الوصائل الى الرسائل المجلد 6

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الوصائل الى الرسائل

ص: 5

ص: 6

تتمّة المقصد الثاني: «تتمّة دليل الانسداد»

اشارة

وملخّصُ هذا الأمر الثالث أنّ كلّ ظنّ تولّد منه الظنّ بالحكم الفرعيّ الكلّي فهو حجّة من هذه الجهة ، سواء كان الحكمُ الفرعيّ واقعيّاً أو كان ظاهريّاً ، كالظنّ بحجّية الاستصحاب تعبّداً أو بحجّية الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعليّ بالحكم ، وسواء تعلّق الظنّ أوّلاً بالمطالب العمليّة أو غيرها أو بالأمور الخارجيّة من غير إستثناء في سبب هذا الظنّ .

-------------------

( وملّخص هذا الأمر الثالث ) من تنبيهات الانسداد ( : انَّ كل ظنّ تولّد منه الظّن بالحكم الفرعي الكلّي ، فهو ) أي : الظّن الوالد ، ( حجّة من هذه الجهة ) أي : من جهة ولده ، وهو الظّن بالحكم الفرعي الكلّي ( سواء كان ) ذلك ( الحكم الفرعي واقعيّاً أو كان ظاهرّياً ) فانّه لا فرق بين الظّنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبين الظّنّ بأن هذا الحكم حكم ظاهري في حال الجهل .

( كالظّنّ بحجّيّة الاستصحاب تعبّداً ) فإنّ الاستصحاب ليس كاشفاً عن الواقع ، بل هو حكم الانسان الجاهل بالحكم الواقعي .

( أو بحجّية الأمارة غير المفيدة للظّنّ الفعلي بالحكم ) فاذا ظنّ بحجّية تلك الأمارة كفى في الأخذ بمؤدّاها وإن لم يظنّ فعلاً بالحكم فإنّ الحكم المتولِّد من الاستصحاب ، بناءاً على إعتباره من باب التعبّد حكم ظاهري ، وكذا الحال في الحكم المتولّد من الأمارة التي ذكرها المصنّف بقوله : « أو بحجّية الأمارة ...» .

( وسواء تعلّق الظّن أولاً بالمطالب العملّية ) كالظّن بالفروع ( أو غيرها ) كالظّن بظواهر الألفاظ ومراداتها ( أو بالاُمور الخارجية ) كالظّن بعدالة الرّاوي ( من غير إستثناء في سبب هذا الظّن ) فأنّه بناءاً على حجّية الظّن ، لا فرق في الحجّية بين الأسباب ، والموارد ، والأشخاص ، والمراتب .

ص: 7

ووجهُه واضحٌ ، فإنّ مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظنّي وترجيح الراجح على المرجوح في العمل ، حتّى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات بناءا على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد ، لم يكن فرقٌ بينَ ما تعلّق تلك الأمارة بنفس الحكم أو بما يتولّد منه الظنُّ بالحكم .

ولا إشكالَ في ذلك أصلاً إلاّ أن يغفل غافلٌ عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدّعي الاختصاص بالبعض دون البعض من حيث لايشعر .

وربّما تخيّل بعضٌ أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن

-------------------

( ووجهه ) أي : وجه هذا الملّخص ( واضح ، فانّ مقتضى النتيجة ) للإنسداد ( هو : لزوم الامتثال الظّنّي ، وترجيح الرّاجح على المرجوح في العمل ) إطلاقاً ( حتى أنّه لو قلنا بخصوصيّة في بعض الأمارات ، بناءاً على عدم التّعميم في نتيجة دليل الانسداد ) قلنا - مثلاً- انّ خبر الواحد حجّة وليست الشهرة بحجّة وإن أوجبت الشهرة الظّن .

وعليه : فانّه ( لم يكن فرق بين ماتعلّق تلك الأمارة ) التي رأينا حجيّتها كالخبر الواحد في المثال ( بنفس الحكم ، أو بما يتولّد منه الظّن بالحكم ) وما يتولد عبارة عن : ظهور لفظ ، أو مراد ، أو أمر رجالي ، أو جهة صدور من تقيّة ، أو غيرها .

( ولا إشكال في ذلك أصلاً ، إلاَّ أن يغفل غافل عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدّعي الاختصاص ) لحجّية الظّن الانسدادي ( بالبعض دون البعض ) وإن كان الجميع متساوياً في الوصول الى الحكم ، فان هذا التخصيص غفلة ( من حيث لايشعر ) صاحبها .

( وربّما تخيّل بعض : انَّ العمل بالظّنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن

ص: 8

يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام ، بل المقتصرُ على الظنون الخاصّة في الأحكام أيضاً عاملٌ بالظنّ المطلق في الرجال .

وفيه : نظرٌ يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال ، فانّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكلّ أمارة .

نعم ، لو كان الخبرُ المظنونُ الصدور مطلقاً أو بالظنّ الاطمئنانيّ من الظنون الخاصّة

-------------------

يعمل بمطلق الظّن في الأحكام ) فإنّه إذا لم يكن إنسداد في الأحكام ، فالانسداد في الرّجال متحقّق فيعمل بالظّن المطلق في الرّجال ( بل المقتصر على الظّنون الخاصّة في الأحكام أيضاً ) حيث انّه لايرى الانسداد فيها ( عامل بالظّن المطلق في الرّجال ) .

والحاصل : إنَّ الانسداد موجود في الرّجال على أي حال ، سواء قلنا بالإنسداد في الأحكام أو لم نقل بالإنسداد فيها .

( وفيه : نظر يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرّجال ، فانّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها ) أي : في الرّجال ( على العمل بكل أمارة ) ووجه الظهور : إنَّ إختلافهم في اعتبار التعدد في المزكّى ، أو عدم الاعتبار ، شاهد على عدم إتفاقهم على العمل بالظّن المطلق في الرّجال ، فانّهم لو كانوا عملوا بالظّن المطلق ، كان الظّن معيارهم ، لا تعدد المزكّي أو وحدته .

( نعم ، لو كان الخبر المظنون الصّدور مطلقاً ) بأيّ ظنّ كان ( أو بالظنّ الاطمئناني ) فقط ( من الظّنون الخاصة ) وقوله : « من الظّنون » ، خبر لقوله « لو كان » .

ص: 9

لقيام الأخبار أو الاجماع عليه ، لزم القائلَ به العملُ بمطلق الظنّ أو الاطمئناني منه في الرجال ، كالقائل بالظنّ المطلق في الأحكام .

ثمّ إنّه قد ظهر مما ذكرنا أنّ الظنّ في المسائل الاُصوليّة العمليّة حجّةٌ بالنسبة الى مايتولّد منه من الظنّ بالحكم الفرعي الواقعيّ أو الظاهريّ .

وربّما منع منه غيرُ واحد

-------------------

وإنّما يكون من الظّنون الخاصة ( لقيام الأخبار أو الاجماع عليه ) فمظنون الصدور يكون من الظّنون الخاصة ، في- ( لزم القائل به ، العمل بمطلق الظّن ، أو الاطمئناني منه في الرّجال كالقائل بالظّن المطلق في الأحكام ) .

والحاصل : إنّه لو قلنا انّ الخبر المظنون الصدور حجّة ، كفى الظّن في باب الرّجال ، لأنّه إذا ظنّنا إنَّ زُرارة - مثلاً- عادل ، فقد ظننّا بصدور خبره عن الامام عليه السلام ، فقول المصنّف : « نعم » إستثناء عن الاشكال الذّي ذكره بقوله : « فيه نظر » ، وحاصل الاشكال : تمامية قول المتخيّل الذي قال بكفاية الظّن في باب الرّجال ، ولو لم يكن إنسداد في باب الأحكام .

( ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكرنا : ) من أنّ الظّن مطلقاً حجّة ، سواء بالنسبة إلى الأحكام والموضوعات ، أو الرجال وغير ذلك ( أن الظّن في المسائل الاُصولية العمليّة ) مثل الظّن بالإستصحاب ، أو البرائة ، أو الاحتياط ، أو غير ذلك ( حجّة بالنسبة الى مايتولّد منه من الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ، أو الظّاهري ) لِما تقدّم : من انَّ كلّ ظّن يكون في طريق الحكم ، سواء كان الحكم واقعياً أو ظاهرياً ، يكون ذلك الظّن الَّذي هو في الطريق حجّة .

( وربّما منع منه ) أي : من كون الظّنّ في المسائل الاُصولية حجّة ( غير واحد

ص: 10

من مشايخنا رضوان اللّه عليهم . وما استندوا إليه أو يصحّ الاستناد للمنع أمران : أحدُهما : أصالةُ الحرمة وعدمُ شمول دليل الانسداد ، لأنّ دليل الانسداد ، إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصوليّة كما يجري في خصوص الفروع ، وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد ، بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرّعية ، فيثبت حجّية الظنّ في الجميع ويندرج فيها المسائل الاُصوليّة ، وإمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة ، فيثبت به إعتبار الظنّ في خصوص الفروع ، ولكنّ الظنّ بالمسألة الاُصوليّة يستلزمُ الظنّ بالمسألة الفرعيّة الّتي يبتني عليها .

-------------------

من مشايخنا رضوان اللّه عليهم ، وما استندوا اليه ، أو يصّح الاستناد للمنع ) عنه ( أمران ) كما قال : ( أحدُهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد ) للمسائل الاُصولية ( لأنّ دليل الانسداد ، إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصولية ، كما يجري في خصوص الفروع ) أي : كما أنَّ في الفروع دليل الانسداد جارٍ ، كذلك في المسائل الاُصولية ( وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد بالنّسبة إلى جميع الأحكام الشّرعيّة ) وما يرتبط بالأحكام الشرعيّة ، وما يكون في طريقها ( فيثبت حجّية الظّنّ في الجميع ، ويندرج فيها ) أي : في جميع الأحكام الشرعيّة ( المسائل الاُصولية ) أيضاً ( وأمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة فيثبت به ) أي : بدليل الانسداد ( إعتبار الظّن في خصوص الفروع ) .

والحاصل : إنّ مقدّمات الانسداد ، إمّا أن تجري في الفروع فقط ، أو في الاُصول فقط ، أو في كليهما .

هذا ( ولكن الظّن بالمسألة الاُصوليّة يستلزم الظّن بالمسألة الفرعيّة التي يبتني عليها ) فانّه إذا جرى الانسداد في خصوص الفروع فقط ، فالمسائل الاُصولية

ص: 11

وهذه الوجوهُ بين ما لايصحّ وبين مالا يُجدي .

أمّا الأوّلُ : فهو غيرُ صحيح ، لأنّ المسائل الاُصوليّة الّتي ينسدّ فيها بابُ العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يستلزمُ من إجراء الاُصول فيها محذورٌ كأن يلزمُ من إجراء الاُصول في المسائل الفرعيّة التي إنسدّ فيها بابُ العلم ،

-------------------

أيضاً يجري فيها الانسداد لابتناء الفروع على هذه الاُصول .

والحاصل : إنَّ جريان الانسداد في المسائل الاُصوليّة على أحد أوجه ثلاثة :

الأوّل : إنّ الانسداد جارٍ في الاُصول فقط .

الثاني : إنّه جارٍ في كلّ من الاُصول والفروع معاً .

الثالث : إنّه جار في الفروع فقط .

فعلى الأولين : يجري الانسداد في الاُصول رأساً ، وعلى الثالث : حيث انّ المسائل الاُصولية في طريق الفروع والانسداد في الفروع حجّة ، فالإنسداد في الاُصول أيضاً حجّة .

( و ) لكن كلّ ( هذه الوجوه ) الثلاثة ( بين مالا يصح ، وبين مالايجدي ) ولا ينفع في إفادة حجّية الظّن في المسائل الاُصولية .

( امّا الأوّل : ) وهو ماذكرناه بقولنا : إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاُصولية ( فهو غير صحيح ، لأنّ المسائل الاُصولية الّتي ينسدّ فيها باب العلم ، ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يستلزم من إجراء الاُصول فيها ) أي : في هذه المسائل الاُصولية ( محذور ) من الخروج عن الدّين ، ونحو ذلك ( كأن يلزم من إجراء الاُصول في المسائل الفرعية الَّتي إنسدّ فيها باب العلم ) فلا تجري مقدمات الانسداد في المسائل الاُصولية .

ص: 12

لأنّ ما كانَ من المسائل الاُصوليّة يبحث فيها عن كون شيء حجّةً ، كمسألة حجّية الشهرة ونقل الاجماع وأخبار الآحاد ، أو عن كونه مرجّحاً ، فقد إنفتح فيها بابُ العلم وعُلِمَ الحجّةُ منها من غير الحجّة والمرجّحُ منها من غيره بإثبات حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة ، إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة العقليّة على أنّ ما كان من الأمارات داخلة في نتيجة دليل الانسداد فهو حجّةٌ .

-------------------

وإنّما لا يلزم محذور ( لأنَّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشّهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد ، أو عن كونه ) أي : كون شيء ( مرجّحاً ) كموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وما أشبه ذلك ( فقد إنفتح فيها ) أي : في هذه المسائل الاُصولية ( باب العلم ، وعلم الحجّة منها من غير الحجّة و ) علم ( المرجّح منها من غيره ) أي : من غير المرجّح .

وإنّما إنفتح فيها باب العلم ( ب ) سبب ( إثبات حجّية الظّن في المسائل الفرعيّة ) فإن الظّن لما كان ثابت الحجّية في المسائل الفرعية ، علمنا من ذلك : انَّ كل شيءٍ وصل إلى المسألة الفرعيّة فهو حجّة ، سواء كان ذلك الشيء الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الخبر ، أو غيرها ؟ .

وسواء كان ذلك الشيء معيناً للحكم ، أو مرجّحاً لدليل على دليل ، فيما إذا دار الأمر بين دليلين لم نعلم بحجّية أحدهما أوّلاً وبالذات ، وإنّما علمنا بالترجيح لموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، أو بما أشبه ذلك .

( إذ بإثبات ذلك المطلب ) أي : حجّية الظّن في المسائل الفرعية ( حصل الدلالة العقليّة على أنَّ ما كان من الأمارات داخلة في نتيجة دليل الانسداد ، فهو حجّة ) والدلالة العقليّة عبارة عن : التلازم بين حجّية الظّن في الفروع ، وحجّية

ص: 13

وقس على ذلك معرفةَ المرجّح ، فانّا قد علمنا بدليل الانسداد أنّ كلاًّ من المتعارضين إذا اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات فهو راجحٌ على صاحبه مقدّم عليه في العمل .

وما كانَ منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطيّة ، وهي ألفاظ الكتاب والسنّة ، من حيث إستنباط الأحكام عنها ، كمسائل الأمر والنهي وأخواتهما ، من المطلق والمقيّد والعامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ، فقد عَلِمَ حجّيّة الظنّ فيها من حيث إستلزام الظنّ بها الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ .

-------------------

مايستلزم هذا الظّن أيضاً .

( وقس على ذلك ) أي : التلازم بين حجيّة الظّن في الفرع ، وحجّية الظّنّ في المسألة الاُصولية ( معرفة المرجّح ، فإنّا قد علمنا بدليل الانسداد : انَّ كُلاً من المتعارضين إذا اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات ) كموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وموافقة المشهور ، إلى غير ذلك ( فهو ) أي : المُعتَضد - بصيغة المفعول - ( راجح على صاحبه مقدّم عليه في العمل ) قطعاً .

( وما كان منها ) أي : من المسائل الاُصولية - قوله : « وما كان » عطف على قوله قبل أسطر : « لأن ماكان من المسائل الاُصولية ...» - ( يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية ، وهي : الفاظ الكتاب والسّنة من حيث إستنباط الأحكام عنها ) لا من حيث جهات النحو ، والصرف ، والبلاغة ، وشبهها ، بل ( كمسائل الأمر ، والنّهي ، وأخواتهما : من المطلق والمقيّد والعام والخاص ، والمجمل والمبيّن، الى غير ذلك ، فقد عَلِمَ حجّية الظّنّ فيها من حيث إستلزام الظّنّ بها ) أي : بهذه المسائل المرتبطة بالفاظ الكتاب والسنّة (الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي )

ص: 14

لِما عرفتَ من أنّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجّيةُ الظنّ الحاصل بها من الأمارة إبتداءا ، والظنّ المتولّد من أمارة موجودة في مسألة لفظيّة .

ويلحق بهما بعضُ المسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ

-------------------

لأن ألفاظ الكتاب والسنّة وما أشبه كلها في صدد بيان حكم الواقع .

والحاصل : إنّا نحتاج هنا إلى أمرين :

الأوّل : انْ نتكلم حول أنّ ظاهر الكتاب حجّة أم لا ، والخبر حجّة أم لا ؟ الى غير ذلك .

وأشار إليه المصنّف بقوله : « لأن ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها ...» .

الثاني : ان نتكلم حول انَّ الأمر ظاهر في الوجوب أم لا ، والمطلق يحمل على المقيد أم لا ؟ إلى غير ذلك ، وأشار اليه المصنّف بقوله : « وما كان منها يبحث فيها...» .

ثمّ إنَّ المصنّف انّما قال : حيث إستلزم الظّن بها ، الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ( لما عرفت : من أنَّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع : حجّية الظّنَّ الحاصل بها ) أي : بتلك الفروع ( من الأمارة إبتداءاً ) بأن ظنّ بأنّ الدعاء عند رؤية الهلالِ - مثلاً - واجب ( والظّن المتولِّد من أمارة موجودة في مسألة لفظية ) مثل : أن يظنّ بأنَّ الأمر ظاهر في الوجوب .

( ويلحق بهما ) الضمير عائد إلى ما ذكره المصنّف بقوله : « لأنَّ ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها ...» وقول : « وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية ...» وهما ما ذكرناهما بقولنا الأوّل والثاني فيلحقهما ( بعض المسائل العقليّة مثل : وجوب المقدّمة ) للواجب .

( وحرمة الضّد ) للواجب .

ص: 15

وإمتناع إجتماع الأمر والنهي ، والأمر مع العلم بانتفاء شرطه ونحو ذلك ممّا يستلزم الظنُّ به الظنّ بالحكم الفرعيّ ، فانّه يكتفي في حجّية الظنّ فيها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ولا يحتاج إلى إجرائه في الاصول .

وبالجملة : فبعض المسائل الاُصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد وبعضها صارت حجّيةُ الظنّ فيها معلومةً بدليل الانسداد في الفروع والباقي منها الذي

-------------------

( وإمتناع إجتماع الأمر والنّهي ) أو عدم إمتناع إجتماعهما .

( والأمر مع العلم بإنتفاء شرطه ) بأنّه هل يجوز أن يأمر به الآمر أو لا يجوز أن يأمر به مع علمه بانتفاء الشرط ؟ .

( ونحو ذلك ممّا يستلزم الظّنّ به ) أي : بهذه المسائل الاُصولية العقليّة ( الظّنّ بالحكم الفرعي ) لما عرفت : من أنَّ كل شيء وقع في طريق الظّنّ بالحكم الفرعي يكون الظّن فيها حجّة من باب الانسداد ( فإنّه يكتفي في حجّية الظّن فيها ) أي : في هذه المسائل العقليّة ( بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ولا يحتاج إلى إجرائه في الاُصول ) أي : في المسائل الاُصولية .

( وبالجملة : فبعض المسائل الاُصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد ) وهذه المسائل هي ما أشار إليها المصنّف بقوله : « لأن ما كان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ...» .

( وبعضها ) أي : وبعض المسائل الاُصولية الاُخر : ( صارت حجّية الظّنّ فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع ) وهي ما أشار اليه المصنّف بقوله : « وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية وهي ألفاظ الكتاب والسنّة ...» .

( والباقي منها : ) أي : من المسائل الاُصولية الَّتي لم تصر معلومة ، و ( الّذي

ص: 16

يحتاج في إثبات حجّية الظنّ فيها إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاُصول ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالأصول وطرح الظنّ الموجود فيها محذورٌ . وإن كانت في أنفسها كثيرةً ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات ، كخبر الواحد ونقل الاجماع لا بشرط الظنّ الشخصيّ ،

-------------------

يحتاج في إثبات حجّية الظّنّ فيها ) أي : في هذه المسائل ( إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاُصول ، ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالاُصول ) كالبرائة ، والاستصحاب ، والتخيير ، وما أشبه ( وطرح الظّن الموجود فيها ) أي : في هذه المسائل ( محذور ) وذلك لما عرفت : من قلّة الفروع المترتبة عليها بالنسبة إلى سائر الفروع ، فلا يلزم من إجراء الاُصول في هذه المسائل الاُصولية غير الكثيرة محذور الخروج عن الدّين ، ونحو ذلك ( وإن كانت في أنفسها كثيرة ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات : كخبر الواحد ، ونقل الاجماع ) أي : الاجماع المنقول ( لابشرط الظّن الشخصي ) .

وإنّما ذكر هذا القيد ، لإخراج قول من يقول : بأنَّ الخبر الواحد إنّما يكون حجّة بشرط ظنّ الشخص بصدق الخبر ، وكذلك بالنسبة إلى الاجماع المنقول : بأنّه انّما يكون حجّة بشرط الظّن الشخصي بصدق الاجماع ، وانّما قيّدها بهذا القيد لئلا يلزم التناقض بين قوله سابقاً : « لأنّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد » ، وبين قوله هنا : « مثل المسائل الباحثة عن حجية بعض الامارات ، كخبر الواحد ونقل الاجماع » ، اذ يمكن أن يستشكل على المصنّف : بأنّه كيف ذكرتم خبر الواحد ، والاجماع المنقول ، في مكانين ؟ .

ص: 17

وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار الآحاد على مذهب من يراها ظنوناً خاصّة ، والباحثة عن بعض المرجّحات التعبّديّة ، ونحو ذلك ، فانّ هذه المسائل لاتصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع .

لكن هذه المسائل بل وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظنّ بأحد طرفي المسألة إلى الاُصول وطرح ذلك الظنّ لزم محذورٌ كان يلزم في الفروع .

وأمّا الثاني - وهو إجراءُ دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعيّة ،

-------------------

( وكالمسائل الباحثة عن شروط اخبار الآحاد على مذهب من يراها ظنوناً خاصّة ) لا أنّها حجّة من باب الانسداد ، كاشتراط أن يكون المخبر عادلاً ، وضابطاً ، وما أشبه ذلك ( والباحثة عن بعض المرجّحات التّعبّدية ) مثل : مطابقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وإلى غير ذلك ممّا هي في قِبال المرجّحات العقلائية ، مثل الأفقهية . ونحو ذلك ممّا يجريها العقلاء في أوامر مواليهم .

( ونحو ذلك ) من المسائل الاُصوليّة ( فانّ هذه المسائل لا تصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ) بل اللازم : إمّا إجراء دليل الانسداد في هذه المسائل الاُصولية ، أو القول : بأن دليل الانسداد عام يجري في الاُصول والفروع معاً .

( لكن هذه المسائل ، بل وأضعافها ، ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظّنّ بأحد طرفي المسألة الى الاُصول ) العملية ( وطرح ذلك الظّن ) الّذي حصل بأحد طرفي المسألة ( لزم محذور كان يلزم في الفروع ) إذا رجع فيها إلى الاُصول العمليّة : من لزوم الخروج عن الدّين وما أشبه ذلك ممّا تقدّم .

( وأمّا الثاني : وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشّرعية ،

ص: 18

فرعيّةً كانت أو أصليّةً - فهو غير مُجدِ ، لأنّ النتيجة وهو العمل بالظنّ لايثبت عمومه من حيث موارد الظنّ إلاّ بالاجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، بأن يقال : إنّ العملَ بالظنّ في الطهارات دون الديات ، مثلاً ، ترجيحٌ بلا مرجّح ومخالف للإجماع .

وهذان الوجهان مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاُصوليّة .

أمّا فقدُ الاجماع فواضحٌ ، لأنّ المشهور ، كما قيل ، على عدم إعتبار الظنّ

-------------------

فرعيّة كانت أو أصليّة ) والمسائل الاُصولية إنّما تسمّى بالأحكام الشرعيّة ، لأوَلها إليها ( فهو غير مجدٍ ، لأنَّ النتيجة : وهو العمل بالظّن لايثبت عمومه من حيث موارد الظّن إلاّ بالاجماع المركّب ، أو التّرجيح بلا مرجّح ) حتى يشمل الاُصول والفروع .

لكن لايخفى : إنَّ هذا مبنيٌ على تقرير دليل الانسداد على طريق الكشف لتصير النتيجة مهملة ، لا على طريق الحكومة .

وعلى أي حال : فوجه التعميم ( بأن يقال : إنَّ العمل بالظّن في الطهارات دون الدّيات - مثلاً - ترجيح بلا مرجّح ) لأنّ الطهارات والدّيات كلّها أحكام شرعية ، فلماذا يعمل بالظّن في الطهارات دون الدّيات ، مع أنّ الدليل فيهما واحد ؟ ( ومخالف للإجماع ) أيضاً لأنَّ المجمعين لايرون الفرق بين مختلف المسائل .

( وهذان الوجهان ) : الترجيح بلا مرجّح ، والمخالفة للإجماع ( مفقودان في التعميم والتّسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاُصوليّة ) فلا إجماع على إستواء الطائفتين من المسائل كما أنّه ليس حجّية الظّن في الفروع دون الاُصول ترجيحاً بلا مرجّح .

( أمّا فقدُ الاجماع ، فواضح ، لأنَّ المشهور كما قيل - على عدم إعتبار الظّنّ

ص: 19

في الاُصول .

وأمّا وجودُ المرجّح ، فلأنَّ الاهتمامَ بالمطالب الاُصوليّة أكثر ، لابتناء الفروع عليها ، وكلّما كانت المسألة مهمّة كان الاهتمامُ فيها أكثر ، والتحفّظُ عن الخطأ فيها آكد ،

-------------------

في الاُصول ) لكن لايخفى : إنّ نفي شيء بالاستناد الى قول ضعيف غير وجيه ، وهذا القول هو من شريف العلماء إستاذ المصنّف - كما سيأتي - لا أنّه ممّا يرتضيه المصنّف .

( وأمّا وجود المرجّح ) لخروج المسائل الاُصولية حتى لاتكون مشمولة لنتيجة الانسداد فوجهه : الاهتمام بالمسائل الاُصولية أكثر ، لأنَّ مسألة واحدة من المسائل الاُصولية يتفرع عليها من الفروع جملة كبيرة ، ومثل هذه المسائل يهتم بها ، فلا يكتفى فيها بالظّن ، بل اللازم أن يقتصر فيها على القطع أو ما يشبه القطع من الظنون الخاصة .

وعليه : فلا يلزم من خروج المسائل الاُصوليّة ترجيح بلا مرجّح بأن يقال : انَّ المسائل الاُصولية والمسائل الفقهية متساويتان فاذا أخذنا بنتيجة الانسداد في المسائل الفقهية دون المسائل الاُصولية ، لزم ترجيح المسائل الفقهية على المسائل الاُصولية - في نتيجة الانسداد - بلا مرجّح كما قال :

( فلأن الاهتمام بالمطالب الاُصوليّة أكثر لابتناء الفروع عليها ) أي : على هذه المسائل الاُصولية ( وكلّما كانت المسألة مهمة كان الاهتمام فيها أكثر ، والتحفّظ ) بأن يحفظ الانسان نفسه ( عن الخطأ فيها آكد ) فمسألة أُصولية واحدة لها من الأهمية بقدر ما لعشر مسائل ، أو ما لمائة مسألة من الأهمية ، وذلك أنّها ممّا يبنى عليها جملة من الفروع .

ص: 20

ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك ، بقولهم : إنّ إثباتَ مثل هذا الأصل بهذا مشكلٌ ، أو إنّه إثباتُ أصل بخبر ، ونحو ذلك .

وأمّا الثالثُ ، وهو إختصاصُ مقدّمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعيّة ، إلاّ أنّ الظنّ بالمسألة الفرعيّة قد يتولّدُ من الظنّ في المسألة الاُصوليّة .

فالمسألة الاُصوليّة بمنزلة المسائل اللغويّة يعتبر الظنّ فيها من حيث كونه منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعي .

ففيه : أنّ الظنَّ بالمسألة الاُصوليّة إن كان منشأَ للظنّ بالحكم الفرعيّ ،

-------------------

( ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك ) أي : عن الاكتفاء بالظّن في الاُصول ( بقولهم : إنَّ إثبات مثل هذا الأصل بهذا مشكل ، أو انّه إثبات أصل بخبر ) واحد ( ونحو ذلك ) من التعبيرات الفقهائية .

( وأمّا الثالث : وهو إختصاص مقدمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعية ، إلاّ أنّ الظّن بالمسألة الفرعيّة قد يتولّد من الظّن في المسألة الاُصولية ) فاذا كان الظّن في المسألة الفرعية حجّة ، كان الظّنّ في المسألة الاُصولية حجّة أيضاً ، لأنّ المسألة الأُصولية والدة للمسألة الفرعية .

إذن : ( فالمسألة الاُصولية بمنزلة المسائل اللّغوية يعتبر الظّنّ فيها من حيث كونه منشأ للظّنّ بالحكمُ الفرعي الواقعي ) فلفظ الصعيد - مثلاً - هل هو لمطلق وجه الأرض ، أو لخصوص التراب ؟ مسألة لغويّة ، فاذا ظننّا بأحد الطرفين في هذه المسألة اللغويّة تولَّد منها مسألة فرعية بجواز التيمم بمطلق وجه الأرض ، أو بخصوص التراب .

( ففيه : إنَّ الظّنّ بالمسألة الاُصولية إن كان منشأ للظّنّ بالحكم الفرعي ،

ص: 21

كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة والمسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وإمتناع إجتماع الأمر والنهي ، فقد إعترفنا بحجّية الظنّ فيها .

وأمّا ما لايتعلّق بذلك ويكون باحثة عن أحوال الدّليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة ، وهي التي منعنا عن حجّية الظنّ فيها ، فليس يتولدُ من الظنّ فيها

-------------------

كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة ) التي تحتاج الى الاستنباط ، كلفظ الصعيد ، ولفظ الآنية ، ولفظ الغِناء ، ولفظ آلة اللّهو ، وغيرها ، ممّا تحتاج الى الاستنباط لإجمالها في جملة من الفروع .

( والمسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة ) للواجب ( وإمتناع إجتماع الأمر والنّهي ، فقد إعترفنا بحجّية الظّن فيها ) حيث قلنا قبل نصف صفحة تقرّيباً : «وما كان منها يبحث فيها من الموضوعات الاستنباطية وهي: الفاظ الكتاب والسنّة من حيث إستنباط الأحكام عنها الى قولنا : ويلحق بهما بعض المسائل العقلية ، مثل وجوب المقدّمة، وحرمة الضد ، وإمتناع إجتماع الأمر والنهي » ، الى آخره .

( وأمّا ما لايتعلّق بذلك ) أي : بما ذكرناه : من الموضوعات المستنبطة والمسائل العقلية ( ويكون باحثة عن أحوال الدّليل من حيث الاعتبار في نفسه ، أو عند المعارضة ) كما إذا بحثنا عن أنّه : هل الخبر الواحد حجّة أو لا ، لا من حيث حصول الظّن منه ؟ وكذا إذا تكلّمنا حول المرجّحات التعبديّة عند معارضة الدليلين .

( وهي التي منعنا عن حجّية الظّن فيها ) حيث قلنا قبل صفحة تقريباً : « لأنَّ ماكان من المسائل الاُصولية يبحث فيها عن كون شيء حجّة ، كمسألة حجّية الشهرة ، ونقل الاجماع ، وأخبار الآحاد » الى آخره ( فليس يتولّد من الظّن فيها )

ص: 22

الظنُّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، وإنّما ينشأ منه الظنُّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ ، وهو ممّا لم يقتض إنسدادُ باب العلم بالأحكام الواقعيّة العملَ بالظنّ فيه ، فإن إنسداد باب العلم في حكم العصير العنبيّ إنّما يقتضي العملَ بالظنّ في ذلك الحكم المنسدّ لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته .

بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات ، لا من حيث هي ، بل من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعلّي عليها

-------------------

أي : في هذه المسائل ( الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ) .

فإنا إذا ظننّا بالمسألة الاُصولية فيها ، لا ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ( وإنّما ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الظاهري ) لأنّا نظن : إنّ هذا حكمنا الفعلي ، أمّا انّه حكم واقعي فلا نظنّ بذلك .

( وهو ممّا لم يقتض إنسداد باب العلم بالأحكام الواقعية ، العمل بالظّن فيه ) أي : الفرعي الظاهري .

وإنّما يكون الفرعي الظّاهري ممّا لم يقتض إنسداد باب العلم بالأحكام الواقعية العمل بالظّن فيه ( ف- ) ذلك ( إنّ إنسداد باب العلم في حكم العصير العنبي إنّما يقتضي العمل بالظّن في ذلك الحكم المنسد ) وهو الحكم الواقعي للعصير ( لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته ) وهو الحكم الظاهري .

فإنّا لما جهلنا الأحكام الواقعية التجئنا الى دليل الانسداد ليكشف لنا عن تلك الأحكام الواقعية ، فاذا دلّ دليل على الحكم الظاهري ، لم يكن ذلك مطلوباً لنا .

( بل أمثال هذه الأحكام ) الظاهرية ( الثابتة للموضوعات لا من حيث هي ) لتكون أحكاماً واقعية ( بل من حيث قيام الأمارة غير المفيدة للظّنّ الفعلي عليها )

ص: 23

إن ثبت إنسدادُ باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الاُصول عُمِلَ فيها بالظنّ ، وإلاّ فانسدادُ باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم إمكان العمل فيها بالاُصول لايقتضي العملَ بالظنّ في هذه الأحكام ، لأنّها لاتغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم .

هذا غايةُ توضيح ما قرّره أُستاذنا الشريف قدس سره اللطيف ، في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظنّ في المسائل الاُصوليّة .

-------------------

أي : غير المعتبر فيها ذلك الظنّ ( إن ثبت إنسداد باب العلم فيها ) أي : في هذه الأحكام الظاهرية ( على وجه يلزم المحذور من الرّجوع فيها الى الأُصول ) العمليّة ( عُمِلَ فيها بالظّن ) أيضاً .

( وإلاّ فإنسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم إمكان العمل فيها ) أي : في الأحكام الواقعية ( بالاُصول ) العمليّة ( لايقتضي العمل بالظّنَّ ، في هذه الأحكام ) الظاهرية ( لأنها لاتغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم ) .

إذن : فالمطلوب : الأحكام الواقعية ، والانسداد ينتهي الى الأحكام الظاهرية ، فالظنّ بالمسألة الاُصولية يولّد الظّن بالمسألة الظاهرية ، والحال إنّا نريد المسألة الفرعية الواقعية ، فليس الظنّ بالمسألة الاُصولية المولّدة للفرعية الظاهرية حجّة من باب الانسداد ، الذي يطلب منه الوصول الى الظّن بالواقع ، لا الظّن بالحكم الظاهري .

( هذا غاية توضيح ماقرّره استاذنا الشريف ) شريف العلماء ( قدس سره اللّطيف في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظّنّ في المسائل الاُصولية ) وإنّما الانسداد هو حجّة في المسائل الفرعية فقط .

ص: 24

الثاني من دليل المنع : وهو أنّ الشهرة المحققة والاجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في مسائل أصول الفقه ، وهي مسألة اصوليّة ، فلو كان الظنُّ فيها حجّةً وجب الأخذُ بالشهرة ونقلُ الاجماع في هذه المسألة .

والجوابُ : أمّا عن الوجه الأوّل فبأنّ دليلَ الانسداد واردٌ على أصالة حرمة العمل بالظنّ .

-------------------

( الثّاني من دليل المنع ) أي : منع كون الانسداد حجّة بالنسبة إلى المسائل الاُصولية ( وهو : أنّ الشّهرة المحقّقة ، والاجماع المنقول على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ) وقوله : « على » خبر قوله : « ان الشهرة » أي : انّ الشهرة والاجماع قائمان على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ( وهي مسألة أُصوليّة ) أي : أنَّ مسألة حجّية الظّن هي من مسائل أصول الفقه ، وعدم الحجّية مسألة اُصولية ( فلو كان الظّن فيها حجّة ، وجبَ الأخذ بالشّهرة ونقل الاجماع في هذه المسألة ) .

والحاصل : انّه كما لايمكن إبطال القياس بالقياس ، كذلك لايمكن إبطال الظّن في المسألة الاُصولية بنفس الظّن في المسألة الاصولية لأنّ مسألة حجّية الظّن هي من المسائل الأُصولية ، وعدم الحجّية هي بنفسها مسألة اُصولية .

ثمّ أنّه لما إستدّل شريف العلماء لعدم حجّية الظّنّ في المسائل الاُصولية بدليلين :

الأوّل : أصالة الحرمة وعدمَ شمول دليل الانسداد للمسائل الاُصوليّة .

الثاني : الشهرة المحقّقة والاجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في المسائل الاُصولية ، شرع المصنّف في الجواب عن الدليلين فقال :

( والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ) وهو أصالة الحرمة ( : فبأنَّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظّن ) فكما يرد على أصالة حرمة العمل بالظّن أدلة

ص: 25

والمختارُ في الاستدلال به في المقام هو الوجهُ الثالثُ ، وهو اجرائه في الأحكام الفرعيّة ، والظنّ في المسائل الاُصوليّة مستلزمٌ للظنّ في المسألة الفرعيّة .

وما ذكر من كون اللازم منه هو الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ صحيحٌ ، إلاّ أنّ ما ذكر - من أنّ إنسدادَ باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها الى الاصول لايقتضي إلاّ اعتبارَ الظنّ بالحكم الشرعيّ الواقعيّ -

-------------------

خبر الواحد وما أشبه ، فكذلك يرد على أصالة حرمة العمل بالظنّ دليل الانسداد ، لكن الخبر في حال الانفتاح والظّن المطلق في حال الانسداد .

( والمختار في الاستدلال به ) أي : بدليل الانسداد ( في المقام هو الوجه الثالث ) الذي ذكره شريف العلماء ( وهو : إجرائه في الأحكام الفرعيّة ، والظّن في المسائل الاُصولية مستلزم للظّن في المسألة الفرعية ) حيث تقدمت عبارته - قبل صفحة ونصف تقريباً - بما لفظه : وأمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعية فيثبت به إعتبار الظّن في خصوص الفروع ، ولكن الظّن بالمسألة الاُصولية يستلزم الظنّ بالمسألة الفرعية التي يبتني عليها .

( وما ذكر ) ه شريف العلماء إشكالاً على هذا الوجه الثالث ( من كون اللازم منه : هو الظّن بالحكم الفرعي الظّاهري صحيح ، الاّ أنَّ ماذَكَرَ : من أنَّ إنسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها ) أي : بتلكَ الأحكام الواقعية ( وعدم جواز الرّجوع فيها الى الاُصول لايقتضي الاّ إعتبار الظّنّ بالحكم الشّرعي الواقعي ) غير تام ، فقد تقدمت عبارته بقوله : « فليس يتولّد من الظّن فيها ، الظّن بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظّن بالحكم الفرعي الظاهري ، وهو : ممّا لم

ص: 26

ممنوعٌ .

بل المقدّمات المذكورة ، كما عرفت غيرَ مرّة ، إنّما تقتضي إعتبارَ الظنّ بسقوط تلك الأحكام الواقعيّة وفراغ الذمّة منها . فاذا فرضنا مثلاً أنّا ظننا بحكم العصير لا واقعاً ، بل من حيث قام عليه ما لايفيد الظنّ الفعلي بالحكم الواقعي ، فهذا الظنّ يكفي في الظنّ بسقوط الحكم الواقعيّ للعصير .

بل لو فرضنا أنّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعيّ أصلاً ،

-------------------

يقتض انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة العمل بالظّن فيه ...» فانّ هذا الاشكال ( ممنوع ، بل المقدّمات المذكورة - كما عرفت غير مرّة - إنّما تقتضي إعتبار الظّن بسقوط تلك الأحكام الواقعية وفراغ الذمة منها ) .

هذا وسقوط الأحكام وفراغ الذمة ، قد يكون بالوصول الى الواقع ، وقد يكون بالوصول إلى بدله ، فقوله : « إنَّ الانسداد لايوصل الى الواقع ، بأن يعلم المكلّف إنّه واقع » ، كلام صحيح ، إلاّ إنّا لانريد الوصول الى الواقع فقط ، بل يكفينا أن نصل الى الواقع أو بدل الواقع ، ودليل الانسداد يصل الى أحدهما قطعاً .

( فاذا فرضنا مثلاً ، إنّا ظننّا بحكم العصير لا واقعاً ) أي : لم نعلم إنّه حكم واقعي بالنسبة الى العصير ( بل من حيث قام عليه ما لايفيد الظّن الفعلي بالحكم الواقعي ) أي : ظننّا بأن حكم العصير كذا ، لكن لم يكن ظننا انّه كذا هو الحكم الواقعي للعصير بل إحتملنا أنّه حكم واقعي وإحتملنا انه حكم ظاهري ( فهذا الظّنَّ يكفي في الظّنّ بسقوط الحكم الواقعي للعصير ) وإن لم يكن ظنّاً بالحكم الواقعي ، لأنّا مأمورون بالواقع أو ببدله ، لا بالواقع بما هو واقع .

( بل لو فرضنا : انّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعي أصلاً ) أي : أنَّ الظّن لم يتعلق

ص: 27

وإنّما حصل الظنّ بحجّية أُمور لاتفيد الظنّ ، فانّ العمل بها يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعيّة عنّا ، لما تقدّم من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً وبين الاتيان ببدله كذلك ، فالظنّ بالاتيان بالبدل كالظنّ بإتيان الواقع ، وهذا واضح .

وأمّا الجواب عن الثاني : فبمنع الشهرة والاجماع ،

-------------------

بالحكم ( وإنّما حصل الظّنّ بحجّية أُمور لاتفيد الظّن ) كما اذا ظنّنا بحجّية خبر الواحد - مثلاً - وقام الخبر الواحد على حرمة العصير ، لكنّا لم نظنّ بالحرمة ، لوضوح : انَّ الظّن بالمسألة الاُصولية لايستلزم الظّن بالمسألة الفرعية .

بل القطع بالمسألة الاُصولية لايستلزم الظّن بالمسألة الفرعية ، فاذا قطعنا - مثلاً- بأنَّ الشاهدين حجّة في نفسِهما ، وقام الشاهدان على انّ زيداً سارق ، فإنّا قد نقطع بأنّه سارق ، وقد نقطع انّه ليس بسارق ، وقد نشك في سرقته وعدم سرقته وقد نظنّ بأحد الطرفين ونتوهم الطرف الآخر ، فالقطع بالمسألة الاُصولية لايستلزم حتى الوهم بالنسبة الى الفرعية ( فانّ العمل بها ) أي : بتلك الاُمور كالعمل بالخبر الواحد - مثلاً - ( يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعية عنّا ) .

وإنّما يظنّ ( لما تقدّم : من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً ، وبين الاتيان ببدله كذلك ) أي : علماً أو ظنّاً ( فالظّن بالاتيان بالبدل كالظّن بإتيان الواقع ، وهذا واضح ) لا غبار عليه ، فقول شريف العلماء : « بأنّ الظّن في المسألة الاُصوليّة ليس حجّة ، لأنّه لايوصل الى الظّن بالفرعيّة الواقعيّة » ، غير تام ، لأنّا لا نريد الفرعية الواقعية ، بل يكفينا الفرعية الظاهرية التي هي بدل عن الواقع .

( وأمّا الجواب عن الثاني ) الّذي قال : بأنّ الشهرة المحقّقة والاجماع المنقول ، يدلان على عدم حجّية الظّن في مسائل اُصول الفقه ( فبمنع الشهرة والاجماع )

ص: 28

نظراً إلى أنّ المسألة من المستحدثات ، فدعوى الاجماع فيها مساوقةٌ لدعوى الشهرة .

وثانياً : لو سلّمنا الشهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظنون الخاصّة ، كأخبار الآحاد والاجماع المنقول .

وحيث إنّ المتّبع فيها الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها كالإجماع والسيرة على حجّية أخبار الآحاد مختصّة بالمسائل الفرعيّة بقيت المسائل الاُصوليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظّنّ ، ولم يُعلم بل ولم يُظنّ من مذهبهم الفرقُ بين الفروع والاُصول ، بناءاً

-------------------

على هذه الدلالة ( نظراً إلى إنَّ المسألة من المستحدثات ) فإن مسألة الانسداد بهذه الخصوصيات لا شكَ في أنّها مسألة حادثة ، ( فدعوى الاجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة ) فيها ، وكلاهما ممنوعان ، إذ لا شهرة قطعاً ، وحيث لا شهرة قطعاً فلا إجماع أيضاً .

( وثانياً : لو سلّمنا الشّهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظّنون الخاصة ، كأخبار الآحاد ، والاجماع المنقول ) والسيرة ، والأولوية ، ونحوها .

( وحيث انَّ المتبع فيها ) أي : في الظّنون الخاصة ( الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها - كالإجماع والسّيرة - على حجّية أخبار الآحاد مختصة بالمسائل الفرعيّة ) فانّ غاية مايثبت بالأدلة الخاصة إعتبار الظّنون الخاصة في المسائل الفرعية ، فلو قامت الأدلة الخاصة على مسائل اُصولية لم يكن دليل على إعتبار تلك الظنّون .

ولهذا ( بقيت المسائل الاُصولية تحت أصالة حرمة العمل بالظّنّ ) فالظنّ حجّة في المسألة الفرعيّة لا في المسألة الاُصولية .

هذا ( ولم يعلم ، بل ولم يظنّ من مذهبهم : الفرق بين الفروع والاُصول ، بناءاً

ص: 29

على مقدّمات الانسداد وإقتضاء العقل كفاية الخروج الظنيّ عن عهدة التكاليف الواقعيّة .

وثالثاً : سلّمنا قيامَ الشهرة والاجماع المنقول على عدم الحجّية على تقدير الانسداد ، لكنّ المسألة أعني كونَ مقتضى الانسداد هو العمل بالظنّ مطلقاً في الفروع دون الاُصول عقليّةٌ ، والشهرة ونقل الاجماع إنّما يفيدانِ الظنَّ في المسائل التوقيفيّة دون العقليّة .

-------------------

على مقدّمات الانسداد ) وإنّما يَرون الفرق بينهما - بناءاً على الظّن الخاص - فيقولون بحجّية الظّن في الفروع دون الاُصول .

( و ) كذا لايرون الفرق بين الفروع والاُصول بناءاً على ( إقتضاء العقل كفاية الخروج الظّني عن عهدة التكاليف الواقعيّة ) حال الانسداد .

والحاصل من الجواب على إشكال عدم حجّية الظّن في الاُصول أمران :

أوّلاً : لا شهرة ولا إجماع على عدم حجّية الظّن في المسائل الاُصولية.

ثانياً : لو سلّمنا الشهرة والاجماع ، فهما يقولان بعدم حجّية الظّن في المسائل الاُصولية على تقدير الانفتاح وحجّية الظن الخاص ، وكلامنا نحن في حال الانسداد .

( وثالثاً : سلّمنا قيام الشّهرة والاجماع المنقول على عدم الحجّية على تقدير الانسداد ) أي : سلّمنا عدم صحة جوابنا الأوّل ، وعدم صحة جوابنا الثاني ( لكنّ المسألة أعني : كون مقتضى الانسداد هو العمل بالظّن مطلقاً ) مقابل الظنون الخاصة ( في الفروع دون الاُصول ، عقليّة ) لأنّ العقل يقول : لا حجّية للظّن في الاُصول ( والشّهرة ونقل الاجماع إنّما يفيدان الظّن في المسائل التوقيفية ، دون العقلية ) لأنّ العقل لايحتاج في حكمه الى ملاحظة حكم الغير .

ص: 30

ورابعاً : إنّ حصول الظنّ بعدم الحجّية مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية لا يجتمعان ، فتسليمُ دليل الانسداد يمنعُ من حصول الظنّ .

وخامساً : سلّمنا حصولَ الظنّ ، لكنّ غايةَ الأمر دخولُ المسألة فيما تقدّم من قيام الظنّ على عدم حجّية الظنّ ، وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى ، فراجع .

-------------------

والحاصل : إنَّ العقل يقول لاحجّية للظّن في الاُصول ، وأنتم تقولون الظّن حجّة في الاُصول لقيام الشّهرة على حجّيته ، فهو مثل أن يقول إنسان : يستحيل إجتماع النقيضين عقلاً ، وأنتم تقولون الشهرة قامت على جواز إجتماع النقيضين .

( ورابعاً : إنّ حصول الظّن بعدم الحجّية ) لأن الشهرة والاجماع لما قاما على عدم الحجّية كان معناه : انّا نظنّ بسبب الشهرة والاجماع عدم حجّية الظّن في الاُصول ( مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية ) لأن المفروض : إنّ الظّن حاصل في المسائل الاُصولية لكنّه ليس بحجّة على كلامكم ، ( لا يجتمعان ) إذ كيف يجتمع الظّنّ بعدم الحجّية مع الظّن بالحجّية ؟ .

وعليه : ( فتسليم دليل الانسداد ) في الاُصول ( يمنع من حصول الظّنَّ ) فيها ، فالظّن في المسألة الاُصولية لايحصل أصلاً .

( وخامساً : سلّمنا حصول الظّنّ ) الذي منعناه في الجواب الرابع ( لكن غاية الأمر دخول المسألة فيما تقدّم من قيام الظّنَّ على عدم حجّية الظّنّ ) فهو من قبيل الظّن المانع والممنوع .

( وقد عرفت : انّ المرجع فيه الى متابعة الظّنّ الأقوى ، فراجع ) ونتيجة ذلك : أنّه ربّما يكون الظّنّ في مسائل أُصول الفقه حجّة ، وربّما لايكون حجّة ، فأين ما ذكرتم بأنّه لا حجّية للظّن في المسائل الاُصولية إطلاقاً ، حيث إستدللتم

ص: 31

الأمر الرابع

انّ الثابتَ بمقدّمات دليل الانسداد هو الاكتفاءُ بالظنّ في الخروج عن عهدة الأحكام المنسدّ فيها بابُ العلم ، بمعنى أنّ المظنونَ إذا خالف حكمَ اللّه الواقعيّ لم يعاقب عليه بل يثاب عليه ، فالظنّ بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعيّ الممتثل .

وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجيّ على ذلك المعيّن ، فلا دليل على الاكتفاء فيه بالظنّ .

-------------------

على ذلك بقيام الاجماع والشهرة على عدم حجّية الظّن في مسائل أُصول الفقه ؟ لكن لايخفى : إنَّ بعض هذه الأجوبة محل تأمّل ، وحيث إنّا بصدد الشرح غالباً نترك بيان الاشكال فيها الى المفصلات .

( الأمر الرابع : ) من تنبيهات الانسداد ( إنَّ الثابت بمقدمات دليل الانسداد ) هو حجّية الظّن في الأحكام وفي مقدماتها ، أمّا في التطبيقات فالظّن ليس بحجّة ، فالثابت بدليل الانسداد ( هو الاكتفاء بالظّن في الخروج عن عهدة الأحكام المسندّ فيها ) أي : في تلك الأحكام ( باب العلم ) والعلمي ( بمعنى : أنَّ المظنون إذا خالف حكم اللّه الواقعي لم يعاقب عليه ) أي : العامل بالظّن لا يعاقب على تركه حكم اللّه الواقعي . وإنّما لايعاقب لأنّه عمل بظنّه ( بل يثاب عليه ) لأنّه مأمور بالأمر العقلي المستتبع للأمر الشرعي ، أو بالأمر الشرعي على إتباع الظنّ ( فالظّن بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل ) « الممتثل » مفعول « يكفي » ، يعني يكفي المكلّف الظنّ .

( وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعيّن ) أي : على ذلك الحكم المعين بحسب الظّن ( فلا دليل على الاكتفاء فيه ) أي : في التطبيق (بالظّن)

ص: 32

مثلاً ، إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيينُ الواجب الواقعيّ بالظنّ ، فلو ظننّا وجوبَ الجمعة فلا نُعاقَبُ على تقدير وجوب الظهر واقعاً ، لكن لا يلزمُ من ذلك حجّيةُ الظنّ في مقام العمل على طبق ذلك الظنّ ، فاذا ظننّا بعد مضيّ مقدار من الوقت بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن إحتمل نسيانها فلا يكفي الظنّ بالامتثال من هذه الجهة ، بمعنى أنّه إذا لم نأت بها في الواقع ونسيناها قام الظنّ بالاتيان مقامَ العلم به ، بل يجب بحكم الأصل وجوبُ الاتيان بها .

-------------------

بل اللاّزم أن يكون التطبيق بالعلم والعلمي .

( مثلاً : إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظّهر ، جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظّن ) وانّه هل الواجب في يوم الجمعة أن نأتي بصلاة الجمعة ، أو بصلاة الظهر ؟ ( فلو ظننّا وجوب الجمعة فلا نعاقب ) من قبل المولى ( على تقدير وجوب الظّهر واقعاً ) لأنّ العقل والشرع قالا بإتباع الظنّ .

( لكن لايلزم من ذلك ) أي : من حجّية الظنّ على وجوب الجمعة ( حجّية الظّن في مقام العمل على طبق ذلك الظّن ) ، بل اللازم أنّ نأتي بالجمعة قطعاً بأن نقطع بأنّا أتينا بالجمعة ، لا أن نظنّ أنّا أتينا بالجمعة .

وعليه : ( فإذا ظنّنا بعد مضي مقدار من الوقت ) يسع لفعل الجمعة ( بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن احتمل نسيانها ، فلا يكفي الظّن بالامتثال من هذه الجهة ) أي : من جهة إنّا أتينا بالجمعة ( بمعنى : أنّه إذا لم نأت بها ) أي : بالجمعة

( في الواقع ونسيناها ، قام الظّن بالاتيان مقام العلم ) فالظّن حجّة في أصل وجوب الجمعة ، أمّا الاتيان بها في يوم الجمعة ، فاللازم أن يكون مقطوعاً ( به ، بل يجب بحكم الأصل ) أي : أصالة عدم الاتيان ( وجوب الاتيان بها ) أي : بالجمعة .

ص: 33

وكذلك لو ظننّا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظنّ بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال .

وبالجملة : إذا ظنّ المكلّفُ بالامتثال وبراءة ذمّته وسقوط الواقع ، فهذا الظنّ إن كان مستنداً الى الظنّ في تعيين الحكم الشرعيّ كان المكلّفُ فيه معذوراً مأجوراً على تقدير المخالفة للواقع ، وإن كان مستنداً إلى الظنّ بكون الواقع في الخارج منه

-------------------

( وكذلك لو ظّننا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة ) ولم نعلم بالدخول علماً قطعياً ( فلا يقتصر على هذا الظّن ) بل اللازم الاتيان بها بعد القطع بدخول الوقت ( بمعنى : عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال ) أي : إنَّ هذا الظّن لايرفع العقاب على تقدير كونه مخالفاً للواقع .

والحاصل : انّه لايكفي الظّن في أصل الاتيان ، أو في شرطه ، أو في جزئه ، كما إذا ظنّ بأنّه قد قرأ الحمد ، والحال إنّه بعد في محله فالمثال الأوّل : لأصل الاتيان ، والمثال الثاني : للشرط ، ولم يذكر المصنّف مثال الجزء إكتفاءاً منه بذكر الشرط ، لأن الشرط والجزء لهما حال واحد .

( وبالجملة : إذا ظنّ المكلّف بالامتثال و ) ظنّ ب- ( برائة ذمته وسقوط الواقع ) عنه ( فهذا الظّن إن كان مستنداً الى الظنّ في تعيين الحكم الشرعي ) بأن تعلق الظّن بأصل الحكم الشرعي ، أو بمقدماته ، كمسائل الاُصول ( كان المكلّف فيه معذوراً مأجوراً على تقدير المخالفة للواقع ) وذلك للمصلحة السلوكية الَّتي ذكرناها في أوّل الكتاب .

( وإن كان مستنداً إلى الظّن بكون الواقع في الخارج منه ) أي : من الحكم

ص: 34

منطبقاً على الحكم الشرعيّ فليس معذوراً ، بل يُعاقبُ على ترك الواقع أو ترك الرجوع الى القواعد الظاهريّة التي هي المعوّل لغير العالم .

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ الظنّ بالأُمور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها على المفاهيم الكلّيّة التي تعلّق بها الأحكام الشرعيّة لا دليلَ على اعتباره ، وأنّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسدّ فيه بابُ العلم ، لفقد الأدلّة المنصوبة من الشارع وإجمال ما وجد منها .

-------------------

( منطبقاً على الحكم الشرعي ، فليس معذوراً ، بل يعاقب على ترك الواقع ، أو ترك الرّجوع الى القواعد الظّاهرية الّتي هي ) أي : القواعد الظاهرية ( المعوّل لغير العالم ) وذلك لأنه لا إنسداد في مقام التطبيق ، وانّما الانسداد في مقام الحكم ، فاللازم في مقام التطبيق سلوك الطرق العقلائية من العلم أو العلمي .

هذا وقول المصنّف : « على ترك الواقع ، أو ترك الرجوع » ، اشارة الى التسوية بين الواقع ، وبين القواعد الظاهرية ، التي على المكلّف الرّجوع الى أيهما شاء ، لأنا ذكرنا في مسألة القطع : إنَّ العلمي في عرض العلم وإنّ تمكن المكلّف من العلم .

( وممّا ذكرنا ) : من انَّ الظنّ حجّة في الأحكام لا في التطبيقات ( تبيّن : أنَّ الظّنّ

بالاُمور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها ) أي : بإنطباق هذه الاُمور الخارجية ( على المفاهيم الكلّية الَّتي تعلّق بها ) أي : بتلكَ المفاهيم الكلّية ( الأحكام الشرعيّة ، لا دليل على اعتباره ) أي : اعتبار هذا الظّن .

( و ) تبين أيضاً : ( انَّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسدّ فيه باب العلم ، لفقد الأدلة المنصوبة من الشّارع ، وإجمال ما وجد منها ) أي : من تلك الأدلة .

ص: 35

ولا يعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ، فانّ المعذور فيه هو الظنّ بأنّ قبلةَ العراق مابين المشرق والمغرب ، أمّا الظنّ بوقوع الصلاة إليه فلا يُعذر فيه .

فظهر اندفاعُ توهّم أنّه إذا بنى على الامتثال الظنيّ للأحكام الواقعيّة فلا يُجدي إحراز العلم بانطباق الخارج

-------------------

والواو في قوله : « وإجمال » ، للترديد لا للجمع ، أي : في مقام فقد الدليل أو إجمال الدّليل ، مثل قولهم :« الكلمة : اسم وفعل وحرف » ، حيث انَّ الكلمة الواحدة ليست كل ذلك ، بل المراد : انَّ الكلمة : إمّا إسم ، أو فعل ، أو حرف .

( ولايعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ) أي : من جهة الأحكام ، فالجاهل غير معذور من جهة التطبيقات .

هذا والمراد بالجاهل غير المعذور هنا : غير العالم ولو كان ظانّاً مع التمكن من العلم ، أمّا إذا لم يتمكن من العلم ، فمعذور قطعاً ويقوم الظنّ مقام العلم ، مثل من غَمَّت لديه الشهور بالنسبة الى الصيام ، ومن كان في سجن مظلم بالنسبة الى أوقات الصلاة ، والى غير ذلك ، وقد ذكر المصنّف لذلك مثالاً بقوله : ( فانَّ المعذور فيه هو الظّن بأن قبلة العراق مابين المشرق والمغرب ) أي : فيما إذا لم يعلم الانسان خصوصية القبلة ، وإنّما علم إجمالاً انّها بين المغرب والمشرق ، فاذا صلى فيما بينهما صحت صلاته .

( أمّا الظّن بوقوع الصّلاة اليه ) أي : الى مابين المغرب والمشرق ( فلا يعذر فيه ) لو خالف الواقع ( فظهر ) ممّا ذكرناه : من أنّ الظّن الانسدادي حجّة في الأحكام ، لا في التطبيقات ( اندفاع توهّم ) صاحب القوانين : من ( انّه إذا بنى على الامتثال الظّني للأحكام الواقعيّة ، فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج

ص: 36

على المفهوم ؛ لأنّ الامتثال يرجع بالآخرةِ الى الامتثال الظنّي ، حيث أنّ الظانّ بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب إمتثالهُ للتكاليف الواقعيّة ظنيٌّ ، عَلِمَ بما بين المشرق والمغرب أو ظَنَّ .

وحاصله : انّ حجّية الظنّ في تعيين الحكم بمعنى معذوريّة الشخص مع المخالفة لايستلزم حجّيته في الانطباق بمعنى معذوريّته لو لم يكن الخارجُ منطبقاً على ذلك الذي عيّن وإلاّ لكان الاذنُ في العمل بالظنّ في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها

-------------------

على المفهوم ) إذ أي فائدة في العلم بالانطباق والحال انّه بالتالي يرجع الى الظّن ؟ لأنَّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين كما قال :

( لأنَّ الامتثال يرجع بالآخرة إلى الامتثال الظّني حيث انَّ الظّان بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب إمتثاله للتكاليف الواقعيّة ظنّي ، علم بما بين المشرق والمغرب أو ظنّ ) فاذا كان إنسداد بالنسبة الى نقطة القبلة بين المشرق والمغرب ، فكما يجوز انّ يعمل بالظّن في النقطة الخاصة ما بينهما ، كذلك يجوز أن يعمل بالظّن بأنّه مابين المشرق والمغرب أولاً .

( وحاصله : ) أي : حاصل الاندفاع والجواب عن صاحب القوانين هو : ( انّ حجّية الظّنّ في تعيين الحكم بمعنى : معذوريّة الشّخص مع المخالفة ) للواقع ، مخالفة للحكم ( لايستلزم حجّيته ) أي : حجّية الظّنّ ( في الانطباق ) والحجّية هنا ( بمعنى : معذوريّته ) أي : معذورية الشّخص في العمل الخارجي ( لو لم يكن الخارج منطبقاً على ذلك الّذي عيّن ) بالظّن .

( وإلاّ لكان الاذن في العمل بالظّن في بعض شروط الصّلاة ، أو أجزائها ، يوجب جوازه ) أي : جواز العمل بالظّن ( في سائرها ) أي : في سائر الأجزاء

ص: 37

وهو بديهيّ البطلان .

فَعلِمَ أنّ قياس الظنّ بالأمور الخارجيّة على المسائل الاصوليّة واللغويّة وإستلزامه الظنَّ بالامتثال قياسُ مع الفارق ، لأنّ جَميع هذه يرجعُ إلى شيء واحد هو الظنُّ بتعيين الحكم .

-------------------

والشرائط .

وإنّما قلنا : « وإلاّ لكان الاذن . . . » لنفس الدّليل الّذي ذكره القوانين بقوله : « لأنّ الامتثال يرجع بالآخرة الى الامتثال الظنّي . . . » .

( وهو ) إشارة الى قوله : وإلاّ لكان الاذن . . . » ( بديهيّ البطلان ) لوضوح : انّه إذا لم نتمكن من العلم في وجوب السورة وتمكنا من العلم بوجوب الحَمد ، لا يجوز لنا ترك العلم بالحمد الى الظّنّ به ، فان يتنزَّل من العلم الى الظّنّ بقدر الاضطرار ، ولا إضطرار بالنسبة الى الحمد ، وإنّما الاضطرار بالنسبة الى السورة فقط .

( فعلم : انّ قياس الظّنِّ بالاُمور الخارجية ) الذي فعله صاحب القوانين حيث قال : بأن الظّن في التطبيقات الخارجيّة ( على المسائل الاُصولية واللّغوية ) حيث أنّ الظنّ حجّة في هذه المسائل ، ( وإستلزامه ) أي : هذا القياس كفاية ( الظّنّ بالامتثال ) فلا حاجة الى أن نقطع في التطبيق حتى يكون إمتثال ( قياس مع الفارق ) .

إذن : فالمسائل الاُصولية واللّغوية الظّن فيها حجّة ، أمّا التطبيقات الخارجية فالظنّ ليس حجّة فيها ( لأنّ جميع هذه ) أي : المسائل الاُصولية واللّغوية ( يرجع الى شيء واحد هو : الظّنّ بتعيين الحكم ) لا التطبيق ، فالتطبيق شيء ، وتعيين الحكم شيء آخر ، والظّن إنّما هو حجّة في تعيين الحكم ، لا في تطبيق الحكم

ص: 38

ثمّ إن المعلوم عدمُ جَريان دليل الانسداد في نفس الاُمور الخارجيّة ، لأنّها غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتّى يدّعى طروّ الانسداد فيها في هذا الزمان ، فيجري دليل الانسداد في أنفسها ، لأنّ مرجعها ليس الى الشرع ولا الى مرجع آخر منضبط .

-------------------

الكلي على المصداق الخارجي .

لا يقال : سلّمنا أنّه لايجري دليل الانسداد المرتبطة بالأحكام في التطبيقات الخارجية ، لكنّا نقرّر انسداداً آخر في باب التطبيقات .

لأنه يقال : ( ثمّ انّ المعلوم : عدم جريان دليل الانسداد في نفس الاُمور الخارجية ) والتطبيقات لكليات الأحكام على هذه الاُمور ، لنقرّر دليل الانسداد في الوقت بالنسبة الى الصلاة - مثلاً- وغير ذلك . وإنّما لايجري ( لأنّها ) أي : الاُمور الخارجية ( غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتى يدّعى طروّ الانسداد فيها ) أي : في تلك الأمارات والأدلة ، فليس مثل ما قرر الانسداد في الأحكام الشرعية حيث انّها منوطة بأدلة ، وأمارات مضبوطة : كالخبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، والأولوية ، والسيرة ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فانّ ( في هذا الزمان ) المتأخر عن زمان المعصومين عليهم السلام ، يجري الانسداد في الأحكام الشرعية فقط ، دون التطبيقات الخارجية ( ف- ) انّها غير منوطة بأدلة وأمارات مضبوطة ، حتى ( يجري دليل الانسداد في أنفسها ) .

إذن : فلا طريق للإنسداد في نفس تلك الأُمور الخارجية ( لانّ مرجعها ليس الى الشرع ، ولا إلى مرجع آخر منضبط ) حتى يدّعى طروّ الانسداد فيه ، لانّ الشيء المنضبط يجري فيه الانسداد اذا جهل ذلك الشيء المنضبط ، أمّا الشيء

ص: 39

نَعم ، قد يوجد في الأُمور الخارجيّة ما لا يبعدُ إجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي اُنيط به أحكام كثيرةٌ من جواز التيمّم والافطار وغيرهما ، فيقال : إنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالبا إذ لا يُعلم غالبا إلا بعد تحققه ، فاجراء أصالة عدمه في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو الوقوع في الضرر غالبا ، فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظنّ .

-------------------

غير المنضبط فلا انضباط له حتى يكون معلوما تارةً ومجهولاً اُخرى ، فاذا كان معلوما وجب العلم فيه ، وإذا كان مجهولاً جرى الانسداد فيه .

( نعم ، قد يوجد في الاُمور الخارجية ما لا يبعد اجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي أُنيط به أحكام كثيرة ) حيث انّ الشارع جعل الضرر سبباً لأحكام كثيرة غير الأحكام الأوليّة ( من جواز التيمّم ) بدل الوضوء والغسل ( والافطار ) إذا كان الصوم ضاراً ( وغيرهما ) كالجبيرة ، ومناسك الحجّ ، حيث إنّ الاضطرار يغير الوضوء ، والغُسل ، والجبيرة ، ويغير جملة من أحكام الحجّ الى الأحكام الاضطرارية .

وإنّما يقرر الانسداد في باب الضرر بالكيفية التالية :

( فيقال : إنَّ باب العلم بالضرر منسدّ غالباً ، إذ لايُعلمُ غالباً ) الضرر ( إلا بعد تحقّقه ) وذلك يوجب الضرر على العباد إذا قيد الشارع : « لاضرر » بالعلم بالضرر ( فإجراء أصالة عدمه ) أي : عدم الضرر ( في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو : الوقوع ، في الضرّر غالباً ) والشارع لايريد ضرر المكلفين لأنّه قال : « لا ضَرَرَ ولا ضرار » ( فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظّن ) .

وعليه : فكلّما ظنّ المكلّف الضرر تبدّل حكمه من الحكم الأولي الى الحكم

ص: 40

هذا إذا أُنيط الحكمُ بنفس الضرر ، وأمّا إذا اُنيط بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك ، بل يشمل حينئذٍ الشكّ أيضاً .

ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما

-------------------

الثانوي ، وإذا لم يظنّ الضرر كان مكلّفاً بالحكم الأولي .

ثمّ أن ( هذا ) الذي ذكرناه : من جريان دليل الانسداد في باب الضرر إنّما هو ( إذا أنيط الحكم بنفس الضّرر ) بأن قال الشارع : إنَّ الّذي يتضرر بالصوم لا يصوم ، وإنّ الذي يتضرر بالوضوء والغسل يتيمم ، وهكذا .

( وأمّا اذا أُنيط ) الحكم الضرري ( بموضوع الخوف ) بأن قال الشّارع : إذا خفت الضرر فلا تصم ، أو لاتحج ، أو تتيمم ، أو ما أشبه ( فلا حاجة الى ذلك ) الانسداد ( بل يشمل حينئذٍ ) موضوع الخوف ( الشّكَ أيضاً ) .

وعليه : فاذا شك في انّ الشيء الفلاني ضرر عليه أو لا وخاف الضرّر ، تنزَّل الى الحكم الثانوي ، بل إذا كان الموضوع هو خوف الضرر شمل الوهم أيضاً فان الخوف يشمل الوهم ، فاذا كان اللصوص يقتلون راكبي سيارة من عشر سيارات ، فالراكب في احداها متوهم انّه يقتل لا شاك ، لأنّ الشك فيما كان طرفاه متساويين ، بينما هنا إحتمال السلامة تسعة من عشرة ، وإحتمال القتل واحد من عشرة ومع ذلك يقول العقلاء هنا خوف الضرر .

( ويمكن أن يجري مثل ذلك ) أي : مثل موضوع الضرر ( في مثل العدالة ، والنّسب ، وشبههما ) كقيم المتلفات ، والأرش في الجنايات ، وما أشبه ذلك ، فان سبيل العلم بها على الوجه المضمون من الزيادة والنقيصة غير موجود غالباً ،

ص: 41

من الموضوعات التي يلزمُ من إجراء الاُصول فيها مع عدم العلم ، الوقوعُ في مخالفة الواقع كثيراً ، فافهم .

-------------------

إذ يضطرب فيها السوق والخبراء ويزيدون وينقصون باختلاف الرغبات .

وإلى غير ذلك ( من الموضوعات التّي يلزم من إجراء الاُصول فيها مع عدم العلم ، الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً ) .

مثلاً : إذا شككنا في أرش الجناية بأنه عشرة ، أو مائة ، أو خمسمائة ؟ فأجرينا أصل عدم الزيادة عن العشرة على الجاني ، وكذا أجرينا أصل عدم العدالة في هذا الشاهد ، وفي هذا الامام ، وفي هذا القاضي ، وفي هذا المرجع ، وأصل عدم انتساب هذا الولد الى هذا الأب ،وأصل عدم أخوة زيد وعمرو فيما إذا مات أحدهما وادعى الآخر ارثه ، وأصل عدم الضرر في الوضوء والغسل والصوم ، وهكذا ، لزم الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً .

ولهذا نجري الانسداد الصغير في هذه الاُمور ونقول : لا شك أنّ هناك أضراراً ، وطريق العلم اليها منسدّ ، وإجراء الأصل فيها يوجب الوقوع في كثير من تلك الأضرار ، التي لايرضى بها الشّارع ، والاحتياط عسرٌ ، وغير ذلك من مقدمات الانسداد ، فاللازم أن يكون المرجع في تلك الأضرار : الظّن ، فكلما ظننّا بالضرر عملنا بالحكم الثانوي كالتيمم ، وكل ما لم نظنّ بالضرر عملنا بالحكم الأولي من باب الكشف ، أو من باب الحكومة .

وهكذا نقول في العدالة والنَسب وغيرهما .

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى أنّه لايجري الانسداد في هذه الموضوعات مطلقاً ، وإنّما يجري الانسداد فيما تمت فيه مقدّمات الانسداد من وقوع العُسر والحَرج والخروج عن الدّين ، وما أشبه .

ص: 42

الأمر الخامس

اشارة

في اعتبار الظنّ في اصول الدّين والأقوالُ المستفادةُ من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة ، من حيث وجوب مطلق المعرفة أو الحاصلة عن خصوص النظر وكفاية الظنّ مطلقاً أو في الجملة ، ستّةٌ :

-------------------

أو أنّ مراده من قوله : « فافهم » ، أنَّ العدالة ، والنَسب ، والضرر ، ونحوها ، يؤخذ من العرف حتى بدون الظن الشخصي ، لأنَّ الشارع لم يجعل فيه طريقاً جديداً ، والعرف لهُ موازين خاصة في هذه الاُمور ، فلا حاجة الى جريان الانسداد فيها .

( الأمر الخامس ) من تنبيهات الانسداد : ( في اعتبار الظّنّ في اُصول الدّين ، و ) أنّه هل يكفي الظّنّ أو يلزم فيه العلم ؟ .

( الأقوال المستفادة من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة من حيث وجوب مطلق المعرفة ) ولو كانت حاصلة من التقليد ( أو الحاصلة عن خصوص النّظر ) والاجتهاد ( وكفاية الظّنّ مطلقاً ) من أي سبب كان ( أو في الجملة ) أي : من أسباب خاصة ( ستة ) .

هذا وقد عرفت : أن أُصول الأقسام أربعة :

الأوّل : وجوب المعرفة العلمية مطلقاً ولو من التقليد .

الثاني : وجوب المعرفة الحاصلة من النظر فقط .

الثالث : كفاية الظّن مطلقاً من أي : سبب حصل .

الرابع : كفاية الظّن في الجملة لا كلّ ظنّ .

ص: 43

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف عن الأكثر وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح إجماع العلماء كافّةً .

وربّما يُحكى دعوى الاجماع عن العضدي ، لكنّ الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في العقليات من اُصول الدّين دعوى إجماع الاُمة على وجوب معرفة اللّه .

الثاني : اعتبارُ العلم ولو من التقليد ، وهو المصرّح به في كلام بعضٍ والمحكي عن آخرين .

الثالث : كفايةُ الظنّ مطلقاً ،

-------------------

وكيف كان : - فقد ذكر المصنّف هنا أقوالاً ستة :

( الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ) ولو كان إستدلالاً خفيفاً ( وهو المعروف عن الأكثر ، وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح : إجماع العلماء كافة ) على أنّه يجب معرفة اُصول الدين بالنظر والاستدلال . ( وربّما يُحكى دعوى الاجماع عن العضدي ) من العامّة ( لكن الموجود منه ) أي : من كلام العضدي ( في مسألة عدم جواز التّقليد في العقليّات من اُصول الدّين : دعوى إجماع الاُمة على وجوب معرفة اللّه ) سبحانه ، وليس فيه تعرض لاعتبار العلم ولا لزوم كونه حاصلاً عن الاستدلال والنظر .

( الثّاني : اعتبار العلم ولو من التّقليد ) فلا حاجة الى الاستدلال والنظر ( وهو المصرّح به في كلام بعض والمحكي عن آخرين ) من علمائنا .

( الثالث : كفاية الظّنّ مطلقاً ) في مقابل القول الرابع والخامس حيث فيهما

ص: 44

وهو المحكيّ عن جماعة ، منهم : المحقّق الطوسيّ في بعض الرسائل المنسوبة إليه ، وحكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه ، وعن المحقّق الأردبيليّ وتلميذه صاحب المدارك ، وظاهر شيخنا البهائيّ والعلاّمة المجلسيّ والمحدّث الكاشاني قدس سرهم .

الرابع : كفايةُ الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائيّ ، في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنّه نسبه إلى بعض .

الخامس : كفايةُ الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس سره ، في النهاية عن الأخباريين ،من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين

-------------------

يشترط الظّن من طرق خاصة ( وهو المحكي عن جماعة منهم المحقق الطّوسي في بعض الرّسائل المنسوبة اليه ، وحكي نسبته اليه في فصوله ) لأنّ المحقّق الطوسي كتب كتاباً سمّاه الفصول ( ولم أجده فيه ) أي : في ذلك الكتاب .

( وعن المحقّق الأردبيلي ، وتلميذه صاحب المدارك ، وظاهر شيخنا البهائي ، والعلاّمة المجلسي ، والمحدّث الكاشاني قدس سرهم ) هذا القول أيضاً ، حيث انهم اكتفوا بالظّنّ مطلقاً في اُصول الدين .

( الرّابع : كفاية الظّنّ المستفاد من النظر والاستدلال ، دون التّقليد ) فالظّن إذا كان مستنداً إلى التقليد لم يكف ، أمّا إذا كان مستنداً إلى الاستدلال والنظر كفى ( حكي عن شيخنا البهائي في بعض تعليقاته على شرح المختصر انّه نسبه الى بعض ) علمائنا .

( الخامس : كفاية الظّنّ المستفاد من أخبار الآحاد وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس سره في النّهاية عن الأخباريّين : من انّهم لم يعوّلوا في اصول الدين

ص: 45

وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، وحكاه الشيخُ في عدّته في مسألة حجّية أخبار الآحاد عن بعض غفَلَةِ أصحاب الحديث ، والظاهرُ أنّ مراده حَمَلَةُ الأحاديث الجامدون على ظواهرها المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة المعارضة لتلك الظواهر .

السادس :كفايةُ الجزم بل الظنّ من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً ، لكنّه معفوّ عنه ،

-------------------

وفروعه ، إلاّ على أخبار الآحاد ) وحيث انَّ خبر الواحد يوجب الظّنّ النوعي فظاهر كلامهم : انَّ الظّنّ في اُصول الدين كاف .

( وحكاه الشيخ في عدّته في مسألة حجّية أخبار الآحاد عن بعض ، غفلة أصحاب الحديث ) أي : الغافلين الذين يحملون الأحاديث ، فانهم يرون صحة الاعتماد في اُصول الدين وفروع الدين على أخبار الآحاد .

( والظاهر أنَّ مراده : حَمَلَة الأحاديث ، الجامدون على ظواهرها ، المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة ، المعارضة لتلك الظواهر ) كما ان الظاهر : عدم وجود مثل هؤلاء في الشيعة الذين نعرفهم ، فلعلّ الشيخ أراد به الظاهرية من العامّة والحَشوية .

( السادس : كفاية الجزم بل الظّن من التقليد ، مع كون النّظر واجباً مستقلاً لكنّه معفوّ عنه ) فهنا مسألتان :

أولاً : مسألة وجوب الجزم أو الظنّ ولو من التقليد .

ثانياً : مسألة وجوب النظر .

فاذا ترك وجوب النظر ترك واجباً ، لكنّه لم يترك المعرفة الواجبة إذا كان له جزم ، أو ظنّ تقليدي .

ص: 46

كما يظهر من عدّة الشيخ قدس سره ، في مسألة حجّية أخبار الآحاد وفي أواخر العدّة .

ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقّح ، فالأولى ذكرُ الجهات التي يمكن أن يتكلّمَ فيها ، وتعقيبُ كلّ واحدة منها بما يقتضيه النظرُ من حكمها ، فنقول مستعيناً باللّه : انّ مسائل اصول الدّين ، وهي التي لايطلب فيها أوّلاً وبالذات إلاّ الاعتقادُ باطناً والتديّنُ ظاهراً وإن ترتّب على وجوب ذلك بعضُ الآثار العمليّة على قسمين :

-------------------

( كما يظهر من عدة الشيخ قدس سره في مسألة حجّية أخبار الآحاد ، وفي أواخر العدّة ) .

وإنّما ذكر المصنّف هذا التنبيه هنا ، لنرى : انّه مع الانفتاح هل يكفي الظّنّ بأصول الدين أو يلزم العلم بها ؟ وانّه مع الانسداد لباب العلم في اُصول الدين هل تجري مقدمات الانسداد في هذا الباب أيضاً كما تجري في باب المسائل الشرعية أم لا ؟ .

( ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام ) في باب اصول الدين ( غير منقّح ، فالأولى ذكر الجهات التّي يمكن أن يتكلّم فيها وتعقيب كلّ واحدة منها ) أي : من هذه الجهات ( بما يقتضيه النظر من حكمها ، فنقول مستعيناً باللّه ) متوكلاً عليه :

( إنّ مسائل اُصول الدّين ، وهي الَّتي لا يطلب فيها أولاً وبالذات إلاّ الاعتقاد باطناً والتدين ظاهراً ) وذلك بأن يعتقد بقلبه ويقرّ بلسانه ( وان ترتب على وجوب ذلك ) الاعتقاد الباطني والتدين الظاهري ( بعض الآثار العمليّة ) كالمطالعة لمعرفة الحق ، والاستماع لقائل الحق ، والتعلم ، وما أشبه ذلك ( على قسمين ) كالتالي :

ص: 47

أحدُهما ما وجب على المكلّف الاعتقادُ والتديّنُ غيرَ مشروط بحصول العلم ، كالمعارف ، فيكون تحصيلُ العلم من مقدّمات الواجب المطلق فيجبُ .

الثاني :مايجبُ الاعتقادُ والتديّنُ به إذا اتفق حصولُ العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف .

وأمّا الثاني : فحيث كان المفروضُ عدمُ وجوب تحصيل المعرفة العلميّة ، كان الأقوى القولَ بعدم وجوب العمل فيه بالظنّ لو فرض حصوله

-------------------

( أحدهما : ما وجب على المكلّف الاعتقاد والتدّين غير مشروط بحصول العلم ) بأن قال الشارع له : يجب عليكَ أن تعتقد وتتدين ( كالمعارف ) الخمسة من اُصول الدين ( فيكون تحصيل العلم من مقدّمات الواجب المطلق ، فيجب ) هذا التحصيل للعلم وهذا أوّلاً وبالذّات عقلي ، وثانياً وبالعرض شرعي لا بالنسبة الى جميع الاُصول الخمسة ، فإن مثل الامامة يكون - كما قاله جمع - بدليل شرعي بعد ثبوت النبوة على ما ذكرنا بعض تفصيله في كتاب « الاُصول » .

( الثّاني : مايجب الاعتقاد والتديّن به إذا اتّفق حصول العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف ) الخمسة : من أحوال البرزخ والمعاد ، وخصوصيات الجنة والنّار ، وكذلك خصوصيات النبيّ والامام صلوات اللّه عليهما .

( وأمّا الثّاني : ) وهو ما يجب الاعتقاد والتديّن إذا اتفق حصول العلم به ( فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل المعرفة العلميّة ) بالنسبة اليه ، ( كان الأقوى القول : بعدم وجوب العمل فيه بالظّن لو فرض حصوله ) يعني : انّه لو فرض حصول الظّنّ بخصوصيات البرزخ وما أشبه ، لم يجب العمل بذلك بأن يلتزم به قلباً ، ويظهره للناس لساناً ، وما أشبه ذلك .

ص: 48

ووجوب التوقف فيه ، للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقّف ، وأنّه : « إذا جَاءَكُم ماتَعلَموُن فقُولُوا به ، وإذا جَاءَكُم ما لاتَعلَمُونَ فها ، وأهوى بيده إلى فيه » ، ولا فرقَ في ذلك بين أن يكون الأمارة في تلك المسألة خبراً صحيحاً أو غيره .

-------------------

وعليه : فاذا لم يظهره لم يكن مشمولاً لقوله سبحانه : « إنَّ الّذيِنَ يكتُمُونَ ما أَنزَلنَا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ ، أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ وَيَلعَنُهُمُ اللاعِنُونَ » (1) .

ولم يكن مشمولاً للحديث القائل : « مَنْ كَتَم عِلما أَلجَمه اللّه ُ تَعالى يَومَ القِيامَةِ بِلجامٍ مِن نَارٍ » (2) .

وذلك لإنصراف أمثال هذه الآيات والروايات الى ما علم به ، لا ماظنّ .

( و ) كذا كان الأقوى : القول بعدم ( وجوب التّوقّف فيه ) فلا يلتزم بنفسه بذلك ، هذا كله ( للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم ) كقوله سبحانه : « وَلاَتقفُ مَالَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (3) ( والآمرة بالتوقّف وانّه : « إذا جَائَكُم ما تَعلَمُونَ فَقُولُوا بهِ ، وَإذا جَائَكُم ما لاتَعلَمُونَ فَها » ) (4) قال الامام هذه الكلمة ( وأهوى بيده الى فيه ) أي : توقفوا واسكتوا ، ولعلّ : « ها » ، إسم فعل بمعنى : « تنبّه » ، والهاء في كلمة هذا من هذا القبيل ، لأنّ ذا : للإشارة ، وها : للتنبيه .

( ولا فرق في ذلك ) الّذي ظنّ به الانسان ممّا لايجب عليه إظهاره والعمل به ( بين أن يكون الأمارة في تلك المسألة خبراً صحيحاً ، أو غيره ) كالإجماع

ص: 49


1- - سورة البقرة : الآية 159 .
2- - منية المريد : ص42 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص78 ب13 ح66 و ج108 ص115 .
3- - سورة الاسراء : الآية 36 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .

قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة - بعد ذكر أنّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم - : « وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديقُ به مطلقاً وإن كان طريقهُ صحيحاً ، لأنّ خبر الواحد ظنّيّ ، وقد إختُلِف في جواز العمل به في الأحكام الشرعيّة الظنّية ، فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلميّة » ، انتهى .

وظاهرُ الشيخ في العدّة أنّ عدم جواز التعويل في اصول الدين على أخبار

-------------------

المنقول ، ونحو ذلك .

ويؤيده ما إستدل به المصنّف حيث قال : ( قال شيخنا الشهيد الثّاني في المقاصد العليّة بعد ذكر : انَّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم ) ما لفظه :

( وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في ذلك من طريق الآحاد ، فلا يجب التّصديق به مطلقاً ) حتى ( وان كان طريقه صحيحاً ، لأنَّ خبر الواحد ظّنّي ، وقد إختلف في جواز العمل به في الأحكام الشرعيّة الظّنّية ) كالمسائل الفقهية ( فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلمية ) (1) التي يطلب فيها الاعتقاد والعلم ؟ .

والفرق بين العلم والاعتقاد : انَّ العلم هو : أن يعرف الانسان الشيء ، والاعتقاد هو : ان يعقد قلبه عليه ، فانَّ كثيراً مايعلم الانسان شيئاً لكنّه لايعقد ، قلبه عليه ، قال سبحانه : « وَجَحدُوا بها وَإستَيقَنَتها أَنفُسُهُم » (2) .

( إنتهى ) كلام الشهيد الثّاني قدس سره .

( وظاهر الشّيخ في العُدّة : انّ عدم جواز التّعويل في أصول الدّين على أخبار

ص: 50


1- - المقاصد العليّة : مخطوط .
2- - سورة النمل : الآية 14 .

الآحاد إتفاقيّ إلاّ عن بعض غَفَلِة أصحاب الحديث .

وظاهرُ المحكيّ في السرائر عن السيّد المرتضى عدمُ الخلاف فيه أصلاً ، وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم إعتبار أخبار الآحاد في اصول الفقه .

لكن يمكن أن يقال إنّه اذا حصل الظنّ من الخبر : فان أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدمَ تصديقه علماً أو ظنّاً ، فعدمُ حصول الأوّل كحصول الثاني قهريّ لايتّصفُ بالوجوب وعدمه .

-------------------

الآحاد إتّفاقي ) بين العلماء ( إلاّ عن بعض غَفَلَةِ أصحاب الحديث ) (1) الذين يعتمدون في اصول الدّين على أخبار الآحاد ، كما يعتمدون عليها في الفقه .

( وظاهر المحكي في السّرائر عن السيّد المرتضى ) رحمه اللّه ، هو : ( عدم الخلاف فيه أصلاً ) (2) وانّه لايعتمد في اُصول الدين على أخبار الآحاد .

( وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم إعتبار أخبار الآحاد في اُصول الفقه ) لأنّ أخبار الآحاد إذا لم يعتمد عليها في اُصول الفقه ، كان عدم الاعتماد عليها في اُصول الدين بطريق أولى .

( لكن يمكن أن يقال : انّه اذا حصل الظّن من الخبر ، فان أرادوا بعدم وجوب التصديق ، بمقتضى الخبر : عدم تصديقه علماً أو ظنّاً ؟ فعدم حصول الأوّل ) العلم ( كحصول الثّاني ) الظّنّ ( قهرّي ) لوضوح : انّه لم يحصل له العلم حتى يعلمه ، ووضوح : انّه ظنّ بذلك الشيء ، فهو ظّان به قهراً ، والظّنّ بالشيء قهراً ( لايتّصف بالوجوب وعدمه ) فانّه بعد حصول الشيء لايقال : إنّه واجب ، كما أنّه بعد حصول الشيء لايقال : إنَّ عدمه واجب .

ص: 51


1- - عدّة الاصول : ص53 .
2- - السرائر : ص6 .

وإن أَرادوا عدم التديّنَ به الذي ذكرنا وجوبهُ في الاعتقاديّات وعدمَ الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد - كما يظهر من بعض الأخبار الدالة على أنّ فرضَ اللسان القولُ والتعبيرُ عمّا عقد عليه القلبُ وأقرّ به ، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى : « قُولُوا آمَنّا باللّه ِ وَمَا أُنزِلَ إليَنَا » الى آخر الآية - فلا مانعَ من وجوبه في مورد خبر الواحد ، بناءا على أنّ هذا نوعُ عمل بالخبر ، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لايأبى الشمول لمثل ذلك .

-------------------

( وإن أرادوا ) بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر ( : عدم التّديّن به ، الّذي ذكرنا وجوبه ) أي : وجوب التدين . ( في الاعتقاديات ، و ) ذكرنا : ( عدم الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد ) القلبي ( كما يظهر من بعض الأخبار الدّالة على أنّ فرض اللّسان : القول والتّعبير عمّا عقد عليه القلب وأقرّ به ، مستشهداً ) الامام عليه السلام ( على ذلك ) أي : على أنّ فرض اللسان : القول والتعبير عمّا عقد عليه القلب ( بقوله تعالى : « قُولُوا آمَنَّا بِاللّه ِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا » (1) الى آخر الآية ) المباركة ؟ .

( فلا مانع من وجوبه ) أي : وجوب التدّين ( في مورد خبر الواحد ) قوله : « فلا مانع » ، خبر قوله : « وأن أرادوا عدم التّدين به » فانّ إرادتهم : عدم وجوب التّدين بمثل هذا الخبر غير تام ، وقوله : « فلا مانع » ، ردٌّ لما أرادوه من عدم التّديّن .

وإنّما قلنا : لامانع من وجوب التدين به ( بناءاً على أنّ هذا نوع عمل بالخبر ، فإنّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لايأبى الشّمول لمثل ذلك ) فمعنى صدّق العادل : العمل بقوله ، في مورد العمل ، والتدّين بقوله ، في مورد التدّين .

ص: 52


1- - سورة البقرة : الآية 136 .

نعم ، لو كان العملُ بالخبر لا لأجل الدليل الخاصّ على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة اليه لثبوت التكليف وإنسداد باب العلم ، لم يكن وجهٌ للعمل به في مورد لم يثبت التكليفُ فيه بالواقع كما هو المفروض ، أو يقال : إنّ عمدةَ أدلّة حجّية أخبار الآحاد وهي الاجماع العملي لاتساعدُ على ذلك .

-------------------

( نعم ، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدّليل الخاص على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة اليه لثبوت التكليف وإنسداد باب العلم ) أي : ان كان الخبر حجّة من باب الدليل الخاص ، أوجَب التدّين بما دلّ عليه الخبر من الاعتقاديات : كأحوال البرزخ والمعاد ، وأحوال الائمة والنبيّ والزهراء صلوات اللّه عليهم أجمعين .

وأمّا إن كان الخبر حجّة من باب الظّن العام ودليل الانسداد ( لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض ) فان وجوب التديّن والاقرار من آثار العلم بهذا النوع من الاعتقاديات لأنفسها حتى يقوم الظّن مقام العلم بعد تعذّر العلم بها .

( أو يقال ) في تقرير عدم الوجه للعمل بخبر الواحد وان كان حجّة من باب الظن الخاص ( : إنَّ عمدة أدلّة حجّية أخبار الآحاد وهي : الاجماع العملي ، لاتساعد على ذلك ) أي : لاتساعد على الأخذ بخبر الواحد في الاُمور الاعتقادية ، فالخبر الواحد لايلزم التديّن به في خصوصيات المَعاد والبَرزخ ، وصفات المعصومين عليهم السلام ، سواء كان حجّة من باب الظّن الخاص ، أو من باب الظّن العام ، والانسداد .

وعلى هذا : فقوله : « أو يقال » ، إضراب عمّا ذكره سابقاً بقوله : « فإن ما دلّ

ص: 53

وممّا ذكرنا يظهرُ الكلامُ في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في أصول الدين ، فانّه قد لايأبى دليلُ حجّية الظواهر عن وجوب التديّن بما تدلّ عليه من المسائل الاُصوليّة التي لم يثبت التكليف بمعرفتها .

لكن ظاهر كلمات كثير عدمُ العمل بها في ذلك .

ولعلّ الوجهَ في ذلك أنّ وجوبَ التديّن المذكور إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاُصوليّة ، لا من آثار نفسها .

-------------------

على وجوب تصديق العادل لايأبى الشمول لمثل ذلك » .

( وممّا ذكرنا ) : من شمول تصديق العادل لهذه الخصوصيات الاُصولية ، التي لاترتبط بصميم العقيدة ، لأنها ثانوية ( : يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اُصول الدّين ) الثانوية ، لا الاُصول الأولية : كالتوحيد ، والعَدل ، والنبوة ، والامامة ، والمعاد .

( فانّه قد لايأبى دليل حجّية الظّواهر عن وجوب التّدين بما تدلّ عليه ) ظواهر الكتاب ، والأخبار المتواترة ( من المسائل الاُصولية الّتي لم يثبت التكليف بمعرفتها ) إبتداءاً مثل : قصص الأنبياء ، وأحوال البرزخ ، وأحوال السيّدة مريم صلوات اللّه عليها ، وإلى غير ذلك .

( لكن ظاهر كلمات كثير : عدم العمل بها ) أي : بظواهر الكتاب ، والخبر المتواتر ( في ذلك ) لأنّ الظاهر ليس بقطعي .

( ولعلَّ الوجه في ذلك ) أي : عدم العمل بها ( : انَّ وجوب التّديّن المذكور ) بهذه المسائل الاُصولية الثانوية ( إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاُصولية ، لا من آثار نفسها ) أي : آثار نفس المسألة الاُصولية .

وعليه : فإذا علم الانسان هذه الاُمور ، وَجَبَ عليه التدّين بها ، لا لأنّه واقع ، فانّه

ص: 54

وإعتبار الظنّ مطلقاً أو الظنّ الخاصّ ، سواء كان من الظواهر أو غيرها ، معناه ترتيبُ الآثار المتفرعّة على نفس الأمر المظنون لا على العلم به .

وأمّا ما يتراءى من التمسّك بها أحياناً لبعض العقائد ، فلاعتضاد مدلولها بتعدّد الظواهر وغيرها

-------------------

لو كان الواجب التدّين لأنّه أمر واقعي حقيقي ، كان اللازم تحصيلها ، بينما المسائل الثانوية ليست كذلك فلا يجب التدّين إلاّ بعد العلم بها ، والمفروض : إنَّ ظاهر الكتاب والخبر المتواتر لايوجب العلم .

وإن شئت قلت : إنَّ وجوب التدّين بهذه الموضوعات الثانوية انّما هو مع وصف العلم بها ، لا لذاتها حتى يقوم الظّن مقام العلم ، فالتدّين في هذه المسائل الثانوية واجب مشروط ، لا واجب مطلق ، فحيث لا علم بهذه الاُمور ، لايجب التديّن بها ، وإن كانت ظواهر الكتاب والأخبار المتواترة تدّل عليها .

( و ) من المعلوم : انَّ ( إعتبار الظّنّ مطلقاً ) أي : الانسدادي ( أو الظّنّ الخاص ) كالخبر الواحد ، بناءاً على حجيته ( سواء كان ) الظّن حاصلاً ( من الظواهر ، أو غيرها ) كالظّن الحاصل من الاجماع ، ونحوه ( معناه : ترتيب الآثار المتفرعة على نفس الأمر المظنون ، لا على العلم به ) ، فليس وجوب التدّين بهذا النوع من الاُصول الثانوية من آثار نفسه ، بل من آثار العلم به كما هو المفروض .

( و ) إن قلت : فلماذا نراهم يتمسكون بهذه الظواهر من الآيات والأخبار على الموضوعات الاُصولية في كثير من الكتب الكلامية ؟ .

قلت : ( أمّا يترائى من التمسّك بها ) أي : بهذه الظواهر ( أحياناً لبعض العقائد ) المرتبطة بأحوال الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأحوال البرزخ والمعاد ، والجنّة والنار . (فلإعتضاد مدلولها ) أي : مدلول هذه الظواهر ( بتعدد الظّواهر وغيرها )

ص: 55

من القرائن وإفادة كلّ منها الظنّ ، فيحصلُ من المجموع القطعُ بالمسألة ، وليس إستنادُهم في تلك المسألة الى مجرّد أصالة الحقيقة التي لاتفيد الظنّ بارادة الظاهر ، فضلاً عن العلم .

