على تقدير فقده .

-------------------

هذا ( إذا لم يُجعل الأصل من المرجّحات ) أي : أنّ مرجع التوقف إلى التخيير إنّما هو إذا لم نجعل الأصل مرجّحاً ، وأما اذا جعلنا الأصل مرجّحاً وكان أحدهما مطابقاً للأصل كما في مسئلة غسل الجمعة ، فهو من الراجح والمرجوح لا من المتساويين .

( أو فرض الكلام في مخالفي الأصل ) كمسألة الظهر والجمعة ، فإنّه حيث لا أصل بينهما حتى يرجّح أحدهما على الآخر ، يكون المكلّف مخيّراً بين مضموني الخبرين بعد نفي الخبرين الثالث ، وقد تقدّم أنّ دلالة الخبرين الالتزامية باقية لعدم التعارض في الدلالة الالتزامية .

وإنّما يرجع التوقف إلى التخيير على فرض عدم الترجيح بالأصل ( إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما ) للأصل ( عن مورد التعادل ) المنتج للتوقف والتخيير إلى مورد الترجيح ، لأنّ أحد الخبرين الذي معه الأصل يكون مرجَّحاً على الآخر الذي لا أصل معه وإذا كان كذلك ( فالحكم بالتخيير ) إنّما يكون ( على تقدير فقده ) أي : فقد الأصل ، بأن لم يكن مع جانب من الجانبين أصل ، بل يكون كلاهما مخالفاً للأصل ، مثل ما دلّ على وجوب الظهر ووجوب الجمعة ، أو دلتّ رواية على حرمة الجمعة ، ورواية أخرى على وجوبها .

ص: 390

أو كونه مرجعاً ، بناءاً على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقاً التخييرُ ، لا الأصل المطابق لأحدهما .

والتخييرُ إمّا بالنقل وإمّا بالعقل .

أمّا النقلُ ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه

-------------------

( أو ) على تقدير ( كونه ) أي : كون الأصل ( مرجعاً ) لا مرجّحاً ، وذلك ( بناءاً على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقاً ) أي : سواء كان هناك أصل مطابق لأحدهما ، أو لم يكن هو ( التخيير ، لا ) الرجوع إلى ( الأصل المطابق لأحدهما ) .

والحاصل : إنّ التخيير يتم في صورتين : الاُولى : أن لايكون هناك أصل موافق لأحدهما ، كما في مسئلة وجوب الجمعة والظهر .

الثانية : أن يكون هناك أصل موافق لأحدهما ، وذلك كما في مسئلة غسل الجمعة لكن بناءاً على أنّ الأصل ليس بمرجّح، إذ لو كان الأصل مرجّحاً لم يبق مجال للتخيير.

وكيف كان : فإنّ حكم الخبرين المتكافئين بعد عدم التساقط هو : التخيير ( والتخيير : إمّا بالنقل ) أي : بسبب الأخبار العلاجية التي تقول بعد ذكر المرجّحات : « إذن فتخيّر » وما أشبه ذلك ( وإمّا بالعقل ) أي : بسبب حكم العقل ، وذلك فيما إذا قلنا بأنّ حجيّة الخبر من باب السببية لا من باب الطريقية حتى تتساقط عند التعارض .

( أمّا النقل ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ) حيث قال عليه السلام في بعض الأخبار العلاجية بعد ذكر المرجّحات : « إذن فتخيّر » (1) ( وبه ) أي : بالمقيّد من الأخبار العلاجية الدّال على أنّ التخيير إنّما هو مع فقد المرجّحات

ص: 391


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

تقيّد ما اُطلقَ فيه التخيير .

وأمّا العقلُ ، فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها .

ولا يندفعُ هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ، لأنّها

-------------------

( تقيّد ما ) أي : الأخبار العلاجية التي ( أطلق فيه التخيير ) فإنّ بعضاً من الأخبار العلاجية ذكرت التخيير بدون ذكر الترجيح ، لكن بعضها الآخر ذكرت الترجيح وذكرت التخيير ، لكن مقيّداً بكون التخيير بعد الترجيح .

( وأمّا العقل ) الدّال على التخيير ( فلا يدلّ على التخيير بعد إحتمال ) العقل ( إعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها ) أي : بذي المزية والمرجّح ، فإنّ العقل إذا احتمل لزوم تقديم ذي المرجّح والمزية لايحكم بالتخيير ، إلاّ إذا لم يكن هنالك ترجيح ، وفيما كان هنالك ترجيح يحكم العقل بتقديم ذي المرجّح من باب أن العمل بذي المرجّح معلوم الجواز ، بينما العمل بما لامرجّح فيه من المتعارضين مشكوك الجواز ، فالأصل عدمه .

( و ) إن قلت : إنّ أخبار العلاج ظاهرة في تقديم ذي المزية ، إلاّ أنّ إطلاق أدلّة الأخذ بخبر الثقة مطلقاً يجعل هذه الأخبار الدالة على تقديم ذي المرجّح محمولاً على الاستحباب ، فإذا رأى العقل هاتين الطائفتين من الأخبار أعني : الطائفة المطلقة والطائفة المقيّدة بتقديم ذي المزية يحكم بالتخيير مطلقاً بدون الرجوع إلى المرجّحات .

قلت : ( لايندفع هذا الاحتمال ) أي : إحتمال العقل اعتبار الشارع للمزية وتعيين العمل بذي المزية ( ب- ) سبب ( إطلاق أدلّة العمل بالأخبار ) فإن إطلاق هذه الأدلة لاتدفع احتمال لزوم العمل بذي المرجّح ( لأنّها ) أي : تلك الأدلة

ص: 392

في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، لكنّ صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما وإلاّ لتعيّن العملُ بكليهما ، والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدمَ جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير، لأنّه

-------------------

ليست في مقام بيان حكم المتعارضين ، بل هي ( في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، لكنّ صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما ) أي : بكل من المتعارضين ( وإلاّ ) بأن أمكن ذلك ( لتعيّن العمل بكليهما ) تعيّناً بحسب تلك الأدلة .

إذن : فهذه الأدلة في مقام تعيين العمل بكل من المتعارضين معلَّقاً بصورة الامكان ، وحيث لا إمكان فلا يرى العقل جواز العمل بالمتعارضين تخييراً ( و ) ذلك لأن ( العقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان ) الذي دلّت عليه تلك الأدلة يستفيد منها في المتعارضين ( عدم جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ) وفرق بين عدم جواز طرح كليهما ، وبين التخيير بينهما ، كما هو واضح .

إن قلت : فكيف اشتهر : بأن العقل يحكم في المتعارضين بالتخيير بينهما ؟ .

قلت : ( وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ) فإنّ العقل أوّلاً وبالذات يقول : لاتطرح الخبرين المتعارضين ، فإذا انضمّ إلى ذلك : عدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، حكم العقل بالتخيير ، وهذا الانضمام لايكون إلاّ مع فقد المرجّح .

وعليه : ( فإن استقلّ ) العقل ( بعدم المرجّح حكم بالتخيير ، لأنّه ) أي : التخيير

ص: 393

نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما .

وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقّف عن التخيير ، فيكون العملُ بالراجح معلومَ الجواز ، والعمل بالمرجوح مشكوكة .

فإن قلتَ : أولاً : إنّ كون الشئمرجّحاً ، مثل كون الشئدليلاً ، يحتاجُ إلى دليل ، لأن التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع ، كان الأصل عدمه .

-------------------

( نتيجة عدم إمكان الجمع ) من ناحية ( وعدم جواز الطرح ) من ناحية أخرى ( وعدم وجود المرجّح لأحدهما ) من ناحية ثالثة ، فاللاّزم تمامية هذه المقدمات الثلاث حتى يحكم العقل بالتخيير .

( و ) لكن العقل ( إن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة ) وذلك بأن احتمل وجود المرجّح في أحد الطرفين ( توقّف عن التخيير ) لما عرفت : من أن حكم العقل بالتخيير متوقّف على ثلاث مقدمات ، فإذا انتفى أحدها توقّف عن الحكم ، وإذا توقف عن الحكم بالتخيير ( فيكون العمل بالرّاجح معلوم الجواز ، والعمل بالمرجوح مشكوكة ) أي : مشكوك الجواز ، فلا يتمكن من العمل بالتخيير ، وإنّما يلزم العمل بالراجح .

( فإن قلت ) كيف تقدّمون العمل بالراجح من الخبرين مع أن كليهما حجّة ؟ فإنّ في تقديم الراجح ما يلي :

( أو لاً : إنّ كون الشيء مرجّحاً ، مثل كون الشئدليلاً ، يحتاج إلى دليل ) أي : أن الترجيح يجب أن يكون شرعياً ، كما يجب أن يكون الدليل شرعياً ، وذلك ( لأن التعبّد بخصوص الراجح ) وإسقاط المرجوح عن العمل ( إذا لم يعلم ) كونه ( من الشارع ، كان الأصل عدمه ) أي : عدم هذا التعبّد ، وذلك لأن الأخبار الدالة

ص: 394

بل العملُ به مع الشكّ يكون تشريعاً ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيّته .

وثانياً : أنّه إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين ، وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران التكليف بين التخيير والتعيين .

قلتُ : أولاً : كونُ الترجيح كالحجيّة أمراً يجبُ ورودُ التعبّد به من الشارع

-------------------

على حجية الخبر الواحد ، وغير الأخبار من أدلة حجيّة الخبر الواحد يشمل ، كلا الخبرين المتعارضين ومعه لم يُعلم التعبّد بالراجح ( بل العمل به ) أي : بالراجح فقط ( مع الشكّ ) في أن الشارع ألزم العمل به أو جعلهما متساويين ( يكون تشريعاً ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيتّه ) وذلك لايجوز عقلاً ولا شرعاً .

( وثانياً : أنّه إذا دار الأمرين بين وجوب أحدهما على التعيين ) يعني : الأخذ بالراجح ( وأحدهما على البدل ) يعني : التخيير بينهما ( فالأصل : برائة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ) أي : عن الأخذ بخصوص الراجح ، بل اللاّزم القول بالتخيير ( كما هو ) أي : كون الأصل البرائة عن التعيين ( مذهب جماعة في مسئلة دوران التكليف بين التخيير والتعيين ) وذلك لأنّ التعيين لم يعلم ، فالأدلة العامة تشمل التخيير ، فإذا شك - مثلاً - في أن الواجب خصوص العتق ، أو واحد من العتق والاطعام والصيام ، فاللاّزم إجراء أصالة البرائة عن تعيين خصوص العتق ، وحيث تجري البرائة يكون المكلّف مخيّراً بين الخصال الثلاثة .

( قلت : أو لاً : كون الترجيح كالحجيّة أمراً يجب ورود التعبّد به من الشارع )

ص: 395

مسلّمٌ ، إلاّ أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع احتياط لايجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع ، نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة ، أو العكس .

-------------------

كما ذكره المستشكل في إشكاله الأوّل ( مسلّمٌ ، إلاّ أنّ الالتزام بالعمل بما عُلم جواز العمل به ) وهو الخبر الراجح جوازاً ( من الشارع ) وذلك بلا استناد إلى إلزام الشارع به ، لايكون تشريعاً حتى يكون محرّماً ، بل هو ( احتياط ) والاحتياط لايحتاج إلى استناد ، فإنا لانريد أن نقول : لايجوز العمل بالمرجوح ، وإنّما نريد أن نقول ، بأن الاحتياط هو أن نعمل بهذا الراجح ، وليس عملنا بالراجح بعنوان أن الشارع تعبّدنا به وجعله بخصوصه حجية ، بل لاحتمالنا أن الشارع اعتبر المزية ، وبداعي أن العمل به متيقن الجواز ، ومعه فلو عملنا بهذا الراجح عملنا بالتكليف قطعاً ، بخلاف ما لو عملنا بالمرجوح .

وعليه : فإنا نعمل بالراجح من باب الاحتياط ، والعمل بالاحتياط ( لايجري فيه ما ) أي : التشريع الذي قد ( تُقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ) إذ ليس هذا عملاً بغير علم حتى يكون من باب التشريع ، بل هو عمل بما عُلم جوازه فيكون من باب الاحتياط ( فراجع ) ما ذكرناه في باب الاحتياط سابقاً .

إذن : فالمقام ( نظير الاحتياط بالتزام ما ) أي : إلتزام عمل قد ( دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع إحتمال الحرمة ، أو العكس ) يعني : الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على حرمته مع احتمال الوجوب ، فإنّ الاحتمال لايضرّ بأن يحتاط الانسان بالاتيان في الأوّل ، والترك في الثاني ، إذ الدوران بين المحذورين :

ص: 396

وأمّا إدراجُ المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن ، وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لاينفع بعدما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة .

والأولى منعُ إندراجها في تلك المسألة ، لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ

-------------------

كالوجوب والحرمة ، من موارد التخيير العقلي ، فإذا كان أحد الطرفين فيه رجحان ، من باب الاحتياط لا من باب التشريع يجوز لنا أن نأتي بذلك الطرف الراجح .

( وأمّا ) ما أشكله ثانياً : في ( إدراج المسألة ) التي نحن فيها من تعارض الخبرين ( في مسألة دوران المكلّف به ) أي : الواجب ( بين أحدهما المعيّن ، وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه ) أي : يرد عليه أن هذا الادراج ( لاينفع ) المستشكل ( بعد ما اخترنا في تلك المسألة ) أي : مسألة الدوران بين التعيين والتخيير ( وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البرائة ) فقد قلنا هناك : بأن اللازم أن يأتي بالمعيّن لأنه مبرء للذمّة على كل تقدير ، بخلاف ما لو أتى بالطرف الآخر حيث أنّه لايعلم ببرائة ذمته ، فالشك فيه يكون من الشك في الامتثال ، لامن الشك في الاشتغال ، والشك في الامتثال مجرى الاحتياط لا مجرى البرائة فنزاعنا مع المستشكل مبنائي لا بنائي .

( و ) على هذا فإن ( الأولى منع إندراجها ) أي : إندراج مسألتنا التي هي في تعارض الخبرين ( في تلك المسألة ) أي : مسألة الدوران بين التعيين والتخيير ، وذلك ( لأنّ مرجع الشكّ في المقام ) أي : مقام تعارض الخبرين ( إلى الشكّ

ص: 397

في جواز العمل بالمرجوح .

-------------------

في جواز العمل بالمرجوح ) وعدم جواز العمل به ، فهو يرجع إلى أن المرجوح حجّة أو ليس بحجّة ، وكلّما شك في حجيّته فالأصل عدم حجيته ، فالمرجوح ليس بحجة ولا يجوز العمل به ، بل يجب العمل بالراجح .

بعونه تعالى

انتهى الجزء الرابع عشر

ويليه الجزء الخامس عشر في

تتمّة الكلام في التراجيح

وله الحمد على آلائه

ونعمائه

ص: 398

المحتويات

تتمّة الكلام في الموضع الثالث ... 5

الموضع الرابع : استثناءات قاعدة الفراغ ... 13

الموضع الخامس : أقسام الفراغ ... 24

الموضع السادس : في صحّة المأتي به بعد الفراغ ... 33

الموضع السابع : المراد بالشكّ ... 37

المسألة الثالثة ... 41

أدلّة الكتاب ... 42

أدلّة السنّة ... 46

الاجماع القولي والعملي ... 58

العقل ... 60

تنبيهات

التنبيه الأوّل ... 63

التنبيه الثاني ... 76

التنبيه الثالث ... 92

التنبيه الرابع ... 100

التنبيه الخامس ... 113

التنبيه السادس ... 117

أصالة الصحّة في الأقوال والأفعال ... 125

ص: 399

المقام الثاني ... 136

المقام الثالث ... 141

الأوّل : تعارض البرائة مع الاستصحاب ... 141

الثاني : تعارض الاشتغال مع الاستصحاب ... 157

الثالث : تعارض التخيير مع الاستصحاب ... 160

تعارض الاستصحابين ... 161

أقسام الاستصحابات المتعارضة

القسم الأوّل ... 165

القسم الثاني ... 209

صور في المسألة ... 212

الصورة الاُولى والثانية ... 212

الدعوى الاُولى ... 212

الدعوى الثانية ... 219

الصورة الثالثة ... 236

الصورة الرابعة ... 239

التعادل والتراجيح

خاتمة في التعادل والتراجيح ... 253

المقام الأوّل في المتكافئين ... 337

المقام الثاني في التراجيح ... 387

المقام الأوّل : الترجيح بالمزايا ... 388

المحتويات ... 399

ص: 400

المجلد 15

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

9-----------------.

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

9-----------------.

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

9-----------------.

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمة التعادل والتراجيح

ص: 4

ولاريبَ أنّ مقتضى القاعدة المنعُ عمّا لم يعلم جواز العلم به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداءا ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية .

فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه إلاّ أنّ حجيّته فعلاً مع معارضة الراجح ،

-----------------

وبعبارة أخرى : إنّ ما نحن فيه من مسئلة تعارض الخبرين هي من المسائل الأصولية ، لدوران أمر الأمارات فيه بين التعيين والتخيير ، فهي ، خارجة عن مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى خصال الكفارة التي هي من المسائل الفرعية ( ولاريب أنّ مقتضى القاعدة ) أي : مقتضى أصالة العدم الجارية في المقام هو : ( المنع عمّا لم يُعلم جواز العمل به من الأمارات ) لأنّه يرجع إلى الشك في حجيّة تلك الأمارة ، والشك في الحجية مسرح عدم الحجية .

وعليه : فإنّ هذه القاعدة ( وهي ) قاعدة أصالة العدم التي ذكرناها هنا وقلنا بأنّها تقتضي المنع عما لم يُعلم جواز العمل به من الأمارات ( ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداءاً ) كالشك في حجيّة الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو ما أشبة ذلك ( بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية ) فإنّ الخبرين المتعارضين لاشكّ أنّهما حجّة شأناً ، وإنّما نشك في أن المرجوح هل هو حجّة فعلاً أم لا ؟ ( فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ) شأناً في ظرف عدم التعارض ، وذلك لأنه جامع لشرائط الحجية ( إلاّ أن حجيّته فعلاً ) مشكوكة ( مع معارضة الراجح ) له لفرض أن الراجح والمرجوح متعارضان وإذا كانت حجيّته مشكوكة فالأصل عدم حجية .

ص: 5

بمعنى جواز العمل به فعلاً غيرُ معلوم ، فالأخذُ به والفتوى بمؤدّاه ، تشريعٌ محرّمٌ بالأدلّة الأربعة .

هذا ، والتحقيقُ : إنّا إن قلنا بأنّ العملَ بأحد المتعارضين - في الجملة - مستفادٌ من حكم الشارع به بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة ،

-----------------

هذا ، والمقصود من حجيّة المرجوح فعلاً هو ( بمعنى : جواز العمل به ) أي : بالمرجوح ( فعلاً ) أي : عند ابتلائه بالمعارض الذي هو أرجح منه ، والجواز هنا ( غير معلوم ) لأنا لانعلم هل أن الشارع جعله في هذه الحال حجّة أم لا ؟ ومعه ( فالأخذ به ) أي : بالمرجوح ( والفتوى بمؤدّاه ، تشريعٌ محرّمٌ بالأدلّة الأربعة ) التي ذكرناها في باب التشريع من الكتاب والسنة والاجماع والعقل .

( هذا ) هو تمام الكلام في جواب من أشكل بأن قلت ( والتحقيق ) في أنه هل يجوز العمل بالمرجوح تخييراً بينه وبين الراجح ، أو لايجوز العمل بالمرجوح بل يلزم العمل بالراجح ؟ مبني على ثلاثة احتمالات :

الأوّل : استفادة وجوب العمل بالراجح أو عدم وجوبه من أخبار العلاج .

الثاني : استفادته من مطلق الأخبار بناءاً على الطريقية .

الثالث : استفادته من مطلق الأخبار بناءاً على السببية ، وعلى كل واحد من هذه المباني ، يختلف القول بالترجيح أو بالتخيير ، وسيأتي انشاء الله تعالى كلام المصنّف في كل منها .

أمّا الاحتمال الأوّل : فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله ( إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين - في الجملة - ) من غير نظر الى التعيين والتخيير ( مستفادٌ من حكم الشارع به ) أي : بالعمل بأحد المتعارضين ( بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة ) أي : أنه لولا الاجماع والأخبار العلاجية على عدم تساقط الخبرين المتعارضين ،

ص: 6

كان الّلازمُ الالتزامَ بالراجح وطرحَ المرجوح ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلاً ، ولا ينفع وجوبُ العمل به عيناً في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض ،

-----------------

كان اللازم الحكم بالتساقط ، لكن بعد قيام الاجماع والأخبار العلاجية على عدم التساقط ووجوب العمل بأحدهما في الجملة إما تخييراً وإما تعييناً ( كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح ) .

وإنّما كان اللازم الأخذ بالراجح دون المرجوح ، لأنه وإن كان في الاجماع والأخبار العلاجية الدّالة على ذلك إجمال من حيث الدلالة ، فليست هي صريحة في اعتبار المزية حتى يجب العمل بالراجح فقط ، ولا في عدم اعتبار المزية حتى يكون المكلّف مخيّراً بينهما ، إلاّ أنّه يلزم العمل بالراجح لأنّه مبرئللذمة حتى ( وإن قلنا : بأصالة البرائة ) من التعيين ، لا الاحتياط بالأخذ بالمعيّن ( عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ) وذلك ( لما عرفت : من أنّ الشّك ) كائن ( في جواز العمل بالمرجوح فعلاً ) وإن جاز العمل به شأناً ، فهو فعلاً مشكوك الحجية والأصل عدم حجيته .

لا يقال : أنّ المرجوح كان سابقاً قبل التعارض يجب العمل به عيناً في نفسه ، فإذا ابتلي بالمعارض الراجح نشك في سقوط وجوب العمل به ، فنستصحب بقاءه .

لأنّه يقال : ( ولا ينفع ) استصحاب ما كان سابقاً من ( وجوب العمل به ) أي : بالمرجوح ( عيناً في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض ) وذلك لأنّه عندما ابتلي بالمعارض الراجح ، صار مشكوك الحجية فعلاً ، وإذا صار فعلاً مشكوك الحجية

ص: 7

فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلاً .

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار ، فإن قلنا بما اخترناه من أنّ الأصل التوقفُ ، بناءا على اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ، فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ، لأنّ كلاًّ منهما جامع لشرائط الطريقية .

-----------------

( فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلاً ) لما عرفت : من أن الشك في الحجية الفعلية يوجب سقوطها عن الحجية ، كالشك في أصل الحجية ، ولا يكفينا الحجية الشأنية بعد شكنا في أنه حجّة فعلاً أم لا .

هذا إن قلنا بأن العمل بأحد المتعارضين مستفاد من الاجماع والأخبار العلاجية ( وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلة العمل بالأخبار ) مثل : آية النبأ وغيرها ، فالدليل ليس هو الاجماع والأخبار العلاجية كما كان في الاحتمال الأوّل ، بل هو مطلق الأدلة الدالة على العمل بالخبر الواحد وبناءاً على أن الدليل هو مطلق الأدلة المذكورة يتفرّع منه الاحتمال الثاني ، والاحتمال الثالث ، الذي سبق الاشارة إليهما إجمالاً ، وإليك تفصيلها :

وأمّا الاحتمال الثاني : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( فإن قلنا ) على هذا الاحتمال ( بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ، بناءاً على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ، و ) هو : ( الكشف الغالبيّ عن الواقع ) لا السببية ، فإنّه إذا بنينا عليه ( فلا دليل ) معه ( على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة ) حاصلة من وجود مزية ( في أحد الخبرين ) وذلك ( لأنّ كلاً منهما جامع لشرائط الطريقية ) فيكون ذلك سبب شمول أدلة حجيّة الأخبار لكل من الراجح والمرجوح معاً .

ص: 8

والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، فيجب الرجوعُ إلى الاُصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين .

فرفعُ اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ مالم يكن طريقٌ فعليّ على خلافه

-----------------

إن قلت : مجرّد وجود قوة في أحد الخبرين يخرجهما عن مورد التعادل إلى مورد الترجيح ممّا يوجب العمل بالراجح دون المرجوح .

قلت : ( والتمانع ) أي : التعارض المؤدّي للتوقف ( يحصل بمجرّد ذلك ) أي : بمجرّد كون كل واحد منهما جامعاً لشرائط الطريقية ، فإنّه بمجرّد ذلك يشملهما أدلة حجية الأخبار ، فيتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما حتى وإن كان في أحدهما قوة بسبب وجود مزية فيه مزّية لم يثبت اعتبارها .

وعليه : ( فيجب الرجوع إلى الأصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف ) الأصل الموجود في تلك المسألة ( كلا المتعارضين ) ومخالفة الأصل لكلا المتعارضين مثل : ما دلّ على وجوب الجمعة ، وعلى وجوب الظهر ، حيث أن الأصل يخالف كليهما ، بخلاف ما إذا لم يخالف الأصل كليهما مثل : دليل وجوب غسل الجمعة ودليل ندبه ، حيث أن أصل البرائة يوافق دليل الندب فيجب الرجوع إليه .

إذن : ( فرفع اليد عن مقتضى الأصل ) كأصل البرائة في مثال غسل الجمعة ( المحكّم ) هذا الأصل ( في كلّ ما لم يكن طريقٌ فعليّ على خلافه ) أي : على خلاف ذلك الأصل ، وإن كان طريقاً شأناً ، فإنّ الشأنية لا تكفي لرفع اليد عن مقتضى الأصل ، وذلك لأنّه يجب إتباع الأصل إلى أن يقول طريق فعليّ

ص: 9

بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لاوجهَ له .

لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقاً فعليّاً لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ،

-----------------

على خلافه ، فمادام لم يقم طريق فعليّ على خلاف الأصل فرفع اليد عن مقتضاه ( بمجرّد مزيّة ) في أحد الخبرين المتعارضين ( لم يُعلم اعتبارها ) أي : اعتبار تلك المزية ( لا وجه له ) .

وإنّما لاوجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل بمجرّد وجود مزية في الخبر الآخر لأن المفروض أن كل واحد من الخبرين هو حجّة ، والمزيّة حسب الفرض لم يثبت اعتبارها ، فكيف يرفع اليد عن أحد الحجّتين بمجرّد وجود مزيّة غير ثابتة الاعتبار في الحجّة الأخرى ؟ فإنّه من قبيل أنقذ الغريق ، الشامل لوجوب انقاذ زيد وعمرو، اللذين غرقا معاً ، غير أنّه يقال له : يجب إنقاذ زيد خاصة غير مخيّر بينه وبين عمرو، وذلك لأن زيداً - مثلاً - جارٍ لنا أو ابن صديقنا أو ما أشبه ذلك من المزايا ، التي لاتوجب تعيين زيد للانقاذ دون عمرو، فكما أنّه لايجب التعيين هنا بهذه المزية ، فكذلك فيما نحن فيه .

والحاصل : أنه يجب الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة إذا لم يخالف الأصل كلا المتعارضين ، ولاوجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل في أحدهما لوجود مزيّة في الآخر المخالف للأصل ، وذلك ( لأنّ المعارض المخالف ) للأصل ( بمجرّده ) أي : مع قطع النظر عن رجحانه بمزيّة لم يثبت اعتبارها ( ليس طريقاً فعليّاً ) وإن كان طريقاً شأناً ، إلاّ أنه لايجدي فعلاً ( لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ) .

إن قلت : وجود المزية في الآخر يؤثر في رفع المعارض الذي لا مزية له ،

ص: 10

والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في رفع المعارض .

وتوهّمُ : « استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح » مدفوعٌ : بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه طريقاً ، كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ، وأمّا الطرقُ المعتبرةُ شرعاً من حيث إفادة نوعها الظنّ ، وليس اعتبارها

-----------------

فيرتفع ويبقى ذوالمزية فقط ، فيجب العمل به .

قلت : ( والمزيّة الموجودة لم يَثبت تأثيرها في رفع المعارض ) حتى يرتفع ويبقى ذوالمزية فقط ، وذلك لما عرفت : من أن المزيّة لم يثبت اعتبارها كما هو المفروض فلا تستطيع من رفع المعارض .

( و ) إن قلت : أن اللازم هو العمل بالخبر الراجح لأنه أقرب الى الواقع من الخبر المرجوح ، فلا تعارض بينهما حتى يتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع الأصل .

قلت : ( توهّم استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو ) أي : ذلك الطريق الأقرب للواقع ( الراجح ، مدفوعٌ : بأنّ ذلك ) أي : استقلال العقل بالحكم المذكور ( إنّما هو فيما كان بنفسه طريقاً ) أي : في الدليل الذي كان منوطاً بالظن الشخصي ( كالأمارات المعتبرة ) اعتباراً مطلقاً ( لمجرّد إفادة الظنّ ) الشخصي ، فإذا كان هناك طريقان ظنيان في أنفسهما ، لكن المكلّف يظّن بأن هذا الطريق أقرب إلى الواقع من ذاك الآخر ، فإنّه يعمل بظنه الشخصي دون الوهم .

( وأمّا الطرق ) والأمارات ( المعتبرة شرعاً ) اعتباراً خاصاً ( من حيث إفادة نوعها الظنّ ، و ) ذلك مثل الخبر الواحد وسائر الأمارات التي ( ليس اعتبارها

ص: 11

منوطاً بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان - بالنوع - للظنّ في نظر الشارع سواءٌ .

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجيّة الشأنيّة كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجيّة ، إذا كان معارضها أقوى .

-----------------

منوطاً بالظنّ ) الشخصي ، حتى يقال : بأن هذا المظنون يجب العمل به دون طرفه الآخر الموهوم ، ومعه ( فالمتعارضان المفيدان - بالنوع - للظنّ في نظر الشارع سواءٌ ) فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحيث لاترجيح فهما يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع : الأصل الموافق لأحدهما .

وعليه : فقد تبيّن أن رفع اليد عن مقتضى الأصل ، المحكّم هذا الأصل في كل ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه ، يكون رفع اليد عنه بمجرّد وجود مزية في أحد الخبرين دون الآخر ممّا لاوجه له ، وذلك لما عرفت : من أنه لم يثبت اعتبار هذه المزية فكيف تكون المزية غير المعتبرة مرجّحة لطريق على طريق ؟ .

( وما نحن فيه ) هو تعارض الخبرين ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل تعارض دليلين معتبرين من باب الظنّ النوعي ، فإنّهما بنظر الشارع سواء ، حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك ( لأنّ المفروض : أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجية الشأنية ) لفرض أنه جامع لشرائط الحجيّة ، إلاّ أنه مبتلى بالمعارض ، فلا يخرج معه عن الحجية ( كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ ) الشخصي ، أو بوصف عدم الظنّ على الخلاف ( عن الحجّية ، إذا كان معارضها أقوى ) وذلك لأنّ في هذا المعارض ظن شخصي وفي المعارض الآخر لايوجد ظن شخصي ، وما فيه ظن شخصي هو الأقوى إذا فرض أنّ الظنّ الشخصي هو المعيار ،

ص: 12

وبالجملة : فاعتبارُ قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض مالم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لادليلَ عليه .

وإن قلنا بالتخيير ، بناءا على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فالمستفادُ بحكم العقل من دليل وجوب

-----------------

لوضوح : أن هذا المظنون هو الحجة دون غيره ، لأنّ غيره يكون موهوماً .

والحاصل : أنّ ما كان حجيّته من باب الظنّ النوعي ، كان المتعارضان بلا فرق بين الراجح والمرجوح منهما بنظر الشارع على حدٍّ سواء ، بينما ما كان حجيته من باب الظنّ الشخصي كان المظنون للمكلّف مقدّماً على طرفه الذي هو موهوم له ، كما قال : ( وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح ) لذي المزية ( في تعارض مالم يُنط اعتباره بإفادة الظنّ ) الشخصي ( أو ) لم يُنط اعتباره ( بعدم الظنّ على الخلاف ، لادليل عليه ) فإنّه إذا كان مناط الحجية الظنّ الشخصي بالوفاق ، أو كان مناط الحجية عدم الظنّ الشخصي على الخلاف ، فاللازم الأخذ بما يظن به شخصياً من المتعارضين ، أو بما لايظن شخصياً على خلافه ، لكن الخبرين المتعارضين ليس مناط حجيتهما الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، ولذلك يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ، ويكون المرجع الأصل العملي ، بعد فرض عدم اعتبار المزية التي في أحدهما حتى يُرجّح بها خبراً على خبر .

وأمّا الاحتمال الثالث : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وإن قلنا بالتخيير ) لكن لا بناءاً على إعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي ، بل ( بناءاً على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ) أي : بأن يكون الخبران المتعارضان من قبيل إنقاذ الغريقين متزاحمين ( فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب

ص: 13

العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، كونُ وجوب العمل بكلّ منهما عيناً مانعاً عن وجوب العمل بالآخر كذلك .

ولا تفاوتَ بين الوجوبين في المانعيّة قطعاً ، ومجرّدُ مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لايوجبُ كونَ وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح ، دون العكس ،

-----------------

العمل بكلّ من المتعارضين ) بعينه علماً بأن الخبر إذا كان ممّا يجب العمل به بعينه وجب العمل به ( مع الامكان ) بمعنى : أنّه مع التعارض لايمكن العمل بكل منهما بعينه ، لأن ( كون وجوب العمل بكلّ منهما عيناً ) بخصوصه وشخصه ( مانعاً عن وجوب العمل بالآخر كذلك ) أي : عيناً بخصوصه وشخصه ( و ) من المعلوم : أنّه ( لا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعاً ) حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك لأنّ كلاً منهما بمجرّد وجوب العمل به يكون مانعاً عن العمل بالآخر ، من دون مدخلية للمزية فيه ، فلا يتمكن المكلّف من العمل بهذا بعينه ، وبذلك بعينه ، فيحصل التكافؤ بينهما الذي ينتج بالأخرة التخيير .

( و ) إن قلت : إنّ وجود المزية في أحدهما يجعله أقرب إلى الواقع من الآخر ، فيلزم ترجيح ذي المزية على ما لامزيّة فيه .

قلت : ملاك الترجيح في الخبرين المتعارضين على السببية حيث يكونان من المتزاحمين هو : الأهمية ، لا كل مزية ، ولذا فإنّ ( مجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما ) أي : بمزيّة لا ترجع إلى الأهمية ، بل ( يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لايوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح ، دون العكس ) فإنّ العكس أيضاً تام ، وهو : كون وجوب العمل بالمرجوح مانعاً عن العمل بالراجح ، لفرض أن مزية الأقربية في أحدهما - على السببية - لا توجب إسقاط الآخر

ص: 14

لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح وليس في هذا الحكم العقلي إهمالٌ وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح .

-----------------

عن الحجية ، فهما باقيان على الحجية ، حالهما حال الصلاة خلف نفرين كل منهما عادل ، لكن لأحدهما مزيّة العلم دون الآخر ، فإن مزية العلم في أحدهما لاتوجب تعيّن الصلاة خلفه دون الآخر ، لفرض وجود الملاك في كل منهما .

وإنّما لا توجب المزيّة أن يكون وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح دون العكس ( لأنّ المانع ) عن العمل بكل من الراجح والمرجوح عيناً ( بحكم العقل هو ) التكافؤ الحاصل من ( مجرّد الوجوب ) بلا مدخلية للمزية ، فإن مجرّد وجوب العمل بكل منهما عيناً مانع عقلاً ( والمفروض وجوده ) أي : وجود هذا الوجوب ( في المرجوح ) أيضاً كما هو موجود في الراجح ، يعني : أن العقل إنّما يحكم بالتمانع ، فيما إذا كان ملاك الحجية في كل واحد منهما موجوداً ، والمفروض أن هذا الملاك موجود فيهما معاً .

( و ) إن قلت : إنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو في صورة التعادل ، وأما مع وجود مزية في أحدهما فإنّ العقل يتوقّف ، فيكون في حكمه بالتخيير إهمال وإجمال من حيث العمل بأحدهما تخييراً ، أو بذي المزية تعييناً ، فاللاّزم الأخذ بالراجح من باب أنّه المتيقن .

قلت : ( ليس في هذا الحكم العقلي ) بالتخيير هنا ( إهمالٌ وإجمال وواقع مجهول ) بحيث يشك العقل ولا يعلم بأنه هل في هذه الحال يحكم بالتخيير ، أو يحكم بتعيين ذي المزية ؟ ( حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح ) وذلك لأنّ العقل يستقل بالتخيير مع رجحان أحدهما بسبب المزية

ص: 15

وبالجملة : فحكمُ العقل بالتخيير نتيجةُ وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته .

وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين .

نعم ، لو كان الوجوبُ في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ ،

-----------------

الموجودة فيه رجحاناً لايوجب تقديمه على الآخر تقديماً تعيينياً .

( وبالجملة : فحكمٌ العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ) أي : أن كل واحد منهما حيث كان جامعاً لشرائط السببية وجب العمل به لولا التعارض ، فيجتمع هنا سببان متعارضان ، والمزية لاتكون بحدّ توجب تعيين ذي المزية على مالا مزية فيه ، فيحكم العقل فيهما بالتخيير على ما عرفت .

( وهذا الكلام ) الذي قلناه في حكم العقل بالتخيير ، من دون تعيين الراجح على المرجوح ، إذا لم يكن الرجحان بحيث يوجب التعيين ( مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين ) مثل : إنقاذ الغريقين بالنسبة إلى من لايتمكن إلاّ من إنقاذ أحدهما ، أوخلاص من يريد الظالم قتلهما وهو لايقدر إلاّ على خلاص أحدهما ، أو إطعام جائعين مشرفين على الموت وهو لايقدر إلاّ على إطعام أحدهما ، أو إنقاذ إمرأتين ممّن يريد هتك عرضهما وهو لايتمكن إلاّ من إنقاذ إحداهما ، وهكذا حفظ مالين كثيرين مشرفين على التلف وهو لايتمكن إلاّ من حفظ أحدهما ، وغير ذلك ممّا يدّل على أن العقل يحكم بالتخيير في الواجبين المتزاحمين بلا فرق فيهما بين الأموال والأعراض والنفوس .

( نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ ) بحيث يكون أحدهما أهم من الآخر ، فالأهمية لو كان على نحو المنع عن النقيض ، كأنقاذ عالم أو جاهل غرقاً معاً أوأراد العدوقتلهما ، أو ما أشبه ذلك من المتزاحمين أمثلة

ص: 16

استقلّ العقلُ عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الأهمّ مزاحماً لوجوب غيره من دون عكس .

وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر .

وما نحن فيه ليس كذلك قطعاً ، فإنّ وجوبَ العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره .

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لانقولُ بأصالة التخيير في تعارض

-----------------

( استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ) أي : غير الأهم ( وكون وجوب الأهمّ ) حينئذٍ ( مزاحماً لوجوب غيره ) الذي ليس بأهم ( من دون عكس ) فليس المهّم مزاحماً للأهم حتى يتساويان ويتخيّر المكلّف بينهما ، بل الأهم مزاحم للمهّم ، فاللازم تقديم الأهم .

( وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر ) فيما إذا كان الاحتمال كافياً في الترجيح اللزومي ، وذلك كما إذا غرق اثنان يحتمل أن يكون من في طرف يمينه هو العالم ، دون من في طرف يساره ، فإنّه يلزم عليه انقاذ من في طرف اليمين لا اليسار ، لأنّ الاحتمال كان بحيث يوجب تقديم المحتمل على غيره عقلاً .

هذا ( و ) لكن ( ما نحن فيه ) من تعارض الخبرين بناءاً على السببية ( ليس كذلك قطعاً ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد ) ولاأهم إلى حدّ المنع عن النقيض ( من وجوب العمل بغيره ) الذي هو المرجوح ، وذلك لفرض أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالخبر يشمل كلاً من الراجح والمرجوح على حدٍ سواء .

( هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لانقول بأصالة التخيير في تعارض

ص: 17

الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ، بناءا على أنّ الظاهرَ من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونُها من باب الطريقيّة ، ولازمهُ التوقفُ ، والرجوعُ إلى الأصل المطابق لأحدهما ، أو أحدهما المطابق للأصل .

إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ دلّ على وجوب

-----------------

الأخبار ، بل ولا غيرها ) أي : غير الأخبار ( من الأدلّة ) والأمارات ، وذلك لما مرّ : من أن الأخبار وسائر الأمارات حجّة من باب الطريقية والكاشفية ، لامن باب الموضوعية والسببية ، والتخيير إنّما هو في باب السببية والموضوعية ، وأما الأخبار التي حجيّتها من باب الطريقية والكاشفية فإنها إذا تعارض بعضها مع بعض تساقطت عن الطريقية في خصوص مؤدّاها ، ولزم الرجوع إلى الأصل في المسألة .

وعليه : فإنّ حجية الأخبار ( بناءاً على أنّ الظاهر من أدلّتها ) أي : من أدلة حجية الأخبار ( وأدلّة حكم تعارضها ) في باب العلاج ( كونها ) أي : كون حجية الأخبار ( من باب الطريقيّة ) البحتة ( ولازمه ) أي : لازم كونها حجّة من باب الطريقية هو :

( التوقف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) بناءاً على أن يكون الأصل مرجعاً ( أو أحدهما المطابق للأصل ) بناءاً على أن يكون الأصل مرجّحاً ، وقد عرفت : أنّه على فرض مخالفة الأصل لهما ، كما في وجوب الجمعة ووجوب الظهر ، يتخيّر عقلاً بين الاحتمالين بعد نفي الخبرين الثالث ، فإذا لم يكن الثالث يتخيّر عقلاً بين أن يأخذ بهذا أوبذاك .

هذا هو الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناءاً على الطريقية ( إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ ) الوارد في الأخبار العلاجية بعنوان الأصل الثانوي ( دلّ على وجوب

ص: 18

العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقنُ من التخيير هو صورةُ تكافؤ الخبرين .

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات ، فالمتيقّنُ هو جواز العمل بالراجح .

وأمّا العملُ بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام ،

-----------------

العمل بأحد المتعارضين في الجملة ) تخييراً مع عدم المرجّح ، وتعييناً مع وجود المرجّح ممّا يكون معنى ذلك عدم التوقف في العمل .

هذا ، ( وحيث كان ذلك ) الدليل الدالّ على العمل بأحد المتعارضين في الجملة ( بحكم الشرع ) لأنّ الشارع هو الذي أوجب ذلك حسب أخبار العلاج ، إذ قد عرفت : أن الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناءاً على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل ، ولكن بعد قيام الأصل الثانوي على التخيير في الجملة ، لزم الأخذ بالتخيير في القدر المتيقن ، وهو : ما لم يكن في أحدهما مزية كما قال : ( فالمتيقن من التخيير هو : صورة تكافؤ الخبرين ) من جميع الحيثيات حتى من حيث وجود المزية وعدمها ، وذلك لأنّ حكم الشرع كان على وجوب العمل بالمتعارضين في الجملة وهو : مجمل ، فاللازم أن يؤخذ بالقدر المتيقن منه .

( أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات ) سواء كانت المزية منصوصة في الروايات ، أوالأعم ممّا في الروايات من سائر المزايا إذا استفدنا من الروايات الملاك ، كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ( فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح ) منهما ( وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ) جوازه ( فلا يجوز الالتزام ) به ، وذلك لأنّه يُكون مشكوك الحجية ، وما كان مشكوك الحجية

ص: 19

فصار الأصلُ وجوبَ العمل بالمرجّح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصلُ فيما يحتمل كونه مرجّحاً الترجيحُ به ، إلاّ أن يرد عليه إطلاقاتُ التخيير ، بناءا على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحاً .

-----------------

كان الأصل عدم حجيته .

وعليه : ( فصار الأصل ) أي : للقاعدة حينئذ هو ( وجوب العمل بالمرجّح ) إذا كان مرجع في أحد الخبرين فيجب تقديم الخبر الراجح على المرجوح ( وهو ) أي : وجوب العمل بالمرجّح إذا كان مرّجح في أحد الخبرين ( أصل ثانوي ) لأنّ الأصل الأولي هو التوقف والرجوع إلى الأصل الموافق بناءاً على الطريقية كما عرفت .

( بل الأصل فيما ) لم يحرز كونه مرجّحاً ، وإنّما ( يحتمل كونه مرجّحاً ) كموافقة الأصل ، أوموافقه المشهور ، أو ما أشبه ذلك هو ( الترجيح به ) أي : بذلك المرجّح أيضاً احتياطاً من باب أن ذلك الذي يحتمل ترجيحهُ مقطوع العمل به ، بخلاف الطرف الآخر الذي لايحتمل ترجيحه ، فالأصل العملي هنا وهو الاحتياط يكون على الأخذ بمحتمل الراجحية .

( إلاّ أن يرد عليه ) أي : على ما ذكرناه من الاحتياط بقولنا : « بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحاً الترجيح به » الذي هو أصل عملي فيرد عليه أصل لفظي ، وهو : ( إطلاقات التخيير ) فإنّ اطلاقات التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين ، إلاّ إذا كان أحدهما ذا مزية مقطوع بها ، فالمزية المحتملة لاتوجب رفع اليد عن إطلاقات التخيير ( بناءاً على وجوب الاقتصار في تقييدها ) أي : تقييد إطلاقات التخيير ( على ما علم كونه مرجّحاً ) لا ما احتمل رجحانه .

والحاصل : إنّ الأصل الأوّلي على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل

ص: 20

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح : بأنّه لولا ذلك لاختلت نظم الاجتهاد .

بل نظام الفقه ، من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين .

-----------------

الموافق إن كان ، وإلاّ فالى أصل التخيير ، بينما الاصل الثانوي على الطريقية هو : العمل بالراجح فيما إن كان هناك راجح ، وإلاّ فالتخيير بين الخبرين ، والرجحان قد يكون بالمزية القطعية ، وهذا لاشكّ في ترجيحه على الآخر ، وقد يكون بالمزية الاحتمالية وهذا لايوجب الترجيح ، بل يؤخذ فيه باطلاقات التخيير .

هذا ( وقد يستدلّ على وجوب الترجيح ) لا التخيير ( بأنّه لولا ذلك ) الترجيح (ولاختلّت نظم الاجتهاد ) فإنّ الاجتهاد عبارة عن معرفة العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والمنطوق والمفهوم ، وما أشبه ذلك ممّا يؤثر معرفته في معرفة الراجح من المرجوح وتقديم بعضها على بعض ، ومن المعلوم : أنّه لولا معرفة ذلك لاستلزم الخلل في الاجتهاد حيث أنه يعمل بالخاص مرّة ، وبالعام أخرى ، وبالمطلق تارة ، وبالمقيّد أخرى ، وهكذا من دون نظم وإتزان .

( بل ) لاختل ( نظام الفقه ) حيث يستلزم فقه جديد ، لا هذا الفقه الذي تلّقاه الفقهاء من المعصومين عليهم السلام .

وإنّما يستلزم ذلك اختلال الفقه والاجتهاد ( من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين ) والظاهر والأظهر ، وإلى غير ذلك ممّا يلزم فيه ترجيح بعض على بعض وتقديم أحدهما على الآخر ، فإذا لم يؤخذ بالترجيح اعتماداً على التخيير فيها ، أدّى ذلك إلى اختلال نظام الاجتهاد ونظام الفقه ، ومعلوم أن إختلال نظامهما هو خلاف السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم السلام فيجب حينئذٍ الترجيح لا التخيير .

ص: 21

وفيه : إنّ الظاهرَ خروجُ مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع فإنّ الظاهر لايعدّ معارضاً للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك لايعدّ تعارضاً في العرف ، ومحلّ النزاع في غير ذلك .

وكيف كان : فقد ظهر ضعفُ القول المزبور وضعفُ دليله المذكور له ،

-----------------

( وفيه : إنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات ) الحاصلة بين الخاص والعام ، والمطلق والمقيّد ، والنص والظاهر ( عن محلّ النزاع ) الذي هو التعارض بين الخبرين ( فإنّ الظاهر لايُعدّ معارضاً للنصّ ) عرفاً ، وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : ( إمّا لأنّ العمل به ) أي : بالظاهر إنّما يكون ( لأصالة عدم الصارف ) أي:

إنّما يُعمل بالظاهر لأصالة الحقيقة فيما لم يكن هناك قرينة صارفة عن ظهور الظاهر ( المندفعة ) هذه الأصالة ( بوجود النصّ ) فإنّ حجيّة الظواهر تناط بعدم القرينة على الخلاف ، والنص قرينة على الخلاف فلا تعارض بينهما ، وكذلك الحال بين الظاهر والأظهر .

الثاني : ( وإمّا لأنّ ذلك ) أي : التعارض الذي يبدوللنظر بين النص والظاهر - مثلاً - ( لايعدّ تعارضاً في العرف و) ذلك لأنّ العرف يرى الجمع بينهما ، مع أن ( محلّ النزاع في غير ذلك ) أي : في الذي لايعدّه العرف تعارضاً ، فإنّ بحثنا في باب التعادل والترجيح إنّما هو فيما يراه العرف تعارضاً ، كالعموم من وجه في مورد الاجتماع ، كالتباين ، والتضاد ، والتناقض .

( وكيف كان ) : فإنّه سواء تمّ هذا الوجه الذي ذكره المستدل بقوله : « وقد يُستدل على وجوب الترجيح » أولم يتمّ ( فقد ظهر ضعف القول المزبور ) أي : القول بعدم وجوب الترجيح بين الخبرين المتعارضين (وضعف دليله المذكور له،

ص: 22

وهو عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ .

وأضعفُ من ذلك ما حكي عن النهاية : « من احتجاجه بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين » .

-----------------

وهو ) أي : الدليل الذي ذكر له : ( عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ ) فإنّ هذا الدليل ضعيف لوجود دليل الاجماع القولي والعملي عليه ، ومعه فاللاّزم أن يقال بالترجيح بقوة الظنّ إذا كان أحدهما أرجح من الآخر ، بواحد من المرجحات غير المنصوصة ، أو حتى المرحجات غير المنصوصة فيما إذا فهمنا الملاك من أخبار العلاج .

( وأضعف من ذلك ) أي : من الدليل السابق الذي استدل على وجوب الترجيح : بأنّه لولا ذلك لاختل نظم الاجتهاد بل نظام الفقه ، هو ( ما حكي عن النهاية ) للعلامة ( من احتجاجه ) واستدلاله على عدم الترجيح بين الأخبار المتعارضة حيث قال : ( بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام ) سواء كانت أخباراً متعارضة ، أم إجماعات منقولة متعارضة ، أو غير ذلك ( لوجب ) الترجيح ( عند تعارض البيّنات ) في الموضوعات أيضاً ، لأنه حيث كان مناط الترجيح الأقوائية ، فالأقوائية كما توجد بين الأمارات ، كذلك توجد في البيّنات ، ثم قال ( والتالي ) وهو الترجيح عند تعارض البينات ( باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين ) في الموضوعات ، بل يرجعون في مثل الماليات إلى قاعدة العدل ، وفي مثل النسب إلى القرعة ، فالمقدّم وهو : الترجيح عند تعارض الأمارات في الأحكام باطل مثله .

ص: 23

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين ، سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى .

ومرجع الأخير إلى أنّه لولا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضاً ، ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقاً ،

-----------------

( وأجاب عنه في محكيّ النهاية ) للعلامة ( والمنية ) لعميد الدين ( بمنع بطلان التالي ) أي : ليس الترجيح في البيّنات باطلاً ( و ) لذا قال جماعة من الفقهاء : ( أنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين ) كما قال جماعة منهم : بأنّه يقدّم شهادة الأعدل على العادل وإلى غير ذلك ، ثم قال : ( سلّمنا ) بطلان الترجيح في البيّنات ( لكن ) لا لفقد المقتضي ، بل لوجود المانع ، فإنّ ( عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا ) في باب الأخبار المتعارضة ( مذهب الجميع (1) ، انتهى ) محكيّ كلامهما رفع مقامهما .

( ومرجع ) الجواب ( الأخير ) وهو : « سلّمنا لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب الأكثر » ، مرجعه ( إلى أنّه لولا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضاً ) أي : أنّ مقتضى القاعدة حسب الجواب هو : وجوب الترجيح في كلا المقامين ، سواء في باب البيّنتين المتعارضتين ، أم في باب الخبرين المتعارضين ، إلاّ أنّ الدليل الخارجي الذي هو مخالفة الأكثر منع عن الترجيح في البيّنات ، ولولا هذا الدليل الخارجي المانع عن الترجيح لقلنا بالترجيح في البينات أيضاً لوجود المقتضي فيها .

( ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقاً ) حيث قلنا : بأنّ مقتضى القاعدة هو : تساقط

ص: 24


1- - النهاية : مخطوط .

فإنّا لو بنينا على حجيّة البيّنة من باب الطريقيّة ، فالّلازم مع التعارض التوقفُ والرجوعُ إلى ما يقتضيه الاُصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك .

ولو بني على حجيّتها من باب السببيّة والموضوعيّة ، فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما

-----------------

الطرق المتعارضة في خصوص مؤدّاها ، سواء كان التعارض في الأخبار ، أو البيّنات ، أو سائر الأمارات ، وذلك لأنه لامقتضي للترجيح فيها ، لا أن المقتضي موجود وإنّما مخالفة الأكثر مانع عن الترجيح فيها .

وعليه : ( فإنّا لو بنينا على حجّية البيّنة من باب الطريقيّة ) لا الموضوعية حيث أنّ المشهور قالوا : بأن البينة حجّة من جهة أنها طريق ( فاللازم مع التعارض التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الاُصول في ذلك المورد : من التحالف ) أي : بأن يحلف كل واحد من المتخاصمين لتبطل المعاملة - مثلاً - أو لينصّف المال المتنازع عليه ( أو القرعة ) إمّا مطلقاً ، أو في الموارد التي لايمكن التنصيف فيها كالنسب وما أشبه ( أو غير ذلك ) كالتصالح القهري بينهما فيما يمكن التصالح ، وذلك على ما ذكر في كتب القضاء من تفصيل ما هو المرجع عند التعارض في البيّنات .

( ولو بني على حجيّتها ) أي : حجيّة البيّنة ( من باب السببيّة والموضوعيّة ) لا الطريقيّة والكاشفيّة ، ووذلك بأن يكون قيام البينة علّة للحكم ( فقد ذكرنا : أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح ) من البيّنات بمجرّد الأقربية ( في الدخول فيما ) أي : في دليل حجية

ص: 25

دلّ على كون البيّنة سبباً للحكم على طبقها ، وتمانعهُما مستندٌ إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض ، فجعلُ أحدهما مانعاً دون الآخر ، لا يحتمله العقل .

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرجوعُ في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط

-----------------

البينة الذي ( دلّ على كون البيّنة سبباً ) فإنّ البيّنة على هذا القول - تكون - سبباً لجعل مؤدّاها حكماً ظاهرياً ، أو سبباً ( للحكم على طبقها ) فالحاكم يحكم على طبق البيّنة ويكون حال المقام حال الغريقين ، حيث أنّ المرجّحات التي لم تصل إلى درجة الأهم والمهّم ، ممّا يمنع الأهم عن المهم لا توجب سقوط التخيير .

ان قلت : وجود المزيّة في إحدى البيّنتين يخرجهما عن التمانع إلى الترجيح بذي المزية فيجب الترجيح لا التخيير .

قلت : ( وتمانعهما ) أي : تمانع البيّنتان بناءاً على السببية ( مستندٌ إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض ) فإنّ المفروض كون كل من البيّنتين جامعاً لشرائط الحجية والسببية ، فيشملهما أدلّة حجية البيّنة ممّا يوجب العمل بكل منهما تعييناً مع الامكان ، فاذا لم يمكن العمل بهما كذلك للتعارض تخيّر المكلّف بين العمل بهذه أو بتلك ، علماً بأنّ بعض المرجّحات التي لا تبلغ حدّ المنع عن النقيض ، لاتوجب تقديم ذي المرجّح على المرجوح ، وإذا كان كذلك ( فجعل أحدهما ) وهو الراجح ( مانعاً دون الآخر ، لايحتمله العقل ) لأنه يراهما متساويان من حيث جواز الأخذ بهذه أو بتلك .

( ثمّ أنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرّجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط ) فالفقيه بنظر السيد مخيّر بين الأمرين :

ص: 26

وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار : « إنّ الجوابَ عن الكلّ ما أشرنا إليه ، من أنّ الأصل التوقفُ في الفتوى والتخييرُ في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلمُ بمطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الأفضلُ والأولى » .

-----------------

بين التخيير ، أو التوقف والاحتياط ، ولايلزم عليه أن يرجّح بعض الأخبار على بعض حتى وإن كان هناك راجح ومرجوح ( و) من أجل ذلك ( حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ) لا الوجوب الذي عليه المشهور ، فإنّ المشهور يقولون بوجوب ترجيح الراجح على المرجوح .

وإنّما يظهر من السيد ذلك ( حيث قال بعد إيراد الاشكالات على العمل بظاهر الأخبار ) العلاجية قال : ( إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل ) والقاعدة الكلية في باب الخبرين المتعارضين هو : ( التوقف في الفتوى ) فلا يفتي الفقيه بهذا ولا بذاك من جهة الفتوى ، ومن جهة العمل ، فكما قال : ( والتخيير في العمل ) فإذا ورد - مثلاً - خبران : أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، فالمفتي من حيث الفتوى لا يفتي بأحدهما من حيث العمل فهو مخيّر بين أن يصلي الجمعة أو يصلي الظهر .

هذا ( إن لم يحصل من دليل آخر ) للفقيه كموافقة المشهور - مثلاً - ( العلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع ) فإذا علم بمطابقة أحد الخبرين للواقع لزم الأخذ بذلك الخبر الذي علم بمطابقته للواقع ثم قال ( وأنّ الترجيح ) بين الأخبار بسبب المرجّحات المذكورة في الروايات ( هو الفضل والأولى (1) ) لا أن الترجيح بها يكون معيّناً .

ص: 27


1- - شرح الوافية : مخطوط

ولا يخفى بُعده عن مدلول أخبار الترجيح ، وكيف يحمل الأمرُ بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصاً مع التعليل بأنّ الرشد في خلافهم ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام فيما يسمعونه منه ، وكذا الأمرُ بطرح الشاذّ النادر ،

-----------------

( ولايخفى بعده ) أي : بُعد الاستحباب الذي ذكره السيد الصدر ( عن مدلول أخبار الترجيح ) الظاهر الدلالة في الوجوب ، فلا يمكن أن تحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ( وكيف يحمل الأمر بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ؟ ) مع أن الظاهر من عبارة هذه الروايات هو أن مخالف العامة موافق للواقع ، وموافق العامة مخالف للواقع ( خصوصاً مع التعليل ) المذكور في تلك الروايات عند ذكر العامة ( بأن الرشد في خلافهم (1) ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام فيما يسمعونه منه ) فإنّ أمثال هذه العبارات في الروايات العلاجية ، نص في أنّ الموافق للعامة باطل ، وانّ المخالف لهم حق ، وهل بعد ذلك يخيّر الإمام بين الأخذ بالحق وبالباطل ؟ .

( وكذا الأمر ) الوارد في روايات العلاج ( بطرح الشاذّ النادر (2) ) أي : ما كان في قِبال المشهور يلزم طرحه ، كما أنّه يلزم الأخذ بالمشهور ، ومن المعلوم : أنّ العرف يستفيد من مثل هذه العبارات : أنّ الشاذ باطل وأنه لايطابق الواقع ، وأنّ المشهور حق وأنّه المطابق للواقع ، خصوصاً مع قوله عليه السلام : « فإنّ المجمع عليه

ص: 28


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح3334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين ، مع أنّ في سياق تلك الاخبار موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ،

-----------------

لاريب فيه » (1) ، فهل يمكن مع ذلك التخيير بين ما لاريب فيه وما فيه الريب ؟ .

( و ) كذا الأمر الوارد في روايات العلاج ( بعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحَكَمين ) في قِبال الأخذ بالأعدل والأفقه .

هذا أوّلاً : حيث أنّ ظاهر هذه الروايات هو : وجوب الترجيح لا استحبابه ، لعلّ الروايات أحد الخبرين المتعارضين حقاً ، والآخر باطلاً ، ولا يمكن التخيير بين الحق والباطل .

( مع أنّ ) هنا دليلاً ثانياً على عدم كون الترجيح من باب الاستحباب بل من باب الوجوب وهو : أن ( في سياق تلك الأخبار ) العلاجية ( موافقة الكتاب والسنّة ) المقطوع بها ( ومخالفتهما ) فقد قال عليه السلام : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة » (2) والمراد بالسنة : السنة المعلومة الواردة عن النبي والائمة عليهم السلام فإذا كان هناك خبران : أحدهما موافق للكتاب والسنة والآخر مخالف للكتاب والسنة ؛ فإنّه يؤخذ بالموافق ويترك المخالف .

( و ) إن قلت : أنّ الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ( لايمكن حمله على الاستحباب ) إذ كيف يمكن أن يقال : أنّ موافق الكتاب والسنّة يستحب الأخذ

ص: 29


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل .

وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي من الاشكالات الداعية له إلى ذلك أهونُ من هذا الحمل ، لما عرفت من عدم جواز حمله

-----------------

به في قِبال الخبر المخالف للكتاب والسنّة ؟ وأنّه يتخير بينهما ؟ ولذلك نقول بوجوب الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة المعلومة الواردة عنهم عليهم السلام ونحمل غير ذلك من سائر المرجّحات على الاستحباب .

قلت : ( فلو حمل غيره ) أي : غير موافق للكتاب والسنّة من سائر المرجّحات ( عليه ) أي : على الاستحباب ، وحملنا موافقة الكتاب والسنة على الوجوب ( لزم التفكيك ) بين المرجّحات المتحدة من حيث السياق الواردة في أخبار العلاج ، فإنّه كيف يمكن أن يقال في الخبر الذي يأمر في سياق واحد الترجيح موافق الكتاب والسنّة ، وغير ذلك من سائر المرجّحات ، بالتفكيك بين فقراته مع اتحاد سياقه ، وذلك بحمل فقرة منه على الوجوب وفقرة منه على الاستحباب ؟ .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى أنّه بعد الاضطراب الموجود في المرجّحات الواردة في الأخبار ، لابدّ من حمل الترجيح بها على الاستحباب ، إلاّ فيما إذا عُلم بأنّ الترجيح واجب ، مثل : موافقة الكتاب والسنة المعلومة ، ومخالفة العامة فيما إذا كانت المخالفة قطعية ، وذلك كما إذا كانت طريقة العامة على الأخذ بشئمعيّن من طرفي الروايات المتعارضة .

( وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي ) والتخلّص ( من الاشكالات الداعية له ) أي : للسيد الصدر ( إلى ذلك ) أي : الى حمل الترجيح في الأخبار العلاجية على الاستحباب ( أهونُ من هذا الحمل ) أي : من الحمل على الاستحباب ، وذلك ( لما عرفت : من عدم جواز حمله ) أي : عدم جواز حمل الترجيح في أخبار

ص: 30

على الاستحباب .

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقفُ ، فيجب العمل بالترجيح ، لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّداً بين التخيير والتعيين ، وجب التزامُ ما احتُمل تعيينه .

-----------------

العلاج ( على الاستحباب ) بل اللازم القول بوجوب الترجيع ودفع تلك الاشكالات الداعية للسيد الصدر إلى القول من أجلها بالاستحباب .

( ثمّ ) ان قلت : أن السيد الصدر إنّما حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، لأنه رأى الأمر دائر بين تقييد أخبار التخيير بعدم وجود مرجّع في أحدهما ، وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فاختار الثاني .

قلت : ( لو سلّمنا دوران الأمر بين ) حمل أخبار الترجيح على الوجوب ، كما اختاره المشهور ليتّم ( تقييد أخبار التخيير ) بما لم يكن مرجّح هناك في أحد الخبرين المتعارضين ( وبين ) الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، سواء كان هناك في أحدهما مرجح أو لم يكن ، ليتمّ ( حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ) كما اختاره السيد الصدر ، فإذا سلّمنا ذلك ( فلو لم يكن الأوّل ) يعني : تقييد أخبار التخيير ، لشيوع التقييد في الأخبار ( أقوى وجب التوقف ) لا اختيار الثاني وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب الذي فعله السيد الصدر .

وعليه : فإذا قلنا بأنّه يجب التوقف هنا ( فيجب العمل بالترجيح ) من باب الاحتياط ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّداً بين التخيير والتعيين ، وجب التزام ما احتُمل تعيينه ) لأنّا إذا عملنا بالمرجّحات كان كافياً قطعاً ، سواء كان حكم المتعارضين في الواقع هو التخيير

ص: 31

المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين

وهي أخبار :

الأوّل : ما رواه المشايخُ الثلاثةُ بإسنادهم الى عمر بن حنظلة ، قال : سَألتُ أبا عَبدِ اللّه عليه السلام عن رجُلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعةٌ في دَين أو ميراث ،

-----------------

أو الترجيح ، بينما لو عملنا بالتخيير لم نعلم بكفايته قطعاً ، والعقل إذا تردّد بين الكافي قطعاً ، وبين غير الكافي على بعض الاحتمالات ، يرى تقديم الكافي قطعاً على غيره .

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وقد كان في وجوب الترجيح بالمزية الموجودة في أحد الخبرين المتعارضين .

( المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار ) متعدّدة تدعى بالأخبار العلاجية وهي كما يلي :

( الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة ) وهم الشيخ الكليني ، والشيخ الصدوق ، والشيخ الطوسي قدس سرهم ( باسنادهم إلى عمر بن حنظلة ) علماً بأن وجود الخبر في الكافي أو في الفقيه كافٍ في حجيته ، لضمان صاحبهما ذلك في أوّل الكتاب حتى وإن كان الراوي مجهولاً أو غير ثقة ، وذلك على تفصيل ذكرناه في الرِّجال .

( قال : سألتُ أبا عَبدِاللّه عليه السلام عن رَجُلين من أصحابنا ، يَكُونُ بينَهما منازَعةٌ في دَين أو مِيراث ) ومن الواضح ، أن ذكر الرجلين من باب المثال ، وإلاّ فلو كان التنازع بين رجل وإمرأة ، أو إمرأة وإمرأة ، أوكان بين رجلين من غير أصحابنا ، حيث أن الجميع مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول ، كان كذلك أيضاً ، علماً بأنّ

ص: 32

فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلُّ ذلك ؟ .

قال عليه السلام : من تحاكمَ إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تَحاكمَ إلى الطّاغُوت ، وما يُحكمُ له فإنّما يأخُذُه سُحتاً وإن كان حَقّه ثابتاً ، لأنّه أخَذَ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمرَ اللّه أن يُكفر به ،

-----------------

المنازعة قد تكون من الشبهة الموضوعية كما لو قال أحدهما بالنسبة إلى الدَّين - مثلاً - اقترضت مائة دينار ، وقال الآخر : بل ألف درهم ، مع فرض التفاوت بينهما في القوة الشرائية ، وقد تكون في الشبهة الحكمية كما لو قال الولد الاكبر بالنسبة إلى الميراث - مثلاً - أن له حبوة الخاتم لأنّه هو الأكبر ، وقال سائر الورثة : ليس له الحبوة من جهة أنّ أصابعه مقطوعة وهو إنّما يرث الحبوة فيما إذا لم تكن أصابعة مقطوعة .

ثمّ قال : ( فَتَحا كَما إلى السلطان ) من سلاطين الجور ( أو إلى القضاة ) المنصوبين بأمر ذلك الجائر (أيَحِلُّ ذلك) الترافع إلى هذا السلطان أو إلى هؤلاء القضاة؟.

( قال عليه السلام : من تحاكم إليهم في حَقّ أو باطل ، فإنّما تحاكمَ إلى الطّاغُوت ) إشارة إلى نهي اللّه تعالى عنه في كتابه الكريم حيث يذمّ تعالى الذين يزعمون الايمان ويتحاكمون إلى غير اللّه ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام بقوله : « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به ، ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً » (1) ، ثم قال عليه السلام : ( وما يحكم له ) ذلك السلطان الجائر ، أو قاضي السوء ، من المال ، أو الحق ( فإنّما يأخذه سُحتاً ) أي : حراماً حتى ( وإن كان حقّه ثابتاً ) واقعاً ، وذلك ( لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر اللُّه أن يكفر به ) أي : أن يجّحد بالطاغوت ويبرء منه ، ومعنى الجحود به والتبرّي منه : انكاره وعدم

ص: 33


1- - سورة النساء : الآية 60 .

قال الله تعالى : « ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يَكفُروا به » قلت : فكيف يَصنعان ؟ قال : ينظران إلى مَن كان مِنكُم ممّن قد روى حَديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحُكمنا

-----------------

مراجعته في شئمن أمور الدين والدنيا من قضاء وحكم وغير ذلك ، كما ان معناه عدم إعانته والركون إليه .

ثم قال عليه السلام : ( قال اللّه تعالى : « ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفُرُوا به » ) ولعل مراد الإمام عليه السلام من قوله : « قال اللّه تعالى ...» نقل الآية بالمعنى (1) ، أو نقل كلام اللّه سبحانه في حديث قدسي ، لا نقل الآية بالنصّ ، فإنه عليه السلام استدل بذلك على أن التحاكم إلى غير اللّه ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام تحاكم إلى الطاغوت ، وأنّ ما يأخذه بحكم الطاغوت هو سُحت .

قال الراوي ( قلت : فكيفَ يَصنَعان ) هذان المتنازعان ؟ .

( قال : ينظُران الى مَن كان منكُم ) أي : يتحاكمان إلى رجل من الشيعة ( ممّن قد روى حديثنا ) بأن يكون مجتهداً لا مقلداً ( ونظر في حلالنا وحرامنا ) بأن يكون له قوة الاستنباط الفعلي ( وعرف أحكامَنا ) بأن يكون له فعليّة المعرفة بالحكم ، فإنّه قد يكون المجتهد مستنبطاً فعلياً له قوة الاستنباط ، لكنّه لايستحضر المسألة التي ترافَع فيها المنازعان إليه ، فإذا وجدا من هو جامع لهذه الشرائط ( فليرضُوا به حَكَماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ) وهذا يدل على أنّ إختيار القاضي في الرجوع إليه يكون بيد المترافعين .

ثم قال عليه السلام ( فإذا حكَم بحُكمنا ) فإنّ القاضي قد يقول : إني أرى أن تتصالحوا

ص: 34


1- - وهي الآية 60 من سورة النساء : « أن يتحاكموا» .

فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخف وعلينا قد رُدّ ، والراد علينا الرادُّ على الله ، وهو على حدّ الشرك باللّه .

قلتُ : فإن كان كلُّ رجل يختارُ رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا في ما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ .

-----------------

فيما بينكم - مثلاً - .

من دون أن يحكم بينهما بحكم خاص مستنبط من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، ففي مثل هذا للمترافعين رفضه أو قبوله ، ولكنّ ليس كذلك لو حكم بينهما بحكم مستنبط شرعي فإنه إذا حكم بينهما بحكم الشرع ( فلم يُقبل منه ، فإنّما بحكم اللّه استُخفَّ ، وعلينا قد رُدَّ ، والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه ) فإنّ الردّ عليه إنّما يكون على حدّ الشرك باللّه ، لأنه يطلب بذلك حكماً من غير حكم اللّه ، كالمشرك الذي يزعم أنّ له الهين ، يرجع إلى هذا تارة ، وإلى ذاك اُخرى .

قال الراوي ( قلت : فإنّ كان كلُّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا ) أي : المترافعان ( أن يكونا ) أي : الحاكمان ( الناظرين في حقهما ) وهذا يدلّ على جواز الرجوع إلى القضاة المتعدّدين في قضية واحدة وفي عرض واحد ، فإذا كان القضاة ثلاثة أو ما أشبه ، فالحكم يكون لأكثرهم ، من باب أدلة الشورى ، وذلك على ما ذكرناه في كتاب القضاء ، وغيره ، فإذا نظر الحاكمان في أمرهما ( فاختلفا فيما حكما وكلاهما إختلفا في حديثكم ) فهذا يستند إلى حديث مروي عنكم ، وذلك يستند إلى حديث آخر ، مروي عنكم أيضاً ، ولكن كانا من الأحاديث المتعارضة .

ص: 35

قال : الحكمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقهُهما ، وأصدقهما في الحديث وأورعُهما ، ولا يلتفتُ إلى ما يحكم به الآخر .

قلت : فإنهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يَفضُلُ واحدٌ منهما على الآخر ؟ .

قال : ينظرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وانّما الاُمور ثلاثة ،

-----------------

( قال : الحكمُ ما حكم به أعدلُهما وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث وأروعهما ) عن المحارم ، علماً بأن الفقاهة في الفهم ، والصدق في الكلام ، والعدالة في كل الشؤون ، والورع شئفوق العدالة وأما بالنسبة إلى الآخر فإنّه قال عليه السلام ( ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر ) ممّن ليس فيه هذه المزايا .

قال الرواي ( قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لايفضُلَ واحدٌ منهما على الآخر ) بشئمن هذه الصفات والمزايا المذكورة .

( قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك ) المورد المتنازع فيه ( الذي حكما به ) طبق المروي عنّا ( المُجمع عليه بين أصحابك ) أي : المشهور بين الأصحاب كما سيأتي إنشاء الله تعالى أنه بمعنى الشهرة لا الاجماع ، فإذا كان أحدهما مجمعاً عليه ( فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المُجمع عليه لارَيب فيه ) فإنّ الإمام عليه السلام رجّح أوّلاً أحد القاضيين على القاضي الآخر بالصفات المذكورة ، ثم رجّح رواية أحدهما على الرواية الاُخرى بقوله : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا » ، ثم استدل للزوم ترجيح خبر على خبر بقوله : ( وإنّما الاُمور ثلاثة ) على النحو التالي :

ص: 36

أمرٌ بينٌ رشدُه فيتبعُ ، وأمرٌ بيّن غيّه فيُجتنبُ ، وأمرٌ مشكل يُردُّ حكمه إلى اللّه .

قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشُبهاتٌ بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم .

قال قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقاتُ عنكم ؟ .

-----------------

الأوّل : ( أمرٌ بيّن رشده ) كالمجمع عليه ( فيُتَّبع ) ويُعمل به .

الثاني : ( وأمرٌ بيّن غيّه ) كالذي نعلم أنّه ليس بحكمهم عليهم السلام ( فيُجَتَنب ) .

الثالث : ( وأمرٌ مشكل ) كالشاذ ، لاحتمالنا أنه حكمهم عليهم السلام لكنّ المشهور على خلافة ، فإنّ مثل هذا ( يُردّ حكمه إلى اللّه ) يعني : يجب أن يفحص عنه ، في القرآن والسنة المتواترة ، ليُعلم منهما أن هذا الأمر المشكل أيّ جانب منه صحيح ، وأيّ جانب منه غير صحيح ؟ .

ثم استدل عليه السلام لما ذكره بقوله ( قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشبهاتٌ بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لايعلم ) .

ولا يخفى : أنّ المراد بالحلال البيّن أحكام ثلاثة هي : الاستحباب والكراهة والاباحة ، والمراد بالحرام البيّن حكمان : الوجوب والتحريم ، وإنّما كان الوجوب داخلاً في الحرام البيّن ، لأنّ ترك الواجب حرام بيّن ، والأحكام الوضعية داخلة في الأحكام التكليفية على ما ذكره المصنّف وتقدّم الكلام فيه ، فالحديث إذن شامل لكل الأحكام الوضعية والتكليفية .

( قال ) الراوي : ( قُلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم )

ص: 37

قال : يُنظر ما وافق حُكمُه حكم الكتاب والسنّه وخالف العامّة فيؤخذُ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامّة .

قلتُ : جُعلتُ فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً ،

-----------------

بأن كان كل واحد من الخبرين في كل الكتب الأربعة فرضاً فمإذا يصنع المتنازعان ؟ .

( قال : يُنظَر ما وافق حُكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويُتَرك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ) .

ولا يخفى : أنّ العامّة في تلك العصور كانوا يعتمدون الكذب الصريح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وعلى عليّ عليه السلام وعلى غيرهما ، كما لايخفى على من راجع التاريخ ، حتى أن البخاري جمع كتابه من بين ستمائة ألف حديث تقريباً ، ولم يدرجها جميعاً في كتابه ، لأنه لم يعتمد عليها ، بالإضافة إلى أنهم كانوا يأخذون بالقياس والرأي والاستحسان وما أشبه ذلك ، ممّا كان يجعل فقههم غالباً على خلاف الواقع ، ولذا جعل الأئمة عليهم السلام الرشد في خلافهم .

قال الرواي ( قلت : جُعلتُ فِداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمهُ ) أي : الحكم الذي حكم به كل منهما ، بأن كان ( من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً ) فهل نأخذ بالموافق أو بالمخالف ؟ ومعنى أنهما عرفا حكمه من الكتاب والسنة هو أن يدّعي كل واحد من الفقيهين : إنّ مايحكم به يوافق الكتاب ، كما نجد مثل ذلك في باب المعاطاة - مثلاً - حيث أن بعض الفقهاء يقولون : أن « أوفوا بالعقود » (1) يشمل المعاطاة ، وبعض الفقهاء ،

ص: 38


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

بأيّ الخبرين يؤخذ ؟ .

قال : ما خالف العامّه ففيه الرشادُ فقلت : جعلتُ فداك ، فإن وافقها الخبران جميعاً ؟ .

قال : ينظر إلى ما هم أميلُ إليه حُكّامُهُم وقضاتُهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلتُ : فإن وافق حُكامُهم الخبرين جميعاً ؟ قال : إذا كان ذلك ، فَارجه حتى تلقى إمامك ،

-----------------

يقولون : أنه لايشمل المعاطاة ، وهكذا غيره ، ففي مثل ذلك ( بأيّ الخبرين يؤخذ ) حينئذ .

( قال : ما خالف العامّة ففيه الرّشاد ) ومعناه : أنّه خذ بما خالف العامة .

قال الراوي : ( فقلت : جُعِلتُ فِداك ، فإن وافقها ) أي : وافق العامة ( الخبران جميعاً ) وذلك بأن يكون بين العامة خلاف - مثلاً - كأن يقول جماعة منهم : صلاة الجمعة واجبة ، ويقول آخرون : صلاة الجمعة مستحبة ، فهل نأخذ بالوجوب أو بالاستحباب مع أنّ كل واحد من العملين يوافق جماعة من العامة ؟ .

( قال : يُنظرُ إلى ما هم أميل إليه حكّامُهم ) أي : سلاطينهم ( وقضاتُهم ، فيترك ) ما هم إليه أميل ( ويؤخذ بالآخر ) فإذا كان أحد الخبرين موافقاً لميل السلطان الجائر ، ولميل المنصوب بأمر الجائر من الولاة والقضاة السّوء ، والآخر أبعد من ميلهم ، فيؤخذ بالأبعد من ميلهم .

قال الراوي ( قلت : فإن وافق حُكامُهم الخبرين جميعاً ) بأن كان ميلهم مع كل منهما .

( قال : إذا كان ذلك ، فأرجه ) أي : أخّر أمرك ، ولاتحكم طبق أحد الخبرين ، ولا بأحد قولّي القاضيين ( حتى تلقى إمامك ) فتسأله عن الحكم ، ثم علّل عليه السلام

ص: 39

فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات .

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخلُ عن الاشكال ، بل الاشكالات ،

-----------------

هذا الارجاء والتوقف بقوله ( فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام ) والدخول بلا رويّة ( في الهلكات ) (1) فإنّ الانسان إذا أخذ بشئمن دون دليل شرعي عليه ، فقد عرّض نفسه للهلاك ، انتهت الرواية .

قال المصنِّف ( وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال ، بل الاشكالات ) المتعدّدة وليس إشكالاً واحداً ، وذلك على ما يلي :

الاشكال الأوّل : إنّ ظاهر الرواية هو : التحكيم ومراجعة الخصمين إلى القاضي لفصل الخصومة بينهما ، وليس في استعلام حكم المسألة ، ويرد عليه حينئذٍ خمسة أمور كما سيأتي ، من المصنّف بيانها انشاء الله تعالى .

الاشكال الثاني : إنّ ظاهر الرواية هو : تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة وهذا خلاف السيرة المستمرة بين الفقهاء ، حيث أنّهم يقدّمون الترجيح بالشهرة على الترجيح بذي الصفات ، فإذا كانت إحدى الروايتين مشهورة ، والاُخرى غير مشهورة يأخذون بالمشهورة ، وإن كان الراوي للمشهورة أقل صفة من صفات الراوي للرواية غير المشهورة .

الاشكال الثالث : إنّ ظاهر الرواية هو : انّ مجموع الصفات من الأعدلية ، والأفقهية ، والأصدقية ، والأورعية المذكورة في الرواية مرجّح واحد ، فيلزم اجتماعها حتى يرجّح به ، مع أن الفقهاء اجمعوا على كفاية كل واحد من تلك الصفات في الترجيح به من دون لزوم اجتماعها .

ص: 40


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة .

فلا يناسبها التعدّدُ

-----------------

هذا ، وقد أجاب المصنّف عن الاشكالين الأخيرين ، ولم يجب عن الاشكال الأوّل الذي أورده على المقبولة بخمسة أمور ، لكن الاشكال الأوّل بفروعه الخمسة أيضاً غير وارد كما سنتكلم حوله إنشاء الله تعالى .

وعليه : فالرواية فيها إشكالات ( من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة ) حيث قال الراوي في صدرها : « سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دَين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحّل ذلك » وهذا يرد عليه إشكالات تالية :

أولاً : ( فلا يناسبها التعدّد ) أي : تعدّد القضاة ، وذلك لأنّ المتعارف هو أن : الحاكم والقاضي دائماً يكون واحداً لامتعدداً ، ولكن يرد عليه ما ذكرناه سابقاً : من أنّ تعدّد القضاة كان متعارفاً في الزمان السابق قبل الاسلام ، وبعد الاسلام ، وفي الزمان الحاضر أيضاً .

أمّا قبل الاسلام : فلأنه ورد في التواريخ ذلك ، حتى أنّهم نقلوا : انّ القضاة الذين اجتمعوا في بابل للحكم على النبي ابراهيم الخليل عليه السلام في قضيته المعروفة من تحطيم الأصنام التي كانت « الهتهم » بزعمهم ، كانوا ثلاثمائة قاضياً .

وإمّا في الزمان الحاضر فهو المتعارف عند الدول المتقدِّمة ، وذلك بحسب القوانين الدولية في معالجة القضايا المهمة .

وأمّا في الاسلام : فلأن النبي صلى الله عليه و آله وسلم والأعرابي الذي ادّعى أنّه لم يستلم ثمن الناقة التي باعها منه مع أنه صلى الله عليه و آله وسلم كان قد دفعه إليه ، تقاضيا إلى جملة من القضاة طولاً بضميمة أنّه لافرق بين الطولي والعرضي ، وقد ذكرنا كيفية حكمهم إذا كانوا

ص: 41

ولا غفلةُ الحَكَمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر .

-----------------

متعدّدين ، مظافاً إلى شمول إطلاق الأدلة - كما عرفت - لتعدّد القضاة ، فهو كما إذا قلّد فقهاء متعدّدين طولاً أو عرضاً .

ثانياً : ( ولا ) يُناسب الرواية ( غفلة الحَكَمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ) لفرض أن الحَكمَين حكما حسب روايتين ، فكيف غفل كل واحد من الحَكمَين عن الرواية الاُخرى التي هي مدرك الحاكم الآخر ؟ .

ويرد عليه : أنّه من الممكن أن يكون كل منهما عالماً بالرواية الاُخرى ، لكنّه لايراها كافية للاستناد إليها كما أنه يمكن عدم إطلاع كل منهما على الرواية الاخرى ، وذلك لأنّ الأخبار في أيامهم عليهم السلام لم تكن مجموعة بهذا الشكل الذي هو عليه اليوم حتى يطلّع عليها كل أحد ، وإنّما جمعت الأخبار بعد ذلك كما هو واضح .

ثالثاً : ( ولا ) يناسب الرواية ( اجتهاد المترافعين وتحرّيهما ) أي : فحصهما ( في ترجيح مستند أحد الحَكَمين على الآخر ) وذلك لأنّ وظيفة المترافعين اتّباع حكم الحاكم ، وليس من شأنهما الفحص عن مدرك حكم الحاكم والبحث عن ترجيح أحد المدركين على المدرك الآخر عند التعارض ، فكيف حكم الإمام عليه السلام معه برجوعهما إلى وجوه الترجيح ؟ ويرد عليه : أنّه لامانع من ذلك ، فإنّ كثيراً من المترافعين يكونون علماء أيضاً ، كما نجده اليوم في زماننا ، حيث نرى المترافعين يعلمان القوانين ويناقشان الحكام في مدرك حكمهم .

رابعاً : ( ولا ) يناسب الرواية ( جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر )

ص: 42

مع بُعد فرض وقوعهما دفعةً ، مع أنّ الظاهرَ - حينئذٍ - تساقُطهما ، والحاجةُ إلى حكم ثالث ظاهرةٌ ، بل صريحةٌ في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات

-----------------

وذلك لأنّ صحة تعدّد القضاة مستلزمة لنفوذ حكم الآخر بعد حكم الأوّل ، والحال أنّ الفقهاء لايقولون بذلك بل يقولون : بأنّه إذا حكم أحدهما بحكم ينفّذ حكمه ويجب متابعته ، فيلغو حكم الآخر ، ولا يبقى مجال لملاحظة التراجيح فيه .

ويرد عليه : انّا نقول بوقوع الحكم منهما دفعة واحدة عرفية ، مضافاً إلى أن قصة ترافع النبي صلى الله عليه و آله وسلم والاعرابي تدّل على أنّ للمترافعين مراجعة حاكم ثان ، وحاكم ثالث ، كما هو المتعارف الآن في محاكم الاستئناف والتمييز ثانياً وثالثاً .

ويؤيده : ماذكره الفقهاء من أنّ القاضي إذا خلف القاضي الآخر في بلد ، كان عليه أن يراجع السجون حتى يطلق سراح بعض السجناء وما أشبه ذلك ، مع أنهم سجنوا بحكم القاضي السابق .

خامساً : ( مع بُعد فرض وقوعهما دفعةً ) واحدة ( مع أن الظاهر حينئذ ) أي : حين وقوع الحكم من الحَكَمين معاً دفعة واحدة (تساقطهما، والحاجة الى حَكَم ثالث).

ويردّ عليه : أنه لامانع من جعل حكم ثانوي في الطريقين المتعارضين بعد أن كان الحكم الأوّلي فيهما التساقط ، والأصل الثانوي هو : الرجوع إلى مدرك الحكم وملاحظة المرجّحات إن كانت ، بالنسبة إلى من كان له أهلية الرجوع إلى ذلك من المترافعين .

وعلى أيّ حال : فهذه الرواية وإن لم تخل عن اشكالات حسب نظر المصنّف إلاّ أنها بنظره ( ظاهرةٌ : بل صريحةٌ في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات

ص: 43

بين الاخبار المتعارضة ، فإنّ تلك الاشكالات لاتدفع الظهور ، بل الصراحة .

نعم ، يرد عليه بعضُ الاشكالات في ترتّب المرجّحات ، فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث

-----------------

بين الأخبار المتعارضة ) فتكون دليلاً على الترجيح الذي يقول به المشهور .

أمّا أنها ظاهرة : فلوجود الأمر الظاهر في الوجوب خصوصاً إذا كان بلفظ الخبر مثل : « يُؤخذ » و« يُترك » و« يُنظر » وما أشبه ذلك .

وأمّا أنها صريحة : فبقرينة الحصر الموجود في قوله : « الحُكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولايلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (1) وبقرينة تماسك الفقرات بعضها مع بعض ، وبقرينة استقصاء الرواية ذكر المرجّحات .

وعليه : ( فإنّ تلك الاشكالات لاتدفع الظهور ، بل الصراحة ) الموجودة بوجوب الترجيح في الرواية ، وذلك لأنّ الاشكالات منصبّة على التحكيم المستفاد من صدر الرواية ، بينما وجوب الترجيح مستفاد من الفقرات الآمرة بالترجيح بين الخبرين ، ولا ربط بين المقامين ، إذ من الممكن أن يكون هناك خبر فيه مواضيع متعدّدة فيعمل ببعضها دون بعضها الآخر ، فيكون حال الفقرات المتعدّدة حال روايتين مختلفتين من جهّة الاجمال والتبيين ، حيث يعمل بأحداهما ولا يعمل بالأخرى .

الثاني : من الاشكالات التي أو ردها المصنّف على الرواية المقبولة ما ذكره بقوله : ( نعم ، يرد عليه بعض الاشكالات في ترتّب المرجّحات ) حيث أن هذا الترتيب خلاف المشهور كما قال : ( فإنّ ظاهر الرواية : تقديم الترجيح من حيث

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

صفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة والشذوذ .

مع أنّ عمل العلماء قديماً وحديثاً على العكس على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ، فإنّ العلماء لاينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الراوي ، اللّهمّ إلاّ أن يمنع ذلك .

فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيحُ روايته وإن انفرد بها على الرواية المشهورة بين الرواة ،

-----------------

صفات الرّاوي ، على الترجيح بالشهرة والشذوذ ) فقد ذكرت الرواية أو لاً صفات الراوي ثم ذكرت ثانياً الترجيح بالشهرة ( مع أنّ عمل العلماء قديماً وحديثاً على العكس ) من ترتيب هذه الرواية ، فإنّهم يقدّمون الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ، وذلك ( على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ) حيث انّ الإمام عليه السلام قدّم الشهرة فيها ، ثم ذكر سائر المرجّحات المتربطة بصفات الراوي .

وعليه : ( فإنّ العلماء لاينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الرّاوي ) بل يأخذون بالمشهور وإن كان صفات راوي الشاذ أرفع من صفات راوي المشهور .

( اللّهمّ إلاّ أن يُمنع ذلك ) أي : يُمنع إطلاق تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بصفات الراوي ، وذلك بأن نقول : إنّه ربما يُقدّم الترجيح بالشهرة ، وربّما يُقدّم الترجيح بصفات الراوي ( فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ) من الراوي للرواية الاُخرى ( لم يبعد ترجيح روايته ) أي : رواية هذا الذي كان أفقه وأصدق وأورع ( وإن انفرد بها ) بأن كانت هذه الرواية رواية شاذةً ، فأنه مع ذلك قد نرجّح أحياناً هذه الرواية الشاذة ( على الرواية المشهورة بين الرواة ) .

ص: 45

لكشف اختياره إيّاها مع فهمه وورعه ، عن اطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة ، أو تأويل لم يطّلع عليه غيره ، لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الاُمور وجهات الصدور ، نعم ، مجرّد أصدقيّة الراوي وأورعيّته لايوجب ذلك ، ما لم ينضمّ إليه الأفقهيّة .

هذا ، ولكنّ الرواية مطلقة ، فيشمل الخبر المشهور روايته

-----------------

وإنّما نرجّح هذه الشاذّة أحياناً على تلك المشهورة ( لكشف اختياره ) أي : اختيار هذا الراوي الأصدق الأعدل الأفقه ( ايّاها ) أي : لهذه الرواية الشاذة ، يكشف ( مع فقهه وورعه ، عن اطّلاعه على قدحٍ في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة ، أو تأويلٍ لم يطّلع عليه غيره ) وقد اطّلع هو على ذلك ( لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الاُمور وجهات الصدور ) فإنّ تنبّهه لذلك كان داعياً له لنقل الرواية الشاذة دون الرواية المشهورة .

( نعم ، مجرّد أصدقّية الراوي وأورعيّته لايوجب ذلك ) أي : لايوجب الترجيح الشاذ على المشهور ، وذلك لأنّ الصدق والورع لايرتبطان بالفهم ( مالم ينضمّ إليه الأفقهيّة ) حيث أن الأفقهية مرتبطة بفهم دقائق الاُمور وتحقيق حال الروايات .

( هذا ، ولكنّ الرواية ) وهي : مقبولة عمر بن حنظلة ( مطلقة ) أي : ليست مختصة بالفرض الأخير الذي صحّح فيه المصنّف تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة ، ليرفع به إشكال ترتّب المرجّحات التي أو ردها على المقبولة ، فإنّ إشكال ترتّب المرجّحات باق ، لشمول المقبولة صورتين اُخريين مخالفتين للترتّب المذكور فيها ، والصورتان هما كالتالي :

الصورة الاُولى : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( فيشمل الخبر المشهور روايته

ص: 46

بين الأصحاب ، حتى بين من هو أفقه من هذا المنفرد برواية الشاذّ ، وإن كان هو أفقه من صاحبه لمرضي بحكومته ، مع أنّ أفقهيّة الحاكم بإحدى الروايتين لايستلزم أفقهيّة جميع رواتها ، فقد يكون مَن عداه مفضولاً بالنسبة إلى رواة الاُخرى .

-----------------

بين الأصحاب ، حتى بين من هو أفقه من هذا ) الأوّل ( المنفرد برواية الشاذّ ، وإن كان ) هذا الأوّل الراوي للشاذ ( هو أفقه من صاحبه ) أي : الثاني الناقل للمشهور ( لمرضيّ بحكومته ) يعني : لو روى - مثلاً - زرارة الأفقه ، عن المعصوم مباشرة وبلا واسطة رواية الشاذ ، وروى محمد بن مسلم وهو غير الأفقه عن المعصوم مع الواسطة رواية المشهور ، لكن كان في جملة وسائط رواية المشهور من هو أفقه من زرارة فإنّه على إطلاق رواية المقبولة في الترجيح بالصفة أوّلاً يلزم تقديم رواية زرارة لأنه افقه ، وهو ترجيح بالصفة ، مع أن الفقهاء ، يقدّمون هنا رواية المشهور ، لأنّها مشتملة له على الصفة والشهرة معاً ، فهذه هي الصورة الأولى .

الصورة الثانية : ( مع أنّ أفقهيّة الحاكم بإحدى الروايتين ) اللتين هما مدرك الحاكمين ( لايستلزم أفقهيّة جميع رواتها ، فقد يكون مَن عداه مفضولاً بالنسبة إلى رواة ) الرواية ( الاُخرى ) يعني : لو روى - مثلاً - زرارة الأفقه لكن لامباشرة ، بل بواسطة بُريد عن المعصوم رواية الشاذ ، وروى محمد بن مسلم غير الأفقه بواسطة فُضيل الذي هو أفقه من زرارة رواية المشهور ، فكيف يقدّم ما رواه زرارة على الرواية الاُخرى لأجل إطلاق المقبولة ، مع أن الفقهاء يقدّمون الرواية الاُخرى التي اجتمع فيها الصفة وهو الافقه والشهرة معاً ؟ وهذه هي الصورة الثانية ممّا أورده المصنّف على إطلاق المقبولة من حيث ترتيب المرجّحات فيها .

ص: 47

إلاّ أن ينزّل الرواية على غير هاتين الصورتين .

وبالجملة : فهذا الاشكالُ أيضاً لايقدحُ في ظهور الرواية ، بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي ، وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة .

نعم ، المذكور في الرواية الترجيحُ باجتماع صفات

-----------------

( إلاّ أن ينزّل الرواية ) وهي المقبولة ( على غير هاتين الصورتين ) الأخيرتين أيضاً ، كما نزّلها على غير ما أشكله أوّلاً على ترتيب المرجّحات المذكورة في المقبولة ، حيث منع هناك من تقديم الفقهاء الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفة على نحو مطلق وإن أطلقوا القول بتقديم الشهرة ، وبذلك صحّ مورد الاشكال ، فهنا كذلك نصحّح به الاشكال ونقول : إنّه من الممكن إطلاق الترجيح بالشهرة ضرباً للقاعدة ، وإن لم يكن في بعض الأفراد العلّة التي سبّبت تقديم رواية الأفقه وهي الترجيح بالصفة على التريجح بالشهرة .

( وبالجملة : فهذا الاشكال أيضاً ) بصورتيه لو فرضنا تماميته ( لايقدح في ظهور الرواية ، بل صراحتها في وجوب الترجيح ) وذلك لما تقدّم : من أن المقبولة ظاهرة ، بل صريحة في الأخذ بالمرجّحات لا التخيير مطلقاً ، فهذه الرواية تدلّ على الترجيح ( بصفات الراوي ، وبالشهرة من حيث الرواية ) أي : الشهرة الروائية في مقابل الشهرة الفتوائية ( وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ) فتكون المقبولة دليلاً للمشهور الذين يقولون بترجيح بعض الروايات على بعضها الآخر ، فيما إذا تعارضت الروايات ، لا التخيير بينها كما ذكره بعض .

الثالث من الاشكالات التي أوردها المصنّف على الرواية المقبولة ما ذكره بقوله : ( نعم ، المذكور في الرواية ) المقبولة هو : ( الترجيح باجتماع صفات

ص: 48

الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع ، لكنّ الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها .

ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ، بل ذكر في السؤال أنّهما عدلان مرضيّان لايَفضُل أحدُهما على صاحبه .

-----------------

الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع ) حيث أن ظاهر المقبولة كون مجموع هذه الصفات مرجّحاً واحداً ، وهذا مالايقول به الفقهاء ، بل أنهم يكتفون في الترجيح بالأعدليّة فقط ، أو الأفقهية فقط ، أو الأصدقيّة فقط ، أو الأورعية فقط.

هذا ( لكنّ الظاهر ) بالنظر التحقيقي ( إرادة ) الرواية ( بيان جواز الترجيح بكلّ منها ) أي : بكل واحد من هذه الصفات لا ان المراد مجموع الصفات من حيث المجموع ( ولذا ) أي : لأجل ان الرواية ظاهرة في جواز الترجيح بكلّ من هذه الصفات ( لم يسأل الراوي ) الذي سأل من الإمام عليه السلام في المقبولة ( عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ) فإنّ عدم سؤاله عن ذلك ، دليل على أنه فهم كفاية البعض ، كما إذا كان أحدهما أفقه ( أو ) أصدق - مثلاً - مع التساوي في العدل والورع ، وإلى غير ذلك ، فإنّه لو فهم من الرواية لزوم أن يكون الراوي جامعاً لكل هذه الصفات الأربع لزم عليه أن يسأل بعد ذلك عن انه إذا كان في الراوي بعض الصفات دون بعض فهل تقدّم روايته أم لا ؟ .

وكذا لم يسأل الراوي عن ( تعارض الصفات بعضها مع بعض ) كما إذا كان في أحدهما الأفقهية ، وفي أحدهما الأعدلية ، وإلى غير ذلك ، فإنّه قد فهم انه حينئذ لا ترجيح بين الروايتين ، ولذا لم يسأل عنها .