ثمّ إنّ الفرقَ بين القسمين المذكورين وتمييز ما يجب تحصيلُ العلم به عمّا لا يجب

-------------------

أي : غير الظواهر ( من القرائن ) الدالة على تلك الظواهر ( وإفادة كلّ منها ) أي : من الظواهر ، وغير الظواهر من القرائن ( الظّنّ ، فيحصل من المجموع القطع بالمسألة ) .

وعليه : فالإستدلال إنّما هو لأجل القطع بالمسألة ، لا لأجل الظّنّ .

( وليس إستنادهم ) أي : العلماء ( في تلك المسألة ) الاُصولية الثانوية ( الى مجرّد أصالة الحقيقة ) بأن يقال : حيث إنَّ الأصل الحقيقة ، لا المجاز - فما دلّ على عدم رؤية اللّه سبحانه إطلاقاً ، كقوله تعالى : « لَن تَرانِي » (1) أي :- الى الأبد - كان مفاده إستحالة الرؤية ( الّتي لاتفيد ) أصالة الحقيقة هذه ( الظّنّ بإرادة الظّاهر ، فضلاً عن العلم ) فانّه ليس وجه إستنادهم هو : أصالة الحقيقة ، بل وجه إستنادهم هو : تجمع الظّنون الموجبة للقطع .

( ثمّ إنَّ الفرق بين القسمين المذكورين ) : الواجب المطلق ، والواجب المشروط ، بحصول العلم في المطلق دون المشروط ، وبعبارة أُخرى : الواجبات الأولية ، والواجبات الثانوية ( وتمييز ما يجب تحصيل العلم به ) لكونه واجباً مطلقاً ( عمّا لا يجب ) لكونه واجباً مشروطاً وإنّما إذا حصل العلم وجب

ص: 56


1- - سورة الأعراف : الآية 143 .

في غاية الاشكال .

وقد ذكر العلاّمة قدس سره في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوّة والامامة والمعاد أموراً لا دليل على وجوبها كذلك ، مدّعياً أنّ الجاهلَ بها عن نظرٍ واستدلالٍ خارجٌ عن رِبقَة الاسلام مستحقّ للعذاب الدائم .

-------------------

التدّين به يكون ( في غاية الاشكال ) .

وذلك انّه قد لايشك في بعضها ، فأصول الدّين الخمسة - مثلاً - لا شك في كونها واجباً مطلقاً ، ومن قرأ سورة كذا - مثلاً- أُعطي قصراً بوصف كذا في الجنّة ، لا شكَ في كونه واجباً مشروطاً إلاّ أنّ بعض الاُمور الاُصولية ، لايعلم هل أنه من القسم الأول ، أو من القسم الثاني ؟ .

هذا ( وقد ذكر العلاّمة قدس سره في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التّوحيد ، والنّبوة ، والامامة ، والمعاد : أُموراً لا دليل على وجوبها كذلك ) أي : على كونها واجباً مطلقاً غير مشروط بالعلم ( مدّعياً : انّ الجاهل بها عن نظر ) بأن لم يعلمها عن إجتهاد ( وإستدلال ، خارج عن ربقةِ الاسلام ، مُستَحقٌ للعذاب الدّائم ) (1) .

أقول : قال العلاّمة هناك : « فلابّد من ذكر ما لايمكن جهله على أحد من المسلمين ، ومن جهل شيئاً من ذلك ، خرج عن رِبقة المؤمنين ، وإستحق العذاب الدائم » ، ثمّ ذكر خصوصيات كثيرة في أُصول الدين ، لكن المشهور عدم وجوب الاعتقاد بها ، بمعنى : انّه لايجب تعليمها وتعلمها ، إضافة الى انَّ الغالب من الناس

ص: 57


1- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص6 .

وهو في غاية الاشكال .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضي عموم وجوب المعرفة ، مثلُ قوله تعالى : « وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والانس إلاّ لِيَعْبُدونِ » ، أي ليعرفون .

وقوله صلوات اللّه عليه وآله : « ما أعلَمُ شيئاً بَعدَ المَعرِفَةِ أفضلَ من هذه

-------------------

الذين هم ليسوا من أهل العلم ، لايعرفون ذلك ولم يحكم أحد بتكفيرهم .

ولا يخفى : إنَّ الرِبقة - بكسر الراء وسكون الباء - عبارة عن حَبل مستطيل فيه عرى ، تربط فيها الدواب ، وقد إستعاره العلاّمة هنا للحكم الجامع للمؤمنين وهو : إستحقاق الثواب الدائم والتعظيم الكامل بالنسبة الى من كان في هذه الرِبقة من المؤمنين .

( وهو في غاية الاشكال ) كما يظهر لمن راجع كلماتهم ، بل السيرة المستمرة بين المؤمنين منذ عهد الرسالة الى اليوم .

( نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضي عموم وجوب المعرفة ، مثل قوله تعالى : « وَما خَلقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إلاَّ لِيَعبُدُونِ » (1) ) فإن إطلاقه شامل لمعرفة صفاته سبحانه من الثبوتية والسلبية ونحوها ، كما في التفسير ( أي : ليعرفون ) فانّه لم أجد فيما عندي من الكتب ، تفسير ليبعدون ب- : ليعرفون ، عن الروايات ، وإنّما هذا قول بعض المفسّرين فقط ، وهو خلاف الظاهر ، فانّ العبادة ظاهرها : العمل ، لا الاعتقاد .

( وقوله صلوات اللّه عليه وآله : ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه

ص: 58


1- - سورة الذاريات : الآية 56 .

الصلوات الخمس » . بناءا على أنّ الأفضليّة من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزمُ الوجوب .

وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة إستشهاد الامام عليه السلام بها ، لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السابق عليهماالسلام ، وعمومات طلب العلم ،

-------------------

الصلوات الخمس ) (1) فانّ المعرفة في هذه الرواية مطلقة ( بناءاً على انَّ الأفضلية من الواجب - خصوصاً مثل الصّلاة - تستلزم الوجوب ) بالنسبة الى المعرفة فإنّه لامعنى لأنّ نفضّل شيئاً على شيء إلاّ أن يكونا شريكين في الجامع .

( وكذا عمومات وجوب التّفقّه في الدّين ، الشّامل للمعارف ، بقرينة إستشهاد الامام عليه السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السّابق عليهماالسلام ) كما تقدّم في روايات حجّية خبر الواحد ( وعمومات طلب العلم ) مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « طَلَبُ العِلمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَمُسلِمَةٍ » (2) .

وفي جملة من الروايات : « طَلبُ العِلمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِ مُسلِمٍ » (3)

ص: 59


1- - الكافي فروع : ج3 ص264 ح1 ، مفتاح الفلاح : ص44 ، دعوات الراوندي : ص27 ، غوالي اللئالي : ج1 ص318 ح64 (بالمعنى) .
2- - مجموعة ورام : ج2 ص176 ، غوالي اللئالي : ج4 ص70 ح36 ، كنز الفوائد : ج2 ص107 ، مشكاة الانوار : ص133 ، مصباح الشريعة : ص22 ، عدة الداعي : ص72 ، بحار الانوار : ج1 ص177 ب1 ح45 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح1 ، بصائر الدرجات : ص2 ، المحاسن : ص225 ، مشكاة الانوار : ص133 ، الامالي للمفيد : ص28 ، مجموعة ورام : ج2 ص14 ، دعائم الاسلام : ج1 ص83 ، روضة الواعظين : ص10 ، ارشاد القلوب : ص165 ، اعلام الدين : ص81 ، منية المريد : ص99 .

هو وجوبُ معرفة اللّه جلّ ذكره ومعرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والامام عليه السلام ، ومعرفة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على كلّ قادر يتمكّن من تحصيل العلم ، فيجبُ الفحص حتّى يحصل اليأسُ ، فإن حصل العلمُ بشيء من هذه التفاصيل إعتقد وتديّن وإلاّ توقّف ولم يتديّن بالظنّ لو حصل له .

ومن هنا قد يقال : إن الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة اللّه ومعرفة أولياءه ، صلوات اللّه عليهم ، أهمّ من الاشتغال بعلم المسائل العملية ، بل هو المتعيّن ،

-------------------

والى غير ذلك ، فإن مقتضى العموم ( هو وجوب معرفة اللّه جلّ ذكره ، ومعرفة النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلمومعرفة الامام عليه السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) .

قوله : « هو » ، خبر قوله : « إنّ مقتضى عموم وجوب المعرفة » ، انّ المعرفة واجبة ( على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتّى يحصل اليأس ) من العلم ( فان حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل ) الّتي ذكرها العلاّمة رحمه اللّه ( اعتقد وتديّن ) بها المكلّف ( وإلاّ توقف ولم يتدّين بالظّنّ لو حصل له ) الظّن ، اذ لا دليل على وجوب التدين بالظّن ، بل عموم : « إنّ الظَّنَّ لايُغني مِنَ الحقِّ شَيئاً » (1) وما أشبه ، دليل على أنّه يلزم عليه أن لايتدين بالظنّ .

( ومن هنا قد يقال : إنَّ الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة اللّه ، ومعرفة أوليائه صلوات اللّه عليهم ، أهمّ من الإشتغال بعلم المسائل العملية ) والفروع الفقهية ، ( بل هو المتعين ) أي : يتعين الإشتغال بالعلم المتكفل بأصول الدّين ، لا أن يشتغل بالعلم بفروع الدين ويترك العلم بأصول الدين .

ص: 60


1- - سورة يونُس : الآية 36 .

لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه إلا كفائيّاً بخلاف المعرفة .

هذا ، ولكنّ الإنصافَ عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعانَ بعدم التمكّن من ذلك إلاّ للأوحدي من الناس ، لأنّ المعرفة المذكورة لا يحصلُ إلاّ بعد تحصيل قوة إستنباط المطالب من الأخبار وقوّة نظريّة أُخرى لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ،

-------------------

وذلك ( لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه ) أي : بعلم الفروع ( إلا كفائياً ) فانّه لايجب على كل أحد ان يكون مجتهداً في فروع الدين ( بخلاف المعرفة ) فان وجوب الاشتغال بها حتى يحصل له العلم بها واجب عيني .

( هذا ) ما ربّما يقال ( ولكن الإنصاف عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكّن من ذلك ) فإن الاشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة اللّه ، ومعرفة أوليائه عليهم السلام ، ومعرفة المعاد ، وما أشبه ، لايتيسر ( إلاّ للأوحدي من الناس ، لأن المعرفة المذكورة لايحصل إلاّ بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الأخبار وقوّة نظريّة أُخرى ) مثل نظرية بطلان سائر العقائد ، ونظرية تمييز الأخبار الموافقة للعقل عن الأخبار المخالفة له .

وعليه : فاللازم أن يكون له قوة إستنباط نظريتين بالنتيجة ( لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ) فانّه كثيراً ما لايلتفت الانسان الى البراهين العقليّة فيأخذ بما يخالفها .

لايقال : انّه كيف يمكن أن تكون هناك أخبار مخالفة للبراهين العقلية ؟ .

لأنّه يقال : يراد بتلك الأخبار : ماله ظاهر كذلك ، بل نشاهد في آيات القرآن

ص: 61

ومثلُ هذا الشخص مجتهدٌ في الفروع قطعاً ، فيحرم عليه التقليدُ .

ودعوى جوازه له للضرورة ليس بالأولى من دعوى جواز ترك الإشتغال بالمعرفة التي لاتحصل غالباً بالأعمال المبنيّة على التقليد .

-------------------

ظواهر : الجبر ، والتَجسيم ، وعدم عِصمة الانبياء ، وما أشبه ذلك ، فكيف بالأخبار ؟ .

( ومثل هذا الشّخص ) الّذي له قوة إستنباط المطالب من الأخبار ( مجتهد في الفروع قطعاً ) بالإضافة إلى كونه مجتهداً في الأصول ( فيحرم عليه التقليد ) فان من له قوة الاستنباط يكون عالماً ، والعالم لايجوز له أن يرجع الى عالم آخر .

( ودعوى جوازه ) أي : جواز التقليد ( له ، للضرورة ) أي : يجوز لمثل هذا الشخص العالم أن يقلد وإن كان عالماً لضرورة أنَّ الإشتغال بالأهم وهو العلم بالمعارف ، أهم من الاشتغال بالاجتهاد في المسائل الفرعيّة ، فيجتهد في المسائل الاُصولية ويقلّد في المسائل الفرعية .

فدعوى جواز التقليد له ( ليس بالأولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة ) والإجتهاد فيها ، فانّها هي ( الّتي لاتحصل غالباً ) ولكل أحد ( بالأعمال المبنيّة على التّقليد ) اذ المعرفة بحاجة الى صعوبة الاجتهاد ومتابعة كبيرة ، فلا تحصل غالباً لمن يترك المعرفة ويشتغل عنها بالأعمال التقليدية .

لكن من الواضح : انّ محل كلام المصنّف هو القسم الثاني من المعرفة وهو : الخصوصيات الزائدة للمعارف الخمسة ، حيث يكون المعرفة ، العمل مقدّماً عليها إذا دار الأمر بينهما ، وأما القسم الأول من المعرفة ، الواجب تحصيله لكلّ أحد ، فهو مقدّم قطعاً على المسائل الفرعية .

ص: 62

هذا إذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلّة المجتهدين ، وأمّا في مثل زماننا فالأمر واضح ، فلا تغترّ حينئذٍ بمن قصُر إستعداده أو همّته عن تحصيل مقدّمات إستنباط المطالب الإعتقادية الأصوليّة والعمليّة عن الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فيتركها بغضاً لها - لأنّ الناسَ أعداءُ ما جهلوا - ويشتغلُ بمعرفة صفات الربّ جلّ ذكره وأوصاف حججه ، صلوات اللّه وسلامه عليهم ، ينظر في الأخبار

-------------------

( هذا اذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة ) بأن يقضي بين الناس ويحل مشاكلهم وذلك ( لأجل قلّة المجتهدين ) .

أمّا إذا تعيّن عليه هذان الأمران ، فَتَقَدُم الاجتهاد في المسائل الفرعية أهم من الاجتهاد في خصوصية مسائل أُصول الدّين .

( وأمّا في مثل زماننا ، فالأمر واضح ) لقلّة شديدة في المجتهدين ( فلا تغتّر حينئذٍ ) أي : حين عرفت لزوم الإجتهاد في اصول الدين ، والاجتهاد في فروع الدين ، وانّه يكون تارة الأوّل أهم واُخرى الثاني أهم ( بمن قصر إستعداده ، أو همته عن تحصيل مقدّمات إستنباط المطالب الاعتقاديّة الاُصولية والعمليّة ) فلا يحصلها ( عن الأدلّة العقليّة والنقلية فيتركها بغضاً لها ) .

وإنّما يتركها ( لأنّ النّاس أعداء ما جهلوا ) كما ورد في الحديث ، وسببه : انّ الناس يرون صحّة ماعندهم من الباطل ، فيرون الواقعيات التي تخالف آرائهم جهالات وضلالات ، فيكونون أعدائها بزعم انّها جهالة وضلالة ، وهذا غالباً يكون في الجهل المركب .

( ويشتغل بمعرفة صفات الرّب جل ذكره ، وأوصاف حججه ، صلوات اللّه وسلامه عليهم ) أجمعين ، وخصوصيات المَعاد ، وهو ( ينظر في الأخبار

ص: 63

لا يعرفُ من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاصّ من العامّ، وينظرٍ في المطالب العقليّة لا يعرفُ به البديهيّات فيها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حَمَلَةِ الشريعة العمليّة والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النية ، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن .

-------------------

لا يعرف من الفاظها الفاعل من المفعول فضلاً عن معرفة الخاص من العام ) والمطلق من المقيد ، والمُجمل من المبيّن ، وإلى غير ذلك ، ومن الواضح : انّ علوم العربية هي الأساس للعلوم الرفيعة الأصولية والفرعية .

( وينظر في المطالب العقليّة لا يعرف به البديهيّات فيها ) فينتهي في مطالبه العقلية الى خلاف المطالب العقلية الواقعية .

( ويشتغل في خلال ذلك ، بالتّشنيع على حملة الشّريعة العمليّة ) من المجتهدين ( والاستهزاء بهم بقصور الفهم وسوء النيّة « فَسيَأتِيهُم أَنباءُ ما كَانُوا بِهِ يَستَهزِؤُنَ » (1) ) كما في الآية الكريمة ، حيث إنّه لمّا يموت يعرف مدى الجهالة التي كان فيها ، والضّلالة التي كان عليها ، وكذا يظهر له ذلك في القيامة أيضاً .

هذا ، وقد شاع في زمان شيخنا المصنّف رحمه اللّه بين الناس صنفان .

الأوّل : المشتغلون بالأخبارية .

الثاني : المشتغلون بالفلسفة .

وكتاب الرّسائل والمكاسب كلاهما في قِبال هاتين الطائفتين ، فلولاهما لعلَّهُ بقي رَواج هذين الصنفين .

ص: 64


1- - سورة الشعراء : الآية 6 .

هذا كلّه حالُ وجوب المعرفة مستقلاً .

وأمّا إعتبارُ ذلك في الإسلام أو الايمان فلا دليلَ عليه .

بل يدل على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الاسلام أو الايمان .

-------------------

لايقال : إنّه قد إنقطع دابر أولئك الجهلة ، فما هي الحاجة الى هذين الكتابين ؟ .

لأنّه يقال : هذان الكتابان من أهم الكتب الحديثة في شرح القانون وتوضيحه وكشفه والإستدلال له ، فهما أرفع كتاب في القانون كتب الى اليوم ممّا لو تَعَرّفَ المقنّنون العالميون بهما ، لاستفادوا منهما أعظم إستفادة ، والعَتَب على قصور همة المسلمين في إيصال هذين الكتابين الى الجامعات العالمية ، حتى يعرفوا كيف إرتفع القانون الإسلامي بما لايشبهه أيّ قانون في العالم ؟ والكلام في هذا الأمر طويل خارج عن مقصد الشرح .

( هذا كلّه حال وجوب المعرفة ) العقلية ( مستقلاً ) عن الأدلة الشرعية ، وقد ظهر : إنّ اللازم هو الإشتغال بالمسائل الفرعيّة عن الإشتغال بتفاصيل المسائل العقلية في المعرفة حسب الأدلة التي ذكرها الحكماء في باب المعرفة .

( وأمّا إعتبار ذلك ) أي : الزائد على ما اعتبر قطعاً ( في الاسلام أو الايمان ) فانّه يعتبر في الاسلام : التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، ويعتبر في الايمان اضافة الى ذلك : الاعتقاد بالامامة ، والعدل ( فلا دليل عليه ) أي : على الزائد من ذلك ، بمعنى : أنّه لا دليل هناك يدل على وجوب الفحص عن خصوصيات هذه الاُمور الخمسة والاجتهاد فيها .

( بل يدلّ على خلافه الأخبار الكثيرة المفسّرة لمعنى الاسلام أو الايمان ) وهذه الأخبار الكثيرة متواترة معنىً ، ومما يقطع الانسان بكفاية ما تضمنته تلك الأخبار من دون وجوب زيادة عليها بالفحص والبحث والاستدلال .

ص: 65

ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام ، المرويّة في الكافي : « إنّ اللّه ، عزّوجلّ ، بعثَ مُحمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهو بمكّة عَشَر سِنين ، ولم يَمُتْ بمكّةَ في تلك العشر سِنينَ أحدٌ يَشهَدُ أن لا إله إلاّ اللّه ُ وأَنَّ مُحمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم، إلاّ أدخله اللّه ُ الجَنّةَ بإقراره ، وهو إيمانُ التصديق ، فانّ الظاهِرَ أنّ حقيقةَ الايمان التي يخرجُ الإنسانُ بها عن حدّ الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغيّر بعد إنتشار الشريعة .

-------------------

( ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المرويّة في الكافي : إنَّ اللّه عزوجل بعث محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم وهو بمكة عشر سنين ) أي : دامت رسالته في مكة المكرّمة مدة عشر سنوات ( ولم يمت بمكة في تلك العشر سِنين أحدٌ يشهدُ أن لا إِله إلاّ اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إلاّ أدخله اللّه الجَنّةَ باقراره ، وهو إيمان التصديق ) (1) .

والظاهر : انَّ المراد هو الإكتفاء بما ذكره القرآن والنبيّ للمسلمين في مكة من شؤون الامامة وشؤون المعاد ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في أوّل يوم أظهر بعثته قَرَنَ ذلك بإمامة علي عليه السلام ، ويشهد له يوم الإنذار ، كما أنّه من أوّل الأمر ذكر شؤون المَعاد ، ويشهد بذلك ما جاء في السُور المكيّة من القرآن الحكيم .

( فانّ الظاهر : انَّ حقيقة الايمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر الموجِب للخلود في النّار ، لم تتغير بعد إنتشار الشّريعة ) ولا يخفى : أنّ الخلود في النّار إنّما يكون للمعاند كما في الدعاء : « أَقسمت ... أَن تُخلِّدَ فِيها المُعانِدين » (2) وقد ذكرنا

ص: 66


1- - الكافي اصول : ج2 ص29 ح1 (بالمعنى) .
2- - مفاتيح الجنان : ص66 ، الدعاء والزيارة : للشارح ص127 .

نعم ، ظهر في الشريعة امور صارت ضروريّة الثبوت من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيعتبر في الاسلام عدمُ إنكارها .

لكنّ هذا لايوجب التغيير ، فانّ المقصود أنّه لم يعتبر في الايمان أزيدُ من التوحيد والتصديق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلّغ .

وليس المرادُ معرفةَ تفاصيل ذلك ، وإلاّ لم يكن من آمن بمكّة من أهل الجنّة أو كان حقيقةُ الايمان بعد إنتشار الشريعة غيرها في صدر الاسلام .

-------------------

تفصيل بعض ذلك في كتاب « الاُصول » .

( نعم ، ظهر في الشّريعة أُمور صارت ضرورّية الثّبوت من النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيعتبر في الاسلام عدم إنكارها ) والاعتقاد بها ، وذلك لأنّ إنكارها تكذيب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وإنكار لرسالته ، علماً بأن ما صار ضروري الثبوت فيما بعد لم يكن شيئاً جديداً عمّا كان في مكّة المكرمة ليستدعي التغيير كما قال :

( لكن هذا ) الّذي ظهر في الشرعية من الاُمور الضرورية الثبوت ( لا يوجب التغيير ) في حقيقة الايمان ( فانّ المقصود انّه لم يعتبر في الايمان أزيد من التّوحيد والتّصديق بالنّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلّغ ) عن اللّه سبحانه وتعالى ، فكلّما صار ضرورياً دخل في تصديق الرّسول .

( وليس المراد : معرفة تفاصيل ذلك ) الّذي ظهر في الشّريعة ممّا صار ضروري الثبوت من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما بعد ( وإلاّ لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنّة ، أو كان حقيقة الايمان بعد إنتشار الشّريعة غيرها في صدر الاسلام ) وذلك لأنَّ الأمر لايخرج عن ثلاثة أحوال :

الأوّل : ماذكرناه : من بقاء حقيقة الايمان .

الثّاني : انّ الذي كان في مكة لم يكن حقيقة الايمان ، وهذا يستشكل عليه :

ص: 67

وفي رواية سُليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ أدنى ما يكون به العبدُ مؤمناً أنّ يعرّفه اللّه تبارك وتعالى إيّاه ، فيقرّ له بالطاعة ، فيعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة . فقلت : يا أمير المؤمنين! وإن جهل جميعَ الأشياء إلاّ ما وصفتَ ؟ قال : نعم » . وهي صريحة في المدّعى .

-------------------

بأنّه إذن كيف يدخل الجنّة من مات بها والحال انَّ الروايات المتواترة دلّت على دخولهم الجنّة ؟ .

الثالث : انَّ حقيقة الشريعة قد تغيّرت من مكة الى المدينة ، ففي مكّة كانت حقيقة وفي المدينة أصبحت حقيقة أُخرى ، وهذا ضروري العدم ، لأن حقيقة الشريعة واحدة بالبداهة عند جميع المسلمين .

( وفي رواية سُليم بن قَيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنَّ أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ) فيكون أدنى المؤمنين إيماناً وإن كان له درجات فوق ذلك ( أن يعرّفه اللّه تبارك وتعالى إيّاه ) أي : يعرّفه اللّه نفسه ، وذلك لأنّ أصل المعرفة من اللّه سبحانه وتعالى ( فيقرّ له بالطاعة فيعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه ، وشاهده على خلقه ، فيقرّ له بالطّاعة ) فان كلام الامام عليه السلام صريح في كفاية هذه الاُمور في أُصول الدين .

( فقلتُ : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت ؟ ) ولعل المراد بجميع الأشياء : خصوصيات أحوال البرزخ ، والمَعاد ، والجنّة والنار ، وما أشبه ذلك ، ( قال ) عليه السلام : ( نعم (1) ، وهي صريحة في المدّعى ) الذي إدعيناه :

ص: 68


1- - بحار الأنوار : ج69 ص17 ب29 ح3 بالمعنى .

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « جُعِلتُ فِداكَ ، أخبِرني عن الدّين الذي أفترضه اللّه على العبادِ مالا يَسَعُهُم جهلُه ، ولا يَقبَلُ مِنهُم غَيرَهُ ما هُو ؟ » فقال : أعد عليّ . فأعاد عليه . فقال : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقامُ الصلاة ، وإيتاءُ الزكاة ، وحِجّ البيت مَنْ إِستطاعَ إليه سبيلاً ، وصومُ شهر رمضان - ثمّ سكت قليلاً ، ثمّ قال - : والولاية والولايةُ ، مرتيّن - ثمّ قال - : هذا الّذي فرض اللّه ُ عزوجلّ على العباد ، لايسأل الربُّ عن العباد

-------------------

من انّ تفاصيل الخصوصيات لا شأن لها في أصل الايمان .

( وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : جُعلت فِداك أخبرني عن الدّين الّذي إفترضه اللّه على العباد ما لايسعهم جهله ، ولايقبل منهم غيره ، ماهو ؟ فقال ) عليه السلام : ( أعد عليَّ ) ولعلّ الامام عليه السلام أراد أن يهيء السائل للجواب ، فإن الانسان إذا أعاد الكلام تهئهو بنفسه لتلقّي الجواب تهيئاً أكثر ( فأعادَ عليه ) السّؤال :

( فقال ) عليه السلام ( شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وانَّ محمّداً رسُوُلُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، واقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وحجّ البيت من إستطاع إليه سبيلاً ، وصوم شهر رمضان ، ثمَّ سكت ) الامام عليه السلام ( قليلاً ، ثمّ قال : والولاية ) ولعلّ الامام إنّما سكت لتمييز الولاية عن غيرها بكثرة الأهمية .

وإنّما كانت الولاية آكد وأكثر أهمية لأنّها قيادة للأمة والاُمة بلا قيادة تكون في ضلال من دينها ودنياها ، ولذلك أعاد عليه السلام قوله : ( والولاية مرتين ) أي : إنّ الامام عليه السلام كرّر الولاية مرة ومرة .

( ثمّ قال : هذا الّذي فرض اللّه عزّ وجّل على العباد ، لايسأل الرّبُ عن العِباد

ص: 69

يومَ القيامة ، فيقول : ألاّ زدتني على ما إفترضتُ عليك ، ولكن من زاد زاده اللّه ، إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم سَنَّ سُنّةً حسنةً ينبغي للنّاس الأخذُ بها .

ونحوها رواية عيسى بن السيريّ ، « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حدثني عمّا

بُنيِتْ عليه دعائمُ الاسلام التي إذا أَخَذتُ بها زكى عملي ولم يضرّني جهلُ ماجهلتُ بعده ؟ .

فقال : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والإقرارُ بما جاء من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولايةُ التي أمر اللّه بها ولايةُ

-------------------

يومَ القيامة فيقول ) لعبده ( ألا زدتني على ما إفترضت عليك ، و ) ذلك لكفاية هذه الاُمور التي ذكرها الامام عليه السلام .

ثمّ قال ( لكن من زاد زاده اللّه ) أي : إنَّ الانسان إذا أتى بالزيادة على هذه الاُمور التي ذكرت في الكتاب والسُنّة ، زاده اللّه فضلاً وثواباً ، ورحمة ورضوانا ، حيث ( إنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً ينبغي لِلناس الأخذُ بها ) (1) أي : إنَّ الزيادة الَّتي ينبغي للانسان أن يزداد منها هي ما ورد من سنّة الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( ونحوها ) في الدلالة على ما ذكرناه من أصل الايمان ( رواية عيسى بن السّيري ، قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حدّثني عمّا بُنِيَتْ عليه دعائم الاسلام ، الّتي إذا أخذتُ بها زكى عملي ) أي : نَما وأثمر بالثواب والجنة ( ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده ) بأن أكون معاقباً في الآخرة ؟ .

( فقال : شهادة أن لا إلهَ إلاّ اللّه ، وأَنّ مُحَمّداً رسُوُلُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم والإقرارُ بِما جَاءَ مِن عندِ اللّه ِ ، وَحَقٌ في الأموال : الزّكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه بها : ولاية

ص: 70


1- - الكافي اصول : ج2 ص22 ح11 (بالمعنى) .

آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : « مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعرِف إمامَ زَمانِهِ مَاتَ ميتةً جاهِليّة » ، وقال اللّه تعالى : « أَطيِعُوا اللّه وأطيعوا الرَّسولَ وأُولي الأَمرَ مِنكُم » ، فكان عليّ ، ثم صار من بعده الحسن ، ثمّ من بعده الحسين ، ثم من بعده عليّ بن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثم هكذا يكون الأمر ، إنّ الأرضَ لا تصلحُ إلاّ بإمام » ، الحديث .

وفي صحيحة أبي اليَسع : « قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أخبرني عن

-------------------

آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : مَن ماتَ وَلَم يَعرِف إمامَ زَمانِهِ مَاتَ مِيتَةً جاهِليّةٍ ) فكما إنَّ الجاهليين كانوا من أصحاب النار ، فكذلك من مات بدون معرفة إمام زمانه .

ثمّ إستدّل الامام بوجوب هذه الثلاثة بقوله عليه السلام : ( وقال اللّه تعالى : « أَطيعُوا اللّه َ وأَطيعُوا الرَسُولَ وَأُولِي الأَمِرِ مِنكم » (1) فكان ) وليّ الأمر بعد الرسول ( عليٌ ، ثمّ صار من بعده الحَسَن ، ثمّ من بَعدهِ الحُسين ، ثمّ من بعده علي بن الحسين ، ثمّ من بعده محمّد بن عليّ ، ثم هكذا يكون الأمر ) إمام بعد إمام ، وذلك ( إنَّ الأرضَ لاتصلِح إلاّ بإمام (2) ، الحديث ) .

فانّ في هذه الأحاديث ما يدلّ على إنَّ الاُصول هو عبارة عن الشهادات الثلاث ، أو عن الشهادتين الأوليين ، والشهادة الثالثة إنّما هي من شؤون الشهادتين الأوليين ، كما اِنَّ المعاد والقيامة أيضاً من شؤون الشهادتين الأوليين .

( وفي صحيحة أبي اليَسع قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أخبرني عن

ص: 71


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص21 ح9 ، المحاسن : ص154 ح79 .

دعائم الاسلام التي لايسع أحداً التقصيرُ عن معرفة شيء منها ، التي من قصّر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينُه ولم يُقبل منه عملُهُ ، ومن عرفها وعمل بها صحّ دينُه وقُبِلَ عملُهُ ولم يضق به ممّا هو فيه لجهل شيء من الأمور جهلُهُ ؟ فقال : شهادةُ أنّ لا إله إلاّ اللّه ، والايمانُ بأنَّ محمّداً رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والإقرارُ بما جاء به من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية التي أمر اللّه عزّ وجل بها ولايةُ آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

-------------------

دعائم الاسلام ، الّتي لايسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها ) وقوله « التقصير » ، فاعل « لايسع » ، و ( الّتي من قصّر عن معرفة شيء منها ، فسد عليه دينه ، ولن يقبل منه عمله ، ومن عرفها ) أي عرف تلك الدعائم ( وعَمِلَ بها ، صحّ دينه ، وقُبِلَ عمله ، ولم يضق به ) .

أقول : «لم يضق» ، على وزن : لم يبع ، بصيغة المجهول ، لأنّه أجوف يائي ، أي : لم يضيِّق عليه ( ممّا هو فيه ) ضيقاً شرعياً ( لجهل شيء من الاُمور ) يكون ( جهله ) فيه غير ضارّ به ؟ ( فقال ) عليه السلام : ( شهادة أن لا إلهَ إلاّ اللّه والايمان بأن محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والاقرار بما جاء به من عند اللّه ، وحقّ في الاموال : الزّكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه عزّوجلّ بها : ولاية آل محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) .

ولا يخفى : إنَّ زيادة بعض الأشياء في بعض الروايات دون بعض ، مثل : الولاية ، والصّلاة ، انّما هو من جهة إقتضاء حال السائل ذلك ، وقد ذكرنا بعض تفصيله في كتاب « الفقه » المرتبط بالآداب والسنّن (2) .

ص: 72


1- - الكافي ( اصول ) : ج2 ص20 ح6 و ص21 ح9 .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 .

وفي رواية إسماعيل : « قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الدّين الذي لايَسَعُ العِبادَ جَهلُهُ ؟ فقال عليه السلام : الدّينُ واسعٌ ، وإنّ الخوارجَ ضيّقوا على أنفسهم ، بجهلهم ، فقلتُ : جُعِلت فداك! أما اُحدِّثُكَ بديني الذي أنا عليه ؟ فقال ، بلى قلتُ : أشهدُ أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبدُه ورَسوله ، والإقرار بما جاء به من عند اللّه ، وأتولاّكم وأبرء من عدّوكم ومن ركب رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلتَ شيئاً ، فقال : هو واللّه الذي نحنُ عليه ، فقلتُ : فهل اَسلم أحدٌ لايعرفُ هذا الأمر ؟ قال : لا ، إلاّ المستضعفين .

-------------------

( وفي رواية إسماعيل ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : عن الدّين الّذي لايسع العباد جهله ؟ فقال عليه السلام : الدّين واسع ، وانّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ) لأنهم شرطوا في الامام فوق شروط اللّه سبحانه وشروط النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولذا ضَلّوا وأَضَلوا وإنحرفوا عن أمير المؤمنين عليه السلام الى حكام جائرين ، كما يجد ذلك من راجع تواريخهم .

( فقلتُ : جُعلتُ فِداكَ ، اما أُحدّثُكَ بديني الَّذي أنا عليه ؟ فقال ) عليه السلام : ( بلى ، قلت : أشهدُ أن لا اِلهَ إلاَّ اللّه ، وانَّ مُحمّداً عَبدُهُ ورسولهُ ، والاقرار بما جاء به من عند اللّه ) أي : أقر بذلك ( وأتولاّكم ، وأَبرءُ من عدوّكم ، ومن رَكِبَ رقابكم ) أي : صار حاكماً عليكم ، وهذا من التشبيه المعنوي بالمادي ( وتَأَمّرَ عليكم ، وظلمكم حقّكم ) فهل هذا كافٍ يابن رسول اللّه ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( ماجهلتَ شيئاً ) قوله : « ماجهلت » بصيغة الخطاب ، ثم أردف ( فقال ) ثانياً عليه السلام ( : هو واللّه الَّذي نحن عليه ، فقلت : فهل أَسلَمَ أحدٌ لايعرفُ هذا الأمر ) بأن يكفيه دون ذلك في المعرفة في الآخرة ؟ .

( قال : لا ، إلاّ المستضعفين ) والمراد بالمستضعفين : الذين لايدركون الاُمور

ص: 73

قلتُ : من هم ؟ قال : نساؤكم وأولادُكم ، قال : أرأيتَ أُم أيمن! فانّي أشهدُ أنّها من أهل الجَنّة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه » .

-------------------

كادراك سائر الناس ، فإن المستضعف يطلق في الشريعة على قسمين من الناس :

الأوّل : المسضعف في عقيدته .

الثاني : المستضعف الّذي إستضعفه الجبارون كما قال سبحانه : « وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلى الّذينَ إستُضعِفوُا في الأَرضِ وَنَجْعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثيِنَ » . (1)

( قلت : من هم ) المستضعفون ؟ .

( قال : نساؤكم وأولادكم ) فإن الغالب من هؤلاء لايدركون خصوصيات الايمان ، ولهذا فَهم مستضعفون في عقيدتهم عن قصور ، لا عن تقصير .

ثم إستشهد عليه السلام لكلامه بشيء هو واضح عند السائل وعند غيره ( قال : أرأيت ) أي : أتعرف معرفة كأنك رأيته ، كما قال سبحانه في القرآن الحكيم عن لسان الشيطان : « أَرأيتَكَ هذا الّذي كَرَّمتَ عَليَّ » (2) ولهذا فُسّر « أرأيت » في كتب اللّغة : بأخبرني ، أي : أخبرني عن ( اُم أيمن ؟ فانّي أشهد انّها من أهل الجنّة وما كانت تعرف ما أنتم عليه ) (3) من المعرفة .

لايقال : ألم تكن أُم أيمن في زمن الرّسول وعليّ وفي بيت الزهراء صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ فكيف كانت لاتعرف مانعرفه ؟ .

لأنّه يقال : إنَّ كل إنسان يستوعب من المعرفة بقدره ، كما إن الزمان أيضاً كشف لنا ما كان مستوراً عنها ، وأرانا الحقائق كما هي ممّا كانت لم ترها بل سمعت

ص: 74


1- - سورة القصص : الآية 5 .
2- - سورة الاسراء : الآية 62 .
3- - الكافي اصول : ج2 ص405 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، وسائل الشيعة : ج4 ص456 ب55 ح5701 .

فانّ في قوله « ماجهلتَ شيئاً » ، دلالةً واضحةً على عدم إعتبار الزائد في أصل الدين .

والمستفادُ من هذه الأخبار المصرّحة بعدم إعتبار معرفةٍ أزيدَ ممّا ذكر فيها في الدين - وهو الظاهرُ أيضاً من جماعة من علمائنا الأخيار ، كالشهيدين في الألفية

-------------------

عنها ، ومن يرى الشيء يكون أكثر معرفة به ممّن قد سمعه فقط ، فتجارب التاريخ ، وحوادث الزمان صقلت معرفتنا باصول الدّين وخصوصاً بالولاية والامامة وجعلت معرفتنا أعمق ، وأكثر إحاطة منها فانّهم عليهم السلام قد أدّوا ما عليهم تجاه بناء الفرد وبناء الاُمة الاسلامية الواحدة ، وتكوين الدولة ، وإرساء قواعد الاُصول ، ونشر الأحكام والأخلاق ، مع إنّهم كانوا غالباً في اسفار الحروب ونحوها ، حتى أن في كلّ شهر ونصف كان للرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم سفر أو حرب ، أو غزوة ، طيلة السنوات العشرة ، في المدينة المنورة ، ومن المعلوم : انَّ أسفار تلك الأيام كانت لها من المشقة ماليس لها في زماننا هذا .

وعليه : ( فانّ في قوله عليه السلام : ماجهلتَ شيئاً ، دلالةً واضحةً على عدم إعتبار الزّائد في أصل الدّين ) وإن كانت فروع الدّين من المسائل الفقهية تحتاج الى أكثر من ذلك .

( والمستفاد من هذه الأخبار المصرّحة بعدم إعتبار معرفة أزيد ممّا ذكر فيها في الدّين ) قوله : « في الدين » متعلق : « بعدم إعتبار » ، فإن الذّي كان مصدّقاً بما ذكر في هذه الأخبار يكون مؤمناً حقاً .

( وهو الظّاهر أيضاً من جماعة من علمائنا الأخيار : كالشهيدين في الألفية

ص: 75

وشرحها والمحقّق الثاني في الجعفريّة وشارحها وغيرهم - أنّه يكتفى في معرفة الربّ التصديقُ بكونه موجوداً وواجبَ الوجود لذاته والتصديقُ بصفاته الثبوتّية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث

-------------------

وشرحها ، والمحقّق الثّاني في الجعفريّة ، وشارحها ، وغيرهم : انّه يكتفى في معرفة الرّب ، التّصديق بكونه موجوداً ، وواجب الوجود لذاته ) وليس بواجب الوجود لغيره ، كما في ساير الممكنات فانّها واجبة الوجود لغيرها .

وربّما يقال : بأنّه كيف يطلق على ذاته سبحانه وتعالى واجب الوجود ، ولم يرد في آية أو خبر مع انّ أسمائه سبحانه توقيفية ؟ .

فانّه يقال : ليس هذا باسم ، بل إلماع الى حقيقة ، والممنوع جعل الاسم ، لا الإلماع الى الحقيقة ، فاذا قلنا : بأن معنى انّه يرضى أو يغضب ، انّه يفعل ما يترتب على الرضا والغضب من باب « خُذ الغايات وإترك المبادي » ، فهل يستشكل عليه بتوقيفية الأسماء ؟ .

( والتّصديق بصفاته الثّبوتيّة الرّاجعة الى صفتي : العلم والقدرة ) ولم يظهر وجه إرجاع صفاته تعالى الى العلم والقدرة وإن ذكره جملة من المتكلّمين ، كما أنّه لا داعي إلى ذلك أيضاً ، فإنا نرى في الناس من له علم وقدرة ومع ذلك يفعل خلاف علمه وخلاف قدرته لخباثة في ذاته ، فهل مايفعله هذا كان لفقده العلم والقدرة ؟ .

( ونفي الصّفات الرّاجعة الى الحاجة والحدوث ) فهو سبحانه ليس بمركّب ، ولا جسم ، ولا مرئي ، ولا محلّ للحوادث ، ولا شَريكَ له ، وليس بمُحتاج ، ولا مَعاني له ، فليس ذاته غير صفته ، كما في المخلوقات ، فانّ ذواتها غير صفاتها .

ص: 76

وأنّه لا يصدر منه القبيحُ فعلاً أو تركاً .

والمرادُ بمعرفة هذه الأمور ركوزُها في إعتقاد المكلّف ، بحيث إذا سألته عن شيء ممّا ذكر أجاب بما هو الحق فيه وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ .

ويكتفى في معرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ،

-------------------

ثمّ أن هنا تكراراً في كونه واجب الوجود وانّه ليس بحادث ، فلا حاجة الى أحدهما ، إلاّ انّ طرح الثاني أولى إذ عدم الحدوث لايلازم وجوب الوجود لزوماً عقلياً وإن كان في الخارج ليس للأمرين إلاّ وجوداً واحداً ، وهكذا بالنسبة الى كونه سبحانه غنياً وانّه ليس بمحتاج .

( وانّه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً ) أي : لايفعل فعلاً قبيحاً ، ولا يترك تركاً يراه العقل قبيحاً ، بل لايفعل سبحانه من الأحوال الخمسة الممكنة إلاّ أمرين فقط ، والاحوال الخمسة عبارة : عمّا هو خيرٌ محض ، وما هو شرٌ محض ، وما خيرُهُ أزيد ، وما شرّه أزيد ، وما يتساوى فيه الخير والشر ، فانّه لايفعل إلاّ ما كان خيراً محضاً ، أو كان خيره أزيد حسب الموازين العقلية .

( والمراد بمعرفة هذه الأمور : ركوزها ) أي : ارتكازها ( في اعتقاد المكلّف بحيث اذا سألته عن شيء ممّا ذكر ، أجاب بما هو الحقّ فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواصّ ) فان العلم شيء والتعبير شيء آخر كما هو واضح .

( ويكتفى في معرفة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ) لكن الظاهر : انّه لايحتاج الى معرفة النسب ، فان من عرف زيداً كان عارفاً به

ص: 77

والتصديقُ بنبوّته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقادُ بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أولّ عمره إلى آخره .

قال في المقاصد العليّة : « ويمكن إعتبارُ ذلك ، لأنّ الغرضَ المقصودَ من الرسالة لايتمُّ إلاّ به ، فتنتفي الفائدةُ التي بإعتبارها وجب إرسال الرسل ، وهو ظاهرُ بعض كتب العقائد المصدّرة بأنّ

-------------------

وإن كان لايعرف انّه ابن عمرو ، أو أخو خالد .

( والتصديق بنبّوته ) ورسالته ، لوضوح : ان النبوّة غير الرسالة ، فالرسالة أخص من النبوة ( وصدقه ) والظاهر : انّ صدقه تكرار وتأكيد ، لأنّ التصديق بالنبوّة والرسالة ، معناه : التصديق بصدقه ( فلا يعتبر في ذلك ) أي : في التصديق بالنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم زيادة عليه من ( الاعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أوّل عمره الى آخره ) .

والفرق بين الملكة وعدمها : انّه من الممكن انّ لايأتي الانسان بمعصية إطلاقاً ، لكن لا عن ملكة العصمة والحفظ ، وان يصدق في جميع أُموره ، لكن ليس له ملكة الصدّق ، وهكذا في سائر الملكات والأفعال فقوله : «بالملكة» لبيان ماذكرناه وان العصمة إنّما هي ناشئة عن الملكة .

وحيث رأى المصنّف إمكان أن يثقل على السامع ماذكره : من عدم لزوم الاعتقاد بالعصمة ، إستشهد بقول الشهيد الثاني حيث ( قال في المقاصد العليّة : ويمكن إعتبار ذلك ) أي لزوم الاعتقاد بالعصمة ( لأنَّ الغرض المقصود من الرّسالة لايتمّ إلاّ به ) أي : بكونه معصوماً ( فتنتفي الفائدة التي باعتبارها ) أي : باعتبار تلك الفائدة ( وجب إرسال الرّسل ) لولا العصمة .

( وهو ) أي : لزوم الاعتقاد بالعصمة ( ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة : بأنّ

ص: 78

من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمناً مع ذكرهم ذلك ، والأوّل غير بعيد من الصواب » ، إنتهى .

أقولُ : الظاهرُ أنّ مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس سره ، حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهرُه دعوى إجماع العلماء عليه .

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفةَ ما عدا النبوّة واجبةٌ بالاستقلال على من هو متمكّنٌ منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع ،

-------------------

من جهل ماذكروه فيها ) أي : في تلك الكتب ( فليس مؤمناً ، مع ذكرهم ذلك ) أي : وجوب الاعتقاد بالعصمة .

ثمّ قال الشهيد بعدها : ( والأوّل : ) وهو : عدم إعتبار لزوم الاعتقاد بالعصمة ( غير بعيد من الصّواب (1) ، إنتهى ) كلام الشهيد في المقاصد العليّة .

( أقول : الظّاهر أنَّ مراده ببعض كتب العقائد : هو الباب الحادي عشر للعلاّمة قدس سره حيث ذكر تلك العبارة ) التي نقلها الشهيد عنه بقوله : «لأنَّ الغرض المقصود من الرسالة» الى آخره .

( بل ظاهره ) أي : ظاهر العلاّمة ( دعوى إجماع العلماء عليه ) أي : على إشتراط الاعتقاد بالعصمة في كون الإنسان مؤمناً .

( نعم ، يمكن أن يقال : انَّ معرفة ماعدا النبوّة ) في النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من العصمة وغيرها ( واجبة بالاستقلال على من هو متمكّن منّه بحسب الاستعداد ) الفكري والمستوى العلمي له ( وعدم الموانع ) عن طلب الزيادة من المعرفة وذلك

ص: 79


1- - المقاصد العليّة : مخطوط .

لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقّه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأنّ الجهل بمراتب سفراء اللّه ، جلّ ذكره ، مع تيسّر العلم بها تقصيرٌ في حقّهم وتفريطٌ في حبّهم ونقصٌ يجب بحكم العقل رفعهُ ، بل من أعظم النقائص .

وقد أومئ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إلى ذلك حيث قال مشيراً إلى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعيّة : « إنّ ذلك علمٌ لا يضرُّ جهله ، - ثمّ قال :- إنّما العلومُ ثلاثةٌ : آيةٌ مُحكَمةٌ وفَرِيضَةٌ عادِلَةٌ وَسُنَّةٌ

-------------------

( لما ذكرنا : من عمومات وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصّلوات الواجبة وانّ الجهل بمراتب سفراء اللّه جلّ ذكره ) جهلاً لا يعذر المكلّف فيه ، لا مثل الجهل بأنّ القائم عليه السلام أفضل من الثمانية الذين كانوا قبله - مثلاً - ( مع تيسّر العلم بها ) أي : بمراتب السفراء ( تقصير في حقهم ، وتفريط في حبّهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه ، بل من أعظم النقائص ) في الانسان المسلم .

قوله : « وإن الجهل » عطف على الدليلين السابقين : من عمومات وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصلاة ، وكأن قوله : وان الجهل : دليل عقلي ، بالإضافة الى الدليلين السابقين الشرعيين : من وجوب التفقّه ، وكون المعرفة أفضل من الصلوات .

( وقد أومئ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الى ذلك ) أي : الى وجوب نحو هذه المعرفة بالنسبة الى الأنبياء عليهم السلام ( حيث قال مشيراً الى بعض العلوم الخارجة عن العلوم الشرعية : إنّ ذلك ) أي : تلك العلوم الخارجة عن العلوم الشّرعية ( علم لايضرّ جهله ، ثمّ قال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « إنّما العلومُ ثَلاثَةٌ : آيةٌ مُحكَمَةٌ وَفَريضَةٌ عادِلَةٌ ، وَسُنَّةٌ

ص: 80

قائِمةٌ ، وَمَا سِواهُن فَهُو فضول » .

-------------------

قائِمةٌ ، وما سِواهُنَّ فَهُو فَضول » (1) ) .

فقد روي عن أبي الحسن موسى عليه السلام إنه قال : « دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم المسجد ، فاذا جماعة قد أطافوا برجل فقال : ماهذا ؟ فقيل : علاّمة ، فقيل : ما العلاّمة ؟ فقالوا : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهلية والأشعار العربية ، قال : فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّما العلوم ثلاثة . . . » .

والّذي يستظهر من الحديث : إنّ الآية المحكمة يراد بها : القرآن ، أما الآيات المتشابهات فلا يعلمها الانسان ، ولذا قيّد صلى اللّه عليه و آله وسلم الآية بالمحكمة .

ويراد ب- « الفريضة العادلة » : الواجبات الأعم من ترك المحرمات ، وإنّما وصف الفريضة بأنّها عادلة ، من باب التوضيح والإلماع الى أن الفرائض روُعي في تشريعها العدالة بلا إفراط فيها على الناس ولا تفريط .

ويراد ب- « السُنة القائمة » : الأحكام الثلاثة الاُخر من الأحكام الخمسة ، لأن المستحب ، وترك المكروه ، والاختيار في فعل المباح وتركه ، سنّة سَنّها اللّه ورسوله .

ثمّ من المعلوم : إنّ اصول الدّين قسم منها ذكرت في الكتاب ، وقسم منها ذكرت في الروايات ، فاصول الدين مشمولة للآية المحكمة والفريضة العادلة .

هذا ، وقد قيل في تفسير الرّواية أقوال أُخر لا يهمنا ذكرها .

ثمّ لا يخفى : انّ العلم بالتواريخ وأشعار العرب ونحوها ، قد تكون واجبة لكونها مقدّمة لواجب ، وقد تكون غير ذلك ، فقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّها فضول

ص: 81


1- - الكافي اصول : ج1 ص32 ح1 (بالمعنى) .

وقد أشار الى ذلك رئيس المحدِّثين في ديباجة الكافي ، حيث قسّم النّاس الى أهل الصحّة والسلامة وأهل المرض والزّمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرق الأخيرة .

ويكتفي في معرفة الأئمّة عليهم السلام ، بنسبهم المعروف

-------------------

من باب الغالب لا الحصر .

( وقد أشار الى ذلك ) الّذي ذكرناه : من كون معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الإستعداد وعدم الموانع ( رئيس المحدّثين ) الكليني قدس سره ( في ديباجة الكافي ، حيث قسّم الناس الى أهل الصحة والسّلامة ، وأهل المرض والزّمانة ، وذكر وضع التّكليف عن الفِرق الأخيرة ) أي : عن أهل المرض والزّمانة الذين لايقدرون على استيعاب هذه الاُمور .

ومن المعلوم : إنّ من جملة التكاليف : خصوصيات أصول الدين الزائدة على القدر الدخيل في كون الشخص مسلماً .

قال الأوثق : لارَيبَ في عدم كون المعارف الخمسة - ولو إجمالاً - موضوعة عن أحد ، وكونها شرطاً في تحقق الايمان ، فلا بدّ أن يكون المراد : وضع تفاصيلها بالوجوب النفسي (1) .

( ويكتفي في معرفة الأئمة عليهم السلام ) عرفانهم ( بنسبهم المعروف ) وقد تقدّم الإشكال في لزوم معرفة النسب ، ولذا لا يعرف ذلك أكثر العوام بدون أن يستنكر أحد من العلماء عليهم .

اللّهمَّ إلاّ أن يريد المصنّف بمعرفتهم بأنسابهم : أن يعرّفهم بأنفسهم لا أن

ص: 82


1- - أوثق الوسائل : ص238 وجوب تحصيل العلم في الاعتقاديات .

والتصديقُ بأنّهم أئمة يهدون بالحقّ ويجب الانقيادُ إليهم والأخذ منهم ، وفي وجوب الزائد على ماذكر من عصمتهم الوجهان .

وقد ورد في بعض الأخبار تفسيرُ معرفة حقّ الامام بمعرفة كونه إماماً مفترضَ الطاعة .

ويكفي في التصديق بما جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

-------------------

يعرف آبائهم واُمهاتهم ، وكذلك يحتمل أن يريد المصنّف فيما ذكره في معرفة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحقّ ، ويجب الإنقياد اليهم والأخذ منهم ، وفي وجوب الزائد على ماذكر من عصمتهم ) أي : بأن يجب أيضاً أن يعرفَهم معصومين ( الوجهان ) المتقدّمان في النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ( وقد ورد في بعض الأخبار تفسير معرفة حقّ الامام ) عليه السلام ( بمعرفة كونه إماماً مفترض الطّاعة ) ولم يذكر في تلك الأخبار أن يعرفهم بالعصمة .

منها : ما عن الكافي في باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام بسنده عن إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : أعرض عليك دين اللّه عزّ وجلّ ؟ قال : فقال : هات ، فقلت : أشهدُ أن لا اِله اِلاّ اللّه وحدَه لا شَريكَ لَهُ ، وأَنَّ مُحمّداً عَبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند اللّه ، وأنَّ علياً كان إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسن إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسين إماماً فرض اللّه طاعته ، ثمّ كان عليّ بن الحسين إماماً فرض اللّه طاعته بعدهم ، حتى إنتهى الأمر اليه ، ثمّ قلت : أنت يرحمكَ اللّه قال : فقال عليه السلام : هذا دين اللّه ودين ملائكته .

( ويكفي في التّصديق بما جاء النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) به ، فإنّه من الضروري وجوب

ص: 83

التصديقُ بما علم مجيئه متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسمانيّ والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالاً ، مع تأمل في إعتبار معرفة ماعدا المعاد الجسمانيّ من هذه الأمور في الايمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ، للأخبار المتقدّمة والسيرة المستمرّة ،

-------------------

تصديق النبيّ بما جاء به ( : التّصديق بما علم مجيئه متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ) .

وقد مثّل المصنّف لأحوال المبدأ بقوله : ( كالتّكليف بالعبادات ) لأن العبادات من شؤون المبدأ .

ومَثَّلَ لأحوال المعاد بقوله : ( والسّؤال في القبر وعذابه ) أي عذاب القبر ( والمعاد الجسماني ، والحساب ، والصّراط ، والميزان ، والجنّة والنّار ، إجمالاً ) إذ من الواضح : انّه لا يلزم معرفة هذه الاُمور على سبيل التفصيل ، بلّ كثير من الخواص لايعرفونها تفصيلاً ، فكيف بالعوام ؟ .

( مع تأمّل في إعتبار معرفة ماعدا المعاد الجسماني - من هذه الاُمور- في الايمان ) قوله « في » ، متعلق بقوله : « اعتبار » ، أي : يتأمّل في أنّه يلزم في باب الايمان : أن يعرف الانسان ماعدا المعاد الجسماني : من أحوال الصراط ، والجنّة والنّار ، والميزان ، وما أشبه .

ذلك الايمان ( المقابل للكفر الموجب للخلود في النّار ) لأنّ الايمان له إطلاقان : إيمان يقابل الكفر ، وإيمان يقابل الخلاف ، وعلى أيّ حال : فكون الكفر موجباً للخلود في النار قد عرفت التأمّل في إطلاقه .

ثمّ أنّ المصنّف بيّن وجه التأمّل بقوله : ( للأخبار المتقدّمة ، والسّيرة المستمرة ،

ص: 84

فانّا نعلم بالوجدان جهلَ كثير من الناس بها من أوّل البعثة إلى يومنا هذا .

ويمكن أن يقال : إنّ المعتبرَ هو عدمُ إنكار هذه الأمور وغيرها من الضروريّات ، لا وجوبُ الاعتقاد بها ، على مايظهر من بعض الأخبار ، من أنّ الشاكّ إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر .

ففي رواية زُرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لو أنّ العبادَ إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا » ، ونحوها غيرها .

ويؤيّدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره ، باسناده

-------------------

فانّا نعلم بالوجدان جهل كثير من النّاس بها من أوّل البعثة الى يومنا هذا ) بدون إستنكار من الرّسول ، والأئمة ، والعلماء عليهم ، ولو كان الجهل ضاراً لكان الاستنكار قائماً .

( ويمكن أن يقال : إنَّ المعتبر : هو عدم إنكار هذه الاُمور ) التي ذكرناها من نحو : الجنّة ، والنّار ، والميزان ، والصِراط ( وغيرها من الضّروريات ) التي ذُكرت في الكتب الكلامية ( لا وجوب الاعتقاد بها ، على مايظهر من بعض الأخبار ) التي بأيدينا : من أنّ الضار : هو الإنكار ، لا وجوب الاعتقاد .

ولهذا جاء في بعض الأخبار ( : من أنّ الشّاكَ إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر ، ففي رواية زُرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يَجحَدوا ، لم يكفروا (1) ، ونحوها غيرها ) ومنه يتبين : إن الإنكار هو الّذي يوجب الكفر ، لا عدم العلم ( ويؤيّدها ) أي : يؤيد رواية زُرارة ( ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره

ص: 85


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

عن الصادق عليه السلام : « إنّ جماعةً يقال لهم الحقّيّة ، وهم الذين يقسِمون بحقّ عليّ ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة » .

وبالجملة : فالقولُ بأنّه يكفي في الايمان الاعتقادُ بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص وبنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبإمامة الأئمّة عليهم السلام ، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسمانيّ الذي لا ينفكّ غالباً عن الاعتقادات السابقة غيرُ بعيد ، بالنظر الى الأخبار والسيرة المستمرة .

-------------------

باسناده عن الصّادق عليه السلام : انّ جماعةً يقال لهم : الحقّيّة ، وهم الذين يقسِمون بحقّ عليّ ) عليه السلام ( ولا يعرفون حقّه وفضله ، وهم يدخلون الجنّة ) فان عدم معرفتهم بحق عليّ وفضله ، لا يوجب كفرهم حتى يدخلون النار ، وإنّما إذا أنكروا حقّه وفضله سبّب لهم دخول النار .

( وبالجملة : فالقول بأنّه يكفي في الايمان ) الخاص ، الذي هو أخص من الاسلام ( : الاعتقاد بوجود الواجب ) لذاته ( الجامع للكمالات المنزّه عن النقائص ، وبنبوة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبإمامة الأئمة عليهم السلام ، والبرائة من أعدائهم ) والغاصبين لحقوقهم ( والاعتقاد بالمعاد الجسماني الّذي لاينفكَ غالباً عن الاعتقادات السّابقة ) وهي الحِساب ، والصِراط ، والميزان ، والجَنّة ، والنار ، وما أشبه ( غير بعيد بالنّظر الى الأخبار والسّيرة المستمّرة ) .

وإنّما قال : غالباً ، لأنَّ كثيراً من أهل القرى والأرياف ، بل من أهل المدن الفارغة عن العلماء ، بل وكثير ممّن هم في أوائل بلوغهم ، لايعرفون من المعاد إلاّ أنهم يجزون بالاحسان إحساناً ، وبالسيئات عقاباً أو غفراناً ، ولا يستنكر عليهم

ص: 86

وأمّا التديّنُ بسائر الضروريّات ، ففي إشتراطه أو كفاية عدم إنكارها أو عدم إشتراطه أيضاً ، فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدّين وجوهٌ ، أقواها الأخيرُ ، ثمّ الأوسطُ .

وما إستقربناه فيما ما يعتبر في الايمان وجدتُه بعد ذلك في كلام محكيّ عن المحقّق الورع الأردبيليّ في شرح الإرشاد .

ثمّ الكلامَ إلى هُنا في تمييز القسم الثاني ، وهو ما لايجب الاعتقادُ به إلاّ بعد حصول العلم به عن القسم الأول ، وهو مايجب الاعتقاد به مطلقاً ،

-------------------

أحد من العلماء ممّا يدل على كفاية مثل هذا الاعتقاد .

( وأمّا التّديّن بسائر الضّروريّات ، ففي إشتراطه ) في الايمان ( أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم إشتراطه أيضاً ) فانّه حتى إذا أنكرها بلا علم بأنّها من الدين ، لم يكن ضاراً بايمانه ، كما قال :- ( فلا يضرّ إنكارها إلاّ مع العلم بكونها من الدّين ، وجوه ) ثلاثة : ( أقواها : الأخير ، ثم الأوسط ) وإنّما كان الأقوى الأخير ، للأصل ، والسيرة ، وبعض الروايات المتقدمة .

هذا ( وما إستقربناه فيما يعتبر في الايمان ، وجدته بعد ذلك ) أي : بعد ان كتبت هذه الامور هنا ( في كلام محكي عن المحقّق الوَرع : الأردبيلي ، في شرح الارشاد ) (1) ممّا يؤيد ما ذكرناه ، فانّه قدس سره على شدّة تقواه وورعه إذا رأى ذلك كانت رؤيته تلك مؤيدة لما إستفدناه من الآيات ، والأخبار ، والاجماع ، والسيّرة .

( ثمّ الكلام الى هنا في تمييز القسم الثاني ، وهو : ما لايجب الاعتقاد به الاّ بعد حصول العلم به ، عن القسم الأوّل ، وهو : ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ،

ص: 87


1- - مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الأذهان : ج3 ص220 .

فيجب تحصيلُ مقدّمته ، أعني الأسباب المحصّلة للاعتقاد ، وقد عرفتَ أنّ الأقوى عدمُ جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني .

وأمّا القسمُ الأوّل : الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد ، فالكلامُ فيه يقعُ تارةً بالنسبة الى القادر على تحصيل العلم وأخرى بالنسبة إلى العاجز ، فهنا مقامان :

الأوّل : في القادر

والكلامُ في جواز عمله بالظنّ يقعُ في موضعين ، الأوّل : في حكمه التكليفيّ ،

-------------------

فيجب تحصيل مقدّمته أعني : الأسباب المحصّلة للاعتقاد ) وقد مرّ الفرق بين العلم والاعتقاد ، وأن العلم : أن يعلم الانسان شيئاً في مقابل أن يجهله ، والاعتقاد : أنّ يعقد قلبه .

( وقد عرفت : إنَّ الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني ) إذ لا دليل على ذلك .

( وأمّا القسم الأوّل الّذي يجب فيه النّظر لتحصيل الاعتقاد ) وقبل تحصيل الاعتقاد تحصيل العلم حتى يعتقد ( فالكلام فيه يقع تارة بالنّسبة الى القادر على تحصيل العلم ، واُخرى بالنسبة الى العاجز ) عن تحصيل العلم ( فهنا مقامان ) على النحو التالي :

الأوّل : في القادر ( والكلام في جواز عمله بالظّن يقع في موضعين ) كما يلي :

( الأوّل : في حكمه التكليفي ) أي : جواز الاقتصار على الظّن لمن تمكّن من العلم .

ص: 88

والثاني : في حكمه الوضعيّ من حيث الإيمان وعدمه ، فنقول :

أمّا حكمهُ التكليفيّ ، فلا ينبغي التأمّلُ في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظنّ .

فمن ظنّ بنبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو بإمامة أحد من الأئمة عليهم السلام ، فلا يجوز له الاقتصار ، فيجب عليه مع التفطّن لهذه المسألة زيادةُ النظر ، ويجب على العلماء أمرُهُ بزيادة النظر ليحصل له العلمُ إن لم يخافوا عليه الوقوعَ في خلاف الحقّ ، لأنّه حينئذٍ يدخل في

-------------------

( والثّاني : في حكمه الوضعي من حيث الايمان وعدمه ) وانّه لو كان ظانّاً ، هل يكون مؤمناً له أحكام الايمان ، أو ليس بمؤمن ؟ والمراد بالايمان هنا هو معناه الأعم المرادف للاسلام .

( فنقول : أمّا حكمه التكليفي ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز اقتصاره ) أي : المكلّف ( على العمل بالظّن ) وهو قادر على تحصيل العلم والاعتقاد .

وعليه : ( فمن ظنّ بنبوة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو بامامة أحد من الأئمة عليهم السلام ، فلا يجوز له الاقتصار ) على هذا الظّن ( فيجب عليه - مع التّفطّن لهذه المسألة - زيادة النظر ) وقيّده بالتفطن ، لأنّ من لم يتفطّن لا تكليف عليه ، وقوله : « زيادة النظر » فاعل قوله : ف- « يجب » .

( ويجب على العلماء ) من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وخصّ العلماء بالوجوب ، لأنهم هم الملتفتون الى هذه الاُمور غالباً ، والاّ فالأمر لا يخص العلماء كما لايخفى ، فانّه يجب عليهم ( أمره بزيادة النّظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحقّ ) .

وإنّما وجب إن لم يكن خوف ( لأنّه حينئذٍ ) أي : حين الخوف ( يدخل في

ص: 89

قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ، فانّ بقاءه على الظنّ بالحقّ أولى من رجوعه إلى الشّك أو الظنّ بالباطل فضلاً عن العلم به .

والدليلُ على ما ذكرنا جميعُ الآيات والأخبار الدالّة على وجوب الايمان والعلم والتفقّه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتديّن وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظنّ ، وهي أكثر من أن تحصى .

وأمّا الموضعُ الثاني : فالأقوى فيه بل المتعيّنُ الحكمُ بعدم الايمان ،

-------------------

قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحقّ ) فكما إنَّ العاجز لا تكليف عليه ، كذلك من يخشى أن يقع في خلاف الحقّ الصريح إذا فحص وبحث ونظر لا تكليف عليه .

وإنّما يخشى عليه ذلك ، لتهيأ ذهنيته للوقوع في خلاف الحق ( فانّ بقائه على الظّن بالحقّ أولى من رجوعه الى الشّكَ ، أو الظّن بالباطل ، فضلاً عن العلم به ) أي : فضلاً عن القطع بالباطل .

ولا يخفى : إنَّ إطلاق المصنّف العلم هنا على القطع ، مع انّهم عَرّفوا القطع : بالاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، لايكون إلاّ من باب التوسع .

هذا ( والدّليل على ما ذكرنا ) : من انّه يجب تحصيل العلم ، هو : ( جميع الآيات والأخبار الدّالة على وجوب الايمان ، والعلم ، والتفقّه ، والمعرفة ، والتّصديق ، والإقرار ، والشّهادة ، والتّدين ، وعدم الرّخصة في الجهل والشّك ومتابعة الظّنّ ، وهي أكثر من أن تحصى ) كما لايخفى ذلك على من راجع البحار في هذه الأبواب .

هذا تمام الكلام بالنسبة الى الحكم التكليفي في تحصيل العلم .

( وأمّا الموضع الثّاني : ) وهو حكمة الوضعي من حيث الايمان وعدم الايمان ( فالأقوى فيه ، بل المتعيّن : الحكم بعدم الايمان ) لمن لم يحصّل العلم

ص: 90

للأخبار المفسّرة للايمان بالإقرار والشهادة والتديّن والمعرفة وغير ذلك من العبائر الظاهرة في العلم .

وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ ؟ فيه وجهان ، من إطلاق ما دلّ على أنّ الشاكَّ وغير المؤمن كافرٌ ، وظاهر ما دلّ من الكتاب والسنّة على حصر المكلَّف في المؤمن والكافر

-------------------

والاعتقاد ، وذلك ( للأخبار المفسّرة للايمان بالاقرار ، والشهادة ، والتدّين ، والمعرفة ، وغير ذلك من العبائر الظّاهرة في العلم ) .

ومعنى ذلك : انّه إذا لم يكن له العلم ، لم يكن له الايمان ، وعلى هذا فهو ليس بمؤمن قطعاً ( وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ ؟ فيه وجهان : من إطلاق ما دلّ على أنّ الشّاكَ وغير المؤمن كافر ) ومن المعلوم أنَّ المراد بالشّاك هو غير العالم ، فيشمل الواهم ، والظان ، والشاك المتساوي الطرفين .

( و ) كذا من ( ظاهر ما دلّ من الكتاب والسّنة على حصر المكلّف في المؤمن والكافر ) فاذا لم يكن الانسان مؤمناً كان كافراً ، لأنّ ظاهر هذه الآيات والرّوايات : انّه لا واسطة بين الأمرين .

مثل ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام : « مَنْ شَّكَ فِي اللّه ِ وَفِي رَسُولِ اللّه ِ فَهُوَ كافر » (1) .

وعن منصور بن حازم قال : «قُلتُ لأبي عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ شَّكَ فِي رَسولِ اللّه ِ؟ قالَ : كافرٌ ، قُلتُ : مَنْ شكَّ فِي كُفرِ الشّاك فَهوَ كافرٌ ؟ فأَمسَكَ عَنِي ،

ص: 91


1- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 ، وسائل الشيعة : ج28 ص346 ب10 ح34925 ، المحاسن : ص89 ح33 .

ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود فلا يَشملُ ما نحن فيه ،

-------------------

فَرددتُ عَليهِ ثَلاثَ مَرات ، فاستَبَنْتُ فِي وَجههِ الغَضَب » (1) .

وعن سُليم بن قَيس الهِلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « بُنيَ الكُفرُ على أَربَعِ دَعائِمَ : الفسّق ، والغُلوّ ، والشّك ، والشُبهة » (2) .

وعن أبي إسحاق الخُراساني قال : « كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في خطبته : لا تَرتابُوا فَتَشكُوا ، وَلا تَشكُوا فتكفُروا » (3) ، والى غير ذلك .

( ومن تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود فلا يشمل ما نحن فيه ) مثل ما عن مُحمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « كلُّ شَيءٍ يَجرُّه الإقرار وَالتَسليم فَهوُ إيمانٌ ، وكُلّ شَيءٍ يَجرُّه الانكار وَالجُحود فَهوُ الكُفر » (4) . وعن زُرارة عَن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا » (5) .

وعن محمد بن مسلم قال : « كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالساً عن يساره وزُرارة عَن يَمينه ، فَدخَل عَليه أبوُ بصير فقال : ياأبا عَبد اللّه ماتقول فيمَنْ شَّكَ فِي اللِّه ؟ فَقالَ : كافِرٌ ياأبا مُحمّد ، قال : فَشكَّ فِي رسولِ اللِّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ فقال : كافِرٌ ، قال : ثم إلتفَتَ إلى زُرارة فقال : إنّما يكفر إذا جَحد » (6) .

ص: 92


1- - الكافي اصول : ج2 ص387 ح11 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص391 ح1 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص387 ح15 .
5- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .
6- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 .

ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان ، وقد أُطلق عليه في الأخبار الضّلالُ ،

-------------------

ومن المعلوم : إنّ الجمع بين الطائفتين هو : حمل المطلق على المقيّد ، ويؤيده أخبار الواسطة كما قال : ( ودلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان ، وقد أطلق عليه ) أي : على الوسط بين الكفر والايمان ( في الأخبار : الضّلالُ ) .

فعن زُرارة أبي جعفر عليه السلام : في قول اللّه عزّوجل : « وآخَرون مُرجَون لأمِرِ اللّه ِ » ؟ (1) قال : « قَومٌ مُشرِكونَ فَقَتَلوُا مِثلَ : حَمزَةَ ، وَجعفَر ، وأشباههم مِن المؤمِنينَ ، ثمّ إنّهم دخلوا في الاسلام ، وَوَحّدوُا اللّه ، وتركوا الشّرك ، وَلَم يَعرِفُوا الايمان بقلوبهم ، فَيكُونُوا مِن المؤمنين فَيجِب لَهم الجَنّة ، ولم يكونوا على جحُودِهم فيكفروا فَيجِب لَهُمُ النّار ، فَهُم على تِلكَ الحال إمّا يعُذبَهم وَإمّا يتَوُبُ عَليهِم » (2) .

وعن زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « ما تقول في أصحاب الأَعراف ؟ فَقُلت : ما هم إلاّ مُؤمِنون أو كافِروُن ، إِنْ دَخلُوا الجَنّةَ فَهُم مؤمنون ، وإن دَخلُوا النّارَ فَهُم كافِروُن ، فقال : وَاللّه ما هُم بمُؤمِنينَ ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين دخلوا الجَنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين لَدَخلوا النّار كما دخلها الكافرون ، ولكنّهم قوم إستوت حسناتهم وسيئآتهم فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم كما قال اللّه عزّوجلّ ، فقلت : أمِنْ أهل الجنّة هُم أو مِنْ أهل النّار ؟ فقال : إتركهم حيث تركهم اللّه ، قلت : أفترجئهم ؟ قال : أرجئهم كما أرجئهم اللّه ، إنْ شاءَ أدخلهم الجنّة

ص: 93


1- - سورة التوبة : الآية 106 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص407 ح1 .

...

-------------------

برحمته ، وإنّ شاء ساقهم الى النار بذنوبهم ولم يظلمهم » (1) .

وعن هاشم صاحب البريد ، قال : « كنت أنا ومحمّد بن مسلم وأبو الخَطاب مجتمعين ، فقال أبو الخطاب : ماتقولون فيمَن لم يعرف هذا الأمر ؟ فقلت : من لم يعرف هذا الأمر فهُو كافرٌ ، فقال أبو الخطاب : ليس بكافر حتى يقوم عليه الحجّة ، فاذا قامت عليه الحجّة ولم يعرف فهو كافر ، فقال له محمّد بن مُسلم : سُبحان اللّه ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر ، ليس بكافر إذا لم يجحد ؟ قال : فلما حججت دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام فاخبرته بذلك ، فقال : إنّكَ قَد حَضرتَ دعاباً ، ولكن موعدكم الليلة عند الجمرة الوسطى بمِنى ، فلما كانت الليلة إجتمعنا عِندَهُ وأبو الخطاب ومحمّد بن مسلم وتناول وسادة فوضعها في خدره وقال : أما ، ماتقولون في خدمكم ونسائكم وأهلكم ؟ أليس يشهدون أن لا اِله اِلاّ اللّه ؟ قلت : بلى ، قال : أليس يصلّون ويصومُون ويحجّون ؟ قلت : بلى ، قال : ويعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال : فما هم عندكم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف هذا الأمر فهو كافر ، قال : سبحان اللّه أما رأيت اهل الطريق وأهل الماء ؟ قلت : بلى ، قال : أليس يصلّون ويصومون ويحجّون ؟ أليس يشهدون أن لا اِله اِلاّ اللّه وأن محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم رَسوُلُ اللّه ؟ قلت : بلى ، قال : أيعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال : فما هم عندكم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف فهو كافر ، قال : سبحان اللّه أما رأيت الكعبة وأهل اليمن وتعلقهم بأستار الكعبة ؟ قلت : بلى ، قال عليه السلام : أليس يشهدون أن لا اِلّه اِلاّ اللّه وأن محمّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ويصلّون ويصومون ويحجّون ؟ قلت : بلى ،

ص: 94


1- - الكافي اصول : ج2 ص403 ح2 .

لكن أكثر الأخبار الدالّة على الواسطة مختصّةٌ بالإيمان بالمعنى الأخصّ ، فيدلّ على أنّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولا كافر ، لا على ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر ،

-------------------

قال : فيعرفون ما أنتم عليه ؟ قلت : لا ، قال فما تقولون فيهم ؟ قلت : مَنْ لم يعرف فهو كافر ، قال : سُبحان اللّه ، هذا قول الخوارج .

ثمّ قال : إن شئتم أخبرتكم ؟ فقلت : بلى ، فقال أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشَيءٍ مالم تَسمَعوُه مِنّا ، قال : فظننّت انّه يريد ما على قول محمّد بن مسلم » (1) .

وعن عمر بن أَبان قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المستضعفين ؟ فقال عليه السلام : « هم أهل الولاية فقلت : أي ولاية ؟ فقال : أما إنّها ليست بالولاية في الدّين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين وليسوا بالكفار ، ومنهم المرجون لأمر اللّه عزّوجلّ » (2) .

الى غير ذلك من الأخبار التي يجدها المتتبع في البحار في باب الايمان والكفر وفي غيره .

( لكن أكثر الأخبار الدّالة على الواسطة ، مختصّة بالايمان بالمعنى الأخصّ ) فهناك من يؤمن بالائمة الطاهرين عليهم السلام إيماناً بالمعنى الأخص ، وكافر يقابله ، ومسلم ليس يؤمن بالائمة الطاهرين ، وهو واسطة بينهما ( فيدلّ على انَّ من المسلمين من ليس بمؤمن ولاكافر ، لاعلى ثبوت الواسطة بين الاسلام والكفر ) الذي هو محل البحث والكلام .

ص: 95


1- - الكافي اصول : ج2 ص401 ح1 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص405 ح5 ، تفسير العياشي : ج1 ص257 ح194 .

نعم ، بعضها قد يظهرُ منه ذلك . وحينئذٍ فالشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخصّ ليس بمؤمن ولا كافر ،

-------------------

قال الآشتياني : « ثم إنّ الواسطة بين الايمان بالمعنى الأعم وهو : الاسلام والكفر ، لايترتب عليه حكم كلّ من الكافر والمسلم ، فمثل النجاسة لايترتب عليه بل يحكم بطهارته ، لأنّ النجاسة من أحكام الكفر ، كما أن جواز النكاح والتوارث من أحكام الاسلام ، وهل يحكم بصحة عباداته ام لا ؟ وجهان : أوجههما الثاني ، لأنَّ ظاهرهم إعتبار الاسلام في صحة العبادات لا مانعية الكفر .

نعم ، لايجوز إسترقاقه قطعاً ، لأنّه أحكام الكفر ، كما انّه يحكم بسقوط القضاء - أي قضاء العبادات - عنه بعد الاسلام ، فانّه من أحكامه .

وبالجملة : لابد من تشخيص كون الحكم مترتباً على الكفر أو الاسلام وهو بنظر الفقيه ، وأمّا الواسطة بين المؤمن بالمعنى الأخص والكافر : فيجري عليه حكم المسلم القائل بالايمان الأخص ، ولايترتب عليه حكم كل من الكافر والمؤمن ، فمثل حَقن الدماء والميراث وجواز النكاح فيما كانت الواسطة إمرأة وأراد المؤمن نكاحها يترتب عليه ، وأما نكاحه المؤمنة ونحوه ممّا رتب في الشرع على الايمان بالمعنى الأخص فلا يترتب عليه » .

إنتهى ، وان كان في بعض ماذكره قدس سره تامّل موضعه الفقه .

( نعم ، بعضها قد يظهر منه ذلك ) وانّه واسطة بين الاسلام بالمعنى الأعم والكفر ( وحينئذٍ ) أي : حين كان واسطة بين الايمان بالمعنى الأخص والكفر ( فالشّاك في شيء ممّا يعتبر في الايمان بالمعنى الأخص ) كالشّك في انّ الامام المهدي عليه السلام وهو الامام الثاني عشر - مثلاً - يكون ( ليس بمؤمن ولا كافر ،

ص: 96

فلا يجري عليه أحكامُ الإيمان .

وأمّا الشاكّ في شيء ممّا يعتبر في الاسلام بالمعنى الأعم ، كالنبوّة والمعاد ، فان إكتفينا في الاسلام بظاهر الشهادتين وعدم الانكار ظاهراً وإن لم يعتقد باطناً فهو مسلمٌ ، وإن اعتبرنا في الاسلام الشهادتين مع إحتمال الاعتقاد على طبقهما حتّى تكون الشهادتان أمارةً على الاعتقاد الباطنيّ فلا إشكال في عدم إسلام الشاكّ لو علم منه الشكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين ، من جواز المناكحة والتوارث وغيرهما .

-------------------

فلا يجري عليه أحكام الايمان ) بالمعنى الأخص .

( وأمّا الشّاك في شيءٍ ممّا يعتبر في الاسلام بالمعنى الأعمّ : كالنبّوة ، والمعاد ، فان إكتفينا في الاسلام بظاهر الشّهادتين ، وعدم الانكار ظاهراً وإن لم يعتقد ) الاسلام ( باطناً ، فهو مسلم ) لأن المفروض : انّه شهد الشّهادتين ولم ينكر شيئاً ممّا يعتبر في الاسلام المعاد - مثلاً - .

( وإن إعتبرنا في الاسلام الشّهادتين مع إحتمال الاعتقاد على طبقهما حتى تكون الشّهادتان أمارة على الاعتقاد الباطني ، فلا إشكال في عدم إسلام الشّاكَ ) في مرحلة الواقع والثبوت ، لأنّه غير مسلم حسب هذا الميزان ، فانّه ( لو علم منه الشّكّ ، فلا يجري عليه أحكام المسلمين : من جواز المناكحة ، والتّوارث ، وغيرهما ) كطهارة البدن ، والدفن في مقبرة المسلمين ، والى غير ذلك .

لكن قد يقال : إذن فكيف يجري على المنافق أحكام الاسلام ، مع انّه عاقد قلبه على الخلاف ، لا أنّه شاك فقط ؟ .

فانّه ربّما يقال : بأنّ الأقسام أربعة :

الأول : المسلم حقيقة .

ص: 97

وهل يُحكم بكفره ونجاسته حينئذٍ فيه إشكالٌ من تقييد كفر الشاكّ في غير واحد من الأخبار بالجحود ، هذا كلّه في الظانّ بالحقّ ، وأمّا الظانُّ بالباطل ، فالظاهرُ كفرُهُ .

بقي الكلام في أنّه اذا لم يكتف بالظنّ وحصل الجزمُ من تقليد ، فهل يكفي

-------------------

الثاني : المسلم صورة ، فتجري أحكام الاسلام ، وهذا يشمل المنافق أيضاً .

الثالث : من لايجري عليه أحكام الاسلام وإن شهد الشّهادتين ، وذلك كما إذا جاء كافر وأراد الزواج من بنت مسلمة فقيل له : لايسمح لك بالزواج منها إلاّ بعد الشهادتين ، فتشهد وهو يقول : انّه لايعتقد بشيء ممّا شهد به أصلاً ، أو علمنا منه لك .

الرابع : الكافر لفظاً وقلباً .

( و ) كيف كان ، فعلى قول المصنّف : انّه لايجري على الشاك أحكام المسلمين ، لكن ( هل يحكم بكفره ونجاسته حينئذٍ ؟ ) أي : حين كان شاكاً واقعاً وعلمنا منه ذلك ؟ .

( فيه إشكال : من تقييد كفر الشّاك في غير واحد من الأخبار بالجحود ) وهذا ليس بجاحد ، فلا يكون كافراً ولانجساً .

لكن لايخفى : إنّ السيرة جرت على عدم التفكيك بين أحكام الاسلام والكفر ، بأنّ لاينكح - مثلاً - لكن يقال : بانّه ظاهر ، أو يدفن في مقابر المسلمين ، بل أمّا أحكام الاسلام جارية في حقه ، أو كلّ أحكام الكفر .

( هذا كلّه في الظّان بالحقّ ، أمّا الظّان بالباطل ، فالظاهر : كفره ) لأنّ توهم الاسلام ليس باسلام ، والأدلة منصرفة عن مثله .

( بقي الكلام في انّه إذا لم يكتف بالظّن وحصل الجزم من تقليد ، فهل يكفي

ص: 98

ذلك أو لابدّ من النظر والاستدلال ؟ ظاهرُ الأكثر الثاني ، بل إدّعى عليه العلاّمة قدس سره ، في الباب الحادي عشر الاجماعَ ، حيث قال : « أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه وصفاته الثبوتيّة وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه والنبوّة والامامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد » . فانّ صريحه أنّ المعرفة بالتقليد غير كافية .

ومثلها عبارة الشهيد الأوّل والمحقق الثاني ، وأصرحُ منهما عبارةُ المحقّق رحمه اللّه في المعارج ، حيث إستدلّ على بطلان التقليد بأنّه جزم في غير محلّه .

-------------------

ذلك ) في الحكم عليه بالاسلام ، وجريان أحكام الاسلام عليه ( أو لابّد من النظر والاستدلال ؟ ) حتى يقال : بانّه مسلم محكوم بأحكام الاسلام ؟ .

( ظاهر الأكثر : الثاني ، بل إدّعى عليه العلامّة قدس سره في الباب الحادي عشر : الاجماع ) على ذلك ( حيث قال : أجمع العلماء على وجوب معرفة اللّه ، وصفاته الثبوتيّة ، ومايصحّ عليه ) من الأقوال والأفعال ( وما يمتنع عنه ) من الصفات السلبية ، والأقوال والأفعال ( والنّبوة ، والامامة ، والمعاد ، بالدّليل لا بالتّقليد ) (1) فانّ التقليد لايكفي في صدق الاسلام بالنسبة الى الاصول الاسلامية ، وفي الايمان بالنسبة الى الاُصول الايمانية ( فانّ صريحه : انَّ المعرفة بالتقليد غير كافية ) في التسمية بالإسمين المذكورين ، وفي جريان أحكامهما على المسلم والمؤمن .

(ومثلها : عبارة الشهيد الأوّل ، والمحقّق الثّاني ، وأصرح منهما : عبارة المحقّق رحمه اللّه في المعارج ، حيث إستدل على بطلان التقليد: بانّه جزم في غيرمحله)

ص: 99


1- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص4 .

ولكن مقتضى إستدلال العضديّ ، على منع التقليد بالاجماع على وجوب معرفة اللّه وأنّها لاتحصلُ بالتقليد هو انّ الكلامَ في التقليد الغير المفيد للمعرفة .

وهو الذي يقتضيه أيضاً ما ذكره شيخنا في العدّة ، كما سيجيء كلامه؛ وكلامُ الشهيد رحمه اللّه ، في القواعد من عدم جواز التقليد في العقليّات ولا في الاصول الضروريّة من السمعيّات ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عملٌ ويكون المطلوبُ فيها العلمَ ، كالتفاضل بين الأنبياء السابقة .

-------------------

فان المقلّد جازم ، لكن جزمه ليس في محله ، إذ التقليد الفروع لا الاُصول .

( ولكن مقتضى إستدلال العضدي ) وهو من علماء العامّة ( على منع التّقليد ، بالاجماع على وجوب معرفة اللّه وانّها لاتحصل بالتّقليد ، هو : انَّ الكلام في التقليد غير المفيد للمعرفة ) أما التقليد المفيد للمعرفة القلبية ، فانّه يكفي في الحكم بالاسلام ، اذ التقليد قد يفيد العلم وقد لايفيد العلم .

( و ) مقتضى كلام العضدي ( هو الّذي يقتضيه أيضاً ماذكره شيخنا ) الطوسي ( في العّدة ما سيجيء كلامه ) إنشاء اللّه تعالى .

( وكلام الشهيد ) الأول ( رحمه اللّه في القواعد : من عدم جواز التّقليد في العقليّات ، ولا في الاُصول الضروريّة من السّمعيّات ) يقتضي ذلك أيضاً ، فالأول : كوجود اللّه سبحانه وتعالى ، والثاني : كالائمة الاثني عشر عليهم السلام ، فانّه سمعي ضروري وليس بعقلي في خصوصيات العدد ونحوه ( ولا في غيرها ممّا لا يتعلّق به عمل ، ويكون المطلوب فيها العلم ، كالتفاضل بين الانبياء السّابقة ) مثل : إنّ إبراهيم عليه السلام أفضل من لوط وموسى وعيسى بما هما من أولي العزم أفضل من زكريا ويحيى ،

ص: 100

ويعضده أيضاً ظاهرُ ما عن شيخنا البهائي قدس سره في حاشية الزبدة من أنّ النزاعَ في جواز التقليد وعدمه يرجعُ إلى النزاع في كفاية الظنّ وعدمها .

ويؤيدّه إقترانُ التقليد في الاصول في كلماتهم بالتقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى أنّ المستفتى فيه هي الفروع دون الاصول .

لكنّ الظاهرَ عدمُ المقابلةُ التامّة بين التقليدين ، إذ لايعتبر في التقليد في الفروع حصولُ الظنّ ، فيعمل المقلّدُ

-------------------

الى غير ذلك .

( ويعضده أيضاً : ظاهر ما عن شيخنا البهائي قدس سره في حاشية الزّبدة : من أنَّ النّزاع في جواز التّقليد وعدمه ، يرجع الى النّزاع في كفاية الظّن وعدمها ) ومعناه : انّه إذا حصل العلم للمقلّد من تقليده في اُصول الدّين ، كفى في كونه مسلماً قطعاً ، فانّ لانزاع فيه بين أحد ( ويؤيّده ) أيضاً ( إقتران التّقليد في الاُصول في كلماتهم بالتّقليد في الفروع ، حيث يذكرون في أركان الفتوى : ان المُستفتى فيه ) بصيغة المفعول ( هي الفروع دون الاُصول ) بضميمة وضوح : انَّ التقليد في الفروع لايوجب العلم ، فكذلك التقليد في الاصول .

وعلى أي حال : فمرادهم من عدم جواز التقليد في الاصول : التقليد الذي لايوجب العلم ، أمّا إذا أوجب العلم فلا إشكال في كون المقلّد مسلماً يجري عليه أحكام الاسلام .

( لكن الظّاهر عدم المقابلة التّامّة بين التقليدين ) حتى يقال : إنَّ كلماتهم في التقليد في الفروع ، هي بعينها تأتي في التقليد في الاُصول ، فيقال : حيث إن في الفروع لاتحتاج الى العلم ، كذلك لايحتاج الى العلم في الاُصول ( إذ لايعتبر في التّقليد في الفروع حصول الظّن ) قطعاً ( فيعمل المقلّد ) بفتاوى مرجعه

ص: 101

مع كونه شاكّاً .

وهذا غيرُ معقول في اصول الدّين التي يُطلَبُ فيها الاعتقادُ حتّى يجري فيه الخلافُ .

وكذا ليس المرادُ من كفاية التقليد هنا كفايته عن الواقع مخالفاً كان في الواقع أو موافقاً كما في الفروع ،

-------------------

( مع كونه ) أي : المقلِّد ( شاكاً ) بل ومع وهمه ، بان كان ظنّه على خلاف فتوى مرجع تقليده . ( وهذا غير معقول في اُصول الدّين ، التي يُطلَبُ فيها الاعتقاد ) فانّه لا شكَ في عدم كفاية التقليد في اصول الدين إذا كان التقليد في اصول الدين يورث الشك أو الوهم دون العلم فانّه غير كافٍ قطعاً ، بل ولا معقول كفايته ( حتى يجري فيه الخلاف ) بأنه هل يكفي التقليد أو لايكفي التقليد ؟ فلا يدل اقتران التقليدين في كلماتهم على أن مايذكرونه في التقليد في الفروع ، هو عين مايذكرونه في التقليد في الاصول حتى يستفاد من ذلك : انّهم يصححون التقليد في الاصول إذا أوجب التقليد العلم .

( وكذا ليس المراد من كفاية التقليد هنا ) في باب الاصول ( :كفايته عن الواقع ، مخالفاً كان ) التقليد ( في الواقع ، أو موافقاً ) بأن يقلّد - مثلاً - في تعدد الآلهة ، أو عدم العدل ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه مقطوع البطلان والمواخذة ( كما في الفروع ) فان المقلِّد في الفروع معذور في تقليده طابق الواقع أم لا ، وفي مخالف الواقع له ثواب الانقياد .

ويؤيده ما ورد مرسلاً : « انّ للمُصيب أَجرين وَللمُخطى ء أَجرا واحدا » (1) .

ص: 102


1- - حاشية سلطان العلماء على المعالم : ص80 .

بل المرادُ كفايةُ التقليد في الحقّ وسقوط النظر به عنه ، إلاّ أن يكتفي فيها بمجرّد التديّن ظاهراً وإن لم يعتقد ، لكنّه بعيدٌ .

ثمّ إنّ ظاهرَ كلام الحاجبيّ والعضديّ إختصاصُ الخلاف بالمسائل العقليّة .

وهو في محلّه ، بناءا على ما إستظهرنا منهم ، من عدم حصول الجزم من التقليد ، لأنّ الذي لايفيد الجزم من التقليد إنّما هو في العقليّات المبنية على الاستدلالات العقلّية .

-------------------

وما ورد من قوله عليه السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) .

( بل المراد كفاية التقليد في الحقّ ) بأن يقلّد في وحدة الاله وعدله ، بينما هو لم يصل الى ذلك علميّاً ( وسقوط ) وجوب ( النّظر به ) اي : بالتقليد ( عنه ) ايٌ عن هذا المقلد في الحقّ والمعتقد به قلباً ( إلاّ أن يكتفي فيها بمجرد التدّين ظاهراً ) بأن يبني عليها بناءاً عمليّاً ( وان لم يعتقد ) قلباً ( لكنّه بعيد ) إذ الظاهر انّ مرادهم الاعتقاد .

( ثم إنَّ ظاهر كلام الحاجبي والعضدي : إختصاص الخلاف بالمسائل العقلية ) دون السمعية ، لأنهما مثّلا بمعرفة اللّه ، ومن المعلوم : انَّ الاستدلال على معرفته سبحانه وتعالى عقلي لاشرعي .

( وهو ) أي : كلامهما ( في محلّه بناءاً على ما استظهرنا منهم ) أي : من العلماء ( :من عدم حصول الجزم من التقليد ، لأنَّ الذي لايفيد الجزم من التّقليد ، انّما هو في العقليّات المبنيّة على الاستدلالات العقليّة ) فبدون الاستدلالات العقلية

ص: 103


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل لشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

وأمّا النقليّات ، فالاعتمادُ فيها على قول المقلّد ، - بالفتح - كالاعتماد على قول المخبر الذي قد يفيد الجزمَ بصدقه بواسطة القرائن وفي الحقيقة يخرج هذا عن التقليد .

وكيف كان : فالاقوى كفايةُ الجزم الحاصل من التقليد ، لعدم الدليل على إعتبار الزائد على المعرفة والتصديق والاعتقاد ، وتقييدها بطريق خاصّ لادليل عليه .

-------------------

لايحصل للانسان الجزم والقطع .

( وأمّا النقليّات فالاعتماد فيها على قول المقلَّد - بالفتح - كالاعتماد على قول المخبر ، الذي قد يفيد الجزم بصدقه بواسطة القرائن ) وقد لايفيد ( وفي الحقيقة يخرج هذا ) أي : مايفيد الجزم ( عن التّقليد ) لأنه إذا علم الانسان شيئاً لم يسمّ مقلداً .

( وكيف كان ) فان المستفاد من كلام الحاجبي والعضدي وغيرهما هو : كفاية التقليد المورث للعلم كما قال : ( فالاقوى : كفاية الجزم الحاصل من التقليد ) في اُصول الدين ( لعدم الدليل على إعتبار الزائد على المعرفة ، والتصديق ، والاعتقاد ) ونحوهما ممّا ورد في الكتاب والسنة .

( وتقييدها بطريق خاص ) بأن يقال : يلزم أن تكون المعرفة عن الاستدلال والنظر ( لا دليل عليه ) ويمكن هنا الاشكال على المصنّف : بانّه كيف يمكن إثبات إستحقاق العقاب في المقلّد في الباطل وعدمه في المقلد الحق ، مع فرض كونهما متساويين في سعيهما من جميع الجهات ، سوى ما كان خارجاً عن وسعهما بأن كان الاول : مولوداً في الفرقة التي كانوا على الباطل ، والثاني : فيمن على الحق ؟ .

ص: 104

مع أنّ الانصافَ : أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ،

-------------------

والجواب : أمّا عن الذي قلّد في الحقّ ، فعدم إستحقاقه العقاب بأنّ إستحقاقه الجنة ، فلانه سلك الطريق الموصول الى الجنة .

وأمّا عن الذي قلّد في الباطل فمن يقول : انّه يستحق العقاب إذا لم يكن مقصّراً ؟ بل يمتحن هناك في القيامة كما دلّ عليه النص وقول العلماء ، فحالهما حال نفرين : قلّد أحدهما من دلّه على الطّريق ، والثاني من دلّه على خلاف الطّريق ، فانّ الأول : يصل دون الثاني .

وكيف كان : فالكلام تارة في الوصول وعدم الوصول ، واُخرى في العقاب وعدم العقاب .

ثمّ انّ المصنّف أيّد ما ذكره : من كفاية التقليد بقوله : ( مع أنّ الانصاف : انَّ النّظر والاستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطّن بوجوب النظر في الاصول ، لايفيد بنفسه الجزم ) وإنّما يحتاج الى لطف اللّه سبحانه وتعالى وسلوك طريقه ، والتضرع إليه ، حتى يمنحه تعالى النور ، كما في الحديث الشريف : « لَيسَ العِلمُ بُكثَرةِ التَعلّم وإنّما هُوَ نُورٌ يقَذِفُهُ اللّه فِي قَلبِ مَنْ يَشاء » (1) .

أقول : ومن المعلوم : انّ مشيئة اللّه سبحانه وتعالى ليست إعتباطاً ، بل باسبابها الخاصة ، وقد ذكرنا معنى هذا الحديث في : « الفقه : كتاب الآداب والسنن » (2) فلا يقال ، كيف حصل العلم الكثير من الكفار الذين يناوئون الاسلام كما نجد

ص: 105


1- - منية المريد : ص69 ، مصباح الشريعة ص16 ، بحار الانوار : ج70 ص140 ب52 ح5 .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

لكثرة الشّبَهِ الحادثةِ في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شُبَهاً يَصعبُ الجوابُ عنها للمحققّين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ، فكيف حالُ المشتغل به مقداراً من الزمان لأجل تصحيح عقائده ، ليشتغل بعد ذلك بأمور معاشه ومعاده ، خصوصاً ، والشيطانُ يغتنمُ الفرصة لالقاء الشبهات والتشكيك في البديهّيات ، وقد شاهدنا جماعةً صرفوا أعمارهم ولم يحصِّلوا منها شيئاً إلاّ القليل .

-------------------

ذلك قديماً وحديثاً ؟ .

هذا وإنّما قال : « لايفيد بنفسه الجزم » ( لكثرة الشّبه الحادثة في النفس ، والمدوّنة في الكتب ، حتى انّهم ذكروا شبهاً يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصّارفين لأعمارهم في فنّ الكلام ) مثل شبهة الآكل والمأكول ، وشبهة التغيّر في علم الباري سبحانه قبل خلقه شيئاً وبعد خلقه شيئاً ، الى غير ذلك .

( فكيف حال المشتغل به ) أي : بالبرهان العقلي ( مقداراً من الزّمان لأجل تصحيح عقائده ليشتغل بعد ذلك باُمور معاشه ومعاده ) كسباً وعبادة ( خصوصاً والشيطان يغتنم الفرصة لالقاء الشّبهات والتشكيك في البديهّيات ) .

ومن هنا نشأت العقائد الباطلة الكثيرة من عقلاء العالم ( وقد شاهدنا جماعة صرفوا أعمارهم ) في الاستدلالات العقلية ، والكتب الحكمية ( ولم يحصّلوا منها ) أي : من البراهين العقلية الصحيحة ( شيئاً إلاّ القليل ) واللّه الهادي الى سواء السبيل .

ص: 106

المقام الثاني : في غير المتمكن من العلم

والكلامُ فيه تارةً في تحقق موضوعه في الخارج ، واُخرى في أنّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيلُ الظنّ أم لا ، وثالثةً في حكمه الوضعيّ قبل الظنّ وبعده .

أمّا الأوّلُ : فقد يقال فيه : بعدم وجود العاجز ، نظراً إلى العمومات الدالة على حصر النّاس في المؤمن والكافر ،

-------------------

( المقام الثّاني : في غير المتمكن من العلم ) بأن لايقدر على تحصيل العلم (والكلام فيه تارة : في تحقّق موضوعه في الخارج ) وانّه هل يوجد هكذا إنسان ؟.

( واُخرى : في انّه يجب عليه مع اليأس من العلم تحصيل الظّن أم لا ؟ ) بأن يترك وشأنه ، فليس عليه تحصيل الظنّ وان تمكن منه ، بل يبقى على شكه .

( وثالثة : في حكمه الوضعي قبل الظّن وبعده ) وانّه هل هو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين أو كافر محكوم بأحكام الكافرين ؟ .

( أمّا الأوّل : فقد يقال فيه بعدم وجود العاجز ) إطلاقاً ، فليس هناك من لا يتمكن من تحصيل العلم .

وانّما يقال لذلك لاُمور أوّلاً : ( نظراً الى العمومات الدّالة على حصر الناس في المؤمن والكافر ) فقد قال سبحانه في سورة التغابن : « هُوَ الذّي خَلَقَكُم فَمِنكُم كَافِرٌ وَمِنكُم مُؤمِنٌ ، وَاللّهُ بمَا تَعمَلوُنَ بَصِيرٌ » (1) فان الظّن بالحقّ إذا لم يوجب الايمان ، كان الظان كافراً ، لأنه مقتضى حصر المكلّفين فيهما .

ص: 107


1- - سورة التغابن : الآية 2 .

مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النار ، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر ، فينتج ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وأنّ من نراه قاصراً عاجزاً عن العلم قد يَمكّن عليه تحصيل العلم بالحقّ ولو في زمان مّا وإن صار عاجزاً قبل ذلك أو بعده ، والعقل لايُقَّبِحُ عقاب مثل هذا الشخص .

ولهذا

-------------------

ثانياً : ( مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النّار ) .

ثالثاً : ( بضميمة حكم العقل : بقبح عقاب الجاهل القاصر ) .

والحاصل : إنّ الناس إما مؤمن أو كافر ، ولا ثالث لهما ، والكافر خالد في النار ، ومن إستوجب النار كشف عن انه كان قادراً على الايمان لتمكنه من العلم ، وانّما لم يؤمن تقصيراً ( فينتج ذلك ) الذي بيناه من المقدمات الثلاث ( عن تقصير كلّ غير مؤمن ، وانّ من نراه قاصراً عاجزاً عن العلم ، قد يمكن عليه تحصيل العلم بالحقّ ولو في زمان مّا ، وإن صار عاجزاً قبل ذلك ) الزمان ( أو بعده ) فانّ الالتفات في زمان مّا ، يوجب صحة العقاب عند العقلاء .

هذا ( والعقل لايقبّح عقاب مثل هذا الشخص ) فانّ من أمره المولى بشيء ، وتمكن من الاتيان بذلك الشيء في وقت ولم يفعله ، صحّ للمولى عقابه .

نعم ، إذا تمكن منه لكن الواجب كان موسعاً فلم يفعله ثم مات أو ماأشبه ذلك ممّا أخرجه عن القدرة ، لم يصح عقابه ، لأنّ المولى هو الّذي أباح له الترك ولو من جهة إجازته باستصحاب الحياة ، وبانّه جامع للشرائط الى آخر وقت الامكان ، ولانريد بذلك : إنّ الاستصحاب الاصطلاحي جارٍ في المقام ، بل نريد : انّ العقلاء يرون إستمرار القدرة الى آخر الوقت والشارع لم يغيره .

( ولهذا ) الذّي ذكرناه : من إنّ الناس على قسمين فقط ، وانّ غير المؤمن كافر

ص: 108

إدّعى غيرُ واحد في مسألة التخطئة والتصويب الاجماعَ على أنّ المخطيء في العقائد غيرُ معذور .

لكنّ الذي يقتضيه الانصافُ : شهادةُ الوجدان بقصور بعض المكلّفين ، وقد تقدّم عن الكليني مايشير إلى ذلك ، وسيجيء عن الشيخ قدس سره ، في العدّة من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم .

هذا مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ، وقضيّةُ مناظرة زُرارة وغيره مع الامام عليه السلام ، في ذلك مذكورةٌ في الكافي .

-------------------

يستحق العقاب ( إدّعى غير واحد في مسألة التخطئة والتّصويب ) المذكورين في باب الاجتهاد في الفروع ( :الاجماع على أنّ المخطيء في العقائد غير معذور ) .

هذا غاية ما يقال في بيان الأمر الأول ، وهو : عدم وجود العاجز عن تحصيل العقائد الحقة .

( لكن الّذي يقتضيه الانصاف : شهادة الوجدان بقصور بعض المكلّفين ) عن التأمّل والنظر ، والبحث والفحص ، للوصول الى الحق ( وقد تقدّم عن الكليني مايشير الى ذلك ) حيث قال المصنّف : «وقد أشار الى ذلك رئيس المحدّثين في ديباجة الكافي» ( وسيجيء عن الشيخ قدس سره في العدّة : من كون العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم ) لاتكليف له كما لاتكليف للبهائم .

( هذا مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ، و ) قد تقدّم هنا ( قضية مناظرة زُرارة وغيره ، مع الامام عليه السلام في ذلك ) وهي ( مذكورة في الكافي ) حيث انّ زُرارة كان ينكر الواسطة بين الايمان والكفر ، والامام عليه السلام ينكر عليه ذلك ويثبت الواسطة بينهما .

هذا بالاضافة الى روايات إمتحان بعض الناس في الآخرة ، فانّه لو لم يكن

ص: 109

وموردُ الاجماع ، على أنّ المخطيء آثمٌ ، هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ، فلا ينافي كون الغافل والملتفت العاجز عن بذل الجُهد معذوراً غير آثم .

وأمّا الثاني : فالظاهرُ فيه عدم وجوب تحصيل الظنّ لأنّ المفروض عجزُه عن الايمان والتصديق المأمور به ، ولا دليلّ آخرَ على عدم جواز الوقف ،

-------------------

الناس الاّ مؤمن أو كافر ، لم يكن وجه للامتحان هناك .

( ومورد الاجماع ) الذي قد تقدّم : من أنّهم مجمعون على أنّ المخطيء في العقائد غير معذور ، و ( على انّ المخطيء آثم ، هو المجتهد الباذل جهده بزعمه ) لا واقعاً ، فإنّ من يبذل جهده واقعاً لابدّ وأن يصيب الواقع لقوله سبحانه : « وَالذّيِنَ جاهَدوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » (1) .

وعليه : ( فلا ينافي كون الغافل ) عن الحّق رأساً ( والملتفت العاجز عن بذل الجهد ، معذوراً غير آثم ) كما نرى في كثير من الذين هم منقطعون عن العلم والعلماء في القرى والأرياف البعيدة .

( وأمّا الثّاني : ) وهو انّه هل يجب عليه مع اليأس من العلم ، تحصيل الظّن ام لا ؟ ( فالظاهر فيه : عدم وجوب تحصيل الظّن ) عليه ، بل يبقى على الشّكَ ( لأنَّ المفروض عجزه عن الايمان والتّصديق المأمور به ) وكذلك عن الاعتقاد ، وما أشبه ، ممّا أمر اللّهُ به الانسانَ .

( ولا دليل آخر على عدم جواز الوقف ) أي : التوقف .

ص: 110


1- - سورة العنكبوت : الآية 69 .

وليس المقامُ من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظنّ مع تعذّر العلم ، لأنّ المقصودَ فيها العملُ ولا معنى للتوقف فيه ، فلا بّد عند إنسداد باب العلم من العمل على طبق أصل أو ظنّ .

والمقصودُ فيما نحن فيه الاعتقادُ فاذا عجز عنه ، فلا دليلَ على وجوب تحصيل الظنّ الذي لايُغني من الحق شيئاً ، فيندرج في عموم قولهم عليهم السلام : « إذا جَاءَكُم

-------------------

( وليس المقام من قبيل الفروع في وجوب العمل بالظّن مع تعذّر العلم ) .

إذن : فلا يقاس الاصول بالفروع ، فيقال : كما أنّه يجب تحصيل الظنّ بالفروع إذا لم يتمكّن من العلم والعلمي ، كذلك يجب تحصيل الظنّ بالاصول إذا لم يتمكّن من العلم والعلمي .

وإنّما لايقاس بذلك ( لأنّ المقصود فيها ) أي : في الفروع ( العمل ، ولا معنى للتوقف فيه ) أي : في العمل ، لأنّه إمّا فاعل وإمّا تارك ( فلا بدّ عند إنسداد باب العلم من العمل على طبق أصل ، أو ظنّ ) فان كان في المقام ظنّ عمل به ، وإلاّ تمسّك بالبرائة ، والاستصحاب ، وما اشبه .

( والمقصود فيما نحن فيه ) من مسائل اُصول الدين ( : الاعتقاد ) واليقين ، والتصديق ، وما أشبه ذلك ( فاذا عجز عنه ) أي : عن الاعتقاد ( فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الذّي لايغني من الحقّ شيئاً ) ، كما ورد في قوله سبحانه : « إنَّ الظّنَ لا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً » (1) .

( فيندرج ) هذا الانسان بالنسبة الى العقائد ( في عموم قولهم عليهم السلام : إذا جائَكُم

ص: 111


1- - سورة يونس : الآية 36 .

مالا تَعلَمُون فها » .

نعم ، لو رجع الجاهلُ بحكم هذه المسألة إلى العالم ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّيّ الى الباطل ، فلا يبعدُ وجوبُ إلزامه بالتحصيل ، لأنّ انكشاف الحقّ ، ولو ظنّاً ، أولى من البقاء عى الشكّ فيه .

-------------------

ما لاتَعلَمُون فها ) (1) وأشار بيده عليه السلام الى فيه ، كما قد تقدّمت هذه الرواية .

( نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة ) أي : مسألة انّه هل يجب تحصيل الظّن على من لم يتمكن من العلم ، أو لايجب ؟ ( الى العالم ، ورأى العالم منه التمكّن من تحصيل الظّن بالحقّ ، ولم يخف عليه إفضاء نظره الظّني الى الباطل ) حتى يكون الظنّان متساويين بالنسبة اليه ( فلا يبعد وجوب الزامه ) من قبل العالم ( بالتحصيل ) للظّن ( لأنّ إنكشاف الحقّ ولو ظنّاً أولى من البقاء على الشّكَ فيه ) .

قال في الأوثق : « لا يخفى : إنَّ الحكم بالوجوب لايناسب حكمه بعدم وجوب تحصيل الظّن على من لم يتمكن من العلم ، ولو تمّ ما ذكره من الأولوية لثبت وجوب تحصيل الظنّ على نفسه أيضاً » (2) ، انتهى .

ويمكن أن يؤيد اطلاق قول الاوثق بالوجوب على نفسه أيضاً ، أي : سواء بالنسبة الى نفسه أو بالنسبة الى أمر العالم له بما ورد من قوله : صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إذا أمرتُكُم بَشيءٍ ، فَأتُوا منه ما استَطَعتُم » (3) وقوله أيضاً : « ما لايُدَرك كُلّه لايُتَرك

ص: 112


1- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .
2- - أوثق الوسائل : ص241 كفاية الجزم الحاصل من التقليد في الاعتقاديات .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .

وأمّا الثالث : فان لم يُقِرَّ في الظاهر بما هو مناط الاسلام ، فالظاهرُ كفرهُ ، وإن أقرّبه مع العلم بأنّه شاكّ باطناً فالظاهرُ عدمُ إسلامه ، بناءا على أنّ الاقرار الظاهريّ مشروط بإحتمال إعتقاده لما يقرُّ به .

-------------------

كلّه »(1) .

وقوله تعالى : « يُريُد اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ . . . » (2) .

وأشباه ذلك ، ممّا يدلّ على أن الواجب هو : تحصيل الجزم فاذا لم يتمكن من تحصيله وتمكن من تحصيل الظّن القوي كان لازماً ، وهكذا إذا لم يتمكن من تحصيل الظّن القوي وتمكن من تحصيل الظّن الضعيف ، وإن كان كل ذلك مورد تأمّل .

اَللّهم الاّ أن يقال : انّه واجب ، لأنّ الأمر تدريجي ، فربّما يحصل بعد الظنّ الجزم ، كما أنّه ورد في عكسه : « لا تَرتابُوا فَتَشكُوا ، وَلا تَشكُوا فَتكفُروا » (3) .

( وأمّا الثالث : ) وهو حكمه الوضعي قبل الظنّ وبعده ( فانّ لم يقرّ في الظّاهر بما هو مناط الاسلام ) من العقائد الثلاثة : الالوهية ، والنبّوة ، والمعاد ( فالظّاهر كفره ) لشمول أدّلة الكفر لمن أنكر أحد الثلاثة .

( وإنْ أقرّ به مع العلم بأنه شاك باطناً ) بأن علمنا : انّه شاك باطناً لكنّه يقرّ بالاصول الاسلامية ظاهراً ( فالظاهر عدم إسلامه ، بناءاً على أنّ الاقرار الظاهري مشروط باحتمال ) نا ( إعتقاده لما يقرّ به ) .

لكن ذلك ينقض بالمنافق ، حيث نعلم : بانّه لايعتقد ومع ذلك يحكم باسلامه

ص: 113


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .

وفي جريان حكم الكفر عليه إشكالٌ : من إطلاق بعض الأخبار بكفر الشاكّ .

ومن تقييده في غير واحد من الأخبار بالجحود .

مثل رواية محمّد بن مُسلم ، قال : « سَأَلَ أَبُو بَصير أَبا عَبِد اللّهِ عليه السلام ، قال : ما تَقُول فِيمَن شَكّ فِي اللّهِ ؟ قالَ : كافرٌ ، ياأبا مُحمّد ، قال : فشكّ في رسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : كافرٌ ، ثمّ إلتفت إلى زُرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جَحَد » .

-------------------

ظاهراً ، إذا أقرّ بالاصول الثلاثة ، والتزم بأحكام الاسلام ظاهراً ، كالمنافقين الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وإنّما قلنا : والتزم بأحكام الاسلام ظاهراً ، في قبال من يريد الوصول الى مآربه من الكفار ، كالزواج بمسلمة ، أو ما أشبه ذلك ، فيأتي بالشهادتين لا يتجاوز بهما لسانه ، فانّ الأدلة لا تشمله قطعاً ، كما سبق الالماع اليه .

وكيف كان : فعلى ماذكره المصنّف يتفرّع قوله : ( وفي جريان حكم الكفر عليه إشكال ، من : إطلاق بعض الأخبار بكفر الشّاك ) وهذا شاك فهو كافر .

( ومن تقييده في غير واحد من الأخبار : بالجحّود ) ومقتضى حمل المطلق على المقيد أن نقول : بأنّ الجاحد كافر ، لا الشاك .

( مثل : رواية محمّد بن مسلم قال : سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السلام ، قال : ماتقول فيمن شّكَ في اللّه ؟ قال : كافرٌ ياأبا محمّد ، قال : فشك في رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ قال : كافر ، ثم التفت الى زُرارة ، فقال : إنّما يكفر إذا جَحَد ) (1) فهو تقييد للكفر بما إذا كان جاحداً ، وتصلح هذه الرّواية للجمع بين الطائفتين .

ص: 114


1- - الكافي اصول : ج2 ص399 ح3 .

وفي رواية اُخرى:«لو أنّ الناسَ إذا جَهلُوا وَقَفُوا ولم يَجحَدُوا لم يَكفُروا» .

ثمّ إنّ جحودَ الشاكّ يحتملُ أن يراد به إظهارُ عدم الثبوت وإنكار التديّن به ، لأجل عدم الثبوت ، ويحتمل أن يراد به الانكارُ الصوريّ على سبيل الجزم . وعلى التقديرين ، فظاهرها أنّ المقرَّ ظاهراً ، الشاكَّ باطناً الغيرَ المظهر لشكّه ، غيرُ كافر .

ويؤيّد هذا روايةُ زرارة الواردةُ في تفسير قوله تعالى : « وآخَروُن

-------------------

( وفي رواية أخرى : « لو أنَّ النّاسَ إذا جَهلُوا وقَفَوُا ولم يَجْحَدوا لم يَكفُروُا » ) (1) كما تقدمت هذه الرواية .

( ثمّ إنًّ جحود الشّاكَ يحتمل أن يراد به ) أي : بالجحود ( : إظهار عدم الثبوت ، وإنكار التّدين به لأجل عدم الثبوت ) فيقول : إنَّ رسالة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : غير ثابتة لديّ ، أو ما أشبه هذه العبارة .

( ويحتمل أن يراد به : الإنكار الصّوري على سبيل الجزم ) فيقول : إني أعتقد أنَّ محمداً صلى اللّه عليه و آله وسلم ليس رسولاً ، هكذا يقول بلسانه ، وهو في قلبه شاك في انّه رسول أو ليس برسول ، ولا يبعد أن تشمل الرّواية كلتا الصورتين .

( وعلى التقديرين فظاهرها ) أي : هذه الروايات ( انَّ المقرّ ظاهراً ) باصول الاسلام ( الشّاكَ باطناً غير المظهر لشكّه ) وإنّما يظهر الشهادتين ( غير كافُر ) ويعامل معاملة المسلمين .

( ويؤيد هذا ، رواية زُرارة الواردة في تفسير قوله تعالى : « وآخَروُنَ

ص: 115


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح9 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

مرجون لأمرِ اللّهِ » ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « قومٌ كانُوا مُشركِينَ ، فَقَتَلوُا مثلَ حَمزةَ وجَعفَر وأشبهاهَهُما مِنَ المؤُمِنينَ ، ثمّ إنُّهْم دَخلوُا فِي الإسلام فَوحَّدوا اللّه وتَركُوا الشِّركَ ، وَلمَ يَعرِفُوا الإيمانَ بِقلوبِهم فَيكُونوا مُؤمِنينَ فَيجِبُ لَهمُ الحسنى ، وَلم يَكُونُوا عَلى جُحودِهِم فَيكفُرُوا فَيَجِبُ لَهمُ النارُ ، فَهُم عَلى تِلكَ الحالة ، امّا يُعذّبهُم وَإما يَتوُبُ عَليَهِم » ، وقريبٌ منها غيرها .

ولنختم الكلام بذكر كلام السّيد الصدر الشارح للوافية ، في أقسام المقلّد في اُصول الدّين ، بناءا على القول بجواز التقليد ، وأقسامه بناءا على عدم جوازه .

-------------------

مُرجُونَ لأمر اللّه ... » (1) ، عن أبي جعفر عليه السلام قال عليه السلام : قَومٌ كانوا مشُركينَ فَقَتَلوا مثل حَمزة ، وجَعفر ، وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ أنهم دخلوا في الاسلام ووحّدوا اللّه ، وتركوا الشّرك ولم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الحسنى ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النّار ، فهم على تلك الحالة ، إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم ) (2) .

لكن لايخفى : انّ اللّه سبحانه يرجّح أحد الأمرين حسب ميزان الحكمة بمؤهلاتهم الموجبة للجنّة أو النار ، لا انّه سبحانه يرجح أحد الأمرين إعتباطاً .

( وقريب منها غيرها ) من سائر الروايات .

( ولنختم الكلام بذكر السّيد الصّدر الشارح للوافية في اقسام المقلّد في اصول الدّين ، بناءاً على القول بجواز التقليد ) في اصول الدين ( وأقسامه بناءاً على عدم جوازه ) اي : التقليد في اصول الدين .

ص: 116


1- - سورة التوبة : الآية 106 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص407 ح1 .

قال : « إنّ أقسامَ المقلّد على القول بجواز التقليد ستّةٌ ، لأنّه إمّا أن يكون مقلّدا في مسألة حقّة أو في باطلة .

وعلى التقدير إمّا أن يكون جازماً بها ، أو ظانّاً ، وعلى تقديريّ التقليد في الباطل إمّا أن يكون إصرارهُ على التقليد مبنياً على عناده وتعصّبه بأن حصل له طريق علم فما سلكه وإمّا لا ، فهذه أقسام ستّة .

فالأوّلُ : وهو من قلّد في مسألة حقّة جازماً بها ، مثلاً : قلّد في وجود

-------------------

وذلك ان الاقسام في كل من السلب والايجاب وإن كانت متساوية ذاتاً إذ لايعقل أقسام في الايجاب لايقابلها أقسام في السلب : إلاّ أنَّ المعيار في المقام حسب الأدلة الشرعية مختلف ، ولذا صار عدد الاقسام في جانب تختلف عن عدد الاقسام في الجانب الآخر .

( قال : إنَّ أقسام المقلّد على القول بجواز التقليد ) في اُصول الدين ( ستة : لأنّه امّا أن يكون مقلداً في مسألة حقّة ) مثل : توحيد اللّه سبحانه وتعالى ( أو في باطلة ) مثل : تعدد الآلهة .

( وعلى التقديرين : امّا أن يكون جازماً بها ، أو ظانّاً ) فهذه أقسام أربعة .

( وعلى تقديري التّقليد في الباطل ، إمّا أن يكون إصراره على التقليد ، مبنيّاً على عناده وتعصّبه بأن حصل له طريق علم فما سلكه ، وامّا لا ) .

وعليه : فالتقليد في الحقّ له قسمان ، والتقليد في الباطل له أربعة أقسام ( فهذه أقسام ستة ) بحسب الأقسام التي نريد فيها بعد ترتيبها على هذه الأقسام ، والاّ فان من الممكن تنويع الاقسام الى أكثر من ذلك .

( فالأوّل : وهو من قلّد في مسألة حقة جازماً بها ، مثلاً : قلّد في وجود

ص: 117

الصانع وصفاته وعدله ، فهذا مؤمنٌ .

وإستدلّ عليه بما تقدّم حاصله ، أنّ التصديق معتبر من أيّ طريق حصلَ إلى أن قال :

الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّاً بها من دون جزم ، فالظاهرُ إجراءُ حكم المسلم عليه في الظاهر ، إذ ليس حالهُ بأدونَ من حال المنافق ، سيّما إذا كان طالباً للجزم مشغولاً بتحصيله فمات قبل ذلك .

-------------------

الصانع وصفاته وعدله ) ورسالة الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين ، والمعاد ، وإمامة الائمة الطاهرين عليهم السلام ( فهذا مؤمن ) له كل أحكام الايمان في الدنيا والآخرة .

( وإستدل عليه بما تقدّم حاصله : إنَّ التّصديق معتبر من أيّ طريق حصل ) فان هذا مصدق بكلّ اُصول الدين وان كان طريقه التقليد ، والمفروض : انّه جازم بتلك الاصول .

( الى أن قال : الثاني : من قلّد في مسألة حقّة ظانّاً بها من دون جزم ، فالظّاهر : إجراء حكم المسلم عليه في الظاهر ) فيجوز بالنسبة اليه : الذبح ، والنكاح ، والارث ، والدّفن في مقبرة المسلمين ، وغير ذلك ( اِذ ليس حاله بأدون من حال المنافق ) الذي نعلم بأن قلبه مخالف للحق ، ومع ذلك نجري عليه أحكام الاسلام ، كما كان يفعله الرسول والائمة الطاهرون عليهم السلام بالنسبة الى المنافقين ، حتى الذين شهد اللّه سبحانه وتعالى بنفاقهم ، كما في عبد اللّه بن اُبي ، ونحوه .

( سيمّا إذا كان طالباً للجزم ، مشغولاً بتحصيله ) غير مقصّر في الطلب ( فمات قبل ذلك ) أي : قبل أن يحصل على الجزم بها .

ص: 118

أقول : هذا مبنيّ على أنّ الاسلام مجرّد الإقرار الصوريّ وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد .

وفيه : ما عرفت من الاشكال وإن دلَّ عليه غير واحد من الأخبار .

الثالث : من قلّد في باطل ، مثل إنكار الصانع أو شيئا ممّا يعتبر في الايمان ، فجزم به من غير ظهور حَقّ ولا عِناد .

الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به كذلك .

والظاهر في هذين إلحاقُهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة .

-------------------

( أقول هذا ) الكلام من السّيد الصدر في القسم الثاني ( مبني على أنَّ الاسلام : مجرد الاقرار الصّوري وإن لم يحتمل مطابقته للاعتقاد ) بل وان علم بعدم المطابقة للاعتقاد كما في المنافق .

( وفيه : ما عرفت من الاشكال ، وان دلّ عليه غير واحد من الأخبار ) فقد تقدّم : انَّ هذا هو مقتضى القاعدة لما وجدناه من سيرة الرسول والائمة الطاهرين عليهم السلام .

( الثالث : من قلّد في باطل ، مثل : انكار الصانع ، أو شيئاً ممّا يعتبر في الايمان ) كالنبوة ، والامامة ، والمعاد ، والعدل ( فجزم به من غير ظهور حق ولا عناد ) والظاهر : ان كلمة : « ظهور » ، زائدة ، إذ قوله بعد ذلك : « والظاهر في هذين : اِلحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة » ، إنّما هو تابع لعالم الثبوت لاعالم الاثبات ، لانه ان كان عن عناد لم يمتحن في الآخرة ، فانّ المعاند مصيره النار .

( الرابع : من قلّد في باطل وظنّ به ) أي : بذلك الباطل ( كذلك ) أي : من غير ظهور حق ولاعناد .

( والظاهر في هذين : الحاقهما بمن يقام عليه الحجّة يوم القيامة ) فانّ

ص: 119

وأمّا في الدنيا فيحكم عليهما بالكفر إن اعتقد اما يوجبه ، وبالإسلام إن لم يكونا كذلك ، فالأوّل كمن أنكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم مثلاً ، والثاني كمن أنكر إماماً .

الخامس : من قلّد في باطل جازماً مع العناد .

السادس : من قلّد في باطل ظانّاً كذلك ، وهذان يُحكمُ بكفرهما مع ظهور الحقّ والإصرار .

-------------------

كل قاصر يقام عليه الحجّة يوم القيامة ، فان أطاع دخل الجنّة ، وان عصى دخل النار ، وذلك حسب ما دلّ عليه العقل والأخبار .

( وأمّا في الدّنيا فيحكم عليهما بالكفر إنّ اعتقدا ما يوجبه ) أي : ما يوجب الكفر ( وبالاسلام إن لم يكونا كذلك ) بأن إعتقدا ما يوجب الاسلام ، وقوله : « بالاسلام » ، عطف على قوله :« بالكفر » .

( فالأوّل : كمن أنكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم - مثلاً - ) .

( والثاني : كمن أنكر اِماماً ) فان منكر النبيّ كافر ، أما منكر الامام فهو مسلم ، كالمخالفين .

( الخامس : من قلّد في باطل جازماً مع العناد ) والاصرار عليه .

السادس : من قلّد في باطل ظانّاً كذلك ) أي : مع العناد والاصرار عليه .

( وهذان يحكم بكفرهما مع ظهور الحقّ ) لهما ( والاصرار ) على ما قلدا فيه من الباطل .

هذا ، ولا يخفى مواضع الضعف في هذا التقسيم والحكم في الاقسام المذكورة ، ولكن حيث لايهمنا التعرّض لمسألة اُصول الدين في هذا المقام ، نتركه لموضعه في كتب اُصول الدين .

ص: 120

ثمّ ذكر أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ، قال : إنّه إمّا أن يكون مقلّداً في حقّ أو في باطل ، وعلى التقديرين مع الجزم أو الظنّ .

وعلى تقديري التقليد في الباطل بلا عناد أو به ، وعلى التقادير كلّها دلّ عقله على الوجوب أو بيّن له غيره ، وعلى الدلالة أصرّ على التقليد أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعدُ او لا .

فهذه أقسامٌ أربعةَ عَشرَ :

-------------------

( ثمّ ذكر ) السّيد الصدر ( أقسام المقلّد على القول بعدم جواز التقليد ) وقوله : « ثم » عطف على قوله قبل أسطر : « اِنَّ أقسام المقلد على القول بجواز التقليد ستة » .

( قال : إنّه امّا أن يكون مقلّداً في حقّ ، أو في باطل ) وقد مثّلنا لكلّ منهما .

( وعلى التقديرين : مع الجزم ، أو الظّن ) فهذه أقسام أربعة .

( وعلى تقديري التقليد في الباطل ) أي : القسمان الاخيران ( بلا عناد أو به ) أي : بالعناد فهذه أقسام ستة .

( وعلى التقادير كلّها ) أي : الستة المذكورة ( دلّ عقله على الوجوب ) أي : وجوب النظر ( أو بيّن له غيره ) بأن لم يدله عقله على وجوب النظر ، لكن غيره كالمجتهد - مثلاً - بيّن وجوب النظر عليه ، فيكون بيانه حجّة على هذا المقلد .

( وعلى الدّلالة ) بسبب عقله أو بسبب غيره ( أصرّ على التقليد ، أو رجع ولم يحصل له كمال الاستدلال بعد ) أي : رجع قبل أن يتقن الاصول بالاستدلال .

( أو لا ) أي : لم يدله عقله على وجوب النظر ، ولم يبيّن له غيره .

وعليه : ( فهذه أقسام أربعة عشر ) من أقسام المقلد على القول بعدم

ص: 121

الأوّل : التقليدُ في الحقّ جازماً مع العلم بوجوب النظر والاصرار ، فهو مؤمن فاسق ، لاصراره على ترك الواجب .

الثاني : هذه الصورةُ مع ترك الاصرار والرجوعُ ، فهذا مؤمن غير فاسق .

الثالث : المقلّد في الحقّ الظانّ مع الاصرار ، والظاهر أنّه مؤمن مُرجيَ في الآخرة ، وفاسق ، للاصرار .

الرابعُ : هذه الصورةُ مع عدم الاصرار ، فهذا مؤمن ظاهراً غيرُ فاسق .

-------------------

جواز التقليد ، ثم ذكر الاقسام مفصلاً فقال :

( الأوّل : التقليد في الحقّ جازماً ، مع العلم بوجوب النّظر ، والاصرار ) على ما جزم به من دون أن ينظر ويفحص ( فهو مؤمن فاسق ، لإصراره على ترك الواجب ) .

أما كونه مؤمناً : فلأنه يعتقد بالحق كمن يصل الى المقصد تقليداً فانّه قد وصل ، وإما انه فاسق : فلانه قد ترك الواجب حيث لم يبحث عن الطريق .

( الثّاني : هذه الصّورة مع ترك الاصرار ، والرجوع ) عن إصراره الى الفحص والنظر ( فهذا مؤمن غير فاسق ) لأنه لم يترك الواجب من الفحص والنظر .

( الثالث : المقلّد في الحقّ الظّانّ مع الاصرار ، والظاهر : انّه مؤمن مرجي في الآخرة ، وفاسق للاصرار ) على ترك ما يجب عليه من النظر ، قال سبحانه : « وآخَروُنَ مُرجَونَ لأمرِ اللّهِ إما يُعذّبُهُم وإمّا يَتُوبُ عَليهم » (1) .

( الرابع : هذه الصورة مع عدم الاصرار فهذا مؤمن ظاهراً غير فاسق ) وإنما لم يكن فاسقاً ، لأنه لم يصّر على ترك النظر .

ص: 122


1- - سورة التوبة : الآية 106 .

الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازماً أو ظانّاً مع عدم العلم بوجوب الرجوع ، فهذان كالسابق بلا فسق .

أقول : الحكم بايمان هؤلاء لايجامعُ فرضَ القول بعدم جواز التقليد ، إلاّ أن يريد بهذا القول قول الشيخ قدس سره ، من وجوب النظر مستقلاً ، لكن ظاهره إرادة قول المشهور ، فالأولى الحكُم بعدم إيمانهم على المشهور ، كما يقتضيه إطلاقُ مَعْقَد إجماع

-------------------

( الخامس والسادس : المقلّد في الحقّ جازماً أو ظانّاً مع عدم العلم بوجوب الرّجوع فهذان كالسّابق ) مؤمنان ( بلا فسق ) وانّما لم يكونا فاسقين ، لأنهما لم يعلما بوجوب الرجوع حتى يرجعا .

( أقول الحكم ) من السيد الصدر ( بايمان هؤلاء ، لا يجامع فرض القول بعدم جواز التقليد ) حيث إنَّ مقصد السيد الصدر في هذه الاقسام هو : عدم جواز التقليد فكيف يكون هذا الانسان مؤمناً مع انّه يقلد ، والحال انه لايجوز التقليد ؟ .

( إلاّ أن يريد بهذا القول ، قول الشيخ قدس سره من وجوب النظر مستقلاً ) أي : من غير إرتباط بالايمان ، فالنظر واجب مستقل ، وهذا الانسان حيث إعتقد عن طريق التقليد ، فهو مؤمن ، وحيث ترك النظر فهو فاسق .

هذا ( لكن ظاهره ) أي : ظاهر السيد الصدر ( : إرادة قول المشهور ) : من عدم كون وجوب النظر واجباً مستقلاً ، وانّ كلّما وجب فيه النظر فلم ينظر ، كان التارك للنظر غير مؤمن .

اذن : ( فالأولى : ) حسب قول المشهور ( : الحكم بعدم إيمانهم ) هؤلاء ، الذين ذكر السيد الصدر : إنّهم مؤمنون .

وانّما نحكم بعدم ايمانهم ( على المشهور ، كما يقتضيه إطلاق مَعْقَد إجماع

ص: 123

العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ، لأنّ الايمانَ عندهم المعرفةُ الحاصلةُ عن الدليل لا التقليد ، ثمّ قال :

السابع : المقلّد في الباطل جازماً معانداً مع العلم بوجوب النظر ، فهذا أشدّ الكافرين .

الثامن : هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضاً كافر .

ثمّ ذكر الباقي وقال :

-------------------

العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ) وقد تقدّم نقله عنه رحمه اللّه ، وذلك ( لأنّ الايمان عندهم ) أي : عند المشهور ( المعرفة الحاصلة عن الدّليل ، لا التقليد ) فكلّما كان تقليد ، لم يكن إيمان .

( ثمّ قال ) السيد الصدر : ( السابع : المقلّد في الباطل جازماً معانداً ، مع العلم بوجوب النظر فهذا أشدّ الكافرين ) .

وهو إنّما يكون كافراً ، لأنه مبطل في عقيدته ، وانّما يكون أشدهم كفراً ، لأنه معاند .

( الثامن : هذه الصّورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضاً كافر ) ان مات ولم يرجع عن إعتقاده الباطل ، لانّه لم يعتقد بالحق ، لكنّه ليس بمنزلة السابع ، لانّه لم يكن معانداً .

( ثمّ ذكر الباقي وقال ) :

التاسع : هذه الصورة من غير علم بالوجوب ، وهذا أيضاً كافر .

العاشر : هذه الصورة من غير عناد .

الحادي عشر : المقلّد في الباطل الظّان ، معانداً مع العلم والاصرار .

الثاني عشر : بلا إصرار .

ص: 124

إنّ حكمها يظهر ممّا سبق » .

أقول : مقتضى هذا القول الحكُم بكفرهم ، لأنّهم أولى به من السابقين .

بقي الكلام فيما نسب إلى الشيخ في العدّة من القول بوجوب النظر مستقلاً مع العفو ،

-------------------

الثالث عشر : بلا علم .

الرابع عشر : بلا عناد .

ثم أضاف قائلاً : ( ان حكمها ) أي : حكم بقية الصور التي لم يذكر حكمها ( يظهر ممّا سبق ) (1) إنتهى كلام السيد الصدر .

( أقول : مقتضى هذا القول : الحكم بكفرهم ، لأنهم أولى به من السّابقين ) ومراد المصنّف هو : إنّ الحكم بفكر المقلدين في الباطل على القول بعدم جواز التقليد ، أولى من الحكم بكفر المقلدين في الحقّ على القول بعدم جواز التقليد ، وقد تقدّم : انَّ مقتضى قول المشهور : من عدم جواز التقليد في اُصول الدّين ، هو : الحكم بكفر المقلد في الحقّ ، فاذا كان المقلد في الحق كافراً ، فالمقلد في الباطل أولى أن يكون كافراً .

( بقي الكلام فيما نسب الى الشيّخ في العدّة : من القول بوجوب النّظر مستقلاً مع العفو ) بمعنى : إنّه إذا لم ينظر في اُصول الدين ليعتقد بها عن دليل ، لكنّه وصل الى الحق فقد فعل حراماً ، لأنّه ترك الواجب من النظر ، لكن هذا الحرام الذي فعله يعفى عنه في الآخرة ، كالعبد الّذي أمره المولى بأن يسأل الناس عن طريق النجف ويذهب اليه ، فلم يسأل أحداً وذهب إعتباطاً ، لكنّه وصل الى النجف صدفة ، فانّه

ص: 125


1- - شرح الوافية : مخطوط .

فلابّد من نقل عبارة العدّة ، فنقول :

قال في باب التقليد ، بعد ما ذكر إستمرار السيرة على التقليد في الفروع والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول ، مستدّلاً بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العاميّ معرفة الصلاة وأعدادها : « وإذا كان لايتمّ ذلك الاّ بعد معرفة اللّه ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لايصحّ التقليد في ذلك » .

-------------------

فعل الحرام في عدم إطاعة المولى ، لكن المولى يعفو عنه لأنه وصل الى النجف الذي هو مقصود المولى .

( فلا بّد من نقل عبارة العُدّة ) للشيخ الطوسي قدس سره ( فنقول : قال في باب التقّليد بعد ما ذكر إستمرار السّيرة على التّقليد في الفروع : ) فانه لاتزال سيرة المتّدينين على التقليد في مسائل الصوم ، والصلاة ، والحج ، والنكاح ، وغيرها .

قال : ( والكلام في عدم جواز التّقليد في الاُصول ) أي : في اصول الدين ( مستدلاً بأنّه لا خلاف في انّه يجب على العامي معرفة الصّلاة وأعدادها ) وكذلك معرفة سائر ما وجب على الانسان من الفروع ، من الطهارة الى الديّات ( واذا كان لايتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة اللّه ) أي : العلم باللّه سبحانه وتعالى ( ومعرفة عدله ، ومعرفة النبّوة ) والامامة ( وجب ان لايصح التقليد في ذلك ) أي : في كلّ واحد واحد من المعارف المذكورة .

وإنّما تتوقف معرفة الأحكام الفرعية على معرفة الاصول ، لأنّه إذا لم يعرف اللّه ، فلم يصليّ ؟ واذا لم يعرف عدله فلماذا يصليّ ؟ اذ المصلي وغير المصلي في عرف الظالم على حد سواء ، ولذا يقول المنكر لعدل اللّه سبحانه : بأنّ من المحتمل أن يدخل اللّه الانبياء النار ، والفراعنة الجنّة ، كما انه اذا لم يعرف النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يؤدّ الصلاة ، لأنَّ الصلاة إنّما جاء بها النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ص: 126

ثمّ إعترض : بأنّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاُصول وعدم الإنكار عليهم .

فأجاب : بأنّ على بطلان التقليد في الاُصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك ، وهذا كافٍ في النكير .

-------------------

هذا ولم يذكر الشيخ رحمه اللّه المعاد ، لأنّ معرفته مندرجة في معرفة عدل اللّه تعالى ، وإلاّ فالفروع أيضاً متوقفة على معرفة المعاد ، فانّه اذا لم يكن معاد لم يكن ملزم للانسان في عمل الواجبات وترك المحرمات .

( ثمّ إعترض : بأنَّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع ) وانه يصح التقّليد بالنسبة إليهم ، فلا يلزمون بالاجتهاد في فروع الدين ( كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاُصول وعدم الإنكار عليهم ) فان الغالب من المسلمين يقلّدون في اصول الدين ، والعلماء لاينكرون عليهم كونهم مقلّدين .

( فأجاب : بأنَّ على بطلان التقليد في الاصول أدّلة عقليّة وشرعيّة ، من كتاب ، وسنّة ، وغير ذلك ) .

فالدليل العقلي هو : إنّ غير العلم لا يكون مؤمّنا .

ودليل الكتاب قوله تعالى : « فاعلَم انَّهُ لا اِلَهَ اِلاّ اللّه » (1) وغيره من الآيات .

ودليل السّنة : روايات متواترة كما في كتب الأحاديث .

ومراد الشيّخ من قوله : وغير ذلك ، هو : الاجماع .

( وهذا كافٍ في النكير ) على المقلدين في اصول الدين .

ص: 127


1- - سورة محمد : الآية 19 .

ثم قال : إنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئاً في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه .

وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدّمنا ، لأنيّ لم أجد أحداً من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام ، قطع موالاة من يسمع قولهم وإعتقد مثلَ إعتقادهم وإن لم يستند ذلك الى حجّة من عقل أو شرع .

ثمّ إعترض : على ذلك بأنّ ذلك لايجوز ، لأنّه يؤدّي إلى الاغراء بما لايأمن أن يكون جهلاً .

-------------------

( ثمّ قال ) شيخ الطائفة رحمه اللّه : ( انَّ المقلّد للحق في اصول الدّيانات - وإن كان مخطئاً في تقليده - ) لكنّه ( غير مؤاخذ به ) أي : بالتقليد ، وقوله : « غير مؤاخذ » ، خبر : « إنَّ » ( وانّه معفوّ عنه ) في ترك هذا الواجب ، لأنّه وصل الى الحق .

( وإنّما قلنا ذلك ) أي : انّه غير مؤاخذ ( لمثل هذه الطّريقة التي قدّمنا ) والمراد بهذه الطريقة : السيرة في عدم إنكار العلماء على المقلدين في أصول الدين تقليدهم .

قال : ( لأني لم أجد أحداً من الطائفة ولا من الأئمة عليهم السلام ، قطع موالاة من يسمع قولهم ) والمراد بقوله : «من يسمع قولهم» : المقلدون الذين يسمعون قول الأئمة عليهم السلام ، وكذلك قول العلماء ( واعتقد ) أولئكَ المقلدون ( مثل : اعتقادهم ) في اصول الدين ( وإن لم يستند ذلك ) الاعتقاد من المقلدين في اصول الدين ( الى حجّة من عقل أو شرع ) بل كان مجرد تقليد .

( ثمّ إعترض ) الشيخ رحمه اللّه بنفسه ( على ذلك ) أي : على جواز التقليد في اصول الدين ، وقال ( بأنَّ ذلك ) التقليد في الاُصول ( لايجوز ، لأنّه يؤدّي الى الاغراء بما لا يأمن أن يكون جهلاً ) إذ لو علم الشخص : بأن التقليد في اصول الدين جائز ،

ص: 128

وأجاب : بمنع ذلك ، لأنّ هذا المقلّد لايمكن أن يعلمَ سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ، لأنّه إنّما يمكنه معرفةُ ذلك إذا عرف الاصول وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه ، فكيف يكون إسقاطُ العقاب مغرياً ، وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلمُ بالاصول وسَبروا أحوالهم وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ،

-------------------

ترك النظر والاجتهاد ، وإذا ترك النظر والاجتهاد إحتمل أن يكون قد وصل في تقليده الى خلاف الواقع ، فيكون المجوّز لترك النظر موجباً لإغراء المقلد بالجهل .

( وأجاب بمنع ذلك : ) أي : الاغراء بالجهل ( لأنَّ هذا المقلّد لايمكن أن يعلم سقوط العقاب عنه ) إذا قلّد ولم ينظر ويجتهد ( فيستديم الاعتقاد ) أي : فلا يستديم الاعتقاد الحاصل له من التقليد وترك النظر .

وذلك ( لأنّه إنّما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول ) يعني : عرف مسائل اصول الدين التي منها مسألة سقوط العقاب عن المقلد في المعارف عن اجتهاد ونظر،( وقد فرضنا : انّه مقلّد في ذلك كلّه فكيف يكون اسقاط العقاب مغرياً ) له.

هذا وقد حكى : انّ عبارة شيخ الطائفة نقلها الشيخ المصنّف بالمعنى ، وهي في العُدّة هكذا : « وذلك لايؤدّي الى شيء من ذلك ، لأن هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم أنَّ ذلك سائغ له ، فهو خائف عن الإقدام على ذلك ، ولا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه ، فيستديم الاعتقاد » الى آخر ما ذكره المصنّف .

( وانّما يعلم ذلك ) أي : كون الاُصول عن تقليد حقّاً مطابقاً للواقع ( غيره ) أي :

غير المقلّد ( من العلماء الذّين حصل لهم العلم بالاصول ، وسَبروا أحوالهم ) وفقاً لما حصل لهم من العلم ( وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ،

ص: 129

ولا يسوغ ذلك لهم إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم . وذلك يخرجه من باب الاغراء .

وهذا القدر كافٍ في هذا الباب إنشاء اللّه تعالى .

وأقوى ممّا ذكرنا

-------------------

ولا يسوغ ذلك ) أي : عدم الإنكار من العلماء ( لهم ) أي : للمقلدين ( إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ) أي : عن المقلدين في اصول الدين .

( وذلك يخرجه من باب الاغراء ) فلا يكون سكوتهم عليهم إغراءاً لهم بالجهل .

( وهذا القدر ) أي : هذا المقدار من البيان الذي ذكرناه نحن شيخ الطائفة ( كافٍ في هذا الباب إنشاء اللّه تعالى ) أي : باب حكم التقليد في اصول الدين وان التقليد في الحقّ عصيان ، لكنّه غير معاقب عليه .

والحاصل من كلام الشيخ : إنّ الصلاة ونحوها متوقفة على المعرفة والمعرفة لازمة ، ولا تكون المعرفة إلاّ بالنظر والاجتهاد ، لا بالتقليد ، إلاّ أنّه لو قلّد عفي عنه ، لأن الأئمة عليهم السلام ومن حذا حذوهم من العلماء ، لم يقاطعوا المقلدين في اصول الدين .

وإنّما نقول بأن ترك النظر في اصول الدين عصيان ، لما دلّ من الأدلة اللفظية كتاباً وسنّة على وجوب النظر ، وترك الواجب معصية .

ثم انّ هذا الكلام من شيخ الطائفة حيث كان دالاً على إنَّ كل المقلدين في اصول الدين يرتكبون العصيان بترك النظر ، أضرب عنه وفصّل : بانّه اذا كان المقلد قادراً على المعرفة بالنظر ، وجب عليه النظر ، وإلاّ لم يجب ، وذلك حيث قال قدس سره : ( وأقوى ممّا ذكرنا ) : من إطلاق العصيان على المقلّدين ، هو التفصيل

ص: 130

أنّه لا يجوز التقليد في الاُصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل .

ومن ليس له قدرة على ذلك أصلاً فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست بمكلّفة بحال » ، إنتهى .

وذكر ، عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد ، ماهو قريب من ذلك .

قال : « وأمّا ما يرويه قوم من المقلدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وان كان مخطئاً معفوٌ عنه

-------------------

فيه وذلك : ( إنّه لايجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلد طريق الى العلم به ) أي : بالاصول ( امّا على جملة أو تفصيل ) أي : علماً إجمالياً أو علماً تفصيلياً .

( و ) أما ( من ليس له قدرة على ذلك ) العلم ( أصلاً ) لا إجمالاً ولا تفصيلاً ( فليس بمكلّف ) هذا بالنظر ، بل يكفيه التقليد ، لأنّه غير قادر على النظر ، وغير القادر ليس بمكلف ( وهو بمنزلة البهائم الّتي ليست بمكلفة بحال ) (1) ، فان البهائم ليست مكلّفة أصلاً ، أمّا غير القادر من الناس فليس بمكلف بالنظر وان كان مكلفاً بالتقليد ( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( وذكر ) الشيخ أيضاً ( عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد ماهو قريب من ذلك ) الذي نقلناه عنه من العُدّة و ( قال : وأمّا ما يرويه ) من الروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام ( قوم من المقلّدة ) والمراد بهم : الذين يقلّدون في اصول الدين ( فالصحيح الّذي أعتقده : انّ المقلّد للحق وإن كان مخطئاً ) في انّه يقلد ، إلا أنّه ( معفوّ عنه ) بمعنى : انّه لايعاقب على العصيان المذكور .

ص: 131


1- - عدّة الاصول : ص294 .

ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا تركُ ما نقلوه » ، انتهى .

أقول : ظاهر كلامه قدس سره ، في الاستدلال على منع التقليد بتوقّف معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة اُصول الدّين ، أنّ الكلامَ في المقلّد الغير الجازم ،

-------------------

ثم قال : ( ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ) حتى نعده فاسقاً ( فلا يلزم على هذا ) أي : لأجل التقليد في اصول الدين ( ترك مانقلوه ) (1) من الروايات ، لأنهم إذا كانوا فساقاً لا يصح الاعتماد عليهم ، أمّا إذا كان فسقهم معفواً عنه ، صح أن يكونوا أئمة للصلوات ، وشهوداً ، ورواة للحديث ، وغير ذلك ( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( أقول : ظاهر كلامه قدس سره في الاستدلال على منع التقليد بتوقف معرفة الصلاة وإعدادها على معرفة اُصول الدّين ) ممّا ذكرناه سابقاً : بأن الصلاة ونحوها متوقفة على المعرفة ، فالمعرفة لازمة ، لأنَّ الصلاة لازمة ، وما يتوقف عليه اللازم لازم ، ولا تكون المعرفة إلاّ بالنظر ، فلا يجوز التقليد ، إلاّ أنّه لو قلد عفي عنه ، لأن الائمة عليهم السلام وسائر العلماء الذين هم على سيرتهم لم يقاطعوا المقلدين في اصول الدين ولم ينكروا عليهم فظاهر إستدلال الشيخ على منع التقليد هو : ( انّ الكلام في المقلّد غير الجازم ) لأنّه إذا كان جازماً فقد حصلت له المعرفة ، فقوله : « على معرفة اصول الدين » ، معناه : انّه لم يحصل للمقلد الجزم ، بناءاً على أنّ المعرفة عبارة عن الجزم في الاصول ، سواء حصل من النظر أو من التقليد ، لأنّها مشتقة من مادة العرفان والعرفان عبارة عن العلم .

ص: 132


1- - عدّة الاصول : ص54 .

وحينئذٍ فلا دليلَ على العفو .

وما ذكرهُ من عدم قطع العلماء والأئمّة موالاتهم مع المقلّدين ، بعد تسليمه والغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم ، لايدّلّ على العفو وإنّما يدلّ على كفاية التقليد .

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين كان المقلد غير جازم ( فلا دليل على العفو ) عنه ، فمن أين انّه معفو عنه ؟ .

( وما ذكره : من عدم قطع العلماء والأئمة ) عليهم السلام ( موالاتهم مع المقلّدين ) ممّا إستدل به على انهم معفو عنهم وإلاّ لقطع العلماء والأئمة موالاتهم معهم ( بعد تسليمه ) اذ لانسلم : عدم قطع الأئمة والعلماء للمقلدين كان عفواً عنهم ، لأن هناك إحتمالاً آخر ، وهو : ان العلماء لم يعرفوا عدم جزم المقلدين حتى يقاطعوهم ، وامّا الأئمة عليهم السلام فقد عرفوا ان مواليهم اعتقدوا بأصول الدين عن نظر ولذلك لم يقاطعوهم .

( و ) كلّما بَعُدَ ( الغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم لعدم العلم بأحوالهم ) كما يحدث ذلك بالنسبة الى العلماء فان الأئمة عليهم السلام لايتصور فيهم ذلك ، اذ لايشترط في العلماء ان يعرفوا : انَّ الناس إنّما يعرفون اصول الدّين عن النظر أو عن التقليد .

وعليه : فان ماذكره من الاستدلال ( لايدلّ على العفو ، وإنّما يدلّ على كفاية التقليد ) فان السكوت عن الشيء قد يكون من جهة انّه ليس بمنكر ، وقد يكون من جهة انّه منكر معفو عنه ، فكيف إستدل شيخ الطائفة على سكوت الأئمة والعلماء على أنّه منكر معفو عنه ؟ .

والحاصل : إنّهم لم ينكروا على المقلدين : إما لأنّه لايجب عليهم النظر ، أو لأنّه

ص: 133

وإمساكُ النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدل على عدم وجوبه عليهم ، لما إعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الأدلّة الواضحة على بطلان التقليد في الاُصول ، لم يدلَّ على العفو عن هذا الواجب المستفاد من الأدلّة ، فلا دليل على العفو من هذا الواجب المعلوم وجوبه .

والتحقيقُ أنّ إمساكَ النكير

-------------------

واجب ، ولكن تركهم لهذا الواجب معفو عنه ، ودلالة هذا الكلام على كفاية التقليد في اصول الدين إنّما هو بناءاً على عدم إعتبار الجزم في الاسلام وكفاية التدين والاظهار فيه ، ولذا قُبِلَ إسلام المنافقين الذين كانت بواطنهم خلاف الظاهر .

هذا ( وإمساك النكير عليهم في ترك النظر ، و ) ترك ( الاستدلال ، اذا لم يدلّ على عدم وجوبه عليهم ) أي : عدم وجوب النظر على المقلدين ( لما اعترف به قبل ذلك : من كفاية النكير المستفاد من الأدلة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول ) أي : ان الأدلة الواردة عن الأئمة عليهم السلام في وجوب تحصيل المعرفة ، وقول العلماء بوجوب النظر في اصول الدين ، نكير على من لاينظر ولا يشتغل بتحصيل المعرفة ، فقول الشيخ : «انهم لم ينكروا» محل تأمّل ، لأنهم انكروا أشدّ الانكار بسبب هذه الأدلة الواضحة .

فإمساك النكير اذا لم يدلّ على عدم وجود النظر ( لم يدلّ على العفو عن هذا الواجب ) قوله : « لم يدل » ، جواب قوله : «إذا لم يدل على عدم وجوب النظر ...» ( المستفاد من الأدلة ، فلا دليل على العفو من هذا الواجب المعلوم وجوبه ) من قبل الأئمة عليهم السلام ، ومن قبل العلماء .

( والتحقيق ) في وجه إمساكهم النكير على المقلدين ( إنَّ إمساكَ النكير

ص: 134

لو ثبت ولم يحتمل كونُه لحملِ أمرهم على الصحّة وعلمهم بالاصول دلّ على عدم الوجوب ، لأنّ وجود الأدلّة لايكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى فيه من حيث الارشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، لكنّ الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين .

فالانصافُ : أنّ المقلّدَ الغيرَ الجازم المتفطّن لوجوب النظر عليه فاسقٌ مؤاخذٌ على تركه للمعرفة الجزميّة بعقائده ،

-------------------

لو ثبت ، ولم يحتمل كونه لحمل أَمرهم على الصحة وعلمهم بالاصول ) أي : حملهم على أنهم عالمون بالأصول ، ل- ( دلّ على عدم الوجوب ) أي : عدم وجوب النظر ( لأنّ وجود الأدلّة لايكفي في إمساك النكير ) الواجب ( من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كفى ) وجود الأدلة ( فيه من حيث الارشاد والدلالة على الحكم الشرعي ) فان وجود الأدلة كافٍ في الارشاد ، غير كافٍ في إمساك النكير .

( لكن الكلام في ثبوت التقرير ) من الأئمة عليهم السلام ومن العلماء للتقليد في اصول الدين ( وعدم إحتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين ) فان العلماء احتملوا علم المقلدين باصول الدّين ، وأمّا الأئمة عليهم السلام فانّهم حملوا أمر الناس على الظاهر .

( فالانصاف : انّ المقلّد غير الجازم ، المتفطن لوجوب النّظر عليه ، فاسق ) لأنّه ترك الواجب مع تفطنه بوجوبه ، فهو ( مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزمية بعقائده ) واصول دينه ، بمعنى : عدم القطع والجزم منه بها .

ص: 135

بل قد عرفتَ إحتمال كفره ، لعموم أدلّة كفر الشاكّ .

وأمّا الغير المتفطنّ لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة .

وفي جريان حكم الكفر إحتمال تَقَدَّمَ .

وأمّا الجازمُ فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن عُلِمَ من عمومات الآيات

-------------------

( بل قد عرفت : إحتمال كفره لعموم أدلّة كفر الشّاك ) بناءاً على انّ المراد من الشاك : غير الجازم ، لا الشّكَ المتساوي الطرفين .

( وأمّا غير المتفطن لوجوب النّظر لغفلته ، أو العاجز عن تحصيل الجزم ) بان كان من البُلّة - مثلاً- ( فهو معذور في الآخرة ) ويمتحن فيها حسب ماورد في بعض الأخبار .

( وفي جريان حكم الكفر ) على مثل هذا الانسان غير المتفطن ، أو العاجز عن تحصيل الجزم ( إحتمالَ تَقدَّمَ ) بيانه .

لكن لايخفى : إنّ مقتضى الأدلة فيمن أظهر الاسلام وعمل بأحكامه في الظاهر ، انّه مسلم محكوم بكلّ أحكام الاسلام حتى اذا علمنا أنّه منافق يخالف باطنه ظاهره ، فكيف بمن لانعلم منه وهو غير الجازم باطناً ؟ .

أمّا في الآخرة فحكمه الى ربِّ العالمين الأعلم بالموضوعات وبالأحكام ، فلا يهمنا التعرض لحكمه في الآخرة .

نعم ، يهمنا حكمه في الدنيا من جهة تخويفه من العقاب إذا لم يحصل المعرفة بالنظر ، وعدم تخويفه ، وما أشبه ذلك ، ممّا هو شأن كتب اصول الدين .

( وأمّا الجازم ، فلا يجب عليه النّظر والاستدلال وإن علم من عمومات الآيات

ص: 136

والأخبار وجوبُ النظر والاستدلال ، لأنّ وجوبَ ذلك توصّليّ لأجل حصول المعرفة ، فاذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر ، اللّهم إلاّ أن يفهمَ هذا الشخصُ منها كونَ النظر والاستدلال واجباً تعبّدياً مستقلاً أو شرطاً شرعيّاً للايمان ، لكنّ الظاهرَ خلافُ ذلك ، فانّ الظاهرَ كونُ ذلك من المقدّمات العقليّة .

-------------------

والأخبار وجوب النّظر والاستدلال ) في اصول الدين ( لأنّ وجوب ذلك ) أي : النظر والاستدلال ( توصلي لأجل حصول المعرفة ، فاذا حصلت ) المعرفة ( سقط وجوب تحصيلها ) أي : تحصيل المعرفة ( بالنظر ) والاستدلال .

( اللّهمَّ الاّ أن يفهم هذا الشخص ) الجازم بسبب التقليد ( منها ) أي : من الأدلة ( كون النّظر والاستدلال واجباً تعبدياً مستقلاً ) لا واجباً توصلياً ( أو شرطاً شرعيّاً للايمان ) بحيث انه اذا لم يراع هذا الشرط الشرعي لم يكن مؤمناً .

( لكن الظاهر خلاف ذلك فان ) النظر والاستدلال ليس واجباً تعبدياً مستقلاً أو شرطاً شرعياً ، بل ( الظّاهر كون ذلك ) أي : النظر ( من المقدّمات العقليّة ) للوصول الى العلم والمعرفة ، فاذا فرض حصول العلم والمعرفة للمقلّد ، لم يجب عليه النظر والاستدلال .

بل ربّما يظهر من مقبولة عُمر بن حَنظلة : انَّ المقلّد للحق يكفيه تقليده ذلك ، بل يظهر من المقبولة أيضاً : انَّ المقلّد للباطل اذا كان مرجعه مرجعاً زاهداً في الدنيا وزخارفها ، غير متعصِّب في ظاهره يكفيه في عدم كونه معاقباً بسبب تقليده لمرجعه في اصول الدين ، فراجع المقبولة في الرسائل وغيرها .

ص: 137

الأمر السادس

اشارة

إذا بنينا على عدم حجّية ظنّ أو على عدم حجّية الظنّ المطلق ، فهل يترتب عليه آثار اُخَرُ غيرُ الحجّية بالاستقلال ، مثل كونه جابراً لضعف سند أو قصور دلالة ،

-------------------

( الأمر السادس : ) من تنبيهات الانسداد : ( إذا بنينا على عدم حجّية ظنّ ) كالظن الحاصل من القياس ، أو الاستحسان ، أو ما أشبه ( أو على عدم حجّية الظنّ المطلق ) بأن لم نقل بالإنسداد ( فهل يترتب عليه ) أي : على هذا الظنّ غير الحجّة ( آثار اُخر غير الحجّية ، بالاستقلال ؟ ) أي : انّه لم يكن حجّة في نفسه ، لكن هل يكون مؤيداً لحجّة ، أو مسقطاً لحجّة ، أم لا ؟ كما قال :

( مثل كونه جابراً لضعف سند ، أو قصور دلالة ) فان الظّن بالسند يوجب حجيته والظن بالدلالة يوجب قوتها ، فأبو بصير - مثلاً- مشترك بين الثقة والضعيف ، والظنّ : بأنّ أبا بصير في سند الرواية الفلانية هو الثقة يوجب حجّيتها ، وكذا بالنسبة الى الدلالة ، فان الظنّ : بأن المراد من قوله عليه السلام : « ثَمن العَذرة سُحتٌ » (1) عذرة الانسان لا عذرة سائر الحيوانات ، وان المراد من قوله عليه السلام : « لا بأسَ ببيع العَذرة » (2) عذرة غير الانسان ، يوجب قوة دلالتها .

ص: 138


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

أو كونه موهناً لحجّة أُخرى ، أو كونه مرجّحاً لأحد المتعارضين على الآخر .

ومجملُ القول في ذلك ، أنّه كما يكون الأصلُ في الظنّ عدمَ الحجّية ، كذلك الأصلُ فيه عدمُ ترتّب الآثار المذكورة من الجبر والوهن والترجيح .

وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة :

الأوّل : الجبر بالظنّ الغير المعتبر

فنقول : عدمُ إعتباره امّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه ،

-------------------

( أو كونه موهناً لحجّة اُخرى ) بأن كانت رواية صحيحة السند ظاهرة الدلالة ، لكن ظننّا بأنّ هذه الرّواية وردت تقية - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ، ممّا يسقطها عن الحجّية .

( أو كونه ) أي : الظنّ ( مرجّحاً لأحد المتعارضين على الآخر ) فيما اذا كان هناك دليلان متساويان في الحجّية في أنفسهما ، فيرجّح الظنّ الخاص ، أو العام ، أحدهما على الآخر ، أو كان الظنّ موهناً لأحد المتعارضين ممّا سبب ترجّح طرفه عليه .

( ومجمل القول في ذلك : انّه كما يكون الأصل في الظّن عدم الحجّية ) للأدلة الأربعة التي اقمناها على عدم حجّية الظن ( كذلك الأصل فيه ) أي : في الظنّ ( عدم ترتّب الآثار المذكورة ) عليه ( من الجبر ، والوهن ، والتّرجيح ) وغير ذلك .

( وأمّا تفصيل الكلام في ذلك ، فيقع في مقامات ثلاثة ) كما يلي :

( الأوّل : الجبر بالظنّ غير المعتبر ) سواء كان ظنّاً خاصاً كالقياس ، أو ظنّا مطلقاً إذا لم يكن إنسداد ( فنقول : عدم إعتباره ) أي : الجبر بالظّنّ ( امّا ان يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص ، كالقياس ، ونحوه ) كالرأي ، وهو مايسمى

ص: 139

وإمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظنّ .

وأمّا الأوّلُ : فلا ينبغي التأمّلُ في عدم كونه مفيداً للجبر ، لعموم مادلّ على عدم جواز الاعتناء به وإستعماله في الدّين .

وأمّا الثاني : فالأصلُ فيه وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه إذا كان المجبور محتاجاً إليه من جهة إفادته للظنّ بمضمونه

-------------------

بالاستحسان أيضاً بدون أن يكون هناك مقيس عليه حتى يصدق عليه القياس .

( وأمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظّن ) بسبب الأدلة العامة : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، حيث تقدّم بيان ذلك ، والتي منها قوله سبحانه : « إنَّ الظَنَّ لايُغنِي مِنَ الحقِّ شَيئاً » (1) .

( وأمّا الأوّل : ) وهو النّهي عن الظنّ بالخصوص ( فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه مفيداً للجبر ، لعموم ما دلّ على عدم جواز الاعتناء به ، و ) عدم ( استعماله في الدّين ) فانّ كون القياس - مثلاً - جابراً ، نوع إستعمال في الدين ، والظاهر المنع عن إستعمال القياس مطلقاً ، سواء كان بالاستقلال أو بالتبع .

( وأمّا الثاني : ) وهو ما كان الظنّ منهياً عنه من جهة دخوله تحت عموم اصالة حرمة العمل بالظنّ ( فالأصل فيه وإن كان ذلك ) أي كون مثل هذا الظّن العام جابراً ( إلاّ أنّ الظاهر : انه إذا كان المجبور محتاجاً اليه ) أي : الى الظنّ ( من جهة إفادته ) أي : إفادة هذا الظنّ الجابر الذي هو غير معتبر في نفسه ( للظّن بمضمونه ) أي : بمضمون الخبرالمجبور يعني بما تضمنه الخبر بنسبته الى المعصوم عليه السلام من حيث الصدور ، فليس المراد من قوله رحمه اللّه بمضمونه : الدلالة ، بل الصدور ،

ص: 140


1- - سورة يونُس : الآية 36 .

كالخبر إذا قلنا بكونه حجّةً بالخصوص لوصف كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارةُ الغير المعتبرة الظنَّ بصدور ذلك الخبر إنجبر قصورُ سنده به .

إلاّ أن يدّعى أنّ الظاهر اشتراطُ حجّية ذلك الخبر بافادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّدُ كونه مظنونَ الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده وبالجملة فالمتّبعُ هو مايفهم من دليل حجّية المجبور .

-------------------

ويوضحه قوله بعد ذلك : ( كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص ، لوصف كونه مظنون الصّدور ) فانه قد تقدّم الاختلاف في انّ الخبر هل هو حجّة مطلقاً ، أو الخبر الذي كان مظنون الصدور ، أو الخبر الذي ليس على خلافه ظنّ ؟ ( فافاد تلك الأمارة غير المعتبرة ) كالشهر - مثلاً- إذا قلنا انّها غير معتبرة ( الظّنّ بصدور ذلك الخبر ، انجبر قصور سنده به ) فان سند ذلك الخبر ينجبر بسبب هذا الظّن غير المعتبر .

( إلاّ أن يدّعى : انّ الظاهر إشتراط حجّية ذلك الخبر ) الضعيف ، ( بافادته للظّن بالصدور ) يعني : إفادة بنفسه من جهة سنده أنه مظنون الصدور ( لا مجرد كونه مظنون الصّدور ولو حصل الظّن بصدوره من غير سنده ) كما لو حصل بسبب الشهرة التي ليست بحجّة فانها تورث الظنّ فقط .

قوله : « إلاّ » إستثناء من قوله السابق : «إلاّ أن الظاهر انه إذا كان المجبور محتاجاً اليه ...» .

( وبالجملة : فالمتّبع هو مايفهم من دليل حجّية المجبور ) وانه هل يلزم أن يكون المجبور بنفسه مظنوناً ، أو لا يلزم أن يكون بنفسه مظنوناً ، بل يكفي الظنّ من الخارج ؟ فعلى الأول : لايكون الظنّ العام موجباً لحجيته ، وعلى الثاني : يكون

ص: 141

ومن هنا لاينبغي التأمّلُ في عدم إنجبار قصور الدّلالة بالظنّ المطلق ، لأنّ المعتبر في باب الدلالات هو ظهورُ الألفاظ نوعاً في دلالتها ، لا مجرّد الظنّ بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج .

فالكلامُ إن كان ظاهراً في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو ، وإلاّ - بأن كان مجملاً أو كان

-------------------

الظنّ العام موجباً لحجيته .

( ومن هنا ) حيث انَّ الظنّ الخارجي لايمكنه الجبر في الجملة ( لاينبغي التأمّل في عدم إنجبار قصور الدلالة بالظّنّ المطلق ) إذا لم يكن إنسداد ، فانّ الظنّ لايجبر الدلالة ( لأنّ المعتبر في باب الدّلالات هو : ظهور الألفاظ نوعاً ) أي : ظهوراً نوعياً ( في دلالتها ) أي : في دلالة تلك الالفاظ ( لا مجرّد الظّنّ بمطابقة مدلولها ) أي : مدلول الألفاظ ( للواقع ولو من الخارج ) .

مثلاً : قوله سبحانه : « فَكاتِبُوهُم إِنْ عَلِمتُم فِيهم خَيراً » (1) يلزم ظهور « خيراً » في الايمان بمعنى : أن العبد المؤمن يكاتب مقابل أن يراد بالخير : المال ، بمعنى : انّ العبد ذا المال يكاتب ، امّا إذا لم يكن ظهور « خيراً » في الايمان ، وظنّنا أنّ المراد بالخير : الايمان ، لايمكن أن نقول : إنَّ العبد إذا كان مؤمناً يكاتب ، لأنَّ هذا الظّن لايوجب الظهور ، فان الظهور حجّة ، لا الظّن الحاصل من الخارج .

وعلى هذا ( فالكلام أن كان ظاهراً في معنى بنفسه ، أو بالقرائن الداخلة ) بل أو الخارجة ، مثل : قرينية المقيد للمطلق ، والخاص للعام ، والمبين للمجمل ، الى غير ذلك ( فهو ) يؤخذ بذلك الظاهر ( وإلاّ بأن كان مجملاً ) في نفسه ( أو كان

ص: 142


1- - سورة النور : الآية 33 .

دلالتُه في الأصل ضعيفةً ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفّي - فلا يُجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ، إذ التعويلُ حينئذٍ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام ، بل ربّما لا تكون تلك الأمارةُ موجبةَ للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايتُه إفادة الظنّ بالحكم الفرعيّ ، ولا ملازمةَ بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لايريده بذلك اللفظ .

-------------------

دلالته في الأصل ضعيفة ، كدلالة الكلام بمفهومه الوصفي ) على انتفاء الحكم عند إنتفاء الوصف ، فانّه دلالة ضعيفة كما ذكروا .

وعليه : ( فلا يجدي الظّن بمراد الشّارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ) أما الأمارة الخارجية المعتبرة : كالمقيّد بالنسبة الى المطلق ، والخاص بالنسبة الى العام ، وما أشبه ذلك ، فلا إشكال في الأخذ بها على ما اشرنا اليه .

فالأمارة الخارجيّة لاتجدي ( اذ التعويل حينئذٍ ) أي : حين الظنّ بالمراد من أمارة خارجية ( على ذلك الظنّ ) الخارجي ( من غير مدخليّة للكلام ) بينما : يكون الظهور حجّة إذا كان مستنداً الى الكلام نفسه .

( بل ربما لاتكون تلك الأمارة ) الخارجية ( موجبة للظّنّ بمراد الشّارع من هذا الكلام ) بالذات ، وانّما ( غايته ) أي : غاية ماتفيده تلك الأمارة الخارجية ( إفادة الظّن بالحكم الفرعي ، و ) من المعلوم : انّه ( لا ملازمة بينه ) أي : بين الظّن بالحكم

الفرعي ( وبين الظنّ بارادته ) أي : بارادة ذلك الحكم الفرعي ( من اللّفظ ) .

ثم بيّن المصنّف عدم الملازمة بقوله : ( فقد لايريده ) أي : لايريد الشارع ذلك الحكم الفرعي ( بذلك اللّفظ ) الذي ذكره ، فكيف نتمكن أن نقول : بأن مراد الشارع من هذا اللّفظ ، هذا الحكم الفرعي ؟ .

ص: 143

نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعيّ ، فالظنّ به

-------------------

مثلاً : قول الشارع : « وَلَن تَستَطيعُوا أنّ تَعدِلُوا بَينَ النِساء وَلَو حَرصتُم » (1) لو ظنّنا من الخارج إنَّ مراده : عدالة الزوج في المحبة القلبية بين زوجاته المتعددات ، فانّه لايمكن أن نقول : أنّ مراد الشارع ذلك ، وان كانت العدالة القلبية بين الزوجات شبه المحال ، إذ لعلّ مراد الشارع من هذه الآية المباركة عدالة الحكام في قضايا النزاعات بين النساء ، حيث كثيراً مايميل قلب الحاكم الى طلاق الزوجة ، لأنه يريدها لولده - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ، فقد ذكر بعضهم : انَّ هذا هو المراد من الآية المباركة بقرينة السياق ، حيث قال سبحانه : « وَإِن امرَأَةٌ خافَت مِنْ بَعلِهَا نُشُوزاً أَو إعِراضاً ، فَلا جُنَاحَ عَلَيهِما أن يُصلِحا بَينَهُما صُلحاً ، والصُّلحُ خَيرٌ ، وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ، وَإنْ تُحسِنُوا وَتَتَّقُوا فَانَّ اللّه َ كانَ بِمَا تَعمَلوُنَ خَبِيراً * وَلَنْ تَستَطيعُوا أنّ تَعدِلُوا بَينَ النّساءِ وَلَو حَرصتُم ، فلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ فَتَذَرُوها كالمُعلَّقَةِ وإن تُصلِحُوا وتَتَّقُوا فإنَّ اللّه َ كَانَ غَفوراً رَحيماً * وإن يَتَفرَّقا يُغِنِ اللّه ُ كُلاً مِن سَعَتِهِ وَكانَ اللّه ُ واسِعاً حَكِيماً » (2) .

فان قرينة الآية المتقدِّمة « وإن تُصلِحُوا وَتتَّقُوا » ظاهرة في هذا المعنى ، فلا يكون تنافٍ بين هذه الآية المباركة ، وآية : « فإن خِفتُم أَلاّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً...» (3) والكلام في هذا الموضوع موكول الى محلّه ، وانّما ذكرناه من باب المثال .

ثم انّ المصنّف إستثنى من قوله : « ولا ملازمة بينه وبين الظنّ » بقوله : ( نعم ، قد يعلم من الخارج : كون المراد هو الحكم الواقعي ، فالظنّ به ) أي : بالحكم

ص: 144


1- - سورة النساء : الآية 129 .
2- - سورة النساء : الآيات 128 - 130 .
3- - سورة النساء : الآية 3 .

يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتفاق .

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما إشتهر - من أنّ ضعفَ الدلالة منجبرٌ بعمل الأصحاب - غير معلوم المستند ، بل ، وكذلك دعوى إنجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب لم يُعلمَ لها بيّنةٌ .

والفرقُ أنّ فهمَ الأصحاب وتمسّكهم به كاشفٌ ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايتَهُ الكشفُ عن الحكم الواقعيّ الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مراداً من ذلك اللفظ ، كما عرفت .

-------------------

الواقعي ( يستلزم الظّن بالمراد ، لكن هذا ) أي : ماذكرناه من قولنا : نعم قد يعلم من الخارج : هو ( من باب الاتّفاق ) ولا يكون معياراً كليّاً على مانحن بصدده .

( وممّا ذكرنا يظهر : انّ ما اشتهر ) بين الفقهاء والاصوليين ( : من انّ ضعف الدّلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند ) عند المصنّف ( بل ، وكذلك دعوى انجبار قصور الدّلالة بفهم الأصحاب ، لم يعلم لها بيّنة ) ودليل وان كنّا ذكرنا نحن في الاصول : انّ الظّاهر من الأدلة العامة والخاصة : الانجبار في كلام المقامين .

( والفرق ) بين عمل الأصحاب وفهم الأصحاب ( : أنّ فهم الاصحاب وتمسّكهم به ) أي بما فهموه وقالوه من دلالة الخبر ( كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ) ومن المعلوم : عدم إعتبار هذا الظنّ ، كما أنه لايستلزم إعتبار القرينة عند الأصحاب ، إعتبارها عندنا أيضاً ، حتى اذا ذهبوا الى معنى نذهب اليه نحن أيضاً .

( بخلاف عمل الأصحاب ، فانّ غايته ) أي : غاية العمل ، هو ( : الكشف عن الحكم الواقعي ) لأنهم لايعملون بغير الحكم الواقعي ( الّذي قد عرفت : انّه لايستلزم كونه مراداً من ذلك اللّفظ كما عرفت ) .

ص: 145

بقي الكلامُ في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى جابرةً لضعف سند الخبر .

فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنَّ بصدق الخبر ، ففيه - مع أنّه قد لايوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر - : أنّ جلّهم لايقولون بحجّية الخبر المظنون الصدور مطلقاً ، فإنّ المحكيّ عن المشهور إعتبارُ الايمان في الراوي ،

-------------------

مثلاً : قد يكون الشيء واجباً واقعاً ، لكن لفظ «ينبغي» الموجود في الحديث لايدل عليه ، فلا يفهم عملهم على الوجوب من هذا اللّفظ بل لعله من الخارج ، فقد يقولون إنّا نفهم من « ينبغي » الوجوب ، وقد يقولون : إنّه واجب لكن لايعلم أن فهمهم الوجوب مستند الى لفظ الحديث .

( بقي الكلام في مستند المشهور في كون الشهرة في الفتوى ) لا الشهرة في الرواية ( جابرة لضعف سند الخبر ) فيما إذا كان الخبر ضعيف السند وقامت الشهرة في الفتوى على طبق ذلك الخبر ، سببت الشهرة إنجبار ضعف الخبر سنداً.

( فانّه إن كان من جهة افادتها ) أي إفادة الشهرة في الفتوى ( الظّن بصدق الخبر ، ففيه - مع انّه قد لايوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظّنّ بصدور حكم عن الشّارع مطابق لمضمون الخبر- ) لأنّه لا تلازم بين الشهرة الفتوائية وبين صدور الخبر الضعيف المطابق لتلك الشهرة الفتوائية .

ففيه ( : انّ جلّهم لايقولون بحجّية الخبر المظنون الصّدور مطلقاً ) فالظّن بصدور الخبر لأجل قيام الشهرة لاينفع في إعتبار ذلك الخبر ، بل الخبر إنّما يكون حجّة اذا كان صحيح السند أو موثوق السند .

( فانّ المحكي عن المشهور : اعتبار الايمان في الرّاوي ) فاذا لم يكن الراوي

ص: 146

مع أنّه لايرتاب في إفادة الموثّق للظنّ .

فان قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الاماميّ بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ، ومثل قوله عليه السلام : « لا تأخُذَنَّ مَعالِمَ دينك مِن غَير شِيعَتِنا » .

قلنا : إن كان ماخرج بحكم الآية والرواية مختصّاً بما لايفيد الظّنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّاً لما ظنّ بصدوره كان خبرُ غير

-------------------

مؤمناً ، لايعتبر خبره وان ظنّنا بصدقه ( مع أنّه لايرتاب في افادة الموثّق ) من أخبار العامة ( للظّنّ ) فلو كان الظّن بالصدور حجّة ، لم يحتج الى الايمان وكان كثير من أخبار العامة حجّة .

( فان قيل : إنَّ ذلك ) أي : اشتراط الايمان في الرّاوي انّما هو ( لخروج خبر غير الامامي بالدّليل الخاص ) فالخبر المظنون الصدور حجّة وإن كان غير جامع للشرائط ، فالموثق أيضاً لولا الدليل الخاص لكان داخلاً في الاعتبار لا خارجاً عنه ، والدليل الخاص ( مثل منطوق آية النبأ ) فان غير المؤمن فاسق ، ولذا لا يعمل بخبره ( ومثل قوله عليه السلام : « لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دينك مِن غَير شيعَتِنا » (1) ) فاذا لم يكن شيعياً لا يؤخذ بخبره .

والحاصل من قوله : ان قيل : « ان الخبر المظنون الصدور حجّة إلاّ ما خرج » .

( قلنا : ان كان ماخرج بحكم الآية والرّواية مختصّاً بما لايفيد الظّنّ ) فكل ما لايفيد الظنّ لايعلم به ( فلا يشمل الموثّق ) لأنَّ الموثّق يفيد الظّن ( وان كان عاماً لما ظنّ بصدوره ) فخبر غير الامامي لايعمل به وإن ظنّ بصدوره ( كان خبر غير

ص: 147


1- - رجال الكشّي : ص4 .

الإماميّ المنجبر بالشهرة والموثّقُ متساويين في الدخول تحت الدّليل المخرج .

ومثلُ الموَثّق خبرُ الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبرُ المعتضدُ بالأولويّة والاستقراء

-------------------

الامامي المنجبر بالشّهرة والموثّق متساويين في الدّخول تحت الدّليل المخرج ) .

والحاصل من قوله « قلنا : انَّ المستثنى ان كان خاصاً بغير مظنون الصدور من خبر غير الامامي » ، بمعنى : ان خبر غير الامامي إذا لم يكن بمظنون الصدور ليس بحجّة ، فيكون لازم ذلك : أن خبر العامي المظنون الصدور حجّة ، والحال انّكم تقولون : بأن خبر العامي مطلقاً ، سواء كان مظنوناً أم ليس بمظنون ، خرج بآية النبأ والرواية .

وان كان المستثنى عاماً يشمل خبر كل غير إمامي ، سواء كان مظنون الصدور أم لا ، فان اللازم أن تقولوا : بأن خبر غير الامامي مطلقاً ، والخبر الموثّق ، أي : الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة كلاهما لايعمل بهما ، لأن الضعيف المنجبر بالشهرة هو خبر فاسق ، فكما انّ منطوق الآية يشمل العامي لأنّه فاسق ، كذلك يشمل الضعيف لأنّه فاسق أيضاً ، وكما ان الشهرة ليست جابرة لخبر العامي كذلك ليست جابرة للضعيف الموثّق .

والحاصل : انّ اللازم أن تقولوا : امّا بحجيّة خبر العامي المظنون ، أو تقولوا بعدم حجّية خبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، والحال إنّكم تقولون بأن كل خبر عامي ليس بحجّة ، وكلّ خبر ضعيف مجبور بالشهرة حجّة .

( ومثل الموثّق ) في سؤال الفرق بينه وبين المنجبر بالشهرة ( خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، والخبر المعتضد بالأولويّة ، و ) المتعضد ب- ( الاستقراء ،

ص: 148

وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لايقولون بذلك ، وإن كانّ لقيام دليل خاص عليه ، ففيه المنعُ من وجود هذا الدليل .

وبالجملة : فالفرقُ بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر في غايةِ الاشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية .

-------------------

وسائر الأمارات الظّنية ) قوله : « وسائر » عطف على قوله : « خبر الفاسق » .

وعليه : فاذا كان شهرة الموثّق توجب حجيته مع كونه ضعيفاً في نفسه ، لزم أن تكون هذه الأخبار أيضاً حجّة ( مع أنّ المشهور لايقولون بذلك ) أي : لا يقولون باعتبار هذه الأخبار المذكورة وحجيتها .

( وإن كان ) ما خرج بحكم الآية والرواية ( لقيام دليل خاص عليه ) كالاجماع الذي إدعاه كاشف الغطاء على جبر ضعف الخبر بالشهرة ( ففيه : المنع من وجود هذا الدّليل ) فانّه لا إجماع في المسألة .

( وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشّهرة ، و ) الضعيف ( المنجبر بغيرها ) أي : غير الشهرة ( من الأمارات ، وبين الخبر الموثّق المفيد ، لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ) بالشهرة ( في غاية الاشكال ) لأن الملاك في الحجّية واللاحجّية فيهما واحد ، فامّا أن نقول بحجيتهما معاً ، وأما أن نقول بعدم حجيتهما معاً .

( خصوصاً مع عدم العلم بإستناد المشهور ) في فتواهم ( الى تلك الرّواية ) الضعيفة ، لأن الكلام في رواية ضعيفة مطابقة لفتوى المشهور بلا استناد من المشهور الى تلك الّرواية .

ص: 149

وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعيف بالشهرة ضعيفٌ مجبورٌ بالشهرة .

وربما يدّعى كونُ الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الاجماعُ على حجّيّته ولم يثبت .

وأشكلُ من ذلك دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ، بناءا على أن التبيّن يعمّ الظني الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر .

-------------------

( واليه ) أي : الى ماذكرناه : من أنّ الخبر الضعيف لاينجبر بالشهرة الفتوائية ( أشار شيخنا في موضع من المسالك : بانَّ جبر الضعيف بالشّهرة ، ضعيف مجبورٌ بالشّهرة ) أي إذا أردنا ان نقول : بأنَّ الضعيف مجبور بالشهرة ، هذا القول بنفسه ضعيف ويحتاج الى جبره بالشهرة .

( وربّما يدّعى كونُ الخبر الضعيف المنجبر ) بالشهرة الفتوائية ( من الّظنون الخاصّة ، حيث إدعي الاجماع على حجّيته ) فيكون الاجماع مستند حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية ( و ) لكن ( لم يثبت ) هذا اللاجماع ، حتى يكون مستنداً لكون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة .

( وأشكل من ذلك ) أي : من دعوى الاجماع ( : دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ) أي : على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية ( بناءاً على أنّ التبيّن ) في الآية ( يعّم الّظني الحاصل من ذهاب المشهور الى مضمون الخبر ) بتقريب : انّ قوله سبحانه : « فَتَبيّنُوا » (1) للتبيّن الظنّي ، وليس خاصاً بالتبيّن العلمي ، والضعيف المنجبر بالشهرة الفتوائية يصدق عليه التبيّن ، لأنه حصل

ص: 150


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وهو بعيدٌ ، إذ لو أُريدَ مطلق الظنّ فلا يخفى بُعده ، لأنّ المنهيّ عنه ليس إلاّ خبرَ الفاسق المفيد للظنّ ، إذ لا يعمل أحدٌ بالخبر المشكوك صدقُه .

وإن اُريد البالغُ حدَّ الاطمئنان فله وجهٌ ، غيرَ أنّه يقتضي دخولَ سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ولو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة ، فالآية تدلّ على حجّيّةِ الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بُعدَ فيه .

-------------------

التبيّن الظنّي فيه .

( وهو ) أي : شمول التبيّن للّظني ( بعيد ، إذ لو اُريد مطلق الظنّ ، فلا يخفى بُعده ) فانّه بعيد أنْ يريد اللّه سبحانه وتعالى من التبيّن في الآية المباركة : التبيّن الشامل للتبيّن الظّنّي أيضاً ( لأن المنهي عنه ليس إلاّ خبر الفاسق المفيد للّظن ، إذ لايعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه ) فان خبر الوليد كان مظنوناً وقد نهى اللّه سبحانه عن إتباعه الاّ بالتبيّن ، فاللازم أن يريد سبحانه بالتبيّن : العلمي الموجب للعلم ، لا الأعم من العلمي والظّني حتى يشمل التبيّن الضعيف المنجبر بالشهرة .

( وإن اُريد ) من التبيّن في الآية المباركة : الظنّ ( البالغ حدّ الاطمئنان ، فله وجه ) لأن الاطمئنان حجّة عقلائية ( غير أنه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة ) للخبر الضعيف ( إذا بلغت ولو بضميمة المجبورحدّ الاطمئنان ) .

ولازم ذلك : انّ كل خبر ضعيف مجبور بسائر الظنون كالأولوية ، وما أشبهها ، بلغ حدّ الاطمئنان يكون حجّة ( ولايختصّ ) الجبر على ذلك ( بالشهرة ) فقط .

إذن : ( فالآية تدلّ على حجّية الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ) مطلقاً بأي : سبب كان ( ولا بعد فيه ) لأن الموجب للاطمئنان لا يندم فاعله ، فالآية المباركة

ص: 151

وقد مرّ في أدلّة حجّيّة الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه من حكايات الاجماع والأخبار .

وأبعدُ من الكلّ دعوى استفادة حجّيّته ممّا دلّ من الأخبار ، كمقبولة ابن حنظلة والمرفوعة إلى زُرارة ، على الأمرِ بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ،

-------------------

تقول : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبأ » (1) تبيّنوا تبيّناً موصلاً للعلم ، أو موصلاً للاطمئنان ، بأي وجه حصل ذلك الاطمئنان .

( وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار مايؤيّده أو يدلّ عليه : من حكايات الاجماع والأخبار ) على ان كل خبر يطمئن اليه ، سواء كان من عادل ، أو فاسق ، إمامي ، أو غير إمامي يكون حجّة .

( وأبعد من الكلّ ) أي : من كل الاستدلالات المتقدّمة على أن الشهرة جابرة ( : دعوى استفادة حجّيته ) أي : حجّية الخبر الضعيف المجبور بالشهرة ( ممّا دلّ من الاخبار - كمقبولة ابن حنظلة (2) ، والمرفوعة الى زُرارة (3) - على الأمر بالأخذ بما إشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ) قوله : « على الأمر » ، متعلق بقوله : « ممّا دل » ، فان في الخبر : « خُذ بِما إشتَهَر بَينَ أَصحابِكَ » .

ص: 152


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيّته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولويّة .

وتوضيحُ فساد ذلك أنّ الظاهر من الروايتين شهرةُ الخبر من حيث الرواية ، كما يدلّ عليه قولُ السائل فيما بعد ذلك : « انّهما معا مشهوران » ، مع أنّ ذكر الشهرة من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة .

-------------------

( فانّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض ) كما في مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زُرارة ، حيث يدلان على أنّ الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للشهرة يؤخذ به ، فان الأخذ بالخبر بسبب الشهرة عند التعارض ( يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والأولوية ) أي : اذا كان الخبر الذي له معارض يؤخذ به بسبب الشهرة ، فالأخذ بالخبر بسبب الشهرة إذا لم يكن له معارض أولى .

( وتوضيح فساد ذلك ) الذي ذكرناه بقولنا : وأبعد من الكل ( : انّ الظاهر من الرّوايتين ) : المقبولة والمرفوعة ( : شهرة الخبر من حيث الرّواية ، كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : « إنهما معاً مشهوران ») بينما الكلام في مقامنا هذا : الشهرة الفتوائية .

هذا ( مع أنّ ذكر الشّهرة من المرجّحات ، يدل على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النّظر عن الشهرة ) فليس كل مايوجب ترجيح دليل على دليل ، يوجب العمل بلا دليل ، فما ذكروه من الأولوية في غير محله ، كما انه لا اجماع في المسألة ، وبذلك تحققه : انَّ الشهرة الفتوائية لاتكون جابرة للخبر الضعيف .

ص: 153

المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهونا

والكلام هنا أيضا يقعُ تارةٍ فيما علم بعدم اعتباره ، وأُخرى فيما لم يثبت اعتباره .

وتفصيلُ الكلام في الأوّل أنّ المقابلَ له إن كان من الأمور المعتبرة ، لأجل إفادة الظنّ النوعيّ ، اي يكون نوعه لو خُلِّيَ وطبعَه مفيدا للظنّ ، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ، فلا إشكالَ في عدم وهنه بمقابلته ما علم عدمُ اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح

-------------------

( المقام الثاني : في كون الّظنّ غير المعتبر موهناً ) لخبر ، أو ما اشبه ، ممّا هو حجّة في نفسه ( والكلام هنا أيضاً يقع تارة فيما علم بعدم إعتباره ) كالقياس ( واُخرى فيما لم يثبت إعتباره ) كالشهرة ، فالقياس والشهرة ظنان غير معتبرين شرعاً .

( و ) أمّا ( تفصيل الكلام في الأوّل : ) أي : فيما علم عدم اعتباره فهو : ( انّ المقابل له ) اي : الشيء قبال هذا الظن ، الذي ليس بمعتبر ( إن كان من الاُمور المعتبرة ) في نفسه ، كما إذا كان القياس في مقابل الخبر الصحيح ، حيث إنَّ الخبر الصحيح معتبر .

وانّما كان معتبراً ( لأجل افادته الّظنّ النّوعي أي : يكون نوعه لو خُلِّيَ وَطبعَه مفيداً للّظن ) فانّ الخبر الصحيح لو خلّي ونفسه أفاد الانسان الظنّ ( وان لم يكن مفيداً له في المقام الخاص ) كما إذا كان خبر زُرارة لم يفد الظنّ لهذا الانسان الخاص - مثلاً- بسبب عوارض خارجية .

( فلا إشكال في عدم وهنه ) أي : وهن ماأفاد الظنّ النوعي وكان معتبراً ( بمقابلته ما علم إعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح ) فانّ الخبر الصحيح

ص: 154

بناءا على كونه من الظنون على هذا الوجه .

ومن هذا القبيل : القياسُ في مقابلة الظواهر اللفظيّة فانّه لا عبرةَ به أصلاً ، بناءا على كون إعتبارها من باب الظنّ النوعيّ ، ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح .

نعم ، لو كان حجّيّتهُ ، سواء كان من باب الظنّ النوعيّ أو كان من باب التعبّد ، مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقف مجالٌ .

-------------------

سنداً ، اذا قابله القياس لايوجب القياس ومنه ( بناءاً على كونه ) أي : كون الخبر الصحيح ( من الظّنون على هذا الوجه ) أي : على وجه إفادة الظنّ النوعي .

( ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الّظواهر اللّفظية ) فان الظهور اللفظي حجّة باعتبار إفادته الظنّ النوعي ، فاذا كان القياس على خلاف الظاهر لم يوجب القياس وهن الظاهر ( فانه لاعبرة به ) أي : بالقياس ( أصلاً ، بناءا على كون إعتبارها ) أي : إعتبار الظواهر ( من باب الظّن النّوعي ) فان الظاهر إنما يكون حجّة لأن نوعه يوجب الظنّ .

( ولو كان ) المقابل له من الأمور المعتبرة ( من باب التعبّد ) قوله : « ولو كان » عطف على قوله : « لاجل إفادته الظنّ النوعي » ( فالأمر أوضح ) لعدم مدخلية الظّن فيه أصلاً ، فوجود الظنّ فيه وعدمه ولو مع الظنّ بالخلاف سواء ، لأن المفروض : انّه حجّة من باب التعبّد لا من باب الظنّ النوعي .

( نعم ، لو كان حجّيته ) أي : ما كان حجّة من السند أو الظاهر ( - سواء كان من باب الظنّ النّوعي ، أو كان من باب التعبّد- مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ) بأن كان السند حجّة اذا لم يظنّ على خلافه ، وكان الظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه ( كان للتوقف مجال ) فيما إذا خالفه القياس الموجب ذلك القياس للظنّ .

ص: 155

ولعلّه الوجهُ ، فيما حكاه بعضُ المعاصرين عن شيخه : أنّه ذكر له مشافهةً : « أنّه يتوقفُ في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه » .

لكنّ هذا القول ، أعني تقييد حجّيّة الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيدٌ في النهاية .

وبالجملة : فيكفي في المطلب ما دلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك .

-------------------

وانّما يتوقف في حجّية السند أو الدلالة حينئذٍ ، لأن المفروض : انّ السند والظاهر حجّة إذا لم يظنّ على خلافه ، والقياس أورث الظنّ على خلافه .

( ولعله ) أي : لعلّ التقيّيد بعدم الظنّ على الخلاف ( الوجه في ماحكاه بعض المعاصرين عن شيخه : انّه ذكر له مشافهة : « انّه يتوقفُ في الّظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف ، حتى القياس ، وأشباهه » ) اي : أشباه القياس ، كالأولوية ، ونحوها .

( لكن هذا القول أعني : تقييد حجّية الّظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ، بعيدٌ في النّهاية ) إذ لادليل عليه ، بل العقلاءيذمون من لم يعمل بالحجّة معتذراً بالّظن على خلافها .

( وبالجملة : فيكفي في المطلب ) أي : في عدم كون القياس الذي هو ظّن غير معتبر موهناً ، سواء كان القياس مخالفاً للسند ، أم للدلالة اُمور :

أوّلاً : ( مادلّ على عدم جواز الاعتناء بالقياس ) فانه يشمل ماكان القياس دليلاً ، أو جابراً ، أو موهناً .