(بل ذكر في السؤال) بعد ذلك (أنّهما عدلان مرضيّان لايفضل أحدهما على صاحبه).

ص: 49

فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل ، وكذا يوجّه الجمعُ بين موافقة الكتاب والسنّه ومخالفة العامّة مع كفاية واحدة منها إجماعاً .

الثاني : ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي ، عن العلاّمة ، مرفوعاً إلى زرارة : قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ، فقلتُ : جعلت فِداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخُذُ ؟

-----------------

ممّا يؤيد ما ذكرناه ( فقد فهم أنّ الترجيح ) كائن ( بمطلق التفاضل ) بينهما ، وليس باجتماع الصفات في احدهما دون الآخر .

( وكذا يوجّه الجمع بين موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامّة ) التي ذكرها الإمام عليه السلام مجتمعة ( مع ) وضوح ( كفاية واحدة منها إجماعاً ) فإنّه قد قام الاجماع على أنه يكفي كل واحد من : موافقة الكتاب ، وموافقة السنة ، كما يكفي مخالفة العامة بوحده ، وغير ذلك من التوجيهات الكاشفة عن ان الاشكالات المذكورة على المقبولة غير واردة ، وعلى فرض كونها واردة لاتقدح في تمامية الاستدلال بها على وجوب الترجيح ، بالمرجّحات المذكورة فيها ، علماً بأنها خمسة أمور بترتيب : الصفات ، ثم الشهرة ، ثم موافقة الكتاب ، ثم مخالفة العامة ، وأخيراً : الارجاء .

( الثاني ) من روايات العلاج هو : ( ما رواه ابن ابي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي ، عن العلاّمة ، مرفوعاً ) أي : انه لم يذكر السند ، وإنّما رفع الرواية إلى زرارة ، وهو السائل عن الإمام الباقر عليه السلام فسقطت الواسطة بين زرارة وبين العلامة ، فالرواية مرفوعة إذن ( إلى زرارة ، قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام فقلتُ : جُعِلتُ فِداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخُذُ ؟ ) ولعل الفرق بين الحديث والخبر هو : أن الخبر ما ينقله الإمام عن آبائه عن رسول

ص: 50

فقال عليه السلام : يا زرارة ، خُذ بما اشتهر بَينَ اصحابك ودع الشاذّ النادر .

فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم ، فقال : خُذ بما يقول أعدلُهما عندك وأوثقُهُما في نفسك ، فقلت : إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخُذ بما خالف ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم .

قلتُ : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنَعُ ؟ .

-----------------

الله صلى الله عليه و آله وسلم ، والحديث ما كان جديداً منقولاً من نفس الإمام عليه السلام .

( فقال عليه السلام : يا زرارة ، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذَّ النادر ) ولعل الشاذ هو : ما كان مضمونه بعيداً عن ذهن المتشرّعة ، بينما النادر هو : ما كان فريداً في ذاته وإن لم يكن بعيداً ، قال زرارة ( فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم ) كما إذا وُجدت روايتان متعارضتان في كثير من كتب الأصحاب .

( فقال : خُذ بما يقول أعدلُهما عندك وأوثقُهُما في نفسك ) أي : بمن تطمئن في نفسك إلى ان عدالته ووثاقته يفوقان عدالة الآخر ووثاقته .

قال زرارة ( فقلت : إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ) اشارة الى أنّه من الممكن أن يكون عادلاً ، إلاّ أنه لم يكن مرضياً عند الناس ، وذلك لسوء في خلقه ، أو قلة من آدابه ، ولكن لابدرجة تسقطه عن العدالة ، كما يمكن أن يكون عادلاً لكن غير ثقة ، وذلك لكثرة نسيانه أو ما أشبه ذلك .

( فقال : انظر ما وافقَ منهُما العامّة فاتركه وخُذ بما خالف ) العامة منهما ( فإنّ الحقّ فيما خالفهم ) كما تقدّم وجه ذلك .

قال زُرارة : ( قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع ) معهما ؟ .

ص: 51

قال : إذن فَخُذ بما فيه الحائطةُ لدينك ، واترك الآخر ، قلتُ : إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فيكف أصنع ؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ، ودع الآخر .

الثالث : ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في حديث طويل ، قال فيه : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين

-----------------

( قال : إذن فَخُذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترُك الآخر ) فلو كان أحد الخبرين - مثلاً - يقول : غسل الجمعة واجب ، ويقول الآخر : غسل الجمعة مستحب ، فإن الأخذ بالوجوب أحوط .

قال زرارة : ( قلت : إنّهما معاً موافقان للاحتياط ) كما إذا كان أحدهما يدلّ على الوجوب ، والآخر يدلّ على الحرمة ، أو كان أحدهما يدلّ على وجوب الظهر ، والآخر يدلّ على وجوب الجمعة - مثلاً - ( أو مخالفان له ) أي : بأن كان الخبران معاً مخالفين للاحتياط كما لو دلّ أحدهما : على الندب والآخر على الكراهة ، قال : إذا كان الخبران معاً كذلك ( فكيف أصنع ) معهما ؟ .

( فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ، ودع الآخر ) (1) وهذا الجواب جاء بصيغة الأمر ، ومعلوم : أن ظاهر الأمر هو : الوجوب كما هو واضح ، ولا يخفى أن الترجيح فيها بخمسة أمور بترتيب : الشهرة ، ثم الصفات ، ثم مخالفة العامة ، ثم الاحتياط ، ثم التخيير .

( الثالث ) من روايات العلاج ( ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في حديث طويل ، قال فيه : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين )

ص: 52


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فَاعرضوهما عَلى كتاب اللّه ، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً ، فاتبعُوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه ، نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أمر إلزام ، فاتّبعُوا ما وافق نهي النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأمره ، فما كان في السنّه نهي إعافةٍ أو كراهةٍ

-----------------

متعارضين ( فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً ) بأن كان الحديث يدلّ على الحلّية وكتاب اللّه يدلّ على الحلّية أيضاً ، أو الحديث يدلّ على الحرمة وكتاب اللّه أيضاً كذلك ، علماً بأنّ الحلال كما تقدّم يشمل الأحكام الثلاثة ، والحرام يشمل حكمين ، فإذا كان حكمه موجوداً فيه ( فاتّبعُوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب ) بأن لم يوجد حكمه في كتاب اللّه ( فاعرضوهما على سُنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) المتواترة عنه ، حيث إنّ سنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كانت على الأغلب متداولة في المسلمين ومعروفة بينهم .

ثم قال عليه السلام بعد أن أمر بعرض الخبرين على السنّة : ( فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه ، نهي حرام ) لانهي كراهة ( أو مأموراً به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر إلزام ) لا أمر ندب ، فإنّ في الكراهة والندب يجوز للانسان الأخذ والترك ، بينما المراد هنا من الأخذ والترك هو الواجب منهما ، فإذا كان موجوداً في السنة ( فاتّبعوا ما وافق نهي النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأمره ) الالزاميّين .

ثم قال عليه السلام : ( فما كان في السنّة نهي إعافةٍ أو كراهةٍ ) ولعل الفرق بين الاعافة والكراهة هو : انّ الانسان قد يترك شيئاً مع أنه مباح لأنه يضرّه - مثلاً - وقد يتركه لا لأنه يضرّه، بل لأنه مكروه شرعاً ، فالنبي صلى الله عليه و آله وسلم - مثلاً - ما كان يجمع بين ادامين على مائدة واحدة ، وكذلك كان الإمام علي عليه السلام ، أو ان النبي صلى الله عليه و آله وسلم لم يأكل

ص: 53

ثمّ كان الخبر خِلافه ، فذلك رُخصةٌ في ما عافهُ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، أو كرههُ ولم يُحرِّمه ، وذلك الذي يسعُ الأخذُ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والردّ إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وما لم تجدوه في شئمن هذه الوجوه فرُدُّوا إلينا عِلمَهُ ، فنحنُ أولى بذلك ، ولاتقولوا فيها بآرائكم ، وعليكم بالكفِّ والتثبّتِ والوقوف ،

-----------------

الفالوذج وهو نوع من الحلوى في حياته ، وكذلك عليّ عليه السلام لم يأكل الفالوذج في حياته تأسّياً برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعدم أكلهم هذه الألوان من الطعام لا لأنه مكروه ، بل الترك ترك اعافة ، وعافة بمعنى : تركه .

وعليه : فإن كان الخبر الدالّ على عدم الالزام موافقاً للسنّة ( ثمّ كان الخبر ) الآخر الدال على الالزام ( خلافه ) أي : خلاف ما ورد في السنّة ( فذلك رخصةٌ فيما عافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أوكرهه ولم يحرِّمه ) فإنّ النهي إذا كان نهي كراهة وإعافة دلّ على الرخصة ( وذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً ) فإنّه إذا كان النهي نهي نزاهة جاز للانسان الترك وجاز للانسان الفعل ( وبأيّهما شئت وسعَك الاختيار ) أي : يجوز لك أن تختار هذا أو تختار ذاك ( من باب التسليم ) لحكم اللّه سبحانه وتعالى ( والاتباع ) لسنة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ( والرّد ) أي : ارجاع الأمر ( الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) ثم قال عليه السلام : ( وما لم تجدوه في شئمن هذه الوجوه) أي : لم تجدوا حكمه في السنة ، لا بوجه نهي تحريم ، ولا نهي عافة وكراهة - مثلاً- ( فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ) أي : بردّ العلم ، ومعنى : « فردّوا الينا علمه » هو : ما فسّره الإمام عليه السلام بقوله بعد ذلك ( ولا تقولوا فيها ) أي : في هذه الوجوه التي لم يَرد عنهم عليهم السلام الخبر بها ( بآرائكم ) واستحساناتكم العقلية (وعليكم بالكفّ) عن القول بالرأي ( والتثبّت ) في الأمر بالفحص والتحقيق ( والوقوف )

ص: 54

وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيانُ من عِندِنا .

الرابع : ما عن رسالة القطب الراوندي ، بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام : إذا وَرَدَ عليكمُ حَديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فذرُوه ، فان لم تجدوه في كتاب الله ، فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهُم فخذُوه .

-----------------

عن الفتوى ( وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا (1) ) علماً بأن البحث والتحقيق قد يصل أحياناً إلى النتيجة ، وذلك بأن يعلم الانسان أنّ هذه الصغرى المبتلى بها داخلة في تلك الكبرى التي ذكرها الإمام عليه السلام ، كما في مسألة الجارية التي لم يكن على ركبها شعر ، حيث ادخل الراوي هذه الصغرى في تلك الكبرى التي سمعها عن الإمام عليه السلام وهو يقول : « كلما زاد أونقص من الخلقة الأصلية فهو عيب » ولا يخفى أن الترجيح فيها بأمور أربعة بترتيب : موافقة الكتاب ، ثم موافقة السنة ، ثم التخيير ، ثم الارجاء .

( الرابع ) من روايات العلاج : ( ما عن رسالة القطب الرّاوندي ، بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام : اذا ورد عليكم حديثان مختلفان ) أي : اختلافاً بالتباين وذلك حسب ما يستفاد منه عرفاً ، لابالعموم المطلق أو ما أشبه ذلك ( فاعرضُوهُما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فذروه ، فإن لم تجدوه ) أي : لم تجدوا شيئاً من الوفاق والخلاف ( في كتاب اللّه ، فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذرُوه ، وما خالف أخبارهم فخُذُوه ) (2)

ص: 55


1- - عيون اخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33354.
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33362 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح20 .

الخامسُ : ما بسنده أيضاً عن الحسين بن السري ، قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا ورد عليكمُ حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم .

السادس : ما بسنده أيضاً عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلتُ له - يعني : العبد الصالح عليه السلام - : يُروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ،

-----------------

علماً بأنّ المراد من العرض مايشمل العرض على أخبار العامة ، وعلى فتاواهم ، وذلك لأنّ في بعض المسائل لاتوجد لهم أخبار ، أو أن فتاواهم تخالف أخبارهم ، فماذكر في هذه الرواية من باب المثال وملاكه أعم ، والترجيح فيها بأمرين بترتيب : موافقة الكتاب ، ثم مخالفة العامة .

( الخامس ) من روايات العلاج : ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي ( أيضاً عن الحسين بن السّري ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخُذُوا بما خالفَ القوم ) (1) ولا يخفى : انّ هذه الرواية وغيرها من الروايات الاُخرى التي تعرّضت لذكر بعض المرجّحات فقط ، ولم تذكر جميعها ، فهي : إمّا لأنّ التراجيح من باب الاستحباب - كما قاله بعض - أو لأن الإمام عليه السلام ذكر المرجّحات التي كانت محل إبتلاء الراوي فقط ، أو لأنّ الراوي ذكر بعض المرجّحات التي ذكرها الإمام وأسقط بعضها في النقل ، وإلى غير ذلك من المحتملات ، علماً بأن الترجيح فيها بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( السادس ) من روايات العلاج : ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي (أيضاً عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلت له - يعني : العبد الصالح عليه السلام - ) وهو من ألقاب الإمام موسى_'feبن جعفر عليه السلام أنه: (يُروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام شيء،

ص: 56


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33363 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح17 .

ويُروى عنه أيضاً خِلافُ ذلك ، فبأيّهما نأخذُ ؟ قال : خُذ ما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبُه .

السابع : ما بسنده أيضاً عن محمد بن عبد الله : قال : قلت للرّضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين ؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يُوافق أخبارهم فذروهُ .

الثامن : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران :

-----------------

ويُروى عنه أيضاً خلاف ذلك ، فبأيّهما نأخُذ ) من الروايتين المتعارضتين ؟ .

( قال : خُذ ما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه ) (1) والظاهر : أن المقصود من « القوم » هم : العامة ، أو الأعم منهم ومن الزيدية ومن أشبههم ، فيما إذا كان الراوي يعيش بين الزيدية ونحوهم ، لكن الأوّل هو الذي فهمه الأصحاب ، والترجيح في هذه الرواية بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( السابع ) من روايات العلاج ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي ( أيضاً عن محمد بن عبد اللّه قال : قلت للرّضا عليه السلام : كيف نصنَعُ بالخبرين المختلفَين ) إذا وردا علينا ؟ .

( قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظرُوا ما خالفَ منهما العامّة فخُذُوه ، وانظروا ما يوُافِقُ أخبارَهُم فذَرُوهُ ) (2) إذ لعل أحد الخبرين الموافق لأخبارهم صدر تقية ، فاللاّزم أن يعرف الذي هو مخالف لهم منهما حتى يأخذ به ، والترجيح في هذه الرواية أيضاً بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( الثامن ) من روايات العلاج ( ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران :

ص: 57


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33364 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح18 .
2- - وسائل الشيعة: ج27 ص119 ب9 ح33367 بالمعنى، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح19.

قال : قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : يَرد علينا حديثان ، واحدٌ يأمرنا بالأخذ به والآخرُ ينهانا .

قال : لا تعمل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحِبك فتسأل ، قلتُ : لابدَّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما خالف العامة .

التاسع : ما عن الكافي بسنده عن المعلّي بن خُنيس : قال : قُلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديثٌ عن آخركم ،

-----------------

قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان ، واحدٌ يأمرنا بالأخذ به ) أي : يدل على الوجوب ( والآخرُ ينهانا ) أي : يدلّ على الحرمة ، وذلك كما في المثال السابق من حديث يدل على وجوب الجمعة ، وآخر يدل على حرمتها .

( قال : لاتعمَل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحبك ) أي : الإمام عليه السلام ( فتسأل ) منه عنهما ؟ .

( قلتُ : لابدَّ أن نعمل بواحد منهما ) لأن الحادثة لاتتحمل التأخير ، وذلك كما مثّلنا له سابقاً بالميت الذي لانعرف كيف نغسّله ؟ أو كيف نصلي عليه ؟ أو كيف ندفنه ؟ إلى غير ذلك .

( قال : خذ بما خالف العامّة ) (1) وقد تقدّم وجه تخصيص بعض الروايات الترجيح ببعض المرجحات ، علماً بأنها في هذه الرواية أمران بترتيب : الارجاء ، ثم مخالفة العامة .

( التاسع ) من روايات الترجيح : ( ما عن الكافي بسنده عن المعلّي بن خُنيس قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديثٌ عن آخركم ،

ص: 58


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 ، بحار الانوار : ج2 ص224 ب29 ح1 .

بأيّهما نأخذ ؟ .

قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله .

قال : ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّا واللّه لانُدخلكم إلاّ فيما يسعكم .

العاشر : ما عنه بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ ؟ قال : كنت أخذ بالأخير ،

-----------------

بأيّهما نأخذ ) بالأوّل أو بالأخير ؟ .

( قال : خُذوا به ) أي : بما جاءكم عن الأوّل الذي لا معارض له بعد ( حتى يبلُغَكُم عن الحيّ ) شئيخالف ذلك ( فإن بلغكم عن الحيّ فخُذوُا بقوله ) أي : بقول الحيّ .

( قال ) الرّاوي : ( ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّا والله لاندخُلَكم إلاّ فيما يسعُكُم (1) ) اشارة الى قوله تعالى : « يريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر ولايريدُ بِكُم العُسر » (2) ومن السعة واليُسر أن يكون الحديث من الأوّل قد صَدر تقية ، ومن الثاني موافقاً للواقع ، أو بالعكس ، وذلك حتى لايصاب الراوي بأذى - مثلاً - وهذه الرواية ذكرت ترجيحاً واحداً وهو : الأحدثية والأقدميّة .

( العاشر : ما عنه ) أي : عن الكافي أيضاً ( بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : أرأيتك لوحدّثتك بحديث العام ) السابق ( ثمّ جئتني من قابل ) أي : في العام الثاني ( فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ ) بالقديم أو بالجديد ؟ .

( قال : كنت آخذ بالأخير ) منهما .

ص: 59


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص109 ب9 ح33341 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

فقال لي : رحمك الله تعالى .

الحادي عشر : ما بسنده الصحيح ظاهراً عن أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو افتيتك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه ، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ ؟ قلت : بأحدثهما ، وأدعُ الآخر .

-----------------

( فقال لي : رحمك اللّه تعالى ) (1) وفيه دلالة على تقريره عليه السلام له على أخذه بالأخير ، فإنّه إنّما يؤخذ بالأخير ، لأنه إن كان الأوّل تقية فقد ارتفعت التقية ، فيلزم أن يأخذ بالثاني المطابق للواقع ، وإن كان الأوّل مطابقاً للواقع فقد حدثت التقية ، فعليه أن يأخذ بما يقتضي التقية ، وهذه الرواية كسابقتها ذكرت الترجيح بأمر واحد وهو : الأحدثية والأقدمية .

( الحادي عشر ) من روايات العلاج ( ما بسنده الصحيح ) أي : بسند الكافي سنداً صحيحاً ( ظاهراً ) أي : أنه صحيح في الظاهر ، لاحتمال عدم صحته ( عن أبي عمروالكناني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يا أبا عمروأرأيت لو حدّثتُك بحديث ) بأن نقلت لك حديثاً عن واحد من آبائي عليهم السلام ( أوأفتيتُك بفُتيا ) أي : برواية أخبرتك بها عنّي ( ثمّ جئت بعد ذلك ) في وقت آخر ( تسألني عنه ) أي: عن ذلك الحكم الذي سألتني عنه أوّلاً فأفتيتك أوأجبتك بحديث فيه ( فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ) أوّلاً ( أوأفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كُنتَ تأخُذ ) بالسابق أو باللاحق ؟ .

( قلت : بأحدَثهما ، وأدَع الآخرَ ) أي : قال : إني اترك ما سبق وآخذ بما لحق ، وهذه الرواية أيضاً ترجيح بأمر واحد وهو : الأحدثية والأقدمية .

ص: 60


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص109 ب9 ح33340 .

قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى اللّه إلاّ أن يُعبد سراً ، أما واللّه ، لئن فعلتم ذلك ، إنّه لخيرٌ لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلاّ التقيّة .

الثاني عشر : ما عنه بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما بالُ أقوام يروون عَن فلان ، عَن فلان ، عَن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لايتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه ، قال : الحديث يُنسخُ كما يُنسخ القرآن .

-----------------

( قال : قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّهُ إلاّ أن يُعبدَ سّراً ) لوضوح : أن الحق والباطل ما داما موجودين في العالم ، تكون التقية قائمة في بعض أجزاء العالم ، والتقية تلازم سرّية الحق .

ثم أضاف : ( أما واللّه ، لئن فعلتُم ذلك ) أي : العمل بالتقية ( إنّه لخيرٌ لي ولكم ) لأنّهم إذا لم يعملوا بالتقية اُخذوا بعملهم ، كما كان الإمام عليه السلام يُتهم أيضاً بمخالفة السلطة ومناهضتها ، ثم قال : ( أبى اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة ) (1) والمراد من « لنا » سلسلة الأئمة عليهم السلام واتباعهم قبل ظهور المهدي عليه السلام .

( الثاني عشر ) من روايات العلاج ( ما عنه ) أي : عن الكافي أيضاً ( بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما بالُ أقوام يروون عن فلان ، عن فلان ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا يتّهمون بالكذب ) ؟ أي : إنّ الوسائط لايتّهمون بأنهم يكذبون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ( فيجيء منكم خلافه ) أي : خلاف ماجاءنا منهم ، فكيف يكون الحديث منكم على خلاف حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ .

( قال : الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن ) (2) ولعل المراد منه : أنّه كما أن النسخ

ص: 61


1- - الكافي اصول : ج2 ص218 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص112 ب9 ح33350 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 و ص208 ب14 ح33615 .

الثالث عشر : ما بسنده الحسن عن أبي حَيّون مولى الرضا عليه السلام : إنّ في أخبارنا مُحكماً كمحكم القرآن ، ومتشابهاً كمتشابه القرآن ،فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا مُتشابهها دون مُحكمها فتضلّوا .

-----------------

يكون لانتهاء أمد المنسوخ ، فكذلك بالنسبة إلى الأحاديث ، فإنّ بعض الأحاديث تكون مؤقتة ، فيأتي الحديث الثاني ناسخاً ومعلناً عن انتهاء وقت الحديث الأوّل ، ومبيّناً لكون التكليف في الحال الحاضر هو العمل بالحديث الثاني ، الناسخ للحديث الأوّل ، فإنّ النسخ معناه : انتهاء الأمد ، وذلك كما يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : « لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة » (1) فإذا ورد بعده حديث عن علي عليه السلام فرضاً بعدم اتباع أسامة ، كان الحديث الثاني ناسخاً للحديث الأوّل ، ومبيّناً لانتهاء أمد أمارة زيد بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والترجيح في هذا الحديث بأمر واحد أيضاً وهو : الأحدثية والأقدمية .

( الثالث عشر ) من روايات العلاج ( ما ) عن الكافي أيضاً ( بسنده الحسن عن أبي حيّون مولى الرضا عليه السلام انّ في أخبارنا محكماً كمحكم القُرآن ، ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّوا ) أي : عند التعارض بينهما ( متشابهها إلى محكمها ) كما هو شأن ردّ كل ضعيف الدلالة على قوي الدلالة ، فيؤخذ بقوي الدلالة ويَتَصرّف بذلك في ظاهر الحديث الذي هو ضعيف الدلالة ، ثم قال : ( ولا تتبّعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا ) (2) وذلك لأنّ المتشابه لايعرف أن المراد به هل هو هذا أو ذاك ؟ فإذا اتبع الانسان المتشابه يقع في خلاف الواقع ، بخلاف ما إذا اتّبع

ص: 62


1- - اثبات الهداة : ج2 ص383 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 ، دعائم الإسلام : ج1 ص41 .
2- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

الرابع عشر : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سَمِعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : أنتم أفقه الناس اذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب .

وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالةٌ على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة ،

-----------------

المحكم ، وهذه الرواية تأمر بشئواحد وهو : ردّ المتشابه إلى المحكم .

( الرابع عشر ) من روايات العلاج : ( ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سَمِعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : أنتم أفقه الناس اذا عرفتُم معاني كلامنا ) وإنّما كانوا أفقه الناس لأنهم أكثر إستيعاباً لكلامهم عليهم السلام من غيرهم ؛ علماً بأن كلامهم عليهم السلام نور ، إذ هم يقولون عن جدّهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن جبرائيل عن اللّه تبارك وتعالى ، وقد قال تعالى : « ومَن أصدق من اللّه قيلا » (1) ثم فسّر عليه السلام معنى « عرفتم معاني كلامنا » بقوله : ( إنّ الكلمة لتنصرفُ على وجوه ) فلو قال مثلاً : اغتسل للجمعة تمكن أن يصرفه إلى الوجوب أو إلى الندب ؟ كما قال : ( فلو شاء إنسان لصرفَ كلامهُ كيف شاء ولا يكذبُ ) (2) لأن الكلام ترجمان القلب ، والقلب قد يقصد بالكلام هذا الوجه وقد يقصد به ذلك الوجه ، وهذه الرواية كسابقتها تأمر بشئواحد وهو : ردّ المتشابه إلى المحكم .

هذا ( وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة ) وذلك لقول الإمام عليه السلام في احداهما : « ردّوا متشابهها إلى محكمها » (3)

ص: 63


1- - سورة النساء : الآية 122 .
2- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .
3- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح .

-----------------

ومن المعلوم : أن المحكم والمتشابه من الدلالة ، ولقوله عليه السلام في الثانية ، « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » (1) ممّا يدل على أن الكلام يتصرّف في دلالته ، وهذا هو معنى الجمع العرفي بين الخبرين المتعارضين الذي مرّ الكلام حوله ، فالروايتان الأخيرتان ليستا في الترجيح إلاّ بحسب الدلالة ، بخلاف الروايات السابقة المتقدّمة عليهما ، فإنّها ظاهرة في الترجيح بحسب السند وما أشبه ذلك .

ثم لايخفى : إنّ كل هذه الأحاديث العلاجية مطابق لبناء العقلاء في العالم لكن مع فارق وهو : أن مورد العلاج بهذه الأحاديث عندنا نحن المسلمين الأحكام المستفادة من كتاب الله وسنة رسوله وأهل بيته ، بينما عند غير المسلمين هو : الأحكام المستفاده من القوانين الوضعية ، الذي ابتلي بها المسلمون اليوم فخسروا دنياهم وآخرتهم ، وحيث أن ذلك واضح فلا حاجة إلى التفصيل (2) ، نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإعادة أحكامه وتطبيقها انشاء اللّه تعالى ، فالأحاديث العلاجية في الجملة يدل عليها : العقل ؛ والعقلاء ، واضافة إلى السنّة بل إذا ضممنا إليه قوله سبحانه : « منه آيات مُحكَمات هُنَّ اُم الكتاب واُخر متشابهات ... » (3) دلّ عليها الكتاب أيضاً ، فالأدلة الأربعة دالة على الترجيح .

قال المصنّف : ( هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح ) لكن لايخفى : أن في المقام روايات اُخرى دالّة على الترجيح أيضاً ممّا لاحاجة

ص: 64


1- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .
2- - وقد أسهب الإمام الشارح في الحديث عن القوانين الوضعية التي ابتلي المسلمون فيها في كتاب «لماذا تأخّر المسلمون ؟» وكتاب «سقوط بعد سقوط» وكتاب «الرجوع الى سنن الله تعالى» .
3- - سورة آل عمران : الآية 7 .

إذا عرفت ما تلوناه عليك ، فلا يخفى عليك أنّ ظواهرها متعارضة ، فلابدّ من علاج ذلك ، والكلامُ في ذلك

-----------------

إلى ذكرها لأنها بنفس مضامين هذه الروايات .

( إذا عرفت ما تلوناه عليك ، فلا يخفى عليك ) ما فيها ، فإنّ هذه الروايات وإن كانت متفقة الدلالة على وجوب الترجيح كما يقوله المشهور ، إلاّ ( أن ظواهرها متعارضة ) من بعض الجهات ، فقد ذكرت المقبولة - كما عرفت - الترجيح أو لاً بصفات الراوي ، بينما ذكرت المرفوعة الترجيح أو لاً بشهرة الرواية ، وذكرت المقبولة في الأخير الارجاء ، بينما ذكرت المرفوعة التخيير ، وغير ذلك من جهات التعارض التي سنذكرها انشاء اللّه تعالى ( فلا بدّ من علاج ذلك ) التعارض الموجود فيما بينها .

لايقال : إنّ هذه الأحاديث إذا كانت قد وردت لعلاج تعارض الأخبار ، فكيف وقع التعارض فيما بينها ؟ .

لأنّه يقال : لامنافاة بين كونها لعلاج التعارض وبين وقوع التعارض فيما بينها ، خصوصاً إذا لاحظنا ظروف التقية الشديدة التي ابتلي بها أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم ، حتى نقل عن الإمام الصادق عليه السلام ما مضمونه : « انا خالفت بينهم » (1) اضافة إلى أن طبيعة الأمر - حسب تناسب الزمان والمكان ، ووجود القرينة والمقام - تقتضي ذلك ، فإنّ أجوبة العقلاء عمّا يُسألون تكون مختلفة بحسب الزمان والمكان ، وسائر الخصوصيات والملابسات ، ومن راجع القوانين والمحاكم ، والشروح والتفاسير للقوانين يلمس ما ذكرناه .

( و ) كيف كان : فإنّ ( الكلام في ذلك ) أي : في علاج التعارض الموجود

ص: 65


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

يقعُ في مواضع :

الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، حيث إنّ الاُولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة ، والثانية : بالعكس ، وهي وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ، فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سُمِّيت مقبولةً ،

-----------------

بين ظاهر هذه الروايات العلاجية ( يقع في مواضع ) كالتالي :

( الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة (1) ، ومرفوعة زرارة (2) ، حيث أنّ الاُولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة ) يعني : إذا كان راوي الشاذ أعدل لزم الأخذ بالشاذ لا بالمشهور ( والثانية : بالعكس) يعني: أن المرفوعة تلزم في المثال المذكور الأخذ بالمشهور لا بالأعدل .

هذا من حيث الدلالة ، وأمّا من حيث الصدور : فالثانية ( وهي ) مرفوعة زرارة فإنّها ( وإن كانت ضعيفة السند ) لأنها مرفوعة ولا يُعرف سندها ( إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ، فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ ) حتى وإن كان الشاذ راجحاً من جهة صفات الراوي ، ولعل وجه ذلك هو التعليل : « بأن المجمع عليه لاريب فيه » ، وعلى ذلك جرت سيرة العقلاء كافة ( والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميّت مقبولة ) بمعنى : قبول

ص: 66


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ، حيث لم توجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلاّ ابن أبي جمهور عن العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة ، إلاّ أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور روايةً ، على غيره ، وهي هنا المقبولة ، ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة .

-----------------

العلماء لها وذلك يكفي في حجّيتها ( إلاّ أنّ عملهم ) كائن ( على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ) فإن المرفوعة إنّما تعدّ شاذة ( حيث لم توجد مرويّة في شئمن جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلاّابن أبي جمهور عن العلامّة مرفوعاً إلى زرارة ) .

إذن : فالمقبولة والمرفوعة يتكافئان من حيث الصدور فيتعارضان ، ويكون نتيجة التعارض التخيير ، فيتخير المكلّف بين تقديم الترجيح بالشهرة العملية التي عليها سيرة العلماء ، وبين تقديم الترجيح بصفات الراوي .

( إلاّ أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور رواية ، على غيره ) أي : غير المشهور رواية ( وهي ) أي : المشهورة من حيث الرواية في باب العلاج ( هنا المقبولة ) حيث قال عليه السلام في المرفوعة على ما مرّ : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النادر » (1) فنفس المرفوعة تحكم بتقديم المقبولة عليها ، لأنها تدل على الترجيح بشهرة الرواية ، والشهرة الروائية حاصلة في المقبولة ( ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة ) الحاصلة في المرفوعة ، فيلزم ترجيح المقبولة على المرفوعة ، وذلك لأنّ المرفوعة مشهورة من حيث العمل ، والمقبولة مشهورة

ص: 67


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

مع أنّا نمنع أنّ عمل المشهور على تقديم الخبر المشهور روايةً على غيره إذا كان الغيرُ أصح منه من حيث صفات الراوي ، خصوصاً صفة الأفقهيّة .

و يمكن أن يقال : إنّ السؤال لمّا كان عن الحَكَمين ،

-----------------

من حيث الرواية ، والمرجّح بمقتضى النصوص هو : الشهرة الروائية ، وهي حاصلة في المقبولة دون المرفوعة فيجب تقديم المقبولة .

هذا أوّلاً ( مع أنّا نمنع ) ثانيا من ( أنّ عمل المشهور ) كائن ( على تقديم الخبر المشهور رواية على غيره ) أي : على غير المشهور رواية وهو : الشاذّ حتّى فيما ( إذا كان الغير ) وهو الشاذّ ( أصحّ منه ) أي : من المشهور ( من حيث صفات الراوي ) فانّ المشهور إنّما يقدّمون المشهور على غيره مع تساويهما في الصفات ، وأمّا إذا كان في أحدهما الشهرة ، وفي الآخر - وهو الشاذّ - صفات الراوي ، فالمشهور لا يقدّمون المشهور على الشاذّ الذي صفات راويه أرفع ( خصوصا صفة الأفقهيّة ) إذا كانت في الخبر الشاذّ ، وذلك لكشف إختيار الأفقه لتلك الرواية الشاذّة ، كشفا عن إطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، فاللازم علينا أيضا أن نأخذ بالرواية الشاذّة التي رواها الأفقه .

( ويمكن أن يقال : ) انّه لا تعارض بين ما ذكر فيه الترجيح بالصفات لأنّه لترجيح حاكم على حاكم ، وبين ما ذكر فيه الترجيح بالشهرة لأنّه لترجيح حديث على حديث ، ومعه فلا تنافي بين المقبولة والمرفوعة ، وذلك لأنّ المقبولة الدالّة على الترجيح بالصفات إنمّا هي في تعارض الحاكمين ، والمرفوعة الدالّة على الترجيح بالشهرة إنّما هي في تعارض الروايتين .

وأمّا توضيح ذلك فهو : ( إنّ السؤال ) من الإمام عليه السلام ( لمّا كان عن الحَكمين ،

ص: 68

كان الترجيحُ فيهما من حيث الصفات ، فقال عليه السلام : الحكمُ ما حَكمَ به أعدلُهما ، مع أنّ السائل ذكر : « أنّهما اختلفا في حديثكم » .

و من هنا اتّفق الفقهاءُ على عدم الترجيح بين الحكّام إلاّ بالفقاهة و الورع .

فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين ، الواردة في اختلاف الحكمين من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما لاختلاف في الروايات ، حيث

-----------------

كان الترجيح فيهما ) أي : في تقديم حاكم على حاكم ( من حيث الصفات ) لا من حيث الشهرة ( فقال عليه السلام : الحكمُ ما حكمَ به أعدلُهما ) (1) إلى آخره ( مع أنّ السائل ذكر : انّهما إختلفا في حديثكم ) لكن حيث لم يكن الإمام عليه السلام في مقام الترجيح في الخبرين بل كان بعد في مقام الترجيح بين الحاكمين لم يذكر الشهرة .

( ومن هنا ) أي : من حيث انّ الإمام عليه السلام لاحظ تعارض الحاكمين ، ولذا ذكر الترجيح بالصفات ( اتّفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكّام إلاّ بالفقاهة والورع ) لا بالشهرة ، ومخالفة العامّة ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فالمقبولة ) التي أمرت بتقديم الترجيح بالصفات هي في خصوص هذه الفقرات ( نظير رواية داود بن الحصين ، الواردة في اختلاف الحَكمين ) أي : الحاكمين ( من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما ) أي : إختلاف الحاكمين هو : ( لاختلاف في الروايات ) أو غير ذلك ( حيث ) سأل الراوي من الإمام عليه السلام عن حُكم رجلين تنازعا فاتّفقا على عدلين جعلاهما حَكما بينهما

ص: 69


1- - الكافي اصول : : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما و أعلمهما و أورعهما ، فينفذ حكمه ، وحينئذٍ فيكون الصفات من مرجّحات الحكمين .

نعم ، لمّا فرض الراوي تساويهما أرجعه الامامُ عليه السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين ، مع إلغاء حكومة الحكمين كلاهما .

-----------------

في رفع إختلافهما ، فإختلف العدلان بينهما ، فعن قول أيّهما يمضي الحكم ؟ .

( قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأورعهما ، فينفّذ حكمه ) (1) ولم يذكر الإمام عليه السلام الشهرة وغيرها من مرجّحات الخبرين ( وحينئذٍ ) أي : حينما كان السؤال عن الحَكمين خاصّة ، والجواب عن الترجيح بصفات الحاكمين خاصّة ( فيكون الصفات من مرجّحات الحَكمين ) خاصّة ، لا الراويين ، فإذا كان هناك - مثلاً - حاكمان يحكمان بحكمين مختلفين ، لزم تقديم أحدهما على الآخر بصفاته التي هي أفضل من صفات الآخر .

( نعم ، لمّا فرض الراوي ) في المقبولة ( تساويهما ) أي : تساوي الحاكمين من حيث الصفات ( أرجعه الإمام عليه السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد ) والفحص عن الراجح من مستنديهما ، وهما الخبران اللّذان استندا في الحكم إليهما ( والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين ) والراجح من الخبرين هو الذي رواه المشهور ( مع إلغاء ) أي : إسقاط ( حكومة الحَكمين كلاهما ) حيث إنتقل الراوي من الكلام في الحاكمين إلى الكلام في الخبرين .

ص: 70


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص301 ب22 ح50 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3232 ، وسائل الشيعة : ج27 ص113 ب9 ح33353 .

فأوّل المرجّحات الخبرية هي الشهرة بين الأصحاب فينطبق على المرفوعة .

نعم ، قد يورد على هذا الوجه : أنّ الّلازم على قواعد الفقهاء الرجوعُ مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدّعي .

ويمكن التفصّي عنه بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم .

-----------------

إذن : ( فأوّل المرجّحات الخبريّة هي الشهرة بين الأصحاب ) فيؤخذ بالخبر المشهور ، ويترك الخبر الشاذّ النادر ، وحينئذ ( فينطبق ) ترتيب الترجيح بالمرجّحات في المقبولة ( على المرفوعة ) ولا يكون بينهما تعارض من حيث ترتيب المرجّحات .

( نعم ، قد يورد على هذا الوجه ) وهو تخصيص الترجيح بالصفات في المقبولة بالحاكمين دون الراويين ، وتقديم الحاكم الذي فيه الصفات على الذي لا صفات فيه عند التعارض ، يرد عليه : ( انّ اللازم على قواعد الفقهاء ) في باب القضاء هو : ( الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى إختيار المدّعي ) لا إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما ، فانّ الفقهاء قالوا : انّ إختيار الحاكم بيد المدّعي ، الذي عليه إقامة البيّنة وإثبات الدعوى ، لا المنكر ، فانّ المنكر مضطرّ إلى قبول الحاكم الذي يختاره المدّعي ، ومعه يقع التنافي بين هذه الرواية وبين فتوى الفقهاء ، ممّا يكشف عن عدم صحّة تخصيص الترجيح بالصفات في المقبولة بالحَكمين ، فلا يقع التعارض بينها وبين المرفوعة .

( و ) الجواب : انّه ( يمكن التفصّي عنه ) أي : عن هذا الاشكال ، وذلك ( بمنع جريان هذا الحكم ) وهو : لزوم الأخذ بحاكم المدّعي - عند تساوي الحاكمين - وترك حاكم المنكر ، فانّ هذا ممنوع ( في قاضي التحكيم ) والظاهر من الرواية

ص: 71

وكيف كان : فهذا التوجيه غير بعيد .

الثاني :

-----------------

كونها في قاضي التحكيم ، لا القاضي المصطلح ، لمكان قوله في المقبولة : « فان كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما » ممّا يكشف عن كونهما من قضاة التحكيم ، لا من قضاة المحاكم ، والذي حكم به الفقهاء من كون المرجع عند تساوي الحاكمين هو من إختاره المدّعي لا المنكر ، إنّما هو في الحاكم المنصوب ، لا في قاضي التحكيم ، أمّا قاضي التحكيم فهو الذي لم ينصبه الإمام ، لكن رضي به المترافعان .

( وكيف كان : فهذا التوجيه غير بعيد ) بنظر المصنّف ، ولكن الذي استظهرناه في بعض مباحث الفقه هو : انّ الدولة الاسلامية لو كانت قائمة ، كما في زمان علي عليه السلام ، ونصب جملة من الفقهاء للقضاء ، فللمتنازعين الحقّ في أن يختارا قاضٍ جامع للشرائط مشمول لإطلاق أدلّة القضاء كالفقيه العادل وان لم يعيّنه الإمام بخصوصه ، فانّه كما يحقّ للمتنازعين مراجعة القاضي الخاصّ ، فكذلك يحقّ لهما مراجعة القاضي العامّ ، وإذا راجعا كلاًّ منهما وحكم في حقّهما بحكم ، نفذ حكمه فيهما وإن كان يجوز الاستئناف والتمييز بعد ذلك عند قاضٍ آخر ، سواء من الخاص إلى العام ، أو من العام إلى الخاص ، وهذا مقتضى الجمع بين الأدلّة ، لكن للفقهاء في قاضي التحكيم والقاضي المصطلح ، إصطلاح آخر يعرفه من راجع الفقه .

هذا هو تمام الكلام في الوضع الأوّل ، وقد كان في معالجة تعارض المقبولة مع المرفوعة .

الموضع ( الثاني ) في معالجة تعارض رواية الاحتجاج وهي الرواية الثامنة

ص: 72

إنّ الحديث الثامن - و هو رواية الاحتجاج عن سماعة - يدلّ على وجوب التوقف أوّلاً ، ثمّ مع عدم إمكانه يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة و مخالفتهم ، وأخبارُ التوقف

-----------------

الآمرة بالارجاء أوّلاً ، ثمّ الترجيح بمخالفة العامّة ، مع سائر الروايات الآمرة بالترجيح أوّلاً ثمّ الارجاء ، فانّ رواية الاحتجاج تقول : بأنّ الرجوع إلى المرجّحات إنّما يكون إذا لم يُتمكّن من مراجعة الإمام ، بينما سائر الروايات تقول بالرجوع إلى المرجّحات وان تمكّن من مراجعة الإمام ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من روايات العلاج ؟ .

قال المصنّف : ( إنّ الحديث الثامن - وهو رواية الاحتجاج عن سماعة - ) حيث يقول فيها سماعة : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : « يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا ؟ قال عليه السلام : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن نعمل بواحد منهما ؟ قال : خذ بما خالف العامّة » (1) ممّا ( يدلّ على وجوب التوقّف أوّلاً ) وعدم الأخذ بأحد من الخبرين المتعارضين ، حتّى يلقى الإمام فيسأل عنه بأيّهما يأخذ ؟ ( ثمّ مع عدم إمكانه ) أي : عدم إمكان التوقّف ، كما إذا كانت الواقعة محلّ الابتلاء الفوري - مثلاً - ولا يتمكّن من الوصول إلى الإمام ، فانّه ( يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة ومخالفتهم ، و ) ذلك بأن يأخذ بما خالف العامّة ويترك ما وافق العامّة .

إذن : فهذه الرواية التي تأمر بالتوقّف أوّلاً ، وتقدّمه على الترجيح ، وكذلك ( أخبار التوقّف ) كلّها ، سواء الوارد منها في باب علاج المتعارضين هنا ، أم الوارد

ص: 73


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 ، بحار الانوار : ج2 ص224 ب29 ح1 .

- على ما عرفت وستعرف - محمولةٌ على صورة التمكّن من العلم .

فتدلّ الروايةُ على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة ، بل غيرها من المرجّحات إنّما يُرجَعُ إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة بالرجوع إلى الإمام ، كما ذهب إليه بعضٌ .

وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداءً بقول مطلق ، بل بعضها صريح في ذلك حتى مع التمكّن من العلم ، كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ، ثمّ بالإرجاء حتى يلقى الإمام ، فيكون وجوبُ الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات .

-----------------

منها في باب الاشتغال ( على ما عرفت ) هناك ( وستعرف ) أيضا في المستقبل ان شاء اللّه تعالى هي كلّها ( محمولةٌ على صورة التمكّن من العلم ) بل بعضها كرواية الاحتجاج صريحة في ذلك ( فتدلّ الرواية على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة ، بل غيرها من المرجّحات ) المذكورة في سائر الروايات ( إنّما يُرجَعُ إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة ) تحصيلاً ( بالرجوع إلى الإمام ) عليه السلام ( كما ذهب إليه بعضٌ ) من الفقهاء .

( وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداءا بقول مطلق ) أي : سواء تمكّن من العلم أو لم يتمكّن ( بل بعضها صريح في ذلك ) أي : في جواز الرجوع إلى المرجّحات إبتداءا ، ( حتّى مع التمكّن من العلم ) بالرجوع إلى الإمام عليه السلام ( كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ، ثمّ بالإرجاء ) أي : الآمرة بالتوقّف والتأخير ( حتّى يلقى الإمام ، فيكون وجوب الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات ) .

والحاصل : إنّ ظاهر رواية الاحتجاج وهي الرواية الثامنة هنا هو : تقدّم تحصيل

ص: 74

والظاهر لزومُ طرحها ، لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، فيبقى إطلاقاتُ الترجيح سليمةً .

الثالث : إنّ مقتضى القاعدة ، تقييدُ إطلاقات ما اقتصر

-----------------

العلم مع التمكّن منه على الترجيح بالمرجّحات ، فان عجز عنه ولم يتمكّن منه ، وذلك إمّا لأنّه لا يتمكّن من الوصول إلى الإمام إطلاقا ، وامّا لأنّ الواقعة لا تتحمّل التأخير ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ، بينما ظاهر سائر الأخبار وصريح المقبولة هو : جواز الرجوع إلى المرجّحات إبتداءا وان تمكّن من تحصيل العلم بالرجوع إلى الإمام عليه السلام .

( والظاهر لزوم طرحها ) أي : طرح رواية الاحتجاج الآمرة بالتوقّف إبتداءا ( لمعارضتها ) أي : معارضة رواية الاحتجاج ( بالمقبولة الراجحة عليها ) أي : على رواية الاحتجاج ، وذلك لأنّ رواية الاحتجاج ليست نصّا في وجوب تقديم تحصيل العلم ، بل هي ظاهرة فيه ، لاحتمال أن يكون تقديم ذلك من باب الأولى لا من باب التعيين ، بينما المقبولة هي نصّ في جواز الرجوع إلى المرجّحات وان تمكّن من تحصيل العلم ، فيحمل رواية الاحتجاج على الأولى وهو معنى قول المصنّف : « والظاهر لزوم طرحها » وإذا حملنا رواية الاحتجاج على الأولى ( فيبقى إطلاقات الترجيح ) الآمرة بتقديم ذي المزيّة على غيره سواء تمكّن من الرجوع إلى الإمام أو لم يتمكّن ( سليمة ) عن التقييد بسبب رواية الاحتجاج .

( الثالث : ) في بيان علاج التعارض بين المقبولة التي تعرّضت لمرجّحات أكثر ممّا تعرّضت له بقيّة روايات العلاج ، وبين بقيّة روايات العلاج ، التي دلّت على التخيير إبتداءا أو تعرّضت لبعض المرجّحات دون جميع المرجّحات ، قال المصنّف ( إنّ مقتضى القاعدة : تقييد إطلاقات ما ) أي : الروايات التي ( إقتصر

ص: 75

فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ، إلاّ أنّه قد يستبعد ذلك لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة .

فلابدّ من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متصلة فَهِمَ منها الامامُ عليه السلام ، أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ،

-----------------

فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ) التي تعرّضت لمرجّحات أكثر ، وكذلك تقييد المقبولة بغيرها من بقيّة الروايات ممّا لم يوجد في المقبولة .

( إلاّ انّه قد يُستبعد ذلك ) أي : يستبعد تقييد إطلاقات بقيّة روايات العلاج بما ورد في المقبولة ، وذلك ( لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة ) وإذا كان ورودها في مقام الحاجة لزم بيان كلّ المرجّحات لو كان الترجيح بها واجبا ، فكيف لم يبيّن الإمام فيها المرجّحات كلّها ؟ إذ هي بين ما لم يبيّن الإمام المرجّح فيها إطلاقا وإنّما أمر بالتخيير فقط ، وبين ما بيّن بعض المرجّحات فيها ، مع انّ من المعروف عند الاُصوليين هو : انّ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير صحيح .

وعليه : ( فلابدّ من جعل المقبولة ) المتعرّضة لأكثر المرجّحات ، الظاهرة في وجوب الترجيح بها ( كاشفة عن قرينة متّصلة ) بموارد تلك الروايات التي ذكرت بعض المرجّحات ، أو لم تذكر مرجّحا إطلاقا وإنّما حكمت بالتخيير إبتداءا ، بحيث ( فهم منها ) أي : من إتّصال القرينة بتلك الموارد ( الإمام عليه السلام : انّ مراد الرّاوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ) أي : ليس ذكر الإمام لبعض المرجّحات من باب انّ سائر المرجّحات لا يجب الترجيح بها ، بل من جهة انّه كان يعلم انّ الخبرين متساويان في نظر هذا السائل من سائر الجهات ، ولذا ذكر الجهة التي جهلها السائل ، وهذا هو المتعارف بالنسبة إلى البلغاء .

مثلاً : إذا سأل أحد من الفقيه عمّن يُقلّد ؟ أجابه الفقيه : بأن يقلّد الأعلم

ص: 76

كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك .

الرابع : إنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الاماميّة ، بناءا على القول بكشفهم عليهم السلام عن الناسخ الذي

-----------------

من دون يذكر صفة الرجوليّة وغيرها من الصفات ، حيث يعلم أنّ السائل يعلم كلّ ذلك ، وإنّما سؤاله عن الأعلم وغير الأعلم ، وإذا سأله ثانٍ وهو لا يعلم خصوصيّة الرجولية ، أجابه : قلّد الرجل الأعلم ، وإذا سأله ثالث وهو لا يعلم إشتراط طهارة المولد ، أجابه : قلّد الرجل الأعلم الطاهر المولد ، وهكذا ، وربّما أجابه بكلّ الصفات بالنسبة إلى من يعلم انّه لا يعرف شيئا من صفات المرجع .

هذا هو وجه حمل إطلاق الروايات التي ذكرت بعض المرجّحات فقط ( كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك ) أيضا ، يعني : على انّ الإمام عليه السلام كان يعلم بأنّ الخبرين متساويان في نظر السائل من جميع الجهات ولذلك أطلق التخيير ولم يقيّده بأنّه إذا لم يكن مرجّح في أحد الخبرين .

( الرابع : ) في بيان علاج التعارض بين ما دلّ على الترجيح أوّلاً وقبل كلّ شيء بالأحدثية دون الأقدمية للنسخ ، وبين ما دلّ على الترجيح بسائر المرجّحات ، قال : ( إنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ) لقوله عليه السلام :

« انّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (1) ( على تقدير شموله للروايات الاماميّة ) أيضا وعدم إختصاصه بالأحاديث النبويّة ، يعني : انّ حديث الإمام اللاحق بنسخ حديث الإمام السابق ، أو انّ الإمام الواحد ينسخ بعض أحاديثه المتأخّرة بعض أحاديثه المتقدّمة ، وذلك ( بناءا على القول بكشفهم عليهم السلام عن الناسخ الذي

ص: 77


1- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 .

أودعه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عندهم ، هل هو مقدّم على باقي الترجيحات ، أو مؤخّر ؟ وجهان : من أنّ النسخ من جهات التصرّف في الظاهر ، لأنّه من تخصيص الأزمان ، ولذا ذكروه في تعارض الأحوال ،

-----------------

أودعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عندهم ) لا أنّهم ينسخون من عند أنفسهم ، بل انّهم يُظهرون ما استودعهم جدّهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأنّهم كانوا موضع علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فيعلمون انّ وقت هذا الحديث إلى زمان كذا ، ثمّ يأتي وقت زمان حديث آخر ، كما ورد في الأحاديث : بأنّ الإمام الحجّة صلوات اللّه عليه يُظهر بعد ظهوره بعض الأحكام التي لم تكن في الزمن السابق .

وعلى أي حال : فانّ الترجيح بالأحدثيّة للنسخ (هل هو مقدّم على باقي الترجيحات ، أو مؤخّر) عنها ؟ يعني : هل يحمل الحديث اللاحق على نسخ الحديث السابق إبتداءا ، أو انّه يحمل على النسخ بعد فقد سائر المرجّحات ؟ ( وجهان ) :

الوجه الأوّل : ( من أنّ النسخ ) هو وجهة ( من جهات التصرّف في الظاهر ، لأنّه من تخصيص الأزمان ) فانّه قد يكون التخصيص في الأفراد ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلاّ زيدا ، وقد يكون التخصيص في الأزمان ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلاّ يوم الجمعة - مثلاً - فالتخصيص إذن كما يكون في الأفراد يكون في الأزمان أيضا .

( ولذا ) أي : لأجل انّ النسخ جهة من جهات التصرّف في ظاهر الكلام ممّا يعدّ تخصيصا في الزمان ، كما انّ تخصيص العموم يكون تخصيصا في الأفراد ( ذكروه في تعارض الأحوال ) فقد قالوا هناك : بأنّه إذا دار حال اللفظ بين هذه الحال أو تلك ، فأيّهما المقدّم هذه أو تلك ؟ وذلك فيما إذا كان كلاهما خلاف الظاهر الابتدائي ، علما بأنّ الأحوال المذكورة هي عبارة عن النسخ والتخصيص ، والنقل

ص: 78

وقد مرّ و سيجيء تقديمُ الجمع بهذا النحو على الترجيحات الاُخر ، ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته في غاية القلّة ، فلا يعتنى به في مقام الجمع ولا يحكم به العرفُ ، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، كما إذا امتنع الجمع ، و سيجئبعضُ الكلام في ذلك .

الخامس : إنّ الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في وجوب الجمع بين

-----------------

والاضمار ، والمجاز والاشتراك ، كما ذكره القوانين وغير القوانين في بحث خاصّ ( وقد مرّ وسيجيء ) إن شاء اللّه تعالى ( تقديم الجمع بهذا النحو ) من التصرّف الدلالي بسبب النسخ الذي هو ترجيح بالأحدثيّة ( على الترجيحات الاُخر ) المذكورة في بقيّة روايات العلاج .

هذا هو الوجه الأوّل ، وهو كما عرفت يقتضي تقديم النسخ .

الوجه الثاني ( ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته ) في الروايات وتسليم وقوعه بمعنى : بيان إنتهاء أمد الأوّل بمجيء الثاني ، هو ( في غاية القلّة ، فلا يعتنى به ) أي : بالنسخ ( في مقام الجمع ) بين الخبرين المتعارضين ، كما انّ العرف لا يحكم بالنسخ عند التعارض ، وذلك كما قال: (ولا يحكم به العرف) وحينئذٍ (فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، كما إذا إمتنع الجمع ) الدلالي بكلّ أنواعه من التقييد والتخصيص والتعيين ونحو ذلك ( وسيجيء بعضُ الكلام في ذلك ) إن شاء اللّه تعالى .

( الخامس : ) في بيان علاج التعارض بين ما دلّ على الجمع بين الخبرين ، وبين ما دلّ على الترجيح بالمرجّحات بينهما ، قال : ( إنّ الروايتين الأخيرتين ) : الثالثة عشرة (1) ، والرابعة عشرة (2) ( ظاهرتان في وجوب الجمع بين

ص: 79


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .
2- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .

الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات اللّه عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم .

والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه ،

-----------------

الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم ) ومن المعلوم : انّ هذا يناقض أدلّة الترجيح ، لأنّ معنى أدلّة الترجيح : الطرح ، وهذا معناه : الجمع .

والجواب : إنّ هاتين الروايتين ليستا من روايات العلاج ، بل هما من قبيل ما دلّ على الجمع بين المطلق والمقيّد ، والعامّ والخاص ، والمجمل والمبيّن ، وقد ورد في جملة من الروايات الالماع إلى هذا النحو من الجمع ، علما بأنّ هاتين الروايتين هما في علاج المجمل والمبيّن ، كما قال المصنّف : ( والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : « ولا تتّبعوا متشابهها ... فتضلّوا » (1) هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه) أي خلاف ذلك الظاهر ، وكذا اللفظ الذي لا ظاهر له إبتداءا لتردّده بين معنيين أو أكثر ، فيكون من المتشابه أيضا .

مثلاً : قول اللّه سبحانه : « منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» (2) فالذي في قلبه زيغ يأتي إلى المتشابه ويفسّره حسب هواه ، وذلك إبتغاءا منه للفتنة ، فيفسّر - مثلاً - الجهاد في قوله تعالى : « ياأيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين» (3) بقتال المنافقين ، مع انّه يحتمل القتال ويحتمل فضحهم وتحذير الناس منهم ، بينما الذي في قلبه زيغ وإنحراف يفسّره بالقتال ، لأنّه يريد الفتنة بين المسلمين

ص: 80


1- - عيون أخبار ارضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .
2- - سورة آل عمران : الآية 7 .
3- - سورة التوبة : الآيه 73 .

إذ المتشابهُ إمّا المجملُ و إمّا المؤوّل ، ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل .

-----------------

- مثلاً - ويدعم تفسيره هذا بقرينة السياق الموجود فيالآية « جاهد الكفّار والمنافقين» (1) مع انّ عمل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم هو التفسير للآية ، وهو لم يحارب المنافقين ، وإنّما فضحهم وحذّر المسلمين منهم ، وهذا من ردّ المتشابه إلى المحكم ، فانّ عمل الرسول محكم ، وهذه الآية المباركة متشابهة .

ومنه يعلم : إنّ كلاًّ من المجمل والمأوّل داخل في المتشابه ، فيقال له : مجمل ، لأنّ المتكلّم أجمل فيه ، وهو من الجمال ، كأنّه نوع من جمال الكلام ، ويطلق على اللفظ الذي له نسبة متساوية إلى كلّ معانيه ، مثل لفظ العين إلى معانيها ، ومأوّل :

لأنّه يؤوّل إلى ما أراده المتكلّم ، ولذا قال سبحانه : « وابتغاء تأويله » ويطلق على اللفظ الذي له قوّة في أحد معانيه ، مثل إحتمال إرادة الوجوب من ينبغي في « ينبغي غسل الجمعة » بقرينة الأظهر « اغتسل للجمعة » .

وعلى هذا : فالظاهر من قولهم عليهم السلام بردّ المتشابه إلى المحكم هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه أو اللفظ الذي لا دلالة له إبتداءا من نوع : الظاهر ، والأظهر ، والنصّ ، فيردّ إلى واحد من هذه الثلاثة ، فيشمل المتشابه ما لا إحتمال له إبتداءا لتردّده بين إحتمالين وأكثر ، سواء كان متساوي النسبة إلى كلّ الاحتمالات ، أم كان له قوّة في أحدها ، كما ويشمل المتشابه أيضا الظاهر الذي اُريد منه خلافه ، وذلك كما قال : ( إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل ) وقد عرفت معناهما ، لكنّ المراد هنا من المتشابه هو : المجمل ( ولا معنى للنهي ) بقوله عليه السلام : « ولا تتّبعوا متشابهها » (2) ( عن اتّباع المجمل ) لأنّ المتشابه الذي هو بمعنى المجمل لا يعقل

ص: 81


1- - سورة التحريم : الآية 9 .
2- - عيون أخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر .

وهذا المعنى لمّا كان مركوزاً في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعدُ إرادةُ ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ،

-----------------

متابعته ، بخلاف المتشابه الذي هو بمعنى المأوّل فانّه يعقل متابعته .

وعلى هذا ( فالمراد ) من ردّ المتشابه إلى المحكم على تفسير المصنّف هو : ( إرجاع الظاهر إلى النصّ ) مثل : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا ، حيث انّ شمول العلماء لزيد ظاهر ، وشمول لا تكرم لزيد نصّ ، ولذا يخصّص أكرم العلماء بلا تكرم زيدا ( أو ) إرجاع الظاهر ( إلى الأظهر ) مثل ينبغي غسل الجمعة ويجب غسل الجمعة ، حيث أن ينبغي ظاهر ويجب أظهر ، فاللازم أن يقال : انّ المراد من ينبغي هو الوجوب .

( وهذا المعنى ) المذكور : من إرجاع الظاهر إلى النصّ ، أو إلى الأظهر ( لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ) عليهم السلام ، يعني : إنّه لمّا كان الحديثان المتعارضان ، المقطوعان الصدور ، معروفا عند أهل المحاورة بلزوم إرجاع الظاهر منهما إلى الأظهر ، أو إلى النصّ ، فلا يمكن أن يقصده الإمام في الروايتين المتقدّمتين ، لأنّه لم يكن محتاجا إلى البيان ، وإذا لم يكن في المقطوعي الصدور محتاجا إلى البيان ( فلا يبعدُ إرادةُ ما يقع من ذلك ) التعارض بين الظاهر والأظهر أو بين الظاهر والنصّ ، ومعالجته ( في الكلمات المحكيّة عنهم ) عليهم السلام ، المرويّة ( باسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ) فيكون مقصود الإمام من الروايتين الأخيرتين معالجة تعارض الروايات الظنّية الصدور المنزّلة منزلة المعلوم الصدور ، فانّ أدلّة حجيّة الخبر

ص: 82

فالمراد أنّه لايجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه ، فإذا أمكن ردّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها ، لمعارضتها بما هو أرجح منها .

والغرضُ من الروايتين الحثُّ

-----------------

الواحد قد نزّلت الظنّي الصدور منزلة القطعي الصدور .

إذن : ( فالمراد ) من قولهم عليهم السلام « بردّ المتشابه إلى المحكم » ( انّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه ) وذلك بأن نأخذ بالخبر الراجح ونطرح الخبر المرجوح ، فانّه لا يجوز ، ومعه ( فإذا أمكن ) للفقيه الجمع بين ذينك الخبرين الظنّيين ( رُدّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ) وان لم يمكن ذلك رجع إلى التخيير بينهما .

والحاصل : انّ المصنّف يرى انّ ردّ المتشابه إلى المحكم يراد به : ردّ الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر في الحديثين الظنيّين ، ولكن لا يخفى ما في هذا الذي ذكره المصنّف من البعد ، ولذا لعلّ الأقرب منه ما ذكره الشيخ البهائي في الزبدة فانّه قال : اللفظ إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فنصّ ، وإلاّ فالراجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل ، والمتساوي مجمل ، والمشترك بين الأوّلين محكم ، وبين الأخيرين متشابه .

( و ) على ما ذكره المصنّف يكون المراد بالروايتين الأخيرتين هو : ( انّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ) عليهم السلام ( ولم يبادر إلى طرحها لمعارضتها بما هو أرجح منها ) بل يجمع بينها بحمل الظاهر على الأظهر أو النصّ ، كما ( و ) يكون ( الغرض من الروايتين ) الأخيرتين هو : ( الحثّ

ص: 83

على الاجتهاد و استفراغٌ الوسع في معاني الروايات ، و عدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه .

المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة

فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار - بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح .

وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة و أخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما -

-----------------

على الاجتهاد وإستفراغ الوسع في معاني الروايات ، وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه ) وعلى هذا فالروايتان الأخيرتان ليستا من روايات الترجيح لدلالتهما على الجمع العرفي .

( المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ) في ترجيح خبر على خبر عند التعارض ، بل انّ كلّ مرجّح عقلائي يجب الترجيح به ممّا يوجب تقديم خبر على خبر في المتعارضين ( فنقول : اعلم أنّ حاصل مايستفاد من مجموع الأخبار ) العلاجية ( بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول ) عرفا ( على الطّرح ) والجمع العرفي المقبول عبارة عن حمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، وتقديمه مفروغ عنه ، لأنّ مورده لا يعدّ عرفا من المتعارضين ( وبعد ما ذكرنا : من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها ) من الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة التي ذكرتها المقبولة أوّل المرجّحات ( إنّما هو بين الحَكمين ) أي : القاضيين ، وذلك ( مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ) فانّ

ص: 84

هو أنّ الترجيح أوّلاً بالشهرة و الشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة و الأوثقية ، ثم بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام .

-----------------

حاصل ما يستفاد من الأخبار العلاجية بعد ذلك ( هو انّ الترجيح ) في الروايات يكون مرتّبا بالترتيب التالي :

( أوّلاً : بالشهرة والشذوذ ) فإذا كان أحد المتعارضين مشهورا دون الآخر ، بمعنى كون الآخر شاذّا ، فانّه يؤخذ بالمشهور ، ويترك الشاذّ .

ثانيا : ( ثمّ بالأعدليّة والأوثقية ) إذا كان كلاهما شاذّا ، أو كلاهما مشهورا ، وإنّما يكون الترجيح بهاتين الصفتين لأنّهما جعلتا في المرفوعة من مرجّحات المتعارضين بعد الشهرة .

ثالثا : ( ثمّ بمخالفة العامّة ) فإذا كان أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم ، فانّه يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لهم ، وأمّا إذا كان كلاهما موافقا للعامّة ، أو كلاهما مخالفا للعامّة ، فانّه يأتي دور المرجّح الرابع ، وهو ما ذكره المصنّف بعده .

رابعا : ( ثمّ بمخالفة ميل الحكّام ) ومعنى ميل الحكّام هو : انّهم وان لم يكونوا يقولون به إلاّ انّهم مائلون إليه ، فإذا كان هناك - مثلاً - خبران : أحدهما يقول : ليس في مال التجارة زكاة ، والآخر يقول : بأنّ فيه الزكاة ، وفرضنا انّ العامّة لا يقولون بالزكاة في مال التجارة - مثلاً - لكنّ حكّامهم مائلون إليه لكون الزكاة في مال التجارة يوجب تمكّنهم من المزيد من أخذ أموال الناس بالباطل ، فإذا تعارضت روايتان عندنا في هذا الباب ، فاللازم أن نأخذ بالرواية التي تقول انّه لا زكاة في مال التجارة .

وأمّا الترجيح بالأحدثيّة والأقدميّة ووجوب التقديم بالأحدثيّة دون الأقدميّة ، فلم يذكره المصنّف لأنّ التقديم بسببه لعلّه من جهة التقيّة وغير التقيّة الراجعتين

ص: 85

وأما الترجيح بموافقة الكتاب و السنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به .

و كذا الترجيح بموافقة الأصل ، ولأجل ما ذكر لم يذكر ثقة الاسلام رضوان اللّه عليه ، في مقام الترجيح ، في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال :

« اعلم يا أخي

-----------------

إلى جهة الصدور ، وليس الكلام في مثل ذلك كما سبق الالماع إليه .

( وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ) ومخالفتهما ( فهو ) ليس من باب الترجيح ، بل ( من باب إعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعيّ الصدور ) ممّا ليس في الخبر الآخر المعارض له ( ولا إشكال في وجوب الأخذ به ) أي : بما كان معتضدا بالكتاب والسنّة ، وليس ذلك من باب أخبار العلاج بل من باب الأخذ بالحجّة في قِبال ما ليس بحجّة .

( وكذا الترجيح بموافقة الأصل ) فانّه على تقدير القول به ليس من باب الترجيح ، وإنّما من باب المرجع بعد تساقط الخبرين المتعارضين في خصوص مؤدّاهما ، وذلك لما ذكرناه سابقا : من انّ افُق الأصل وافُق الرواية مختلفان فلم يكونا في مرتبة واحدة .

( ولأجل ما ذكر ) في حصيلة أخبار العلاج : من إستفادة الترجيح بالنحو المتقدّم مرتّبا بتقديم الشهرة ، ثمّ الأعدليّة والأوثقيّة . ثمّ مخالفة العامّة ، ثمّ مخالفة ميول حكّام العامّة ( لم يذكر ثقة الاسلام ) الكليني ( رضوان اللّه عليه ، في مقام الترجيح ) بين الأخبار ( في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ) هنا من المرجّحات وترتيبها .

ثمّ ذكر المصنّف بعض ما جاء في الديباجة بقوله: (فقال : اعلم يا أخي

ص: 86

أرشدك اللّه ، أنّه لايَسَعُ أحداً تمييزُ شئممّا اختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم السلام ، برأيه إلاّ على ما أطلقه عليه السلام ، بقوله : « أعرِضُوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه ، و ما خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فذروه » ، وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » ، ولانعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ،

-----------------

أرشدك اللّه ،انّه لا يسعُ أحدا تمييز شيء ) أي فرز أحد الخبرين المتعارضين وترجيحه على الآخر ( ممّا إختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم السلام ) أي : من الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، فقد ورد في الحديث : « نحن العلماء ، وشيعتنا المتعلّمون » فانّه لا يجوز فرز شيء وترجيحه ( برأيه ) من دون ملاحظة أخبار الترجيح ( إلاّ على ما ) أي : على النحو الذي ( أطلقه عليه السلام بقوله : « اعرضُوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فذروه » وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فانّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ) .

ولا يخفى : انّ ما ذكره الشيخ الكليني هو المستفاد من الروايات التي عرفتها .

ثمّ قال الشيخ الكليني : ( ولا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ) والظاهر انّ المراد من ذلك هو : ما وافق الكتاب أو خالفه ، أو وافق العامّة أو خالفهم ، أو وافق المجمع عليه أو خالفه ، فانّه إنّما لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه ، إذ لم نجد في الأخبار على الأغلب خبرا معارضا للكتاب ، أو موافقا للعامّة ، أو مخالفا للمشهور ،

ص: 87

ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : « بأيّهما أخذتُم من باب التسليم وسعكم » ، انتهى .

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة و الأوثقيّة ، لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف .

-----------------

إلاّ ويكون له جمع دلالي ، ممّا يوجب عدم بقاء مجال للترجيح بالمرجّحات المذكورة ، فانّ الغالب في الخبرين المتعارضين انّ لهما جمع دلالي .

هذا ( ولا نجد شيئا ) في مورد التعارض ولا طريقا ( أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام ) فانّه هو الذي يعلم أنّ أيّا من الخبرين المتعارضين يطابق الواقع فيلزم العمل به ، ولذلك يلزم ردّ علمه إليه ( وقبول ما وسّع من الأمر فيه ) أي : في مورد التعارض ، وهو التخيير ، فانّ التخيير هو الأمر الموسّع لنا فيه ، على ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في رواية الحسن بن الجهم (1) ، وعن الإمام الحجّة عليه السلام (2) ( بقوله : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (3) ، انتهى ) كلام الشيخ الكليني .

ثمّ قال المصنّف : ( ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ) مع إنّهما وردا في المرفوعة في عِداد التراجيح ، فانّ الشيخ الكليني إنّما تركهما ( لأنّ الترجيح بذلك ) نظير الجمع العرفي المقبول ( مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف ) بأن يرد من الشارع فيه إذن أو تصريح .

ص: 88


1- - انظر الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 .
2- - انظر الاحتجاج : ص483 ، الغيبة للطوسي : ص378 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص112 ب9 ح33352 .

وحكي عن بعض الأخباريّين : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كونُ أخبار كتابه كلّها صحيحة و قوله : « و لا نعلم من ذلك إلاّ أقلّه » إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعاً عليها قليل ،

-----------------

ولا يخفى : انّ هذا تأويل بعيد لكلام الشيخ الكليني ، لكن المصنّف رحمه الله لتأدّبه الكثير في قِبال العلماء كتأدّبه في قِبال الروايات ، يلتجئإلى توجيه ذلك بما لايكون منافيا للقواعد والأدلّة .

هذا ( وحكي عن بعض الاخباريين ) انّه قال : ( انّ وجه إهمال ) الشيخ الكليني ( هذا المرجّح ) الوصفي يعني : الأعدليّة والأوثقيّة هو : ( كون أخبار كتابه كلّها صحيحة ) ومن المعلوم : إنّ الصحّة توجب الجمع ، لا طرح أحد الروايتين لأجل الاُخرى ، ومعه فلا داعي للترجيح .

ثمّ قال المصنّف : ( وقوله ) أي : قول الشيخ الكليني ( « ولا نعلم من ذلك إلاّ أقلّه » ) هو : ( إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها ) أي : انّ إحتمال التقيّة في الخبر الموافق للعامّة إنّما يكون معتبرا إذا كانت التقيّة في زمن الصدور ، لا انّه إذا كانت التقيّة قبل ذلك أو بعد ذلك ( أو كونها مجمعا عليها ) زمن الصدور أيضا ، وذلك ( قليل ) جدّا على ما عرفت .

هذا ، وحيث إنّ المصنّف لم يفهم من كلام الشيخ الكليني قلّة مخالفة الكتاب ، لذلك لم يتعرّض لذكره ، مع انّ الظاهر من قوله : « ولا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه » يشمل كلّ الثلاثة يعني : جهة مخالفة الكتاب ، وجهة مخالفة العامّة ، وجهة الشهرة وكونها مجمعا عليها معا .

ص: 89

والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل .

وقوله : « لانجد شيئاً أحوط ولا أوسع ... إلى آخره » ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجهُ كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف و الاحتياط في العمل ، فلا يبعدُ أن يكون من جهة أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي

-----------------

( و ) ان قلت : انّا كثيرا ما نظنّ الآن بأنّ الخبر الفلاني مخالف للكتاب ، أو موافق للعامّة ، أو مخالف للمجمع عليه ، فيلزم طرحه والأخذ بالخبر المقابل له ، لأنّه أصبح كثيرا ولم يبق على قلّته ، وذلك ظنّا منّا بأنّ زمن الصدور كان كذلك أيضا .

قلت : ( التعويل على الظنّ بذلك عارٍ عن الدليل ) فلا دليل على جواز الاعتماد والتعويل على الظنّ الحاصل من مخالفة الخبر الفلاني الآن للكتاب ، أو للمجمع عليه ، أو موافقته للعامّة ، ظنّا بانّه كان في زمن الصدور أيضا كذلك ، وحيث لا دليل على حجيّة هذا الظنّ ، فلا يجوز التعويل عليه .

هذا ( وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره» ) فانّ مقصود الشيخ الكليني من الأحوط والأوسع هو كما يلي :

( امّا أوسعيّة التخيير فواضح ) لأنّ التخيير يعطي للإنسان حريّة الاختيار في أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، بينما التعيين نوع تضييق على الانسان وتقييد له .

( وأمّا وجه كونه ) أي كون التخيير ( أحوط ، مع انّ الأحوط التوقّف والاحتياط في العمل ) لا أن يكون مخيّرا بين أن يعمل بهذا أو بذاك ( فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك ) أي : في التخيير ( ترك العمل بالظنون التي ) توجب ترجيح خبر على خبر ، فيما لم يكن المرجّح منصوصا ، فانّ تلك الظنون غير المنصوصة

ص: 90

لم يثبت الترجيح بها ، والافتاء بكون مضمونها هو حكم اللّه لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد .

ولذا طعن غيرُ واحد من الأخباريّين على رؤساء المذهب - مثل المحقّق والعلاّمة - بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على اُمور اعتمدها العامّه في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر .

قال المحدّث البحراني قدس سره في هذا المقام من مقدّمات

-----------------

( لم يثبت الترجيح بها ، و ) كذا لم يثبت ( الافتاء بكون مضمونها هو حكم اللّه لا غير ) بل إنّ مثل هذا الافتاء يكون من الافتاء بغير علم .

( و ) من المعلوم : انّ ( تقييد إطلاقات التخيير والتوسعة ) بالترجيح بمرجّحات غير منصوصة ، وذلك كما قال : ( من دون نصّ مقيّد ) لهذه الاطلاقات هو خلاف مقتضى الوقوف على كلماتهم عليهم السلام ، فيكون الترجيح بغير المنصوص خلاف الاحتياط ، بينما يكون التخيير حسب إطلاقات أخبار التخيير وفق الاحتياط .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ الرجوع إلى المرجّحات غيرُ المنصوصة تقييد لإطلاقات التخيير من دون دليل ظاهر يقيّد تلك الاطلاقات ، وهو خلاف الاحتياط ، نرى انّه قال ( طعن غير واحد من الاخباريين على رؤساء المذهب ) الاُصوليين ( مثل المحقّق والعلاّمة : بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على اُمور إعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر ) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في كلام المصنّف الترجيح ببعض الاُمور غير المنصوصة .

هذا ، ويدلّ على طعن الاخباريين على رؤساء المذهب مراجعة كلماتهم فقد ( قال المحدّث البحراني ) صاحب الحدائق ( قدس سره في هذا المقام من مقدّمات

ص: 91

الحدائق : « إنّه قد ذكر علماء الاُصول من الترجيحات في هذا المقام ما لايرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمدُ عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات » ، انتهى .

أقول : قد عرفت أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحاً في نظر الشارع ، لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذٍ .

نعم ، لو كان المرجعُ بعد التكافؤ

-----------------

الحدائق : انّه قد ذكر علماء الاُصول من الترجيحات في هذا المقام ) أي : في مقام ترجيح بعض الروايات على بعض في مقام تعارضهما ( ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ) إذ لا دليل عليها من الشرع ، بينما ( والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ) (1) المنصوصة ( انتهى ) كلام المحدّث البحراني .

( أقول ) : في ردّ كلمات هؤلاء المحدّثين انّه : ( قد عرفت ) سابقا ( أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين ) بناءا على الطريقيّة لا الموضوعيّة ، فقد رجّحنا الطريقيّة هناك ( هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ) لا التخيير بينهما ، وذلك ( لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ ) أي : حين وجود رجحان في أحد الخبرين المتعارضين ، فيكون الخبر الآخر المرجوح مشكوكا ، والشكّ فيه مسرح عدم الحجيّة ، فيكون المتيقّن من التخيير هو صورة إنتفاء الترجيح رأسا .

( نعم ، لو كان المرجّح بعد التكافؤ ) والتعادل من جميع الجهات وعدم

ص: 92


1- - الحدائق الناظرة : ج1 ص90 .

هو التوقف و الاحتياط كان الأصلُ عدمَ الترجيح إلاّ بما علم كونه مرجّحاً .

لكن عرفت أنّ المختار مع التكافؤ هو التخيير ، فالأصلُ هو العمل بالراجح ، إلاّ أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين :

-----------------

رجحان أحدهما على الآخر ( هو التوقّف ) عن الافتاء وعدم الفتوى بالتمسّك بهذا الخبر بعينه ولا بذلك الخبر بعينه ( والاحتياط ) في العمل كما سبق ( كان الأصل ) الثانوي ( عدم الترجيح إلاّ بما عُلم كونه مرجّحا ) منصوصا عليه في الروايات ، وذلك لأنّ الأصل الثانوي الذي دلّت عليه الروايات هو التخيير فيما إذا لم يكن هناك مرجّح منصوص عليه في أحد الجانبين .

( لكن عرفت : انّ المختار مع التكافؤ ) والتعادل على ما إستفدناه من الأخبار بعنوان الأصل الثانوي ( هو التخيير ) في صورة التكافؤ ، وامّا مع مزيّة أحدهما ولو مزيّة محتملة ( فالأصل ) العملي في محتمل المزيّة والرجحان ( هو العمل بالراجح ) .

وان شئت قلت : انّ العقل يدلّ على الترجيح في محتمل الراجحيّة ، لأنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إلاّ إذا لم يكن ترجيح إطلاقا ، فالأصل الأوّلي إذن في المتعارضين بمقتضى الطريقيّة هو التوقّف لكن بحسب الأخبار وهو أصل ثانوي يكون التخيير .

( إلاّ أن يقال : إنّ ) الأصل اللفظي وهو هنا ( إطلاقات التخيير ) في الروايات ( حاكمة على هذا الأصل ) العملي وهو أصل الاحتياط في العمل بالراجح .

وعليه : ( فلابدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة ) إلى غير المنصوصة عامّة ، وهم المجتهدون دون الاخباريين ( من أحد أمرين ) كالتالي :

ص: 93

إمّا أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوبَ العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيّها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاصَ بصورة التكافؤ من جميع الوجوه .

و الحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل .

كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ،

-----------------

الأوّل : ( إمّا أن يستنبط من النصوص ) أي : من أخبار العلاج التي نصّت على بعض المرجّحات ( ولو ) إستنباطا ( بمعونة الفتاوى ) حيث انّ العلماء هم الذين اُلقي إليهم الكلام ، ففتاواهم تدلّ على انّهم أيضا فهموا من الروايات ( وجوب العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيها ) أي : ذي المزيّة ( إلى الواقع ) وحينئذ فيتعدّى من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ، وهذا ما جرى عليه المجتهدون .

الثاني : ( وإمّا ان يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص ) أي : إختصاص التخيير ( بصورة التكافؤ من جميع الوجوه ) بحيث لا يكون هناك في أحد المتعارضين مزيّة منصوصة ، ولا غير منصوصة ، فانّه إنّما يستظهر من إطلاقات التخيير إختصاصه بصورة التكافؤ من جميع الوجوه ، لأنّ إطلاقات التخيير منصرفة إلى صورة فقد المرجّح .

( والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي إلتزام الأوّل ) أي : وجوب العمل بكلّ مزيّة منصوصة وغير منصوصة ، وذلك كما سيذكره المصنّف قريبا إن شاء اللّه تعالى .

( كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي إلتزام الثاني ) أي : إختصاص التخيير بصورة التكافؤ من جميع الوجوه بحيث لا يكون في جانب من المتعارضين مزيّة منصوصة ولا غير منصوصة .

ص: 94

ولذا ذهب جمهورُ المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ، بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع و عدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة .

وكيف كان : فما يمكن استفادة هذا المطلب منه ، فقراتٌ من الروايات :

-----------------

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ تدقيق النظر والتأمّل الصادق يقتضي إلتزام الأمرين المذكورين ( ذهب جمهورُ المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ) المذكورة في الروايات ( بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف ) من أحد ( على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ) سواء كان رجحانا منصوصا أو رجحانا غير منصوص ، وذلك ( بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة ) فانّ بعض المجتهدين بعد ما نسب إلى جماعة دعوى الاجماع ، ادّعى هو أيضا الاجماع ، ففي المسألة إجماع منقول ، وإجماع محصّل ، وشهرة محقّقة لذهاب جمهور المجتهدين إليه .

( وكيف كان ) : سواء صحّ دعوى الاجماع أم لم يصحّ ( فما يمكن إستفادة هذا المطلب ) أي : لزوم الترجيح بكلّ مرجّح ولو غير منصوص ( منه ، فقرات من الروايات ) أي : من روايات الترجيح يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى .

وعليه : فالروايات العلاجية تدل على أمرين :

الأمر الأوّل : المرجّحات المنصوصة .

الأمر الثاني : الترجيح بكلّ مرجّح ولو لم يكن منصوصا ممّا يراه العرف مرجّحا .

وامّا الفقرات الدالّة على ذلك فهي ما أشار إليها المصنّف بقوله :

ص: 95

منها : الترجيحُ بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقية في المرفوعة ، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث إنّه أقربُ ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاصّ .

-----------------

( منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقيّة في المرفوعة ، فانّ إعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب ) من المتعارضين إلى الواقع ، فلا خصوصيّة للأصدقيّة والأوثقيّة ، بل كلّ مرجّح يوجب الأقربية إلى الواقع وان لم يكن منصوصا يكون مرجّحا لأحد النصّين على الآخر ، إذ المفروض من هاتين الصفتين ترجيح الأقرب ( إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ) من الأخبار ( من حيث إنّه أقرب ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ) من الأصدقيّة والأوثقيّة .

هذا ( وليستا ) أي : الأصدقية والأوثقية ( كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاص ) إذ الأصدقية والأوثقية طريقان إلى كشف الواقع ، بخلاف الأعدليّة والأفقهية فإنّهما قد يعتبران من باب الموضوعيّة ، كما نجد ذلك في باب الشهادة ، فانّ العدالة قد إعتبرها الشارع في الشهادة من باب الموضوعيّة ، وكذلك الفقاهة قد إعتبرها الشارع في التقليد من باب الموضوعيّة ، ولذلك لا يبعد أن يكون الشارع قد إعتبر الأعدليّة والأفقهيّة في الترجيح من باب الموضوعيّة أيضا ، ومعه لا مدخلية لهما في الأقربية إلى الواقع ، بخلاف الأصدقية والأوثقية .

أقول : لا يخفى انّه من المحتمل إعتبار الأعدليّة والأفقهية من باب الأقربية

ص: 96

وحينئذٍ فنقول : إذا كان أحدُ الروايين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك ، فيكون أصدق و أوثق من الراوي الآخر ، و يتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم يعتبر في الراوي إلاّ من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ،

-----------------

أيضا ، كما انّه من المحتمل إعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الموضوعية أيضا ، وتفصيل ذلك ممّا لا يسعه الشرح هنا .

وكيف كان : فقد قال المصنّف : ( وحينئذ ) أي : حين كان إعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الأقربية إلى الواقع ، بحيث يفيدان كبرى كليّة : يقول بوجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع ( فنقول : إذا كان أحدُ الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك ) ككونه أكثر إستيعابا للقرائن والخصوصيات عند تكلّم المتكلّم ( فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ) وذلك لأنّ مثل هذه الصفات غير المذكورة في الروايات تؤول بالأخرة إلى الأصدقية والأوثقية من حيث المناط ، أو لأنّها من أفراد الأصدق والأوثق .

ثمّ انّه لمّا كان الترجيح بالأصدقية والأوثقية وما يؤول إليهما لأجل انّ اتّصاف الراوي بهما يؤثّر في صدق الرواية ، وجب الترجيح بكلّ مرجّح موجود في نفس الرواية يؤثّر في صدقها ، وذلك كما قال : ( ويتعدّى من صفات الراوي المرجّحة ) للرواية ( إلى صفات الرواية الموجبة لأقربية صدورها ) قربا إلى الواقع ، وذلك ( لأنّ أصدقية الراوي وأوثقيته لم يعتبر في الراوي إلاّ من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ) فانّ ترجيح أحد الخبرين على الآخر بأصدقيّة الراوي وأوثقيته إنّما هو من جهة انّ اتّصاف الراوي بالأصدقية والأوثقية يوجب صفة

ص: 97

فإذا كان أحدُ الخبرين منقولاً باللفظ والآخر منقولاً بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق .

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها و تخالفها في الروايتين ،

-----------------

الصدق والوثاقة في الرواية ، وحينئذٍ فلا فرق بين أن يكون نفس الراوي أصدق وأوثق ، أو كان في الرواية صفة تورث الصدق والوثاقة ، فانّه يجب الترجيح بسبب هاتين الصفتين في الراوي أو في الرواية .

وعليه : ( فإذا كان أحدُ الخبرين منقولاً باللفظ والآخر منقولاً بالمعنى ) فمن الواضح : انّه ( كان الأوّل أقرب إلى الصدق ) وإلى مطابقة الواقع ( وأولى بالوثوق ) أي : بوثوق السامع بأنّه كلام الإمام عليه السلام من الثاني ، لإحتمال إشتباه الذي نقل بالمعنى في تفسير كلام الإمام في الثاني .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) من وجوب الترجيح بكلّ مزيّة تفيد الأقربية إلى الواقع ، لإستفادة كبرى كليّة من الأصدقية والأوثقية المذكورتين في الرواية تفيد ذلك ، هو : ( انّ الراوي بعد سماع الترجيح لمجموع الصفات ) الأربع ( لم يسأل ) من الإمام ( عن صورة وجود بعضها ) دون بعض وانّه هل في وجود البعض كفاية أو ليس فيه كفاية ؟ .

( و ) كذا لم يسأل من الإمام عن صورة ( تخالفها ) أي : تعارض الصفات ( في الروايتين ) فلم يسأل الإمام عن انّه لو كان أحدهما أصدق والآخر أوثق ، أو كان أحدهما أعدل والآخر أفقه كيف يعمل معهما ؟ وعدم سؤاله عن ذلك يكشف عن انّه فهم انّه لو أفاد أحد الحديثين ظنّا أقوى من الظنّ الذي يفيده الحديث الآخر وجب الأخذ به ، فيكون المعيار هو الأقوائية ، سواء من حيث الرواية ،

ص: 98

وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها حتى قال : « لا يفضّلُ أحدُهما على صاحبه » ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلاً ، فلولا

-----------------

أو من حيث الراوي ، وسواء بسبب الصفات المنصوصة من الأصدقية والأوثقية والأعدلية والأفقهية ، أو بسبب أمثال هذه الصفات .

وعليه : فانّ الراوي لم يسأل عن حكم تلك الصورتين ( وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها ) فانّه لمّا قال له الإمام عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، قال الراوي : قلت : فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر » (1) حيث انّ ظاهر « لا يفضّل » هو : انّه لا يفضّل على الآخر بأي شيء من الصفات ، سواء الصفات التي ذكرتم ، أو الصفات التي لم تذكروا ، وذلك كما قال المصنّف : ( حتّى قال : لا يفضّل أحدهما على صاحبه يعني : بمزيّة من المزايا أصلاً ) لا مزيّة مذكورة ، ولا مزيّة غير مذكورة ، كالأضبطيّة والأكمليّة والنقل باللفظ ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فلولا ) إنّ الراوي فهم من هذه الرواية كبرى كليّة تفيد وجوب الترجيح بكلّ واحد من الصفات المذكورة في الرواية وغير المذكورة فيها ممّا يوجب الأقربية إلى الواقع ، لم يناسبه السؤال عمّا لو لم يكن في الراويين مرجّح مطلقا ،

ص: 99


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فهمُهُ أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقعٌ للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيها رأساً ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم .

ومنها : تعليله عليه السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : « فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » .

-----------------

فانّ سؤاله ذلك يكشف عن انّه فهم من الرواية كبرى كليّة كما قال المصنّف : فانّه لولا ( فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات ) المنصوصة ( وما يشبهها ) من سائر الصفات غير المنصوصة ، سواء كانت صفات الراوي أو صفات الرواية ، فانّه لو لم يفهم انّ كلّ واحد منها ( مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقعٌ ) أي : محلّ ومناسبة ( للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا ) كما فعله الراوي .

( بل ناسبه السؤال عن حكم عدم إجتماع الصفات ) وعن حكم التخالف بين الصفات ، كما لو كان في أحدهما الأعدليّة وفي الآخر الأصدقيّة - مثلاً - وإلى غير ذلك ، فانّ الراوي حيث لم يسأل عن حكم عدم إجتماع الصفات الأربع ، ولا عن حكم تخالف الصفات ، وسأل عن حكم عدم وجود مزيّة في المخبرين ، أو تساوي المزيّة فيهما، فانّ ذلك يكشف عن فهم الراوي لما ادّعيناه من الكبرى الكليّة.

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى انّ فهم الملاك والكبرى الكليّة من هذه الرواية خلاف ظاهرها ، الذي هو جعل المعيار ما نصّ فيه ، بدون أن يعرف انّ الملاك هو الأقربية ، فلا قوّة في تقييد إطلاقات التخيير بمثل الملاك .

(ومنها: تعليله عليه السلام، الأخذ بالمشهور بقوله: «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه»)(1)

ص: 100


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

توضيح ذلك : إنّ معنى كون الرواية مشهورة كونُها معروفة عند الكلّ ، كما يدلّ عليه فرضُ السائل كليهما مشهورين ، و المراد بالشاذّ ما لايعرفه إلاّ القليل .

ولاريب أنّ المشهور بهذا المعنى

-----------------

فإنّه يستفاد منه كبرى كليّة أيضا تدلّ على لزوم الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه ، وحيث انّ لا ريب فيه بمعنى : عدم الريب النسبيّ ، فكلّ خبر فيه ريب نسبيّ بالنسبة إلى ما لا ريب نسبيّ فيه ، يؤخذ بما لا ريب نسبيّ فيه ، فإذا كان خبران أحدهما : نقل باللفظ ، والآخر : نقل بالمعنى ، فلا ريب في المنقول باللفظ ، بالنسبة إلى الرّيب المحتمل في المنقول بالمعنى ، وهكذا .

( توضيح ذلك ) أي : توضيح انّه كيف يستفاد من هذا التعليل كبرى كليّة ؟ بحيث يمكن أن يتعدّى منها إلى كلّ مزية غير منصوصة هو : (ءانّ معنى كون الرواية مشهورة : كونها معروفة عند الكلّ ) أو الجلّ ، يعني : بل تكون الشهرة روائية لا فتوائية ، وذلك ( كما يدلّ عليه ) أي : على هذا المعنى للشهرة ( فرض السائل كليهما مشهورين ) فانّه لا يمكن فرضهما مشهورين معا إلاّ بالنسبة إلى الشهرة في الرواية ، وأمّا بالنسبة إلى الشهرة في الفتوى فلا يمكن فرض ذلك فيهما معا ، إذ لا يعقل أن يكون الافتاء بوجوب صلاة الجمعة مشهورا بين الفقهاء ، والافتاء بحرمتها أيضا مشهورا بين الفقهاء ، بعد ظهور المشهور في الأكثرية .

إذن : فالمراد بالمشهور : ما عرفه الأكثر ( والمراد بالشاذّ : ما لا يعرفه إلاّ القليل ) وذلك بأن يكون أحد الخبرين مرويّا في غالب كتب الأصحاب - مثلاً - بينما الخبر الآخر يكون مرويّا في كتب بعضهم فقط .

( ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ) المذكور هو معرفة الكلّ أو الجلّ

ص: 101

ليس قطعيا من جميع الجهات قطعي المتن و الدلالة ، حتى يصير ممّا لاريب فيه ، وإلاّ لم يمكن فرضُهما مشهورين ولا الرجوعُ إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ،

-----------------

( ليس قطعيّا من جميع الجهات ) يعني : انّه لا يلزم أن يكون الخبر المشهور ( قطعيّ المتن والدلالة ) أيضا بالإضافة إلى شهرته ( حتّى يصير ) هذا الخبر المشهور ( ممّا لا ريب فيه ، وإلاّ ) بأن لزم أن يكون الخبر المشهور قطعي السند والدلالة والجهة أيضا ، لزم منه المحاذير التالية :

أوّلاً : ( لم يمكن فرضُهما مشهورين ) معا كما فرضهما الراوي ، وذلك لأنّه لو كان المشهور عبارة عمّا لا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، فانّه كيف يمكن تعارض خبرين لا ريب في صحّتهما معا سندا وجهة ودلالة ؟ ففرضهما كذلك دليل على عدم لزوم كونهما مقطوعي الصحّة .

ثانيا : ( ولا ) أي : وكذا لم يمكن ( الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ) فانّه لو كان المشهور قطعيّا ولا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، لوجب أوّلاً تقديمه على الشاذّ بهذه الصفة لا بغيرها من الصفات ، فكيف ذكر الإمام عليه السلام تقديم خبر ذي الصفات على صفة الشهرة ؟ كما نجد ذلك في المقبولة ، حيث قال عليه السلام فيها أوّلاً : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ثمّ قال عليه السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) فقدّم الإمام صفات الراوي على الشهرة مع انّه لو كان المراد بالمشهور :

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره = = الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الاُخر .

فالمرادُ بنفي الريب نفيهُ بالإضافة إلى الشاذّ ، و معناه : أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه .

فيصير حاصل التعليل ، ترجيح المشهور على الشاذّ ، بأنّ في الشاذّ

-----------------

القطعي السند والدلالة والجهة ، كان اللازم تقديم الشهرة أوّلاً ، ثمّ ذكر الصفات .

ثالثا : ( ولا ) أي : وكذا لم يمكن ( الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الاُخر ) فانّه لو كان المشهور قطعيّا صحّته سندا ودلالة وجهة ، كان الخبران المشهوران كلاهما قطعيي الصحّة سندا ودلالة وجهة ، ومعه فلا معنى للرجوع إلى بقيّة المرجّحات وتقديم الراجح على المرجوح ، بل كان اللازم الحكم بإجمال الروايتين والرجوع إلى القواعد الاُخر ، فحكم الإمام بالرجوع إلى المرجّحات بعد كونهما مشهورين ، يدلّ على انّه ليس المراد بالمشهور المقطوع الصحّة ، بل المراد : احتواؤه على ما يجعله أقرب إلى مطابقة الواقع ، وإذا إستفيدت هذه الكبرى الكليّة من هذه الرواية ، بهذه القرائن الثلاث التي مرّ ذكرها من المصنّف ، ظهر أنّ كلّ مزيّة توجب الأقربية يجب الترجيح بها ، وان لم تكن منصوصة .

إذن : ( فالمرادُ بنفي الريب ) الذي جاء في كلام الإمام عليه السلام في المقبولة ، ليس نفيه مطلقا ، بل ( نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ) أي : النفي النسبي ( ومعناه : انّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه ) أي : في المشهور .

وعليه : ( فيصير حاصل التعليل ) الوارد في كلام الإمام عليه السلام في المقبولة هو : ( ترجيح المشهور على الشاذّ ) ترجيحا معلّلاً ( بأنّ في الشاذّ

ص: 103

احتمالاً لايوجد في المشهور ، و مقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوبُ الترجيح بكلّ ما يوجوب كون أحد الخبرين ، أقلّ احتمالاً لمخالفة الواقع .

ومنها : تعليلهم عليهم السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة ، بأنّ الحقّ « والرشد في خلافهم » ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّة لادائميّة ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارةُ الحقّ و الرشد و ترك ما فيه مظنّةُ خلاف الحقّ والصواب .

-----------------

إحتمالاً ) يقرّبه إلى مخالفة الواقع ( لا يوجد في المشهور ، و ) إذا إستفدنا هذه الكبرى الكليّة من الرواية ، فانّ ( مقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة ) المنصوصة هو : ( وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين ، أقلّ إحتمالاً لمخالفة الواقع ) مثل : موافقته للشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو إرتكاز المتشرّعة ، أو غير ذلك .

( ومنها : تعليلهم عليهم السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة : بأنّ الحقّ والرشد في خلافهم ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فانّ هذه كلّها قضايا غالبية لا دائمية ) أي : ظنّية وليست قطعيّة ، وذلك لوضوح : انّه ليس كلّ مخالف لهم رشد ، ولا كلّ موافق لهم تقيّة ، بل المراد وجود الأمارة الظنّية بالمطابقة للواقع وغلبة الحقّ والرشد في المخالف لهم ، وبالعكس في الموافق لهم .