ثانياً : ( مضافاً الى استمرار سيرة الاصحاب على ذلك ) اي : عدم الاعتناء

ص: 156

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس - معلّلاً بما حاصله غلبةُ مخالفته للواقع - يقتضي أن لا يترتب شرعا على القياس أثرٌ ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر التّعليل أنّه كالموهوم .

فكما لا ينجبر به ضعيفٌ ، لا يضعّف به قويّ .

-------------------

بالقياس مطلقاً .

ثالثا : ( مع انّه يمكن أن يقال : انّ مقتضى النهي عن القياس معللاً بما حاصله : غلبة مخالفته للواقع ) وإن مايفسده أكثر ممّا يصلحه ، وانّه يوجب محق الدين ، وما أشبه ، وهو ( يقتضي أن لايترتب شرعاً على القياس أثر ، لامن حيث تأثيره في الكشف ) فلا يكون القياس حجّة بنفسه ( ولا من حيث قدحه ) فلا يكون القياس موهناً لغيره ( فيما هو كاشف بالذّات ) أي : لايكون القياس موهناً لماله كشف نوعي - كما عرفت - .

وعليه : ( فحكمه ) أي : حكم القياس ( حكم عدمه ) فكأنه لم يكن ( فكأنّ مضمونه ) أي : مضمون القياس ( مشكوك لا مظنون ) ومن المعلوم : انّ الشك ليس بحجّة ولايكون موهناً ( بل مقتضى ظاهر التّعليل ) في النهي عن القياس ( : انه كالموهوم ) الذي هو أسوء من المظنون ، لأن ذلك هو معنى : كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه .

إذن : ( فكما لاينجبر به ) أي : بالقياس ( ضعيف ) السند أو الدلالة ( لا يضعّف به ) أي بالقياس ( قويّ ) السند أو الدلالة ، فالقوي على حاله ، سواء كان القياس مخالفاً له أم لا .

ص: 157

ويؤيّد ما ذكرنا الروايةُ المتقدّمةُ عن أبان الدّالة على ردع الامام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع وهذا حسنٌ .

لكنّ الأحسنَ منه تخصيصُ ذلك بما كان إعتباره من قِبَل الشارع .

كما لو دلّ الشرع على حجّيّة الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه .

فان نفي الأثر شرعا عن الظنّ القياسيّ يوجب بقاء إعتبار تلك

-------------------

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من انّ القياس وجوده كعدمه ( :الرّوايةُ المتقدّمة عن أَبان الدّالّة على ردع الإمام ) عليه السلام ( له ) أي : لأبان ( في رد الخبر الواحد في تنصيف ديّة أصابع المرأة بمجرد مخالفته للقياس ) قوله : « بمجرد » ، متعلق بقوله : « رد » ( فراجع ) كي تعلم إنّ القياس كالمشكوك ، بل كالموهوم ، في انّه لايصح أن يكون مستنداً ، ولاموهناً ، ولا جابراً .

( وهذا ) أي : هذا الذي ذكرناه : من انّ القياس لايكون له شأن في أي من الاُمور الشرعية ( حَسَنٌ ) لما ذكرناه .

( لكنّ الأَحسنَ منه تخصيص ذلك ) أي : تخصيص انّ القياس ليس موهناً ( بما كان إعتباره من قِبَل الشارع ) فالشئالذي إعتبره الشارع لايكون القياس - وان أورث الظنّ بخلافه - موهناً له .

( كما لو دلّ الشّرع على حجّية الخبر مالم يكن الظنّ على خلافه ) بأن قال الشارع : الخبر حجّة مالم يكن ظنّ على خلافه ، فان القياس إذا سبّب الظنّ على الخلاف لم يكن هذا القياس حجّة ، لأن الشرع لما أسقط القياس دل على انه ليس بدليل ، ولا جابر ولا كاسر .

وعليه : ( فانّ نفي الأثر شرعاً عن الظنّ القياسي ، يوجب بقاء إعتبار تلك

ص: 158

الأمارة على حاله .

وأمّا ما كان إعتباره من باب بناء العُرف وكان مرجعُ حجّيّته شرعا إلى تقرير ذلك البناء ، كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع .

فتأثير الظنّ بالخلاف في القدح في حجّيّة الظواهر

-------------------

الأمارة ) التي هي حجّة ( على حاله ) أي : حال تلك الأمارة ، وانمّا أتى بضمير المذكر ،لافادة انّ الأمارة دليل .

والحاصل : انّ الشارع إذا قال : الأمارة حجّة مالم يظنّ على خلافها ، فكان الظّن القياسي على خلافها ، لم يسقط القياس تلك الأمارة عن الحجّية ، لأن الظنّ القياسي وجوده كعدمه عند الشارع ، فكأن تلك الأمارة لا ظنّ على خلافها .

( وأمّا ماكان إعتباره من باب بناء العرف ، وكان مرجع حجيته ) الضمير في « حجيته » راجع الى « ماكان » ( شرعا الى تقرير ذلك البناء ) العرفي ( كظواهر الألفاظ ، فانّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم ) فانّ العرف لايعملون بظاهر كان القياس مخالفاً لذلك الظاهر ( فلا يرتفع ذلك ) أي : ظهور الظاهر عن الحجّية بسبب القياس المخالف لذلك الظاهر .

وإنّما لايرتفع حجيته ( بماورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع ) فان الشارع إنّما جعل الحجّية لظاهر ، هو عند العرف حجّة ، والعرف لا يرى الحجّية لظاهرٍ خالفه القياس .

وعليه : ( فتأثير الظنّ ) القياسي ( بالخلاف ، في القدح في حجّية الظواهر ) حيث قلنا : إنّ القياس يسقط الظاهر عن الحجّية عند العرف ، والشارع إنما جعل الظواهر حجّة إذا كان العرف يرون حجيتّها .

ص: 159

ليس مثلَ تأثيره في القدح في حجّيّة الخبر غير المظنون الخلاف في كونه مجعولاً شرعيّا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ، لأنّ المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا هي الآثار المجعولة دون غيرها .

نعم ، يمكن أن يُقال : إنّ العرفَ بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع

-------------------

فان تأثير ذلك فيه ( ليس مثل تأثيره ) أي : تأثير الظنّ بالخلاف ( في القدح في حجّية الخبر ، غير المظنون الخلاف ) ممّا لم يكن الظنّ القياسي على خلافه ( في كونه مجعولاً شرعياً ، يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ) فانّ الشارع إذا جعل الشيء حجة وكان القياس على خلافه ، لم يضر القياس بحجّية ذلك الشيء ، لأن الشارع لم يجعل القياس مؤثراً ، فسواء كان القياس على خلافه أم لا ، يكون حجّة ، وانّما لايضر القياس بالحجّة المجعولة شرعاً ( لأن المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشئالموجود حسّاً ) والمراد بالشئ: هو الظنّ القياسي ( هي الآثار المجعولة دون غيرها ) والأثر المجعول للظن بالخلاف فيما نحن فيه ، لايكون إلا في حجيّة الخبر ، دون حجّية الظواهر ، فيرتفع أثر الظنّ القياسي بالخلاف في حجيّة الخبر ، فاذا كان القياس على خلاف الخبر لايعتنى بالقياس ويؤخذ بالخبر ، لإن الشارع نفى إعتبار القياس .

لكن إذا كان القياس مخالفاً للظواهر أثَّر القياس في إسقاط حجيتّها ، لأنّ الشارع جعل الحجّية للظواهر التي يراها العرف حجّة ، والظاهر الذي مخالف للقياس لايراه العرف حجّة ، فلا يراه الشرع حجّة .

( نعم ) هذا إستثناء من قوله : لكن الأحسن منه ، وهو انّه ( يمكن أن يقال : انّ العُرفَ بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع ) وانّه منع عن العمل بالقياس

ص: 160

لا يعبأون به في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته ، فيكون النهيُ عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها للقياس .

وممّا ذكرنا يعلمُ حالُ القياس في مقابل الدّليل الثابت حجّيّته بشرط الظنّ .

كما لو جعلنا الحجّةَ من الأخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها ،

-------------------

منعاً أكيداً ( لايعبأون به ) أي : بالقياس ( في مقام إستنباط أحكام الشارع من خطاباته ) أي : من خطابات الشارع ، فلا يرون للقياس مدخلية في إستنباط الأحكام إطلاقاً ، لا استناداً ، ولاترجيحاً ، ولاتأييداً .

وعليه : ( فيكون النهي ) من الشارع ( عن القياس ، ردعاً لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها ) أي : مخالفة تلك الظواهر ( للقياس ) أي : ان العرف يبنون على تعطيل الظواهر لأجل انّها تخالف القياس ، فلايأخذون بالظواهر ، لكن بعد نهي الشارع عن القياس ، يأخذون بالظواهر ويتركون القياس .

( وممّا ذكرنا ) : من إنّ القياس هل يكسر الظاهر فيسقط الظاهر عن الحجيّة ، أو أن الظاهر يؤخذ به وان خالفه القياس وانّما القياس هو الذي يسقط ، ( يعلم حال القياس فيمقابل الدليل الثابت حجيته بشرط الظنّ ) وانّه هل يعمل فيه بالقياس أو يعمل بالدليل ؟ .

( كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار : المظنون الصدور منها ) أي : من تلك الأخبار ، بأن لم نقل الاخبار مطلقاً حجّة ، وانمّا الاخبار المظنونة الصدور حجّة ( أو الموثوق به منها ) بأن يكون الحجّة من الأخبار هي الأخبار المظنونة الصدور بالظن الاطمئناني .

ص: 161

فانّ في وهنها بالقياس الوجهين : من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجّيتها على وجه الشرطيّة ، فمرجعه إلى فقدان شرط وجدانيّ ، أعني وصف الظنّ بسبب القياس .

ونفي الآثار الشرعيّة للظنّ القياسيِّ لا يُجدي ، لأنّ الأثر المذكور ، أعني رفع الظنّ ، ليس من الاُمور المجعولة ،

-------------------

( فان في وهنها ) أي : وهن تلك الأخبار ( بالقياس ) أي : بسبب القياس ( الوجهين ) المتقدمين : فيانهّ هل يؤخذ بالقياس أو يؤخذ بالأخبار ؟ .

ثم بيّن الوجه الأول بقوله : ( من حيث ) إنّ القياس يكسر الحجّة ، لأجل ( رفعه ) أي : رفع القياس ( للقيد المأخوذ في حجيّتها ) أي : في حجّية تلك الأخبار ( على وجه الشرطية ) لأن تلك الأخبار حجيتها من جهة الظنّ مطلقا أو من جهة الظنّ الاطمئناني ، ومن المعلوم : إنّ القياس يرفع هذا الظنّ فتسقط الأخبار عن الحجيّة .

( فمرجعه ) أي : مرجع رفع القياس للقيد المأخوذ ( الى فقدان شرط وجداني ) عن تلك الأخبار - ( أعني : وصف الظنّ - بسبب القياس ) قوله : « بسبب » ، متعلق بقوله : « فقدان » .

هذا ( ونفي الآثار الشرعية للظنّ القياسيِّ لايُجدي ، لأنَّ الأثر المذكور أعني : رفع الظنّ ليس من الاُمور المجعولة ) للشارع حتى ينتفي بنفي الآثار الشرعية للظنّ القياسي .

قوله : «ونفي الاثار ...» عبارة عن إشكال ، وهو : إنّ الشارع رفع أثر القياس ، فكيف يكسر القياس الخبر الذي هو حجّة ؟ فاجاب عنه بقوله : « لا يجدي ...» ممّا حاصله : ان القياس يرفع الظّن ، والظنّ معتبر في حجّية الخبر .

ص: 162

ومن أنّ أصل إشتراط الظنّ من الشارع ، فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المُزاحَمَ بالظنّ القياسيّ لا يُنقَصُ أصلاً من حيث الايصال إلى الواقع وعدمه من الخبر السليم عن مزاحمته ، وإن وجود القياس وعدمه في نظره سيّان .

فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدٍّ سواء .

ومن هنا

-------------------

( ومن انّ أصل إشتراط الظنّ من الشارع ) وهذا وجه عدم كسر القياس للحجة ، ( فاذا علمنا من الشارع إنّ الخبر المُزاحَم بالظنّ القياسي ) حيث ان القياس ضد الخبر ( لايُنقَصُ ) هذا الخبر ( أصلاً من حيث الايصال الى الواقع وعدمه ) أي : عدم : الايصال ( من الخبر السليم عن مزاحمته ) أي : عن مزاحمة القياس ( وإنّ وجود القياس وعدمه في نظره ) أي : في نظر الشارع ( سيّان ) أي : متساويان .

وعليه : فاذا علمنا ذلك ( فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء ) والمراد بالخبرين : هما الخبران اللذان أحدهما خالف القياس ، والآخر لم يخالف القياس ، فانّه إذا كان القياس وجوده كعدمه ، فالخبر بذاته مظنون وإن لم يكن الظنّ فعلياً لمزاحمة القياس ، فالخبر المظنون بذاته حجّة ، سواء كان هناك ظنّ فعلي بمضمون الخبر ، أو لم يكن ظنّ فعلي ، لأنّ القياس الذي هو مظنون عارض الخبر .

ولا يخفى : ان الوجه الثاني الذي أشار اليه بقوله : «ومن ان اصل اشتراط الظنّ من الشارع ...» هو الذي قرّبه المصنّف سابقاً ويقرِّبه لاحقاً .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرناه : من ان الخبر المظنون الذي هو حجة ، ان كان إعتبار ظنّه من الشارع لم يعارضه القياس ، وان لم يكن إعتبار ظنّه من الشارع

ص: 163

يمكن جريان التفصيل السابق : بأنّه إن كان الدليل المذكور المقيّد اعتبارُه بالظنّ ممّا دلّ الشرعُ على إعتباره ، لم يزاحمه القياسُ الذي دلّ الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين اللّه ، وإن كان ممّا دلّ على إعتباره العقلُ الحاكمُ بتعيين الأخذ بالراجح عند إنسداد باب العلم والطرق الشرعيّة ، فلا وجهَ لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجّيّته أعني الظنّ .

فانّ غايةَ الأمر صيرورةُ مورد إجتماع تلك الأمارة والقياس مشكوكا ،

-------------------

عارضه القياس وأسقطه ( يمكن جريان التفصيل السابق ) هنا وهو : ( بأنّه إن كان الدليل المذكور ) كالخبر ( المقيد إعتبارهُ بالظّن ، ممّا دل الشرع على إعتباره ) أي : على اعتبار ذلك الظنّ ( لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه ) أي : على كون القياس ( كالعدم من جميع الجهات الّتي لها مدخل في الوصول الى دين اللّه ) فكلّ شيء له مدخلية في الوصول الى دين اللّه سبحانه وتعالى لايعارضه القياس ، كما لايؤده .

( وإن كان ممّا دلّ على إعتباره العقل ، الحاكم بتعيين الأخذ بالرّاجح عند إنسداد باب العلم والطرق الشرّعية ) بأن كان الظنّ حجيته من باب الانسداد ( فلا وجه لاعتباره ) أي : إعتبار ذلك الظنّ الذي دلّ عليه العقل ( مع مزاحمة القياس ) لهذا الظنّ ( الرافع لما هو مناط حجيّته ) أي : حجيّة ذلك الخبر الذي عارضه القياس ( أعني : الظنّ ) قوله : « أعني » ، بيان لقوله : « مناط حجيته » .

وعليه : فاذا عارض القياس الظنّ الانسدادي قدم القياس عليه ، لأن الدليل مستند الى العقل والقياس يرفع هذا الدليل العقلي .

( فان غاية الأمر : صيرورة مورد إجتماع تلك الأمارة والقياس ، مشكوكاً )

ص: 164

فلا يحكم العقلُ فيه بشيء ، إلاّ أن يدّعيَ المدّعي أنّ العقلَ بعد تبيّن حال القياس لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به عن القوّة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم وإن كان لا يعبّر عن تلك القوة حينئذٍ بالظنّ وعن مقابلها بالوهم .

والحاصل : أنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا

-------------------

بأنه هل يعمل بتلك الأمارة الانسدادية ، أو يعمل بالقياس ؟ ( فلا يحكم العقل فيه ) أي : في هذا المورد المشكوك ( بشيء ) من الحجيّة أو اللاحجيّة ، وإذا لم يحكم العقل بشيء من الحجية أو اللاحجية ، سقطت تلك الأمارة المستندة الى الانسداد .

والحاصل : إنّ القياس إذا خالف الأمارة الانسدادية فاما أن نقول بتقدم القياس على الأمارة ، أو نقول بتعارضهما وتساقطهما فان النتيجة : عدم وجود الحجة .

( إلاّ أن يدّعي المدّعي ) عدم إسقاط القياس للامارة الانسدادية أيضاً ، ( انّ العقل بعد تبيّن حال القياس ) وانّه لايصيب الواقع ، ولا مدخلية له في دين اللّه ( لايسقط عنده الأمارة المزاحمة به ) أي : بالقياس ( عن القوة التي تكون لها ) أي : لتلك الأمارة ( على تقدير عدم المزاحم ) فالعقل يعمل بالامارة ، سواء خالفها القياس أو لم يخالفها ( وإنْ كان لايعبّر عن تلك القوة حينئذٍ ) أي حين زاحمها القياس ( : بالظنّ ، وعن مقابلها : بالوهم ) فان الأمارة لاظنّ بها حينئذٍ ، إلاّ انّه يعمل بها ولايؤخذ بالقياس .

( والحاصل ) أي : حاصل ما تقدّم من قولنا : إلاّ أن يدعي ( : انّ العقلاء اذا وجدوا في شهرة خاصة ، أو إجماع منقول ) أو ما أشبههما ( مقداراً

ص: 165

من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجأوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم ، وعلموا من حال القياس ببيان الشارع أنّه لا عبرة بما يفيد من الظنّ ولا يرضى الشارع بدخله في دين اللّه ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا ، لأنّه لا ينقصهما عمّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأنيّ والنوعيّ والطبعيّ .

وممّا ذكرنا صحّ للقائلين لأجل الانسداد ، بمطلق الظنّ إلاّ ما خرج ،

-------------------

من القوة والقرب الى الواقع ، والتجأوا الى العمل على طبقهما مع فقد العلم ) لأن المفروض إنسداد باب العلم ( وعلموا من حال القياس ببيان الشارع : انّه لاعبرة بما يفيد ) القياس ( من الظنّ ، ولايرضى الشارع بدخله في دين اللّه ) تعالى .

إذا علموا بذلك ( لم يفرقوا بين كون الشهرة والاجماع المذكورين ) الذين هما مستند الحكم ( مزاحمين بالقياس أم لا ) فان العقلاء يعملون بالشهرة والاجماع ، سواء وافقهما القياس أو خالفهما ، أو لم يكن هناك قياس اصلاً وذلك ( لأنه ) أي : لان القياس ( لاينقصهما ) أي : لاينقص الشهرة والاجماع ( عمّا هما عليه من القوة والمزية المسماة ) تلك القوة المزية ( : بالظن الشأني والنوعيّ والطبعيّ ) .

ثم أن كل هذه الالفاظ الثلاثة في مقابل الظنّ الفعلي ، لأنه بعد القياس لا ظنّ فعلي بتلك الأمارة ، فيسمى بالشأني : لأن من شأنه حصول الظنّ على طبقه ، ويسمى بالنوعي : لأن نوع هذه الأمارة يوجب حصول الظّن ، ويسمى بالطبعي : لأن طبع هذه الأمارة حصول الظنّ بسببها .

( وممّا ذكرنا ) : من إنّ القياس لايكسر الأمارة الانسدادية ( صح للقائلين لأجل الانسداد بمطلق الظنّ ، إلاّ ما خرج ) قوله : « بمطلق » ، متعلق بقوله : « للقائلين » ، أي : صح للقائلين بحجّية مطلق الظنّ لأجل الانسداد إلاّ ما خرج ، وقوله :

ص: 166

أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأنيّ ، بمعنى إنّ الظنّ الشخصيّ إذا إرتفَعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القولُ بذلك على رأي بعضهم ممّن يُجري دليلَ الانسداد في كلّ مسألة مسألة ،

-------------------

« الاّ ما خرج » استثناء عن مطلق الظن ، أي : يقولون بحجيّة مطلق الظنّ إلا الظنّ الذي خرج بدليل .

وعليه : فللقائلين بمطلق الظنّ للإنسداد ( أن يقولوا : بحجيّة الظّن الشأني بمعنى : إنّ الظنّ الشخصي إذا إرتفعت عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد ) وكان الارتفاع ( بسبب الأمارات الخارجة عنه ) أي : الانسداد ( لم يقدح ذلك ) الارتفاع ( في حجيتها ) أي : في حجيّة تلك الأمارات ، وذلك لأن الظنّ الشخصي ليس معياراً في باب الانسداد وانّما المعيار هو الظن الشأني النوعي الطبعي كما عرفت .

( بل يجب القول بذلك ) أي : بعدم القدح ( على رأي بعضهم ) أي : على رأي بعض القائلين بالإنسداد ( ممن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة ) فان في باب الانسداد قولين :

الأوّل : انّه إذا تمت مقدمات الانسداد نعمل بالظّن المطلق في جميع المسائل ، سواء كان في بعض تلك المسائل دليل خاص ، أم لا .

الثاني : انّه إذا تمت مقدّمات الانسداد ، فاللازم أن نجري مقدمات الانسداد في كلّ مسألة مسألة ، فاذا كان في مسألة دليل خاص نعمل بذلك الدليل الخاص ، ولانعمل فيها بالظنّ الانسدادي ، لانّه إذا جاء الدليل الخاص فلا مجال للعمل بالظنّ الانسدادي .

ص: 167

لأنّه إذا فرض في مسألة وجودُ أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجهَ للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم .

هذا كلّه مع إستمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهيّة وعدم الاعتناء في الكتب الاصوليّة .

فلو كان له أثر شرعيّ ولو في الوهن ، لوجب التعرّض لأحكامه في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في كلّ مورد من موارد الفروع ،

-------------------

وإنّما قلنا : بل يجب ( لأنه إذا فرض في مسألة ) خاصة ( وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ) بسبب القياس .

( فافهم ) ولعله إشارة الى انّه يختلف الأمر بين الحكومة : فالقياس مزاحم وموجب لإسقاط الأمارة ، وبين الكشف : فليس القياس بمزاحم لأن العقل لا يرى القياس مزاحماً ، بينما الشرع يراه مزاحماً .

( هذا كلّه ) تقريب للأخذ بالأمارة في قبال القياس ( مع إستمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهية ) سواء كان العامل بالفقه إنسدادياً أو إنفتاحياً ( وعدم الاعتناء في الكتب الاصولية ) بالقياس .

( فلو كان له ) أي : للقياس ( أثر شرعي ولو في الوهن ) للامارة المقابلة للقياس ( لوجب التعرّض لأحكامه ) أي : أحكام القياس ( في الاصول ) بأن يقولوا : انّه حجّة أو ليس بحجة ، وانّه جابر ، أو موهن ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) لوجب ( البحث والتفتيش عن وجوده ) أي : عن وجود القياس ( في كل مورد من موارد الفروع ) بأن يقول - مثلاً - إن خبر أبان في قطع أصابع المرأة موهوم ، لأنّه مخالف للقياس ، أو أن إعطاء الدرهم للودعيين بالتنصيف مخالف للقياس ، أو ما أشبه ذلك ، بينما لم نعهدهم يقولون بمثل ذلك في أي فرع

ص: 168

لأنّ الفحصَ عن الموهن كالفحص عن المعارض واجبٌ ، وقد تركه أصحابنا في الاُصول والفروع ، بل تركوا روايات من إعتنى به منهم وإن كان من المؤسّسين لتقرير الاُصول ، وتحرير الفروع ، كالاسكافيّ ، الذي نسب اِليه بناء تدوين « اصول الفقه » من الاماميّة منه ومن العمّانيّ يعني ابن ابي عقيل ، وفي كلام آخر : إنّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلّة منهما أيضا ، جزاهما اللّه وجميعَ من سَبَقَهُما ولحقَهُما خيرَ الجزاء .

-------------------

من فروع الفقه .

وانّما يجب الفحص ( لأن الفحص عن الموهن ، كالفحص عن المعارض واجبٌ ) لأنّه مقدمة لحصول الأحكام ، ومقدمة حصول الأحكام واجبة كما ذكروا.

( و ) لكن نرى ( قد تركه ) أي : ترك البحث والتفتيش عن القياس ، وعن ذكر أحكامه ( أصحابنا في الاصول والفروع ) ممّا يدل على قيام سيرتهم على عدم ملاحظة القياس لا دليلاً ، ولا مؤيداً ، ولا موهنا .

( بل تركوا ) أي : الاصحاب ( روايات من إعتنى به ) أي : بالقياس ( منهم وإن كان من المؤسسين لتقرير الاُصول وتحرير الفروع ، كالاسكافي ) وهو : إبن الجُنيد ( الذي نسب اليه : بناء تدوين « اصول الفقه » من الامامية منه ) أي من الاسكافي ، فانّه أول من دوّن في اصول الفقه .

( ومن العماني يعني : إبن أبي عقيل ) ، فان العُماني شارك الاسكافي في التدوين ، ولهذا عبر عنهما بالقديمين حيث انّهما ( قدّس سرّهما ) أول من دوّنا في الاصول . ( وفي كلام آخر ) هذا عطف على قوله : « نسب اليه » : ( انّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلة منهما أيضاً ، جزاهما اللّه وجميع من سبَقَهُما ولحقهما خير الجزاء ) .

ص: 169

ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التقصّي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه على التكلّم فيما سطرنا هيهنا نقضا وإبراما .

هذا تمامُ الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظنّ المنهيّ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه .

وأمّا الظنُّ الذي لم يثبت إلغاؤه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ،

-------------------

هذا ، ولكن أجوبة المسائل وذكر الفتاوى في كتب الأخبار - بالمناسبة - كان قبلهما أيضاً ، وإنّما هما أول من دوّن في الفقه على إسلوب الرسائل العمليّة المتداولة اليوم .

( ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا - في التفصيّ عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد - من الوجوه ) قوله : « من الوجوه » ، متعلق بقوله : « ماذكرنا » أي : بملاحظة تلك الوجوه تقدر ( على التكلم فيما سطرنا هيهنا ) في الموهنية ( نقضا وإبراما ) فانّه كما يستشكل على خروج القياس عن الحجّية الانسدادية ، مع انّه موجب للظنّ ، كذلك يستشكل بأنه كيف لايكون القياس موهناً ، مع إن الظّن الانسدادي حجّة مطلقاً ؟ والجواب عن هذا الاشكال في الوهن هو الجواب عن الاشكال في عدم الحجيّة .

( هذا تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة ) كالشهرة ونحوها وهنا ( بالظنّ المنهي عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه ) كالاستحسان ، والرأي ، وما أشبه ذلك.

( وأمّا الظنّ الذي لم يثبت الغاؤه الاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ) كالظنّ الحاصل من الجَفر ، والرّمل ، والرُّؤيا ، وما أشبه ذلك

ص: 170

فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارُها مشروطا بعدم الظنّ بالخلاف ، فضلاً عمّا كان اعتبارُه مشروطا بافادة الظنّ .

والسرّ فيه انتفاء الشرط .

وتوهُم « جريان ما ذكرنا في القياس هنا من جهة انّ النّهي يدلّ على عدم كونه مؤثرا أصلاً فوجوده

-------------------

( فلا إشكال في وهنه ) فان مثل هذا الظنّ موهن ( لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظّن بالخلاف ) لأن مثل هذه الظنّ يوجب فقد الشرط ، وإذا فقد الشرط فقد المشروط الذي هو حجيّة تلك الأمارة ( فضلاً ) في كون مثل هذا الظّن موهناً ( عما كان إعتباره مشروطاً بافادة الظن ) .

فاذا إعتبر في حجيّة الشهرة - مثلاً - عدم الظنّ بالخلاف ، وظنّ الشخص بالخلاف من جهة الجَفر - مثلاً - ، فانّه لايمكن العمل بالشهرة ، أما إذا قلنا : بأن حجيّة الشهرة مشروطة بأن يظنّ الانسان وفق الشهرة ، فاذا ظنّ الانسان من الجفر على خلاف الشهرة ، كان سقوط الشهرة عن الحجيّة بطريق أولى .

( والسرّ فيه ) أي : في كون الظنّ بالخلاف موهناً ( إنتفاء الشرط ) لفرض : أن الشهرة مشروطة بالظّن بالوفاق أو بعدم الظّن بالخلاف ، وقد فقد الشرط بسبب الظنّ الذي كان على خلاف الشهرة .

( وتوهم جريان ما ذكرنا في القياس ) من عدم الوهن فيعمل بالامارة في قِبال الظنّ بالخلاف ( هنا ) أي : في الظنّ الذي لم يثبت الغائه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن .

وانّما يتوهم جريانه هنا ( من جهة ان النهي ) عن العمل بالظّن ( يدل على عدم كونه مؤثراً أصلاً ) حتى في الوهن ( فوجوده ) أي : وجود الظّن الذي لم يثبت

ص: 171

كعدمه من جميع الجهات » ، مدفوعٌ .

كما أنّه لا إشكال في عدم الوهنيّة إذا كان إعتبارها من باب الظنّ النوعيّ .

المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

وقد عرفت أنّه على قسمين : أحدُهما ما ورد النهيُ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه .

-------------------

الغائه الاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظّن ( كعدمه من جميع الجهات ) فلا يكون مثل هذا الظنّ جابراً ، أو كاسراً ، أو مستنداً ، بل يكون كالظنّ القياسي فان هذا التوهم ( مدفوع ) بالفرق بين القياس المنهي عنه بالخصوص ، وغير القياس الذي لم ينه عنه بالخصوص وانّما لايعمل به لأنه داخل في إطلاق حرمة العمل بالظّن ، فلا يكون القياس موهناً بينما يكون هذا الظنّ موهنا ، لأن هذا الظّن يوجب فقد الشرط على ماعرفت .

( كما انّه لا إشكال في عدم الوهنية ) بالظّن الذي لم يثبت إلغائه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ( إذا كان إعتبارها ) أي : إعتبار الأمارة المقابلة لهذا الظّن ( من باب الظنّ النوعيّ ) .

وانّما لم يكن إشكال في عدم الوهنية لبقاء شرط إعتبارها مع فقدان الظنّ الفعلي للظنّ بالخلاف ، إذ المفروض : ان الأمارة المذكورة لاتحتاج الى الظنّ الفعلي حتى إذا فقدنا الظنّ الفعلي سقطت عن الحجيّة .

( المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر ) وانّه هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجحاً لأحد الخبرين على الآخر فيما إذا تعارض خبران أم لا ؟ ( وقد عرفت : انه ) أي : الظنّ غير المعتبر ( على قسمين ) كما يلي : ( أحدهما : ماورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه ) من الاستحسان والرأي .

ص: 172

والآخرُ ما لم يعتبر ، لأجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمة .

أمّا الأوّل ، فالظاهر من أصحابنا عدمُ الترجيح به .

نعم ، يظهر من المَعارج وجودُ القول به بين أصحابنا ، حيث قال في باب القياس : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياسُ موافقا لما تضمنّه أحدُهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيحَ ذلك الخبر ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العملُ بهما ولا طرحُهُما ، فتعيّن العملُ بأحدهما ، وإذا كان التقديرُ تقديرَ التعارض ،

-------------------

( والآخر : مالم يعتبر لأجل عدم الدليل ، وبقائه تحت أصالة الحرمة ) المستفادة من النهي عن العمل بالظّن ، كالرّؤيا ، والجَفر ، والرَّمل ، وغير ذلك .

( أما الأول ) : وهو ما ورد النهي عنه بالخصوص ( فالظاهر من أصحابنا : عدم الترجيح به ) أي بهذا الظنّ غير المعتبر .

( نعم ، يظهر من المعارج ) للمحقق قدس سره ( وجود القول به ) أي : بالترجيح بسبب القياس ( بين أصحابنا ) الامامية ، ( حيث قال في باب القياس : ذهب ذاهب ) أي : بعض الفقهاء ( الى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقاً لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك ) أي : موافقه القياس ( وجهاً يقتضي ترجيح ذلك الخبر ) الموافق للقياس به .

( ويمكن أن يحتج لذلك ) أي : لترجيح القياس لأحد الخبرين المتعارضين ( : بأن الحق في أحد الخبرين ) المتعارضين ( فلا يمكن العمل بهما ) لتعارضهما ( ولا طرحهما ) والعمل بشيء ثالث ، لانّا نعلم إنّ الحق في أحدهما ( فتعين العمل بأحدهما ) فقط ( وإذا كان التقديرُ ) أي الفرض ( تقديرَ التعارض ) ومقاومة

ص: 173

فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياسُ يصلحُ أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العملُ بما طابقه .

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياسَ مطروحٌ في الشريعة .

لأنا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنْ لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدةَ كونه مرجّحا كونُه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجحُ كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، لا بذلك القياس .

-------------------

كل واحد منهما للآخر ( فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ) سواء كان مرجحاً منصوصاً أو غير منصوص .

وعليه : فان لم يكن هناك مرجحات خارجية أو داخلية تصل النوبة الى القياس ( و ) ذلك لأن ( القياس يصلح أن يكون مرجّحاً لحصول الظنّ به ) والخبر الموافق للقياس نظنّ بكونه مطابقاً للواقع ( فتعين العمل بما طابقه ) القياس .

( لا يقال : أجمعنا ) نحن الإمامية ( على إنّ القياس مطروح في الشريعة ) الاسلامية فكيف تجعلونه مرجحاً لأحد الخبرين ؟ .

( لأنا نقول ) طرح القياس ( بمعنى : انه ليس بدليل على الحكم ) أي : إذا قام القياس على حكم ، لا نعمل به ( لا بمعنى أن لا يكون ) القياس ( مرجّحاً لأحد الخبرين ) فلا دليل على أنه لا يقع مرجحاً ، وانّما الدليل على أنه لا يقع دليلاً .

( وهذا ) الترجيح بالقياس إنّما هو ( لأنّ فائدة كونه مرجّحاً كونه رافعاً للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح ) بسبب القياس ، ( كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ) أي : بالخبر الراجح ( لا بذلك القياس ) المرجّح له ، فالخبر المرجوح يسقط بسبب القياس فيبقى الخبر الراجح بلا معارض فنعمل

ص: 174

وفيه نظرٌ » ، انتهى .

ومال الى ذلك بعضُ سادة مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، بعضَ الميل .

والحقّ خلافهُ ، لأنّ دفع الخبر المرجوح بالقياس عملُ به حقيقةً ، فانّه لولا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به ،

-------------------

بهذا الخبر الراجح .

( وفيه : ) أي : فيما ذهب إليه الذاهب من ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بسبب القياس ( نظر ) (1) لأن طرح القياس في الشريعة معناه : انّه لا إعتناء به إطلاقاً ، لا سنداً ، ولا مرجحاً ، ولا موهناً .

هذا بالاضافة إلى انّه لو كان القياس مرجحاً ، لتعرَّضَ له الفقهاء في مقام التراجيح ، بينما نرى انّهم لا يتعرضون للقياس إطلاقاً .

( إنتهى ) كلام المحقق في المعارج .

( ومال الى ذلك ) أي : الترجيح بسبب القياس ( بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس سرهم بعضَ الميل ) أيضاً .

( و ) لكن ( الحق خلافه ) فلا يكون القياس مرجحاً ( لأن دفع الخبر المرجوح بالقياس ) قوله : « بالقياس » ، متعلق بقوله : « دفع الخبر » ، هو ( عمل به ) أي : بالقياس ( حقيقة ) .

وانّما كان عملاً به حقيقة لما بيّنه لقوله ( فانّه لولا القياس ، كان العمل به ) أي : بالخبر المرجوح ( جائزاً ) لأنه يكون حينئذٍ تخيير بين الأخذ بأحد الخبرين ( والمقصود ) من الترجيح بالقياس ( تحريم العمل به ) أي : بالخبر المرجوح

ص: 175


1- - معارج الاصول : ص186 .

لأجل القياس ، وأيُّ عمل أعظمُ من هذا .

والفرق بين المرجّح والدليل ليس إلاّ أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به والمرجّح رافع للمزاحم عنه . فلكلّ منهما مدخلٌ في العلّة التامّة لتعيّن العمل به .

فاذا كان إستعمالُ القياسِ محظورا وأنّه لا يعبأ به في الشرعيّات كان وجودُه كعدمه غيرَ مؤثّر ،

-------------------

تحريماً ( لأجل القياس ، وأيّ عمل أعظم من هذا ) فان جواز العمل بالمرجوح سقط بسبب القياس وهذا عين العمل بالقياس .

( والفرق بين المرجح والدليل ليس إلاّ : أنّ الدليل مقتض لتعيين العمل به ) أي : بالراجح ( والمرجّح : رافع للمزاحم عنه ) أي : عن الراجح ( فلكل منهما ) أي : من المرجح والدليل ( مدخلٌ في العلّة التامة لتعيّن العمل به ) أي : بالراجح ، فاذا قال خبر : « ثَمنُ العَذَرَةِ سُحت » (1) وقال خبر آخر : « لا بَأسَ بِبَيع العَذَرَةِ » (2) فانّه لا فرق بين أن يكون القياس دليلاً على « لا بَأس بِبَيعِ العَذَرةِ » ومرجحاً ل « لا بَأسَ بِبيَعِ العَذَرة » حيث يسقط بالقياس خبر : « ثَمنُ العَذر سُحت » .

( فاذا كان إستعمال القياس محظوراً ) في الشريعة ( وإنّه لا يعبأ به ) أي : بالقياس ( في الشرعيّات ) إطلاقاً كما يقتضي دليل حرمة العمل بالقياس ( كان وجوده) أي : وجود القياس (كعدمه غير مؤثر) لا في الاقتضاء ولا في رفع المانع .

ص: 176


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مع أنّ مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظنّ كونُهُ من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ، فيشترك مع الدليل المنضّم إليه في الاقتضاء .

هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ .

وأمّا على مذهبهم : فيكون القياسُ تمام المقتضي بناءا على كون الحجّة عندهم الظنّ الفعليّ ، لأنّ الجزء المنضمّ إليه

-------------------

والحاصل من إشكال الترجيح بالقياس امور :

أوّلا : إن القياس إذا دفع المزاحم كان عملاً به .

ثانياً : إن القياس إذا كان مرجحاً ، كان جزء المقتضي لا مجرد دفع المزاحم .

والى هذا الثاني اشار بقوله : ( مع إن مقتضى الاستناد في الترجيح به ) أي : بالقياس ( الى إفادته للظّن ، كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ) وقوله : « الى إفادته » ، متعلق بقوله : « الاستناد » ( فيشترك ) القياس ( مع الدليل المنضم اليه ) أي : الدليل الذي رجحناه بسبب القياس ( في الاقتضاء ) قوله : « في » ، متعلق بقوله : « يشترك » ، فيكونا جزئيّ مقتض : جزء هو الخبر ، وجزء هو القياس الذي إنضم الى الخبر .

ثمّ أن المصنّف اشار الى إشكال ثالث بقوله : ( هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ ، وأمّا على مذهبهم : فيكون القياس تمام المقتضي ) لاجزء المقتضي ( بناءاً على كون الحجّة عندهم ) أي : عند هؤلاء القائلين بمطلق الظنّ هو ( : الظّن الفعليّ ) .

وانّما يكون القياس على قولهم : تمام المقتضي ( لأنّ الجزء المنضم اليه )

ص: 177

ليس له مدخلٌ في حصول الظنّ الفعليّ بمضمونه .

نعم ، قد يكون الظنّ مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي ، فتأمّل .

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه

-------------------

القياس وهو الخبر ( ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعلي بمضمونه ) أي : بمضمون الخبر وإنّما المدخلية كلها للقياس .

والحاصل : انّه إذا تعارض خبران فكلّ واحد من الخبرين لا ظنّ بمضمونه ، فلا وجه للعمل به ، فاذا وافق القياس أحد الخبرين وعمل بذلك الموافق ، كان معناه : انا عملنا بالقياس ، فكان القياس كل المقتضي ، إذ القياس هو الذي إقتضى الظّن ، والمفروض : إنّ هؤلاء القائلين يعملون بمطلق الظّن فيكون عملهم بالقياس فقط ، فلا يكون القياس جزء المقتضي ، وإنمّا يكون كلّ المقتضي .

( نعم ) وهذا إستثناء من قوله هذا كلّه ( قد يكون الظنّ مستنداً إليهما ) أي : الى القياس ، والى الخبر المنضم إليه القياس ( فيصير ) القياس ( من قبيل جزء المقتضي ) لا كل المقتضي .

( فتأمّل ) لعله إشارة الى إنّ كلاً من الخبرين مقتضٍ للظنّ الفعلي ، لكن تساويهما وتعارضهما مانع عن حصول الظنّ الفعلي ، فالظنّ القياسي يرفع هذا المانع عن الخبر الموافق له ، فيحصل الظنّ الفعلي بسبب القياس ، فيكون كل واحد من الخبر والقياس جزءاً من المقتضي ، لا كلّ المقتضي الذي ذكرناه في قولنا : «هذا كله على مذهب غير القائلين بمطلق الظن ...» .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من عدم كون القياس مرجحاً ( بل يدل عليه :

ص: 178

إستمرار سيرة أصحابنا الاماميّة « رضوان اللّه عليهم » في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسيّ أحيانا فضلاً عن أن يتوقّفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر أو الترجيح بمرجّح موجود إلى أن يبحثوا عن القياس .

كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية .

-------------------

إستمرار سيرة أصحابنا الامامية رضوان اللّه عليهم في الاستنباط ، على هجره ) أي : هجر القياس ( وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسي أحياناً ) فانهم أحياناً يحصل لهم الظّن من القياس ، ومع ذلك لا يعملون به ، ممّا يدل على أنّهم لا يجعلون القياس مرجحاً ، كما لا يجعلونه دليلاً .

( فضلاً عن ان يتوقفوا في التخيير بين الخبرين مع عدم مرجّح آخر ، أو الترجيح بمرجّح موجود ) توقفاً ( إلى أن يبحثوا عن القياس ) .

و ( كيف ) يكون عندهم القياس مرجحاً ؟ ( ولو كان كذلك ) أي : كان القياس مرجحاً ( لاحتاجوا الى عنوان مباحث القياس ) بأن يعنونوا القياس في مباحثهم

الاصولية ، كما عنونوا الخبر الواحد ، والظواهر ، والاجماع ، وما أشبه ذلك .

( والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّية ) بأن يبحثوا عن القياس بالمباحث التي يقتضي القياس البحث عنها على تقدير حجّيته ، مثل مبحث أن يكون القياس سنداً ، ومبحث أن يكون القياس مرجحاً ، ومبحث أن يكون القياس موهناً ، ومبحث تعارض القياسين وانّه إذا تعارضا ماذا يعمل معهما الى غير ذلك ، فحيث رأيناهم قد هجروا عنوان القياس ومباحثه ، دلّ على إنّ القياس مطروح عن الاعتبار في الشريعة مطلقاً ، حتى عن كونه مرجّحا لاحد الخبرين .

ص: 179

وأمّا القسم الآخر ، وهو الظنّ الغير المعتبر ، لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل ، فالكلامُ في الترجيح به يقعُ في مقامات .

الأوّلُ : الترجيحُ به في الدلالة بأن يقع التعارضُ بين ظهوري الدليلين ، كما في العامّين من وجه وأشباهه . وهذا لا إختصاصَ له بالدليل الظنّيّ السند ، بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة .

-------------------

( وأما القسم الآخر ) وهذا عطف على قوله قبل صفحة : «المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر وقد عرفت انّه على قسمين» ، ثم ذكر القسم الاول بقوله : «أحدهما : ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه» ، وهنا ذكر القسم الثاني ( و ) قال : ( هو الظنّ غير المعتبر لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل ) بالظنّ حسب ما يستفاد من الأدلة الأربعة ( فالكلام في الترجيح به ) أي : بهذا الظنّ غير المعتبر ( يقع في مقامات ) على النحو التالي :

( الأوّل : الترجيح به في الدلالة ) وذلك ( بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين ، كما في العاميّن من وجه ) حيث إنّ في مورد الاجتماع يكون لكل واحد من الدليلين ظهور فيه ، فيأتي ظنّ غير معتبر ، كالرّؤيا ، والجَفر ، ونحوهما ، لترجيح أحد العاميّن في مورد الاجتماع .

( وأشباهه ) كظهور الأمر في الوجوب ، وظهور ينبغي في الاستحباب وظهور النهي في الحرمة ، وظهور لا ينبغي في الكراهة ، الى آخر هذه الظهورات .

( وهذا ) القسم وهو : الترجيح بالظّن غير المعتبر في الدلالة ( لا إختصاص له بالدليل الظّني السند ) كخبري الواحد ( بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة ) فاذا فرض تعارض الظهور في آيتين ، أو تعارض الظهور في روايتين متواترتين ، يقع الكلام في أنّه هل يرجّح أحد الدلالتين على الآخر بسبب الظنّ غير المعتبر ، أم لا ؟ .

ص: 180

الثاني : الترجيحُ به في وجه الصدور ، بأن نفرض الخبرين صادرين وظاهري الدلالة ، وإنحصر التحيّرُ في تعيين ما صدر لبيان الحِكَم وتمييزه عمّا صدر على وجه التقيّة أو غيرها من الحِكَم المقتضية لبيان خلاف الواقع . وهذا يجري في مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور مع

-------------------

( الثاني : الترجيح به ) أي : بالظنّ غير المعتبر ( في وجه الصدور ) بأنّه هل صدر الخبر تقية ، أو لا ؟ وذلك ( بأن نفرض الخبرين صادرين ) قطعاً ( وظاهري الدلالة ) في مفادهما ( وإنحصر التحيّرُ في تعيين ما صدر لبيان الحكم ، وتمييزه عمّا صدر على وجه التقية ) .

مثلاً : إذا قال خبر : بأن الكافر نجس ، وقال خبر آخر : بأنّه طاهر ، والعامة لهم قولان في المسألة ، فلا نعلم إنّ الخبر الذي قال : بأنّ الكافر طاهر صدر تقية أو أن الخبر القائل : بأنّ الكافر نجس صدر تقية ، وكان هناك مرجّح ظنّي غير معتبر يؤيد هذا ، أو يؤيد ذاك ؟ .

( أو غيرها ) أي : غير التقية ( من الحِكَم ) جمع حكمة ( المقتضية لبيان خلاف الواقع ) مثل حكمة إيقاع الاختلاف بين الشيعة حتى لا يكون لهم طريق واحد ، يُعرفوا به ، وإنْ لم يكن شيء من تلك الأحكام موافقاً للعامّة ، ولذا قال عليه السلام : « أنا خالَفتُ بَيْنَهُم » (1) .

( وهذا ) أي : هذا الترجيح بالظّن غير المعتبر في وجه الصدور ( يجري في مقطوعي الصدور ) كالسُنَّتين المتواترتين ( ومظنوني الصدور ) كالخبرين ( مع

ص: 181


1- - عدّة الاصول : ج1 ص130 .

بقاء الظنّ بالصدور في كلّ منهما .

الثالثُ : الترجيحُ به من حيث الصدور بأن صار بالمرجّح أحدُهما مظنون الصدور .

وأمّا المقام الأوّل

فتفصيل القول فيه : أنّه إن قلنا بأنّ مطلق الظنّ على خلاف الظواهر يُسقِطُها عن الاعتبار لاشتراط حجّيّتها بعدم الظنّ على الخلاف ، فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظنّ المرجّح ،

-------------------

بقاء الظّن بالصدور في كلّ منهما ) وذلك فيما إذا كان أحدهما مقطوع الصدور والآخر مظنون الصدور .

( الثالث : الترجيح به ) أي : بالظنّ غير المعتبر ( من حيث الصدور بأن صار بالمرجّح أحدهما مظنون الصدور ) والآخر موهوم الصدور ، كما إذا كان هناك خبران ثقتان متعارضان لا نعلم إنّ أيّهما مرجح على الآخر من جهة الصدور ، فيأتي الظنّ غير المعتبر ليرجح أحدهما على الآخر .

( أما المقام الاوّل : فتفصيل القول فيه : انّه إن قلنا بأن مطلق الظنّ على خلاف الظواهر ، يُسقِطُها ) أي : يسقط تلك الظواهر ( عن الاعتبار ) .

وإنّما الظّن على خلاف الظاهر يسقط الظاهر عن الاعتبار ( لاشتراط حجيّتها ) أي : حجّية الظواهر ( بعدم الظنّ على الخلاف ) كما قال بذلك بعض .

وعليه : ( فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظّن المرجح ) وذلك لأن الظنّ لما اسقط الظاهر عن الاعتبار لم يكن ظاهر ، وانّما يكون المجال لخلاف ذلك الظاهر وهو الظنّ .

ص: 182

لكن يخرج حينئذٍ عن كونه مرجّحا ، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجّيّة ، لا لدفع مزاحمته للظهور المنضمّ إليه ، فيصير ما وافقه حجّةً سليمةً عن الدليل المعارض .

إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنُّ لأسقطهُ عن الاعتبار .

نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذّ التي لا إعتبار بها ،

-------------------

( لكن يخرج ) الظنّ ( حينئذٍ عن كونه مرجّحاً ، بل يصير سبباً لسقوط الظهور المقابل له ) أي : المقابل للظنّ ( عن الحجّية ) لأن الظاهر حينئذٍ لايكون حجّة وإنّما يكون الظنّ وحده هو الذي يجب العمل به ، وذلك ( لا لدفع مزاحمته للظهور المنضم إليه ) أي : إنّ الاسقاط ليس من جهة المزاحمة ( فيصير ما وافقه ) أي : ما وافق الظّن ( حجّةً سليمة عن الدليل المعارض ) ، بل لبقاء الظنّ وحده .

وإنّما قلنا : لا لدفع المزاحمة ( إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنّ ) بأن لم يكن خبر يوافق هذا الظنّ ، وانّما كان هناك ظنّ وكان ظهور على خلاف ذلك الظنّ ( لأسقطه عن الاعتبار ) أي : لأسقط الظّن الشيء المقابل له عن الاعتبار .

وعليه : فالظن يكون حينئذٍ ( نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذ الّتي لا إعتبار بها ) فإنّه إذا كان هناك خبران أحدهما موافق للشهرة ، والآخر مخالف لها ، اسقط الشهرة الخبر المخالف عن الاعتبار إطلاقاً ، فيؤخذ بالخبر المشهور حينئذٍ .

والحاصل : انّه إذا كان هناك خبران ، أحدهما يوافق الظنّ أو يوافق الشهرة ، فالخبر المخالف لهما لا إعتبار به أصلاً ، أما في الخبر المخالف للظنّ : فلأن مثل

ص: 183

بل أُمِرنا بتركها ولو لم يكن في مقابلها خبر معتبر .

وأولى من هذا : إذا قلنا باشتراط حجّيّة الظواهر بحصول الظنّ منها أو من غيرها على طبقها .

-------------------

هذا الخبر ليس حجّة لأنا إشترطنا أن لا يكون الظاهر مخالف للظّن ، والاّ سقط عن الظهور والحجّية ، وأما فيالخبر المخالف للشهرة : فلأن الشهرة تسقط الخبر المخالف لها عن الحجّية ، حيث قال عليه السلام : « دَع الشّاذَ النّادِر » (1) .

( بل أمرنا بتركها ) أي : بترك الأخبار الشاذة ( ولو لم يكن في مقابلها ) أي : في مقابل تلك الشواذ ( خبر معتبر ) فكيف بما إذا كان في مقابل تلك الشواذ خبر معتبر ؟ .

( وأولى من هذا ) الذي ذكرناه : من إشتراط الحجّية بعدم الظنّ بالخلاف ( إذا قلنا باشتراط حجّية الظواهر بحصول الظنّ منها ) أي : من تلك الظواهر ( أو من غيرها ) أي : من غير تلك الظواهر ( على طبقها ) فاللازم في حجّية الظواهر : أن يظن الانسان بمضمون الخبر ، سواء حصل الظّن من نفس الخبر ، أو حصل الظّن من أمارة خارجية .

وانّما كان الترجيح بالظّن غير المعتبر هنا أولى ممّا اشترطنا حجيته بعدم الظن بالخلاف ، لأنه لم يحصل الظنّ بمضمون الخبر .

والحاصل : انّه يلزم : إما عدم الظنّ بالخلاف ، وإما الظّن بالوفاق ، فاذا كان الظنّ بالخلاف مسقطاً ، كان عدم الظنّ بالوفاق مسقطاً بطريق أولى ، إذ في الاول :

ص: 184


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لكنّ هذا القول سخيفٌ جدّا ، والأوّل أيضا بعيدٌ ، كما حقّق في مسألة حجّيّة الظواهر .

وإن قلنا بأنّ حجّيّة الظواهر من حيث إفادتها للظنّ الفعليّ وأنّه لا عبرةَ بالظنّ الحاصل من غيرها على طبقها ، أو قلنا بأنّ حجّيّتها من حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لا يعتبر فيها إفادتها للظنّ الفعليّ ،

-------------------

المقتضي موجود وإنّما منع عنه المانع ، وفي الثاني : المقتضي ليس بموجود ، فاذا كانت نار وَكان الخشب رطباً لا يحترق ، فعدم الاحتراق إذا لم تكن نار أصلاً أولى .

( لكن هذا القول ) الذّي يقول بإشتراط حجّية الظواهر بحصول الظّن منها ، أو من غيرها على طبقها ( سخيفٌ جداً ) لأن الظواهر حجّة ، سواء ظن الانسان على طبقها أو لم يظنّ ، والدليل على ذلك : أن المولى يعاقب العبد إذا خالف الظاهر ولم يقبل عذره : بأنه لم يظّن على وفاق الظاهر .

( والأوّل أيضاً : بعيد ) وهو : إشتراط الحجية بعدم الظّن على الخلاف ( كما حُقّق في مسألة حجيّة الظواهر ) حيث قلنا هناك : ان الظاهر حجّة ، سواء ظنّ على وفاقه أم لا ، وسواء ظنّ على خلافه أم لا .

( وإن قلنا : بأنّ حجّية الظواهر من حيث إفادتها للظنّ الفعلي ، وانّه لا عبرة بالظّن الحاصل من غيرها ) أي : من غير تلك الظواهر ( على طبقها ) أي : على طبق تلك الظواهر ( أو قلنا بأن حجّيتها ) أي : حجّية الظواهر ( من حيث الاتكال على أصالة عدم القرينة التي لايعتبر فيها ) أي : في هذه الأصالة ( إفادتها للظّن الفعلي ) فلا ، فإنّ الاحتمالات في حجية الظواهر أربعة :

الاول : أن لايكون ظنّ على خلافه .

ص: 185

فالأقوى عدمُ إعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح ، إذ المفروضُ على هذين القولين سقوطُ كِلا الظاهرين عن الحجّيّة في مورد التعارض ، وأنّه إذا صدر عنه قوله ، مثلاً : إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد أيضا : كلّ شيء يطير لا بأسَ بخُرئه وبوله .

-------------------

الثاني : أن يكون ظنّ بوفاقه ، سواء كان الّظن من نفسه أو من غيره .

الثالث : أن يكون الظن بوفاقه من نفسه .

الرابع : انّه لايحتاج الى الظّن الفعلي أصلاً .

أما القولان الاولان : فقد سبق الكلام فيهما بالترجيح ، وأما القولان الأخيران : ( فالاقوى : عدم إعتبار مطلق الظنّ في مقام الترجيح ) فيما إذا تعارض خبران وكان الّظن المطلق موافقاً لأحدهما ( إذ ) علة قوله : عدم اعتبار ( المفروض على هذين القولين ) الاخيرين : الثالث والرابع ( سقوط كلا الّظاهرين عن الحجيّة في مورد التعارض ) وانّما يسقط الظاهران في مورد التعارض لما سيأتي إنشاء اللّه تعالى فيقوله : « اما على الأول » ، « واما على الثاني » .

( و ) وذلك ( انّه إذا صدر عنه ) عليه السلام ( قوله مثلاً : « إغسل ثوبك من أبوال مالايؤكل لحمه » (1) ، وورد أيضاً : «كلّ شيء يطير لابأس بخرئه وبوله» ) (2) فان بين الروايتين عموم من وجه ، فالهرة - مثلاً - لا يشملها كل شيء يطير ، لأن الهرة ليست بطائر ، والطير المأكول اللحم كالحمام لايشمله أبوال مالايؤكلّ لحمه ، لأن الحمام ممّا يؤكل لحمه ، فيتعارضان في مثل الغراب الأبقع ، الذي هو طائر محرّم

ص: 186


1- - الكافي فروع : ج3 ص57 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص264 ب12 ح57 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص266 ب12 ح66 .

وفرض عدمُ قوّة أحد الظاهرين من حيث نفسه على الآخر ؛ كان ذلك مُسقِطا لظاهر كليهما عن الحجّيّة في مادّة التعارض ، أعني خُرءَ الطير الغير المأكول وبوله .

أمّا على الأوّل : فلأنّ حجّيّة الظواهر مشروطة بالظنّ المفقود في المقام .

-------------------

اللحم ، فمن حيث إنّه لايؤكل لحمه ، يشمله خبر : «ما لا يؤكلّ لحمه» ، ومن حيث إنهّ يطير ، يشمله خبر : «لابأس بخرئه» .

( وفرض عدم قوة أحد الظاهرين من حيث نفسه ) أي : من غير دليل خارجي يقوّي ظهوره ( على الآخر ) لأن كل واحد منهما ظاهر في هذا المورد الذي مثّلنا له بالغراب الأبقع .

( كان ذلك ) التعارض بدون قوة أحد الظاهرين ( مسقطاً لظاهر كليهما عن الحجيّة في مادة التعارض أعني : خرء الطير غير المأكول وبوله ) وعند التساقط لانعلم : هل إنّ خُرء الغُراب الأبقع طاهر أونجس ؟ فاللازم الرجوع الى دليل ثالث مثل «كلّ شيء لكَ طاهر» (1) ، أو ما أشبه ذلك .

( أمّا على الأوّل ) الذي ذكرنا فيه لزوم إفادة الظّن الفعلي من نفس الظاهر : ( فلأن حجّية الظواهر مشروطة بالّظن ، المفقود في المقام ) فلا يكون هناك ظنّ بهذا الجانب ولا بذلك الجانب أي لاظنّ في خرء الغراب الأبقع بالطهارة ولا بالنجاسة ، لأن الظاهرين متعارضان ، فلا يحصل منهما ظنّ ، أما إذا حصل الظنّ من الخارج ، فلا إعتبار بمثل هذا الظّن ، لأنا قلنا بلزوم إفادة الظّن الفعلي من نفس الظاهر ، وانّه لا إعتبار بالظّن الحاصل من غير الظاهر على طبق الظاهر .

ص: 187


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وأمّا على الثاني : فلأنّ أصالة عدم القرينة في كلّ منهما معارضةٌ بمثلها في الآخر ، والحكمَ في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة أحدهما على الآخر التساقطُ والرجوعُ إلى عموم أو أصل يكون حجّيّته مشروطة بعدم وجودهما على قابليّة الاعتبار .

-------------------

( وأمّا على الثاني ) : أي : الاتكال على أصالة عدم القرينة ( فلأن أصالة عدم القرينة في كلّ منهما ) أي : في كلّ من الظاهرين في مورد الاجتماع ( معارضة بمثلها في الآخر ) فان الأصل عدم القرينة على طبق هذا الظاهر ، والأصل عدم القرينة على طبق الظاهر الآخر .

( و ) لأنَّ ( الحكمَ في باب تعارض الأصلين مع عدم حكومة أحدهما على الآخر : التساقط ) فإذا حصل التساقط بين الأصلين المتعارضين لزم العلاج ( والرجوع الى عموم ، أو أصل ، يكون حجيته ) أي حجية ذلك العموم أو الاصل ( مشروطة بعدم وجودهما ) أي : عدم وجود الأصلين ( على قابلية الاعتبار ) أي : وجوداً معتبراً .

والحاصل : انّه إذا لم يكن أصل قابلاً للإعتبار لا في هذا الخبر ولا في الخبر الآخر المعارض له ، فاللازم : الرجوع الى عموم أو أصل ، يعيّن التكليف ، بان نرجع في المقام - مثلاً - الى عموم « كُلّ شَيءٍ لَكَ طاهر » (1) أو الى أصل انّ الطعام قبل أن يلاقي هذا الخرء لم يكن نجساً ، فالإستصحاب يقتضي عدم نجاسته بالملاقات للخرء وإذا تساقط الظاهران وعملنا بالظّن الموجود في المسألة لم يكن الظّن مرجحاً لأحد الظاهرين وانّما يكون الظّن حجّة قائمة بنفسه واليه أشار

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

فلو عمل حينئذٍ بالظنّ الموجود مع أحدهما ، كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة ، كنّا قد عملنا بذلك الظنّ مستقلاًّ ، لا من باب كونه مرجّحا ، لفرض تساقط الظاهرين وصيرورتهما كالعدم .

فالمتّجهُ حينئذٍ الرجوعُ في المسألة ، بعد الفراغ عن المرجّحات من حيث السّند أو من حيث الصدور تقيّةً أو لبيان الواقع ، إلى قاعدة الطهارة .

-------------------

بقوله : ( فلو عمل حينئذٍ ) أي : حين التساقط ( بالظّن الموجود مع أحدهما ، كالشهرة القائمة في المسألة المذكورة على النجاسة ) - مثلاً - لبول وخرء الغراب الأبقع في المثال : ( كنا قد عملنا بذلك الظّن ) المستند الى الشهرة عملاً ( مستقلاً ) من باب الاستناد الى هذا الظنّ ( لا من باب كونه مرجّحاً ) .

ثمّ عللّ قوله : « لا » ، بقوله : ( لفرض تساقط الظّاهرين وصيرورتهما كالعدم ) فلا يكون في المقام إلاّ الشهرة ، فتكون الشهرة مستنداً للنجاسة ، لا أن الشهرة تكون مرجحاً لهذا الطرف ، أو لذلك الطرف .

( فالمتجه حينئذٍ ) أي : حين تساقط الأصلين ( : الرجوع في المسألة بعد الفراغ عن المرجّحات من حيث السّند ، أو من حيث الصّدور تقية ، أو لبيان الواقع ) قوله : « او لبيان » ، عطف على قوله : « الصدور » ، فالرجوع يكون ( إلى قاعدة الطهارة ) فقوله : « الى » متعلق بقوله : « الرجوع » .

والحاصل : انّه إذا كان لأحد الخبرين مرجح سندي ، أو مرجح من جهة الصدور ، أخذنا به ، وإذا لم يكن لأحدهما مرجّح فاللازم الرجوع الى دليل ثالث ، والدليل الثالث في المقام حسب ما مثّلنا له من خُرء الغراب الأبقع ، هو : قاعدة الطهارة ، أما الشهرة على النجاسة نأخذ بها ، لأن الشهرة ليست بحجّة .

هذا تمام الكلام في الترجيح بالظّن غير المعتبر في باب الدلالة .

ص: 189

وأمّا المقام الثاني

فتفصيل القول فيه أنّ أصالة عدم التقيّة - إن كان المستندُ فيها أصلَ العدم في كلّ حادث ، بناءا على أنّ دواعيَ التقيّة التي هي من قبيل الموانع لاظهار الحقّ حادثةٌ - تدفع بالأصل ، فالمرجعُ بعد معارضة هذا الأصل في كلّ خبر بمثله في الآخر هو التساقُط .

-------------------

( وأما المقام الثاني ) : وهو الترجيح بالظّن غير المعتبر في جهة الصدور ( فتفصيل القول فيه : أنّ أصالة عدم التقية ) ومحتملات هذه الأصالة أربعة ، يشير المصنّف الى الاحتمال الاول منها بقوله : « إن كان المستند فيها أصل العدم » .

ويشير الى الاحتمال الثاني منها بقوله : «وكذلك لو استندنا فيها الى أن ظاهر حال المتكلم» .

ويشير الى الاحتمال الثالث منها - بقوله : « ولو إستندنا فيها الى الظهور ...» .

ويشير الى الاحتمال الرابع منها - بقوله : « وإن إستندنا فيها الى الظهور النوعي ... » .

أما الاحتمال الأوّل : فهو ( - إن كان المستند فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( أصل العدم في كل حادث ) والتقية أمر حادث ، فالاصل عدمها ، وذلك ( بناءاً على أن دواعي التقية التي هي من قبيل الموانع لاظهار الحق ) فانّ التقية مانعة عن إظهار الحق ( حادثة - ) أي : إن الدواعي حادثة ، وهي : ( تدفع بالأصل ) لأن الأصل في كلّ حادث العدم .

وعليه : ( فالمرجع بعد معارضة هذا الأصل ) أي : أصل عدم التقية ( في كلّ خبر ) من المتعارضين ( بمثله في الآخر هو : التساقط ) لأنا نشكّ إنَ هذا الخبر الاوّل هل صدر تقية ؟ نقول : الاصل عدمه .

ص: 190

وكذلك لو إستندنا فيها إلى أنّ ظاهرَ حال المتكلّم بالكلام ، خصوصا الامام عليه السلام ، في مقام إظهار الأحكام التي نصب لأجلها هو بيانُ الحقّ ، وقلنا بأنّ إعتبار هذا الظهور مشروطٌ بافادته الظنّ الفعليّ المفروض سقوطه من الطرفين .

وحينئذٍ : فان عملنا بمطلق الظنّ في تشخيص التقيّة وخلافها - بناءا على حجّيّة الظنّ في هذا المقام ، لأجل الحاجةِ إليه

-------------------

ونشك إن هذا الخبر الثاني هل صدر تقية ؟ نقول : الأصل عدمه ، فيتساقط أصل عدم التقية في هذا الخبر وفي ذلك الخبر .

(وكذلك لو إستندنا فيها) أي : في أصالة عدم التقية (إلى أنّ ظاهر حال المتكلم بالكلام خصوصاً الامام عليه السلام في مقام إظهار الأحكام التي نصب) الامام عليه السلام ( لاجلها هو ) أي : ظاهر حال المتكلم ( :بيان الحق ) لا ذكر خلاف الحق تقية .

هذا ( وقلنا : بأن إعتبار هذا الظهور ) أي : ظاهر حال المتكلم ( مشروط بافادته الظّنّ الفعليّ ) بأن يظنّ السامع ظنّاً فعلياً بكون المتكلم في مقام بيان الواقع ( المفروض سقوطه ) أي : سقوط هذا الظّن الفعلي ( من الطرفين ) : من هذا الخبر ، ومن ذلك الخبر ، لأنهما تعارضا ونعلم بأن أحدهما صادر تقية ، فلا ظهور لحال المتكلم في انّه في مقام بيان الواقع لا في هذا الخبر ولا في ذاك الخبر .

( وحينئذٍ ) أي : حين يتساقط الظاهران ( فانّ عملنا بمطلق الظّن في تشخيص التقية وخلافها ) أي : خلاف التقية ( بناءاً على حجّية الظّن في هذا المقام ) أي : في مقام تشخيص التقية وخلافها ( لأجل الحاجة اليه ) أي : الى مطلق الظنّ وقوله : « لاجل الحاجة » ، متعلق بقوله : « عملنا بمطلق الظنّ » .

ص: 191

من جهة العلم بصدور كثير من الأخبار تقيّةً وأنّ الرجوعَ إلى أصالة عدمها في كلّ مورد يوجبُ الافتاء بكثير ممّا صدر تقيّةً ، فيتعيّن العملُ بالظنّ ، أو لأنّا نَفهَمُ ممّا ورد في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم كونَ ذلك من أجل كون الموافقة مظنّةً للتقيّة ، فتعيّن العملُ بما هو أبعدُ عنها بحسب كلّ أمارة - كان ذلك الظنُّ دليلاً مستقلاًّ في ذلك المقام وخرج

-------------------

وانّما نكون بحاجة الى مطلق الظّن ( من جهة العلم بصدور كثير من الأخبار تقية وانّ الرجوع الى أصالة عدمها ) أي : الى أصالة عدم التقية ( في كلّ مورد يوجب الافتاء بكثير ممّا صدر تقية ، فيتعين العمل بالظّن ) لوجود الانسداد في صدور الحكم تقية ، فنعمل في تشخيص التقية بالظّن المطلق ، لأنا لا نتمكن من العلم والعلمي ، في تشخيص التقية عن غيرها ، في كلّ خبرين متعارضين مع علمنا بأنّ أحدهما صدر تقية ولم نشخّص ذلك الصادر تقية بعلم أو علمي .

( أو لأنّا نفهم ) وهذا عطف على قوله : « لأجل الحاجة » ، ومعناه : إنّا نقول : بحجية مطلق الظنّ في تشخيص التقية ، وذلك إمّا من جهة الحاجة الى مطلق الظنّ ، وإما من جهة أنّا نفهم ( - ممّا ورد في ترجيح ما خالف العامّة على ما وافقهم - كون ذلك ) أي : الذي نفهمه منها انّما هو ( من أجل كون الموافقة مظنّة للتقية ، فتعيّن العمل بما هو أبعد عنها ) أي : أبعد عن التقية ( بحسب كل أمارة ) قوله : « بحسب » ، متعلق بقوله : « أبعد » .

والحاصل : انّه إذا كان أحد الخبرين أبعد بحسب دلالة أمارة ما عليه فكل أمارة دلتّ على أن أحد الخبرين أبعد عن التقية عملنا بها .

( كان ) جواب قوله : «فان عملنا بمطلق الظنّ» ( ذلك الظّن ) أي : الظّن في تشخيص التقية ( دليلاً مستقلاً في ذلك المقام ) أي : مقام التعارض ( وخرج )

ص: 192

عن كونه مرجّحا.

ولو إستندنا فيها إلى الظهور المذكور وإشترطنا في إعتباره عدمَ الظنّ على خلافه ، كان الخبرُ الموافقُ لذلك الظنّ حجّةً سليمةً عن المعارض لا عن المزاحم كما عرفت نظيره في المقام الأوّل .

-------------------

هذا الظّن ( عن كونه مرجّحاً ) لأنَّ الظاهرين تساقطا ولم يبق لتشخيص ان هذا الخبر تقية ، أو ذاك إلاّ الظّن المطلق .

والمراد بالظاهرين : ظاهر هذا الخبر في انّه لم يصدر تقية ، وظاهر ذاك الخبر في انّه لم يصدر تقية ، وانّما سقط الظاهران للتعارض بينهما ، حيث نعلم أن أحدهما صدر تقية ، فلا ظهور في هذا الجانب ، ولا ظهور في ذاك الجانب ، للعلم الاجمالي بأنّ أحدهما صدر تقية ، وحنيئذٍ فالمرجح الظّن المطلق في تشخيص التقية ، ولا يكون الظّن مرجحاً بل يكون مستنداً .

( ولو إستندنا فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( إلى الظهور المذكور ) أي : ظاهر حال المتكلم ( وإشترطنا في إعتباره : عدم الظنّ على خلافه ) في قبال ما تقدّم : من أن المستند في أصالة عدم التقية : ظاهر حال المتكلم مشروطاً بافادته الظّن الفعلي ( كان الخبر الموافق لذلك الظّنّ حجّة سليمة عن المعارض ) وذلك لأن المعارضة على هذا التقدير مشروطة بعدم الظّن على الخلاف ، ومن المعلوم : ان الخبر المخالف يظنّ منه على الخلاف .

وعليه : فالخبر الموافق انّما هو سليم عن المعارض ( لا عن المزاحم ، كما عرفت نظيره في المقام الأول ) حيث ذكرنا قبل صفحة قولنا : لا لدفع مزاحمته للظهور المنضم إليه ، فيصير ما وافقه حجّة سليمة عن الدليل المعارض .

ص: 193

وإن إستندنا فيها إلى الظهور النوعيّ ، نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح وظهور تكلّم المتكلّم في كونه قاصدا ، لا هازلاً ، ولم نشترط في إعتباره الظنّ الفعليّ ولا عدم الظنّ بالخلاف ، تعارضَ الظاهران ، فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظنّ المفروض ، والكلام فيه يعلم ممّا سيجيء في المقام الثالث .

وهو : ترجيح السّند بمطلق الظنّ

إذ الكلام فيه أيضا مفروض

-------------------

( وانْ إستندنا فيها ) أي : في أصالة عدم التقية ( الى الظهور النوعي ) لا أصل العدم كما قلنا في الأول ، ولا ظاهر حال المتكلم كما قلنا في الثاني والثالث ( نظير ظهور فعل المسلم في الصحيح ، وظهور تكلم المتكلم في كونه قاصداً لا هازلاً ) فان نوع فعل المسلم صحيح ، ونوع كلام المتكلم بقصد الجد لا بقصد الهزل ، وهنا نقول : نوع كلام المتكلم لأجل بيان الواقع لا لأجل التقية .

وهذا الظهور النوعي هو ممّا يعتمد عليه العقلاء إلاّ فيما علم خروجه عنه ( ولم نشترط في إعتباره ) أي : في إعتبار هذا الظهور النوعي ( الظّن الفعلي ) على وفاقه ( ولا عدم الظّن بالخلاف ) فسواء كان ظنّ فعلي على الوفاق ، أم كان ظنّ فعلي على الخِلاف ، لم يكن الاعتبار بهذين الظّنين .

وعليه : فان إستندنا في أصالة عدم التقية الى الظهور النوعي : ( تعارض الظاهران ) هذا جواب قوله : وإن استندنا ( فيقع الكلام في الترجيح بهذا الظّن ) غير المعتبر ( المفروض ) موافقته لأحد الخبرين ( والكلام فيه ) أي : في الترجيح بهذا الظنّ ( يعلم ممّا سيجيء في المقام الثالث وهو : ترجيح السند بمطلق الظنّ ، إذ الكلام فيه ) بشروط ثلاثة : - أي : في المقام الثالث ( أيضاً مفروض ) .

ص: 194

فيما إذا لم نقل بحجّيّة الظنّ المطلق ولا بحجّيّة الخبرين بشرط إفادة الظنّ ولا بشرط عدم الظنّ على خلافه ، إذ يخرج الظنّ المفروض على هذه التقادير عن المرجّحيّة بل يصير حجّة مستقلّة على الأوّل ، سواء كان حجّيّة المتعارضين من باب الظنّ المطلق

-------------------

أوّلاّ : ( فيما إذا لم نقل بحجية الظّن المطلق ) .

ثانياً : ( ولابحجيّة الخبرين بشرط إفادة الظّن ) .

ثالثاً : ( ولا بشرط عدم الظّن على خلافه ) .

والحاصل : انّه إذا كان خبران متعارضان ، فهل نتمكن من ترجيح أحدهما على الآخر بسبب الظنّ كما إذا ظننّا بصحة سند أحدهما دون سند الآخر ؟ .

الجواب : انّه يمكن الترجيح بالظّن بشروط ثلاثة :

الأوّل : أن لا نقول : بأنّ مطلق الظّن حجّة ، إذ لو كان مطلق الظن حجّة ، وظنّنا بسند أحد الخبرين دون سند الآخر، يكون الظّن حجّة مستقلة، ولا يكون مرجحاً .

الثاني : أنّ لا نقول : بأنّ حجّية الخبر مشروط بأفادته الظّن ، إذ لو كان الخبر الذي يفيد الظنّ حجّة ، كان أحد الخبرين الذي هو مظنون حجّة ، دون الخبر الآخر ، فلا يكون الظنّ مرجحاً ، بل يكون حجة مستقلة أيضاً .

الثالث : أن لا نقول بان حجية الخبر مشروط بعدم الظّن على خلافه ، إذ لو كان أحد الخبرين يظنّ على خلافه سقط عن الحجّية ، وكان الخبر الآخر الذي لا يظنّ على خلافه حجّة ، وانّما يكون حجّة مستقلاً ( إذ يخرج الظنّ المفروض ) مطابقته لأحد الخبرين ( على هذه التقادير ) الثلاثة - التي ذكرناها - ( عن المرجحيّة ، بل يصير ) الظنّ ( حجّة مستقلة على الأول ) وهو ما ذكره بقوله : إذا لم نقل بحجيّة الظّن المطلق ( سواء كان حجية المتعارضين في باب الظّن المطلق،

ص: 195

أم من باب الاطمئنان أم من باب الظنّ الخاصّ .

فانّ القول بالظنّ المطلق لا ينافي القول بالظنّ الخاص في بعض الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين ويسقط المرجوح عن الحجّيّة على الأخيرين ، فيتعيّن أنّ الكلام في مرجّحيّته

-------------------

أم من باب الاطمئنان ، أم من باب الظّن الخاص ) أي : إنَ حجية الخبرين مع قطع النظر عن تعارضهما انّما هي مستندة الى الظّن الانسدادي ، أو الظّن الاطمئناني ، أو الى الظّن الخاص ، فإذا تعارضا وكان الظّن على طبق أحدهما كان ذلك الظّن حجّة لذلك المطابق له ، لا مرجحاً .

لا يقال : كيف يكون الظّن المطلق حجة لتعيين أحد الخبرين المتعارضين مع قولكم : بأنّ مستند حجيّة المتعارضين من باب الظّن الخاص ، حيث قلتم أم من باب الظّن الخاص ؟ .

لأنه يقال : ( فانّ القول بالظّن المطلق ) في إستناد الحجيّة ( لا ينافي القول بالظّن الخاص في بعض الأمارات ، كالخبر الصحيح بعدلين ) فان القائل بالانسداد ، لا يقول بسقوط الظّن الخاص ، بل يقول : كلّما وجد الظّن الخاص ، كالخبر الصحيح بعدلين ، كان ذلك الخبر حجة ، وكل ما لم يكن ظنّ خاص ، كان الظّن الانسدادي حجّة ، فاذا وجد خبران صحيحان ، كل خبر في سنده عدلان وتعارضا ، وصلت النوبة الى الظن الانسدادي لتعيين أحد الخبرين للعمل .

هذا ( ويسقط المرجوح عن الحجيّة على الأخيرين ) قوله : « ويسقط » عطف على قوله : « بل يصير حجة مستقلة على الأول » ، ومراده بالأخيرين : ما تقدّم من قوله : «ولا بحجية الخبرين بشرط إفادة الظّن ، ولا بشرط عدم الظّن على خلافه» .

وعليه : ( فيتعين : إن الكلام في مرجحيّته ) وهذا مرتبط بقوله قبل سطرين :

ص: 196

فيما إذا قلنا بحجّيّة كلّ منهما من حيث الظنّ النوعيّ كما هو مذهب الأكثر ، فمُلَخصه : انّه لا ريبَ في أنّ مقتضى الأصل عدمُ الترجيح ، كما أنّ الأصل عدمُ الحجّيّة ، لأنّ العمل بالخبر الموافق لذلك الظنّ

-------------------

«إذ يخرج الظّن المفروض على هذه التقارير عن المرجحية» ، وقوله : « بل يصير...» كالجملة المعترضة ، فتكون العبارة هكذا : إذ يخرج الظنّ المفروض على هذه التقادير عن المرجّحية ، فيتعين : إنّ الكلام في مرجّحية الظنّ ، وذلك (فيما إذا قلنا بحجّية كلّ منهما) أي : من الخبرين المتعارضين ( من حيث الظّن النوعي ) وهذا متعلق بقوله : « بحجية كل منهما » ( كما هو ) أي : هذا القول ( مذهب الأكثر ) .

إذا عرفت ذلك ، قلنا : أن الظّن غير المعتبر لا يكون مرجحاً ، ولا يكون حجّة ، لأن الأصل عدم المرجحية ، وعدم الحجّية ، وإليه أشار بقوله : ( فملخصه ) أي : ملخص الكلام ( : انّه لا ريب في انّ مقتضى الأصل : عدم الترجيح ) بالظّن غير المعتبر ( كما إنّ الأصل عدم الحجّية ) للظّن غير المعتبر ، وذلك ( لأنّ ) هذا علة لقوله : « مقتضى الأصل : عدم الترجيح » .

وانّما لا نرجّح أحد الخبرين بسبب الظّن غير المعتبر ، لأنه يجب إما ان نلتزم بأن الشارع رجّح هذا الخبر المظنون بالظّن غير المعتبر ،على الخبر الآخر ، وهذا تشريع محرّم ، لأنّ الشارع لم يرجّحه ، واما أن لا نلتزم بذلك ، بل نرجّح بالظّن غير المعتبر بلا التزام انّه من الشارع ، وهذا موجب لطرح ذلك الأصل أو القاعدة التي كان اللازم الرجوع اليها بعد تساقط الخبرين ، لولا هذا الظّن غير المعتبر .

وعليه : فان ( العمل بالخبر الموافق لذلك الظّن ) غير المعتبر الذي كان مع أحد الخبرين المتعارضين يستلزم - كما ذكرنا - أحد محذورين :

ص: 197

إن كان على وجه التديّن والالتزام بتعيين العمل به من جانب الشارع وأنّ الحكم الشرعيّ الواقعيّ هو مضمونه ، لا مضمون الآخر من غير دليل قطعيّ يدلّ على ذلك ، فهو تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، والعملُ به لا على هذا الوجه محرّمٌ إذا إستلزم مخالفة القاعدة أو الأصل الذي يرجع إليه على تقدير فقد هذا الظنّ .

فالوجهُ المقتضي لتحريم العمل بالظنّ مستقلاً من التشريع

-------------------

الأوّل : ( إن كان ) ذلك العمل ( على وجه التديّن والالتزام بتعيين العمل به ) أي : بهذا الخبر المظنون ( من جانب الشارع ، وإنّ الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه ) أي : مضمون هذا الخبر ( لا مضمون الآخر ) المعارض له ( من غير دليل قطعي يدل على ذلك ) قوله : « من غير » ، متعلقّ بقوله : « على وجه التدين » ، وقوله ، « ذلك » إشارة الى قوله : و« ان الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه » ( فهو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة ) فان كُلاً من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، دلّ على أنّه لا يجوز الاسناد الى الشارع بدونه وصول دليل منه .

الثاني : ( و ) إن كان ( العمل به ) أي : بالخبر الموافق للظّن غير المعتبر ( لا على هذا الوجه ) أي : وجه التدين ، فهو ( محرم إذا استلزم ) العمل بهذا الخبر الموافق للظّن غير المعتبر ( مخالفة القاعدة ، أو الاصل ، الذي يرجع اليه على تقدير فقد هذا الظّن ) وذلك لأن الشارع أمر بإتباع الاصل ، أو القاعدة ، لا الخبر المخالف لهما حتى وإنْ كان هذا الخبر المخالف مظنوناً .

وكيف كان : فلا يكون الظّن مرجّحاً لأحد الخبرين عن الآخر ، وذلك لما أشار اليه بقوله : ( فالوجه المقتضي لتحريم العمل بالظّن مستقلاً من التشريع )

ص: 198

أو مخالفة الاُصول القطعيّة الموجودة في المسألة جارٍ بعينه في الترجيح بالظنّ والآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم كلّها متساوية النسبة إلى الحجّيّة وإلى المرجّحيّة .

وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجّح يُحدِثُ حكما شرعيّا لم يكن مع عدمه ، وهو وجوب العمل بموافقته عينا ، مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر .

-------------------

مع النسبة الى الشارع ( أو مخالفة الأصول القطعية الموجودة في المسألة ) بدون النسبة الى الشارع ( جارٍ بعينه في الترجيح بالظّن ) والحاصل : انّه كما لا يكون الظّنّ غير المعتبر مستنداً ، سواء نسبه الى الشارع حيث يلزم التشريع ، أو لم ينسبه حيث انّه يخالف الاصل أو القاعدة ، كذلك لا يكون مثل هذا الظّن مرجّحاً لأحد الخبرين على الآخر في صورة التعارض بين الخبرين ( و ) ذلك لأن ( الآيات والأخبار الناهية عن القول بغير علم ، كلها متساوية النسبة الى الحجّية ، والى المرجحّية ) فكما لا يكون الظّن حجة كذلك لا يكون مرجحاً .

هذا ( وقد عرفت في الترجيح بالقياس : ان المرجّح يُحدِثُ حكماً شرعياً لم يكن ) ذلك الحكم الشرعي ( مع عدمه ) أي : مع عدم القياس ( وهو ) أي : بذلك الحكم الحادث ( وجوب العمل بموافقته عيناً ) أي : متعيناً قوله : « وهو » يراد به الحكم الشرعي ( مع كون الحكم لا معه ) أي لا مع القياس كان ( هو التخيير ) بين الخبرين ( أو الرجوع الى الأصل الموافق للآخر ) .

أقول : ربّما يكون الأصل مخالفاً لكلا الخبرين ، وموافقاً لشيء ثالث ، فقول المصنّف: أو الرجوع الى الاصل الموافق للآخر، من باب المثال، لا من باب الخصوصية .

ص: 199

هذا ، ولكنّ الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليّين هو الترجيحُ بمطلق الظنّ .

وليعلم أوّلاً : أنّ محلَّ الكلام ، كما عرفت في عنوان المقامات الثلاثة أعني الجبر والوهن والترجيح ،

-------------------

( هذا ) تمام الكلام في إنّ الظّن غير المعتبر لا يمكن أن يكون مرجّحاً ، كما لا يمكن أن يكون حجّة ( و ) ان حال الظّن غير المعتبر حال القياس في عدم صحة كونه مستنداً ولا مرجحاً .

( لكن الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليين هو : الترجيح بمطلق الظن ) في مورد وجود خبرين متعارضين ، فان الاصوليين يرجحون أحد الخبرين أو الخبر الآخر ، بالمرجحات المنصوصة اذا كانت ، فإذا لم تكن هناك مرجحات منصوصة رجَّحوا أحد الخبرين على الخبر الآخر بالظّن المطلق .

( و ) حيث يتوهم ان بين القولين تناقضاً ، أراد المصنّف رفع هذا التوهم ، فان هناك قولاً يقول : بانّه لا يرجح بالظّن ، وقولاً آخر : بانّه يرجّح بمطلق القوة .

ومن المعلوم : ان مطلق القوة يشمل الظنّ وغير الظّن فيوهم التناقض ، لكن لا تناقض بين القولين ، لأن المراد بعدم الترجيح بالظّن : عدم الترجيح بالظّن الخارجي ، والمراد بالترجيح بمطلق القوة : والقوة من نفس الخبر وداخله ، ولرفع هذا التناقض قال المصنّف : «ليعلم أولاّ : ان محل الكلام القوة من نفس الخبر وداخله» .

ولرفع هذا التناقض قال المصنّف : ( ليعلم اوّلاً : أنّ محلَّ الكلام كما عَرفتَ في عنوان المقامات الثلاثة ، أعني الجبر ، والوهن ، والترجيح ) بالظنّ غير المعتبر ،

ص: 200

وهو الظنُّ الذي لم يعلم إعتبارُه .

فالترجيحُ به من حيث السّند أو الدلالة ترجيحٌ بأمر خارجيّ . وهذا لا دخل له بمسألة أُخرى إتفاقيّة ، وهي وجوبُ العمل بأقوى الدليلين وأرجحهما .

فانّ الكلامَ فيها في ترجيح أحد الخبرين الذي يكون بنفسه أقوى من الآخر من حيث السند ، كالأعدل والأفقه أو المسند أو الأشهر روايةً أو غير ذلك ، أو من حيث الدلالة ، كالعامّ على المطلق ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز على الاضمار ، وغير ذلك .

-------------------

( وهو : الظنّ الذي لم يعلم اعتباره ) من الشارع ( فالترجيح به ) اي : بهذا الظنّ غير المعتبر ( من حيث السنّد ، أو الدلالة ) أو جهة الصدور ( ترجيح بامر خارجي ) عن نفس الخبر ، فان هذا الظنّ خارج عن نفس الخبر .

( وهذا لا دخل له بمسألة اُخرى اتفاقية ) بين العلماء ( وهي : وجوب العمل باقوى الدليلين وأرجحهما ) سواء كان القوة من الظن المعتبر ، أو من الظن غير المعتبر .

( فانّ الكلام فيها ) أي : في المسألة الاُخرى انّما هو ( في ترجيح أحد الخبرين ، الذي يكون بنفسه اقوى من الآخر من حيث السند ) وتلك الاقوائية من حيث السند : ( كالأعدل ، والأفقه ) والأَورَع ، وما اشبه ذلك ( أو المسند ) في قِبال المرسل ( أو الاشهر رواية ، أو غير ذلك ) كعمل المشهور .

( أو من حيث الدلالة ) وهذا عطف على قوله : « من حيث السند » وتلك الاقوائية من حيث السند : ( كالعام على المطلق ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز على الاضمار ، وغير ذلك ) كالاضمار على النقل ، فانّ هذه اُمور داخلية تُسبّب

ص: 201

وبعبارة أُخرى ، الترجيحُ بالمرجّحات الداخليّة من جهة السند إتفاقيّ ، وإستفاض نقلُ الاجماع من الخاصّة والعامّة على وجوب العمل بأقوى الدّليلين عن الآخر .

والكلامَ هنا في المرجّحات الخارجة المعاضدة لمضمون أحد الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر .

نعم ، لو كشفت تلك الأمارة عن مزيّة داخليّة لأحد الخبرين على الآخر من حيث سنده أو دلالته دخلت

-------------------

تقديم خبر على خبر ، كتقديم الخبر العام على الخبر المطلق ، أو تقديم الخبر الذي هو حقيقة على الخبر الذي هو مجاز ، الى آخره .

( وبعبارة اُخرى : ) الفرق بين المسألتين هو : انّ ( الترجيح بالمرجحات الداخلية من جهة السند اتفاقي ) بين العلماء ( واستفاض نقل الاجماع من الخاصة والعامة على وجوب العمل بأقوى الدّليلين ) قوة داخلية ( عن الآخر ) اي : عن الدليل الآخر .

( والكلام هنا ) اي : في الترجيح بالظنّ الذي نفيناه : إنّما هو ( في المرجّحات الخارجة ) عن ذات الخبر سنداً ، ودلالة ، وجهة صدور تلك المرجحات ( المعاضدة لمضمون احد الخبرين ) وكذلك ( الموجبة لصيرورة مضمونه ) اي : مضمون أحد الخبرين ( اقرب الى الواقع ) في نظر الظّان ( من مضمون ) الخبر ( الآخر ) فالقوة الداخلية متفق بين العلماء الترجيح بها ، اما القوة الخارجية بسبب الظنّ غير المعتبر ، فمختلف في انها هل تكون مرجّحة أو ليست بمرجّحة ؟ .

( نعم ، لو كشفت تلك الأمارة ) الخارجية ( عن مزية داخلية لاحد الخبرين على الآخر من حيث سنده ، او دلالته ) أو جهة صدوره ( دخلت ) تلك الأمارة

ص: 202

في المسألة الاتفاقيّة ووجب الأخذُ بها ، لأنّ العمل بالراجح من الدليلين واجب إجماعا ، سواء علم وجهُ الرّجحان تفصيلاً أو لم يعلم إلاّ إجمالاً .

ومن هنا ظهر أنّ الترجيحَ بالشهرة والاجماع المنقول إذا كشفا عن مزيّة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ممّا لا ينبغي الخلافُ فيه .

نعم ، لو لم يكشفا عن ذلك

-------------------

الخارجية ( في المسألة الاتفاقية ) التي هي عبارة عن المزية الداخلية ( ووجب الأخذ بها ) اي :بتلك الامارة التي أوجبت المزية الداخلية .

وانّما وَجَبَ الاخذ بها ( لأنّ العمل بالراجح من الدليلين واجب اجماعاً ) بين العلماء ( سواء علم وجه الرّجحان تفصيلاً ، أم لم يعلم إلاّ إجمالاً ) فان المزية الخارجية ربمّا تكشف عن أقوائية السند ، وربما تكشف عن أقوائية في الخبر ، اجمالاً ، بانْ تعلم : ان هذا الخبر اقوى من الخبر الآخر ، لكن لا نعلم هل الاقوائية من حيث السند ، أو من حيث جهة الصدور ، فانه يلزم على كل حال ترجيح الأقوى على غير الاقوى .

( ومن هنا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من أنَّ المزية الداخلية مرجّحة ولو جاءت بسبب الخارج ( ظهر : إنّ الترجيح بالشهرة والاجماع المنقول ، إذا كشفا عن مزية ) قطعيّة ( داخليّة في سند احد الخبرين أو دلالته ) أو جهة صدوره ، فانّه ( ممّا لا ينبغي الخلاف فيه ) اي : في ذلك الترجيح .

قوله : « ممّا لا ينبغي » خبر قوله :« ان الترجيح » والكشف انّما يكون اذا علمنا بسبب الشهرة أو الاجماع المنقول ، أو نحوهما ، ان خبر زُرارة - مثلاً - فيه مزية ليست في خبر محمد بن مُسلم المعارض له وإن لم نعلم تلك المزية تفصيلاً .

( نعم ، لو لم يكشفا ) اي : الشهرة والاجماع المنقول ( عن ذلك ) الذي قلناه

ص: 203

إلاّ ظنّا ، ففي حجّيّته أو إلحاقه بالمرجّح الخارجيّ وجهان ، أقواهما الأوّل ، كما سيجيء .

وكيف كان : فالذي يمكن أن يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي وجوهٌ :

الأوّل : قاعدةُ الاشتغال ، لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق للظنّ .

وتوهّمُ : « إنّه قد يكون الطرفُ المخالفُ للظنّ موافقا للاحتياط ، اللازم في المسألة الفرعيّة

-------------------

من المزية الداخلية ( الاّ ظنّاً ) بان ظننّا إنّ في احد الخبرين مزية داخليّة ، لا أنا قطعنا بالمزية الداخلية ( ففي حجيّته ) اي في حجيّة ذاك الخبر ذي المزية ( أو الحاقه بالمرجّح الخارجي ) فلا يكون مرجّحاً لذي المزية الظنيّة ( وجهان : أقواهما : الأول ) وانّه حجّة لأنّه ايضاً مزية وان كانت مزية مظنونة ( كما سيجيء ) انشاء اللّه تعالى . ( وكيف كان ) الأمر في المزية الداخلية والخارجية ( فالذي يمكن أن يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي ) الذي قال به معظم الاصوليين - على ما تقدّم - ( وجوه ) على النحو التالي :

( الأوّل : قاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر بين التخيير وتعيين الموافق للظنّ ) وقد حُقّق في محله : إنّ دوران الأمر بين التخيير والتعيين يوجب التعيين فحيث يدور الأمر بين التخيير بين الخبرين ، أو التعيين لذي المزية يقدّم التعييّن فنأخذ بذي المزية .

( وتوهم : انه قد يكون الطرف المخالف للظنّ موافقاً للاحتياط ، اللازم ) ذلك الاحتياط ( في المسألة الفرعيّة ) بأنْ يكون في احد الخبرين مزيّة وفي الخبر الآخر

ص: 204

فيتعارض الاحتياطَ في المسألة الاصوليّة بل يرجّح عليه في مثل المقام ، كما نبّهنا عليه عند الكلام في معمِّمات نتيجة دليل الانسداد » ، مدفوعٌ بأنّ المفروض فيما نحن فيه عدمُ وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لولا الظنّ ؛

-------------------

احتياط ( فيتعارض الاحتياط في المسألة الاُصولية ) مع الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فانّ المسألة الاصولية هو دوران الأمر بين التعييّن والتخييّر ، والمسألة الفرعيّة هي الرّواية الثانية التي توافق الاحتياط .

( بل يرجّح ) الاحتياط في المسألة الفرعيّة ( عليه ) أي : على الاحتياط في المسألة الاصولية ( في مثل المقام ، كما نبّهنا عليه عند الكلام في معمِّمات نتيجة دليل الانسداد ) .

مثلاً : اذا كان هناك خبران ، احدهما يقول : بنجاسة الحديد ، والآخر يقول : بطهارته ، والخبر الدّال على الطهارة موافق للشهرة ، فهو ذو مزية والخبر الدّال على النجاسة موافق للإحتياط ، فالمسألة الاصولية تسند الطهارة والمسألة الفرعية تسند النجاسة .

هذا التوهم ( مدفوع : بأنّ المفروض فيما نحن فيه ) من دوران الأمر بين الخبرين المتعارضين هو : ( عدم وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين ) لأنّ المكلّف مخيّر بين الخبرين حسب ما دلّ عليه قوله عليه السلام « بأَيهما اَخَذْتَ من باب التسليم وَسِعكَ » (1) .

وانّما لا يجب الاخذ بما وافق الاحتياط ( لولا الظنّ ) الذي حصل للانسان

ص: 205


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

لأنّ الأخذَ به ، إن كان من جهة إقتضاء المورد للإحتياط ، فقد ورد عليه حكمُ الشارع بالتخيير المرخّص للأخذ بخلاف الاحتياط وبراءة الذمّة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له ، ولهذا يحكم بالتخيير أيضا وإن كان أحدُهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا ، إذ كما أنّ الدليل المعيّن للعمل به

-------------------

بسبب موافقة الشهرة لأحد الخبرين ( لأنّ الأخذ به ) اي : بما وافق الاحتياط ( إن كان من جهة اقتضاء المورد للاحتياط ) لأنّ النجاسة مطابق للاحتياط في المثال المذكور ( فقد وَرَدَ عليه ) اي : على الاحتياط ( حكم الشارع بالتخيير المرخِّص ) - بالكسر - على صيغة الفاعل ( للأخذ بخلاف الاحتياط ) أيضاً .

فان التخيير معناه : أنت مخيّر بينَ أنْ تأخذ بالاحتياط أو بغير الاحتياط ( و ) معناه ( برائة الذمة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له ) اي : للاحتياط .

( ولهذا ) اي : لأنّ الشارع حكم بالتخيير هنا ( يحكم بالتخيير ايضاً وإنْ كان احدهما موافقاً للاستصحاب والآخر مخالفاً ) للاستصحاب .