وعليه : ( فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد ) مثل : موافقة الشهرة العمليّة ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو ما أشبه ذلك - على ما تقدّم - ( وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب ) كما لو كان أحد

ص: 104

بل الانصافُ : انّ مقتضى هذا التعليل - كسابقه - وجوبُ الترجيح بما هو أبعدُ عن الباطل من الآخر ، و إن لم يكن عليه أمارةُ المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام : « ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب اللّه و أحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ ،

-----------------

الخبرين على خلاف المشهور فتوىً ، أو عملاً ، أو سيرة ، أو مرتكزا في أذهان المتشرّعة على ما عرفت .

( بل الانصاف : إنّ مقتضى هذا التعليل ) : « فانّ الرشد في خلافهم » (1) هو ( كسابقه ) أي : كمقتضى ذلك التعليل : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (2) حيث يقتضي ( وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وان لم يكن عليه أمارة المطابقة ) للواقع ، يعني : انّ هذا التعليل هنا بقوله عليه السلام : « فانّ الرشد في خلافهم » يفيد لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعدية عن الباطل وان لم يُفد الظنّ بمطابقة الواقع ، وذلك التعليل هناك بقوله عليه السلامكما مرّ : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » يفيد أيضا لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعديّة عن الريب وان لم يفد الظنّ بمطابقة الواقع ، فتوافق التعليلان في إفادة لزوم الترجيح بمجرّد الأبعدية عن الريب والباطل ، وان لم يُظن بأقربيّته للواقع .

( كما يدلّ عليه ) أي : على وجوب الترجيح بمجرّد الأبعديّة عن الرّيب والباطل ، وان لم يكن أقرب إلى الحقّ في الظنّ ( قوله عليه السلام : ما جائكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ )

ص: 105


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وإن لم يشبههما فهو باطل » فإنّه لاتوجيه لهاتين القضيّتين ، إلاّ ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل و الأقربيّة إليه .

-----------------

حيث جعل الإمام عليه السلام معيار الأخذ مجرّد كون أحدهما أبعد عن الباطل لأنّه أشبه بهما من الآخر ، ثمّ قال : ( وإن لم يشبههما فهو باطل ) (1) وحيث جعل الإمام عليه السلام معيار عدم الأخذ مجرّد كون أحدهما أقرب إلى الباطل لأنّه لم يشبه الكتاب والسنّة .

والمراد من الشباهة بالكتاب والسنّة هو : انّ الروح العامّ المستفاد منهما يشبهه هذا الحديث ، أو يشبهه ذلك الحديث ، فالروح العامّ المستفاد من قوله سبحانه : « ولا تجسّسوا » (2) - مثلاً - هو : عدم تدخّل الانسان في شؤون الآخرين حيث يكرهون ذلك التدخّل ، فإذا ورد حديثان أحدهما يقول : لا بأس بتدقيق النظر في متاع الغير الذي يريد نقله من السوق إلى البيت ، ممّا يكرهه ذلك الغير ، ويقول الحديث الآخر : فيه بأس ، فالحديث الثاني أشبه بالكتاب والسنّة من الحديث الأوّل ، وهذا المعنى أيضا مستفاد من قولهم عليهم السلام : « ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم » (3) كما تقدّم تفسيره .

وعليه : ( فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين ) وهما قضيّة : « فان أشبههما فهو حقّ » و قضيّة : « وان لم يشبههما فهو باطل » ( إلاّ ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل ) فيؤخذ به ( والأقربيّة إليه ) أي : إلى الباطل فيطرح .

ص: 106


1- - تفسير العياشي : ج1 ص9 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
2- - سورة الحجرات : الآية 12 .
3- - الكافي ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ومنها : قوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى مالا يريبك » دلّ على أنّه إذا دار الأمرُ بين أمرين في أحدهما ريبٌ ، ليس في الآخر ذلك الريبُ يجب الأخذُ به ، و ليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لايخفى .

وحينئذٍ : فإذا فرض أحدُ المتعارضين منقولاً بلفظه ، و الآخر منقولاً بالمعنى ، وجب الأخذُ بالأوّل ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي

-----------------

( ومنها : قوله عليه السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ) (1) والرّيب عبارة عمّا يختلج في الذهن ، وذلك قبل أن يصير شكّا ، ولذا قال عليه السلام : « لا ترتابوا فتشكّوا ، ولاتشكّوا فتكفروا » (2) فانّه ( دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين الأمرين ) وكان ( في أحدهما ريب ) نسبي ( ليس في الآخر ذلك الرّيب ) النسبي ، فانّه ( يجب الأخذ به ) أي : بما لا ريب نسبي فيه .

هذا ( وليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى ) وذلك لوضوح : انّه لو كان أحد الأمرين لا ريب فيه إطلاقا ، لم يكن الآخر معارضا له ، لأنّ معناه حينئذٍ : انّ الأمر الآخر لا ريب في بطلانه ، فاللازم أن يكون المراد من الريب في قوله عليه السلام : « دع ما يربيك إلى ما لا يريبك » هو : الريب النسبي .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان مراد الحديث هو : الريب النسبي ( فإذا فرض أحد المتعارضين منقولاً بلفظه ، والآخر منقولاً بالمعنى ، وجب الأخذ بالأوّل ) الذي هو منقول بلفظ الإمام عليه السلام ( لأنّ إحتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفيّ

ص: 107


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الغارات : ص135 ، الذكرى : ص138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب82 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .

فيه ، و كذا إذا كان أحدُهما أعلى سنداً لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال غير المنفي في طرف المرجوح .

المقام الرابع : في بيان المرجّحات

و هي على قسمين :

أحدُهما : ما يكون داخليّاً ، و هي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسه ،

-----------------

فيه ) أي : في هذا الذي هو منقول عن الإمام عليه السلام باللفظ .

( وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ) والآخر أنزل سندا لكثرة الوسائط و ( إلى غير ذلك ) كما إذا كان راوي أحد الحديثين أشحذ ذهنا ، وأكثر فهما بالقرائن الداخليّة والخارجيّة ، وأحسن التفاتا إلى لحن الكلام من راوي الحديث الآخر ، فانّ رواية الشخص الأوّل لا ريب نسبي فيه ، بالنسبة إلى رواية الشخص الثاني ، فيلاحظ كلّ ما أشبه ذلك ( من المرجّحات النافية للاحتمال ) في طرف الراجح ( غير المنفيّ في طرف المرجوح ) ككون إحدى الروايتين مرفوعة ، أو مضمرة ، أو مقطوعة ، أو ما أشبه ذلك ، بخلاف الرواية الثانية ، مع كون كليهما حجّة بسبب كونهما مرويّين في الكافي ، أو في الفقيه ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه يؤخذ بما لا ريب فيه .

( المقام الرابع ) من مقامات بحث تعارض الأخبار ( في بيان المرجّحات ) لأحد الخبرين على الآخر ( وهي على قسمين ) كما يلي :

( أحدُهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة ) بالدلالة ( في نفسه ،

ص: 108

بل متقوّمة بما فيه .

وثانيهما : ما يكون خارجيّاً ، بأن يكون أمراً مستقلاً بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبراً كالأصل ، والكتاب ،

-----------------

بل متقوّمة بما فيه ) أي : متقوّمة بالحديث الذي وردت تلك المزيّة في ذلك الحديث ، وذلك مثل الأعدليّة من حيث الراوي ، ومثل علوّ السند من حيث الرواية ، فإنّ الأعدليّة وعلوّ السند مزيّتان ليستا مستقلّتين ، بل متقوّمتان بالحديث الذي هما فيه .

( وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلاًّ بنفسه ) أي : غير متقوّم بالحديث ذي المزيّة ، وذلك بأن يوجد المرجّح حتّى ( ولو لم يكن هناك خبر ) أصلاً ( سواء كان ) ذلك المرجّح المستقل ( معتبرا كالأصل ، والكتاب ) أم غير معتبر كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

أمّا كون الأصل مرجّحا فهو بناءا على إعتبار الأصل من حيث الظنّ ، وإلاّ بأن كان معتبرا من حيث الروايات ، فقد عرفت : إنّ اُفق الأصل غير اُفق الروايات ، فلا يكون أحدهما مؤيّدا ومرجّحا للآخر ، فانّه بناءا على ذلك لو تعارض خبران في وجوب شيء وعدم وجوبه ، أو حرمة شيء وعدم حرمته ، فأصل البرائة يكون مرجّحا للخبر القائل بعدم الالزام ، ومن المعلوم : إنّ أصل البرائة مزيّة خارجيّة ، مستقل بنفسه ، معتبر في حدّ ذاته ، بحيث انّه لولا المتعارضان لكان مرجعا معتبرا في نفسه .

وأمّا إنّ الكتاب مرجّح : فانّه مزيّة خارجيّة ، معتبر في حدّ ذاته ، مستقل بنفسه حتّى ولو لم يكن هناك خبر ، ولذا فإنّه إذا تعارض خبران وكان أحدهما موافقا للكتاب ، يكون الكتاب مرجّحا للخبر الموافق له ، وذلك كما إذا دلّ دليل

ص: 109

وغير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها .

ثمّ المستقل إمّا أن يكون مؤثّراً في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب ، والأصل ، بناءا على إفادة الظنّ .

-----------------

على حرمة العصير العنبي إذا غلى وذهب ثلثاه بسبب الهواء - مثلاً - ودلّ دليل آخر على عدم حرمته ، فانّ قوله سبحانه : « خلق لكم ما في الأرض جميعا» (1) يكون مؤيّدا ومرجّحا للخبر القائل بالحليّة .

هذا إذا كان المرجّح المستقل معتبرا ، وأمّا إذا لم يكن معتبرا فهو كما قال : ( وغير معتبر في نفسه كالشهرة ) الفتوائية بناءا على قول المشهور حيث انّهم يذكرون أنّ الشهرة الفتوائية ليست بحجّة ، وإن قال بعضهم بالحجيّة للتعليل الذي جاء في المقبولة بقوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (2) ( ونحوها ) أي : نحو الشهرة الفتوائية كالإجماع المنقول ، فإذا وافق أحد الخبرين مزيّة خارجية مستقلّة غير معتبرة في نفسها كالشهرة الفتوائية ، أو الاجماع المنقول ، يكون ذلك الخبر ذا مزيّة بحيث يوجب وجود هذه المزية فيه ترجيحه على الخبر المخالف للشهرة أو الاجماع المنقول .

( ثمّ ) انّ المرجّح ( المستقل إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع ) بأن يكون كاشفا عنه ( كالكتاب ، و ) كذلك الشهرة وهكذا الاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، فإنّ كلّ هذه الاُمور تحكي عن الواقع ، وكذلك ( الأصل ، بناءا على إفادته الظنّ ) أمّا الأصل بناءا على حجّيته من باب الأخبار ، فقد عرفت

ص: 110


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

أو غير موثّر ، ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل ، بناءا على كونه من باب التعبّد الظاهري ، وجعل المستقلّ مطلقا ، خصوصاً ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات لايخلو عن مسامحة .

-----------------

انّه ليس بكاشف .

( أو غير مؤثّر ) في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع ( ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب ) على ما هو مذهب جماعة من العلماء فيما إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، وذلك كما إذا حلف - مثلاً - على الوطي أو الترك ، ثمّ نسي انّه على أيّهما كان قد حلف ؟ فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى تقديم الحرمة ، بدليل : انّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فانّ هذه المزيّة على القول بالترجيح بها لا تؤثّر في أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، فيما إذا كان خبران أحدهما يدلّ على الحرمة ، والآخر يدلّ على الوجوب - مثلاً - .

( والأصل ) كذلك أيضا ، لكن ( بناءا على كونه من باب التعبّد الظاهري ) لا من باب إفادته الظنّ ، فقد عرفت : انّ الأصل لو كان حجّة من باب الأخبار تعبّدا ، فانّه لا يكون طريقا إلى الواقع ولا كاشفا عنه ، بل هو تكليف حين العمل للشاكّ وليس أكثر ، وهذا الأصل لو رجّحنا به أحد الخبرين المتعارضين لم يكن مؤثّرا في أقربيته إلى الواقع .

هذا ( وجعل ) المرجّح ( المستقل مطلقا ) أي : بكلّ أقسامه سواء كان معتبرا أم لا ، مؤثّرا أم لا ؟ ( خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات ) كالأصل من باب التعبّد ، فانّه ( لا يخلو عن مسامحة ) في التعبير ، وذلك لأنّ المتبادر من لفظ المرجّح هو : أن يؤثّر مزيّة وقوّة في الخبر من دون إستقلاله بإفادة الحكم ، ومعه يكون إطلاق المرجّح على اُمور مستقلّة في إفادة الحكم مثل الكتاب مسامحة ،

ص: 111

أمّا الداخلي : فهو على أقسام لأنّه إمّا أن يكون راجعاً إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور و أبعد عن الكذب ، سواء كان راجعاً إلى سنده كصفات الراوي ، أو إلى متنه كالأفصحيّة ، و هذا لايكون إلاّ في أخبار الآحاد ،

-----------------

لوضوح : إستقلال الكتاب في نفسه بإفادة الحكم ، فانّه يفيد الحكم سواء كان هناك خبر أو لم يكن ، وكذا إطلاق المرجّح على غير الكتاب من الاُمور المستقلّة في نفسها بإفادة الحكم ، مثل الأصل على المبنيين : التعبّد والظنّ ، ومثل أولويّة الحرمة على الوجوب لو قلنا بها ، فانّها مسامحة أيضا .

هذا بالنسبة إلى المرجّح الخارجي ، ( أمّا ) بالنسبة إلى المرجّح ( الداخلي : فهو على أقسام ) ثلاثة : لأنّه إمّا مرجّح من حيث السند ، أو من حيث الدلالة ، أو من حيث جهة الصدور .

القسم الأوّل : كما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّه إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور ) من الإمام عليه السلام ( وأبعد عن الكذب ) والافتراء على الإمام عليه السلام ( سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي ) مثل الأعدليّة والأصدقيّة ، وما أشبه ذلك ( أو إلى متنه كالأفصحيّة ) وعدم الركاكة - مثلاً - فإذا كان هناك خبران أحدهما أفصح من الآخر ، أو أحدهما فصيح والآخر ركيك ، فالفصيح أو الأفصح أقرب إلى الواقع ، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام الذي هو بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أفصح من نطق بالضادّ ، لا يقول الكلام الركيك ، وكذا الكلام الفصيح في مقابل الأفصح .

( وهذا ) القسم من المرجّح الداخل وهو مرجّح الصدور ( لا يكون إلاّ في أخبار الآحاد ) سواء كانت مرويّة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أو الإمام عليه السلام ، وأمّا الأخبار

ص: 112

وإمّا أن يكون راجعاً إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفاً للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور ، بناءا على احتمال أن مثل هذا الخبر صادراً لأجل التقيّة .

و إمّا أن يكون راجعاً إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ،

-----------------

المتواترة فصدورها قطعي ولا يأتي فيها هذا الكلام ، فإذا كان هناك خبران متواتران متعارضان ، فلا يمكن الترجيح بينهما من حيث الصدور .

القسم الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ) وانّه هل صدر تقيّة أو لبيان الحكم الواقعي ؟ ( ككون أحدهما مخالفا للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور ) فانّهم جميعا يميلون إلى الباطل ، والمراد بالسلطان ما يشمل السلطان والوالي والحاكم ، فانّ مخالفة العامّة إنّما يكون مرجّحا ( بناءا على إحتمال انّ مثل هذا الخبر ) الموافق لهم ( صادراً لأجل التقيّة ) فإذا دلّ خبر على انّ المغرب الذي يكون مجوّزا للدخول في صلاة المغرب وللإفطار هو : إستتار القرص ، ودلّ خبر آخر على انّه ذهاب الحمرة المشرقية ، فهما متعارضان ، وحيث انّ الخبر الأوّل موافق للعامّة يكون أقرب إلى التقيّة ، فالخبر الثاني يكون ذا مزيّة عليه .

القسم الثالث : وهو ما ذكره المصنّف بقوله : ( وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ) أي : مضمون الخبر ومعناه ( كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ) فانّ المنقول باللفظ أقرب وأرجح من المنقول بالمعنى ( إذ يحتمل الاشتباه ) من الراوي ( في التعبير ) عن لفظ الإمام بمعنى ليس مطابقا لذلك اللفظ

ص: 113

فيكون مضمون المنقول باللفظ أقربَ إلى الواقع ، وكالترجيح بشهرة الرواية و نحوها .

و هذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالةً مقدّمٌ على ما كان أصحّ سنداً ، وموافقاً للكتاب ، ومشهور الرواية بين الأصحاب ،

-----------------

الذي قاله الإمام ( فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ) من المنقول بالمعنى .

( وكالترجيح بشهرة الرواية ) فانّ الشهرة كما ترجّح صدور الرواية بملاحظة كثرة ناقليها ، فكذلك ترجّح المضمون بملاحظة كثرة العاملين بها ( ونحوها ) أي : نحو الشهرة كالإجماعات المنقولة على مضمون أحد الخبرين - مثلاً - وكأضبطيّة راوي أحدهما بالنسبة إلى الراوي الآخر ، لوضوح : انّ الأضبط بعيد عن الاشتباه بالقدر الذي يقرب من الاشتباه غير الأضبط .

( وهذه الأنواع الثلاثة ) من المرجّحات الداخلية ، الراجعة إلى الجهة ، والصدور ، والمضمون ( كلّها متأخّرة عن الترجيح بإعتبار قوّة الدلالة ) والجمع العرفي ، فانّه إذا أمكن الجمع الدلالي العرفي بين الخبرين ، كالعام والخاص ، والظاهر والأظهر ، وما أشبه ذلك قدّم على الترجيح بسائر المرجّحات .

وعليه : ( فانّ الأقوى دلالةً مقدّم على ما كان أصحّ سندا ، و ) مقدّم على ما كان ( موافقا للكتاب ، و ) مقدّم على ما كان ( مشهور الرواية بين الأصحاب ) ومقدّم أيضا على ما كان خلاف التقيّة ، فإذا كان - مثلاً - العام مخالفا للتقيّة ، والخاص موافقا للتقيّة ، فانّ الخاص يخصّص العام ولا يلاحظ جهة الصدور ، وكذلك إذا كان العام موافقا للكتاب والخاص مخالفا ، أو كان العام أصحّ سندا من الخاص

ص: 114

لأن صفات الرواية لايزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لايجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيصُ الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد ، فكلُّ ما يرجع التعارضُ إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الاُخر .

-----------------

الذي ليس بتلك الصحّة من السند ، وإلى غير ذلك .

والحاصل : إنّ الجمع الدلالي إذا أمكن لا ينظر معه إلى المرجّحات ، سواء المرجّحات الصدورية ، أو المرجّحات المضمونية ، أو المرجّحات المرتبطة بالجهة ، وذلك ( لأنّ صفات الرواية لا يزيده ) أي : لا يزيد الخبر ( على المتواتر ، و ) كذلك ( موافقة الكتاب لا يجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه ) وذلك في بحث الألفاظ ( تخصيص الكتاب و ) الخبر ( المتواتر بأخبار الآحاد ) المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام باسناد معتبرة ، وكذلك بالنسبة إلى المطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن .

وعليه : ( فكلّما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ) أو النصّ والظاهر ، فاللازم الجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، ولا يلاحظ الترجيح بينهما كما قال : ( فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الاُخر ) بعد وجود الترجيح بقوّة الدلالة والجمع العرفي المقبول ، فإذا ورد - مثلاً - خبر يقول : اكرم العلماء ، وخبر آخر يقول : لا تكرم زيدا ، فانّ الخاص يقدّم على العام ، ولا يلاحظ انّ العام موافق للكتاب ، أو مخالف للعامّة ، أو انّ سنده أقوى ، أو ما أشبه ذلك من المرجّحات التي يجب الترجيح بها إذا كان شيء منها موجودا في أحد الخبرين المتعارضين ، وذلك لوضوح : أن لا تكرم زيدا ، وليس معارضا لأكرم العلماء ، كما هو شأن كلّ ظاهر وأظهر ، ونصّ وظاهر ،

ص: 115

والسرُّ في ذلك ، ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمعُ بوجه عرفي يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ، بل في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد .

-----------------

حيث إنّ النصّ والأظهر لا يعارضهما الظاهر .

( والسرّ في ذلك ) أي : فيما ذكرناه : من تقديم الترجيح بإعتبار قوّة الدلالة على سائر المرجّحات الاُخر ( ما أشرنا إليه سابقا ) في بحث أولوية الجمع من الطرح ( من أنّ مصبّ الترجيح بها ) أي : إنّ مورد الترجيح بسائر المرجّحات ( هو: ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ ) وأمّا لو أمكن ذلك ، بأن رأى العرف انّ المراد من الكلامين حمل أحدهما على الآخر ، مثل الظاهر والأظهر ، والنصّ والظاهر ، فانّه لا يتأمّل في حمله عليه ، لأنّه يرى أنّ ذلك ( يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ) .

مثلاً : إذا قطع العرف بأنّ المولى قال : أكرم العلماء ، وقطع أيضا بأنّه قال أيضا :

لا تكرم زيدا ، فانّهم يرون بلا تأمّل أن « لا تكرم زيدا » يخصّص « أكرم العلماء » ، نعم ، إذا علموا بأنّ قول المولى : « لا تكرم زيدا » ، صادر على وجه التقيّة ، لا يجمعون بمثل هذا الجمع ، بل يقولون بوجوب إكرام كلّ عالم حتّى زيد .

( بل ) وكذلك الحال ( في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد ) فانّهم يحملون الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، فإذا سمعوا أحدا يقول - مثلاً - : رأيت أسدا يرمي ، فانّهم يحملون أسد على الرجل الشجاع ، وذلك لأنّ الأسد وان كان ظاهرا في معنى الحيوان المفترس ، إلاّ أنّ يرمي أظهر منه في رمي النبل ، ولذا يحملون الظاهر الذي هو الأسد على الأظهر الذي هو يرمي ، فيقولون : بأنّ المتكلّم أراد من الأسد انّه رأى رجلاً شجاعا يرمي النبل .

ص: 116

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة وصيرورتهما ، كالكلام الواحد على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين .

فيدخل في قوله عليه السلام : « أنتُم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » إلى آخر الرواية المتقدّمة ،

-----------------

( وبتقرير آخر ) لبيان إثبات وجوب تقديم الترجيح الدلالي على سائر المرجّحات ، وانّه إذا أمكن الجمع العرفي لا تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجّحات الاُخر نقول : انّه ( إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة ) بل على جهة بيان الواقع ( و ) أمكن فرض ( صيرورتهما ، كالكلام الواحد ) وذلك بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ( على ما هو ) أي : على انّ فرض صدور الكلامين منهم عليهم السلام لبيان الواقع هو : ( مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين ) الذين هما حجّة ، فانّ المفروض هو انّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل كلاً من الخبرين ، وانّ المفروض أيضا إمكان الجمع بينهما جمعا عرفيّا ، فيقتضي ذلك فرض صدورهما ، والجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ.

وعليه : فانّه إذا أمكن مثل ذلك الجمع في النظر العرفي ( فيدخل في قوله عليه السلام : «أنتمُ أفقهُ النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا» (1) ، إلى آخر الرواية المتقدّمة ) .

لا يقال : انّ الجمع العرفي شأن كلّ إنسان ، فأيّة خصوصيّة لقوله عليه السلام : « أنتم » الظاهر في إرادة خصوص الشيعة منه ؟ .

لأنّه يقال : إنّ الخصوصيّة لأجل أنّ التقيّة كانت كثيرة في كلماتهم عليهم السلام ، وغير

ص: 117


1- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .

وقوله عليه السلام : « إنّ في كلامنا محكماً ومتشابهاً ، فرُدُّوا متشابهها إلى مُحكمها » .

ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصُّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائلُ فيهما ، ولم يظهر المرادُ منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما .

-----------------

الشيعة ما كانوا يفهمون التقيّة عن غير التقيّة ، ولذا كان الرواة يقولون أحيانا : أعطاه من جراب النورة ، ويقصدون بذلك انّ الإمام عليه السلام أجابه بما فيه التقيّة ، ولعلّ المصنّف أراد هنا من قوله : « فيدخل في قوله عليه السلام : أنتم أفقه الناس » انّ الجمع بين الظاهر والأظهر أو النصّ ، داخل في ملاك هذا الحديث ، وإلاّ فظاهر هذا الحديث هو الجمع بين ما صدر عنهم لبيان الواقع ، وما صدر عنهم لبيان جهة التقيّة كما عرفت .

( و ) لكان يدخل أيضا في ( قوله عليه السلام : إنّ في كلامنا محكما ومتشابها ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ) (1) وهذا أيضا من باب الملاك ، وإلاّ فالعام ونحوه ليس من المتشابه كما ألمعنا إلى ذلك سابقا.

هذا ( ولا يدخل ذلك ) أي : ما أمكن فيه الجمع العرفي ( في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختص بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل إقترانهما ) في كلام واحد ( تحيّر السائل فيهما ، و ) لم يعرف كيف يعمل معهما ، هل يعمل بهذا الخبر ، أو يعمل بذاك ؟ حيث انّه ( لم يظهر ) له ( المراد منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما ) معا .

ص: 118


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر ،

-----------------

أمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين ببيان آخر لأحدهما فقط ، فهو كما لو قال : « اغتسل للجمعة » ، ثمّ قال : « ينبغي غسل الجمعة » ، حيث يحتاج إلى بيان الإمام عليه السلام لأحدهما فقط ، وذلك بأن يقول - مثلاً - المراد من : «ينبغي» الوجوب ، أو المراد من : «اغتسل» الاستحباب ، وهو بيان آخر من الإمام لأحد المتعارضين فقط.

وأمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين للسائل ببيان آخر لكلّ من المتعارضين معا ، فهو على ما تقدّم من مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) مع « لا بأس ببيع العذرة » (2) فانّ السائل لا يعلم هل يعمل بهذا أو بذاك ؟ فيحتاج إلى أن يأتي بيان من إجماع وغيره فيهما معا ، وذلك بحمل عدم البأس على الطاهر منها - مثلاً - ووجود البأس على غير الطاهر منها ، وغير ذلك من بيان الاحتمالات الاُخرى في كلتا الروايتين معا.

( نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر ) من الظاهر ، فانّ الكبرى يعني : وجوب الجمع العرفي وعدم الرجوع إلى أخبار العلاج فيما لو أمكن الجمع العرفي ، مسلّمة ، إلاّ انّه قد يقع الكلام أحيانا في الصغريات مثل : « إغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » فيختلف في انّه هل « اغتسل » أظهر في الوجوب حتّى يحمل « ينبغي » عليه ، أو « ينبغي » أظهر في الاستحباب حتّى يُحمل « اغتسل » عليه ؟ .

ص: 119


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب20 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب2 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وهذا خارجٌ عمّا نحن فيه .

وما ذكرناه ممّا لاخلاف فيه ، كما استظهره بعضُ مشايخنا المعاصرين ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاُصول وطريقتهم في الفروع .

نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس سره ، في الاستبصار خلافُ ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلاً من الظاهر و الأظهر .

-----------------

( وهذا ) أي : وقوع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ( خارج عمّا نحن فيه ) من الكبرى المسلّمة ( وما ذكرناه ) من تقديم الجمع العرفي على إعمال المرجّحات ( ممّا لا خلاف فيه ) أي : إنّ عليه الاجماع ( كما إستظهره ) أي : إستظهر الاجماع ونفي الخلاف ( بعض مشايخنا المعاصرين ) فالترجيح بقوّة الدلالة مقدّم على سائر وجوه التراجيح بلا خلاف .

( ويشهد له ) أي : لما ذكرنا من إختصاص أخبار العلاج بمورد لا يمكن فيه الجمع العرفي ( ما يظهر من مذاهبهم في الاُصول وطريقتهم في الفروع ) حيث نراهم يجمعون بين الأخبار بمثل هذا الجمع العرفي ، ولا يُعملون المرجّحات فيها .

( نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس سره ، في الاستبصار خلاف ذلك ) الذي ذكرناه ، حيث انّه يظهر منه إعمال التراجيح بين العامّ والخاص ، وغير ذلك ( بل يظهر منه : إنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلاً من الظاهر والأظهر ) يعني : إذا ورد - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم زيدا ، فالأوّل : ظاهر ، والثاني : نصّ ، فانّه أعمل بينهما التراجيح ، لا انّه جمع بينهما بحمل العام على الخاصّ ، وإذا كان ذلك منه بالنسبة إلى الظاهر والنصّ ، فيكون ذلك منه

ص: 120

فإنّه قدس سره بعد ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه قال : « و إن كان هناك ما يعارضه ، فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريق .

وإن كانا سواءً في العدالة ، عمل بأكثر الرواة عدداً ، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ، ينظرُ .

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العملُ بالآخر على بعض الوجوه ،

-----------------

بطريق أولى بالنسبة إلى الظاهر والأظهر ، مثل : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث انّ ينبغي أظهر في الاستحباب من اغتسل في الوجوب.

وعليه : ( فانّه قدس سره بعد ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه قال : وإن كان هناك ما يعارضه ، فينبغي ) اُمور :

أوّلاً : ( أن ينظر في المتعارضين ) من حيث صفات الرواة ( فيعمل على أعدل الرواة في الطريق ) أي : الرواة الذين هم في طريق الرواية ، فإذا كان أحد الخبرين أعدل راويا من الخبر الآخر ، أخذ بالخبر الذي راويه أعدل.

ثانيا : ( وان كانا سواء في العدالة ) قال : نظر إلى أنه أيّهما مشهورا وأيّهما شاذّا ؟ ثمّ ( عمل بأكثر الرواة عددا ) أي : أخذ بالمشهور شهرة روائية وترك الشاذّ النادر .

ثالثا : ( وان كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ) من الموافقة للكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، قال : ( ينظر ) إلى المرجّحات الدلالية وعدمها ، وحينئذ يأتي فيها الأقسام التالية :

القسم الأوّل : ( فان كان متى عمل بأحد الخبرين ) الذي هو نصّ ، أو أظهر - مثلاً - ( أمكن العمل بالآخر ) الذي هو ظاهر - مثلاً - وذلك (على بعض الوجوه)

ص: 121

وضرب من التأويل ، كان العملُ به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنه يكون العامل به عاملاً بالخبرين معاً .

-----------------

كحمل الأمر على الاستحباب ، والعامّ على الخاص ، والمطلق على المقيّد ( وضرب من التأويل ) أي : بأن يؤول أمر الجمع بينهما إلى تخصيص العامّ ، أو تقييد المطلق ، أو ما أشبه ، فانّه إذا أمكن ذلك ( كان العمل به ) أي : بأحد الخبرين النصّ ، أو الأظهر ( أولى من العمل بالآخر ) أي : بالخبر الظاهر ( الذي يحتاج العمل به ) أي : بالخبر الظاهر ( إلى طرح الخبر الآخر ) الذي هو نصّ أو أظهر ، فانّه إذا عملنا - مثلاً - بأكرم كلّ عالم الذي هو ظاهر يجب أن نطرح لا تكرم زيدا الذي هو نصّ.

وإنّما يكون العمل بالنصّ أو الأظهر أولى ( لأنّه يكون العامل به عاملاً بالخبرين معا ) بينما العامل بالظاهر يكون عاملاً به فقط ، لأنّ العمل بالظاهر مستلزم لطرح النصّ أو الأظهر.

وعليه : فانّ المصنّف قد إستظهر من كلام الشيخ انّه يرى الجمع بين العامّ والخاص ، وما أشبه ذلك بحاجة إلى الرجوع إلى أخبار العلاج ، وذلك لأنّه قال قبل أسطر : « وان كان هناك ما يعارضه . . . » إلى آخر كلامه ممّا يظهر منه انّه أدرج الظاهر والأظهر ، وكذا النصّ والظاهر في المتعارضين ، ولكن يبدو إنّ إشكال المصنّف على الشيخ غير وارد ، وذلك لأنّ من يرى كلامه هذا وكلامه الذي يأتي بعده ، ممّا جعل المصنّف التناقض بينهما ، يرى انّ كلامه هذا في الأعمّ من التعارض الحقيقي ، ممّا يشمل التعارض البدوي الموجود بين الظاهر والأظهر ، أو الظاهر والنصّ - مثلاً - بينما كلامه الثاني الذي يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى هو في خصوص التعارض الحقيقي فقط ، فلا تهافت إذن بين كلاميه .

ص: 122

وإن كان الخبران يمكنُ العملُ بكلّ منهما ، كما في العموم من وجه ، وحملُ الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحاً أو تلويحا لفظاً أو منطوقا

-----------------

القسم الثاني من التقسيم الثالث لكلام الشيخ هو ما أشار إليه بقوله : ( وإن كان الخبران ) المتعارضان ( يمكن العمل بكلّ منهما ، كما في العموم من وجه ، و ) أيضا بعد إنتخاب العمل بأحدهما يمكن ( حمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ) كما إذا ورد - مثلاً - « أكرم العلماء » ، وورد أيضا « لا تكرم الفسّاق » ، فانّ في مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يمكن إكرامه لورود أكرم العلماء ، وحمل لا تكرم الفسّاق على الفاسق الجاهل ، ويمكن عدم إكرامه لورود لا تكرم الفسّاق وحمل أكرم العلماء على العالم العادل ، فبأي منهما عملنا ، حملنا الآخر على وجه من التأويل.

( و ) إنّما نحمل الآخر على بعض الوجوه إن ( كان لأحد التأويلين خبر يعضده ) كما لو ورد هناك خبر ثالث يقول : بأنّ إكرام العلماء العدول واجب ، ممّا يظهر منه انّه لا يريد إكرام العالم الفاسق ، أو يقول : بأنّ العالم مهما كان يجب إكرامه ، ممّا يظهر منه انّه يريد إكرام العالم الفاسق.

هذا ان كان هناك خبر يعضد أحدهما (أو يشهد به على بعض الوجوه) وبعض الوجوه قد يكون ( صريحا ) كما إذا ورد : لا تكرم العالم الطالب للرئاسة لأنّه فاسق ، فانّه شاهد صريح على إرادة إكرام العالم العادل فقط ، دون العالم الفاسق .

( أو تلويحا ) وفي قِبال التصريح ، ويكون التلويح غالبا بالدلالة الالتزامية سواء كان ( لفظا ) كما إذا ورد : انّ المؤمن يكرم العالم العادل ، حيث انّه يشهد بالملازمة على انّ العالم الفاسق لا يكرم ( أو منطوقا ) والظاهر انّه أراد به المفهوم

ص: 123

أو دليل الخطاب ، وكان الآخر عارياً عن ذلك ، كان العملُ به أولى من العمل بما لا شاهد له شيء من الأخبار .

وإذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر ، وكانا متحاذيين ، كان مخيّراً في العمل بأيّهما » ، انتهى موضع الحاجة .

وقال في العدّة :

-----------------

الموافق ، كما إذا ورد : العالم الذي لا يراعي المروّة لا يكرم حيث انّه يشهد بالأولوية على إرادة عدم اكرام العالم الفاسق ( أو دليل الخطاب ) والظاهر انّه أراد به المفهوم المخالف ، كما إذا ورد : « إنّ حرمة العالم بتقواه ، وإلاّ فهو وإبليس سواء» ، حيث انّه يدلّ على انّه لا حرمة للعالم الفاسق ممّا يشهد على انّ الفاسق لا يكرم .

وعليه : فإذا كان لأحدهما خبر يعضده ، أو يشهد له ( وكان الآخر عاريا عن ذلك ) أي : عن الشاهد والمعاضد ( كان العمل به ) أي : بما له شاهد أو معاضد ( أولى من العمل بما لا شاهد له شيء من الأخبار ) والمراد بالأولوية هنا الأولوية التعيينيّة ، لا الأولوية التفضيليّة كما هو واضح.

القسم الثالث من التقسيم الثالث للشيخ هو ما أشار إليه بقوله : ( وإذا لم يشهد لأحد التأويلين ) في كلّ من الخبرين كما لو أعطينا العالم الفاسق في المثال أكرم العلماء ، أو أعطيناه للا تكرم الفسّاق ( شاهد آخر ، و ) لا خبر آخر يعضده ، بل ( كانا متحاذيين ) ومتكافئين ( كان ) المكلّف حينئذ ( مخيّرا في العمل بأيّهما ) شاء ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام شيخ الطائفة في الاستبصار .

( وقال ) شيخ الطائفة أيضا ( في العدّة ) ما يدلّ على انّه يرى التعارض بين مثل

ص: 124

« وأمّا الأخبار إذا تعارضت و تقابلت ، فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيحُ يكون بأشياء منها : أن يكون أحدُ الخبرين موافقاً للكتاب أو السنّة المقطوع بها ، والآخر مخالفاً ، فإنّه يجب العملُ بما وافقهما وترك ما يخالفهما ، وكذلك إن وافق أحدُهما إجماعُ الفرقة المحقّة ، والآخر يخالفه ، وجب العملُ بما يوافقه وترك ما يخالفهم .

-----------------

العام والخاص وما أشبه ذلك أيضا ، فيكون كلامه في العدّة موافقا لكلامه في الاستبصار قال : ( وأمّا الأخبارُ إذا تعارضت وتقابلت ، فانّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ) له على الطرف الآخر ، فيؤخذ بالراجح ويترك المرجوح ( والترجيح يكون بأشياء ) على النحو التالي :

أوّلاً : ( منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها ) أي :

موافقا أوّلاً للكتاب ، ثمّ موافقا لما ثبت انّه من سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، وذلك لأنّ سنّته وسنّتهم واحدة ( والآخر مخالفا ) أي : للكتاب والسنّة ( فانّه يجب العمل بما وافقهما وترك ما يخالفهما ) أي : ما يخالف الكتاب والسنّة .

( وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة ) أي : الشيعة ، وذلك لأنّهم أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ومن أولى برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وسنّته من أهل بيته عليهم السلام وأولى بالاتّباع منهم عليهم السلام ؟ فإذا كان أحدهما موافقا ( والآخر يخالفه ) أي : يخالف هذا الاجماع ، ( وجب العمل بما يوافقه ) أي : يوافق هذا الاجماع ( وترك ما يخالفهم ) وهنا لم يذكر شيخ الطائفة ما يوافق العقل وما يخالفه وهو الدليل الرابع ، لأنّه لا يمكن أن يكون هناك خبران معتبران أحدهما ما يخالف العقل مخالفة صريحة ، إذ لم يوجد في الأخبار المعتبرة مثل هذا الشيء .

ص: 125

فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة ، نظر في حال رواتهما فإن كان رواته عدلاً وجب العمل به ، وترك غير العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب .

فإن كان رواتهما جميعاً عدلين ، نظر في أكثرهما رواة ، وعمل به ، وترك العمل بقليل الرواة ، فإنّ كان رواتُهما متساويين في العدد والعدالة ، عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقهم .

-----------------

ثانيا : ( فإنّ لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك ) من موافقة الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ( وكانت فتيا الطائفة مختلفة ، نظر في حال رواتهما ) أي : رواة الروايتين ( فإن كان ) فقط واحد من ( رواتهما عدلاً ) والظاهر انّ المراد بالعدل : أعمّ من الثقة لقوله عليه السلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا » (1) ( وجب العمل به ، وترك غير العدل ، وسنبيّن ) إن شاء اللّه تعالى ( القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب ) أي : في باب حجيّة الخبر ، فانّ العدالة المرعيّة فيه أعمّ من العدالة المعتبرة في القاضي ، أو المرجع ، أو الشاهد ، وذلك لأنّها فيه أعمّ من العدالة والوثاقة على ما عرفت.

ثالثا : ( فان كان رواتهما جميعا عدلين ، نظر في أكثرهما رواة ) أي : ما كان مشهورا شهرة روائية ( وعمل به ، وترك العمل بقليل الرواة ) أي : بما كان شاذّا نادرا.

رابعا : ( فإن كان رواتُهما متساويين في العدد والعدالة ، عُمِلَ بأبعدهما من قول العامّة ، وتَركُ العملُ بما يوافقهم ) والظاهر : إنّ مراده من قوله : « بما يوافقهم »

ص: 126


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وإن كان الخبران موافقين للعامّة ، أو مخالفين لهم ، نُظِر في حالهما .

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين ، أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه و ضرب من التأويل ، وإذا عمل بالخبر الآخر لايمكن العملُ بهذا الخبر الاخر ، وجب العملُ بالخبر الذي يمكن مع العمل به ، العملُ بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعاً منقولان مُجمعٌ على نقلهما ،

-----------------

ما هو أعمّ من الموافقة الحقيقيّة ، والموافقة الميليّة ، وذلك لما تقدّم في بعض الأخبار من قولهم عليهم السلام : « ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم فيترك » (1).

خامسا : ( وإن كان الخبران موافقين للعامّة ، أو مخالفين لهم ، نُظِرَ في حالهما ) أي : في حال الخبرين من حيث وجود المرجّح الدلالي وعدمه ، وهذا هو محلّ شاهد المصنّف من نقل هذا الكلام ، حيث جعل الشيخ الترجيح بالدلالة آخر الترجيحات وقال : ( فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل ، و ) قد تقدّم : إنّ معنى التأويل هنا ما يؤول إليه الجمع بين الكلامين من تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وما أشبه ذلك ، بينما ( إذا عمل بالخبر الآخر ) وهو العام - مثلاً - ( لا يمكن العمل بهذا الخبر الآخر ) وهو الخاص - مثلاً - وذلك لأنّا لو عملنا بالعام كان معناه : طرح الخاصّ ، إذا كان كذلك قال : ( وجب العملُ بالخبر الذي يمكن مع العملُ به ، العمل بالخبر الآخر ) فنعمل بالخاص في مورد الخصوصيّة ، وبالعام في مورد العموم ، وهكذا .

وإنّما يجب العمل بما يجمع بين الخبرين ( لأنّ الخبرين جميعا منقولان مُجمعٌ على نقلهما ) أي : انّه لا شكّ في نقلهما ، فالسند معتمد عليه ، وإنّما يكون

ص: 127


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ولا ما يرجّح أحدُهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولايعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب اطراح العمل بالآخر ، وإن لم يمكن العملُ بهما جميعاً لتضادّهما ، و تنافيهما أو أمكن حملُ كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه كان الانسانُ

-----------------

التعارض في الدلالة ( وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ) وبطلان الآخر حتّى يؤخذ بالصحيح ويترك الباطل ( ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ) لأنّ المفروض عدم المرجّح من كتاب أو سنّة أو إجماع أو مخالفة عامّة ( فينبغي أن يعملُ بهما إذا أمكن ) العمل بهما جميعا ، وذلك على ما عرفت ( ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر ) وذلك لأنّ معناه طرح الخبر الذي هو حجّة من دون مبرّر للطرح .

هذا ، إن أمكن العمل بالخبرين جميعا بالجمع الدلالي ( وإن لم يمكن العمل بهما جميعا ) لعدم الجمع الدلالي العرفي بينهما ، وذلك ( لتضادّهما ، وتنافيهما ) أي تباينهما ، كما في مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) ( أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه ) من التأويل ، وذلك كما في مثال العامّين من وجه في مورد الاجتماع منهما ، حيث يمكن أن نعطي العالم الفاسق لأكرم العلماء ، أو نعطيه للا تكرم الفسّاق ، ومعه ( كان الانسان

ص: 128


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مخيّراً في العمل بأيّهما شاء » ، انتهى .

وهذا كلّه - كما ترى - يشملُ حتى تعارض العامّ والخاص مع الاتفاق فيه على الأخذ بالنصّ ، وقد صرّح في العدّة في باب بناء العامّ على الخاصّ : بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين دون العامّ والخاصّ ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلاً ، واستدلّ على العمل بالخاصّ ، بما حاصله :

-----------------

مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ) (1) فإذا شاء أكرم العالم الفاسق ، وإذا شاء لم يكرمه ( إنتهى ) كلام الشيخ في العدّة .

قال المصنّف : ( وهذا كلّه ) الذي ذكرناه من كلام شيخ الطائفة في الاستبصار والعدّة ( - كما ترى - يشمل حتّى تعارض العام والخاص ) والمطلق والمقيّد ( مع الاتّفاق فيه على الأخذ بالنصّ ) والأظهر في قِبال الظاهر ، وذلك لما عرفت : من أنّ هذا هو المستفاد من الكلام عرفا.

هذا ( وقد صرّح في العدّة ) الشيخ أيضا لكن لا في باب التعادل والتراجيح ، بل ( في باب بناء العامّ على الخاص ) من مباحث الألفاظ قائلاً : ( بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين ) من وجه ( دون العامّ والخاصّ ) المطلقين ( بل لم يجعلهما ) أي : العام والخاص ( من المتعارضين أصلاً ) وهذا الكلام من شيخ الطائفة بنظر المصنّف يتنافى مع كلامه في باب التعادل والتراجيح من الاستبصار والعدّة.

ثمّ قال المصنّف عن الشيخ : ( واستدلّ على العمل بالخاص ، بما حاصله :

ص: 129


1- - عدة الاصول : ص60 .

إنّ العمل بالخاصّ ليس طرحاً للعامّ ، بل حمله على ما يمكن أن يريده الحكيمُ ، وأنّ العمل بالترجيح و التخيير فرعُ للتعارض الذي لا يجري فيه الجمع .

وهو مناقض صريح لما ذكره هنا من أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجّح أحدهما على الآخر .

وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض

-----------------

إنّ العمل بالخاص ليس طرحا للعامّ ، بل حمله على ما يمكن أن يريده الحكيم ) إذ قد يريد الحكيم من مثل : أكرم العلماء ، إكرام جميعهم ما عدا الفاسق منهم ، وذلك صحيح فيما إذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، بينما العمل بالترجيح ، أو التخيير ، فيهما ليس كذلك ، كما قال : ( وانّ العمل بالترجيح والتخيير فرعُ للتعارض الذي لا يجري فيه الجمع ) الدلالي العرفي.

ثمّ انّ المصنّف عقّب كلام الشيخ بقوله : ( وهو ) أي : كلام شيخ الطائفة في باب بناء العام على الخاص من العدّة ( مناقض صريح لما ذكره هنا ) في باب التعادل والتراجيح لكتابي : الاستبصار والعدّة ( من ) قوله فيهما : ( انّ الجمع ) الدلالي العرفي إنّما يكون ( من جهة عدم ) وجود ( ما يرجّح أحدهما على الآخر ) يعني : مع وجوده لا تصل النوبة إلى الترجيح بالدلالة ، ولكنّك قد عرفت : انّه لا تناقض بين الكلامين ، فانّ كلام الشيخ في باب التعادل والتراجيح من كتابي الاستبصار والعدّة كان في عموم المعارضة ، سواء كانت بدويّة أو حقيقيّة ، بينما كلامه في باب بناء العام على الخاص من كتاب العدّة إنّما هو في خصوص المعارضة الحقيقيّة .

هذا ( وقد يظهر ما ) أي : المعنى الذي ذكره الشيخ ( في العدّة من كلام بعض

ص: 130

المحدّثين ، أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة ، لمعارضته خبر الرخصة ، زاعماً أنّه طريقُ جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرُها تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة .

-----------------

المحدّثين ) أيضا ، حيث انّ هذا المحدّث جعل العامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وما أشبه ذلك ، من المعارضة المحتاجة إلى المرجّحات المذكورة في الروايات ، ولذا ( أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة لمعارضته خبر الرخصة ) فلم يقدّم خبر الرخصة على الوجوب حين تعارضهما ، مع انّهما من الجمع الدلالي الذي يراه العرف بلا توقّف ، وذلك لأنّ الرخصة والجواز نصّ ، بينما الوجوب والتحريم ظاهر ، وكثيرا ما يطلق في الروايات الوجوب على الاستحباب الأكيد مثل ما ورد : « من انّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام واجبة » ، وكثيرا ما يطلق التحريم في الروايات على الكراهة الأكيدة مثل ما ورد : « من انّ لحم الحمار حرام » .

وإنّما لم يحمل هذا المحدّث الظاهر على النصّ أو الأظهر ( زاعما انّه ) أي : الجمع بين الظاهر والأظهر ، أو النصّ والظاهر ، هو ( طريقُ جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرُها ) أي : ظاهر أخبار الباب بزعمه : ( تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة ) فيها من موافقة الكتاب ، أو السنّة القطعيّة ، أو مخالفة العامّة ، أو الأصدقيّة ، أو ما أشبه ذلك ممّا لا ربط له بالجمع الدلالي العرفي ، بينما قد عرفت انّه لا تعارض حقيقة بين العام والخاص ، والظاهر والأظهر ، والنصّ والظاهر ، فلا وجه للعمل بأخبار الترجيح في هذا النوع من التعارض البدوي الذي له جمع دلالي عرفي ، بل قد ذكرنا سابقا : إنّ في الروايات إشارة إلى مثل هذا

ص: 131

وربّما يلوح هذا أيضاً من كلام المحقّق القمّي ، في باب بناء العامّ على الخاصّ ، فإنّه بعدما حكم بوجوب البناء ، قال : « وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك .

وهو يقتضي تقديم العامّ لو كان هو الموافق للكتاب ، أو المخالف للعامّة ، أو نحو ذلك .

وفيه :

-----------------

الجمع أيضا ، حيث انّه ورد في الروايات بالنسبة إلى القرآن الحكيم وكذلك السنّة القطعيّة : بأنّ فيهما عامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملاً ومبيّنا ، ومحكما ومتشابها ، وغير ذلك ممّا يكشف عن أنّ ما ذكره هذا المحدّث غير تامّ.

( وربّما يلوح هذا ) المعنى الذي ذكره الشيخ : من تقديم سائر المرجّحات على الجمع الدلالي ( أيضا من كلام المحقّق القمّي ) وذلك ( في باب بناء العام على الخاص ) حيث انّه يجب الجمع بينهما بحمل العام على الخاص ، وإخراج الفرد الخاص عن حكم العام والعمل بالعام في سائر أفراده ( فانّه بعد ما حكم بوجوب البناء ) أي : بناء العام على الخاص ( قال : وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك ) كالموافقة للشهرة ، أو السنّة القطعيّة ، أو ما أشبه ذلك ( وهو يقتضي تقديم العام لو كان ) العام - مثلاً - ( هو الموافق للكتاب ، أو المخالف للعامّة ، أو نحو ذلك ) لا تقديم الخاص ، ومعه فكيف تقولون بتقديم الخاص على العام دائما ؟ مع انّ اللازم ملاحظة انّ أيّا من العام والخاص يوافق الكتاب أو السنّة ، فيؤخذ به ، وهكذا بالنسبة إلى سائر المرجّحات .

ثمّ إنّ المحقّق المذكور أجاب عمّا أورده على نفسه من الاشكال بقوله : ( وفيه:

ص: 132

إنّ البحث منعقد لملاحظة العامّ و الخاصّ من حيث العموم و الخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذن قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجي وهو خارج عن المتنازع » ، انتهى .

-----------------

إنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ) يعني : إنّ العام والخاص يلاحظ فيهما ملاحظتان : فقد يلاحظ جهة العموم والخصوص وبهذه الملاحظة يكون الخاص مقدّما على العام بالجمع الدلالي ، وقد يلاحظ جهة وجود المرجّحات الخارجية في العام أو في الخاص ، وبهذا اللحاظ نأخذ بالعام تارةً ونطرح الخاص ، ونأخذ بالخاص تارةً ونطرح العام ، بالنسبة إلى هذا الفرد الخاص ، ومن تقريره لهذا اللحاظ يظهر تقديمه المرجّحات على المرجّح الدلالي لقوله : ( إذن ) بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ( قد يصير التجوّز في الخاص أولى من التخصيص في العامّ ) أولوية ( من جهة مرجّح خارجي ) .

مثلاً : لو قال المولى : لا بأس باكرام العالم ، وقال أيضا : لا تكرم زيدا ، وكان هناك دليل خارجي على انّ لا تكرم محمول على الكراهة ، لا التحريم الذي هو ظاهره ، فلا يكون لا تكرم تخصيصا ، وإنّما يتصرّف في الخاص بالمجازية ، ويكون لا بأس هو المحكّم حتّى في زيد ، فيكون إكرام زيد لا بأس به ( وهو ) أي: البحث في العام والخاص باللحاظ الثاني يعني بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، لا الداخلية ( خارج عن المتنازع (1) ) فيه ، إذ محلّ النزاع هو اللحاظ الأوّل ، لا اللحاظ الثاني ( انتهى ) كلام المحقّق القمّي .

ص: 133


1- - القوانين المحكمة : ج1 ص315 .

والتحقيقُ : إنّ هذا كلّه خلافُ ما يقتضيه الدليل ؛ لأن الأصل في الخبرين الصدقُ و الحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين ، ولامانع عن فرض صدورهما حتى يحصل التعارضُ ، ولهذا لايطرح الخبر الواحد الخاصّ بمعارضة العامّ المتواتر .

-----------------

قال المصنّف : ( والتحقيق ، إنّ هذا ) الذي يظهر من الشيخ ، والمحدّث ، والقمّي : من عدم تقديم الجمع الدلالي على الجمع الترجيحي بسبب أخبار العلاج ( كلّه خلاف ما يقتضيه الدليل ) الدالّ على حجيّة الخبرين ، وذلك ( لأنّ الأصل في الخبرين ) علما بأنّ المراد من الاصل هنا هو : مقتضى شمول أدلّة الحجيّة لكلّ من الخبرين : العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وما أشبه ذلك ، فانّ مقتضاه هو : ( الصدق والحكم بصدورهما ) من المولى ( فيُفرضان كالمتواترين ) في وجوب الجمع الدلالي بينهما مع الامكان .

إن قلت : إنّ الخبرين المتعارضين إذا لم يمكن جمعهما جمعا عرفيّا ، لا يمكن فرض صدورهما ، لأنّه يستلزم صدور المتنافيين من الشارع الحكيم وهو محال .

قلت : لا تعارض بين النصّ والأظهر مع الظاهر حتّى يكون مانعا عن فرض صدورهما كما قال : ( ولا مانع عن فرض صدورهما حتّى يحصل التعارضُ ) بينهما ، وذلك لإمكان الجمع العرفي بينهما ، بحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيّد ، والمجمل على المبيّن ، والمتشابه على المحكم.

( ولهذا ) أي : لأجل انّه لا مانع من فرض صدورهما لإمكان الجمع الدلالي بينهما وتقدّمه على إعمال المرجّحات ( لا يطرح الخبر الواحد الخاص بمعارضة العامّ المتواتر ) فانّ التواتر لا يوجب ترجيح العام على الخاص ، حتّى يُطرح الخاص ويؤخذ بالعام المتواتر ، بل يُجمع بينهما ، فيخصّص العام المتواتر بسبب

ص: 134

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجيّة النصّ ، ومن المعلوم ارتفاعُ الأصل بالدليل .

-----------------

الخبر الخاص الذي هو حجّة وإن كان خبرا واحدا.

( وإن شئت قلت ) في بيان تقدّم الجمع الدلالي على جمع التعارض والعلاج : ( إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر ) مثل « أكرم العلماء » ، و « لا تكرم زيدا »، حيث إنّ « أكرم العلماء » ظاهر في زيد ، و « لا تكرم زيدا » نصّ في زيد ( إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ) حيث إنّ أصالة الحقيقة تقتضي شمول «أكرم العلماء» لكلّ العلماء حتّى زيد ( ودليل حجيّة النصّ ) فانّ الدليل الذي يدلّ على حجيّة لا تكرم زيدا يقول : بأنّه يجب أن لا يُكرم زيد ، فيتعارضان.

( ومن المعلوم ) ثبوت ( إرتفاع الأصل ) اللفظي وهو أصالة الحقيقة ( بالدليل ) الدالّ على حجيّة النصّ ، فانّ أصالة الحقيقة بالنسبة إلى أكرم العلماء ترتفع بسبب ما دلّ على حجيّة النصّ ، فلا يُكرم زيد ويُكرم سائر العلماء .

وإنّما يرتفع الأصل بالدليل ، لأنّ الأمر هنا يدور بين التعبّد بظهور الظاهر ، الذي هو : اكرام كلّ عالم حتّى زيد ، وطرح سند النصّ الذي هو : لا تكرم زيدا ، وبين العكس يعني : التعبّد بسند النص وطرح ظهور الظاهر ، لكن حيث انّ التعبّد بظهور الظاهر مشروط بعدم القرينة الصارفة ، فإذا إرتفع الشرط بوجود ما يصلح قرينة صارفة عن ظهور الظاهر وهو : النصّ إرتفع المشروط وهو : التعبّد بالظهور ، فيكون دليل التعبّد بسند النصّ حاكما على دليل التعبّد بظهور الظاهر ، وهذا معنى ما ذكره المصنّف : من إرتفاع الأصل بالدليل ، فيؤخذ بسند كليهما ويجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ ، ويقال : بأنّ المراد من العلماء هو غير زيد .

ص: 135

وكذا الكلام في الظاهر والأظهر ، فإنّ دليل حجيّة الأظهر يجعله قرينةً صارفةً عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحهُ لأجل أصالة الظهور ولا طرحُ ظهوره لظهور الظاهر .

فتعيّن العملُ به وتأويل الظاهر به ، وقد تقدّم في إبطال الجمع بين الدليلين ما يوضّح ذلك .

-----------------

هذا هو الكلام في الظاهر والنصّ ( وكذا ) يكون ( الكلام في الظاهر والأظهر ) وذلك على ما تقدّم مثاله من ورود : « يجب غسل الجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » ، فانّه يمكن التصرّف في « يجب » بأن يراد به الاستحباب ، ويمكن التصرّف في « ينبغي » بأن يراد به الوجوب ، لكن « ينبغي » أظهر في مفاده الاستحبابي من « يجب » في مفاده اللزومي ، ولذا يُجمع بينهما ويُقال : باستحباب غسل الجمعة كما قال : ( فإنّ دليل حجيّة الأظهر ) الذي هو « ينبغي » في المثال ( يجعله قرينةً صارفةً عن إرادة الظاهر ) الذي هو « يجب » ( ولا يمكن طرحه ) أي : الأظهر ( لأجل أصالة الظهور ) في « يجب » ( ولا طرح ظهوره ) أي : ظهور الأظهر ( لظهور الظاهر ) .

إذن : فظهور قوله : « يجب » لا يطرح سند « ينبغي » ولا دلالته ، فأمّا انّه لا يطرح سنده فلأنّ سنده حجّة حسب الفرض ، وأمّا انّه لا يطرح دلالته فلأنّ دلالة «ينبغي» أظهر من دلالة « يجب » فيتصرّف في الظاهر الذي هو « يجب » بسبب الأظهر الذي هو « ينبغي » ممّا تكون النتيجة إستحباب غسل الجمعة.

وعلى هذا ( فتعيّن العمل به ) أي : بالأظهر ( وتأويل الظاهر به ) أي : بالأظهر ( وقد تقدّم في إبطال ) الكليّة التي ذكرها بعض حيث قال : بأنّ ( الجمع بين الدليلين ) مهما أمكن أولى من الطرح ( ما يوضّح ذلك ) الذي ذكرناه هنا : من انّ

ص: 136

نعم ، يبقى الاشكال في الظاهرين اللّذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر ، فيدور الأمر بين الترجيح من حيث السند وطرح المرجوح ، وبين الحكم بصدورهما وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ،

-----------------

الجمع إنّما يكون بين الظاهر والأظهر والنصّ والظاهر ، لا مطلق الجمع حتّى ولو كان جمعا تبرّعيا .

هذا هو تمام الكلام في الجمع الدلالي بين الظاهر والأظهر ، والظاهر والنصّ .

( نعم ، يبقى الاشكال في الظاهرين اللّذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما ) أي : بتصرّف ( يرفع منافاته لظاهر الآخر ) وذلك بأن كانا ظاهرين متساويين بحيث لم يكن بينهما نصّ ولا أظهر ، وإنّما كانا من قبيل العامّين من وجه ، مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، في مورد الاجتماع الذي هو العالم الفاسق ، حيث يمكن أن يُعطى لأكرم العلماء ، كما يمكن أن يُعطى للا تكرم الفسّاق ويأوّل الآخر .

وعليه : ( فيدور الأمر ) فيهما ( بين الترجيح ) والأخذ بالراجح ( من حيث السند ) أي : التعبّد بسند الراجح من المتعارضين فقط ( وطرح المرجوح ) .

ومن الواضح : انّه إذا طرحنا سند أحدهما فلا يبقى مجال للدلالة ، وإنّما يكون الحكم بالنتيجة لأحد الظاهرين ( وبين الحكم بصدورهما ) أي : التعبّد بسندهما معا ( وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ) وذلك بأن يُقال : إنّ أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، كلاهما صادران عن المولى ، لكن في مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق حيث لا يُعلم هل انّه يجب اكرامه أو يحرم إكرامه ، للعلم الاجمالي بانتفاء أحد الحكمين بالنسبة اليه ، يقال انّه مع التعبّد بالسندين يلزم الحكم بإرادة

ص: 137

فعلى ما ذكرنا - من أنّ دليل حجيّة المعارض ، لايجوز طرحُه لأجل أصالة الظهور في صاحبه ، بل الأمر بالعكس ، لأنّ الأصل لايزاحم الدليل - فيجبُ الحكمُ في المقام بالاجمال ، لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ، مع العلم إجمالاً بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة إلى مورد التعارض ،

-----------------

خلاف الظاهر في إحدى الدلالتين .

( فعلى ما ذكرنا : من أنّ دليل حجيّة ) سند الخبر ( المعارض ، لا يجوز طرحه ) أي : طرح المعارض ، وذلك لأنّ دليل حجيّة الخبر الواحد يشمل كلاًّ من السندين ، ومعه فلا يجوز طرح المعارض ( لأجل أصالة الظهور في صاحبه ) أي : المعارض الآخر ( بل الأمر بالعكس ) وهو أن يؤخذ بسند المعارض الآخر أيضا ويطرح الظهور ، وذلك ( لأنّ الأصل ) أي : أصل الظهور ( لا يزاحم الدليل ) القائم على حجيّة السند ( فيجب الحكم في المقام ) أي : مقام تساوي ظهور الخبرين المتعارضين ( بالاجمال ) بمعنى : عدم العلم بأنّه هل يجب إكرام العالم الفاسق أو يحرم إكرامه ؟ .

وإنّما يحكم فيه بالاجمال ( لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ، مع العلم إجمالاً بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ) فانّا نعلم إجمالاً بإنتفاء أحدهما ، فامّا أنّ « لا تكرم الفسّاق » لا يشمل العالم الفاسق ، وإمّا انّ « أكرم العلماء » لا يشمل العالم الفاسق .

وعليه : ( فيتساقط الظهوران من الطرفين ) ظهور أكرم العلماء في العالم الفاسق ، وظهور لا تكرم الفسّاق في العالم الفاسق ، وإذا تساقطا ( فيصيران ) أي : الظهورين من الطرفين ( مجملين بالنسبة إلى مورد التعارض ) الذي هو العالم

ص: 138

فهما كظاهري مقطوعي الصدور ، أو ككلام واحد تصادم فيه ظاهران .

ويشكل بصدق التعارض بينهما عرفاً و دخولهما في الأخبار العلاجيّة ،

-----------------

الفاسق ( فهما ) أي : الظاهرانّ المذكوران يكونان حينئذ : ( كظاهري مقطوعي الصدور ) حيث إنّ السند فيهما قطعي ، فلا يمكن طرح السند ، وإنّما يوجب الاجمال في الدلالة ، كما إذا قطعنا بصدور : « أكرم العلماء » وصدور « لا تكرم الفسّاق » فانّه لا مجال لطرح السند ، وإنّما يحصل الاجمال في العالم الفاسق ، فلا يُعلم بأنّه هل المراد وجوب إكرامه حتّى لا يدخل إكرامه في لا تكرم الفساق ، أو المراد حرمة اكرامه حتى لا يدخل في أكرم العلماء .

( أو ) يكون الظاهران المذكوران حينئذ ( ككلام واحد تصادم فيه ظاهران ) : ظاهر أحدهما الوجوب ، وظاهر أحدهما الحرمة ، ولم يكن أحدهما قرينة على الآخر ، وذلك كما لو ورد - مثلاً - : « الجمعة لا يصلّيها إلاّ المعصوم أو من أذن له » حيث لا يُعلم أنّ في زمن الغيبة الذي نحن فيه هل تجب الجمعة ، لأنّ الفقيه الجامع للشرائط هو من أذن له بالإذن العامّ ، أو تحرم ، لأنّ ظاهر الاذن هنا هو الاذن الخاص لا العامّ ، ففي مثله نحكم بصدور الخبر وإجمال ظاهره .

لكن ( ويشكل ) ما ادّعيناه : من وجوب الجمع بين العامّين من وجه - مثلاً - والحكم بالاجمال في مورد الاجتماع الذي هو العالم الفاسق ، إشكالاً ( ب- ) سبب ( صِدق التعارض بينهما عرفا ) فإنّ العرف يرى انّ أحدهما معارض للآخر ( و ) لذا يرى العرف ( دخولهما في الأخبار العلاجيّة ) والحكم بلزوم طرح أحدهما والأخذ بالآخر .

وإنّما يرى العرف دخولهما في أخبار العلاج لأمرين :

ص: 139

إذ تخصيصُها بخصوص المتعارضين ، اللذين لايمكن الجمعُ بينهما إلاّ بإخراج كليهما عن ظاهريهما خلاف الظاهر ، مع أنّه لامحصّل للحكم بصدور الخبرين و التعبّد بكليهما ، لأجل أن يكون كلّ منهما سبباً لإجمال الآخر ، ويتوقف في العمل بهما ، فيرجع إلى الأصل ، إذ لا يترتّب - حينئذٍ - ثمرةٌ على الأمر بالعمل بهما .

-----------------

أوّلاً : ( إذ تخصيصها ) أي : أخبار العلاج ( بخصوص المتعارضين ، اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بإخراج كليهما عن ظاهريهما ) كما في مثل : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) ( خلاف الظاهر ) وذلك لأنّ الأخبار العلاجية عامّة ، فتشمل الجمع.

ثانيا : ( مع أنّه ) نقض للغرض ، إذ ( لا محصّل ) ولا معنى ( للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما ) شرعا ( لأجل أن يكون كلّ منهما سببا لإجمال الآخر ) فأيّ فائدة من مثل هذا التعبّد ؟ إذ هو مثل أن يقول المولى : تعبّد بوجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، وحرمة اكرام زيد العالم الفاسق ( و ) إذا صارا مجملين كما هو المفروض ، فيلزم ان ( يتوقّف في العمل بهما ، فيرجع إلى الأصل ) وذلك على ما مرّ تفصيله سابقا .

وإنّما لا فائدة في مثل هذا التعبّد ( إذ لا يترتّب - حينئذ - ثمرة على الأمر بالعمل بهما ) لأنّه يكون الحاصل من التعبّد بسندهما معا طرح التعبّد بالسند والدلالة فيهما جميعا .

ص: 140


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

نعم ، كلاهما دليل واحد على نفي الثالث كما في المتباينين - وهذا هو المتعيّن - ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك وجوبُ التخيير بينهما عند فقد المرجّحات ، كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ،

-----------------

( نعم ، كلاهما دليل واحد على نفي الثالث ) فلا يكون إكرام العالم الفاسق - الدائر بين الوجوب والحرمة - مستحبّا ، ولا مكروها ، ولا مباحا ، وذلك ( كما في المتباينين ) حيث انّه لا يمكن التعبّد بصدورهما معا والحكم بإجمالهما حتّى وإن صار كلاهما دليلاً واحدا على نفي الثالث ، فانّهما وإن دلاّ حينئذ على نفي الثالث ، لا أنّ نفي الثالث فقط غيرُ كافٍ من جعل الشارع الحجيّة للخبر ، ومعه فلابدّ من ترك التعبّد بكليهما والرجوع فيهما إلى الأخبار العلاجية.

( وهذا ) أي : الرجوع في الظاهرين المتساويين إلى الأخبار العلاجية ، ووجوب ملاحظة قوّة السند ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو ما أشبه ذلك فيهما ( هو المتعيّن ، ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ) أي : في مثل تعارض الظاهرين المتساويين الذي ذكرناه .

( إلاّ أنّ اللازم من ذلك ) أي : من إرجاع مثل هذين الظاهرين إلى أخبار العلاج هو : ( وجوب التخيير بينهما ) ففي مثل : العالم الفاسق ، نحن مخيّرون بين أن نكرمه على سبيل الوجوب ، أو لا نكرمه على سبيل التحريم ، وذلك ( عند فقد المرجّحات ) المنصوصة في الأخبار ، فانّه لو كان هناك مرجّح في أحد الجانبين وجب تقديم ذي المزيّة على المرجوح ، فإذا لم يكن ترجيح في أحد الجانبين أو كان هناك ترجيحان متعارضان ، فاللازم القول بالتخيير ( كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ) حيث قال الشيخ في الكتابين بالترجيح

ص: 141

كما أنّ اللاّزم على الأوّل التوقّفُ من أوّل الأمر والرجوعُ إلى الأصل ، إن لم يكن مخالفاً لهما ، وإلاّ فالتخييرُ من جهة العقل بناءا على القول به في دوران الأمر بين احتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة .

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّه قد يفصّل

-----------------

وبعد فقد المرجّحات قال : « كان الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء » .

( كما أنّ اللاّزم على الأوّل ) أي : على التعبّد بالسندين وإجمال الدلالة فيهما هو ( التوقّف من أوّل الأمر ) لا الرجوع إلى المرجّحات بمعنى : انّه يلزم التوقّف من حيث الفتوى ( والرجوعُ إلى الأصل ) من حيث العمل فيما ( إن لم يكن ) الأصل ( مخالفا لهما ) أي : للخبرين ، وذلك بأن لم يكونا من قبيل الوجوب والحرمة ، وإنّما كانا من قبيل الوجوب والاستحباب - مثلاً - كما في مثال : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » حيث يكون أصل البرائة موافقا لينبغي الظاهر في الاستحباب .

( وإلاّ ) بأن كان الأصل مخالفا لهما ( فالتخيير ) بينهما ، لكن تخييرا ( من جهة العقل ) فانّ العقل هنا يحكم بالتخيير ، وذلك ( بناءا على القول به ) أي : على القول بالتخيير ، لا على القول بالبرائة ( في دوران الأمر بين إحتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة ) كما في مورد الاجتماع من مثال : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فانّ في هذا المورد يدور الأمر بين المحذورين ، لأنّا لا نعلم هل يجب إكرام العالم الفاسق ، أو يحرم إكرامه ؟ ومن المعلوم : انّ البرائة مخالفة لكل من الوجوب والحرمة ، فيرجع فيه إلى التخيير بين الاحتمالين تخييرا عقليّا ، لا تخييرا خبريّا شرعيّا .

هذا ( وقد أشرنا سابقا ) في بحث أولويّة الجمع من الطرح ( إلى أنّه قد يفصّل

ص: 142

في المسألة بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين موردٌ سليمٌ عن التعارض ، كما في العامّين من وجه ، حيث إنّ الرجوع إلى المرجّحات السنديّة فيهما على الاطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ، ولا وجه له ، والاقتصار في الترجيح بها في خصوص مادة الاجتماع ، التي هي محل المعارضة ، وطرح المرجوح بالنسبة إليهما مع العمل به في مادّة الافتراق

-----------------

في المسألة ) التي نحن فيها من تعارض الخبرين ولا جمع دلالي بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهذا ما يؤيّد الجمع في بعض الصور دون بعض ، وذلك بالتفصيل ( بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين موردٌ سليمٌ عن التعارض كما في العامين من وجه ، حيث إنّ ) العالم العادل مورد أكرم العلماء قطعا ، والفاسق الجاهل مورد لا تكرم الفسّاق قطعا ، ولا معارضة في هذين الموردين الذين هما مادّتي الافتراق ، وإنّما التعارض في مادّة الاجتماع فقط ومعه فلو بنينا على ( الرجوع إلى المرجّحات السندية فيهما ) أي : في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا ( على الاطلاق ) أي : بلا تفصيل بين مادّتي الافتراق والاجتماع ، فانّ البناء على ذلك ( يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ، ولا وجه له ) لأنّ مادّتي الافتراق لا تعارض بينهما ، بينما ظاهر روايات الترجيح أنّ الطرح إنّما يكون في صورة المعارضة .

هذا إن بنينا على الرجوع إلى المرجّحات السندية في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا ( و ) لو بنينا على ( الاقتصار في الترجيح بها ) أي بالمرجّحات ( في خصوص مادّة الاجتماع ، التي هي محل المعارضة ) والعمل بالراجح من أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ( وطرح المرجوح بالنسبة إليهما ) أي : إلى مادّة الاجتماع فقط ( مع العمل به ) أي : بالمرجوح ( في مادّة الافتراق ) فانّ الاقتصار

ص: 143

بعيدٌ عن ظاهر الأخبار العلاجيّة .

وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : اغتسل للجمعة ، الظاهر في الوجوب ، و قوله : ينبغي غسل الجمعة ، الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبرُ المرجوحُ رأساً ، لأجل بعض المرجّحات .

لكنّ الاستبعاد

-----------------

على بعض دون بعض ، الموجب للتبعيض في التعبّد بمضمون الخبر ( بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية ) إذ ظاهر أخبار العلاج هو : إمّا تقديم هذا الخبر ، أو تقديم ذلك الخبر ، لا أنّ نأخذ ببعض الخبر ونترك بعض الخبر .

والحاصل : انّه لو بنينا على الرجوع فيما كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن التعارض كالعامين من وجه ، إلى المرجّحات السندية في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا لم يكن له وجه كما عرفت ، ولو بيننا على الاقتصار في الترجيح بالمرجّحات في مادّة الاجتماع فقط كان بعيدا عن ظاهر أخبار العلاج على ما عرفت ، وإذا كان كذلك ، فاللازم هو الجمع لا الرجوع إلى المرجّحات .

إذن : فالتفصيل هو بين ما كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن التعارض ، وقد عرفت حكمه ( وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : « اغتسل للجمعة » الظاهر في الوجوب ، وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » الظاهر في الاستحباب ) فانّه يرجع في مثل ذلك إلى أخبار العلاج ( فيطرح الخبر المرجوح رأسا ) أي : مطلقا سندا ودلالة ، فلا يُعمل بسنده ولا بدلالته ، وذلك ( لأجل بعض المرجّحات ) التي ترجّح خبرا على خبر .

( لكن ) الذي يستظهر من الأخبار هو : الرجوع إلى أخبار العلاج في كِلا الفرضين : سواء كان هناك مورد سليم ، أو لم يكن مورد سليم ، لأنّ ( الاستبعاد

ص: 144

المذكور في الأخبار العلاجيّة إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم من حيث الظنّ بالصدور ، فلايمكن التبعّض في صدور العامّين من وجه ، من حيث مادة الافتراق و مادّة الاجتماع ، كما أشرنا سابقاً إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل .

-----------------

المذكور في الأخبار العلاجيّة ) إستبعادا من المصنّف لأجل وقوع التبعيض في مضمون الخبر ، وذلك على ما ذكره المصنّف قبل قليل ، فانّ إستبعاده ذلك ( إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم ) العرفية كائن ( من حيث الظنّ بالصدور ) بمعنى : إنّ ملاك العمل بالخبر عند العرف هو الظنّ بصدق النسبة الخبرية ، ومعه ( فلا يمكن التبعّض في صدور العامّين من وجه ، من حيث مادّة الافتراق ومادّة الاجتماع ) .

وإنّما لا يمكن التّبعيض على المبنى العدمي ، لأنّ النسبة أمر إعتباري بسيط لا يقبل التبعيض بالصدق والكذب ، فاللازم أن يكون كلا الجزئين وهما : العالم الفاسق ، والجاهل الفاسق ، من لا تكرم الفسّاق صادقا أو كلاهما كاذبا ( كما أشرنا سابقا ) في الجمع بين البيّنات ( إلى أنّ الخبرين المتعارضين ) بالعموم من وجه على المبنى العرفي ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما لا يمكن فيه التبعيض ، وذلك لأنّ الخبر بناءا على الطريقة العرفيّة ، امّا أن يكون طريقا أو لا يكون طريقا ، لا أن يكون نصفه طريقا ونصفه غير طريق .

والحاصل : إنّ إستبعاد طرح الخبر في جزء منه والأخذ بجزئه الآخر ، لا يمكن بالنسبة إلى الواقع ، لأنّه إمّا صادق أو كاذب واقعا ، فالتبعيض في مضمون الخبر إذن غير ممكن عرفا .

ص: 145

وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض .

وكيف كان ، فترك التفصيل أوجهُ منه ، وهو أوجهُ من إطلاق إهمال المرجّحات .

-----------------

هذا لو كان ملاك العمل بالخبر : الظنّ بالصدور الذي عليه بناء العرف ( وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض ) أي : لا مانع من أن يقول الشارع اعمل بالنسبة إلى : لا تكرم الفسّاق ، في مادّة الافتراق ولا تعمل به في مادّة الاجتماع ، وأن يقول : اعمل بالنسبة إلى : أكرم العلماء ، في مادّة الافتراق ، ولا تعمل به في مادّة الاجتماع ، فإذا تعارضا لزم الرجوع إلى الأخبار العلاجية وطرح المرجوح منهما والأخذ بالراجح .

( وكيف كان ) : فانّه سواء كان الاستبعاد الذي ذكره المصنّف هنا في محلّه أو لم يكن في محلّه ( فترك التفصيل ) بين مثال العامّين من وجه : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ومثال الظاهر والأظهر : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، يكون ( أوجَهُ منه ) أي : من التفصيل بينهما ، لما تقدّم : من انّه لا معنى للتعبّد بهما والحكم بإجمالهما ثمّ الرجوع إلى الأصل ، إذ لا مانع من إعمال المرجّحات فيهما وإن أدّى إلى التبعيض في العامّين من وجه على ما عرفت .

ثمّ إنّه حيث تبيّن لك ذلك قلنا : ( وهو ) أي : التفصيل بين العامّين من وجه بعدم إعمال المرجّحات فيهما ، وبين الظاهر والأظهر بإعمال المرجّحات فيهما يكون ( أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات ) إهمالاً كليّا ، وذلك لأنّ إعمال المرجّحات في العامّين من وجه قد يتوهّم بُعده على ما عرفت من المصنّف ،

ص: 146

وأمّا ما ذكرنا في وجهه ، من عدم جواز طرح دليل حجّية أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر ، فهو إنّما يحسنُ إذا كان ذلك الخبرُ بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر ، و أمّا إذا كان محتاجاً إلى دليل ثالث

-----------------

بخلاف المرجّحات في الظاهر والأظهر مثل : « اغتسل الجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » .

( وأمّا ما ذكرنا في وجهه ) أي : في وجه إطلاق إهمال المرجّحات واللجوء إلى الجمع في مثال العامّين من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع منهما ، ومثال الظاهر والأظهر ، كما في : « اغتسل » و « ينبغي » المؤدّي إلى الاجمال في كلا الموردين الموجب للرجوع إلى الأصل ان كان هناك أصل يوافق أحدهما ، وإلاّ فإلى التخيير العقلي لا التخيير العلاجي السببي ، فانّ ما ذكر في وجهه : ( من عدم جواز طرح دليل حجيّة أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر ) وذلك لأنّ دليل حجيّة سند كلّ منهما مزاحم لدليل حجيّة ظاهر الآخر ، فإنّ معنى حجيّة سنديهما أن لا يؤخذ بظاهريهما المتعارضين ، ومعه فيحصل الاجمال في دلالتهما من غير فرق بين مثال الظاهر والأظهر ، وبين مثال مادّة الاجتماع في العامّين من وجه ، فانّ هذا الوجه لا يحسن في كلّ مكان .

وعليه : ( فهو ) أي : ما ذكر في وجه إهمال المرجّحات ووجوب الجمع ( إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر ) كما في النصّ والظاهر ، حيث إنّ الخبر النصّ بنفسه يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الخبر الآخر ، ففي هذه الصورة فقط يحسن إهمال المرجّحات واللجوء إلى الجمع الدلالي بينهما.

( وأمّا إذا كان ) الجمع بينهما والتصرّف في أحدهما ( محتاجا إلى دليل ثالث )

ص: 147

يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يُعَدُّ غير ممكن ،

-----------------

خارج من المتعارضين ، وذلك الدليل الثالث هو الذي ( يوجب صرف أحدهما ) عن ظاهره ، فانّه إذا كان كذلك ( فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين ) أي : تصرفّين : تصرّف في هذا الظاهر ، وتصرّف في الظاهر الآخر ، وذلك كما لو دلّ الدليل الخارجي من إجماع ونحوه على جواز بيع العذرة الطاهرة ، وحرمة بيع العذرة النجسة في قوله : « ثمن العذرة سحت » (1) وقوله : « لابأس ببيع العذرة » (2) فانّه يكون حكمهما حينئذ حكم الظاهرين المتساويين ( في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يُعَدُّ غير ممكن ) فيلزم الرجوع في مثلها إلى المرجّحات رأسا.

والحاصل : إنّ سند كلّ من المتعارضين مزاحم لدلالة الآخر ، ومعه فان كان أحدهما المعيّن قرينة واضحة لصرف ظاهر الآخر ، كما في تعارض النصّ والظاهر - مثلاً - كان دليل حجيّة سند النصّ حاكما على دليل حجيّة ظهور الظاهر ، فيسقط ظهور الظاهر بسبب سند النصّ ، وأمّا إذا كان كلّ منهما يصلح لصرف الآخر عن ظاهره ، كما في تعارض العامّين من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع - مثلاً - فانّه حيث يحتاج تعيّن أحدهما للقرينيّة إلى دليل ثالث ، لا يكون دليل التعبّد بالسند في شيء منهما حاكما على دليل التعبّد بالظاهر في الآخر ،

ص: 148


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فلابدّ من طرح أحدهما معيّناً للترجيح أو غير معيّن للتخيير ، ولايقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة الجمع على الطرح ،

-----------------

وإذا لم يكن شيء منهما حاكما على الآخر ( فلابدّ من ) الرجوع فيهما إلى أخبار العلاج المؤدّي إلى ( طرح أحدهما معيّنا للترجيح ) فيما إذا كان هناك مرجّح لأحدهما ( أو غير معيّن ) فيما إذا لم يكن ترجيح ، وإنّما ( للتخيير ) فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يكرم العالم الفاسق أو لا يكرمه ، بمعنى : تخييره بين الوجوب والحرمة.

إن قلت : دليل حجيّة السند في كلّ من المتعارضين يجعل المتعارضين الظنيّين كمقطوعي الصدور حيث يجد الجمع بينهما ، لا طرح أحدهما .

قلت : ( ولا يُقاس حالهما ) أي : حال المتعارضين الظنّيين كما في مادّة الاجتماع من الخبرين الواحدين الذين دلّ أحدهما على أكرم العلماء ، والآخر على لا تكرم الفسّاق - مثلاً - ( على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ) فانّه لو كان صدورهما مقطوعا فلابدّ فيهما من الجمع بين الظاهرين والحكم بالاجمال والرجوع إلى الأصل إذا كان هناك أصل موافق لأحدهما ، وإذا لم يكن هناك أصل موافق فالرجوع إلى التخيير العقلي ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن صدورهما مقطوعا ، بل مظنونا لأجل التعبّد بصدورهما كما هو مفروض بحثنا ، فانّه لاإضطرار فيه إلى الجمع ، وإنّما اللازم الرجوع إلى أخبار العلاج .

( كما أشرنا إلى دفع ذلك ) أي : إلى دفع التساوي بين مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور ، وعدم صحّة قياس أحدهما على الآخر ( عند الكلام في أولويّة الجمع على الطرح ) فانّه قد تقدّم هناك : بأنّ القطع بالصدور في الخبرين

ص: 149

والمسألة محلّ إشكال .

وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة إذ الظاهرُ لايعارضُ النصّ حتى يرجّح النصّ عليه .

نعم ، النصّ الظنّي السند يعارضُ دليل سنده لدليل حجيّة الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر ،

-----------------

قرينة على إرادة خلاف الظاهر منهما ، وأما فيما نحن فيه ، حيث لا قطع بالصدور ، فيكون التعبّد بالظاهر مزاحما للتعبّد بالسند ، فاللازم حينئذٍ مراجعة أخبار العلاج فيهما ، ( والمسألة ) بعدُ ( محلّ الاشكال ) فتحتاج إلى تأمّل وتحقيق .

هذا ( وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ) فلا ترجيح دلالي بينهما ( إذ الظاهر لا يعارض النصّ حتّى يرجّح النصّ عليه ) فانّ النصّ لا يحتمل الخلاف حتّى يقال بأنّه يرجّح أحدهما على الآخر.

( نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجيّة الظهور ) فسند لا تكرم زيدا يعارض ظهور أكرم العلماء ( لكنّه ) أي : دليل سند النصّ في : لا تكرم زيدا ( حاكم على دليل إعتبار الظاهر ) في : أكرم العلماء ، وذلك لأنّ دليل سند الخاص يكون قرينة على صرف ظاهر العام عن ظهوره .

وبعبارة اُخرى : إنّ دليل حجيّة الظهور في العام معلّق على عدم العلم بالخلاف ، ودليل حجيّة سند النص في الخاص يجعل نصّ الخاص الصالح بنفسه للقرينيّة بمنزلة معلوم الصدور ، فيكون نصّ الخاص علما بالخلاف ، فيقدّم على ظهور العام بعنوان الحكومة.

ص: 150

فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ، نظراً إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر .

ولا فرق في الظاهر و النصّ بين العامّ و الخاصّ المطلقين ، إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ يبقى معه ظهور

-----------------

إذن : ( فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ) فقط ، وذلك ( نظرا إلى إحتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ) أي : مع غضّ النظر عن ترجيح العرف للأظهر على الظاهر ، فان « ينبغي » يحتمل الوجوب ، كما انّ « اغتسل » يحتمل الاستحباب ( غاية الأمر ترجيح الأظهر ) على الظاهر بحسب الفهم العرفي ، فيقدّم « ينبغي » الأظهر في الاستحباب على « إغتسل » الظاهر في الوجوب ، وذلك لأنّ دليل حجيّة السند يجعل الأظهر الصالح للقرينيّة بسبب ترجيح العرف بمنزلة العلم بالخلاف ، فيكون حاكما على الظاهر ، كما ذكروا مثل ذلك في : رأيت أسدا يرمي ، حيث أن يرمي في مفاده أظهر من الأسد في مفاده ، فيكون يرمي الأظهر في رمي النبل ، قرينة على أنّ المراد من الأسد الرجل الشجاع لا العكس .

هذا ( ولا فرق في الظاهر والنصّ ) الظنّييّ السند بمعنى : العام والخاص اللذين يتمّ الجمع بينهما بالتصرّف في أحدهما لأجل الآخر بين أقسامه الثلاثة التالية :

القسم الأوّل : أن يكون العام ظاهرا والخاص نصّا ، كما قال المصنّف انّه لا فرق في الظاهر والنصّ ( بين العامّ والخاص المطلقين ) مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ( إذا فرض عدم إحتمال في الخاص يبقى معه ظهور

ص: 151

العامّ ، ويدخل في تعارض الظاهرين ، أو تعارض الظاهر والأظهر .

وبين ما يكون التوجيهُ فيه قريباً ، وبين ما يكون التوجيه فيه بعيداً ،

-----------------

العامّ ، و ) ذلك لئلاّ ( يدخل في تعارض الظاهرين ، أو تعارض الظاهر والأظهر ) فانّ القسم الأوّل إذن من تعارض العام والخاص هو على ما عرفت أن يكون : العام ظاهرا ، والخاص نصبا ، كالمثال المتقدّم ، حيث يقدّم الخاص على العام قطعا .

القسم الثاني : أن يكون العام ظاهرا ، والخاص أظهر ، وذلك على ما أشار إليه المصنّف من أنّه لافرق في الظاهر و النص بين ما يكون العام فيه ظاهراً و الخاص نصا غير قابل للاحتمال والتوجيه رأسا على ما عرفت ( وبين ما يكون ) قابلاً للاحتمال والتوجيه ، لكن كان ( التوجيه فيه قريبا ) مثل : أكرم العلماء العدول ولا جناح في إكرام فسّاقهم ، حيث أنّ « لا جناح » الذي هو خاص ، أظهر من « أكرم » الذي هو عام ، فيتقدّم الخاص على العام ، ممّا يكون نتيجته : وجوب إكرام العلماء العدول ، وإستحباب إكرام العلماء الفسّاق ، وفرق هذا مع الأوّل الذي كان العام فيه ظاهرا ، والخاص نصّا هو : انّ النصّ لا يقبل الاحتمال والتوجيه ، بينما « لا جناح » هنا قابل للاحتمال والتوجيه إذ يمكن حمله على الوجوب وتوجيهه به ، كما في قوله تعالى : « فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة » (1) ، مع انّ قصر الصلاة واجب على المسافر ، وهذا التوجيه بنظر العرف توجيه قريب لأنّه يؤدّي إلى تخصيص العام وهو متعارف حتّى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ .

القسم الثالث : أن يكون العام نصّا أو أظهر ، والخاص ظاهرا ، وذلك على ما أشار إليه المصنّف : من انّه لا فرق في الظاهر والنص بين ما يكون التوجيه فيه قريبا ، وهذا قد مضى مثاله وحكمه ( وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا

ص: 152


1- - سورة النساء : الآية 101 .

مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ، لأنّ العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لايحتمل ذلك في الآخر ، وإن كان ذلك الاحتمال بعيداً في الغاية ، لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه .

-----------------

مثل : صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ) كما إذا قال : يجب إكرام العلماء ، وقال : لا بأس بترك إكرام الفاسق ، فانّ « يجب » نصّ أو أظهر في الوجوب ، من « لا بأس » في الجواز ، فيتقدّم النصّ أو الأظهر وهو العام على الظاهر وهو الخاص ، ممّا يكون نتيجته : وجوب إكرام العالم الفاسق أيضا ، وفرق هذا مع الثاني الذي كان التوجيه فيه قريبا على ما عرفت هو : إنّ التوجيه في هذا بعيد ، وذلك لأنّ المتعارف هو تقديم الخاص على العام ، وهنا ثمّ تقديم العام على الخاص وهو بنظر العرف توجيه بعيد.

وإنّما لم يكن هناك فرق بين الاقسام الثلاثة ( لأنّ العبرة ) في الترجيح بحسب الدلالة في المتعارضين إنّما هو ( بوجود إحتمال في أحد الدليلين ) بحيث ( لا يحتمل ذلك في الآخر ) حتّى ( وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ) فانّ البعد غير الامتناع ، وذلك ( لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاص ) وهو : وجود إحتمال في أحدهما لم يكن موجودا في الآخر ، فانّ هذا المقتضي ( بعينه موجود فيه ) أي : في كلّ واحد من الأقسام الثلاثة حتّى القريب والبعيد .

وعليه : فمناط العام والخاص المطلقين وهو الأوّل الذي ذكره المصنّف بقوله : « لا فرق في الظاهر والنصّ بين العام والخاص المطلقين » موجود بعينه في الاحتمالين الأخيرين اللّذين ذكرهما المصنّف بقوله : « وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا » أيضا.

ص: 153

وقد يظهر خلافُ ما ذكرنا في حكم النصّ و الظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاصّ المطلق على التقيّة ، لموافقته لمذهب العامّة .

منها : ما يظهر من الشيخ رحمه الله ، في مسألة : « من زاد في صلاته ركعة » ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهد ، على التقيّة و عمل على عمومات إبطال الزيادة ، و تبعه بعضُ متأخّري المتأخّرين .

-----------------

هذا ( وقد يظهر خلافُ ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر : من ) الترجيح بحسب الدلالة دون الترجيح بالمرجّحات الاُخر عن ( بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلالية ، مثل حمل الخاص المطلق على التقيّة ، لموافقته ) أي : موافقة ذلك الخاص ( لمذهب العامّة ) فلا يجمعون بين المطلق والمقيّد بحمل المطلق على المقيّد ، وإنّما يعملون بالمطلق فحسب ، وذلك في مواضع كالتالي :

( منها : ما يظهر من الشيخ رحمه الله في مسألة : «من زاد في صلاته ركعة» ، حيث ) أنّ هناك مطلق ومقيّد ، فقد ورد : بطلان الصلاة بزيادة الركعة سهوا ، وهذا مطلق ، وورد أيضا : صحّتها لو اتّفق الجلوس بعد الركعة الرابعة بقدر التشهّد ، وهذا مقيّد ، فمقتضى القاعدة : تقييد الأوّل بالثاني تقديما للنصّ على الظاهر ، إلاّ انّ الشيخ لم يفعل ذلك ، بل ( حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهّد ، على التقيّة ) ومعنى ذلك : انّه أسقط هذا الخبر المقيّد ( وعمل على عمومات إبطال الزيادة ) فأخذ بالترجيح للمطلق على المقيّد ( وتبعه بعضُ متأخّري المتأخّرين ) على ذلك .

هذا ، ومن الممكن جعل بعض الأعذار للشيخ دون بعض المتأخّرين ،

ص: 154

لكنّ الشيخ رحمه الله ، كأنّه بنى على ما تقدّم في العدّة والاستبصار ، من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ، أو على استفادة التقيّة من قرائن اُخر غير موافقة مذهب العامّة .

ومنها : ما تقدّم من بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر و النهي

-----------------

ولذا قال المصنّف : ( لكن الشيخ رحمه الله كأنّه بنى على ما تقدّم في العدّة والاستبصار : من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ) فكلام الشيخ مبنيّ على ذلك المبنى ، والمصنّف وإن إستشكل عليه في المبنى ، لكنّه قال هنا : على تقدير صحّة ذلك المبنى يصحّ هذا البناء ، بينما بعض متأخّري المتأخّرين الذين لا يجعلون مبناهم ذلك ، لا يصحّ منهم كلامهم هذا .

أقول : لكن يمكن أن لا يستشكل على بعض متأخّري المتأخّرين ، وذلك لأنّه قد يكون قوّة التقيّة بحيث يوجب طرح الخاص والمقيّد ، فيتمّ كلام الشيخ أيضا لا على مبناه في العدّة والاستبصار ، بل لأنّ قوّة التقيّة توجب إنتفاء أصالة عدم التقيّة المستلزم لطرح الخاص والمقيّد ، والعمل بالعام والمطلق .

وكيف كان : فشيخ الطائفة قال بذلك إمّا على مبناه المتقدّم ( أو على إستفادة التقيّة من قرائن اُخر غير موافقة مذهب العامّة ) ومخالفتهم ، فليس ترجيحه رحمه الله عموم « خبر من زاد » ، على خصوص « خبر الجلوس » ، بمجرّد مخالفة العامة وموافقتهم حتّى يكون كلامه مبني على تقديم سائر التراجيح على الترجيح بالدلالة ، بل إستفاد من دليل آخر من إجماع ونحوه كون خبر الجلوس للتقيّة وإلاّ كان مقتضى القاعدة أن يجمع بين المطلق والمقيّد ، وذلك بحمل المطلق على المقيّد كما هو مقتضى الجمع الدلالي .

( ومنها : ما تقدّم من بعض المحدّثين : من مؤاخذة ) ومنع ( حمل الأمر والنهي

ص: 155

على الاستحباب والكراهة .

وقد يظهر من بعضٍ ، الفرقُ بين العامّ و الخاصّ ، والظاهر في الوجوب والنصّ في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه وبين غيرهما ممّا كان تأويلُ الظاهر فيه بعيداً ، حيث قال ، بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العامّ و الخاصّ ، و الظاهر في الوجوب ، والنص في الاستحباب :

-----------------

على الاستحباب والكراهة ) فيما إذا كان هناك خبر يدلّ على الاستحباب نصّا وخبر آخر ظاهره الوجوب ، أو كان هناك خبر يدلّ على الكراهة نصّا وخبر آخر ظاهره التحريم ، فانّه يجب أن يحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب ، وما ظاهره التحريم على الكراهة ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم زيدا ، وقال : لا بأس بترك إكرام زيد ، فانّ لا بأس بترك اكرام زيد نصّ في الجواز ، فيوجب حمل اكرام زيدا الظاهر في الوجوب عليه فيكون اكرامه مستحبّا ، وكذلك إذا قال : لا تكرم زيدا ، وقال : لا بأس باكرامه ، فانّ لا بأس باكرامه نصّ في الجواز ، فيوجب حمل لا تكرم زيدا الظاهر في الحرمة عليه ، فيكون إكرامه مكروها ، لكن بعض المحدّثين قال : إنّ أمثال هذا الجمع غير صحيح ، لأنّ لم يرد في النصوص التصريح به .

( و ) منها : ما ( قد يظهر من بعض : الفرق بين العام والخاص ، والظاهر في الوجوب ) أو الحرمة ( والنصّ في الاستحباب ) أو الكراهة ( وما يتلوهما في قرب التوجيه) بالجمع بينهما مثل: «اغتسل للجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» (وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ) فأقرّ بصحّة الجمع الدلالي فيما عدا الأخير الذي يكون التأويل بعيدا فيه (حيث قال ، بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ ، والظاهر في الوجوب ، والنصّ في الاستحباب ) أو الظاهر

ص: 156

« استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القُبلة أو مسّ باطن الفرج لاينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما .

وقال : بأنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستندٌ إلى النصّ المذكور ، و أمّا الحكمُ باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ؛ لأن تأويل كلامهم لم يثبت حجيّته ، إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعملُ به محتاج إلى مستند شرعي ، و مجرّد أولويّة الجمع غير صالح » .

أقول : - بعدما

-----------------

في الحرمة والنصّ في الكراهة ( إستشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القُبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما ) فانّ مقتضى الجمع الدلالي الحكم باستحباب إعادة الوضوء على ما عرفت .

لكن هذا البعض أشكل في هذا الاستحباب ( وقال : بأنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستندٌ إلى النصّ المذكور ) وهو أنّ القُبلة ومسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ( وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ) قال : ( لأنّ تأويل كلامهم ) أي : كلام المعصومين عليهم السلام بالاستحباب فيما ظاهره الوجوب ( لم يثبت حجيّته ، إلاّ إذا فهم من الخارج ) من إجماع أو سيرة أو نحوهما ( إرادته ) أي : إرادة ذلك التأويل وهو الاستحباب هنا ( و ) من المعلوم أنّ ( الفتوى والعمل به ) أي : بذلك التأويل الذي هو الاستحباب ( محتاج إلى مستند شرعي ، ومجرّد أولوية الجمع ) بين الدليلين ( غير صالح ) للاستناد .