والحاصل : إّٔ حكم التخيير بين الخبرين ، لا يَدعُ مجالاً للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما لا يترك مجالاً للاستصحاب الاصولي المعيّن لأحد الطرفين فيما كان احد الخبرين موافقاً للاستصحاب والآخر مخالفاً له ، فانّ الشارع حكم بالتخيير بين الخبرين سواء كان احدهما موافقاً للاحتياط أم لا ، وسواء كان احدهما موافقاً للاستصحاب ام لا ، فلا مجال للاحتياط في المسألة الفرعيّة .

( اذ كما انّ الدّليل المُعَيّن ) بصيغة اسم الفاعل ( للعمل به ) اي : بذلك الدّليل

ص: 206

يكون حاكما على الاصول ، كذلك الدليلُ المخيّرُ في العمل به وبمعارضه .

وإن كان من جهة بعض الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط ، وطرح ما خالفه ، ففيه ما تقرّر في محلّه من عدم نهوض تلك الأخبار لتخصيص الأخبار الدالّة على التخيير .

بل هنا كلام آخر ، وهو :

-------------------

معناه : عدم التعارض ، لأنّه ( يكون حاكماً على الاصول ) فاذا كان هناك دليل وأصل ، يقدّم الدليل على الاصل ( كذلك الدّليل المخيّر في العمل به وبمعارضه ) . لايدع مجالاً للأصول ، سواء كان أصل الاحتياط ، أو أصل الاستصحاب ؟ .

( وان كان ) الاخذ به - وهذا عطف على قوله : « لأن الاخذ به ان كان من جهة اقتضاء المورد للاحتياط ..» - ( من جهة بعض الأخبار الدّالة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط ، وطرح ما خالفه ) في باب الخبرين المتعارضين ، فان فيبعض اخبار العلاج ما يدلّ على الاخذ بما وافق الاحتياط دون ما خالفه ( ففيه ما تقرّر في محله ) وقد ذكر المصنّف هنا اشكالين على ذلك :

أوّلاً : انّه ليس من مسألة التخيير والتعيين .

ثانياً : على فرض انّه منه ، فدلالة الاخبار العلاجية على التخيير ، لا تدعُ مجالاً للمسألة الفرعيّة بالاحتياط .

هذا غير أنّ المصنّف ذكر الاشكال الثاني أوّلاً والاشكال الاوّل ثانياً .

وعليه : فلا يمكن الأخذ بالاحتياط في المسألة الفرعيّة لما قد تبيّن : ( من عدم نهوض تلك الأخبار ) اي : أخبار الاخذ بالإحتياط من الخبرين المتعارضين ( لتخصيص الأخبار الدّالة على التخيير ) بين المتعارضين .

( بل هنا كلام آخر ، وهو : ) إنّ المرجوح ليس بحجّة اطلاقاً ، فليس من مسألة

ص: 207

أنّ حجّيّة الخبر المرجوح في المقام ، وجواز الأخذ به يحتاج الى توقف ، إذ لا يكفي في ذلك ما دلّ على حجّيّة كلا المتعارضين بعد فرض امتناع العمل بكلّ منهما ، فيجبُ الأخذُ بالمتيقّنِ جوازُ العمل به وطرحُ المشكوك ، وليس المقامُ ، مقامَ التكليف المردّد بين التعيين والتخيير ، حتّى يبنى على مسألة البراءة والاشتغال .

-------------------

التعييّن والتخيير ليقدّم التعيين على التخيير كما قال : ( ان حجيّة الخبر المرجوح في المقام ، وجواز الأخذ به يحتاج الى توقف ) بمعنى : أنّه لا نتمكن ان نقول بحجيّة الخبر المرجوح ( اذ لا يكفي في ذلك ) اي : في حجيّة الخبر المرجوح ( ما دلّ على حجيّة كلا المتعارضين بعد فرض : امتناع العمل بكلّ منهما ، فيجب الأخذ بالمتيقن جواز العمل به ) قوله : « جواز » فاعل قوله : « بالمتيقن » ( وطرح المشكوك ) منهما .

( و ) الحاصل : ان الخبر المرجوح وإنْ وافق الاحتياط يلزم تركه ، فلا يمكنه مُعارضَة الخبر الرّاجح حتى يكون من دوران الامر بين الاحتياط في المسألة الاُصولية وبين الاحتياط في المسألة الفرعية فانّه ( ليس المقام ، مقام التكليف المردد بين التعييّن والتخيير ، حتى يبنى على مسألة البرائة والاشتغال ) .

هذا ، وقد اختلف العلماء في مسألة التعيين والتخيير فقال بعض : بتقديم الاشتغال الموافق للتعيين ، وقال بعض : بتقديم البرائة الموافق للتخيير ، لكن المقام ليس من هذا الباب ، فانّه ليس هنا تخيير اطلاقاً ، بل يلزم طرح الخبر المرجوح والاخذ بالخبر الراجح الذي كان رجحانه بسبب الظنّ الخارجي ، ففي المثال السابق يلزم الاخذ بطهارة الحديد الموافق للمشهور ، ويطرح القول بالنجاسة الموافق للاحتياط ، لأنّه لا حجيّة في خبر النجاسة .

ص: 208

وتمامُ الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث التراجيح إن شاء اللّه تعالى .

الثاني : ظهورُ الاجماع على ذلك وكما استظهره بعضُ مشايخنا ، فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات الخارجيّة بافادته للظنّ بمطابقة أحد الدليلين للواقع ، فكأنّ الكبرى وهي وجوبُ الأخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق أحد الدليلين مسلّمةً عندهم .

وربّما يستفاد ذلك من الاجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى المتعارضين ،

-------------------

(وتمام الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث الترجيح انشاء اللّه تعالى) مفصلاً .

( الثاني ) من الوجوه التي استدّل بها للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي الموافق لأحد الخبرين : ( ظهور الاجماع على ذلك ) اي : على الترجيح بالظنّ الخارجي ( وكما استظهره ) اي : الاجماع ( بعض مشايخنا ، فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات الخارجية ب- ) سبب ( افادته للظنّ بمطابقة احد الدليلين للواقع ) وقوله : « بافادته » متعلق بقوله : « يستدلّون » .

( فكأن الكبرى وهي : وجوب الاخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طِبقِ احد الدّليلين مسلّمةً عنده ) وانّما يأتون بالصغرى ، وان هذا المرجّح يفيد الظنّ بأحد الخبرين ، وصورة القياس هكذا : المرجح الفلاني يفيد الظنّ بأحد الخبرين ، وكلّما افاد الظنّ بأحد الخبرين يوجب حجّية ذلك الخبر المظنون .

( وربما يُستفاد ذلك ) اي : وجوب الاخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق احد الدّليلين ( من الاجماعات المستفيضة على وجوب الاخذ بأقوى المتعارضين ) ومن المعلوم : انّه اذا كان احد المتعارضين موافقاً للظنّ يكون اقوى من الآخر .

ص: 209

إلاّ أنّ يشكل بما ذكرنا : من أنّ الظاهر أنّ المراد بأقوى الدليلين منهما ما كان كذلك في نفسه ولو لكشف أمر خارجيّ عن ذلك ، كعمل الأكثر الكاشف عن مرجّح داخليّ لا نعلمه تفصيلاً ، فلا يدخل فيه ما كان مضمونُه مطابقا لأمارة غير معتبرة ، كالاستقراء ، والأولويّة الظنّيّة مثلاً ، على تقدير عدم إعتبارهما ، فانّ الظاهرَ خروجُ ذلك عن معقد تلك الاجماعات ، وإن كان بعضُ أدلّتهم الأُخَر قد يفيد العمومَ لما نحن فيه ، كقبح ترجيح المرجوح ،

-------------------

( إلاّ أن يشكل بما ذكرنا : من انّ الظاهر : انّ المراد بأقوى الدليلين منهما ) اي : من المتعارضين : ( ما كان كذلك ) اي اقوى ( في نفسه ولو لكشف امر خارجي عن ذلك ) اي : عن كونه اقوى في نفسه ( كعمل الأكثر ) من العلماء باحد الخبرين ( الكاشف عن مرجّح داخلي لا نعلمه تفصيلاً ) .

وعليه : فلا يكون موافقة احد الخبرين للظنّ موجباً للترجيح ، الاّ فيما اذا كان الظنّ سبباً للأقوائية الداخلية في ذلك الخبر المظنون .

إذن : ( فلا يدخل فيه ) اي : في اقوى الدليلين ( ما كان مضمونه ) اي مضمون احد الخبرين ( مطابقاً لأمارة غير معتبرة ) فرضا ( كالإستقراء ، والأولوية الظنيّة - مثلاً - على تقدير عدم اعتبارهما ) اي : عدم اعتبار الاستقراء والاولوية الظنيّة فانّهما ليسا معتبرين شرعاً .

( فان الظاهر خروج ذلك ) اي : المطابقة للأمارة غير المعتبرة ( عن معقد تلك الاجماعات ) القائمة على وجوب الاخذ بأقوى المتعارضين ( وان كان بعض أدلّتهم الأُخر ) غير الاجماعات المستفيضة على وجوب الاخذ باقوى المتعارضين ( قد يفيد العموم لما نحن فيه ) من الترجيح بأمارة غير معتبرة ( كقبح ترجيح المرجوح ) على الراجح ، فانّه لا شك في كون موافقة أمارة غير معتبرة

ص: 210

إلاّ أنّه لا يبعدُ أن يكون المرادُ المرجوحَ في نفسه من المتعارضين لا مجرّدَ المرجوح بحسب الواقع ، وإلاّ اقتضى ذلك حجّيّة نفس المرجّح مستقلاًّ .

نعم ، الانصافُ : أنّ بعضَ كلماتهم يستفادُ منه أنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجّح أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر .

وقد استظهر بعضُ مشايخنا الاتفاقَ على الترجيح

-------------------

لأحد الخبرين يجعل ذلك الخبر راجحاً ، فلا يقدّم الخالي عن الرجحان عليه ، ولا يساويه ايضاً .

( الاّ انّه لا يبعد أن يكون المراد : المرجوح في نفسه من المتعارضين ، لا مجرد المرجوح بحسب الواقع ) وان كان الرّجحان خارجياً ، فانّه يشترط وجود القوة في داخل احد المتعارضين لا من الخارج .

( والاّ ) بأنْ ارادُوا مجرد المرجوح بحسب الواقع ( اقتضى ذلك ) اي : مجرد المرجوح بحسب الواقع ( حجيّة نفس المرجّح مستقلاً ) وهذا مقطوع العدم ، لأنّ المفروض : ان الكلام في الأمارة المرجّحة التي هي ليست بمعتبرة .

وانّما قال المصنّف «وإلاّ اقتضى ذلك» ، لانّه لو كان مرجّحاً كان معناه : انه لولاه لم يؤخذ بالخبر الراجح ، ومعنى ذلك : أنّ المرجِح بالكسر حجّة والمطلوب : انّه ليس بحجة ، لأنّ الكلام في الأمارة غير المعتبرة التي توافق احد الخبرين .

( نعم ، الانصاف انّ بعض كلماتهم يستفاد منه : إنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجح أقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) سواء كان المرجح المقرّب امراً داخلياً أم خارجياً .

( و ) يؤد هذا التعميم ما ( قد استظهر بعض مشايخنا : الاتفاق على الترجيح

ص: 211

بكلّ ظنّ ما عدا القياس .

فمنها : ما تقدّم عن المعارج من الاستدلال للترجيح بالقياس بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر .

ومنها : ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرّر ، فانّ مرجعَ ما ذكروا فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظنّ بموافقة أحدهما لحكم اللّه الواقعيّ .

-------------------

بكل ظنّ ما عدا القياس ) لأنّ القياس خارج بالنصّ واستظهار بعض مشايخنا ذلك من عدة اُمور في كلماتهم :

( فمنها : ما تقدّم عن المعارج : من الاستدلال للترجيح بالقياس ) عند بعض من جعل القياس مرجحاً ( بكون مضمون الخبر الموافق له ) اي : للقياس : ( اقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) فيظهر من هذا الاستدلال : إنّ الاقربية الى الواقع امرٌ

مفروغ عن الترجيح به ، متفق عليه بينهم ، والاّ لم يصح جعله دليلاً .

( ومنها : ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرّر ) وهو ما اذا كان خَبَران متعارضان : احدهما خلاف الاصل ممّا يسمى ناقلاً لأنّه ينقل عن حكم الاصل ، والآخر موافق للاصل ممّا يُسمى مقرراً ، لأنّه يقرر الاصل ، كما اذا قال احد الخبرين بالحرمة ، وقال الآخر : بالاباحة فان الحرمة خلاف الاصل ويُسمى ناقلاً ، والاباحة موافقاً للأصل ويُسمى مقرراً .

( فان مرجع ما ذكروا فيها لتقديم احدهما على الآخر ) بحسب ما وجد في المسألة من المذهبين : القائل اوّلهما بتقديم المقرر ، وثانيهما : بتقديم الناقل ، فان كل واحد منهما استدل لما ذهب اليه بما يرجع ( الى الظنّ بموافقة احدهما لحكم اللّه الواقعي ) مما يدل على ان الظنّ يرجح هذا على ذاك ، او ذاك على هذا .

ص: 212

إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظنّ حاصلٌ من نفس الخبر المتّصف بكونه مقرّرا أو ناقلاً .

ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف معلّلين بأن الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، وفي ترجيحه بعمل علماء المدينة ،

-------------------

( الاّ ان يقال : انّ هذا الظنّ حاصل بنفس الخبر المتصّف بكونه مقرراً أو ناقلاً ) لا من الخارج ، فلا يدل كلامهم على انّ الظنّ المستفاد من الخارج ، كالشهرة ، والاستقراء ، وما اشبه ذلك يكون مرجحاً .

( ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف ) بهذا الخبر دون ذاك فيما اذا كان الخبران متعارضين ( معلّلين بأنّ الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفق له الاقل ) وانّما يوفق الأكثر للصواب ،لأنّ اللّه سبحانه جعل الشورى في الموضوعات المختلف فيها ، ومعنى الشورى : هو الاخذ بقول الأكثر ، قال سبحانه : « وأَمُرهُم شُورى بينهم » (1) وقال ايضاً : « وَشاورَهُم في الأمر » (2) وقال ثالثة : « وَتشاوُر » (3) .

( وفي ترجيحه ) اي : ترجيح احد الخبرين ، وهذا عطف على قوله : « في ترجيح احد الخبرين بعمل اكثر السلف » ( بعمل علماء المدينة ) لانّهم اقرب الى محل الوحي ، وجه ، ومن المعلوم : ان هذا لا يوجب الاّ الظنّ ، ممّا يدل على ان الظنّ مرجّح .

ص: 213


1- - سورة الشورى : الآية 38 .
2- - سورة آل عمران : الآية 159 .
3- - سورة البقرة : الآية 233 .

إلاّ أن يقال إنّ ذلك كاشف عن مرجّح داخليّ في أحد الخبرين .

وبالجملة : فتتبّع كلماتهم يوجب الظنّ القويّ بل القطع بأنّ بناءهم على الأخذ بكلّ ما يشتمل على ما يوجب أقربيته إلى الصواب ، سواء كان لأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوّة مضمونها .

ثمّ لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات بمرجّحيّة مطلق الظنّ المطابق لمضمون أحد الخبرين ، فلا أقلّ من كونه مظنونا ، والظاهرُ وجوبُ العمل به في مقابل التخيير

-------------------

( الاّ أنّ يقال : ان ذلك كاشف عن مرجح داخلي في احد الخبرين ) فلا يدلّ على أنّ الظنّ مطلقاً ولو من الخارج يكون مرجحاً .

( وبالجملة : فتتبع كلماتهم يوجب الظنّ القوي ، بل القطع بأنّ بنائهم : على الأخذ بكل ما يشتمل على ما يوجب أقربيته الى الصواب ، سواء كان لأمر راجع الى نفسه ) أي : الى نفس الخبر ، مثل أن يكون سنده اقوى من سند غيره ، أو مضمونه اقرب الى العرف من مضمون غيره ، وهكذا .

( او لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوة مضمونها ) من الخارج ، مثل الشهرة والاستقراء ، والاجماع المنقول ، وما اشبه ذلك .

( ثم لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات ) التي ذكرناها بقولنا : منها ، ومنها ، ومنها ( بمرجحيّة مطلق الظّن المطابق لمضمون احد الخبرين ) ولو بسبب الاحتفاف بأمارة اجنبيّة خارجية ( فلا اقل من كونه ) اي : الترجيح بمطلق الظنّ المطابق لمضمون احد الخبرين ( مظنوناً ) ان لم يكن مقطوعاً .

( والظاهر : وجوب العمل به ) اي : بهذا الظنّ ( في مقابل التخييّر ) وذلك لجريان قاعدة الاشتغال عند مَنْ يَرى تقدّم التعيين على التخيير في صورة دوران

ص: 214

وإن لم يجب العملُ به في مقابل الاصول ، وسيجيء بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى .

الثالث : ما يظهر من بعض الأخبار ، من أنّ المناط في الترجيح كونُ أحد الخبرين أقربَ مطابقةً للواقع ، سواء كان لمرجّح داخليّ كالأعدليّة مثلاً أو لمرجّح خارجيّ كمطابقته لأمارة توجبُ كونَ مضمونه أقربَ إلى الواقع من مضمون الآخر :

مثلُ ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة في الحديث ، كما في مقبولة ابن حَنظلة ،

-------------------

الأمر بينهما ( وان لم يجب العملُ به في مقابل الاصول ) كالاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب في احد الطرفين مقدّم على الظنّ في الطرف الآخر ، ( وسيجيء بيان ذلك انشاء اللّه تعالى ) فيما يأتي .

( الثالث ) ممّا يستدلّ به للترجيح بمطلق الظنّ الخارجي : ( ما يظهر مِنْ بعض الأخبار : من انّ المناط في الترجيح ، كون أحَد الخبرين اقرب مطابقة للواقع ) اي : من جهة المطابقة للواقع : فقوله : « مطابقة » تمييز .

( سواء كان لمرجّح داخلي ، كالأعدلية ) فان الاعدلية مرجّح داخلي في سند الخبر ( مثلاً او لمرجّح خارجي ، كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب الى الواقع من مضمون الآخر ) كالشهرة والاستقراء ونحوهما (مثل ما دلّ على الترجيح بالأصدقيّة في الحديث ، كما في مقبولة إبن حنظلة ) (1) .

ص: 215


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فانّا نعلمُ أنّ وجهَ الترجيح بهذه الصفة ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقربَ إلى الواقع من الخبر الغير الموصوف بها ، لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق .

وليس هذه الصفة مثل الأعدليّة وشبهها في إحتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ؛ ولذا اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق وثاقته ،

-------------------

وانّما يعد الاصدقيّة مرجح خارجي لماذكره بقوله : ( فانّا نعلم انّ وجه الترجيح بهذه الصفة ) اي : الاصدقية ( ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من الخبر غير الموصوف بها ) فالاصدقية طريق الاقربية الى الواقع ( لا لمجرد كون راوي احدهما اصدق ) حتى لا يكون له ربط بالاقربية الى الواقع .

( وليس هذه الصفة ) اي : الاصدقية ( مثل الاعدلية وشبهها ) كالافقهية ، والاورعية ( في احتمال كون العبرة بالظنّ الحاصل من جهتها بالخصوص ) في داخل الخبر .

قال في الاوثق : « اذ يحتمل أنْ يكون الشارع قد جَعلَ للعادل مرتبةً لاجل عدالته ومرتبةً اُخرى لاجل خَبره وإنْ احتملت مخالفته للواقع حِفظاً لإنتهاك حرمته بين الأَنام بخلاف صفة الصدق ، على ما قربه المصنّف ، وكذلك في الأوثقية والاعدلية والاصدقية » (1) .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرنا : من إنّ الاعتبار بالقرب إلى الواقع ( اعتبر الظنّ الحاصل من عدالة البيّنة دون الحاصل من مطلق ؟ وثاقته ) فإنّ البيّنة إذا كانت

ص: 216


1- - أوثق الوسائل : ص247 الوجه الثاني والثالث مما استدلّ به للترجيح .

لأنّ صفةَ الصدق ليست إلاّ المطابقةَ للواقع ، فمعنى الأصدق هو الأقربُ إلى الواقع . فالترجيحُ بها يدلّ على أنّ العبرة بالأقربيّة من أيّ سبب حصلت .

ومثلُ ما دلّ على ترجيح أوثق الخبرين ، فانّ معنى الأوثقيّة شدّةُ الاعتماد عليه ، وليس إلاّ لكون خبره أوثقَ ، فاذا حصل هذا المعنى

-------------------

عادلة يؤخذ بكلامها دون ما إذا كانت ثقة غير عادلة ، فإنّه لولا ملاحظة الظنّ بسبب الأقربية إلى الواقع ، كان خبر العدل والثقة متساويين من حيث إنّهما لايكذبان ، وانّما الفرق : انّ العدالة أمرٌ خارجي توجب الظنّ بمضمون الخبر ، بينما ليست الوُثاقة كذلك فالظنّ من الخارج أوجب قبول البيّنة العادلة دون البينّة الموثقة .

وقد علّل المصنّف ما تقدّم من قوله : «لا لمجرد كون راوي أحدهما أصدق» ، بقوله : ( لأن صفة الصدق ليست إلاّ المطابقة للواقع ، فمعنى الأصدق : هو الأقرب إلى الواقع ) فإذا كان هناك خَبران : صادق وأصدق يقدّم الأصدق على الصادق ( فالترجيح بها ) أي : بالأصدقيّة ( يدل على أنّ العبرة بالأقربية ) إلى الواقع ( من أي سبب حصلت ) تِلكَ الأقربية سواء من السَبب الداخل أو من السبب الخارج .

( ومثل ) عطف على قوله قبل أسطر « مثل ما دلّ على الترجيح والأصدقية » ( ما دلّ على ترجيح أوثق الخبرين ) فإذا كان هناك خبران متعارِضان أحدهما أوثق من الآخر ، قدِّم الأوثق على غير الأوثق ، مع إنّ كليهما ثقة ( فإن معنى الأوثقية: شدّة الاعتماد عليه ) فإنّه إذا كان خبران أحدهما أوثق والآخر موثق ، كان الأوثق أشدُ إعتماداً عليه من الموثق (وليس إلاّ لكون خبره أوثق) من الخبر الآخر .

وعليه : ( فإذا حصل هذا المعنى ) أي : شدة الاعتماد على أحدهما دون الآخر ،

ص: 217

في أحد الخبرين من مرجّح خارجيّ ، اتّبع .

وممّا يستفاد منه المطلبُ على وجه الظهور ما دلّ على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث يعرفه كلّهُم وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم ، بل يَنفرد بروايته بعضهُم دون بعض ، معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، فيدلّ على أنّ طرح

-------------------

( في أحد الخبرين من مرجّح خارجي ، اتّبع ) ذلك الخبر الذي له مرجّح خارجي ، فلا فرق بين أن يكون شدة الاعتماد بأحد الخبرين داخل أو خارج .

( وممّا يُستفاد منه المطلب على وجه الظهور ) أي : الترجيح بمطلق الظنّ الخارجي أو الداخلي ، إضافة الى الوجوه الثلاثة التي ذكرناها بقولنا : « الأول : قاعدة الاشتغال ، والثاني : ظهور الاجماع ، والثالث : مايظهر من بعض الأخبار » ( ما دلّ على ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكونه مشهوراً بين الأصحاب بحيث يعرفه كلهم ) أي : جلهم : ( وكون الآخر غير مشهور الرواية بينهم ، بلّ ينفرد بروايته بعضهم دون بعض ) كما إذا روى أحد الخبرين عشرة ، والآخر ثلاثة أو أربعة .

وإنّما قدّم الإمام عليه السلام المشهور على غيره ( معلِّلاً ذلك ) التقديم ( بأن المُجمَعَ عَليهِ لا رَيبَ فيه ) (1) والمراد بالمُجمع عليه : ما قام عليه الشهرة بقرينة قوله عليه السلام « دَع الشّاذَ النّادِرَ » (2) .

( فيدل ) هذا الخبر الذي قدّم المشهور على غير المشهور ( على أن طرح

ص: 218


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

الآخر لأجل ثبوت الرَّيب فيه ، لا لأنّه لا ريبَ في بطلانه ، كما قد يتوهّم ، وإلاّ لم يكن معنىً للتعارض وتحيّر السائل ، ولا لتقديمه على الخبر المجمع عليه ، إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه صدر الخبر ، ولا لقول السائل بعد ذلك : « هما معا مشهوران » .

-------------------

الآخر ) الذي ليس بمشهور ( لأجل ثبوت الرَّيب فيه ، لا لأنّه لا رَيبَ في بطلانه كما قد يُتَوهم ) فإنّه قد يقال : خبر زُرارة لا رَيبَ فيه ، بمعنى : إنّ خبر عَمار المقابل له ، فيه ريب ، وقد يقال : خبر زُرارة لا ريب فيه ، بمعنى : إنّ خبر أبي الخطاب المقابل له لا ريبَ في بطلانه ، والمراد هنا من «لا رَيبَ فيهِ» في الروّاية : المعنى الأوّل ، لا المعنى الثاني .

( وإلاّ ) بأنْ كان المراد منه : إنّ الخبر المقابل له لا رَيبَ في بطلانهِ ( لم يكن معنىً للتعارض ) لأنّ الخبر الذي لاريبَ في بطلانه يسقط تلقائياً فلا يُعارض الخبر الذي لاريب فيه .

( و ) كذا لم يكن معنى ل- ( تحّير السائل ) بين الخبرين ، الذي أحدهما بالتعيين لاريبَ في بطلانه ( ولا ) معنى أيضاً ( لتقديمه ) أي : الخبر الذي فيه رَيب ( على الخبر المُجمع عليه ، إذا كان راويه ) أي : راوي الخبر الذي فيه الرَيب ( أعدل كما يقتضيه صدر الخبر ) حيث إنّ الإمام عليه السلام قدّم أوّلاً الأعدل ، ثم إذا لم يكن بينهما أعدل ، بل كان كلاهما عادلان قدّم الخبر المُجمع عليه على غيره .

ومعنى تقديم الأعدل : أنْ يقدّم الأعدل أوّلاً وإنْ كان الخبر الآخر أشهر ، فاذا لم يكن أعدل في البين ، كان اللازم الأخذ بالأشهر .

( ولا ) معنى أيضاً ( لقول السائل بعد ذلك ) أي : بَعدَ جَعل الإمام الأشهر مقدَّماً على غيره : ( هما معاً مشهوران ) إذ الخبر الذي لا رَيبَ في بطلانه سواءا كان

ص: 219

فحاصلُ المرجّح ثبوتُ الرَّيب في الخبر الغير المشهور ، وانتفاؤه في المشهور ، فيكون المشهورُ من الأمر البيّن الرّشد ، وغيرُه من الأمر المشكل ، لا بيّن الغيّ ، كما توهّم .

وليس المرادُ به نفيَ الرَّيب من جميع الجهات ، لأنّ الاجماع على الرواية لا يوجبُ ذلك ضرورةً ، بل المرادُ وجودُ ريب في غير المشهور يكون منتفيا في الخبر المشهور ، وهو احتمالُ وروده على بعض الوجوه

-------------------

مشهوراً أو غير مشهور لا يُؤخذ به ، بل لايمكن أنْ يكون مثل هذا الخبر الذي لارَيبَ في بطلانه مشهوراً بين الأصحاب .

وعليه : ( فحاصل المرجّح : ثبوت الرَّيب في الخبر غير المشهور ، وانتفاؤه في المشهور ، فيكون المشهور من الأمر البيّن الرّشد ، وغيره من الأمر المُشكل ، لا بيّن الغيّ كما توهّم ) فانّ المتوهم ، توهم : إنّ المراد بأنّ غير المشهور هو : بيّنُ الغَيّ ، وقد رَدّ المصنّف على ذلك باُمور أربعة : بقوله : « وإلاّ لم يكن » وقوله : « وتحيّر السائل » وقوله : « ولا لتقديمه » وقوله : « ولا لقول السائل » .

ثم إنّ المصنّف شَرَعَ في مطلبٍ آخر ، فقال : ( وليس المراد به ) أي : بقول الإمام : « لا رَيبَ فيه » ( نفي الرَيب من جميع الجهات ) بل نفي الرَيب النسبي ، ( لأن الاجماع على الرّواية لايُوجب ذلك ) أي : نفي الرَيب من جَميع الجهات ( ضرورة ) وبداهة ( بل المراد : وجود رَيب في غير المشهور ) رَيباً نسبياً ( يكون ) ذلك الرَيب ( منتفياً في الخبر المشهور ) عند الاصحاب .

( وهو ) أي : ذلك الرَيب في الجملة الموجود في غير المشهور ( : إحتمال وروده ) أي : ورود غير المشهور ( على بعض الوجوه ) لا لبيان الحُكم الواقعي .

ص: 220

أو عدم صدوره رأسا .

وليس المرادُ بالريب مجرّدَ الاحتمال ولو موهوما ، لأنّ الخبر المجمع عليه ، يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعضُ الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ، غايةُ الأمر كونُه في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحا وفي غير المشهور احتمالاً مساويا يصدق عليه الريبُ عرفا.

وحينئذٍ : فيدلّ على رجحان

-------------------

( أو ) إحتمال ( عدم صدوره رأساً ) وهذا عطف على قوله : « وروده » ، فاذا كان خبر زُرارة وخبر محمّد بن مسلم - مثلاً - متعارضان ، وإحتَملنا ورود خبر زُرارة للتقيّة ولم نحتمل مثل ذلك في خبر ابن مسلم ، صحّ أنْ يقال : لا رَيبَ في خبر ابن مسلم في قبال خبر زُرارة الذي فيه الرَيب من جهة إحتمالنا انّه صدر تقيّة .

ثم إنّ المصنّف انتقل إلى بيان أمر آخر فقال : ( وليس المراد بالرَيب : مجرد الاحتمال ولو موهوماً ) بأن يكون إحتمال الرَيب في خبر غير المشهور موهوماً ، وفي خبر المشهور ليس حتى ذلك الاحتمال الموهوم ، بل المراد الرَيب العرفي ( لأن الخبر المُجمَع عليه ، يحتمل فيه أيضاً من حيث الصدور بعض الاحتمالات المتطرّقة في غير المشهور ) فإنّه يحتمل في خبر المشهور أيضاً صدوره لا لبيان الحُكم الواقعي .

( غاية الأمر : كونه ) أي : الرَيب ( في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحاً ) عند العرف ( وفي غير المشهور إحتمالاً مساوياً يصدق عليه الرَيب عرفاً ) عقلائياً .

( وحينئذٍ ) أي : حين قدّم الامام عليه السلام ما فيه نفي الرَيب النسبي على ما فيه الرَيب النسبي ( فيدل ) هذا الخبر المرجّح بالمشهور على غيره ، ( على رجحان

ص: 221

كلّ خبر يكون نسبتُه إلى معارضه ، مثلَ نسبة الخبر المُجمع على روايته إلى الخبر الذي اختصّ بروايته بعضٌ دون بعض ، مع كونه بحيث لو سَلِمَ عن المعارض أو كان راويه أعدل وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لأُخِذَ به ، ومن المعلوم أنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبتُه إلى معارضه ، تلك النسبةُ .

ولعلّه لذا علّل تقديمُ الخبر المخالف للعامّة على الموافق بأنّ ذاك

-------------------

كلَّ خبر يكون نسبته إلى معارضه ، مثل نسبة الخبر المُجمَع على روايته إلى الخبر الذي إختصّ بروايته بعض دون بعض ) بأنْ كان في أحد الخبرين رَيبٌ نسبي ، ممّا ليس هذا الرَيب النسبي في الخبر الآخر ، فإنّه يؤخذ بالخبر الآخر الذي لا رَيب فيه ويترك الخبر الذي فيه الرَيب النسبي .

( مع كونه ) أي : ما فيه الرَيب النسبي ليس ساقطاً بالمرة ( بحيث لو سَلِمَ عن المعارض ، أو كان رواية أعدل وأصدق من راوي معارضه المُجمَع عليه ) قوله : « المجمع عليه » : صفة لقوله : « معارضه » ( لأخذ به ) أي بما فيه الرَيب النسبي .

( ومن المعلوم : إنّ الخبر المعتضد بأمارة توجب الظنّ بمطابقته ) للواقع ( ومخالفة معارضه للواقع نسبته ) أي : نسبة هذا الخبر المعتضد بالأمارة ( إلى معارضه ، تلك النسبة ) التي بين ما لارَيبَ فيه وما فيه الرَيب ، وقول المصنّف : « ومن المعلوم » ، بيان للصغرى بعد إستفادة الكبرى الكليّة من الرّواية ، التي قدّمت ما لاريبَ فيه على ما فيه الريب .

( ولعلّه لذا ) أي : لتقديم ما لاريب نسبي فيه ، على مافيه ريب نسبي ( عُلّل تقديم الخبر المخالف للعامّة على الموافق ) لهم في الرواية ( بأنَّ ذاك ) الذي هو

ص: 222

لا يحتمل إلاّ الفتوى وهذا يحتمل التقيّة ، لأنّ الريبَ الموجود في الثاني منتفٍ في الأوّل .

وكذا كثيرٌ من المرجّحات الراجعة إلى وجود إحتمالٍ في أحدهما ، مفقودٍ علما أو ظنّا في الآخر ، فتدبّر .

فكلُّ خبر من المتعارضين يكون فيه ريبٌ لا يوجد في الآخر أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريبا ، فذاك الآخرُ مقدّمٌ عليه .

-------------------

مخالف للعامّة ( لايحتمل الاّ الفتوى ، وهذا ) الموافق للعامة ( يحتمل التقية ، لأنّ الريب الموجود في الثاني ) وهو : الموافق للعامّة ( منتف في الأوّل ) المخالف للعامّة .

( وكذا كثير من المرّجحات الراجعة إلى وجود إحتمالٍ في أحدهما ، مفقود ) ذلك لاحتمال ( علماً أو ظنّاً في الآخر ، فتدبر ) ولعلّه إشارة إلى أن ميزان المرجّحات هو المطابقة للواقع ، وحيث لم يكن معنى المطابقة للواقع : جعل الراجّح أقرب إلى ذهن العامل من المرجوح - لفقد دليل في المرجحات المنصوصة ، يدلّ على أن كل ما كان أقرب بنظر العامل يكون مقدّماً على الآخر - فلا يتم ما ذكره المصنّف من الترجيح بكل ظنّ .

ثم على تقدير التقديم لكلّ ما يوافقه الظنّ على ماليس فيه مثل هذا الظنّ ( فكلّ خبر من المتعارضين يكون فيه رَيب لايوجد في الآخر ) مثل ذلك الريب ، ( أو يوجد ولا يعدّ لغاية ضعفه ريباً ) قوله : « ريباً : » مفعول قوله « لايعد » ( فذاك الآخر ) الذي لارَيب فيه أو فيه ريب ضعيف جداً ( مقدّمٌ عليه ) أي : على مافيه الرَيب أو فيه رَيب أقوى .

ص: 223

وأظهرُ من ذلك كلّه ، في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ ، ما دلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على أنّ الوجه في الترجيح بها أحدُ وجهين :

أحدُهما : كونُ المخالف أبعد من التقيّة ، كما علّل به الشيخُ والمحققُ ؛

-------------------

( وأظهر من ذلك كلّه ) أي : من تلك الوجوه الثلاثة التي ذكرناها ، ومن الوجه الرابع الذي ذكرناه قبل نصف صفحة تقريباً بقولنا : وممّا يستفاد منه المطلب ( في إفادة الترجيح بمطلق الظنّ ) مايلي :

ومن الواضح : إنّ هذا غير ماذكره قبل أسطر بقوله : « ولعلّه لذا علّل تقديم الخبر المخالف للعامّة ...» ، فإنّ قوله : « لعلّه » ، تأييد لكون الأخذ بالمشهور من جهة ان المشهور أقرب إلى الصواب ، وان قوله : « لذا عُلّل » ، تأييد مستقل لأصل المطلب الذي بيّنَهُ بقوله قبل صفحتين تقريباً : «فالذي يمكن أن يستدّل به لترجيح مطلق الظنّ الخارجي وجوه» .

وعليه : فان الأظهر دلالة من كل ذلك : ( مادلّ من الأخبار العلاجيّة على الترجيح بمخالفة العامّة ) فإذا كان هناك خبران أحدهما موافق للعامّة ، والآخر مخالف ، وتعارضا يؤخذ بالمُخالف ( بناءاً على انّ وجه الترجيح بها ) أي : بمخالفة العامّة ( أحد وجهين ) على مايلي :

( أحدهما : كون المخالف أبعد من التقية ، كما علّل به الشيخ والمحقّق ) ولا يخفى : ان المراد « بالأبعد » هنا : ليس التفضيل ، بل : البعد ، فإنّ صيغة التفضيل كثيراً ما تستعمل في أصل المعنى ، فالأحوط - مثلاً - معناه : إنّه احتياط ، و «الأولى» معناه : إنّه قريب ، وليس الآخر قريباً ، وهكذا .

ص: 224

فيستفاد منه اعتبارُ كلّ قرينة خارجيّة توجب أبعديّةَ أحدهما عن خلاف الحقّ ، ولو كانت مثلَ الشهرة والاستقراء ، بل المستفاد منه عدمُ اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي تطرّق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر ، كما هو مفاد الخبر المتقدّم الدالّ على ترجيح ما لا ريبَ فيه على ما فيه الرّيبُ بالاضافة إلى معارضه .

لكنّ هذا الوجهَ لم يُنَصَّ عليه في الأخبار ، وإنّما هو شيء مستنبط منها ، ذكره الشيخ ومن تأخّر عنه .

-------------------

( فيستفاد منه ) أي من هذا التعليل ( اعتبار كلّ قرينة خارجية توجب أبعدية أحدهما عن خلاف الحق ، ولو كانت ) تلك القرينة الخارجية ( مثل الشهرة ، والاستقراء ) والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك .

( بل المستفاد منه ) أي : ممّا دلّ من الأخبار العلاجية على الترجيح بمخالفة : العامّة ( : عدم اشتراط الظنّ في الترجيح ، بل يكفي ) في حصول الترجيح ( تطّرق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين ، بعيد في الآخر ) ولو لم يكن مفيداً للظنّ بالواقع ، فلا يلزم الظنّ وانّما يوجد الاحتمال ( كما هو مفاد الخبر المتقدّم الدال على ترجيح ما لاريب فيه على مافيه الريب ) .

وعليه : فوجود ريب في الجملة في الخبر ، يوجب تقدّم معارضه عليه ، وإن لم يكن معارضه مظنوناً ، فاذا كان خبراً ليس فيه ريب وذلك ( بالإضافة إلى معارضه ) أي : بالنسبة الى معارضه ، نأخذ بما لاريب فيه ونترك ما فيه الريب .

( لكنّ هذا الوجه ) وهو : كون المخالف أبعد من التقية ( لم يُنَصّ عليه في الأخبار ) العلاجية ( وإنّما هو شيء مستنبط منها ) أي : من الأخبار ( ذكره الشيخ ومن تأخر عنه ) كالمحقّق وغيره ، فلا يمكن الاستناد إلى هذا الوجه في كفاية

ص: 225

نعم ، في رواية عبيد بن زرارة : « ما سَمِعتَهُ مِنّي يُشبِهُ قولَ النّاس فَفيهِ التقيّةُ ، وما سَمِعتَ منّي لا يُشبِهَ قولَ الناس ، فلا تقيّةَ فيه » .

الثاني : كونُ المخالف أقربَ من حيث المضمون إلى الواقع .

-------------------

تطرّق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الآخر .

( نعم ) رواية : « دَع ما يُريبُكَ إلى مَا لايُريبُك » (1) مؤيد لهذا الاحتمال ، وكذا ( في رواية عبيد بن زرارة ) قال عليه السلام : ( ما سَمِعته مني يُشبِهُ قَولَ النّاسِ فَفِيهِ التقيّة ، وَما سمِعتَ مِنّي لا يُشبِه قَولَ النَاس ، فَلا تَقِيَّةَ فِيهِ ) (2) فالمعيار كون المخالف أبعد عن التقية كما ذكره الشيخ ، إذ مجرد الشبه بقول الناس يسقط الخبر في قِبال الذي لا يشبه قول الناس ، وان لم يكن هناك ظنّ موافق لما لايشبه قول الناس ، اذ ليس المعيار الظنّ ، وإنّما المعيار : الأبعدية ، والرّيب ، وما أشبه ذلك .

( الثاني ) من وجهي الترجيح بمخالفة العامّة ( : كونُ المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع ) والأقربية الى الواقع إما من جهة الكم ، أو من جهة الكيف .

امّا مِن جهة الكم : فمثل أنْ يكون في كل عشرة من الأخبار المخالفة للعامة سبعة منها يُطابق للواقع، بينما في الأخبار الموافقة للعامّة خمسة منها يُطابق الواقع.

ص: 226


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، كنز الفوائد ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 وقريب منه في تهذيب الأحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 .

وامّا من جهة الكيف : فمثل أنْ يَقول العامّة : بأن النَجس بالبول يُغسل مرة ، والواقع انّه يغسل ثلاث مرات ، فإذا كان خبران أحدهما يقول بالمرة ، والآخر بالمرتين ، فالمرتين أقربُ إلى الواقع .

والفرقُ بين الوجهين : انّ الأوّل كاشفٌ عن وجه صدور الخبر ، والثاني كاشفٌ عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع .

وهذا الوجهُ منصوصٌ في الأخبار ، مثل تعليل الحكم المذكور فيها بقوله عليه السلام : « فانّ الرُشدِ في خِلافِهِم » ، و « ما خالَفَ العامَّةَ فَفيهِ الرَّشاد » .

فانّ هذه القضيّة قضيّة غالبيّة لا دائمة ، فيدلّ على أنّه يكفي في الترجيح الظنُّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين .

-------------------

( والفرقُ بين الوجهين : إنّ الأوّلُ ) : وهو ماذكرناه بقولنا : «أحدهما كون المخالف أبعد من التقيّة» ( كاشفٌ عن وجه صدور الخبر ) فالخبر الصادر موافقاً للتقية ، يكون تقيّة ، بينما الخبر الصادر على خلاف التقيّة يكون مطابقاً للواقع .

( والثاني ) : وهو ما ذكرناه بقولنا : «كون المخالف أقرب من حيث المضمون» . ( كاشفٌ عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع ) دون الآخر المُوافق للعامّة .

( وهذا الوَجْهُ ) الثاني ( منصوصٌ في الأخبار ، مثل تعليل الحُكم المذكور ) وهو الأخذ بما خالف العامّة ( فيها ) أي : في الأخبار ( بقوله عليه السلام : « فانّ الرُشد فِي خِلافِهِم » (1) و « ما خَالَفَ العامَّةَ فَفيِهِ الرَّشاد » (2) ) فإنَّ من المعلوم : ان ما فيه الرُشد معناه : المطابقة للواقع .

وعليه : ( فإنّ هذه القضية ) أي : قضية كون الرُشد في خلافهم ( قضيّة غالبيّة لا دائمة ) لوضوح : انّه كثيراً ما يتطابق رأي العامة مع رأي الشيعة ( فيدلّ على انّه يكفي في الترجيح : الظنّ بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين ) ممّا ينتهي

ص: 227


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 ، .

ويدلّ على هذا التعليل أيضا ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد ، من قوله « إئتِ فَقِيهَ البَلد فاستَفتِهِ في أمرِكَ ، فَاذا أفتاكَ بشيءٍ ، فَخُذ بخِلافهِ ، فانّ الحَقَّ فيه » .

وأصرحُ من الكلّ في التعليل بالوجه المذكور مرفوعةُ أبي إسحاق الأرجانيّ إلى أبي عبد اللّه عليه السلام . قال : قال عليه السلام : « اتدري لِمَ أمِرتُم بالأخذِ بخلافِ ما يَقولُهُ العامّةُ ؟ فقُلتُ : لا أدري . فقال : إنّ عليّا عليه السلام لم يكُن يدين اللّه بدين إلاّ خالفَ عَليه الأُمّة إلى غيره ، إرادةً لا بطال أمرِهِ ،

-------------------

إلى الترجيح بمطلق الظنّ .( ويدلّ على هذا التعليل ) أي : تعليل كون الرُشد في خلافِهم (أيضاً : ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحقّ في بلد ، من قوله) عليه السلام في جواب من سأله : انّه إذا لم يكن في بلد أحداً من علماء الشيعة فالى مَنْ يرجع في المسائل الحادثة ؟ فقال عليه السلام : ( إئتِ فَقِيهَ البَلدِ فَاستَفتِهِ فِي أَمرِك ، فإذا أَفتاكَ بشيء ، فخُذ بِخِلافِه ، فَانَّ الحَقَّ فيه ) (1) أي : في خلاف ما يفتيك مفتي العامة .

( وأصرحُ مِنَ الكلّ في التعليل بالوجه المذكور ) وهو كون الرُشد في خلافهم ( مَرفوعَةُ أبي إسحاق الأرجانيّ إلى أبي عبداللّه عليه السلام قال : قال عليه السلام : أَتدرِي لِمَ أمِرتُم بالأَخذِ بِخِلافِ مَا يَقُولُهُ العَامّةُ ؟ فَقُلتُ : لا أدرِي ، فقال : إنَّ عَليّاً عليه السلام لَمْ يَكُن يدين اللّه بدين إلاّ خَالَفَ عَليه الأُمّة ، إلى غيره ) أي : كانوا يخالفون طريقَةَ الإمام عليه السلام فيما كانت تلك الطَريقة مُختصةٌ به وبشيعَتِهِ .

وإنّما يخالفون عليه ( إرادَةً لإبطالِ أَمرِهِ ) حتى لاتكون طريقة الشيعة التي هي

ص: 228


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص294 ب22 ح27 ، علل الشرائع : ص531 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، بحار الانوار : ج2 ص233 ب29 ح14 .

وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشي الذي لا يعلمونَهُ ، فاذا أفتاهم بشيء جعلوا لَهُ ضِدّا من عند أنفسهِم لِيَلبِسُوا على النّاس » .

ويصدّقُ هذا الخبر سيرةُ أهل الباطل مع الأئمّة عليهم السلام ، على هذا النحو ، تبعا لسلفهم .

حتّى أنّ أبا حنيفة حكي عنه أنّه قال : « خالفتُ جَعفرا في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكني لا أدري هل يُغمِضُ عينيه أو يفتحهُما في السجود » .

-------------------

طريقة علي عليه السلام مشهوراً بين الناس مأخوذاً بها ( وكانوا يسألون أميرَ المُؤمنين عليه السلام ) في زَمانِهِ ( عن الشَيء الّذي لا يَعلمُونَهُ ، فإذا أَفتاهُم بشيء جَعَلُوا لَهُ ضِدّاً مِن عِندِ أَنفُسهِم لِيلبِسُوا على النّاس ) (1) الطريقة الصحيحة ، وهذا لا يُنافي أخذ الثلاثة أحياناً بقوله عليه السلام في موارد مذكورة في التاريخ ، لأنّها موارد اضطرارية كانت تهدد مواقعهم وإنّما الغالب هو ترك طريقته عليه السلام إلى خلافه .

( ويُصدّقُ هذا الخبر ) وهو خبر أبي إسحاق ( سيرةُ أهل الباطل مع الأئمة عليهم السلام على هذا النحو ) من ترك فتاوى الأئمة عليهم السلام إلى ما يخالفها غالباً وذلك ( تبعاً لسلِفهم ) من الثلاثة الذين تقدّموا علياً عليه السلام ( حتى انّ أبا حنيفة حكي عنه انّه قال : خالفتُ جَعفراً فيكلّ مايقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يُغمِضُ عَينيه أو يفتحهُما في السجود ) حتى اخالفه (2) إلى غيره ؟ .

ولا يخفى : إنّا إذا راجعنا اليوم فتاوى العامّة والخاصة ، رأينا كثيراً منها متطابقة ، لكن لم يكن الأمر في زمن الأئمة عليهم السلام على هذا المِنوال ، بل كان المخالفون يعملون على خلاف الأئمة عليهم السلام ، كما هو شأن كل حكومتين متعارضتين حيث

ص: 229


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 ، علل الشرائع : ص179 و ص531 .
2- - مفتاح الكرامة : ج3 ص393 .

والحاصل : انّ تعليلَ الأخذ بخلاف العامّة في هذه الروايات بكونه أقربَ إلى الواقع ، حتّى انّه يجعل دليلاً مستقلاًّ عند فقد من يرجع إليه في البلد ، ظاهرٌ في وجوب الترجيح بكل ما هو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّةَ الرشد .

-------------------

تعمل كلّ منهما على خلاف الأُخرى .

ومن المعلوم : إنّ الأئمة عليهم السلام كانوا الخُلفاء المنصوص عليهم من اللّه ورسوله ، وكانوا يذكّرون الناس بذلك ويحكمون على قلوبهم وأفكارهم ، وكان الناس ينظرون اليهم بهذا المنظار ممّا يثير قلق حكام الجور ، فيعملون على مخالفتهم وطمس ذكرهم ، وممّا يدل على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يدعون إلى حقهم ويذكّرون الناس بذلك ، دعمَهُم لِمَنْ قام من بني الزهراء عليهاالسلام بثورات ضد الحاكمين الغاصبين بالدعاء لهم والترحمُ عليهم .

( والحاصل : انّ تعليل الأخذ بخلاف العامّة في هذه الرّوايات بكونه ) أي : بكون ذلك الخلاف ( أقرب إلى الواقع ، حتّى انّه يجعل دليلاً مستقلاً عند فقد من يرجع إليه في البلد ) من فقهاء الشيعة وعلمائهم كما في قوله عليه السلام : « إئت فَقيه البَلد فاستفتِهِ فِي أَمرك ، فَإذا أَفتاكَ بشَيء فَخُذ بِخلافهِ فانّ الحَقَ فيه » (1) فانّ هذا التعليل ( ظاهرٌ في وجوب الترجيح بكلّ ماهو من قبيل هذه الأمارة في كون مضمونه مظنّة الرشد ) .

وإنّما ذكرنا المظنّة ، لوضوح : إنّ المستفتي من فقيه البلد لايقطع بأن خلاف

ص: 230


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص294 ب22 ح27 ، علل الشرائع : ص531 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، بحار الانوار : ج2 ص233 ب29 ح14 .

واذا انضمّ هذا الظهور إلى الظهور الذي إدّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ، فالظاهرُ أنّه يحصلُ من المجموع دلالة لفظيّة تامّة .

ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة هو الذي دعى أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ، بل يوجب في أحدهما مزيّة مفقودة في الآخر ولو بمجرّد كون خلاف الحقّ

-------------------

فتوى فقيه البلد هو المطابق للواقع قطعاً .

( واذا انضمّ هذا الظهور ) وهو ما ذكرناه بقولنا : «ظاهر في وجوب الترجيح ...» ( إلى الظهور الذي ادّعيناه في روايات الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ) ونحوهما ( فالظاهر : انّه يحصلُ من المجموع دلالة لفظيّة تامّة ) للترجيح بكل ظنّ داخلي أو خارجي وإن كان الظنّ غير معتبر .

ومن المعلوم : إنّ الدّلالة اللفظيّة قد تستفاد من لفظ واحد ، وقد تستفاد من ألفاظ مُتعَددة ، كما في اللفظ وقرينة المجاز ، وفي العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمُجمل والمبيّن ، وما أشبه ذلك ، فلا إستغراب في قول المصنّف : « مِن إفادة إنضمام ظهور » إلى ظهور ، لما ذكره من الدّلالة اللفظيّة على الترجيح بمطلق الظنّ .

( ولعلّ هذا الظهور المحصّل من مجموع الأخبار العلاجيّة ) حسب ما ذكرناه : من ضمّ ظهور إلى ظهور ( هو الّذي دعى أصحابنا إلى العمل بكلّ ما يوجب رجحان أحد الخبرين على الآخر ) رجحاناً ظنيّاً .

( بل ) دعاهم الى العمل بكل ما ( يوجب في أحدهما مزية مفقودة في الآخر ) وان لم يكن صاحب المزية يوجب الظنّ ، كما قال ( ولو بمجرد كون خلاف الحق

ص: 231

في أحدهما أبعدَ منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات .

فما ظنّه بعضُ المتأخّرين من أصحابنا على العلاّمة وغيره قدس سرهم ، من متابعتهم في ذلك طريقةَ العامّة ظنٌّ في غير المحلّ .

ثمّ إنّ الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظيّة ، فلا إشكالَ في الاعتماد عليها ؛ وإن لم يبلغ هذا الحدَّ بل لم يكن إلاّ مجرّدَ الاشعار ،

-------------------

في أحدهما أبعد منه في الآخر ، كما هو كذلك في كثير من المرجّحات ) فإنّ كثيراً من المرجّحات يكون سبباً لكون الراجح أبعد عن خلاف الحق بالنسبة الى الآخر .

وعليه : ( فما ظنّه بعض المتأخرّين من أصحابنا ) وهو صاحب الحدائق على ما حكاه بَعضٌ ، حيث أخذ ( على العلاّمة وغيره قدس سرهم ) إشكالاً وهو ما ذكره المصنّف بقوله : ( من متابعتهم في ذلك ) أي : في الترجيح بالظنّ غير المعتبر ( طريقة العامّة ) لأن العامّة هم الذين يعملون بالظنّ غير المعتبر ، لا الخاصة ، فإنّ هذا الكلام من صاحب الحدائق هو ( ظنّ في غير المحل ) وقوله : « ظن » ، خبر قوله : « فما ظنّه بعض المتأخرين » .

( ثم إن الاستفادة التي ذكرناها ) قبل أسطر من ضم الظهورين : ظهور التعليل في وجوب الترجيح بكل ماهو من قبيل هذه الأمارة ، منضماً إلى الظهور المدّعى في روايات الترجيح بالأصدقية والأوثقية ( إن دخلت تحت الدلالة اللّفظيّة ، فلا إشكال في الاعتماد عليها ) أي : على هذه الاستفادة .

لكن ( وإنْ لم يبلغ هذا الحدَّ ) من الدلالة اللفظيّة ( بل لم يكن إلاّ مجرّد الاشعار ) بالدلالة ، فانّ الدلالة اللفظيّة : كون اللفظ ظاهراً في معنى ، بينما الاشعار هو : كون اللفظ له إيماء وإشارة الى ذلك المعنى من غير ظهور فيه ،

ص: 232

كان مؤيّدا لما ذكرناه من ظهور الاتفاق .

فان لم يبلغ المجموعُ حدّ الحجّيّة ، فلا أقلّ من كونها أمارةً مفيدةً للظنّ بالمدّعى .

ولابد من العمل به ، لأنّ التكليفَ بالترجيح بين المتعارضين ثابت ،

-------------------

( كان مؤيّداً لما ذكرناه : من ظهور الاتفاق ) من العلماء على الترجيح بكلّ مرجّح ظنيّ وإنْ لم يكن منصوصاً .

( فإنّ لم يبلغ المجموعُ ) من المؤيد - بالكسر- والمؤيَد - بالفتح - ( حدّ الحجّية ، فلا أقلّ من كونها أمارة مفيدةً للظنّ بالمدّعى ) أي : بالذي ادعيناه من الترجيح بكل ظنّ .

( و ) المُراد بهذا الظنّ الذي ادعى انه ( لابّد من العمل به ) هو الظّنّ الانسدادي ، فإنّ المصنّف لما تنزّل عن الدلالة اللفظيّة إلى مجرد الاشعار ، وضمّ إليه ظهور الاتفاق ، ثم تنزّل عن حجيّة المجموع وكونه مفيداً للقطع بالمدعى إلى كونه أمارة ظنيّة ، تمسك في إثبات اعتبار هذا الظنّ بدليل الانسداد ، فبيّن مقدّمات هذا الانسداد كي يستنتج من هذه المقدمات المدعى المذكور .

فكما ان الانسداد يجري في كلي الأحكام بعد تماميّة المقدمات ، كذلك يجري في خصوص بعض الموارد والذي من تلك الموارد ما نحن فيه : من الترجيح بسبب الظنّ غير المعتبر .

والمقدّمات هي ما أشار اليها : من وجوب التكليف بالترجيح ، والمرجّح بالمنصوص غير واف ، فيدور الأمر بين الترجيح بمطلق الظنّ أو بالوهم ، وحيث انّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، لَزِمَ الترجّيح بالظنّ ، وذلك ( لأنّ التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت ) .

ص: 233

لأنّ التخيير في جميع الموارد وعدمَ ملاحظة المرجّحات ، يوجبُ مخالفة الواقع في كثير من الموارد ، لأنّا نعلمُ بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها معيّنا .

والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية . مع أنّ تلك الأخبار معارضٌ بعضها بعضا ، بل بعضُها غيرُ معمول به بظاهره ، كمقبولة ابن حنظلة المتضمّنة لتقديم الأعدليّة على الشهرة ، ومخالفة

-------------------

وإنّما كان هذا التكليف ثابتاً ( لأن التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجّحات ، يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ) .

وإنّما يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد ( لأنّا نعلم بوجوب الأخذ ببعض الأخبار المتعارضة وطرح بعضها ) وذلك أخذاً ببعض الأخبار ( معيناً ) لا التخيير بين الطرفين .

( والمرجّحات المنصوصة في الأخبار غير وافية ) بترجيح بعض الأخبار على بعض في جميع الموارد ( مع ) انّه لايمكن الأخذ بالأخبار العلاجيّة ، ل- ( أنّ تلك الأخبار معارضٌ بعضها بعضاً ) فانّ بعض الأخبار يرجّح أحد المرجحات على غيره ، فيما البعض الآخر من الأخبار يرجّح غير هذا المرجّح عليه .

( بل بعضها ) أي : بعض المرجّحات المنصوصة ( غير معمول به بظاهره ، كمقبولة ابن حنظلة (1) المتضمنة لتقديم الأعدلية على الشهرة ، و ) على ( مخالفة

ص: 234


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

العامّة ، وموافقة الكتاب .

وحاصلُ هذه المقدّمات : ثبوتُ التكليف بالترجيح وانتفاء المرجّح اليقينيّ وإنتفاء ما دلّ الشرعُ على كونه مرجّحا ، فينحصر العملُ في الظنّ بالمرجّح .

فكلّما ظنّ أنّ مرجّحٌ في نظر الشارع وَجَبَ الترجيحُ به ، وإلاّ لوجب تركُ الترجيح أو العملُ بما ظنّ من المتعارضين انّ الشارع مرجّح غيره عليه .

والأوّلُ : مستلزمٌ للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم

-------------------

العامّة ، و ) على ( موافقة الكتاب ) مع وضوح : انّ الخبر المخالف للكتاب يُضرب به عَرضَ الحائط ، ولو كان راويه اعدل من راوي الخبر المُوافق للكتاب ، وهكذا ، ممّا سيأتي في باب التعادل والتراجيح إنشاء اللّه تعالى .

( وحاصلُ هذه المقدّمات : ثبوت التكليف بالترجيح ) بين المتعارضين ، بأن يرجّح بعض الأخبار على بعض ( وإنتفاء المرجّح اليقيني ) بحيث نقطع بأن هذا الخبر مرجّح على الخبر الآخر ( وإنتفاء ما دلّ الشرع على كونهِ مُرجّحاً ) يعني إنّه لا قطع بالترجيح ولا ظنّ بالترجيح ظنّاً خاصاً .

وعليه : ( فينحصر العمل ) في باب ترجيح خبر على خبر في باب الأخبار المتعارضة ( في الظنّ ) الانسدادي ( بالمرجّح ، فكلّما ظنّ انّه مرجّح في نظر الشارع ، وجب الترجيح به ، وإلا ) بأن لم نأخذ بالظنّ الانسدادي في الترجيح ، ( لوجب ترك الترجيح ) مطلقاً والقول بالتخيير بين الخبرين في جميع الموَارد .

( أو العمل بما ظنّ من المتعارضين انّ الشارع مرجّح غَيرَهُ عَليه ) بأنْ نأخذ بالوهم ونترك الظنّ .

( والأوّل ) : وهو ترك الترجيح ( مستلزمٌ للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم

ص: 235

التكليفَ بوجوب الترجيح ، والثاني ترجيحٌ للمرجوح على الراجح في مقام وجوب البناء لأجل تعذّر العلم على أحدهما وقبحه بديهيّ .

وحينئذٍ : فاذا ظننّا من الأمارات السابقة أنّ مجرّد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع ، تعيّن الأخذُ به .

هذا ، ولكن لمانعٍ ان يمنع وجوبَ الترجيح بين

-------------------

التكليفَ بوجوب الترجيح ) في تلك الموارد .

( والثاني ) : وهو العمل بالوَهم في قِبال الظنّ ( ترجيحٌ للمرجوح على الراجح ) لأنّا لو تركنا الظنّ بالرّجحان لزم أن نأخذ بالوهم ( في مَقام وجوب البناء ) على أحد الطرفين .

وإنّما يجب البناء على أحد الطرفين ( لأجل تعذّر العلم على أحدهما ) إذ لاعلم لتقديم هذا الخبر على ذاك ، كما إنّه لا ظنّ خاص عليه ، فيدور الأمر بين الظنّ الانسدادي أو الوهم ، فاذا لم نأخذ بالظنّ يلزم أن نأخذ بالوهم ( وقبحه ) أي : قبح الأخذ بالوهم ، لأنه من ترجيح المرجوح على الراجح ( بديهي ) كما ذكرناه في بحث مقدّمات الانسداد .

( وحينئذ ) أي : حين لزوم العمل بالظنّ الانسدادي في باب الترجيح ( فاذا ظننّا من الأمارات السابقة : ان مجرد أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجّح في نظر الشارع ، تعيّن الأخذ به ) أي : بهذا الشيء الذي هو أقرب في نظر الشارع الى الواقع وترك ما ليس بأقرب ، وهذا هو معنى الترجيح بالظنّ الانسدادي ، وإن لم يكن منصوصاً .

( هذا ) تمامُ الكلام في الأخذ بالمرجّحات الظنيّة غير المنصوصة ، لكن المصنّف رجع عن ذلك فقال : ( ولكن لمانعٍ أنْ يمنع وجوبَ الترجيح بين

ص: 236

المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي دلّ العرفُ على وجوب الترجيح بها ، كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر .

وبيانُ ذلك : أنّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ، كالعامّ والخاصّ وشبههما ممّا لا يحتاجُ الجَمعُ بينهما إلى شاهد ، فالمرجّحُ فيه معلومٌ من العرف .

-------------------

المتعارضين الفاقدين للمرجّحات المعلومة ) شرعاً ( كالتراجيح الراجعة الى الدلالة ) وهذا مثال للمرجّحات المعلومة ( التي دلّ العرفُ على وجوب الترجيح بها ) والشارع سكتَ عن العرف ممّا معناه : أمضاء العُرف ( كتقديم النصّ والأظهر على الظاهر ) فاذا فقد مثل هذا الترجيح الدلالي المعلوم ، نقول بالتخيير فيه ، لا أن نرجع الى الظنّ بالترجيح .

وعلى هذا : فاذا لم يكن مرجّح معلوم ، ولا مظنون بالظنّ الخاص ، نترك الترجيح بين الخبرين ، ونأخذ بأحدهما حتى وإن كان رجحان ظنيّ إنسدادي مع أحدهما ، سواء كان الترجيح المعلوم من قبيل الترجيح السندي ، أو الدلالي ، أو جهة الصدور .

( وبيانُ ذلك : ) أي : بيان انّه لا نقدّم أحد الخبرين على الآخر بالظنون الانسدادية هو : ( انّ ما كان من المتعارضين من قبيل النصّ والظاهر ، كالعام والخاص ، وشبههما ) كالمطلق والمقيّد ( ممّا لايحتاج الجَمعُ بينهما الى شاهدٍ ) خارجي ، بل انّ العُرف إذا رأى العام والخاص ، قدّم الخاص على العام ، وإذا رأى المطلق والمقيّد ، قدّم المقيّد على المطلق ( فالمرجح فيه معلوم من العرف ) بلاحاجة الى أمر خارجي ، كالشهرة ، والاستقراء ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك.

ص: 237

وما كان من قبيل تعارض الظاهرين ، كالعامّين من وجه وشبههما ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد ، فالوجهُ فيه ، كما عرفت سابقا ، عدمُ الترجيح إلاّ بقوّة الدلالة ، لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجيّ غير معتبر ، ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظنّ ، بل يرجع فيه إلى الاصول والقواعد .

-------------------

( وما كان من قبيل تعارض الظاهرين ، كالعاميّن من وجه ، وشبههما ) مثل ماورد : من ان « ثَمنُ العَذرةِ سُحت » (1) وَ « لا بَأسَ ببَيع العَذرَةِ » (2) ، فإنّ هذين الخبرين بمثابة مورد الاجتماع في العامين من وجه ( ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد ) من الخارج حتى يقدّم هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ( فالوجه فيه كما عرفت سابقاً : عدم الترجيح إلاّ بقوة الدلالة ) في أحدهما على الآخر ( لا بمطابقة أحدهما لظنّ خارجي غير معتبر ) مثلاً : إذا قال الشارع : أكرم العلماء وقال : لاتكرم الفسّاق ، نقدّم لا تكرم الفساق بالنسبة إلى العالم الفاسق - الذي هو مورد الاجتماع - على أكرم العلماء ، لأنّ لاتكرم أقوى دلالة في معناه من أكرم العلماء ، حيث انّ الفاسق مكروه في نظر الشارع أشد كراهة .

( ولذا ) أي لأنّه لايقدّم أحدهما على الآخر بسبب ظنّ خارجي ( لم يحكم فيه ) أي : في ما كان من قبيل تعارض الظاهرين ( بالتخييّر مع عدم ذلك الظنّ ) أي الظن الخارجي ( بل يرجع فيه ) بعد التساقط هنا ( إلى الاُصول والقواعد ) إذا كان

ص: 238


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح12285 .

فهذا كاشفٌ عن أنّ الحكم فيهما ذلك من أوّل الأمر للتساقط ، لاجمال الدلالة .

-------------------

هناك في البين أصل أو قاعدة .

وعليه : ( فهذا ) الذي ذكرناه : من انّه لم يحكم فيه بالتخيير ( كاشفٌ عن انّ الحكم فيهما ) أي : في الخبرين المتعارضين العاميّن من وجه ( ذلك ) أي : الرجوع الى الاُصول والقواعد ( من أوّل الأمر ) أي : بمجرد رؤية هذين الخبرين المتعارضين وذلك ( للتساقط ) متعلق بقوله : « يرجع » ( لإجمال الدلالة ) فإنّ الانسان لايعلم المراد وقوله : « لإجمال » متعلق بقوله : « للتساقط » .

والحاصل : إنّ في مورد العام من وجه ، إذا كان أحدهما أقوى دلالة فهو ، وإلاّ كان المرجع الاصول والقواعد الأولية ، وهذا شاهدٌ على انّه ليس من باب التعارض بين الخبرين ليكون المرجع المرجّحات المنصوصة فكيف بالمرجّح غير المنصوص الذي هو عبارة عن الظنّ الانسدادي ؟ .

قال في الأوثق : « لايخفى : إنّ المصنّف قد ذكر في باب التعادل والترجيح في المتعارضين وجوها :

الأوّل : الرجوع فيهما إلى المرجّحات السندية ومع فقدها فالتخيير .

الثاني : الحكم بالإجمال في مادة الاجتماع من أوّل الأمر ، والرجوع إلى الاُصول .

الثالث : التفصيل بين ما لم يكن للمتعارضين مورد سليم عن المعارض كقوله : إغتسل للجُمعة الظاهر في الوجوب ، وقوله : ينبغي الغُسل للجمعة الظاهر في الاستحباب .

ص: 239

وما كان من قبيل المتباينين الذين لا يمكن الجَمعُ بينهما إلاّ بشاهدين ، فهذا هو المتيقنُ من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة .

ومن المعلوم انّ موارد هذا التعارض على قسمين :

أحدُهما : ما يمكنُ الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتابٍ أو سنّةٍ مطابق لأحدهما ،

-------------------

فالأوّل : وهو ما كان لهما مورد سليم عن المعارض ، كالعاميّن من وجه » (1).

( و ) الثاني وهو ( ما كان من قبيل المتباينين الذين لايمكن الجَمعُ بينهما إلا بشاهدين ) وذلك لأنّه بحاجة إلى شاهد في هذا الجانب ، وشاهدّ في الجانب الآخر .

مثلاً : إذا قال : انصر زيداً ، وقال : لاتنصر زيداً ، وقامَ شاهدٌ على انّ مراده من أنصر : نصرته على الكفار ، يلزم قيام شاهد آخر على ان المراد من لاتنصره : عدم نصرته على المؤمنين الذين اختلفوا مع زيد ، ولا يكفي الشاهد الأوّل الذي اثبت المراد من : انصر ، في كشف المراد من : لاتنصر ، إذ من المحتمل أن يكون مراده من لا تنصر معنى آخر ، مثل : لاتنصره في مقابل أرحامِه ، وهكذا ! .

وعليه : ( فهذا هوَ المتيقنُ من مورد وجوب الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة ) يعني غير المرجحات الدلاليّة ، فان المرجّحات الدلاليّة إنّما تكون في الداخل .

( ومن المعلوم : إنّ موارد هذا التعارض ) التبايني ( على قسمين ) كما يلي :

( أحدهما : ما يمكن الرّجوع فيه إلى أصل ، أو عموم كتاب ، أو سنّة ، مطابق لأحدهما ) بأن كان الخبران أحدهما مطابق لأصل ، أو سنّة ، أو كتاب ، في قِبال

ص: 240


1- - أوثق الوسائل : ص247 الوجه الثاني والثالث مما استدل به للترجيح .

وهذا القسمُ يُرجَعُ فيه إلى ذلك العموم أو الأصل .

وإن كان الخبرُ المخالفُ لأحدهما مطابقا لأمارة خارجيّة - وذلك لأنّ العمل بالعموم والأصل يقينيّ لا يرفع اليدُ عنه إلاّ بوارد يقينيّ .

والخبر المخالف له لا ينهضُ لذلك ، لمعارضته بمثله ، والمفروضُ أنّ وجوبَ الترجيح بذلك الظنّ لم يثبت - فلا واردَ على العموم والأصل .

-------------------

القسم الثاني الذي يكون كلا الخبرين مخالفاً للأصل ، أو الكتاب ، أو السنّة - مثلاً- كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى .

( وهذا القسم يرجع فيه الى ذلك العموم ، أو ) يرجع فيه إلى ( الأصل ) اذا لم يكن عموم من كتاب أو سنّة ، ويرجع اليهما حتى ( وإنْ كان الخبر المخالف لأحدهما مطابقاً لأمارة خارجية ) لم تكن مستندة الى نفس الخبر .

( وذلك ) أي : وجوب الرجوع في هذا القسم الى العموم أو الأصل إنّما هو ( لأنّ العمل بالعموم والأصل يقيني لايرفع اليدُ عنه ) أي عن ذلك العموم أو الأصل ( إلاّ بوارد يقينيّ ) له قوة رفع اليد عن الأصل والعموم .

( و ) من الواضح : إنّ ( الخبر المخالف له ) أي : لذلك الخبر الموافق لأصل أو عموم ( لاينهضُ لذلك ) أي : لأنْ يكون وارداً يقينياً ، وذلك ( لمعارضته ) أي : لمعارضة هذا الخبر المخالف ( بمثله ) لأن المفروض هناك خبران أحدهما موافق للأصل أو العموم ، والآخر مخالف للأصل والعموم .

( و ) إن قلت إنّ الخبر المخالف موافق لظنّ إنسدادي خارجي ، فلماذا لايقدّم هذا الخبر المخالف على الخبر الموافق للأصل أو العموم ؟ .

قلت : ( المفروض : انّ وجوب الترجيح بذلك الظنّ ) الذي طابق الخبر المخالف ( لم يثبت ) شرعاً ( فلا واردَ على العموم والأصل ) .

ص: 241

القسمُ الثاني : ما لا يكون كذلك . وهذا أقلّ قليل بين المتعارضات ، فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظنّ خارجيّ على طبق أحدهما لم يكن محذورٌ .

نعم ، الاحتياطُ يقتضي الأخذَ بما يطابق الظنّ خصوصا ، مع أنّ مبنى المسألة على حجّيّة الخبر من باب الظنّ ، غيرُ مقيّد بعدم الظنّ الفعليّ على خلافه .

-------------------

والحاصل : إنّ الخبر الموافق للأصل أو العموم ، يقدّم على المخالف لهما وإن كان الخبر المخالف موافقاً لظنّ إنسدادي خارجي .

( القسم الثاني : ما لايكون كذلك ) أي : لايمكن الرجوع في تعارض الخبرين الى أصل ، أو عموم ، لأنّ الأصل أو العموم مخالف لكليهما ، كما إذا كان هناك خبران : أحدهما يقول بالوجوب ، والآخر يقول بالحرمة ، والأصل : الاباحة .

( وهذا أقل قليل بين المتعارضات ) فإنّ الأغلب موافقة أحد الخبرين لأصل أو عموم ( فلو فرضنا العمل فيه ) أي : في هذا القسم ( بالتخيير مع وجود ظنّ خارجي على طبق أحدهما لم يكن محذور ) من علم ، أو ظنّ خاص ، أو ظنّ إنسدادي ، لعدم تمامية مقدّمات الانسداد ، مع كون هذا القسم أقل القليل على ما عرفت .

( نعم ، الاحتياط يقتضي الأخذ بما يطابق الظنّ ) الانسدادي ( خصوصاً مع إن مبنى المسألة على حجّية الخبر من باب الظنّ ، غير مقيّد بعدم الظنّ الفعلي على خلافه ) فليعمل بالخبر من باب الظنّ النوعي ، وإنْ كان ظنّ فعلي على خلاف هذا الخبر .

وعليه : ففي الصورة المفروضة ليس في العمل بالتخيير ، والأخذ بأي من الخبرين ، محذور ، خصوصاً مع إنّ بناء مسألة الترجيح على حجيّة الخبر

ص: 242

والدليلُ على هذا الاطلاق مشكلٌ ، خصوصا لو كان الظنُّ المقابلُ من الشهرة المحققة أو نقل الاجماع الكاشف عن تحقق الشهرة ، فانّ إثباتَ حجّيّة الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال وإن لم نقل بحجّيّة الشهرة ؛ ولذا

-------------------

من باب الظنّ النوعي غير مقيد بعدم الظنّ الفعلي على الخلاف ، فانّ الظنّ الحاصل من الأمارة الخارجية على خلاف الخبر المعمول به لا محذور فيه إذ الظنّ النوعي حاصل في هذا الخبر ، وإنْ كان ظنّ فعلي خارجي على خلافه .

( والدليل على هذا الاطلاق ) أي : إطلاق : العمل بالخبر وإنْ كان ظنّ فعلي على خلافه ( مشكلٌ ، خصوصاً لو كان الظنّ المقابل ) للخبر المعمول به ( من الشهرة المحقّقة ، أو نقل الاجماع الكاشف عن تحقق الشهرة ) لا نقل الاجماع مطلقاً ، فإنّه لا يلزم تحقّق الشهرة فضلاً عن تحقق الاجماع ، فانّه كثيراً ما يكون ناقل الاجماع قد استند إلى أصل أو رواية لها دلالة بنظرة ، أو ما أشبه ذلك .

ثم بيّن المصنّف قوله : مشكل ، بقوله : ( فانّ إثباتَ حجيّة الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال وإن لم نقل بحجّية الشهرة ) إذ الشهرة على خلاف الخبر ترفع الثقة من الخبر ، والثقة هو ميزان حجيّة الخبر لقوله عليه السلام « لا عُذرَ لأحَدٍ مِنْ مَوالِينَا فِي التَشكِيكِ فِيمَا يَرويهِ عَنّا ثُقاتُنا » (1) وما أشبه ذلك ، ممّا يفيد : انّ الملاك في الحجّية : الثقة ، سواء حصلت من نفس الخبر أو من الخارج ، وغير الثقة ، سواء كان من جهة نفس الخبر ، أو من جهة معارضة الخبر بالشهرة الخارجية ، فهو ليس بحجّة ( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان اثبات حجية

ص: 243


1- - رجال الكشّي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

قال صاحب المدارك : « إنّ العملَ بالخبر المخالف للمشهور مشكلٌ ، وموافقةَ الأصحاب من غير دليل أشكلُ » .

وبالجملة : فلا ينبغي تركُ الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير . وأمّا في مقابل العمل بالاُصول ، فان كان الأصلُ مثبتا للاحتياط ، كالاحتياط اللازم في بعض الموارد ، فالأحوطُ العملُ بالأصل ، وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراءة والاستصحاب النافي للتكليف ، أو مثبتا له مع عدم التمكّن من الاحتياط

-------------------

الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال ( قال صاحب المدارك : انّ العملَ بالخبر المخالف للمشهور مشكلٌ ، وموافقة الأصحاب ) في فتواهم المخالفة للخبر ( من غير دليل أشكل ) فالنتيجة : هو العمل بالخبر المخالف للمشهور ، لأن المشكل أولى من الأشكل .

( وبالجملة : فلا ينبغي تركُ الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التخيير ) فاذا كان هناك خبرٌ مظنون ويعارضه خبرٌ غير مظنون ، نأخذ بالخبر المظنون ، ولا نقول بالتخيير بين الخبرين ، وقوله : « بالأخذ » ، متعلق بقوله : « الاحتياط » .

( وأمّا في مقابل العمل بالاصول ) أي : العمل بالخبر المقابل للأصل ( فانْ كان الأصل مثبتاً للاحتياط ، كالاحتياط اللازم في بعض الموارد ) كالدماء والفروج والأموال ( فالأحوط العمل بالأصل ) لأن في ذلك جمعاً بين الأصل والاحتياط .

( وإنْ كان ) الأصل ( نافياً للتكليف ، كأصل البرائة ، والاستصحاب النافي للتكليف ، أو مثبتاً له ) أي : للتكليف ( معَ عدم التمكّن من الاحتياط )

ص: 244

كأصالة الفساد في باب المعاملات ، ونحو ذلك ، ففيه الاشكالُ .

وفي باب التراجيح تتمّةُ المقال ، واللّهُ العالمُ بحقيقة الحال ، والحمدُ للّه أوّلاً وآخرا ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين .

-------------------

بأن لم يتمكن المكلَّف من أن يعمل فيه بالاحتياط .

ثم مَثَلَ لِقوله : أو مثبتاً له مع عدم التمكن من الاحتياط ( كأصالة الفساد في باب المعاملات ، ونحو ذلك ) مثل باب الطلاق والنكاح ( ففيه الاشكال ) المتقدّم : من انّه هل يخيّر بين الخبرين ، أو يعمل بالخبر النافي للتكليف ، أو بالمثبت له مع عدم التمكّن من الاحتياط ؟ .

هذا ( وفي باب التراجيح تتمّة المقال ) والنتيجة : إنّ الأمر في الخبرين المتعارضين على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أنْ يكون أحدهما موافقاً للظنّ غير المعتبر ، وهنا يؤخذ بالخبر المظنون ولا يتخير في العمل بأي الخبرين .

الثاني : أنْ يكون أحدهما موافقاً للأصل المثبت للإحتياط ، وهنا يأخذ بالخبر الموافق للإحتياط ولا يتخيّر في العمل بأي الخبرين .

الثالث : أن يكون أحدهما موافقاً للأصل النافي للتكليف ، أو المثبت للتكليف ، لكن لم يتمكن المكلَّف من الاحتياط فهل يعمل هنا بالخبر الموافق للأصل ، أو يتخيّر بين الخبرين ؟ الأمرُ فيه مشكلٌ .

( واللّه ُ العالم بحقيقة الحال ، والحَمدُ للّه أولاً وآخراً ) وظاهراً وباطناً ( وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ) وسُبحان رَبكَ ربّ العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحَمدُ للّه رَبِ العَالمين .

ص: 245

ص: 246

الوصائل الى الرسائل

المقصد الثالث: في الشك

اشارة

ص: 247

ص: 248

المقصد الثالث من مقاصد الكتاب في الشّك

مبحث البرائة والاشتغال

قد قسمنا ، في صدر هذا الكتاب ، المكلّفَ الملتفتَ إلى الحكم الشرعيّ العمليّ

-------------------

مبحَث البَرائة والاشتغال

بسم اللّه ِ الرّحمن الرحيم

وَبهِ نَستَعين الحَمدُ للّه ِ رَبّ العالَمين ، والصّلاة والسّلام على مُحمّد وآلهِ الطاهِرين ، وَلَعنَةُ اللّه ِ عَلى أعدائِهم أَجمَعيِنَ إلى يَومِ الدِّين .

قالَ : ( المقصَدُ الثالث مِن مَقاصِد هذا الكتاب فِي الشك ، قد ) تقدّم مَقصَدان من مَقاصِدِ هذا الكتاب وهُما : القطعُ والظّنّ ، وَهذا هو المقصَدُ الثالث ، لأنّ الصّفة

النفسيّة بالنسبة إلى الأُمور الخارجيّة على ثلاثةِ أقسام : علمٌ ، وظنٌّ ، وشّكٌ ، وامّا الوَهم فهو داخلٌ في مَبحثِ الظّنّ ، لأنّ الوَهم هو الطَرف المرجوح ، والظّنّ هو الطَرف الراجح .

المدخل

ثم إنّا ( قسّمنا في صدر هذا الكتاب ، المكلّفَ الملتفتَ ) وذكرنا : إنّه يلزم أنْ يكون الحكم مقيداً بالمكلّف لأن غير المكلّف لا حُكمَ له ، والصبي المميز وإنْ لم يصطَلحُوا عليه بأنّهُ مكلّف لكنّه مكلّف في الجُملة ، فهل يجوز للولد غير البالغ اللّواط أو الزّنا أو قَتل الناس أو شرب الخَمر أو ما أشبَه هذه الاُمورُ ، وكذلك بالنسبةِ إلى البنت غير البالغة ؟ .

كما ذكرنا هناك وجه قيد الالتفات ( الى الحكم الشرعيّ العمليّ ) أي : الحكم

ص: 249

في الواقعة على ثلاثة أقسام ؛ لأنّه إمّا أن يحصل له القطعُ بحكمه الشرعيّ ، وإمّا أن يحصل له الظنُّ ، وإمّا أن يحصل له الشكّ .

وقد عرفتَ انّ القطعَ حجّةٌ في نفسهِ

-------------------

الفرعي من الأحكام الشرعيّة ، فانّ الأحكام الشرعيّة قد تكون اُصوليّة كالاعتقاديات ، وقد تكون فرعية كالأحكام الخمسة .

وعليه : فاذا إلتفت المكلّف الى الحكم الشرعي ( في الواقعة ) الخارجية مقابل الاعتقاديّة ، سواء كانت الواقعة مرتبطة بالجوارح أو القلب ، حيث إنّ للقلب أيضاً أحكاماً شرعيّة ، كحُرمةِ سوء الظّنّ إذا ظهرَ والحَسد كذلك ، بالإضافة إلى المكروهات والمستحبات بالنسبة الى الصّفات النفسيّة .

وإنّما جيء بالواقعة بلفظ التأنيث ، لأنّهما صفة للصفة المقدرة ، فانّ الأعمال والأقوال والنيّات صفة للإنسان ، فالتقديرُ : الصفة الواقعة ، أمّا التاء في الصفة ، فهي بدل ، مثل : « عدة » ، فإنّ أصلهما وصفٌ وَوَعدٌ .

وعلى كل حال : فالمكلّف الملتفت ( على ثلاثة أقسام ، لأنّه : إمّا أنْ يحصل له القطعُ بحكمه الشّرعيّ ) وإنّما عبَّر بالقطع دون العلم ، لأن العلم يقال للمطابِق للواقع ، والقطع لِما يقطعُه الانسان سواء كان مطابِقاً للواقع أو لم يكن ، والمعيار في مقامنا هو القطع ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق ، فانّ القاطع يعمل بقطعه بضرورة عقله ( وإمّا أن يحصل له الظّنّ ) وهو الطرف الرّاجح من الطرفين ، ولَمْ يذكر الوَهم لوضوح إنّه كلّما حصل ظنّ في طرفٍ حصل الوهم في الطرف الآخر ، فهو غني عن الذكر ( وإمّا أن يحصل له الشّك ) وهو المتساوي طرفاه ، فإذا ترجّح أحدهما على الآخر صار ظنّاً وَوَهماً .

( وقد عَرفت : انّ القطعَ حجّةٌ في نفسهِ ) يحتَجُّ المولى به على العبد ، ويحتجّ

ص: 250

لا بجعل جاعل ، والظنَّ يمكن أن يعتبر في الطرف المظنون لانّه كاشفٌ عنه ظنّا لكنّ العملَ به والاعتمادَ عليه في الشرعيّات موقوفٌ على وقوع التعبّد به شرعا ، وهو غيرُ واقع إلاّ في الجملة .

وقد ذكرنا مَواردَ وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب .

-------------------

العبدُ بهِ عَلى المولى ( لا بجعلِ جاعل ) فإنّ الذاتيات لاتُجعل ، إذ القطع في نظر القاطِع نور .

( والظّنّ ) ليس بحجّة في نفسهِ ، لأنّه نورٌ ناقص والعقلاء لايعتمدون على النورِ الناقص - على المشهور - إلاّ عند الضرورة ، أو قيام الدّليل من الموالي ، فانّه ( يمكن أن يعتبر ) الحجيّة ( في ) متعلّقه أي : فيما تعلّق بهِ الظنّ وهو ( الطرف المظنون ) بأن يقول الشارع ، أو المولى العرفي : إذا ظننّتم بشيء فاعمَلوا به ، كما يمكن عكسه بأنْ يقول : إذا ظننّت بشيء فإعمل ضد ذلك الظنّ ( لأنّه ) أي : الظّنّ ( كاشفٌ عنه ) أي : عن المتعلق ( ظنّاً ) أي : كشفاً ظنيّاً ونوراً ناقصاً .

( لكنّ ) مجرد الامكان لا يكفي في الحجّية العقليّة والعقلائيّة ، بل ( العملَ به ) أي : بالظّنّ ( والاعتماد عليه في الشرعيّات ، موقوفٌ على وقوع التعبّد به ) أي : بالظنّ تعبّداً ( شرعاً ) بأنْ جعل الشارع الظّنَّ في الخبرِ الواحد حجّة ، أو عقلاً : بأنْ يرى العقل اللاّبدية في العمل بالظّنّ كما تقدّم في باب الانسداد .

( وهو ) أي : التعبّد بالظنّ ( غيرُ واقع ) في الشريعة ( إلاّ في الجملة ) وفي بعض الموارد ، فإنّ الشارع لم يجعل الظّنّ حجّةً مطلقاً ، بل جعلَ الظّنَّ حجّةً في موارد خاصة ( وقد ذكرنا مَواردَ وقوعه في الأحكام الشرعيّة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ) المشتمل على مباحث القطع والظنّ كظواهر الألفاظ ، وقول اللّغوي،

ص: 251

وأمّا الشكُّ ، فلمّا لم يكن فيه كشفٌ أصلاً لم يعقل فيه أن يعتبر ، فلو ورد في مورده حكمٌ شرعيّ ، كأن يقول : « الواقعة المشكوكة حكمُها كذا » ،

-------------------

والاجماع المنقول ، والشهرة ، وخبر الثقة ، وما أشبه ذلك .

كما إنّه قد ذُكِرَ في الفقه مواردَ لحجّيةِ الظّنّ في الموضوعات : كالبيّنة ، واليد ، والسُوق ، وأرض المُسلم ، ونحو ذلك ، ولم نذكرها هنا ، لأنّ هذا الكتاب مختص بذكر مسائل الاصول ، وهي الّتي تجري من أوّل الفقه إلى آخره ، والبيّنة ونحوها لاتجري إلاّ في موارد خاصة ، كما نبَّهنا على ذلك في بعض المباحث السابقة .

هذا ، وقد عرفت سابقاً : إنّ ما لم يرد اعتباره في الشرع من الظنون الّتي لم يجعلها الشّارع حجّة : كخبر الفاسق ، والشاهد الواحد ، وما أشبه ذلك ، فهو داخلٌ في الشّكّ حكماً ، وإنْ كان بصورة الظّنّ موضوعاً بأن كان راجحاً في نظر الظآن ، فالمقصود هنا بيانُ حكم الشك بالمعنى الأعم .

وكيف كان : فالقطع حجّة بنفسه ، والظنّ حجّةٌ إذا اعتبره الشارع .

( وأمّا الشّكُ ، فلمّا لم يكن فيه كشفٌ أصلاً ) لا كشفاً تاماً كالقطع ، ولا كشفاً ناقصاً ، كالظّنّ ، لأنّ الشّك عبارةٌ عن التردد والجهَل ( لم يعقل فيه أن يعتبر ) شرعاً ، بأن الشارع - مثلاً - : قال إعمل بشكّك ، إذ لامعنى للعمل بالشّك .

وعليه : ( فلو ورد في مورده ) أي : مورد الشّك ( حكمٌ شرعي ) كما سيأتي مثالُه ، أو حكم عقلي كما تقدّم في باب الانسداد ( كأن يقول ) الشارع : ( الواقعة المشكوكة ) التي لا نعلم حكمها ( حكمُها كذا ) كما في الطهارة والحليّة حيث يقول الشارع : « إذا شككت فابن على الطّهارة » ، أو « إذا شككتَ فابنِ على

ص: 252

كان حكما ظاهريّا ، لكونه مقابلاً للحكم الواقعيّ المشكوك بالفرض ،

-------------------

الحليّة » (1) ، أو « إذا شككت فابنِ عَلى الأكثر » (2) .

وهذا الحكم حينئذٍ ( كان حكماً ظاهريّاً ، لكونه مقابلاً للحُكم الواقعيّ المشكوك بالفرض ) فانّهم اصطلحوا على أنّ الحكم إذا كان مجعولاً للموضوعات من غير اعتبار علم المكلَّف أو جَهله ، سُميّ حُكماً واقعياً ، وإن كان الحكم مجعولاً للموضوعات بقيد الشّك كما إذا قال المولى : الموضوع المشكوك الحكم حكمه كذا ، كان حكماً ظاهرياً ، فالأوّل : مثل أن يقول : التُتُن حَرامٌ ، والثاني : مثل أن يقول : التُتُن إذا لَم تعلَم هل انّه حرام أو حلال فهو لَكَ حَلال .

هذا ، ولكن لنا هنا ملاحظتان :

الأُولى : انّا لانستظهِر تقسيم الحكم الى الواقعي والظاهري ، لأنّ ذلك مستلزم للتناقض بينهما ، فإنّ الحكم الواقعي إذا شمل العالِم والجاهِل ، كيف يُجعل الحكم الظاهري للجاهل على خلافِ ذلك الحكم الواقعي أو على وفاقِه ؟ وقد ذكرنا تفصيل ذلك في «الاصول» ، وقلنا : إنّ ما إصطلحوا عليه بالحكم الظاهري ليس هو إلاّ تَنجيزاً أو إعذاراً ، وربّما كان من الأحكام الاضطراريّة ، أو التسهيلية ، أو نحو ذلك .

الثانية : إنّا لا نسلّم جعل الحكم للجاهل القاصر الذي لا أَثر لهذا الحكم المجعول بالنسبةِ اليه إطلاقاً لأنّه لغوٌ ، فقولِهِم : إنَّ الأحكام تَعمّ العالم والجاهل إنّما هو على نحو الموجَبَةِ الجُزئيّة لا الكليّة .

ص: 253


1- - انظر الكافي فروع : ج6 ص232 ح4 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .

ويُطلق عليه الواقعيّ الثانويّ أيضا ، لأنّه حكمٌ واقعيٌّ للواقعة المشكوك في حكمها ، وثانويٌّ بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه ، لأنّ موضوعَ هذا الحكم الظاهريّ ، وهو الواقعة المشكوك في حكمها ، لا يتحقّقُ إلاّ بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشكّ فيه .

-------------------

( و ) كيف كان : فإنّه ( يُطلق عليه ) أي : على الحكم الظاهري ( الواقعي : الثانوي أيضاً ) فله إسمان : ظاهريٌ ، وواقعيٌ ثانويّ .

أمّا تسميته بالواقعي : ف- ( لأنّه حكمٌ واقعيٌّ للواقعة المشكوك في حكمها ) فإنّ الشارع جَعَلَ هذا الحكم على الواقعةِ المشكوكةِ ، فكما إنّ الشارع قال : « الماءُ طاهرٌ » (1) ، كذلك قالَ : « كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تَعلَمَ أنّه قَذِرٌ » (2) .

( و ) أمّا تسميته بالثانوي : فلأنّه ( ثانويٌّ بالنسبة إلى ذلك الحُكم المشكوك فيه ) فإنّا إذا شككنا في أنّ التُتُن حرامٌ أو حَلال ، جعل الشارع لهُ حكم الحلية وقال : « كُلّ شيءٍ فيه حَلالٌ وحَرامٌ ، فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِف الحرام منه بعينه فتدعه » (3) ، وذلك ( لأنّ موضوعَ هذا الحكم الظّاهريّ وهو الواقعة المشكوك في حكمها ، لا يتحقّقُ إلاّ بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشّك فيه ) أي : في ذلك الحكم ، فإنّ موضوع الحكم الظاهري لا يتحقّق إلاّ بعدَ جَعل الحكم الواقعي على موضوع خارجي ، فاذا كان موضوعه - مثلاً - التتن المشكوك حكمُه ، فهذا العنوان:

ص: 254


1- - الامالي للصدوق : ص645 ، الكافي فروع : ج3 ص1 ح2 و ح3 ونظيره في الوسائل : ج1 ص133 ب1 ح323 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

مثلاً شربُ التتن في نفسه له حكمٌ ، فرضنا فيما نحن فيه شكّ المكلّف فيه .

فاذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم

-------------------

أي: التتن المشكوك حكمه، لا يتحقق إلاّ بعد أن يجعل الشارع للتتن حكماً واقعياً، فيلتفت المكلّف الى حكم التتن ويشك فيه بأن حكمه هل هو الحرمة أو الحليّة ؟ فاذا إلتفت الى التُتن وحكمه وشُّكَ فيه جعل الشارع له حكماً ظاهرياً وهو الحِليّة .

ومن المعلوم : إنّه إذا كان تحقّق موضوع الحكم الظاهري متأخراً عن جعل الحكم الواقعي للموضوع ، فنفس الحكم الظاهري أيضاً يكون متأخراً عنه ، فيكون التَرتيب هكذا : أوّلاً : الموضوع وهو : التتن ، ثم الحكم وهو : الحرمة ، ثمّ الشك في أنّ هذا التتن حَرامٌ أو حَلالٌ ، ثم يأتي مرتبة الحكم الظاهري وهو : الحِليّة ، فهناك موضوعان وحكمان .

ولا يخفى : انّ الحكم الثانوي في اصطِلاحِهم يُطلقُ على موردَين :

الأوّل : الحكم الظاهري - كما عرفت - .

الثاني : الحكم الاضطراري ونحوه ، كالخمر فانّه حرامٌ ، واذا اضّطر إليها الانسان صارت حلالاً ، فالحكم الأوليّ هو الحرمة ، والحليّة هو حكم ثانوي .

هذا ، وأمّا مثال تأخر مرتبة الحكم الظاهري فكما قال : ( مثلاً : شربُ التتن في نفسه ) أي : الشرب بما هُوَ هُوَ لا بِما هُوَ مشكوك الحُكم ( له حكمٌ ) في الواقع هو الحرمة ، ثم ( فرضنا فيما نَحنُ فِيهِ شكّ المكلّف فيه ) أي : في ذلك الحكم الواقعي لشرب التتن ، وفَحصَ ولم يصل اليه ( فاذا فرضنا ورود حكم شرعيّ لهذا الفعل المشكوك الحكم ) بأن قال الشارع : « كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرفَ أنّهُ

ص: 255

كان هذا الحكمُ الوارد متأخّرا طبعا عن ذلك المشكوك ، فذلك الحكم حكمٌ واقعيّ بقولٍ مطلَق .

وهذا الواردُ ظاهريّ ، لكونه المعمولَ به في الظاهر ، وواقعيّ ثانويّ ، لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم ، لتأخّر موضوعه عنه ،

-------------------

حَرامٌ » (1) ، ( كان هذا الحكم الوارد ) بالحليّة ( متأخراً طبعاً عن ذلك المشكوك ) أي : الحرمة المجعولة على التتن بما هو هو .

وعليه : ( فذلك الحكم ) المجعول للتدخين بما هو هو ، وقد فرضناه : الحرمة ( حكمٌ واقعي بقولٍ مطلَق ) أي : لايقيّد بأنّه واقعي أوّلي ، أو واقعي ثانوي ، وربّما يقيّد الواقعي المطلق بالواقعي الأولي أيضاً .

( وهذا ) الحكم ( الواردُ ) لشرب التتن بما هو مشكوك الحكم أعني : الحليّة في كلامنا ، هو حكم ( ظاهريّ ، لكونه المعمولَ به في الظاهر ) للانسان الشاك الذي لم يوصله فحصه إلى الحكم الواقعي .

( وواقعيّ ثانويّ ، لأنّه ) أي : لأنّ هذا الحكم الظاهري ( متأخّر عن ذلك الحكم ) المجعول للتدخين بما هو هو .

وإنّما كان متأخّراً هذا الحكم عن ذلك الحكم ( لتأخّر موضوعه ) وهو الشرب المشكوك الحكم ( عنه ) أي : عن جعل الحكم للشرب بما هو هو ، وقد عرفت : إنّ هنا موضوعان وحكمان :

الموضوع الأوّل : التتن .

ص: 256


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

ويسمّى الدليلُ الدالّ على هذا الحكم الظاهريّ أصلاً .

وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل علما أو ظنّا معتبرا ، فيختصّ باسم الدليل ،

-------------------

الحكم الأوّل : الحرمة .

الموضوع الثاني : التتن المشكوك الحكم .

الحكم الثاني : الحليّة .

( ويسمّى ) في إصطلاح الفقهاء والاصوليين ( الدليلُ الدالّ على هذا الحكم الظّاهري ) المجعول في مورد الشك : ( أصلاً ) كأصالَة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ، فدليل « لاتَنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) يَدلّ على الاستصحاب ، و « أَخُوكَ دينك فَاحتَط لِدِينكَ » (2) يدلّ على الاحتياط وَ « رُفِعَ مَا لا يَعلَمُونَ » (3) يدلّ على البرائة وكل منها يسمى بالأصل .

( وأمّا ما دلّ على الحكم الأوّل ) وهو الحكم الواقعي ، ممّا أورث ( علماً ) كالخَبر المُتواتِر ( أو ظنّاً معتبراً ) كخبر الثقة ( فيختصّ بإسم الدّليل ) أي : يسمّى دليلاً .

وعليه : فإنّ بين الدّليل والأصل فرقاً ، فالدّليل هو الذي يدلّ على الأحكام الأوليّة ، والأصل هو الدّليل على الأحكام الثانوية .

ص: 257


1- - الكافي اصول : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وقد يقيّد بالاجتهاديّ .

كما أنّ الأوّلَ قد يسمّى بالدليل مقيّدا بالفقاهتيّ .

وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهانيّ ، لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد .

-------------------

وممّا تقدّم : عُلِمَ الفرق بين الأحكام الظاهريّة والأحكام الواقعيّة ، فإنّ مرتبة الأحكام الواقعيّة مقدّمة على مرتبة الأحكام الظاهرية وعُلِمَ أيضاً الفرق بين الأصل والدّليل ، فإنّ الأصل يُطلَقُ في الأحكام الظاهرية ، والدليلَ يُطلَقُ في الأحكام الواقعيّة .

( وقد يقيّد ) الدّليل ( بالإجتهاديّ ) فيقال لما يدل على الأحكام الواقعية : الدليل الاجتهادي .

( كما انَّ الأوّل ) أي : الأصل ( قد يسمّى بالدّليل مقيّداً بالفقاهتيّ ) وقد ذكرنا أنّ التاء في الفقاهتيّ ليست على القواعد العربية ، إذ التاء في أمثالها تحذف للقاعدة ، فيقال للمنسوب إلى أبي حنيفة : حنفي ، ولا يقال : حنيفتي وهكذا .

وعلى أي حال : فانّ الحكمُ المجعول في مورد الشك يُسمى تارةً بالأصل ، وأُخرى بالدّليل الفقاهيّ ، كما إنّ ما يدلّ على الحكم الواقعي الذي ذكرنا أنّه مشترك بين العالم والجاهل يُسمّى تارةً بالدليل و أخرى بالدليل الاجتهاديّ .

( وهذان القيدان ) : الاجتهادي والفقاهي ( اصطلاحان من الوحيد البهبهاني ) رحمه اللّه ( لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد ) ، فانّ ما ذكر في تعريف الفقه وفي تعريف الاجتهاد يُناسب هذا الاصطلاح ، فالإصطلاح على الدليل بالاجتهاديّ إنّما هو لأنّ الاجتهاد إستفراغ الوسع لتحصيل الأحكام الواقعية ، والدليل طريق إلى الأحكامِ الواقعيّة ، و الاصطلاح على الأصل بالفَقاهي

ص: 258

ثمّ إنّ الظنّ الغير المعتبر حكمُه حكمُ الشكّ ، كما لا يخفى .

وممّا ذكرنا - من تأخّر مرتبة الحكم الظاهريّ عن الحكم الواقعيّ ، لأجل تقييد موضوعه بالشكّ في الحكم الواقعيّ -

-------------------

لأن الفقيه هو الذي يستخرج الاصول من الأدلة الأربعة ، وكُلّ واحد منهما وإن صحّ إطلاقه على الآخر إلاّ أنّ التخصيص لأجل التمييز بينهما .

أمّا الفرق بين المجتهد والفقيه فهو أنّ الأوّل يقال له من حيث إنّه بذل وسعه واجتهد في تحصيل الأحكام ، والثاني يقال : لأنّه فهم وفقه ، فكأن الأوّل بمنزلة المقدمّة للثاني ، ولذا يصح أن يقال : إجتهد ففقه ، ولا يصح أن يقال : فقه فاجتهد ، وعلى أي حال فانّه لا مشاحة في الاصطلاح .

( ثم انّ الظّنّ غير المعتبر ) الذي لم يعتبره عقل كما في الانسداد ، ولا شرع كما في الخبر الواحد ، والظواهر ، وما أشبه ( حكمه حكمُ الشّك ) في الرجوع الى الأصول العمليّة ، لأنّه كلما لم يكن هناك علم ولا علمي - والمراد بالعلمي : الظّنون المعتبرة - فالمرجع الاصول العمليّة المذكورة : من الاستصحاب ، والبرائة ، والاحتياط ، والتخيير ( كما لايخفى ) إذ المكلّف شاكّ في الحكم حينئذٍ ، وكونه ظانّاً لاينافي كونه شاكاً ، فانّ الشّكّ الذي هو المعيار في الرجوع الى الاصول العمليّة أعم من الظّنّ والشّكّ .

( وممّا ذكرنا من تأخّر مرتبة الحكم الظّاهريّ عن الحكم الواقعيّ لأجل تقيّيد موضوعه ) أي : موضوع الحكم الظاهريّ ( بالشّكّ في الحكم الواقعي ) فقد تقدّم منّا : بأنّ موضوع الحليّة الظاهريّة في باب التبغ ، هو التبغ المشكوك حكمه الواقعي ، ومن المعلوم: إنّ هذا العنوان لايتحقق إلاّ بعدَ جعل حكم للتبّغ في الواقع ، ثم إنّ المكلّف يشك في ذلك الحكم ، فيترتب عليه الحكم الظاهري بالحليّة .

ص: 259

يظهرُ لك وجهُ تقديم الأدلّة على الاصول ، لأنّ موضوعَ الاصول يرتفعُ بوجود الدليل .

فلا معارضةَ بينَهما ، لا لعدم إتحاد الموضوع ، بل لارتفاع موضوع الأصل - وهو الشكّ - بوجود الدليل .

-------------------

وعليه : فمما ذكرناه ( يظهرُ لك وجهُ تقديم الأدلّة ) أي : الأدلة الظّنية المعتبرة شرعاً ، كظواهر الكتاب ، وقول اللغوي ، والشهرة ، وما أشبه ذلك ( على الأصول ) العمليّة ، فإنّه إذا دلّ الدليل على حرمة التتن - مثلاً- فلا يبقى مجال لإجراء الأصل في التتن حتى يُقال إنّه حلال ( لأنّ موضوعَ الاصول يرتفعُ بوجود الدّليل ) من باب الورود على ماسيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى .

وعليه : فإنّ التتن - مثلاً- موضوع لأصالة الحليّة مادام يصدق عليه أنّه مشكوك الحكم ، فاذا شككنا في حكم التتن نقول : إنّه حلال بمقتضى : « كُلّ شيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِفَ إنّهُ حَرامٌ » (1) ومن المعلوم : إنّه بعد قيام الدليل على الحرمة أو الحليّة - مثلاً- يخرج التتن عن كونه مشكوك الحكم ، فاذا دلّ الدليل على حرمته فلا مجال ليقال : إنّه حلال للحكم الظاهري ، وإذا دلّ الدليل على حلّيته فهو حلال واقعاً ، ولا حاجة إلى أن يقال : إنّه حلال في الظاهر .

إذن : ( فلا معارضةَ بينَهما ) أي : بين الأصل والدّليل لما عرفت : من أنّ الدليل مقدّم على الأصل (لا لعدم اتّحاد الموضوع) فقط (بل لارتفاع موضوع الأصل - وهو: الشكّ - بوجود الدّليل) فإنّ هناك وجهين لعدم المعارضة بين الأصل والدليل .

ص: 260


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب23 ح12 .

الا ترى أنّه لا معارضةَ ولا تنافيَ بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الاباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشكّ فيه هي الحرمة .

فاذا علمنا بالثاني لكونه علميّا والفرض سلامته

-------------------

الأوّل : إنّ موضوع الحرمة التتن ، وموضوع الحليّة التتن المشكوك حكمه ، فلكلّ واحد موضوع غير موضوع الآخر ، ومن الواضح : إنّ التعارض لايكون بين موضوعين ، وإنّما التعارض يكون في موضوع واحد إذا كان له حكمان .

الثاني : أنّه إذا جاء الدّليل على الحرمة لم يكن شكّ في حكم التتن ، وقد عرفت : انّ موضوع الحليّة هو : التتن المشكوك الحكم .

( ألا ترى انّه لا معارضة ولا تنافيَ بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي : الاباحة ) الظاهرية ( وبين كون حكم شرب التتن في نفسه ) أي : ( مع قطع النظر عن الشك فيه هي : الحرمة ) الواقعية ، فالتتن حرام واقعاً حلال ظاهراً .

ثم إنّ الفرق بين المعارضة والتنافي : هو انّ المعارضة تُطلَق على المناقضة بين الشيئين ، أو شبه المناقضة كالتَضّاد ، والتنافي يُطلَق على ما إذا لم يمكن إجتماعهما وإنْ لم يكن بينهما مناقضة ولا تضاد ، كما إذا كان هناك لا زِمان لشيء واحد ، فأثبت المتكلّم أحدهما دون الآخر ، مثلاً : أثبت حرارة الشمس دون ضوئها أو بالعكس ، وإنْ كان هذا أيضاً يرجع بالأَخرة إلى التناقض .

ويمكن أن يريد المصنّف بالتنافي : المعارضة ، فيكون تأكيداً لفظيّاً .

وعلى كل حال : ( فاذا علمنا بالثّاني ) أي : بأنّ التتن حرام واقعاً ( لكونه علميّا ) أي : بسبب كونه معلوماً بالدليل ( والفرض سلامته ) أي : سلامة الثاني وهو

ص: 261

عن معارضة الأوّل ، خرج شربُ التتن عن موضوع دليل الأوّل ، وهو كونه مشكوك الحكم ، لا عن حكمه حتّى يلزم فيه تخصيص ، وطرح لظاهره .

-------------------

الحرمة ( عن معارضة الأوّل ) أي : الاباحة ( خرج شربُ التتن عن موضوع دليل الأوّل ) أي : الأصل الذي دلّ على الاباحة ( وهو ) أي : موضوع دليل الأوّل ( كونه مشكوك الحكم ) فإنّه قد صار معلوم الحكم بسبب قيام الدّليل عليه .

وعليه : فالخروج إنّما يكون خروجاً موضوعياً وليس خروجاً حكمياً كما قال : ( لا عن حكمه ) أي : ليس خروجاً عن حكم الأصل الذي هو الاباحة ، فهو مثل ما إذا قال : أكرم العلماء وخرج زيد لأنّه جاهل ، لا لأنّه عالم لكن لايجوز إكرامه ، فالخروج خروج موضوعي لا خروج حكمي ( حتّى يلزم فيه ) أي : في هذا الخروج ( تخصيص ، وطرح لظاهره ) أي : لظاهر الأصل وهو الحليّة .

هذا ولا يخفى : إنّ في المقام أموراً أربعة :

الأوّل : الوُرود ، وذلك بأن يكون هناك دليلان : أحدهما يكون بحيث إذا جاء إرتفع موضوع دليل الآخر وجداناً بأنْ لايكون له موضوع حقيقة ، مثل ما لو قال : « إذا شَككتَ فِي شيءٍ فهُوَ لَكَ حَلالٌ » (1) ، وقال : « الميتة حرام » ، فإنّ الدليل الثاني يرفع موضوع الدليل الأوّل الذي هو الشكّ ، إذ بعد ورود التحريم لا شكَ في الميتة .

الثاني : الحكومة ، وهو أن ينفي أحذ الدليلين موضوع الدليل الآخر تعبّداً وإن كان موضوعه باقٍ حقيقةً ، كما إذا قال : « إذا شككتَ فابن على الأكثر » (2) ، وقال :

ص: 262


1- - الكافي فروع : ج6 ص232 ح4 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .

...

-------------------

« لاشكَ لِكثير الشّكّ » (1) فانّ كثير الشّكّ لايبني على الأكثر ، بل يبني على مايصحّح صلاته ، فإن كان المصحّح لصلاته البناء على الأقل بنى على الأقل ، ومن الواضح : انّ كثير الشك هذا باقٍ شكه ، لكنّه بمقتضى : « لاشك لكثير الشك » لا حكم لشكّه حتى يبني فيه على الأكثر .

ولايخفى : أن الحكومة قد تكون موسّعة للدليل الآخر ، مثل قوله : « الطّواف بالبيتِ صَلاة » (2) وقوله « لاصَلاةَ الاّ بطهور » (3) فانّ الأوّل وسع الصلاة حيث جعل حكم الصلاة مشروطا بالطهور جارياً في الطواف .

وقد تكون مضيّقة مثل ماتقدّم من قوله : « لا شَكَّ لكثير الشّك » حيث إن هذا الدليل ضيّق دائرة « إذا شككت فابن على الأكثر » .

الثالث : التخصيص ، وذلك بأن يخرج الدليل الثاني بعض الأفراد عن حكم الدليل الأوّل ، مع إنّ موضوع الدّليل الثاني داخل في الدّليل الأول مثل أكرم العلماء ، ولاتكرم الفاسق من العلماء ، فان العالم الفاسق عالم ، لكنّه خرج

ص: 263


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 وص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3و4 ، من لايحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، الامالي للصدوق : ص645 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 و ص365 ب1 ح960 .

ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا ، لأنّ الترجيحَ فرعُ المعارضة .

وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليل ، والعامّ على الأصل ، فيقال يخصّص الأصل بالدليل أو يخرج عن الأصل بالدليل ،

-------------------

عن وجوب الإكرام ، الذي هو حكم دليل أكرم العلماء .

الرابع : التخصص ، وهو خروج موضوع دليل عن موضوع دليل آخر ، مثل : أكرم العلماء ، ولاتكرم زيداً ، فيما إذا كان زيد جاهلاً ، فانّ زيداً خارج عن العلماء لأنّه جاهل لا لأنه عالم لايجب إكرامه .

( ومن هنا ) أي ممّا ذكرناه : من إنّ تقديم الدليل على الأصل من باب الورود لاالتخصيص ، حيث إنّ الورود هو كون الدليل مخرجاً للشيء عن موضوع الدليل الآخر ، والتخصيص كون الدليل مخرجاً للشيء عن حكم الدليل الآخر ( كان اطلاقُ التقديم والترجيح في المقام ) أي : قولهم : الدليل يقدّم على الأصل ، وقولهم : الدليل يرجّح على الأصل ( تسامُحاً ) لا إطلاقاً حقيقيا .

وذلك ( لأنّ ) التَقديم و ( الترجيحَ فرعُ المعارضة ) .

وقد تبين : إن المورود عليه لايعارض الوارد ، فانّ « الميتة حرام » لايعارض «إذا شككت في شيء فابن على الحلية» ، لانّه لاشك في الميتة بعد قول الشارع هذا .

( وكذلك إطلاق الخاصّ على الدليلُ ، والعامّ على الأصل ، فيقال : يُخصّص الأصل بالدليلُ ، أو يخرج عن الأصل بالدّليل ) انّما هو من باب التسامح ، لأن الخاص كان داخلاً في العام ثم خرج ، مثل : أكرم العلماء ، ولاتكرم زيداً العالم ، وما نَحنُ فيه ليس كذلك ، اذ الميتة حرام لم يكن داخلاً في اذا شككت في شيء فابن على الحلية .

ص: 264

ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلّة الغير العلميّة ، بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البراءة ، مثلاً ، أنّه إذا لم يعلم حرمةُ شرب

التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ

-------------------

( ويُمكن أن يكون هذا الاطلاق ) أي : إطلاق قولهم : الدليل مقدّم على الأصل ، وراجح على الأصل ، ومخصص للأصل ( على الحقيقة ) لا على التسامح ، لكن كونه على الحقيقة إنّما هو ، ( بالنسبة الى الأدلّة غير العلميّة ) أي : بالنسبة الى ما لايوجب العلم بل يوجب الظّنّ فقط ، لأنّ أدلة اعتبار الاصول عامّة تشمل مورد الظنّ على الخلاف ، أو الشّك في الحكم ، فقوله عليه السلام : « الناسُ فِي سِعَةٍ مالا يَعلَمُون » (1) دليل يشمل مالو شَكَ في حُكم شيءٍ ، أو ظنّ بحكم شيء ، لأن كليهما ممّا لايعلمون .

وعليه : فاذا وردَ حرمة شرب التتن بدليل ظنيّ وقلنا : بأنه يلزم الأخذ بهذا الدليل الظنيّ ، كان ذلك خروجاً عن مالايعلمون ، لأنك لاتعلم علماً وجدانياً ومع ذلك لست في سعة ، إذ يجب عليك الاجتناب عن شرب التتن ، فيكون خروج الدليل عن الأصل خروجاً حقيقياً لا خروجاً تسامحياً .

إذن : فتقديم الدليل على الأصل إذا كان الدليل موجباً للعلم يكون من باب الورود ، أما إذا كان الدليل موجباً للظّن فيكون من باب التخصيص ، وذلك ( بأن يقال : إنّ مؤدّى أصل البرائة ) أي : مقتضاه ( مثلاً : انّه إذا لم يعلم حرمةُ شرب التتن فهو غير محرّم ، وهذا عامّ ) فانّ ذلك يشمل صورتين :

ص: 265


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص454 ح109 وورد نظير ذلك في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 و تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 و المحاسن : ص452 ح365 و وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

ومفادَ الدليل الدالّ على اعتبار تلك الأمارة الغير العلميّة المقابل للأصل أنّه إذا قام تلك الأمارة الغير العلميّة على حرمة الشيء الفلانيّ فهو حرامٌ .

وهذا أخصّ من دليل أصل البراءة مثلاً ، فيخرج به عنه

-------------------

الأوُلى : صورة الشك .

الثانية : صورة قيام خبر الثقة على الحرمة .

( ومفادَ الدّليل الدّال على اعتبار تلك الأمارة غير العلمّية المقابل للأصل ) وقوله : « المقابل » ، صفة لقوله : « الدليل الدال » بمعنى : إنّ مقتضى أدلة حجّية خبر الثقة الدال على الحرمة فيما اذا دلّ دليل على حرمة شرب التتن ولم يوجب ذلك الدليل العلم ( انّه إذا قام تلك الأمارة غير العلمية على حرمة الشيء الفلاني ) كالتتن ( فهو حرام ) للأمارة .

( وهذا ) أي : دليل حجّية خبر الثقة ( أخصّ من دليل ) حجّية ( أصل البرائة - مثلاً - ) لأنّ مقتضى أدلة حجّية أصل البرائة لقوله عليه السلام : «الناس فِي سعة مالا يعلمون» (1) حليّة التتن في صورة الشك وكذا في صورة قيام خبر الثقة على الحرمة ، اذ في صورة قيام خبر الثقة على الحرمة لانعلم بالحرمة وإنّما نظنّ بالحرمة ظنّاً .

ومقتضى أدلة حجّية خبر الثقة أعني : صدّق العادل : حرمة التتن في صورة قيام خبر الثقة على حرمة التتن ( فيخرج به ) أي بسبب هذا الدليل ( عنه ) أي : عن الأصل ، لأنّك قد عرفت : إنّ الأصل يشمل فردين ، والدليل يشمل فرداً واحداً .

ص: 266


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص454 ح109 وكذا ورد نظير ذلك في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 وتهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 والمحاسن : ص452 ح365 ووسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

وكونُ دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ، باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة ،

-------------------

( و ) ان قلت : إنكم ذكرتم إن دليل الأمارة أخص مطلقاً من دليل الأصل ، فدليل الأمارة يكون مخصصاً لدليل الأصل ، وهذا غير صحيح ، بل بين الدليلين عموم من وجه ، فانّ دليل الأمارة يشمل كلّ مورد قام عليه الأمارة ، سواء كان هناك أصل أم لا ، ودليل الأصل يشمل كلّ مورد ليس فيه علم ، سواء كان هناك أمارة أم لا ، فيتعارضان في مورد فيه أصل وأمارة .

وعلى هذا : ففي مورد التعارض ، دليل الخبر يقول : خذ بالخبر ، ودليل البرائة -مثلاً- يقول: خذ بالبرائة ، فيتعارضان، هذا في مورد الاجتماع ولهما موردا إفتراق:

الأوّل : أن يكون خبر بدون البرائة ، كما إذا علم إجمالاً بأنّ يوم الجمعة يجب عليه الظهر أو الجمعة ، وورد خبر يقول : بوجوب الظهر ، فانّ هنا خبراً ولا برائة .

الثاني : أن يكون برائة بدون الخبر ، كما إذا شك في حرمة شرب التتن ، فانّ البرائة تقول بالحلّية ، ولا خبر في المقام ، فاذا كان هناك خبر وبرائة تعارضا وتساقطا ، مثلاً : في عَرقِ الجنب من الحرام برائة تقول : بأنّه لا تكليف بالنسبة الى العرق ، وخبر يقول : بأنه نجس ، فيتساقط حينئذ البرائة والخبر لتعارضهُما ، ويكون المرجعَ الأصل العقلي وهو أن كلّما لم يقم من المولى دليل عليه ، فليس على العبد تكليف .

والى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : و ( كون دليل تلك الأمارة أعمّ من وجه ) من دليل الأصل ، وإنّما كان بينهما عموم من وجه ، لأنه ( باعتبار شموله ) أي : شمول دليل تلك الأمارة ( لغير مورد أصل البرائة ) أيضاً كما بيّناه .

والجواب عن هذا الاشكال هو : انّ دليل الأمارة مقدّم على دليل الأصل

ص: 267

لا ينفعُ بعد قيام الاجماع على عدم الفرق في إعتبار تلك الأمارة حينئذٍ بين مواردها .

وتوضيحُ ذلك : أنّ كونَ الدليل رافعا لموضوع الأصل - وهو الشكّ - إنّما يصحّ في الدليل العلميّ ، حيث انّ وجوده يُخرِجُ حُكمَ الواقعة عن كونه مشكوكا فيه ،

-------------------

في مورد التعارض حتى وإنْ كان بين الأمارة والاصل عموم من وجه ، وذلك للاجماع على تقدّم الأمارة على الأصل مطلقاً .

وعليه : فجعل العموم من وجه بينهما ( لاينفعُ بعد قيام الاجماع على عدم الفرق في إعتبار تلك الأمارة حينئذ ) أي : حين تعارض الأمارة مع الأصل ( بين مواردها ) أي : بين موارد الأمارة ، فسواء كان في موردها أصل ، أم لم يكن في موردها أصل ، وسواء كانت النسبة بينهما وبين الأصل عموم مطلق ، أم عموم من وجه ، فانّ الاجماع قام على اعتبار الأمارة وتقديمها مطلقاً .

( وتوضيحُ ذلك ) أي : توضيح تقديم الدليل غير العلمي على الأصل بعنوان التخصيص ، لا بعنوان الورود ، حيث انّ المصنّف ذكر أوّلاً : انّ دليل الأمارة واردٌ على دليل الأصل ، ثم أضرب عن ذلك وذكر : انّ دليل الأمارة مخصِّص لدليل الأصل ، والآن يريد توضيح كونه مخصصاً لا وارداً ، وبعد أسطر حين يقول : « هذا ولكن التحقيق » يرجع عن كونه مخصصاً ويبني على كونه وارداً .

وعليه : فتوضيح كونه مخصّصاً لا وارداً قوله : ( انّ كونَ الدّليل رافعاً لموضوع الأصل وهو ) أي موضوع الأصل ( الشّك ) وعدم العلم ( إنّما يصحٔفي الدليل العلميّ ) أي : إذا كان الدليل موجباً للعلم ( حيث إنّ وجوده ) أي : وجود الدليل الذي يوجب العلم ( يُخرِجُ حُكمَ الواقعة عن كونه مشكوكاً فيه ) فإذا قام - مثلاً-

ص: 268

وأمّا الدليل الغير العلميّ فهو بنفسه بالنسبة الى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، وأمّا بالنسبة الى ما عداهما فهو بنفسه غير رافع لموضوع الأصل ، وهو عدم العلم .

وأمّا الدليل الدالّ على اعتباره ، فهو وإن كان علميّا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ حكما ظاهريّا نظير مفاد الأصل .

-------------------

خَبرٌ مُتواترٌ على حرمةِ التتن ممّا أوجب العلم ، تقدّم هذا الخبر المتواتر على الأصل الذي موضوعه : الشك في حكم التتن ، فيكون تقديم الدليل المتواتر على الأصل بعنوان الورود .

( وأمّا الدّليل غير العلمي ) كخبر الثقة ، فانّ خبر الثقة لا يوُجب العلم ( فهو ) لايتقدم على الأصل بعنوان الورود ، لأن خبر الثقة ( بنفسه بالنسبة الى أصالة الاحتياط والتخيير كالعلم رافع للموضوع ، واما بالنسبة الى ماعداهما ) أي : ما عدا أصالة الاحتياط والتخيير ( فهو ) أي : خبر الثقة ( بنفسه ) مع قطع النظر عن دليل حجّيته ، فانّ دليل حجّية خبر الثقة هو الأدلة الأربعة كما قرر في محلّه ( غير رافع لموضوع الأصل ، وهو : ) أي : موضوع الأصل : الشك و ( عدم العلم ) .

والحاصل : انّ خبر الثقة لا يكون رافعاً لموضوع الشّك ، إذ الشّك باقٍ وجداناً .

( وأمّا الدّليل الدّال على اعتباره ) أي : على إعتبار ذلك الدليل الذي مثّلنا له بخبر الثقة ( فهو وإن كان علميّاً ) كالأدلة الأربعة الدالة على اعتبار خبر الثقة ، فانّ الأدلة الأربعة توجب علم الانسان بحجّية خبر الثقة ( إلاّ انّه لايفيد إلاّ حكماً ظاهريّاً نظير مفاد الأصل ) .

وعليه : فكل من الأصل ، وأدلة حجّية خبر الثقة يفيد الظّنّ ، ولا يفيد أحدهما

ص: 269

إذ المراد بالحكم الظاهريّ ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعيّ الثابت له من دون مدخليّة العلم والجهل .

-------------------

العلم ، فسواء قال الشارع - مثلاً- : « لاتَنقُض اليَقين بالشَّكِ » (1) الذي يفيد حجّية الاستصحاب ، أو قال : « إعمل بخبر العادل » فانّ كل واحد منهما لايفيد الاّ الظّنّ بحجّية خبر الثقة وبحجّية الاستصحاب .

والحاصل : انّ نفس خبر الثقة الدال على حرمة التتن - مثلاً- لايوجب العلم بالحكم الواقعي ، لاحتمال أنْ يكون الثقة قد اشتبه في الأمر ، ودليل حجّيته - أعني : الأدلة الأربعة الدالة على حجّية خبر الثقة - لايوجب العلم بحرمة التتن واقعاً أيضاً ، بل الأدلة الأربعة توجب العلم بحجّية الخبر الدال على حرمة التتن ظاهراً .

وعليه : فحرمة التتن ليس معلوماً لنا ، لا بالدّليل الدال على حرمة التتن ، ولا بالأدلة الأربعة الدالة على حجيّة خبر الثقة ، فيبقى حرمة التتن حكماً ظاهرياً مظنوناً ، ومثل : هذا الظنّ لايوجب العلم حتى يرفع الشك في حرمة التتن الذي هو موضوع الأصل .

وإنّما قلنا : انّ الدليل لايفيد الا حكماً ظاهرياً بحرمة التتن ( إذ المراد بالحكم الظّاهريّ ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعيّ ) كمؤديّات الاصول وسائر الأدلة غير العلميّة ، فهي كلّها أحكام ظاهرية في مقام الظاهر .

وأمّا الحكم الواقعي ، فهو الحكم ( الثّابت له ) أي : للفعل كشرب التتن ( من دون مدخليّة العلم والجهل ) كما سبق : من أنّ التتن له حكمان :

ص: 270


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فكما أنّ مفادَ قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » ، يفيدُ الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه ، فكذلك ما دلّ على حجّيّة الشهرة الدالة مثلاً على وجوب شيء ، يفيد وجوبَ ذلك الشيء من حيث انّه مظنون مطلقا أو بهذه الأمارة .

-------------------

حكم واقعي يشترك فيه العالم والجاهل ، وهو : ما أَثبتَهُ اللّه سبحانه وتعالى للتتن في اللّوح المحفوظ .

وحكم ظاهري شرّعه اللّه لنا مادام لم نعلم بذلك الحكم الواقعي ، وهو : انّ اللّه سبحانه وتعالى قال: اذا لم تعلم الحكم الواقعي للشيء فاتبع الخبر الدال على حكمه، وإن لم يكن خبر ، فاتبع الأصل ، فكلاهما حكم ظاهري بالنسبة الى شرب التتن .

( فكما انّ ) دليل حجّية الأصل وهو ( مفادَ قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ مُطلَقٌ حتى يَرد فِيهِ نَهيّ » ) (1) فان هذا دليل على حجيّة أصل البرائة وهو ( يفيدُ الرّخصة في الفعل غير المعلوم ورود النّهي فيه ) فإنّ كلّ شيء مطلق يفيد : حليّة شرب التتن من حيث انّه غير معلوم الحرمة واقعاً ( فكذلك ما دلّ على حجّية ) الأدلة غير العلميّة كالخبر الذي يرويه زُرارة - مثلاً- على حرمة التتن - فرضاً- فانّه لم يحصل العلم لا من الخبر ولا من الأصل .

وهكذا ( الشهرة الدّالة مثلاً على وجوب شيء ) كالصلاة عند ذكر اسم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فانّه ( يفيد وجوبَ ذلك الشيء ) أي : الصلاة عند ذكر النبي في المثال ( من حيث إنّه مظنون مطلقاً ) أي : بالدّليل الانسدادي ( أو بهذه الأمارة )

ص: 271


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

ولذا اشتهر أنّ علم المجتهد بالحكم

-------------------

الخاصة التي هي الشهرة ، حيث انّها حجّة بالدليل الخاص .

هذا ، وقول المصنّف : « مطلقاً أو بهذه الأمارة » ، إشارة الى انّ دليل حجيّة الشهرة قد يكون الانسداد بناءاً على الحجيّة من باب الظنّ المطلق ، ومقتضاه : ان الوجوب الذي أدّى إليه الشهرة حكم ظاهري ، حيث انّه مظنون بالظنّ المطلق ، وقد يكون دليل حجيّة الشهرة الظنّ الخاص ، كما إذا لم نقل بالانسداد وقام الدليل على حجّية الشهرة كقوله : « خُذ بِما إشتَهَرَ بين أَصحابِكَ » (1) أو ما أشبه ذلك من الأدلة الدالة على حجّية الشهرة .

وعلى أي حال : فكلّ من الظنّ المطلق ، أو الظنّ الخاص ، لايُوجب العلم بحجيّة الشهرة ، وإنّما يوجب الظنّ بحجيّة الشهرة ، وكما إنّ أصل البرائة يوجب الظّنّ كذلك الشهرة توجب الظنّ ، فكلاهما مظنونان ، وإذا كان كلاهما مظنوناً فتقديم الدّليل غير العلمي على الأصل إنّما يكون بعنوان التخصيص لا الورود .

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه : من إنّ أدلة اعتبار الظنّ توجب كون مؤدّى الظنّ حكماً ظاهرياً ، كما إنّ مؤدى الأصل أيضاً حكم ظاهري فليس مؤدّى أدلة اعتبار الظّنّ : الحكم الواقعي حتى يكون وارداً على مؤدّى الأصل ( إشتهر ) بين العلماء ( أنّ علم المجتهد بالحكم ) انّما هو علم بالحكم الظاهري ، لا علم بالحكم الواقعي ، لأنّ مبنى هذا العلم هو مايفيد الحكم الظاهري .

ص: 272


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

مستفادٌ من صغرى وجدانيّة ، وهي : « هذا ما أدّى إليه ظنّي » ، وكبرى برهانيّة ، وهي : « كلّ ما أدّى إليه ظنّي فهوحكمُ اللّه في حقّي » ، فانّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهريّ .

فاذا كان مفادُ الأصل ثبوتَ الاباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة ، ومفادُ دليل تلك الأمارة ثبوتَ الحرمة للفعل المظنون الحرمة ، كانا متعارضين

-------------------

وذلك لأن علمه ( مستفادٌ من صغرى وجدانيّة : وهي « هذا ما أدّى اليه ظنّي » ) أما ظنّاً مطلقاً ، أو ظنّاً خاصاً ، ( وكبرى برهانيّة : وهي « كلمّا أدّى اليه ظنيّ فهو حكمُ اللّه في حقّي » ) وإنّما كان كلمّا أدّى اليه ظنّ المجتهد هو حكم اللّه في حقه ، لأنّ ظنّه مستند إما الى دليل الانسداد وهو حجّة ، وأما الى الأدلة الخاصة وهي حجّة أيضاً ، ومن المعلوم : إنّ النتيجة - وهي الحكم - المبنية على مقدمتين : احداهما ظنّية وهي المقدمة الاُولى التي ذكرها بقوله : « هذا ما أدّى اليه ظنيّ ، لايكون علماً ، وإنّما يكون ظنّاً » .

إذن : ( فانّ الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظّاهري ) لا الحكم الواقعي ، فانّ الظّنّ لايوجب العلم بالحكم الواقعي ، كما إنّ دليل حجّية الظنّ أيضاً لايوجب علماً بالحكم الواقعي ، بل هاتان المقدّمتان توجبان الظنّ بالحكم الظاهري ، وهذا الظنّ حجّة امّا للانسداد ، أو للأدلة الدالة على حجيّة الظنون الخاصة .

وعليه : ( فاذا كان مفادُ الأصل : ثبوتَ الاباحة ) ظاهراً ، لأن الأصل يقول : الشيء المشكوك الحكم مباح لك ، فيثبت ( للفعل غير المعلوم الحرمة ) كشرب التتن : الاباحة ظاهراً ( ومفادُ دليل تلك الأمارة ) كالرواية التي تقول ، إنّ شرب التتن حرام - مثلاً - ( ثبوتَ الحرمة ) ظاهراً ( للفعل المظنون الحرمة ) لأنّا بعد ورود الرواية نظنّ بحرمة التتن ، فانّهما ( كانا متعارضين

ص: 273

لا محالة .

فاذا بنى على العمل بتلك الأمارة ، كان فيه خروجٌ عن عموم الأصل وتخصيصٌ له لا محالة .

هذا ، ولكنّ التحقيق انّ دليلَ تلك الأمارة وإن لم يكن كالدليل العلميّ رافعا لموضوع الأصل ،

-------------------

لا محالة ) فإنّ دليلاً يقول بحرمة التتن ، ودليلاً يقول بإباحة التتن .

( فاذا بنى على العمل بتلك الأمارة ) الدالة على حرمة التتن لأَن الأمارة أخصّ من الأصل ، أو لأنّ بينهما عموم من وجه ، لكن الاجمال قال بتقديم الأمارة على الأصل ( كان فيه خروجٌ عن عموم الأصل ) الدال على الاباحة ( وتخصيصٌ له لامحالة ) فيكون تقديم الأمارة على الأصل من باب التخصيص لا من باب الورود .

( هذا ) غاية تقريب الكلام في كون أدلة الامارات مخصصة لأدلة الاصول .

( ولكنّ التحقيق : ) انّ أدلة الأمارات واردة على أدلة الاصول ، لا انها مخصصة لها ، وقول المصنّف : « ولكن التحقيق » ، جواب على ما تقدّم منه قبل أسطر من قوله : «وتوضيح ذلك ...» .

ثم إنّ وجه كون أدلة الأمارات واردة وليست مخصصة لأدلة الاصول هو : ( إنّ دليلَ تلك الأمارة وإنْ لم يكن كالدّليل العلميّ رافعاً لموضوع الأصل ) فانّ أدلة الأمارة كما ذكره المصنّف على قسمين : الأوّل : انّها واردة على أدلة الاصول .

الثاني : انها حاكمة على أدلة الاصول .

وعلى أي حال : فانّ أدلة الأمارات ليست مخصصة لأدلة الاصول ، إذ الأمارات كالخبر الواحد - مثلاً- يقول : بحرمة التتن ، ودليل هذه الأمارة : صدّق العادل ، أو

ص: 274

إلاّ أنّه نزّل شرعا منزلةَ الرافع ، فهو حاكم على الأصل لا مخصّص له ،

-------------------

قوله سبحانه : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ...» (1) أو ما أشبه ذلك ، فانّ دليل الأمارة هذا وإن لم يكن كالدليل العلمي رافعاً لموضوع الأصل الذي هو عبارة عن الشك في حكم التتن - مثلاً - ( إلاّ انّه ) أي : دليل تلك الأمارة ( نزّل شرعاً منزلةَ الرّافع ) .

وعليه : فانّ الأمارة وهي - مثلاً- الخبر الدال على حرمة شرب التتن ، والذي دلّ على هذه الأمارة وهو : صدّق العادل ، يدل على تنزيلها منزلة العلم ، فاذا قام الخبر على حرمة شرب التتن يكون كالعلم بالحرمة ، وكما انّه إذا دلّ الخبر المتواتر - مثلاً- على حرمة التتن ، فهو يخرج عن موضوع الأصل لحصول العلم بحرمته بالوجدان، كذلك إذا دلّ الخبر - مثلاً- على حرمة التتن يخرج عن موضوع الأصل ، لكن خروجاً تعبدياً ، لأن دليل حجّية الخبر يقتضي تنزيل الخبر منزلة العلم .

إذن : ( فهو ) أي : دليل تلك الأمارة ( حاكم على ) دليل ( الأصل لا مخصّص له ) إذ قد تقدّم : انّ التخصيص عبارة عن خروج الحكم مع بقاء الموضوع ، مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيداً العالم ، بينما الحكومة عبارة عن تصرف دليل ثانٍ في موضوع دليل الأوّل توسعة أو تضييقاً ، مثل : « لا شكّ لكثير الشَك » (2) في التضييق ، و « الطواف بالبيت صلاة » (3) في التوسعة .

ص: 275


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 و ص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 و ص344 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

كما سيتّضح انشاء اللّه تعالى على أنّ ذلك إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة .

وأمّا الأدلّةُ العقليّة القائمة على البراءة والاشتغال ، فارتفاعُ موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنّيّة واضحٌ ،

-------------------

هذا ، ولكن المقام من قبيل الحكومة لا من قبيل المخصّص ( كما سيتضح إنشاء اللّه تعالى ) عند بيان الحكومة ، وذلك لان دليل الاصل يقول : « إذا شككت فاحكم بالحلّية » ، والخبر يقول : « التتن حرام » ، أي : لاشكّ لك ، فدليل الحرمة يتصرّف في موضوع دليل الأصل ، وموضوع دليل الأصل هو الشك فيرتفع به .

( على انّ ذلك ) أي : تخصيص أدلة الأصول بسبب أدلة الأمارات ، إذا سلّم التخصيص ، فهو ( إنّما يتمّ بالنّسبة الى الأدلة الشّرعيّة ) الدالة على حجّية البرائة ، أو الاشتغال ، أو الاستصحاب، حيث تكون أدلة الأمارات مخصصة لهذه الأصول الثلاثة.

( وأمّا الأدلّةُ العقليّة القائمة على البرائة والاشتغال ) مثل : « قبح العقاب بلا بيان » ولزوم الاحتياط في أطراف الشبهة من جهة العلم الاجمالي ( فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلة الظّنّية واضحٌ ) فانّ الاصول الأربعة بعضها شرعي وعقلي ، وبعضها عقلي فقط ، كالتخيير عند المصنّف حيث يرى انّه عقلي بحتٌ .

فموضوع الاصول الشرعيّة - الذي هو : الاستصحاب ، والبرائة ، والاشتغال ، الثابتة بالدليل الشرعي مثل : « لاتَنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) ومثل :« ما كُنّا مُعَذّبِينَ

ص: 276


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وانتهاضها رافعا لاحتمال العقاب ، كما

-------------------

حَتى نَبعَثَ رَسُولاً »(1) ومثل : « أَخُوكَ دِينُكَ فَاحتَط لِدِينِكَ » (2) - عدم العلم ، لأنها كلّها في مقام الشك فيكون دليل اعتبار الأمارة مخصّصاً لأدلة الأصول الشرعيّة كما سبق وجهه .

وموضوع البرائة العقليّة : عدم البيان ، وموضوع الاشتغال العقلي : احتمال العقاب ، وموضوع التخيير : عدم ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فيكون دليل اعتبار الأمارات وارداً على دليل الاصول العقليّة ورافعاً لموضوع هذه الاصول ، فانّه بعد قيام الخبر - مثلاً - أو الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو نحو ذلك ، على الحرمة يخرج التتن عن موضوع البرائة العقليّة الذي هو عدم البيان .

كما لايحتمل العقاب بعد ذلك بالنسبة الى ما دلّ من الخبر ونحوه على الاباحة .

وكذا بالنسبة الى التخيير ، فإنّه إذا إرتفع الشك والتحيّر بالنّص الدال على هذا الجانب أو ذاك الجانب ، لايبقى موضوع للتخيير .

وانّما يكون ارتفاع موضوعها واضحاً ( لجواز الاقتناع بها ) أي : بأدلة هذه الثلاثة ، فانّه يمكن عقلاً أن يكتفي الشارع بهذه الأدلة لبيان الحكم الواقعي ( في مقام البيان ) لما يطلبه الشارع واقعاً .

( و ) كذا بعد قيام الدليل على أحد طرفي العلم الاجمالي يكون - أيضاً - رافعاً للشك ، لجواز ( انتهاضها ) أي : نهضة الأدلة الظّنيّة ( رافعاً لاحتِمال العقاب ، كما

ص: 277


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

هو ظاهر ، وأمّا التخييرُ فهو أصل عقليّ لا غير .

واعلم أنّ المقصودَ بالكلام في هذه الرسالة الاصولُ المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعيّ الكليّ

-------------------

هو ظاهر ) فإنّه إذا احتمل المكلَّف وجوب الظهر أو الجمعة ، ثم قام الدّليل على وجوب الظهر ، فالجمعة تسقط عن موضوع الاشتغال العقلي ، لانّه بعد وجود الدليل الشرعي لا احتمال لوجوب الجمعة ، فلا عقاب .

( وأمّا التخييرُ فهو أصلٌ عقليّ لا غير ) فانّ المصنّف يرى إنّه لاتخيير شرعي ، فبعد قيام الدّليل على طرف الوجوب - مثلاً- يخرج طرف الحرمة عن موضوع التخيير ، فان موضوع التخيير : عدم الترجيح ، والدليل الشرعي يكون مرجّحاً لأحد الطرفين على الآخر ، ففي مسألة دوران الأمر بين المُحذُورَين : كالدَّوران بين الوجوب والحرمة يرى العقل : التخيير ، وذلك إذا لم يمكن الجَمع بينهما ، ولم يمكن طرح أي منهما ، ولم يكن ترجيح ، والدليل الشرعي يكون مرجّحاً لأحد الطرفين على الآخر ، فيكون وارداً لا مخصّصاً .

( واعلم : أَنّ المقصودَ بالكلام في ) هذا المقصد ، الذي هو مبحث الشك ، من ( هذه الرسالة ) هو : ( الاصولُ ) الأربعة ( المتضمّنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعيّ الكلّي ) :

كالشك في حرمة التتن ، أو الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال في مبحث البرائة .

والشك في انّ الماء الذي زال تغيره يبقى على النجاسة أم لا في مسألة الاستصحاب ، حيث إنّ بعض الفقهاء قال : بزوال نجاسته ، لكن المشهور قال : ببقاء نجاسته للاستصحاب .

ص: 278

وإن تضمّن حكمَ الشبهة في الموضوع أيضا .

وهي منحصرة في أربعة ، أصل البراءة وأصل الاحتياط والتخيير والاستصحاب ، بناءا على كونه حكما ظاهريّا

-------------------

والشّك في انّ الجمعة واجبة أو الظهر في يوم الجمعة من زمن الغيبة ، في مسألة الاشتغال ، حيث يجب عليه الاتيان بهما .

والشك في إنّه هل يجب تقليد الأعلم أو الأورع ، فيما إذا كان هناك مجتهد ان أحدهما أَعلم والآخر أَورع ، ولم يمكن الجمع بينهما حتى يكون من باب الاحتياط ، بل يكون الأمر التخيير بينهما في باب التخيير ؟ .

( وإن تضمّن ) هذه الاصول ( حكمَ الشبهة في الموضوع أيضاً ) :-

كالشك في انّه هل هو مطلوب لزيد ديناراً أم لا ؟ في باب البرائة .

والشك في انّه هل هو باقٍ على وضوئه أم لا ؟ في باب الاستصحاب .

والشك في انّه هل يلزم عليه الصلاة في هذا الجانب أو ذاك الجانب ؟ في باب إشتباه القبلة ، حيث يجب عليه الصلاة اليهما من جهة الاشتغال .

والشك في انّه هل نذر شرب التتن ، أو نذر ترك الشرب ؟ في باب التخيير .

( و ) على أي حال : فإنّ المقصود الأصلي من كتب الاصول هو : التكلم حول الاصول الأربعة من جهة الشبهة في الحكم الفرعي الكلّي ، لا من جهة الموضوع حتى وإن كانت هذه الاصول الأربعة تجري في الشبهات الموضوعية أيضاً .

إذن : فالاصول المتضمنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي ، انّما ( هي منحصرة في أربعة : أصل البرائة ، وأصل الاحتياط ، والتخيير ، والاستصحاب ) على ما ذكرنا حصر الأصل في هذه الأربعة في أوّل الكتاب .

وإنّما ذكرنا الاستصحاب أيضاً ( بناءاً على كونه حكماً ظاهريّاً ) أي : بناءاً

ص: 279

ثبت التعبّدُ به من الأخبار ، إذ بناءا على كونه مفيدا للظنّ يدخلُ في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي .

وأمّا الاصولُ المشخّصةُ لحكم الشبهة في الموضوع ، كأصالة الصحّة

-------------------

على كون الاستصحاب من الاصول التعبدية الجارية في مورد الشك بحيث قد ( ثبت التعبّدُ بهِ من الأخبار ) فانّ الشيخ البهائي رحمه اللّه ذكر في بعض كتبه : انّ حجّية الاستصحاب من باب الأخبار ، والتي منها « لا تَنقُض اليَقينَ بالشَّك » (1) .

( إذ بناءاً على كونه مفيداً للظّنّ ) وانّه ثبت ببناء العقلاء ، وانّ الشارع أمضاه حيث سكت عليه - كما كان هو المشهور بين القدماء - وذكره العلاّمة ، وغيرهم ، فانّه ( يدخلُ ) أي : الاستصحاب حينئذ ( في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي ) فيكون حاله حال الخبر ، والشهرة ، ونحوهما ، حيث انّها تكشف عن الواقع ، وليست من باب حكم الشك عملاً .

( وأمّا الاصول المشخّصةُ لحكم الشّبهة في الموضوع ) أي : الاصول التي تجري في الشبهات الموضوعية بتشريع من الشارع ( كأصالة الصحة ) في عمل الانسان مسلماً كان أو كافراً - فإنّا ذكرنا في « الفقه » : إنّ أصل الصحة يجري في عمل الكافر أيضاً ، فاذا لم نعلم بأنّ هذا المتاع الذي بيد الكافر سرقه ، أو انّه ملكه ؟ جاز الاعتماد على أصالة الصحة في عمله فنشتري المتاع منه ، الى غير ذلك ممّا فصلناه هناك .

ص: 280


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأصالة الوقوع فيما شكّ فيه بعد تجاوز المحلّ ، فلا يقع الكلامُ فيها إلاّ بمناسبة يقتضيها المقامُ .

-------------------

( وأصالة الوقوع ) التي تسمّى : بأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ، حيث انَّ الانسان إذا فَرغَ عن العمل ، وشك في أنّه هل أتى به صحيحاً أم لا ؟ يحكم بأصل الفراغ وانّه أتى به صحيحاً .

وكذلك إذا تجاوز عن محل في الصلاة ونحوها ، وشكّ في انّه هل أتى بذلك الجزء - مثلاً- ، يحكم بالصحة لأصل التجاوز .

والفرق بين : أصل الصحة ، وأصل التجاوز ، وأصل الفراغ ،مذكور بالتفصيل في « الفقه » .

اما المصنّف فقد ذكر أَصل التجاوز وأصل الفراغ بلفظ واحد وسماهُما : أصالة الوقوع ، وهي تجري ( فيما شك فيه بَعدَ تجاوز المحلّ ) سواء كان التجاوز داخل العمل ، كما لو شك وهو في الركوع : بانّه هل قرء الحَمد أم لا ؟ وفي السجود بانّه هل ركع أم لا ؟ أو كان بعد تمام العمل ، كما إذا أَتمّ الصلاة وشك في أنه هل أتى بالركوع أم لا - مثلاً - ( فلا يقع الكلامُ فيها ) أي : في هذه الاصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع ( إلاّ بمناسبة يقتضيها المقامُ ) استطراداً .

ولهذا لا نذكر أصل الطهارة ، أو أصل الحلّية ، أو ما أشبه ذلك هنا ، لأن موضع هذه الاصول والتي تسمّى : بالقواعد الفقهية ، في الفقه ، وقد سبق الالماع الى سبب ذلك في أوّل الكتاب ، فلا داعي الى تكراره .

وكيف كان : فليس التكلم حول غير هذه الاربعة من الاصول في هذا الكتاب إلاّ من باب الاستطراد ، فانّ وظيفة الاصول هي البحث عن الشبهات الحكمية الكلّية والتي هي منحصرة في هذه الأربعة .

ص: 281

ثمّ إنّ انحصارَ موارد الاشتباه في الاصول الأربعة عقليّ ، لأنّ حكمَ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقينُ السابقُ عليه ، وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يُلحَظ .

-------------------

( ثم إنّ انحصارَ موارد الاشتباه ) والشك ، بأن لم يكن للمكلّف علم ، أو ظنّ يقوم مقام العلم ، بهذا الجانب أو ذلك الجانب ( في الاصول الأربعة ) : الاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط ( عقلي ) فانّ الحصر العقلي هو الحصر الذي يدور بين النفي والاثبات ، وموارد هذه الاصول الأربعة دائرة بين النفي والاثبات - كما سبق في أول الكتاب - .

هذا ، وقد أوضح الحصر بقوله : ( لأنّ حكمَ الشّك : إمّا ان يكون ملحوظاً فيه اليقينُ السّابقُ عليه ) أي : على الشّك ، بأن كان الشارع حكم باجراء حكم اليقين السابق في اللاحق المشكوك فيه ، كما إذا تيقن بالطهارة وشّك في انّه هل إرتفع بسبب نوم حصل له أو لم يرتفع ، لأنّ النوم لم يكن غالباً على سَمعِه وبَصره ، فانّه يستصحب الطهارة ، وكذلك في الأحكام الكلّية .

( وإمّا أن لايكون ) ملحوظاً فيه اليقين السابق ( سواء لم يكن يقين سابق عليه ) أصلاً ، مثل الشك في أنّ التتن حرام أم لا ، فانّه لا يقين سابق لحرمة التتن وعدم حرمته ، أو مثل تعاقبُ حالتين سابقتين : الحدث والطهارة ، والآن في الحالة الثالثة لايعلم هل الطهارة كانت متقدِّمة ، أو الحدث كان متقدماً حتى يستصحبه ؟ .

( أم كان ولم يُلحَظ ) بأنْ كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لكن اليقين السابق لم يكن ملحوظاً ، كالشك في المقتضي عند المصنّف على ما يأتي ، فانّ المصنّف لايجري الاستصحاب في الشك في المقتضي ، أو كالمثال المتقدّم :

ص: 282

والأوّلُ : موردُ الاستصحاب .

والثاني : إمّا أن يكون الاحتياطُ فيه ممكنا ام لا ، والثاني هو موردُ التخيير ،

-------------------

من الماء الكثير الذي تنجس بالتغيير ثم زال تغيّره من نفسه ، حيث إنّ المشهور يستصحبون حالة النجاسة ، خلافاً لبعض الفقهاء الذين لايقولون بالاستصحاب ، مدّعين : انّ التغيير كان سبب النجاسة ، فاذا زال السبب زال المسبب .

( والأوّلُ : هو موردُ الاستصحاب ) سواء كان الشك في التكليف أو في المكلّف به ، أمكن الاحتياط أو لم يمكن ، وسواء كان في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية ، في الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي .

( والثّاني : ) وهو ما لم يلحظ فيه الحالة السابقة ، سواء كان هناك يقين أم لم يكن ، فهو ( إمّا أن يكون الاحتياطُ فيه ممكناً ) كالجمع بين الطرفين الذين أحدهما واجب فقط ، أو أحدهما حرام فقط ، أو أحدهما واجب والآخر حرام .

( أم لا ) بأن لم يكن الاحتياط فيه ممكناً وذلك فيما إذا دار أمر شيء بين الوجوب والتحريم ، كما إذا لم يعلم انّه نَذَرَ وطي زوجته في ليلة الجمعة أو ترك وطيها ، أو انّه شك في انّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة واجبة أو حرام .

( والثاني : ) وهو ما لم يمكن فيه الاحتياط ، فانه ( هو موردُ التخيير ) فاذا لم يعلم : انّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام ، تخيّر بين الاتيان بها وتركها ، أو اذا لم يعلم : انّ الزوجة محلوفة الوطي أو الترك تخيّر في وطيها وتركه إذ لا علاج غير ذلك .

ص: 283

والأوّلُ إمّا أن يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإمّا أن لا يدلّ ، والأوّل موردُ الاحتياط ، والثاني موردُ البراءة .

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مواردَ الاصول قد تتداخلُ ، لأنّ المناطَ في الاستصحاب ملاحظةُ الحالة السابقة المتيقنة ، ومدارَ الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودةً .

-------------------

( والأوّل ) وهو : ما أمكن فيه الاحتياط ، فهو ( : امّا ان يدلّ دليل عقليّ أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ) وهو مايعبَّر عنه : بالشك في المكلّف به ، لأن التكليف محرز ، وإنّما المكلَّف به غير ظاهر ، فلا يعلم - مثلاً- هل إنّه نذر أن يصوم أول رجب ، أو أول شعبان ؟ .

( وإمّا أن لايدلّ ) دليل عقلي أو نقليّ على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول .

( والأوّل : موردُ الاحتياط ) فاذا كان الأمر دائراً بين أحد واجبين أتى بهما ، أو أحد محرَّمين تركهما ، أو واجب ومحرَّم فعل الواجب وترك المحرّم ، كما إذا علم انّه نذر أما أن يشرب الشاي ، أو أن يترك التبغ ، فانّه يجب عليه أن يشرب الشاي ويترك التبغ .

( والثاني : موردُ البرائة ) فاذا شك في انّه هل يجب عليه دعاء رؤية الهلال أم لا ، تمسك بالبرائة في عدم الوجوب ، وإذا شك في انّه هل يحرم عليه التبغ أم لا ، تمسك بالبرائة في عدم الحرمة عليه ( وقد ظهر ممّا ذكرنا : انّ مواردَ الاصول قد تتداخلُ ) بأن يكون مورد واحد مورداً للاستصحاب وللبرائة - مثلاً- وذلك ( لأن المناطَ في الاستصحاب : ملاحظة الحالة السّابقة المتيقنة ، ومدار الثلاثة الباقية ) من الاصول ( على عدم ملاحظتها وان كانت موجودة ) فيمكن أن يكون لشيء

ص: 284

ثمّ إنّ تمامَ الكلام في الاصول الأربعة يحصلُ باشباعه في مقامين :

أحدهما : حكمُ الشكّ في الحكم الواقعيّ من دون ملاحظة الحالة السابقة ، الراجع إلى الاصول الثلاثة .

الثاني : حكمهُ بملاحظة الحالة السابقة ، وهو الاستصحاب .

-------------------

واحد حالة سابقة يرى بعض بسبب تلك الحالة جريان الاستصحاب ، ويرى بعض عدم الجريان لعدم ملاحظته الحالة السابقة ، فيجري فيه البرائة .

كما في مثال الماء المتغير ، الذي زال تغيره من نفسه ، حيث ان المشهور يستصحب حالة النجاسة ، وغير المشهور يقول : انّا نشكّ في نجاسة هذا الماء بعد زوال التغيّر ، فنجري البرائة ، فلا تكليف لنا بالنسبة الى تطهير ما لاقى هذا الماء .

وكذا الشك في المقتضي عند من لايرى جريان الاستصحاب فيه ، فيتمسك بالاُصول الاُخر الجارية في المقام ، بينما جملة من الاصوليين يَرَوْنَ جريانَ الاستصحاب فيه ، لعدم الفرق عندهم بين الشَّك في المقتضي والشّك في المانع ، وعلى كلٍ فالأمر في المثال سهل .

( ثمّ إنّ تمامَ الكلام في الاصول الأربعة يحصلُ باشباعه ) أي : باشباع الكلام ( في مقامين ) على مايلي :

( أحدهما : حكمُ الشّك في الحكم الواقعيّ ) للمكلَّف ( من دون ملاحظة الحالة السّابقة ، الراجع) حكم هذا الشك غير الملحوظ فيه الحالة السابقة ( الى الاصول الثلاثة ) : التخيير ، والاحتياط ، والبرائة .

( الثاني : حكمهُ ) أي : حكم الشّك ( بملاحظة الحالة السّابقة ، و ) ذلك الحكم ( هو الاستصحاب ) حيث يلاحظ في الاستصحاب الحالة السابقة ، بخلاف : البرائة ، والتخيير ، والاحتياط ، فانّه لايلاحظ فيها الحالة السابقة .

ص: 285

أمّا المقام الأوّل :

فيقع الكلامُ فيه في موضعين .

لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف ، وهو النوع الخاصّ من الالزام وإنْ علم جنسه ، كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم .

وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ،

-------------------

المقام الأوّل :

( أمّا المقام الأوّل : ) وهو حكم الشّك من دون لحاظ الحالة السابقة ( فيقع الكلام فيه في موضعين ) أيضاً :

الأوّل : مَبحث الشكّ في التكليف ، بان لم يعلم المكلّف هل كلّف بشيء أم لا ، كما إذا لم يعلم انّه هل كلّف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبحرمة التبغ ، أم لا ؟ .

الثاني مبحث الشك في المكلّف به ، بأنْ عَلِمَ بالتكليف ، لكنّه لم يعلم إنّ « المكلَّفَ به » هل هو هذا أو هو ذاك ؟ كما تقدّم بيانه والى الأوّل أشار المصنّف بقوله : ( لانّ الشّك إمّا في نفس التكليف وهو : النّوع الخاصّ من الالزام وإن علم جنسه ) أي : جنس التكلّيف وهو : الالزام ، لأنّه قد يَعلمَ الانسان الوجوب المردد بين شيئين أو يعلم التحريم المردد بين شيئين ، وقد يعَلمَ الالزام ، لكنّه لا يعلم هل هو إلزام وجوبي في هذا الطرف ، أو تحريمي في الطرف الآخر ؟ ( كالتكليف المردّد بين الوجوب والتحريم ) .

ثم أشار الى الثاني بقوله : ( وإمّا في متعلق التكليف مع العلم بنفسه ) أي بنفس التكليف ، بأن علمنا التكليف ، لكنّا لا نعلم هل هو متعلق بهذا الشيء أو بذاك

ص: 286

كما إذا علم وجوب شيءٍ وشكَّ بين تعلّقه بالظهر والجمعة ، أو علم وجوب فائتةٍ وتَردّد بين الظهر والمغرب .

والموضع الأوّل :

يقعُ الكلامُ فيه في مطالب ، لأنّ التكليف المشكوك فيه إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ، وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ، وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ،

-------------------

الشيء ؟ ( كما إذا علم وجوب شيء وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة ) فانّ التكليف هُنا مَعلومٌ وهو : الوجوب ، لكنْ متعلقه مجهول ، وهذا مثال للشبهةِ الحكميّة ( أو علم وجوب ) قضاء صلاة ( فائتةٍ ، وتردّد بين الظهر والمغرب ) فانّه علم بفوّت صلاة ، لكنّه لا يعلم هل الفائت ظهر أو مغرب ؟ فهذه شبهة موضوعية .

والموضع الأوّل :

( والموضع الأوّل ) وهو : مبحث الشك في التكليف فانّه ( يقع الكلام فيه في مطالب ) ثلاثة ، وأمّا الموضع الثاني وهو : الشك في المكلّف به ، فسيأتي بعد ذلك انشاء اللّه تعالى .

وإنما كان الكلام في الشك في التكليف في مطالب ثلاثة ( لأنّ التكليف المشكوك فيه : إمّا تحريم مشتبه بغير الوجوب ) بأن شككنا في انّه هل هو حرام أم لا ؟ كالشك في حرمة التتن .

( وإمّا وجوب مشتبه بغير التحريم ) بأنْ شككنا في أنّه هل هو واجب أم لا ولم نحتمل الحرمة ، كالشك في إنّ الصلاة عند ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم واجب أم لا ؟ ( وإمّا تحريم مشتبه بالوجوب ) كما إذا كان هناك إحتمالان : إحتمال الوجوب ، وإحتمال

ص: 287

وصور الاشتباه كثيرةٌ .

وهذا مبنيّ على إختصاص التكليف بالالزام

-------------------

الحرمة ، كالشّك في وجوب ردّ السلام على المصليّ إذا سلّم عليه طفلٌ أو مجنونٌ فهل هو واجب أو حرام ؟ .

( وصور الاشتباه كثيرة ) ترجع أهمَها الى سبع صور : الشبهة بين الوجوب وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

والشبهة بين الحرمة وبين كل من الأحكام الثلاثة : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

والشبهة بين الوجوب والتحريم .

ففي الستة الاُولى : الحكم البرائة .

وفي الأخيرَة : الحكم التخيير ، إذا كان في أمر واحد كما إذا لم يعلم بأنّ صلاة الجُمُعةِ واجبةٌ أو محرمة ؟ والاحتياط بالجمع ، إذا كان بين أمرين ، كما إذا لم يعلم هل نَذَرَ شرب الشاي أو نَذَرَ ترك التبغ ؟ ولا مُناقشة في الأمثال وإنّما المهم الالماع إلى الحكم في الجملة .

( وهذا ) أي : حصر العنوان في الثلاثة : البرائة ، والاحتياط ، والتخيير ، والظاهر : أنّ الكلام الآتي يجري في الاستصحاب أيضاً ، فانَه إذا كان شيء مستحباً ، ثم شّك في بقاء الاستحباب وعدمه استُصحِبَ بقائه ، وكذا إذا شّكَ في بقاء الكراهة ( مبني على إختصاص التكليف بالالزام ) أي : الواجب والحرام فقط .

وذلك ان مقتضى أدلة البرائة هو : رفع الكُلفَةِ وَالمشقّةِ المحتملَةِ بالنسبة

ص: 288

أو إختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ،

-------------------

الى الالزام ، مثل قوله : « رُفِعَ مَالا يَعلَمونَ » (1) وقوله تعالى: « وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حَتى نَبْعَثَ رَسُولاً » ) (2) .

ومقتضى أدلة الاحتياط هو : ثبوت الكلفة والمشقة المحتملة مثل قوله : « اخوكَ دِينُك فاحتَط لدينِكً » (3) وما أشبه ذلك من الأدلة .

ومن المعلوم : إنّ رفع الكلفة واثباتها انّما يكون في الوجوب والحرمة لترتب العقاب على مخالفتهما ، امّا الاستحباب والكراهة فلا كلفة فيهما لعدم العقاب على المخالفة ، فيحكم بجواز كل من الفعل والترك فيما اذا شك في شيء انه مستحب أو ليس بمستحب ، أو مكروه أو ليس بمكروه ، أو مستحب أو مكروه في الدوران بين هذين الراجحين فعلاً وتركاً ، ولا يحتاج إلى اجراء البرائة ، أو الاستصحاب أو التخيير ، أو الاحتياط .

( أو إختصاص الخلاف في البرائة والاحتياط به ) أي : بالالزام ، بمعنى : إنّا وإنْ سلَّمنا إنّ أدلة الطرفين تجري في الاستحباب والكراهة لاطلاق تلك الأدلة فان الادلة ليست كلّها دالة على رفع العقاب ، وإنّما بعضها أعم مثل : « رُفِعَ مَا لا يَعْلَمُونَ » (4) وما أشبه ذلك ، إلاّ أنّ كلامنا في مبحثِ إختلاف العُلماء ،

ص: 289


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .
3- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
4- - تحف العقول : ص50 ، الخصال ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 .

فلو فُرِضَ شموله للمستحبّ والمكروه يظهرُ حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجةَ إلى تعميم العنوان .

ثمّ متعلّق التكليف المشكوك :

إمّا أن يكون فعلاً كلّيّا متعلّقا للحكم الشرعيّ الكلّيّ ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه .

وإمّا أن يكون فعلاً جزئيّا متعلّقا للحكم الجزئيّ ،

-------------------

واختلاف العلماء إنّما هو بالنسبة الى التكاليف الالزاميّة .

( فلو فُرِضَ شموله ) أي : شمول التكليف وشمول نزاع العلماء ( للمستحب والمكروه ) فلا حاجة الى التكلم فيهما أيضاً ، لأنّه ( يظهر حالهما من الواجب والحرام ) فانّ الشبهة الاستحبابية كالشبهة الوجوبية في أدلّة البرائة ، وكذلك الشبهة الكراهية كالشبهة التحريمية ، فانّ التقرير في الوجوب والحرمة يأتي في المستحب والمكروه أيضاً ( فلا حاجة الى تعميم العنوان ) ليشمل غير الالزام .

( ثم ) إنّ ( متعلق التكليف المشكوك ) أي : موضوع التكليف المشكوك قد يكون من الشبهة الحكمية كما قال : ( امّا أن يكون فعلاً كليّاً متعلقاً للحكم الشّرعي الكلّي ، كشرب التتن المشكوك في حرمته ) فانّ شرب التتن فعل كليّ له أفراد كثيرة ، وله حكم كلي هو : الحرمة أو الاباحة ( والدّعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه ) فانّ الدعاء فعل كليّ ، وله حكم كليّ : الوجوب أو الاستحباب - مثلاً - وقد يكون من الشبهة الموضوعية كما قال : ( وإمّا أن يكون فعلاً جزئياً متعلقاً للحكم الجزئي ) لوضوح : إنّ الموضوع إذا كان جزئياً كان له حكم جزئي ، كما أنّه

ص: 290

كشرب هذا المايع المحتمل كونه خمرا .

ومنشأ الشكّ في القسم الثاني إشتباهُ الاُمور الخارجيّة .

ومنشأه في الأوّل إمّا عدمُ النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ، وإمّا أن يكون إجمالَ النصّ ، كدوران الأمر في قوله تعالى : « حتّى يطهرن » ، بين التشديد والتخفيف مثلاً ،

-------------------

إذا كان الحكم جزئياً كان له موضوع جزئي ، لعدم معقولية أنْ يكون أحدهما كلياً والآخر جزئياً ( كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمراً ) فانّ هذا المائع شيء جزئي ، وله حكم جزئي هو : الحرمة أو عدمها .

( ومنشأ الشك في القسم الثاني ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( اشتباه الأُمور الخارجيّة ) ممّا لا يرتبط بالشارع ، كالمائع يشتبه بأنّه خمر أو ماء ، والثوب يشتبه بانّه مغصوب أو مباح ، الى غير ذلك ، حتى إنّا إذا استطرقنا باب الشارع في انّ هذا هل هو خمر أم لا ؟ أو غصب أم لا ؟ أجاب : ارجعوا إلى الموازين العرفية ، لأنّ العرف هو المرَجعَ في أمثال هذه الامور ، وإنْ قال : انّه خمر أو ماء ، أو انّه غصب أو ليس بغصب ، فانّما يقوله لا بما إنّه مشرِّع .

( ومنشأه في الأوّل : ) أي الشبهة الحكميّة ثلاثة أمور :

( امّا عدم النصّ في المسألة ، كمسألة شرب التتن ) حيث لا نصّ فيه .

( وإمّا أن يكون إجمال النّص ، كدوران الأمر في قوله تعالى : « حَتى يَطهرن» (1) بين التشديد والتخفيف - مثلاً - ) فانّ بعضهم قرأ « يَطَّهَّرنَ » ، وبعضهم قرأ « يَطهُرنَ » ، فاذا قرء بالتخفيف كان معناه : النظافة من الحيض وإنْ لم تغتسل ،

ص: 291


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

وإمّا أن يكون تعارضَ النصّين ، ومنه الآية المذكورة بناءا على تواتر القراءات .

وتوضيحُ أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب :

-------------------

وإن قرء بالتشديد كان معناه : لزوم الاغتسال ممّا يوجب تحريم الوطي قبل الاغتسال وإن طهرت من الدم .

( وامّا أن يكون تعارض النصّين ، ومنه ) أي من تعارض النصين ( الآية المذكورة بناءاً على تواتر القراءات ) السبع ، أو العشر عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو جواز الاستدلال بكلّ قرائته .

لكنّا ذكرنا في أول الكتاب ، وفي بحث القرآن الحكيم : إنّ تواتر القراءات شيء لا يمكن القول به وإن ذهب اليه بعض الفقهاء ، بل القرآن من زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الى زماننا هذا لم يتغير ولم يتبدل عن هذه القراءة المشهورة ، وقد رأيت قرائين كُتِبَتْ قبل ألف سَنة كانَتْ مثل القرآن المتعارف عندنا الآن في البلاد الاسلامية ، لا تزيد نقطةً ولا حرفاً ولا حركةً ولا سكوناً ولا تنقصها أيضاً .

وعلى أي حال : فاذا صار « يطهرن » مجملاً بأن لم يعلم إنّ الوطي قبل الاغتسال محرم أم لا ، لانّه لم يعلم انّ القراءة بالتخفيف أو بالتشديد ، وكانت إحدى القرائتين صحيحة والقرائة الثانية غير صحيحة ، أو تعارضت القرائتان كتعارض الخبرين ، لأن أحديهما بالتخفيف ومعناه : الحلية قبل الاغتسال ، والاخرى بالتشديد ومعناه : عدم الحلية قبل الاغتسال ، كان من الشبهة التحريميّة ، حيث يقول الاُصوليون فيها بالبرائة ، والاخباريون بالاحتياط .

( وتوضيح أحكام هذه الأقسام ) التي ذكرناها يتمّ ( في ضمن مطالب ) ثلاثة :

ص: 292

الأوّلُ : دورانُ الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية .

الثاني : دورانُ الأمر بين الوجوب وغير التحريم .

الثالثُ : دورانُ الأمر بين الوجوب والتحريم .

المطلب الأوّل: فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب .

اشارة

وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ ، تارة : الواقعةُ الكلّيّةُ ،

-------------------

( الأوّل : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية ) :

الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ، وذلك في الشبهة التحريمية ، بأنْ لم تعلم هل إنّ حكم الشيء الفلاني - مثلاً - حرام أو مكروه ، حرام أو مستحب ، حرام أو مباح ؟ .

( الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم ) من الأحكام الثلاثة ، أيضاً وذلك في الشبهة الوجوبية .

( الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ) من غير فرقٍ في كلّ ذلك بين الشبهة الموضوعيّة أو الشبهة الحكميّة ، كما إنّ الشبهة الحكميّة ، قد تكون من فُقدانِ النصّ ، وقد تكون من إجمال النصّ ، وقد تكون من تعارض النصين .

المطلب الأوّل :

أمّا ( المطلب الأوّل ) اي : الشبهة التحريمية فهو : ( فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ) من الأحكام الثلاثة الاُخر .

( وقد عرفت : انّ متعلّق الشك تارة الواقعة الكليّة ) الشرعية من الشبهة

ص: 293

كشرب التتن ، ومنشأ الشكّ فيه عدمُ النصّ أو إجمالُه أو تعارضُه ، وأُخرى : الواقعةُ الجزئيّةُ .

فههنا أربع مسائل :

الأُولى : مالا نصّ فيه

وقد اختُلِفَ فيه على ما يرجع إلى قولين :

أحدُهما : إباحةُ الفعل شرعا وعدمُ وجوب الاحتياط بالترك .

والثاني : وجوب الترك ويُعبّر عنه بالاحتياط .

-------------------

الحكمية ( كشرب التتن ، ومنشأ الشّكّ فيه عدم النصّ ، أو إجماله ، أو تعارضه ، وأخرى الواقعة الجزئية ) الخارجية من الشبهة الموضوعية مثل : كون هذا المائع ماءاً أو خمراً ( فههنا ) أي : في الشبهة التحريميّة ( أربع مسائل ) كما يلي :

( الاولى : فيما لا نصّ فيه ، وقد اختلف فيه ) العلماء ( على ما يرجع الى قولين ) وإنْ كانت الأقوال أكثر ، لكن بعض تلك الأقوال ليس محَط الاعتناء :

( أحدهما : إباحة الفعل شرعاً وعدم وجوب الاحتياط بالترك ) فكلما شككنا في شيء إنّه حرام أو ليس بحرام ، أجرينا فيه الاباحة .

( والثاني : وجوب التّرك ويُعبّر عنه : بالاحتياط ) ومأخوذ من قوله عليه السلام : « تأخُذ بالحَائِطةِ لدِينِكَ » (1) و قوله : « أخوُكَ دِينُكَ فَاحتَط لدينكَ » (2) .

ص: 294


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والأوّل منسوب الى المجتهدين ، والثاني الى معظم الاخباريين ، وربما نَسبَ إليهم أقوال أربعة : التحريم ظاهرا ، والتحريم واقعا ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان . ويحتمل الفرق بينها وبين بعضها من وجوه أُخَر تأتي بعد ذكر أدلّة الاخبارييّن .

-------------------

( والأوّل : ) وهو : البرائة وتسمى بالاباحة أيضاً ( منسوب الى المجتهدين ) الذين يجعلون القواعد العامّة أساساً للأحكام الشرعيّة ، وتلك القواعد مستفادة من : الكتاب والسنّة ، والاجماع ، والعقل .

( والثاني ) وهو : الاحتياط ، منسوب ( الى معظم الأخباريين ) الذين يرون العمل بالأخبار فقط ، حيث يقولون بأن ظواهر القرآن ليست بحجّة ، والاجماع كذلك لا دليل على حجيته ، والعقل انّما يحكم في اصول الدين لا في فروعه .

( وربّما نسب اليهم ) أي : الى الاخباريين ( أقوال أربعة : التحريم ظاهراً ، والتحريم واقعاً ، والتوقف ، والاحتياط ، ولا يَبعُد أن يكون تغايرها بإعتبار العنوان ) فحيث إنّ العناوين في الأخبار مختلفةٌ ، ففي بَعض الأخبار : « قِفْ » وفي بعض الأخبار : « إحتط » ، وفي بعض الأخبار : « إجتنب » ، الظاهر في التحريم الظاهري ، وفي بعض الأخبار : « النهي عن العمل » الظاهر في التحريم الواقعي ، ذهب كُلّ الى عنوان من هذه العناوين ، فليس إختلافهم إلاّ اختلافاً في التعبير لا في المذهب والغرض ( ويحتمل الفرق ) المعنوي ( بينها ) أي : بين هذه الأقوال جميعاً ( و ) يحتمل الفرق (بين بعضها) كالحرمة الظاهرية ، والواقعيّة ( من وجوه اُخر ) غير مجرد اختلاف العناوين التي ذكرناها وهي (تأتي بعد ذكر أدلة الاخباريين) إنشاء اللّه تعالى .

ص: 295

احتجّ للقول الأوّل بالأدلّة الأربعة :

فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسا إلاّ ما ءاتاها » .

قيل : دلالتها واضحة .

-------------------

مثلاً : القائل منهم بالحرمة الظاهرية يقول : ليس محرَّماً واقعاً ، بينما القائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّ الشارع جعله حراماً واقعاً كحرمة شرب الخمر ولحم الخنزير .

والقائل بالتوقف يقول : لا نعلم حكمه ولذا نتوقف عن الحكم ، بينما القائل بالاحتياط يقول : إنّ محل الشبهة يحكم فيه بالحائطة ، دون أن يكون حراماً ظاهراً ، أو واقعاً ، ولا انّه يتوقف فيه من جهة الجهل ، حاله حال أطراف المحل المخطور في الخارج ، كبئر ، أو حيوان ، أو ما أشبه ، حيث يحتاط بعدم الاقتراب منه حذراً من الوقوع في الخطر ، لا أنّه حرام بنفسه واقعاً ، أو ظاهراً ، أو محل توقف من جهة الجهل .

هذا ، وقد ( احتجّ ) الاصوليون ( للقول الأوّل ) وهو البرائة ( بالأدلة الأربعة ) :

الكتاب ، والسنَّة والاجماع ، والعقل .

( فمن الكتاب آيات ، منها : قوله تعالى : « لا يُكلِّفُ اللّه ُ نَفساً إلاّ ما ءاتاها »(1) )

أي: أعطاها ( قيل ) والقائل المحقق النراقي في كتابةِ مناهج الاُصول ( دلالتها ) أي: دلالة الآية على البرائة ( واضحة ) بتقريب انّه حيث لم يعطينا اللّه العلم بانّ

ص: 296


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

وفيه : أنّها غير ظاهرة ، فانّ حقيقة الايتاء الاعطاء .

فامّا أن يُرادَ بالموصول المالُ ، بقرينة قوله تعالى قبلَ ذلك : « مَن قُدِرَ

عَلَيهِ رِزقُه فَليُنفِق مِمّا ءاتاهُ اللّه » .

-------------------

هذا الشيء حرام فهو لا يريد الحرمة منا ولا يكلّفنا بالحرم .

( وفيه : انّها غير ظاهرة ) في الدلالة على البرائة وذلك كما قال : ( فانّ حقيقة الايتاء : الاعطاء ) أي : البذل ، وان البذل كما سيذكره المصنّف يرتبط بالمال أكثر ممّا يرتبط بالحكم ، وعلى كلّ : فانّ من الموصول وهو « ما » في قوله تعالى : « ما

ءاتاها »ثلاثة احتمالات :

أحدها ما ذكره المصنّف بقوله : ( فامّا أن يُرادَ بالموصول : « المال » بقرينة قَوله تعالى قبل ذلك : « وَمن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِقُ مِمّا ءاتاهُ اللّه ُ » ) ومعنى قَدَر عليهِ رزقه : ضُيّقَ عليه رزقه ، والآية في سورة الطلاق وهي تتحدث عن المطلّقة قال سبحانه : « اسكُنُوهُنَّ مِن حَيث سَكَنتم مِنْ وجدِكُم ، ولا تضارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيهِنَّ ، وإنْ كُنَّ اولاتِ حَملٍ فَأَنفِقُوا عَلَيهِنَّ حَتى يَضَعنَ حَملَهُنَّ ، فإنْ أرضَعنَ لكُم فآتُوهُنَّ اُجُورَهُنّ وأتَمِروا بَينكُم بِمعروفٍ ، وإنْ تَعاسَرتُم فَستُرضع له أخرى * لِيُنفِقَ ذُو سِعَةٍ مِن سعَتِهِ ، وَمَن قُدِر عَليهِ رِزقُهُ ، فَليُنفِقُ ممّا ءاتاهُ اللّه ُ ، لا يُكلِّفُ اللّه ُ نفساً إلاّ مَا ءاتاها ، سَيَجعَلُ اللّه ُ بَعدَ عُسر يُسراً » (1) .

بمعنى : إنّه إنْ كان الزوج ذا سعة في المال فليُنفِقُ حَسبَ المتعارف ، وإنْ كان مضيقاً عليه في رزقه فليُنفق بِقدرِ قُدرَتِه ، كالفُقراء يُنفقون بقَدر قُدرَتِهم ، بخلافِ الأغنياء الذّين يوسِعون في الانفاق ، حيث يتمكنون مِنْ ذلك .

ص: 297


1- - سورة الطلاق : الآيات 6 - 7 .

فالمعنى : إنّ اللّه سبحانه لا يكلّف العبدَ إلاّ دفعَ ما اُعطِيَ من المال .

وإمّا أن يراد نفسُ فعل الشيء أو تركه ، بقرينة إيقاع التكليف عليه .

-------------------

( فالمعنى ) على هذا الاحتمال في الموصول هو ( : إنّ اللّه سُبحانَه لا يكلِّفُ العَبدَ إلاّ دفع ما أُعطي من المال ) وإنّما أوّله المصنّف بالدفع ، لأنّ « ما » الموصولة لاتكون متعلقاً بالحدث ، فالمعنى : لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ دفع مال ، لا انّه : لا يكلّف اللّه نفساً إلا مالاً ، فانّ المال ليس متعلق التكليف ، وإنّما متعلق التكلّيف عمل الانسان ، المتعلق بالمال .

وعلى كلّ : فهذا المعنى لا ربطَ لهُ بالبرائة ، إذ الكلام في دفع مقدار المال ، لا في ان الانسان إذا شك في تكليف مجهول يكون بريئاً عنه .

الثاني من محتملات « ما » الموصولة : ما أشار اليه بقوله : ( وإمّا أنْ يُراد ) من الموصول ( نفس فِعل الشيء أو تركه ) وإنمّا يُراد منه نفس فعل الشيء أو تركه ( بقرينة إيقاع التكليف عليه ) أي : على الموصول فانّه سبحانه قال : « لايكلّف اللّه ُ نفساً إلاّ ما ءاتاها » (1) ومن المعلوم : انّ التكليف يتعلق بالحَدث ولا يتعلق بالعين .

وعلى هذا : يكون الايتاء بمعناه الكنائي وهو : الاقدار ، لا بمعنى الاعطاء ، فالمعنى حينئذ : لا يكلّف اللّه نفساً الاّ ما أقدرها عليه من فعل أو ترك ، فانّ اللّه تعالى لا يكلّف الانسانَ بالطيران الى السماء بدون وسيلة ، كما لا يقول له : لا تكن في الحيّن ، فان مثل هذا الفعل والترك غير مقدور للإنسان

ص: 298


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

فاعطاؤه كناية عن الاقدار عليه ، فيدلّ على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطبرسيّ رحمه اللّه . وهذا المعنى أظهر وأشمل ، لأنّ الانفاق من الميسور داخل في ما آتاه اللّه .

وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ تركَ ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور ، وإلاّ لم ينازع في وقوع

-------------------

( فاعطاؤه ) إذن : ( كناية عن الاقدار عليه ) فيكون معنى الآية : لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ فعلاً أو تركاً أقدرها اللّه تعالى على ذلك الفعل أو الترك .

وعليه : ( فيدل ) ما ذكر من الآية المباركة ( على نفي التكليف بغير المقدور ، كما ذكره الطّبرسيّ رحمه اللّه ) في تفسير مجَمع البَيان .

( وهذا المَعنى أظهرُ ) عند المصنّف لأنّه بمنزلة كبرى كلية رَتَبَ عليها الصُغرى التي ذكرتها الآية في باب الانفاق على الزوجة .

( وأشمل ، لأنّ ) المعنى الأوّل وهو : ( الانفاق من ) المال على الزوجة ( الميسور ) عند الزوج ( داخل في ) المعنى الثاني أي : ( ما آتاهُ اللّه ) .

وإنّما كان المعنى الثاني أظهر ، لأنّه على الأوّل : لابدّ من تقدير المصدر كما مَر ، وعلى الثاني لا حاجة إليه ومن المعلوم : إن ما لا يحتاج إلى تقدير أظهر ممّا يحتاج إليه .

( وكيف كان ) فانه سواء قلنا : المعنى الثاني أظهر وأشمل ، أم قلنا : احتمال الآية للمعنيين المذكورين على حدٍ سواء ( فمن المعلوم أنّ ) الآية المباركة لا تدلّ على نفي التكليف المحتمل حيث استدل بها النَراقي على البرائة ، لانّ ( ترك ما يحتملُ التحريم ليس غير مقدور ) حتى تنفي الآية التكليف به .

( وإلاّ ) بأنْ كان الاجتناب عن مشكوك الحرمة غير مقدور ( لم ينازع في وقوع

ص: 299

التكليف به أحدٌ من المسلمين وإن نازعت الأشاعرة في إمكانه .

نعم ، لو اُريد من الموصول نفسُ الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارةً عن الاعلام به ،

-------------------

التكليف به ) أي : بالاجتناب عن مشكوك الحرمة ( أحد من المسلمين ) لأنّ المسلمين متفقون على إنّ اللّه سبحانه وتعالى لايكلّف الانسان على غير المقدور ( وإن نازعت الاشاعرة في إمكانه ) أي : إمكان التكليف بغير المقدور ، فان الأشاعرة وان قالوا بذلك ، لكنّهم قالوا : إنّ التكليف بغير المقدور لم يقع من اللّه سبحانه وتعالى ، لوضوح : انّ الامكان شيء ، والوقوع شيء آخر .

أمّا أنّ الأشاعرة كيف ذهبوا إلى إمكان التكليف بغير المقدور فهو لأنهم لا يرون الحُسنَ والقُبح العقليّين ، واما عدم الامكان الذي يقول به الشيعة والمعتزلة فمستنده عدم إمكان تكليف الحكيم بما لا يمكن وقوعه في الخارج ، لأنه غير مقدور للمكلّف .

وثالث المعاني المحتملة في « ما » الموصولة : أنْ يُرادَ به الحكم والتكليف ، بمعنى إنّ اللّه لا يكلّف تكليفاً إلاّ إذا بيّن ذلك التكليف ، فتكون الآية حينئذٍ دليلاً على البرائة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

( نعم ، لو أُريد من الموصول ) في الآية المباركة ( : نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه ) أي : إيتاء ذلك الحكم والتكليف ( عبارة عن الاعلام به ) أي بذلك التكليف ، فيدل على نفي التكليف غير المعلوم ، ولعله بملاحظة هذا المعنى قال النَراقي : إنّ دلالة الآية على البرائة واضحّة .

وهنا معنى رابع في الآية ، لعله من حيث الاطلاق أقربُ إلى ظاهرها وهو : شمول الآية لكلّ ذلك فغير المقدور لا يكلف اللّه العبد به ، كما أن الحكم الذي

ص: 300

لكن إرادته بالخصوص ينافي مورد الآية ، وإرادةُ الأعمّ منه ومن المورد يستلزمُ إستعمال الموصول في معنيين ، إذ لا جامعَ بين تعلّق التكليف

-------------------

لم يبينه اللّه سبحانه وتعالى لا يكلّف العبد به ، فانّ إيتاء كل شيء بحسبه ، وهذا المعنى هو الذي يُشير اليه المصنّف أخيراً بقوله : « وإرادة الأعمّ منه ...» .

وعلى كل حال : فانّ المصنّف يعترض على المعنى الثالث ، ويقول : ( لكن إرادته بالخصوص ) أي حمل الموصول على التكليف فقط كما هو المعنى الثالث في كلام المصنفّ ( ينافي مورد الآية ) إذ مورد الآية إنفاق المال ، ومن المعلوم : إنّ الصغرى لا يمكن أن يكون إنفاق المال والكبرى الحكم والتكليف ، إذ هو حينئذٍ من قبيل أن يقال : إيّها الزوج أنت لا تكلف بانفاق المال الذي ليس في قدرتك ، لأنّه لا تكليف بالحكم الذي لم يبينه اللّه .

( و ) إنْ قلت : نستعمل الموصول في الأعمّ من التكليف ودفع المال .

قلت : ( إرادة الأعمّ منه ) أي : من التكليف ( ومن المورد ) الذي هو دفع المال ، بمعنى : حمل الموصول على التكليف وعلى دفع المال مَعاً ، ليكون معنى الآية : لا يكلِّفَ اللّه ُ نفساً إلاّ تكليفاً ، ودفع مالٍ ءاتاها ، فيكون المراد من اتيان التكليف : بيانه ، ومن إتيان المال : قدرة العبد عليه ( يستلزم إستعمال الموصول في معنيين ) وهو خلاف الظاهر ، إذ الظاهر من كلِّ لفظ معنى واحداً ، بل قال الآخوند : بإستحالة ذلك ، لكنّا نقّول بامكانه فإنْ كانت قرينة فَيها وَنعَمتْ ، وإلا كان الظاهر من كلّ لفظ معنى واحداً .

إنْ قلت : نأخذ بالجامع بين المعنيين .

قلتُ : لا يصح ذلك ( إذ لا جامع بين تعلّق التكليف ) وهو قوله سبحانه :

ص: 301

بنفس الحكم والفعل المحكوم عليه ، فافهم .

نعم ، في رواية عبد الأعلى عن أبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام :

-------------------

« لا يُكَلِّفُ اللّه نَفساً » (1) ( بنفس الحكم ) بأن يكون المراد ب- « ما » الموصولة : التكليف ( والفعل المحكوم عليه ) بأن يكون الموصول بمعنى دفع المال أيضاً فانّه لا جامع بين المعنيين .

وحاصل المعنى الرابع ، الذي أشار اليه المصنّف : إن الموصول يُستعمل في معنى واحد كليّ لكن ذلك المعنى الواحد الكليّ شامل للتكليف ولدفع المال معاً ، فيُراد بالاتيان تارةً : « القدرةَ » ، وأخرى : « بيان التكليف » ، فيكون المعنى حينئذ : لا يكلّف اللّه تكليفاً إلاّ بيّنه ، ولا يكلّف اللّه مالاً إلاّ إذا مكّن المكلَّف من ذلك المال ، ومن المعلوم : انّ هذين المعنيين لا يمكن جمعهما في عنوانٍ واحدٍ ، إذ الموصول بمعنى التكليف مفعول مُطلق ، وبمعنى دفع المال مفعول به ، ولا يكون الشيء الواحد قابلاً لأن يكون مفعولاً مطلقاً ومفعولاً به .

( فافهم ) لعله إشارة الى ما ذكرناه : من إمكان جمعهما في المعنى الواحد ، إذ الجامع عطاء اللّه سبحانه وتعالى وعطائه قد يكون : بيان التكليف ، وقد يكون : منح المال ، فاذا بيّن التكليف اراد التكليف من العبد ، وإذا أعطى المال أراد المال من العبد ، كما إذا لم يبين التكليف لم يرده من العبد ، واذا لم يعط المال لم يرده من العبد ، فتكون الآية دليلاً على البرائة .

(نعم) ربمّا يؤيد المعنى الثالث ما ورد (في رواية عَبدِ الأعلى عن أبي عَبدِ اللّه عليه السلام

ص: 302


1- - سورة الطلاق : الآية 7 .

« قال : قُلتُ له : هَل كُلِّفَ النّاسُ بالمَعرفَةِ ؟ قالَ : لا ، عَلَى اللّه البَيانُ ، « لا يُكلِّفُ اللّه نَفسا إلاّ وُسعَها » ، و « لا يُكَلِّفُ اللّه نَفسا إلاّ ما ءاتاها » .

لكنّه لا ينفع في المطلب ، لأنّ نفس المعرفة باللّه غير مقدور قبل تعريف اللّه سبحانه ، فلا يحتاج دخولها إلى إرادة

-------------------

قَالَ : قُلتُ لَهُ : هَل كُلّفَ الناس بالمعرفة ؟ قال : لا ، على اللّه البَيانُ « لايُكَلِّفُ اللّهَ نَفساً اِلاَّ وُسعَهَا » ) (1) و ( « لايُكَلِّفُ اللّه نَفساً اِلاَّ ما ءاتَاها » (2) ) (3) . والمصنِّف أخذ المعرفة بمعنى معرفة اللّه سبحانه وتعالى ، فاستدلّ على إرادة المعنى الثالث بهذه الرواية ، حيث انّها نفت التكليف بالمعرفة من دون بيان ، وقد استشهد فيها عليه السلام بالآيتين ، فيعلم انّ المراد من الآية هو : المعنى الثالث ، أي : لا يكلّفُ اللّه نفساً إلاّ تكليفاً بيّنَهُ لها ، فتكون الآية دالةً على البرائة من دون البيان .

( لكّنه ) أي : ما وَرَدَ فِي الرواية ( لا ينفع في المطلب ) فلا يكون دليلاً على المعنى الثالث الذي نفيناه نحن وهو : نفي التكليف من دون بيان ، بل ظاهر الآية على رأي المصنّف يناسب كون الآية بالمعنى الثاني ، أي : نفي التكليف بغير المقدور .

وإنمّا الرواية تُناسب المعنى الثاني ( لأنّ نفس المعرفة باللّه غير مقدور قبل تعريف اللّه سبحانه ) فانّ الانسان لا يعرف اللّه سبحانه وتعالى إلاّ بسبب الأنبياء والرُسل والأئمة عليهم السلام الذين هم من قبل اللّه تعالى ( فلا يحتاج دخولها ) أي : دخول المعرفة في الآية ( الى إرادة ) المعنى الثالث أي : إرادة التكليف

ص: 303


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة الطلاق : الآية 7 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص163 ح5 (بالمعنى) .

الاعلام من الايتاء في الآية .

وسيجيء زيادةُ توضيح لذلك في ذكر الدليل العقليّ إن شاء اللّه تعالى .

وممّا ذكرنا ،

-------------------

الذي يوصله اللّه سبحانه وتعالى الى عباده وذلك بارادة ( الاعلام من الايتاء في الآية ) .

وحاصل ما ذكره المصنّف ، هو : إن الامام عليه السلام نفى التكليف بمعرفة اللّه سبحانه وتعالى من دون بيان ، لأن المعرفة من دون البيان أمرٌ غير مقدور للإنسان ، واستَشهَد بالآيتين المباركتين لأنهما تنفيان التكليف بغير المقدور ، فالمعرفة بدون البيان أمرٌ غير مقدور .

لكن من المحتمل أن يراد بالمعرفة معرفة الامام عليه السلام ، فانّ معرفة الامام تَحتاج الى البيان بسبب نبي سابق أو إمام مُتقدِّم ، أو إعجاز ، فانّ الاعجاز بيانٌ عمليٌّ .

هذا ، ويَرِدُ على ما ذكره المصنّف : أنّ معرفة اللّه سبحانه وتعالى تَثبُتْ بالدليل العقليّ ، فالبيان يكون من المؤكدات ، لا إنّ المعرفة متوقفة على البيان - كما ذكره المصنّف - .

وكيف كان : فالرّواية تؤيد ما ذكرناه : من شمول الآية للعطائين : عطاء البيان وعطاء سائر الأشياء ، فانّ اللّه سبحانه وتعالى ما لم يعط شيئاً لا يكلف الانسان بذلك الشيء فالاستدلال بالآية على البرائة لا بأس به .

( وسيجيء زيادة توضيح لذلك ، في ذكر الدليل العقليّ إن شاء اللّه تعالى ) بتوفيقه وتأييده .

( وممّا ذكرنا ) : من استظهار كون الآية انمّا هي لنفي التكليف بغير المقدور ، وترك محتمل التحريم ليس بغير المقدور ، وانّ الآية ليست بصدد ذكر : ان عدم

ص: 304

يظهر حالُ التمسّك بقوله تعالى : « لا يُكلّفُ اللّه نَفسا إلاّ وسعَها » .

ومنها : قوله تعالى : « وما كنّا مُعَذِّبينَ حتّى نَبعَثَ رَسُولاً » .

بناءا على أنّ بعثَ الرسول كنايةٌ عن بيان التكليف ،

-------------------

البيان من اللّه ، يوجب عدم التكليف ( يظهر حال التمسّك بقوله تعالى : « لا يُكلِّفُ اللّه ُ نَفساً إلاّ وسعَهَا » (1) فانّ هذه الآية أيضاً كالآية السابقة دليلُ على نفي التكليف بغير المقدور ، لا نفي التكليف عمّا لم يبينه اللّه سبحانه .

أقول : لكنّك قد عَرِفتَ : إنّ الآية ظاهرة في الأعمّ ، فانّ غير المقدور لا سعةَ للمكلَّف عليه ، كما إنّ غير المبيّن لا سعَةَ للمكلَّف عليه أيضاً ، فتكون الآية دليلاً على نفي التكليف بغير المقدور ، كما تكون دليلاً على نفي التكليف بما لم يبيّنه سبحانه ، فتكون الآية دليلاً على البرائة .

( ومنها ) أي : من الآيات التي استدلّ بها على البرائة ( : قوله تعالى « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً » ) (2) . بتقريب : دلالة الآية على عدم العذاب بدون البيان وهو : معنى البَرائة ، وقد ذكر المصنّف لدلالة الآية المباركة على البرائة وجوهاً ثلاثة :

أولها ما ذكره بقوله : ( بناءاً على إنّ بعث الرّسول كناية عن ) مطلق ( بيان التكليف ) فبعث الرسول سبب من الأسباب لا انّه السبب المنحصر ، اذ عصيان الناس رسولهم سببٌ آخر لا ستحقاقهم العذاب ، فيكون معنى الآية المباركة : إنّ اللّه سبحانه وتعالى لا يُعذب حتى يُبيّن للناس بسبب الرسول تكاليفهم ، فاذا عصى الناس رسولَهُم إستحقوا بسبب عصيانهم العذاب فعذبهم .

ص: 305


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

لأنّه يكون به غالبا ، كما في قولك : « لا أبرحُ من هذا المكان حتّى يُؤذّنُ المؤَذّن » ، كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان النقليّ .

-------------------

وانّما جعل بعث الرسول كنايةً عن بيان التكليف ( لأنّه ) أي : لأن البيان ( يكون به ) أي : بالرسول ( غالباً ) .