( أقول ) : لا مجال لهذا الكلام ، وذلك لأنّ له مستندا ظاهرا خصوصا ( بعدما

ص: 157

ذكرنا - من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ و الخاصّ و شبهه ، بعينه جار في ما نحن فيه ، و ليس الوجه في الجمع شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ، مع أنّ حمل الظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضاً شائع على ما اعترف به سابقاً .

-----------------

ذكرنا : من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاص وشبهه ) من موارد النصّ والظاهر هو ( بعينه جارٍ فيما نحن فيه ) أي : فيما كان الجمع الدلالي فيه بحاجة إلى تأويل بعيد ، فانّه وإن كان التأويل بعيدا إلاّ أنّ العرف يرى هذا الجمع صحيحا ، وذلك لأنّ المعصومين عليهم السلام إنّما تكلّموا بحسب العرف ، والعرف لا يفرّق فيما يصحّ فيه الجمع الدلالي بين العام والخاص المطلقين ، وبين ما يحتاج إلى تأويل قريب ، وبين ما يحتاج إلى تأويل بعيد.

هذا ( وليس الوجه في الجمع ) أي : ليس ملاك الجمع بحسب الدلالة هو : ( شيوع التخصيص ) أو شيوع التقييد - مثلاً - حتّى ينحصر الجمع بباب العام والخاص ، أو ينحصر بباب المطلق والمقيّد ، بل وجه الجمع هو حمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومثل ذلك لا يختّص بالعامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وإنّما يجري فيما يرى العرف الجمع بينهما سائغا كما قال : ( بل المدار على إحتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ) كما فصّلناه سابقا ، وهذا هو الجواب الأوّل عن المستشكل ، وكان في مناقشة الكبرى.

ثمّ إنّ المصنّف بدأ بمناقشة الصغرى ، فقال : ( مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شايع على ما إعترف به سابقا ) وهذا هو جواب ثانٍ عن ذلك المستشكل وهو : انّه قد إعترف فيما سبق : بأنّه كما انّ تخصيص

ص: 158

وليت شعري : ما الذي أراد بقوله : « وتأويل كلامهم لم يثبت حجيّته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته » ؟ .

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء ، وعدم البناء على أنّه كلامهم ، فأين كلامُهم حتى يمنع من تأويله إلاّ بدليل ، وهل هو إلاّ طرح السند لأجل الفرار عن تأويله ، وهو غير معقول ؟ ! .

-----------------

العام شايع ، فكذلك حمل اللفظ الظاهر في الوجوب أو الحرمة ، على الاستحباب أو الكراهة شايع أيضا ، وهذا إعتراف منه بتحقّق الصغرى وهو : وقوع الجمع بين الظاهر في الوجوب ، والنص في الاستحباب.

ثمّ قال : ( وليت شعري ) أي : ليتني كنت أشعر وأعلم ( ما الذي أراد ) هذا البعض ( بقوله : وتأويل كلامهم ) عليهم السلام ( لم يثبت حجيّته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته ) أي : إرادة ذلك التأويل ؟ ثمّ أشكل عليه المصنّف : بأنّه لو لم يقل هذا البعض بتأويل كلامهم عليهم السلام يعني : لم يحمل ظاهر الوجوب على أظهريّة الاستحباب فما يصنع به ؟ هل يطرح الظاهر ، أو يحمله على التقيّة ؟ وكلاهما محل نظر .

وعليه : ( فإن بنى ) هذا البعض ( على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء ، و ) معنى طرحه هو : ( عدم البناء على أنّه كلامهم ) عليهم السلام ، وإذا كان معنى طرحه هو ذلك ( فأين كلامهُم ) عليهم السلام ؟ إذ لم يبق للأئمّة عليهم السلام كلام بعد طرح الظاهر في الوجوب ( حتّى يمنع من تأويله إلاّ بدليل ) كما قاله هذا البعض ( وهل هو ) أي : طرح الظاهر في الوجوب ( إلاّ طرح السند لأجل الفرار عن تأويله ، وهو غير معقول ؟ ) فانّ العقل لا يوافق على الطرح فيما إذا كان العرف يرى الجمع ، وذلك لأنّ كلامهم عليهم السلام ملقى إلى العرف .

ص: 159

وإن بني على عدم طرحه ، وعلى التعبّد بصدوره ، ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضاً قريبٌ من الأوّل ، إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ، إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه .

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي إذا دار الأمرُ بين طرح سنده و حمله و تأويله فلا شكّ في أنّ المتعيّن تأويله و وجوب العمل على طبق التأويل ،

-----------------

هذا ، إن بني هذا البعض على طرح الظاهر ، وقد عرفت ما فيه ( وإن بنى على عدم طرحه ، وعلى التعبّد بصدوره ، ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريبٌ من الأوّل ) أي : كما إنّ بناءه الأوّل كان معناه : طرح كلامهم عليهم السلام فهذا الثاني يكون أيضا كذلك .

وإنّما يكون هذا قريبا من الأوّل ( إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ) فأيّة فائدة في أن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر ؟ ولما نسأل الشارع عن فائدة هذا التعبّد ؟ يقول : فائدته الحمل على التقيّة الذي معناه عدم العمل بذلك الخبر ( بل لا معنى لوجوب التعبّد به ) أي : بالخبر المحمول على التقيّة ( إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه ) أي : على هذا الخبر الذي يحمل على التقيّة ، فيكون التعبّد بسنده من غير فائدة .

( وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي ) الذي ليس بمقطوع السند ( إذا دار الأمر بين طرح سنده و ) ذلك بمعنى ( حمله ) على التقيّة ( و ) بين ( تأويله ) وذلك بمعنى حمل الظاهر فيه على الأظهر أو على النصّ ( فلا شكّ في أنّ المتعيّن ) هنا هو : ( تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ) وذلك لأنّه هو الذي يراه العرف لقاعدة حمل الظاهر على الأظهر ، وقاعدة حمل الظاهر

ص: 160

ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّةً ، فراراً عن تأويله .

وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر .

والأظهريّةُ قد تكونُ بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة .

-----------------

على النصّ ( ولا معنى لطرحه ) أي : طرح سند الخبر الظاهر ( أو الحكم بصدوره تقيّة ، فرارا عن تأويله ) لأنّ الحمل على التقيّة أيضا عبارة اُخرى عن الطرح .

هذا ، ( وسيجيء زيادة توضيح ) على ( ذلك إن شاء اللّه تعالى ) في محلّه ، وذلك بعد أن تبيّن أنّ اللازم في التعارض البدوي من العامّ والخاص ، والظاهر والأظهر والنصّ ، هو الجمع الدلالي العرفي بينهما ، لا طرح الظاهر ، أو حمله على التقيّة .

وعليه : ( فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر ) كما يرجّح النصّ على الظاهر ( و ) لا يخفى انّ ( الأظهريّة ) على أقسام كالتالي :

الأوّل : إنّ الأظهرية في أحد المتعارضين ( قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة ) الخارجية ، سواء كانت قرائن حالية أو قرائن مقالية ، فالقرينة الحالية : كما إذا ورد عالم فاسق في مجلس المولى فلم يقم له ولم يكرمه ، ثمّ قال لعبده : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فانّ عمل المولى قرينة حالية ، على أنّ العالم الفاسق داخل في لا تكرم الفسّاق ، وليس داخلاً في أكرم العلماء لتلك القرينة العملية ، والقرينة المقالية : كما لو قال المولى : الأب مهما كان فانّه محترم ، وبعد مدّة قال : أكرم الأرحام ولا تكرم الفسّاق ، فانّ الأب

ص: 161

وهذا لايدخل تحت ضابطة ، وقد يكونُ بملاحظة نوع المتعارضين .

كأن يكون أحدُهما ظاهراً في العموم ، والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ، فيقع الكلامُ

-----------------

الفاسق داخل في أكرم بتلك القرينة اللفظيّة.

( وهذا ) القسم الذي يحتاج إلى القرائن العملية أو اللفظية في جعل أحد المتعارضين أظهر ( لا يدخل تحت ضابطة ) بل منوط بإستظهار الفقيه القرائن الخارجية والداخلية ، فربّما يستظهر فقيه القرينة لإعطاء مادّة الاجتماع للموجبة ، وربّما يستظهر فقيه آخر القرينة لإعطائها للسالبة .

الثاني : ( وقد يكون ) أي : الأظهريّة ( بملاحظة نوع المتعارضين ) لا خصوص المتعارضين ، الذي كان في القسم الأوّل ، وقد عقد الاُصوليون للقرائن الداخلة تحت هذه الضابطة باب تعارض الأحوال التي هي عبارة عن المجاز والاضمار ، والنسخ والتخصيص ، والنقل والاشتراك ، فيما إذا دار لفظ بين حالين من هذه الأحوال ، فهل يقدّم هذا على ذاك ، أو يقدّم ذاك على هذا ؟ وقد ذكر هذا المبحث في القوانين وغيره مفصّلاً ، وذلك ( كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم ، والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ) .

مثلاً : إذا قال : « الماء كلّه طاهر » (1) ، وقال : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) ، فانّ مفهوم الشرط هو : تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بينما منطوق الكليّة عبارة عن : طهارة الماء القليل حتّى ولو لاقى النجاسة ( فيقع الكلامُ

ص: 162


1- - الامالي للصدوق : ص645 ، الكافي فروع : ج3 ص1 ح2و3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص215 ب10 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

في ترجيح المفهوم على العموم ، وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ ، والتخصيص والتقييد ، وقد يكونُ باعتبار الصنف ، كترجيح

-----------------

في ترجيح المفهوم على العموم ) فهل يرجّح المفهوم لأنّه خاص ، فتكون نتيجته : نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، أو يرجّح العموم لأنّ دلالته بالمنطوق ، فتكون نتيجته : طهارة الماء القليل حتّى ولو لاقى النجاسة ؟ لكن العرف يقدّمون المفهوم على العموم ، ولذا يحكمون بنجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة .

( وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ ) كما إذا قال أوّلاً : « لا تكرم فسّاق العلماء » ، ثمّ قال بعد ذلك : « أكرم العلماء » ، فهل الخاص المتقدّم زمانا يخصّص العام المتأخّر لأنّه الشايع دون النسخ ، فتكون النتيجة : عدم جواز إكرام الفسّاق من العلماء ، أو انّ أكرم العلماء المتأخّر ينسخ لا تكرم فسّاق العلماء المتقدّم زمانا ، لأنّه مقتضى تأخير العام على الخاص ، فتكون النتيجة : وجوب إكرام العالم الفاسق ؟ فأيّهما يكون المقدّم ؟ .

( و ) ك- ( التخصيص والتقييد ) وذلك كما إذا قال : اعط الفقير ، وقال : كلّ غصب حرام ، وإستلزم إعطاء الفقير دخول أرض الغير ، فيتعارضان حينئذٍ ، فهل يقدّم عموم حرمة الغصب لأنّ دلالته بالوضع فيقيّد إطلاق إعطاء الفقير ، فتكون النتيجة حرمة الاعطاء ، أو يقدّم إطلاق إعطاء الفقير لأنّه خاص فيخصّص عموم حرمة الغصب ، فتكون النتيجة وجوب إعطاء الفقير ، فانّ أمثال هذه الاُمور هي باعتبار القرائن النوعيّة .

الثالث : ( وقد يكون ) أي : الأظهرية ( باعتبار الصنف ) أي : صنف المتعارضين وهو النوع مع إضافة قيد إليه كالانسان العالم - مثلاً - وذلك ( كترجيح

ص: 163

أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبعد التخصيص أو التقييد فيه .

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل :

الاولى : لا إشكال

-----------------

أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبُعد التخصيص أو التقييد فيه ) أي : في ذلك العام أو في ذلك المطلق ، فلو كان أحد العامّين - مثلاً - أقلّ أفرادا من العام الآخر ، أو أحد المطلقين أقل أفرادا من المطلق الآخر ، فيكون العام الأقل أفرادا مخصّصا للعام الأكثر افرادا ، والمطلق الأقل أفرادا مقيّدا للمطلق الأكثر أفرادا ، فإذا ورد : أكرم العلماء المتّقين ، وكان له ألف فرد ، وورد : لا تكرم الناس المرائين ، وكان له ثلاثة أفراد فقط ، إثنان من غير العلماء وعالم واحد مرائيا ، فإذا اُعطي هذا العالم الواحد لأكرم العلماء ، بقي لا تكرم المرائين له فردان فقط ، بينما إذا اُعطي للا تكرم المرائين ، بقي لأكرم العلماء ألف فرد إلاّ فردا واحدا ، فانّ العرف يرى اعطاءه للا تكرم المرائين ، لأنّ اعطاءه لأكرم العلماء يراه بعيدا ، وكذلك في المطلقين .

( ولنشر ) الآن بعد وضوح المرجّحات الشخصيّة في القسم الأوّل ، وقبل ذكر المرجّحات الصنفيّة في القسم الثالث ( إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة ) في القسم الثاني من أقسام مرجّحات الدلالة التي تكون تلك المرجّحات مرجّحا ( لظاهر أحد المتعارضين ) على ظاهر الآخر ( في مسائل ) وذلك للتمرين ، وشحذ الذهن ، وذكر النموذج والمثال .

المسألة ( الاُولى : ) إذا تعارض النسخ وهو قطع الاستمرار الزماني ، مع التخصيص وهو قطع الاستمرار الافرادي ، فأيّهما يقدّم ؟ قال : ( لا إشكال

ص: 164

في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره باستمرار الشريعة على ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، و يعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العامّ

-----------------

في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع ) أي : في مقام إنشاء الحكم الشرعي الأعمّ من التكليفي والوضعي ( في إستمراره ) أي : إستمرار ذلك الحكم زمانا ( باستمرار الشريعة ) وهذا معنى ظهور العام في العموم الأزماني ، وذلك لأنّه قد قامت الأدلّة الأربعة على أنّ الشريعة مستمرة ، ومعنى إستمرار الشريعة : إستمرار أحكامها ، فيقدّم ظهور العام في العموم الأزماني ( على ظهور العام في العموم الأفرادي ) .

وعليه : فانّ كلّ حكم شرعي عام له عمومان : عموم أزماني وعموم أفرادي ، فإذا انثلم العموم الأزماني كان معناه : النسخ ، وإذا إنثلم العموم الأفرادي كان معناه : التخصيص ، والتخصيص مقدّم على النسخ ، فينثلم العموم الأفرادي دون الأزماني .

هذا ( ويعبّر عن ذلك : بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون إحتمال المنسوخية في العام ) كما إذا قال المولى أوّلاً : أكرم العلماء ، وقال ثانيا : لا تكرم فسّاقهم ، وإحتملنا أنّ قوله لا تكرم فسّاقهم جاء بعد وقت العمل بالعام حتّى يكون ناسخا ، أو قبل وقت العمل به حتّى يكون مخصّصا ، قدّم التخصيص على النسخ ، فيقال : ظهور العام في الاستمرار والعموم الأزماني المستلزم لكون الخاص مخصّصا ، أقوى من ظهوره في العموم الأفرادي المستلزم لكون الخاص ناسخا ، فيؤخذ عمومه الأزماني لا عمومه الأفرادي ،

ص: 165

أو في الخاصّ ، والمعروفُ تعليلُ ذلك

-----------------

ممّا نتيجته : أن يكون الخاص مخصّصا لا ناسخا .

( أو ) يكون إحتمال المنسوخية ( في الخاص ) كما إذا قال المولى أوّلاً : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ثمّ قال بعد ذلك : أكرم العلماء ، فلم نعلم هل صدر العام بعد وقت العمل بالخاص حتّى يكون العام ناسخا للخاص ، أو قبل وقت العمل بالخاص حتّى يكون الخاص مخصّصا للعام فيستمرّ حرمة إكرام الفسّاق ؟ فانّ التخصيص هنا مقدّم على النسخ ، وذلك بأن يقال : ظهور الخاص في الاستمرار والعموم الأزماني المستلزم لكونه مخصّصا للعام ، أقوى من ظهور العام في العموم الأفرادي المستلزم لكونه ناسخا للخاص ، فيحكم بالتخصيص .

ثمّ أنّ الثمرة التي يمكن أن تترتّب على كون الشيء مخصّصا لا ناسخا هو : انّه لا يلزم القضاء بالنسبة إلى الأعمال الواجبة بين ورود الخطاب الأوّل وورود الخطاب الثاني ، بينما لو كان ناسخا لزم قضاء الأعمال الواجبة بين الورودين ، فإذا قال المولى في يوم الجمعة - مثلاً - : اعط لكلّ عالم في كلّ يوم درهما ، ثمّ قال يوم الأحد : لا تعط زيدا كلّ يوم درهما ، فانّه لو كان تخصيصا لا يلزم اعطاء زيد درهما في يوم الجمعة ، ولا في يوم السبت ، وذلك لأنّه قد خرج زيد عن وجوب الاعطاء من أوّل حكم العام ، وأمّا إذا كان نسخا فقد وجب اعطاؤه الدرهمين : درهما ليوم الجمعة ودرهما ليوم السبت ، وذلك لأنّه إنّما نسخ وجوب اعطائه من يوم الاحد .

هذا ( والمعروف تعليلُ ذلك ) أي : تعليل تقديم التخصيص على النسخ

ص: 166

بشيوع التخصيص وندرة النسخ ، وقد وقع الخلاف في بعض الصور .

وتمام ذلك في بحث العامّ والخاصّ من مباحث الألفاظ .

وكيف كان : فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ يتعيّن فيه النسخ .

-----------------

( بشيوع التخصيص وندرة النسخ ، و) من المعلوم : أنّ العرف لا يحمل كلام المولى على النادر ، بل يحمله على الشايع ، ولكن مع ذلك ( قد وقع الخلاف في بعض الصور ) مثل ما لو تقدّم الخاص ثمّ جاء العام ، فقد إختُلف في أنّه هل العام ناسخ للخاص أو الخاص مخصّص للعام؟ ( وتمام ذلك ) البحث يكون ( في بحث العام والخاص من مباحث الألفاظ ) ولذا لا نعيده هنا .

( وكيف كان : ) فانّه سواء قدّمنا التخصيص في جميع الصور كما هو مذهب جمع ، أو قلنا بتقديم النسخ على التخصيص في بعض الصور ( فلا إشكال ) بنظر المصنّف ( في أنّ إحتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ) وإلاّ كان ناسخا ، وذلك لأنّه قد عمل بهذا الفرد من العام ثمّ رفع العمل بذلك الفرد ، وليس النسخ إلاّ ما عمل به في مدّة ثمّ إرتفع .

( كما أنّ إحتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ) أي : بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، وإلاّ تعيّن التخصيص ، فانّ التخصيص عبارة عن إخراج بعض الأفراد من حكم العام من أوّل الأمر ، وقبل حضور وقت العمل بالعام .

وعليه : ( فالخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ ) بنظر المصنّف ، وذلك لأنّ المفروض أنّ هذا الفرد من العام قد عمل به مدّة

ص: 167

وأمّا ارتكابُ كون الخاصّ كاشفاً عن قرينة كانت مع العامّ واختفت ، فهو خلافُ الأصل ، والكلام في علاج المتعارضين ، من دون التزام وجود شئ زائد عليهما .

نعم ، لو كان هناك دليلٌ على امتناع النسخ

-----------------

ثمّ إرتفع العمل به ، وليس معنى النسخ إلاّ هذا .

لا يقال : كيف قلتم أيّها المصنّف : « فالخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ » مع انّه في هذه الصورة قد يقال : بأنّه لا يتعيّن فيه النسخ ، بل يحتمل فيه التخصيص أيضا ، وذلك لإندفاع قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بإحتمال ورود العام مقارنا لقرينة التخصيص ، لكن قد إختفت تلك القرينة ، فجاء هذا الخاص المتأخّر ليكون كاشفا عن ذلك الخاص المتقدّم الذي إختفى ؟ .

لأنّه يقال : ( وأمّا إرتكاب كون الخاص كاشفا عن قرينة كانت مع العام وإختفت ) فيكون الخاص المتأخّر تخصيصا لا ناسخا ، فانّ فيه ما يلي :

أوّلاً : ( فهو خلاف الأصل ، و) ذلك لأنّا إذا شككنا في وجود القرينة وعدمها فالأصل عدم القرينة .

ثانيا : مع انّ ( الكلام ) هنا إنّما هو ( في علاج المتعارضين ، من دون التزام وجود شيء ) آخر ، كالقرينة التي يحتمل إختفاؤها ( زائد عليهما ) أي : على المتعارضين ، فانّ كلامنا فيما لم يكن هناك قرينة في البين ، وحينئذٍ يكون الخاص المتأخّر ناسخا لا مخصّصا .

( نعم ) قد يتعيّن النسخ في هذا القسم لو لم يكن النسخ ممنوعا ، وإلاّ ( لو كان هناك دليل على إمتناع النسخ ) كما ربّما يقال بإمتناعه بعد إنقطاع الوحي

ص: 168

وجب المصيرُ إلى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل أو جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين واقعاً ، مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعملهم بظهوره .

وبعبارة أخرى : تكليفهم ظاهراً هو العملُ بالعموم .

-----------------

عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا نسخ في زمن الأئمّة عليهم السلام ، وإذا كان كذلك ( وجب المصيرُ إلى التخصيص مع التزام إختفاء القرينة حين العمل ) بالعام ، وذلك بأن يقال - مثلاً - : انّ العام الصادر عن الإمام الصادق عليه السلام كان مقرونا بقرينة قطعا ، لكن اختفت ، فلمّا ذكر الإمام الكاظم عليه السلام الخاص كان هذا الخاص مخصّصا لا انّه ناسخا ، وذلك لأنّ النسخ حسب الفرض ممتنع ، فيكون هذا الخاص قرينة على أنّ العام الذي ذكره الإمام الصادق عليه السلام كان مقرونا بقرينة التخصيص ، لكن إختفت تلك القرينة علينا .

إذن : فالخاص المتأخّر عن وقت العمل بالعام يكون مخصّصا لو كان هناك ما يدلّ على إمتناع النسخ ( أو ) ما يدلّ على ( جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين ) يعني : بأنّ ذكر الإمام الصادق عليه السلام - مثلاً - العام بدون قرينة على التخصيص ، مع انّه أراد ( واقعا ) لأجل مصلحة أهمّ خلاف ظاهر العام ، فانّ الواقع كان مخصّصا ، لأنّ الإمام أراد ذلك الواقع المخصّص لكن من دون بيانه ، بل ( مع مخاطبتهم ) أي : المخاطبين ( بالظاهر ) بمثل أكرم العلماء ( الموجبة ) تلك المخاطبة ( لعملهم بظهوره ) أي : بظهور ذلك العام ، فانّه إن جاز ذلك ، كان الخاص المتأخّر مخصّصا أيضا ، لا ناسخا .

( وبعبارة اُخرى : تكليفهم ) واقعا ، كائن باكرام من عدا زيد من العلماء . لكن تكليفهم الآن ( ظاهرا هو العمل بالعموم ) وإنّما اُخّر التخصيص لمصلحة أهمّ في ذلك .

ص: 169

ومن هنا يقع الاشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام النبي أو الوصي ، أو بعض الأئمّة عليهم السلام ، بالمخصّصات الواردة بعد ذلك بمدّة عن باقي الأئمّة ، فإنّه لابدّ أن يرتكب فيه النسخُ .

أو كشفُ الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية ، أو كونُ المخاطبين بالعام تكليفُهم - ظاهراً - العملُ بالعموم ، المراد به الخصوصُ واقعاً .

-----------------

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكره المصنّف : من انّه لا يمكن التخصيص بعد وقت العمل إلاّ مع أحد الشرطين : إمتناع النسخ ، أو جواز إرادة خلاف الظاهر ( يقع الاشكالُ في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام ) اللّه سبحانه وتعالى ، وفيما روي عن ( النبي ) صلى الله عليه و آله وسلم ( أو الوصي ، أو بعض الأئمّة عليهم السلام ) تخصيصا ( بالمخصّصات الواردة بعد ذلك ) العام المتقدّم ( بمدّة ) من حضور وقت العمل بالعام ، وقد وردت تلك التخصيصات ( عن باقي الأئمّة ) عليهم السلام ( فانّه لابدّ أن يرتكب فيه ) أحد إحتمالات ثلاثة كالتالي :

الأوّل : ( النسخُ ) وذلك بالمعنى الذي يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى من المصنّف عند قوله : « أمّا النسخ فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ...» .

الثاني : ( أو كشف الخاص عن قرينة مع العام مختفية ) حتّى يكون تخصيصا من الأوّل .

الثالث : ( أو ) القول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأجل مصلحة أهمّ ، وذلك بمعنى : ( كونُ المخاطبين ، بالعام ) كان ( تكليفهم ) عند ذكر الإمام العام ( - ظاهرا - العمل بالعموم ، المراد به الخصوص واقعا ) إلى زمان بيان الإمام عليه السلام الخاص .

وهذا الاحتمال الثالث هو المختار ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى من المصنّف بيان

ص: 170

أمّا النسخُ - فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم بارادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله وسلم للوصي ، عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني - مدفوعٌ : بأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ،

-----------------

وجهه : من أنّ المصلحة هي تدريجيّة بيان الأحكام ، وذلك على ما هو عليه دأب عقلاء العالم ، والمعصومون عليهم السلام الذين هم سادة العقلاء كانوا يسيرون على ذلك المنهج علما بأنّ خلافه يوجب العُسر الأكيد والحَرج الشديد ، بل هو متعذَّر في أحيان كثيرة ، فهل كان الوضع - مثلاً - يسمح لواحد من الأئمّة عليهم السلام نظرا لتلك الظروف العصيبة والأيّام الصعبة أن ينشر بين الناس مليون حكم في وقت واحد إذا فرضنا انّ مجموع الأحكام مليون حكم؟ فانّه كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من الأحكام من الطهارة إلى الديّات ، فكذلك لا يمكن ذلك بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من التخصيصات للعمومات والتقييدات للمطلقات وإذا تبيّن ذلك فلنرجع إلى تفصيل ما أجملناه من الاحتمالات الثلاثة :

( أمّا ) تفصيل الاحتمال الأوّل وهو : ( النسخُ ، فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ) وذلك علما بأنّ النسخ لا يمكن أن يقع بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم وإنقطاع الوحي ، فإذا وقع شيء من ذلك في زمان أوصيائه وأهل بيته من الأئمّة المعصومين عليهم السلام وجب أن يوجّه ( بإرادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله وسلم للوصي ، عن غاية الحكم الأوّل وإبتداء الحكم الثاني ) يعني : انّه صلى الله عليه و آله وسلم بيّن مواضع النسخ لخلفائه وأودعها عندهم ليبيّنوها للناس في مواطنها ، ولذا ورد انّ الإمام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه إذا قام أظهر بعض الأحكام التي لم تكن معمولة قبله .

وكيف كان : فانّ النسخ حتّى مع توجيهه ( مدفوعٌ ) تحقّقه بما يلي :

أوّلاً : ( بأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ) أي :

ص: 171

مع أنّ الحمل على النسخ يوجب طرح ظهور كلا الخبرين في كون مضمونهما حكماً مستمرّاً من أوّل الشريعة إلى آخرها .

-----------------

على كونه من باب النسخ ، وذلك لبُعد إبتلاء العمومات في الشريعة بهذا المقدار الكبير من النواسخ ، فانّ النسخ في زمن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم على فرض تحقّقه كان قليلاً جدّا .

ثانيا : ( مع أنّ الحمل على النسخ ) في المخصّصات والمقيّدات التي أتت بعد مدّة من العمل بالعمومات والمطلقات ( يوجب طرح ظهور كلا الخبرين ) العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ( في كون مضمونهما حكما مستمرّا من أوّل الشريعة إلى آخرها ) بينما الحمل على التخصيص أوالتقييد لا يوجب ذلك .

مثلاً : لو أمر النبي صلى الله عليه و آله وسلم باكرام العلماء ، ونهى الإمام الصادق عليه السلام عن إكرام الفسّاق من العلماء ، كان كلّ من العام والخاص ظاهرا في إستمرار حكمه من أوّل الشريعة إلى آخرها ، وهذا الظهور إنّما يكون لو حملنا النهي عن إكرام الفسّاق من العلماء على التخصيص ، بمعنى أنّ الحكم كان من الأوّل إكرام العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، بينما لو حملناه على النسخ فلا يكون للحكم الأوّل الذي هو العموم إستمرار إلى آخر الشريعة ، وهو خلاف ظاهر أكرم العلماء ، كما لا يكون للحكم الثاني الذي هو حرمة اكرام الفسّاق من العلماء إستمرار من أوّل الشريعة ، بل من زمان الإمام الصادق عليه السلام حسب الفرض ، وهو خلاف ظاهر لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ومعه فيلزم على النسخ التصرّف في ظهور كلّ من العام والخاص والمطلق والمقيّد ، مع انّ هذا القسم من التصرّف في الأمرين المتعارضين يُعدّ من أسوء أنحاء التصرّف لأنّه خلاف المتفاهم عرفا .

ص: 172

إلاّ أن يفرض المتقدّم ظاهراً في الاستمرار والمتأخّر غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل الصدور ، فحينئذٍ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخر - كما لايخفى - وهذا لايحصلُ في كثير من الموارد بل أكثرها .

وأمّا اختفاء المخصّصات ، فيبعده - بل ويحيله عادةً - عمومُ البلوى بها من حيث العلم والعمل ،

-----------------

( إلاّ أن يُفرض المتقدّم ظاهرا في الاستمرار ) كقوله : أكرم العلماء ، حيث يكون ظاهرا في إستمرار اكرام العلماء إلى آخر الشريعة ( والمتأخّر ) الذي هو الخاص ( غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل الصدور ) فلا يكون لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ظاهرا في كونه حكما من أوّل الشريعة ، بل ظاهرا في انّه من زمان الإمام الصادق عليه السلام الذي قال هذا الخاص ( فحينئذ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخّر - كما لا يخفى - ) فتكون النتيجة من الحمل على النسخ حينئذ وجوب طرح ظهور العام فقط ( وهذا لا يحصلُ في كثير من الموارد بل أكثرها ) لأنّ الخاص ظاهر أيضا في انّه من أوّل الشريعة ، لا انّه حكم حدث من زمان الإمام الصادق عليه السلام ، ومع هذا الاشكال إذن لم يبق وجه للاحتمال الأوّل .

( وأمّا ) تفصيل الاحتمال الثاني وهو إلتزام إقتران العمومات بقرائن التخصيص في زمان ورود العمومات ، أو إقتران المطلقات بقرائن التقييد من أوّل ورود المطلقات ، ثمّ ( إختفاء المخصّصات ) والمقيّدات المتقارنة ، وهذه المخصّصات والمقيّدات المتأخّرة كاشفة عن تلك التي كانت مقترنة بالعمومات والمطلقات ( فيبعده ، بل ويحيله ) أي : يجعله مستحيلاً ( عادةً ) لا عقلاً ما يلي :

أوّلاً : ( عموم البلوى بها من حيث العلم والعمل ) فانّ ادّعاء كون هذه المخصّصات والمقيّدات كانت مقترنة بالعمومات والمطلقات من أوّل ورود

ص: 173

مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ، بل المعلومُ جهلهُم بها ، فالأوجهُ هو الاحتمال الثالث .

فكما أنّ رفع مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف كان على التدريج ، كما يظهر من الأخبار والآثار ، مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ،

-----------------

العموم والاطلاق ، وقد علم بتلك القرائن المتقدّمون وعملوا بها لعموم إبتلائهم بالنسبة إليها ، ثمّ خفيت تلك القرائن ممّا احتاجت مرّة ثانية إلى ذكر الإمام الصادق عليه السلام لها في غاية البعدُ ، وذلك لأنّه إن علم المتقدّمون بها وعملوا عليها ، جرت السيرة منهم على ذلك ولم تختف بعد مدّة حتّى تحتاج إلى ذكرها مرّة ثانية ، وعلى فرض تحقّق مثل هذا الشيء فهو يكون نادرا جدّا ، بينما نرى أنّ المخصّصات والمقيّدات ليست نادرة بل هي أكثر من أن تحصى .

ثانيا : ( مع إمكان دعوى العلم ) البديهي منّا ( بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ) أي : بهذه المخصّصات والمقيّدات ( بل المعلومُ ) تاريخيّا ( جهلهم ) وعدم إطّلاع أهل العصر المتقدّم ( بها ) أي : بهذه المخصّصات والمقيّدات ، وذلك لقلّة الكتب ، وشدّة الظروف ، وصعوبة الأيّام ، ومع هذا الاشكال إذن لم يبق وجه للاحتمال الثاني أيضا .

إذن : ( فالأوجهُ هو الاحتمال الثالث ) وهو : إلتزام تأخير البيان عن وقت الحاجة لأجل مصلحة أهم ( فكما أنّ رفع مقتضى البرائة العقليّة ببيان التكليف ) من قبل الشارع الحكيم ( كان على التدريج ، كما يظهر من الأخبار ) المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ( والآثار ) التاريخيّة من سيرة النبي صلى الله عليه و آله وسلم ( مع إشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ) من أوّل الاسلام ونزول القرآن

ص: 174

فكذلك ورودُ التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات .

فيجوز أن يكون الحكمُ الظاهري للسابقين ، الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات الذي يقتضيه العملُ بالعمومات ، وإن كان المراد منها

-----------------

( فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ) الرافع لمقتضى البرائة الشرعيّة يكون على التدريج أيضا.

وعليه : فحال هذه التخصيصات والتقييدات المتأخّرة عن العمومات والاطلاقات حال البيان المتأخّر عن وقت الحاجة ، فكما جاز أوّل الاسلام تأخير بيان التكاليف الواقعيّة ، الرافعة للبرائة العقليّة ، وهي : قبح العقاب بلا بيان ، الثابتة قبل الشرع ، لأجل مصلحة أهمّ ، فكذلك يجوز تأخير بيان المخصّصات والمقيّدات - مثلاً - لأجل مصلحة أهمّ ، علما بأنّ الجامع بين تأخير البيان وتأخير التخصيص والتقييد ، هو : تدريجيّة الأحكام حسب المتعارف كما ذكرناه في أوّل البحث .

وعلى هذا : ( فيجوز أن يكون الحكمُ الظاهري للسابقين ، الترخيص في ترك بعض الواجبات ) مثل ترك إكرام الفقهاء فيما إذا قال الإمام الصادق عليه السلام في زمانه : أكرم الفقهاء ، ولم يكن الحكم باكرام الفقهاء صادرا قبل ذلك ( و) الترخيص في ( فعل بعض المحرّمات ) مثل : اكرام الفسّاق من العلماء ، حيث لم يكن للسابقين محرّما حتّى أظهره الإمام الصادق عليه السلام وهذا الترخيص هو ( الذي يقتضيه العملُ بالعمومات ، و ) ذلك لأنّ العمل بعموم أكرام العلماء يقتضي إكرام الفسّاق منهم ، فيما إذا فرض ذكر العام أوّلاً وذكر التخصيص بعد مدّة من الزمان ، فانّ العمل بهذا المحرّم مرخّص لهم فيه لمصلحة أهمّ ( إن كان المراد منها ) أي : من العمومات

ص: 175

الخصوص الذي هو الحكم المشترك .

ودعوى : « الفرق بين إخفاء التكليف الفعلي ، وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة ، وبين إنشاء الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب » ممنوعةٌ .

غاية الأمر : إنّ الأوّل من قبيل عدم البيان ، والثاني من قبيل بيان العدم ،

-----------------

( الخصوص الذي هو الحكم المشترك ) بين السابقين واللاحقين .

( و ) إن قلت : هناك فرق بين إخفاء التكليف الفعلي من فعل الواجب وترك الحرام ، وبين إعلان الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب ، فالأوّل قبيح بخلاف الثاني .

قلت : إنّ ( دعوى : الفرق بين ) المقيس والمقيس عليه ، يعني : بين ما تستدعي فيه مصلحة التدريج إلى ( إخفاء التكليف الفعلي ، و) ذلك أوائل الاسلام المؤدّي إلى ( إبقاء المكلّف على ما كان عليه ) قبل الاسلام ( من الفعل والترك بمقتضى البرائة العقليّة ، وبين ) ما نحن فيه الذي هو ( إنشاء الرخصة ) له ( في فعل الحرام وترك الواجب ) فانّ دعوى الفرق بينهما ( ممنوعة ) لوجود مصلحة التدريج في كليهما معا .

( غايةُ الأمر : إنّ الأوّل ) أي : إخفاء التكليف الفعلي من فعل الواجب وترك الحرام على المكلّف لمصلحة التدريج كان ( من قبيل عدم البيان ) حيث لم يبيّن الحكم رأسا ( والثاني ) وهو إنشاء الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب بذكر العام والمطلق فقط ، يكون ( من قبيل بيان العدم ) وذلك لأنّه حيث بيّن العام والمطلق فقط ممّا معناه : انّه لا تخصيص ولا تقييد أبدا ، فقد بيّن عدم الوجوب

ص: 176

ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة ، مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده في الكلّ ، بمثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع : « معاشر الناس ما من شئيُقرّبكم إلى الجنّة الاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يُباعدكم عن النار إلاّ وقد نهيتكم عنه » .

-----------------

وعدم الحرمة ( ولا قبح فيه ) أي : في تأخير أصل الحكم رأسا ، أو تأخير التخصيص والتقييد في الحكم ( بعد فرض المصلحة ) لذلك التأخير فيهما جميعا .

( مع أنّ بيان العدم قد يُدّعى وجوده في الكلّ ) : الأوّل والثاني ، وذلك ( بمثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع : « مَعاشِرَ النّاس ما مِن شَيء يُقرّبُكمُ إلى الجنّة اِءلاّ وقَد أمرَتُكمُ بِه ، وَمَا مِن شَيءٍ يُباعِدُكُم عن النّار إلاّ وقد نهيتُكُم عنه » (1) ) فانّ معنى هاتين الجملتين هو : بيان عدم وجود حكم من واجبات ومحرّمات غير التي بيّنها صلى الله عليه و آله وسلم ، مع وضوح : إنّ هناك واجبات ومحرّمات لم يبيّنهما ، ولعلّ مراده من بيانهما هو : الايداع عند الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين حيث هم يبيّنون تلك الأحكام التي لم يبيّنها صلى الله عليه و آله وسلم .

ثمّ إنّ لفظ الخطبة إن كان كما نقله المصنّف : « وَما من شَيءٍ يُباعِدكُمُ عن النار » أي : يباعدكم عن النار إجتنابه ، فانّ إجتناب الحرام يُبعد عن النار ، ولكن في بعض النسخ جاء بهذا النحو : « مَعاشِرَ الناس! ما مِن شيء يُقرّبُكُم إلى الجنّة ويُباعدُكُم عَنِ النّار إلاّ وقَدَ أمرَتُكُم بِهِ ، وَمَا مِن شيءٍ يُباعِدُكُم مِنَ الجنّةِ ويقرّبُكُم

ص: 177


1- - وقريب من هذا النص ورد في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 .

بل يجوز أن يكون مضمون العموم والاطلاق وهو الحكم الالزامي واخفاء القرينة المتضمنة لنفي الالتزام ، فيكون التكليفُ حينئذٍ لمصلحة فيه ، لا في المكلّف به .

-----------------

إلى النار إلاّ وقَدَ نهيتُكُم عَنهُ » (1) .

وكيف كان : فانّ بيان العدم قد يدّعى في الكلّ ( بل يجوز أن يكون مضمون العموم ) في مثل أكرم العلماء ( والاطلاق ) في مثل أكرم العالم ( وهو : الحكم الالزامي ) الظاهر من العام ( و) المطلق ، مع ( إخفاء القرينة ) المخصّصة أو المقيّدة في مثل لا تكرم زيدا ( المتضمنّة لنفي الالزام ) يعني : إنّ الفرض قد تعلّق بالحكم الالزامي وإخفاء القرينة معا ( فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه ) أي : في التكليف نفسه ( لا في المكلّف به ) فالشارع إنّما ألزم اكرام زيد في قوله : أكرم العلماء ، أو أكرم العالم ، ولم يبيّن تخصيصه ، أو تقييده ، لمصلحة موجودة في نفس التكليف بهذا العموم أو الاطلاق ، وأمّا المكلّف به فلو عمل العامل به واتّفق وجود مفسدة فيه ، فلابدّ من أن يتدارك له .

هذا ، ولا يخفى : إنّ المصنّف قد ادّعى إلى هنا في مسألة تأخير بيان أصل الحكم ، أو تأخير بيان التخصيص والتقييد مطالب متدرّجة كالتالي :

أوّلاً : انّه لا فرق بينهما ، بل كلاهما من نسق واحد ، حتّى وإن كان يبدوأنّ الأوّل من قبيل عدم البيان والثاني من قبيل بيان العدم .

ثانيا : إنّ كليهما من قبيل بيان العدم ، لأنّه لمّا سكت عن بيان أصل الحكم . أو سكت عن بيان التخصيص والتقييد ، فكأنّه بيّن بسكوته عدم وجود حكم ، أو عدم وجود تخصيص وتقييد .

ص: 178


1- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

فالحاصل : إنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار ، والظاهر من خلو العمومات والمطلقات عن القرينة أنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، جعل الوصي عليه السلام مبيّناً لجميع ما أطلقه وأطلق في كتاب الله ، وأودعه علم ذلك وغيره ، وكذلك الوصي بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجميعن ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه .

-----------------

ثالثا : إنّ الفرض - في صورة تأخير بيان التخصيص والتقييد - متعلّق بالحكم الالزامي وإخفاء القرينة معا ، بحيث يكون المصلحة في نفس التكليف ، فلو اتّفق في المكلّف به عند العمل به مفسدة للعامل تدارك له .

( فالحاصل : إنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار ) التي وردت بكثرة في زمن الأئمّة الطاهرين عليهم السلام في تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ممّا تأبى تلك التخصيصات والتقييدات من الحمل على النسخ ( و ) كذا ( الظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ) لا أنّ القرينة كانت واختفت عن اللاحقين هو : ( أنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، جعل الوصي ) عليّا أمير المؤمنين ( عليه السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه وأطلق في كتاب اللّه ، وأودعه ) أي : أودع النبي عليا عليه السلام ( علم ذلك و ) علم ( غيره ) من الأحكام التي لم بيّنها إطلاقا ممّا لزم على علي عليه السلام بيانها ، لأنّه يأتي وقت تلك الأحكام بعد ذلك .

( وكذلك الوصي بالنسبة إلى من بَعَدهُ من الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في اخفائه ) سواء كان ما رأوا المصلحة في بيانه تقييدا أو تخصيصا لما سبق بيانه من العمومات والمطلقات ، أو بيان أصل الحكم ممّا لم يسبق بيانه في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وهكذا بالنسبة إلى كلّ إمام إمام .

ص: 179

فان قلت : اللازمُ من ذلك عدمُ جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ، بناءا على اختصاص الخطاب بالمشافهين ، أو فرض الخطاب في غير الكتاب .

إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها في الواقع إرادةُ العموم ،

-----------------

( فان قلت : اللازمُ من ذلك ) الذي ذكرتم : من جواز الخطاب بعمومات ومطلقات لا يراد منها العموم والاطلاق ، لمصلحة في ذلك الخطاب هو : ( عدمُ جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ) وأصالة عدم التقييد في المطلقات ، يعني : انّه إذا جاز تأخير البيان لمصلحة في التأخير ، جاز إرادة خلاف الظاهر من دون نصب قرينة ، فعدم نصب القرينة لا يدلّ على إرادة العموم والاطلاق ، ومعه فلا نفع في أصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ، ويكون الخطاب مجملاً ، فكيف تقولون بجواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ؟ .

وبعبارة اُخرى : انّه إذا جاز تأخير البيان ، فمن أين يُعلم أنّ العام اُريد به العموم ، والمطلق اُريد به الاطلاق ، وحينئذ يكون العام والمطلق مجملاً ، فلا يمكن التمسّك بهما ، لأنّه لا يمكن التمسّك بأصالة عدم التخصيص وعدم التقييد فيهما ، وهذا ( بناءا على إختصاص الخطاب بالمشافهين ، أو فرض الخطاب في غير الكتاب ) أي : في الأخبار حيث انّه خاص بالمشافهين أيضا ، فانّه بناءا على ذلك لا بناءا على شمول الخطاب لنا أيضا ، ليس لنا التمسّك بأصالة العموم ، أو أصالة الاطلاق ، الجارية في حقّ المشافهين والحكم بإشتراكنا معهم في العموم والاطلاق ، وذلك لأنّه كما قال : ( إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها ) أي : لتلك العمومات والاطلاقات ( في الواقع إرادة العموم ) والاطلاق .

ص: 180

لأن المفروض حينئذٍ جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب .

قلت : المستندُ في إثبات أصالة الحقيقة بأصالة عدم القرينة قبحُ الخطاب بالظاهر المجرّد وإرادة خلافه ، بضميمة أنّ الأصل الذي استقرت

-----------------

وإنّما لا يلزم من عدم المخصّص والمقيّد إرادة العموم والاطلاق ( لأنّ المفروض حينئذ ) أي : حين بنينا على إختصاص الخطاب بالمشافهين ( جواز تأخير المخصّص ) والمقيّد ( عن وقت العمل بالخطاب ) لمصلحة في ذلك التأخير ، ومعه فمن أين لنا انّه اُريد من العام أو المطلق ظاهره إذ من الممكن انّه لم يرد عمومه أو إطلاقه حين الخطاب ، وإنّما خصّص أو قيّد بعد ذلك بما لم يصل التخصيص أو التقييد إلينا ، فأصالة عدم المخصّص أو عدم المقيّد لا تجري في هذه الحال بالنسبة إلينا .

( قلت : ) أصالة عدم القرينة محكّمة إلاّ إذا رأينا تخصيصا أو تقييدا ، فإذا لم نر تخصيصا أو تقييدا كان اللازم الحكم على طبق أصالة عدم القرينة ، وحيث أنّ التكليف مشترك بين المشافهين وغيرهم نقول : بأنّ التكليف بالعام والمطلق شامل لنا أيضا .

وإنّما نقول بذلك لأنّ إعتبار أصالة عدم القرينة مستند إلى قبح الخطاب بالظاهر المجرّد عن القرينة وإرادة خلافه ، وليس مستندا إلى قبح تأخير البيان عن وقت العمل حتّى لو قلنا بجواز التأخير تسقط أصالة عدم القرينة عن الاعتبار ، وذلك كما قال : فانّ ( المستندُ في إثبات ) أي : إعتبار ( أصالة الحقيقة ) الموجبة لظهور العام والمطلق في العموم والاطلاق ( بأصالة عدم القرينة ) على المجاز هو : ( قبح الخطاب بالظاهر المجرّد ) عن القرينة ( وإرادة خلافه ) كأن يخاطب بالعام أو المطلق ويريد الخاص أو المقيّد ( بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّت

ص: 181

عليه طريقة التخاطب هو أنّ المتكلّم لا يُلقي الكلام إلاّ لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقي أو المجازي .

فإذا لم ينصب قرينةً على إرادة تفهيم المجاز ، تعيّن إرادة الحقيقة فعلاً .

وحينئذٍ : فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر ، كان هذا كاشفاً عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل لنكتة .

وأمّا إذا لم نطّلع ونفيناه بالأصل فالّلازم الحكمُ بإرادة تفهيم الظاهر فعلاً من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم .

-----------------

عليه طريقة التخاطب هو : إنّ المتكلّم لا يلقي الكلام إلاّ لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقي ) فيما إذا لم ينصب قرينة ( أو المجازي ) فيما إذا نصب قرينة ( فإذا لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز ، تعيّن إرادة الحقيقة فعلاً ) أي : ما دام لم ينكشف خلافه .

( وحينئذٍ : ) أي : حين لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز عند الخطاب ( فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر ) أو التقييد المتأخّر ، كما قد اطّلعنا عليه في كثير من الموارد ( كان هذا ) التخصيص أو التقييد المتأخّر ( كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل ) أي : لأصالة الحقيقة وذلك ( لنكتة ) أي : لمصلحة كائنة في عمل المتكلّم على خلاف أصالة الحقيقة ، كمصلحة التدريج - مثلاً - .

( وأمّا إذا لم نطّلع ) على التخصيص أو التقييد المتأخّر كما هو مفروض بحثنا ، حيث نرى عامّا أو مطلقا ، ولا نرى تخصيصا أو تقييدا ( ونفيناه ) أي : نفينا التخصيص أو التقييد المتأخر ( بالأصل ) المزبور الذي هو عبارة عن أصالة الحقيقة ( فاللازم الحكم باراده تفهيم الظاهر فعلاً ) أي : حين القاء الخطاب ( من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم ) في التكليف ، ومعه فلم يتمّ قول

ص: 182

ومنها : تعارضُ الاطلاق والعموم ، فيتعارض تقييدُ المطلق وتخصيصُ العامّ ، ولا إشكال في ترجيح التقييد على ما حقّقه سلطان العلماء : من كونه حقيقةً ، لأن الحكم بالاطلاق من حيث عدم البيان ، والعامّ بيان ،

-----------------

المستشكل : بأنّ اللازم من ذلك عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات .

( ومنها ) : أي ، من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ الاطلاق والعموم ) مثل : ما لو قال : أكرم عالما ، ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ( فيتعارض تقييد المطلق وتخصيصُ العام ) ومعه فهل يصحّ إكرام عالم فاسق حتّى يكون المطلق مقدّما على العام ، أو لا يصحّ حتّى يكون العام مقدّما على المطلق؟ قال المصنّف : ( ولا إشكال في ترجيح التقييد ) عرفا ، وأمّا صناعة فهو ( على ما حقّقه سلطان العلماء : من كونه ) أي : كون المطلق المقيّد ( حقيقةً ) وليس بمجاز ، فإذا استعمل المطلق في المقيّد لا يضرّ بكونه حقيقة ، إذ معنى المطلق عند السلطان هو الحقيقة المهملة ، بمعنى : انّه لا بشرط الاطلاق ولا عدمه ، ولا بشط إنضمام التشخّصات الفردية ولا عدمه ، فالإطلاق عنده ليس جزءا من مفهوم المطلق ، وإنّما يستفاد من دليل الحكمة وهو : عدم بيان القيد .

وعليه : فتقييد المطلق لا يوجب مجازية المطلق ، فإذا تعارض العام والمطلق يكون العام مقيِّدا للمطلق ( لأنّ الحكم بالاطلاق من حيث عدم البيان ، والعام بيان ) ففي المثال أنّ قوله : أكرم عالما إنّما يحكم بإطلاقه إذا لم يبيّن حرمة اكرام الفسّاق ، فإذا بيّن حرمة اكرام الفسّاق كان هذا العام بيانا للمطلق ، فيكون المراد بالعالم هو العالم غير الفاسق .

ص: 183

فعدمُ البيان للتقييد جزءٌ من مقتضي الاطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم .

فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل ، والمفروض وجود المقتضي له ، ثبت بيانُ التقييد وارتفع المقتضي للاطلاق .

-----------------

إذن : ( فعدمُ البيان للتقييد ) أي : عدم بيان تقييد المطلق في أكرم عالما - مثلاً - عند سلطان العلماء هو : ( جزء من مقتضي الاطلاق ) فالذي يحقّق الاطلاق بنظره جزءان : جزء اللفظ ، وجزء عدم بيان التقييد ( و) ليس كذلك العموم ، إذ ( البيان للتخصيص ) أي : بيان تخصيص العام في لا تكرم الفسّاق - مثلاً - ( مانع عن إقتضاء العام للعموم ) ففرق بين تقييد المطلق وبين تخصيص العام ، فانّ لفظة « عالما » المطلق لا يقتضي بوحدة الاطلاق ، بل إنّما يقتضي الاطلاق بإنضمام عدم بيان القيد ، وذلك بخلاف العام ، فانّه بوحده مقتضٍ للعموم ، فإذا ثبت التخصيص كان مانعا .

وعليه : ( فإذا دفعنا المانع عن العموم ) في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفسّاق دفعا ( بالأصل ) أي : بأصالة عدم التخصيص ( والمفروض : وجود المقتضي له ) أي : للعموم ، لأنّ لفظه يقتضي العموم بالوضع ( ثبت بيان التقييد ) للمطلق أكرم عالما ( وإرتفع المقتضي للاطلاق ) ببيان التقييد الواصل في لا تكرم الفسّاق .

والحاصل : إنّه إذا كان هناك عام ومطلق متنافيان ، كما في أكرم عالما ، ولا تكرم الفسّاق ، فحيث انّ عموم العام تنجيزي لأنّه بالوضع ، وإطلاق المطلق تعليقي لأنّه بمقدّمات الحكمة ، نحكم بعدم المخصّص للعام لأصالة العموم ، فإذا ثبت العموم يكون هذا العام مقيّدا للمطلق ، لأنّ إطلاق المطلق متوقّف على عدم البيان ومعلّق عليه ، والعموم بيان .

ص: 184

فإنّ العمل بالتعليقي موقوفٌ على طرح التنجيزي ، لتوقّف موضوعه على عدمه ، فلو كان طرح التنجيزي متوقفاً على العمل بالتعليقي ومسبّباً عنه ، لزم الدورُ ، بل هو يتوقف على حجّة اُخرى راجحة عليه ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي .

-----------------

وعليه : ( فانّ العمل بالتعليقي ) الذي هو الاطلاق حيث إنّ إطلاق المطلق : أكرم عالما معلّق على عدم البيان ، فالعمل به ( موقوف على طرح التنجيزي ) الذي هو العموم ( لتوقّف موضوعه ) أي : موضوع التعليقي وهو الاطلاق ( على عدمه ) أي : على عدم بيان التنجيزي الذي هو العموم ، وحينئذ ( فلو كان طرح التنجيزي متوقّفا على العمل بالتعليقي ومسبّبا عنه ، لزم الدور ) وذلك لأنّ المعلّق يرتفع بالمنجّز ، أمّا المنجّز فلا يرتفع بالمعلّق ، وإلاّ لزم الدور ، وإن شئت قلت : إنّ الاطلاق هنا موقوف على عدم العموم لأنّ العموم مقيّد للاطلاق ، فلو كان عدم العموم موقوفا على الاطلاق كان الاطلاق موقوفا على الاطلاق وهو دورٌ صريح .

إذن : فلا يتوقّف طرح التنجيزي وهو العموم على العمل بالتعليقي وهو الاطلاق ، حتّى يكون دورا ( بل هو ) أي : طرح التنجيزي ( يتوقّف على حجّة اُخرى راجحة عليه ) أي : على التنجيزي كأن يقول : لا تكرم الفسّاق إلاّ العالم منهم - مثلاً - ( فالمطلق دليل تعليقي ) لما عرفت ( والعام دليل تنجيزي ) لأنّه يكون بالوضع ، لكن لا يخفى : أنّ العرف يتحيّر في انّه هل يقدّم العام على المطلق ، أو يقدّم المطلق على العام ؟ فالتعليل الذي ذكره المصنّف إنّما هو دقّي عقلي وليس تسامحيّا عرفيّا ، فلا ينفع في إفادة الظهور كما هو الشأن في مباحث تعارض الأحوال ، ولذا تركه المتأخّرون .

هذا كلّه على تقدير كون المطلق المقيّد حقيقة على ما ذكره سلطان العلماء

ص: 185

وأمّا على القول بكونه مجازاً ، فالمعروفُ في وجه تقديم التقييد كونُه أغلب من التخصيص ، وفيه تأمّلٌ .

نعم ، إذا استفيد العموم الشمولي من دليل الحكمة كانت الافادة غير مستند إلى الوضع ، كمذهب السلطان في العموم البدلي .

-----------------

لا مجازا ( وأمّا على القول بكونه ) أي : المطلق المقيّد ( مجازا ) لا حقيقة ، فيكون نظير العام المخصّص على ما هو المشهور بين علماء البلاغة والاُصول ( فالمعروف في وجه تقديم التقييد ) أي : تقييد المطلق بالعام ، لا تخصيص العام بالمطلق ( كونُهُ أغلب من التخصيص ) والغلبة توجب الحاق الشيء بالأعمّ الأغلب .

( وفيه تأمّل ) لمنع كونه أغلب ، بالاضافة إلى انّه لو فرض كونه أغلب ، فإنّ الغلبة لا تكون سببا للظهور الذي هو محلّ الكلام في مباحث الألفاظ .

( نعم ، إذا استفيد العموم الشمولي ) وهو في قِبال العموم البدلي ، فانّ العموم قد يكون شموليّا كالمفرد المحلّى باللام ، مثل : أكرم العالم ، حيث يريد إكرام كلّ العلماء ، وقد يكون بدليّا بأن يريد اكرام فرد واحد من الطبيعة على البدل ، مثل : أكرم عالما ، فانّه لو استفيد العموم الشمولي ( من دليل الحكمة ) أي : من مقدّمات الحكمة ، وذلك بأن كان المولى في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة على الخلاف ولم يكن هناك قدر متيقّن ، كما في مثال : أكرم العالم ( كانت الافادة ) أي : إفادة اللفظ للعموم ( غير مستند إلى الوضع ) وإنّما هو مستند إلى دليل الحكمة كما عرفت ، فيكون ( كمذهب السلطان في ) المطلق ، أي : ( العموم البدلي ) حيث إنّ إطلاق المطلق مثل : أكرم عالما ، عنده ليس مستندا إلى الوضع ، بل إلى مقدّمات الحكمة ، فإذا تعارض مع ما كان مستندا إلى مقدّمات الحكمة أيضا كما ادّعي

ص: 186

وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات .

ومنها : تعارضُ العموم مع غير الاطلاق من الظواهر ، والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبة شيوعه .

وقد يتأمّل في بعضها ، مثل ظهور الصيغة

-----------------

في العام الشمولي مثل : لا تكرم الفاسق ، لم يكن أحدهما مقدّما على الآخر ، لأنّ كلّ واحد منهما يصلح أن يكون قرينة للآخر ولا أولوية .

( وممّا ذكرنا ) في وجه تقديم العام على المطلق ( يظهر حال التقييد مع سائر المجازات ) فانّ التقييد مقدّم على التخصيص ، كما إنّ التخصيص مقدّم على سائر المجازات ، والمقدّم على المقدّم مقدّم ، فيكون التقييد مقدّما على سائر المجازات ، فلو قال - مثلاً - : اعتق رقبة ، ثمّ قال : اعتق رقبة مؤمنة ، فانّه إمّا من تقييد الرقبة في الأوّل بالمؤمنة ، وإمّا من حمل اعتق في الثاني على الندب وهو مجاز ، والتقييد أولى ، لكن لا يخفى : إنّ هذا أيضا مبني على الدقّة التي لا تكون موجبة للظهور ، بينما اللازم في مباحث الألفاظ الظهور العرفي .

( ومنها ) : أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ العموم مع غير الاطلاق من الظواهر ، و ) ذلك كما إذا قال : أكرم العلماء ، الظاهر في شموله لزيد ، وقال : لا تكرم زيدا ، الظاهر في التحريم ، فهل يشمل العلماء زيدا ويحمل لا تكرم على غير ظاهره من الكراهة ، فيكون إكرام زيد واجبا مكروها ، مثل الصلاة الواجبة في الحمام ، حيث انّها واجبة مكروهة ، أو يحمل النهي على ظاهره من التحريم ويخصّص به أكرم العلماء حتّى يكون اكرام زيد محرّما ؟ (الظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبة شيوعه) ممّا معناه : حرمة إكرام زيد .

( وقد يتأمّل في بعضها ) أي : في بعض الظواهر ( مثل ظهور الصيغة

ص: 187

في الوجوب ، فإنّ استعمالها في الاستحباب شائع أيضاً ، بل قيل بكونه مجازاً مشهوراً ، ولم يقل ذلك في العامّ المخصّص ، فتأمّل .

ومنها : تعارضُ ظهور بعض

-----------------

في الوجوب ) كما إذا قال : لا يجب إكرام العلماء ، ثمّ قال : أكرم زيدا ، فأيّهما يحمل على الآخر ، وذلك لأنّه يدور أمرُ : أكرم زيدا ، بين الأخذ بظهوره والحكم بوجوب إكرام زيد ، ممّا معناه : حمل العام على الخاص ، وبين حمله على الاستحباب والحكم بإستحباب اكرام زيد ، ممّا معناه : حمل الخاص على العام ، فأيّهما يكون المقدّم ؟ .

وإنّما يتأمّل في ظهور الصيغة في الوجوب لأنّه كما قال : ( فانّ إستعمالها ) أي : إستعمال صيغة الأمر ( في الاستحباب شايع أيضا ) كشيوع تخصيص العامّ ، فعند تعارضهما لا يُعلم أيّهما يقدّم على الآخر ( بل قيل بكونه ) أي : إستعمال الأمر في الندب ( مجازا مشهورا ، و ) من المعلوم : إنّ المجاز المشهور يعادل الحقيقة على ما ذكره جمع ، بينما ( لم يقل ذلك في العام المخصّص ) فانّه لم يقل أحد بأنّ العام المخصّص مجاز مشهور ، ومعه يقدّم حمل صيغة الأمر على الندب ، على تخصيص العام ، ممّا تكون نتيجته عدم وجوب إكرام زيد ، وإنّما يكون اكرامه مستحبّا .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة إلى ما ذكرناه : من أنّ أمثال هذه الاُمور لا تكون سببا للظهور الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الأدلّة ، فاللازم الرجوع فيها إلى القرائن الخارجية العقليّة أو النقليّة ، فإن كانت ، وإلاّ فالمرجع الاُصول العمليّة .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ ظهور بعض

ص: 188

ذوات المفهوم من الجمل مع بعض .

والظاهر تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة .

ومنها : تعارضُ ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ، فيدور الأمرُ بين النسخ

-----------------

ذوات المفهوم من الجمل مع بعض ، و) ذلك بأن يكون هناك مفهومان متعارضان كمفهوم الغاية ، ومفهوم الشرط ، فهل يقدّم هذا المفهوم على ذاك ، أو ذاك على هذا ؟ ( الظاهر ) عند المصنّف ( تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ) وذلك ، لأنّ مفهوم الغاية في نظر المصنّف أظهر من مفهوم الشرط ، فيكون من الجمع بين الأظهر والظاهر حيث يقدّم الأظهر على الظاهر .

( و ) الظاهر أيضا عند المصنّف تقديم الجملة ( الشرطيّة على الوصفيّة ) للملاك المزبور ، فإذا قال - مثلاً - في جملة شرطيّة : يحرم اكرام الفاسق إن كان جاهلاً ، وقال في جملة وصفيّة : يجوز إكرام العالم العادل ، وقال في جملة غائية : يجوز إكرام العادل ما دام عادلاً ، فإنّ مفهوم الشرط في الأوّل هو : جواز إكرام العالم الفاسق ، ومفهوم الوصف في الثاني ، وكذلك الغاية في الثالث هو : عدم جوازه ، لكن لا يخفى : إنّ إستظهار المصنّف يأتي فيه المحذور الآنف الذكر : من أنّه مبني على الدقّة ، ومجال الظواهر العرف .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية هو : تعارض النسخ والتخصيص الذي تقدّم بعض مصاديقه ، وهنا ذكره المصنّف بعنوان كبرى كليّة ، وهو ما إذا ( تعارضُ ظهور الكلام في إستمرار الحكم ) أي : العموم الأزماني ( مع غيره من الظهورات ) كالعموم الافرادي ، وحينئذٍ ( فيدور الأمر بين النسخ

ص: 189

وارتكاب خلاف ظاهر آخر ، والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ ، لغلبتها بالنسبة إليه .

وقد يُستدلُّ على ذلك بقولهم عليهم السلام : « حلال محمد صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » .

-----------------

وإرتكاب خلاف ظاهر آخر ) كما إذا قال : لا تنم بين الطلوعين ، ممّا ظاهره التحريم ، وبعد حضور وقت العمل قال : لا يحرم النوم بين الطلوعين ، فان كان الثاني نسخا كان معناه ، تقديم ظاهر لا تنم الذي هو التحريم ، وان لم يكن نسخا كان معناه : تقديم إرتكاب خلاف الظاهر في لا تنم حيث حملناه على الكراهة .

هذا ( والمعروف ترجيح الكل ) أي : كلّ المخالفات للظاهر ( على النسخ ) وذلك ( لغلبتها ) أي : غلبة الكل ( بالنسبة إليه ) أي : بالنسبة إلى النسخ ، فانّ النسخ قليل جدّا ، بينما خلاف الظاهر فهو أكثر من أن يحصى ، فظهور الحكم في الاستمرار الذي ينافي النسخ ، أقوى من سائر الظواهر وأظهر منها ، والظاهر يحمل على الأظهر ، ولذا يلزم عند تعارضهما مخالفة سائر الظواهر وتقديم الأظهر عليها ، وذلك بأن يحمل الأمر على الاستحباب ، والنهي على الكراهة ، وما أشبه ذلك تجنّبا عن الوقوع في النسخ .

( وقد يُستَدلُّ على ذلك ) أي : على ما هو المعروف من ترجيح الكلّ على النسخ ( بقولهم عليهم السلام : « حَلالُ محمّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم حَلالٌ إلى يومِ القيامَةِ ، وحَرامُه حرام إلى يوم القيامة » (1) ) حيث قد ذكرنا سابقا : إنّ المراد بالحلال هو الأحكام الثلاثة اللا إقتضائية ، والمراد بالحرام هو ما يشمل الواجب والحرام ، فإذا دار الأمر بين النسخ وبين إرتكاب خلاف الظاهر ، فعموم « حلال محمّد صلى الله عليه و آله وسلم » يوجب

ص: 190


1- - بصائر الدرجات : ص148 ، الكافي اصول : ج1 ص58 ح19 .

وفيه : إنّ الظاهر سوقُهُ لبيان استمرار أحكام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، نوعاً من قبل اللّه جلّ ذكره ، إلى يوم القيامة في مقابل نسخها بدين آخر ، لابيان استمرار أحكامه الشخصيّة إلاّ ما خرج بالدليل ، فالمرادُ : انّ حلاله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبل اللّه جلّ ذكره إلى يوم القيامة ، لا أنّ الحلال من قبله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبله إلى يوم القيامة ، ليكون المرادُ استمرار حلّيّته .

-----------------

تقوية ظهور الحكم في الاستمرار ، فيكون عدم النسخ مقدّما على تلك الظواهر ، فنحمل تلك الظواهر على المجاز وإرادة خلاف الظاهر منها .

( وفيه : إنّ الظاهر ) من هذا الحديث الشريف ( سوقُهُ لبيان إستمرار أحكام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، نوعا من قبل اللّه جلّ ذكره ، إلى يوم القيامة ) والمقصود من إستمرارها نوعا إنّما هو ( في مقابل نسخها بدين آخر ) فدين النبي محمّد صلى الله عليه و آله وسلم لا ينسخ بخلاف دين سائر الأنبياء عليهم السلام ( لا بيان إستمرار أحكامه الشخصيّة ) الجزئيّة ، حتّى إذا كان شيء واجبا في أوّل الشريعة يبقى واجبا إلى الأبد ، وإذا كان حراما في الشريعة يبقى حراما إلى الأبد ، وهكذا بقيّة الأحكام الجزئيّة ( إلاّ ما خرج بالدليل ) فانّه ليس المعنى أنّ أفراد أحكام هذه الشريعة لا ينسخ بعضها بعضا ، إلاّ ما ثبت بدليل خاص من النسخ ، كما قالوا بذلك بالنسبة إلى عدّة المتوفّى عنها زوجها ، حيث كان في أوّل الشريعة عاما ، ثمّ نسخ إلى أربعة أشهر وعشرا.

إذن : ( فالمراد : إنّ حلاله صلى الله عليه و آله وسلم ) هو : ( حلال من قِبل اللّه جلّ ذكره إلى يوم القيامة ) أي : إنّ دينه باقٍ إلى الأبد ( لا أنّ الحلال من قِبله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبله ) هو صلى الله عليه و آله وسلم ( إلى يوم القيامة ، ليكون المراد ) من حكمه صلى الله عليه و آله وسلم بحلّية لحم الغنم - مثلاً - أن يكون هذا الحكم الجزئي حلالاً إلى يوم القيامة ، بمعنى ( إستمرار حليّته ) وعدم نسخ الحلّية بحكم آخر كالحرمة .

ص: 191

وأضعف من ذلك التمسّكُ باستصحاب عدم النسخ في المقام ؛ لأن الكلام في قوّة أحد الظاهرين وضعف الآخر ، فلا وجه لملاحظة الاُصول العمليّة في هذا المقام ، مع أنّا إذا فرضنا عامّاً متقدّماً وخاصّاً متأخرّاً ، فالشكّ في تكليف المتقدّمين بالعامّ وعدم تكليفهم .

-----------------

هذا ، ولكن الظاهر من هذا الحديث الشريف هو : ظهور المعنيين منه ، فلا خصوصيّة للمعنى الأوّل ، ولذا نرى إنّ العلماء كافّة ومن جميع المذاهب ، قد أجمعوا على أنّ كلّ شيء كان قد أحلّه الشارع أو حرّمه ، أو جعل له حكما آخر في أوّل الشريعة ، فهو باقٍ إلى أن يثبت الناسخ .

( وأضعفُ من ذلك ) أي : من التمسّك بالأصل اللفظي وهو عموم « حلال محمّد صلى الله عليه و آله وسلم » لترجيح خلاف الظاهر على النسخ هو التمسّك لأجله بالأصل العملي ، أعني : ( التمسّكُ باستصحاب عدم النسخ في المقام ) وذلك بتقريب : انّا نشكّ في النسخ وعدم النسخ ، فنستصحب عدم النسخ .

وإنّما كان هذا أضعف من ذاك لما يلي :

أوّلاً : ( لأنّ الكلام في ) الاُصول اللفظيّة أي : في ( قوّة أحد الظاهرين وضعف الآخر ) وأنّه هل يقدّم النسخ على خلاف ظاهر الآخر ، أو يقدّم خلاف الظاهر في مقابل النسخ؟ ومعه ( فلا وجه لملاحظة الاُصول العمليّة في هذا المقام ) لأنّ الأصل العملي لا يوجب قوّة أحد الظاهرين على الآخر ، لإختلاف رتبتهما كما هو واضح .

ثانيا : ( مع أنّا إذا فرضنا عامّا متقدّما وخاصّا متأخّرا ) كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد وقت حضور العمل : لا تكرم العالم الفاسق ( فالشكّ ) كائن ( في تكليف المتقدّمين بالعام ) على عمومه ( وعدم تكليفهم ) به على عمومه ، وذلك

ص: 192

فاستصحابُ الحكم السابق لامعنى له فيبقى ظهورُ الكلام في عدم النسخ معارضاً بظهوره في العموم ، ثمّ إنّ هذا التعارض إنّما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداءً ، وإلاّ تعيّن التخصيص .

نعم ، لايجري في مثل العامّ المتأخّر عن الخاصّ .

-----------------

لأنّ العام المتقدّم مردّدا عندنا بالنسبة إليهم بين النسخ وبين التخصيص ، فلا نعلم هل أنّ اكرام العلماء وجب عليهم أوّلاً على سبيل العموم ، ثمّ نسخ بالنسبة إلى العلماء الفاسقين حتّى يكون منسوخا ، أو انّ أكرام العلماء الفاسقين لم يكن واجبا عليهم من الأوّل حتّى يكون مخصّصا؟ ومعه يكون وجوب إكرام الفاسقين على المتقدّمين غير متيقّن لنا ، وإذا لم يكن متيقّنا فلا تتمّ أركان الاستصحاب .

وعليه : ( فإستصحابُ الحكم السابق لا معنى له ) لعدم اليقين به وبذلك تبيّن انّه لا معنى لإستصحاب عدم النسخ ، وإذا كان كذلك ( فيبقى ظهورُ الكلام ) وهو العام ( في عدم النسخ ) والعموم الأزماني ( معارضا بظهوره في العموم ) الافرادي ، فيتساوى الظهوران من دون أن يكون مع أحدهما الاستصحاب .

( ثمّ إنّ هذا التعارض ) المتكافى ء بين إحتمال النسخ وإحتمال عدم إرادة الظاهر من الكلام الآخر ( إنّما هو مع عدم ظهور الخاص في ثبوت حكمه في الشريعة إبتداءا ، وإلاّ ) بأن كان ظاهر الخاص ثبوت حكمه من أوّل الشريعة إلى آخر الشريعة ، كما إذا قال : يحرم إكرام الفاسق في كلّ زمان ومكان ( تعيّن التخصيص ) وقدّم على النسخ قطعا .

( نعم ، لا يجري ) لنا ما جرى من الشكّ هناك بالنسبة إلى تكليف المتقدّمين بالعام فيما إذا فرضنا عاما متقدّما وخاصا متأخّرا ( في مثل العام المتأخّر عن الخاص ) وذلك لليقين بتكليفهم هنا بالخاص المتقدّم ، فإذا قال - مثلاً - أكرم

ص: 193

ومنها : ظهورُ اللفظ في المعنى الحقيقي ، مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازي ، وعبّروا عنه بتقديم الحقيقة على المجاز ورجّحوها عليه ، فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمرُ بين طرح الوضع اللفظي بإرادة المعنى المجازي ، وبين طرح مقتضى القرينة

-----------------

الفقهاء ، ثمّ قال بعد حضور وقت العمل ، لا تكرم العلماء ، فانّه في هذه الحال يتوهّم جريان إستصحاب عدم النسخ لتماميّة أركان الاستصحاب ، غير انّه أصل عملي فلا يكون في مرتبة الأصل اللفظي حتّى يمكن الاستناد إليه ، مع انّه قد عرفت سابقا : إنّ هذه التعليلات لا تفي بإفادة الظهور العرفي الذي هو الميزان في الجمع بين الكلامين ، نعم قلّة النسخ توجب عدم الاعتناء به عند العقلاء .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية : تعارض ( ظهورُ اللفظ في المعنى الحقيقي ، مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازي ، و ) ذلك كما إذا قال مرّة : رأيت أسدا ، وقال اُخرى : رأيت أسدا يرمي ، فهل يتصرّف في الأسد بقرينة يرمي حتّى يكون المراد من رأيت أسدا هو الرجل الشجاع ، أو يتصرّف في يرمي بقرينة رأيت أسدا حتّى يكون المراد من يرمي هو رمي الحجر؟ فانّهم قد ( عبّروا عنه بتقديم الحقيقة على المجاز ) ليكون المراد من رأيت أسدا هو الحيوان المفترس ، وبذلك يتصرّف في يرمي ( ورجّحوها ) أي : الحقيقة ( عليه ) أي : على المجاز .

قال المصنّف في تعقيب كلامهم : ( فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمرُ بين طرح الوضع اللفظي بإرادة المعنى المجازي ) وذلك بأن نحمل الأسد في الكلام الأوّل الذي هو رأيت أسدا أيضا على الرجل الشجاع ، ونطرح ظهوره في الحيوان المفترس الناشئ من الوضع لقرينة يرمي في المثال الثاني ( وبين طرح مقتضى القرينة

ص: 194

في الظهور المجازي بإرادة المعنى الحقيقي ، فلا عرف له وجهاً ؛ لأن ظهور اللفظ في المعنى المجازي إن كان مستنداً إلى قرينة لفظيّة ، فظهورهُ مستندٌ إلى الوضع ، وإن استند إلى حال أو قرينة منفصلة قطعية

-----------------

في الظهور المجازي بإرادة المعنى الحقيقي ) وذلك بأن نحمل الأسد في الكلام الثاني الذي هو رأيت أسدا يرمي أيضا على المفترس ونطرح ظهوره في الرجل الشجاع الناشئهذا الظهور عن القرينة وهو يرمي ، ذلك ونحمل يرمي على غير معناه المتعارف من رمي النبل بل نحمله على رمي الحجر .

قال المصنّف : انّهم إن أرادوا ذلك ( فلا عرف له وجها ) إذ لا دليل على أنّ أسد أظهر في معناه الحقيقي ، من يرمي في معناه الحقيقي ، وذلك ( لأنّ ظهور اللفظ في المعنى المجازي ) قد يستند إلى اُمور تالية :

أوّلاً : ( إن كان مستندا إلى قرينة لفظيّة ) كما في مثال رأيت أسدا يرمي ( فظهوره مستندٌ إلى الوضع ) أيضا ، لأنّه كما وضع أسد على الحيوان المفترس ، فكذلك وضع يرمي على رمي النبل .

ثانيا : ( وان إستند ) أي : ظهور اللفظ في المعنى المجازي ( إلى حال ) بأن لم يكن هنالك لفظ يدلّ على المعنى المجازي وإنّما الحال يدلّ عليه ، كما إذا قال : « اغتسل للجمعة » في عداد ذكر مستحبّات يوم الجمعة من دعاء وثناء ، وصلاة وزيارة ، فانّ « اغتسل للجمعة » وحده ظاهر في الوجوب بالوضع ، لكنّه مع قرينة السياق وهي قرينة حالية ظاهر في الاستحباب ، حيث انّه جاء في سياق ذكر مستحبّات يوم الجمعة ، والقرينة الحالية أيضا كالوضع في قوّة الظهور .

ثالثا : ( أو ) استند ظهور اللفظ في المجاز إلى ( قرينة منفصلة قطعيّة ) من إجماع أو عقل أو ما أشبه ذلك كما إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » فقط ، ثمّ قال

ص: 195

فلا تقصُر عن الوضع .

وإن كان ظنّاً معتبراً فينبغي تقديمُه على الظهور اللفظي المعارض ، كما يقدّم على ظهور اللفظ المقرون به ، إلاّ أن يفرض ظهوره ضعيفاً يقوى عليه بخلاف ظهور

-----------------

في وقت آخر أيضا : « اغتسل للجمعة » لكن في عِداد ذكر اُمور مستحبّة قام الاجماع على إستحبابها ، فانّ القول الأوّل : ظاهر في الوجوب بالوضع ، والقول الثاني : ظاهر في الاستحباب ، بقرينة الاجماع على إستحباب ما ذكر في عِداد غسل الجمعة ، وإذا كانت القرينة كتلك ( فلا تقصر عن الوضع ) فانّ القرينة القطعيّة من حال أو إجماع أو ما إليهما لا يكون أضعف من الظهور المستند إلى الوضع ، ومعه فلا وجه لتقديم الحقيقة على المجاز .

رابعا : ( وإن كان ) مستند الظهور المجازي ( ظنّا معتبرا ) لا قطعا ، كما إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » ثمّ قال مرّة اُخرى : « اغتسل للجمعة » مع ذكر جملة من الاُمور التي قامت الشهرة على إستحبابها ، ممّا يكون قرينة السياق على إستحباب غسل الجمعة أيضا ، وإذا كان كذلك ( فينبغي تقديمُه ) أي : تقديم ظهور الظنّ المعتبر ( على الظهور اللفظي المعارض ) وحده ( كما يقدّم على ظهور اللفظ المقرون به ) وهو قوله : « اغتسل للجمعة » في عِداد اُمور قامت الشهرة على إستحبابها ، فكما إنّ الشهرة تتصرّف في ظاهر « اغتسل » إذا كان وحده ، فكذلك تتصرّف في ظاهر « اغتسل » إذا كان مقرونا بذكر اُمور اُخرى .

( إلاّ أن يفرض ظهوره ) أي : ظهور الظنّ المعتبر الصالح لأن يكون قرينة على المجاز ( ضعيفا يُقوى عليه ) أي : بأن يقع مغلوبا لا غالبا ، وذلك ( بخلاف ظهور

ص: 196

الدليل المعارض ، فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر .

وإن أرادوا به معنى آخر ، فلابدّ من التأمّل فيه ، هذا بعضُ الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور .

وأمّا الصنفان المختلفان من نوع واحد ، فالمجاز الراجح الشائع

-----------------

الدليل المعارض ) الظاهر في المعنى الحقيقي حيث لم يكن بذلك الضعف ، فيقدّم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي .

مثلاً : إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » ثمّ قال في وقت آخر : « اغتسل للجنابة والجمعة والعيد والاحرام » - مثلاً - فانّه حيث قرن بغسل الجمعة هنا اُمورا بعضها واجب وأكثرها مستحبّ يظنّ بقرينة غلبة السياق إرادة الاستحباب منه ، إلاّ أنّ ظهور المعارض الذي هو : « اغتسل للجمعة » في كلامه الأوّل في إفادة الوجوب أقوى من هذا الظهور الثاني ( فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر ) فيقدّم الأقوى ظهورا بعنوان انّه أقوى ، لا بعنوان قوّة الظهور العرفي ، لكن هذا ليس بملاك كلّي ، إذ قد يكون المعنى المجازي أظهر من المعنى الحقيقي ، فانّ الملاك الكلّي هو الأظهرية العرفية .

هذا إن أرادوا من تقديم الحقيقة على المجاز المعنى المذكور آنفا ( وإن أرادوا به معنى آخر ) غير المعنى الذي ذكرناه ( فلابدّ من التأمّل فيه ) حتّى نرى هل هو دليل يُعتمد عليه ، أو ليس بدليل يمكن الاعتماد عليه ؟ .

ثمّ قال المصنّف : ( هذا بعضُ الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور ) كظهور النسخ وظهور التخصيص ، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم الكلام حوله حيث بحث في انّه هل يقدّم هذا الظاهر على ذاك أو بالعكس ؟ .

( وأمّا الصنفان المختلفان من نوع واحد ) من الظهور ( فالمجاز الراجح الشايع

ص: 197

مقدّم على غيره ، ولهذا يحمل الأسد في « أسدٌ يرمي » على الرجل الشجاع ، دون الرجل الأبخر ، ويحمل الأمر المصروف عن الوجوب على الاستحباب دون الاباحة .

وأمّا تقديمُ بعض أفراد التخصيص على بعض ،

-----------------

مقدّم على غيره ) فإذا دار الأمر بين هذا المجاز أو ذاك المجاز ، وكان أحدهما شايعا بحيث ينصرف اللفظ إليه كان مقدّما على المجاز الآخر الذي ليس بشايع ( ولهذا يُحمل الأسد في « أسد يرمي » على الرجل الشجاع ، دون الرجل الأبخر ) فانّ سلطان الحيوانات : الأسد يشبّه به من حيث الشجاعة ، ويشبّه به أيضا من حيث الأبخرية ، إلاّ انّ التشبيه من حيث الشجاعة شايع ، بخلاف التشبيه من حيث بخر الفم ، فإذا قال : رأيت أسدا في الحمام ، ولم نعلم هل انّه أراد الرجل الشجاع ، أو الرجل الأبخر الفم ؟ حملنا كلامه على إرادة المعنى الأوّل .

( و ) لهذا أيضا ( يُحمل الأمرُ المصروف عن الوجوب ) كما إذا قال : « صلّ الظهر » ، ثمّ قال : ولا حرج من ترك الظهر في الجمعة - مثلاً - حيث نعلم بأنّ « صلّ الظهر » هنا ليس للوجوب ، لكنّه دائر بين الاستحباب والاباحة ، فانّه يُحمل ( على الاستحباب دون الاباحة ) لأنّ إستعمال صيغة الأمر في الاستحباب شايع دون الاباحة ، إلاّ إذا كان هناك قرينة على الاباحة مثل قوله سبحانه : « وإذا حللتم فاصطادوا » (1) .

( و ) هكذا الحال إذا دار الأمر بين تخصيصين ، لكن كان أحد التخصيصين أقوى من التخصيص الآخر ، حيث يقدّم التخصيص الأقوى على التخصيص الآخر ، وإليه أشار بقوله : ( أمّا تقديم بعض أفراد التخصيص على بعض ،

ص: 198


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

فقد يكون بقوّة عموم أحد العامّين على الآخر ، إمّا لنفسه ، كتقديم الجمع المحلّى بالّلام على المفرد المعرّف ونحو ذلك ، وإمّا بملاحظة المقام ، فإنّ العامّ المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره

-----------------

فقد يكون بقوّة عموم أحد العامّين على الآخر ) قوّة ( إمّا لنفسه ، كتقديم الجمع المحلّى باللاّم ) في مثال : أكرم الفقهاء ( على المفرد المعرّف ) باللام في مثال :

ينبغي اكرام الخطيب ( ونحو ذلك ) كتقديم العام المسوّر بكلّ في مثال : أكرم كلّ فقيه ، على المفرد المعرّف باللام في مثال : ينبغي اكرام الخطيب ، حيث يدور الأمر هنا بين : تخصيص الفقهاء بالخطيب ، فيجب إكرام كلّ فقيه غير خطيب ويستحبّ اكرام الفقيه الخطيب ، وبين : تخصيص الخطيب بغير الفقيه ، فيجب إكرام كلّ فقيه خطيبا كان أو غير خطيب ، وإنّما يستحبّ إكرام الخطيب ، الذي ليس بفقيه .

والحاصل : هل نعطي الفقيه الخطيب لأكرم الفقهاء حتّى يجب اكرامه ، أو نعطيه لينبغي اكرام الخطيب حتّى يستحبّ اكرامه؟ لكن على قول المصنّف يجب أن نعطيه للجمع المحلّى باللام ، لا للمفرد المعرّف ، غير إنّك قد عرفت سابقا بأنّ هذه الموازين ليست ممّا يؤخذ بها في بيان الظاهر .

هذا إذا كان تقديم بعض أفراد التخصيص على بعض بملاحظة قوّة أحد العامّين في نفسه ( وإمّا بملاحظة المقام ، فانّ العام المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره ) أي : إنّ العامّ الذي يراد به ضرب قاعدة عامّة وبيان ضابطة مطّردة ، يكون أقوى لامتيازه بعناية خاصّة ليست موجودة في العامّ الآخر ، ولذا يقدّم على العامّ الآخر ، وذلك مثل قوله : « من أتلف شيئا ضمنه » حيث انّه في مقام بيان الضابط ، وقوله : « المستعير لا يضمن

ص: 199

ونحو ذلك ، وقد يكون لقرب أحد المخصّصين وبعد الآخر ، كما يقال : إنّ الأقلّ أفراداً مقدّم على غيره ، فإنّ العرف يقدّم عموم « يجوز أكل كل رمّان » على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ؛ لأنه

-----------------

ما استعاره » (1) ، فانّ الأوّل : حيث كان في مقام الضابط يقدّم على الثاني الذي هو ليس كذلك ، بل هو في مقام بيان حكم فرعي من الأحكام الفرعيّة ، فيحمل عدم ضمان المستعير على التلف لا الاتلاف ، إلاّ أن يكون الثاني أظهر دلالة ، بأن يكون كالخاص بالنسبة إلى العام .

( ونحو ذلك ) كما في العام المسوق للامتنان ، فانّه يقدّم على ما لم يكن كذلك ، مثل قوله سبحانه : « ما جَعَلَ عَليكُم في الدّين مِن حَرَج » (2) فانّه يقدّم على قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيكُم الصّيام » (3) فيما إذا كان الصيام حرجيّا ، ولذا لا يجب الصوم لحمل وجوبه على ما إذا لم يكن حرجيّا .

( وقد يكون لقرب أحد المخصّصين وبُعد الآخر ) قربا وبُعدا إلى أذهان العرف ( كما يقال : إنّ الأقلّ أفرادا مقدّم على غيره ) فيما إذا تعارض عامّان : أحدهما له عشرة أفراد - مثلاً - كالخطباء في مثال : لا تكرم الخطباء ، والآخر له ثلاثة أفراد كالفقهاء في مثال : أكرم الفقهاء ، ففي الفرد الذي هو مجمع بينهما وهو الفقيه الخطيب ، نعطيه للأقل أفرادا لا للأكثر أفرادا فنكرمه ، وذلك للفهم العرفي كما قال : (فانّ العرف يقدّم عموم : «يجوز أكل كلّ رمان» ) الشامل لحلوه وحامضه ومرّه (على عموم : النهي عن أكل كلّ حامض ، لأنّه) أي : عموم الرمّان وإن لوحظ كلّ أفراده حلوا وحامضا ومزّه على عموم النهي عن أكل كل حامض لأنّه

ص: 200


1- - القواعد الفقهيّة للبجنوردي : ج7 ص13 قاعدة لا ضمان على المستعير .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

أقلّ فرداً ، فيكون أشبه بالنصّ ، وكما إذا كان التخصيصُ في أحدهما تخصيصاً لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر .

بقي في المقام شيء

وهو أنّ ما ذكرنا من حكم التعارض - من أنّ النصّ يحكمُ على الظاهر ، والأظهر على الظاهر - لا إشكال في تحصيله في المتعارضين .

وأمّا اذا كان التعارض

-----------------

أي : عموم الرمان وان لوحظ كل افراده حلوا وحامضا ومزّا ، لكنّه ( أقلّ فردا ) من عموم الحامض ( فيكون ) عموم يجوز أكل كلّ رمّان من جهة انّ افراده أقل ( أشبه بالنصّ ) فيقدّم على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ، فيحكم بجواز أكل الرمّان الحامض ، لأنّ شمول كلّ رمّان له أقوى من شمول كلّ حامض له ، لأنّه أقل فردا منه ، وإن كان بينهما عموم من وجه في مورد التعارض .

( وكما إذا كان التخصيصُ في أحدهما تخصيصا لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر ) فانّه يقدّم الأقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا ، وذلك لأنّ التخصيص خلاف الأصل ، وكلّما كان المخالف للأصل أقل كان أفضل ، إضافةً إلى أنّ كثرة التخصيص مستهجن عرفا .

هذا ، وقد ( بقي في المقام شيء ، وهو : ) ما يسمّى ببحث إنقلاب النسبة ، وذلك فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، كما قال المصنّف : ( انّ ما ذكرنا من حكم التعارض : من أنّ النصّ يحكم على الظاهر ، والأظهر على الظاهر ) فيما إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر ، والآخر ظاهرا ، فانّ هذا المعنى ( لا إشكال في تحصيله في المتعارضين ) إذ لا يتصوّر فيهما إنقلاب النسبة ، بينما يتصوّر ذلك بالنسبة إلى التعارض بين أزيد من دليلين ، ولذلك قال : ( وأمّا إذا كان التعارض

ص: 201

بين أزيد من دليلين ، فقد يصعب تحصيل ذلك ، إذ قد يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث ، مثلاً : قد يكون النسبة بين الاثنين العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة إلى العموم المطلق

-----------------

بين أزيد من دليلين ) كثلاثة وأربعة - مثلاً - ( فقد يصعب تحصيل ذلك ) أي : يصعب تحصيل النصّ من بينها أو الأظهر ، حتّى يحمل الظاهر منها عليه .

وإنّما يصعب تحصيله ( إذ يختلف حال التعارض بين إثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث ) فانّ التعارض بين إثنين من الأدلّة الثلاثة يحقّق نوعا من التعارض ، لكن بعد ملاحظة أحدهما مع الدليل الثالث ينقلب نوع التعارض الذي تحقّق أوّلاً إلى نوع آخر ممّا يوجب الحيرة وعدم معرفة أنّ أيّهما أظهر وأيّهما ظاهر ، أو أيّهما نصّ وأيّهما ظاهر ؟ .

( مثلاً : قد يكون النسبة بين الاثنين ) من الأدلّة المتعارضة ( العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة ) أي : تنقلب النسبة بعد ملاحظة أحدهما مع الثالث ( إلى العموم المطلق ) فإذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : يستحبّ إكرام العدول ، كانت النسبة بين الدليلين العموم من وجه ، ومادّة الاجتماع هو : العالم العادل ، حيث أنّ دليل : أكرم العلماء ، يقول بوجوب اكرامه ، ودليل : يستحبّ اكرام العدول ، يقول باستحباب اكرامه ، ولكن إذا قال ثالثا : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ هذا الدليل الثالث بعد إخراجه من الدليل الأوّل : أكرم العلماء ، ينتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الدليل الثاني يستحبّ اكرام العدول من العموم من وجه ، إلى العموم المطلق ، لأنّ العدول أعمّ مطلقا من العلماء العدول .

ص: 202

أو بالعكس ، أو إلى التباين .

-----------------

وعليه : فانّ الدليلين الأوّلين من حيث انّ تعارضهما كان قبل الانقلاب بالعموم من وجه ، لا رجحان لأحدهما على الآخر ، ومن حيث انّ تعارضهما أصبح بعد الانقلاب بالعموم المطلق ، لزم ترجيح الخاص وهو : أكرم العلماء العدول ، على العام وهو : يستحبّ اكرام العدول ، وبذلك تحصل الحيرة في انّه هل النسبة بين « أكرم » و« يستحبّ » عموم مطلق أو عموم من وجه ؟ .

( أو بالعكس ) بأن كانت النسبة أوّلاً عموما مطلقا ، ثمّ تنقلب إلى عموم من وجه ، كما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق الخطباء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ نسبة أكرم العلماء ، مع لا تكرم فسّاق العلماء ، عموم مطلق ، وأمّا بعد لحاظ خروج فسّاق الخطباء عن العلماء ينقلب إلى العموم من وجه ، فمادّة الافتراق في الأوّل هو العالم العادل ، ومادّة الافتراق في الثاني هو الخطيب الفاسق ، ويتعارضان في الفاسق غير الخطيب ، فهل هنا يؤخذ بالعموم من وجه أو بالعموم المطلق ؟ وهذا موجب للتحيّر .

( أو ) تنقلب النسبة ( إلى التباين ) وذلك كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ، ثمّ قال أيضا : لا تكرم عدول العلماء ، فانّ تعارض الأوّل والثالث بالعموم المطلق ، لأنّ العلماء ، أعمّ مطلقا من العدول ، فإذا خصّصنا العلماء بالفسّاق لفرض أكثرية أفراد العلماء من أفراد الفسّاق ، أنتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الثالث من العموم المطلق إلى التباين لأنّه يكون حينئذٍ : أكرم عدول العلماء ، ولا تكرم عدول العلماء ، ممّا يوجب تحيّر الفقيه في انّه بأيّهما يأخذ ؟ هل يأخذ بالتباين ، أو بالعموم المطلق ؟ .

ص: 203

وقد وقع التوهم في بعض المقامات .

فنقول توضيحاً لذلك : إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين ، فإن كانت النسبة العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ، مثل قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع .

-----------------

هذا ( وقد وقع التوهّم في بعض المقامات ) بين النسبة الاُولى والنسبة الثانية ، فبدل الأخذ بالنسبة الاُولى أخذ بالنسبة الثانية ، كما سيأتي ذلك من المحقّق النراقي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وهذا ممّا يدعونا إلى زيادة توضيح لكيفيّة النسبة فيما لو تعارض أكثر من دليلين ( فنقول توضيحا لذلك ) الذي أجملناه : ( إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة ) على نوعين : متحدة ، ومختلفة .

أوّلاً : أن تكون النسبة متّحدة كما قال : إنّ النسبة بين المتعارضات ( إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين ) بلا تفاوت على ما قد تقدّم بيانه ، وحينئذٍ ( فان كانت النسبة : العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ) في مادّة الاجتماع ( مثل قوله : يجب اكرام العلماء ، ويحرم اكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع ) الذي هو : العالم الفاسق الشاعر ، حيث يجب اكرامه بحسب دليل : أكرم العلماء ، ويحرم اكرامه بحسب دليل : لا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ اكرامه بحسب دليل : أكرم الشعراء ، وهنا إذا كانت قرائن داخلية أو خارجية تُقدّم بعضها على بعض ، فالمحكّم هو تلك القرائن ، وإلاّ فالتعارض موجب لتساقط كلّ منها في خصوص المؤدّى والرجوع إلى الأصل الموافق ، وذلك على ما تقدّم من المصنّف ، أو موجب لإعمال التراجيح إذا قلنا بأنّ التراجيح جارية في العموم من وجه .

ص: 204

وإن كانت النسبة عموماً مطلقاً ، فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خُصِّص بهما ، مثل : المثال الآتي ، وإن لزم محذور نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام فسّاق العلماء ، وورد : يكره إكرام عدول العلماء ، فإنّ الّلازم من تخصيص العامّ بهما بقاؤه بلا مورد فحكم ذلك كالمتباينين ، لأن مجموع الخاصّين مباين للعامّ .

-----------------

هذا إن كانت النسبة بينها العموم من وجه ( وإن كانت النسبة عموما مطلقا ) كما في تعارض عام وخاصّين ( فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خُصّص بهما ) لوضوح : إنّ العام يخصّص بالخاص ، سواء كان خاصّا واحدا أو أكثر من خاصّ واحد ، فيما إذا لم يلزم محذور ، كما سيأتي بيان المحذور في بعض المواضع إن شاء اللّه تعالى ، وذلك ( مثل : المثال الآتي ) في قول المصنّف : « فإذا ورد أكرم العلماء ...» .

( وإن لزم محذور ) وذلك كما إذا خصّصنا العام بهما لم يبق للعام فرد ، أو بقي فرد قليل يستهجن إستعمال العموم فيه ( نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم اكرام فسّاق العلماء ، وورد ) أيضا ( يكره إكرام عدول العلماء ، فانّ اللازم من تخصيص العام ) الذي هو يجب اكرام العلماء ( بهما ) أي : بالخاصّين الذين هما : يحرم اكرام الفسّاق من العلماء ، ويكره إكرام عدول العلماء ( بقاؤه ) أي : بقاء العام ( بلا مورد ) وذلك لأنّ العلماء ينقسمون إلى : عدول وفسّاق ، والمفروض : انّه يحرم إكرام الفسّاق منهم ، ويكره إكرام عدولهم ، فلا يبقى معه للعام : أكرم العلماء ، مورد ، وهو مستهجن .

وعليه : ( فحكم ذلك كالمتباينين ، لأنّ مجموع الخاصّين مباين للعام ) فيكون من قبيل ما لو قال : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، حيث يلزم بعد عدم امكان

ص: 205

وقد توهّم بعض من عاصرناه ، فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الأفراد بإجماع ونحوه مع الخاصّ المطلق الآخر .

فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

-----------------

الجمع العرفي بينهما بالتخصيص وما أشبه ذلك ، معالجتهما بالتراجيح المؤدّية إلى تقديم الراجح منهما ، وإذا لم يكن هناك مرجّح لأحدهما فالتخيير بينهما .

وهكذا الحال فيما إذا بقي للعام أفراد قليلة يستهجن إستعمال العام فيها ، وذلك كما لو فرضنا إنقسام العلماء إلى : فقهاء ، واُدباء ، وأطباء ، وكان الأطباء فردين فقط ، فقال : يستحبّ أكرم العلماء ، ويجب اكرام الفقهاء ، ويحرم اكرام الاُدباء ، فانّه لا يبقى للعامّ : يستحبّ إكرام العلماء ، إلاّ فردان هما الطبيبان فقط ، وهذا إستعمال مستهجن .