أما الالقاء في القلب بحيث يعلم الانسان إنّه أمر اللّه سبحانه وتعالى ألهمه إياه ، كما في قصة أم موسى حيث يقول تعالى : « وأوحينا الى أم موسى ... » (1) أو ما أشبه ذلك فهو نادرٌ ، فالآية أريدَ بها السبب العام وانمّا ذكر السبب الخاص لغبة هذا السبب .

إذن : فهو ( كما في قولك لا أبرح من هذا المكان حتّى يؤذّنُ المُؤذّن ) فانّه لا يُراد به : أذان المؤذن بشخصه وانمّا هو ( كناية عن دخول الوقت ) سواء أذّن المؤذّن أم لم يؤذّن ، وانّما علّق على الأذان لغلبة وقوع الأذان عند دخول الوقت .

وهكذا لو قال : إني لا أفطر يوم الصيام حتى يظهر السواد ، يريد : دخول المغرب ، إذ ليس المعيار السواد بما هُوَ هُوَ ، فربمّا يُسودّ الافق بسبب سُحاب ، أو رِياح سوداء ، أو ما أشبه ذلك .

ثانيهما ما ذكرهُ بقوله : ( أو ) انّ بعث الرسول ( عبارة عن البيان النقلي ) أي : ما كنّا مُعذّبِينَ حَتى نُبيّن بياناً نقلياً ، فالبيان العقلي وإن كان حجّة لان العقل حجّة ، لكن لا يسبب مخالفته العقاب .

إنْ قلتَ : إن دلّ المستقل العقلي على الحرمة كان فيه أيضاً العقاب ، ولذا يصحُّ عقاب المولى عبدَهُ إذا وقعَ وَلدُ المَولى في البئر ولم ينقذهُ حتى مات ، أو إحترقت

ص: 306


1- - سورة القصص : الآية 7 .

ويُخصّص العمومُ بغير المستقلاّت أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب

-------------------

داره ولم يطفيء الحريق مع امكانه على الأمرين حتى وانْ لم يكن المولى أمره بالانقاذ والاطفاء ، وعذر العبد بأنّ المولى لم يأمره بذلك ، غير مفيد عند العقلاء في رفع العقاب عنهُ .

والحاصل : انه يلزم تحصيل غرض المولى ، سواء عَلِمَ العَبدُ غرضَهُ بالقول أو بالعقل .

قُلت : ( ويُخصص العموم ) في قوله تعالى : « وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتى نَبعَثَ رسولاً » (1) ( بغير المستقلات ) العقلية فيكون معنى الآية : انّ اللّه تعالى لا يعذب إلاّ بعد البيان النقلي من الرسول ، إلاّ في المستقلات العقليّة ، فانّه يعذب على مخالفتها أيضاً وإن لم يكن فيها بيان نقليّ من الرسول ، فيكون حاصل الآية : توقف العقاب على أحد أمرين : أمّا على بيان العقل المستقل ، أو بيان النقل من الرسول ، أما غير المستقلات العقليّة ، كالاجتناب عن التتن ، أو الالتزام بالدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - فالآية تدل على البرائة فيها : فيشملها عموم قوله تعالى : « وما كنا مُعَذِّبين » لان اللّه سبحانه وتعالى لم يبيّن - مثلاً - حكم التتن ولا حكم الدعاء وقت الهلال ، كما ان العقل - مستقلاً - لا يُلزم الاجتناب عن التتن ولا الالتزام بالدعاء عند الهلال ، لان الاجتناب عن التتن والالتزام بالدعاء ليس من المستقلات العقليّة .

وثالثهما : ما ذكره بقوله : ( أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب ،

ص: 307


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

إلاّ مع اللّطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذمّ ، بناءا على أنّ منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذمّ ،

-------------------

إلاّ مع اللطّف بتأييد العقل بالنقل ) فالعقل والنقل وإنْ كان كلّ واحد منهما حجّة مستقلة - كما دل على ذلك الأدلة العقليّة والنقليّة - ، إلاّ انّ من عادة اللّه سبحانه وتعالى أنْ لا يُعاقب إلاّ بعد تأييد العقل بالنقل ، فالبيان النقلي بمجرده كافٍ في فعلية العقاب ، أمّا البيان العقليّ فبمجرده غير كافٍ فيها .

بل إنّ مقتضى الرحمة هو : العفو عن المخالفات العقلية ، إلاّ بعد إرسال الرسول وتأييد العقل بالنقل ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : « وَإذا أرَدنَا أنْ نُّهلِكَ قَريَةً ، أَمَرنَا مُترَفيهَا فَفَسَقُوا فيهَا ، فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدميراً » (1) .

بمعنى : إنّهم يخالفون الأوامر العقلية ، لكنّ اللّه لا يعذبهم بمجرد ذلك ، بل يبعث إليهم الرسل ويأمرهم بالأوامر ، فاذا خالفوا الأوامر عذبهم ، فيكون فَرق بين الموالي العرفية والمولى الحقيقي ، الموالي العرفية يعاقبون بمخالفة الغرض الذي دلّ عليه العقل ، أمّا المولى الحقيقي فلا يعاقب إلاّ بمخالفة البيان .

وعلى أي حال : فالعقاب من المولى الحقيقي غير موجود على مخالفة الاوامر العقلية ( وإن حسن الذّم ) عليها فالبيان العقلي بمجرده يكفي في فعلية الذم لا في العقاب وذلك ( بناءاً على إنّ منع اللطف ) وعدم تأكيد العقل بالنقل ( يوجب قبح العقاب دونَ ) فعلية ( الذّم ) .

وعليه : فالعقاب غير موجود وانْ كان الذّم موجوداً ، مثل نية السوء حيث

ص: 308


1- - سورة الاسراء : الآية 16 .

كما صرّح به البعض ، وعلى أي تقدير فيدلّ على نفيِ العقابَ قبل البَيان .

وفيه : أنّ ظاهره الاخبارُ بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيويّ الواقع في الاُمم السابقة .

-------------------

لا عِقابَ عليها وإن كان ناوي السوء مستحقاً له ( كما صرّح بهِ البَعض ) .

ولعلّ هذا المعنى الثالث هو الظاهر من الآية المؤيد بسائر الآيات والرّوايات .

( وعلى أي تقدير ) من التقادير الثلاثة التي ذكرناها في تفسير الآية المباركة ( ف- ) انّه ( يدلّ ) قوله تعالى : « وَما كُنّا مُعَذِّبينَ » (1) ( على نفي العقابَ قبلَ البَيان ) فيكون دليلاً على البرائة .

ثم إنّ المصنّف أشكل على دلالة الآية على البرائة بقوله : ( وفيه : انّ ظاهره الاخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ) أي : انّ الاُمم السابقة الذين عذبناهم في الحياة الدنيا بالغرق ، ورَمي الحِجارة ، وما أشبه ، إنّما عذبناهم بَعدَ البيان ( فيختص ) قوله تعالى في الآية المباركة ( بالعذاب الدّنيوي الواقع في الاُمم السابقة ) .

وعليه : فلا ربط للآية بنفي العقاب عن التكليف المحتمل ، الذي لم يبيّنه سبحانه فلا تكون الآية دليلاً على البرائة .

لكن ما ذكره المصنّف خلاف ظاهر الآية المباركة ، فانّ ظاهرها : انّ عدم التعذيب بدون البيان من عادة اللّه سبحانه وتعالى ، فانّه لا يعذب عبداً إلا بَعدَ البيان ، فلا فرق بين الاُمم السابقة واللاحقة ، كما لا فرق بين عذاب الدنيا ، كالحدود ، والتعزيرات ، ونحوها ، وعذاب الآخرة .

ص: 309


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ثمّ إنّه ربما يوردُ التناقضُ على مَنْ جمع بين التمسّك بالآية في المقام وبين ردّ من استدلّ بها ، لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمُّ من نفي الاستحقاق ،

-------------------

( ثمّ إنّه ربمّا يُورد التناقض ) والمُورِدْ هُو المحقّق القميّ رحمه اللّه ( على مَنْ ) والمراد منه هو الفاضل التوني الذي ( جمع بين التمسك بالآية في المقام ) حيث تمسك بالآية دليلاً على البرائة ( وبين ردّ من استدل بها ) أي : بالآية المباركة من الأشاعرة حيث انّهم استدلوا بالآية المباركة ( لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ) .

وكان رد الفاضل التوني على الأشاعرة : ( بأنّ نفي فعليّة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق ) فالآية تدلّ على عدم فعلية التعذيب ، لا إنّها تدل على نفي الاستحقاق .

توضيح المقام إنّ المشهور هو التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، ولهذا اشتهر بينهم : « كلَّما حَكَمَ بهِ العَقل حَكَمَ بهِ الشَرع » ، لأنّ الشارع سيد العقلاء .

كما اشتهر بينهم أيضاً : « كُلّما حَكَمَ بهِ الشرع حَكَمَ بهِ العَقل » لأنّ العقل يعلم إنّ الشارع لا يقول إلاّ عن واقعية وحقيقة ، بحيث لو أدرك العقل الواقعيات والحقائق لحكم بها أيضاً .

ولا يراد : إنّ صلاة الصبح - مثلاً - جهراً لا اخفاتاً ممّا يحكم به العقل إبتداءاً ،بل يُراد : انه لو أدرك العقل حقيقة ذلك وسائر الواقعيات ، لحكم بها كما حكم بها الشارع ، فالانسان بالنسبة للواقعيات كالأعمى والشارع بصير ، فاذا قال الشارع - مثلاً - : إنّ هناك أسدٌ رابضٌ يتربص لافتراسِكَ ، حكمَ العقلُ أيضاً بصِحة ما قاله الشارع ، لأنّه يعلم انّه لو أبصر وَرأى لكانَ يشاهد الأسد كما يُشاهدهُ الشارع .

ص: 310

...

-------------------

والأشاعرة أنكروا هذا التلازم وقالوا : بأنّ الآية تدلّ على عدم التلازم ، لانّ الآية تقول : إنّ العقاب مبنيٌّ على بعث الرسول ، فلو خالف الانسان العقل ولم يأت رسول ، لا يعذب اللّه ُ المخالفَ بحكم عقله ، فلو كان تلازم بين العقل والشرع كان اللازم العقاب بحكم الشرع أيضاً لأنّ العقل يرى العقاب فيمن يخالف عقله فاللازم أن يكون الشرع أيضاً يرى العقاب في ذلك ، بينما يقول اللّه سبحانه وتعالى : انّ العقاب منحصر بالشرع وبَعدَ بعث الرسول .

ثم انّ الفاضل التُوني والوَحيد البَهبَهاني رحمهما اللّه ، قالا : إنّ الآيةَ تدلُ على البرائة ولا تدلُ على كلام الأشاعرة أي : لا تدل على نفي التلازم .

اما إنّ الآية تدل على البرائة ، فَلِمَا تقدّم .

واما انها لا تدلّ على عدم التلازم ، فلأن الآية تنفي فعلية العقاب ، لا إنّها تنفي استحقاق العقاب ، والتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع انمّا هو في الشأنية والاستحقاق ، فمِنَ الممكن أن يكون الشارع أيضاً يرى للمخالف استحقاق العقاب كالعقل ، لكن برأفته ولطفه لا يعاقبه إلا بعد البيان .

فتحصل من ذلك : إنّ الفاضل التُوني والمحقّق البهبهاني قالا : بأنّ الآية تدلّ على البرائة ، وقالا : انّ استدلال الأشاعرة بها على نفي الملازمة فاسدٌ .

لكن المحقّق القميّ أشكل عليهما وقال : بأنّ ذلك يُوجب التناقض ، وذلك لأنّا نسأل : هل الآية الدالة على نفيالعذاب الفعلي تدل على عدم التكليف الشرعي أو لا تدل ؟ فان قلتم : تدل ، قلنا : فالآية تدل على عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، لأن العقل دلّ على العقاب والشرع دلّ على عدمه .

وإن قلتم : إن الآية تدلّ على نفي فعلية العذاب ، ولا تدلّ على عدم التكليف

ص: 311

فانّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني ، وإن لم يدلّ فلا وجه للأوّل .

ويمكن دفعُه : بأنّ عدمَ الفعليّة يكفي في هذا المقام ، لأنّ الخصمَ

-------------------

الشرعي قلنا : فالآية لا تدل على البرائة ونفي التكليف الشرعي .

وعلى هذا : فلا يمكن للفاضل التوني ، ولا للمحقق البهبهاني أن يقولا بفساد كلام الأشاعرة وبدلالة الآية على البرائة ، فانّ ذلك يستلزم التناقض كما قال : ( فانّ الإخبار بنفي التعذيب إن دلّ على عدم التكليف شرعاً فلا وجه للثاني ) أي الملازمة بين الحكم الشرعي والعقلي .

( وان لم يدل ) الاخبار في الآية على نفي التكليف والاستحقاق ، بل على مجرد نفي الفعلية للعذاب مع السكوت عن الاستحقاق وعدمه عند وجود البيان العقلي ( فلا وَجهَ للأوّل ) أي للاستدلال بالآية على البرائة .

( ويُمكن دفعه ) أي : دفع التناقض الذي أورده المحقّق القميّ على الفاضل التُوني والوَحيد البهبهاني ، بما ذكرهُ الفصول ممّا حاصله : انّ الأخباري يقول : بفعلية العقاب ، والآية تقول : بعدم الفعلية ، فتدل الآية على البرائة ، وهذا لا ينافي ترتب العقاب عليه مع ان اللّه يَعفوُ عنه ، فالملازمة موجودة بين حكم العقل وحكم الشرع ومع ذلك نقول بالبرائة .

والحاصل : إنّ العقل يدّل على العقاب ، والشرع يدّل عليه أيضاً للملازمة ، ولكنْ مع ذلك نجري البرائة لأنّه ثبت إنّ اللّه سبحانه وتعالى يَعفُو عن مثل هذا الذَنب فلا يُعاقِبَ عليه .

وذلك ( ب- ) سبب ( أنّ عَدم الفعليّة يكفي في هذا المَقام ) أي : مَقام البرائة ، فكلّما لم يكنْ العقاب فعلياً كان المحكم : البرائة ( لأنّ الخصمَ ) وهو الأخباري

ص: 312

يدّعي أنّ في إرتكاب الشبهة الوقوعَ في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم ، كما هو مقتضى رواية خبر التثليث ونحوها التي هي عمدة أدلّتهم ،

-------------------

( يدّعي انّ في ارتكاب الشبهة ، الوقوع في العقاب والهلاك فعلاً ) أي : يدّعي الفعلية للوقوع في العقاب ( من حيث لايعلم ) فانّ مرتكب الشبهة وهو لايعلم بارتكابه الحرام يقع في العقاب .

( كما هو مقتضى رواية خبر التثليث ) حيث قال عليه السلام : « حَلالٌ بَيّنٌ ، وَحَرامٌ بَيّنٌ ، وَشُبَهاتٌ بَينَ ذلِكَ ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبهات نَجا مِنَ المُحرَماتْ ، وَمَن أخَذَ بالشُبهات وَقَع فِي المُحرَماتْ ، وَهَلَكَ مِنْ حَيثُ لا يَعلَم » (1) .

أقول : وإنّما كان الهلاك من حيث لايعلم ، لأنّه لايعلم بالحرام قطعاً ، إذ المفروض إنّه شبهة وهو جاهل بالحرمة ، ولذا إذا وقع في الحرام وقع في العقاب وهو لايعلم انّه قد ارتكب الحرام .

ولا يخفى : انّ تسمية المصنّف الأخباري بالخصم ليس إسائة ، لأنّ المناقشة في شيء ، يُطلق عليها المخاصمة ، فإنّ المخاصمة بمعنى المباحثة والمناقشة ، ولذا نسبها اللّه سبحانه وتعالى الى الملائكة حيث قال : « َمَا كانَ لِيَ مِنْ عِلمٍ بالمَلإ الأَعلى إذ يَختَصِمُون » (2) .

( ونحوها ) أي : نحو رواية التثليث ( التي هي عمدة أدلتهم ) فانّ عمدة أدلة الأخباريين القائلين بالحرمة في الشبهات الحكميّة التحريميّة ، هي هذه الروايات .

ص: 313


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، غوالي اللئالي : ج4 ص133 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - سورة ص : الآية 69 .

ويعترفُ بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعليّة ، بخلاف مقام التكلّم في الملازمة ، فإنّ المقصودَ فيهِ إثباتُ الحكم الشرعيّ في مورد حكم العقل ، وعدم ترتّب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته ،

-------------------

هذا ( ويعترف ) الأخباري مع ذلك ( : بعدم المقتضي للاستحقاق ، على تقدير عدم الفعليّة ) للعقاب ، فانّ الأخباري كالاُصولي معترف : بأنّه لو انتفت فعليّة العقاب في الشبهات التحريميّة ، انتفى الاستحقاق أيضاً ، إلاّ انّ الاصولي يدّعي انتفاء الفعلية بمقتضى الآية المباركة وسائر الأدلة ، والأخباري يدّعي ثبوت الفعليّة بمقتضى الأدلة التي ذكرها .

وعلى هذا : ( فيكفي في ) البرائة التي يقول بها الاصوليون ، و ( عدم الاستحقاق ) للعقاب ( نفي الفعليّة ) للعقاب المستفاد ذلك النفي من الآية المباركة .

( بخلاف مقام التكّلم في ) الحُسن والقُبح العقليين ، وان العقاب لمن أرشده عقله الى القبيح هل هو قبيح أو ليس بقبيح ؟ و ( الملازمة ) بين حكم العقل وحكم الشرع الذي هو مورد البحث مع الأشعري في هذا المقام ( فانّ المقصودَ فيهِ : إثباتَ الحكم الشّرعي في مورد حكم العقل ) أي انّ المقصود هنا : إثباتُ الملازمة بين الشرع والعقل ممّا ينكره الاشاعرة ويثبته العدلية .

ومن المعلوم : انّ الآية لا تدلّ على عدم الملازمة ، لأن الآية لاتدل على انّ الاستحقاق موقوف على بيان الشرع ولايكفي فيه حكم العقل ، وانّما الآية تدلّ على انّ فعليّة العقاب موقوفة على بيان الشرع ( وعدم ترتّب العقاب ) الفعلي ( على مخالفته ) أي : مخالفة العقل ( لاينافي ثبوته ) أي : ثبوت الحكم الشرعي ،

ص: 314

كما في الظِهار ، حيث قيل إنّه محرّمٌ معفوٌّ عنه .

وكما في العزم على المعصية على احتمال .

-------------------

لوضوح : انّه لامنافات بين الاستحقاق وعدم الفعليّة ، فربما يستحق الانسان العقاب ، لكن لاتقع الفعلية .

نعم ، كلّما كان هناك فعلية كان استحقاق أيضاً ، لعدم معقوليّة ان يعاقب اللّه سبحانه وتعالى إنساناً لايستحق العقاب .

( كما في الظِهار حيث قيل : انّه محرمٌ معفوٌّ عنه ) .

أما كونه محرماً : فلقوله سبحانه وتعالى : « وإنّهُم لَيَقُولُونَ مُنكرَا مِنَ القَولِ وَزُورا » (1) ، ومن الواضح : إنّ القولَ المنكر والزُور حرامٌ .

وامّا أنّه معفو عنه فلأن اللّه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك : « وإنّ اللّه َ لَعَفُوٌ غَفُور ».

فان قلت : فما فائدة كونه حراماً مع إنّه عقاب عليه ؟ .

قلت : أكثر المتديّنين يأنفون عن أن يأتوا بشيء يسبّب غضبَ اللّه ِ سُبحانه وتعالى ويحقّق عدم رضاه حتى وإن علموا أنّه لا عقاب عليه ، ففائدة كونه حراماً : انّ أكثر المتدينيين لا يرتكبونه ، بينما إذا لم يكن حراماً كانوا يرتكبونه .

( وكما في العزم على المعصية على احتمال ) فانّ مَنْ عزمَ على المعصية ولم يأتِ بها فيه احتمالات :

الأوّل : انّه حرامٌ معفوٌ عنه .

الثاني : انّه حرامٌ ومعاقبٌ عليه .

الثالث : انّه ليس بحرام ولايستحق العقاب عليه .

ص: 315


1- - سورة المجادلة : الآية 2 .

نعم ، لو فُرِضَ هناك أيضا إجماعٌ على أنّه لو إنتفت الفعليّة إنتفى الاستحقاق ، كما يظهر من بعض ما فرعّوا على تلك المسألة جاز التمسّكُ به هناك .

-------------------

ثم إنّا حيث قلنا : انّ الآية لا تدّل على ما إدّعاه الاشاعرة : من عدم الملازمة بين الفعلية وبين عدم الاستحقاق - وإنّما قلنا لاتدّل : إذ من الممكن الملازمة بين الفعلية وبين العقاب لكن اللّه سبحانه لايعاقب من باب العفو ، كالظهار ونحوه - استثنى المصنّف مورداً من ذلك بقوله :

( نعم ) فانّه ( لو فرض هناك ) في مقام التكلم في الملازمة ( أيضاً إجماع ) من علماء الكلام ، كما كان إجماع من الاُصوليين والأخباريين على التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ، أي ( على انّه لو انتفت الفعليّة إنتفى الاستحقاق ، كما يظهر من بعض مافرّعوا على تلك المسألة ) أي : مسألة حجيّة العقل ( جاز ) لمنكر الملازمة ( التمسك به ) أي : بقوله تعالى : « وما كُنّا مُعذبينَ ... »(1) ( هناك ) في مسألة عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع .

وامّا ما فرعوا على تلك المسألة فهو : حصول الثواب والعقاب ، وبقاء العدالة وزوالها - مثلاً- على موافقة حكم العقل ومخالفته ، فاذا وافق الانسان عقله أثيب وإذا خالف عوقب ، كما تقدّم في مثال العبد الذي يرى سقوط ولد المولى في البئر فانقذه فانّه مثاب ، أو لم ينقذه فانّه معاقب ، وكذا إذا وافق عقله بقي على عدالته ، وإذا خالف زالت عدالته - مثلاً- وما أشبه ذلك .

فانّ ظاهر هذه الثمرات هو : إنّ نزاعهم في ملازمة حكم العقل والشرع

ص: 316


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .

والانصاف : أنّ الآية لا دلالةَ فيها على المطلب في المقامين .

ومنها : قوله تعالى : « وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوما بَعدَ إذ هَداهُم حَتَّى يُبيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ » ،

-------------------

في مرحلة الفعلية ، بحيث لو إنتفت الملازمة في هذه المرحلة انتفت في مرحلة الاستحقاق أيضاً ، يعني : إنّه إذا لم تكن ملازمة في مرحلة الفعليّة ، لم تكن ملازمة في مرحلة الاستحقاق .

( والانصاف ) عند المؤلف ( : انّ الآية لا دلالة فيها على المطلب في المقامين ) أي : لا دلالة فيها على البرائة كما لا دلالة فيها على نفي الملازمة ، وذلك لما تقدّم : من انّ الآية إخبارٌ عن العذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة ، فلا ربط لها بالبرائة عن التكليف المحتمل ، كما لا ربط لها بنفي الملازمة .

لكن الظاهر عندنا : إنّ الآية تدل على البرائة - كما عرفت - وانّها تدل ايضاً على نفي العقاب بدون بعث الرسول لطفاً ، ومع ذلك لاينافي ان تكون هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فانّه حيث يحكم العقل يحكم الشرع فيلزم منه العقاب بمخالفة حكم العقل أوّلاً وبالذات ، لكنّ اللّه تعالى أسقط العقاب من جهة اللّطف ثانياً وبالعرض .

(ومنها) أي : من الآيات التي تدّل على البرائة ( قوله تعالى: « وَما كَانَ اللّه ُ لِيُضِلَّ قَوماً بَعدَ إذ هَداهُم حَتّى يُبَيّنَ لَهُمُ مَا يَتَّقُونَ ... » ) (1) ولايخفى : انّ معنى إضلال اللّه سبحانه وتعالى هو : انّه يترك الناس وشأنهم حتى يضلوا ، فهو من قبيل أفسد الوالد ولده فيما إذا تركه وشأنه حتى فسد ، أو أفسدت الحكومة شعبها فيما إذا

ص: 317


1- - سورة التوبة : الآية 115 .

أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتّروك .

وظاهرُها أنّه تعالى لا يخذلهُم بعد هدايتهم إلى الاسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم .

-------------------

تركتهم وشأنهم حتى فسدوا .

وعليه : فيكون معنى الآية المباركة : انّه سبحانه إذا هدى الناس الى الاسلام بيّنَ ما عليهم من الأحكام الشرعية من الواجبات والمحرّمات ، فاذا تركوها وعصوها تركهم اللّه تعالى وشأنهم ، وترك اللّه لهم هو معنى إضلالهم ، فهذه الآية مثل قوله سبحانه : « نَسُوا اللّه َ ، فأنساهُم أنفسهم » (1) .

إذن : فمعنى : يبيّن لهم مايتقون ( أي : ما يجتنبونه من الأفعال والتّروك ) وقد قالوا في وجه نزول هذه الآية : انّه مات قومٌ من المسلمين قبل نزول الفرائض ، فقيل : يا رسول اللّه ما منزلة هؤلاء ؟ فنزلت الآية .

وأما وجه دلالة الآية على البرائة فهو : انّه سبحانه يهدي الناس ويبيّن لهم أحكامهم ، فاذا لم يبيّن لهم حكماً من الاحكام بعد أن هداهم كان عدم بيانه ذلك دليلاً على عدم الحكم ، فاذا رأينا عدم البيان في مورد : كشرب التتن ، كان دليلاً على عدم الحكم فلا حرمة لشرب التتن ، كما انّه لاوجوب لدعاء رؤية الهلال لأنّه لم يبيّن وجوبه .

( وظاهرها ) أي : ظاهر الآية ( : انّه تعالى لايخذلهم ) ولا يتركهم وشأنهم ( بعد هدايتهم إلى الاسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم ) الوظائف الشرعية من الواجبات والمحرمات .

ص: 318


1- - سورة الحشر : الآية 19 .

وعن الكافي وتفسير العياشيّ وكتاب التوحيد : « حتّى يُعرّفهم ما يُرضيه وما يُسخطُه » .

وفيه : ما تقدّم في الآية السابقة ، مع أنّ دلالتها أضعفُ من حيث انّ توقّف الخذلان على البيان غيرُ ظاهر الاستلزام للمطلب ،

-------------------

( و ) يؤيد هذا المعنى ما ( عن الكافي ، وتفسير العيّاشي ، وكتاب التوحيد ) في تفسير الآية المباركة : ( حتى يعرّفهم ما يُرضيه وما يُسخِطُه ) (1) فتكون للآية دلالة على البرائة في كل مقام لم يبيّن اللّه سبحانه وتعالى الأحكام .

( وفيه : ما تقدّم في الآية السّابقة ) : من انّها إخبار عن العقاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة بعد اتمام الحجّة عليهم .

أقول : لكنّك قد عرفت : ظهور الآية هذه كالآية السابقة في البرائة ، واختصاصها بالعقاب الدنيوي - كما ذكره المصنّف - خلاف ظاهر الآية .

( مع انّ دلالتها ) أي : دلالة هذه الآية ( أضعف ) من الآية السابقة ( من حيث انّ توقّف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب ) والمطلب هو إنتفاء العقاب عند إنتفاء البيان .

والحاصل : إنّ الآية تدلّ على إنتفاء الخذلان عند إنتفاء البيان ، ولا تدل على عدم العقاب الاخروي عند انتفاء البيان الذي هو مهمة القائل بالبرائة ، فانّ القائل بالبرائة يقول : حيث لا بيان لا عقاب اخروي ، فشرب التتن حيث لم يبيّن اللّه حرمته لاعقاب فيه ، وعدم الدعاء عند رؤية الهلال حيث لم يبيّن اللّه وجوبه

ص: 319


1- - الكافي اصول : ج1 ص163 ح3 ، التوحيد : ص411 و ص414 ، تفسير العياشي : ج2 ص115 ح150 ، المحاسن : ص276 ح389 .

اللّهمّ إلاّ بالفحوى .

ومنها : قوله تعالى: «لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيّنَة وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيّنَة» .

وفي دلالتها تأمّل ظاهر .

-------------------

لا عقاب في الآخرة على تركه .

( اللّهم إلاّ بالفحوى ) بأن يقال : إذا توقف الخذلان وسلب التوفيق على البيان - حسب الآية الكريمة - فالعقاب الاُخروي على التكليف أيضاً يتوقف على البيان بطريق أولى ، لأن عقاب الدّنيا الذي هو أخف إذا توقف على البيان ، فعقاب الآخرة الذي هو أشد يتوقف على البيان قطعاً .

وعليه : فسواء قلنا بالفحوى أو لم نقل به ، فدلالة الآية على مهمة القائل بالبرائة وافيةٌ .

( ومنها ) أي : من الآيات التي إستدلّ بها على البرائة ( : قوله تعالى : « لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ، وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيّنَة » (1) ) وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : انّ الحياة المعنوية في الدنيا والآخرة يمنحها اللّه سبحانه وتعالى بعد البيان ، والموت المعنوي والهلاك في الدنيا والآخرة إنّما يكون بعد البيان ، فلا هلاك في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد البيان ، وحيث لم يبيّن اللّه سبحانه وتعالى حرمة التتن - مثلاً - أو وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فلا يعاقب بالهلاك في الدنيا ولا في الآخرة من شرب التتن ، أو ترك الدعاء عند رؤية الهلال .

وعلى ما ذكرنا : فدلالة الآية على البرائة ظاهرة ، لكن المصنّف قال : ( وفي دلالتها : تأمّل ظاهر ) .

ص: 320


1- - سورة الانفال : الآية 42 .

ويرد على الكلّ انّ غايةَ مدلولها عدمُ المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده واقعا ،

-------------------

قال في الأوثق : « ولعلّ وجه تأمل المصنّف في دلالتها هو : كون المراد بالبينة هي : المعجزات الباهرة للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فالمقصود من الآية : بيان علّة ما وقع منه تعالى من نصرة المسلمين ، لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها ، كما يشهد به ماقبلها من قوله سبحانه :

« إِذ أنتم بالعدوَة الدنيا وَهُم بالعَدوَةِ القُصوى والرّكبُ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلَو تَواعَدتُم لاختَلَفتُم فِي المِيعادِ ، وَلكن لِيَقضي اللّه ُ أَمراً كَانَ مَفعُولاً ، لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَينَةٍ ...» (1) »(2) .

أقول : لكن وجه النزول مورد ، والمورد لايخصّص ، بل من عادة القرآن الحكيم كثيراً كما شاهدنا : انّه يذكر علّة عامة لشيء خاص ، فدلالة الآية على البرائة ظاهرة .

ثم انّ المصنّف بعد إيراده على دلالة الآيات المذكورات ، أشكل على جميعها باشكال واحد جامع للكل حيث قال : ( ويرد على الكلّ : ) انّها لاتقاوم أدلة الاحتياط حتى على فرض دلالتها .

وانّما لاتقاوم أدلة الاحتياط لأن هذه الآيات على فرض دلالتها تدل على انّه لا عقاب إذ لا بيان ، والحال انّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجود البيان كما قال ( إنّ غاية مدلولها ) أي : مدلول الآيات المذكورات ، هو ( : عدم المؤاخذة على مخالفة النّهي المجهول عند المكلّف لو فرض وجوده ) أي : وجود النهي ( واقعاً ) .

ص: 321


1- - سورة الانفال : الآية 42 .
2- - أوثق الوسائل : ص258 أصالة البرائة .

فلا يُنافي ورودَ الدليل العامّ على وجوب إجتناب ما يحتمل التحريم .

ومعلومٌ انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلاّ عن دليل علميّ .

وهذه الآياتُ بَعدَ تسليمُ دلالتَها غيرُ معارضة لذلك الدليل ، بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه ، كما لا يخفى .

-------------------

إذن : فالآيات المباركة تدل على إنتفاء المؤاخذة على التكليف الوجوبي أو التحريمي من دون بيان ( فلا يُنافي ورود ) البيان من الشارع بسبب أدلة الاحتياط بمعنى : وجود ( الدليل العامّ على وجوب اجتناب ما يحتمل التّحريم ) من أدلة الاحتياط .

( ومعلوم : انّ القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب ) وهو الاخباري ( لايقول به ) أي : بوجوب الاجتناب ( إلاّ عن دليل علمي ) إن لم يكن علماً ، والدليل العلمي هو : أخبار الاحتياط ( وهذه الآيات بَعدَ تسليم دلالتَها غير معارضة لذلك الدليل ) الدال على الاحتياط .

( بل هي ) أي : هذه الآيات ( من قبيل الأصل بالنسبة اليه ) أي : الى الدليل ، وكما إنّ الأصل يرتفع بالدليل كذلك هذه الآيات لا موضوع لها بعد ورود أدلة الاحتياط ، فانّ موضوع الآيات الدالة على البرائة هو عدم البيان ، وأخبار الاحتياط تدلّ على وجود البيان ، فلا موضوع للآيات بعد أَخبار الاحتياط ( كما لايخفى ) .

لكنْ يَرِدُ على ذلك ما يلي :

أوّلاً : النقض بالشبهات الموضوعية والشبهات الوجوبية ، مع انّ الأخباريين لايقولون بوجوب الاحتياط فيهما .

ثانياً : الحَل بأنّ أخبار الاحتياط ظاهرةٌ في الاستحباب ، مثل قوله عليه السلام : « أَخُوكَ

ص: 322

ومنها : قوله تعالى ، مخاطبا لنبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مُلقِّنا إيّاهُ طريقَ الرَدّ على اليهود ، حيث حَرّموا بعضَ ما رزقهم اللّه تعالى إفتراءا عليه : « قُل لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّما عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلاّ أن يَكُونَ مَيتةً أو دَما مَسفُوحا ».

-------------------

دِينُكَ فَاحتَط لِدينكَ بِما شِئتَ » (1) وغيره ممّا هو ظاهر في ندبية الاحتياط لا وجوبه ، وبقرينة سياق سائر أَخبار الاحتياط لهذه الأخبار ، تحمل سائر أَخبار الاحتياط على الاستحباب أيضاً ، فلا دليل وارد على الآيات حتى يقال : انّ الاحتياط بيان .

وبهذا البيان يرفع اليد عن ظاهر الروايات الدالة على الاحتياط ، الى غير ذلك ممّا ذكرناه في مباحث الاصول .

( ومنها ) أي : من الآيات الدالة على البرائة ( قوله تعالى مخاطباً لنبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم مُلقِّناً إيّاه ) ومعلّماً له صلى اللّه عليه و آله وسلم ( طريق الرّد على اليهود حيث حرّموا بعض مارزقهم اللّه تعالى ) ، فانّ اليهود قالوا : انّ بعض الطيبات محرمة عليهم ، وكان هذا التحريم من اليهود ( إفتراءاً عليه ) تعالى ، فانّه تعالى علَّمَ الرسول كيف يَردُ على اليهود بقوله :

( « قل ) يامحمّد لليهود وغير اليهود ( : لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ ، إلاّ أنْ يَكُون مِيتَةً ، أو دَماً مَسفُوحاً . . . » (2) ) الى آخر الآية ، وحيث إنّ الآية ، المباركة في مقام ردّ اليهود ، لا في مقام حصر المحرّمات في المذكورات حصراً

ص: 323


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
2- - سورة الأنعام : الآية 145 .

فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرّمات التي أوحى اللّه إليه . وعدمُ وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ذلك فيما اُوحِيَ إليه وإن كان دليلاً قطعيّا على عدم الوجود إلاّ أنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة .

-------------------

حقيقياً ، فلا يقال : إنّ هذه الآية تدلّ على عدم تحريم مالم يذكر في القرآن الحكيم ، فانّ الحصر الاضافي إنّما يكون بالنسبة لا بالاطلاق ، كما قرّر ذلك في علم العربية والبلاغة .

وكيف كان : ( ف- ) انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بتعليم اللّه سبحانه وتعالى ( أبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرّموه في جملة المحرمات الّتي أوحى اللّه اليه ) فدلّت هذه الآية المباركة على عدم وجوب الاجتناب عمّا لم يوجد على حرمته دليل ، وحيث لم يدلّ على حرمة التتن ، أو حرمة ترك الدعاء عند رؤية الهلال دليل ، فالتتن ليس بحرام ، وكذلك ترك الدعاء ليس بحرام .

( و ) إنْ قُلت : فرق بين عدم وجداننا ، لأن عدم وجداننا ناشيء عن الجهل بالواقعيات ، وبين عدم وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لأنّ عدم وجدانه ناشيء عن العلم بالواقعيات ، فاذا لم يكن مالم يجده الرسول حراماً ، لايكون ذلك دليلاً على عدم حرمة مالم نجده نحن حراماً .

قلت : ( عدم وجدانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ذلك فيما أوحِيَ إليه وإنْ كان دليلاً قطعيّاً على عدم الوجود ، إلاّ إنّ في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة ) فانّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إني « لا أَجدُ » فليس بحرام ، ولم يقل : انّه ليس في الواقع فليس بحرام .

إذن : فقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم دليل على إنّ كل عدم وجدان بعد الفحص ، يوجب

ص: 324

لكنّ الانصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان إشارة الى المطلب .

وأمّا الدلالة فلا ، ولذا قال في الوافية : « وفي الآية إشعارٌ بأنّ اباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع » .

مع أنّه لو سلّم دلالتها ،

-------------------

عدم التكليف بالحرمة ، فانّ في العدول عن التعبير ب « ليس » الى التعبير ب « عدم الوجود » ، دلالةٌ على كفاية مجرّد عدم الوجدان في عدم التكليف بالحرمة .

( لكنّ ) المصنّف لم يَرتض دلالة الآية على البرائة ، لأنّه ردّ الدلالة بقوله : و ( الانصاف : انّ غاية الأمر أن يكون في العدول عن التّعبير من عدم الوجود الى عدم الوجدان اشارة الى المطلب ) الذي قلناه : من إنّ عدم الوجدان يدلّ على عدم الوجود إذا كان بعد الفحص وليس صراحة في المطلب .

( وأمّا الدّلالة ) الصريحة في الآية المباركة على انّ عدم الوجدان دليل على عدم الوجود ( فلا ، ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم دلالة الآية صراحة وانّما فيه مجرّد إشارة ، لا يمكن الاستناد اليها .

( قال في الوافية ) ما لفظه : ( وفي الآية ) مجرّد ( إشعارٌ بأنّ إباحة الاشياء ) التي لا دليل على حرمتها ( مركوزةٌ في العقل قبل الشّرع ) ففي الوافية جعل الآية مشعرة لا دليلاً ، ومن الواضح : انّه لايمكن إستناد الاصولي الى الاشعار في إدعائه البرائة .

( مع إنّه لو سلم دلالتها ) أي : دلالة الآية في نفسها فهي لاتنفعنا ، للفرق بين عدم وجدان الرّسول وعدم وجداننا ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم يعلم بعدم إختفاء حكم عليه ممّا أوحى اللّه تعالى اليه ، فعدم وجدان الرسول دليل البرائة ، لعدم الصدور منه تعالى ، وليس بالنسبة الينا كذلك ، فنحن نعلم بأنّه كانت أحكام في الشريعة

ص: 325

فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن اللّه تعالى من الأحكام يوجبُ عدم التحريم ، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام اللّه تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا وسيأتي توضيحُ ذلك عند الاستدلال بالإجماع العمليّ على هذا المطلب .

-------------------

خفيت علينا من جهة التقية ، أو من جهة إحراق الظالمين كتب الشيعة وقتل رواتهم ومحدّثيهم ممّا سبّب فقدنا لكثير من الأحاديث ، فعدم وجداننا ليس دليل البرائة وعدم التحريم ، فكيف يمكن قياس عدم وجداننا بعدم وجدان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ ، والى هذا أشار بقوله : ( فغاية مدلولها : كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن اللّه تعالى من الأحكام ، يوجب عدم التحريم ) بالنسبة الى الرسول ( لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام اللّه تعالى ) بالنسبة الينا ( بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا ) فلا يقاس عدم وجدان الرسول بعدم وجداننا .

لكن يمكن الجواب عن إشكال المصنّف نقضاً وحَلاً :

أمّا نقضاً : فلأنّه لو اُشكل على البرائة وعدم الاحتياط : باختفاء كثير من الاحكام ، لاشكل على عدم الاحتياط في كل الأحكام ، لاحتمالنا وجود شرائط وأجزاء للصلاة ، والصيام ، والحجّ ، والمعاملات ، وغيرها لم تصل إلينا ، فيجب علينا الاحتياط إذن في كل أَمر محتمل ، وهذا مالايقول به أحد .

وأمّا حَلاً : فلأن الأحكام المختفية لانعلم إنّها كانت من قبيل الواجبات والمحرمات .

وعليه : فالآية باقية على دلالتها من البرائة ، حتى نعلم بأنّ كل الذي اختفى علينا كان في الواجبات والمحرمات ، والمفروض عدم علمنا بذلك .

( وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالاجماع العملي على هذا المطلب )

ص: 326

ومنها : قوله تعالى : « وَمالَكُم أَنْ لا تأكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّهِ عَليهِ وَقَد فَصَّلَ لكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم » .

يعني مع خلوّ ما فصّل عن ذكر هذا الذي يَجتَنبُونَهُ .

ولعلّ هذه الآية أظهرُ من سابقَتِها ، لأنّ السابقة دلّت على أنّه لا يجوز الحكمُ بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما

-------------------

أي : على البرائة إنشاء اللّه تعالى .

( ومنها ) أي من الآيات التي استدل بها على البرائة ( قوله تعالى : « وَمَالَكم ) والخطاب للمسلمين ( ألاَّ تأكُلُوا مِمّا ) ذبح ذبحاً شرعيّاً ، وحين الذبح ( ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عَليهِ ، وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم ؟ » (1)) فانّ المشركين واليهود كانوا يحرِّمون بعض أقسام الذبائح ، والمسلمون في أول عهدهم بالاسلام كانوا يتجنبون عن تلك المحرّمات التي كانت عند اليهود والمشركين لاعتمادِهم على التحريم قبل إسلامهم ، فَوَبّخهم اللّه ُ سبحانه وتعالى على ذلك ، وبيّن لهم المحرّمات ليكون أكل ماعدا ذلك حلالاً لهم .

وعليه : فالمحرّم ما فصّلته الآية ( يعني : مع خلوّ ما فصّل ، عن ذكرِ هذا الّذي يَجتَنِبُونَهُ ) لا وجهَ لاجتنابهم وعدم أَكلهِم منه ومن سائر المطعومات ، فتدلّ الآية على انّ كل شيء لم يبيّن حرمته يكون حَلالاً، وَمَنْ يُحرِّمهُ يكون مستحقاً للتَوبيخ .

( ولَعَلّ هذه الآية أظهرُ من سابقَتِها ) أي : من قوله سبحانه ، « قُلْ لا أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إليَّ مُحرَّماً عَلى طاعِم يَطعمه ...» (2) وَوَجهُ الأَظهرية ما ذكرهُ المصنّف بقوله :

( لأنّ السّابقة دلّت على انّه لايجوز الحكم بحرمةِ مالم يوجد تحريمه فيما

ص: 327


1- - سورة الأنعام : الآية 119 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .

أوحى اللّه سبحانه إلى النبيّ ، صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وهذه تدل على أنّه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فُصِّل وإن لم يحكم بحرمته فيبطلُ وجوب الاحتياط أيضا ، إلاّ أنّ دلالتها موهونةٌ من جهةٍ أُخرى ، وهي أنّ ظاهرَ الموصول العمومُ ، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

-------------------

أَوحى اللّه سبحانه إلى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فالآية السابقة كانت تدلّ على حرمةِ التشريع ، بينما هذه الآية تدلّ على حرمة الاجتناب .

مثلاً : الآية السابقة تقول : لا تقولوا التُتن حرام ( وهذه ) الآية تقول : لاتترك التتن بل إشربه ، فالآية هذه ( تدلّ على انّه لايجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجودهِ فيما فُصِّلَ ) حرمته في الشريعة ( وإن لم يحكم ) التارك ( بحرمته ) .

وعليه : فالآية السابقة تدلّ على حرمةِ التَشريع كما صنعه اليَهود ، وَهذهِ الآية تدلّ على حرمة مُطلق التزام الترك ، سواء كان الترك بعنوان الاحتياط ، كما صنَعَه جمع ، أو بعنوان التَشريع ، كما صنعه اليهود ( فيبطلُ وجوب الاحتياط أيضاً ) لأنّ الاحتياط حينئذٍ منهيٌّ عنه .

( إلاّ انّ دلالتها ) أي : الآية المباركة ( موهونةٌ من جهة أُخرى وهي : انّ ظاهر الموصول : العموم ) فان « ما » في قوله سبحانه : « وَقَدْ فَصَلَ لَكُم ما حرِّم عَليكُم » (1) ظاهرٌ في العموم أي : فصّل اللّه سبحانه وتعالى للمسلمين جميع المحرّمات .

( فالتّوبيخ ) منه سبحانه إنّما هو ( على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع

ص: 328


1- - سورة الانعام : الآية 119 .

المحرّمات الواقعيّة وعدم كون المتروك منها .

ولا ريبَ أنّ اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرّما واقعيّا ، فالتوبيخ في محلّه .

والانصافُ : ما ذكرنا ، من أنّ الآيات المذكورة لا تنهضُ على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأنّ غاية مدلول الدالّ منها هو عدم التكليف فيما لم يُعلم خصوصا أو عموما بالعقل

-------------------

المحرّمات الواقعية ، وعدم كون المتروك منها ) أي : ممّا فصّل فانّ الذبيحة الشرعية ليست من تلك المحرمات التي فصّلها اللّه سبحانه وتعالى .

( ولا ريبَ انّ اللازم من ذلك ) أي : من تفصيل جميع المحرمات وعدم كون الذبيحة المتروكة من تلك المحرمات ( العلم بعدم كون المتروك محرّماً واقعيّاً ) لأنّا إذا عَلمنا بكلِ المحرّمات ، ورأينا إنّ الذبيحة المتروكة ليست من تلك المحرّمات ، علمنا بأن الذبيحة ليست من المحرمات وحينئذٍ (فالتوبيخ في محلّه) بخلاف ما إذا لم نعلم المحرمات تفصيلاً ، كما هو حالنا بعد عدم علمنا بكل الأحكام ، لاختفائها من جهةِ تقية ، أو إحراق الكُتب ، أو قتل الرّواة - كما تقدّم - .

لكنّك قد عَرفتَ الجواب عن ذلك كلّه في الآية السابقة ، فلا حاجة الى تكراره .

اما المصنّف فقد قال : ( والانصاف ما ذكرنا : من انّ الآيات المذكورة لا تنهضُ على إبطال القول بوجوب الاحتياط ، لأن غايةَ مدلول الدّال منها ) أي : من هذه الآيات ( هو : عدمُ التّكليف فيما لم يُعلم خصوصاً ) تكليفاً بالحرمةِ : كحرمةِ التتن ، أو تكليفاً بالوجوب : كوجوب الدُعاءِ عِند رؤيةِ الهِلالِ .

( أو عموماً ب- ) سبب ( العقل ) مثل : دلالة العقل على وجوب دفع ضرر العقاب

ص: 329

أو النّقل ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد .

وإنّما أوجب الاحتياط من أوجبَهُ بزعم قيام الدّليل العقليّ أو النقليّ على وجوبه ، فاللازم على منكره رَدّ ذلك الدليل أو معارضته بما يدلّ على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه .

وأمّا الآيات المذكورة ، فهي كبعض الأخبار الآتية لا تنهضُ بذلك ،

-------------------

المحتمل ( أو النّقل ) مثل : دلالة الأخبار على وجوب الاجتناب عن الشُبهةِ .

( وهذا ) أي : البرائة عند عدم البيان خصوصاً أو عموماً ( ممّا لا نزاع فيه لأحد ) سواء الاُصولي أو الأخباري ، فانّ الكل مُتَفِقُونَ على أنّه ما دام لم يكن بيانٌ عموماً ولا خصوصاً ، فانّه يكون مجرى البرائة .

( وإنّما أَوجِبَ الاحتياط من أوجبَهُ ) من الأخباريين ( بزعم قيام الدّليل ) العام ( العقلي ) وهو : وجوب دفع الضَرر المُحتمل ( أو النَقليّ ) وهو : أدلة الوقوف عند الشُبهة ونحوها ( على وجوبه ) أي : على وجوب الاحتياط .

إذن : ( فاللازم على منكره ) أي : منكر الاحتياط وهم الاصوليون ( رَدّ ذلك الدّليل ) بأن يثبتوا انّه لا دليل عقلي ولا نقلي في مقام الشبهة .

( أو معارضته ) أي : معارضة ذلك الدليل ( بما يدلّ على الرّخصة ، وعدم وجوب الاحتياط فيما لانصّ فيه ) حتى يتعارض دليل الأخباري مع دليل الاصولي فيتساقطان ويرجع الى الأصل العقلي السليم عن المعارض ، أو يكون دليل الاصولي أقوى فيكون مقدّماً على دليل الأخباري ، فيُحمل دليل الأخباري على الاستحباب .

( وأمّا الآيات المذكورة ) دليلاً للاُصوليين على ما تقدّم بيانها ( فهي كبعض الأخبار الآتية ) للاُصوليين ( لاتنهضُ بذلك ) أي : لاتتمكن من إبطال أدلة

ص: 330

ضرورة أنّه لو فرض أنّه وَرَدَ بطريق معتبر في نفسه أنّه يجب الاحتياط في كلّ ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة .

وأمّا السنّة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة

منها : المرويُّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بسند صحيح في الخِصال ، كما عن

-------------------

الاخباريين أو معارضة أدلتهم .

( ضرورة انّه لو فرض : انّه وَرَدَ بطريق معتبر في نفسهِ ) من حيث : السند ، والدلالة ، وجهة الصدور ، على ( انّه يجب الاحتياط في كلِ مايحتمل أن يكون قد حكم الشّارع فيه بالحرمة ، لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة ) لأنّ الآيات المذكورة تدلّ على ان بدون البيان لا حكم بالالزام ، والدليل المذكور يكون بياناً ، ومن المعلوم : انّ البيان يزيل موضوع عدم البيان .

أقول : لكنّك قد عرفت دلالة الآيات بما يسقط دليل الأخباري عن كونه بياناً ، فيلزم حَمله على الاستحباب ، أو نحو ذلك .

وعلى أي حال : فهذا تَمامُ الكلام في الآيات التي استدّل بها الاصوليون على عَدمِ وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية والشبهةِ الوجوبية .

( وأمّا السّنة : فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة ) إستدلوا بها على البرائة في الشبهة الوجوبية ، أو الشبهة التحريمية .

( منها : المرويّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بسند صحيح في الخصالِ ، كما عن التوحيد : رُفِعَ عَنْ أُمتي تِسعةٌ : الخَطأ ، وَالنِّسيان ، وَما أستُكرِهُوا عَليهِ ، وَمَا

ص: 331

التوحيد : « رُفِعَ عَن أمّتي تِسعةُ : الخطأ ، والنِّسيان ، وما استُكرِهُوا عَلَيهِ ، وما لا يَعلَمُونَ ، وما لا يُطيقُونَ ، وما إضطرُّوا إلَيهِ ...» ، الخبر .

-------------------

لايَعْلَمُونَ ، وَمَا لايُطيقُونَ ، وَمَا إضطرّوا إليهِ ، الخبر ) (1) وتتمته : وَالحَسد ، وَالطَيَرَةِ ، وَالتَفَكُرِ فِي الوَسوَسةِ فِي الخَلقِ مَا لَم ينطُق بِشفَةٍ .

فالخطأ : أن يشتَبهَ الشخص في قولِ أَراد أَن يقوله ، مثل ما لو قال : اللّهم لاتَغفر لي ، مكان اللّهم إغفر لي ، أَو في عملٍ : كَأَنْ إشتبهَ فَوطأ زوجَتَهُ في حالِ الحَيضِ

زاعماً انّها طاهرة .

والنسيان : واضح ، لكنّهم إختلفُوا في انّه هل يشمل النسيان الذي حصل من التسامح أم لا ؟ كما اذا تسامح في الأمر فنسي ، بحيث لو لم يكن يتسامح لم ينس .

وما لايُطيقون : امّا انّه لايتمكنون إطلاقاً ، فمعنى رفعه حينئذٍ رفع آثاره : من القَضاء ، والاعادة ، والكفارَة ، ونحو ذلك ، أو يَصعُب عليهم صعوبة بالغةً .

وما اضطُروُا إليه : هو ما إذا خافَ التَلفَ من الجوع - مثلاً - انْ لم يأكل لحم الخنزير ، أو الموت من العطش إنْ لم يشرب الخمر - مثلاً - ولا يخفى : ان « اضطُرَ » يقرء بصيغة المجهول ، وذلك على خلاف قاعدة باب الافتعال - لأنّه متعدٍ - لذا قال سبحانه في القرآن الحكيم : « ثمَّ نَضْطرُّهُم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ » (2) .

والطيرةُ : هو العَمَلُ حَسبَ طيران الطير أو تحرك غير الطير من الحيوانات الاخرى ، كما كان في الجاهلية حيث اذا أراد السفر ورأى طيراً يطير نحو الشمال ،

ص: 332


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ، تحف العقول : ص50 .
2- - سورة لقمان : الآية 24 .

...

-------------------

أو كلباً يعوي ، أو نحو ذلك ، ترك السفر ، فانّ العمل بهذا محرمٌ شرعاً ، وقال الشاعر في الطيرة :

لعمرك ما تَدري الطَوارق بالحَصى *** وَلا زاجِرات الطَير ما اللّه فاعِلُ .

وقال يزيد لَعَنَهُ اللّه مُتَطَيّراً من صياح الغُراب عِندَ وُرود أهل البيت عليهم السلام الى الشام :

لَمّا بَدت تِلكَ الرؤوس وأشرَقَت *** تلكَ الشموس على رُبى جَيرون

نَعبَ الغُراب فَقُلتُ صِح أو لاتَصِح *** فَلَقد قَضيتُ مِنَ النبيّ دِيوني(1) .

فانّه تطيّر بصوت الغُراب ودلالته على زوالِ ملكه .

والحسد : هو ان يحسد الانسان انساناً على مالٍ ، أو جاهٍ ، أو أولادٍ ، أو نحو ذلك ، ويظهرُ حسدهُ بقولٍ أو فعلٍ مثل : التنقيص أو الاستهزاء بالمحسود ، أو التآمر عليه ، ولذا قال سبحانه : « وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حَسَدَ » (2) أي : اذا أظهر حَسَدَهُ .

والتفكر في الوسوسة في الخلق : بأن يفكّر الانسان في انّه مَن خَلَقَ اللّه سبحانه

وتعالى - مثلاً - وما أشبه ذلك .

لكن هذه الثلاثة الأخيرة لاتكون محرّمة إذا لم يُظهِرها الانسان بيد ولا لسانٍ ، فإذا أظهرَها بيدٍ أو لسانٍ كان ذلكَ حراماً .

ثم انّه حيث نسب الرفع الى الأشياء المذكورة لم يَرد من الرَفع : رفعُ ذواتها ، بل رَفعُ جميع الآثار : من القضاء ، والاعادة ، والكَفارة ، والحَدِّ ، والتعزير ، وعقوبةِ

ص: 333


1- - بحار الانوار : ج45 ص199 ب39 ح40 .
2- - سورة الفلق : الآية 5 .

...

-------------------

الآخرة ، وعدم قبول الشهادةِ حيث قال سبحانه : « وَلا تَقبَلُوا لَهُم شَهادةً أبَداً » (1) .

الى غير ذلك من الاحكام الوضعية والتكليفيّة ، في الشُبهات الموضوعيّة والحكميّة ، واثبات الوضع بعد هذا الحديث يحتاج الى دليل ، كما انّ ما ذكر غير هذا في تفسير الحديث فهو خلاف ُ الظاهر .

وإنّما قال : « رُفِعَ » لأنّ تلك الأحكام كانت في الاُمم السابقة وإنّما رفعت عن اُمّةِ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من جهةِ أقربيةِ البشر الى الكَمال في زمانهِ ، فانّ البشر كلّما كان أقرب الى الكمال خَفّ تأديبه ، كالطفل اللجوج والطفل المتعارف ، حيث انّ تأديب الأول أشدُ .

ثمَّ انَّ الرفعَ والوضعَ كلاهُما يقالُ لاسقاط التكليف :

فالأوّل : بإعتبار صعودهِ وعدم بقائهِ في ذمة المكلَّف .

والثاني : بإعتبار سقوطهِ وعدم إستقراره في ذمةِ المكلَّف .

وعليه : فالنتيجة واحدةٌ ، ولذا قال سبحانه : « يَضَعُ عَنْهُمُ إِصَرهُم والأَغلال الَّتي كَانَتْ عَلَيهم » (2) .

ولعلّ الفرقُ بينَهُما إذا إجتَمَعا : إنّ الوضع يدلّ على أثقليّة الشيء الموضوع ، من الرفع الدال على أخفيّته .

وربَّما يُقال : الرَفعُ ، باعتبار عظمةِ المرفوع ، ولذا قالوا : رَفَعَ فلانٌ الأذان ، مكان قولهم : أذّن .

وكيف كان : فوجه الاستدلال بهذا الحديث للبرائةِ : ما ذكره المصنّف بقوله :

ص: 334


1- - سورة النور : الآية 4 .
2- - سورة الاعراف : الآية 157 .

فانّ حرمة شرب التتن ، مثلاً ، ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ، ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ والنّسيان ، رفعُ آثارها أو خصوص المؤاخذة ، فهو كقوله عليه السلام : « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُمْ » .

-------------------

( فانّ حرمة شرب التتن - مثلاً - ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ) وكذلك وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ممّا لا يعلمون ، فهو مرفوع عنهم .

( ومعنى رفعها ، كرفع الخطأ ، والنّسيان : رفع آثارها ، أو : خصوص المؤاخذة ) لكنّك عرفت : انّ اللازم رَفعُ جميع الآثار ، لأنَّ إطلاق المطلق يُوجب شموله لكلِّ الأفراد ، لا لبعض الأفراد دون بعض ، فكأنّ المصالح والمفاسد الواقعيّة الكامنةُ في الأحكام الشرعيّة ، كانت مقتضية لايجاب التحفظ ، الموجب لتنَجزُ التكليف : قضاءاً ، واعادة ، وغير ذلك ، فلم يوجبه سبحانهَ مِنَّةً على هذه الاُمة .

( فهو ) أي : الرَفعِ ( كقوله عليه السلام : مَا حَجَبَ اللّهُ عِلمهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضُوعٌ عَنَهُم ) (1) بمعنى : انَّ كلّ حكم لم يَأمر اللّهُ أوليائه بتبليغهِ إلى العباد وبقي مَحجُوباً عَنهمُ ، لم يكن لَهُ أثرٌ عَليهم .

لا يقال: إذا لم يأمر اللّهُ سبحانهُ وتَعالى بذلك الحكم، فما فائدةُ تسميتهِ حُكماً؟.

لانه يُقال : المراد بالحكم : الاقتضاء ، لا الفعليّة ، ففي التتن - مثلاً - إقتضاء الحرمة ، لكن حيث ابتلى هذا الاقتضاء بأمر أهم ، كالتَسهيل - مثلاً - حَجَبَهُ اللّهُ عن العباد ، فلم يردْهُ مَنهم ، ولم يوصل الاقتضاء الى الفعليّة .

وعلى أي حال : فان ممّا تقدَّم يَظهر : وجه النظر في كثير من هذه المناقشات

ص: 335


1- - التوحيد ص413 ح9 ، الكافي ( اصول ) : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ويمكنُ أن يُورد عليه : بأنّ الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون ، بقرينة أخواتها ، هو الموضوعُ ، أعني فعلَ المكلَّف الغير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شربُ الخمر او شربُ الخَلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ،

-------------------

التي وَرَدَت في المتن ، لكنّا نذكرها لمجرد الشرح .

قال المصنّف : ( ويمكن أن يُورد عَليهِ : بأنَّ ) الاستدلال برواية الرَفع على البَرائة في الشبهةِ الحُكميّة ، وجوبيّةً كانت أو تحريميّةً ، موقوفٌ على كون المُراد بالموصول من قوله عليه السلام : « رُفع ما لا يعلمون » (1) هو : الحكم غير المعلوم ، أو الأعم من الحكم ومن الموضوع ، اي : رُفِعَ الموضوع المجهول ، ورُفِعَ الحكم المجهول ، وليس كذلك ، إذ المراد بما لا يعلمون : الموضوع فقط ، فلا يشمل الحكم المجهول .

وعليه : فلا يدل الحديث على الرفع في الشبهةِ الحكميّة ، وذلك لوجهين :

أولهما : ما ذكره المصنّف بقوله : ( الظّاهر من الموصول فيما لا يعلمون بقرينة أخواتها ) مثل : ما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ( هو : الموضوع ، أعني : فعل المكلَّف غير المعلوم ) عنوانه ، والفعل غير المعلوم عنوانه ( كالفعل الّذي لا يعلم : انّه شربُ الخمر أو شربُ الخلّ ، وغير ذلك من الشبهات الموضوعيّة ) كالمرأة التي لايعرف انّها في الحيض أو ليست في الحيض ، أو انّها اخته من الرضاعة ، أو ليست أخته من الرضاعة ؟ .

كما انّ المراد بما اضطروا اليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون : هو الفعل

ص: 336


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : 417 ، تحف العقول : ص50 ، الاختصاص : ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فلا يشمل الحكمَ الغيرَ المعلوم ،

-------------------

الذي اضطر اليه ، أو اكره عليه ، أو خرج عن طاقته .

إذن : ( فلا يشمل ) الحديث ( الحكم غير المعلوم ) الذي هو محل البحث في المقام ، حيث انّ الكلامُ في الشبهة الحكميّة ، اذ الأخباري يقول : بحرمةِ شرب التتن ، والاصولي يقول : بجوازه ، فشرب التتن موضوع معلوم ، وانّما حكمه غير معلوم ، بينما الحديث يدل على انّ الموضوع غير المعلوم مرفوع بقرينة سياقه مع الفقرات الاُخرى .

ثانيهما : انّ التقدير في الحديث : رفع المؤاخذة لكذا وَكذا من الأشياء التسعة ، ومن المعلوم : انَّ المؤاخذة تتعلق بفعل ما اكره ، او ما لا يطيق ، أو ما أشبه ذلك ، يعني : انَّ الفعل المكره عليه كشرب الخمر لا مؤاخذة عليه ، ووحدة السياق في تمام الفقرات في الرواية تقتضي أن يكون ما لا يعلمون كذلك ، أي : فعل مالا يعلمون لا مؤاخذة عليه ، فاذا لم يعلم انّ زوجته في الحيض - مثلاً - ووطأها ، فانّ هذا الفعل لا مؤاخذة عليه .

إذن : فما لا يعلمون خاص بالشبهة الموضوعيّة ، إذ لو شملَ الشبهةَ الموضوعيّة والشبهة الحكميّة لم يكن سياق الفقرات واحداً ، بل كان في فقرة : « ما لا يعلمون » يشمل الموضوع والحكم معاً بينما في سائر الفقرات يشمل الموضوع فقط ومن المعلوم : انّ عدم وحدة السياق خلاف الظاهر ، ولا يصار اليه إلاّ بالقرينة ، ولا قرينة في المقام حتى يفرّق بين السياق فيجعل « مالا يعلمون » يعم الشبهةَ الموضوعيّة والحكميّة ، ويكون سائر الفقرات خاصاً بالشبهةِ الموضوعيّة .

وعلى هذا : فالحديث لا يدلُّ على البرائةِ في الشبهةِ الحكميّة كما يذكرهُ الاصولي وينكرهُ الأخباري .

ص: 337

مع أنّ تقدير المؤاخذة في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع والحكم ، لأنّ المقدّر المؤاخذةُ على نفس هذه المذكورات ، ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة .

نعم ، هي من آثارها ، فلو جُعِلَ المقدّرُ في كلّ من هذه

-------------------

والى هذا الثاني أشار المصنّف بقوله : ( مع انَّ تقدير المؤاخذة في الرّواية لا يلائم عمومَ الموصول للموضوع والحكم ) بل يلائم إرادة الموضوع فقط ( لأنَّ المقدّر : المؤاخذة على نفس هذه المذكورات ) في هذا الحديث ( ولا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة ) فانّ المؤاخذة تقع على فعل العبد لا على حكم الشارع .

( نعم ، هي ) اي : المؤاخذة ( من آثارها ) اي : من آثار الحرمة .

لكنّكَ قد عرفت : انّه لا وجه لتقدير المؤاخذة ، بل اللازم كل الآثار ، ولذلك فانّ هذا الاشكال غير وارد .

والى هنا ذكر المصنّف إحتمالين :

الأوّل : رفع جميع الآثار .

الثاني : رفع خصوص المؤاخذة .

وهناك إحتمالٌ ثالثٌ في الحديث : وهو رفعُ الأَثر الظاهر من كل واحد من الفقرات المذكورة في الرواية على حدة .

وجه هذا الاحتمال : هو الانصراف ، فهو مثل ما اذا قيل : « زيدٌ أسدٌ » ، حيث ينصرف الى انَّ لزيد اظهر آثار الأسد وهو الشجاعة ، لا العرف ، والشَعَر ، والأظفار الطويلة ، والمشي على أربع ، وما اشبه ذلك .

والى هذا الثالث ، أشار المصنّف بقوله : ( فلو جعل المقدر في كلّ من هذه

ص: 338

التسعة ما هو المناسبُ من أثره ، أمكنَ أن يقال : أثر حرمة شرب التتن - مثلاً - المؤاخذة على فعله فهي مرفوعة .

لكنّ الظاهر ، بناءا على تقدير المؤاخذة ، نسبةُ المؤاخذة إلى نفس المذكورات .

والحاصلُ : أنّ المقدَّر في الرواية ، باعتبار دلالة الاقتضاء ،

-------------------

التسعة ) الواردة في الرواية ( ماهو المناسب من أثره ) لا كل الآثار ، ولا المؤاخذة ( أمكن أن ) يُحمَل الموصول في « مالا يعلمون » على الحكم غير المعلوم أيضاً .

ف- ( يقال : أثر ) رفع سائر الفقرات في الرواية : هو المؤاخذة عليها بنفسها ، فأثر مالا يطيقون : انّه لايؤاخذ عليه بنفسه على حده ، وهكذا بقية الفقرات ، وأثر ( حرمة شرب التتن - مثلاً- المؤاخذة على فعله ) أي فعل الشرب نفسه ( فهي مرفوعة ) فيكون الحديث على هذا شاملاً للشبهة الحكمية « فيما لايعلمون » .

( لكن الظاهر ) انّ المرفوع : المؤاخذة ، و ( بناءاً على تقدير المؤاخذة ) فقط ، لا كل الآثار ، هو : ( نسبة المؤاخذة الى نفس المذكورات ) كلها ، لا المناسب لكل فقرة فقرة ، وقد عرفت : انّه على هذا التقدير يكون المرفوع في« ما لايعلمون » الموضوع ، مثل : انّه لم يعلم هل شربه هذا شرب ماء أو شرب خمر ؟ ولا يشمل رفع الحكم مثل : انه لايعلم هل انّ التتن حرامٌ أو حلال ؟ .

( والحاصل : إنّ المقدَّر في الرّواية باعتبارِ دلالةِ الاقتضاء ) وهي كما ذكرها البلاغيون : عبارةً عن انّه إذا لم يكن الكلام صحيحاً أو صادقاً حَسَبَ ظاهره ، لابّد وأن يقدّر فيه شيء يناسِبه صحةً وصدقاً ، كما في قوله تعالى : « وَجَآءَ رَبُكَ » (1)

ص: 339


1- - سورة الفجر : الآية 22 .

...

-------------------

حيث لم يكن الكلام صادقاً بظاهره لأنّ الربّ لايجيئ ، قدّروا : وجاء أَمرُ رَبِكَ .

وفي قوله سبحانه حكاية : « وَاسأَلِ القَرْيَةَ » (1) حيث لم يكن سؤال القرية صحيحاً ، إذ القرية لاتكون مورد السؤال والجواب قدّروا : واسأَل أهل القرية .

ولا يخفى : إنّ البلاغييّن والاُصولييّن أضافوا دلالتين أُخرييّن إلى دلالة الاقتضاء ، وربّما سميّ الجميع بدلالة الاقتضاء :

الاُولى : دلالة التنبيه ، وذلك فيما إذا اقترن بالكلام ما يُفيدُ دلالته - مثلاً- قالوا : « جَاءَ أعرابيّ إلى الرسولِ صلى اللّه عليه و آله وسلم وقال : هَلَكتُ وَأَهْلَكْتُ ، واقعتُ أهلي في نهار رَمضان ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم له : كَفِّرْ» (2) فان تقارن كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لكلام الأعرابي، يدل على انّ المراد ب « كفّر » : الكفارة لمن واقع أهله في شهر رمضان ، وإلاّ فكلام الرسّول صلى اللّه عليه و آله وسلم مطلق .

الثانية : دلالة الاشارة كما في الجَمع بين قوله تعالى : « وَالوالِداتُ يرضِعْنَ أَولادَهُنَّ حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ »(3) وقوله سبحانه : « وَحَملُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً » (4) فإنّ الجمعَ بينَ هاتين الآيتين يدلُ على إنّ أقل الحمل سِتَةَ أشهر ، ولذا ذَهبَ المشهور اليه .

وكيف كان : فحيث لايمكن أنْ نقول في حديث الرفع : بأنّ المراد هو ظاهر الرواية ، لأن هذه الأمور من الخطأ والنسيان وغير ذلك ليست مرفوعة في الامة ، فانهم يخطأون ، ولا يعلمون ، ويضطرون ، ولا يطيقون ، وما أشبه ذلك ، فاللازم

ص: 340


1- - سورة يوسف : الآية 82 .
2- - وسائل الشيعة : ج10 ص46 ب8 ح12793 بالمعنى .
3- - البقرة : 233 .
4- - سورة الاحقاف : الآية 15 .

يحتمل أن يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ، وهو الأقربُ إعتبارا إلى المعنى الحقيقيّ ، وأن يكون في كلّ واحد منها ما هو الأثر الظاهر فيه ،

-------------------

أنْ نقدِّرَ شيئاً لدلالة الاقتضاء ، والشيء المقدر أحدُ أُمور ثلاثة :

أولاً : ( يحتمل أنْ يكون جميع الآثار في كلّ واحد من التسعة ) بأنْ يكون كل الآثار لهذه الامور مرفوعة ( وهو الأَقرب اعتباراً ) أي : في إعتبار العقلاء ( إلى المعنى الحقيقي ) فانّه إذا لم يمكن ارادة رفع نفس المذكورات - كما هو ظاهر اللّفظ - فلابّد أنْ يراد به الأقربَ إلى المعنى الحقيقي ، وهو : رفع كلّ الآثار ، لوضوح : انّ مالا أَثرَ لَهُ بمنزلة المعدوم .

مثلاً قوله عليه السلام : « يَا أَشْباهَ الرِّجالِ وَلا رِجال » (1) ، فانّهم حيث كانوا رِجالاً لابّد وأن يكون المراد : نفي كل آثار الرجولة عنهم ، من الشَهامَةِ ، والشَجاعةِ ، والوَفاءِ ، والمروءة ، وغير ذلك .

ثانياً ( وأن يكون في كلّ واحدٍ منها ) أي : من التسعة ( ماهو الأثر الظاهر فيه ) أي : في كل واحدٍ واحد منها ، كرفع المضرّة من الطَيَرَةِ ، بمعنى : إنّ اللّه سبحانه وتعالى يدفع الضر عن الانسان الذي يتطيَّر ، وإنْ كانت الطَّيَرَة في نفسها تسبِّب الضرر .

وكرفع الكفر في الوسوسة ، حيث انّ الوسوسة تُوجبُ الكفر ، لكنّ اللّه سبحانه وتعالى لايحكم بكفر الذي يفكّر في الوسوسة إذا لم يظهرها بيدٍ أو لسان .

وكرفع المؤاخذة في البواقي بمعنى : انّ اللّه سُبحانه وتعالى لايؤاخِذَهُم بها

ص: 341


1- - معاني الأخبار : ص310 ، الارشاد : ج1 ص279 ، دعائم الاسلام : ج1 ص390 ، الاحتجاج : ص174 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص75 ب27 .

وأن يقدّر المؤاخذة في الكلّ .

وهذا أقربُ عرفا من الأوّل وأظهرُ من الثاني أيضا ، لأنّ الظاهر أنّ نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد .

-------------------

في الدنيا بالحدِّ والقصاص ، والتعزير ، وردّ الشهادة ، وغير ذلك ، ولا في الآخرة بالعقاب ، والعذاب ، والنار ، وما أشبه ذلك .

ثالثاً : ( وأن يقدّر المؤاخذة في الكلّ ) من التسعة ، بمعنى : إنّ المرفوع المؤاخذة في كل هذه التسعة .

( وهذا أقربُ عُرفاً من الأوّل ) أي : ان تقدير المؤاخذة على نفس المذكورات ، أقرب في نظر العرف من تقدير جميع الآثار .

أقول : لكنْ كونه أقرب محلُ نظر ، بل الأوّل أقربُ - كما عرفت - .

( وأظهرُ من الثاني ) أي : انّ المعنى الثالث هذا يكون أظهر من المعنى الثاني ( أيضاً ) .

وإنّما كان أظهر لما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّ الظاهر : انّ نسبة الرّفع الى مجموع التّسعة على نسق واحد ) والمعنى الثاني يُوجب فقد النسق الواحد ، وقد ذكرنا سابقاً : إنّ اضطراب النَسق في الحديث خلاف ظاهره؛ وخلاف الظاهر يحتاج إلى دليل ، والدليل لما كان مفقوداً لم يُمكن الذهابُ إليه .

وعلى هذا المعنى الذي استقرَبَهُ المصنّف وهو المعنى الثالث : للحفاظ على وحدة السياق في فقرات الحديث ، لابدّ من حمل « ما لايعلمون » على الفعل غير المعلوم عنوانه ، فيختص بالشبهة الموضوعيّة كما مثّلنا له : بأنّه لم يعلم هل إنّ شربه لهذا المايع شرب خمر ، أو شرب ماء ؟ فانّه حيث لايعلم مرفوع عنه المؤاخذة إذا شربه .

ص: 342

فاذا أريد من الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه وما اضطرّوا ، المؤاخذةُ على أنفسها ، كان الظاهرُ فيما لا يعلمون ذلك أيضا .

نعم ، يظهر من بعض الأخبار الصحيحة عدمُ إختصاص الموضوع عن الاُمّة بخصوص المؤاخذة .

فَعَنْ المحاسن عن أبيه ، عن صَفوان بن يَحيى ، والبَزَنطيّ جميعا ،

-------------------

أمّا إذا حمل « ما لايعلمون » على المعنى الأعمّ ، أو الشبهة الحكميّة فقط ، فانّه يختلف السياق ، ويكون كما عرفت : خلاف موازين العرف ، لكنّكَ قد عرفت ان الأظهر من هذه المعاني الثلاثة هو : المعنى الأوّل .

وعلى أي حال : فان نظر المصنّف هو ماذكره بقوله : ( فاذا أريد من الخطأ ، والنّسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما اضطرّوا ) إليه ، وما لايطيقون ، والحسد ، والوَسوسة ، والطيرة ( : المؤاخذة على أنفسها ، كان الظاهر فيما لايعلمون ) وهي الفقرة التاسعة ( ذلك أيضاً ) أي : المؤاخذة على نفسها ، لوحدة السياق ، فيراد بالموصول في « ما لايعلمون » : الفعل المجهول عنوانه ، فيختص بالشبهة الموضوعية فلا يكون الحديث دليلاً على البرائة .

( نعم ) يمكن أن يستدلّ على إرادة كل الآثار من الموصول في « ما لايعلمون » ويُصحّح حمل الموصول على الحكم والموضوع معاً بوجهين :

أولهما : ما أشارَ اليهِ المصنّف بقوله : ( يظهر من بعض الأخبار الصحيحة : عدم اختصاص الموضوع ) أي : المرفوع ( عن الامة ) المرحومة ( بخصوص المؤاخذة ) ممّا يدل على أن المرفوع عن الاُمّة أعمّ من المؤاخذة وغيرها .

( فَعَن المحاسن عن أبيه عن صَفوان بن يَحيى و ) عن ( البَزنطي جميعاً ) أي :

ص: 343

عن أبي الحسن عليه السلام : « في الرجُلِ يُستَحلَفُ عَلى اليَمينِ فَحَلَفَ بالطّلاق والعَتاق وصَدَقَةِ ما يَملِكُ ، أيَلزَمُهُ ذلِكَ ؟ فقال عليه السلام : لا ، قال رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفع عن أمّتي ما اكرهوا عليه ، وما لا يُطيقونَ ، وما أخطأوا ، الخبر » .

-------------------

ان كلاً منهما روى ( عن أبي الحسن ) الرِّضا ( عليه السلام : في الرّجل يُستَخلفُ على اليمين ) أي : يُكره على أنْ يَحلِفْ ( فَحَلَفَ بالطّلاق ، والعَتاق ، وصَدقَةِ ما يَملِك ) .

وهذا الحِلف كان شايعاً عندَ العامّةِ فيقولون : إنْ فَعلتُ كَذا فَزَوجَتي طالقٌ ، وعَبدي حرٌ ، ومُلكي صَدَقَةٌ ، وعند الشيعة هذا الحِلف لايصح في نفسه ، والسائل سأل عن الإمام عليه السلام انه إذا اُكره الشخص على مثل هذا الحلف ( أَيلزمه ذلك ؟ ) أي : هل يحصل بذلك الحلف طلاق زوجَتِهِ ، وتحريرُ عبدهِ ، وصدقة مُلكه ؟ .

( فقال عليه السلام : لا ، قال رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : رفع عن أُمتي : ما اكُرهُوا عَليهِ ، وَمَا لا يُطيقُون ، وَمَا أخطأوا ، الخبر ) (1) أي : إلى آخر الخبر .

ولا يخفى : انّ هذا الحلف باطل حتى لو لم يكن جهة الاكراه ، اذ كل من الصدقة ، والطلاق ، والعتق ، يحتاج في الشريعة الى سبب خاص ، والحلف ليس سبباً في تحقيق شيء من ذلك .

فهو مثل : انْ يحلف الرجل ان تكون بنتَه زوجةُ زيد ، أو أن تحلف المرأة أن تكون هي زوجةٌ لزيد ، فانّ الزوجية لا تكون إلاّ بسبب خاص هو : صيغة النكاح ، والحِلف ليس من ذلك - كما هو واضح - .

ص: 344


1- - وسائل الشيعة : ج23 ص226 ب12 ح29436 وقريب منه في المحاسن : ص339 ح124 .

فانّ الحلفَ بالطلاق والعتق والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضا ، إلاّ أنّ إستشهادَ الإمام عليه السلام ، على عدم لزومها مع الاكراه على الحلف بها بحديث الرفع ، شاهدٌ على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة .

-------------------

إنْ قلت : فلماذا سأل من الإمام عليه السلام عن بطلان هذا الحلف بالاكراه ، لا عن انه بنفسه باطل ؟ .

قلت : ( فانّ الحلف بالطّلاق ، والعتق ، والصّدقة ، وإن كان باطلاً عندنا ) معاشر الشيعة ( مع الاختيار أيضاً ) كما انّه باطل مع الاضطرار ( إلاّ أنّ استشهاد الإمام عليه السلام على عدم لزومها ) أي : لزوم هذه الثلاثة ( مع الاكراه على الحلف بها ) أي : بهذه الثلاثة إستشهاداً ( بحديث الرّفع ، شاهد على عدم اختصاصه ) أي : عدم إختصاص الرفع في الحديث ( برفع خصوص المؤاخذة ) فانّ البطلان في هذه الايقاعات يكون لما يلي :

أوّلاً : ان الانشاء في هذه الايقاعات لايكون بالقَسم ، وإنّما يلزم أن يكون بأسباب خاصة - كما ذكرناه - .

وثانياً : انه حتى على تقدير صحة الانشاء بالحلف ، فإنّ الاكراه المنافي لطيب النفس يسبب بطلانها .

ولعلّه إنّما عَدلْ الإمام عليه السلام عن الوجه الأوّل ، وَعَلّلَ البطلان بالوجه الثاني ، ثم استشهد له بالنبوي لمكان التقية ، إذ البطلان من جهة الاكراه ثابت حتى عند العامّة .

لكنّ الذي يُستفاد من هذا الحديث هو : انّ المرفوع في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفعَ ما إستُكرهُوا عليه » كلّ الآثار لا خصوص المؤاخذة ، فالكبرى مسلَّمةٌ ، إلا إنّ تعليل الإمام عليه السلام البطلان بهذه الكبرى هو موضع التقية .

ص: 345

لكنّ النبويّ المحكيّ في كلام الإمام عليه السلام ، مختصٌّ بثلاثة من التسعة ، فلعلّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ، فتأمّل .

وممّا يؤيّد إرادةَ العموم ظهورُ كون رفع كلّ واحد من التسعة من خواصّ اُمّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ لو اختصّ الرفعُ بالمؤاخذة أشكل

-------------------

والمصنّف أجاب عن الاستدلال بالخبر لكون المراد : جميع الآثار بقوله : ( لكن النبوي المحكّي في كلام الإمام عليه السلام مختصٌ بثلاثةٍ مِن التسعةِ ) أي : ما اُكرهوا عليه ، وما لايطيقون ، وما أخطأوا ( فلعَلَّ نفي جميع الآثار مختصّ بها ) أي : بهذه الثلاثة ، لا بكل الحديث المشتمل على تسعة أشياء ، ولا منافات بين أن يكون حديث الثلاثة يراد بالرفع فيه : كل الآثار ، وحديث التسعة يراد بالرفع فيه : المؤاخذة فقط .

( فتأمّل ) إذ الحديث الوارد عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم حديث واحد مشتمل على التسعة ، وقد نقل الإمام عليه السلام ثلاثة من التسعة ، فلا يُمكن أنْ يكون المراد بثلاثة من التسعة رفع كل الآثار ، وبالستة الاخرى : رفع المؤاخذة فقط .

وعلى أي حال : فهذا الحديث شاهدٌ على ما استظهرناه نحن من حديث الرفع بأنّ المراد منه : رَفعُ كلّ الآثار .

الثاني : ممّا يمكن أنْ يُستدّل به على إرادة رفع كل الآثار في حديث الرفع ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( وممّا يؤيّد إرادة العموم ) في حديث الرفع ( : ظهور كون رفع كل واحد من التسعة : من خواصّ امّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) إذ الظاهر إنّ كل واحد واحد من هذه التسعة إنّما رفع عن أمّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم، ولم يرفع عن الامم السابقة أي واحد من هذه التسعة .

وهذا إنّما يتمُّ إذا أُريد به رفع كلّ الآثار ( إذ لو إختصّ الرّفع بالمؤاخذة ، أشكل

ص: 346

الأمرُ في كثير من تلك الامور ، من حيث انّ العقلَ مستقلٌّ بقبح المؤاخذة عليها ، فلا اختصاصَ له باُمّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على ما يظهر من الرواية .

-------------------

الأمر ) أي : أُشكل أمرُ إختصاص رفع هذه التسعة بهذه الأُمّة ( في كثير من تلك الاُمور ) كالخَطأ ، والنِسيان ، وما لايُطاق ، وما اُضطروا إليه ، وما لايَعلَمون .

وإنّما يشكل ذلك ( من حيث إنّ العقلَ مستقلٌّ بقبح المؤاخذةِ عليها ) في جميع الاُمم ( فلا إختصاص له ) أي : لرفع مؤاخذة هذه الامور ( بأُمّةِ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على ما يظهر ) ذلك الاختصاص ( من الرّواية ) لأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : رُفعَ عَن أُمتي تِسعة .

وعليه : فاذا كان المرفوع : كلّ الآثار في هذه التسعة كان من اختصاص أُمّةِ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أما إذا كان المرفوع : المؤاخذة فقط ، فذلكَ غير مُختَصٌ بأمتهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ يقبح عقلاً أن يؤاخذ اللّه الانسانَ بخطأ خارج عن إرادتهِ ، أو نسيان كذلك ، أو يؤاخذه بما لايعلم مع عدم إختياره المقدمات أيضاً ، أو يؤاخذه على ما لاطاقة له به ، كالطيران إلى السماء ، أو على ما اُضطُرَ إليه ، كما إذا أوجرَ شخصٌ في حَلق الانسان الخَمْرَ بدون اختياره ، فانّ الاضطرار معناه ذلك ، ولذا قال سبحانه : « ثم نَضطَرُّهُم إلى عذابٍ غَليظ » (1) مع وضوح : انّ الادخال في النار ليس باختيارهم .

لايقال : الرفع خاص بالمؤاخذة ، لكنّ المرفوع من اُمّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم

ص: 347


1- - سورة لقمان : الآية 24 .

والقولُ بأن الاختصاص باعتبار رفع المجموع وإن لم يكن رفع كلّ واحد من الخواصّ شططٌ من الكلام .

لكنّ الذي يهوّن الأمرَ في الرواية جريانُ هذا الاشكال في الكتاب العزيز أيضا فانّ موارد الاشكال فيها ، وهي الخَطأ والنِسيان وما لا يُطاق وما اضطُرّوا إليه ، هي بعينها ما استوهبها

-------------------

هو المجموع من حيث المجموع ، فرفع المجموع من حيث المجموع خاص بامّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وانْ كان بعضها مرفوعاً أيضاً عن سائر الأُمم .

لأنه يقال : ( والقول بأنّ الاختصاص باعتبار رفع المجموع ) من حيث المجموع ( وإنْ لم يكن رفع كلّ واحد من الخواص شطط من الكلام ) أي : كلام بعيد عن الحق ، إذ لا معنى لضم ما يختص بامّة الرسول بما لايختص بها ، وجعل المجموع من خواص اُمّة الرسول باعتبار كون البعض من خواصها ، فاذا كان لزيد - مثلاً - كتاب الشرايع ، ولعمرو الشرايع وشرح اللمعة لايصح أن يقال : الشرائع وشرح اللمعة خاصٌ بعمرو .

وكيف كان : فقد ظهر من هذا الكلام : انّ الحديث ظاهر في رفع جميع الآثار ، لا رفع المؤاخذةِ فقط ، غير انّ المصنّف أجابَ عن هذا الاشكال الذي يريد تعميم الرفع لكل الآثار لا المؤاخذة فقط بقوله :

( لكن الّذي يهوّن الأمر في الرّواية ) ولا يدعُ موضعاً للإشكال فيها ( : جريانُ هذا الاشكال في الكتاب العزيز أيضاً ) وحيث إنّ الاشكال غير وارد على القرآن الحكيم ، فلا بدّ ان لايرد على الرواية .

( فانّ موارد الاشكال فيها ) أي : في الرواية ( وهي : الخَطأ ، والنِسيان ، وما لايطاق ، وما اُضطُرّوا اليه ، هي بعينها ما استوهبها ) أي : طلب هبتها والعفو عنها

ص: 348

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من ربّه ، جَلّ ذكره ، ليلة المِعراج ، على ما حكاه اللّه تعالى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في القرآن بقوله تعالى : « رَبّنا لا تؤاخِذنا إن نَسِينا او أخطَأنا ، رَبَّنا ولا تَحمِل عَلَينا إصرا ، كما حَمَلتَهُ عَلى الَّذينَ مِنْ قَبلِنا » .

والذي يحسم أصلَ الاشكال منعُ إستقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الامور بقول مطلق ،

-------------------

( النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من ربّه جَلّ ذكره ليلة المِعراج ) .

فإنّه يقال : كيف طلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم العفُو عن هذه الاُمُور ، مع انّ هذه الاُمور لا مؤاخذة عليها عقلاً ؟ فلا وجه للاستيهاب من اللّه سبحانه وتعالى فيما لا مؤاخذة عليها ، إذ هل يصحّ طلب عدم معاقبة الذين لايقدرون على الطيران إذا لم يطيروا بدون الأسباب ؟ أو هل يصحّ طلب موهبة الذين لايتمكنون من جمع النقيضين ؟ أو ما أشبه ذلك ؟ .

والحاصلُ : انّ المصحّح لإستيهاب هذه الاُمور في الآية المباركة ، هو المصحّح لجعل رفعها منّة على الامة ( على ما حكاه اللّه تعالى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم في القرآن ) الحكيم ( بقوله تعالى : « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنَا إنْ نَسينَا أو أخطأنا ، رَبَّنا وَلا تَحمِل عَلَينا إصراً كَمَا حَملتَهُ عَلى الّذينَ مِنْ قَبلِنا ) ربَّنا ولا تُحَمّلنا ما لاطاقةَ لنَا بهِ » (1) والمعنى : لاتكلّفنا ما لا نطيقه .

( والّذي يحسم أصل الاشكال ) أي : يقطع أصل هذا الاشكال القائل : بأنّه كيف طلبه النبي ؟ وكيف وَرَدَ في الرواية ؟ هو : ( منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الاُمور بقول مطلق ) وانّما العقل يرى : قبح المؤاخذة على هذه

ص: 349


1- - سورة البقرة : الآية 286 .

فانّ الخَطأ والنّسيان الصادرين مِن تركِ التحفُّظ لا يقبح المؤاخذةُ عليهما ، وكذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط ، وكذا في التكليف الشاقّ الناشي عن إختيار المكلَّف .

-------------------

الامور في الجملة ، فيكون طلب الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما لايقبح العقل المؤاخذة عليه ، كما انّ الرواية وردت أيضاً في رفع ما لايقبح العقل المؤاخذة عليه .

( فانّ الخَطأ والنّسيان الصادرين مِن تركِ التحفُّظ لايقبح المؤاخذة عليهما ) وإنّما يقبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان اذا لم تكن مقدماتهما باختيار الانسان .

( وكذا ) لايقبح ( المؤاخذة على ما لايعلمون مع إمكان الاحتياط ) فيه .

( وكذا ) لايقبح ( في التكليف الشاق النّاشيء عن اختيار المكلّف ) فإنّ الانسان إذا لم يهتم بشيء نسيه ، وإذا لم يعبأ بأمر أخطأ فيه ، وإذا لم يَعلم حكما جهله ، واذا لم يهتم بالاحتياط في مورد العلم الاجمالي ، غير الملزم ، تركه ، كما إذا كان أحد الأطراف خارجاً عن محلّ ابتلائه ، أو كان مضطراً اليه ، أو غير مقدور له ، أو غير موجب للتكليف ، فإنّه يتمكن من الاجتناب عن الطرف الآخر بالاحتياط فيه ، لكنّه يتركه ، فانّ هذه الامور وأمثالها كانت لازمة في الشرائع السابقة حيث لايحكم العقل بقبح المؤاخذة عليها ، فطلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم رفعها كما في الآية المتقدِّمة ، وورد رفعها في الحديث أيضا بمعنى : رفع المؤاخذة عليها .

إذن : فلا يرد الاشكال على ظاهر الآية : بأنّه كيف طلب رفعها ؟ ولا على الحديث : بأنّه كيف ذكر رفعها ، والحال انّ وضعها والمؤاخذة عليها خلاف العقل ؟ لأنّك قد عرفت : انّ الوضع والمؤاخذة في مثل هذه الامور ليس خلاف العقل .

ص: 350

والمراد بما لا يطاق في الرواية هُوَ ما لا يحتمل في العادة ، لا ما لا يقدر عليه أصلاً ، كالطيران في الهواء ، وأمّا في الآية فلا يبعد أن يراد به العذابُ والعقوبةُ ، فمعنى « لا تُحمّلنا مَا لا طاقَةَ لَنا بهِ » : لا تُورِد علينا ما لا نطيقه من العقوبة .

-------------------

ثم لبيان معنى « ما لايطيقون » قال المصنّف : ( والمراد بما لايطاق في الرّواية : هُوَ مالا يُحتَمَل في العادة لا مالايقدرُ عليه أصلاً كالطيران في الهواء ) فالمراد به الشيء الممكن لكنْ مع حرج شديد ومشقة عظيمة ، فانّه لايقبح المؤاخذة عليه .

( وأمّا ) المراد من « مالا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » الذي استوهبه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من اللّه سبحانه وتعالى كما ( في الآية ) المباركة المتقدّمة ( : فلايبعد أن يراد به : العذاب والعقوبة ) الآخروية ، لا التكليف الشاق الذي ذكرناه في الحديث ( فمعنى : « لا تُحمِّلنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بهِ » (1) : لا تورد علينا مالا نطيقه من العقوبة ) .

هذا ، ولكنّا لم نعرف وجه استظهار المصنّف هذا المعنى من الآية المباركة ، فان ظاهر الآية كظاهر الحديث : مايشقّ على الانسان تحمله ، ويؤيد ذلك بعض الأحاديث الواردة في المقام : فعَن عمران بن مَروان قَال : سَمِعْتُ أبَا عَبد اللّه ِ عليه السلام يقول : قَالَ رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : رُفعَ عَنْ أُمَتي أَربعة خِصال : خَطأَهَا ، وَنِسيانَها ، وَمَا اُكرِهُوا عَليهِ ، وَمَا لايُطيقُونَ ، ذَلِكَ قَولُ اللّه ِ عزّ وجلّ : « رَبَّنا لا تُؤاخِذنا » (2) الآية ، وَقَوله سُبحانه : «« إلا مَنْ اُكرهَ وَقلبُهُ مُطمئنٌ بالايمان » (3) » (4) .

ص: 351


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - سورة البقرة : الآية 286 .
3- - سورة النحل : الآية 106 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص462 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج4 ص373 ب12 ح5428 (بالمعنى) .

وبالجملة : فتأييدُ إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الاشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيفٌ جدا .

-------------------

وفي حديثٍ آخر عَنْ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال للّه سُبحانه وتَعالى لَمّا سَمِعَ ذلك : « أما إذا فَعَلْتَ ذلكَ بِي وَبأُمتي فَزدنِي ، قَال : سَل ، قال : «رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إنْ نَسِينَا أو أَخْطأنَا » قال عزّ وجلّ : لَسَتُ أُؤاخذُ أُمّتك بالنِسيان وَالخَطأ لِكرامَتِكَ عَليَّ ، وكانتْ الاُمم السالِفَة إذا نَسوا ما ذُكّروا بهِ فَتَحتُ عَليهِم أبوابَ العَذابِ ، وَقَدْ رَفعتُ ذَلِكَ عَن أُمَتك ، وَكانَت ألأُمم السالِفَةُ إذا أَخطَأوُا أُخِذُوا بالخَطأ وَعُوقِبُوا عَلَيه ، وَقَدْ رَفَعتُ ذَلِكَ عَنْ أُمَتِكَ لِكَرامَتِكَ عَليَّ .

فَقالَ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أعطَيتَني ذَلكَ فَزدني ، فقال اللّه تعالى لهُ : سَل ، قال : «رَبَنا وَلا تَحمِل عَلَينا إصراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذينَ مِن قبلِنا » - يعني بالاصر : الشدائد التي على من كان قبلنا- فأجابه اللّه إلى ذلك ، فقال تَباركَ اسمه : قد رفعتُ عن اُمتِكَ الآصار التي كانت على الاُمم السالفة ، ثم ذكر اللّه الآصار التي كانت على الاُمم السالفة واحداً بعد واحد » ، وفي موضع آخر من نفس هذا الحديث ، وَرَدَ بعد ذكر الآصار ، إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « إذا أعطيتني ذلك كلّه فَزدني ، قال : سَلّ ، قال : « رَبَنا ولا تُحمِّلنا مَا لاطَاقَةَ لَنا بِه » (1) ، قال تَبارَكَ اسمه : فَعَلْتُ ذَلكَ بامّتِكَ قَدْ رَفعتُ عَنهُم عظَم بَلاءِ الاُمَم ...» (2) .

( وبالجملة : فتأييد إرادة رفع جميع الآثار ) تأييداً ( ب- ) سبب ( لزوم الاشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ) كما عرفت ( ضعيف جدّاً ) فقد تقدّم :

ص: 352


1- - سورة البقرة : الآية 286 .
2- - بحار الانوار : ج92 ص270 ب30 ح20 بالمعنى .

وأضعفُ منه وهنُ إرادة العموم بلزوم كثرة الاضمار وقلة الاضمار أولى وهو كما ترى ،

-------------------

انّه لاتقبح المؤاخذة عليها عقلاً ، وعلى هذا فلا مانع من إرادة نفي خصوص المؤاخذة ، فانّ رفعها في كل واحد من التسعة منّة على هذه الامة فلا حاجَةَ لَنا إلى تقدير جميع الآثار .

أقول : لكنّكَ قد عرفت : انّ الظاهر هو : رفع جميع الآثار ، وإنّ الاختصاص بالمؤاخذة من غير مخصص .

( وأضعف منه ) أي : من التأييد السابق ( : وهن إرادة العموم : بلزوم كثرة الاضمار ) فانّ المصنّف لَمّا ذكر المؤيدين السابقين لإرادة نفي جميع الآثار وضعفهما ، بدأ ببيان موهنات ثلاثة لإرادة نفي جميع الآثار ثم ضعفها جميعاً وتلك الموهنات هي :

أوّلاً : ان إرادة نفي جميع الآثار يحتاج إلى كثرة الاضمار ، ومن المعلوم إنّ كثرة الاضمار أبعد مِنْ قلّة الاضمار ، فاذا دار الأمر في كلام بين قِلة الاضمار فيه أو كثرته ، قُدّم قلّة الاضمار ، لأن الاضمار خلافُ الأصل ، فكلّما كان خلاف الأصل أقلُّ كان أولى ، وأمّا انّه يستلزم كثرة الاضمار : فلأنه يلزم أن يقدر رفع : المؤاخذة ، والقصاص ، والجَلد ، والرَّجم ، والحدّ ، والكفارة ، والقضاء ، والاعادة ، والفدية ، وحصول النقل والانتقال ، وما أشبه ذلك في موارد الخطأ ، والنسيان ، الى آخره .