هذا إن لزم من تخصيص العامّ بالخاصّين محذور ، وإن لم يلزم منه محذور لزم تخصيص العام بهما معا على ما تقدّم ( و ) لكن ( قد توهّم بعض من عاصرناه ) وهو المحقّق النراقي في كتابه : العوائد بالنسبة إلى تعارض الأدلّة ( فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الافراد بإجماع ونحوه ) أي : نحو الاجماع من الأدلّة اللبّية ، كما إذا كان المخصّص هو : العقل أو السيرة - مثلاً - فلاحظ ذلك ( مع الخاص المطلق الآخر ) فانّه خصّص العام أوّلاً بالمخصّص اللبّي ، ثمّ لاحظ النسبة بين هذا العام المخصّص ، والخاص الآخر اللفظي ممّا أوجب إنقلاب النسبة ، بينما كان عليه تخصيص العام بمجموع الخاصّين معا .

وأمّا مثال ذلك فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل ) لبّي كالاجماع ( على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

ص: 206

أيضاً : لاتكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا بينه وبين العامّ - بعد إخراج الفسّاق - عموماً من وجه .

ولا أظنّ يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين ، إذ لا وجه لسبق ملاحظة العامّ مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك في العامّ المخصّص بالاجماع أو العقل ، لزعم أنّ المخصّص المذكور يكون كالمتّصل ،

-----------------

أيضا ) دليل لفظي آخر يقول : ( لا تكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا ) أي : على رأي المحقّق النراقي ( بينه ) أي : بين الخاص اللفظي الذي هو : لا تكرم النحويين ( وبين العام ) الذي هو : أكرم العلماء ( بعد إخراج الفسّاق ) من أكرم العلماء ( عموما من وجه ) أي : يكون هكذا : أكرم العلماء العدول ، ولا تكرم النحويين ، فمادّة الافتراق من جانب أكرم العلماء العدول ، هو : العالم العادل غير النحوي ، ومن جهة لا تكرم النحويين ، هو : النحوي الفاسق ، فيجتمعان في النحوي العادل .

قال المصنّف : ( ولا أظنّ ) إنّ المحقّق النراقي ( يلتزم بذلك ) أي : بما يؤدّي إلى إنقلاب النسبة ( فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين ) لا أن يكون أحدهما دليلاً لبّيا والآخر دليلاً لفظيا ( إذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما ) أي : مع أحد الخاصّين ( على ملاحظته مع ) الخاصّ ( الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك ) الذي يؤدّي إلى إنقلاب النسبة ( في العام المخصّص بالاجماع أو العقل ) ممّا يكون المخصّص دليلاً لبّيا فقط .

وإنّما كان توهّمه ذلك في الدليل اللبّي فقط ( لزعم أنّ المخصّص المذكور ) وهو الخاص اللبّي ( يكون كالمتّصل ) أي : كالخاص المتّصل بالعام ، وإذا كان

ص: 207

فكأن العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ، والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين ، لا بين ما وضع اللفظ له ، وإن علم عدم استعماله ، فكأن المراد بالعلماء في المثال المذكور عدولهم ، والنسبة بينه وبين النحويين عموم من وجه .

ويندفع : بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

-----------------

كذلك ( فكأنّ العام ) معه قد ( إستعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ) من عمومه ، يعني : بأن استعمل في الباقي فقط ، وذلك لأنّ الخاص المتّصل لا يدع مجالاً لأن ينعقد للعام ظهورا لا في الباقي ، بخلاف الخاص المنفصل فانّه ليس كذلك ، وإذا كان الخاص اللبّي كالخاص المتّصل ، فانّه يجعل العام مستعملاً في الباقي ، لا في الموضوع له كما قال : ( والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلٍّ من الدليلين ) فلفظ : أكرم العلماء ، يكون قد استعمل في العلماء العدول ، لأنّه هو مراد المتكلّم من الجملتين ( لا بين ما وضع اللفظ له ) كالعلماء عدولاً أو فسّاقا ، حتّى ( وإن علم عدم إستعماله ) أي : عدم إستعمال العام فيما وضع له ، وذلك بأن لم يُرد المتكلّم من أكرم العلماء إلاّ عدولهم .

وعليه : ( فكأنّ المراد بالعلماء في المثال المذكور ) الذي قال : أكرم العلماء ، وقد دلّ الاجماع على : عدم إكرام الفسّاق ، هو : إرادة إكرام ( عدولهم ) فقط ( والنسبة بينه ) أي : بين العلماء العدول ( وبين النحويين عموم من وجه ) وإذا كان كذلك فيكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه ، حيث يلزم الرجوع إلى علاج التعارض في مادّة إجتماعه .

( ويندفع ) هذا التوهّم ( بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

ص: 208

الدليلين ، وظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ، وكيف كان ، فلابدّ من إحرازه حين التعارض وقبل علاجه ، إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ، لا إلى إحراز المقتضي .

والعامّ المذكور بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ، فالدليل المذكور ، والمخصّص اللفظي

-----------------

الدليلين ، و ) ذلك بأن كان لهما ظهوران متعارضان ، بلا فرق بين أن يكون تعارضهما بسبب الوضع ، أو بسبب الاستعمال ، إذ ( ظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه ) مثل ظهور : أكرام العلماء ، في العموم ، سواء كانوا عدولاً أم فسّاقا ( وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ) مثل ظهور : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، في إرادة المتكلّم اكرام العلماء العدول فقط .

( وكيف كان ) : فانّه سواء كان الظهور بسبب الوضع أم بسبب القرينة ( فلابدّ من إحرازه ) أي : إحراز ذلك الظهور ( حين التعارض وقبل علاجه ) أي : قبل علاج التعارض بالترجيح لوضوح : إنّ العلاج فرع الظاهرين المتعارضين ، كما قال : ( إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ) عن الظهور (لا إلى إحراز المقتضي) للظهور يعني : إنّ علاج المتعارضين ليس سببا لإحراز الظهور ، بل هو سبب لدفع مانع التعارض عن الظهور المحرز .

هذا ( والعامّ المذكور ) في مثال : أكرم العلماء ( بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي ) أي : اللبّي الذي يقول : يحرم إكرام الفسّاق من العلماء ( إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه ) أي : وضع أكرم العلماء ( للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ) اللبّي ( فالدليل ) اللبّي ( المذكور ، و ) كذلك ( المخصّص اللفظي )

ص: 209

سواء في المانعيّة عن ظهوره في العموم ، فيرفع اليد عن الموضوع له بهما ، وإن لوحظ بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص بذلك الدليل ، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك الدليل إلاّ بعد إثبات كونه تمام المراد ، وهو غير معلوم إلاّ بعد نفي احتمال مخصّص آخر ، ولو بأصالة عدمه ، وإلاّ فهو مجمل مردّد بين تمام المراد

-----------------

المذكور بعده ، يكونان ( سواء في المانعيّة عن ظهوره ) أي : عن ظهور : أكرم العلماء ( في العموم ) وذلك لأنّهما في مرتبة واحدة بالنسبة إلى أكرم العلماء ، ومعه ( فيرفع اليد عن الموضوع له ) وهو عموم : أكرم العلماء ( بهما ) أي : بالمخصّصين : اللفظي واللبّي معا ، حيث انّه لا أولوية لتقديم اللبّي على اللفظي .

هذا ، إن لوحظ العام بالنسبة إلى وضعه ( وإن لوحظ ) العامّ ( بالنسبة إلى المراد منه ) أي : من أكرم العلماء ( بعد التخصيص بذلك الدليل ) اللبّي القائل بحرمة اكرام فسّاق العلماء ( فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما ) أي : الفاسق الذي ( خرج بذلك الدليل ) اللبّي ، لأنّ المراد شيء ، والظهور شيء آخر ، فإذا إنثلم عموم أكرم العلماء بالدليل اللبّي لم يبق ظهور لأكرم العلماء في اكرام العلماء العدول ( إلاّ بعد إثبات كونه ) أي : أكرام العلماء العدول هو ( تمام المراد ) من أكرم العلماء ( وهو غير معلوم إلاّ بعد نفي إحتمال مخصّص آخر ، ولو ) كان نفي إحتمال وجود مخصّص آخر ( بأصالة عدمه ) أي : عدم المخصّص الآخر ، فالمخصّص اللبّي وأصالة العدم مجموعا يفيدان : إنّ المراد من أكرم العلماء هو : إكرام العلماء العدول .

( وإلاّ ) بأن لم ننفِ إحتمال وجود مخصّص آخر بأصالة العدم ونحوها ( فهو ) أي : العام الذي قد خصّص باللبّي حينئذٍ ( مجمل مردّد بين تمام المراد )

ص: 210

وبعضه ؛ لأنّ الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا معيّنة لتمام الباقي .

وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

-----------------

وهو اكرام تمام العلماء العدول حتّى النحويين - مثلاً - وذلك لأنّه لمّا إنثلم عموم أكرم العلماء بالمخصّص اللبّي ، لم يبق له ظهور ، فيكون مجملاً لتردّده بين تمام المراد وهو : وجوب إكرام العلماء العدول حتّى النحويين منهم ( و ) بين ( بعضه ) أي : بعض المراد ، وهو : وجوب إكرام العلماء العدول ، دون النحويين ، وذلك لإحتمال أن يكون هناك للعامّ المنثلم : أكرم العلماء ، مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي ، كما لو إحتملنا بأنّه لا يريد إكرام العلماء العدول الذين يصرفون عمرهم في النحو - مثلاً - حتّى تكون النتيجة : أكرم العلماء العدول غير النحويّين فإنّ هذا الاحتمال موجود هنا ، فيلزم نفيه ولو بأصالة العدم .

وإنّما يلزم أن ننفي بأصالة العدم إحتمال مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي الذي تمّ إنثلام عموم أكرم العلماء به ( لأنّ الدليل المذكور ) وهو : المخصّص اللبّي إنّما هو ( قرينة صارفة عن العموم ) أي : صارفة لعموم أكرم العلماء عن أن يشمل الفسّاق أيضا ( لا معيّنة لتمام الباقي ) بأن يكون قرينة على نفي وجود مخصّص آخر ، حتّى يتعيّن إرادة تمام الباقي وهو : إكرام العلماء العدول مطلقا ، سواء كانوا نحويّين أم غير نحويّين .

إن قلت : إحتمال وجود مخصّص آخر بعد المخصّص اللبّي منفيّ باجراء أصالة العدم ، فيتعيّن تمام الباقي .

قلت : ( وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

ص: 211

المخصّص اللفظي ، فلا ظهور له في تمام الباقي حتى يكون النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي العموم من وجه .

وبعبارة أوضح : تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم مع النحويين ، إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته ، فلا ظهور له حتى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ،

-----------------

المخصّص اللفظي ) المذكور بعده ، وهو الدليل الثالث القائل : لا تكرم النحويّين كما في مثال المصنّف .

والحاصل : إنّ ظهور العامّ في الباقي موقوف على أمرين : على الدليل اللبّي وهو كما في مثال المصنّف : الاجماع القائم على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وعلى الدليل اللفظي وهو بحسب مثال المصنّف : لا تكرم النحويّين ، وكلاهما في مرتبة واحدة ، فلا وجه لتقديم الدليل اللبّي على الدليل اللفظي ، وتخصيص العام : أكرم العلماء به فقط ، وعلى فرض تخصّصه به فقط ( فلا ظهور له ) أي : للعام : أكرم العلماء ( في تمام الباقي ) من العلماء العدول مطلقا نحويّين وغير نحويّين ( حتّى يكون ) أي : حتى يتمّ إنعقاد ( النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي ) المؤدّي إلى إنقلابها من العموم المطلق إلى ( العموم من وجه ) .

( وبعبارة أوضح ) في بيان أنّ المخصّص اللبّي واللفظي في مرتبة واحدة نقول : إنّ ( تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم ) بالمخصّص اللبّي ( مع النحويين ) الذي هو المخصّص اللفظي وفي عرض المخصّص اللبّي ( إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته ) أي : مانعيّة دليل النحويين عن ظهور العام : أكرم العلماء ، في عمومه ( فلا ظهور له ) أي : لا ظهور للعامّ : أكرم العلماء حينئذ ( حتّى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ) أي : ظاهر : أكرم العلماء ، وظاهر

ص: 212

لأن ظهوره يتوقف على علاجه ورفع تخصيصه ب« أكرم النحويين » ، وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له ، بل هو كالدليل الخارجي المذكور دافع من مقتضى وضع العموم .

نعم ، لو كان المخصّص متّصلاً بالعامّ من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض ، كما في « أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

-----------------

لا تكرم النحويين ، وذلك ( لأنّ ظهوره ) أي : ظهور العلماء بعد تخصيصه بالفسّاق من العلماء ( يتوقّف على علاجه ورفع تخصيصه بأكرم النحويين ) أيضا ، فاللازم أن نعالج العام : أكرم العلماء بعد معالجته بدليل : لا تكرم فسّاق العلماء ، بدليل لا تكرم النحويين أيضا ، حتّى ينعقد للعامّ : أكرم العلماء ، ظهور بعد إنثلام ظهوره سبب المخصّص الأوّل .

هذا إن كان التعارض قبل علاج دليل النحويّين ودفع مانعيّته ( وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له ) أي : لدليل النحويين ( بل هو ) أي : دليل النحويين ( كالدليل الخارجيّ المذكور ) وهو الدليل اللبّي القائل بعدم إكرام الفسّاق من العلماء ، في أنّه ( دافع من مقتضى وضع العموم ) فكما إنّ المخصّص اللبّي يدفع العامّ عمّا وضع له من العموم ، فكذلك المخصّص اللفظي ، ممّا يكشف عن انّ رتبة المخصّص اللبّي ، والمخصّص اللفظي ، مع العام نسبة واحدة ، وإذا كان المخصّصان في مرتبة واحدة ، فلماذا تقدّمون الدليل اللبّي حتّى تنقلب نسبة العام مع الدليل اللفظي إنقلابا من العموم المطلق إلى العموم من وجه ؟ .

( نعم ، لو كان المخصّص متّصلاً بالعام من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض ) أو من قبيل الاستثناء ، - مثلاً - ( كما في أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

ص: 213

عدولاً ، أو عدولهم » صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور ، وإن قلنا بكون العامّ المخصّص بالمتّصل مجازاً ، إلاّ أنّه يصير حينئذ من قبيل « أسدٌ يرمي » ، فلو ورد مخصّص منفصل آخر كان مانعاً لهذا الظهور .

وهذا بخلاف العامّ المخصّص المنفصل ، فإنّه

-----------------

عدولاً ، أو عدولهم ) أو إلاّ فسّاقهم ، أو ما أشبه ذلك ( صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب ) أكرم العلماء العدول - مثلاً - ( الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور ) الذي هو لا تكرم النحويين ، وذلك لأنّه ليس هنا ثلاثة أدلّة : عام ومخصّصان ، بل دليلان فقط : عام هو : أكرم العلماء العدول ، ومخصّص هو : لا تكرم النحويين ، فتصبح ملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي حتّى ( وإن قلنا بكون العام المخصّص بالمتّصل مجازا ، إلاّ انّه يصير حينئذ ) أي : حين يكون مجازا ( من قبيل «أسدٌ يرمي» ) .

وإنّما يكون من هذا القبيل ، لأنّ لفظ الأسد مع كونه مجازا مستعملاً في الرجل الشجاع في هذا التركيب ، لكنّه ظاهر في الرجل الشجاع في هذا الكلام بقرينة يرمي المتّصل به ، وهكذا يكون حكم العام المخصّص بالمتّصل ، ومعه ( فلو ورد مخصّص منفصل آخر ) غير المخصّص المتّصل به ( كان ) ذلك المخصّص المنفصل ( مانعا لهذا الظهور ) أي : لظهور العامّ المخصّص بالمتّصل ، فيلزم معالجته بملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص المنفصل .

( وهذا بخلاف العامّ المخصّص بالمنفصل ) كالدليل اللبّي فيما نحن فيه ( فانّه

ص: 214

لا يحكم - بمجرّد وجدان مخصّص منفصل - بظهوره في تمام الباقي ، إلاّ بعد إحراز عدم مخصّص آخر ، فالعامّ المخصّص بالمنفصل لا ظهور له في المراد منه ، بل هو قبل إحراز جميع المخصّصات مجمل مردّد بين تمام الباقي وبعضه ، وبعده يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص .

-----------------

لا يحكم - بمجرّد وجدان ) الدليل اللبّي الذي هو ( مخصّص منفصل - بظهوره ) أي : بظهور العام بعد تخصيصه به ( في تمام الباقي ، إلاّ بعد إحراز عدم مخصّص آخر ) غير اللبّي ، مثل دليل : لا تكرم النحويين فيما نحن فيه ، ولذا لم ينعقد الظهور لهذا العام المخصّص بالمنفصل إلاّ بعد مجيء المخصّص الآخر ، فإذا جاء فلا يلاحظ النسبة بين ظهور هذا العام المخصّص بالمنفصل ، وبين المخصّص الآخر ، بل المخصّص الآخر حاله حال المخصّص اللبّي في كون كليهما في مرتبة واحدة ، فإذا اُخرجا عن العام معا إنعقد للعام ظهور حينئذ .

وعليه : ( فالعامّ المخصّص بالمنفصل ) اللبّي كما فيما نحن فيه ( لا ظهور له في المراد منه ) أي : في المراد من هذا العام بعد إنثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل ( بل هو ) أي : هذا العام ( قبل إحراز جميع المخصّصات ) اللبّية واللفظية ( مجمل ) لأنّه لا ظهور له بعد إنثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل ، فهو بعده ( مردّد بين تمام الباقي ) من العلماء العدول نحويّا كانوا أم غير نحويّين ( و ) بين ( بعضه ) أي : بعض الباقي ، وذلك بأن يخرج النحويون أيضا كما خرج الفسّاق بسبب الدليل اللبّي ( و ) لكن ( بعده ) أي : بعد إحراز جميع المخصّصات ( يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص ) اللبّي واللفظي معا .

ص: 215

أمّا المخصّص بالمتصل ، فلمّا كان ظهورُهُ مستنداً إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة أو بوضع لفظ القرينة ، بناءا على كون لفظ العامّ مجازاً ، صحّ اتصاف الكلام بالظهور ، لاحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب أو لفظ القرينة .

-----------------

هذا هو بالنسبة إلى المخصّص بالمنفصل ، و ( أمّا المخصّص بالمتّصل ) كما ذكرنا في مثل : أكرم العلماء العدول ، أو ان كانوا عدولاً ، أو غير ذلك من أمثلة المخصّصات المتّصلة ( فلمّا كان ظهورُهُ مستندا إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة ) فإنّ جماعة قالوا : بأنّ ذا القرينة والقرينة معا لهما وضع تركيبي في المراد ، فرأيت أسدا يرمي - مثلاً - له وضع تركيبي في الرجل الشجاع ، وهكذا غيره من الأمثلة ( أو ) كان ظهوره مستندا إلى القرينة المتّصلة يعني : ( بوضع لفظ القرينة ، بناءا على كون لفظ العام مجازا ) حيث قال جماعة آخرون : بأنّه لا وضع تركيبي لأسد يرمي في الرجل الشجاع ، وإنّما يفهم الرجل الشجاع منه بسبب تعدّد الدالّ والمدلول .

وبالجملة : فانّ المخصّص بالمتّصل لما كان له ظهور في الباقي على التقديرين المذكورين ( صحّ اتّصاف الكلام بالظهور ) في الباقي ، ومعه فيلاحظ النسبة بينه وبين الخاص الآخر ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم العلماء العدول ، ثمّ قال : ولا تكرم النحويين ، يلاحظ النسبة بين العلماء العدول ، وبين النحويين ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه .

وإنّما قال : يصحّ اتّصاف الكلام بالظهور في الباقي ، ولم يقل : نصّا في الباقي ( لإحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب ) أي : الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة ( أو ) خلاف وضع ( لفظ القرينة ) بناءا على كونه مجازا ، فانّه

ص: 216

والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتصل ؛ لأن مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ، ولذا يفيد الحصر ، فإذا قال :« لا تكرم العلماء إلاّ العدول » ثمّ قال : « أكرم النحويين » ، فالنسبة عموم من وجه ؛ لأن إخراج غير العادل من النحويين مخالف لظاهر الكلام الأوّل ،

-----------------

كما يُحتمل أن يكون قوله : لا تكرم النحويّين ، مخصّصا للعلماء ، فكذلك يحتمل حمله على فسّاق النحويين ، فقد عرفت نزاعهما في مادّة الاجتماع الذي هو : العالم النحوي الفاسق .

هذا ( والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتّصل ) لا المنفصل ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، كان بمنزلة أن يقول : أكرم العلماء العدول ، وذلك ( لأنّ مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ) الذي هو العلماء العدول على ما في المثال ( ولذا ) أي : لأجل ظهور مجموع الكلام في تمام الباقي نراه ( يفيد الحصر ) أي : يفيد حصر الحكم في تمام الباقي مثل وجوب الاكرام لغير الفاسق من العلماء في مثالنا .

وعليه : ( فإذا قال : «لا تكرم العلماء إلاّ العدول» ، ثمّ قال : «أكرم النحويين» ، فالنسبة ) بينهما ( عموم من وجه ) وذلك لأنّه يكون بمنزلة قوله : أكرم العلماء العدول ، وأكرم النحويين ، ففي العالم النحوي الفاسق ، يقول الدليل الأوّل : لا تكرمه لفسقه ، ويقول الدليل الثاني : أكرمه لنحوه ، وهذا التعارض كاشف عن نسبة العموم من وجه ، وذلك ( لأنّ إخراج غير العادل ) أي : الفاسق ( من النحويين ) والحكم بوجوب إكرامه ( مخالف لظاهر الكلام الأوّل ) الذي قال : لا تكرم العلماء إلاّ العدول ، وهذه المخالفة لا تكون لو كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، لأنّ الخاص يكون قرينة على المراد من العام بلا مخالفة ؟ .

ص: 217

ومن هنا يصحّ أنّ يقال : النسبة بين قوله : « ليس في العاريّة ضمان إلاّ الدينار أو الدرهم » ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة : عموم من وجه ، كما قوّاه غيرُ واحد من متأخّري المتأخّرين .

-----------------

( ومن هنا ) أي : من جهة إنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المخصّص المتّصل ، وليس من قبيل المنفصل ، والمستثنى منه يكون ظاهرا في تمام الباقي ( يصحّ أن يقال : النسبة بين قوله : «ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار أو الدرهم» (1) ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة (2) : عموم من وجه ، كما قوّاه غير واحد ) من الفقهاء أمثال المحقّق السبزواري ، وصاحب الرياض ، ومَن إليهما ( من متأخّري المتأخّرين ) .

هذا ، ولا يخفى : إنّ في المقام خمس طوائف من الروايات :

الاُولى : روايات تنفي الضمان مطلقا ، مثل الرواية الصحيحة : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (3) .

الثانية : روايات تستثني صورة إشتراط الضمان .

الثالثة : روايات تستثني الذهب والفضّة ، مثل الموثّقة : «العارية ليس على مستعيرها ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضّة فانّهما مضمونان إشترطا أو لم يشترطا» (4) .

ص: 218


1- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح2 ، الاستبصار : ج3 ص126 ب83 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص183 ب22 ح7 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24238 و ح24236 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص176 ب22 ح34 .
3- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح117 ، الاستبصار : ج3 ص124 ب83 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24228 .
4- - من لايحضره الفقيه : ج3 ص302 ب2 ح4083 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص183 ب22 ح10 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24239 .

...

-----------------

الرابعة : روايات تستثني الدنانير فقط ، مثل الرواية الصحيحة : « لا يضمن العارية ، إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمانا ، إلاّ الدنانير فانّها مضمونة ، وإن لم يشترط فيها ضمانا» (1) .

الخامسة : روايات تستثني الدراهم فقط ، مثل : الحسن كالصحيح : «ليس على صاحب العارية ضمان ، إلاّ أن يشترط صاحبها ، إلاّ الدراهم ، فانّها مضمونة إشترط صاحبها أو لم يشترط » (2) .

هذا ، وحيث انّه لا كلام في الاشتراط وعدم الاشتراط ، وذلك لأنّ الاشتراط يوجب الضمان قطعا ، كما انّه لا كلام في أنّ النقدين لهما حكم واحد ، فروايتاهما كرواية واحدة ، ولذا يكون الكلام في ثلاث طوائف من هذه الأخبار فقط ، علما بأنّ المقطوع به هو : عدم الضمان في الأشياء مطلقا إلاّ في الدرهم والدينار ، وإنّ المختلف فيه هو : الذهب والفضّة كالحُلي ، فهل فيهما ضمان كما ذهب إليه المحقّق والشهيد الثانيان ، أو ليس فيهما ضمان كما ذهب إليه المشهور ؟ فَمن قال : فيهما ضمان ، فقد جمع بين روايات النقدين وروايات الذهبين ، واستثنى الجميع من العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لاضمان في العارية إلاّ إذا كان ذهبا أو فضّة سواء كان مسكوكا أو لا ، ومن قال : لا ضمان في الذهبين ، فقد خَصَّصَ بروايات النقدين روايات الذهبين ، لأنّ بينهما عموما

ص: 219


1- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح2 ، الاستبصار : ج3 ص126 ب83 ح8 ، وسائل الشيعة : ج19 ص96 ب3 ح24236 كتاب العارية .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص184 ب22 ح11 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24238 كتاب العارية .

فيرجّح الأوّل ؛ لأن دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني بالاطلاق ، أو يُرجعُ إلى نفي الضمان ، خلافاً لما ذكره بعضهم ،

-----------------

مطلقا وإستثنى النقدين من الدليل العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان في العارية إلاّ في النقدين فقط .

ومجمل الكلام في هذا الاختلاف هو : إنّ روايات النقدين والذهبين هل تُقيّد إحداهما الاُخرى أم لا ؟ لكن المصنّف وجماعة جعلوا النسبة بينهما العموم من وجه ، فقالوا : إنّ الشارع قال مرّة : ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار والدرهم ، ومعناه : انّه ليس في غير النقدين ضمان ، وقال مرّة اُخرى : في الذهب والفضّة ضمان ، ومعناه : إنّ الذهب والفضّة يضمنان ، فمادّتا الافتراق هما : النقدان فانّ فيهما الضمان ، والكتاب - مثلاً - فانّه لا ضمان فيه ، ومادّة الاجتماع هو : غير المسكوك من الذهبين ، فالدليل الأوّل يقول بعدم ضمانه ، والثاني يقول بضمانه ( فيرجّح الأوّل ) أي : قوله : ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار والدرهم ( لأنّ دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني ) أي : قوله : في الذهب والفضّة ضمان ( بالاطلاق ) وقد سبق : انّه إذا تعارض العموم والاطلاق في مادّة الاجتماع ، فانّه يقدّم العموم على الاطلاق .

( أو ) يقال في وجه ترجيح الدليل الأوّل القائل بعدم الضمان إلاّ في النقدين على الثاني القائل بالضمان في الذهبين : إنّهما لمّا تعارضا في الذهبين غير المسكوكين تساقطا في خصوص مؤدّاهما ، وبعده ( يُرجَعُ إلى ) عمومات ( نفي الضمان ) وهذا هو المشهور بين الأصحاب ، فيكون الضمان خاصّا بالنقدين ، ولا ضمان في الذهبين غير المسكوكين كالحُلي وما أشبه ذلك .

( خلافا لما ذكره بعضهم ) وهو المحقّق الثاني المشهور بالكركي :

ص: 220

من أنّ تخصيص العموم بالدرهم أو الدينار لاينافي تخصيصهُ أيضاً بمطلق الذهب والفضة .

وذكره صاحب المسالك وأطال الكلام في توضيح ذلك ، فقال ما لفظه : « لا خلاف في ضمانهما - يعني : الدراهم والدنانير - وإنّما الخلاف في غيرهما من الذهب والفضة ، كالحلي المصوغة ، فإنّ مقتضى الخبر الأوّل ونحوه دخولها ، ومقتضى تخصيص الثاني بالدراهم والدنانير خروجها ،

-----------------

( من أنّ تخصيص العموم بالدرهم أو الدينار لا ينافي تخصيصه أيضا بمطلق الذهب والفضّة ) فالعام الذي يقول : لا ضمان ، خصّص مرّتين : مرّة بالدينار والدرهم ، ومرّة بالذهب والفضّة ، ففي الجميع وهو : النقدان والذهبان ضمان .

هذا ( وذكره ) أي : ذكر مثل كلام المحقّق الثاني ( صاحب المسالك ) الشهيد الثاني أيضا ( وأطال الكلام في توضيح ذلك ) الذي ذكرناه : من تخصيص العامّ : لا ضمان ، بمخصّصين هما : النقدان والذهبان ( فقال ما لفظه : لا خلاف ) بين الأصحاب ( في ضمانهما ، يعني : الدراهم والدنانير ) فانّ تخصيصهما للعام الدالّ على عدم الضمان في العارية متيقّن ( وإنّما الخلاف في غيرهما ) أي : غير النقدين ( من الذهب والفضّة ، كالحُلي المصوغة ) وكسبائك الذهب والفضّة غير المصوغين إطلاقا .

إذن : فالخلاف في مثل الحُلي للخلاف الموجود في الأخبار ( فانّ مقتضى الخبر الأوّل ونحوه ) من الأخبار الدالّة على إستثناء مطلق الذهب والفضّة وإنّهما يضمنان ( دخولها ) أي : دخول مثل الحُلي فيما يضمن ( ومقتضى تخصيص الثاني ) ونحوه من الأخبار المطلقة ( بالدراهم والدنانير ) وإنّ الذي فيه الضمان هو فقط الدرهم والدينار ( خروجها ) أي : خروج مثل الحُلي عمّا يضمن .

ص: 221

ومن الأصحاب من نظر إلى أنّ الذهب والفضة مخصّصان من عدم الضمان مطلقاً ولامنافاة بينهما وبين الدراهم والدنانير ؛ لأنّهما بعض أفرادهما ، ويستثنى الجميع ويثبت الضمان في مطلق الجنسين .

ومنهم من التفت إلى أنّ الذهب والفضة مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمهُ ، والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان ،

-----------------

( و ) عليه : فنظرا إلى هذا الاختلاف نرى إنّ ( من الأصحاب ) كالمحقّق الثاني ( من نظر إلى أنّ الذهب والفضّة مخصّصان من عدم الضمان مطلقا ) أي : إنّ عدم ضمان العارية قد خصّص بالذهب والفضّة ، ففي الذهب والفضّة ضمان ، سواء كانا مسكوكين أو لم يكونا مسكوكين ( و ) أضاف المحقّق الثاني قائلاً : بأنّه ( لا منافاة بينهما ) أي : بين الذهب والفضّة ( وبين الدراهم والدنانير ) في كون الجميع خارجا عن عدم الضمان ( لأنّهما ) أي : النقدين ( بعض أفرادهما ) أي : بعض أفراد الذهبين ( و ) حينئذ ( يستثنى الجميع ) وهو : الذهبان والنقدان من عموم : لا ضمان ( ويثبت الضمان في مطلق الجنسين ) أي : الذهبين سواء كانا مسكوكين أم لا .

( ومنهم ) كفخر المحقّقين ( من التفت إلى انّ الذهب والفضّة ) جنسان معرّفان باللام فهما إمّا ( مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمه ) أي : عدم إفادة العموم ، بل إفادة الاطلاق ، لأنّهم اختلفوا في أنّ مثل «العالم» هل هو عام أو مطلق ؟ ( والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان ) لذينك المطلقين أو العامّين ، وذلك لأنّ الذهب والفضّة لهما قسمان : مسكوك وغير مسكوك ، فالمسكوك يقيّد الذهب والفضّة .

ص: 222

فيُجمعُ بين النصوص بحمل المطلق على المقيّد أو العامّ على الخاصّ .

والتحقيق في ذلك أن نقول : إنّ هنا نصوصاً على ثلاثة أضرُب :

أحدها : عامّ في عدم الضمان من غير تقييد ، كصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام : « ليس على مستعير عارية ضمانٌ ، وصاحبُ العارية والوديعة مؤتمنٌ » ، وقريب منها صحيحةُ محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام .

-----------------

وعليه : ( فيُجمَعُ بين النصوص ) المتعارضة التي ذكر بعضها الذهبين ، وذكر بعضها الآخر النقدين وذلك ( بحمل المطلق ) الذهب والفضّة ( على المقيّد ) الدرهم والدينار إن قلنا بأنّ الذهب والفضّة الجنس المعرّف باللام مطلق ، وإن قلنا بأنّه عامّ حملنا العامّ على الخاص كما قال : ( أو العام على الخاص ) فما ذكر من إثبات الضمان في الذهبين نقيّده بالمسكوكين فقط ، فيكون غير المسكوكين من الذهب والفضّة داخلاً في العام القائل بعدم الضمان .

ثمّ قال صاحب المسالك الشهيد الثاني بعد هذا الكلام : ( والتحقيق في ذلك ) أي : في هذا البحث تأييدا لكلام المحقّق الثاني الذي قال بوجود الضمان في كلّ من الذهبين والنقدين ، دون كلام فخر المحقّقين الذي خصّص الضمان بالنقدين فقط هو : ( أن نقول : إنّ هنا نصوصا على ثلاثة أضرب ) أي : على ثلاثة أقسام :

( أحدها : عام ، في عدم الضمان من غير تقييد ، كصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (1) وقريب منها : صحيحة (2) محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام ) ومعنى

ص: 223


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح117 ، الاستبصار : ج3 ص124 ب83 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24228 .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح2 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص302 ب2 ح4084 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24229 .

وثانيها : بحكمها ، إلاّ أنّه استثنى مطلق الذهب والفضة .

وثالثها : بحكمها ، إلاّ أنّه استثنى الدنانير والدراهم ، فلابدّ من الجمع ، فإخراج الدراهم والدنانير لازم لخروجهما على الوجهين الآخرين .

فإذا خرجا من العموم بقي فيما عداهما

-----------------

كونه مؤتمنا : انّه لا يحتاج إلى إثبات التلف وإقامة البيّنة عليه فيما إذا تلفت العارية عنده ، فإذا ادّعى تلفها كفاه الحلف وذلك على ما اشتهر من انّه «ليس على الأمين إلاّ اليمين» ، وهذا القسم يدلّ على عدم الضمان في العارية .

( وثانيها : بحكمها ) أي : بحكم الاُولى في نفي الضمان عن العارية ( إلاّ أنّه إستثنى مطلق الذهب والفضّة ) ممّا يدل على أنّ في مطلق الذهب والفضّة ضمان ، سواء كانا مسكوكين أم لا .

( وثالثها : بحكمها ) أي : بحكم الاُولى في نفي الضمان عن العارية ( إلاّ انّه استثنى الدنانير والدراهم ) فقط ، ممّا يدلّ على عدم الضمان في غير المسكوك من الحُلي ونحو الحُلي .

وعليه : ( فلابدّ من الجمع ) بين هذه الطوائف الثلاث ، وذلك بالجمع الخاصّين وهما : وجود الضمان في النقدين ، ووجود الضمان في الذهبين ، مع العام القائل بعدم الضمان في العارية ( فإخراج الدراهم والدنانير ) من العام : لا ضمان ( لازم لخروجهما على الوجهين الآخرين ) أي : سواء إستثني الجنسين : الذهب والفضّة مطلقا ، أو استثني النقدين : الدرهم والدينار فقط ، فالنقدان خارجان عن العام : لا ضمان ، ففيهما الضمان ( فإذا خرجا ) أي : خرج النقدان ( من العموم ) أي : من عموم العام : لا ضمان ( بقي ) عموم العام ( فيما عداهما )

ص: 224

بحاله ، وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين ، فلابدّ من الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ ، فإن قيل : لمّا كانت الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضة وجب تخصيصهما بهما عملاً بالقاعدة ، فلا تبقى المعارضة بين العامّ الأوّل والخاصّ الآخر .

-----------------

أي : فيما عدا النقدين سالما ( بحاله ) فيشمل الذهبين وتكون النتيجة : انّه لاضمان في الذهبين .

هذا ( و ) لكن حيث ( قد عارضه ) أي عارض العام الذي يقول بعدم الضمان مطلقا ( التخصيص بمطلق الجنسين ) الدالّ على خروج الذهبين منه ، ( فلابدّ من الجمع بينهما ) أي بين العام الذي يقول بعدم الضمان ، وبين الخاص الذي يقول بالضمان في مطلق الجنسين ، وذلك ( بحمل العام على الخاص ) فنقول : لا ضمان إلاّ في الجنسين ، كما قلنا سابقا : لا ضمان إلاّ في النقدين ، فيكون الخارج من : «لا ضمان» ، الذهبان والنقدان معا ، كما قال بذلك المحقّق الثاني .

( فان قيل ) من جانب فخر المحقّقين ومن تبعه من الذين يقولون بعدم الضمان في الجنسين : بأنّه ( لمّا كانت الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما ) أي : تخصيص الذهب والفضّة ( بهما ) أي : بالدراهم والدنانير ، وذلك ( عملاً بالقاعدة ) أي : قاعدة حمل العام على الخاص العرفية ، فنحمل العام الذي هو الذهب والفضّة ، على الخاص الذي هو الدراهم والدنانير ، وحينئذ ( فلا تبقى المعارضة بين العام الأوّل ) القائل بعدم الضمان في العارية ( والخاص الآخر ) الدالّ على وجود الضمان في الجنسين ، لأنّ الجنسين منصرفان إلى النقدين فقط ، فيكون هنا خاص واحد وهو : النقدان ، فيخرج النقدان فقط من العام : «لا ضمان» .

ص: 225

قلنا : لا شكّ أنّ كلاً منهما مخصّص لذلك العامّ ؛ لأنّ كلاً منهما مستثنى ، وليس هنا إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقاً ، وذلك غير مانع ، فيخصّص العامّ الأوّل بكلّ منهما أو يقيّد مطلقه ، لا أنّ أحدهما يخصّص بالآخر ، لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضة في لفظٍ ،

-----------------

( قلنا : لا شكّ انّ كلاًّ منهما ) أي : من النقدين والذهبين ( مخصّص لذلك العام ) الأوّل القائل بعدم الضمان ، وذلك ( لأنّ كلاً منهما ) أي : من النقدين والذهبين ( مستثنى ) من ذلك العام القائل بعدم الضمان ( وليس هنا ) ما يمنع من تخصيص العام بالنقدين وبالذهبين معا ( إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقا ) فانّه قد عرفت : إنّ الذهبين أعمّ من النقدين ( وذلك ) أي : كون أحد المخصّصين أعمّ من الآخر ( غير مانع ) عن التخصيص بهما معا ، فهو كما إذا قال : لا تكرم الفسّاق ، ثمّ قال : أكرم العالم الفاسق ، ثمّ قال أيضا : أكرم النحوي الفاسق ، فانّه كما يخصّص هذا العامّ بالخاصّين معا ، فكذلك فيما نحن فيه .

وعليه : فإذا لم يكن هناك مانع من التخصيص بهما معا ( فيخصّص العامّ الأوّل ) القائل بعدم الضمان ( بكلّ منهما ) أي : بكلّ ممّا دلّ على الضمان في النقدين ، وما دلّ على الضمان في الذهبين ( أو يقيّد مطلقه ) بهما حيث قد عرفت أنّ في المعرّف باللام خلاف ، فقد إختلف في انّه هل هو عام أو مطلق ، فإذا قلنا : انّه عام ، خصّصناه بهما ، وإذا قلنا : انّه مطلق ، قيدناه بهما ؟ .

إذن : فانّا نخصّص العامّ بكلّ من الخاصين ( لا أنّ أحدهما ) أي : أحد الخاصّين وهو : الذهبان ( يخصّص بالآخر ) وهو النقدان حتّى يكون الخارج النقدين فقط ، وذلك ( لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضّة في لفظ ،

ص: 226

والدراهم والدنانير في لفظٍ ، حتى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص والتقييد .

وأيضاً : فإنّ العمل بالخبرين الأخصّين لايمكن ؛ لأن أحدهما لم يخصّ إلاّ الدنانير واُبقي الباقي على حكم عدم الضمان صريحاً ، والآخر لم يستثن إلاّ الدراهم واُبقي الباقي على حكم عدم الضمان كذلك .

فدلالتهما قاصرة ، والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد ،

-----------------

والدراهم والدنانير في لفظ ) آخر ، فانّه لا منافاة في ذلك ( حتّى يوجب ) هذا التنافي ( الجمع بينهما ) أي : بين الذهبين والنقدين ، وذلك ( بالتخصيص والتقييد ) أي : بتخصيص الذهبين بالنقدين ، أو تقييده به .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأوّل ، لبيان انّه لا يخصّص الذهبان بالنقدين ، وهناك وجه ثانٍ لبيان ذلك أشار إليه المصنّف بقوله : ( وأيضا : فانّ العمل بالخبرين الأخصّين ) وهما : ما استثني فيه الدراهم فقط ، وما استثني فيه الدنانير فقط ، اللذين عدّهما الفقهاء بمنزلة خبر واحد ، فانّه ( لا يمكن ) أي : أنّ العمل بهذين الخبرين الأخصّين غير ممكن ، وذلك ( لأنّ أحدهما لم يخصّ إلاّ الدنانير ) فقط ( وأبقى الباقي على حكم عدم الضمان صريحا ، والآخر لم يستثن إلاّ الدراهم ) فقط ( وأبقي الباقي على حكم عدم الضمان كذلك ) أي : صريحا ، فصريح كلّ منهما حصر الاستثناء فيه خاصّة دون الآخر ، وهذا ممّا يؤدّي إلى قصور في دلالتهما بحيث لا يمكن العمل بهما .

وعليه : ( فدلالتهما ) أي : دلالة هذين الخبرين الأخصّين ( قاصرة ) عن صلاحيّة الاستثناء عن العام الذي يقول بعدم الضمان ، وذلك لتعارض الحصر في أحدهما مع الحصر في الآخر ( والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد ) أي :

ص: 227

بخلاف الخبر المخصّص بالذهب والفضة .

فإن قيل : التخصيص إنّما جعلناه بهما معاً ، ولا بكلّ واحد منهما ، فلا يضرُّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه .

قلنا : هذا - أيضاً - لايمنع قصور كلّ واحد من الدلالة ؛ لأن كلّ واحد

-----------------

إنّ ظاهر كلّ واحد من الأخصّين الذي هو : إختصاص الضمان بأحدهما فقط دون الآخر لم يكن هناك قائل يقول به ، فالخبران الأخّصان إذن يتساقطان في خصوص مؤدّاهما ( بخلاف الخبر المخصّص بالذهب والفضّة ) فلا قصور في دلالته ، فيكون هو المخصّص للعام : لا ضمان ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان إلاّ في الذهبين ، سواء كان الذهبان نقدين أو غير نقدين .

( فإن قيل ) في ردّ الوجه الثاني الكائن لبيان عدم تخصيص الذهبين بالنقدين الذي ذكرناه بقولنا : «وأيضا فانّ العمل بالخبرين الأخصّين لا يمكن» إن قيل : انّ ( التخصيص إنّما جعلناه بهما معا ) أي : انّا جعلنا التخصيص بكلا الخبرين الأخصّين جميعا ، وذلك بعد جعلهما بمنزلة خبر واحد حيث جمعنا بينهما برفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، وإذا صارا بمنزلة خبر واحد أمكن العمل بهما لتخصيص الذهبين ( ولا بكلّ واحد منهما ) منفردا حتّى يرد عليه إشكال قصور دلالته عن إفادة المطلوب من تخصيص الذهبين ، ومعه ( فلا يضرُّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه ) علما بأنّ الحكم المطلوب فيما نحن فيه هو : تخصيص الذهبين بالنقدين .

( قلنا : هذا ) الذي ذكرتم بقولكم : «التخصيص إنّما جعلناه بهما معا» ( أيضا لا يمنع قصور كلّ واحد من الدلالة ) على المطلوب وهو : تخصيص الذهبين بالنقدين ، وذلك ( لأنّ كلّ واحد ) من الخبرين الأخصّين في نفسه ، أي :

ص: 228

مع قطع النظر عن صاحبه قاصر ، وقد وقعا في وقتين في حالتين مختلفتين .

فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما غير مقصود .

وإنّما المستثنى فيهما من جملة الأفراد المستثناة ،

-----------------

( مع قطع النظر عن صاحبه قاصر ) عن الدلالة على المطلوب وهو : تخصيص الذهبين لهما ، وإذا كان كلّ واحد منهما قاصرا في نفسه ، فمجرّد الجمع بينهما وعلاج تعارضهما في مقام العمل لا يجدي في رفع القصور المذكور ، إذ الجمع بين الخبرين الأخصّين لا يجعلهما خبرا واحدا حقيقة ، حتّى يتمكّن هذا الخبر الواحد من تخصيص ما دلّ على إستثناء الذهبين .

كيف ( وقد وقعا ) أي : وقع الخبران الأخصّان : خبر الدنانير ، وخبر الدراهم ( في وقتين في حالتين مختلفتين ) وهذا الترتّب في الوقت والاختلاف في الأحوال هو لازم التعدّد ، فإنّ معنى كون خبر الدنانير غير خبر الدراهم : انّهما وقعا في زمانين ، وصدرا في كلامين عن الإمام عليه السلام : فليس هناك خبر واحد حقيقة .

إذن : ( فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما ) أي : من كلّ من الخبرين الأخصّين المرتبطين بالدنانير والدراهم ( غير مقصود ) إذ لا حصر للدنانير ، كما لا حصر للدراهم ( وإنّما المستثنى فيهما ) أي : في الخبرين الأخصّين من الدنانير والدراهم كائنان ( من جملة الأفراد المستثناة ) فلا حصر حقيقي ليكون له مفهوم ، وذلك لأنّ مفاد الخبرين الأخصّين بعد إلغاء الحصر هو : مجرّد إستثناء الدراهم ، وإستثناء الدنانير ، من دون نظر إلى عدم إستثناء شيء آخر ، فمن الممكن إستثناء شيء آخر ، كما ورد في خبر ثالث إستثناء الذهبين ، ومعه فاللازم أن نقول : انّه لا ضمان في العارية إلاّ في النقدين ، وإلاّ في الذهبين .

ص: 229

وعلى تقدير الجمع بينهما بجعل المستثنى مجموع ما استفيد منهما لايخرجان عن القصور في الدلالة على المطلوب ، إذ لايعلم منهما ، إلاّ أنّ الاستثناء ليس مقصوراً على ما ذكر في كلّ واحد .

فإن قيل : إخراجُ الدراهم والدنانير خاصّةٌ ينافي إخراج جملة الذهب والفضة ، فلابدّ من الجمع بينهما بحمل الذهب

-----------------

هذا ( و ) قد عرفت : انّه ( على تقدير الجمع بينهما ) أي : بين خبر الدنانير ، وخبر الدراهم ، وذلك ( بجعل المستثنى ) من العام القائل بعدم الضمان هو : ( مجموع ما ) أي : الدينار والدرهم الذي ( استفيد منهما ) أي : من الخبرين الأخصّين ، فانّه حتّى على تقدير الجمع بينهما ( لا يخرجان ) أي : لا يخرج هذان الخبران الأخصّان ( عن القصور في الدلالة على المطلوب ) الذي هو تخصيص الذهبين بالنقدين .

وإنّما لا يخرج الخبران الأخصّان - القاصران في الدلالة بسبب تعارض الحصر فيهما - عن القصور ، بالجمع بينهما ( إذ لا يعلم منهما ، إلاّ أنّ الاستثناء ليس مقصورا على ما ذكر في كلّ واحد ) منهما ، لإحتمال أن يكون هناك إستثناء غيرهما كاستثناء الذهبين ، وغير ذلك ممّا يوجب القصور في دلالة الخبرين الأخصّين ، ومع هذا القصور في الدلالة كيف يمكن أن يقال : بأنّه أخصّ من دلالة الذهبين حتّى يصحّ تقييد الذهبين بالنقدين ؟ .

( فإن قيل ) في ردّ بيان عدم تخصيص الذهبين بالنقدين أيضا : إنّ ( إخراج الدراهم والدنانير خاصّة ) من عموم : لا ضمان ( ينافي إخراج جملة الذهب والفضّة ) وعمومها منه ، لوضوح : إنّ إخراج الخاص معارَض بإخراج العام ، وإذا كان كذلك ( فلابدّ من الجمع بينهما ) أي : بين الاخراجين ، وذلك ( بحمل الذهب

ص: 230

والفضة على الدراهم والدنانير ، كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية والضمان لهذين النوعين لتحقّق المنافاة بين الأمرين .

قلنا : نمنع المنافاة ، فإنّ استثناء الدراهم والدنانير اقتضى بقاء العموم في حكم عدم الضمان في ما عداهما ، وقد عارضه الاستثناء الآخر ، فوجب تخصيصُهُ به أيضاً ، فلا وجه لتخصيص أحد المخصّصين بالآخر .

-----------------

والفضّة على الدراهم والدنانير ) فتكون النتيجة : ثبوت الضمان في الدراهم والدنانير خاصّة .

وإنّما يجب الجمع بين خصوص الدراهم والدنانير وبين عموم الذهب والفضّة ( كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية ) الذي هو العام المدلول عليه بقولهم : «لا ضمان في العارية» ( و) بين ( الضمان لهذين النوعين ) من النقدين خاصة ، وذلك ( لتحقّق المنافاة بين الأمرين ) أي : بين عدم الضمان لمطلق العارية ، وبين الضمان للنقدين .

( قلنا : نمنع المنافاة ) بين إخراج النقدين وإخراج الذهبين ( فانّ إستثناء الدراهم والدنانير ) من العامّ القائل بعدم الضمان في العارية ( إقتضى بقاء العموم ) أي : بقاء عموم هذا العام بالنسبة إلى غير النقدين ( في حكم عدم الضمان فيما عداهما ) أي : فيما عدا النقدين ( و) لكن حيث ( قد عارضه ) أي : عارض هذا العموم ( الاستثناء الآخر ) وهو إستثناء الذهبين من عدم الضمان أيضا ( فوجب تخصيصه ) أي : تخصيص عموم عدم الضمان في العارية ( به ) أي : بالاستثناء الآخر الذي هو إستثناء الذهبين ( أيضا ) .

وعليه : فكما يجب تخصيص العام بالنقدين ، فكذلك يجب تخصيصه بالذهبين ، ومعه ( فلا وجه لتخصيص أحد المخصّصين ) وهو الذهبين ( بالآخر )

ص: 231

وأيضاً : فإنّ حمل العامّ على الخاصّ استعمال مجازي ، وإبقاؤه على عمومه حقيقة ، ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة ، وهو هذا ممكن في عموم الذهب والفضة فيتعيّن ، وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأوّل لتعيّنه على كلّ تقدير .

فإن قيل : إذا كان التخصيص يوجب المجاز

-----------------

أي : بالنقدين ، حتّى يكون المخرج من عموم العام النقدين فقط ، وتكون النتيجة : عدم الضمان في الذهبين .

( وأيضا ) نقول لبيان عدم تخصيص الذهب والفضّة بالنقدين : ( فانّ حمل العام على الخاص إستعمال مجازي ، وإبقاؤه ) أي : إبقاء العام ( على عمومه حقيقة ، ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة ، وهو ) أي : الابقاء على الحقيقة بإبقاء عموم الذهبين على عمومه ( هذا ) وعدم تخصيصه بالنقدين ( ممكن في عموم الذهب والفضّة ) ومعه فنبقي عموم الذهب والفضّة على عمومه ، ولا نخصّصه بالنقدين حتّى يصبح مجازا ، وإذا أمكن ذلك ( فيتعيّن ) أي : يتعيّن إبقاء عموم الذهب والفضّة على عمومه .

إن قلت : إن كان الأمر كما تقولون ، فلماذا ؟ صرتُم إلى التخصيص في العموم الأوّل ؟ .

قلت : ( وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأوّل ) أي : في عموم عدم الضمان حيث خصّصناه بالنقدين ( لتعيّنه ) أي : لتعيّن تخصيصه بالنقدين ، فانّ تخصيص عموم عدم الضمان بالنقدين متعيّن ( على كلّ تقدير ) أي : سواء قلنا بأنّ الخارج من عدم الضمان النقدان فقط ، أو قلنا بأنّ الخارج هو النقدان والذهبان معا .

( فان قيل : إذا كان التخصيص يوجب المجاز ) في إستعمال العام

ص: 232

وجب تقليله ما أمكن ؛ لأن كلّ فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ، حيث كان حقّه أن يطلق على جميع الأفراد .

وحينئذ فنقول : قد تعارض هنا مجازان :

أحدهما : في تخصيص الذهب والفضة بالدنانير والدراهم .

والثاني : في زيادة تخصيص العامّ الأوّل بمطلق الذهب والفضة ، على تقدير عدم تخصيصهما بالدنانير والدراهم ،

-----------------

على ما ذكرتم ( وجب تقليله ) أي : تقليل التخصيص ( ما أمكن ، لأنّ كلّ فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ) أي : في إستعمال العام مجازا ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وكان له عشرة أفراد وقد خرج زيد ولم نعلم بخروج عمروأيضا ، وجب أن نقول : إنّ عمروا داخل في العام ، لأنّ خروجه يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ( حيث كان حقّه ) أي : حقّ العام ( أن يطلق على جميع الأفراد ) بلا إستثناء .

( وحينئذٍ ) أي : حين وجب تقليل التخصيص لدفع زيادة المجاز ( فنقول : قد تعارض هنا مجازان ) على النحو التالي :

( أحدهما : في تخصيص الذهب والفضّة بالدنانير والدراهم ) ممّا يكون معناه : انّه لا ضمان في عارية الذهب والفضّة ، إلاّ إذا كان دينارا أو درهما .

( والثاني : في زيادة تخصيص العام الأوّل ) القائل بلا ضمان في العارية ( بمطلق الذهب والفضّة ، على تقدير عدم تخصيصهما ) أي : عدم تخصيص الذهب والفضّة ( بالدنانير والدراهم ) فإذا لم نخصّص الذهبين بالنقدين كان معناه : زيادة تخصيص العام : لا ضمان ، وهو خُلف .

وعليه : فالأمر دائر بين أحد مجازين : مجاز خروج الذهب والفضّة عن عموم :

ص: 233

فترجيحُ أحد المجازين على الآخر ترجيحٌ من غير مرجّح ، بل يمكن ترجيحُ تخصيص الذهب والفضة ؛ لأن فيه مراعاة قوانين التعارض بينه وبين ما هو أخصّ منه .

قلنا : لا نسلّم التعارض بين الأمرين ؛ لأن استعمال العامّ الأوّل على وجه المجاز حاصل على كلّ تقدير إجماعاً ،

-----------------

لا ضمان ، ومجاز تخصيص عموم الذهب والفضّة بالنقدين ، وإذا كان كذلك ( فترجيحُ أحد المجازين ) وهو : تخصيص الذهب والفضّة لعموم : لا ضمان ( على الآخر ) وهو : تخصيص النقدين للذهب والفضّة ( ترجيح من غير مرجّح ) لتساويهما ، ومعه فلا نعلم بأيّ المجازين نأخذ ؟ فكيف ترجّحون إخراج الذهبين عن عموم : لا ضمان ؟ .

( بل يمكن ترجيح تخصيص الذهب والفضّة ) بالدنانير والدراهم ، وإخراج النقدين عن عموم : لا ضمان ، على تخصيص الذهبين للعموم ( لأنّ فيه ) أي : في هذا الترجيح ( مراعاة قوانين التعارض بينه ) أي : بين عموم الذهبين ( وبين ما ) أي : بين خصوص النقدين الذي ( هو أخصّ منه ) أي : من الذهبين ، فانّ النقدين أخصّ من الذهبين والأخصّ يخصّص الأعمّ .

( قلنا : لا نسلّم التعارض بين الأمرين ) أي : بين زيادة المجاز في العامّ الأوّل الذي هو : عدم الضمان ، وبين إحداث المجاز في العام الثاني الذي هو : ثبوت الضمان في الذهبين ، وذلك ( لأنّ استعمال العامّ الأوّل على وجه المجاز حاصل على كلّ تقدير إجماعا ) لوضوح : انّ العامّ الأوّل ، إمّا مخصّص بخصوص النقدين ، أو مخصّص بمطلق الذهبين .

ص: 234

وزيادة التجوّز في الاستعمال لايعارض به أصل التجوّز في المعنى الآخر ، فإنّ إبقاء الذهب والفضة على عمومهما استعمال حقيقي ، فكيف يكافؤه مجرّد تقليل التجوّز مع ثبوت أصله ؟ وبذلك يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح ؛ لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة .

-----------------

هذا ( و ) قولكم بوقوع التعارض بين تخصيص الذهبين بالنقدين ، وبين زيادة التخصيص في العام الأوّل ، وترجيح أحد هذين المجازين ترجيح بلا مرجّح فيه : انّ ( زيادة التجوّز في الاستعمال ) أي : في إستعمال العامّ الأوّل ( لا يعارض به أصل التجوّز ) أي : احداث التجوّز ( في المعنى الآخر ) الذي هو تخصيص الذهبين بالنقدين وإذا كانت الزيادة لا تعارض الاحداث ( فإنّ إبقاء الذهب والفضّة على عمومهما إستعمال حقيقي ) وبه يخصّص عموم : لا ضمان ( فكيف يكافؤه ) أي : كيف يساويه ( مجرّد تقليل التجوّز ) في العام الأوّل الذي هو : عدم الضمان في العارية ( مع ثبوت أصله ) أي : أصل التجوّز فيه ، فانّه لا تكافؤ حتّى نوقع التعارض بينهما ، وذلك لأنّ التعارض هو فرع التكافؤ ، ولا تكافؤ هنا على ما عرفت ؟ .

( وبذلك ) الذي ذكرنا : من انّه ليس الأمر من تعارض المجازين كما قلتم ، بل الأمر دائر بين أصل المجاز ، وزيادة المجاز ، وزيادة المجاز أو لى من أصل المجاز ، فانّ منه ( يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح ) أي : بطلان ما ادّعوتموه هنا : من أنّ ترجيح أحد المجازين : كترجيح التخصيص في العام الأوّل على التخصيص في عموم الذهب والفضّة ، أو العكس ، يكون بلا مرجّح ، فانّه ليس بلا مرجّح ، وذلك ( لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة ) أي : جعل عموم الذهبين حقيقة بأن لا نخصّصه بالنقدين .

ص: 235

هذا ما يقتضيه الحال من الكلام في هذين الوجهين ، وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح » ، إنتهى .

أقول : الذي يقتضيه النظر : أنّ النسبة بين روايتي الدرهم والدينار ، بعد جعلهما كرواية واحدة ، وبين ما دلّ على استثناء الذهب والفضة من قبيل العموم من وجه ،

-----------------

( هذا ما يقتضيه الحال من الكلام في هذين الوجهين ) اللذين هما عبارة عن : تخصيص العام الأوّل بكلا الخاصّين كما إختاره المحقّق الثاني وإخترناه ، وتخصيص العامّ الثاني بالثالث ممّا تكون النتيجة : إستثناء النقدين فقط كما إختاره المشهور وتبعهم فخر المحقّقين .

( وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح (1) ) كدعوى عدم قوّة أخبار النقدين بحيث يمكنها تخصيص أخبار الذهبين ، ودعوى إقتضاء القاعدة الضمان مطلقا ، سواء في النقدين أم الذهبين ، وذلك لدليل : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ودليل : «على اليد ما أخذته حتّى تؤدّيه» وما أشبه ذلك ، ودعوى إنقلاب النسبة فيما لو خصّصنا أخبار الذهبين بأخبار النقدين ، وقد عرفت - على ما سبق - إنّ إنقلاب النسبة غير تامّ ( انتهى ) كلام المسالك .

( أقول : الذي يقتضيه النظر : انّ النسبة بين روايتي الدرهم والدينار ، بعد جعلهما كرواية واحدة ) على ما عرفت ( وبين ما دلّ على إستثناء الذهب والفضّة ) تكون ( من قبيل العموم من وجه ) لا من قبيل العموم المطلق ، لأنّ أحد العامين يقول بعدم الضمان في غير النقدين ، وثاني العامّين يقول بوجود الضمان في الذهبين ، وبين هذين العامين عموم من وجه ، فالقلم والكتاب وما أشبه ذلك

ص: 236


1- - مسالك الافهام : ج1 ص317 كتاب العارية .

لأنّ التعارض بين العقد السلبي من الاُولى والعقد الايجابي في الثانية .

إلاّ أنّ الأوّل عامّ والثاني مطلق ، والتقييد أولى من التخصيص .

وبعبارة اُخرى : يدور الامر بين رفع اليد عن ظاهر الحصر في الدرهم والدينار ، ورفع اليد من إطلاق الذهب والفضة ، وتقييدهما أولى ،

-----------------

مورد الافتراق من جهة عموم عدم الضمان في غير النقدين ، والنقدان مورد الافتراق من جهة وجود الضمان في الذهبين ، فيجتمعان في الذهبين غير المسكوكين ، فانّ الذهبين غير المسكوكين هما مادّة الاجتماع من العامين .

وإنّما تكون النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ( لأنّ التعارض ) كائن ( بين العقد السلبي من الاُولى ) وهو : عدم الضمان في غير النقدين ( والعقد الايجابي في الثانية ) وهو : وجود الضمان في النقدين ( إلاّ انّ الأوّل : عامّ ) لكونه سلبيّا والسلب له عموم ( والثاني : مطلق ) لكونه ثبوتيّا ، والثبوتي له إطلاق ( والتقييد ) للثاني المطلق ( أولى من التخصيص ) للأوّل العام ، كما ذكرنا ذلك فيما مضى مفصّلاً .

( وبعبارة اُخرى : يدور الأمر بين رفع اليد عن ) العموم الذي هو ( ظاهر الحصر في الدرهم والدينار ، و ) بين ( رفع اليد من إطلاق الذهب والفضّة ، و ) إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحدهما كان ( تقييدهما ) أي : تقييد الذهب والفضّة وهو : رفع اليد عن إطلاقهما ( أولى ) من رفع اليد عن ظاهر الحصر في النقدين ، ممّا تكون النتيجة : إختصاص الضمان بالنقدين ، وعدم الضمان في مطلق الذهب والفضّة من الحُلي ونحو ذلك .

ص: 237

إلاّ أن يقال : إنّ الحصر في كلّ من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث اختصاصهما بأحدهما ، فيجب إخراج الآخر عن عمومه .

فإنّ ذلك يوجب الوهن في الحصر وإن لم يكن الأمر كذلك في مطلق العامّ ، ويؤيّد ذلك أنّ تقييد الذهب والفضة بالنقدين ، مع غلبة استعارة المصبوغ

-----------------

( إلاّ أن يقال : إنّ الحصر في كلّ من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث إختصاصهما بأحدهما ) أي : من حيث إختصاص كلّ من الروايتين بذكر أحد النقدين فقط دون ذكرهما معا ، فرواية تقول : لا ضمان إلاّ في الدرهم ، ورواية تقول : لا ضمان إلاّ في الدينار ، ومعه ( فيجب إخراج الآخر عن عمومه ) أي : عن العموم المستفاد من الحصر في الأوّل ، بمعنى : انّه يجب تخصيص الحصر في رواية الدرهم بالدينار ، وتخصيص الحصر في رواية الدينار بالدرهم ، وهذا التخصيص والاخراج موهن للحصر كما قال : ( فانّ ذلك يوجب الوهن في الحصر ) الموجود في كلّ من الروايتين الأخصّين .

إذن : فوجوب إخراج الآخر عن عموم الأوّل ، ولزوم تخصيص الحصر في كلّ من الروايتين ، موهن للعموم المستفاد من الحصر ( وإن لم يكن الأمر كذلك في مطلق العام ) فانّ مطلق العامّ وسائر صيغ العموم لا يوهنها التخصيص ، بينما العموم المستفاد من الحصر يوهنه التخصيص ، وذلك لأنّ الحصر نصّ في العموم بحيث يأبى عن التخصيص ، والعام الآبي عن التخصيص يوهن بالتخصيص .

( ويؤيّد ذلك ) أي : يؤيّد وهن العموم المستفاد من الحصر ( أنّ تقييد الذهب والفضّة بالنقدين ) والحكم بكون الضمان في خصوص النقدين ( مع غلبة إستعارة المصبوغ ) عند الناس وندرة إستعارة المسكوك عندهم ، فانّ الناس كثيرا ما يستعيرون الحُلي المصوغة من الذهب والفضّة للتزيين وما أشبه ذلك ،

ص: 238

بعيدٌ جداً .

وممّا ذكرنا يظهر النظر في مواضع ممّا ذكره صاحب المسالك في تحرير وجهي المسألة .

-----------------

فانّ تقييدها بالنقدين مع هذه الغلبة ( بعيد جدّا ) ولذا يلزم الذهاب إلى ما إختاره المحقّق الثاني واخترناه : من تخصيص العام بالخاصّين ، والحكم بضمان مطلق الذهبين مسكوكين كانا أم غير مسكوكين .

( وممّا ذكرنا ) في مناقشة كلام المسالك فيما يخصّ النسبة بين الخبرين الخاصّين ( يظهر النظر في مواضع ممّا ذكره صاحب المسالك في تحرير وجهي المسألة ) وجه الضمان في خصوص النقدين ، ووجه الضمان في مطلق الذهب والفضّة الشامل للنقدين أيضا ، فانّ المسالك قال في وجه خروج مطلق الذهب والفضّة : بأنّه لا تنافي بين ورود المخصّصين معا على عموم عدم الضمان ، معلّلاً ذلك بأنّ الدراهم والدنانير بعض أفراد الذهب والفضّة ، وقال في وجه خروج خصوص النقدين : بأنّ الذهب والفضّة مطلقان أو عامان فيجب تقييدهما أو تخصيصهما بالدراهم والدنانير ، مع إنّك قد عرفت : إنّ النسبة بين روايات الذهبين والنقدين هو : العموم من وجه ، بالبيان الذي ذكرناه ، لا العموم المطلق ، أو الاطلاق والتقييد ، الذي ذكره المسالك .

أقول : بعد لزوم رفع اليد عن هذه المداقّات العقليّة ، يظهر إنّ قول المحقّق الثاني ، وصاحب المسالك ، أقرب إلى الواقع ، وذلك لأنّ العرف يرون عامّا وخاصّين ، ولا وجه لعدم تخصيص العامّ بالخاصّين معا .

ثمّ إنّ السرّ في ورود ثلاث طوائف من أخبار التخصيص قد يكون لأجل انّ النقد الذهبي - مثلاً - كان قد راج في بعض الأزمنة ، بحيث كان هو النقد

ص: 239

وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ، فإن كان فيها ما يقدّم على بعض آخر منها إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ ، والظاهر ، أو الظاهر

-----------------

الذي يتعامل به فقط ، ثمّ راج في بعض الأزمنة الاُخرى النقد الفضّي بحيث كان هو النقد الذي يتعامل به ، فقط - كما يظهر ذلك من التواريخ - وفي كلّ زمان جعل الإمام عليه السلام كلامه حسب النقد الرائح في ذلك الزمان .

هذا بالنسبة إلى ذكر الدينار مرّة ، والدرهم اُخرى وأمّا بالنسبة إلى النقدين والذهبين : فيمكن أن يكون الوجه في ذكر النقدين مرّة ، وذكر الذهبين اُخرى ، هو : إنّ الإمام عليه السلام أجاب السائل الذي كان - حسب القرائن - مبتلى بالنقدين بثبوت الضمان فيهما ، وأجاب السائل الذي كان - حسب القرائن - مبتلى بالحُلي ونحوها بثبوت الضمان في الذهب والفضّة ، ولا نريد بذلك الجمع التبرّعي ، وإنّما بعد ما ذكرناه : من إنّ العرف يرى هذا الجمع بين الطوائف الأربع ، نريد بيان ما يمكن أن يكون حكمة لإختلاف الطوائف ، وذلك مثل جواب الإمام عليه السلام للكوفي : بأنّ الكرّ ألف ومائتا رطل ، وللمدني : بأنّه ستمائة رطل .

هذا كلّه فيما لو كانت النسبة بين المتعارضات متحدّة ، وقد عرفت حكمها .

ثانيا : ( وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ) وهذا هو الشقّ الثاني من النسبة بين المتعارضات فقد تقدّم إنّ النسبة بينها إمّا متّحدة أو مختلفة ، وعلى كونها مختلفة فلابدّ من تقديم ما من حقّه التقديم حتّى وإن ترتّب عليه إنقلاب النسبة .

وعليه : ( فإن كان فيها ) أي : في تلك النسبة المختلفة ( ما يقدّم على بعض آخر منها ) وذلك التقديم ( إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ ، والظاهر ، أو الظاهر

ص: 240

والأظهر ، وإما لأجل مرجّح آخر ، قُدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات ، فقد تنقلب النسبة وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : « اكرم العلماء ، ولاتكرم فسّاقهم ، ويستحب إكرام العدول » ، فإنّه إذا خصّ العلماء بعدولهم

-----------------

والأظهر ) حيث يقدّم النص والأظهر على الظاهر ( وإمّا لأجل مرجّح آخر ) غير جهة الدلالة ، كالترجيح بإعتبار الصدور أو جهة الصدور ، فانّه إذا كان كذلك ( قُدِّمَ ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات ) لمعرفة هل انّ النسبة هي التباين ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه ؟ .

ثمّ انّه إذا قدّم ما حقّه التقديم ( فقد ) لا تنقلب النسبة بعده ، بل تبقى على ماكانت عليه ، وقد ( تنقلب النسبة ) عمّا كانت عليه ، كما إذا كانت في السابق على كيفيّة فانقلبت بعد التقديم على كيفيّة اُخرى (و) مع إنقلاب النسبة : فقد لا يحدث بسبب الانقلاب ترجيح دلالي بعده ، و ( قد يحدث الترجيح ) الدلالي بعده .

أمّا مثال إنقلاب النسبة وحدوث الترجيح الدلالي بعده ، فهو : ( كما إذا ورد أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، ويستحبّ إكرام العدول ) فإنّ نسبة أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم هو : العموم المطلق ، ونسبة أكرم العلماء ، ويستحبّ إكرام العدول ، هو : العموم من وجه ، حيث يكون مورد الافتراق من جانب الأوّل هو : العالم الفاسق ، ومن جانب الثاني هو : العادل غير العالم ، ويجتمعان في العالم العادل ، حيث يقول أكرم : بوجوب اكرامه ، ويقول يستحبّ : باستحباب اكرامه ، فانّ النسبة إذن بين هذه المتعارضات كما عرفت مختلفة وبعد تقديم ما من حقّة التقديم تنقلب النسبة ويحدث الترجيح الدلالي أيضا .

وعليه : ( فانّه إذا خصّ العلماء بعدولهم ) بسبب دليل لا تكرم فسّاقهم ، تنقلب

ص: 241

يصير أخصّ مطلقاً من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسرّ في ذلك واضح ، إذ لولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأساً ، وكلاهما باطل .

-----------------

النسبة بينهما ، يعني : ( يصير ) العلماء ( أخصّ مطلقا من العدول ) فيكون كأنّه قال : أكرم العلماء العدول ، ويستحبّ إكرام العدول ، ومن المعلوم : إنّ العدول في يستحبّ اكرام العدول أعمّ مطلقا من العلماء ، فيحدث الترجيح الدلالي بينهما ( فيخصّص العدول بغير علمائهم ) لأنّ العلماء العدول لما دخلوا في وجوب الاكرام ، بقي لقوله : يستحبّ اكرام العدول بعده ، العدول الذين ليسوا بعلماء فقط.

( والسرّ في ذلك ) أي : في تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي بعده ( واضح ، إذ لولا الترتيب في العلاج ) على النحو الذي ذكرناه ( لزم الغاء النصّ ) وإبطاله ( أو طرح الظاهر المنافي له ) أي : للنصّ ( رأسا ) وذلك لأنّ الظاهر وهو العامّ هنا يبقى لولا العلاج المذكور بلا مورد ، وبقاؤه بلا مورد في حكم طرحه ، فانّه إذا ورد - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم فسّاقهم ، وورد :

يستحبّ أكرام العدول ، فان أعطينا العلماء العدول ل«يستحبّ» ، وأعطينا العلماء الفسّاق ل«لا تكرم» ، لم يبق فرد لأكرم العلماء ( وكلاهما باطل ) أمّا بطلان إلغاء النصّ ، فلأنّ النصّ قرينة على طرح الظاهر ، ومعه فلا يعقل طرح النصّ لأجل الظاهر ، وأمّا بطلان طرح الظاهر المنافي للنصّ رأسا ، فلأنّ صدور عامّ لا مورد له قبيح ، ولذلك يلزم تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة .

أقول : لا يخفى إنّ ما ذكره المصنّف من وجه التقديم هنا هو وجه إعتباري ، وليس هو من مراعاة الظهور الذي هو المعيار في دلالة الألفاظ ، وذلك لأنّ هذه الجمل الثلاث يتحيّر العرف في انّه ماذا يفعل بها بعد كونها في مرتبة واحدة

ص: 242

وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب إكرام الشعراء » .

فإذا فرضنا أنّ الفساق أكثر فرداً من العلماء ، خصّ بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ،

-----------------

من دون رجحان لبعضها على بعض ، ومعه فإذا كانت هناك قرينة تعيّن أحد الأطراف فهو ، وإلاّ كان اللازم الرجوع إلى الاُصول العملية .

هذا ( وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح ) الدلالي بعد إنقلاب النسبة ( في المتعارضات ) التي كانت قبل ذلك ( بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء» ) فانّ نسبة كلّ منها مع الآخرين هو : العموم من وجه ، كما إنّ النسبة بين العلماء والفسّاق أيضا عموم من وجه ، وكذلك بين العلماء والشعراء ، وهكذا بين الفسّاق والشعراء ، فالنسبة إذن بين الجميع هي نسبة واحدة ، ولكن حيث انّ الكلام الآن في المتعارضات بنسبة مختلفة ، نفرض قلّة أفراد بعضها عن البعض الآخر ، فإذا فرضنا ذلك ، كان الأقل فردا بالنسبة إلى الأكثر فردا بمنزلة الخاص إلى العام ، فتنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، ويكون المثال حينئذٍ مثالاً للمتعارضات بنسبة مختلفة .

وعليه : ( فإذا فرضنا أنّ الفسّاق أكثر فردا من العلماء ، خصّ ) حرمة إكرام الفسّاق ( بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ) أي : عن حرمة الاكرام فيجب اكرامه .

وإنّما يخرج العالم الفاسق عن حرمة الاكرام لأنّه قد مرّ سابقا : إنّ العامّين من وجه ، لو كان أحدهما أكثر أفرادا والآخر أقلّ أفرادا ، أعطينا مادّة الاجتماع للأقل

ص: 243

ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفساق مردّداً بين الوجوب والاستحباب .

ثمّ إذا فرض أنّ الفساق بعد إخراج العلماء أقلّ فرداً من الشعراء ، خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحب الاكرام ، فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفساق أقلّ مورداً من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحب الاكرام .

-----------------

أفرادا ، لأنّ الأقل أفرادا يكون بمنزلة الخاص المطلق بالنسبة إلى الأكثر أفرادا ، فيلزم تخصيص الأكثر بالأقل ، وأيضا حتّى لا يستلزم التخصيص المستهجن ( و ) حينئذٍ ( يبقى الفرد الشاعر من العلماء الفسّاق ) الذي هو مادّة إجتماع الكل حيث يكون مجمعا للعمومات الثلاثة : عالما فاسقا شاعرا ، يبقى ( مردّدا بين الوجوب والاستحباب ) .

هذا إذا فرض انّ الفسّاق أكثر أفرادا من العلماء ، فإذا فرض إنقلاب النسبة بعد تخصيص الفسّاق بالعلماء لصيرورة الفسّاق أقل فردا من الشعراء ، فكما قال : ( ثمّ إذا فرض أنّ الفسّاق بعد إخراج العلماء أقل فردا من الشعراء ، خصّ الشعراء به ) أي : بحرمة إكرام الفسّاق ( فالفاسق الشاعر غير مستحبّ الاكرام ) وتبقى مادّة إجتماع الكلّ مردّدا بين الوجوب والاستحباب .

ثمّ إذا فرض إنقلاب النسبة بعد تخصيص الشعراء بالفسّاق ، لصيرورة الشعراء أقل فردا من العلماء ، فهو كما قال المصنّف : ( فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفسّاق أقلّ موردا من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله ) أي : بدليل الشعراء ( فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحبّ الاكرام ) .

ص: 244

وقس على ما ذكرنا ، صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض .

والغرض من إطالة الكلام في ذلك التنبيهُ على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ؛ لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلاّت ، واللّه مقيل العثرات .

-----------------

أقول : لكنّا ذكرنا سابقا : بأنّ أمثال هذه التعليلات لا توجب الترجيح ولا إنقلاب النسبة بين المتعارضات ، وذلك لعدم حصول الظهور منها ، كما أنّه لا وجه لتقديم بعضها على بعض حتّى يوجب إنقلاب النسبة ، فإذا لم تكن قرائن توجب الظهور عرفا كان المرجع حينئذ الاُصول العمليّة .

هذا ( وقس على ما ذكرنا ) في بحث إنقلاب النسبة في : من لزوم رعاية الترتيب لعلاج المتعارضات في صورة وجود المرجّح من جهة الدلالة ( صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض ) كما إذا كان المرجّح قوّة سند أحدهما دون الآخر ، أو كان جهة الصدور في أحدهما مشهورا بالتقيّة دون الآخر ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) كيف كان : فانّ ( الغرض من إطالة الكلام في ذلك ) الذي مرّ من الترجيح النوعي ، والترجيح الصنفي ، وبحث إنقلاب النسبة هو : ( التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ) بين الروايات ، وذلك ( لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلاّت ) العلميّة من بعض ، كما عرفت في مسألة العارية وانّها هل هي مضمونة في النقدين فقط ، أو في مطلق الذهب والفضّة ؟ ( واللّه مقيل العثرات ) وغافر الخطيئات والزلاّت .

ص: 245

مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر

وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة على غيرها ، فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر ، فنقول ومن اللّه التوفيق للاهتداء : قد عرفت : « أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور ، بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمرُ بين الحكم بصدوره وصدور غيره لحكمنا بصدوره ، وموردُ هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي ، وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح .

-----------------

هذا ( وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة ) في الرتبة ( على غيرها ) أي : على المرجّحات من حيث الصدور والسند ( فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر ، فنقول ومن اللّه التوفيق للاهتداء ) إلى سواء الطريق : ( قد عرفت : أنّ الترجيح ) غير الدلالي يتمّ عبر حيثيّات ثلاث :

أوّلاً : ( إمّا من حيث الصدور ) لكن لا بمعنى أنّ الراجح صادق والمرجوح كاذب ، لأنّه لو كان من هذا الباب لم يكن المرجوح حجّة ، بل ( بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ) المعارض له ( بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره ) أي : صدور هذا الراجح ( وصدور غيره ) المعارض له ( لحكمنا بصدوره ) أي : صدور هذا الراجح وعدم صدور معارضه ( وموردُ هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي ) فانّ سند هذا الراجح مقدّم على سند المرجوح ( وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح ) وذلك لما ذكرناه سابقا : من أنّ كلام الأئمّة عليه السلام أفصح الكلام وأبلغه .

ص: 246

وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ، فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع ، فيكون أحدهما بحسب المرجّح اقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع .

وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع .

-----------------

ثانيا : ( وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ) أي : انّه لماذا صدر من الإمام عليه السلام هذا الكلام ( فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي ) كما هو الأصل ( وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة ) والتقيّة قد تكون بالنسبة إلى نفس الإمام عليه السلام ، أو السامع ، أو الثالث الذي يأخذ الخبر عن الراوي ( أو غيرها ) أي : غير التقيّة ( من مصالح إظهار خلاف الواقع ) مثل ما جاء عن الإمام عليه السلام في جواب مَن سأله عن انّه رأى أصحاب الإمام يختلفون ؟ فقال عليه السلام : « أنا خالفت بينهم » (1) ، والسبب في ذلك هو : أنّ لا يُعرف الشيعة على وتيرة واحدة ، فيكونوا مورد مؤاخذة سلاطين الجور ( فيكون أحدهما بحسب المرجّح ) المذكور والذي مورده المتن فقط ( أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع ) بخلاف الخبر المعارض له الذي هو أبعد عن بيان الحكم الواقعي .

ثالثا : ( وإمّا أن يكون من حيث المضمون ) علما بأنّ المضمون غير المتن ، لأنّ المصنّف قد مثّل للمتن بالأفصحيّة ، فالمراد بالمضمون المعنى ، وذلك ( بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر ) أي : في نظر الفقيه ( إلى الواقع ) ولذا إذا كان أحد الخبرين أفصح ، والخبر الآخر أقرب مضمونا إلى الواقع ، يحصل

ص: 247


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

وأمّا تقسيم الاُصوليين المرجّحات إلى السنديّة والمتنيّة ، فهو باعتبار مورد المرجّح ، لا باعتبار مورد الرجحان .

ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح والنقل باللفظ والمعنى ،

-----------------

التعارض بين الرجحان في هذا والرجحان في ذاك .

( وأمّا تقسيم الاُصوليين المرجّحات ) الدلالية وغير الدلالية ( إلى السنديّة والمتنيّة ) فقط ، دون سائر أقسام المرجّحات التي ذكرناها ( فهو بإعتبار مورد المرجّح ) علما بأنّ مورد المرجّح ومحلّه هو : إمّا السند ، وإمّا المتن ، ولا ثالث ، فإذا كان هو السند دخل فيه العدالة وغيرها ممّا يرتبط بالسند ، وإذا كان هو المتن دخل فيه الأفصحية وغيرها ممّا يرتبط بالمتن .

إذن : فالتقسيم الثنائي هو باعتبار مورد المرجّح ومحلّه ( لا باعتبار مورد الرجحان ) ومحلّه ، فانّ المورد الذي ينزل فيه الرجحان هو : إمّا متن أو سند ولا ثالث ، بينما المورد الذي يخرج منه الرّجحان ليصل إلى المتن أو إلى السند هو : أعمّ من المتن والسند ، إذ قد يكون الرجحان بسبب الكتاب أو السنّة أو الشهرة أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، وهذه كلّها خارجة عن السند والمتن ، فالاُصوليون إذن لاحظوا مورد المرجّح ، والمصنّف لاحظ مورد الرجحان .

( ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح ) فانّ مورد هذين من حيث المرجّح هو : المتن بينما موردهما من حيث الرّجحان هو : الصدور ، والاُصوليون بالاعتبار عدّوهما من المرجّحات المتنيّة .

( و ) هكذا ( النقل باللفظ والمعنى ) فانّ موردهما من حيث المرجّح هو : المتن ، لكن من حيث الرجحان هو : المضمون .

ص: 248

بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك .

ونحن نذكر إن شاء اللّه تعالى نبذاً من القسمين ؛ لأن استيفاء الجميع تطويلٌ لاحاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه السلام ، لبيان الحكم الواقعي .

أمّا الترجيح بالسند ، فباُمور :

منها : كون أحد الراويين عدلاً ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزاً عن الكذب .

-----------------

( بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك ) من الاطلاق والتقييد - مثلاً - في المرجّحات المتنية مع انّها من المرجّحات الدلالية وخارجة عن التعارض لكونها من موارد الجمع العرفي ، فهي إذن باعتبار المرجّح موردها هو : المتن ، وباعتبار الرّجحان موردها هو : الدلالة .

( ونحن نذكر إن شاء اللّه تعالى نُبذا ) أي : شيئا يسيرا ( من القسمين ) أي : من المرجّحات السندية والمتنية حتّى تكون اُنموذجا لسائر أشباههما ، وذلك ( لأنّ إستيفاء الجميع تطويلٌ لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه السلام لبيان الحكم الواقعي ) من معارضه ، سواء كانت الأقربية من حيث الصدور ، أو من حيث المضمون ، أو من حيث جهة الصدور ، ككون الحكم تقيّة ، أو ليس تقيّة - مثلاً - .

( أمّا الترجيح بالسند ، فباُمور ) كالتالي :

( منها : كون أحد الراويين عدلاً ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه ) ثقة بمعنى كونه ( متحرّزا عن الكذب ) فقد قال الإمام عليه السلام : «لا عُذر

ص: 249

ومنها : كونه أعدل ، وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ عليها ، وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر .

ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط .

-----------------

لأحدٍ من مَوالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (1) بل قال بعضهم : بل مفهوم آية النبأ هو أيضا الوثاقة لأنّ قوله سبحانه : « ان جائكم فاسق » (2) يراد به الفاسق الكلامي ، لأنّه المناسب للخبر ، وأمّا الفاسق الجوارحي الذي هو ثقة في كلامه ، فلا يتعلّل ترك خبره بقوله : « ان تصيبوا قوما بجهالة » (3) ولذا فلو كان كلّ من الخبرين مقبولاً ، لكن كان راوي أحدهما عدلاً والآخر ثقة ، فالعدل مقدّم على الثقة .

( ومنها : كونه أعدل ) والآخر عادل ( وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ ) من علماء الرجال ( عليها ) أي : على الأعدليّة ، كما لو قالوا : بأنّ فلانا أعدل من فلان ( وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر ) كما لو قالوا في زيد - مثلاً - : انّه عدل ورع تقي يجتنب الشبهات ، ولم يقولوا في الآخر بمثل ذلك ، ولا يخفى انّ الاستقامة التي هي أصل العدالة قد تكون بلا ميل أصلاً وهذا هو الأعدل ، وقد تكون مع شيء يسير من الميل وهذا هو العادل .

( ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ) والمراد بأصدقيّة الراوي - مع إنّ كلا الراويين صادقان - هو : أن يكون خبره أقرب إلى مطابقة الواقع من خبر الآخر ( ويدخل في ذلك ) أي : في الأصدق ( كونه أضبط ) لوضوح انّ الأضبط أقرب

ص: 250


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .
3- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وفي حكم الترجيح بهذه الاُمور : أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أو ضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، ويلحق بذلك التباس إسم المزكّى بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به .

-----------------

إلى الصدق من غير الأضبط .

( وفي حكم الترجيح بهذه الاُمور ) المذكورة ( أن يكون طريق ثبوت مناط القبول ) من العدالة والوثاقة وغير ذلك ( في أحدهما أو ضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع ) فانّ مناط القبول من العدالة والوثاقة والصداقة وما أشبه ذلك قد يعلم الانسان بها في الراوي ، وقد يصل الانسان إليها عن طريق معتبر ، كاخبار علماء الرجال ، وحيث انّ الطريق بالنسبة إلى أحد الخبرين يكون أرجح من طريق الخبر الآخر ، يكون الخبر نفسه أرجح من الخبر الآخر أيضا .

ثمّ إنّ أرجحية الطريق ربّما يكون ( من جهة تعدّد المزكّي ) كما لو زكّى أحد الراويين الذين كلاهما حجّة مزكّيان - مثلاً - وزكّى الراوي الآخر شخص واحد إذا قلنا بكفاية الشخص الواحد ، أو زكّى أحدهما نفران وزكّى الآخر ثلاثة أشخاص ( أو ) يكون أرجحيّة الطريق من جهة ( رجحان أحد المزكّيين على الآخر ) كما لو كان المزكّي لأحدهما النجاشي ، ومزكّي الآخر ابن الغضائري ، والنجاشي أضبط من ابن الغضائري - مثلاً - .

( ويلحق بذلك إلتباس إسم المزكّى ) أي : الراوي الذي زكّاه علماء الرجال ( بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به ) فأبو بصير - مثلاً - مشترك بين من هو ثقة ، وبين من هو غير ثقة ، فإذا لم نعلم بأنّ أبا بصير الذي جاء في سند هذه الرواية هو الثقة أو غير الثقة ، ولم يكن هناك ما يميّز أحدهما عن الآخر

ص: 251

ومنها : علو الاسناد ؛ لأنه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ ، وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك واستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الارسال

-----------------

تمييزا قويّا حتّى نعرف انّه الثقة ، وإنّما نحتمل لقرائن ضعيفة أنّه الثقة ، ففي هذه الصورة يُقدّم الخبر المعارض على هذا الخبر الذي فيه أبو بصير المشترك ، لرجحان ذاك على هذا .

( ومنها : علوّ الاسناد ) وهو الخبر الذي يكون الوسائط فيه بين المعصوم وبين المنقول إليه قليلة ، مقابل الخبر الآخر المعارض له الذي يكون الوسائط فيه بين الإمام وبين المنقول إليه كثيرة ، ومن الواضح : إنّ الخبر الواصل بواسطة راويين أرجح من الخبر الواصل بواسطة خمسة رواة ، وذلك ( لأنّه كلّما قلّت الواسطة كان إحتمال الكذب أقلّ ) وحتّى إذا لم نحتمل الكذب ، فانّ إحتمال طروّ الخلل : من الاشتباه والغفلة والسهو والنسيان يكون في الخبر ذي الوسائط الكثيرة أكثر .

هذا ( وقد يعارض ) علوّ الأسناد ( في بعض الموارد ) بأحد أمرين : ( بنُدرة ذلك ) في رواياتنا ، فانّ أغلب رواياتنا كثيرة الوسائط ( وإستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة ) فإذا كان هناك روايتان - مثلاً - رواهما شيخ الطائفة عن الإمام العسكري عليه السلام ، وكانت الوسائط في إحداهما إثنين ، وفي الاُخرى خمسة ، فانّ إستبعاد أن يكون الواسطة بين الشيخ والإمام العسكري عليه السلام إثنين فقط ، يوجب إحتمال الارسال في هذه الرواية دون رواية الخمسة ، فتكون رواية الخمسة مع كثرة الوسائط فيها أقرب إلى الواقع من رواية الاثنين .

وعليه : ( فيكون ) في رواية الاثنين ( مظنّة الارسال ) لإحتمال سقوط بعض الرواة بين الشيخ وبين الإمام العسكري عليه السلام من سند الرواية ، ومعه يتعارض جهة

ص: 252

والحوالة على نظر المجتهد .

ومنها : أن يرسل أحدُ الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ، فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسِل له معارضاً بجرح جارح ،

-----------------

عُلو الأسناد مع جهة الظنّ بالارسال ، وفي الحقيقة يكون من تعارض المرجّحات حيث يكون هنا مرجّح وهناك مرجّح آخر ( و ) في مثل هذه الاُمور تكون ( الحوالة على نظر المجتهد ) فانّ ترجيح علو السند على إحتمال الارسال ، أو العكس ، موكول إلى نظر المجتهد ، فهو الذي يرى تقديم هذا المرجّح على ذاك ، أو ذاك على هذا ؟ وكذلك في كلّ مرجّحين متعارضين ، كما إذا كان أحدهما أعدل والآخر أفصح .

( ومنها : أن يرسل أحدُ الراويين ) روايته ولا يذكر الواسطة فيها بينه وبين الإمام عليه السلام يعني : ( فيحذف الواسطة ) بينما ( ويسند الآخر روايته ) وذلك كما لو قال ابن أبي عُمير : سمعت عمّن سمع الصادق عليه السلام ، وقال محمّد بن مسلم : سمعت فضيل انّه سمع الصادق عليه السلام ( فانّ ) الخبر المسند أرجح من الخبر المرسَل ، لأنّ الراوي ( المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسِل ) الذي أرسل الخبر ( له ) أي : لذلك الراوي المحذوف في غير محلّه ، بأن كان توثيقه له ( معارضا بجرح جارح ) وحيث انّه محذوف يخفى علينا ذلك .

مثلاً : ابن أبي عُمير قد يروي الرواية عن زيد ، ثمّ لم يذكر اسم زيد ، وإنّما يرسل الرواية عنه إعتمادا منه عليه لأنّه يرى زيدا ثقة ، لكن قد نراه نحن مجروحا لو كان قد ذكر اسمه ، بينما ليست الرواية الثانية التي ذكر فيها اسم الواسطة كذلك ، لأنّا نعرف الاسم فنعرف انّه ممدوح وليس بمجروح ، ولذا تكون الرواية المسندة

ص: 253

وهذا الاحتمال منفي في الآخر ، وهذا إذا كان المرسِل ممّن تقبل مراسيله ، وإلاّ فلا يعارض المسند رأساً ، وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ، ولم يعلم وجهه .

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّداً وراوي الاُخرى واحداً ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ،

-----------------

أقوى من الرواية المرسلة كما قال : ( وهذا الاحتمال ) أي : إحتمال أن يكون الواسطة مجروحا بجرح جارح ( منفي في الآخر ، و ) ذلك لذكر اسم الوسائط فيه ، ونحن نفحص عنهم فلم نجدهم - مثلاً - مجروحين .

( هذا إذا كان المرسِل ) الذي أرسل الخبر ( ممّن تقبل مراسيله ) وذلك بأن نعلم انّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة ، كما ذكروا ذلك بالنسبة إلى ابن أبي عمير ( وإلاّ فلا يعارض ) الخبر المرسَل بالخبر ( المسند رأسا ) لأنّ الخبر المرسل في نفسه غير معتبر ، وغير المعتبر لا يكافئ المعتبر حتّى يعارضه ، فلا يقع إذن التعارض بين الروايتين ، بل يلزم الأخذ بالمسند وترك المرسل ، فإذا تبيّن ذلك قلنا : ( وظاهر الشيخ في العُدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ) عنده ، لأنّه يرى أنّ كليهما حجّة ، والمعيار في الأخذ بالخبر الحجيّة ( ولم يُعلم وجهه ) لأنّا قد ذكرنا : أنّ المسند أقرب إلى الواقع من المرسل .

( ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا ) كما لو روى الرواية مرّة زرارة واُخرى محمّد بن مسلم ( وراوي الاُخرى واحدا ) فقط كما لو روى الرواية زرارة فقط ( أو يكون رواة إحداهما أكثر ) من الاُخرى ، كما لو روى إحدى الروايتين ثلاثة : زرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل ، بينما روى الرواية الثانية إثنان : زرارة وفضيل فقط ، والفرق بين القسمين هو : أنّ الأوّل في التعدّد والوحدة ،

ص: 254

فإن المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح .

وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياساً على الشهادة والفتوى ، ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضاً ، وهو ضعيف .

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحّمل الآخر ،

-----------------

والثاني في الكثرة والقلّة .

وكيف كان : ( فانّ المتعدّد يرجّح على الواحد ) لفرض أنّ في جانب روايتان - مثلاً - وفي جانب آخر رواية واحدة فقط ( والأكثر ) رواة يرجّح أيضا ( على الأقل ) رواة لفرض انّ إحدى الروايات رواها ثلاثة رواة ، بينما الرواية الثانية رواها إثنان من الرواة فقط ( كما هو واضح ) فانّ العرف يرون مثل هذا الترجيح .

( وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح ) بالسببين المذكورين وهما : التعدّد والوحدة ، والكثرة والقلّة ، وذلك ( قياسا على الشهادة والفتوى ) فانّهم قالوا : كما إنّ شهادة الأربع لا تقدّم على شهادة الاثنين ، وفتوى المجتهدين لا تقدّم على فتوى المجتهد الواحد ، فكذلك في باب الرواية .

( و ) لكن يرد عليه : إنّ ( لازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ) فيما إذا جرى القياس المذكور فيها ، فانّه يشملها جميعا ( وهو ضعيف ) لأنّ العرف يرون الاقوائية في المتعدّد راويا ، أو الأكثر رواة ، وأمّا الشهادة والفتوى ، فان قلنا بعدم الترجيح فيهما بسبب التعدّد أو الكثرة - مع إحتمال الترجيح فيهما بسببهما - فلأنّ عدم الترجيح فيهما بسببهما إنّما هو لأجل دليل خارجي كالاجماع ونحوه .

( ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر ) أي : بأن يكون تحمّل أحدهما الرواية بكيفيّة هي أعلى من كيفية تحمّل الراوي

ص: 255

كأن يكون أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه .

وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل .

هذه نُبذة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوّة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

-----------------

الآخر ، وذلك ( كأن يكون أحدهما ) أي : أحد التحمّلين ( بقرائته ) أي : بقراءة الراوي الرواية ( على الشيخ ) أي : على اُستاذه ( والآخر بقراءة الشيخ عليه ) فانّ من المعلوم : انّ قراءة الشيخ على الراوي ، أو ثق من قراءة الراوي على الشيخ ، لأنّ القارئيكون التفاته أكثر من التفات السامع ، إذ يحتمل أن يكون السامع قد ذهل في موضع ، أو غفل عنه ، بخلاف القارئ ، فانّ هذا الاحتمال فيه ضعيف جدّا .

( وهكذا غيرهما ) أي : غير القراءة على الشيخ ، وقراءة الشيخ على الراوي ( من أنحاء التحمّل ) وذلك كما لو كان أحدهما قد تحمّل الرواية بالاجازة ، والآخر قد تحمّل الرواية بالوجادة - مثلاً - وغير ذلك .

( هذه نُبذَة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور ) أي : لا من حيث جهة الصدور ، ولا من حيث المضمون ، ( وعرفت أنّ معنى القوّة ) من حيث الصدور هو : ( كون أحدهما ) أي : أحد الخبرين ( أقرب إلى الواقع من حيث إشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ) وذلك بأن يرى العرف الذي يُلقى إليه الكلام مزيّة لهذا الخبر على الخبر المعارض له ( بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان إحتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

ص: 256

وأقوى من مطابقة الآخر وإلاّ فقد لايوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ، من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لايُعلم غالباً كذب أحدهما .

وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناءا على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ،

-----------------

وأقوى من مطابقة الآخر ) الذي هو أقرب إلى الكذب ، فمعنى الأقوائية إذن الشأنية لا الفعليّة .

( وإلاّ ) بأن كان معنى الأقوائية : الفعليّة لا الشأنية ، يعني : بأن يحصل من المرجّح الظنّ الفعلي بصدق الراجح وكذب المرجوح ، فانّه إذا كان بهذا المعنى ورد عليه قوله : ( فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ) وإنّما لا يوجبه ( من جهة إحتمال صدق كلا الخبرين ) إذ من المحتمل أن يكون كلا الخبرين صادقين ، لكن أحدهما أقرب للواقع من الآخر ، وهذا هو معنى الظنّ الشأني الحاصل من المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين ، ولذلك قال : ( فانّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما ) حتّى يكون من إشتباه الحجّة باللا حجّة ، إذ لو علم كذب أحدهما لخرج من تعارض الحجّتين ، ولزم اتّباع الظنّ الفعلي القائم على صدق الآخر .

إن قلت : إن كان الغالب هو : إحتمالنا صدق كليهما ، فكيف نأخذ بالراجح فقط ونطرح المرجوح منهما ؟ مع انّ الطرح مساوٍ لكونه كاذبا .

قلت : (وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما، بناءا على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما ) عندنا ( لعدم الشاهد ) على الجمع من قرينة حالية أو مقالية تدلّ على انّه لماذا صدر هذان الخبران المتعارضان عن الإمام عليه السلام ؟ أو تدلّ على كيفيّة

ص: 257

فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذباً ، فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر .

والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ

-----------------

الجمع بينهما ( فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا ) أي : يصير هذان الخبران المتعارضان في حكم الخبرين المعلوم كذب أحدهما - فرضا - ( فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر ) .

والحاصل : إنّ إحتمال الصدق وعدم التعارض في الواقع ، موجود في كلا المتعارضين كما لو ورد - مثلاً - في رواية : السمك فيه الرّبا ، وورد في رواية اُخرى : السمك لا ربا فيه ، فانّه يحتمل أن يكون قوله : السمك فيه الربا ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالوزن - مثلاً - ويكون قوله : السمك لا ربا فيه ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالعدد ، وحيث أنّه لا ربا في المعدود ، فلا ربا فيه ، إلاّ انّه لما لم نتمكّن نحن من الجمع بينهما لفقد مثل هذه القرائن الدالّة على كيفيّة الجمع بين الروايتين ، ننزّلهما منزلة ما لو علم بكذب أحدهما في انّه يلزم أن نأخذ بالأقرب في نظرنا إلى الواقع ونطرح الآخر .

هذا ( والغرض من إطالة الكلام هنا ) عن كون المرجّحات توجب الظنّ الشأني بأقربيّة الراجح إلى الواقع ، لا الظنّ الفعلي هو : ( أنّ بعضهم ) وهو السيّد محمّد المجاهد في كتابه مفاتيح الاُصول ( تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند ) كالأعدليّة ( أو المتن ) كالأفصحيّة ، تفيد الظنّ الفعلي - لا الظنّ الشأني - ولذلك قسّمها إلى أقسام ، فقال : ( بعضها يفيد الظنّ

ص: 258

القوي ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لايفيد الظنّ أصلاً ، فحكم بحجيّة الأوّلين واستشكل في الثالث ، من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّه التخيير ، قوّى ذلك

-----------------

القوي ) بمطابقة الراجح للواقع ( وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ) بالمطابقة ( وبعضها لا يفيد الظنّ أصلاً ) وعدم حصول الظنّ هو أيضا حالة تقع في النفس من جهة ملابسات ومزايا ، وخصوصيات وقرائن تفسد تلك الحالة وتكون النسبة بينها وبين المرجّحات في الأخبار والآثار ، عموم من وجه ، فلا تلازم بينهما .

وكيف كان : فإنّ السيّد المجاهد لمّا تخيّل أنّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه قسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة ( فحكم بحجيّة الأوّلين ) وهما : ما يوجب ظنّا قويّا ، أو يوجب ظنّا ضعيفا ( وإستشكل في ) مرجّحية ( الثالث ) الذي لا يفيد الظنّ أصلاً .

وإنّما استشكل في الثالث ( من حيث انّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ) وإن لم يفد الظنّ أصلاً ، وذلك جواز الأخذ به متيقّن ، فيكون فيه الكفاية قطعا ، سواء كان تخييرا أو تعيينا ، وهذا هو وجه جواز الأخذ به .

( ومن إطلاق أدلّة التخيير ) فانّ أدلّة التخيير يشمل إطلاقها مثل هذا المرجّح الذي لا يفيد الظنّ أصلاً ، لأنّ المتيقّن من عدم شمول أدلّة التخيير له هو : ما إذا كان المرجّح مفيدا للظنّ ، والمفروض أنّ هذا المرجّح لا يفيد الظنّ ، فيشمله إطلاقها ، فلا يكون هذا المرجّح مقيدا لإطلاق أدلّة التخيير ، وهذا هو وجه عدم جواز الأخذ به .

وعليه : فإذا تعارضت هاتان الحيثيّتان : حيثيّة إحتياط الأخذ بالراجح ، وحيثيّة إطلاق أدلّة التخيير ، تساقطتا ، وإذا تساقطتا لم يبق هناك دليل على الترجيح بهذا المرجّح ، ولذا نرى السيّد المجاهد ( قوّى ذلك ) أي : قوّى إطلاق أدلّة التخيير

ص: 259

بناءا على أنّه لا دليل على الترجيح بالاُمور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير .

وأنت خبيرٌ بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظنّ الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ،

-----------------

( بناءا على انّه لا دليل على الترجيح بالاُمور التعبّدية ) التي لا تفيد الظنّ ( في مقابل إطلاقات التخيير ) فانّ إطلاقات أدلّة التخيير بنظره هي المحكّمة ، إلاّ إذا كانت هناك مرجّحات مفيدة للظنّ ، سواء كانت مفيدة للظنّ القوي ، أم للظنّ الضعيف ، وهذا الكلام منه صريح في انّه يرى المناط في إعتبار المرجّحات هو : إفادتها الظنّ الفعلي بصدق الراجح من المتعارضين وكذب المرجوح منها .

( وأنت خبيرٌ بأنّ ) هذا الكلام من السيّد المجاهد محلّ تأمّل ، وذلك لما يلي :

أوّلاً : إنّ هذه المرجّحات التي يُعالج بها تعارض الأخبار لا تفيد الظنّ الفعلي ، بل الشأني فقط .

ثانيا : ولو فرضنا انّها تفيد الظنّ الفعلي ، لم تفد الترجيح حينئذٍ ، فتسقط عن كونها مرجّحات .

أشار المصنّف إلى الأوّل بقوله : انّ ( جميع المرجّحات المذكورة ) في الروايات أو المستنبطة منها بالملاك سواء كانت مرجّحات سندية أم متنية ( مفيدة للظنّ الشأني ) النوعي ، وذلك ( بالمعنى الذي ذكرنا ، و ) ليست مفيدة للظنّ الفعلي الشخصي كما تخيّله السيّد المجاهد ، ومعنى الظنّ الشأني ( هو : انّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان إحتمال كذب المرجوح ) سندا أو دلالة ( أرجح من صدقه ) كما انّ إحتمال صدق الراجح أرجح من كذبه .

ص: 260

وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ بكذب أحد الخبرين .

ولو فرض شيئاً منها كان في نفسه موجباً للظنّ بكذب الخبر كان مسقطاً للخبر عن درجة الحجيّة ، ومخرجاً للمسألة عن التعارض ،

-----------------

هذا هو معنى الظنّ الشأني فيما لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين المتعارضين ( وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين ) وذلك على ما ذكرنا : من أنّ الغالب في المتعارضين إحتمال صدقهما ، وإنّما خفيت علينا القرائن التي توجب الجمع بينهما ( فليس في المرجّحات المذكورة ) حين لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين ( ما يوجب الظنّ ) الفعلي ( بكذب أحد الخبرين ) وهذا هو معنى الظنّ الشأني .

ثمّ أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : ( ولو فرض شيئا منها ) أي : من المرجّحات المذكورة ( كان في نفسه ) أي : بغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض ( موجبا للظنّ ) الفعلي ( بكذب الخبر ) كما لو فرضنا انّ موافقة الخبر للعامّة موجب للظنّ الفعلي بكذب هذا الخبر الموافق لهم ، فكون الخبر موافقا للعامة - في نفسه وبغضّ النظر عن التعارض - يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فإذا فرض ذلك في خبر مّا ( كان مسقطا للخبر ) أي : لذلك الخبر ( عن درجة الحجيّة ، و) سقوطه عن الحجيّة يكون ( مخرجا للمسألة عن التعارض ) لأنّ التعارض فرع التكافؤ في الحجيّة .

وعليه : فإذا أفادت المرجّحات الظنّ الفعلي بكذب الخبر - مثلاً - سقط ذلك الخبر عن الحجيّة ، وسقوطه ليس من جهة التعارض ، ولذا قيّد المصنّف الكلام بقوله : «في نفسه» بل من جهة نفسه وبغض النظر عن التعارض واذا كان كذلك

ص: 261

فيعدّ ذلك الشيء موهناً لا مرجّحاً ، اذ فرقٌ واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع .

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهو اُمور :

منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأن الركيك أبعد من كلام

-----------------

( فيعدّ ذلك الشيء ) الذي كان في وقت مرجّحا ( موهنا ) الآن ومسقطا للخبر المرجوح عن الحجيّة ( لا مرجّحا ) للراجح على المرجوح .

وإنّما يعدّ ذلك المرجّح حينئذٍ موهنا لا مرجّحا ( إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه ) وبغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض ( مرجوحية الخبر ) كما ذكرنا في مثال موافقة الخبر للعامّة ، فانّه يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فيسقط عن الحجيّة وإن لم يكن هنالك معارض له ( وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع ) أي : عدم الجمع العرفي بين الخبرين المتعارضين ، فانّ الموهن إنّما يوهن الخبر الواحد الذي لا معارض له، وأمّا المرجّح فهو يوجب طرح المرجوح لمكان التعارض مع الراجح .

إذن : فتحصّل من جوابنا : انّ ما تخيّله السيّد المجاهد من انّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه ، فقسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة : حكم بحجيّة إثنين منها وأشكل في ثالثها ، غير تامّ .

( وأمّا ما يرجع إلى المتن ) من المرجّحات ( فهو اُمور ) أيضا كالتالي :

( منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ) أي : على غير الفصيح فيما إذا كان أحد الخبرين فصيحا والآخر غير فصيح ، وذلك ( لأنّ الركيك أبعد من كلام

ص: 262

المعصوم عليه السلام ، إلاّ أن يكون منقولاً بالمعنى .

ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة ، خلافا لاُخرى .

وفيه تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم ، ولا الأفصح أقرب اليه في مقام بيان الاحكام الشرعيّة .

ومنها : اضطراب المتن ، كما في بعض روايات عمّار .

-----------------

المعصوم عليه السلام ، إلاّ أن يكون منقولاً بالمعنى ) فلا يكون حينئذ ترجيح للفصيح على غير الفصيح ، لإمكان أن يكون الإمام قال ذلك الكلام فصيحا ، غير انّ الراوي لمّا نقله بالمعنى صار غير فصيح .

( ومنها : الأفصحيّة ) وذلك بأن يقدّم الأفصح على الفصيح ( ذكره جماعة ، خلافا لاُخرى ) أي : لجماعة اُخرى حيث لم يذكروا الأفصحيّة .

( وفيه ) أي : في كون الأفصحيّة مرجّحا ( تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الإمام ) عليه السلام ( ولا الأفصح أقرب إليه ) أي : إلى كلام الإمام عليه السلام إذا كان ( في مقام بيان الأحكام الشرعيّة ) وذلك لأنّ الأئمّة عليهم السلام فصحاء ويتكلّمونالفصيح ، لا انّهم يتكلّمون الأفصح ، إلاّ إذا كانوا في مقام إظهار البلاغة والفصاحة ، والتحدّي والاعجاز ، ونحو ذلك ، ومعه فلا دليل على أنّ الأفصح أقرب وغير الأفصح أبعد ، حتّى تكون الأفصحية من المرجّحات .

( ومنها : إضطراب المتن ) وذلك بأن يروي الراوي متن الرواية مختلفا ، فتارةً يرويه بشكل ، واُخرى بشكل آخر ( كما في بعض روايات عمّار ) مثل خبر تمييز دم الحيض عن القُرحة ، ففي نسخة : انّه إن خرج من جانب الأيمن فحيض ، وفي نسخة اُخرى : انّه ان خرج من الأيسر فحيض ، ومن المعلوم : انّ هذا الاختلاف يوجب تشويشا في الرواية ، ممّا لا يمكن أن يؤخذ بها في قِبال الرواية التي

ص: 263

ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدوراً من متن الآخر ، وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن - بعد أن عدّ هذه منها - بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

-----------------

لا إضطراب في متنها ، سواء كان الاضطراب من الراوي الذي يروي عن الإمام عليه السلام ، أو من الراوي الذي يروي بواسطة راوٍ آخر .

( ومرجع الترجيح بهذه ) المرجّحات المتنيّة ( إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر ) وليس مرجعه إلى قوّة الدلالة ، فيكون حينئذٍ نظير الترجيح بالمرجّحات السندية حيث كان مرجعه - على ما عرفت - إلى أنّ صدور أحد الخبرين أقرب من صدور الآخر .

هذا ولا يخفى : إنّ تقديم غير المضطرب على المضطرب ، إنّما هو فيما إذا لم يكن الاضطراب بحيث يُسقط المضطرب عن الحجيّة ، وإلاّ كان المضطرب غير حجّة ، لا انّه مرجوح بالنسبة إلى معارضه ، ففي المثال المتقدّم - مثلاً - لو رجّحنا خبر الطرف الأيسر ، ثمّ صار التعارض بينه وبين ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له إطلاقا ، فانّ ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له يقدّم على الخبر الذي يقول بأنّه الخارج من الطرف الأيسر .

هذا ( وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن بعد أن عدّ هذه ) المرجّحات المذكورة من الفصاحة والأفصحيّة وعدم إضطراب المتن ( منها ) أي: من مرجّحات المتن ، علّله بدليل مركّب من صغرى وكبرى ، فالصغرى تقول : ( بأنّ مرجع ذلك ) الترجيح المتني ( إلى الظنّ بالدلالة ) أي : الجمع الدلالي ( و ) كبرى تقول : بأنّ المرجّح الدلالي ( هو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام )

ص: 264

وليس مبنيّاً على حجيّة مطلق الظنّ المختلف فيه .

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن : النقل باللفظ والفصاحة والركاكة ، والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ، والجزم بالسماع من المعصوم عليه السلام على غيره ،

-----------------

والنتيجة : أنّ الترجيح المتني ممّا لم يختلف فيه أحد .

إذن : فالترجيح المتني - بنظر بعض المعاصرين - مبني على حجيّة الظنّ بالدلالة المتّفق عليه ( وليس مبنيّا على حجيّة مطلق الظنّ ) أي : مطلق المرجّحات من الدلالة والسند والمتن ( المختلف فيه ) يعني : إنّ بعض المعاصرين لمّا رأى أنّ مورد المرجّحات الدلالية هو المتن ، تصوّر أنّ كلّ مرجّح متني هو مرجح دلالي ، والترجيح بالدلالة متّفق عليه ، فهو بنظره مبني على ما هو متّفق عليه ، وليس مبنيّا على مطلق المرجّحات الظنّية حتّى يكون مختلفا فيه ، مع أنّه ليس الأمر كذلك ، إذ ليس كلّ مرجّح متني هو مرجّح دلالي ، بل منه مرجّح لجهة الصدور كموافقة العامّة ومخالفتهم ، ومنه مرجّح للصدور كالفصاحة والأفصحيّة ، ومنه مرجّح للمضمون كالنقل باللفظ والمعنى .

( ثمّ ذكر ) بعض المعاصرين ( في مرجّحات المتن : النقل باللفظ ) في قِبال النقل بالمعنى ، مع انّه مرجّح للمضمون ( والفصاحة والركاكة ) حيث إنّ الفصيح مقدّم على الركيك ، مع أنّه مرجّح للصدور ( والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ) والمسموع مقدّم ، مع انّه مرجّح للصدور ( والجزم بالسماع من المعصوم عليه السلام على غيره ) بأن يكون أحد الخبرين مسموعا قطعا من المعصوم عليه السلام ، لأنّ الراوي كان في زمان المعصوم عليه السلام ، وقد تمكّن من الحضور عنده ، وتقديمه على الخبر الآخر الذي يحتمل فيه بأنّ راويه لم يكن في زمان

ص: 265

وكثيراً من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك .

وأنت خبيرٌ بأنّ مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور وليس راجعاً إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام .

-----------------

المعصوم عليه السلام ، بل روى عنه بواسطة ، أو كان في زمان المعصوم عليه السلام ، لكنّه لم يتمكّن من الحضور عنده ، مع انّه مرجّح للصدور .

( و ) هكذا ذكر بعض المعاصرين ( كثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك ) كالتقييد والاطلاق - مثلاً - حيث يلزم فيها تقديم المنطوق على المفهوم ، والخصوص على العموم ، والتقييد على الاطلاق ، وعدّها مرجّحات متنية مع انّها مرجّحات دلالية .

( وأنت خبير بأنّ ) بعض المعاصرين هذا قد جمع بين المرجّحات الدلالية وبين سائر المرجّحات المتنية وعدّها كلّها دلالية ، بينما مرجّحات الدلالة غير مرجّحات المتن ، إذ ( مرجع الترجيح بالفصاحة ) والأفصحيّة ( والنقل باللفظ ) والمسموع من الشيخ ، والمقطوع بسماعه عن المعصوم عليه السلام هو : ( إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه ) أي : على الترجيح بهذه الاُمور ( هو الدليل على إعتبار رجحان الصدور ) .

وعليه : فاللازم أن يعدّ الترجيح بالفصاحة وما إليها من هذه المرجّحات المتنية راجعا إلى الظنّ بالصدور المختلف فيه ( وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام ) فقول المعاصر : بأنّه ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

ص: 266

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ، والأولى ما عرفت ، من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هي من موارد الجمع المقبول ، فراجع .

-----------------

محلّ نظر ، وذلك لأنّ الذي لم يختلفوا فيه هو : المرجّح الدلالي كما قال : ( وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ) بين علماء الاسلام .

هذا هو التوهّم الأوّل ، وهناك توهّم ثانٍ بعكس الأوّل وهو : عدّ المرجّحات الدلالية من مرجّحات المتن ، بمعنى جعل كلّ مرجّح دلاليّ مرجّحا متنيّا بلا تفكيك بينهما كما قال : ( وقد عدّها ) أي : عدّ المرجّحات الدلالية ( من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ) أي : غير صاحب الزبدة مثل صاحب الفصول والمناهج والقوانين ونحوهم ، وهذا التوهّم كالتوهّم الأوّل غير تامّ .

( و ) إنّما لم يكن تامّا لأنّه كما قال : بأنّ ( الأولى ما عرفت ) من انّه لا ينبغي عدّ مطلق المرجّحات المتنيّة من المرجّحات الدلالية على ما توهّمه المعاصر كما لا ينبغي عدّ المرجّحات الدلالية من المرجّحات المتنية على ما توهّمه صاحب الزبدة ، بل يلزم أن لا نُعدّ المرجّحات الدلالية من باب المرجّحات رأسا ، وذلك لما سبق : ( من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ) لأنّ العرف لا يرى بينهما تعارضا حتّى يعالجها بالترجيح وما أشبه ذلك ( بل هي من موارد الجمع المقبول ) نظير القرينة وذي القرينة ( فراجع ) كلامنا السابق في ذلك ، فانّا وان كنّا قد نقلنا سابقا عن القوانين وغيره : من انّهم جعلوا الجمع الدلالي أيضا من المرجّحات ، لكنّه مخدوش فيه كما أشرنا إليه .

ص: 267

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور :

بأن يكون أحد الخبرين مقروناً بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادراً على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم اللّه الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح ، وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلاّ أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر

-----------------

( وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور ) مقابل الترجيح من حيث الصدور ، ومن حيث المضمون ، فهو : ( بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء ) من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة ( يحتمل من أجله ) أي : من أجل ذلك الشيء ( أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم اللّه الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح ) فإنّ الحكم الصادر عنهم عليهم السلام سواء كان تقيّة أو غير تقيّة فهو حكم اللّه ، لكن فرق بين أن يكون حكم اللّه أوّليّا ، أوحكم اللّه ثانويّا ، فانّ التقيّة حكم اللّه الثانوي الذي يعمل به الانسان في حال الضرورة ، سواء كانت الضرورة من باب موافقة العامّة ، أم من باب القاء الخلاف بين الشيعة ، لئلاّ يُعرفوا فيؤخذ برقابهم ، كما ذكر ذلك في بعض الروايات .

( وهي ) أي : المصالح ( وان كانت غير محصورة في الواقع ) لأنّ المصلحة الثانوية قد تكون لأجل التقيّة ، أو لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ، أو لأجل أنّ السائل كان وسواسيّا فأجابه الإمام عليه السلام بالحكم الثانوي لرفع وسواسه ، أو لأجل انّه كان مضطرا ، فبيّن له الإمام عليه السلام حكما إضطراريّا لدفع إضطراره ، أو لأجل انّه كان من مذهب آخر فأظهر له الإمام عليه السلام حكم مذهبه من باب الالزام ، لدليل الزموهم بما التزموا به ، وإلى غير ذلك من المصالح الكثيرة .

( إلاّ أنّ الذي بأيدينا ) غالبا هو ( أمارة التقيّة ) فقط ( وهي : مطابقة ظاهر الخبر

ص: 268

لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّةً عنهم احتمالاً غير موجود في الخبر الآخر .

قال في العدّة : « إذا كان رواةُ الخبرين متساويين في العدد عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وتُرك العمل بما يوافقه » ، انتهى .

وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ : « والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام ،

-----------------

لمذهب أهل الخلاف ) سواء كان مطابقا لعامة أهل الخلاف ، أو لبعض أهل الخلاف ، ممّن كان الإمام عليه السلام يخشى منهم على نفسه ، أو على السائل ، أو على شخص ثالث ( فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم ) أي : عن أهل الخلاف للأمن من ضررهم ( إحتمالاً غير موجود في الخبر الآخر ) المعارض له ، فيؤخذ بذلك الخبر الآخر .

ويدلّ على ما ذكرناه قول جماعة من العلماء بذلك ، فقد ( قال ) الشيخ ( في العدّة : «إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد ) وسائر الجهات المرجّحة ( عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقه» (1) ) أي : يوافق قول العامّة ( انتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ ) الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، ولزوم أن يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق ، قال : ( والظاهر أنّ إحتجاجه في ذلك ) أي : إحتجاج الشيخ في الترجيح بمخالفة العامّة إنّما هو ( برواية رويت عن الصادق عليه السلام ) تدلّ على الأخذ بمخالف العامّة ، قال :

ص: 269


1- - عدّة الاصول : ص60 .

وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد ، ولايخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره .

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لايحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ،

-----------------

( و ) لكنّه غير تامّ لما يلي :

أوّلاً : إذ ( هو إثبات مسألة علميّة ) اُصوليّة ( بخبر الواحد ) الظنّي وهو غير صحيح ، كما قال : ( ولا يخفى عليك ما فيه ) أي : ما في هذا الاثبات ، إذ مسألة حجيّة الخبر المخالف للعامّة في المتعارضين ، هي مسألة اُصولية ، وإثباتها يحتاج إلى العلم ، فاثباتها تعبّدا بالخبر الواحد الظنّي غير صحيح ، وهذا بناءا على أصل اشتهر عند بعض الفقهاء يقول : بأنّ المسائل الاُصولية يجب إثباتها بالأدلّة العلميّة ، ولا يمكن إثباتها بالأدلّة الظنّية كالخبر الواحد .

ثانيا : ( مع أنّه قد طعن فيه ) أي : في المراد من هذا الخبر الظاهر في الدلالة على الترجيح بمخالفة العامّة ( فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره ) فكيف يمكن أن نأخذ بأمرٍ طعنَ فيه فضلاء الشيعة ؟ فانّ جماعة منهم قالوا : إنّ الأخذ بالخبر المخالف للعامّة يراد به ما يرتبط بالمسائل العقائدية من التولّي والتبرّي بالنسبة إلى الخلفاء ، لا ما يرتبط بالمسائل الاُصولية من إثبات الترجيح بمخالفة العامّة ، علما بأنّ بعض المحشّين قال : إنّ مراد المحقّق من الطعن هنا هو : إنّ حجيّة خبر الواحد مطلقا ، سواء كان في الاُصول أم في الفروع مسألة مطعون فيها ، حيث أنّ خبر الواحد عند جماعة ليس بحجّة مطلقا .

ثمّ قال المحقّق : ( فان احتجّ ) الشيخ الطوسي لمذهبه الذي ذهب إليه من ترجيح مخالف التقيّة على موافقها ( بأنّ الأبعد ) عن التقيّة ( لا يحتمل ) فيه ( إلاّ الفتوى ) بالحقّ ( والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ) فيه ، وحيث كان كذلك

ص: 270

فوجب الرجوع إلى مالا يحتمل .

قلنا : لانسلّم أنّه لايحتمل إلاّ الفتوى ؛ لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه السلام ، وإن كنّا لانعلم ذلك .

فإن قال : إنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث ،

-----------------

( فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل ) التقيّة فيه .

إذا احتجّ الشيخ بذلك ( قلنا : لا نسلم أنّه لا يحتمل ) في الخبر الأبعد عن التقيّة ( إلاّ الفتوى ) بالحقّ ، وذلك ( لأنّه كما جاز الفتوى ) فيه بالحقّ ( لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ) أي : بأن أفتى الإمام عليه السلام فيه بالحقّ وأراد منه ظاهر ما قاله ( كذلك يجوز الفتوى ) فيه ( بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك ) أي : لا نعلم تلك المصلحة التي أرادها الإمام عليه السلام من الافتاء بما لم يرد ظاهره ، وإنّما أراد تأويله .

والحاصل : إنّ الشيخ قال : الموافق للتقيّة يحتمل فيه التقيّة ، ونحن نقول : المخالف للتقيّة يحتمل فيه التأويل ، فيتعارض الاحتمالان ويتساقطان ، فإذا تساقط الاحتمالان كان الخبران متساويين ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلو قال الإمام عليه عليه السلام - مثلاً - مرّة : المغرب هو : سقوط القرص ، وقال اُخرى : المغرب هو : ذهاب الحمرة ، فكما نحتمل في الأوّل التقيّة نحتمل في الثاني إستحباب التأخير إلى ذهاب الحمرة .

( فإن قال ) شيخ الطائفة : في جواب ما احتملناه من التأويل ( انّ ذلك ) الذي احتملتموه من التأويل هو خلاف الظاهر ، لأنّه ( يسدّ باب العمل بالحديث ) لأنّا نحتمل في كلّ حديث انّه اُريد به التأويل لا ظاهره فيكون مجملاً ولا يمكن العمل به.

ص: 271

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع عن العمل لامطلقاً ، فلا يلزم سد باب العمل ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : توضيح المرام في هذا المقام : أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه :

أحدها : مجرّدُ التعبّد ،

-----------------

( قلنا : إنّما نصير إلى ذلك ) الذي قلناه : من إحتمال إرادة خلاف الظاهر في الخبر الأبعد عن التقيّة ( على تقدير التعارض ) بين الخبرين ( وحصول مانع يمنع عن العمل ) به ( لا مطلقا ) في كلّ حديث ، ومعه ( فلا يلزم سدّ باب العمل (1) ) إذ لا كلام لأحد في العمل بظاهر الخبر الذي لا معارض له ( انتهى كلامه ) أي : كلام المحقّق ( رفع مقامه ) ممّا يظهر منه : إنّ التقيّة وعدم التقيّة ليست من المرجّحات حتّى نرجّح بها الخبر الذي لا يوافق التقيّة على الذي وافقها .

( أقول ) : إشكال المحقّق على الشيخ غير وارد ، لأنّ إحتمال التقيّة في الموافق للعامّة ليس معارضا باحتمال التأويل في المخالف للعامّة ، و ( توضيح المرام في هذا المقام ) هو : ( أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه ) أربعة ، والاشارة إلى الفرق بين هذه الوجوه يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، والوجوه الأربعة هي كالتالي :

( أحدها : مجرّد التعبّد ) بدون قصد مطابقة الواقع وعدم مطابقة الواقع ، وذلك بمعنى : إنّ الشارع أراد ترجيح الخبر المخالف للعامّة تعبّدا فقط ، بلا ان يلاحظ أقربيّته إلى الحقّ ، أو عدم إحتمال التقيّة فيه ، ومعه فيكون مخالفة العامة مرجّحا تعبّديا ، ويكون نظير : منع الشارع عن تقليد المجتهد الفاسق جوارحيا وجوانحيا،

ص: 272


1- - معارج الاصول : ص156 .

كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ .

الثاني : كون الرشد في خلافهم ، كما صرّح به في غير واحد من الأخبار المتقدّمة ، ورواية علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا عليه السلام : يَحدثُ الأمر ،

-----------------

وان كان مساويا للمجتهد العادل من حيث الاجتهاد وصدق لهجة ولسانا ، وذلك لأنّ الشارع أراد سدّ باب الفسقة تعبّدا ، لا من جهة مطابقا الواقع وعدم مطابقة الواقع .

( كما هو ) أي : التعبّد بترجيح الخبر المخالف للعامّة ( ظاهر كثير من أخباره ) أي : أخبار ترجيح المخالف للعامّة ، فانّ تلك الأخبار لم تتعرّض لبيان علّته وانّه هل هو لأقربيّته إلى الواقع أو لشيء آخر ؟ فيظهر انّه مجرّد تعبّد .

هذا ( ويظهر من المحقّق إستظهاره ) أي : إستظهار التعبّد ( من الشيخ ) أيضا حيث نقل المحقّق عن الشيخ قوله : « والظاهر انّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام . . . » ومن المعلوم : إنّ الرواية توجب التعبّد لا الأقربية والأبعدية عن الحقّ والواقع .

الوجه ( الثاني : كون الرشد في خلافهم ) أي : في خلاف العامّة ، فيكون وجه الترجيح لمخالفة العامّة هو : كون المخالف أقرب إلى الواقع ( كما صرّح به ) أي : بكون الرشد بمخالفتهم ( في غير واحد من الأخبار ) العلاجيّة ( المتقدّمة ، و ) قد صرّح به أيضا في ( رواية علي بن أسباط ) فانّها وان لم تكن من روايات العلاج إلاّ انّها ترشد إلى هذه الجهة التي نحن بصددها .

( قال ) أي : علي بن أسباط : ( قلت للرضا عليه السلام : يَحدثُ الأَمر ) أي : يحدث

ص: 273

لا أجدُ بدّاً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، فقال : أئت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه .

وأصرَح من ذلك كلّه خبرُ أبي اسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إن عليّاً صلوات اللّه عليه لم يكن يدين

-----------------

لي حادث جديد إحتاج إلى حكمه بحيث ( لا أجدُ بدّا من معرفته ) لابتلائي به في عملي ( وليس في البلد الذي أنا فيه أحد استفتيه من مواليك ) الرواة فماذا أصنع ؟ .

( فقال : أئت فقيه البلد ) وكان فقيه البلد في تلك الأيّام من علماء العامّة ( واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فانّ الحقّ فيه (1) ) أي : في خلاف ما أفتى به فقيه البلد ، وذلك فيما لو تردّد السائل بين أمرين ، لا أكثر من أمرين ، كالشكّ في انّ أرث الاُمّ - مثلاً - هل هو السدس أو الثلث ؟ فإذا أتاه وسأله عنه فأفتاه بالسدس ، عمل بالثلث ، وإذا أفتاه بالثلث ، عمل بالسدس ، وهكذا غيرها من المسائل التي لها وجهان وقد تردّد السائل بين ذينك الوجهين .

( وأصرح من ذلك كلّه ) في الدلالة على كون الحقّ في خلافهم ، وإنّ كلامهم مخالف للواقع ، فخلافهم مطابق للواقع ممّا يشمل صورة التعارض أيضا ( خبرُ أبي إسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : أتدري لِمَ اُمِرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليا صلوات اللّه عليه لم يكن يدين

ص: 274


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص275 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، علل الشرائع: ص531 ح4 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص294 ب22 ح27 ، بحار الانوار: ج2 ص233 ب29 ح14.

اللّه بشيء إلاّ خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه ، صلوات اللّه عليه ، عن الشيء الذي لايعلمونه فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّاً من عندهم ، ليلبُسوا على الناس .

الثالث : حسنُ مجرّد المخالفة لهم ، فمرجع هذا المرجّح ليس الأقربيّة إلى الواقع ، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ،

-----------------

اللّه بشيء ) من الأحكام ( إلاّ خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره ) وان لا يكون له رأي يُعرف بين الآراء ( وكانوا يسألونه صلوات اللّه عليه عن الشيء الذي لا يعلمونه ) أي : عن حكم المسألة التي لا يعلمون حكمها ( فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ) وعملوا بذلك الضدّ ( ليلبسوا ) الحقّ بالباطل ( على الناس ) (1) .

ولا يخفى : إنّ مثل هذا شايع في الحكومات المتناحرة ، والحكّام الغاصبين ، والخلفاء الجائرين ، حتّى ورد انّ بني العباس لمّا جاؤوا إلى الحكم غيّروا كلّ شيء كان في عهد بني اُمّيّة ، من أحكام وقوانين ، وبقايا وآثار ، حتّى انّ علامات الفراسخ التي نصبها بنو اُميّة في الطريق ، قلعوها عن مواضعها وجعلوها في أماكن اُخر وبأشكال اُخر ، فلا تعجب في أن يكون اُولئك الذين عارضوا عليا عليه السلام في الحكم ، وغصبوا حقّه في الخلافة ، أن يعارضوه في كلّ شيء .

الوجه ( الثالث : حُسنُ مجرّد المخالفة لهم ) أي : للعامّة ، وذلك للتحرّز - مثلاً - من الذوبان فيهم ، والانخراط في سلكهم ، ومعه ( فمرجع هذا المرجّح ) وهو مخالفة العامة على الوجه الثالث ( ليس الأقربية إلى الواقع ، بل هو ) مرجّح خارجي ( نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ) في كلام بعضهم ، وذلك فيما

ص: 275


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .

ودليل الحكم الأسهل على غيره .

ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات ، مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين : إنّ من وافقنا ، خالف عدوّنا ، ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحنُ منه ، ورواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

-----------------

إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، فانّهم يرجّحون الحرمة على الوجوب ، لكن لا لجهة كونه أقرب إلى الواقع ، بل لجهة اُخرى ، مثل : إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو غير ذلك .

( و ) نظير ترجيح ( دليل الحكم الأسهل على غيره ) أي : غير الأسهل ، فانّه إذا كان هناك حكمان ، أحدهما أسهل من الآخر ، فانّه يؤخذ بالأسهل ، لكن لا لجهة انّه أقرب إلى الواقع ، بل لقوله سبحانه : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (1) ولقوله تعالى : « يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (2) وإلى غير ذلك .

( و ) هذا الاحتمال الذي ادّعيناه في الوجه الثالث وان لم يكن به تصريح في أخبار العلاج ، إلاّ انّه ( يشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات ) الواردة في باب التولّي والتبرّي ممّا يشمل المتعارضين أيضا ( مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين : انّ من وافقنا ، خالف عدوّنا ) فانّ ظاهره المخالفة لهم في كلّ شيء ( ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحن منه ) (3) يعني : إنّ بيننا وبينه بُعدا شاسعا .

( و ) يشهد له أيضا ( رواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

ص: 276


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33366 .

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا ، فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه و آله وسلم : خالفوهم ما استطعتم .

الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة ، ويدّل عليه قوله عليه السلام في رواية :

ما سمعته منّي يُشبِه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لايُشبه قول الناس فلا تقيّة فيه ، بناءا على أنّ المحكي

-----------------

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ) أي : في كلّ شيء ( فمن لم يكن كذلك ) أي : ليست فيه هذه الصفات الثلاث ( فليس منّا ) (1) إنتهت هذه الرواية .

وعلى هذا : ( فيكون حالهم ) أي : حال أعداء الأئمّة الناصبين لهم ( حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه و آله وسلم : خالفوهم ما استطعتم (2) ) فانّه ليس لأجل الأقربية إلى الواقع ، وإنّما لأجل عدم المشابهة بهم - مثلاً - .

الوجه ( الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة ) دون المخالف ، فيكون المعيار هو الطريقيّة لا التعبّدية ( و ) هذا الوجه وان كان كالوجه الثالث في عدم تصريح أخبار العلاج به ، إلاّ انّه ( يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية : ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (3) ) فانّ المراد بالناس هنا هم العامّة ، لأنّهم محلّ الابتلاء في أمثال هذه الأخبار كما هو واضح .

لكن دلالة هذا الخبر على الوجه الرابع إنّما هو ( بناءا على أنّ المحكي

ص: 277


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33358 ، بحار الانوار : ج68 ص167 ب19 ح24 .
2- - السنن الكبرى : ج2 ص605 ، المعجم الكبير : ج7 ص290 ، وفيه صلوا في نعالكم ، خالفوا اليهود .
3- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

عنه عليه السلام ، مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ، وأنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وأنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة .

-----------------

عنه عليه السلام مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ) أي : كالمسموع من الإمام عليه السلام ، إذ لا خصوصية للسماع من الإمام ، لأنّ ملاك السماع من الإمام موجود أيضا في الرواية المحكيّة عن الإمام بواسطة زرارة - مثلاً - أو بواسطة محمّد بن مسلم ، ومن إلى ذلك من الثقاة العدول .

( و ) بناءا على ( أنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ) ومعالجتهما ، حتّى لا يدّعى بأنّ المراد من الشباهة بقول الناس هنا ، هو التفرّع على قواعد العامّة من القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك .

( و ) إن قلت : انّه من الواضح عدم كليّة ما ذكر في هذه الرواية خارجا ، وذلك لوضوح انّه ليس كلّ ما يوافق العامّة من المتعارضين في الخارج صدر من باب التقيّة فيتنافى مع ظهور الرواية الظاهر في الكليّة .

قلت : ( أنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة ) فانّ أكثر القضايا العرفيّة محمولة على الغالب دون الدائم ، حتّى إشتهر بينهم انّ القضايا العرفية من باب المقتضيات لا العلل التامّة ، ومعه فلا تنافي .

وكيف كان : فقد ظهر ممّا تقدّم : انّ الفرق بين الوجوه الأربعة هو على ما يلي :

أوّلاً : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الأوّل من باب التعبّد ، لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لكن هذا الأخذ لا يكون في كلّ مخالف للعامّة ، بل في خصوص الخبرين اللذين يكون أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم .

ثانيا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثاني من باب الطريقيّة

ص: 278

أمّا الوجهُ الأوّلُ : فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعي ،

-----------------

والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، لكن هذا الأخذ ليس في خصوص الخبرين المتعارضين ، بل يعمّ كلّ شيء حتّى لو لم يكن خبر أصلاً .

ثالثا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثالث من باب التعبّد كالوجه الأوّل لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع كالوجه الثاني ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الأوّل خاصا بالخبرين المتعارضين بل يعمّ كلّ شيء حتّى وان لم يكن خبر أصلاً ، فإذا سلك المخالفون مسلكا في أي شيء كان ، لزم مخالفتهم فيه ، وحينئذ يكون الوجه الثالث أعمّ من الوجه الأوّل .

رابعا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الرابع كالوجه الثاني من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد كالوجه الأوّل والثالث ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الثاني يعمّ كلّ شيء ، بل هو خاص بالخبرين المتعارضين ، لأنّا بنينا على كون الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وحينئذ يكون الوجه الرابع أخصّ من الوجه الثاني .

ثمّ انّ تقرير الحصر في الوجوه الأربعة يكون على النحو التالي : الأخذ بمخالف العامّة إمّا تعبّدي أو طريقي ، وكلّ واحد منهما ، امّا أعمّ من مورد الخبرين ، أو خاص بمورد الخبرين ، فالوجوه أربعة .

إذن : فترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة - حسب توضيح المصنّف - يكون بأحد هذه الوجوه الأربعة فلننظر أيّها يكون المتعيّن هنا ؟ .

( أمّا الوجه الأوّل : فمع بُعدِه عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ إعتبارهما على الكشف النوعي ) أي : انّ إعتبار الأخبار إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف

ص: 279

ينافي التعليل المذكور في الاخبار المستفيضة المتقدّمة .

ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث مضافاً إلى صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شئممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ، فإنهم ليسوا

-----------------

عن الواقع ، فاللازم معه أن يكون كلّ ما يدور حول الخبر ، حتّى الترجيح بين الخبرين ملحوظا فيه الطريقيّة والأقربيّة إلى الواقع أيضا ، بينما مجرّد التعبّد ، أو حسن المخالفة ، لا كشف فيه ، وحينئذ فالوجه الأوّل مع بُعده ( ينافي التعليل المذكور في الأخبار المستفيضة المتقدّمة ) أيضا ، فانّ أكثر الأخبار علّلت مخالفة العامّة بكون الرشد في خلافهم ، ممّا يكون معناه : الطريقيّة والكشف عن الواقع ، فنحمل الأخبار الخالية عن هذا التعليل عليها ، وبذلك يتبيّن : انّه لا يلاحظ التعبّد في الأخذ بمخالف العامّة وإنّما الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث ) أيضا ، لأنّك قد عرفت انّ الوجه الثالث هو أيضا كالوجه الأوّل مبني على التعبّد في مخالفة العامّة ، فيكون الاشكالان الواردان من المصنّف على الوجه الأوّل بقوله : « فمع بُعده » وقوله : « ينافي التعليل » واردين أيضا على الوجه الثالث .

( مضافا إلى ) إشكال ثالث يرد على هذين الوجهين : الأوّل والثالث ، وهو : ( صريح رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام ) الدالّة على انّ الأخذ بمخالفة العامّة إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، فانّه ( قال : ما أنتم واللّه على شيء ممّا هم فيه ) أي : من العقائد والأحكام ( ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ) أي : من عقائدكم وأحكامكم ( فخالفوهم ، فانّهم ليسوا

ص: 280

من الحنفية على شيء فقد فرّع الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لامجرّد حسن المخالفة ، فتعّين الوجه الثاني ؛ لكثرة ما يدلّ عليه

-----------------

من الحنفية على شيء (1) ) أي : ليسوا على الدين الحنيف .

وإنّما لم يكونوا من الحنفية على شيء ، لوضوح أنّ الخلفاء ومن إليهم من الحكّام ، والقضاة ، وفقهاء البلاط ، ومراجع النظام ، التابعين لهم ، كانوا من المنحرفين عقيدة ، لأنّهم كانوا يقولون في اللّه تبارك وتعالى بالتجسيم والتشبيه ، والجبر والتفويض ، وما أشبه ذلك ، تعالى اللّه عنها علوّا كبيرا ، ويقولون في الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بأنّه والعياذ باللّه يخطأ ، وانّه كان ضالاًّ قبل نزول الوحي عليه ، وغير ذلك ، وكانوا من المنحرفين عملاً أيضا ، لأنّ أعمالهم كانت مبنية على الأخبار المكذوبة ، والقياسات الباطلة ، والاستحسانات الشخصيّة ، والمصالح المرسلة ، وقد روى بعضهم : إنّ الأخبار المكذوبة التي رووها عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم يبلغ عددها ثمانمائة وخمسون ألف حديث .

وكيف كان : ( فقد فرّع ) الإمام عليه السلام في هذه الرواية الأخيرة المروية عن أبي بصير (الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لا مجرّد حسن المخالفة ) تعبّدا ، فتكون هذه الرواية الظاهرة والصريحة في كون حُسن المخالفة من جهة الطريقيّة والكشف عن بطلان أحكامهم ، مفسّرة لما دلّ من الروايات على انّ حسن المخالفة من جهة التعبّد فقط .

وعلى هذا : ( فتعيّن الوجه الثاني ) من الوجوه الأربعة ، وهو : الدالّ على أنّ الأخذ بمخالف العامّة إنّما هو من باب الطريقية ، لمظنّة مطابقته للواقع دون الموافق لهم ، وانّا إنّما نقول بتعيّنه ( لكثرة ما يدلّ عليه ) أي : على هذا الوجه

ص: 281


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33365 .

من الأخبار ، والوجه الرابع للخبر المذكور وذهاب المشهور .

إلاّ أنّه يشكل الوجه الثاني ، بأنّ التعليل المذكور في الأخبار بظاهره غير مستقيم ؛ لأنّ خلافهم ليس حكماً واحداً حتى يكون هو الحقّ .

-----------------

الثاني ( من الأخبار ) الواردة في ترجيح خبر على خبر ، مثل رواية علي بن أسباط (1) المتقدّمة .

( و ) كذا يتعيّن أيضا ( الوجه الرابع ) والأخير من الوجوه الأربعة ، وهو الدالّ على أنّ الأخذ بمخالف العامّة إنّما هو من باب الطريقية لعدم إحتمال التقيّة فيه ، وذلك ( للخبر المذكور ) المتقدّم من قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ...» (2) ( وذهاب المشهور ) إليه أيضا .

( إلاّ انّه يشكل الوجه الثاني ) الذي قال المصنّف بتعيّنه هنا من بين الوجوه الأربعة ، والاشكال هو كما قال : ( بأنّ التعليل المذكور في الأخبار ) المصرّحة بأنّ الرشد في خلافهم ( بظاهره ) أي : بما يستظهر من التعليل عرفا مع غضّ النظر عن التوجيهين الآتيين من المصنّف له : حيث يقول : ويمكن دفع الاشكال ( غير مستقيم ) ، وإنّما لم يكن التعليل بظاهره مستقيما ( لأنّ خلافهم ليس حكما واحدا حتّى يكون هو الحقّ ) فانّ كون الرشد والحقّ في خلافهم إنّما يستقيم لو إنحصر خلافهم في الخبر المخالف لهم ، وهذا يكون فيما إذا دار الأمر في المسألة بين وجهين فقط ، وذلك كما إذا قال الخبر الموافق للعامّة بجواز قول آمين بعد الحمد ، وقال الخبر المخالف للعامة بعدم جواز قول آمين بعد الحمد ، فانّ الرشد

ص: 282


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص275 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، علل الشرائع: ص531 ح4 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص294 ب22 ح27 ، بحار الانوار: ج2 ص233 ب29 ح14.
2- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 .

وكون الحقّ والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لاينفع في الكشف عن الحقّ .

نعم ، ينفع في الأبعديّة عن الباطل لو علم أو احتمل

-----------------

يكون في عدم جوازه لإنحصار خلافهم فيه ، أمّا إذا دار الأمر بين أكثر من وجهين في المسألة ، كما لو تردّد قول آمين بعد الحمد بين الأحكام الخمسة ، فلا يستقيم التعليل ، لأنّه لم ينحصر خلافهم في حكم معيّن من بقيّة الأحكام الخمسة ، ومعه فلا يُعلم انّ أيّ واحد من بقيّة الأحكام الخمسة التي هي مخالفة لهم يكون رشدا ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى .

( و ) ان قلت : يكفي انّا نعلم انّ الرشد بين بقيّة هذه الأحكام الخمسة التي هي مخالفة للقول الذي ذهب إليه العامّة وان لم نعلمه بخصوصه .

قلت : ( كون الحقّ والرشد فيه ) أي في خلاف العامّة لو كان ( بمعنى وجوده في محتملاته ) أي بمعنى وجود الحقّ في محتملات الخلاف المردّدة بين بقيّة الأحكام الخمسة ، بحيث لا نعلم انّ أيّها هو الرشد والحقّ ؟ فانّه ان كان بهذا المعنى فهو ( لا ينفع في الكشف عن الحقّ ) لأنّه يكون من باب العلم الاجمالي ، وليس من باب العلم التفصيلي بكون الحقّ في هذا الشيء الخاص ، والعلم الاجمالي لا ينتج التعيين .

( نعم ) كون الرشد موجودا في محتملات خلاف العامّة ( ينفع في الأبعديّة عن الباطل ) المعيّن ، وهو الموافق للعامّة ، فانّا نعلم انّ بقيّة الأحكام الخمسة التي هي على خلاف العامّة أبعد عن الباطل من الموافق لهم ، لكن أيّها هو الرشد فغير متعيّن ؟ وهذا المقدار من معنى الرشد ينفع للترجيح به فيما ( لو علم أو إحتمل

ص: 283

غلبة الباطل على أحكامهم ، وكون الحقّ فيها نادراً ، ولكنّه خلاف الوجدان .

ورواية أبي بصير المتقدّمة وإن تأكّد مضمونها بالحلف ،

-----------------

غلبة الباطل على أحكامهم ، وكون الحقّ فيها نادرا ، ولكنّه ) أي : هذا العلم أو الاحتمال ( خلاف الوجدان ) الخارجي ، فهو ممنوع .

وبعبارة اُخرى : الاستدلال لترجيح مخالف العامّة بتعليل كون الرشد في خلافهم أخصّ من المدّعى في فرض ، وممنوع في فرض آخر ، وذلك لأنّه ان كان كثير من أحكام العامة باطلاً وكثير منها صحيحا ، فالخبر الموافق لهم لا يكون قريبا إلى الحقّ ، إلاّ إذا كان خلافهم منحصرا في الخبر المخالف لهم ، فيكون الخبر المخالف لهم حينئذ لتعيّنه أقرب إلى الحقّ ، وإلاّ فلا يكون الخبر المخالف لهم المتردّد بين عدّة محتملات أقرب إلى الحقّ ولا أبعد عن الباطل ، وفي هذا الفرض يكون الدليل أخصّ من المدّعى ، وان كان أكثر أحكام العامّة باطلاً ، ونادر منها صحيحا ، كان الخبر الموافق لهم أقرب إلى الباطل ، والخبر المخالف لهم أبعد عن الباطل ، سواء إنحصر خلافهم فيه أم لا ، ولكن هذا الفرض ممنوع ، ومعه فلا يستقيم التعليل بكون الرشد في خلافهم على التقديرين .

( و ) إن قلت : كيف تقولون انّه خلاف الوجدان والحال إنّ ( رواية أبي بصير المتقدّمة ) ظاهرة في بطلان أحكامهم مطلقا ، فتدلّ على الفرض المذكور : من ندرة الحقّ وغلبة الباطل على أحكامهم ؟ .

قلت : رواية أبي بصير ( وان تأكّد مضمونهابالحلف ) حيث قال الإمام عليه السلام :

« ما أنتم واللّه على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم

ص: 284

لكن لابدّ من توجيهها ، فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم ، وهو أبعدُ من التعبّد بنفس الحكم .

-----------------

فانّهم ليسوا من الحنفيّة على شيء » (1) ( لكن لابدّ من توجيهها ) بإرادة تباين المذهبين : مذهب العامّة ، ومذهب الامامية في الخطوط العامّة ، وذلك لأنّهم يأخذون مذهبهم من اُناس لم يؤيّدهم اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم لا صريحا ولا تلويحا ، بينما الشيعة يأخذون مذهبهم من أهل البيت عليهم السلام الذين أنزل اللّه تعالى فيهم : « إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (2) وقال فيهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا » (3) .

وإنّما لابدّ من توجيه رواية أبي بصير بهذا توجيه - مثلاً - لأنّا نجد انّ كثيرا من أحكام العامّة موافقا ، لأحكامنا من أوّل الطهارة إلى آخر الديّات ، وذلك يستدعي توجيهها .

وعليه : فانّه حيث تبيّن إنّ التعليل بالرشد لا يستقيم ، سواء اُريد منه الأقربية إلى الحقّ ، أو الأبعديّة عن الباطل ، لم يبق إلاّ حمل العلّة في قوله عليه السلام : « فانّ الرشد في خلافهم » (4) على التعبّد ، وذلك بأن يراد : كون الرشد في خلافهم تعبّدا ، وحينئذٍ ( فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم ) لا بنفس الحكم ( وهو ) أي : التعبّد بعلّة الحكم ( أبعد من التعبّد بنفس الحكم ) أي : إنّ التعليل بكون الرشد

ص: 285


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33365 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وج23 ص147 ب7 ح111 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص45 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون أخبار الرضا : ص62 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص8 وص67 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

والوجه الرابع : بأنّ دلالة الخبر المذكور عليه لايخلو عن خفاء ، لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعاً على قواعدهم الباطلة ،

-----------------

في خلاف العامّة تعبّدا ، أبعد من الأمر بأخذ المخالف للعامّة تعبّدا .

إذن : فالحكم بأخذ المخالف للعامّة تعبّدا بعيد ، كما تقدّم بيان بُعده في الاشكال على الوجه الأوّل والثالث ، ولكنّ التعليل بالرشد تعبّدا أبعد منه ، وذلك لأنّ التعليل يجب أن يكون بأمر متناسب عرفا مع المطلب الذي جيء بالتعليل له ، والذي يناسب الأمر بمخالفة العامّة هو : الأقربية إلى الحقّ والأبعدية عن الباطل ، لا أن يتعبّد بكون الرشد في مخالفتهم ، فهو مثل أن يقول : إغتسل للجنابة ، لأنّ الغسل يوجب سعة الرزق ، فانّ مثل هذه العلّة لا تتناسب مع الغسل ، وليس من البلاغة التعليل بما لا يتناسب عرفا ، بل اللازم أن يقول مثلاً : إغتسل للجنابة لأنّه يوجب النظافة .

هذا هو تمام الاشكال على الوجه الثاني القائل بترجيح المخالف للعامّة لأجل مظنّة مطابقته للحقّ والواقع ( و ) امّا الاشكال على ( الوجه الرابع ) القائل بترجيح الخبر المخالف للعامّة لأجل عدم إحتمال التقيّة فيه ، فهو : ( بانّ دلالة الخبر المذكور ) في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (1) فانّ دلالة هذا الخبر ( عليه ) أي : على الوجه الرابع ( لا يخلو عن خفاء ) .

وإنّما لا يخلو عن خفاء ( لإحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعا ) ومبتنيا ( على قواعدهم الباطلة ) في الاُصول والاُمور

ص: 286


1- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، عمداً وسهواً أو الجبر والتفويض ونحو ذلك .

-----------------

الاعتقادية ( مثل : تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام عمدا وسهوا ) حيث انّ العامّة يذهبون إلى تجويز الخطأ عليهم ، سواء الخطأ عمدا أو الخطأ سهوا والعياذ باللّه ( أو ) تجويز ( الجبر والتفويض ) على اللّه تبارك وتعالى ، حيث يقولون بأنّ اللّه أجبر العباد على أعمالهم ، أو انّ اللّه فوّض الأمر إليهم ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ( ونحو ذلك ) ممّا قالوا لتجويزه على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم ممّا لا يليق بعظمة اللّه وقدسه ، وطهارة رسوله صلى الله عليه و آله وسلم وعصمته ، وعصمة الأئمّة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام .

وعليه : فإذا اُريد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس : كونه متفرّعا على قواعدهم ، لا كونه مشابها لأقوالهم ، خرج هذا الخبر عن أن يكون دليلاً على الترجيح به في باب التعارض ، وذلك لأنّ التعارض إنّما هو في صورة إنطباق كلا الخبرين المتعارضين على اُصول المذهب وقواعده ، وكان قول العامّة مطابقا لأحدهما ومشابها له ، ففي هذه الصورة يصحّ الاستدلال بهذا الخبر للترجيح به ، وإلاّ فلا مطابقاً لأحدهما ومتشابهاً له .

والحاصل : إنّ الخبر المذكور إن اُريد به كون الحكم متفرّعا على قواعد الأئمّة عليهم السلام لكنّه كان يشبه أقوال العامّة ، كان هذا الخبر دليلاً على الوجه الرابع ، وإن اُريد به كون الحكم الذي يشبه قول العامّة ، متفرّعا على قواعدهم الباطلة ، فلا يكون هذا الخبر دليلاً على الوجه الرابع .

ص: 287

وقد أطلق الشباهةُ على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، حيث قال : فإن اشبههما فهو حقّ ، وإن لم يُشبههما فهو باطل ، وهذا الحمل أولى من حمل القضيّة

-----------------

( و ) ان قلت : إنّ الشباهة تطلق بمعنى الشبيه والنظير ، لا بمعنى التفريع والتشقيق ، فمن أين قلتم بأنّها بمعنى التفريع والتشقيق ؟ .

قلت : ( قد اُطلق الشباهة على هذا المعنى ) أي : التفريع والتشقيق ( في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ) فيكون ذلك قرينة على هذا المعنى للشباهة في مقامنا أيضا ( حيث قال ) عليه السلام : إذا ورد عليكم الحديث فأعرضوه على الكتاب والسنّة ( فان أشبههما فهو حقّ ، وان لم يشبههما فهو باطل ) (1) فانّ معنى الشباهة بالكتاب والسنّة هنا هو : أن يكون الحكم متفرّعا عليهما ، لا ان يكون الحكم نظيرا لهما ، فلو ورد - مثلاً - خبران : أحدهما يقول بجواز التصفيق ، والآخر بحرمته ، فحيث انّ التصفيق فرع اللهو ، وقد حرّم الكتاب والسنّة اللهو ، قدّم الخبر القائل بالتحريم ، لأنّه هو الذي يشبه الكتاب والسنّة دون الآخر ، فقد قال اللّه سبحانه : « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه » (2) .

( وهذا الحمل ) الذي ذكرناه للشباهة في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ...» على معنى التفريع على قواعد العامّة الباطلة ليخرج عن باب التعارض ( أولى من حمل القضيّة ) أي : حمل الشباهة في « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ...» (3) على معنى الشبيه والنظير ليدخل في باب التعارض .

وإنّما يكون حمله على التفريع أولى من حمله على التنظير ، لأنّ كلامه عليه السلام

ص: 288


1- - تفسير العياشي : ج1 ص9 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
2- - سورة لقمان : الآية 6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 .

على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة .

ويمكن دفع الاشكال في الوجه الثاني عن التعليل في الأخبار : بوروده على الغالب : من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين .

لأن الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامّة مختلفين ، ومع اتفاقهم لايكون في المسألة وجوه متعدّدة .

-----------------

المزبور لا ظهور له في التنظير - على ما بيّناه بالإضافة إلى توقّف صحّة حمله على التنظير على الحمل ( على الغلبة لا الدوام ) لما عرفت من غلبة بطلان أحكامهم لادوام بطلانها ، وذلك ( بعد تسليم الغلبة ) أيضا حيث انّا لا نسلّم هذه الغلبة ، لأنّا ذكرنا سابقا : بأنّ كثيرا من أحكامهم باطل ، وكثيرا منها أيضا صحيح .

إذن : فلا غلبة أوّلاً ، وعلى تقدير الغلبة فلا دوام ثانيا ، وعلى تقدير الدوام فالخبر ليس ظاهرا في المتعارضين ثالثا .

هذا ( ويمكن دفع الاشكال في الوجه الثاني عن التعليل ) الموجود ( في الأخبار ) المصرّحة بكون الرشد في خلافهم ، على النحو التالي وهو أن نقول ( بوروده ) أي : نقول : بأنّ ورود التعليل فيها يكون منزّلاً ( على الغالب : من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين ) لا فيما لو تردّدت أحيانا بين أو جه متعدّدة ، وذلك ( لأنّ الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامة مختلفين ) في تلك المسألة المتعدّدة الوجوه ، فلا يتعيّن خلافهم في شيء من تلك الوجوه حتّى يكون ذلك أقرب إلى الحقّ ( ومع اتّفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعدّدة ) بل وجهان فقط ، فيتعيّن خلافهم في أحدهما .

وبعبارة اُخرى : لقد أورد المصنّف على الاستدلال لترجيح أحد الخبرين بالتعليل الموجود في الأخبار ، المصرّحة بأنّ الرشد في خلافهم بإشكالين قال

ص: 289

ويمكن - أيضاً - الالتزام بما ذكرنا سابقاً ، من غلبة الباطل في أقوالهم ،

-----------------

في أوّلهما : بأنّ الاستدلال بالتعليل أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنّه ان اُريد من الرشد : الأقربية إلى الحقّ ، فهو يتمّ في بعض الموارد لا في كلّ الموارد ، فيكون التعليل أخصّ من المدّعى ، فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال : بأنّه ليس أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنّ التعليل بالرشد إن كان بمعنى الأقربية إلى الحقّ فهو منزّل على الغالب ، ومعلوم : إنّ الغالب إنحصار حكم المسألة في وجهين ، ومعه ينحصر خلاف العامّة في الخبر المخالف لهم ، فيصحّ التعليل بأنّه أقرب إلى الحقّ ، وليس منزّلاً على النادر وهو : تردّد حكم المسألة في وجوه متعدّدة ، فانّه مع تعدّد الوجوه كما يحصل الاختلاف بين الشيعة في الأقوال ، فكذلك يحصل الاختلاف بين العامّة ، وحينئذ فلا يصحّ التعليل بأقربية المخالف للحقّ ، لعدم تعيّن المخالف لهم بين الوجوه المتعدّدة ، فالتعليل بالرشد إذن منزّل على الغالب ، ومعه فيندفع الاشكال .

هذا هو الاشكال الأوّل الذي أو رده المصنّف على الاستدلال بالتعليل وجوابه عنه ، وامّا الاشكال الثاني على التعليل فهو : إنّ الاستدلال بالتعليل متوقّف على غلبة بطلان أحكام العامّة ، والغلبة ممنوعة ، وذلك لأنّه ان اُريد من الرشد : الأبعدية عن الباطل ، فهو متوقّف على غلبة بطلان أحكامهم وندرة الحقّ فيها ، ولكن ذلك ممنوع خارجا ، فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال قائلاً : (ويمكن - أيضا - الالتزام بما ذكرنا سابقا : من غلبة الباطل في أقوالهم) وأحكامهم ، وذلك لأنّ التأمّل في القرائن المؤيّدة لدعوى هذه الغلبة المستبعدة خارجا يرفع الاستبعاد المذكور ، ومعه فيصحّ أن يقال : بأنّ الموافق لهم أقرب إلى الباطل لغلبة الباطل في أحكامهم ، والخبر المخالف لهم أبعد عن الباطل ، لندرة الحقّ في أحكامهم .

ص: 290

على ما صرّح به في رواية الأرجائي المتقدّمة ، وأصرَحُ منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : خالفتُ جعفراً في كلّ ما يقول ، إلاّ أنّي لا أدري أنّه يغمض عينيه في الركوع والسجود أو يفتحهما ،

-----------------

وعليه : فالتأمّل في القرائن يرفع إستبعاد غلبة الباطل على أحكامهم وأقوالهم ويؤيّد ندرة الحقّ فيها ، ومن تلك القرائن الدالّة على ذلك هو : ما تقدّم في بعض الروايات التي سبقت ، وقد أشار المصنّف إلى ذلك بقوله : ( على ما صرّح به في رواية الارجائي (1) المتقدّمة ) التي ذكرت مخالفة العامّة لعلي عليه السلام في كلّ ما كان يفتيهم به .

( وأصرحُ منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول ، إلاّ انّي لا أدري انّه يغمض عينيه في الركوع أو السجود أو يفتحهما ) (2) ولذلك كان - على ما قيل - : يفتح إحدى عينه ويغمض الاُخرى فيهما ، حتّى يكون قد خالفه على كلّ حال ، وهذا ممّا يدلّ على كثرة مخالفتهم للحقّ ، وغلبة الباطل على أحكامهم وأقوالهم .

لا يقال : انّا لا نجد اليوم في كتبهم غلبة المخالفة لنا .

لأنّه يقال : هناك فرق بين ذلك الزمان ، الذي لم يكن ينقّح فيه مذهبهم الفقهي ، بسبب الجمع بين المتفرّقات وإخراج جملة من الخرافات منها ، وبين هذا الزمان الذي تمّ فيه كلّ ذلك ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم السابقة واللاحقة ، حيث يرى انّ علماءهم المتأخّرين عن زمن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد أخرجوا كثيرا من الأقوال الباطلة ، كما انّ علماء حديثهم قد أخرجوا كثيرا من الروايات الخرافية

ص: 291


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .
2- - مفتاح الكرامة : ج3 ص393 .

وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل .

ويمكن توجيه الوجه الرابع : بعدم انحصار دليله في الرواية المذكورة .

بل الوجه فيه هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ أو أبعد احتمالاً لمخالفة الواقع من الخبر الآخر .

-----------------

عن كتبهم ، ولذا جمع البخاري كتابه من بين ستمائة ألف حديث كان يرى بطلان باقيها .

( وحينئذ ) أي : حين كان الباطل غالبا على أحكامهم وأقوالهم ( فيكون خلافهم أبعد من الباطل ) حتى وإن تردّد ذلك بين وجوه متعدّدة .

هذا كلّه في توجيه الوجه الثاني القائل بترجيح مخالف العامّة لمظنّة مطابقته للحقّ ( ويمكن توجيه الوجه الرابع ) أيضا القائل بترجيح مخالف العامّة لعدم إحتمال التقيّة فيه ( بعدم إنحصار دليله في الرواية المذكورة ) أي : في رواية : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة » حيث ذكرنا أنّ هذه الرواية لا تكون دليلاً على هذا الوجه .

إذن : فالوجه فيه ليست هذه الرواية ( بل الوجه فيه ) أي : في الوجه الرابع المذكور ( هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى ) على ما فصّلناه سابقا ( من حصول الترجيح ) لأحد الخبرين على الخبر الآخر ( بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ ) إحتمالاً لمخالفة الواقع ( أو أبعد احتمالاً لمخالفة الواقع من الخبر الآخر ) علما بأنّ الفرق بين الأقل والأبعد هو : إنّ الأقل في الكمّ ، والأبعد في الكيف ، فإذا كان في أحد الخبرين إحتمالان للبطلان - مثلاً - وفي الآخر إحتمال واحد ، كان الثاني أقل إحتمالاً فيقدّم ، وإذا كان في كلّ واحد

ص: 292

ومعلوم : أنّ الخبر المخالف لايحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق، على ما تحقّق من المحقّق قدس سره .

فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة : ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقيّه ، بل المراد أنّ الخبرين لما اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع عدا احتمال الصدور تقيّة ، المختصّ بالخبر الموافق تعيّن العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح

-----------------

منهما إحتمال واحد للبطلان ، لكن كان أحد الاحتمالين أقرب إلى الباطل ، كان من مصاديق ما ذكره المصنّف بقوله : أبعد احتمالاً فيقدّم أيضا .

( ومعلوم : أنّ الخبر المخالف ) للعامّة ( لا يحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق ) لهم وذلك ( على ما تحقّق من المحقّق قدس سره ) فيما مضى من كلامه حيث إعترف باحتمال التقيّة في الخبر الموافق للعامّة ، ولكنّه مع ذلك لم يحكم بطرح محتمل التقيّة ، لأنّه رأى ذلك معارضا بإحتمال التأويل في الخبر المخالف .

وعلى هذا : ( فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة : ليس كون الموافقة ) للعامّة ( أمارة على صدور الخبر تقيّة ) وإنّما معناه : طرح الموافق لإحتمال التقيّة فيه ، وذلك كما قال : ( بل المراد انّ الخبرين لما اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع ) من إحتمال عدم صحّة السند ، وإحتمال عدم الصدور من الإمام عليه السلام ، وإحتمال التأويل فيهما معا ، وذلك بأن تساويا في كلّ هذه الاُمور ( عدا إحتمال الصدور تقيّة ، المختصّ بالخبر الموافق ) للعامّة فقط ( تعيّن العمل بالمخالف ) للعامّة لعدم وجود مثل هذا الاحتمال في المخالف ( وإنحصر مَحمل الخبر الموافق ) للعامّة ( المطروح ) لمرجوحيّته بسبب إنحصار

ص: 293

في التقيّة .

وأمّا معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال الفتوى على التأويل ففيه : إنّ الكلام فيما إذا اشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند والمتن والدلالة .

-----------------

محمله ( في التقيّة ) فقط دون الآخر .

والحاصل : إنّه إذا تساوى الخبران في كلّ جهة من الجهات ، حتّى إحتمال التأويل في هذا الخبر وفي ذلك الخبر ، لزم الأخذ بالخبر المخالف للعامّة ، وذلك لأنّ عدم إحتمال التقيّة مزيّة وقد حصل في الخبر المخالف للعامّة ولم يحصل في الخبر الموافق لهم ، وقد ذكرنا : انّه يلزم الأخذ في الخبرين المتعارضين بالخبر الذي فيه مزيّة لا توجد تلك المزيّة في الخبر الآخر .

( وأمّا ) الاشكال الذي أورده المحقّق على الترجيح بمخالفة العامّة : من ( معارضة إحتمال التقيّة في الموافق ) للعامّة ( باحتمال الفتوى على التأويل ) أي : باحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إلى الخبر المخالف للعامة ( ففيه : إنّ الكلام فيما إذا إشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند ) من ضعف وقوّة ( والمتن ) من حيث النقل باللفظ والمعنى ( والدلالة ) من جهة إحتمال التأويل وعدمه ، كما في مثال :« ثمن العذرة سحت » (1) و« لا بأس ببيع العذرة » (2)، فالخبران مشتركان في كلّ ذلك وإنّما إختلفا في التقيّة وعدم التقيّة فقط ، يعني : بأن احتملنا التقيّة في الموافق للعامّة ، ولم نحتملها في المخالف لهم .

ص: 294


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فاحتمال الفتوى على التأويل مشترك ، كيف ولو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرقه في الخبر الموافق ، كان الّلازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ، لما عرفت من أنّ النصّ والظاهر لايرجع فيهما إلى المرجّحات .

وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد بأنّ احتمال

-----------------

وعلى هذا ( فإحتمال الفتوى ) من الأئمّة عليهم السلام في هذا الخبر ، وفي ذلك الخبر أيضا ، فتوى ( على التأويل مشترك ) بينهما ، فلم يبق من المزايا إلاّ مزيّة التقية ( كيف ولو فرض إختصاص الخبر المخالف ) للعامّة ( باحتمال التأويل ) بأن كان عاما - مثلاً - ( وعدم تطرّقه ) أي : عدم تطرّق إحتمال التأويل ( في الخبر الموافق ) بأن كان نصّا - مثلاً - ( كان اللازم إرتكاب التأويل في الخبر المخالف ) للعامّة ، وذلك لأنّه من الجمع بين النصّ والظاهر ، أو الظاهر والأظهر ، ومعه فلا إعتداد بإحتمال التقيّة في الموافق أصلاً ، لأنّه لا يتمكّن من أن يعارض إحتمال التأويل .

والحاصل : انّه إذا كان في أحد الخبرين إحتمال التأويل ، وفي الخبر الآخر إحتمال التقيّة ، لا تصل النوبة إلى مسألة التقيّة ، والترجيح بها ، وإنّما الواجبة بل كلّ شيء هو التأويل ، لأنّه من الجمع الدلالي ، وذلك ( لما عرفت : من انّ النصّ والظاهر ) أو الأظهر والظاهر ( لا يرجع فيهما إلى المرجّحات ) ومن المعلوم : انّ إحتمال التقيّة من المرجّحات ، فما دام يمكن الجمع بين الخبرين بالتأويل في أحدهما تأويلاً عرفيّا لا تصل النوبة إلى التراجيح .

( وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد ) الذي ذكره المحقّق : من انّ في أحدهما إحتمال التأويل ، وفي الآخر إحتمال التقيّة ، أجاب قائلاً : ( بأنّ إحتمال

ص: 295

التقيّة في كلامهم أقربُ وأغلبُ ، ففيه : مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقّق من معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال التأويل ، مع ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ، منعُ أغلبيّة التقيّة في الأخبار من التأويل .

ومن هنا يظهر :

-----------------

التقيّة في كلامهم أقرب وأغلب ) ولذا قدّم صاحب المعالم مسألة التقيّة على مسألة التأويل ، فانّ قوله : وأمّا جواب المعالم عن إشكال المحقّق ( ففيه ) ما يلي :

أوّلاً : ( مع إشعاره ) أي : إشعار هذا الجواب من صاحب المعالم ( بتسليم ما ذكره المحقّق : من معارضة إحتمال التقيّة في ) الخبر ( الموافق ) للعامّة ( بإحتمال التأويل ) في الخبر المخالف لهم ( مع ) انّ تسليم المعالم لإشكال المحقّق غير تامّ ، وذلك لأجل ( ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ) لوجوب الجمع العرفي بينهما حينئذ ، فقد سبق : انّ إحتمال التأويل المعتبر في أحد الخبرين يوجب عدم بقاء إحتمال التقيّة في الخبر الآخر ، وحينئذ يلزم ان نجمع بينهما جمعا دلاليا ، لا ان نرجّح أحدهما على الآخر بسبب التراجيح المذكورة في أخبار التراجيح .

ثانيا : ( منع أغلبيّة التقيّة في الأخبار من التأويل ) إذ التأويل أيضا غالب في الأخبار ، وذلك على ما ستطّلع إن شاء اللّه تعالى بعد عدة صفحات من الكتاب على نماذج منها عند قول المصنّف : « ويؤيّد ما ذكرنا : من انّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ، ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره » .

( ومن هنا ) أي : من أجل انّه لا مجال للترجيح بالتقيّة ، فيما إذا كان هناك جمع دلالي بين الخبرين ، بأن كان أحدهما أظهر أو كان أحدهما نصّ ( يظهر :

ص: 296

إنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختصّ بالمتباينين .

وأمّا في ما كان من قبيل العامّين من وجه ، بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهرٌ يمكن الجمع بينهما ، بصرفه عن ظاهره دون الآخر ، فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر ،

-----------------

إنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف ) للعامّة على الموافق لهم ، وكان وجه رجحانه : إنتفاء إحتمال التقيّة فيه فيما إذا كان كلا الخبرين متساويين من كلّ جهة عدا جهة التقيّة ، فيظهر منه أنّ هذا الوجه ( مختص بالمتباينين ) دون العموم والخصوص المطلقين ، وقد مثّلنا للمتباينين بمثال : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) .

( وأمّا فيما كان ) التعارض ( من قبيل العامّين من وجه ، بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهرٌ يمكن الجمع بينهما ، بصرفه عن ظاهره دون الآخر ) من قبيل : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، حيث انّ مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يتعارض فيه الدليلان ( فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، و ) بين ( الحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر ) يعني : بأن نحمل : لا تكرم الفسّاق - في المثال - على التقيّة ، أو نحكم بتأويل : لا تكرم الفسّاق : ليكون معناه الكراهة ، فيجتمع مع : أكرم العلماء ، فيكون اكرام العالم الفاسق واجبا ، لكنّه مكروه ، نظير الصلاة في الحمام .

ص: 297


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 وح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مثلاً : إذا ورد الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لايؤكل لحمه ، وورد : كلّ شيء يطير لابأس بخرئه وبوله ، فدار الأمر بين حمل الثاني على التقيّة وبين الحكم بتخصيص أحدهما لابعينه .

فلا وجه لترجيح التقيّة ؛ لكونها في كلام الائمة عليهم السلام أغلب من التخصيص ،

-----------------

ثمّ مثّل المصنّف لذلك بقوله : ( مثلاً : إذا ورد الأمر بغَسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد : كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه ) أي : فضلته ( وبوله ) فانّ النسبة بين هذين العامّين هو : العموم من وجه ، امّا العامّ الأوّل فمقتضاه : نجاسة بول غير المأكول طيرا كان كالغراب ، أو غيره كالهرّة ، وأمّا العامّ الثاني فمقتضاه : طهارة بول الطير مأكولاً كان كالحمام ، أو غير مأكول كالصقر ، ومعه فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهو : بول الطير الذي ليس بمأكول كالصقر ، فلا بأس يقول بطهارته ، والأمر بالغسل منه يقول بنجاسته ، والمفروض : موافقة لا بأس للعامّة ، لأنّهم يحكمون - مثلاً - بطهارة بول الطير مطلقا .

وعليه : فيدور حكم المسألة بين أمرين ، كما قال : ( فدار الأمر بين حمل الثاني ) لا بأس في مورد الاجتماع ( على التقيّة ) فنطرحه رأسا لموافقته للعامّة ( وبين ) الجمع الدلالي ، يعني ( الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه ) وذلك بأن نخصّص الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، بما إذا لم يكن طيرا ، أو نخصّص كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله ، بما إذا كان طيرا حلال اللحم وإذا دار حكم المسألة بين هذين الأمرين ( فلا وجه لترجيح التقيّة ) حيث انّ من رجّح التقيّة إستدلّ ( لكونها في كلام الأئمّة عليهم السلام أغلب من التخصيص ) والتأويل ، مع انّه قد سبق : انّ هذه الأغلبية ممنوعة فلا تكون سببا للترجيح .

ص: 298

فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على ما تقدم من جريان هذا المرجّح وشبهه في هذا القسم من المتعارضين هو ما تقدّم من وجوب الترجيح ؛ لكون مزيّة في أحد المتعارضين ، وهذا موجود في ما نحن فيه ؛ لأن احتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، والمخالف للعامّة مختصّ بمزيّة مفقودة في الآخر ، وهو عدم احتمال الصدور .

فتلخّص ممّا ذكرنا :

-----------------

إذن : ( فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على ما تقدّم : من جريان هذا المرجّح ) المربوط بجهة الصدور ، ( وشبهه ) من سائر المرجّحات المربوطة بالصدور ، والمضمون ( في هذا القسم من المتعارضين ) الذي بينهما عموم من وجه ( هو ما تقدّم : من وجوب الترجيح ؛ لكون ) أي : لوجود ( مزيّة في أحد المتعارضين ) فقط دون الآخر ، فانّ هنا في أحدهما فقط ومزيّة كونه ليس موافقا للعامّة كما قال : ( وهذا ) أي : وجود مزيّة في أحدهما فقط ( موجود فيما نحن فيه ) من مثال : الأمر بغَسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وكلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله ، وهو : التقيّة ، لفرض موافقة الخبر الثاني : لا بأس ، للعامة .

وإنّما توجّه مزيّة التقيّة في أحدهما فقط ( لأنّ ) التأويل الذي هو ( إحتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، و ) ذلك لإحتمال تخصيص كلّ عامّ بالآخر على ما عرفت ، فالتأويل مشترك بينهما ، بينما ( المخالف للعامّة مختصّ بمزيّة ) موجودة في أحدهما فقط ( مفقودة في الآخر ، وهو ) أي : فقد المزيّة في الآخر الموافق للعامّة عبارة عن ( عدم إحتمال الصدور ) فيه ، لأنّه تقيّة ، ومعلوم : إنّ الصادر تقيّة مساوٍ لعدم الصدور .

( فتلخّص ممّا ذكرنا ) في بيان الوجوه الأربعة لترجيح أحد الخبرين بمخالفة

ص: 299

إنّ الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين ، على ما يظهر من الأخبار :

أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقة المشهور من المرجّحات المضمونيّة ، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب .

والثاني : من جهة كون المخالف ذا مزيّة ؛ لعدم احتمال التقيّة ، ويدلّ عليه ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية

-----------------

العامّة وما هو الصحيح منها تلخّص ( انّ الترجيح بالمخالفة ) للعامّة يكون ( من أحد وجهين ، على ما يظهر من الأخبار ) التي نقلناها ، وذلك على النحو التالي :

( أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور ) أي : جمهور العامّة ( نظير موافقة المشهور ) أي : مشهور الأصحاب وهي : الشهرة الروائية حيث تكون ( من المرجّحات المضمونيّة ) والمرجّح المضموني يوجب أقربيّة مضمون الخبر إلى الحقّ مع قطع النظر عن الصدور ، وذلك ( على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب ) فليس الترجيح إذن بمخالفة العامّة من باب التعبّد ، بل هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( والثاني : من جهة كون المخالف ) للعامّة ( ذا مزيّة ) ومزيّته كما عرفت من حيث جهة الصدور ، وذلك ( لعدم إحتمال التقيّة ) فيه ، وإذا كان الخبر المخالف للعامّة ذا مزيّة ، صار صغرى لكبرى : وجوب الترجيح بكلّ مزيّة ، فيجب ترجيح المخالف للعامّة على الموافق لهم ، وهذا الترجيح ليس أيضا من باب التعبّد ، بل هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( ويدلّ عليه ) أي : على وجوب الترجيح بكلّ مزيّة جملة من الأخبار المتقدّمة ، كالمتضمّنة لبيان ( ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية ) في قوله عليه السلام :

ص: 300

معلّلاً بأنّه لاريب فيه بالتقريب المتقدّم سابقاً ، ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين يظهر لك في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى .

بقي في هذا المقام اُمور :

الأوّل :

إنّ الخبر الصادر تقيّة ، يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختفٍ على المخاطب ،

-----------------

« خذ بما إشتهر بين أصحابك » (1) ( معلّلاً بأنّه لا ريب فيه ) وذلك ( بالتقريب المتقدّم سابقا ) حيث قلنا : بأنّ نفي الريب لا يراد به نفي الريب مطلقا ، وإنّما نفي الريب النسبي ، فكلّ ما كان الريب النسبي فيه أقل من الريب النسبي في الآخر لزم الأخذ بما يكون فيه الريب النسبي أقل .

هذا ( ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين ) اللذين ذكرهما المصنّف للترجيح بمخالفة العامّة سوف ( يظهر لك فيما يأتي ) عند بيان الأمر الخامس ( إن شاء اللّه تعالى ) .

ثمّ انّه قد ( بقي في هذا المقام اُمور ) كالتالي :

الأمر ( الأوّل : إنّ الخبر الصادر تقيّة ) كالخبر القائل - مثلاً - الفقّاع حلال ، فانّه محتمل لأمرين كما يلي :

أوّلاً : ( يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ) أهمّ ، فلا يكون هذا الخبر صادرا لبيان الحكم الواقعي ، وذلك لأنّ الحكم الواقعي هو حرمة الفقّاع لا حلّيته .

ثانيا : ( ويحتمل أن يراد منه تأويل مختفٍ على المخاطب ) كما لو أراد خلاف

ص: 301


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه السلام ، بل هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية .

الثاني :

إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق ، وإن لم يشترط

-----------------

الظاهر من الخبر القائل : الفقّاع حلال ، وذلك بأن أراد منه : انّه حلال للمضطر ( فيكون من قبيل التورية ) ويكون الخبر المذكور صادرا لبيان الحكم الواقعي ، لكن ذلك الحكم الواقعي إنّما يكون في حال دون حال ، كحال الاضطرار - مثلاً - في مثالنا .

( وهذا ) أي : الاحتمال الثاني المذكور في توجيه الخبر الصادر تقيّة هو عند المصنّف ( أليق بالإمام عليه السلام ) وذلك لأنّ الإمام عليه السلام يكون أبعد عن الكذب حتّى الكذب الجائز شرعا ( بل ) الاحتمال الثاني ( هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية ) وفي هذا إشارة إلى الاختلاف الموجود في انّه هل يجوز الكذب مع التمكّن من التورية ، حتّى يكون الخبر المزبور من الكذب الجائز لمصلحة أهمّ ، أو لا يجوز إلاّ إذا لم يتمكّن من التورية ، فيكون الخبر المزبور صادرا على التأويل وخلاف الظاهر ؟ وحيث انّ الإمام عليه السلام قادر على التورية ، فاللازم أن يُحمل كلامه على التورية .

هذا ، ولكن لا يخفى : إنّ الخبر الصادر عن الإمام عليه السلام تقيّة ، كالخبر القائل : الفقاع حلال ، جائز حتّى من دون تأويل وتورية ، وذلك لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالتقيّة الكلامية فتكون جائزة بلا حاجة إلى تورية سواء كان قادرا عليها أم لا ، ومعه فلم يعلم وجه قول المصنّف بانّ الاحتمال الثاني أليق .

الأمر ( الثاني : إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق ) رحمه الله ( وان لم يشترط

ص: 302

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة ، لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ، سليمة عمّا هو صريح في خلاف ما ادّعاه ،

-----------------

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة ) لأنّه قسّم التقيّة إلى ما كان الخبر موافقا للعامّة ، وإلى ما كان من أجل القاء الاختلاف بين الشيعة حتّى لا يُعرفوا على طريقة واحدة فيؤخذوا ، وذلك ( لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ) ومن جملة تلك الأخبار هو الخبر التالي : عن زرارة قال : « سألت عن أبي جعفر عليه السلام عن مسألة فأجابني - فيها - ، ثمّ جاء رجل - آخر - فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول اللّه : رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال : يازرارة انّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ، فلو إجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم ...» (1) وهذا ظاهر في انّ أخبار التقيّة لم يكن جهة صدورها خاصّا بموافقة العامّة ، بل قد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة حفاظا على حياتهم ، ومعلوم : إنّ ما يصدر لأجل القاء الخلاف قد يكون موافقا للعامّة وقد يكون مخالفا لهم ، وإذا كان مخالفا لهم فلا يكون مرجّحا .

وكيف كان : فانّ صاحب الحدائق لم يشترط في صدور الخبر تقيّة موافقته للعامّة ، وذلك لظاهر الخبر المزبور وغيره من الأخبار التي تصوّرها ( سليمة عمّا ) أي : عن الخبر المعارض الذي ( هو صريح في خلاف ما ادّعاه ) فانّ في أخبار العلاج ما هو صريح في إشتراط موافقة العامّة في الصادر تقيّة ، وهو خلاف ما ادّعاه صاحب الحدائق من عدم الاشتراط ، فالأخبار ليست إذن كما تخيّلها دالّة

ص: 303


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 ، علل الشرائع : ص395 ح16 .

إلاّ أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لايكون إلاّ مع موافقة أحدهما ، إذ لايعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة وإن كانا مخالفين لهم ،

-----------------

على ما ادّعاه سليمة عن المعارض .

وإنّما تصوّر صاحب الحدائق مثل خبر زرارة سليما عن المعارض ، لأنّ ما دلّ على حمل الخبر الموافق للعامّة في المتعارضين على التقيّة ، لا يُنافي وجود التقيّة فيما كان الخبران معا مخالفين لهم ، فانّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فالتقيّة ، كما تكون في الخبر الموافق للعامّة ، فكذلك تكون في الخبر المخالف لهم ، الملقى لأجل إختلاف كلمة الشيعة .

وعليه : فإنّ صاحب الحدائق لم يشترط في التقيّة موافقة الخبر للعامّة فصار محلاً للإعتراض عليه بأنّ التقيّة من المرجّحات ، فإذا كان الخبران معا مخالفان للعامّة ، فكيف نحمل أحدهما على التقيّة ؟ فأجاب المصنّف بالفرق بين مقام التقيّة ، وبين مقام الترجيح ، فانّ التقيّة تكون في الموافق والمخالف ، بينما الترجيح مختص بالأوّل كما قال : فانّه وان لم يشترط في مقام التقيّة الموافقة ( إلاّ انّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلاّ مع موافقة أحدهما ) للعامّة ومخالفة الآخر لهم ( إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة ) حتّى ( وان كانا مخالفين لهم ) أي : حتّى وإن كان الخبران المتعارضان مخالفين معا للعامّة .

إذن : فصاحب الحدائق إنّما يحمل الخبر على التقيّة إذا كان أحد المتعارضين موافقا للعامّة ، لا ما إذا كان كلا المتعارضين مخالفين للعامّة ، فانّ في صورة مخالفة الخبرين معا للعامّة يتساويان في إحتمال التقيّة ، فلا يعقل حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، كما لا يعقل حمل أحدهما المردّد على التقيّة .

ص: 304

فمراد المحدّث المذكور : ليس الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ، كما أو رده بعض الأساطين في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ، بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاُولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة ، لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

-----------------

وعليه : ( فمراد المحدّث المذكور ) وهو صاحب الحدائق من عدم إشتراط موافقة العامّة في الخبر الصادر التقيّة هو : مقام التقيّة ، لا مقام الترجيح ، إذ ( ليس ) مراده هو ( الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ) حتّى يرد عليه الاشكال القائل : بأنّه إذا كان كلا الخبرين مخالفا للعامّة فكيف نحمل أحدهما على التقيّة ؟ وذلك ( كما أو رده ) أي : أو رد هذا الاشكال عليه ( بعض الأساطين ) وهو الوحيد البهبهاني ( في جملة المطاعن ) التي أو ردها ( على ما ذهب إليه ) صاحب الحدائق ( من عدم إشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ) معلّلاً صاحب الحدائق ذلك بأنّه قد يكون مخالفا ومع ذلك يكون تقيّة .

وإنّما ذهب صاحب الحدائق إلى هذا القول ، لأنّه أراد بذلك توجيه التعارض الموجود بين كثير من الروايات المنقولة في الكتب الأربعة ، وذلك بعد أن ثبت صدورها وخلوّها عن الكذب . فانّها إذا كانت خالية عن الدسّ والكذب ، فلماذا إذن هذا التعارض الموجود في كثير منها ، فأجاب عن هذا الاشكال بذلك .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاُولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار ) الواصلة إلينا في الكتب الأربعة ونحوها ( عن الأخبار المكذوبة ) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعلى أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ( لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

ص: 305

المتأخّرة ، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة ، صحّ لقائل أن يقول : فما بال هذه الأخبار المتعارضة التي لاتكاد تجتمع ؟ ، فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف من جهة اختلاف كلمات الأئمة عليهم السلام ، مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف انّما هو منهم عليهم السلام ، واستشهد على ذلك بأخبار زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ،

-----------------

المتأخّرة ) كأزمنة المحمّدين الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة : الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، والفقيه ( بعد ان كانت مغشوشة مدسوسة ) بعض الأخبار المكذوبة فيها ( صحّ لقائل أن يقول ) : لو كانت هذه الأخبار منقّحة عن الكذب - كما زعمت - لزم أن لا يكون بينها هذا التعارض ( فما بال هذه الأخبار ) التي بأيدينا ( المتعارضة التي لا تكاد تجتمع ؟ ) .

ثمّ إنّ صاحب الحدائق تصدّى في المقدّمة الثانية للجواب عن هذا الاشكال الذي طرحه في المقدّمة الاُولى ( فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ ) سبب هذا التعارض الذي نراه في كثير من هذه الأخبار ليس هو وجود الأخبار المكذوبة بينها لأنّها منقّحة منها ، بل هو لأنّ ( معظم الاختلاف ) حاصل ( من جهة إختلاف كلمات الأئمّة عليهم السلام ، مع المخاطبين ، و) معه فليس أحد الخبرين كذبا والآخر صدقا ، بل كلاهما صادران عن الأئمّة عليهم السلام ، غير ( انّ الاختلاف ) الذي نشاهده بينها ( إنّما هو منهم عليهم السلام ) لأجل إلقاء الخلاف بين شيعتهم على ما عرفت .

( وإستشهد ) صاحب الحدائق ( على ذلك بأخبار ) متعدّدة كالتي نقلناها فيما سبق عن زرارة ، وقد ( زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ) فيما إذا كان الإمام عليه السلام ، أو الراوي ، أو الثالث ، إذا قال الحقّ ، أو عمل به وقع

ص: 306

كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة كي لايُعرَفُوا فيؤخذ برقابهم .

وهذا الكلام ضعيف ؛ لأن الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأمّا الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم فهو وإن أمكن حصوله أحياناً ، لكنّه نادر جداً ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة .

-----------------

في أذاهم ( كذلك تحصل بمجرّد القاء الخلاف بين الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ برقابهم ) ومن هذا السؤال والجواب والاستشهاد عليه تبيّن انّ صاحب الحدائق إنّما هو في صدد بيان مقام التقيّة - على ما عرفت - وليس في صدر بيان مقام الترجيح ، فانّه يرى في مقام الترجيح كالبقيّة وجوب كون أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم .

هذا ( و ) لكن المصنّف حيث انّه لم يرتض هذا الكلام من الحدائق - مع انّه تامّ بنظرنا - قال : انّ ( هذا الكلام ضعيف ، لأنّ الغالب ) إنّما يكون ( اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ) ممّا يتطلّب أن يكون الخبر موافقا لهم ، لا ان يكون هناك خبران كلاهما مخالفين لهم ( وأمّا الاندفاع ) أي : إندفاع الخوف ( بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم ) أي : مخالفة العامّة ( فهو وإن أمكن حصوله أحيانا ، لكنّه نادر جدّا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة ) والمتعارضة .

لكن قد عرفت : إنّ صاحب الحدائق لا يريد حلّ التعارض الموجود بين كثير من الأخبار المختلفة بسبب هذا النوع من التقيّة ، وإنّما يريد أن يقول : انّ إختلاف الأخبار قد يكون لأجل التقيّة ، وقد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ،

ص: 307

مضافاً إلى مخالفته لظاهر قوله عليه السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لايشبه قول الناس فلا تقيّة فيه .

فالذي يقتضيه النظر

-----------------

فانّ تعليل الإمام عليه السلام القاء الخلاف بين شيعته للحفاظ على حياتهم هو طريق العقلاء في حفظ حياتهم وحياة أتباعهم ، كما نشاهد مثل ذلك فيما تفعله الأحزاب الحرّة ، المخالفة للحكّام المستبدّين والأنظمة الديكتاتورية في هذا اليوم ، حيث لا يظهرون بمظهر واحد ، ولذا يشتبه الأمر على الحكومة ، فلا تتمكّن من أخذهم وإستقصائهم ، وان تمكّنت من بعض فلا تتمكّن من بعض آخر .

ومن هذا الجواب الذي دفعنا به إشكال المصنّف على كلام صاحب الحدائق أوّلاً ، يظهر التأمّل في إشكال المصنّف عليه ثانيا ، فانّه بعد أن ضعّف كلام صاحب الحدائق قال : ( مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1) ) فانّ ظاهر هذه الرواية - بنظر المصنّف - هو : حصر طريق التقيّة من العامّة في إظهار الموافقة معهم فقط ، بينما هو ليس كذلك لأنّ ما ذكره الإمام عليه السلام في هذه الرواية هو الغالب ، فلا ينافي أن يكون هناك قسم آخر من التقيّة نادر ، كما يرى هذا الجمع بين الطائفتين من أخبار التقيّة كلّ من رآهما وجمع بعضهما مع بعض .

إذن : ( فالذي يقتضيه النظر ) عند المصنّف في الجواب عن إشكال إختلاف

ص: 308


1- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

- على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين ، والظنّ بصدور جميعها إلاّ قليل في غاية القلّة ، كما يقتضيه الانصاف ممّن إطّلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب - هو أن يُقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار ؛ إمّا بقرائن متصلة اختفِيَت علينا من جهة تقطيع الأخبار

-----------------

الأخبار وتعارضها على تقدير القطع بصدورها ، ليس هو جواب صاحب الحدائق القائل بأنّه من جهة قوله عليه السلام : « أنا خالفت بينهم » (1) ، بل الجواب عنه ( على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين ) حيث قال : بأنّ الأخبار التي بأيدينا مقطوع بها ( والظنّ بصدور جميعها ) ظنّا معتبرا ( إلاّ قليل ) منها ( في غاية القلّة ) أي : إنّ التي لا نظنّ بصدورها قليل جدّا ، وذلك ( كما يقتضيه الانصاف ممّن إطّلع على كيفيّة تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب ) .

وعليه : فانّ الاطلاع على ذلك يوجب الظنّ المعتبر بصدور أغلب الأخبار التي بأيدينا ، وعلى هذا التقدير ، فالذي ينبغي في الجواب عن إختلاف الأخبار ( هو أن يُقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار ) فانّهم عليهم السلام كثيرا ما أرادوا خلاف الظاهر ، وإختفت القرائن المنصوبة على خلاف تلك الظواهر عنّا ، فانّ إرادتهم خلاف الظاهر كان ( إمّا بقرائن متّصلة إختفيت علينا من جهة تقطيع الأخبار ) حيث أنّ تقطيع الأخبار أوجب إختفاء القرائن ، وذلك كما في قول الإمام عليه السلام : إغتسل للزيارة ، وللجمعة ، وللعيد - مثلاً - فكان حشر الجمعة بين هذه المستحبّات قرينة على انّ غسل الجمعة مستحبّ ، بينما

ص: 309


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين ،

-----------------

بعد التقطيع صار : إغتسل للجمعة ، ثمّ إختفت القرينة ممّا سبب ظهوره في الوجوب ، وبذلك صار إغتسل للجمعة بعدها معارضا لقوله عليه السلام : ينبغي غسل الجمعة - مثلاً - .

( أو ) إختفت علينا تلك القرائن المتّصلة من جهة ( نقلها بالمعنى ) أي : نقل الأخبار لا باللفظ ، بل بالمعنى ، ومعلوم : إنّ النقل بالمعنى يسبّب خفاء القرائن المحفوفة بالكلام فيما لو كان الكلام ينقل بلفظه ، فانّه يستفاد من نقل الكلام بلفظه معنىً لا يستفاد من نقل معناه ، وذلك كما في قوله سبحانه : « وحرام على قرية أهلكناها انّهم لا يرجعون » (1) فانّ نقله بلفظه يفيد السامع بأنّ المراد من : « وحرام » يعني : انّه ممتنع ، بينما لو نقل بمعناه فانّه قد لا يفيد السامع هذا المعنى ، كما نرى من نقل البعض له مترجما : بأنّهم إذا لم يرجعوا عاقبناهم ، فانّه بنقله ترجمة الآية قد فوّت على السامع معنى الآية ، لفوات القرائن المحفوفة باللفظ .

( أو ) كان إرادة خلاف الظاهر من كلامهم عليهم السلام بقرائن ( منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة ) بانّه كانت تلك القرينة المختفية علينا قرينة حالية ( معلومة للمخاطبين ) فانّه حيث إنتفى الحال إنتفت القرينة أيضا ، وذلك كما إذا اعتقد المخاطب - مثلاً - وجوب فعل من الأفعال ، فقال له الإمام عليه السلام : اُتركه ، فانّ قوله : اُتركه ، في هذه الحال قرينة على جواز الترك ، لا على وجوب الترك ، فإذا فاتت هذه القرينة الحالية ووصل بأيدينا : اُتركه ، استفدنا منه الحرمة .

ص: 310


1- - سورة الانبياء : الآية 95 .

أو مقاليّة اختفِيَت بالإنطماس .

وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ، من تقيّة ، على ما اخترناه : من أنّ التقيّة على وجه التورية أو غير التقيّة من المصالح الاُخر .

وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهارإمكان

-----------------

( أو ) كان الكلام محفوفا بقرائن ( مقالية إختفيت بالإنطماس ) أي : بسبب إنمحاء تلك القرينة المقالية ، كما إذا قال الإمام عليه السلام : الشيء الفلاني واجب على اُولي الألباب ، فسقط منه : على اُولي الألباب ، وبقي : الشيء الفلاني واجب ، ممّا ظاهره حرمة الترك ، بينما إذا كانت قرينة اُولي الألباب منضمّة إليه كان معناه : الاستحباب المؤكّد ، أو ما أشبه ذلك .