( وقلّة الاضمار أولى ) وذلك بأن يقدر المؤاخذة فقط .

( و ) لكن هذا الموهن لجميع الآثار ( هو كما ترى ) فانه غير تام ، إذ إرادة رفع جميع الآثار يحصل بتقدير لفظ واحد أيضاً وهو : كلمة الآثار ، فسواء قال : رفع جميع الآثار ، أم قال : رفع المؤاخذة كان المضمر كلمة واحدة .

ص: 353

وإن ذكره بعضُ الفحول .

ولعلّه أراد بذلك أنّ المتيقن رفع المؤاخذة ، ورفع ما عداه يحتاج إلى دليل قطعي .

وفيه : أنّه إنّما يحسن الرجوع إليه بعد الاعتراف باجمال الرواية ، لا لاثبات ظهورها في رفع المؤاخذة ،

-------------------

( وإن ذكره ) أي : ذكر هذا الموهن ( بعض الفحول ) وهو العلامة على ما نُسب إليه .

( ولعلّه ) رحمه اللّه لم يقصد من لزوم كثرة الاضمار : كثرته من حيث اللّفظ بل من حيث المعنى أي : ( أراد بذلك : انّ المتيقّن رفع المؤاخذة ، ورفع ماعداه يحتاج الى دليل قطعي ) مفقود في المقام .

( و ) لايخفى ما ( فيه ) أي : فيما لو أراد العلاّمة من كثرة الاضمار : الكثرة من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، وذلك ( انّه ) الضمير للشأن ( إنّما يحسن الرّجوع اليه ) أي : الى المتيقن ( بعد الاعتراف باجمال الرّواية ) والرواية ليست مُجملة ( لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة ) فانّه إذا كانت الرواية مجملة لابدّ لنا من الأَخذ فيها بالقدر المتيقن كما هي القاعدة ، أمّا إذا كانت الرواية ظاهرة فلا معنى للأخذ بالقدر المتيقن فيها .

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم العالم ، وكان العالم مجملاً بين شمول علماء الفقه فقط أو مع علماء الاصول ، والعربية ، والطب ، والهندسة ، نأخذْ هُنا بالقدر المتيقن ، لأنّ العالم مُجمل في كلامه ، أما إذا قال : « الماءُ طاهرٌ » والماء يشمل كلّ أقسام المياه من : البحر ، والبئر ، والنَزيز ، والمَطر ، ونحوها ، فلا معنى لأن نقول : إنّ القدر المتيقن من الماء هو ماء البحر - مثلاً- لأن الظهور يُوجب الأخذ بالجميع .

ص: 354

إلاّ أن يُراد إثباتُ ظهورها ، من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذ يوجبُ عدمَ التخصيص في عموم الأدلّة المثبتة لآثار تلك الامور وحملها على العموم يوجبُ التخصيص فيها .

-------------------

ولا يخفى : انّ الفرق بين كون الرواية ظاهرة في رفع المؤاخذة - كما إدعاه المصنّف - وبين كونها مُجملة ، وان رفع المؤاخذة متيقن - كما نُسبَ الى العلاّمة - هو انّه على الأوّل : يحكم بأنّ المراد من الموصول في « مالا يعلمون » : الفعل - كما تقدّم - أما على الثاني : فهو يَشمل الفعل وَالحكم ، فيشمل الموصول في : « مالا يعلمون » الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً ، وهذا هو الذي رجّحناه .

الثاني من الموهنات الثلاثة التي ذكرها المصنّف لإرادة نفي جميع الآثار هو ما أشار اليه بقوله : ( إلاّ أن يُراد : إثبات ظهورها ) أي : ظهور الرّواية في رفع المؤاخذة ( من حيث إنّ حملها على خصوص المؤاخذة ، يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك الامور ، وحملها على العموم يوجب التّخصيص فيها ) أي : في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك الامور .

فانّ التكاليف إذا أخطأ العَبدُ فيها ، أو نَسيَها ، أو إضطر إليها ، لَها آثارٌ كثيرةٌ جداً ، فاذا حَملنا حديث الرَّفع على المؤاخذة فقط ، كان المرفوع : المؤاخذة ، فيكون التخصيص في تلك العمومات قليلاً ، لأنّ سائر الآثار باقية على حالها ، أمّا إذا حملنا الحديث على رفع جميع الآثار ، وجَبَ التخصيص في كل تلك الآثار بسبب الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما .

ومن المعلوم : انّ قلة التخصيص أولى من كثرته ، فاذا كان - مثلاً - : كلمة الفاسق عَلَماً لشخص ، وله معنى لغوي يشمل كُلّ عاصٍ ، فقال المولى : أكرم العلماء ولا تُكرم الفاسق ، وتردّد الفاسق بين أنْ يكون المراد به : العلمي ، فالخارج

ص: 355

فعمومُ تلك الأدلّة مبيّنٌ لتلك الرواية ،

-------------------

من أكرم العلماء شخص واحد ، وان يكون : الوصفي ، فالخارج منه عشرة ، لفرض وجود عشرة من العلماء الفسّاق ، كان أكرم العلماء دليلاً على إرادة الفاسق العلمي ، لأن التخصيص حينئذ أقل .

ومثال المقام : من نسي الطهارة وَجَبَ عليه إعادة الصلاة ، وقضاؤها ، والمؤاخذة ، كما نرى في الموالي العرفية ذلك ، فانّهم يؤاخذون الناسي لأوامرهم .

وكذا من قَتَل مُسلماً خطأً وَجَبَ عليه الكفارة ، والدية ، والصيام ، والمؤاخذة .

فيدور أمرُ حديث الرفع بين رفع المؤاخذة فقط وبقاء سائر الآثار ، وبين رفع كل الآثار وحيث إنّ الأوّل أقل تخصيصاً يقدَّم على الثاني : لأن العام شمل الجميع ، فاذا تردّد المخصّص بين الأقل والأكثر حُمِلَ على الأقل .

هذا ، ولكنّا ذكرنا : انّ الظاهر من الحديث هو : رفع كل الآثار ، فلا مجال للقول بإجمال المخصّص ودورانه بين الأقَل والأكثر حتى يقال : بان التخصيص الأقل أولى من الأكثر ، فيكون العام دليلاً على كون المخصص يراد به الأقل .

وعلى أي حال : ( ف- ) عند المصنّف ( عموم تلك الأدلة ) التي أطلقت الآثار لتلك الأشياء ، مثل إطلاق أدلة آثار الصلاة وغيرها ( مبيّن لتلك الرّواية ) ومراد المصنّف بالعموم : أَعمُ من العموم والاطلاق ، فانَّ أصالة العموم وأصالة الاطلاق في الأدلة المثبتة للأحكام والآثار للصلاة ، والصوم ، والحج ، والقتل ، وما أشبه ، تكون قرينة على ان المرفوع في هذه الرواية المخصصة ، الدالة على رفع تسعة اُمور عن الامة هو المؤاخذة فقط .

ص: 356

فانّ المخصّص إذا كان مُجملاً من جهة تردّده بين ما يوجب كثرة الخارج وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العامّ بالنسبة إلى التخصيص المشكوك فيه مبيّنا لاجماله ، فتأمّل .

وأضعفُ من الوهن

-------------------

( فانّ المخصّص ) كحديث الرفع - مثلاً - ( إذا كان مُجملاً من جهة تردّده بين ما يُوجب كثرة الخارج ، وبين ما يوجب قلّته ، كان عموم العام ) وإطلاق المطلق ( بالنسبة الى التخصيص المشكوك فيه ) والتقييد المشكوك فيه : بانّه هل التخصيص والتقييد للأفراد الأكثر ، أو للأفراد الأقل ؟ ( مبيّناً لاجماله ) أي : لاجمال ذلك المخصّص والمقيّد .

( فتأمّل ) لعلّه إشارة الى ماذكرناه : من كون الظهور في العموم والاطلاق ، أو اشارة الى ان ظهور العام وإطلاق المطلق لا يرفع إجمال المخصّص الدائر أمره بين الأقل والأكثر ، بل المخصّص والمقيّد يبقى على إجماله ، وإنّما يحمل ما نحن فيه على إرادة المؤاخذة فقط ، من باب ان المؤاخذة هي القَدَر المتيقن ، لا من باب الظهور .

وعليه : فالعام والمُطلق لايبينان المراد من المُجمل حتى يكون للمخصّص والمقيد ظهور في الأقل ، وإنّما يؤخذ بالقَدر المتيقن من المخصّص والمقيّد .

ثم إنك قد عرفت : انّ المصنّف ليس بناؤه العموم في حديث الرفع ، وانّما يخصّصه برفع المؤاخذة فقط ، لكنّه رحمه اللّه ذكر : إن جماعة ذكروا الموهنات للعموم ، وحيث لم يرتض المصنّف تلك الموهنات قام بتصنيفها وردّها ، وقد ردّ موهنين منها بعد ذكرها .

الثالث من تلك الموهنات للعموم هو ما أشار اليه بقوله : ( وأضعف من الوهن

ص: 357

المذكور وهن العموم بلزوم التخصيص بكثير من الآثار بل أكثرها ، حيث انّها لا ترفع بالخطأ والنسيان وأخواتهما ، وهو ناش عن عدم تحصيل معنى الرّواية كما هو حقّه .

-------------------

المذكور ) المتقدِّم ( وهن العموم بلزوم التّخصيص بكثير من الآثار ، بل أكثرها ) فانّه لو كان المراد : رفع جميع الآثار ، كان حديث الرفع نفسه مورداً للتخصيص الكثير ( حيث انّها ) أي : تلك الآثار ( لاترفع بالخطأ ، والنسيان ، وأخواتهما ) .

فانّه لو كان المرفوع : كل الآثار ، لزم أن لايكون للسهو في الصلاة سجدة خاصة ، ولا الخطأ في إفطار رمضان بزعم الغروب أو بزعم عدم طلوع الفجر موجباً للقضاء ، ولا الخطأ في القتل موجباً للديّة ، وهكذا ، والحال إنّا نرى : إنّ هذه الآثار ثابتة للخطأ ، والنسيان ، ونحوهما من سائر ما ذكر في حديث الرفع ، وهذا دليل على أن المرفوع : المؤاخذة فقط .

( وهو ) أي : هذا التوهم : بأن حديث الرفع لو كان شاملاً لكل الآثار وجب التخصيص الكثير فيه ( ناشٍ عن عدم تحصيل معنى الرّواية كما هو حقه ) فانّه سواء أُريد بالرواية المؤاخذة ، أو كل الآثار ، لايكون موجباً لرفع آثار الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما ، ممّا رتب على الخطأ بما هو خطأ ، وعلى النسيان بما هو نسيان ، وإنّما يرفع الآثار المرتبة على الصلاة والصيام ونحوهما ، بما هي صلاة ، وصوم ، ونحوهما .

فانّ الدليل الشرعي قد يدلّ على أثر للصلاة بما هي صلاة ، كما اذا قال الدليل : الجَهر واجب في صلاة الصبح .

وقد يدلّ الدّليل على أثر للصلاة بشرط الخطأ فيها ، فيكون موضوع الأَثر : الصلاةُ المشروطةُ بالخَطأ كما إذا قال الدليل : الصلاة المَسهُوّ فيها تحتاج

ص: 358

فاعلم أنّه إذا بنينا على عموم رفع الآثار ، فليس المرادُ بها الآثارَ المترتّبة على هذه العنوانات من حيث هي ، إذ لا يُعقل رفعُ الآثار الشرعيّة

-------------------

الى سجدتي السهو .

وقد يدلّ الدليل على أثر للصلاة بشرط عدم الخطأ فيها ، فيكون موضوع الأَثر : الصلاة التي لم يخطأ فيها ، كما إذا قال الدليل : إنّ الصلاة التي لم يخطأ فيها الإمام تكون واجبة المتابعة للمأموم ، أما إذا أخطأ الإمام فيها ، بأنْ نسي التشهُدَ - مثلاً- فاللازم على المأموم أن يتشهد بنفسه ، لا أنْ يتبع الإمام في القيام بعد السجدة الثانية قبل التشهد .

وهكذا بالنسبة الى القتل : فالقتلُ المشروط بالعمد : عَليه القصاص .

والقتلُ المشروط بعدم العمد : عَليِه الديّة .

والقتل بما هو قتل : له كذا من الحكم كالكفارة - مثلاً- .

اذا عرفتَ ذلك قُلنا في جواب هذا الموهن للعموم : ( فاعلم : انّه إذا بنينا على عموم رفع الآثار ) في حديث الرفع ، فانَّه مع ذلك لايشمل الحديث بعض أصناف الآثار قطعاً .

( فليس المراد بها ) أي : بالآثار المرفوعة ( الآثار المترتبة على هذه العنوانات ) أي : عنوان الخطأ ، وعنوان السهو ، وعنوان الاضطرار ، ونحوها ( من حيث هي ) فانّ الشارع جعل لنفس هذه العناوين آثاراً مخصوصة ، كما مثّلنا بسجدتي السهو أَثراً للنسيان في الصلاة ، والقضاء أثراً للخطأ في الأكل قبل الفحص عن الغروب ، والدية أثراً للخطأ في القتل ، وهكذا .

ومن الواضح : انّ هذه الآثار لا تُرفَع بالخطأ ، والسَهو ، والنسيان ، وما أشبه ، بل انّ هذه الآثار تثبت بسبب هذه العناوين ( إذ لا يُعقل رفع الآثار الشّرعيّة

ص: 359

المترتّبة على الخطأ ، والسّهو من حيث هذين العنوانين ، كوجوب الكفارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السّهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء .

وليس المرادُ أيضا رفع الآثار المترتّبة على الشيء بوصف عدم الخطأ ، مثل قوله : « من تعمّد الافطار فعليه كذا » ، لأنّ هذا الأثر يرتفع بنفسه

-------------------

المترتبة على الخطأ ، والسّهو ، ) والنسيان ، وما أشبه ( من حيث هذين العنوانين ) أي : الخطأ ، والسهو ، وكذا سائر العناوين المأخوذة في حديث الرفع .

وتلك الآثار : ( كوجوِب الكفّارة المترتّب على قتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السّهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء ) ووجوب القضاء المترتب على الخطأ في الأكل بدون الفحص عن الفجر أو عن الغروب ، إلى غير ذلك .

( و ) كذا ( ليس المراد أيضاً ) من رفع جميع الآثار في حديث الرفع : ( رفع الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم ) هذه العناوين أي : الصلاة المشروطة بعدم ( الخطأ ) وعدم النسيان ، وما أشبه ( مثل قوله ) عليه السلام ( : من تعمّد الافطار فعليه كذا ) من الكفارة ، وقوله عليه السلام : « مَن قَتَل مُسلماً مُتعَمداً فَعلَيهِ القصاص » ، وقوله عليه السلام : « مَن زَنا مُتَعَمداً بدون اضطرارٍ ، أو نسيانٍ (1) ، أو جَهلٍ (2) ، أو ما أشبه ، فعليه الحدّ» ، الى آخر هذه العناوين المترتبة على الأشياء بوصف العمد .

وذلك ( لأنّ هذا الأثر ) ونحوه ، المترتب على مُتعمّد الفعل ( يرتفع بنفسه

ص: 360


1- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص110 ب18 وفيه ثمانية أحاديث .
2- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص32 ب14 .

في صورة الخطأ .

بل المرادُ أنّ الآثار المترتّبة على نفس الفعل لا بشرط الخطأ والعمد قد رفعها الشارعُ عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ .

-------------------

في صورة الخطأ ) ونحوه بانتفاء موضوعه ، لفرض انّ موضوعه : هو الشيء بوصف التعمد ، فاذا أخطأ الانسان ، لم يكن ذلك الأثر ، لأنه لم يكن تعمد ، فانّ الحكم يرتفع بانتفاء موضوعه ، ولا حاجة الى التمسك بحديث الرَفع في رفع هذا الأثر المترتب على الشيء بوصف التَعمُد .

والحاصل : انّ الصلاة في الشريعة لها أحكام ثلاثة :

الأوّل : الأحكام المترتبة على الصلاة من حيث السهو .

الثاني : الأحكام المترتبة على الصلاة من حيث العَمد .

وهذان الأثران لا يرتفعان بحديث الرفع .

الثالث : الصلاة بما هي صلاة ، فاذا كان للصلاة بما هي صلاة آثار ، رفع تلك الآثار حديث الرفع .

والى هذا الثالث أشار المصنّف بقوله : -

( بل المراد : أنّ الآثار المترتبة على نفس الفعل ) بما هو فعل ( لا بشرط الخطأ والعمد ) ولا بشرط النسيان والذكر ، ولا بشرط الجهل والعلم ، ولا بشرط الاختيار وعدمه ، ولا بشرط السهو وعدمه ، بل الصلاة بما هي صلاة ، فإنّ الشارع رَتَّب على الصلاة بما هي صلاة أحكاماً وحديث الرفع ( قد رفعها ) أي : رفع تلك الاحكام التي رتبها ( الشّارع ، عن ذلك الفعل ) الصلاتي فيما ( إذا صدر عن خطأ ) أو نسيان ، أو إضطرار ، أو سهو ، أو جهل ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : فان حديث الرفع يكون مخصصاً لهذا النحو من الأدلة المثبتة للآثار

ص: 361

ثمّ المرادُ بالآثار هي الآثار المجعولة الشرعيّة الّتي وضعها الشارعُ ، لأنّها القابلة للارتفاع برفعه .

وأمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة والعاديّة ، فلا تدلّ الروايةُ على رفعها

-------------------

بنحو الاطلاق أو العموم ، بدون تقيّيد للصلاة والصوم ونحوهما بالعمد أو باللاعمد .

( ثم ) إنّ هنا مطلباً آخر وهو : إنّ الأثَر المرفوع بحديث الرفع هو الأثَر الشرعي فقط ، لا الأثَر العقلي ، أو العرفي ، أو العادي .

فللصبي المميز - مثلاً - آثار ، فاستحباب الصلاة له ، اثره شرعاً ، وكونه في الحيز ، اثره عقلاً ، وانه يحترم في المجتمع ، أثره عرفاً ، وانبات اللحية له إذا وصل الى عمر كذا ، أثره عادة ، وحديث الرفع يرفع القسم الأوّل من الآثار ، لا سائر الأقسام ، لأن وضع سائر الاقسام ورفعها إنّما يكون بأسبابها الخاصة ، لا بالتشريع الشرعي ، فالشارع إنّما يرفع الأثر الذي وضعه هو ، لا الآثار العقليّة والعرفيّة والعاديّة .

ولذا قال المصنّف : ( المراد بالآثار ) المرفوعة بحديث الرفع عند مَنْ يَرى رفع جميع الآثار ( هي : الآثار المجعولة الشّرعيّة الّتي وضعها الشارع ) : من القضاء ، والاعادة ، والكفارة ، والحدّ ، والضمان ، وغيرها ( لأنّها القابلة للارتفاع برفعه ) أي : برفع الشارع .

( وأمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة ) كالكون في الحيّز ( والعادّية ) كنبات اللحية عند البلوغ ، والعرفيّة كاحترام المجتمع له ( فلا تدلُّ الرّواية على رفعها ) فمن إضطر إلى شرب الخمر - مثلاً - فشربها سكر ، والشارع لا يرفع السكر .

ص: 362

ولا رفع الآثار المجعولة المترتّبة عليها .

-------------------

وعليه : فكما لا يرتفع بحديث الرفع الآثار العقلية ، والعادية ، والعرفية بنفسها كذلك لا يرتفع بحديث الرفع أثر تلك الآثار العقليّة ، والعاديّة والعرفيّة .

ولهذا قال المصنّف : ( ولا رفع الآثار المجعولة المترتبة عليها ) أي : على الآثار العقلية ، والعرفية ، والعادية ، فاذا نذر - مثلاً - : انه كلما سكر صلّى ركعتين ، فاذا إضطر الى شرب الخمر وسكر ، لا يرتفع عنه وجوب صلاة ركعتين ، لأنّه جعل موضوع نذره : السُكر مطلقاً ، لا مقيداً بأنْ يكون السُكر مترتباً على شرب حرام ، أو جائز من جهة الاضطرار ، الى غير ذلك من الأمثلة .

ثم انّ المراد بالرفع : ما يكون له مقتضٍ وإنْ كان المقتضي ضعيفاً لا يتمكن من الأثر ، أو كان المقتضي قوياً في نفسه يتمكن من الأثر ذاتاً ، لكنْ هناك مانع يقف أمامه فلا يدعه يؤثر أَثره ، أو كان له مقتضي في الاُمم السابقة ولا مقتضي له إطلاقاً في هذه الاُمّة ، فان إطلاق الأثر على هذا القسم الثالث أيضاً صحيح .

مثلاً : النّار الضعيفة لا تحرق العود القوي لضعف المقتضي ، والنار القوية لا تحرق العود الضعيف المرطوب لوجود المانع ، والنار المستمرة في إحراق أشياء البيت من : القماش ، والخَشب ، والكتاب ، إذا وصلت الى ماء الحوض لا تحرقه ، لأن النار لم تخلق لإحراق الماء ، فليس بينهما سببية ومسببيّة ، بل الماء خارج موضوعاً .

وبهذا المعنى الثالث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ الصَبيّ وَالمَجنُون » (1) فانهما

ص: 363


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 بالمعنى ، بحار الانوار: ج5 ص303 ح13 ب14 .

ثمّ المرادُ بالرّفع ما يشمل عدمَ التكليف مع قيام المقتضي له ، فيعمّ الدفع ولو بأن يوجّه التكليف على وجه يخصّ بالعامد ،

-------------------

خارجان موضوعاً عن وضع القلم .

بخلاف رفع القلم عن المُكرَه حيث يُمكن وضع القَلَم عليه ، بأنْ يُقال له : لا تَفعَل الحرام وإنْ قَتَلَكَ المكرِه - بالكسر - وكذا على المُضطر ، بأنْ يقال له : لا تشرب الخمر وإنْ سبب المرض موتك إلى غير ذلك .

إذن : فربّما يمكن وضع القلم ، لكنْ الشارع يرفعه ، وربّما لا يمكن وضع القلم وإنّما يُطلق الرفع باعتبار أن القلم كان غير مرفوع عن زيد وعمرو وبكر ، فاذا وصل إلى خالد الصبي أو المجنون إرتفع ، وكذا كان القلم موضوعاً على أمة إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ولوط ، وإسحاق ، لكن لما وصل إلى أمة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إرتفع .

وعلى أيّ حال : فقد قال المصنّف : ( ثمّ المُراد بالرّفع ما يَشمل عدم التّكليف مع قيام المقتضي له ) أي : للتكليف ( فيعم ) الرفع في هذا الحديث ( الدفع ) فانّه قد يكون تكليف على انسان ثم يرفع عنه ، وقد لا يجعل له تكليف وإنّما يدفع التكليف عنه قبل مجيئه إليه كما قال :( ولو بأنْ يوجه التكليف على وجه يخصّ بالعامد ) فيكون عدم تكليف الجاهل ، والناسي ، ومَنْ أشبه ، من باب الدَفع حيث لم يوضع التكليف عليهم ، لا من باب الرفع ، بأن وضع عليهم التكليف ثم إرتفع ، فانّه قد يصب الماء على إنسان ثم يرتفع بَلَلَهُ بواسطة المَنْشَفَة ، وقد يمنع من صبّ الماء عليه ، وكلاهما يُطلق عليهما : الرفع .

وربمّا يطلق على الأوّل : الرفع ، وعلى الثاني : الدفع .

وإن شئتَ قُلتَ : انّ بين الرفع والدفع عموماً مطلقاً ، فإنّ كُل دفع رفع ، وليس

ص: 364

...

-------------------

كلّ رفع دفعاً ، وحديث الرفع من باب الدفع لا من باب الرفع ، لأنّه من الأوّل لم توضع التكاليف على هذه الاُمّة حتى ترفع عنها ، وَانّما دفع التكليف عنها بعدما كان مثبتاً على الاُمم السابقة .

وعليه : فقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفعَ عَن اُمتي ...» إخبار عن عدم جعل التكليف رأساً في موارد الخطأ ، والنسيان ، والاكراه ، وعدم الطاقة ، والاضطرار ، والحَسد ، والطَيرَة ، والوَسوَسةِ ، وَمالا يَعلَموُن .

والتعبير بالرفع دون الدفع لَعَلَهُ للاشارة إلى ثبوت هذه التكاليف بهذه العناوين على الاُمم السابقة ، كما ذكرنا في مثال رفع القلم عن الصبيّ والمجنون .

ولا يخفى : انّه لا تكليف في « مالا يعلمون » اطلاقاً ، لا أنّه تكليفٌ غير منجّز ، والمراد بالاطلاق : مقابل العلم الاجمالي ، حيث يُمكن جعل الاحتياط على العلم الاجمالي ، أمّا إذا لم يعلم إنسان شيئاً ، لا علماً إجمالياً ولا تفصيلياً ، وكان قاصراً ، فانّه لا يعقل وضع التكليف عليه ، إذ ما فائدة هذا التكليف من الحكيم ؟ .

لا يقال : انّ وضع التكليف عليه يفيد : انّه متى علم به ترتب عليه أثره : من القَضاءِ ، والكفَارَةِ ، ونحوهما .

لأنّه يقال : أوّلاً : نفرض انّه لم يعلم به حتى الموت ، ولم يكن له بعد موته أثر أيضاً : كقضاء ولده الاكبر - مثلاً - أو القضاء بالاستيجار له من ماله ، لانّه لا ولد ولا مال له - مثلاً - .

وثانياً : انّه إذا علم ثبت عليه تكليف بالقضاء ونحوه ، لا انه يصح التكليف عليه ، حال جهله ، كما انّ القضاء بالنسبة إلى ولده الاكبر ، أو القضاء من تركته ، تكليف جديد لا انّه تكليف كان عليه انتقل إلى غيره .

ص: 365

وسيجيء بيانه .

فان قلت : على ما ذكرت يخرجُ أثرُ التكليف في « ما لا يعملون » عن مورد الرّواية ، لأنّ إستحقاقَ العقاب أثرٌ عقليٌّ له

-------------------

لا يقال : فيه الاقتضاء في حال الجهل ، لأنّ التكليف تابعٌ للمصلحةِ والمفسدَةِ لأنّه يقال : الاقتضاء لا يسمى تكليفاً ، وكلامنا في التكليف لا في الاقتضاء .

وكيف كان : فالمراد بالرفع : الدفع ( وسيجيء بيانه ) مفصلاً إنشاء اللّه تعالى .

( فانْ قلت : ) أوّلاً : انكم قلتم : إنّ الأثر المرفوع في حديث الرفع ، هو الأثر الشرعي لا الأثر العقلي ، والحال انّ العقاب على المعصية أثر عقليّ ، لا ان الشارع جعله بالتشريع .

ثانياً : وقلتم أيضاً : ان المرفوع هو الأثر المترتب على الشيء بما هو هو ، أي : على الصلاة - مثلاً - بما هي صلاة ، لا على الصلاة المشروطة بشيء ، أو المشروطة بعدم شيء ، وفي « ما لا يعلمون » كلا الأمرين منتفيان وذلك كما يلي :

أوّلاً : انّ الصلاة المنسية - مثلاً- قُلتم : العقاب فيها مرفوع ، بينما العقاب أثر عقلي وليس أثراً شرعياً .

ثانياً : انّ العقاب مترتب على ترك الصلاة بشرط العصيان ، فترك الصلاة بشرط العصيان يترتب عليه العقاب ، وقد ذكرتم انّ المرفوع : هو أثر الصلاة بلا شرط ، فكيف تقولون إنّ الصلاة المنسية مرفوع عنها العقاب بحديث الرفع ؟ والى هذين المطلبين أشار المصنّف بقوله :

أولاً : ( على ما ذكرت يخرج أثر التكليف ) كالتكليف بالصلاة ( في « مالا يعلمون » عن مورد الرّواية ، لأنّ إستحقاق العقاب أثرٌ عقليٌّ له ) فاثر التكليف غير المعلوم كحرمة التتن - مثلاً - هو إستحقاق المؤاخذة وهو أثر عقلي

ص: 366

مع أنّه متفرّع على المخالفة بقيد العمد ، إذ مناطهُ ، أعني المعصية ، لا يتحققُ إلاّ بذلك .

وأمّا نفسُ المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعيّة .

والحاصلُ :

-------------------

وليس أثراً شرعياً حتى يرتفع بحديث الرفع ، فلا معنى للرفع بالنسبة الى « مالا يعلمون » .

ثانياً : ( مع انّه ) أي : الاستحقاق ( متفرّع على المخالفة بقيد العمد ، إذ مناطه ) أي : مناط الاستحقاق ( أعني المعصية لا يتحقق إلاّ بذلك ) أي : بقيد العمد ، فانّ إستحقاق المؤاخذة من الآثار المقيدة بالعمد ، نظير من تعمد ترك الصلاة أو تعمد الافطار ، حيث إنه مناط المعصية ، فانّ المعصية عبارة عن المخالفة العمدية ، وقد تقدّم : انّ هذا المصنّف من الأثر يرتفع بنفسه عند انتفاء العمد ، فلا حاجة في رفعه الى حديث الرفع .

ثم ان الاشكال الأوّل إنّما هو فيما إذا قلنا بانّ إستحقاق العقاب يرتفع بسبب « مالا يعلمون » .

( وأمّا ) إذا قلنا : إنَ ( نفس المؤاخذة ) ترتفع بما لا يعلمون ( ف- ) فيه : انّه ( ليست ) المؤاخذة ( من الآثار المجعولة الشرعيّة ) القابلة للارتفاع ، فانّ نفس المؤاخذة هي من فعل اللّه سبحانه وتعالى ينفذها « ملائكة غِلاظُ شِدادُ ، لا يَعصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ ما يُؤمَروُن » (1) .

( والحاصل : ) من كل ذلك هو ما يلي :

ص: 367


1- - سورة التحريم : الآية 6 .

أنّه ليس في « ما لا يعلمون » أثر مجعول من الشارع مترتّب على الفعل لا بقيد العلم والجهل حتّى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل .

قلت : قد عرفت أنّ

-------------------

أوّلاً : ( أنّه ليس في « ما لا يعلمون » أثر مجعول من الشارع مترتب على الفعل ) لأن الأثر اما هو إستحقاق العقاب ، وأما نفس المؤاخذة ، وكلاهما ليس أثراً شرعيّاً لشرب التتن - مثلاً - ، وإنّما الأول أثر عقليّ ، والثاني أثرٌ خارجي له .

ثانياً : انه لو فرضنا وجود الأثر ، لم يكن هذا الأثر ( لا بقيد العلم والجهل ، حتى يحكم الشارع بإرتفاعه مع الجهل ) وقد ذكرتم : انّ الأثر المرفوع هو الأثر الموضوع على الشيء مطلقاً لا بقيد العلم والجهل ونحو ذلك ، فحدّ شرب الخمر - مثلاً - من الآثار الشرعية المترتبة على الشرب ، ولم يكن بقيد العلم او الجهل ، فيحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل .

وكذا حدّ الزنا موضوع على الزنا لا بقيد العلم والجهل ، كما في الآية الكريمة : « الزَانِيَةُ وَالزَانِي فَاجلِدُوا كُل وَاحِد منهُما مائة جَلدَة » (1) فيحكم الشارع برفع هذا الاثر مع الجهل .

أما في المقام ، فالمؤاخذة والاستحقاق هما أثران مجعولان لترك الصلاة بقيد العمد ، فحديث الرفع لا يتمكن أن يرفع مثل هذا الأثر ولو فرضنا كونه أثراً شرعياً .

هذا وقد أجاب المصنّف عن الاشكال الأوّل بقوله : ( قلت : قد عرفت : انّ

ص: 368


1- - سورة النور : الآية 2 .

المراد برفع التكليف عدمُ توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هناك دليل يثبته لولا الرفع أم لا .

-------------------

المُراد برفع التّكليف : عدم توجيهه إلى المكلّف مع قيام المقتضي له ، سواء كان هناك دليل يثبته ) أي : يثبت التكليف ( لولا الرفع ) فيكون رفعاً ( أم لا ) بان لم يكن دليل يثبت التكليف فيكون دفعاً ، فالمرفوع ليس هو امّا المؤاخذة وامّا إستحقاق العقاب ، حتى يقال انّه ليس أثراً شرعياً ، بل المرفوع شيء آخر ممّا هو أثر شرعي ، وترتبه على الفعل بنحو « لا بشرط » ، فيكون نفيه سبباً للبرائة ونفي التكليف ، فانّه لما أمكن توجيه الخطاب الى الشاك ، ومع ذلك لم يوجّه الشارع اليه تكلّيفاً ، صدق انّه رفع التكليف عنه لما تقدّم : من انّ الرفع يشمل الأعم من الدفع .

بل قد ذكرنا نحن : صحة أنْ يقال : رفع عن الصبي وعن المجنون - أيضاً - باعتبار : انّ القلم إستمر على الناس حتى وصل إليهما فرفع عنهما ولم يستمر بالوضع عليهما وانْ لم يكن فيهما مقتضى التكليف أصلاً .

وبهذا ظهر : انه ليس المرفوع أوّلاً وبالذات رفع المؤاخذة حتى يُقال : انّ المؤاخذة ليستْ أثراً شرعيّاً فلا يكون رفعها بيد الشارع ، بل المراد : انّ منشأ المؤاخذة وهو : وجوب الاحتياط مرفوعٌ ، وإذا رفع منشأ المؤاخذة إرتفعت المؤاخذة بتبَعهِ ، من غير فرق بين أنْ يكون هناكَ دليل ، يثبت التكليف لولا الرفع مثل : « حرِّمت عليكم الميتة » (1) فان التكليف بالحرمة شاملٌ للمختار وللمضطر لكن حديث الرفع نفاه فهو رفع للتكليف ، أو لم يكن دليل يثبته : مثل من تَعَمد

ص: 369


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

فالرفعُ هنا ، نظيرُ رفع الحرج في الشريعة . وحينئذٍ فاذا فرضناه أنّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشكّ فيه ، فلم يفعل ، ولم يوجب تحصيل العلم ولو بالاحتياط ووجّه التكليف على وجه يختصّ بالعالم تسهيلاً على المكلّف كفى

-------------------

الافطار فَعَليه الكفارة والتعزير ، فانّه ليس بحيث يثبت وجوب الكفارة والتعزير على غير القادر لولا حديث الرفع فغير القادر لا تكليف ثابت عليه حتى ينفيه حديث الرفع فهو دفع للتكليف .

وعليه : ( فالرفع هنا ، نظير رفع الحرج في الشريعة ) حيث انّه يكون برفع منشأه فيرتفع هو بتبعه .

ثم أشار المصنّف إلى الجواب عن الاشكال الثاني بقوله : ( وحينئذ ) أي : حين كان رفع الأَثر برفع التكليف وكان رفعه بمعنى : عدم توجهه مع وجود المقتضي ( فاذا فرضناه : انّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التّكليف بشربِ الخمر على وجه يشمل صورة الشك فيه ) اذ لا يقبح عقلاً توجيه الحرمة بايجاب الاحتياط والاجتناب على الانسان الشاك في مايع : انّه خمر أم لا ، وانّ الخمر حرامٌ أم لا ، ومع ذلك ( فلم يفعل ) أي : لم يوجّه الشارع التحريم إلى الشاك بايجاب الاحتياط عليه .

( ولم يوجب تحصيل العلم ) بالواقع ( ولو بالإحتياط ، ووجّه التكليف على وجه يختص بالعالم ) وذلك ( تسهيلاً على المكلفّ ) فانه اذا لم يقم دليلٌ على وجوب الاحتياط ( كفى ) عَدم القيام هذا في إختصاص تحريم الخمر بالعالم وإنْ

ص: 370

في صدق الرفع .

وهكذا الكلامُ في الخطأ والنسيان ، فلا يشترط في تحقّق الرّفع وجودُ دليل يثبت التكليف في حال العمد وغيره ، نعم لو قبح عقلاً المؤاخذةُ على الترك ، كما في الغافل الغير المتمكّن من الاحتياط ، لم يكن في حقّه

-------------------

كان ظاهر قوله تعالى : « إنَّما الخَمر وَالمَيسر » (1) شاملٌ للجاهل والعالم ؛ وعليه : فعدم إيجاب الاحتياط الموجب لتحريم الخمر على الشاك ، مع وجود المقتضي - تسهيلاً عليه - يكفي ( في صدق الرفع ) مع أنه دفع ، وذلك لما عَرفت : مِن وجود المقتضي للتكليف وعدم المانع الموجب للقبح في توجيه الخطاب .

( وهكذا الكلام في الخطأ والنسيان ) فانّه لا يقبح عقلاً تحريم الخمر على الناسي والخاطيء إذا أمكنهما التَحفُظ ، فانّه إذا أمكن التحفظ ولم يكن في توجيه الخطاب قبح أصلاً ومع ذلك لم يوجه الخطاب إليهما ، كان صدق الرفع محققاً ، ولا يحتاج صدق الرفع إلى توجيه التكليف أولاً الى الكل ثم رفع هذا التكليف عن الناسي والخاطيء ، بل يكفي في صِدق الرفع : عدم التكليف بايجاب التَحَفُظ والاحتياط مع وجود المقتضي للتكليف .

إذن : ( فلا يشترط في تحقق الرّفع : وجود دليل يثبت التكليف في حال العمد وغيره ) وبذلك ظهر الجواب عن الاشكالين السابقين .

ثم إن المصنّف قال : ( نعم ، لو قبح عقلاً المؤاخذة على الترك ) أي : مؤاخذة الشارع على مخالفة التكليف ( كما في الغافل ) أو الجاهل المركب ( غير المتمكن من الاحتياط ) والناسي أو الخاطيء الذي لا يتمكن من التحفظ ( لم يكن في حقه

ص: 371


1- - سورة المائدة : الآية 90 .

رفعٌ أصلاً ، إذ ليس من شأنه أن يوجّه التكليف اليه .

وحينئذٍ فنقول : معنى رفع أثر التحريم في « ما لا يعلمون » عدمُ إيجاب الاحتياط والتحفّظ فيه حتّى يلزمه ترتّبُ العقاب ، إذا أفضى تركُ التحفّظ إلى الوقوع في الحرام الواقعيّ .

وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ، فانّ

-------------------

رفعٌ أصلاً ) وذلك لعدم إقتضاء المفسدة الواقعية توجه التكليف إلى مثل الجاهل والناسي والخاطيء ،مع عدم إمكان الاحتياط والتحفظ بالنسبة إليهم ( إذ ليس من شأنه أن يوجه التّكليف إليه ) .

أقول : لكنّك عرفت صحة نسبة الرفع بالنسبة إليهم - أيضاً - لكنْ لا بمعنى الوضع عليهم ثم الرفع عنهم ثانياً ، ولا بمعنى انّه كان متوجهاً إليهم ودفع عنهم ، بل بالمعنى المتقدِّم الذي صحَّ بسبَبه رفع القلم عن المجنون والطفل والنائِم كما في حديث آخر .

وكيف كان ، فانّه حيث أراد المصنِّف تأكيد ما ذكره : من ان الرفع في « مالا يعلمون » ونحوه ، بإعتبار إمكان إيجاب الاحتياط وإيجاب التحفظ قال : ( وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التّحريم ) وهو المؤاخذة ( في « ما لا يعلمون » ) هو : ( عدم ) توجه التحريم بواسطة ( إيجاب الاحتياط ، و ) إيجاب ( التحفظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك ) الاحتياط و ( التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي ) فمعنى الرفع : إنّه لم يوجب الاحتياط مع إمكان الاحتياط بالنسبة الى الجاهل ، ولم يوجب التحفظ مع إمكان التحفّظ بالنسبة إلى الناسي والخاطيء .

( وكذلك الكلام في رفع أثر النسيان والخطأ ) وأثرهما هو المؤاخَذَة ( فانّ

ص: 372

مرجعه إلى عدم إيجاب التحفّظ عليه ، وإلاّ فليس في التّكاليف ما يعمُّ صورةَ النّسيان لقبح تكليف الغافل .

والحاصلُ : أنّ المرتفعَ ، في « ما لا يعلمون » وأشباهه ممّا لا يشمله أدلّة التكليف ، هو إيجابُ التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعيّ ، ويلزمه ارتفاعُ العقاب واستحقاقه ،

-------------------

مرجعه إلى عَدمِ ) توجه التكليف بواسطة ( إيجاب التّحفظ عليه ) أي على الناسي والخاطيء فانه لم يوجب التحفظ عليهما حتى يترتب العقاب على المخالفة .

( والاّ ) بأنْ لم يكن معنى الرفع ذلك ، بل كان معناه : رفع التكليف بعد ثبوته ( فليس في التّكاليف ما يعمُ صورَة النّسيان ) والخطأ لوضوح : انّ عموم التكاليف لصورة النسيان والخطأ موقوف على قيام الدليل على وجوب التحفظ والاحتياط ، وقيام الدليل على ذلك مفقود ( لقُبح تكليف الغافل ) وحيث يقبح التكليف لم يدل دليل على وجوب التَحفُظ والاحتياط ، فلا يكون التكليف موجهاً إلى مثل الناسي والخاطيء والغافل .

( والحاصل :أنّ المرتفع في « مالا يعلمون » وأشباهه ممّا لا يشمله أدلة التّكليف ) وعدم شمول أدلة التكليف له إنّما هو لأن الشارع لم يوجب التحفظ والاحتياط عليه فالمرتفع فيها ( هو : ) توجه التكليف بواسطة ( إيجاب التحفّظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ، ويلزمه ) أي : يلزم عدم إيجاب الشارع التحفظ والاحتياط هذا ( ارتفاع العقاب واستحقاقه ) فمعنى رفع المؤاخذة رفع سبب المؤاخذة ، الذي هو التحفظ والاحتياط .

إذن : فلا يُقال : انّ المؤاخذة وإستحقاقها أثران عقليّان لا يمكن للشارع وضعهما ورفعهما .

ص: 373

فالمرتفعُ أوّلاً وبالذات أمرٌ مجعول يترتّب عليه إرتفاع أمر غير مجعول .

ونظيرُ ذلك ،

-------------------

لأنهُ يقال : انّ الشارع إنّما يرفع سبب المؤاخذة والاستحقاق ، والسبب هو : وجوب الاحتياط والتحفظ ، فانّ الشارع لم يوجب الاحتياط والتحفظ ، وبسبب عدم وجوبه لهما ارتفع لازمهما وهو : المؤاخذة والاستحقاق .

وعليه : ( فالمرتفع أوّلاً وبالذات أمرٌ مجعول ) والأمر المجعول هو التكليف بسبب إيجاب الاحتياط والتحفظ ، و ( يترتب عليه : إرتفاع أمرٌ غير مجعول ) وهو : الاستحقاق والمؤاخذة .

( ونظير ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ المرفوع : وجوب الاحتياط والتحفظ ، وبرفع هذا الأَثر الشرعي ارتفعت المؤاخذة اللازمة له ، هو ما ذكره من مسألة ناسي الجزء والشرط في الصلاة ، فقد قال بعض الفقهاء :

انّ الصلاة المنسي جزئها أو شرطها ، لا تحتاج الى إعادة وذلك لدليل حديث الرفع .

وردّه آخر : بأنّ هذه الصلاة تحتاج إلى إعادة ، وذلك لأنّ الاعادة مترتبة على البطلان الذي هو مخالفة لمأتي به المأمور به ، والمخالفة ليست من الآثار الشرعية لنسيان الجزء أو الشرط ، بل من الآثار العقلية ، وحديث الرفع لا يرفع هذا الاثر .

أجاب المصنّف عن هذا الرد بمثل الجواب السابق وهو : انّه لو نسي إنسان شرط الصلاة كالطهارة عن الخبث بأن صلّى في الخبث ناسياً ، أو نسي جزء الصلاة كالفاتحة بأن صلّى بلا فاتحة ، لا يلزم عليه إعادة الصلاة ، لان كلاً من الشرط المنسي أو الجزء المنسي مرفوع ، وإذا كان مرفوعاً طابق المأتي به للمأمور به ، وإذا تطابقا فقد أدّى التكليف ولا حاجة إلى الاعادة .

ص: 374

ما ربّما يقال في ردّ من تَمسّك ، على عدم وجوب الاعادة على من صلّى في النجاسة ناسيا ، بعموم حديث الرّفع من : « أنّ وجوبَ الاعادة وإن كان شرعيّا إلاّ أنّه مترتّب على مخالفة المأتي به للمأمور به الموجب لبقاء الأمر الأوّل ، وهي ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ، وقد تقدّم أنّ الرواية لا تدلّ على رفع الآثار الغير المجعولة

-------------------

وعلى هذا : فالتمسك بحديث الرفع لعدم وجوب الاعادة هو مقتضى القاعدة ، والرد عليه مردود ، واليه أشار المصنّف بقوله : ( ما ربّما يُقال : في ردّ مَنْ تَمسك على عدم وجوب الاعادة ، على من صلّى في النجاسة ناسياً ) أي في النجاسة الخبثية ، أمّا النجاسة الحَدثية : بأنْ لم يكن متوضئاً أو مغتسِلاً عن الجَنابة ، أو ما أشبه ، فاللازم عليه وجوب الاعادة .

وكيف كان : فقد تمسك بعضهم لعدم وجوب الاعادة على الناسي ( بعموم حديث الرّفع ) فجاء بعض آخر ( من ) الفقهاء وردّ هذا القائل بقوله : ( انّ وجوب الاعادة وإنْ كان ) ، أثراً ( شرعياً ) للنسيان ، وقوله : « من انّ » ، بيان لقوله : « ما ربما يقال » ، ( إلاّ ) انّ بينه وبين نسيان الجزء أو الشرط ، واسطة عقليّة ، وهو ( انّه مترتّب على ) البطلان .

ثم ان البطلان ليس أثراً شرعياً ، لانه عبارة عن : ( مخالفة المأتي به للمأمور به ، الموجب ) تلك المخالفة ( لبقاء الأمر الأوّل ، وهي : ) أي : المخالفة ( ليست من الآثار الشرعيّة للنسيان ) أي : لنسيان الجزء أو الشرط ، بل من الآثار العقليّة للنسيان ( وقد تقدّم : انّ الرّواية لا تدل على رفع الآثار غير المجعولة ) من جهة الشارع ، كالبطلان ، ونحوه ، فانّ البطلان أثرٌ عقلي وليس بأثر شرعي .

ص: 375

ولا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها هنا كوجوب الاعادة فيما نحن فيه » .

ويردّه : ما تقدّم في نظيره ، من أنّ الرّفع راجع هُنا إلى شرطيّة طهارة اللباس بالنسبة إلى الناسي ، فيقال بحكم حديث الرّفع : إنّ شرطيّة الطهارة شرعا مختصّةٌ بحال الذكر ، فيصير صلاةُ النّاسي في النّجاسة ، مطابقة للمأمور به فلا يجب الاعادة ، وكذلك الكلام في الجزء المنسيّ ،

-------------------

( ولا الآثار الشرعيّة المترتبة عليها هنا ) أي : المترتبة على الآثار غير المجعولة ( كوجوب الاعادة فيما نحن فيه ) فانّ وجوب الاعادة مترتب على البطلان ، والبطلان مترتب على ترك الجزء أو الشرط ، فهو أثر عقلي فلا يرفعه حديث الرفع ، فيلزم على قول هذا الراد : وجوب إعادة الصلاة لِمَنْ نسي جزءاً أو شرطاً ، لأن حديث الرفع لا يشمل نسيان الجزء أو الشرط .

( ويردّه ) أي : يرد هذا الراد ، فانّ الشيخ يؤيد من قال بعدم وجوب الاعادة ( ما تقدَّم في نظيره : من انّ الرّفع راجع هنا الى ) أمر مجعول أعني : ( شرطيّة طهارة اللّباس بالنّسبة إلى النّاسي فيقال : بحكم حديث الرّفع : إنّ شرطيّة الّطهارة شرعاً مختصةٌ بحال الذكر ) ولم تجعل طهارة اللباس ، أو طهارة البَدن ، شرطاً للناسي .

وعليه : ( فيصير صلاة النّاسي في الّنجاسة ، مطابقاً للمأمور به فلا يجب الاعادة ) عليه .

إذا عرفت هذا بالنسبة إلى ناسي النجاسة البدنية ، او اللباسية ،نقول : ( وكذلك الكلام في الجزء المنسي ) مثل نسيان الحمد ، والسورة ، والتسبيحات واذكار الركوع والسجود ، وما أشبه .

نعم ، نسيان الرّكن يوجب الاعادة لما ذكر في الفقِه من الدّليل عليه .

ص: 376

فتأمّل .

واعلم أيضا أنّه لو حكمنا بعموم الرّفع لجميع الآثار ، فلا يبعد اختصاصُه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الاُمّة ، كما إذا استلزم إضرار المسلم .

-------------------

( فتأمّل ) لعل وجهه : انّ الجزئية والشرطيّة ليستا عند المصنّف من المجعولات المستقلة حتى تقبلا الارتفاع ، بل هُما منتزعتان من الأمر بالمركب المشتمل على الجزء والشرط ، فالجزئية والشرطية ليستا من الأحكام المجعولة على مبنى المصنّف ، فكيف يمكن رفعهما بسبب حديث الرفع ؟ .

( واعلم أيضاً : أَنّه ) إذا قلنا بأن المرفوع : خصوص المؤاخذة ، أو الأثر المناسب لكلّ واحد واحد من التسعة ، فهو ، وأما ( لو حَكَمنا بعمُوم الرّفع لجميع الآثار ، فلا يبعد إختصاصه ) أي : إختصاص الرفع ( بما ) أي : بالأثر الذي ( لا يكون في رفعه ما ) أي : إضرار ( ينافي الامتنان على الاُمّة ) لأنّ الرواية في مقام الامتنان على جميع الاُمّة فتختص الرواية برفع الذي هُوَ مِنَّة لهم جميعاً ، وعليه : فلا يشمل الرفع الذي هو خلاف المِنّة على بعض الامّة ( كما إذا استلزم ) رفع الأَثر عن المسلم بسبب انّه ممّا لا يعلمون أو ما اضطروا اليه ، أو ما لا يطيقون ، أو ما أشبه ذلك ( إضرار المسلم ) الآخر .

وكذا إذا إستلزم ضرر من هو محترم المال ولو كان كافراً فانّ الكافر غير المحارب محترم المال حتى ماله الذي لا احترام له عندنا : كخمر الذمي ، وخنزيره مالم يتجاهر به فانّه لا يَحقُ للمسلم إتلافهما ، إلى غير ذلك من أموالهم المحترمة عندهم غير المحترمة عندنا ، فإنّ الكافر غير المحارب سواء كان ذمياً أو معاهداً أو محايداً يحترم ماله كما ذكرناه في « الفقه » .

ص: 377

فإتلافُ المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضَّمانُ ، وكذلك الاضرارُ بمسلم ، لدفع الضرر عن نفسه ، لا يدخلُ في عموم ما اضطرّوا إليه ، إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل باضرار الغير ، فليس الاضرارُ بالغير نظيرَ سائر المحرّمات الالهيّة المسوغة لدفع الضّرر .

-------------------

وعليه : ( فإتلاف المال المحترم نسياناً ، أو خطأ ) أو اضطراراً مثل : ما إذا نسي انّ المال للغير ، أو أخطأ في ضرب طير - مثلاً - فانكسر به اناء الغير ، أو إضطرارا لأجل سدّ الجوع ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه ( لا يرتفع معه الضّمان ) على المتلف ، والضمان هو أثر إتلاف مال الغير . ( وكذلك ) أي : نظير الاتلاف ( الاضرار بمسلم ، لدفع الضرر عن نفسه ) ، كما إذا توجه الضرر الى زيد ، فصَرَفَ زيد الضرر عن نفسه إلى الغير بأنْ أرادت الدولة - مثلاً - الضريبة من زيد فأخذ مال عمرو وأعطاه ضريبة للدولة ، فانّه بفعله هذا يرتكب الحرام ويكون المال مضموناً عليه ، فانّ دفع مال عمر وان كان نوعاً من الاضطرار ، إلا انّه ( لا يدخل في عموم ) قولِه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( ما اضطرّوا اليه ) .

وإنما لا يدخل في العموم ( إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل ) الذي هو مضطر ( باضرار الغير ) لأن إضرار الغير لرفع الضرر عن النفس ليس منّة على جميع الاُمّة بينما ظاهر حديث الرفع هو المنّة على جميع الاُمّة .

إذن : ( فليس الاضطرار بالغير ) لأجل الاضطرار ( نظير سائر المحرمات الالهّية ) المضطر إليها كشرب الخمر ، وأكل الميتة ، وما أشبه ( المسوغة ) بصيغة إسم المفعول ، صفة المحرمات أي : المحرمات الجائزة ( لدفع الضرّر ) .

نعم ، يُمكن أن يقال : إذا دار الأَمر بين الأَهم والمهم ، كان الضمان بدون الحرمة ، كما إِذا كان عند زيد دينار لعمرو ، فطلبه الظالم وقال : لو لم تعطني ديناره

ص: 378

وأمّا ورود الصحيحة المتقدّمة عن المحاسن في مورد حقّ الناس ، أعني العتق والصدقة ، فرفعُ أثر الاكراه عن الحالف يوجبُ فواتَ نفع على المعتق والفقراء ، لا إضرارا بهم ، وكذلك رفعُ أثر

-------------------

أحرقت دارك ، فانّه يجوز له إعطاء الدينار ، لأن حفظ داره أهم في نظر الشريعة من حفظ دينار غيره وإن كان ضامِناً له .

( و ) إنْ قلت : فكيف تمسك الإمام عليه السلام بحديث الرفع مع ان فيه إضراراً بالعبد حيث الا ينعتق ، وبالفقراء حيث لا يحصلون على المال بسبب إكراه المالك على الحلف بالعتق والصدقة ؟ .

قلت : ( أمّا ورود الصّحيحة المتقدّمة عن المحاسن (1) في مورد حقّ الّناس أعني : العتق والصّدقة ، فرفع أثر الاكراه عن الحالف ) وعدم ترتب الاثر على حلفه بالعتق والتصدُّق ، إنّما ( يوجب فوات نفع على ) العبد ( المعتق ) حيث لا يعتق ( والفقراء ) حيث لا يحصلون على المال ( لا ) انّه يكون ( إضراراً بهم ) ومن المعلوم : انّ عدم النفع غير الضرر ، فالرفع في هذا المقام عن الحالف كرهاً ليس ضرراً على الغير .

لكن لا يخفى : انّه ربّما يُعدّ عدم النفع : ضَرراً ، كما أَذا أراد بيع داره بألف حيث السوق رائج ، فحبسه ظالم حتى فَتَرَ السُوق ، وتنزلت قيمة الدار الى أربعمائة ، فانّه لا يُستبعد ضمان الظالم للستمائة ، لأنه عُرفاً قد سبَّب ضرر المالك ، وقد أشرنا إلى ذلك في «الفقه والاصول» .

( وكذلك ) أي نظير رفع أثر الاكراه عن الحالف بالعتق والصدقة ( رفع أثر

ص: 379


1- - المحاسن : ص339 ح124 ، وسائل الشيعة : ج23 ص226 ب12 ح29436 .

الاكراه عن المكرَه ، فيما إذا تعلّق الاكراه باضرار مسلم من باب عدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضّرر عن الغير ،

-------------------

الاكراه عن المكرَه ) - بالفتح - ( فيما إذا تعلّق الاكراه باضرار مسلم ) أو شخص محترم المال . كما اذا أكره الظالم زيداً بأنْ يأخذ مالاً من عمرو فأخذه ، فانه يدخل في عموم رفع ما إستكرهوا عليه ، فلا مؤاخذة على زيد تكليفاً ، كما انّه لا ضَمان عليه وضعاً لحديث الرفع .

وإنما لا يكون ضامناً ، لانه ليس من باب الاضرار بالغير وانّما ( من باب عدم وجوب تحمّل الضرّر ) على النفس ( لدفع الضّرر عن الغير ) فلا يكون ضامناً إلا في موارد الاهم والمُهم - على ما عرفت - فانّ الضرر لما كان أوّلاً وبالذات متوجهاً إلى الغير ، لا يلزم على المكرَه - بالفتّح - رفع الضرر عن الغير باضرار نفسه حتى وإنْ كان الضَرَرانِ مُتساويين ، كما إذا قال الظالم لزيد : اغصب لي ديناراً من عمرو ، وإلاّ أخذت ديناراً منك ؛ لكن لا يخفى ما في مثل هذه المسألة من اشكال .

نعم ، لا إشكال في انّه لا يجوز أن يقتل المكرَه - بالفتح - الغير ، فيما إذا قال الظالم له : إقتل زيداً وإلاّ قتلتك ، فانّه لا تقية في الدّماء وبطريق أولى لو قال : إقتل زيداً وإلاّ قطعت يدك ، فانّه لا يجوز له قتل زيد .

أمّا إذا قال : إقطع يد زيد وإلا قَتَلتَك لا يَبعُد جواز القطع بل وجوبه ، من جهة الأَهم والمُهم ، والمسألة سيالة في الدم : نفساً وطَرَفَاً ، والمال ، والعرض ، وكل واحد من الاربعة قد يدور بين المتساويين ، وقد يكون بين الأَهم والمهم وتارة : الأهم في المكرَه - بالفتح - والمهم في طرفه ، واُخرى بالعكس ، كما إنّ من المسألة : ما لو دار بين أحد الأربعة المذكورة والآخرين : كالمال والعرض ، والمال والدم وهكذا .

ص: 380

ولا ينافي الامتنانَ ، وليس من باب الاضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد ، فانّ الضررَ أوّلاً وبالذات متوجّهٌ على الغير بمقتضى إرادة المكرهِ - بالكسر - ، لا على المكرَه - بالفتح - ، فافهم .

بقي في المقام شيءْ وإن لم يكن مربوطا به

وهو أنّ النبويّ المذكور مشتمل على ذكر الطّيرة والحَسد

-------------------

هذا ( ولا ينافي ) الرفع هنا ( الامتنان ، وليس ) هو ( من باب : الاضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس ، لينافي ترخيصه ) اي : ترخيص الاضرار ورفعه ( الامتنان على العباد ) وإنما يكون هذا من باب عدم تحمل الضرر ، لا من باب الاضرار ، لانه كما قال : ( فانّ الضرر ) هنا ( اوّلاً وبالذات متوجه على الغير بمقتضى إرادة المكرِه - بالكسر - لا على المكرَه - بالفتح - ) فهو إذن ليس من باب الاضرار بالغير حتى يتنافى رفعه مع الامتنان .

( فافهم ) لعله إشارة الى أنّ المؤاخذة وإنْ كانت هنا مرفوعة ، الا انه - كما سبق - لا يبعد عدم رفع الضمان عن المكره - بالفتح - فللمتضرر الرجوع الى كل من المكرِه - بالكسر - والمكرَه - بالفتح .

( بَقي في المقامِ ) أي : فيما يَختص بالنبوي المشتمل على الرفع ( شيء وإن لم يكن مربوطاً به ) أي : بهذا المقام بالذات ، وهو الاستدلال بالنبوي على البرائة ، فانّ الكلام الذي نريد ان نتكلم فيه : هو حول الحديث نفسه ، لا حول الاستدلال به على البرائة . ( وهو : انّ النبوي (1) المذكور مشتمل على ذكر : الطّيرة ، والحَسد ،

ص: 381


1- - انظر الخصال : ص417 ، التوحيد : 353 ح24 ، تحف العقول : ص50 .

والتفكّر في الوسوسة في الخَلق ما لم ينطق الانسانُ بشفته ، وظاهرهُ رفعُ المؤاخذة على الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة .

ويمكن حملهُ على ما لم يظهر الحاسدُ أثرَه باللسان أو غيره بجعل عدم النُّطق باللّسان قيدا له أيضا .

-------------------

والتفكّر في الوسوسة في الخَلق ما لم ينطق الانسان بشفته ) الضمير في قوله : « بشفته » ، راجع إلى « من تطيّر ، وحسد ، وتفكر » ، كما نستظهره نحن من الرّواية .

أما المصنّف فقد قال : ( وظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث النبوي ( : رفع المؤاخذة على ) مطلق ( الحسد ) وهذا حسب استظهار المصنّف حيث يرى : انّ قوله : « مالم يَنطِق بشفته » ، راجعٌ إلى الجملة الأَخيرة ، أمّا حسب ما نستظهره نحن من ان قوله : مالم ينطق بشفته ، راجع إلى كل من الطَيرة ، والحَسد ، والتفكر ، فلا يأتي فيه هذا الكلام .

وعلى أي حالٍ : فالمصنف استظهر إنّ رفع الحَسد مطلق غير مقيد ، ومعناه : انّه لا يؤخذ الحسود بحسده سواء أظهر أَثره باللّسان واليد أم لا؟ فيكون معنى رفع الحسد : انّ الحسد كان حراماً في الاُمم السابقة مطلقاً ، فارتفعت حرمته عن هذه الامة مطلقاً .

هذا ( مع مخالفته ) أي : مخالفة هذا الظاهر الذي استظهرناه من لفظ الحسد في النبوي ( لظاهر ) الآيات وظاهر ( الأخبار الكثيرة ) الدالة على الحرمة والمؤاخذة على الحسد .

( ويمكن حمله ) أي : حمل النبوي الدال على رفع الحسد . ( على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره ) أي : غير اللسان ، كالاشارة ونحوها ( بجَعلِ عدم النُّطق باللسان ) المذكور في آخر الرواية ( قيداً له ) أي : الحسد ( ايضاً ) .

ص: 382

ويؤيّده تأخيرُ الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، المرويّة في آخر أبواب الكُفر والايمان من اُصول الكافي :

« قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : وُضِعَ عَن اُمَّتي تِسعَةُ أشياء : الخَطأ ، والنِسيانُ ، وما لا يَعلمُونَ ، وما لا يُطيقُونَ ، وَما اضطُرّوا إليه ، وما استُكرُهُوا عَلَيهِ ، والطِّيرَة والوَسوَسَةُ في التَفَكّر في الخَلق ،

-------------------

فلفظ الحَسد في النبوي ليس بمطلق ، بل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : ما لم ينطق بشفته ، قيد للثلاثة : الطَيَرَة ، الحسد ، والتفكر ، جميعاً ، والمعنى : انّ الحسد كان حراماً مطلقاً في الامم السابقة ، فارتفع عن هذه الامة حرمة الحسد المجرد عن اللّسان واليد .

لا يقال : كيف كان الحسد في الاُمم السابقة حراماً مطلقاً ، والحال ان فعل القلب ليس بيد الانسان حتى يكون محرّماً؟ .

لأنّه يُقال : المراد الحسد الذي هو سببه ، لا الحسد الذي يُلقى في القلب من غير إختيار .

( ويؤيّده ) أي : يؤيد كون عدم النطق المذكور في آخر الرواية قيداً للحسد أيضاً ( تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي ) وقد تَمَسْكنا أوّلاً برواية الصدوق دون هذه المرفوعة ، لأن رواية الصدوق صحيحة ، بينما رواية الهندي مرفوعة .

وعلى أي حال : فرواية الهندي مرويةٌ ( عن أبي عبد اللّه عليه السلام المروّية في آخر أبواب الكُفر والايمان من اُصول الكافي ، قال ) عليه السلام : ( قال رَسوُلُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : وُضِعَ عَن اُمَتّي تِسعَةُ أَشْيَاء : الخَطأ ، وَالنِسيانُ ، وَما لا يَعْلَمُونَ ، وَمَالا يُطيِقُونَ ، وَمَا اضطَرّوُا إليهِ ، وَمَا استُكرِهُوا عَليهِ ، والطَيَرَة ، وَالوَسوَسةِ في التَّفكر في الخلق ،

ص: 383

والحَسَدُ ما لَم يَظهَر بِلسان أو بِيَد » ، الحديث .

ولعلّ الاقتصارَ في النبويّ الأوّل على قوله : « ما لم ينطق » ، لكونه أدنى مراتب الاظهار .

وروي : « ثلاثةُ لا يَسلَمُ منها أحَدٌ ، الطِّيرَةُ والحَسَدُ والظَنُّ .

-------------------

وَالحَسَدِ مَالَمْ يَظهر بلسانٍ أو بيدٍ ، الحديث ) (1) فيكون قيد « مالم يظهر » متعلقاً بالحسد قطعاً .

وحيث انّ الحديثين واحد مآلاً ، فاللازم أنْ يقال : إنّ القيد في الحديث الأوّل وهو قوله : « ما لم ينطق بشفته » ، متعلق كما في الحديث الثاني « بالحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلق » .

لا يقال : إنّه لم يذكر في حديث الصدوق : « أو بيد » ، وقد ذكر في هذا الحديث .

لأنه يقال : ( ولَعَلّ الاقتصار في النبوي الأوّل ) الذي رواه الصدوق ( على قوله : « ما لم ينطق » ، لكونه أدنى مراتب الاظهار ) إذ الاظهار باليد أسوء من الاظهار باللسان، فهو مثل قوله سبحانه : « فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ » (2) حيث إنّ « أف » ادنى مراتب العقوق ، فيعلم حرمة الأعلى بالفحوى .

( و ) يؤيد كون الحسد المرفوع : هو الحسد مقيداً بعدم النطقّ وعدم العمل باليد - ايضاً - انّه قد ( رُوي : ثَلاثةٌ لا يَسلَمُ مِنها أحدٌ : الطَّيرَة ، وَالحَسَد ، و ) سُوءِ ( الظنّ ) فكل إنسان غير المعصوم لا بدّ أن يعرض له شيئاً من التَطَير ، أو الحَسد أو سوء الظنّ .

ص: 384


1- - الكافي اصول : ج2 ص463 ح2 .
2- - سورة الإسراء : الآية 23 .

قيل : فما نَصنعُ ؟ .

قال : إذا تَطيَّرتَ فامضِ ، وإذا حَسَدتَ فلا تَبغِ ، وإذا طَنَنتَ فلا تُحقِّق » .

والبغيُ عبارةٌ عن استعمال الحسد ، وسيأتي في رواية الخصال : « إنّ المؤمنَ لايَستَعمِلُ حَسَدَهُ » .

-------------------

( قيل ) للامام عليه السلام ( فَما نَصنَع ) إذا عَرضَ عَلينا شيئاً من هذه الثَلاثة ؟ .

( قَال ) عليه السلام : ( إذا تَطَيّرتَ فَامْضِ ) ولا تَعتَنِ بتَطَيرك وَتَشاؤمَك ( وإذا حَسَدْتَ فلا تَبْغِ ) أي : لاتَعمل حَسب ما يدعوك إليه حسدك ( وإذا ظنَنَتَ فلا تحقِّق ) (1) ظنّك بإظهار بيد أو لسان .

( والبغي ) في قوله : « فلا تبغ » ( عبارهٌ عن استعمال الحسد ) لأن البَغي هو الطلب المقترن بالعمل ، ولهذا تُسمّى المرأة الفاجرة : بالبغية ، لأنها تطلب الحرام وتفعله .

ومن الواضح : انّ وجه تأييد هذه الرواية لما ذكرناه من ان الحسد المرفوع هو المقيد بعدم إظهاره بيد أو لسان ، انّه عليه السلام نهى عن استعمال الحسد ، فيُستفاد منه : ان الحسد المرفوع حرمته هو : مالم يظهر أَثره ، وقد تقدّم : انّ في الآية الكريمة :

« وَمِن شَرِ حَاسِدٍ إذا حَسد » (2) اشارة الى هذا المعنى فانه إذا حسد ، اي اذا أظهر حسده ( وسيأتي في رواية الخصال ) ما يشير الى هذا المعنى أيضاً ، حيث يقول عليه السلام : ثَلاثةٌ لَم يَنج مِنها نَبيٌ فَمَنْ دُونِه : التَفكُرُ في الوَسوَسَةِ فِي الخلقِ ، وَالطَيَرَةِ، وَ الحَسَد : إلاّ ( إنّ المُؤمِنَ لا يَستَعمِل حَسَدَهُ ) (3) ومعنى ذلك : إن الحسد

ص: 385


1- - بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 .
2- - سورة الفلق : الآية 5 .
3- - الخصال : ص89 ح27 ، الكافي روضة : ج8 ص94 ح86 .

...

-------------------

موجودٌ في كل أحدٍ ، إلا انّ الذي آمنَ باللّه ِ وَاليومِ الآخر لا يَستَعمِلُ حَسدَهُ بيدٍ أَو لسانٍ .

وعليه : فتكون هذه الرواية قرينةٌ على انّ رواية الصدوق المتقدّمة عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، يُراد من قوله فيها : « ما لم يَنطِقُ الانسان بشفته » تقييد الحسد أيضاً ، لا تقييد الجُملة الأخير فقط .

أقول : قال بعض في تفسير هذه الرواية : إنّ مادة الحسد الموجودة في القلب حَسنة ، لأنها تُوجِبُ التقدّم من جهة التنافس ، وإنّما صورة الحسد الظاهرة بالّلسان واليد قبيحةٌ ، كمادة النار : فهي حَسَنَةٌ ، لأنّها تطهي الطعام وتنفع في تهيئة الوسائل والآلات ، وإنّما إستعمالها في الاحراق الضار قبيح ، وكذلك مادة الطَيرَة ، فانّها مادة تعدّل التفاؤل والتشاؤم في داخل الانسان ليختار الانسان بينهما الأحسن ، وإنّما صورتها الظاهرة وهو الوقوف عن العمل بسبب التطَيَرُ قبيحٌ .

وكذلك حال الوسوسة فانّها تقليب لوجوه الآراء والافكار ، وإنّما الاستمرار عليها والشك في الخالق وكيفية الخلقة قبيح .

وواضح : الأنبياء معصومون ، ولم يكونوا متَّصفين إلاّ بالصفات الحسنة من هذه الثلاثة ، دون السيئة منها .

إنْ قلت : قوله عليه السلام : « لَم يَنج فيها » الظاهر في انّها صفات سيئة .

قلت : باعتبار إن الأغلب يستعملون هذه الثلاثة في الامور السيئة جاء التعبير كذلك ، فالرواي على هذا التفسير مثل قوله تعالى : «الانسَانُ خُلِقَ هَلوُعاً»(1)

ص: 386


1- - سورة المعارج : الآية 19 .

ولأجل ذلك عَدَّ في الدّروس من الكبائر في باب الشهادة إظهارَ الحسَد ، لا نفسَه ، وفي الشرائع : « إنّ الحسدَ معصيةٌ ، وكذا الظنّ بالمؤمن ، والتظاهرُ بذلك قادحٌ في العدالة » .

والانصافُ : أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك .

-------------------

وقوله سبحانه : « إنّه كَانَ ظَلوُمَاً جَهوُلاً » (1) وغير ذلك من الآيات الكريمة .

وربّما يُقال : ان الرواية بنفسها ضعيفة السند ، فلا يستند إليها .

( ولأجل ذلك ) الذي ذكرناه : من ان إظهار الحسد حرام ، لا نفس الحسد القلبي ( عَدَّ في الدّروس من الكبائر في باب الشّهادة : إظهار الحَسد ، لانفسه ) فالحَسدُ الكامنُ في النفس لا يعدّ عصياناً .

( و ) قال المحقق ( في الشرائع : إنّ الحَسدَ معصيةٌ ، وكذا الظّنّ بالمؤمن ، والتظاهر بذلك ) أي : بكل واحد من الحسد والظنّ ( قادحٌ في العدالة ) ، ممّا يدلُ على إنّ كلاً من الحسد المجرد ، وكذلك الظنّ المجرد ، ليس بقادح في العدالة ، وعدم قدحه إما من جهة كونه معصية قلبية فقط ، بمعنى القبح الفاعلي لا الفعلي ، وامّا من جهة كونه صغيرة مرفوعة عن هذه الاُمّة .

( والانصاف : انّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك ) أي : إلى التظاهر به ممّا يدل على ان الحسد المُحرّم هو التظاهر بالحسد ، أما الحسد المرفوع عن هذه الاُمّة فهو الحسد القلبي الذي لا يظهر بيد أو لسان .

نعم ، لا شك في أنّ الحسد الذي هو عبارة عن : تمنّي زوال نعمة المحسود - في مُقابل الغِبطَة التي هي صفة حسنة ومعناها : تمني ارتفاع الانسان بنفسه

ص: 387


1- - سورة الأحزاب : الآية 72 .

وأمّا الطِّيَرَةُ ، بفتح الياء ، وقد يُسكّن ، وهي في الأصل التشاؤم بالطَّير ، لأنّ أكثر تشاؤم العرب كان به ، خصوصا الغراب .

والمرادُ ، إمّا رفعُ المؤاخذة عليها ،

-------------------

الى مستوى المغبوط - صفة سيئة يلزم على الانسان تزكية نفسه عنها ، ولها قبح فاعلي ، وإنْ لم يكن لها قبح فعلي ، والامم السابقة كانوا مأمورين بازالة هذا الحسد القلبي بسبب تزكيةِ النفس ، فلو أبقوه في قلوبهم كُتِب معصيته عليهم .

( وأمّا الطَّيَرَة - بفتح الياء وقد يسكن - وهي في الأصل ) أي : في معناها اللغوي ( التشاؤم بالطَّير ) فانّ كثيراً من الناس إذا رأوا طيراً يطير ذات اليمين أو ذات الشمال ، أو رأوا طيران يتناقران ، أو ما أشبه ، جعلوا ذلك دليلاً على حُسن ما يُريدون من العمل فأتوا به ، أو على سوئه فتركوه وإن كان لازماً وقد عزموا عليه .

ثم صار التطيّر بالغلبة إسماً لمُطلق التشاؤم ، سواء كان بالطَير أو بسائر الأشياء فإذا خرج - مثلاً من داره وهو يريد السفر ، فرأى جنازة أمامه ، يتشائم من سفره ذلك ويتركه ، ونحو هذه الامور التي لم ينزل اللّه بها من سلطان .

وإنّما سُميّ التشاؤم بالتَطَيَّر ( لأنّ أكثر تشاؤم العرب كان به ) أي : بالطير دون سائر الأشياء ، و ( خصوصاً الغُراب ) من بين الطيور ، وقد تقدّم شعر يزيد الصريح في الكفر : « نَعِبَ الغُراب فقلت صح أو لا تصح » (1) ، الى آخره .

( والمراد ) من رفع الطيرة : ( اما رفع المؤاخذة عليها ) .بمعنى : إن التطيّر كان مُحرماً في الامم السابقة ، لكن رُفِعَ عن هذه الامة حرمتها فلا يؤاخذون عليها .

ص: 388


1- - بحار الانوار : ج45 ص199 ب39 ح40 .

ويؤيّده ما روي من أنّ الطيرة شرك وإنّما يذهبه التوكّل ،

-------------------

( ويؤيّده ) أي : يؤيد كون التطيّر كان محرماً في الامم السابقة وقد ارتفع عن هذه الاُمّة ( ما روي : من انّ الطّيرة شرك ) باللّه سبحانه وتعالى ، لأن المتطيّر يرى تأثير هذا الطير أو ذلك الشيء الذي يتطيّر به على مصيره ، فهو لا يرى اللّه تعالى المؤثر الوحيد في كل اموره .

ثم انه جاء في الرواية بعد الكلام المتقدّم : ( وانّما يذهبه ) أي : يذهب التطير ويبطله : ( التّوكل ) (1) فاذا توكل الانسان على اللّه وواصل عمله ولم يعتن بتطيّره لم يكن به بأسٌ ، لأنه بعد اعتنائه هذا ، نفي الشرك باللّه سبحانه عن نفسه ، لان من الشرك ان يرى مع اللّه مؤثراً في اُموره .

والحاصل : ان هنا ثلاثة امور :

الأوّل : أن يمرّ التطيّر بخاطر الانسان من دون أن يعتقد به ، أو يرتب عليه أثره ، وهذا مرفوع عن هذه الامة .

الثاني : أن يعتقد بكونه مؤثراً في مصيره ، ويرتب عليه اثره فيتوقف عن عمله ، هذا حرام قطعي وشرك .

الثالث : ان لا يعتقد قلباً بذلك ، وإنّما يرتب عليه أثره عملاً : بان يتوقف عن عمله الذي أراد أن يعمله ، أو قولاً : بان لا يتوقف عن عمله ، لكنّه يقول : هذا غُراب ينعب فيُسبب لنا المشاكل في عملنا ، وهذا حرام لأنّه أظهره بلسان أو بعمل .

ص: 389


1- - وقد ورد في الكافي روضة : ج8 ص198 ب8 ح236 وفي وسائل الشيعة : ج22 ص404 ب35 وفي بحار الانوار : ج55 ص322 ( كفارة الطيرة التوكل ) .

وإمّا رفعُ أثرها ، لأنّ الطّير كان يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع .

-------------------

( وامّا ) ان يكون المراد من رفع الطَيَرة : ( رفع أثرها ) أي : أثر الطيرة من التشاؤم بالشر ( لأنّ الطّير كان ) بسبب التشاؤم به ( يصدّهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع ) وأمرهم بالمضي في مقاصدهم ، بدون أن يتأثروا بالتطيّر ويتخذوا منه سبباً لوقوفهم عن العمل الذي يقصدونه .

وهنا شيء آخر وهو : انّه لا يكون للطَيَرة تأثيرٌ في الخارج أيضاً ، وذلك لأن للنفس تأثير في الخارج كما لها تأثير في البدن ، أما تأثيرها في البدن : فان كلاً من النفس والبدن يؤثر في الآخر ، فاذا حزنت نفس الانسان سقم بدنه ، كما إذا سقم بدن الانسان حزنت نفسه .

وأما تأثيرها في الخارج : فقد ورد : « أنّ العَينَ لتُدخِلُ الرَجُلَ القَبرَ ، والبَعير القَدر » (1) مع وضوح : انّ العين حركة نفسية لا أكثر ولا أقل لكنها تؤثر في الخارج فتردي الذي وقعت عليه ، كما ورد : « لا تُعادُوا الأَيامَ فَتُعادِيكُم » (2) فانّ هذه الرواية مع قطع النظر عن تأويلها بالأئمة عليهم السلام ، ظاهرة في ان نفس معادات الأيام تُوجب معادات الأيام للانسان ، فاذا تَصورَ الانسان ان يوم الاربعاء - مثلاً - نحسٌ لعمل مّا ، صار ذلك اليوم نحساً عليه .

وورد أيضاً : « إنّ الروُّيا تقع على ما عبّر » (3) وقد عَبّر يوسف عليه السلام الرؤيا الكاذبة بالصلب ، مع انه لم ير رؤيا في المنام ، بل فكر في نفسه شيئاً وقال له

ص: 390


1- - بحار الانوار : ج63 ص26 ب1 ح29 .
2- - الخصال : ص394 ، معاني الاخبار : ص123 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص77 ب11 ح14804 .
3- - وسائل الشيعة : ج6 ص502 ب40 ح8549 و ح8550 ، بحار الانوار : ج61 ص174 ح34 ب44 .

وأمّا الوسوسةُ في التفكّر في الخَلق ، كما في النبويّ الثاني ، أو التكفّر في الوسوسة فيه ، كما في الأوّل ، فهُما واحدٌ ، والأوّل أنسبُ ، ولعلّ الثاني اشتباه من الرّاوي .

-------------------

بصورة الرؤيا ، فرؤياه أثّر في اليقظة ، وتفكيره أثر في الواقع .

كما ان تلك المرأة لما رأت الرؤيا وعبّر الرجل لها بموت زوجها مات زوجها ، الى غير ذلك ممّا هو بحث مفصل مذكور في علم النفس .

( وأمّا الوسوسةُ في التفكّر في الخَلقِ كما في النبوي الثاني ) (1) أي : مرفوعة الهندي ( أو التفكر في الوسوسة فيه ) أي : في الخَلقِ ( كما في الأوّل ) (2) الذي نقله الصدوق ( فهما واحدٌ ) معنىً ، لوضوح : انّه لا فرقَ بين أنْ يُقال : وَسوَسَ في تَفكرهِ ، أو تَفَكَرَ في وَسوَسته .

( والأوّل : أنسب ) إذ الوسوسة توجد في التفكر ، وإن كان الثاني صحيحاً أيضاً - على ما عرفت - فقول المصنِّف : ( ولعل الثاني اشتباه من الرّاوي ) محل تأمّل .

وربّما يقال : انّه من باب القلب في الكلام مثل عرضت الحوض على الناقة أي : الناقة على الحوض .

كما ويحتمل أنْ يكون فيه معنى النسبة ، مثل قول المتكلمين : الواجبات الشرعيّة ، ألطاف في الواجبات العقلية ، أي : بالنسبة إليها .

وعلى أي حال : فالوسوسة في التفكر أو التفكر فيها مرفوع عن هذه الاُمّة

ص: 391


1- - الكافي اصول : ج2 ص463 ح2 .
2- - الخصال : ص89 ح27 ، الكافي روضة : ج8 ص94 ح86 .

والمرادُ به - كما قيل - : وسوسةُ الشيطان للانسان عند تفكّره في أمر الخلقة . وقد استفاضت الأخبار في العفو عنه .

ففي صحيحة جميل بن درّاج قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّه يقع في قلبي أمرٌ عظيمٌ ، فقال عليه السلام : قل : لا إله إلاّ اللّهُ . قال جميل : فكلّما وقعَ في قلبي شيءٌ قلتُ لا إله إلاّ اللّه فذهب عني » .

وفي رواية حمران عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، عن الوسوسة

-------------------

( والمرادَ به كما قيل : وسوسةُ الشيطان للإنسان عند تفكّره في أمر الخلقة ) بأن يتفكر في انّه هل له خالق أو لا؟ وإذا كان له خالق فكيف يمكن أن يكون خالق لا جسم له ، ولا صورة ، ولا عرض ، ولا جوهر ، ولا ما أشبه ذلك؟ وإذا كان كذلك فمن هو خالق الخالق؟ واذا كان للخالق خالق فمن هو خالق ذلك الخالق؟ وهكذا .

والمفهوم من النبوي : انه كان حراماً في الاُمم السابقة ، ومعنى حرمته عليهم : هو الامتداد في التفكير فيه وذلك فيما إذا كان إمتداده بيد الانسان وباختياره ، وأما نفس الالقاء في القلب بدون الاختيار فليس بمحرم حتى عليهم ( وقد استفاضت الأخبار في العفو عنه ) وعدم المؤاخذة عليه ان تعمده أحد من هذه الامة ، واما ان لم يتعمده فواضح انه لا حرمة فيه ( ففي صحيحة جَميل بن دراج قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّه يَقع في قلبي أمرٌ عظيم ؟ فَقالَ عليه السلام : قل لا إله إلاّ اللّه ، قالَ جَميل : فكلما وَقَعَ في قلبي شيءٌ قُلتُ : لا إله إلا اللّه فَذهبَ عَني ) (1) ومن المعلوم : انّ المراد بالأمر العظيم أمثال ما ذكرناه .

( وفي رواية حمران عن أبي عبداللّه عليه السلام ) انّه سأله ( عن الوَسوَسة

ص: 392


1- - الكافي اصول : ج2 ص424 ح2 .

وإن كثرت ، قال عليه السلام : « لا شَيءَ فيها ، تَقُولُ : لا إله إلاّ اللّهُ » .

وفي صحيحة محمّد بن مُسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « جاء رجل إلى النبيّ ، صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فقال : يا رَسُولُ اللّه ! إنّي هلكتَ . فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : أتاك الخبيثُ ، فقال لك : مَن خَلَقَكَ ، فقلتَ : اللّه تعالى ، فقال : مَن خَلَقَهُ ؟ فقال : أي والذي بَعَثَكَ بِالحقِّ ، قال كذا فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ذاك وَاللّهِ مَحضُ الايمان » .

-------------------

وإن كَثُرتْ ؟ ) بمعنى الامتداد الزمني ، أو بمعنى التَشعُب الى فروع مختلفة ، كالوسوسة في اللّه ، وفي الرسول ، وفي الامِام ، وفي المعَاد ، وما أشبه ذلك ؟ .

( قال عليه السلام : لا شَيءَ فِيها ، تقولُ : لا إله إلاّ اللّه ُ ) (1) وكأَنَ قول لا إله إلاّ اللّه يوجب الايحاء الى النفس ببطلان تلكَ الامور التي وقعت فيها ، أو لأن الشيطان يُطرد بسبب قول لا إله إلا اللّه .

( وفي صَحيحَة مُحمّد بن مُسلم عن أبي عَبد اللّه عليه السلام : جاءَ رَجُلٌ إلى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلمفَقالَ : يا رسوُل اللّه إني هَلَكْتُ ، فَقالَ صلى اللّه عليه و آله وسلم : أتَاكَ الخَبيث ) أي : الشيطان ( فَقال لَكَ : مَنْ خَلَقَك ؟ فقُلتَ : اللّه تعالى ، فقال : مَنْ خَلقَهُ ؟ فقال ) الرَجُلُ مصدقاً للنبي : ( أي وَالّذي بَعَثَكَ بالحَقِ قال : ) لي الخبيث ( كذا ) مثل ما قُلتَ يا رسول اللّه ( فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ذاكَ واللّه مَحضُ الايمان ) (2) .

لا يقال : فكيف قال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّه محضُ الايمان؟ وهل تكون الوسوسة من محض الايمان ؟ .

ص: 393


1- - الكافي اصول : ج2 ص424 ح1 ، فقه الرضا : ص385 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح3 (بالمعنى) .

قال ابن أبي عمير ؛ فحدّث ذلك عبد الرحمن بن الحجّاج ، فقال : حدّثني أبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ رَسُولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إنّما عَنى بقوله « محضُ الايمان » خوفه أن يكون قد هَلَكَ حيث عرض في قلبه ذلك » .

وفي رواية أُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « وَالذي بَعَثَني بالحَقّ إنّ هذا لَصَريحُ الايمانِ ، فاذا وَجَدتُموهُ فقولوا : آمَنّا باللّه وَرَسُولِهِ ، وَلا حَولَ ولا قُوّةَ إلاّ باللّهِ » .

-------------------

لأنه يقال : ( قال ابن أبي عُمير : فحدّث ) أيضاً ( ذلك ) الحديث الذي حدثه مُحمّد بن مُسلم ( عبدالرحمن بن الحّجاج فقال ) بعد نَقلهِ للحديث المتقدّم : ( حدّثني أبي عن أبي عبداللّه عليه السلام : انّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إنّما عَنى بقوله ) ذلك : ( « محض الايمان » خوفه ) أي : خوف الرجل ( أن يكون قَد هَلَكَ حيث عرض في قلبه ذلك ) (1) فانّ مَن يَخافُ الهَلاك لا يكون إلاّ مؤمناً ، إذا غير المؤمن لايعتقد بهلاكه بسبب مثل هذا التفكير - كما هُوَ واضح - .

( وفي رواية اُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بعد ان سئل عن الوسوسة انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : ( والّذي بَعَثَني بالحَقّ إنّ هذا لصريحُ الايمانِ ، فاذا وجدتُمُوه ) أي : مثل هذا التفكير في النفس ( فقُولوا : آمنّا باللّه وَرَسُولِه ولا حَولَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّه ِ ) (2) .

ولعلّ المستفاد من إختلاف الروايات فيما يقوله الذي يجد في نفسه الوسوسة : انّه يصح التخلص بكلّ ما يؤدّي ذلك ، كأن يقول : لا حَولَ وَلا قُوةَ إلا باللّه ِ العلي العظيم ، أو يقول : اللّه أعبُد وَحدَهُ لا شريك له ، أو يقول : لا شريكَ لَكَ

ص: 394


1- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح4 (بالمعنى) .
2- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح4 .

وفي رواية أُخرى عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّ الشّيطانَ أتاكُم مِن قِبَلِ الأعمال ، فلم يَقوَ عَلَيكم ، فأتاكُم مِن هذا الوجه لكي يستَزلّكُم ، فاذا كان كذلك فليذكرُ أحَدُكُم اللّه تعالى وَحدَهُ » .

ويحتمل أن يُرادَ بالوسوسة في الخَلق الوسوسةُ في امور النّاس وسوء الظنّ بهم ،

-------------------

ياربّ جَلّ اسمُك وعزَّ ذكرك ، أو ما أشبه ذلك .

ولعل المُستفاد أيضاً من هذه الأحاديث أنْ يكون الأمر كذلك بالنسبة الى الوسوسة والتشكيك في الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيصح أن يقول : أشهدُ أنّ مُحمّداً عَبدُ اللّه ِ وَرَسُوله ، أو أشهد أنَّ محمّداً عَبدُ اللّه ِ وَرسولِهِ أرسلَهُ الى الناسِ كافةً ، وما أشبه ذلك ، وهكذا بالنسبة الى النبوة العامّة ، والامامة ، والعدل ، والمعاد ، لاستفادة الملاك من الأحاديث المتقدّمة وإنْ لم أرَ مَنْ تَعرضَ لها .

( وفي رواية أخرى عَنهُ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بعد أنْ سُئِلَ عَن الوسوسة فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( إنّ الشَّيطان أَتاكم من قِبَل الأعمال ، فَلم يَقوَ عَلَيكم ) أي : لم يتمكن من أنْ يصرعكم كما يصرع المصارع رقيبه ( فأتَاكُم مِنْ هذا الوجه ) أي : من وجه التفكر والوسوسة في القلب ( لكي يَستَزَلكُم ) ويوُجب وقوعكم في المعصية والكُفر ، ( فاذا كان كذلك فَليذكرُ أحدُكُم اللّه تعالى وَحدَهُ ) (1) بأنْ يقول - مثلاً : لا إله إلا اللّه ، وهذه الرواية تؤيد ما ذكرناه : من إنّ المقصود : ذكر اللّه لدفع الوسوسة التي عرضت عليه .

( ويحتمل أن يُرادَ بالوسوسة ) في التفكر ( في الخَلق : الوسوسة ) في التفكر ( في أمور النّاس ، و ) ذلك عن طريق ( سوء الظّنّ بهم ) فيكون المُراد من الخلق

ص: 395


1- - الكافي اصول : ج2 ص425 ح5 .

وهذا أنسَبُ بقوله : « ما لم ينطق بشفته » .

ثمّ هذا الذي ذَكَرنا ، هُوَ الظاهر المَعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة .

-------------------

في الرواية : المخلوق دون الخالق .

يؤيد ، وهذا المعنى ، ماتقدّم في الرِواية : من انّه ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطَيَرَة ، والحَسد ، والظنّ (1) ، وقد ذكرنا هناك انّ المراد بالظنّ : الظنّ السَيء ( وهذا أنسب بقوله : « مالم ينطق بشفته » (2) ) ولعلّ وجه الأنسبية ماذكروه : من انّ الوَسوَسةَ في أمر المخلوق ربّما يجري على اللسان ، دون الوسوسة في أمر الخلقة فانّه لا يَجري على اللسان .

لكنْ لا يخفى : ان الأَنسبية محل تأمّل ، بَلّ الأَنسب : هو المعنى المشهور المنصرف من الروايات المذكورة .

( ثمّ هذا الذي ذَكرَنا : هُوَ الظاهر المَعروف في معنى الثلاثة الأَخيرةِ المذكورة في الصحيحة ) : من الوَسوَسة في التفكر في الخَلق ، والطَيَرَة ، والحَسد .

لكنْ قيل في تفسيرها معنى آخر ، فرفع الطَيَرة - مثلاً - قالوا : يعني : تحريمها على الاُمّة ، ونهيهم عن الاعتناء والالتفات إليها أو العمل بها ، لا رفع حرمتها أو أَثرها العادي ، فلا يكون رفعها حينئذ على سياق رفع أخواتها .

كما قيل في معنى رفع الحَسد : أن الحسد الذي يخطر بالبال أحياناً ، رفع حرمته ، أما الحَسد العمدي فغيُر مَرفوع سواء أظهره أم لا ؟ .

وَهكذا قِيلَ في معنى الوسوسة : بانّه هُو التفكر في القضاء والقَدر ، وَخلق

ص: 396


1- - بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 .
2- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 .

وفي الخِصال ، بسند فيه رفعٌ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « قال ثَلاثٌ لم يَعرَ مِنها نبيٌّ فَمَن دُونَهُ ، الطِيَرَةُ والحَسَدُ والتَفَكّرُ في الوسوسةِ في الخلق » .

وذكر الصدوق رحمه اللّه ، في تفسيرها : أنّ المرادَ بالطَيرَة ، التطيّرُ بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو المؤمن ، لا تطيّره ،

-------------------

الأَشرار من مثل إبليس وغَيرهِ ، وإنّ أفعالَ العباد باختيارهم أَو بمشيئةِ اللّه ِ سُبحانه وتَعالى ، وغير ذلك من الاُمور المرتبطة بالخالق أَو بالخلق .

هذا ، ولكن قد أشرنا فيما مضى : بأن الظاهر منها هو ما ذكرناه .

ثم انّه لما كان الظاهر تطابق الفقرات الأخيرة في النبوي ، المعترضة للحسد والطَيَرة والوَسوَسة ، مع حديث الخصال الآتي ذَكَرَهُ المصنّف ليذكر توجيه الصدوق له بما لا يُنافي مقام الأنبياء وعصمتهم فقال : ( وفي الخِصال بسند ) مذكور ، لكن ( فيه رفع ) أي : ان هذا الخبر مرفوع وليس سَنده متصلاً ، فهو ضعيف السَند ( عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : ثلاثٌ لم يَعر ) أي ، لم يخلوا ( منها ) أي : من هذه الثلاثة ( نبيٌّ فَمَن دونَهُ : الطّيرة ، والحَسَدُ ، والتفكّرُ في الوسوسة في الخَلق ) (1) فانّكَ ترى إنّ هذا الحديث يتطابَق مع النبوي ، في فقراته الأخيرة بفارق : إنّ في هذا الحديث قد نسب هذه الثلاثة إلى الأنبياء أيضاً .

( وذكر الصّدوق رحمه اللّه في تفسيرها : أنّ المراد بالّطَيَرة : التطَيرّ بالنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أو المؤمن ، لا تطيّره ) أي : لا يتطير النبي نفسه ، فان النبي لا يتطير ، وإنّما يتطَيَر

ص: 397


1- - بحار الانوار : ج11 ص75 ب4 ح2 .

كما حكى اللّه ، عزّ وجل ، عن الكفّار : « قالوا اطّيَّرنا بِكَ وَبِمَن مَعكَ » .

والمراد بالحسد أن يُحسَدُ ، لا أن يَحسُدَ ، كما قال اللّه تعالى : « أم يَحسُدُونَ النّاسَ عَلى ما ءاتاهُمُ اللّهُ » .

-------------------

الكفار بالأنبياء والمؤمنين ، كما ورد في القرآن الحكيم : « يَطَّيّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ » (1) و ( كما حكى اللّه عزّوجلّ عن الكفّار ) من قوم صالح عليه السلام ، حيث انهم « قالوا اطّيَّرنا بِكَ وَبمَنْ مَعَكَ » ) (2) من المؤمنين بك .

( والمراد بالحسد : أن يُحسدَ ) بصيغة المفعول ، أي : بأنْ يكون النبي والمؤمنون محسودين ( لا أن يَحسُدَ ) النبي بنفسه بصيغة الفاعل ( كما قال اللّه تعالى : « أم يَحسُدُون النَّاسَ عَلى ما ءاتاهُمُ اللّه ُ ) من فضله » (3) بمعنى : ان الناس يحسدون الأنبياء والمؤمنين على ما ءاتاهم اللّه من فضله ، و « أم » في قوله تعالى : « أم يحسدون ..»بمعنى : بل ، كما ذكره المفسرون وغيرهم .

انتهى

الجزء السادس ويليه

الجزء السابع في تتمّة

الاستدلال بالسنّة للبرائة

ونستمد منه العون

في إتمامه

ص: 398


1- - سورة الاعراف : الآية 131 .
2- - سورة النمل : الآية 47 .
3- - سورة النساء : الآية 54 .

المحتويات

تتمّة التنبيه الثالث ... 7

اعتبار الظنون الرجاليّة... 8

الظن بالمسائل الاصوليّة... 10

التنبيه الرابع : الظنّ في التطبيقات ليس حجّة... 32

التنبيه الخامس : في اعتبار الظنّ في اُصول الدين... 43

الجهات التي يمكن ان يتكلم فيها... 47

الذي لا يجب فيه تحصيل الاعتقاد... 88

المقام الأول : في القادر... 88

المقام الثاني : في غير المتمكن من العلم... 107

التنبيه السادس : هل يترتب على الظن آثار غير الحجيّة... 138

المقام الأول : الجبر بالظن غير المعتبر... 139

المقام الثاني : في كون الظنّ غير المعتبر موهنا... 154

المقام الثالث : في الترجيح بالظن غير المعتبر وهو على قسمين... 172

القسم الاول : ما ورد النهيُ عنه بالخصوص... 173

القسم الآخر : الظنّ غير المعتبر لبقائه تحت اصالة حرمة الظنّ... 180

الترجيح بهذا الظنّ في الدلالة... 182

الترجيح به في وجه الصدور... 190

ص: 399

الترجيح به من حيث الصدور... 191

المقصد الثالث : في الشك ... 247

مبحث البراءة والاشتغال... 249

الانحصار عقلي... 282

تقسيم الاصول الاربعة... 285

الشك دون ملاحظة الحالة السابقة... 286

الشك في التكليف... 287

المطلب الأول دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب... 293

المسألة الاولى : ما لا نصّ فيه... 294

قول الاصوليين بالبراءة... 296

أدلة الاصوليين : الاول : الكتاب... 296

الثاني : السنة... 331

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.