إذن : فعمدة إختلاف الأخبار وتعارضها ناشئمن إرادة خلاف ظاهر الكلام ، وذلك إمّا مع القرينة وقد اختفت علينا ( وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ) أهمّ من نصب القرينة على مراده من الكلام ، وذلك ( من تقيّة ، على ما إخترناه : من انّ التقيّة على وجه التورية ) أي : من باب إرادة الإمام خلاف الظاهر وإخفاء القرينة ، لا من باب الكذب الجائز لمصلحة ( أو غير التقيّة من المصالح الاُخر ) كما لو أراد المريض التدخين فيقول له : انّه محرّم عليك ، وهو يريد : انّه ما دام ضارّا ، وحيث انّه لم يذكر هذه القرينة لمصلحة يفيد الكلام التحريم المطلق فيتعارض مع دليل الجواز .

( وإلى ما ذكرنا ) من انّه كثيرا ما يكون إختلاف الأخبار وتعارضها من جهة إرادة الأئمّة عليهم السلام في كلامهم خلاف الظاهر منه ، بقرينة حالية أو مقالية ، متّصلة أو منفصلة ، ثمّ إختفت تلك القرينة علينا ، أو بغير قرينة لمصلحة التقيّة ، أو ما أشبه ذلك ( ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهار إمكان

ص: 311

الجمع بين متعارضات الأخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد .

وربّما يظهر من الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ،

-----------------

الجمع بين متعارضات الأخبار ) فانّ ما فعله الشيخ هناك أراد به رفع ما يترائى من التناقض بين الأخبار ، وإثبات كونها قابلة للجمع ، وبيان انّ الاختلاف فيها لم يكن ناشئا عن دسّ أخبار مكذوبة بينها ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها وإختفاء القرينة علينا .

وعليه : فقد جمع الشيخ - دفعا للشبهة - بين الأخبار المتعارضة ( بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره ) امّا اخراج أحد المتعارضين فقط عن ظاهره فهو كما في مثال : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج غتسل فقط عن الوجوب ، وامّا اخراج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما فهو كما في مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) ، و« لا بأس ببيع العذرة » (2) ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما ، وذلك كما لو حمل الأوّل على العذرة النجسة ، والثاني على العذرة الطاهرة - مثلاً - وحينئذٍ فقد أخرج الشيخ للجمع بين الأخبار ، أحد الروايتين أو كلتيهما (إلى معنى بعيد) بل ربّما إلى معنى قريب .

هذا ( وربّما يظهر من ) نفس ( الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ) في الاستبصار ، ومعه فلا يستشكل على الشيخ ، بأنّ هذا النحو

ص: 312


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

تشهدُ بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إن لم يظهر فيه قرينة عليها :

فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات اللّه عليهم : لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاه الزوال ؟ فقال عليه السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل ، فقال عليه السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الادراك ، فقيل له عليه السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات ؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لايزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات .

-----------------

من الجمع غير مألوف عرفا ، إذ تلك الأخبار ( تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام ان لم يظهر فيه ) أي : في الكلام ( قرينة عليها ) أي : على تلك المحامل ، ولكن من المعلوم : انّ هذه المحامل مع بُعدها عن ظاهر الكلام متعارفة عند العقلاء إذا وقعوا في التقيّة الشديدة وخافوا على أنفسهم من القتل والتنكيل .

ثمّ ذكر المصنّف نماذج من تلك المحامل والتأويلات بقوله : ( فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات اللّه عليهم ) أجمعين : من انّه ( لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال ؟ فقال عليه السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل ) سؤاله ليعرف ما المراد من الثمانين ، بل اكتفى بذلك وإنصرف ( فقال عليه السلام ) لمن كان عنده بعد ان إنصرف ذلك السائل : ( هذا يظنّ انّه من أهل الادراك ) بينما هو لم يفهم كلامي ( فقيل له عليه السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات ؟ ) الثمانون ؟ ( فقال : أردت منها ما يُقرأ في نافلة الزوال ، فانّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات ) (1) فإذا ضرب الثمان في العشر صارت النتيجة

ص: 313


1- - الكافي فروع : ج3 ص314 ح14 ، وسائل الشيعة : ج6 ص64 ب13 ح7355 .

ومنها : ما روي من : « أنّ الوتر واجب » ، فلمّا فرغ السائل واستقر ، قال عليه السلام : إنّما عنيتُ وجوبها على النبي صلى الله عليه و آله وسلم » .

ومنها : تفسير قولهم عليهم السلام : « لايعيد الصلاة فقيه » بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع .

-----------------

ثمانين ، وهذا الجواب لولا تفسير الإمام عليه السلام له كان ظاهرا بحسب السؤال في صلاة الظهر ، فكان لو وصلنا بلا تفسير ، يتعارض مع بقيّة الروايات الواردة في باب القراءة .

( ومنها : ما روي من : «أنّ الوتر واجب» ، فلمّا فرغ السائل واستقرّ ) وفي بعض النسخ : « واستفسر » ( قال عليه السلام : إنّما عنيتُ وجوبها على النبي صلى الله عليه و آله وسلم ) (1) فانّ في هذا التفسير تأويل بعيد عن ظاهر الرواية ، ولكن الإمام عليه السلام مع ذلك تكلّم بهذا الكلام لمصلحة .

( ومنها : تفسير قولهم عليهم السلام : «لا يعيد الصلاة فقيه» ) أي : لا يعيدها من كان عالما بمسائل الصلاة وأحكامها ، فانّه كلّي يشمل كلّ شكّ في ركعات الصلاة ، لكن الإمام عليه السلام فسّره بعد ذلك ( بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع (2) ) مع انّ تفسير ذلك الكلّي بهذا الجزئي وحصره فيمن شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يبني على الأربع ، ثمّ بعد الصلاة يأتي بركعة اُخرى من باب الاحتياط تأويل بعيد لظاهر الرواية .

ص: 314


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص242 ب12 ح28 ، وسائل الشيعة : ج4 ص68 ب16 ح4533 ، بحار الانوار : ج16 ص377 ح86 وفي الجميع بالمعنى .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص193 ب23 ح61 ، المقنع : ص9 ، الاستبصار : ج1 ص375 ب218 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص215 ب9 ح10459 .

ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم السلام : « لاتطوّع في وقت الفريضة» بزمان قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع .

ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ،

-----------------

( ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم السلام : « لا تطوّع في وقت الفريضة » (1) ) الظاهر في حرمة النافلة عند دخول الوقت قبل إتيان الفريضة ، فانّه فسّره ( بزمان قول المؤذّن ) المعلن عن إنعقاد الجماعة : ( قد قامت الصلاة ) فانّ تفسير وقت الفريضة بهذا المعنى تأويل بعيد عن ما يظهر من الرواية المزبورة القائلة : « لا تطوّع في وقت الفريضة » التي جعلتها بعض النسخ من متن الرسائل .

( إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبع ) في الأخبار ، مثل تفسيره عليه السلام حرمة عورة المؤمن على المؤمن بإذاعة سرّه ، وهو وان كان تأويل بعيد لظاهر الرواية ، إلاّ انّ الإمام عليه السلام أراد أن يُلفت نظر السامع إلى انّ إذاعة سرّ المؤمن أهمّ حرمة من رؤية عورته الجسدية ، حيث إنّ إذاعة السرّ قد توجب في بعض الأحيان إراقة الدماء ، وهتك الأعراض ، وغصب الأموال ، وغيرها من المحرّمات الشديدة ، وهناك في كتاب : « تعارض الأدلّة » مجموعة من توجيهات إختلاف الأخبار .

( ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ) الذي ذكره

ص: 315


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص247 ب13 ح18 و ص250 ب13 ح28 و ج3 ص283 ب13 ح161 ، الاستبصار : ج1 ص252 ب147 ح32 و ص255 ب147 ح41 ، وسائل الشيعة : ج4 ص228 ب35 ح4992 و 4993 .

ما ورد مستفيضاً من عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتى إذا قال للنهار إنّه ليل ، وللّيل إنّه نهار ، معلّلاً ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له فينكره ، فيكفر من حيث لايشعر ، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه السلام مفسدة ، فضلاً عن كفر الرادّ .

-----------------

صاحب الحدائِق ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها هو : ( ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال ) الخبر ( للنهار : انّه ليل ، وللّيل : إنّه نهار ) فاللازم - بحسب سيرة العقلاء الجارية على التدقيق في كلام العظماء حتّى يظهر لهم المراد - ان لا يُردّ ، وإنّما يلتمس له التأويل بعد حجيّة سنده ، أو يرجع في معناه إليهم ان لم يفهم المراد منه ، لا ان ينكره ( معلّلاً ذلك ) أي : عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره : ( بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له ) أي : لذلك المحمل ( فينكره ، فيكفر من حيث لا يشعر ) ومن المعلوم : إنّ الانكار إنّما يوجب الكفر فيما إذا كان الخبر في اُصول الدين أو كان يرجع إليه بنحو من الأنحاء .

وعليه : ( فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة ) أي : لو كان التنافي من جهة صدور تلك الأخبار ( تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه السلام مفسدة ، فضلاً عن كفر الرادّ ) أي : إنّ جواب صاحب الحدائق لو كان تامّا ، بأن كان تعارض الأخبار بسبب التقيّة ، لم يستلزم ردّها مفسدة فكيف بالكفر؟ وذلك لأنّ الخبر الصادر تقيّة في حكم عدم الصدور ، ممّا لم يكن بأس في ردّه وطرحه ، فتكون الروايات الموجبة كفر من ردّها مؤيّدة لتماميّة جوابنا .

ص: 316

الثالث :

إنّ التقيّة قد تكون من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّه في الأخبار ، واُخرى من حيث أخبارهم التي رووها ، وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك

-----------------

الأمر ( الثالث : إنّ التقيّة ) تكون على أقسام تالية :

أوّلاً : ( قد تكون ) التقيّة ( من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّة في الأخبار ) العلاجية ، التي أمرت بطرح ما وافق العامّة من الخبرين المتعارضين ، كما انّه ورد في بعض الروايات : انّ الإمام عليه السلام لم يكن يتمكّن لشدّة التقيّة ، من الفتوى علنا على خلاف ابن أبي ليلى ، الذي كان قاضيا في المدينة من قبيل الخليفة ، حتّى نُقل عنه عليه السلام انّه قال : امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع من ردّه (1) .

( واُخرى ) : قد تكون التقيّة ( من حيث أخبارهم التي رووها ) لوضوح : انّ فتاواهم لم تكن مستندة إلى رواياتهم ، فربّما كانت فتوى بدون رواية ، وربّما كانت رواية بدون فتوى ، وقد يجتمعان ( وهو المصرّح به في بعض الأخبار ) العلاجية ، مثل ما تقدّم عن محمّد بن عبداللّه قال : « قلت للرضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه » (2) .

( لكن الظاهر أنّ ذلك ) أي : الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا : « واُخرى :

ص: 317


1- - الكافي فروع : ج7 ص61 ح16 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص228 ب2 ح5539 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص236 ب4 ح12 ، وسائل الشيعة : ج19 ص428 ب92 ح44886 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33367 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح19 .

محمول على الغالب من كون الخبر مستنداً للفتوى .

وثالثةً من حيث عملهم ، ويشير اليه قوله عليه السلام ، في المقبولة المتقدّمة : « ما هُم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم » .

ورابعةً : بكونه أشبه بقواعدهم واُصول دينهم

-----------------

من حيث أخبارهم التي رووها » ( محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى ) إذ لو كان هناك خبر متروك ولم يكن مستندا للفتوى ، لم يكن الإمام عليه السلام يتّقي منه بما هو خبر غير مفتى به .

( وثالثة ) : قد تكون التقيّة ( من حيث عملهم ) فانّه ربّما لم يكن هناك خبر ولا فتوى ، وإنّما كان عمل الخلفاء وأتباعهم على شيء ، بحيث انّه إذا قال الإمام عليه السلام على خلاف ذلك الشيء كان سببا لأذاه أو أذى الشيعة ( ويشير إليه قوله عليه السلام ، في المقبولة المتقدّمة ) المرويّة عن عمر بن حنظلة : ( ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم (1) ) فمجرّد العمل منهم على شيء ولو لم تكن رواية أو فتوى يوجب تقيّة الإمام عليه السلام ، وقد ذكرنا معنى قوله عليه السلام : أميل في شرح رواية ابن حنظلة .

( ورابعة ) : قد تكون التقيّة ( بكونه ) أي : كون أحد الخبرين المتعارضين ( أشبه بقواعدهم ) الاُصولية مثل : قاعدة القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ( واُصول دينهم ) أي : أشبه باُصول دينهم ، ومن اُصول دينهم بالنسبة إلى اللّه تعالى هو : الجبر والتفويض ، والتجسيم والتشبيه ، تعالى اللّه عنها علوّا كبيرا ، وبالنسبة إلى المعصومين هو : تجويز السهو والخطأ عليهم ،

ص: 318


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وفروعه ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم .

وعرفت سابقاً قوّة احتمال التفرّع على قواعدهم الفاسدة .

ويخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض ، كما يدلّ عليه عموم الموصول .

-----------------

مع أنّ القرآن صرّح بعصمتهم حيث يقول : « إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (1) ( وفروعه ) أي : أشبه بفروع دينهم المبتنية على قواعدهم الباطلة ، فانّه إذا كان هناك خبران دلّ أحدهما - مثلاً - على حرمة ذبيحة أهل الكتاب والآخر على حليته ، فانّه يلزم الأخذ بالحرمة ، لأنّ الحلية أشبه بفروع دين العامّة .

( كما يدلّ عليه ) أي : على هذا القسم الرابع من أقسام التقيّة ( الخبر المتقدّم ) وهو قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة » (2) ( وعرفت سابقا : قوّة إحتمال ) كون الشباهة في الخبر بمعنى : ( التفرّع على قواعدهم الفاسدة ) لا مجرّد الشباهة ، لكنّا ذكرنا هناك أنّ من المحتمل كفاية مجرّد الشباهة أيضا ، إذ يكفي في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر مجرّد شباهة أحدهما بالعامّة .

( و ) كيف كان : فانّه ( يخرج الخبر حينئذ ) أي : حين كان متفرّعا على قواعد العامّة ( عن الحجيّة ولو مع عدم المعارض ) وذلك ( كما يدلّ عليه عموم الموصول ) في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة »

ص: 319


1- - سورة الاحزاب : الآية 23 .
2- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

الرابع :

إنّ ظاهر الأخبار كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور أو معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفي ، فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين ، فالترجيح به مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزيّة .

وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة :

-----------------

فانّ لفظة : « ما » شاملة لصورة وجود الخبر المعارض ، وعدم وجود الخبر المعارض ، وذلك لأنّ تفرّع الخبر على قواعد العامّة في نفسه يوهن الخبر حتّى وان لم يكن له معارض .

الأمر ( الرابع : إنّ ظاهر الأخبار ) العلاجية الآمرة بأخذ الخبر المخالف للعامّة ، وترك ما وافقهم ( كون المرجّح ) في الأخذ والترك هو : ( موافقة جميع ) العامّة ( الموجودين في زمان الصدور ) أي : في زمان صدور الرواية ( أو معظمهم ) أي : معظم العامّة ( على وجه يصدق الاستغراق العرفي ) فاللازم أن يكون الخبر المتروك موافقا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، والخبر المأخوذ به مخالفا لجميعهم أو لمعظمهم أيضا .

وعليه : ( فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين ) بأن كان الباقون ساكتين عن الفتوى - مثلاً - في تلك المسألة ( فالترجيح به ) أي : بسبب مخالفة بعض العامّة ( مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار ) العلاجية المتقدّمة ( من الترجيح بكلّ مزيّة ) لا أنّ الترجيح يكون بمخالفة العامّة ، لفرض أنّ هذا الخبر ليس مخالفا لكلّ العامّة ، بل إنّما هو مخالف لبعضهم ، وأمّا بعضهم الآخر فهم ساكتون عن حكم المسألة - مثلاً - فيكون من باب الترجيح بكلّ مزيّة .

هذا ( وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة ) المرويّة عن عمر بن حنظلة

ص: 320

« قلت : يا سيدي ! هما معاً موافقان للعامّة » ، أنّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق يعمّ ما وافق البعض أو خالفه .

ويردّه أنّ ظهور الفقرة الاُولى في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة في كفاية موافقة البعض ،

-----------------

حيث يقول فيها ما مضمونه : ( قلت : ياسيّدي هما معا موافقان للعامّة (1) ) فانّه يستفاد منه : ( انّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق ) المتقدّم ذكره على سؤال السائل ( يعمّ ما وافق البعض أو خالفه ) فيكفي حينئذ موافقة البعض ومخالفة البعض ، ولا يحتاج إلى ما ذكرناه من لزوم مخالفة الكلّ أو موافقة الكلّ .

والنتيجة : إنّ مخالفة البعض كافية في كون الترجيح من جهة مخالفة العامّة ، ولا يحتاج إلى مخالفة كلّ العامّة ، حتّى يخرج الترجيح من جهة مخالفة العامّة إلى الترجيح بالكليّة المستفادة من الأخبار التي ترجّح بكلّ مزيّة على ما ذكره المصنّف .

( ويردّه ) أي : يردّ كون المرجّح هو ما يعمّ موافقة البعض أو مخالفتهم : ( أنّ ظهور الفقرة الاُولى ) من المقبولة ، الآمرة بطرح الموافق للعامّة وأخذ المخالف لهم ، يكون ( في إعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة ) الثانية المعبّرة عن قول السائل : « هما معا موافقان » ظهورا ( في كفاية موافقة البعض ) وإذا كان ظهور الفقرة الاُولى في الكلّ أقوى من الثانية في كفاية البعض ، قدّم ظهور الاُولى لأنّه يكون قرينة على المراد من الثانية ، فيكون المرجّح حينئذ : موافقة جميع العامّة أو معظمهم ، لا بعضهم فقط .

ص: 321


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما وتساويهما من هذه الجهة ، لاصورة وجود هذا المرجّح في كليهما ، وتكافؤهما من هذه الجهة .

-----------------

وإنّما كانت الفقرة الاُولى في الكلّ أقوى ظهورا من الثانية في كفاية البعض ، لأنّ لفظ « العامّة » في الفقرة الاُولى : جنس معرّف باللام فيكون ظاهرا في الجميع ، بينما لفظ « هما معا موافقان » ليس كذلك ، لوجود إحتمالين فيه : إذ يحتمل أنّ السائل قد فهم من الفقرة الاُولى موافقة جميع العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران فاقدين لهذا المرجّح معا ، بأن لم يكن شيء منهما موافقا لهم جميعا ؟ ويحتمل أنّ السائل قد فَهم من الفقرة الاُولى موافقة بعض العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران واجدين لهذا المرجّح معا ، بأن كان كلّ منهما موافقا لبعضهم دون بعض ؟ وحيث انّ الفقرة الاُولى أقوى ظهورا تكون قرينة على المراد من الثانية .

وعليه : فإذا كانت الفقرة الاُولى وهي : موافقة جميع العامّة ، قرينة على المراد من الثانية ( فيحمل ) قول السائل : « هما معا موافقان » ( على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح ) وهو موافقة جميع العامّة ( في شيء منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( وتساويهما من هذه الجهة ) أي : من جهة عدم وجود المرجّح يعني : عدم موافقة شيء منهما لجميع العامّة أو لمعظمهم ( لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما ) أي : في كلا الخبرين المتعارضين ( وتكافؤهما من هذه الجهة ) أي : من جهة وجود المرجّح يعني : موافقة الخبرين معا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، وإذا كان كذلك فيكون الترجيح بموافقة جميع العامّة لهذا الدليل ، وبموافقة بعضهم لدليل المزيّة وليس لهذا الدليل - وذلك على ما عرفت - .

ص: 322

وكيف كان ، ولو كان كلّ واحد موافقاً لبعضهم مخالفاً لآخرين منهم وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ملاحظة التقيّة منه .

وربّما يستفاد ذلك من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ويعلم ذلك بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم : « إنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة

-----------------

( وكيف كان ) الأمر فقد عرفت حكم الترجيح بالموافق لجميع العامّة ، والموافق لبعضهم بلا مخالفة الباقين ( و ) لكن ( لو كان كلّ واحد ) من الخبرين المتعارضين ( موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم ) أي : بأن كان لكلّ واحد من الخبرين المتعارضين جهة رجحان ، وجهة مرجوحية ، فانّه إذا كان كذلك ( وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ) أي : في نظر الفقيه ( ملاحظة التقيّة منه ) بمعنى : انّه لابدّ للفقيه أن يتأمّل حتّى يدرك انّ أيّ الخبرين أنسب بالحمل على التقيّة ، فيأخذ بما لا تقيّة فيه منهما حسب نظره وتشخيصه .

( وربّما يستفاد ذلك ) أي : يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين نظره وتشخيصه على الآخر وان كان الخبران معا موافقَين لبعض العامّة ومخالفين لبعضهم الآخر ( من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ) أي : في زمان صدور الخبرين المتعارضين ، فانّ الخبر الموافق لأشهر الفتويين عند العامّة زمن صدور الخبرين ، يكون هو الأقرب إلى التقيّة من الآخر ، فيُطرح ويؤخذ بالآخر .

هذا ( و ) من المعلوم : إنّ أشهرية الفتوى كانت آنذاك مختلفة بحسب إختلاف الأزمنة والأمكنة ، فيلزم أن ( يعلم ذلك ) أي : الأشهرية في مكان كذا ، أو زمان كذا ( بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم ) ما يلي :

أوّلاً : ( انّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتوى أبي حنيفة ) الذي كان

ص: 323

وسفيان الثوري ورجل آخر .

وأهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك ، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد اللّه بن المبارك الزهري ، وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد

-----------------

يصرّح بمخالفته للإمام الصادق عليه السلام في كلّ شيء ( وسفيان الثوري ) الذي كان من شرطة هشام بن عبدالملك ، وإشترك في قتل زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام كما في التاريخ ( ورجل آخر ) من علماء العامّة ، فإذا كان فتوى أبي حنيفة - مثلاً - أشهر من الباقي ووافقه أحد الخبرين المتعارضين ، فالموافق له أقرب للتقيّة ، فيُطرح ويؤخذ بالآخر .

ثانيا : ( وأهل مكّة على فتاوى ابن أبي جريح ) .

ثالثا : ( وأهل المدينة على فتوى مالك ) الذي عيّنه الخليفة مفتيا عامّا لأهل المدينة .

رابعا : ( وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ) .

خامسا : ( وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ) .

سادسا : ( وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ) .

سابعا : ( وأهل خراسان على فتاوى عبداللّه بن المبارك الزهري ) وقد كان لكلّ واحد من هؤلاء المفتين مذهب خاص يختلف عن مذهب الآخرين ، ومن إختلافهم إختلفت العامّة جميعا .

ثامنا : ( وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء ) الذين ذكرناهم ( كسعيد

ص: 324

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمد بن شهاب الزهري ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة » ، كما حكي .

وقد يستفاد ذلك من الأمارات الخاصّة ، مثل قول الصادق عليه السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة :

-----------------

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمّد بن شهاب الزهري ) إلى غيرهم من علمائهم في البلدان المختلفة ، وفي الأزمنة المختلفة والمذاهب المختلفة .

ثمّ استمرّ بهم الأمر على ذلك ( إلى ان استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة ) وذلك ( سنة خمس وستّين وثلاثمائة ) في زمان برقوق ( كما حكي (1) ) حيث انّهم رأو ا انّ كلّ شخص يفتي بما يرى ممّا سبّب ذلك الانتقاد الشديد عليهم من سائر الأديان والمذاهب ، ولذا حصر الحاكم المذاهب في الأربعة ، كما قال السيّد محمّد باقر الطباطبائي في قصيدته المعروفة «النجم الثاقب» بقوله :

حتّى رأيتم بلغ السيل الزبى *** جعلتم التقليد فيه مذهبا

قلّدتم النعمان أو محمّدا *** أو مالك بن أنس أو أحمدا

فهل أتى الذكر به أو أوصى *** به النبي أو وجدتم نصّا ؟

هذا ( وقد يستفاد ذلك ) أي يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين الموافقين لبعض العامّة والمخالفين لبعضهم الآخر ( من الأمارات الخاصّة ) أي : لا من أشهريّة فتوى أحد البعضين - كما كان في الفرض السابق - وذلك من ( مثل قول الصادق عليه السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة ) علما بأنّ ابن أبي ليلى كان قاضيا في المدينة من قبل الخليفة مدّة ثلاثة وثلاثين

ص: 325


1- - الفوائد القديمة : ص121 .

« أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه » ، وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم .

ولذا أُنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم .

الخامس :

قد عرفت أن الرجحان بحسب الدلالة لايزاحمه الرجحان بحسب الصدور ، وكذا لايزاحمه هذا الرجحان ، أي : الرجحان من حيث جهة

-----------------

عاما ، فلمّا حكي له عليه السلام فتواه قال : ( امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه (1) ) ممّا يظهر منه انّ الإمام عليه السلام إنّما وافقه تقيّة .

( وقد يستفاد ) أيضا رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين على الآخر ( من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم ) حتّى وان لم نطلع على فتواهم كي نعلم بمطابقتها لأخبارهم وعدم مطابقتها ( ولذا اُنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم ) ولم تذكر موافقة فتاواهم ، وقد تقدّم انّ بين أخبارهم وبين فتاواهم عموما من وجه .

الأمر ( الخامس : قد عرفت ) في المقام الرابع الذي عقدناه لبيان المرجّحات الداخلية والخارجية وذكر أقسامها ( أنّ الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور ) فانّ الراجح بحسب الدلالة مقدّم على المرجوح الدلالي حتّى وان كان راجحا بحسب الصدور ، لأنّ بتقديم الراجح دلالة يتمّ الجمع بين الخبرين ، ومعه لا تصل النوبة إلى الرجحان من حيث الصدور .

( وكذا لا يزاحمه ) أي : لا يزاحم الرجحان بحسب الدلالة أيضا ( هذا الرجحان ، أي : ) الرجحان الذي نحن فيه وهو : ( الرجحان من حيث جهة

ص: 326


1- - الكافي فروع : ج7 ص61 ح16 ، من لايحضره الفقيه : ج4 ص228 ب2 ح5539 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص236 ب4 ح12 ، وسائل الشيعة : ج19 ص428 ب92 ح44886 .

الصدور ، فإذا كان الخبر الأقوى دلالة موافقاً للعامّة ، قدّم على الأضعف المخالف ، لما عرفت من أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول الذي هو مقدّم على الطرح ، أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة ،

-----------------

الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، فانّه لا يزاحم الدلالي أيضا .

وعليه : ( فإذا كان الخبر الأقوى دلالة ) كالخبر الخاص المخصّص لعموم العامّ أو المقيّد لإطلاق المطلق ( موافقا للعامّة ، قدّم على الأضعف ) دلالة وهو : العامّ أو المطلق ( المخالف ) للعامّة ، إذ قد سبق انّه لا مسرح لسائر المرجّحات الموجودة في أخبار العلاج بعد وجود المرجّح الدلالي وإمكان الجمع بين الخبرين ، وذلك ( لما عرفت من انّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول ) عرفا ، والعرف هو المعيار في تعيين طريق الاطاعة والمعصية ، فالترجيح الدلالي يكون حينئذ من الجمع ( الذي هو مقدّم على الطرح ) أي : طرح أحد الخبرين الناتج من الترجيح بغير الدلالة من سائر المرجّحات .

إذن : فلا مزاحمة بين الترجيح الدلالي وبين الترجيح بالصدور ، أو الترجيح بجهة الصدور ، لتقدّم الترجيح الدلالي عليهما ( امّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، وذلك كما لو كان أحد الخبرين المتعارضين أعدل راويا ، والخبر الآخر أبعد من التقيّة ، أي : ( بأن كان الأرجح صدورا ) وهو خبر الأعدل على ما في المثال ( موافقا للعامّة ) والآخر الأبعد من التقيّة مخالفا للعامّة ، وحينئذ فهل يقدّم الصدور أو جهة الصدور ؟ يعني : هل يقدّم الأرجح صدورا ، أو الأبعد عن التقيّة ؟ .

ص: 327

فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفاً للعامّة .

بناءا على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً ، كالمتواترين ، أو تعبّداً كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

-----------------

قال المصنّف : ( فالظاهر تقديمه ) أي : تقديم الأرجح صدورا ( على غيره وان كان ) ذلك الغير الأبعد من التقيّة ( مخالفا للعامّة ) فانّه لا يؤخذ بمخالف العامّة مع كونه أبعد من التقيّة ، وإنّما يؤخذ بموافقهم الذي هو أرجح صدورا ، وذلك ( بناءا على ) انّ ( تعليل الترجيح : بمخالفة العامّة ) ليس بإحتمال أقربيته للواقع حتّى يكون مرجّحا مضمونيا ، بل بإحتمال عدم التقيّة فيه هو ، أي : ( باحتمال التقيّة في الموافق ) ليكون مرجّحا من جهة الصدور .

وإنّما يقدّم الأرجح صدورا على الأبعد من التقيّة ( لأنّ هذا الترجيح ) للأبعد من التقيّة الكائن من حيث جهة الصدور هو فرع الصدور أي : ( ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما ) معا إمّا صدورا ( قطعا ، كالمتواترين ) فانّا حيث نقطع في المتواترين بصدور كلا الخبرين نرجّح بعد ذلك بجهة الصدور ، يعني : لو تعارض الخبران - مثلاً - بعد القطع بصدورهما ، فحينئذ لابدّ لنا من ترجيح أحدهما على الآخر ، فإذا كان أحدهما موافقا للعامّة والآخر مخالفا نرجّح المخالف على الموافق .

( أو ) بعد فرض صدور الخبرين المتعارضين ( تعبّدا ) وذلك فيما لو لم نكن نقطع بالصدور بل نتعبّد بصدورهما ( كما في الخبرين ) الظنيّين المعتبرين من جهة حجيّة خبر الواحد ، وذلك ( بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

ص: 328

التعبّد بصدور الآخر ، وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور .

فإن قلت :

-----------------

التعبّد بصدور الآخر ) علما بأنّه إنّما لا يمكن ذلك لفرض انّ الخبرين متكافئان في الصدور ، وحيث انّه لا مرجّح صدوري تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، فنرجّح الخبر المخالف للعامّة ونأخذ به ، ونطرح الخبر الموافق لهم لإحتمال التقيّة فيه .

لكن لو لم يكن الخبران الظنّيان متكافئين في الصدور ، أمكن التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر للدليل ، وذلك كما قال : ( وفيما نحن فيه ) الذي هو عدم تكافؤ الخبرين الظنيّين ، لفرض وجود المرجّح الصدوري في أحد الخبرين دون الآخر ، وهو : كون أحدهما أعدل راويا من الآخر ، فانّ فيه ( يمكن ذلك ) أي : يمكن التعبّد بصدور أحدهما وهو الراجح صدورا وان كان موافقا للعامّة ، وطرح الآخر وهو المرجوح صدورا وان كان مخالفا للعامّة ، وذلك ( بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور ) ومقتضى تلك الأدلّة هو : الترجيح بالمرجّح الصدوري وأخذ الراجح وطرح المرجوح ممّا معناه : التعبّد بصدور أحدهما وهو الأرجح صدورا فقط ، دون الآخر .

والحاصل : انّه إذا قطعنا بصدور الخبرين المتعارضين معا ، أو تعبّدنا الشارع بصدورهما معا ، تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، امّا إذا لم يكن قطع ولا تعبّد بصدورهما معا ، فلا يكون حينئذ مجال لهذا المرجّح بل يكون المجال للترجيح بالصدور .

( فان قلت ) : انّ لحاظ الجهة كلحاظ الدلالة ، كلاهما متفرّع على الفراغ

ص: 329

إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّةً ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّماً على الترجيح بحسب الصدور .

-----------------

عن لحاظ الصدور ، يعني : إذا كان الصدور مقطوعا به ، أو كان معتبرا من جهة حجيّة خبر الواحد ، أو ما أشبه ذلك ، لزم عندها الجمع الدلالي أو الجمع من جهة الصدور ، وحينئذ فكما انّه عند وجود الرجحان الدلالي في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل العام والخاص ، أو المطلق والمقيّد ، يلزم التعبّد بصدور الخبرين المتعارضين معا ، ثمّ يجمع بينهما ولا يرجع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك ، فكذلك عند وجود الرجحان من جهة الصدور في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل الموافق والمخالف للعامّة يلزم أن نقول بصدورهما معا ، ثم حمل الموافق للعامة على التقيّة ، لا الرجوع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك للأخذ بالراجح وطرح المرجوح صدورا .

والحاصل : ( انّ الأصل في الخبرين الصدور ) لأنّ أدلّة حجيّة الخبر يشمل كلا الخبرين ، فنكون متعبّدين بصدورهما ( فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك ) أي : اقتضى التعبّد بصدورهما ( الحكم بصدور الموافق ) للعامّة ( تقيّة ، كما يقتضي ذلك ) أي : يقتضي التعبّد بصدورهما ( الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ) حيث انّه يلزم حينئذ الجمع الدلالي بينهما بحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيّد ، والظاهر على الأظهر أو على النصّ ( فيكون هذا المرجّح ) أي : مرجّح جهة الصدور وهو التقيّة ( نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور ) فلا تصل النوبة معه إلى الترجيح

ص: 330

قلتُ : لامعنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ؛ لأنه الغاء لأحدهما في الحقيقة .

ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور ، لم تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل .

-----------------

بحسب الصدور .

( قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن ) الذي هو الموافق للعامة ( على التقيّة ) فانّه إنّما لا معنى له ( لأنّه ) أي : الحمل على التقية ( الغاء لأحدهما في الحقيقة ) وإذا كان كذلك فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر وأحمله على التقيّة ، إذ التعبّد يلزم أن يكون له أثر ، والحمل على التقيّة معناه : انّه لا أثر له ، بخلاف التعبّد بالخبر لوجود المرجّح الدلالي ، فانّ له أثرا وهو الجمع بين الخبرين .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرنا : من انّه لا معنى للتعبّد بالصدور والحمل على التقيّة ، لأنّ معنى حمل الخبر على التقيّة هو : عدم العمل به ، فيكون التعبّد بصدوره لغوا ، نرى انّه ( لو تعيّن حمل خبر غير معارض ) بخبر آخر ، على التقيّة ، فحملناه ( على التقيّة على تقدير الصدور ، لم يشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل ) لا انّها تشمله ويُحمل على التقيّة ، فلو كان - مثلاً - هناك خبر واحد قد علمنا من جهة قيام الاجماع - مثلاً - على انّه لا يعمل به ، فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر ، وذلك لأنّه لا فائدة في مثل هذا التعبّد فيكون لغوا ، فلا يشمله أدلّة العمل بخبر العادل مثل : « ان جائكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا » (1) ومثل :

ص: 331


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

نعم ، لو علم بصدور خبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه .

وإذا لم يعلم بصدورهما ، كما في ما نحن فيه من المتعارضين ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحاً ،

-----------------

« لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا » (1) وغير ذلك .

( نعم ، لو علم بصدور الخبرين ) كما إذا سمعناهما من الإمام عليه السلام ( لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه ) وذلك لأنّه ليس هذا من التعبّد بالصدور حتّى يكون لغوا، بل هو ممّا نعلم بصدوره، فلا علاج إلاّ بحمله على التقيّة وإلغائه.

( و ) امّا (إذا لم يعلم بصدورهما ، كما فيما نحن فيه من المتعارضين) الظنيّين .

فانّا لا نعلم بصدورهما لفرض عدم كونهما خبرين متواترين ( فيجب الرجوع ) عند تعارضهما ( إلى المرجّحات الصدورية ) كالأعدلية والأصدقية وما أشبه ذلك ( فان أمكن ترجيح أحدهما ) أي : أحد الخبرين على الآخر ( وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ) الترجيح به والتعبّد بصدور الراجح وطرح المرجوح ( وان قصرت اليد عن هذا الترجيح ) أي : الترجيح الصدوري ، وذلك بأن كانا متكافئين في الصدور ( كان عدم إحتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا ) حينئذ ، بمعنى : إنّ الترجيح بالتقيّة واللاتقيّة يكون مرتبته بعد الترجيح الصدوري ، فيؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لإحتمال التقيّة في الموافق للعامّة .

ص: 332


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علماً كما في المتواترين ، أو تعبّداً كما في المتكافئين من الآحاد .

وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور .

والفرق بين هذا

-----------------

وعلى هذا ( فمورد هذا المرجّح ) الذي نحن فيه وهو الترجيح من حيث جهة الصدور يعني : في كونه صدر تقيّة ولا تقيّة هو : ( تساوي الخبرين ) وتكافؤهما ( من حيث الصدور ، إمّا عِلما كما في المتواترين ) المتعارضين فانّه حيث لا نتمكّن من ترجيح صدور أحدهما على الآخر ، يلزم أن نحمل موافق العامّة على التقيّة ونعمل بمخالف العامّة ( أو تعبّدا كما في المتكافئين ) الظنيّين تكافؤا من حيث الصدور ( من الآحاد ) أي : من الخبر الواحد الظنّي الصدور الذي هو حجّة ، فيطرح الموافق لأجل إحتمال التقيّة فيه ، لا انّه يتعبّد بصدوره ثمّ يحمل على التقيّة إذ قد عرفت انّه لغو لا أثر له .

( وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن ) وجوبا من أجل وجود المرجّح الصدوري في هذا المعيّن ( دون الآخر ) المعارض له ( فلا وجه لاعمال هذا المرجّح فيه ) أي : أعمال مرجّح جهة الصدور في الخبر الذي فيه مرجّح من حيث الصدور ، وذلك ( لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور ) فإذا ثبت الصدور وصلت النوبة بعده إلى جهة الصدور ، لكن لو إقتضى المرجّح طرح السند وإنتفاء الصدور ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث لا يبقى معه مجال للحاظ جهة التقيّة أو اللاتقيّة فيه .

( والفرق بين هذا ) أي : بين الترجيح في جهة الصدور المتأخّر عن الترجيح

ص: 333

والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبّد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما ، وبتأول الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبد به .

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة ،

-----------------

بالسند ( والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ) أي : الفرق بين الترجيح بالتقيّة الذي جعلناه متأخّرا عن الترجيح بالسند ، وبين الترجيح بالدلالة الذي جعلناه متقدّما على الترجيح بالسند هو : ( انّ التعبّد بصدور الخبرين على ان يعمل بظاهر أحدهما ، و ) ذلك كالعمل بظاهر المخصّص والمقيّد ، وعلى أن يعمل ( بتأويل الآخر ) كتأويل العام والمطلق وهذا التأويل في الآخر ( بقرينة ذلك الظاهر ) أي : ظاهر الخبر المخصّص أو ظاهر الخبر المقيّد ( ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ) لأنّ المفروض انّه يجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو الظاهر على الأظهر .

( بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو ) أي : الحمل على التقيّة ( في معنى إلغائه وترك التعبّد به ) ممّا يكون نتيجة التعبّد به عدم التعبّد به ، ومعه فلو سأل أحد عن انّه ما فائدة التعبّد بهذا الخبر الذي يجب الغاؤه بسبب انّه موافق للتقيّة ، ممّا معناه : عدم التعبّد به؟ لم يكن له جواب ، والمفروض انّ الشارع حكيم ، فلا يتعبّد بشيء لا يريد العمل به ، لأنّه أمر إعتباطي .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه من تقديم حيث الصدور على جهة الصدور إنّما هو ( على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة ) للعامّة كائن ( بإحتمال التقيّة ) لا بإحتمال

ص: 334

أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدل عليه جملة من الأخبار ، فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها .

المقام الثالث : في المرجّحات الخارجيّة

وقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

-----------------

كون المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، و ( امّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك ) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة هو : ( كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ، فهي ) أي : المخالفة للعامّة حينئذ ( من المرجّحات المضمونية ) والمرجّح المضموني مقدّم على المرجّح الصدوري لا على جهة الصدور ( وسيجيء حالها ) أي : حال المرجّحات المضمونية ( مع غيرها ) من المرجّحات الصدورية ، وجهة الصدور ، ان شاء اللّه تعالى .

وحيث قد عرفت ترتيب المرجّحات من تقدّم الدلالية ، ثمّ الصدورية ، ثمّ جهة الصدور ، نشرع في الكلام في ( المقام الثالث ) الذي هو ( في المرجّحات الخارجية ) وذلك بعد أن كان المقام الأوّل في المرجّحات الدلالية ، والمقام الثاني في المرجّحات الداخلية لكن من حيث الصدور وجهة الصدور فقط وقد بحث المصنّف المقامين بلا ترتيب وعنوان ، وبقي الكلام في المرجّحات الداخلية من حيث المضمون مثل : النقل باللفظ ، والفصاحة ، وما أشبه ذلك ، فانّه يعرف حالها من البحث هنا في المقام الثالث المعدّ لبحث المرجّح الخارجي الذي هو مرجّح مضموني أيضا ( وقد أشرنا إلى أنّها ) أي : المرجّحات الخارجية ( على قسمين )

ص: 335

الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه .

والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع .

فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ، بناءا على كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه .

-----------------

كالتالي :

( الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه ) بحيث لولا وجود الخبر لا ينفع ذلك المرجّح لإثبات حكم شرعي بوحده .

( والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع ) وامّا مع وجود الدليل وهو أحد الخبرين المتعارضين ، فيلزم التوافق بين هذا المرجّح المعتبر بنفسه وبين ذلك الخبر على ما سيأتي بحثه إن شاء اللّه تعالى .

( فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ) كما لو رواها جمع من أصحاب الصادق عليه السلام - مثلاً - وذلك ( بناءا على كشفها ) أي : كشف شهرة الرواية ( عن شهرة العمل ) وقيّد هنا شهرة الرواية بالكشف عن شهرة العمل ، لأنّ شهرة الرواية لو لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات الصدورية ، بينما إذا قيّدت بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات المضمونية حينئذ . والمرجّح المضموني إذا كان مثل الشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية كان من المرجّحات الخارجية .

( أو ) كان شهرة أحد الخبرين من حيث ( إشتهار الفتوى به ) بين الأصحاب ( ولو مع العلم بعدم إستناد المفتين إليه ) أي : إلى الخبر ، ومن الواضح : إنّ الشهرة الفتوائية بنفسها مرجّح خارجي للخبر .

ص: 336

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناءا على أنّ الظاهر عمل الأفقه به .

-----------------

وعليه : فقد تبيّن من ذلك انّ الشهرة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : مجرّد شهرة الرواية ، وذلك بأن إشتهر روايتها على ألسنة الرواة ، أو نقلها في كتب الحديث ، من دون إشتهار إستناد الأصحاب إليها ، أو كون فتواهم على طبقها ، وقد عرفت : انّ شهرة الرواية مرجّح صدوري داخلي ان لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل ، وإلاّ بأن قيّدت بالكشف عن شهرة العمل فهي مرجّح خارجي .

الثاني : شهرة العمل بأن إشتهر إستناد الأصحاب إلى هذه الرواية .

الثالث : شهرة الفتوى بأن تكون فتوى المشهور موافقة لهذه الرواية من دون إستنادهم إليها .

( ومنه ) أي : من الأوّل الذي ليس بمعتبر في نفسه ( كون الراوي له ) أي : للخبر ( أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناءا على انّ الظاهر عمل الأفقه به ) أي : بالخبر الذي رواه ، وذلك لوضوح : انّ مجرّد نقل الأفقه للخبر مع قطع النظر عن العمل به من قبله هو ، مرجّح داخلي صدوري كالأعدلية ، وليس بحثنا فيه الآن ، لأنّ بحثنا في المرجّحات الخارجية ، ولذا قيّده المصنّف بقوله : « بناءا على انّ الظاهر عمل الأفقه به » فانّ عمل الأفقه بالخبر مع فقهه أمارة على مزيّة في هذا الخبر ليس في الخبر المعارض له ، علما بأنّ المراد من عمل الأفقه به : عمله به تعيينا لا تخييرا ، وإلاّ لم يكن مرجّحا .

هذا ، ولا يخفى إنّ معنى الأفقه هو : الأكثر إطّلاعا بالنسبة إلى الأحكام ، والأجود فهما للإخبار ، والأدقّ نظرا بالنسبة إلى الأشباه والنظائر ، والاعرف

ص: 337

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّه ، بناءا على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ، ومنه كلّ أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لالوجود الدليل على العدم ، كالقياس .

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح

-----------------

بمناسبات الأحكام والمسائل ، وذلك على ما ذكروه مفصّلاً في بحث التقليد (1) .

( ومنه ) أي : من الأوّل أيضا ( مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناءا على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ) أي : الترجيح بمخالفة العامّة .

ووجهه هو : كون الخبر المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل ، فانّه على ذلك يكون مرجّحا خارجيا راجعا إلى المضمون ، ويكون محلّ بحثنا هنا ، بينما إذا كان الترجيح بمخالفة العامّة لعدم إحتمال التقيّة فيه ، كان مرجّحا داخليا راجعا إلى جهة الصدور وقد مضى بحثه هناك في المرجّحات الداخلية .

( ومنه ) أي : من الأوّل أيضا ( كلّ أمارة مستقلّة ) أي : خارجية ( غير معتبرة ) شرعا ( وافقت مضمون أحد الخبرين ) كما إذا كان الاجماع المنقول موافقا لمضمون أحد المتعارضين ، فيما ( إذا كان عدم إعتبارها لعدم الدليل ) على الاعتبار ، كما هو المشهور بين المتأخّرين : من عدم إعتبار الاجماع المنقول - مثلاً - ( لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس ) والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، فانّها لا تصلح مرجّحا كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

( ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح ) الخارجي مع انّه لم ينصّ عليه في الأخبار العلاجية السابقة نصّ ، هو اُمور ثلاثة على ما يلي :

ص: 338


1- - راجع موسوعة الفقه : ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ، للشارح .

ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجاً عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لاريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب .

-----------------

الأوّل : ( ما يستفاد من الأخبار ) العلاجية نفسها ( من ) كبرى كليّة تشير على ( الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما ) أي : أحد الخبرين قربا نسبيا ( إلى الواقع ) بلا فرق بين أن يكون ذلك من حيث الصدور ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، أو حتّى ( وإن كان ) ذلك الذي يوجب الأقربية إلى الواقع ( خارجا عن الخبرين ) .

وعليه : فلا حاجة إلى أن يكون المرجّح مذكورا بالنصّ في الروايات العلاجية وانّما يُستفاد منها كبرى كليّة تشمل كلّ ما يوجب أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، كما انّه لا حاجة إلى ان يكون المرجّح داخليا وإنّما يكفي حتّى الخارجي .

الثاني : ( بل يرجع هذا النوع ) من المرجّح الخارجي ( إلى المرجّح الداخلي ، فانّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّية ) ظنّا نوعيا كالشهرة ( فلازمه الظنّ بوجود خَلَلٍ في ) الخبر ( الآخر ) خللاً داخليا في نفس الخبر ، وذلك ( امّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ) فيكون المظنون ظنّا نوعيا بالخلل مرجوحا، والمظنون ظنّا نوعيا بالسلامة من الخلل راجحا ، وإذا كان كذلك ( فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب ) فيطرح لقوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) وقوله عليه السلام أيضا : « فانّ المجمع عليه

ص: 339


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 .

وقد عرفت : أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، كقلّة الوسائط ومخالفة العامّة ، بناءا على الوجه السابق ، وقد توجب

-----------------

لا ريب فيه » (1) إلى غيرهما ممّا ألمعنا إليه سابقا .

هذا ( وقد عرفت : انّ المزيّة الداخلية قد تكون موجبة لانتفاء إحتمال في ذيها ) أي : في ذي المزيّة ، بينما ذلك الاحتمال ( موجود في الآخر ) مثاله : ( كقلّة الوسائط ) فالخبر القليل الواسطة أقوى من كثير الوسائط ، فإذا كان - مثلاً - أحد الخبرين بواسطة واحدة والآخر بواسطتين ، فاحتمال الكذب - مثلاً - في الخبر الأوّل إحتمال واحد ، بينما في الخبر الثاني إحتمالان ، ممّا يكون معناه : إنتفاء إحتمال الكذب في الأوّل بمقدار قلّة الوسائط فيه ، وهكذا في بقيّة الأمثلة ، فانّه بمقدار قلّة الواسطة يكون ذي القلّة أقوى .

ولكن لا يخفى : انّ العرف لا يرون هذا الفرق فيما إذا كان كلاهما كثير الواسطة بفرق شخص واحد - مثلاً - وذلك كما إذا كان لأحدهما عشر وسائط وللآخر تسع .

( و ) مثاله الآخر : ( مخالفة العامّة ، بناءا على الوجه السابق ) أي : الوجه الذي مرّ ذكره في المرجّحات الداخلية وهو : كون الترجيح بمخالفة العامّة من جهة عدم إحتمال التقيّة فيه ، مقابل الموافق للعامّة الذي يحتمل فيه التقيّة لا من جهة أقربيته إلى الواقع الذي هو مرجّح مضموني خارجي .

هذا ان أو جبت المزيّة إنتفاء إحتمال في ذمّها موجود في الآخر ( وقد توجب )

ص: 340


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بُعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة ، والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلاً بالاحتمال القريب في أحدهما ، البعيد في الآخر .

-----------------

المزيّة ( بُعد الاحتمال الموجود في ذيها ) أي : في الخبر ذي المزيّة ( بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في ) الخبر ( الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة ) فان إحتمال الكذب في خبر الأعدل أبعد من إحتماله في خبر العادل ، وكذلك بالنسبة إلى الأوثق والثقة ، والفرق بينهما واضح ، فانّ الأعدل والعادل من لا يعصي اللّه سبحانه وتعالى بحيث صارت العدالة له ملكة راسخة ، بينما الأوثق والثقة من يمكن أن يكون فاسد العقيدة أو العمل ، لكنّه ثقة من حيث الصدق في اللهجة واللسان .

( و ) كيف كان : فانّ ( المرجّح الخارجي من هذا القبيل ) أي : من قبيل المرجّح الداخلي في انّه يوجب كون إحتمال الخلل في الراجح منتفيا ، أو أبعد بالنسبة إلى إحتمال الخلل منه في المرجوح ، فيدخل الخبر الراجح فيما لا ريب نسبي فيه من باب شمول الكلي له ، لا من باب تنقيح المناط .

إذن : فالمرجّح الخارجي رجع إلى المرجّح الداخلي ، ويكون من قبيله ، بلا فرق بينهما إلاّ في كون إحتمال الخلل في المرجّح الداخلي معلوما تفصيلاً ، بينما في المرجّح الخارجي معلوما ذلك إجمالاً ، كما قال ( غاية الأمر ) انّ هناك فرقا بين المرجّح الخارجي كالشهرة والندرة ، الذي كلامنا فيه ، وبين المرجّح الداخلي كالتقيّة واللاتقيّة ، من حيث انّ إحتمال الخلل معلوم تفصيلاً في المرجّح الداخلي ، بينما إحتمال الخلل في المرجّح الخارجي معلوم إجمالاً بمعنى : ( عدم العلم تفصيلاً بالإحتمال القريب في أحدهما ، البعيد ) ذلك الاحتمال نفسه ( في الآخر ) .

ص: 341

بل ذوالمزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار .

ومن هنا يمكن أن يستدلّ على المطلب

-----------------

مثلاً : في التقيّة واللا تقيّة المعدودة من المرجّحات الداخلية ، يُعلم تفصيلاً بأنّ إحتمال الخلل القريب في المرجوح ، والبعيد في الراجح ، هو الموافقة واللا موافقة للعامّة ، بينما في مثل الشهرة والندرة ، لا يُعلم تفصيلاً بأنّ إحتمال الخلل القريب في النادر المرجوح ، والبعيد في المشهور الراجح ، هل هو : الأقربيّة وعدم الأقربية إلى الواقع ، أو هو التقيّة وعدم التقيّة - مثلاً -؟ فالخلل في المرجّح الخارجي غير معلوم تفصيلاً وإنّما هو معلوم إجمالاً - على ما عرفت - .

الثالث : ( بل ذو المزيّة ) حتّى وان كانت المزيّة بسبب المرجّح الخارجي فهو ( داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار ) وذلك كما في مرفوعة زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام حيث جاء فيها : « خذ بما يقول أعدلهما عندك ، وأو ثقهما في نفسك » (1) ومن المعلوم : إنّ الخبر الراجح وان كان بسبب مرجّح خارجي يكون أوثق في النفس من الخبر المرجوح ، وإذا كان أوثق صار منصوصا عليه لأنّ الأوثقية من المرجّحات المنصوصة ، فالمرجّح الخارجي إذن ليس مرجعه فقط إلى المرجّح الداخلي ، بل مرجعه إلى المرجّحات المنصوصة أيضا .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرنا : من انّ المرجّح الخارجي يرجع إلى المرجّح الداخلي ، بل إلى المنصوص عليه في الأخبار العلاجية ، فيكون الخبر الراجح ذا مزيّة فيدخل في الاوثق المنصوص عليه ، مقابل الخبر المرجوح الفاقد للمزيّة ، فانّ منه ( يمكن أن يستدلّ على المطلب ) وهو الترجيح بالمرجّحات الخارجية

ص: 342


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناءا على عدم شمولها للمقام .

من حيث إنّ الظاهر من الاقوى أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو ، لامجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة .

فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح ، مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالاً من حيث نفسه .

-----------------

( بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ) فانّ أقوى الدليلين كما يكون بالمرجّح الداخلي يكون بالمرجّح الخارجي أيضا ، فيكون الاجماع المدّعى شاملاً للمقام بلا حاجة إلى إرجاع المرجّح الخارجي إلى المرجّح الداخلي ، وذلك حتّى ( بناءا على عدم شمولها ) أي : عدم شمول دعوى الاجماع ( للمقام ) أي : للمرجّح الخارجي بما هو هو .

وإنّما قال : بناءا على عدم شمول دعوى الاجماع للمرجّح الخارجي بما هو ، لأنّه ( من حيث انّ الظاهر من الأقوى ) أي : من أقوى الدليلين الذي ادّعى الاجماع على وجوب العمل به هو : ( أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو ) أي : بأن يكون المرجّح مرجّحا داخليا ( لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع ) حتّى ولو كان المرجّح مرجّحا خارجيا كما لو كان ( لموافقة أمارة خارجية ) فانّه حتّى بناءا على ذلك يمكن الاستدلال به للمقام ، وذلك بحسب التقريب الذي بيّنه المصنّف بقوله التالي ( فيقال في تقريب الاستدلال ) على شمول الاجماع المدّعى لما نحن فيه من الترجيح بالمرجّحات الخارجية : ( انّ الأمارة ) الخارجية كالشهرة ( موجبة لظنّ خلل ) أي : نقص وعيب ( في المرجوح ، مفقود ) ذلك الخلل والعيب ( في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالاً من حيث نفسه ) وإذا كان أقوى في نفسه

ص: 343

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الحاصلة من الأمارة الخارجية التي دلّ الدليل على عدم العبرة به من حيث دخوله في مالا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجّيّة .

-----------------

ولو إجمالاً - لا تفصيلاً على ما ألمعنا إلى جهة الاجمال والتفصيل سابقا - فيشمله حينئذ الاجماع المدّعى .

( فإن قلت ) في ردّ هذا الاستدلال : ( انّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع إعتبار المزيّة الداخلية القائمة بنفس الدليل ) لا من خارجه ، فيكون الترجيح بالمرجّح الداخلي فقط ( وامّا ) المزيّة ( الحاصلة من الأمارة الخارجية التي ) هي كالشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، ممّا ( دلّ الدليل على عدم العبرة به ) علما بأنّ الدليل إنّما دلّ هنا على عدم العبرة به ( من حيث دخوله ) أي : دخول مثل الشهرة من الأمارات الخارجية ( فيما لا يُعلم ) وجود دليل عليه يعني : لا فيما يُعلم وجود الدليل على عدمه .

وعليه : فإذا كانت الأمارة الخارجية ممّا لا يُعلم وجود دليل عليه ( فلا إعتبار بكشفها ) أي : بكشف تلك الأمارة الخارجية كالشهرة - مثلاً - ( عن الخلل في المرجوح ، و ) ذلك لأنّ الشارع لم يعتبر مثل هذا المرجّح ، وإذا لم يعتبره مرجّحا فلا يصحّ الترجيح به ، ومعه يكون ( لا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجيّة ) فكما انّ القياس الذي قال الشارع بعدم حجيّته لا يكون مرجّحا ، فكذلك الاجماع المنقول الذي لم يقل الشارع بأنّه حجّة لا يكون مرجّحا أيضا، وحينئذ يكون ما لم يُعلم العبرة به ، كما عُلم عدم العبرة به.

ص: 344

هذا ، مع أنّه لامعنى لكشف الأمارة عن الخلل في المرجوح ؛ لأن الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ماله مدخل في الطريقيّة .

ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لايوجب خللاً في ذلك ؛ لأن الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع .

-----------------

( هذا ) كلّه أوّلاً ، وثانيا : ( مع انّه لا معنى لكشف الأمارة ) الخارجية ( عن الخلل في المرجوح ، لأنّ الخلل في الدليل من حيث انّه دليل ) إنّما هو بمعنى وجود ( قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما ) أي : تساوي الخبرين المتعارضين في الظاهر ، فلا قصور في طريقيّة المرجوح ، ومعه فيتساوى المرجوح مع الراجح ( في جميع ما له مدخل في الطريقيّة ) وإذا كان كذلك فلا وجه لتقديم الراجح بسبب أمارة خارجية على المرجوح ، لأنّ الظنّ بمخالفة مضمون أحد الخبرين للواقع إذا كان حاصلاً من أمارة خارجيّة كالشهرة - مثلاً - لا يكون مسقطا له ، وإنّما المسقط له هو أن يكون خلل في سنده أو دلالته أو جهة صدوره .

( و ) عليه : فانّ ( مجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع ) حتّى ولو كان ذلك الظنّ آتيا من الشهرة - مثلاً - ( لا يوجب خللاً في ذلك ) التساوي المفروض للخبرين من حيث الطريقيّة ، وذلك ( لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع ) بل هي منوطة بإفادة الظنّ النوعي ، ومن الواضح : انّ الظنّ النوعي كما يحصل من الراجح ، فكذلك يحصل من المرجوح ، ومعه فلا وجه للترجيح بالمرجّحات الخارجية .

ص: 345

قلتُ : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام : « لأن المجمع عليه لاريب فيه » وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك » لما نحن فيه ، بل قوله : « فإنّ الرشد فيما خالفهم » ، وكذا التعليل في رواية الأرجائي : « لِمَ أُمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

-----------------

( قلت ) في جواب هذا القائل : بأنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع هو : إعتبار المزيّة الداخلية فقط ، انّه ليس بتامّ ، وذلك لأنّه ( أمّا النصّ فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام : لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ) (1) علما بأنّ المراد من المجمع عليه - على ما عرفت سابقا - هو : الخبر المشهور ، المقابل للشاذّ النادر .

( و ) كذا عموم التعليل في ( قوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) (2) فانّ التعليل فيهما شامل ( لما نحن فيه ) من المرجّحات الخارجية ، وذلك على ما عرفت : من إنّ المرجّح الخارجي أيضا يوجب كون الراجح ممّا لا ريب فيه ، بالنسبة إلى المرجوح الذي فيه الريب النسبي .

( بل قوله ) عليه السلام : ( فانّ الرشد فيما خالفهم ) (3) أيضا شامل لما نحن فيه من المرجّحات الخارجية ، إذ لا شكّ في انّ المرجّح الخارجي يوجب في الخبر الراجح رشدا ، هو مفقود في الخبر المرجوح .

( وكذا التعليل في رواية الأرجائي : لِمَ اُمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

ص: 346


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب22 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، الغارات : ص135 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص8 ، ديباجة الكافي .

العامّة » وارد في المرجّح الخارجي ؛ لأن مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور .

وأمّا معقد الاجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولاً ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديماً وحديثاً من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع .

-----------------

العامّة ؟ (1) ) إلى آخره ، فانّه ( وارد في المرجّح الخارجي ) لا المرجّح الداخلي ، وذلك ( لأنّ مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور ) في كونها مرجّحا خارجيا ، وإنّما تكون مرجّحا خارجيا ، لأنّ المرجّح هنا هو : وجود حكم من العامّة - خارجا - مخالف للخبر ، وليس هو عنوان المخالفة القائم بنفس الخبر ، وإذا دلّ خبر الأرجائي وغيره على الترجيح بمخالفة العامّة وهو مرجّح خارجي ، تعدّينا منه إلى الترجيح بكلّ ما هو مرجّح خارجي .

هذا بالنسبة إلى النصّ ( وأمّا معقد الاجماعات ) أي : معقد المدّعى كونه على وجوب العمل بأقوى الدليلين ( فالظاهر : إنّ المراد منه ) أي : من أقوى الدليلين هو : ( الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولاً ، ولو ) كان التوصّل إلى معرفة هذا المراد من أقوى الدليلين يتمّ ( بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا : من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربية إلى الواقع ) ومعلوم : انّ أقوى الدليلين أقرب إلى الواقع سواء حصلت القوّة من المرجّح الداخلي أم من المرجّح الخارجي ، فانّ العلماء قد فهموا من الأدلّة هذا الملاك ، وجعلوه مناطا للترجيح ، وفهمهم حيث انّهم من العرف الذين اُلقي إليهم الكلام ، يكون دليلاً على ما ذكرناه من كفاية الترجيح بالمرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا .

ص: 347


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .

كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان .

-----------------

ثمّ انّ المصنّف أخذ يبيّن تلك القرينة الظاهرة من العلماء بقوله : ( كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربية إلى الواقع ، مثل ما سيجيء ) ان شاء اللّه تعالى ( من كلماتهم في الترجيح بالقياس ) فانّ بعض العلماء جعل القياس من المرجّحات أيضا ، مستدلاً له : بأنّه يوجب قوّة في الخبر الموافق للقياس بما لا يوجد مثله في الخبر الآخر المعارض له .

( ومثل : الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل ) حيث انّ الخبرين المتعارضين إذا وافق أحدهما الأصل ، جعل بعض العلماء ذلك الأصل الموافق ، المسمّى بالمقرّر مرجّحا للخبر الذي وافق الأصل ، مستدلاً لذلك : ( بأنّ الظنّ ) النوعي ( في الخبر الموافق له ) أي : الموافق للأصل ( أقوى ) من الظنّ النوعي في الخبر غير الموافق للأصل .

( و ) مثل الاستدلال من بعض العلماء ( على الترجيح بمخالفة الأصل ) مستدلاً على ذلك ( بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان ) والذي يحتاج إلى البيان هنا هو المخالف للأصل المسمّى بالناقل ، لا الموافق للأصل المسمّى بالمقرّر ، فإذا تعارض خبران أحدهما يدلّ على إباحة شيء ، والآخر على حرمته ، قدّم هؤلاء الفقهاء الحرمة على الاباحة ، لأنّ الحرمة تأسيس ، بينما الحلّ تأكيد ، ممّا ظاهره انّ في الترجيح بالأصل قولين : قول بأنّ الأصل يوجب أن يكون نفس

ص: 348

واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ، مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع في ما كان حجّيّتهما من حيث الطريقيّة ، فتأمّل .

-----------------

الخبر الموافق له راجحا ، وقول بأنّ الأصل يوجب أن يكون طرفه الآخر المخالف له راجحا .

( و ) مثل ( إستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة ) أي : الشهرة العملية ، مستدلاً لذلك ( بأنّ الكثرة أمارة الرجحان ) لأنّه يوجب الظنّ النوعي ( والعمل بالراجح واجب ) على ما عرفت ذلك من الأدلّة .

( وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ) ممّا يدلّ على انّ المرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا توجب تقديم الراجح على غيره .

هذا ( مع انّه يمكن ) مضافا إلى ما ذكر من النصّ ومعاقد الاجماع ( دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما ) أي : حجيّة الخبرين المتعارضين ( من حيث الطريقيّة ) لا السببيّة ، فانّه إذا قلنا بحجيّة الأخبار من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب السببيّة والموضوعيّة ، أمكن دعوى إستقلال العقل بوجوب أخذ أقرب الطريقين إلى الواقع ، إضافة إلى ما مرّ من التمسّك بالنصّ ومعاقد الاجماع ، بل ربّما يؤيّد ذلك دلالة الآيات عليه أيضا ، كقوله سبحانه : « أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يَهدي إلاّ أن يُهدى » (1) ؟ ممّا يدلّ على انّ اللازم اتّباع الأحقّ .

( فتأمّل ) فانّ حصر اخبار العلاج ، المزايا التي يصحّ الترجيح بها في اُمور

ص: 349


1- - سورة يونس : الآية 35 .

بقي في المقام أمران :

أحدهما :

إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ، كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا ؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّه في الفقه ، وحكي عن المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحاً ، قال : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقاً لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك

-----------------

خاصّة ، ثمّ الأمر بعدها بالتخيير ، يدلّ على انّه لا مرجّح غير هذه المرجّحات المنصوصة ، فمع عدمها يكون الأصل هو التخيير ، ومعه فلا وجه لترجيح خبر على خبر بمرجّح غير منصوص .

( بقى في المقام ) أي : مقام المرجّحات الخارجية ( أمران ) كالتالي :

( أحدهما : إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص - كالقياس - هل هي من المرجّحات أم لا ؟) فإذا كان هناك خبران متساويان من جميع الحيثيّات ، إلاّ انّ أحدهما يوافق القياس ، والآخر يخالف القياس ، فهل نقول بلزوم الأخذ بموافق القياس أم لا ، بل اللازم القول بالتخيير بينهما ؟ .

( ظاهر المعظم : العدم ) فانّ القياس لا يكون مرجّحا ( كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه ) حيث انّا لم نجد في الفقهاء من الشيخ الطوسي إلى صاحب الجواهر أحدا يرجّح بعض الأخبار على بعضها بسبب القياس .

هذا ( و ) لكن ( حكي عن المحقّق في المعارج عن بعض : القول بكون القياس مرجّحا ) لخبر على خبر آخر ، فانّ المحقّق ( قال : ذهب ذاهب إلى انّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك ) أي :

ص: 350

وجهاً يقتضي ترجيح ذلك الخبر .

ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين .

فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل باحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحاً لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه .

لايقال : أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة .

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ،

-----------------

توافق القياس مع الخبر ( وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر ) الموافق للقياس على الخبر الذي لا يوافق القياس .

( ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ) إذ من المعلوم : انّ الحقّ واحد غير متعدّد وان كان الباطل كثيرا متعدّدا ، ومعه ( فلا يمكن العمل بهما ) أي : بالخبرين معا لتعارضهما ( ولا طرحهما ) معا ، لأنّ دليل الحجيّة يشمل أحدهما ( فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير : تقدير التعارض ) لفرض انّ الخبرين متعارضان ( فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ) داخلي أو خارجي ( والقياس يصلح ان يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ) ظنّا نوعيا ( فتعيّن العمل بما طابقه ) أي : طابق القياس من الخبرين ، لأنّ الظنّ النوعي فيه أقوى من الظنّ النوعي في الخبر المرجوح الذي لا يوافق القياس .

( لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة ) فكيف تجعلون مع ذلك القياس مرجّحا ؟ .

( لأنّا نقول ) : انّ طرح القياس والردع عنه في الشريعة إنّما هو ( بمعنى : انّه ليس بدليل ) مستقل ، كالكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، كما يجعله العامّة دليلاً

ص: 351

لابمعنى أنّه لايكون مرجّحاً لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحاً ، كونه رافعاً للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لابذلك القياس ، وفيه نظر » ، انتهى .

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين .

-----------------

مستقلاً ( لا بمعنى : انّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ) على الآخر .

( و ) عليه : فانّ ( هذا ) الذي جوّزناه من الترجيح بالقياس إنّما هو ( لأنّ فائدة كونه ) أي : القياس ( مرجّحا ، كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ) المعارض للخبر المطابق للقياس بمعنى : كون القياس رافعا للمانع لا انّه مقتضٍ للحكم ، ومعه ( فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ) أي : بالخبر السليم نتيجةً ، وذلك مشمول لأدلّة حجيّة الخبر ( لا بذلك القياس ) حتّى يكون من إدخال القياس في الشريعة .

( وفيه نظر (1) ) لما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى : من انّ هذا نوع من إدخال القياس في الشريعة ، وذلك لأنّ الشارع قال بعد تساوي الخبرين من جميع الجهات : « إذن : فتخيّر » (2) بينما أنتم تريدون ترجيح خبر على خبر بسبب القياس ( انتهى ) كلام المعارج .

( ومال إلى ذلك ) أي : إلى كلام المعارج ( بعض سادة مشايخنا المعاصرين ) ويقصد من بعض السادة : السيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح ، كما ويقصد بمشايخه المعاصرين : شريف العلماء ، فانّ السيّد المجاهد الذي

ص: 352


1- - معارج الاصول : ص186 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

والحق خلافه ؛ لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه إلى الاُصول ، وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله

-----------------

هو استاذ استاذه مال إلى كلام المعارج ، لكن المصنّف حيث لم يرتض ذلك قال : ( والحق خلافه ) فانّه لا يكون القياس مرجّحا .

وإنّما لا يكون القياس مرجّحا ( لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس ) أي : إسقاط ذلك الخبر المرجوح بسبب القياس الموافق للراجح هو ( عمل به ) أي : عمل بالقياس ( حقيقة ) لأنّ القياس حينئذ يقلب التخيير بين الخبرين إلى تعيين أحد الخبرين ، فيكون حينئذ ( كرفع ) القياس ( العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه ) أي : مع وجود ذلك الخبر الذي لا معارض له ( إلى الاُصول ) العمليّة لفرض سقوط الخبر بمخالفة القياس ، وكما انّ طرح الخبر الذي لامعارض له بسبب مخالفته للقياس يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي ، فكذلك طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي .

إن قلت : هناك فرق بين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد انفراد الخبر وعدم التعارض ، وبين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين .

قلت : ( وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل ) وجوبا تعيينيا ( بالخبر السليم عن المعارض ) إذا كان ذلك الخبر مخالفا للقياس ( وجعله ) أي : جعل

ص: 353

كالمعدوم حتى يرجع إلى الأصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر للتكافؤ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر .

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقاً ، ولذا استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد منهم موضعاً يرجّحونه به ، ولولا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاُصول

-----------------

الخبر المخالف للقياس ( كالمعدوم حتّى ) كأن لم يكن خبر رأسا ، وإذا لم يكن في مورد خبر ، يلزم أن ( يرجع إلى الأصل ) فانّه لا فرق بينه ( وبين رفعه ) أي : رفع القياس ( لجواز العمل بالخبر ) المخالف للقياس جوازا تخييريّا ( للتكافؤ لخبر آخر ) موافق للقياس ( وجعله ) أي : جعل ذلك الخبر المخالف للقياس ( كالمعدوم حتّى يتعيّن العمل بالخبر الآخر ) الموافق للقياس ، فانّه لافرق بينهما من حيث انّهما معا إدخال للقياس في الدين .

والحاصل : انّ القياس ، كما لا يسقط الخبر المنفرد الذي لا معارض له ، فكذلك لا يسقط الخبر الذي له معارض .

( ثمّ ) انّه لو سلّمنا انّ الترجيح بسبب القياس ليس عملاً بالقياس ، بل هو عمل بالخبر الراجح ، إلاّ ( انّ الممنوع ) في الشريعة بحسب الأدلّة ، ليس هو خصوص العمل بالقياس ، بل ( هو الاعتناء بالقياس مطلقا ) سواء جُعل مستندا ، أو مرجّحا ، أو موهنا .

( ولذا ) أي : لأجل ما قلناه : من انّ القياس ممنوع في الشريعة مطلقا ( استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ) كما ذكرناه سابقا ( ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه ) أي : يرجّحون الخبر ( به ) أي : بالقياس ( ولولا ذلك ) الهجر المطلق ( لوجب تدوين شروط القياس في الاُصول ) كما التزموا

ص: 354

ليرجّح به في الفروع .

الثاني :

اشارة

في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى المرجّحات السابقة .

فنقول أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمهُ على جميع المرجّحات .

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة .

فهو يسقطه عن الحجّيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين .

-----------------

بتدوين شروط سائر المرجّحات ( ليرجّح به ) أي : بالقياس ( في الفروع ) كما يرجّحون فيه بسائر المرجّحات ، وذلك على غرار ما فعله العامّة بالنسبة إلى القياس .

( الثاني : في مرتبة هذا المرجّح ) الخارجي ( بالنسبة إلى المرجّحات السابقة ) من المرجّح الدلالي ، والمرجّح الصدوري ، والمرجّح من جهة الصدور ( فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ) كالجمع بين العامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والظاهر والأظهر ، أو الظاهر والنصّ ( فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات ) السندية وجهة الصدور وغيرهما .

( نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة ) كما إذا كان هناك عام وخاص ، أو مطلق ومقيّد ، فالخاص الذي هو أرجح دلالة يخصّص العامّ ، وكذلك المقيّد يقيّد المطلق ، لكن لو كان المشهور قد عملوا بالعام والمطلق من غير إعتناء بالخاص والمقيّد ، ممّا يرى الفقيه انّ عملهم موهن لهذا الخاص والمقيّد ( فهو ) أي : هذا المرجّح الخارجي حينئذ ( يسقطه ) أي : يسقط الأرجح دلالة ( عن الحجيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين ) .

وإنّما يسقط هذا المرجّح الخارجي الأرجح دلالة كالخاص والمقيّد

ص: 355

ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور والمعتضد بالاُمور الخارجيّة الاُخر على الخاصّ .

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهرُ مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجي ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛

-----------------

عن الحجيّة لأنّ الخاص والمقيّد الذي لم يعمل بهما المشهور لا يكون معارضا للعامّ والمطلق الذي عمل بهما المشهور ، فالعام والمطلق حجّة والخاص والمقيّد ليس بحجّة .

( ومن هنا ) أي : من انّ المرجّح الخارجي ربّما يكون موهنا للأرجح دلالة ومسقطا له عن الحجيّة ( قد يقدّم العام المشهور والمعتضد بالاُمور الخارجية الاُخر على الخاص ) ولذا أخذ المشهور بعموم : « فانكحوهنّ باذن أهلهنّ » (1) وطرحوا الخاص الذي يدلّ على جواز التمتّع بأمة المرأة من دون إذن سيّدتها .

( وأمّا ) مرتبة المرجّح الخارجي الذي نحن فيه مع ( الترجيح من حيث السند ) الذي هو مرجّح صدوري داخلي ، وذلك كما لو كان سند أحدهما أرجح من سند الآخر ، ولكن كان المرجوح سندا أوفق للشهرة ( فظاهر مقبولة ابن حنظلة (2) تقديمه على المرجّح الخارجي ) أي : تقديم الأرجح صدورا على الأوفق للشهرة ، حيث انّ المقبولة قدّمت الترجيح بصفات الراوي التي هي من المرجّحات الداخلية ، على الترجيح بالشهرة التي هي من المرجّحات الخارجية .

( لكن الظاهر ) من القواعد ( انّ الأمر بالعكس ) أي : تقديم المرجّح

ص: 356


1- - سورة النساء : الآية 25 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لأن رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل اقرب إلى الصدق من غيره .

بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدّق الأعدل وكذّب العادل ، فإذا فُرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة ، وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ،

-----------------

الخارجي على المرجّح السندي ، وذلك ( لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ) ممّا يظهر منه انّ ملاك الترجيح هو : الأقربية إلى الواقع ، ومعه فكلّما وجد هذا الملاك في أحد المتعارضين رُجّح به .

وعليه : فإذا كان الملاك هو الأقرب إلى الصدق والواقع ( فانّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره ) أي : من غير الأعدل وهو : العادل هنا لكن لا فعلاً ، بل شأنا ( بمعنى : انّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون ) ظنّا نوعيا ( صدّق الأعدل وكذّب العادل ) وعلى هذا الملاك ( فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع ) ظنّا نوعيا - فعلاً - لوجود المرجّح الخارجي كالشهرة ( وخبر الأعدل مظنون المخالفة ) للواقع ( فلا وجه لترجيحه بالأعدلية ) بل يؤخذ بالأشهر العادل لأنّه مظنون فعلاً ، ويترك النادر الأعدل لأنّه مظنون شأنا ، والفعلي أقرب للواقع من الشأني .

( وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ) الذي هو ترجيح بجهة الصدور فانّ الترجيح به كالترجيح الصدوري إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع قربا شأنيا لا فعليّا ، فإذا فرض وجود الظنّ النوعي الفعلي على انّ الخبر الموافق للعامّة مطابق للواقع بسبب المرجّح الخارجي ، كان المظنون بالفعل أقرب إلى الواقع

ص: 357

بناءا على أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة .

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلاً بالاعتبار ، ولو خُلّي المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

الأوّل : ما يكون معاضداً لمضمون أحد الخبرين .

والثاني : مالا يكون كذلك .

-----------------

من المظنون شأنا ، ومعه فلا وجه لترجيح الخبر المخالف للعامّة بسبب المخالفة لهم لأنّه مظنون المخالفة للواقع .

وعليه : فكما يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح الصدوري ، فكذلك يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح باعتبار جهة الصدور ، وذلك ( بناءا على انّ الوجه فيه ) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة ( هو نفي إحتمال التقيّة ) وامّا بناءا على انّ الوجه فيه هو كون الخبر المخالف أقرب إلى الواقع ، فهو أيضا من المرجّحات الخارجية حيث تتساوى مرتبتهما ، وحينئذ يكون ترجيح أحدهما منوطا بنظر الفقيه ، فهو الذي يرى تقديم أحدهما على الآخر ، كما هو الحكم في كلّ ما دار بين فردين من صنف من أصناف المرجّحات ، وذلك على ما ألمعنا إليه فيما سبق .

( وأمّا القسم الثاني ) : من المرجّح الخارجي ( وهو : ما كان مستقلاً بالاعتبار ، ولو خلّي المورد عن الخبرين ) أي : بأن يكون هو بنفسه حجّة وان لم يكن هناك خبر أصلاً ( فقد أشرنا إلى انّها على قسمين ) أيضا كالتالي :

( الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين ) فيفيد الظنّ النوعي بكون الخبر المعتضد مضمونه بذلك المرجّح الخارجي هو أقرب إلى الواقع .

( والثاني : ما لا يكون كذلك ) أي : بأن لا يكون المرجّح معاضدا لمضمون

ص: 358

فمن الأوّل :

الكتاب والسنة : والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين :

أحدهما : إنّ الكتاب دليل مستقل ، فيكون دليلاً على صدق مضمون الخبر .

ثانيهما : إنّ الخبر المنافي لايعمل به لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به معه » ، انتهى .

-----------------

أحد الخبرين ، بل يكون مؤيّدا له تأييدا تعبّديا ، مثل : تأييد الأصل لأحد الخبرين ، فانّه إذا كان الأصل موافقا لأحد الخبرين ، فليس معناه : انّ مضمون ذلك الخبر أقرب إلى الواقع ، بل لو قلنا بأنّ الأصل يؤيّده كان معناه : انّه يؤيّده تأييدا تعبّديا .

( فمن الأوّل : الكتاب والسنّة ) الثابتة ، سواء كانت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو سنّة الأئمّة من أهل بيته عليهم السلام الثابتة ( والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، و ) قد ذكرنا سابقا جملة من تلك الأخبار المرجّحة بموافقتهما ، علما بأنّه قد ( استدلّ في المعارج على ذلك ) أي : على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ( بوجهين ) كما يلي :

( أحدهما : انّ الكتاب دليل مستقل ) في نفسه ( فيكون دليلاً على صدق مضمون الخبر ) الذي يوافق الكتاب .

( ثانيهما : انّ الخبر المنافي ) للكتاب أو السنّة ( لا يعمل به لو إنفرد عن المعارض ، فما ظنّك به ) أي : بالخبر المنافي للكتاب أو السنّة ( معه ) (1) أي : مع وجود المعارض ؟ ( انتهى ) كلام المعارج .

ص: 359


1- - معارج الاصول : ص145 .

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته بظاهر الكتاب ، أم قلنا بعدم حجّيّته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه .

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لأحد المتعارضين .

-----------------

لا يقال : انّ الدليل الأوّل من دليليّ المعارج يقتضي أن يكون الخبر المخالف للكتاب أو السنّة حجّة في نفسه لكن قد عارضه الخبر الموافق ، فيكون الكتاب أو السنّة حينئذ مرجّحا للموافق على المخالف ، بينما دليله الثاني يقتضي أن يكون الخبر المخالف ليس بحجّة أصلاً ، وذلك يوجب تنافيا بين دليليه .

لأنّه يقال : ( وغرضه ) أي : غرض المعارج من الدليلين انّه على تقديرين بمعنى : ( الاستدلال على طرح الخبر المنافي ) للكتاب أو السنّة ( سواء قلنا بحجيّته مع معارضته بظاهر الكتاب ) أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الأوّل ( أم قلنا بعدم حجيّته ) لمعارضته الكتاب أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الثاني ( فلا يتوهّم التنافي بين دليليه ) .

ولكن لا يخفى : إنّ الخبر المنافي للكتاب إذا لم يحتمل تأويل فيه لم يكن حجّة أصلاً ، لأنّه يكون حينئذ من الزخرف والباطل وممّا يجب ضربه على الحائط .

( ثمّ انّ توضيح الأمر في هذا المقام ) أي : مقام منافاة الخبر للكتاب أو السنّة ( يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنّة المطابق لأحد المتعارضين ) حتّى يعرف انّ أيّ الأخبار منافٍ لظاهرهما ، وأيّ الأخبار ليس منافٍ لظاهرهما ؟

ص: 360

فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث :

الاُولى : أن يكون على وجه لو خُلّي الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدّماً عليه ، لكونه نصّاً بالنسبة إليه ، لكونه أخصّ منه أو غير ذلك ، بناءا على تخصيص الكتاب

-----------------

( فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف ) لهذا الظاهر ( فلا يخلو عن صور ثلاث ) كالتالي :

الصورة ( الاُولى : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي الخبر المخالف له ) أي : لظاهر الكتاب ( عن معارضة ) الخبر ( المطابق له ) أي : لظاهر الكتاب ، وذلك بأن إنفرد الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( كان ) ذلك الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( مقدّما عليه ) أي : على ظاهر الكتاب ، وذلك كما لو كان ظاهر الكتاب عامّا أو مطلقا ، والخبر خاصّا أو مقيّدا فانّ هذه الصورة من المخالفة ليست من مورد التباين الكلّي حتّى يُطرح الخبر ، بل من مورد الجمع المقبول فيجمع بينهما .

وإنّما يكون الخبر المخالف لظاهر الكتاب لو إنفرد مقدّما على ظاهر الكتاب ( لكونه ) أي : الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( نصّا ) أو أظهر ( بالنسبة إليه ) أي : إلى ظاهر الكتاب ، وإذا كان كذلك قدّم الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( لكونه ) أي : الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( أخصّ منه ) أي : من ظاهر الكتاب فيقدّم عليه .

( أو غير ذلك ) من موارد الجمع المقبول عرفا ، مثل كون الخبر مقيّدا بالنسبة إلى مطلق الكتاب ، وذلك ( بناءا على ) جواز ( تخصيص الكتاب

ص: 361

بخبر الواحد .

فالمانع عن التخصيص حينئذٍ ، ابتلاء الخاصّ بمعارضة مثله ، كما إذا تعارض أكرم زيداً العالم ، ولا تكرم زيداً العالم ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب اكرام العلماء .

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ أولاً جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر

-----------------

بخبر الواحد ) حيث قد ذكروا في بحث العام والخاص وغيره من مباحث الاُصول جواز تخصيص عموم الكتاب وتقييد مطلقه بالخبر الواحد .

وعليه : ( فالمانع عن التخصيص حينئذ ) أي : حين كان ظاهر الكتاب عاما أو مطلقا ، والخبر خاصّا أو مقيّدا - مثلاً - ليس هو من جهة تخصيص الكتاب ، بل هو من جهة ( إبتلاء الخاص ) المخالف لظاهر الكتاب ( بمعارضة مثله ) وهو الموافق للكتاب ، وذلك بأن كان هناك خبران متعارضان ، أحدهما يوافق الكتاب والآخر يخالف الكتاب ، لكن هذا المخالف للكتاب من قبيل المخصّص أو المقيّد ، لا من قبيل المباين الكلّي ، وذلك ( كما إذا تعارض : أكرم زيدا العالم ، ولا تكرم زيدا العالم ) فهنا خبران متعارضان ( وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب اكرام العلماء ) فان لا تكرم زيدا العالم ، مخالف للكتاب ، لكن مخالفة الخاص مع العام ، فيكون مخصّصا للكتاب لو كان منفردا وبلا معارض - فرضا - .

هذا ، لو فرضنا الخبر المخالف لظاهر الكتاب منفردا وبلا معارض ( و ) ما مع وجود المعارض له ، فانّ ( مقتضى القاعدة في هذا المقام ) أي : مقام تعارض خبرين : أحدهما مطابق لظاهر الكتاب ، والآخر مخالف لظاهر الكتاب هو : ( ان يلاحظ أوّلاً جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر ) المطابق للكتاب على المخالف

ص: 362

المخالف للكتاب على المطابق له ، فإن وجد شيء منها رجّح المخالف به وخصّص به الكتاب ؛ لأن المفروض انحصار المانع عن تخصيصه في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ؛ لأنه مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر .

-----------------

له أو ( المخالف للكتاب على المطابق له ) فنقارن بين الخبرين ونرى انّه لولا الكتاب أيّهما كان يلزم تقديمه على الآخر من جهة المرجّحات السندية أو جهة الصدور أو ما أشبه ذلك فنقدّمه .

وعليه : ( فان وجد شيء منها ) أي : من تلك المرجّحات في الخبر المخالف للكتاب كما لو كان راوي الخبر المخالف أعدل - مثلاً - وراوي الخبر الموافق عادلاً ( رجّح المخالف ) الذي كان راويه أعدل على ما في المثال ( به ) أي : بذلك المرجّح ، وحينئذ يطرح الخبر الموافق للكتاب فكأنّه ليس في المقام إلاّ خبر مخالف للكتاب ( وخصّص به الكتاب ) .

وإنّما يقدّم الخبر المخالف للكتاب على الخبر الموافق له ويخصّص به الكتاب ( لأنّ المفروض إنحصار المانع عن تخصيصه ) أي : عن تخصيص الكتاب بهذا الخبر المخالف للكتاب ( في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ) فإذا ذهب هذا المزاحم بدليل كون الخبر المخالف للكتاب أرجح من الخبر المطابق للكتاب ، لم يكن مانع عن تخصيص الكتاب بهذا الخبر المخالف ، وذلك ( لأنّه ) أي : الخبر المخالف للكتاب كان ( مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر ) فالكتاب ظاهر والخبر نصّ ، لفرض كون الخبر أخصّ مطلقا من عموم الكتاب أو مقيّدا بالنسبة إلى مطلق الكتاب .

ص: 363

وقد عرفت أنّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ، بل من باب العمل بالدليل ، والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة حتى لو قلنا بكونها من باب الظهور النوعي ، فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض ، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر

-----------------

هذا ( وقد عرفت ) فيما سبق ( انّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ) لأحد المتعارضين على الآخر بالمرجّحات المذكورة في الروايات ا لعلاجية ( بل من باب العمل بالدليل ، والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة ) فأصالة الحقيقة تقتضي بقاء ظاهر الكتاب على ظاهره ، لكنّ الخبر الخاصّ يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظاهر المستدلّ عليه بأصالة الحقيقة ، فنرفع اليد عن أصالة الحقيقة ( حتّى لو قلنا بكونها ) أي : أصالة الحقيقة ( من باب الظهور النوعي ) لا من باب التعبّد وأنّه وظيفة الشاكّ في مقام العمل تعبّدا .

والحاصل : انّ النصّ الذي هو أقوى دلالة من الظاهر ، يكون قرينة صارفة عن الظاهر المستدلّ عليه بأصالة الحقيقة ، سواء كان إعتبار أصالة الحقيقة عند العقلاء من باب التعبّد العقلائي ، أو من باب الظنّ الظهوري ، فإنّها على كلّ تقدير متّبعة ما لم توجد قرينة على الخلاف ، فإذا وجدت قرينة على الخلاف صرفت الظاهر عن ظهوره ، والنصّ الموجود هنا قرينة على خلاف الظاهر الموجود في الكتاب، فنرفع اليد عن الظاهر بسبب النصّ، لأنّه من الجمع الدلالي المقبول عرفا.

وكيف كان : فإنّ المانع لمّا كان منحصرا في الخبر المزاحم لهذا الخبر ( فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح ) للخبر المخالف الراجح ، على الخبر الموافق المرجوح ، وسقط الخبر الموافق لمرجوحيّته ( صار المخالف كالسليم عن المعارض ) وإذا صار سليما عن المعارض ( فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر

ص: 364

السليم ، ولو لم يكن هناك مرجّح .

فإن حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير إمّا لأنه الأصل ، في المتعارضين ، وإمّا لورود الأخبار بالتخيير كان الّلازم التخيير ، وأنّ له أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف ، فيخصّص به عموم الكتاب ، لما سيجيء من أنّ موافقة أحد الخبرين للأصل

-----------------

السليم ) حيث نخصّص به حينئذ عموم الكتاب ونقيّد به إطلاقه - مثلاً - .

هذا فيما لو كان لأحد الخبرين مرجّح على الآخر ( ولو لم يكن هناك مرجّح ) لأحد الخبرين على الآخر لتكافئهما من كلّ الجهات ، فالحكم فيهما يتّبع حينئذ أحد القولين في المتكافئين :

الأوّل : ( فان حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير ) بينهما ، وذلك ( إمّا لأنّه ) أي : التخيير هو ( الأصل ) الأوّلي ( في المتعارضين ) كما يقول بذلك من يقول بسبيّة الخبرين لا بطريقيّتهما ( وإمّا ) لأنّ التخيير ليس هو الأصل الأوّلي ، لأنّ الأصل الأوّلي على الطريقية هو التساقط ، فيكون التخيير هو الأصل الثانوي ( لورود الأخبار بالتخيير ) وحينئذ ( كان اللازم ) في تعارض الخبرين الذين أحدهما مطابق للكتاب والآخر مخالف له ( التخيير ) بينهما ( و ) ذلك بمعنى : ( انّ له أن يأخذ بالمطابق ) للكتاب ويطرح الخبر المخالف ( وان يأخذ بالمخالف ) ويطرح الخبر الموافق .

وعليه : فإذا طرح الخبر الموافق ، وأخذ بالخبر المخالف ( فيخصّص به عموم الكتاب ، لما سيجيء ) إن شاء اللّه تعالى ( من انّ موافقة أحد الخبرين ) المتكافئين ( للأصل ) أي : لأصالة الحقيقة الجارية في ظاهر الكتاب

ص: 365

لايوجب رفع التخيير ، وإن قلنا بالتساقط أو التوقف كان المرجع هو ظاهر الكتاب ، فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب لايتحقّق بمقتضى القاعدة في شيء من فروض هذه الصورة .

الثانية : أن يكون على وجه لو خُلّي الخبر

-----------------

( لا يوجب رفع التخيير ) الذي هو مقتضى : « إذن : فتخيّر » (1) الموجود بين الخبرين فإنّ الخبر الموافق للكتاب وإن كان موافقا لأصالة الحقيقة ، إلاّ إنّ اعتضاده بأصالة الحقيقة لا يرفع التخيير حتّى يتعيّن الأخذ بالموافق ، وذلك لأنّ التخيير - كالترجيح - يجعل مؤدّى الخبر المختار حكما واقعيا يترتّب عليه الآثار ، فإذا إختار الخبر المخالف كان من آثاره تخصيص ظاهر الكتاب .

الثاني : ( وان قلنا ) في الخبرين المتكافئين : ( بالتساقط ) للخبرين حتّى كأنّه لا خبر رأسا ( أو التوقّف ) فيهما وقد مرّ الفرق بين التساقط والتوقّف سابقا ( كان المرجع هو ظاهر الكتاب ) لأنّه مع التساقط لا خبر ، ومع التوقّف لا مرجع في الحكم ، فيكون الكتاب هو المرجع .

إذن : ( فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب ) وذلك بأن يكون ظاهر الكتاب المستدلّ عليه بأصالة الحقيقيّة مرجّحا للخبر الموافق ، حتّى يلزم الأخذ به ، ويطرح المرجوح وهو الخبر المخالف ( لا يتحقّق بمقتضى القاعدة ) أي : قاعدة تقديم الأرجح دلالة على المرجوح الدلالي ( في شيء من فروض هذه الصورة ) أي : الصورة الاُولى وذلك على ما عرفت مفصلاً .

الصورة ( الثانية : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي الخبر

ص: 366


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

المخالف له عن معارضه لكان مطروحاً ، كما إذا تباين مضمونهما كلّيّة ، كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدّم وجوب إكرام زيد العالم ، والّلازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجّيّة رأساً ، لتواتر الأخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب ، والمتيقّن من المخالفة هذا الفرد .

-----------------

المخالف له ) أي : لظاهر الكتاب ( عن معارضه ) أي : عن الخبر الموافق للكتاب ( لكان ) الخبر المخالف للكتاب معه ( مطروحا ، كما إذا تباين مضمونهما ) أي : تباين مضمون الكتاب مع مضمون الخبر ( كليّة ) بأن كانا من المتباينين كليّا ، وذلك ( كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدّم : وجوب اكرام زيد العالم ) فانّ في المثال المتقدّم كان خبران : أحدهما يقول : أكرم زيدا العالم ، والآخر يقول : لا تكرم زيدا العالم ، فإذا كان الكتاب يقول : أكرم زيدا العالم ، كان أكرم زيدا العالم في الكتاب ، مباينا للا تكرم زيدا العالم في الخبر تباينا كليّا .

( واللازم في هذه الصورة ) أي : الصورة الثانية ( خروج الخبر المخالف عن الحجيّة رأسا ) بمعنى : سقوطه عن الحجيّة فلا حجيّة فيه ، بل يكون حاله حال القياس ونحوه ، وذلك ( لتواتر الأخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب ، و ) أنّه زخرف (1) وباطل (2) ، ولم يقله الإمام (3) ، وأنّه يجب أن يضرب به عرض الحائط (4) ، وما أشبه ذلك ، علما بأنّ ( المتيقّن من المخالفة ) الواردة في هذه الروايات ، الموجبة لطرح الخبر (هذا الفرد) الذي هو المخالف على وجه التباين .

ص: 367


1- - الكافي اصول ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح5 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 تفسير العياشي : ج1 ص69 ، قرب الاسناد : ص44 .
4- - التبيان في تفسير القرآن : ج1 ص5 ، مجمع البيان : ج1 ص13 .

فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضاً ؛ لأنّ المراد به تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ، لا لما يسقط الآخر عن الحجّيّة ، وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة .

-----------------

وعليه : ( فيخرج ) هذا ( الفرض ) وهو فرض تباين الخبر للكتاب تباينا كليّا ( عن تعارض الخبرين ) لما عرفت من انّ المخالف للكتاب مخالفة تباينيّا ليس بحجّة أصلاً .

إذن : ( فلا مورد للترجيح ) أي : لترجيح أحد الخبرين ، الذين أحدهما مخالف والآخر موافق للكتاب ( في هذه الصورة أيضا ) كالصورة السابقة ( لأنّ المراد به ) أي : بالترجيح هو : ( تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ) أي : في ذلك الخبر ، مفقود في الخبر الآخر ( لا ) تقديم أحد الخبرين الموافق ( لما ) أي : لظاهر الكتاب الذي يكون سببا لأن ( يسقط الآخر ) المخالف للكتاب ( عن الحجيّة ) رأسا ، فالكتاب إذن مسقط للمخالف ، لا أنّه مرجّح للموافق بعد كون المخالف حجّة أيضا .

( وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة ) فانّه ليس في أخبارنا المدوّنة في كتب الحديث أو الفقه اليوم خبر يخالف الكتاب مخالفة تباين ، وان كان في زمن الأوّلين أخبار مباينة لنصّ القرآن ، حيث أنّ خلفاء الجور وعلماء البلاط كانوا يضعون تلك الأخبار لتوطيد سلطانهم ، أو كان يضعها المخالفون للإسلام والمناوؤن له وينسبونها إلى الرسول أو الأئمّة عليهم السلام لترويجها عند المسلمين ، كما وضعوا في اُصول الدين أخبارا من هذا القبيل مثل : أنّ اللّه سبحانه وتعالى يُرى ، مع أنّه مخالف خلافا تباينيّا كليّا لقوله سبحانه :

ص: 368

الثالثة : أن يكون على وجه لو خلّي المخالف له عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل يمكن الجمع بينهما بصرف أحدهما عن ظاهره .

وحينئذ : فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجّيّة

-----------------

« لا تدركه الأبصار » (1) أو ما أشبه ذلك .

( الثالثة : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي المخالف له ) أي : الخبر المخالف للكتاب ( عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل ) على وجه ( يمكن الجمع بينهما ) أي : بين ظاهر الكتاب والخبر المخالف له ( بصرف أحدهما عن ظاهره ) وذلك كما في العموم من وجه ، فإذا ورد في الكتاب - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد في الخبر أيضا خبران في أحد الخبرين : لا تكرم الفسّاق ، وفي الخبر الآخر : أكرم العلماء ، حيث يكون بين الخبرين عموم من وجه ، كما يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب وهو : أكرم العلماء ، والخبر الآخر وهو : لا تكرم الفسّاق مخالفا للكتاب مخالفة العموم من وجه أيضا .

( وحينئذ ) أي : حين كانت النسبة بين ظاهر الكتاب وبين الخبر المخالف له هو العموم من وجه ، كان الحكم فيهما تابعا لأحد القولين التاليين :

الأوّل : ( فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة ) النسبيّة في مادّة الاجتماع ( عن الحجيّة ) أيضا ، كما قلنا بسقوط الخبر المخالف لظاهر الكتاب مخالفة كليّة ، وذلك لأنّ أخبار العرض على الكتاب الآمرة بإسقاط المخالف

ص: 369


1- - سورة الانعام : الآية 103 .

كان حكمها حكم الصورة الثانية ، وإلاّ كان الكتاب مع الخبر المطابق بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف والترجيح حينئذٍ بالتعاضد ، وقطعيّة سند الكتاب ، فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة ، لكنّ هذا الترجيح مقدّم على الترجيح بالسند ؛ لأن أعدليّة الراوي في الخبر المخالف لاتقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر ،

-----------------

للكتاب تشمل الصورتين معا ( كان حكمها ) أي : حكم هذه الصورة الثالثة نفس ( حكم الصورة الثانية ) فيطرح الخبر المخالف لظاهر الكتاب ، وإن كان أقوى دلالة من معارضه ، وذلك لأنّ المرجوح ليس بحجّة إطلاقا ، فيبقى ظاهر الكتاب مع الخبر الموافق له فقط .

الثاني : ( وإلاّ ) أي : بأن لم نقل بسقوط الخبر المخالف للكتاب بهذا النحو من المخالفة ( كان الكتاب ) الذي يقول : أكرم العلماء - مثلاً - ( مع الخبر المطابق ) للكتاب الذي يقول : أكرم العلماء ، أيضا ( بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف ) للكتاب الذي يقول : لا تكرم الفسّاق في المثال ( والترجيح حينئذ ) للخبر الموافق للكتاب إنّما هو ( بالتعاضد ، وقطعيّة سند الكتاب ) .

إذن : ( فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة ) وهي صورة التعارض بالعموم من وجه في مادّة الاجتماع .

( لكن هذا الترجيح ) بموافقة الكتاب الذي ذكرناه في الصورة الثالثة ( مقدّم على الترجيح بالسند ) فلا يلحظ الأرجح من الخبرين سندا ( لأنّ أعدليّة الراوي في الخبر المخالف ) للكتاب مخالفة بالعموم من وجه مثل : لا تكرم الفسّاق ، في المثال ( لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب ) الذي يقول : أكرم العلماء ( الموافق ) هذا الظاهر من الكتاب ( للخبر الآخر ) الذي يقول : أكرم العلماء .

ص: 370

وعلى الترجيح بمخالفة العامّة ؛ لأن التقيّة غير متصورة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة ، وعلى المرجّحات الخارجيّة ؛ لأن الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر غير المعتبرة لاتقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار .

-----------------

وإنّما لا تقاوم أعدليّة الراوي في الخبر المخالف ، قطعيّة السند في الكتاب لوضوح : انّ الأعدليّة إنّما توجب الظنّ الشأني بالصدق بمعنى : أنّه إذا دار الأمر بين الأعدل والعادل يكون الأعدل مقدّما ، لأنّه أقرب إلى الصدق من العادل ، بينما يكون الكتاب فعليّ الصدق ، ومعه فلا يبقى مجال للترجيح بما هو شأني الصدق مثل : الأعدلية والأوثقية والأصدقية إذا كانت موجودة في الخبر المخالف للكتاب .

( و ) كذلك يكون الترجيح بموافقة الكتاب هنا مقدّما ( على الترجيح بمخالفة العامّة ) كما لو كان الخبر المخالف للكتاب مخالفا للعامّة أيضا ، فانّه يرجّح بموافقة الكتاب الخبر الموافق ، ويطرح الخبر المخالف وإن كان المخالف أبعد من التقيّة ، وذلك ( لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب ) فالكتاب الذي يقول - فرضا - : أكرم العلماء ، يرجّح به الخبر الموافق الذي يقول : أكرم العلماء أيضا ، فيؤخذ به وإن كان موافقا للعامّة ، ويترك الخبر المرجوح الذي يقول : لا تكرم الفسّاق وان كان مخالفا للعامّة ، فانّ الكتاب إذن ( الموافق للخبر الموافق للعامّة ) هو الذي يلزم أن يؤخذ به ، والمخالف للكتاب وان كان مخالفا للعامّة هو الذي يلزم تركه وطرحه .

( و ) كذلك يكون الترجيح بموافقة الكتاب هنا مقدّما أيضا ( على المرجّحات الخارجية ) كالشهرة - مثلاً - وذلك ( لأنّ الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر ) كالشهرة إذا طابقت أحد الخبرين المتعارضين ، فإنّ هذه الأمارة ( غير المعتبرة ) شرعا وهي الشهرة - مثلاً - ( لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار ) فيرجّح

ص: 371

ولو فرضنا الأمارة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجّيّة ، لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصي على خلافها ، خرج المورد عن فرض التعارض .

-----------------

بموافقة الكتاب وتكون النتيجة : لزوم الأخذ بالخبر الموافق للكتاب ، وطرح الخبر المخالف للكتاب وان كان ذلك الخبر المخالف للكتاب موافقا لأمارة غير معتبرة كالشهرة - مثلاً - .

هذا ( و ) لكن ( لو فرضنا الأمارة المذكورة ) كالشهرة - مثلاً - ( مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفَين لها ) أي : المخالفين لتلك الأمارة ( عن الحجيّة ) وذلك كما لو كان الخبر الذي يقول : لا تكرم الفسّاق ، وهو الخبر المخالف لأكرم العلماء ، الذي يقول به الكتاب ، مؤيّدا بالشهرة ، وفرضنا ان الشهرة توهن ظاهري : الكتاب والخبر ، وتسقطهما عن الحجيّة ( لأجل القول بتقييد إعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصي على خلافها ) أي : خلاف تلك الظواهر ، والمفروض هنا قيام الظنّ الشخصي على خلاف تلك الظواهر بسبب الشهرة المؤيّدة للخبر المخالف ، فيسقط بذلك - كما قال - دلالة الخبر والكتاب المخالفين للشهرة عن الحجيّة ، ويبقى الخبر المعتضد بالشهرة منفردا وبلا معارض ، فيلزم الأخذ به .

إذن : فالشهرة وإن لم تكن بنفسها معتبرة ، إلاّ انّها تفيد الظنّ الفعلي ، والظنّ الفعلي يمنع إنعقاد الظهور لظاهري : الكتاب ، والخبر الموافق للكتاب ، المخالفين لهذه الشهرة ، وذلك لفرض إنّ حجيّة الظواهر ومنها ظاهر الكتاب مقيّدة بعدم الظنّ الفعلي على خلافها ، وإذا فرضنا ذلك ( خرج المورد عن فرض التعارض ) فيلزم الأخذ بالخبر المخالف المعتضد بالشهرة لإنتفاء المعارض .

ص: 372

ولعلّ ما ذكرنا هو الداعي للشيخ قدس سره ، في تقديم الترجيح بهذا المرجّح على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجّح .

إذا عرفت ما ذكرنا علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجيّة على تقديم

-----------------

والحاصل : انّه بناءا على انّ الأمارة الخارجية كالشهرة - مثلاً - تسقط دلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجيّة فرضا ، فإنّه بناءا على ذلك لو فرضنا قيام الشهرة على عدم اكرام الفسّاق ، ففي مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يلزم أن لا نكرمه ، لأنّ ظاهر الكتاب وان كان وجوب اكرامه ، إلاّ انّ اللازم أن نقول : بأنّ المراد من أكرم العلماء في الكتاب هو : العالم العادل لأنّا فرضنا انّ الشهرة لا تدع مجالاً لإنعقاد الظهور لظاهري : الكتاب والخبر الموافق له ، وإذا لم ينعقد لهما ظهور ، صار الخبر المخالف لهما وكأنّه لا معارض له رأسا ، فيلزم العمل به وتخصيص الكتاب بسببه .

( ولعلّ ما ذكرنا ) من انّ الترجيح بموافقة الكتاب في هذه الصور مقدّم رتبة على جميع المرجّحات الداخلية - غير الدلالية - وكذلك الخارجية غير المعتبرة كالشهرة - مثلاً - كان ( هو الداعي للشيخ قدس سره ، في تقديم الترجيح بهذا المرجّح ) الذي هو موافقة الكتاب ( على جميع ما سواه من المرجّحات ، و ) كان أيضا هو الداعي له من ( ذكر الترجيح بها ) أي : بسائر المرجّحات غير الدلالية من داخلية وخارجية ( بعد فقد هذا المرجّح ) الذي هو موافقة الكتاب .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) آنفا : من تقدّم الترجيح بموافقة الكتاب على كلّ مرجّح ( علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجية على تقديم

ص: 373

بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ، كمقبولة ابن حنظلة .

بل وفي غيرها ممّا أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنة ، من حيث إنّ الصورة الثالثة قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة ، والصورة الثانية أقلّ وجوداً ، بل معدومة ،

-----------------

بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ) وتأخير هذا المرجّح عن بعض تلك المرجّحات ، وذلك ( كمقبولة ابن حنظلة ) (1) التي قيّدت الترجيح بموافقة الكتاب بإنتفاء الترجيح بصفات الراوي ، وشهرة الرواية ، فإذا وجد شيء منها قدّم على هذا المرجّح ، مع انّك عرفت تقديم هذا عليها .

( بل ) يرد إشكال آخر في المقبولة ( وفي غيرها ) أي : غير المقبولة ( ممّا ) أي: من سائر أخبار العلاج التي ( أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ) فانّ تلك الأخبار وان أطلقت الترجيح بموافقة الكتاب ولم تقيّده كالمقبولة بصفات الراوي وشهرة الرواية ، إلاّ أنّها كالمقبولة تشترك في كون الترجيح بموافقة الكتاب منحصر في الصورة الأخيرة من الصور الثلاث فقط ، وهي نادرة الوجود ، ومن البعيد أن تكون هذه الأخبار الكثيرة ناظرة إليها ، ولذلك قال المصنّف بورود هذا الاشكال عليها ( من حيث انّ الصورة الثالثة قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة) .

لا يقال : أنّ أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ليست منحصرة بالصورة الثالثة ، بل هي شاملة للصورة الثانية أيضا ، ومعه فلا يشكل عليها بقلّة الوجود .

لأنّه يقال : ( والصورة الثانية أقلّ وجودا ، بل معدومة ) الوجود ، إذ قد عرفت : أنّه ليس لنا في الكتب الحديثيّة والفقهيّة أخبار تعارض الكتاب معارضة

ص: 374


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين لسقوط المخالف عن الحجّيّة مع قطع النظر عن التعارض .

-----------------

التباين ( فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار ) الكثيرة الدالّة على الترجيح بموافقة الكتاب ( عليها ) أي : على الصورة الثانية حتّى ( وان لم تكن ) الصورة الثانية ( من باب ترجيح أحد المتعارضين ) على الآخر ، فانّ تلك الأخبار إنّما لا تُحمل على هذه الصورة ( لسقوط المخالف ) المباين للكتاب ( عن الحجيّة مع قطع النظر عن التعارض ) فانّ المخالف يسقط بمجرّد عرضه على الكتاب وان إنفرد ولم يكن له معارض .

والحاصل : إنّ الخبر المخالف للكتاب ساقط عن الحجيّة ، وان لم يكن هناك تعارض بين هذا الخبر المخالف للكتاب وبين خبر آخر موافق له ، ومعه فلا تكون أخبار العلاج ناظرة إلى شيء من الصورتين : لا إلى الصورة الثالثة لأنّها نادرة الوجود ، ولا إلى الصورة الثانية لأنّها معدومة الوجود .

أقول : لكنّك قد عرفت فيما سبق : أنّ خلفاء الجور ، وعلماء البلاط ، وأعداء الاسلام في زمن الأئمّة عليهم السلام كانوا قد دسّوا في كتب الأخبار والفقه أخبارا موضوعة ، مخالفة للكتاب والسنّة ، غير انّها اُخرجت بعد ذلك ، ولذا لا نجد من تلك الأخبار المخالفة في الأخبار عينا ولا أثرا في الحال الحاضر ، ومن راجع التاريخ في أخبار القصّاصين وجد أبشع من ذلك ، ويؤيّده ما وضعه علماء رجال العامّة من الكتب الخاصّة بالوضّاعين والكذّابين ، فإنّ القصّاصين كانوا على الأغلب جهّالاً وليس لهم هدف من قصصهم سوى إمرار معاشهم ، ولذلك كانوا يقولون ما يوجب رضا العامّة من غير فرق بين ما يخالف الكتاب أو ما يوافقه .

ص: 375

ويمكن التزام دخول الصورة الاُولى في الأخبار التي أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ،

-----------------

هذا ( ويمكن ) دفع إشكال قلّة الوجود ، بل عدم الوجود ، المشترك الورود على المقبولة (1) وغيرها ، بسبب ( التزام دخول الصورة الاُولى ) في المطلقات التي أطلقت الترجيح بموافقة الكتاب ، لا في المقيّدات التي قيّدت ترجيح موافقة الكتاب بالرتبة الثالثة كما في المقبولة ، علما بأنّ الصورة الاُولى من صور ملاحظة ظاهر الكتاب مع الخبر المخالف للكتاب من الخبرين المتعارضين ، هي ما أشار إليه المصنّف بقوله آنفا : « الاُولى : أن يكون ظاهر الكتاب على وجه لو خلّي الخبر المخالف للكتاب عن معارضة المطابق للكتاب ، كان المخالف مقدّما عليه لكونه نصّا بالنسبة إلى الكتاب » وذلك كما لو كان الكتاب عاما ، والخبر خاصّا ، فيقدّم هذا الخبر الخاص ان لم يكن له معارض على ظاهر الكتاب ، للجمع الدلالي بين العامّ والخاص .

لكن حيث أنّ هذا الخبر الخاص المخالف لظاهر الكتاب ، معارض بخبر آخر موافق لظاهر الكتاب ، فلا يمكن تخصيص الكتاب به ، كما لا يمكن ترجيح الخبر الآخر الموافق لظاهر الكتاب بموافقة الكتاب أيضا ، لأنّ المقبولة جعلت الترجيح بموافقة الكتاب في الرتبة الثالثة ، فيلزم حينئذ إعمال التراجيح بينهما ، فان كان مرجّح لأحدهما فهو ، وإلاّ فالتوقّف ، أو التخيير بينهما ، ومعه لم يكن مجال للترجيح بموافقة الكتاب ، ولكن لو التزمنا بدخول هذه الصورة ( في الأخبار التي أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ) مقابل المقبولة التي قيّدت

ص: 376


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلا يقلّ موردها ، وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين ، المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ، ممنوع .

بل نقول : ظاهر تلك الأخبار

-----------------

الترجيح بموافقة الكتاب بالرتبة الثالثة ، وقدّمنا الترجيح بموافقة الكتاب في هذه الصورة على سائر المرجّحات ( فلا يقلّ موردها ) حينئذ ، ومعه فيندفع الاشكال .

وإنّما لا يقلّ حينئذ مورد أخبار العلاج الآمرة بالترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، لأنّه سيكون الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة شاملاً للصورة الاُولى أيضا ، فإذا كان هناك خبران - مثلاً - أحدهما يقول : أكرم زيدا العالم ، والآخر يقول : لا تكرم زيدا العالم ، وفرض انّه كان في الكتاب عام يقول : أكرم العلماء ، اُسقط الخبر الذي يقول : لا تكرم زيدا العالم ، من أجل انّ عموم الكتاب موافق للخبر الذي يقول : أكرم زيدا العالم ، وبذلك يكثر مورد الترجيح بموافقة الكتاب ، ويندفع به الاشكال .

( و ) على هذا : فانّ ( ما ذكر : من ملاحظة الترجيح ) بسائر المرجّحات أوّلاً دون الترجيح بموافقة الكتاب ( بين الخبرين ، المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ، ممنوع ) وإنّما يلزم الترجيح بموافقة الكتاب أوّلاً يعني : انّه بمجرّد ان كان هناك خبران أحدهما موافق للكتاب والآخر مخالف للكتاب ، يطرح الخبر المخالف للكتاب حتّى وان كان هذا الخبر المخالف للكتاب أرجح من الخبر الموافق للكتاب .

( بل نقول ) في دفع إشكال قلّة الوجود ، بل عدم الوجود ، المشترك الورود على المقبولة وغيرها : بأنّ ( ظاهر تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر بالترجيح

ص: 377

- ولو بقرينة لزوم قلّة المورد ، بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب ، مع كونه ظاهراً في نفيهما - أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لايعارضه خبر آخر ، وإن كان لو انفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب .

-----------------

بموافقة الكتاب ( ولو بقرينة لزوم قلّة المورد ، بل عدمه ) أي : عدم المورد ان لم نقل بشمولها للصورة الاُولى أيضا هو : تقدّم الخبر المعتضد بظاهر الكتاب على غيره .

( و ) كذا يكون ذلك هو الظاهر من تلك الأخبار ( بقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد ) من النصوص الصريحة ( في الجبر والتفويض ) ردّا وطرحا لها ( بمخالفة الكتاب ، مع كونه ) أي : الكتاب ( ظاهرا في نفيهما ) أي : في نفي الجبر والتفويض ، وليس نصّا في نفيهما ، بينما تلك الروايات نصّا في إثباتهما .

وعليه : فإنّ الظاهر من أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ولو بمعونة هذه القرائن المذكورة ينتج : (انّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه خبر آخر ، وان كان) ذلك الخبر الآخر أقوى دلالة من الكتاب ، بحيث ( لو إنفرد ) ذلك الخبر الآخر ولم يكن له هذا المعارض ( رُفِع اليد به ) أي : بسببه ( عن ظاهر الكتاب ) لفرض انّ ذلك الخبر الآخر نصّ والكتاب ظاهر .

والحاصل : انّه لو كان الخبر نصّا في شيء ، والكتاب ظاهر في ذلك الشيء ، لزم رفع اليد عن ظاهر الكتاب لذلك النصّ ، بينما لو كان خبران نصّان متعارضان ، وكان الكتاب موافقا لأحدهما ومخالفا للآخر ، أسقطنا ذلك النصّ المخالف للكتاب وأخذنا بالموافق له ، وذلك لأمرين :

ص: 378

وأمّا الاشكال المختصّ بالمقبولة : من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ،

-----------------

الأوّل : انّه لو إنحصر مورد الأخبار العلاجية ، الآمرة بالترجيح بموافقة الكتاب في الصورة الثالثة فقط ، فهي نادرة الوجود ، ولو أضفنا إليها الصورة الثانية فغير مفيد أيضا لأنّها معدومة الوجود ، فلابدّ من شمول تلك الأخبار للصورة الاُولى أيضا ممّا ينتج : إسقاط النصّ بسبب ظاهر الكتاب فيما إذا كان لذلك النصّ معارض كما هو فيما نحن فيه من تعارض الخبرين .

الثاني : انّه لمّا سئل من الإمام عليه السلام عن أخبار دالّة بالنصّ على انّ الانسان مجبور في أعماله ، سواء صلّى وصام ، أو انّه شرب الخمر - والعياذ باللّه - أو دالّة بالنصّ على انّ الانسان مفوّض إليه الأمر تفويضا تامّا بلا مدخليّة للّه سبحانه وتعالى في ذلك إطلاقا ؟ أجاب عليه السلام : بأنّ أخبار الجبر والتفويض مردودة لأنّها مخالفة لكتاب اللّه عزّوجلّ ، ومن المعلوم : انّ هذه الأخبار كما عرفت نصّ في الجبر والتفويض ، بينما الكتاب ظاهر في عدم الجبر والتفويض ، فذلك الردّ من الإمام عليه السلام يدلّ على أنّ النصّ الخبري ساقط بظهور الكتاب .

وعليه : فانّ هاتين القرينتين ، وهما : قرينة قلّة المورد أو عدمه ، وقرينة روايات الجبر أو التفويض ، تدلاّن على إسقاط النصّ الخبري بسبب الكتاب الظاهر في خلاف ذلك الخبر .

هذا تمام الكلام في دفع الاشكال المشترك الورود على المقبولة وغيرها من أخبار العلاج ، التي تقول بلزوم الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة .

( وامّا الاشكال المختص بالمقبولة : من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ) الذي أورده المصنّف آنفا بقوله : « إذا عرفت ما ذكرنا ،

ص: 379

فيندفع بما أشرنا إليه سابقاً من أنّ الترجيح بصفات الراوي فيها من حيث كونه حاكماً ، وأوّل المرجّحات الخبريّة فيه هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاُخرى ، ولا بُعد في تقديمه على موافقة الكتاب .

ثمّ إنّ حكم الدليل المستقل المعاضد لأحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنة في الصورة الاُولى ،

-----------------

علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجية على تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب كمقبولة ابن حنظلة » ( فيندفع بما أشرنا إليه سابقا : من انّ الترجيح بصفات الراوي فيها ) أي : في المقبولة ( من حيث كونه ) أي : كون الراوي ( حاكما ، و ) ليس من حيث كونه راويا .

وعليه : فانّه إذا كان الترجيح بصفات الراوي في المقبولة من حيث كون الراوي حاكما وقاضيا ، كان ( أوّل المرجّحات الخبرية فيه ) أي : في خبر المقبولة الذي تعرّضت له بالنسبة إلى الحاكم ( هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاُخرى ) المعارضة لها ( ولا بُعد في تقديمه ) أي : تقديم موافق الشهرة ( على موافقة الكتاب ) للتعليل الوارد في المقبولة نفسها :« بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) .

( ثمّ إنّ حكم الدليل المستقل ) غير الكتاب والسنّة كالإجماع - مثلاً - ( المعاضد لأحد الخبرين ) المتعارضين ( حكمه حكم الكتاب والسنّة في الصورة الاُولى ) من الصور الثلاث المذكورة في ملاحظة ظاهر الكتاب مع الخبر المخالف ، وهي هنا عبارة عن : كون الخبر المخالف لمعقد الاجماع - مثلاً -

ص: 380


1- - الكافي اصول :ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وأمّا في الصورتين الأخيرتين فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل المطابق له ، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير .

وأمّا القسم الثاني :

وهو مالا يكون معاضداً لأحد الخبرين ،

-----------------

لو خلّي عن معارضة الخبر المطابق للإجماع ، لقدّم على الاجماع ، لكون الخبر المخالف نصّا بالنسبة إلى ظاهر معقد الاجماع ومعلوم : انّ النصّ مقدّم على الظاهر ، والأظهر أيضا مقدّم على الظاهر ، وذلك لما عرفت : من لزوم الترجيح الدلالي وتقديمه على التراجيح العلاجية .

( وأمّا في الصورتين الأخيرتين ) أي : الثانية والثالثة ، وهما : صورة التباين ، وصورة العموم من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ( فالخبر المخالف له ) أي : للدليل المستقل كالإجماع - مثلاً - ( يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل ) المستقل ( المطابق له ) أي : للخبر الآخر معا ( والترجيح هنا بالتعاضد لا غير ) أي : إنّ الاجماع - مثلاً - يعضد الخبر الموافق له ، لا انّه يسقط الخبر المخالف له ، وذلك لأنّ الدليل الذي دلّ على طرح المخالف إنّما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ، والفرض انّ هذا الدليل الخارجي الموافق لأحدهما المخالف للآخر ليس بكتاب حتّى يطرح مخالفه به .

هذا كلّه تمام الكلام في القسم الأوّل من قسمي المرجّحات الخارجية المستقلّة بالإعتبار وهو : ما كان المرجّح معاضدا لمضمون أحد الخبرين المتعارضين .

( وامّا القسم الثاني ) من المرجّحات الخارجية المستقلّة بالإعتبار ( وهو ما لايكون معاضدا لأحد الخبرين ) المتعارضين بمعنى : انّه لا يفيد الظنّ بصحّة مضمون الخبر الموافق له وان كان المرجّح في نفسه معتبرا ، وذلك لأنّ هذا

ص: 381

فهي عدّة اُمور :

منها : الأصل ، بناءا على كون مضمونه حكم اللّه الظاهري ، إذ لو بني على إفادة الظنّ بحكم اللّه الواقعي كان من القسم الأوّل ، ولا فرق في ذلك بين الاُصول الثلاثة ، أعني : أصالة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب .

-----------------

المرجّح ليس في اُفق الأخبار ( فهي عدّة اُمور ) وقد تعرّض المصنّف لبيان جملة منها في مسائل ثلاث على النحو التالي :

المسألة الاُولى : في موافقة الأصل ، قال المصنّف : ( منها : الأصل ) أي : من تلك الامور المرتبطة بالقسم الثاني من المرحجات الخارجية التي لا تكون معاضدة لاحد الخبرين هو : الأصل العملي ، كما لو كان أحد الخبرين المتعارضين موافقا لأصل البرائة ، أو لأصل الاحتياط ، أو للإستصحاب ، والمعارض الآخر مخالفا لها ، وذلك ( بناءا على كون مضمونه ) أي : مضمون الأصل العملي ( حكم اللّه الظاهري ) بعد أن كان مضمون الأخبار هو حكم اللّه الواقعي .

وإنّما قال : بناءا على كون مضمون الأصل العملي هو حكم اللّه الظاهري ، لا الواقعي ( إذ لو بُني على إفادة ) الأصل العملي ( الظنّ بحكم اللّه الواقعي ) كما ذهب إليه بعض الاُصوليين حسب ما سبق في مباحث الاُصول ( كان من القسم الأوّل ) أي : كان من الأمارات والاُصول اللفظية لا الاُصول العملية التي هي محلّ بحثنا ، يعني : أصبح مثل موافقة الكتاب والسنّة وما أشبههما من المرجّحات الخارجية التي تكون معتبرةً من باب الظنّ النوعي ، لا من باب الأصل العملي .

هذا ( ولا فرق في ذلك ) أي : في كون الترجيح بهذا القسم من المرجّح الخارجي الذي لا يكون معاضدا لأحد الخبرين المتعارضين ( بين الاُصول الثلاثة أعني : أصالة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ) وامّا الأصل الرابع وهو :

ص: 382

لكن يشكل الترجيح بها ، من حيث إنّ مورد الاُصول ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق أو المخالف ، فلا مورد لها إلاّ بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ، والمفروض أنّ الأخبار المستفيضة دلّت على التخيير مع فقد المرجّح ، فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأساً ، فلابدّ من التزام عدم الترجيح بها ،

-----------------

التخيير ، فلا يكون موافقته لأحد الخبرين من المرجّحات ، فإذا كان هناك خبران دلّ أحدهما - مثلاً - على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة فيها وقلنا بالتخيير ، لا يكون التخيير مرجّحا لهذا ولا لذاك .

( لكن يُشكل الترجيح بها ) أي : بالاُصول الثلاثة المذكورة ( من حيث انّ مورد الاُصول ) العمليّة هو : ( ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق ) للأصل ( أو المخالف ) له ، وذلك على ما عرفت سابقا : من انّ الدليل حاكم على الاُصول العمليّة ، فإذا وجد الدليل سواء مخالفا أو موافقا ( فلا مورد لها ) أي : للاُصول العمليّة ( إلاّ بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ) أي : التساوي بين الخبرين المتعارضين من كلّ جهة ، فانّه بناءا على التساقط عند التكافؤ يكون الأصل حينئذ مرجعا لا مرجّحا .

هذا ( والمفروض ) انّا لا نقبل التساقط ، إذ ( انّ الأخبار المستفيضة دلّت على التخيير مع ) تكافؤ الخبرين و ( فقد المرجّح ) ومعه ( فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأسا ) أي : مطلقا : لا بنحو المرجعيّة ، ولا بنحو المرجّحية ، امّا انّه لا يكون مرجّحا ، فلأنّ الأصل لم يكن في اُفق الخبرين ، حتّى يكون مرجّحا لأحدهما على الآخر ، وامّا انّه لا يكون مرجعا ، فلأنّا نقول في المتكافئين بالتساقط أو بالتخيير وحينئذ ( فلابدّ من التزام عدم الترجيح بها ) أي :

ص: 383

وأنّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البرائة والاستصحاب في الكتب الاستدلالية ، من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعي بمطابقة الأصل ، وأمّا الاحتياط ،

-----------------

بالاُصول الثلاثة .

( و ) ان قلت : فلماذا نرى الفقهاء يرجّحون بالأصول ويجعلونه في عداد المرجّحات لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ؟ .

قلت : ( انّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البرائة والاستصحاب في الكتب الاستدلاليّة ، من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعي بمطابقة الأصل ) للواقع : فإذا طابق أصل الاستصحاب أحد الخبرين حصل الظنّ النوعي بكونه موافقا للواقع ، من باب : انّه لو ثبت لدام ، وإذا طابق أصل البرائة حصل الظنّ النوعي بكونه موافقا للواقع من باب : انّه لو كان لبان ، فيكون الأصل حينئذ حجّة من باب الظنّ النوعي .

وعليه : فإذا كان الأصل حجّة من باب الظنّ النوعي ، فانّه يكون حينئذ في اُفق الأخبار ، وإذا كان في اُفق الأخبار جاز ان يكون مرجّحا أو مرجعا ، وعلى كون الأصل حجّة من باب الظنّ النوعي بنى الفقهاء الترجيح به ، أو الرجوح إليه عند التكافؤ ، امّا إذا كان حجّة من باب التعبّد ، فلا يكون مرجّحا ولا مرجعا ، لإختلاف اُفق الأصل مع اُفق الأخبار حينئذ .

هذا هو ملخّص الكلام بالنسبة إلى ترجيح الفقهاء بأصالة البرائة والاستصحاب .

( وأمّا الاحتياط ) أي : ترجيح الفقهاء بأصل الاحتياط ، فحيث انّه لا يحصل من الاحتياط الظنّ النوعي بل ولا الظنّ الشخصي بكون الخبر المطابق للأصل

ص: 384

فلم يعلم منهم الاعتماد عليه ، إلاّ في مقام الاستناد لا في مقام الترجيح ، وقد يتوهّم أنّ ما دلّ على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دلّ على الاُصول الثلاثة ، فإنّ مورد الاستصحاب عدم اليقين ، بخلاف الحالة السابقة ،

-----------------

هو الموافق للواقع ( فلم يُعلم منهم الاعتماد عليه ، إلاّ في مقام الاستناد ) والمرجعية ( لا في مقام الترجيح ) فانّهم لا يرجّحون بالإحتياط أحد الخبرين على الآخر ، فيما إذا كان أحدهما موافقا للإحتياط والآخر على خلاف الاحتياط ، فإذا كان هناك - مثلاً - خبران : أحدهما يدلّ على حرمة التتن ، والآخر على حلّيته ، فانّهم لا يتمسّكون بالإحتياط ترجيحا لخبر الحرمة على خبر الحليّة ، بل يقولون بالتوقّف والرجوع إلى الاحتياط سواء وافق أحد الخبرين أم لا ؟ .

( وقد يتوهّم انّ ما دلّ على ترجيح التخيير ) من الأخبار العلاجية ( مع تكافؤ الخبرين ) من جميع الحيثيات ( معارض بما دلّ على الاُصول الثلاثة ) أي : انّ الدليل الدالّ على التخيير عند تعارض الخبرين وتكافئهما يقول بالتخيير ، والدليل الدالّ على الاُصول الثلاثة عند الشكّ يقول باجراء الأصل ، فيتعارضان فيما نحن فيه .

وإنّما يتعارضان فيما نحن فيه ، لأنّ الانسان عند تعارض الخبرين وتكافئهما يصبح شاكّا أيضا ، والشاكّ يلزم عليه أن يرجع إلى الحالة السابقة ان كانت ، وإلاّ فإلى البرائة أن كان الشكّ في التكليف ، أو الاحتياط ان كان الشكّ في المكلّف به ، وذلك كما قال : ( فانّ مورد الاستصحاب ) هو الشكّ ، أي : ( عدم اليقين ، بخلاف الحالة السابقة ) فيما ان كانت حالة سابقة ، وإلاّ فالبرائة أو الاحتياط ان كان الشكّ في التكليف أو المكلّف به ولم تكن حالة سابقة .

ص: 385

وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين .

ويندفع : بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ، فإنّ مؤدّاه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة ، والالتزام بارتفاعها .

-----------------

ثمّ قال المصنّف : ( وهو ) أي : الشكّ وعدم اليقين بخلاف الحالة السابقة فيما ان كانت حالة سابقة ، وان لم تكن فالشكّ في التكليف ، أو الشكّ في المكلّف به ( حاصل مع تكافؤ الخبرين ) أيضا إذ من جهة التكافؤ يقول الدليل بالتخيير ، ومن جهة الشكّ يقول الدليل باجراء الأصل ، فتتعارض أدلّة التخيير مع أدلّة الاُصول الثلاثة .

( ويندفع ) هذا الاشكال المتوهّم بوجوه ثلاثة كالتالي :

الوجه الأوّل لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ) وذلك لأنّ أصل التخيير في المسألة الاُصولية أصل سببي ، والاُصول الثلاثة الاُخرى في المسألة الفرعيّة أصل مسبّبي ، والسببي مقدّم على المسبّبي وحاكم عليه ، إذ بجريان السببي يرتفع الشكّ الذي هو موضوع المسبّبي ، ومعه فلا يبقى شكّ حتّى يجري شيء من الاُصول الاُخرى ، علما بأنّ معنى التخيير ليس هو مجرّد جواز العمل على طبق أحد الخبرين فقط ، بل معناه : تنزيل الخبر الذي وقع عليه التخيير منزلة الخبر السليم عن المعارض ، وكما انّ الخبر السليم عن المعارض دليل إجتهادي يرفع موضوع الاُصول العملية فكذلك المنزّل منزلته .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : ( فانّ مؤدّاه ) أي : مؤدّى ما دلّ على التخيير هو : ( جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة ، و ) جواز ( الالتزام بارتفاعها ) أي : بارتفاع الحالة السابقة ، وذلك فيما لو إختار الخبر

ص: 386

فكما أنّ ما دلّ على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب ، كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافيء لمعارضه حاكماً أيضا من غير فرق أصلاً ، مع أنّه لو فرض

-----------------

المخالف للحالة السابقة دون الموافق لها ، فانّه مع إختيار الخبر المخالف للحالة السابقة ، لم يبق مجال للإستصحاب ، لإرتفاع موضوع الاستصحاب الذي هو الشكّ بواسطة أدلّة التخيير ، لأنّه لا يكون هناك شكّ بعد ان أجاز الشارع العمل على خلاف الحالة السابقة .

وعليه : ( فكما انّ ما دلّ على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض ) أي : في حالة إنفراد الدليل في موردٍ مّا ، فهذا الدليل ( حاكم على دليل الاستصحاب ) فلا يكون مجال للإستصحاب فيما لو ورد من الشارع في مورد مّا خبر بلا معارض يأمر بالعمل على خلاف الحالة السابقة ، فانّه ( كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافيء لمعارضه ) أي : في حالة تعارض الخبرين فانّه يكون ( حاكما أيضا ) على دليل الاستصحاب .

وإنّما يكون هذا الدليل المذكور حاكما على الاستصحاب في الصورتين ، لأنّه لا فرق بين أن يقول الشارع في مورد سالم عن التعارض : اعمل على خلاف الحالة السابقة ، أو يقول في مورد التعارض : أنت مخيّر في أن تعمل على خلاف الحالة السابقة، فانّه في كلا الموردين لا يبقى مجال للإستصحاب ، وذلك (من غير فرق أصلاً ) بينهما .

الوجه الثاني لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( مع انّه لو فرض

ص: 387

التعارض المتوهّم كانت أخبار التخيير اولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموماً من وجه ؛ لأنها أقلّ مورداً ، فتعيّن تخصيص أدلّة الاُصول ، مع أنّ التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير من مواردها ، بل أكثرها ،

-----------------

التعارض المتوهّم ) بين ما دلّ على التخيير وبين ما دلّ على الاُصول الثلاثة ، حيث انّ أحدهما يقول - مثلاً - : خذ بالحالة السابقة ، والآخر يقول : أنت مخيّر في الأخذ وعدم الأخذ ، فانّه على فرض التعارض بينهما ( كانت أخبار التخيير أولى بالترجيح ) من أخبار الاُصول ( وان كانت النسبة ) بينهما ( عموما من وجه ) اذ على العموم من وجه وفي مادّة الاجتماع منه وهو : مورد موافقة أحد الخبرين للأصل ، يتعارض جريان التخيير مع جريان الأصل ، علما بأنّ مادّة الافتراق من جهة الأصل هو : مورد فقد النصّ ، وإجماله والشبهات الموضوعية ، بينما مادّة الافتراق من جهة أخبار التخيير هو : مورد تعارض الخبرين وتكافئهما فقط .

وإنّما كانت أخبار التخيير أولى بالترجيح من أخبار الاُصول على فرض التعارض بينهما ، ولو في مادّة الاجتماع بالنسبة إلى العموم من وجه ( لأنّها ) أي : اخبار التخيير ( أقلّ موردا ) من اخبار الاُصول ، إذ قد عرفت انّ مورد الأصل هو فقد النصّ ، واجماله ، والشبهات الموضوعيّة ، بينما مورد التخيير هو تعارض الخبرين المتكافئين فقط ، وهو أقلّ موردا ، وإذا كان أقلّ موردا ( فتعيّن تخصيص أدلّة الاُصول ) باخبار التخيير .

هذا ( مع انّ التخصيص في أخبار التخيير ) بأدلّة الاُصول ( يوجب اخراج كثير من مواردها ، بل أكثرها ) لوضوح : انّ في أكثر موارد المتكافئين يكون أحدهما مطابقا لأحد الاُصول العملية ، فإذا أردنا تخصيص اخبار التخيير بأدلّة

ص: 388

بخلاف تخصيص أدلّة الاُصول ، مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاُصول ، مثل مكاتبة عبد اللّه بن محمد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل .

ومكاتبة الحِميري المرويّة في الاحتجاج

-----------------

الاُصول كان تخصيصا للأكثر ( بخلاف ) ما إذا أردنا ( تخصيص أدلّة الاُصول ) باخبار التخيير فهو تخصيص للأقل ، وقد تقرّر في مبحث التخصيص انّه إذا دار الأمر بين تخصيصين أحدهما أكثر ، والآخر أقلّ ، قدّم الأقل .

والحاصل : انّ قلّة المورد من جهة ، ولزوم إخراج الأكثر من جهة اُخرى ، يوجب أرجحية تقديم أخبار التخيير على أدلّة الاُصول ، فإذا دار الأمر بينهما قدّمنا أخبار التخيير على أدلّة الاُصول .

الوجه الثالث لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاُصول ) ممّا يدلّ على حكومة أخبار التخيير على أدلّة الاُصول ، وذلك ( مثل : مكاتبة عبداللّه بن محمّد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل ) فانّه كتب إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يسأله عن إختلاف الأصحاب في رواياتهم عن الإمام الصادق عليه السلام في ركعتي الصبح في السفر حيث روى بعضهم : أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : أن لا تصلّهما إلاّ على الأرض ؟ فوقّع عليه السلام : « موسّع عليك بأيّه عملت » (1) فانّ الإمام عليه السلام طرح أصل الاحتياط الذي يقتضي صلاتهما على الأرض ، وقدّم التخيير عليه .

( و ) مثل ( مكاتبة الحِميري المرويّة في الاحتجاج ) الكتاب المعروف

ص: 389


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33377 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص228 ب13 ح90و91 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح16 .

الواردة في التكبير في كلّ انتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة .

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجيّة المخالف ، والعمل بالمخالف

-----------------

للشيخ الطبرسي رحمه الله ( الواردة في التكبير في كلّ إنتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة ) فانّه كتب إلى الإمام المنتظر صاحب العصر والزمان عجّل اللّه تعالى فرجه يسأله عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر أو يجوز أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد ؟ فخرج الجواب : « انّ فيه حديثين : أمّا أحدهما : فانّه إذا إنتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر : فانّه روي : انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك في التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » (1) فانّ الإمام عليه السلام خيّر بين الأمرين ، مع انّ المورد من موارد جريان أصل الاحتياط .

( وممّا ذكرنا ) في وجه عدم كون شيء من الاُصول العمليّة مرجّحا ، ولا مرجعا في المتكافئين ( ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه ) من العلماء ( في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من ) الخبرين المتكافئين حيث ( انّ العمل بالموافق ) أي : بالخبر الموافق للأصل ( موجب للتخصيص فيما دلّ على حجّية المخالف ) للأصل فقط ، فيكون هنا تخصيص واحد .

هذا ( و ) لكن ليس كذلك ( العمل بالمخالف ) للأصل ، فانّ العمل

ص: 390


1- - الاحتجاج : ص483 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 ، الغيبة للطوسي : ص378 .

مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجّيّة الموافق ، وتخصيص الآخر فيما دلّ على حجّيّة الاصول .

وأنّ الخبر الموافق يفيد ظنّاً بالحكم الواقعي ، والعمل بالأصل يفيد الظنّ بالحكم الظاهري ، فيتقوّى به

-----------------

به ( مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجيّة الموافق ، وتخصيص الآخر فيما دلّ على حجيّة الاُصول ) فهنا تخصيصان ، والتخصيص الواحد خير من التخصيصين .

مثلاً : لو عمل بالخبر الذي يقول بحلّيّة التتن وهو الموافق للأصل ، فانّه يخصّص به دليل حجيّة الخبر المخالف للأصل الذي يقول بحرمة التتن فقط ، بينما لو عمل بالخبر الذي يقول بحرمة التتن ، فانّه يخصّص به دليل حجيّة الخبر الذي يقول بحلّية التتن ، ودليل حجيّة الأخبار التي تقول بأصالة الحلّ والبرائة ، ومن المعلوم : انّ قلّة التخصيص أولى ، فيلزم تقديم الموافق للأصل والعمل به .

وإنّما ظهر فساد هذا الوجه الذي ذكره بعض المعاصرين في تقديم الخبر الموافق للأصل لما ذكرناه : من انّ الأصل ليس في اُفق الأخبار ، وإذا لم يكونا في اُفق واحد ، فدليل حجيّة الأصل لا يشمل مورد وجود الخبر حتّى يلزم تخصيصها به ، فيكون هنا تخصيص واحد فقط على كلّ تقدير ، لا تخصيص واحد في قِبال تخصيصين ، حتّى يقدّم التخصّص الواحد على التخصيصين .

كما ظهر أيضا فساد غيره ممّا أشار إليه المصنّف في كلامه السابق عند قوله : «وامّا معقد الاجماعات » ( و ) هو : ( انّ الخبر الموافق ) للأصل كخبر الحلّ - مثلاً - ( يفيد ظنّا بالحكم الواقعي ، والعمل بالأصل ) مثل أصل الحلّ والبرائة ( يفيد الظنّ بالحكم الظاهري ، فيتقوّى به ) أي يتقوّى بسبب الظنّ بالحكم

ص: 391

الخبر الموافق ، وأنّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليماً عن المعارض .

بقي هنا شيء : وهو أنّهم اختلفوا في تقديم المقرّر وهو الموافق للأصل ، على الناقل وهو الخبر المخالف له .

-----------------

الظاهري ( الخبر الموافق ) للأصل الدالّ على الحكم الواقعي ، فانّ هذا الاستدلال فاسد أيضا ، لما عرفت من إختلاف الاُفق ، فلا يكون الدليل الواقعي مرجّحا للدليل الظاهري ، ولا الدليل الظاهري مرجّحا للدليل الواقعي .

( و ) كذلك ظهر أيضا فساد ما مرّ ذكره : من ( انّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليما عن المعارض ) ممّا يكون هذا مرجّحا للخبر الموافق للأصل ، ووجه فساده هو ما سبق : من انّ أخبار التخيير تقول في صورة تكافؤ الخبرين بالتخيير لا بالتساقط ، وعلى تقدير التساقط يكون الأصل مرجعا لا مرجّحا .

المسألة الثانية في الناقل والمقرّر ، قال المصنّف : ( بقي هنا شيء : وهو ) البحث في الناقل والمقرّر ، فانّه قد يتوهّم إختلاف كلمات العلماء بالنسبة إليهما ، إذ ربّما قالوا بتقديم الناقل على المقرّر ، ومعناه : الأخذ بخلاف الأصل ، وربّما قالوا بتقديم المقرّر على الناقل ومعناه : الأخذ بموافق الأصل ، وذلك حيث انّهم - مثلاً - حكموا تارةً في الاُصول بتقديم الناقل ، وحكموا اُخرى في الفقه بتقديم المقرّر ، وهو تهافت بين الكلامين ، فأراد المصنّف في هذا البحث رفع الاشكال عنهم بالجمع بين كلماتهم فقال ما يلي :

( انّهم اختلفوا في تقديم المقرّر وهو الموافق للأصل ، على الناقل وهو الخبر المخالف له ) أي : للأصل ، فإذا كان هناك خبران متعارضان دلّ أحدهما

ص: 392

والأكثر من الاُصوليين ، منهم العلاّمة قدس سره ، وغيره ، على تقديم الناقل ، بل حكي هذا القول عن جمهور الاُصوليين ، معلّلين ذلك بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولايستغني عنه بحكم العقل ، مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل .

-----------------

على حرمة التتن - مثلاً - والآخر على حلّيته ، فأيّهما يقدّم ؟ علما بأنّ الأصل : الحلّية ، فهل يقدّم الموافق للأصل وهو المقرّر ، أو يقدّم المخالف للأصل وهو الناقل ؟ إختلفوا في ذلك ، فقال بتقديم المقرّر الموافق للأصل بعض الاُصوليين ( والأكثر من الاُصوليين ، منهم العلاّمة قدس سره ، وغيره ، على تقديم الناقل ) وهو المخالف للأصل ، فيلزم في مثالنا تقديم التحريم وعدم التدخين .

( بل حكي هذا القول ) الذي هو تقديم الناقل على المقرّر ( عن جمهور الاُصوليين ، معلّلين ذلك ) أي : علّلوا وجه تقديم الناقل على المقرّر : ( بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع : الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغني عنه بحكم العقل ) ومن المعلوم : انّ المحتاج إلى البيان في الشبهة الوجوبية هو الوجوب ، وفي الشبهة التحريميّة هو التحريم ، امّا ما يقرّر الأصل من عدم الوجوب وعدم التحريم ، فلا يحتاج إلى بيان الشارع ، لأنّ العقل يدلّ على البرائة فيما لا بيان فيه .

هذا هو ما حكي عن جمهور الاُصوليين في الكتب الاُصولية ، ثمّ أشكل المصنّف عليه بقوله : ( مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب ) الفقهيّة أي : ( الاستدلالية الفرعيّة : الترجيح بالإعتضاد بالأصل ) وذلك بتقديم المقرّر على الناقل ، وهذا من التدافع بين اُصولهم وفقههم ، حيث انّه أسّسوا في الاُصول تقديم الناقل على المقرّر ، وفي الفقه قدّموا المقرّر على الناقل .

ص: 393

لكن لايحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي ، فلابدّ من التتبّع .

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمناً للإباحة ، والآخر مفيداً للحظر ، فإنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه مالا يبلغ حدّ الوجوب ،

-----------------

ثمّ قال المصنّف : ( لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي ) أي : للبرائة العقليّة - مثلاً - ( فلابدّ من التتبّع ) للعثور على موارده ، فانّ موارده ما يكون الشكّ في الوجوب أو الحرمة ناشئا فيها من باب تعارض النصّين ، لا من باب فقد النصّ ، أو إجمال النصّ ، فانّ الأغلب كونه من هذا الباب ، ونادرا ما يكون من باب تعارض النصّين ، ولذا يكون مثاله نادرا ، كما انّ أغلب موارد التعارض هو في باب الشرائط والأجزاء والموانع والقواطع وما أشبه ذلك ، ونادرا ما يكون في باب الوجوب أو الحرمة .

( ومن ذلك ) أي : من موارد تقديم الناقل على المقرّر كمثال كلّي للمشهور هو: ( كون أحد الخبرين متضمّنا للإباحة ، والآخر مفيدا للحَظر ) حيث إنّ خبر الاباحة موافق للمقرّر ، وخبر الحظر موافق للناقل ( فانّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ) وذلك لأنّ المشهور يرون كلّ حاظر ناقل ، وكلّ مبيح مقرّر ، وهو أيضا ما تقدّم : من انّ عليه أكثر الاُصوليين ، ومنهم العلاّمة وغيره ( بل يظهر من المحكي عن بعضهم ) كالفاضل الجواد ( عدم الخلاف فيه ) أي : في تقديم الحاظر على المبيح .

هذا ( وذكروا في وجهه ) أي : في وجه تقديم الحاظر على المبيح دليلاً غير إلزامي وهو : ( ما لا يبلغ حدّ الوجوب ) بل ما يستحسن معه تقديم الحاظر

ص: 394

ككونه متيقّناً في العمل ، استناداً إلى قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « دع ما يُريبُك إلى مالا يُريبك » ، وقوله : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرامُ الحلال » .

وفيه : أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الاباحة ؛

-----------------

على المبيح ( ككونه متيقّنا في العمل ) من باب انّه إذا أخذ بدليل الحرمة كان إحتياطا ، بينما إذا أخذ بدليل الاباحة كان إقداما على ما ربّما لا يحمد عقباه .

وإنّما قدّموا الحاظر على المبيح ( إستنادا إلى قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) ) حيث انّ الأخذ بالإحتياط وترك الأمر المشكوك لا يريب الانسان ، لأنّ منتهى الأمر انّه كان مباحا وقد تركه ، بينما إذا أخذ بالإباحة يكون مريبا للإنسان ، لأنّ من المحتمل أن يكون حراما وقد إرتكبه .

( و ) كذا إستنادا إلى ( قوله ) عليه السلام : ( « ما إجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرامُ الحلالَ » (2) ) وذلك بناءا على تعدّي هذه الجملة إلى ما نحن فيه من تعارض الخبرين ، إذ ظاهر هذه الرواية هو أن يكون هناك شيئان : أحدهما حلال ، والآخر حرام ، وقد اشتبها في شبهة محصورة .

( وفيه : ) انّ إطلاق ترجيح الحرام على الحلال ، لأنّه - كما إستدللتم عليه - المتيقّن في العمل بحسب الروايتين ، غير تامّ ، إذ مضافا إلى انّهما إرشاديان لا يفيدان الوجوب ( انّه لو تمّ هذا الترجيح ) وهو : ترجيح الحرام على الحلال على إطلاقه ( لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الاباحة )

ص: 395


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ب12 ص167 ح33506 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .

لأن وجود الخبرين لامدخل له في هذا الترجيح .

فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور تقديم الاباحة على الحظر .

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس سره في العدّة : من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الأشياء الاباحة ، أو الحظر ، أو التوقف .

-----------------

مطلقا ، سواء كان من تعارض النصّين ، أم من إجمال النصّ ، أم من فقد النصّ .

وإنّما يلزم من إطلاق هذا الترجيح الحكم بأصالة الحرمة في الأشياء ( لأنّ وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح ) أي : ترجيح الحرام على الحلال ( فانّه ) أي : الوجه المذكور : من انّه المتيقّن في العمل ، المستفاد من الروايتين الآنفتين حسب إستدلالكم على تقديم الحضر ، يشمل التعارض وغير التعارض ، لأنّه ( من مرجّحات أحد الاحتمالين ) مطلقا سواء وُجد دليل معارض أم لم يوجد ( مع انّ المشهور ) في غير المتعارضين من صورة فقد النصّ ، وصورة إجمال النصّ هو : ( تقديم الاباحة على الحظر ) .

وعليه : فانّه لو كان ترجيح الحظر واجبا ، لزم ترجيح إحتمال الحرمة مطلقا في جميع الموارد ، ومن الواضح : انّ التالي وهو : لزوم ترجيح إحتمال الحرمة في جميع الموارد ، حتّى في مورد إجمال النصّ وفقده باطل ، لأنّ المشهور في صورة إجمال النصّ وفقده يقولون بالبرائة ، فالمقدّم وهو عبارة عن لزوم تقديم الحظر على الاباحة باطل مثله .

إذن : ( فالمتّجه ) في صورة دوران الأمر بين الحظر والاباحة هو : ( ما ذكره الشيخ قدس سره في العدّة : من إبتناء المسألة على انّ الأصل في الأشياء الاباحة ، أو الحظر ، أو التوقّف ) أي : انّ المسألة تختلف بإختلاف المبنى ، فمن كان مبناه

ص: 396

حيث قال : « وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمن الحظر ، والآخر الاباحة ، والأخذ بما يقتضي الحظر أو الاباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأن الحظر والاباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع ،

-----------------

في الشبهة التحريميّة : أصالة الاباحة عقلاً قال بترجيح المبيح ، ومن كان مبناه : أصالة الحظر قال بترجيح الحاظر ، ومن كان مبناه في تلك المسألة : التوقّف لا يقول بترجيح أحدهما ، بل يتوقّف ويحتاط أو يتخيّر بين الفعل والترك .

هذا ، ومن المعلوم : انّ المصنّف إنّما أراد أن يتعرّض لذكر كلام الشيخ هنا لأنّه يريد من ذكر كلام الشيخ أن يردّ به على ما حكي من قول المشهور بتقديم الحاظر، فانّ شيخ الطائفة تعرّض لهم في كتابه العدّة ( حيث قال : وامّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث انّ أحدهما يتضمّن الحظر ، والآخر الاباحة ، و ) ما يستلزم هذا الترجيح من ( الأخذ بما يقتضي الحظر ) وهو تقديم الناقل ( أو الاباحة ) وهو تقديم المقرّر ، فانّه إنّما يمكن المصير إليه على مبنى أصالة الحظر ، أو أصالة الاباحة ، لا على مبنى التوقّف في فرض دوران المسألة بين الحظر والاباحة .

إذن : ( فلا يمكن الاعتماد عليه ) أي : على ترجيح الناقل أو المقرّر ( على ما نذهب إليه من الوقف ) عقلاً الذي هو أمر ثالث ليس بحظر ولا إباحة ، وذلك ( لأنّ الحظر والاباحة جميعا ) بالنسبة إلى موردي فقد النصّ وإجمال النصّ دون تعارض النصّين ( عندنا مستفادان من الشرع ) فالشرع هو الحاكم بإباحة المباحات وحظر المحرّمات عند فقد النصّ أو إجماله ، بينما عند تعارض النصّين

ص: 397

ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا الوقف بينهما جميعاً أو يكون الانسان مخيّراً في العمل بأيّهما شاء » ، انتهى .

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بالاحتياط من الخبرين

-----------------

لا يستفاد حكم بترجيح الحاظر أو المبيح من الشرع ( و ) حيث انّه لا يستفاد من الشرع حكم بترجيح الحاظر أو المبيح بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين وان تضمّن أحد الخبرين الحظر ، والآخر الاباحة ( لا ترجيح بذلك ) أي : لا ترجيح لأحد الخبرين على الآخر بمجرّد تضمّن أحدهما الحظر ، والآخر الاباحة ، فانّ مجرّد تضمّنهما ذلك لا يكون مسوّغا لأن نأخذ بالإباحة أو بالحظر إستنادا إلى الشرع .

( و ) عليه : فانّه ( ينبغي لنا ) عند تعارض النصّين وتكافئهما من كلّ جهة أحد أمرين : امّا ( الوقف بينهما ) أي : بين الخبرين ( جميعا ) والعمل بالاحتياط ، حيث انّ الوقف مقتضٍ للإحتياط ، وامّا التخيير بينهما كما قال : ( أو يكون الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ) (1) من الخبرين ، فيعمل بخبر الحظر أو بخبر الاباحة ، وذلك للروايات العلاجية الدالّة على التخيير .

( انتهى ) كلام شيخ الطائفة ممّا يدلّ على انّه ليس في المسألة وجهان فقط : حظر وإباحة ، بل هناك وجه ثالث أيضا وهو : التوقّف أو التخيير .

ثمّ قال المصنّف : ( ويمكن الاستدلال ) هنا ( لترجيح الحظر ) على الاباحة ( بما دلّ ) من روايات العلاج ( على وجوب الأخذ بالإحتياط من الخبرين ) وذلك كما في مرفوعة زرُارة حيث قال فيها عليه السلام : « خذ بما وافق منهما

ص: 398


1- - عدة الاصول : ص62 .

وإرجاع ما ذكروه من الدليل الى ذلك .

فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلاّ أنّه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين .

وما ذكره الشيخ

-----------------

الاحتياط » (1) ولعلّ وجه تعبير المصنّف هنا : « ويمكن » هو التأدّب أمام المشهور وأمام الشيخ ، أو انّه في مقابل قول صاحب الحدائق الذي طعن في سند الرواية بالضعف .

( و ) كيف كان : فانّه إذا استدللنا - للمشهور - على ترجيح الحظر بروايات العلاج ، أمكن عندها ( إرجاع ما ذكروه من الدليل ) على تقديم الحاظر وهو : كون الحظر متيقّنا في العمل ( إلى ذلك ) أي : إلى ما ذكرناه وهو : انّ الحظر مطابق للاحتياط ، ومطابقة الاحتياط من المرجّحات المنصوصة في فرض دوران الأمر بين المتعارضين ، وذلك على ما قد عرفت : من انّ المرفوعة أمرت بالأخذ بما يوافق الاحتياط .

إذن : ( فالإحتياط وان لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ) في موردي فقد النصّ وإجماله ، لأنّ مقتضى القاعدة فيهما جريان البرائة ( إلاّ انّه يجب الترجيح به ) أي : بالاحتياط ( عند تعارض الخبرين ) وذلك لمرفوعة زرارة ، امّا في صورة فقد النصّ ، أو إجمال النصّ ، فالمرجع البرائة .

هذا ( وما ذكره الشيخ ) الطوسي قدس سره : من عدم إمكان الاعتماد على ترجيح المبيح وهو المقرّر ، أو الحاظر وهو الناقل ، على ما يذهب إليه هو من الوقف

ص: 399


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين ، مع أنّ ما ذكره : من استفادة الحظر أو الاباحة من الشرع لاينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الاباحة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهيٌ » ،

-----------------

عقلاً ، فغير تامّ لوجوه ثلاثة كالتالي :

الأوّل : إنّ عدم إمكان الاعتماد على ترجيح أحدهما ( إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ) فحيث انّه لا أصل هنا بنظره حتّى يعيّن الاباحة أو الحظر ، فلا يمكن الاعتماد عليه ( لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين ) كما في مرفوعة زرارة القائلة : « خذ بما وافق منهما الاحتياط » (1) فانّه وان لم يمكن للشيخ الاعتماد على أصل يعيّن الحاظر أو المبيح ، لكن يمكنه ترجيح الحاظر على المبيح لمكان مرفوعة زرارة .

الثاني : ( مع انّ ما ذكره : من إستفادة الحظر أو الاباحة من الشرع ) في موردي : فقد النصّ ، وإجمال النصّ ( لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع ) من الروايات ( على ) البرائة الشرعيّة ليكون الأصل الشرعي - لا العقلي - مبنى ( أصالة الاباحة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهيٌ » (2) ) أو قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3) أو ما أشبه ذلك من أدلّة البرائة الشرعيّة .

ص: 400


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

أو على أصالة الحظر مثل قوله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك » ، مع أنّ مقتضى التوقف على ما اختاره لمّا كان وجوب

-----------------

( أو ) بما دلّ من الشرع من الروايات ( على ) الاحتياط الشرعي ليكون الأصل الشرعي - لا العقلي - مبنى (أصالة الحظر مثل قوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(1) ومثل : « ما إجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال » (2) إلى غيرهما من أدلّة الاحتياط الشرعي .

وعليه : فيكون ترجيح أحد الخبرين المتكافئين على الآخر بالدليل الشرعي ، وهو يتوافق مع فرض التوقّف عقلاً وإنتظار وصول البيان من الشارع ، وذلك لأنّ الشارع قد يُصدر بيانه على نحو الحكم الواقعي ، كما إذا قال - مثلاً - : الماء مباح ، والفقاع حرام ، وقد يُصدر بيانه على نحو الحكم الظاهري مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (3) وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فإذا تعارض دليلا الاباحة والحرمة الواقعيين في شيء ، فمن كان مبناه أصالة الاباحة الشرعيّة رجّح الخبر المبيح ، ومن كان مبناه أصالة الحظر شرعا رجّح خبر الحرمة ، ولا مانع من ذلك ، فلا تصل النوبة إلى التوقّف .

الثالث : ( مع انّ مقتضى التوقّف على ما اختاره ) الشيخ ( لمّا كان وجوب

ص: 401


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ،الذكرى : ص138 ، الغارات : 135 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 ، السنن الكبرى : ج1 ص275 .
3- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

الكفّ عن الفعل ، على ما صرّح هو به وغيره ، كان الّلازم - بناءا على التوقف - العمل بما يقتضيه الحظر .

ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقف جرى مثله على القول بأصالة الحظر ،

-----------------

الكفّ عن الفعل ) بأن يترك - مثلاً - الشيء المحتمل الحرمة تركا إحتياطيا ( على ما صرّح ) الشيخ ( هو به وغيره ، كان اللازم - بناءا على التوقّف - : العمل بما يقتضيه الحظر ) من الاجتناب ؛ فالتوقّف الذي ذهب إليه الشيخ ، وأصالة الحظر ، إذن متحدان في النتيجة ، إذ نتيجة كلّ منهما : إجتناب الشيء المشكوك الحرمة ، وإنّما الفارق هو : انّ أصالة الحظر تفيد الحرمة ، وأصالة التوقّف تفيد الاحتياط ، فقول الشيخ : « وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا » لا ينافي أصالة الحظر .

إن قلت : انّ للشيخ أن يقول : إنّما يتوقّف العقل ويحكم بالإحتياط فيما لم يكن دليل من الشرع على الاباحة ، وأدلّة التخيير بين المتعارضين تقول بأنّ الخبر المختار دليل ، ومعه لا إحتياط عقلي ليرجّح به الحظر .

قلت : ( ولو ادّعي ) الشيخ ( ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقّف ) ليرفع بادّعائه هذا حكم العقل بالإحتياط ، فلا إحتياط عقلي حتّى يرجّح به الحظر، نقضنا عليه : بانّه ( جرى مثله ) أي : جرى مثل ذلك الادّعاء وهو : ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه الحظر ( على القول بأصالة الحظر ) أيضا .

وعليه : فانّه كما يرد اخبار التخيير على الاحتياط فينفي الاحتياط حسب ادّعائكم ، فكذلك يرد اخبار التخيير على أصالة الحظر فينفي الحظر ، فكيف بنيتم أيّها الشيخ مسألة تقديم الناقل أو المقرّر في المتعارضين على قول من يذهب إلى انّ الأصل في الأشياء الاباحة أو الحظر ، لا على ما تذهبون إليه أيّها الشيخ

ص: 402

ثمّ إنه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقدّم المقرّر على الناقل و إن حكي عن الأكثر تقدّم الناقل و عدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح .

ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاُولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ، ولذا

-----------------

من الاحتياط نتيجة القول بالوقف ؟ فانّ ما تقولونه هناك نقول به هنا .

( ثمّ إنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقديم المقرر على الناقل ) أو تقدّم الناقل على المقرّر ( وإن حكي عن الأكثر تقدّم الناقل و ) رجحانه على المقرّر ، وبين ( عدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح ) مع انّ مسألة المقرّر والناقل هي بعينها مسألة الحاظر والمبيح ، فالناقل هو الحاظر ، والمقرّر هو المبيح ، ومعه فكيف يعقل ان يكون في إحدى المسألتين المتحدتين وفاق ، وفي المسألة الاُخرى خلاف ؟ فلابدّ أن يكون أحد النقلين خلاف الواقع ، أمّا نقل الخلاف في المسألة الاُولى : المقرّر والناقل ، وامّا نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية : المبيح والحاظر .

هذا ( ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاُولى ) وهي : مسألة الناقل والمقرّر ( بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ) دون دوران الأمر بين الحرمة وعدمها ، ومعه فليس مسألة الناقل والمقرّر عامّة للشبهة الوجوبية والتحريميّة معا، بل هي مختّصة بالشبهة الوجوبية ، وتكون مسألة المبيح والحاظر حينئذ مختصة بالشبهة التحريميّة ، وحيث انّهم اختلفوا في حكم الشبهتين نتج من خلافهم فيهما الخلاف في المسألتين .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه من إمكان الفرق بتخصيص مسألة الناقل

ص: 403

يرجّح بعضهم الوجوب على الاباحة و الندب لأجل الاحتياط .

لكنّ فيه مع جريان بعض أدلّة تقدّم الحظر فيها إطلاقُ كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ،

-----------------

والمقرّر بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه دون الحرمة وعدمها ، نرى انّه ( يرجّح بعضهم ) كصاحب الحدائق ( الوجوب على الاباحة والندب ) معا ، فإذا دار الأمر في غسل الجمعة بين كونه واجبا أو مندوبا رجّح هذا البعض وجوبه ( لأجل الاحتياط ) المستفاد من الأمر بالتوقّف في مطلق الشبهة ، وحينئذ فيخرج دوران الأمر بين الحظر والاباحة من مسألة الناقل والمقرّر .

( لكنّ فيه ) أي : في الفرق المذكور : انّه ( مع جريان بعض أدلّة تقدّم الحظر فيها ) أي : جريان أدلّة المسألة الثانية في المسألة الاُولى التي هي مسألة الناقل والمقرّر أيضا ، مثل : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) وغيره ، انّه يرد عليه أيضا : ( إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ) فانّ كلماتهم غير ظاهرة في تخصيص مسألة الناقل والمقرّر بالشبهة الوجوبية ، بل إطلاق كلامهم يعمّ المسألتين معا ، ممّا يدلّ على انّهما متحدتان .

والحاصل : انّ هذا الفرق مخدوش من وجهين :

الوجه الأوّل : انّ ظاهر إطلاق كلام المشهور في مسألة المقرّر والناقل يعمّ الشبهتين : الوجوبية والتحريميّة .

الوجه الثاني : انّ إشتراك أكثر أدلّة المسألتين المفيدة لإعتبارهما ظاهر في

ص: 404


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ،الذكرى : ص138 ، الغارات : 135 .

ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين تقديم الاباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل ، الذي اختاره في تلك المسألة .

هذا ، مع أنّ دعوى الاتفاق على تقديم الحظر غير ثابت ، و إن ادّعاه بعضهم .

والتحقيق هو ذهاب الأكثر ،

-----------------

شمول كلّ منهما للشبهتين معا ، ممّا لا يدّع مجالاً للقول بالفرق المذكور بينهما .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من بطلان الفرق ، وظهور وحدة المسألتين ( إختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين ) وهو : السيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح ( تقديم الاباحة على الحظر ) وذلك ( لرجوعه ) أي : رجوع تقديم الاباحة على الحظر ( إلى تقديم المقرّر على الناقل ، الذي إختاره في تلك المسألة ) أي : مسألة تقديم المقرّر على الناقل ، فانّه اختارها كمبنى له ، فالسيّد المجاهد إذن قد إختار تقديم المقرّر على الناقل مبنى له ، ثمّ بنى وفرّع عليه تقديم المبيح على الحاظر ، ممّا يدلّ على وحدة المسألتين .

( هذا ، مع أنّ دعوى الاتّفاق على تقديم الحظر ) وترجيحه على الاباحة التي هي المسألة الثانية ، حيث نقلنا حكاية عدم الخلاف فيها ( غير ثابت ، وإن ادّعاه بعضهم ) فانّ هذه الدعوى من البعض إذن غير تامّة ، وهو ما أشرنا إليه آنفا عند قول المصنّف : « ثمّ انّه يشكل الفرق . . . » حيث قلنا هناك : بأنّ أحد النقلين خلاف الواقع ، امّا نقل الخلاف في المسألة الاُولى : المقرّر والناقل ، وامّا نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية : المبيح والحاظر ، فإذا كان نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية غير تامّ ، توافق النقلان وتأيّد بهما وحدة المسألتين .

( و ) كيف كان : فانّ ( التحقيق هو ذهاب الأكثر ) إلى تقديم الحظر

ص: 405

وقد ذهبوا إلى تقدّم الناقل أيضاً في المسألة الاُولى .

بل حُكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل .

ومن جملة هذه المرجّحات تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ، واستدلّوا عليه بما ذكرناه مفصلاً في مسألة أصالة البرائة عند تعارض احتماليّ

-----------------

على الاباحة في المسألة الثانية ، كما ( وقد ذهبوا ) أي : ذهب الأكثر ( إلى تقدّم الناقل ) على المقرّر ( أيضا في المسألة الاُولى ) ممّا ينبيء عن انّ المسألتين متحدتان ، وحكمهما أيضا متحد ، وإنّما حدث الاختلاف من التعبير في العبارة ، فبعضهم عبّر بالناقل والمقرّر ، وبعضهم عبّر بالحظر والاباحة .

( بل حكي عن بعضهم ) عكس ما حكيناه عن بعض سادة مشايخنا من تفريع تقديم المبيح على تقديم المقرّر ، وعكسه يعني : ( تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل ) فانّ هذا البعض قال في مسألة الناقل والمقرّر بتقديم الناقل كمبنى له ، ثمّ بنى وفرّع عليه في مسألة الحظر والاباحة تقديم الحاظر ، وما هذا التعاكس في المبنيين إلاّ لوحدة المسألتين على ما عرفت .

المسألة الثالثة : في تقديم دليل الحرمة ، قال المصنّف : ( ومن جملة هذه المرجّحات ) أي : من جملة المرجّحات الخارجية المرتبطة بالقسم الثاني ، وهي التي لا تعضد أحد الخبرين مع كونها مستقلّة بالإعتبار حتّى ولو لم يكن في المورد خبر ، هو : ( تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ) كما إذا ورد خبر يقول بوجوب صلاة الجمعة ، وخبر آخر يقول بحرمتها .

( واستدلّوا عليه ) أي : على تقديم دليل الحرمة ( بما ذكرناه مفصّلاً في مسألة أصالة البرائة عند ) الدوران بين المحذورين ، أي : عند ( تعارض إحتماليّ :

ص: 406

الوجوب والتحريم .

والحقّ هنا التخيير ، وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأن المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار - على وجه لايرتاب فيه - هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصاً مع عدم التمكّن

-----------------

الوجوب والتحريم ) فانّ المصنّف ذكر هناك أدلّتهم بوجوهها الخمسة : مثل غلبة تقديم الشارع جانب الحرمة ، ومثل أولوية دفع المفسدة ، وما أشبه ذلك ، وأجاب عنها جميعا هناك ، ثمّ قال : ( والحقّ هنا ) في باب تعارض الخبرين إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة هو : ( التخيير ، وان لم نقل به ) أي : بالتخيير ( في الاحتمالين ) المجرّدين عن الخبر كما في موردي : فقد النصّ ، وإجماله .

وإنّما نقول هنا بالتخيير ( لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار ) إستفادة ( على وجه لا يُرتاب فيه ) أبدا ( هو : لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه ) وجه الدلالة ، ووجه الصدور ، ووجه جهة الصدور ( التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ) لا التي لا مدخل لها في رجحان أحدهما ، فانّ الخبرين إذا تساويا معا وتكافئا من جميع الوجوه بحيث لم ينفرد أحدهما بوجود مرجّح فيه مفقود في الآخر ، وجب التخيير بينهما .

إذن : فالواجب عند تعارض الخبرين وتكافئهما هو التخيير ، من دون أن يعارضه اخبار التوقّف ، لأنّ اخبار التوقّف إضافةً إلى انّها مورودة لاخبار التخيير - على ما عرفت - محمولة على صورة التمكّن من الرجوع إلى الإمام ، والتخيير على صورة عدم التمكّن من ذلك ، فالتخيير إذن لازم ( خصوصا مع عدم التمكّن

ص: 407

من الرجوع إلى الإمام عليه السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقف والارجاء ، بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضاً بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ، كما لايخفى على المتأمّل .

-----------------

من الرجوع إلى الإمام عليه السلام ) لأنّ الإمام - مثلاً - في زمان الغيبة كزماننا هذا ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا لم يمكن معه من الرجوع إلى الإمام ، فانّه مع التمكّن من الرجوع إلى الإمام هو ( الذي يُحمل عليه ) أي : على التمكّن من الرجوع إلى الإمام ( أخبار التوقّف والارجاء ) ومعه فيكون أخبار التوقّف والارجاء خاصا بزمان الحضور للمتمكّن من الرجوع إلى الإمام ، وأخبار التخيير لمن لا يتمكّن من الرجوع إليه عليه السلام .

( بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام ) وذلك بأن قلنا بتقديم دليل الحرمة في هذه المسألة ، وهي المسألة الثالثة التي يدور الأمر فيها بين الوجوب والحرمة ( أيضا ) أي : كما طرحنا اخبار التخيير في المسألة الثانية وهي التي كان يدور الأمر فيها بين مسألتي : المقرّر و الناقل ، والحاظر والمبيح - على ما عرفت - وذلك ( بعد الترجيح بموافقة الأصل ) الذي كان موضوع البحث في المسألة الاُولى أيضا ، فانّه بعد ذلك كلّه ( لم يبق لها ) أي : لأخبار التخيير ( مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ) أي : على ذلك المورد ، وهو يتنافى مع حكمة تشريع التخيير ( كما لا يخفى على المتأمّل ) .

وعليه : فانّا لو طرحنا أخبار التخيير في كلّ المسائل الثلاث ، حتّى في مسألة الدوران بين المحذورين عند تعارض خبرين يقول أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ، وقلنا فيها بتقديم دليل الحرمة ، لم يبق هناك مورد للتخيير سوى مثل

ص: 408

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوّة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيته إلى الواقع .

ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين ، مع قطع النظر عن كونه مدلولاً له ،

-----------------

دوران الأمر بين الوجوبين كالظهر والجمعة ، وهو قليل جدّا لا يناسبه مثل هذه الأخبار الكثيرة الآمرة بالتخيير .

إذن : ( فالمعتمد ) عندنا هو : ( وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران ) وتكافئا من كلّ جهة حتّى ( من حيث القوّة و ) المزيّة المضمونية ، وذلك بمعنى انّه ( لم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع ) أي : بأن لم يكن هناك ما يرجّح أحد الخبرين شيء من المرجّحات الداخلية والخارجية الموجبة لأقربيته إلى الواقع ، سواء كانت تلك المرجّحات معتبرة في نفسها أم لا ، فإذا تساوى الخبران من حيث الدلالة ، والصدور ، وجهة الصدور ، وحتّى المضمون فلم يكن هناك مرجّح خارجي أيضا ، فيلزم القول بالتخيير بين الخبرين .

وعليه : فانّه إذا تساوى الخبران من كلّ جهة حتّى من جهة المضمون أيضا ، لزم الحكم بالتخيير ( ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة ) وهي : موافقة الأصل ، ومسألة الناقل والمقرّر ، ومسألة تقديم الحرمة على الوجوب ( الراجعة ) تلك المرجّحات الثلاثة الأخيرة ( إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين ) أي : أحد المحتملين وذلك بقرينة قوله : ( مع قطع النظر عن كونه ) أي : كون الحكم ( مدلولاً له ) أي : للخبر ، وإنّما هو مؤدّى إحتمالين كما في التتن الذي هو من موارد فقد النصّ أو إجمال النص - مثلاً - .

ص: 409

لحكومة أخبار التخيير على جميعها ، وإن قلنا بها في تكافؤ الاحتمالين .

نعم ، يجب الرجوع إليها في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظّنيّة إذا قلنا بحجّيتها من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقف عند التعارض ، لكن ليس هذا من الترجيح في شيء .

نعم ، لو قلنا بالتخيير في تعارضها

-----------------

وإنّما لا يلتفت إلى شيء من المرجّحات الثلاثة في تكافؤ الخبرين ( لحكومة أخبار التخيير على جميعها ) أي : جميع تلك المرجّحات الثلاثة الأخيرة في مورد تعارض النصّين وتكافؤهما ، حتّى ( وان قلنا بها ) أي : بالمرجّحات الثلاثة المذكورة ( في تكافؤ الاحتمالين ) أي : فيما لم يكن هناك تعارض نصّين ، بل مجرّد إحتمالين كما في موردي : فقد النصّ وإجمال النصّ .

( نعم ، يجب الرجوع إليها ) أي : إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة على فرض إعتبارها في نفسها ، وذلك ( في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظنّية ) كتعارض إجماعين منقولين - مثلاً - ( إذا قلنا بحجّيتها ) أي : بحجيّة تلك الأدلّة الظنّية ( من حيث الطريقيّة ) لا السببيّة ( المستلزمة للتوقّف عند التعارض ) فانّه إذا كان هناك طريقان ظنّيان تعارضا ، فانّه يلزم التوقّف أوّلاً وبالذات ، لأنّ الطريقين المتعارضين لا يمكن العمل بأيّ منهما ، ولكن إذا قلنا باعتبار هذه المرجّحات الثلاثة الأخيرة ، فاللازم إعمالها هنا حتّى نرجّح طريقا على طريق .

( لكن ليس هذا من الترجيح في شيء ) بل هو من باب المرجعيّة ، وذلك بأن يكون كلّ من المرجّحات الثلاثة الأخيرة ، التي هي عبارة عن موافقة الأصل ، والناقل والمقرّر ، والدليل الدالّ على الحرمة مرجعا لا مرجّحا .

( نعم ، لو قلنا بالتخيير في تعارضها ) أي : في تعارض الأدلّة الظنّية

ص: 410

من باب تنقيح المناط كان حكمها حكم الخبرين .

لكنّ فيه تأمّل ، كما في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار وإن كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها بأقسام المرجّحات مستظهراً عدم الخلاف في ذلك .

-----------------

غير الخبرين ، كالإجماعين المنقولين - مثلاً - وذلك التخيير فيها ( من باب تنقيح المناط ) الموجود في الأخبار ، ثمّ التعدّي من الأخبار إلى غير الأخبار من الأدلّة الظنّية المتعارضة ، فلو قلنا بذلك ( كان حكمها ) أي : حكم تلك الأدلّة الظنيّة المتعارضة ( حكم الخبرين ) المتعارضين في إعمال التراجيح المذكورة في الأخبار ، وعند عدم وجود شيء من تلك التراجيح المذكورة يكون الحكم فيها هو : التخيير .

( لكنّ فيه ) أي : في تعدّي حكم التخيير من تعارض الأخبار إلى سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة واجرائه فيها ( تأمّل ) وذلك للشكّ في المناط ، إذ قد يكون للأخبار خصوصية ( كما ) أي : كالتأمّل الموجود لبعض ( في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار ) وتعديتها إلى سائر الأدلّة الظنّية عند تعارضها .

إذن : فتعدية حكم التخيير والترجيح مورد تأمّل لدى بعض ( وان كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها ) أي : في الأدلّة الظنّية ( بأقسام المرجّحات ) الدلالية والسندية والصدورية والمضمونية ، فانّها كما تجري في الخبرين المتعارضين ، تجري في سائر الأدلّة الظنّية إذا تعارضت أيضا ( مستظهرا عدم الخلاف في ذلك ) أي : مستظهرا اتّفاقهم وإجماعهم على جريانها في سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة أيضا .

ص: 411

فإن ثبت الاجماع على ذلك أو أجرينا ذلك في الاجماع المنقول من حيث إنّه خبر ، فيشمله حكمه فهو ، وإلاّ ففيه تأمّل ، لكنّ التكلّم في ذلك قليل الفائدة ؛ لأن الطرق الظّنيّة غير الخبر ليس فيها

-----------------

وعليه : ( فان ثبت الاجماع على ذلك ) أي : على جريان جميع أحكام تعارض الخبرين في تعارض الأدلّة الظنّية الطريقيّة أيضا كما ادّعاه هذا البعض ( أو أجرينا ذلك ) أي : أجرينا الترجيح والتخيير الذَين نجريهما في الخبرين المتعارضين ( في الاجماع المنقول ) فقط فيما إذا تعارض إجماعان منقولان ، وذلك ( من حيث انّه ) أي : الاجماع المنقول ( خبر ، فيشمله حكمه ) أي : حكم الخبر ، كما ادّعاه بعضهم وذكرناه سابقا في مبحث الاجماع ، فانه لو أجرينا الترجيح والتخيير في الاجماع المنقول من حيث انّه خبر ( فهو ) أي : فأحكام الخبرين جارٍ بلا كلام في الاجماعين المنقولين أيضا .

( وإلاّ ) بأن لم نقل إنّ الاجماع المنقول خبر ( ففيه ) أي : في جريان أحكام تعارض الخبرين وتعديته إلى تعارض الاجماعين المنقولين ( تأمّل ) لأنّا لو لم نقل بأنّ الاجماع المنقول خبر ، فلا يشمله حكم الخبر ، وإذ لم يشمله حكم الخبر فلابدّ لنا إذا أردنا أن يشمل تعارض الاجماعين المنقولين أحكام تعارض الخبرين من تنقيح المناط ، وحيث انّ المناط هنا ظنّي وليس قطعيّا ، لإحتمال خصوصيّة في الخبرين ، لا يكون تنقيح المناط تامّا ، فلا يأتي مناط الخبرين في الاجماعين المنقولين ، كما لا يأتي المناط في سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة أيضا .

( لكن التكلّم في ذلك ) أي : في جريان أحكام تعارض الخبرين في غير الخبرين ( قليل الفائدة ، لأنّ الطرق الظنّية غير الخبر ليس فيها ) أي : في تلك

ص: 412

ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيته ، من حيث إنّه ظنّ مخصوص ، سوى الاجماع المنقول بخبر الواحد .

فإن قيل بحجّيّتها ، فإنّما هي من باب مطلق الظنّ ،

-----------------

الطرق الظنّية غير الخبر ( ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيته ، من حيث انّه ظنّ مخصوص ) أي : من باب الظنّ الخاصّ ، لا من باب مطلق الظنّ ، فانّه بالإضافة إلى انّا لا نقول بحجيّة غير الخبر من باب الظنّ الخاص ، ولسنا إنسداديّين حتّى نقول بحجيّتها من باب مطلق الظنّ ، لا نقول أيضا بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، ممّا يقول به العامّة حتّى نتكلّم في تعارض بعضها مع بعض ، أو بعضها مع نفسها ونحتاج إلى العلاج ، وحينئذ فيكون التكلّم في جريان أحكام تعارض الخبرين إلى غير الخبرين قليل الفائدة .

إذن : فالفائدة قليلة لأنّا لا نقول بحجيّة غير الخبر من باب الظنّ الخاص ( سوى الاجماع المنقول بخبر الواحد ) كما يظهر ذلك من المعالم وغيره حيث انّهم قالوا بحجّيته من باب الظنّ الخاص ، ولذا فانّهم يجرون حكم تعارض الأخبار في تعارض نقلي الاجماع أيضا ، وكذلك حال الشهرة ، والغلبة والأولوية الاعتبارية ، والاستقراء الظنّي ، ونحوها ان قلنا بحجّيتها من باب الظنّ الخاص ، كما قال به بعض ، وامّا ان قلنا بحجّيتها من باب مطلق الظنّ ، فسيأتي حكمها قريبا ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فان قيل بحجيّتها ) أي : قيل بحجيّة الشهرة ، والغلبة ، والأولوية ، والاستقراء ، وما أشبه ذلك ( فانّما هي من باب مطلق الظنّ ) لا من باب الظنّ

ص: 413

ولا ريب أنّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه إلى تساقط المتعارضين إن ارتفع الظنّ من كليهما أو سقوط أحدهما عن الحجيّة و بقاء الآخر بلا معارض إن ارتفع الظنّ عنه .

و أمّا الاجماع المنقول ، فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصيّة جارٍ فيه لا محالة .

-----------------

الخاص ( و ) على فرض انّا قلنا بحجيّة مطلق الظنّ من باب الانسداد حتّى صارت تلك الاُمور كالشهرة ، والغلبة ، والأولوية ، والاستقراء ، وما أشبه ذلك حجّة ، فحينئذ ( لا ريب انّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه ) الانسدادي ومن باب مطلق الظنّ يكون إلى أحد أمرين كالتالي :

أوّلاً : انّ مرجعه يكون ( إلى تساقط المتعارضين ان إرتفع الظنّ من كليهما ) وذلك لأنّ حجيّة هذه الاُمور من باب الظنّ الانسدادي ، فإذا لم يكن ظنّ لم يكن حجّة .

ثانيا : ( أو ) انّ مرجعه يكون إلى ( سقوط أحدهما عن الحجيّة وبقاء الآخر بلا معارض ان إرتفع الظنّ عنه ) أي : عن أحدهما ، ومعه فلا يبقى مجال لتعارض الظنّين الانسداديين حتّى يقال بترجيح هذا على ذاك أو العكس ، وإذا لم يكن ترجيح فالتخيير .

( وأمّا الاجماع المنقول ) الذي قال المعالم وغيره بحجّيته من باب الظنّ الخاص فيما إذا تعارض مع إجماع منقول آخر مثله ( فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصية جارٍ فيه لا محالة ) وذلك لأنّه مقتضى الجمع الدلالي بين دليلين متعارضين بلا فرق بين الخبر وغيره - كما هو المفروض - فإذا كان أحد الاجماعين نصّا والآخر ظاهرا جمع بينهما حسب الاطلاق والتقييد والعموم

ص: 414

وأمّا الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور فالظاهر أنّه كذلك ، وإن قلنا بخروجه عن الخبر عرفاً ، فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار

-----------------

والخصوص ، كما يجمع بين الخبرين المتعارضين بالعموم والخصوص المطلق - مثلاً - .

( وأمّا الترجيح من حيث الصدور ) أي : صدور الاجماع عن ناقله ، وذلك فيما لو كان أحد ناقلَي الاجماع أفقه ، أو أضبط ، أو أقل خطأً في حدسه من الآخر ، وما أشبه ذلك ( أو ) الترجيح من حيث ( جهة الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، وذلك فيما لو كان أحد الاجماعين المنقولين على وفق العامّة ، والآخر على خلاف العامّة ، فانّه على القول بالإجماع الدخولي يمكن إجماع علماء عصرٍ بينهم الإمام عليه السلام على حكم ، ثمّ إجماع علماء عصر آخر فيهم الإمام عليه السلام أيضا على حكم آخر ، فيكون أحد هذين الاجماعين لبيان الحكم واقعا ، والآخر لبيان الحكم تقيّة ، فانّ الترجيح من حيث الصدور وجهة الصدور يجري في الاجماعين المنقولين إذا تعارضا ، كما يجري في الخبرين عند التعارض .

وعليه : ( فالظاهر انّه ) أي : الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور في الاجماعين المنقولين إذا تعارضا يكون ( كذلك ) أي : كالخبرين المتعارضين ، فكما يلزم الترجيح بالصدور وجهة الصدور في الخبر إذا تعارض مع خبر آخر ، فكذلك يلزم الترجيح بهما في الاجماع المنقول إذا تعارض بمثله ، حتّى ( وان قلنا بخروجه ) أي : خروج الاجماع المنقول ( عن الخبر عرفا ) .

ومن المعلوم : انّه إذا قلنا فيه ذلك ( فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار ) لفرض انّ الاجماع ليس بخبر حتّى يكون مشمولاً لأخبار العلاج

ص: 415

وإن شمله لفظ النبأ في آية النبأ ، لعموم التعليل المستفاد من قوله : « فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » ، وقوله : « لأن الرشد في خلافهم » .

لأن خصوص المورد لايخصّصه ، ومن هنا يصحّ إجراء جميع

-----------------

( وان شمله لفظ النبأ في آية النبأ ) لأنّ الاجماع نبأ من الأنباء ، ولذا قد يستدلّ بآية النبأ على حجيّة الاجماع المنقول .

وإنّما قلنا بالترجيح في الاجماع المنقول بالصدور وجهة الصدور إذا تعارض بمثله ، حتّى وان قلنا بخروجه عن الخبر ( لعموم التعليل المستفاد من قوله ) عليه السلام : ( « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) وقوله ) عليه السلام : ( « لأنّ الرشد في خلافهم»(2)) حيث انّه يستفاد منهما كبرى كليّة تقول : انّ كلّ ما لا ريب فيه بالنسبة إلى غيره ممّا فيه الريب النسبي يجب تقديمه عليه ، وانّ كلّ ما فيه رشد بالنسبة إلى غيره ممّا لا رشد فيه أو رشده أقل يكون مقدّما عليه ، فينطبق على ما نحن فيه من الاجماع المنقول أيضا ، وذلك ( لأنّ خصوص المورد ) أي : خصوص مورد هاتين الروايتين وهو الخبر ( لا يخصّصه ) أي : لا يخصّص الوارد وهو الحكم ، فلا يختصّ حكم الروايتين بالخبر ، وإنّما يشمل الاجماع المنقول أيضا ، كما لا يختّص قوله : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، بالرمّان فقط ، بل يشمل النهي كلّ حامض أيضا .

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكرنا : من عموم التعليل في الأخبار ، وشموله للإجماعين المنقولين إذا تعارضا ( يصحّ إجراء جميع

ص: 416


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ص3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .

التراجيح المقرّرة في الخبرين في الاجماعين المنقولين ، بل غيرهما من الأمارات التي يفرض حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ ، وممّا ذكرنا يظهر حال الخبر مع الاجماع المنقول ، أو غيره من الظنون الخاصّة لو وجد .

والحمد للّه على ما تيسّر لنا من تحرير ما استفدناه بالفهم القاصر

-----------------

التراجيح المقرّرة في الخبرين ) اجراءا ( في الاجماعين المنقولين ، بل غيرهما ) أي : غير الاجماعين المنقولين ( من الأمارات التي يفرض حجّيتها من باب الظنّ الخاص ) وذلك كما إذا قيل بحجيّة الشهرة ، أو الغلبة ، أو الاستقراء الظنّي ، أو الأولويّة الاعتبارية ، أو ما أشبه ذلك ، من باب الظنّ الخاص أيضا .

( وممّا ذكرنا ) في حكم الاجماع المنقول إذا تعارض مع إجماع منقول مثله ( يظهر حال الخبر ) إذا تعارض ( مع الاجماع المنقول ) وذلك كما لو كان الخبر يقول بوجوب الجمعة ، والاجماع المنقول يقول بحرمتها - مثلاً - فانّه يلزم ملاحظة التراجيح بينهما ، وإذا لم يكن شيء من التراجيح فالقول بالتخيير .

( أو ) تعارض الخبر مع ( غيره ) أي : مع غير الاجماع المنقول ( من الظنون الخاصّة لو وُجد ) هناك أمر آخر غير الاجماع المنقول ، يقال بحجّيته ، من باب الظنّ الخاص ، وذلك كما إذا قلنا بحجيّة الاستقراء الظنّي من باب الظنّ الخاص ، وكان الاستقراء الظنّي في طرف والاجماع المنقول في طرف آخر ، أو الاستقراء الظنّي في طرف والخبر في طرف آخر ، فانّه يجري بينهما التراجيح ، ثمّ التخيير أيضا .

ثمّ انّ الشيخ المصنّف قدّس اللّه نفسه ، وطيّب رمسه ، لمّا وصل إلى هنا ختم كتابه وكلامه بقوله : ( والحمد للّه ) ربّ العالمين ( على ما تيسّر لنا ) وتوفّقنا له ( من تحرير ) وكتابة ( ما استفدناه بالفهم القاصر ) عن درك حقائق ما وصلنا

ص: 417

من الأخبار ، وكلمات علمائنا الأبرار في باب التراجيح .

رجّح اللّه ما نرجوا التوفيق له من الحسنات على ما مضى من السيئات ، بجاه محمد وآله السّادات ، عليهم أفضل الصلاة ، وأكمل التحيّات ، وعلى أعدائهم أشدّ اللعنات ، وأسوء العقوبات ، آمين آمين آمين .

-----------------

عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ( من الأخبار ، و ) ما استظهرناه من ( كلمات علمائنا الأبرار ) قدّس اللّه أسرارهم ( في باب التراجيح ) بين الأخبار المتعارضة وغير الأخبار ( رجّح اللّه ) لنا بسببه ( ما نرجوا التوفيق له من الحسنات ) والدرجات ( على ما مضى ) منّا ( من السيّئات ) والخطيئات ( بجاه محمّد وآله ) سادة ( السادات ، عليهم ) من اللّه تعالى وملائكته ورسله وجميع خلقه ومنّا ( أفضل الصلاة ، وأكمل التحيّات ) إلى أبد الآباد ( وعلى أعدائهم ) أعداء اللّه ، من اللّه وملائكته ورسله وجميع خلقه ومنّا ( أشدّ اللعنات ، وأسوء العقوبات ) عليهم في أسفل دركات الجحيم ( آمين آمين آمين ) ياربّ العالمين .

هذا ، وقد حصل لنا الفراغ بحمد اللّه ومنّه ، من هذا الشرح الوجيز ، المسمّى ب- : « الوصائل إلى الرسائل » في عصر يوم الأحد ثاني ربيع الأوّل سنة ألف وأربعمائة واحدى عشرة من الهجرة المباركة على هاجرها وآله الميامين أفضل صلوات المصلّين ، وذلك في مدينة قم المقدّسة على يد مؤلّفه الفقير إلى رحمة ربّه : محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي عامله اللّه بلطفه ، وأرجوه سبحانه الثواب والفائدة ، كما أرجوه سبحانه حسن الخاتمة ، والحمد للّه أوّلاً وآخر ، وظاهرا وباطنا ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .

وسبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه ربّ العالمين .

ص: 418

خاتمة الكتاب هذا ، وقد انتهى الكتاب ، وفي بلاد الاسلام أعظم كارثة ، لم يشهد مثلها تاريخ الاسلام الغابر ، فان أعظم كوارث المسلمين كان في أيام المغول الشرقيين ، وأيام الصليبيين الغربييّن ، لكن كل واحد من هذين الزلزالين كان خاصاً بنصف عالم الاسلام ، بينما الزلزال الحاضر يعمّ كل بلاد الاسلام ، مثلاً :

في لبنان الحرب قائمة على قدم وساق ، منذ خمس عشرة سنة ، يقتل الكل الكل ، الشيعة الشيعة ، والسنة السنة ، والمسيحي المسيحي ، وسائر الطوائف بعضهم بعضاً ، وكل طائفة طائفة اخرى .

والغريب في الأمر : أنّ كل شيء يشترى بالمال الاّ السلاح ، فإنّه بالمجّان لكل من يريد قتل أخيه ، كما أن غير القتل من ويلات الحرب أيضاً متوفر .

وفي افغانستان : الحرب منذ عشر سنوات بما لا تبقي ولا تذر ، بين الحكومة المزروعة من قبل الشرق الملحد وبين المسلمين ، وكذلك بين المسلمين بعضهم مع بعض.

وفي العراق وايران بعد انتهاء الحرب التي دامت ثمان سنوات ، بما قدّر خسائرها بعض الاحصاءات بأكثر من ثلاثة ملايين بين قتيل وجريح وأسير ، ولازالت الخرائب في البلدين على ما كانت ، والاُسراء على ما كانوا ، وقد قدّر عددهم بأكثر من مائة ألف .

وهكذا الحرب قائمة بين البلدان الأربع الاسلامية ، مصر وسوريا ولبنان والاردن من ناحية وبين اسرائيل الغاصبة لفلسطين من ناحية اخرى ، زهاء خمسة عقود من الزمن .

ص: 419

والانتفاضة الفلسطينية يمرّ عليها ثلاث سنوات في كل يوم قتلى وجرحى بأعداد قليلة أو كثيرة .

وفي العاشر من المحرّم من هذا العام اجتاح البعث العراقي الكويت ، وقد سبب فساداً غير مترقّب من القتل والغدر والسّلب والنّهب والتعدّي على النواميس ، وحرق الناس وهم أحياء وحرق البيوت وغيرها من الفجائع التي لا تعد ولا تحصى .

إنّ الغرب أرسل الى المنطقة تجهيزات كبيرة ، حتى قُدِّر عدد الجيش الذى نزل السعودية والخليج بأكثر من أربعمائة ألف جندي ، وذلك بكامل قواهم ومعدّاتهم العسكرية ، وقد قُدّر مصرفهم المأخوذ من البلاد الخليجية في كل شهر أكثر من مليار وربع من الدولارات ، والمنطقة مهيّئة للاشتعال الذي لا يعلم مدى أضراره المادّية والمعنوية سوى الله سبحانه وتعالى .

وفي كشمير : الحرب قائمة بين المسلمين والهندوس ، وفي باكستان اضطرابات بين الحكومة السابقة المعزولة بقوة الدبابات العسكرية وبين الحكومة الجديدة ، وكذلك الحرب بين شمال السودان وجنوبه ، وفي الفليبين بين المسلمين والكفار.

كما انّ السجون في بلاد الاسلام ممتلئة بالسجناء ، والغالب يعيشون تحت وطأة التعذيب ، ممّا يؤدي الى موت كثير منهم ، أو نقص في أعضائهم ، أو حدوث خلل في قواهم وعقولهم ، حتى ان في العراق وحده زهاء نصف مليون سجين وسجينة ، وقرى الاكراد تحرق بالالاف ، وبلا رحمة ، كما قتل البعث منهم بسبب الغازات السامة زهاء عشرة آلاف

ص: 420

انسان ، الى غيرها وغيرها من المآسي التي تحتاج الى مجلّدات .

والعلاج يكمن بالالتجاء الى الله سبحانه وتعالى ، أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الامّة ، وأن يعجّل في فرج وليه المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ثم العمل الدائب ليل نهار ، بالتوعية ، والتنظيم ، وإرساء قواعد توزيع القدرة ، والسير الى تحقيق حكومة واحدة لكل المسلمين البالغ عددهم زهاء ألف وخمسمائة مليون مسلم ، وما ذلك على الله بعزيز .

اللّهم إنّا نرغبُ اليكَ في دولة كريمة تُعزّ بها الاسلام وأهله ، وتذلّ بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك ، والقادة الى سبيلك ، وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة .

واللّه المسهّل والمسيّر ، الكاشف للضر ، وهو المستعان .

2 / ربيع الأوّل / 1411 ه- ق قم المقدسة محمد الشيرازي انتهى شرح الرسائل المسمّى بالوصائل وله الحمد أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين

ص: 421

ص: 422

المحتويات

تتمّة المقام الأوّل : الترجيح بالمزايا ... 5

المقام الثاني : الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين ... 32

المقام الثالث : عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ... 84

المقام الرابع : بيان المرجّحات ... 108

التعارض بين أكثر من دليلين ... 201

مرجّحات الرواية من الجهات الأُخر ... 246

الترجيح بالسند ... 249

الترجيح بالمتن ... 262

الترجيح من حيث وجه الصدور ... 268

الأمر الأوّل ... 301

الأمر الثاني ... 302

الأمر الثالث ... 317

الأمر الرابع ... 320

الأمر الخامس ... 326

المرجّحات الخارجيّة

أقسام المرجّحات الخارجيّة ... 335

بقي في المقام أمران ... 350

المقام الأوّل ... 350

ص: 423

المقام الثاني ... 355

الأوّل : المرجّح الخارجي المعاضد لمضمون أحد الخبرين ... 359

الثاني : المرجّح الخارجي غير المعاضد لمضمون أحد الخبرين ... 381

خاتمة الكتاب ... 419

المحتويات ... 423

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.