تلخيص المفتاح
تأليف
جلال الدين محمّد بن عبدالرحمن الخطيب القزويني
(666-739ق)
مذيلاً بحواشي
آيةاللّه الأستاذ الشيخ مهدي غياث الدين النجفي
(1355-1422ق)
موضوع : سکاکی، یوسف بن ابی بکر، 555 - 626ق . مفتاح العلوم -- نقد و تفسیر
موضوع : خطیب قزوینی، محمد بن عبدالرحمن، 666 - 739 ق . تلخیص المفتاح -- نقد و تفسیر
موضوع : تفتازانی، مسعودبن عمر، 722 - 792؟ق . المطول -- نقد و تفسیر
موضوع : زبان عربی -- معانی و بیان
Arabic language -- Rhetoric
شناسه افزوده : سکاکی، یوسف بن ابی بکر، 555 - 626ق.مفتاح العلوم.شرح
شناسه افزوده : خطیب قزوینی، محمدبن عبدالرحمن، 666 - 739ق . تلخیص المفتاح.شرح
شناسه افزوده : تفتازانی، مسعود بن عمر، 722 - 792 ؟ ق . المطول. شرح
رده بندی کنگره : PJA2028
رده بندی دیویی : 808/04927
تحقيق
الدكتور علي زاهد بور
ص: 1
ص: 2
كلمة المحقّق 5
ترجمة المحشي بقلم نجله 11
والدي کما عرفته 11
ولادته - اسمه - نسبه 11
تحصيلاته 12
عودته إلی موطنه 13
مشايخه في الرواية 13
يروي عنه 13
تأليفاته 13
وفاته ومدفنه ومرثيته 15
مصادر ترجمته 16
صورة المحشي آيةالله الشيخ مهدي غياث الدين النجفی (قدس سره) 18
صورتان من الحواشي علی متن تلخيص المفتاح بخط المحشی (قدس سره) .19 و 20
تلخيص المفتاح 21
مقدّمة 25
الفنّ الأوّل: علم المعاني 31
الباب الأوّل: أحوالُ الإسنادِ الخبريِّ 33
الباب الثّاني: أحوالُ المسندِ إليه 37
الالتفات 48
الباب الثّالث: أحوالُ المسندِ 53
الباب الرّابع: أحوالُ مُتَعَلِّقاتِ الفعل 60
الباب الخامس: القصر 64
طُرُق القصرِ 65
ص: 3
الباب السّادس: الإنشاء 69
تنبيه 75
الباب السّابع: الفصل والوصل 76
الباب الثّامن: الإيجاز والإطناب والمساواة 85
المساواة 87
الفنّ الثّاني: علم البيان 96
المقصد الأوّل: التّشبيه 98
خاتمة 110
المقصد الثّاني: الحقيقة والمجاز 111
المجاز المرسَل 111
الاستعارة 112
المجاز المركب 119
فصلٌ: في بيان الاستعارة بالکناية والاستعارة التّخييليّة 120
فصل 121
فصل: في شروط حسن الاستعارة 123
فصل 123
المقصد الثالث: الکناية 124
فصل: في بيان رتبة کلٍّ من المجاز والکناية والحقيقة 127
الفنّ الثّالث: علم البديع 128
المحسَّنات المعنويّة 128
المُحَسَّنات اللّفظيّة 147
خاتمة: في السَّرِقات الشِّعريّةِ وما يَتّصلُ بها وغيرِ ذلك 159
فصلٌ: في حُسن الابتداء والتّخلُّص والانتهاء 169
بعض منشورات مكتبة آيةالله النجفي 175
المطبوع من آثار نجل المحشي 176
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
إنّ علم البلاغة من العلوم التي لها دور خطير في فهم آيات اللّه البينات والأحاديث الشريفة مما سبّب أن يكون هذا العلم عرضة للتدريس والتعلم منذ قرون في المدارس الدينية والأوساط الأكاديمية.
والنصان اللذان كانا مدار التدريس هما كتابان طافت الآفاق شهرتهما، وهما: مختصر المعاني والمطول، كلاهما من آثار الأديب البارز سعد الدين مسعود بن عمر الهروي الخراساني الشهير ب-«التفتازاني» (المتوفى 791 أو 792 ﻫ). والكتابان في الحقيقة شرح مزجي لكتاب تلخيص المفتاح لمحمد بن عبد الرحمن القزويني (المتوفى 739 ﻫ). وأما التلخيص - كما هو ظاهر من اسمه - ، فهو خلاصة للقسم الثالث من مفتاح العلوم لأبي يعقوب يوسف السكاكيّ (المتوفى 626 ﻫ). علماً بأن تلخيص المفتاح قد نشر مراراً منفصلاً عن شروحه.
وسبب تأليف التلخيص - كما ذكره الخطيب - أنه رأى مفتاح العلوم من أحسن الكتب التي صُنّفت حول البلاغة، لكنه لم يخلُ من الحشو والتعقيد مما أدى به إلى تلخيصه وتبويبه.
ولا بأس هنا أن نوجز سيرة للخطيب فهو أبو عبدالله محمد بن عبدالرحمن بن
ص: 5
إمام الدين أبو حفص عمر القزويني الشافعي الشهير بالخطيب القزويني (1)ينتهي نسبه إلى أبي دُلف العجلي - من قادة المأمون والمعتصم - . ولد المترجم له في الموصل عام 666ﻫ. فذهب إلى مدينة الكرج (2) وأقام فيها مع أبيه وأخيه وبدأ دراساته في المدينة نفسها. ولم يكد يبلغ العشرين حتى عيّن قاضياً في منطقة من مناطق الروم الشرقي. ثم هاجر إلى دمشق حوالي سنة 690 ﻫ مع أخيه إمام الدين (3)، وتتلمذ هناك عند كلّ من أبي العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي الفاروتي (م 697 ﻫ) وشمس الدين الأيكي وقاسم بن محمد الفرزالي (م 739ﻫ). ثم استخلف أخاه إمام الدين ونجم الدين بن صَصري (م 728ﻫ) في أمر القضاء. وفيما بعد، عيّنه السلطان ناصر محمّد بن قلاوون التاسع من سلاطين المماليك البحرية قاضي القضاة لمصر والشامات خلفاً لبدر الدين بن جماعة (م 733 ﻫ) ، وكان ذلك في عام 727 ﻫ . ثم رجع الخطيب إلى دمشق بعد سنوات وتوفي هناك سنة 739 ﻫ.
وقد مدحه ورثاه شعراء وأدباء كبار مثل ابن نباتة وصلاح الدين الصفدي.
ص: 6
وأما كتابه تلخيص المفتاح، فقد تعرّض للشرح والتعليق من قبل كثير من الأدباء. فأول الشروح منه نفسه يحمل عنوان الإيضاح في المعاني و البيان وهو الشهير بإيضاح التلخيص. ومن الشروح الأخرى له شرح لمحمد بن مظفر الخلخالي (م 745ه)، وشرح محمد بن عثمان الزوزني (م 792ه)، وشرحان للتفتازاني (م 792ه) سمّى أحدهما المطوّل والآخر المختصر، وهو المعروف بمختصر المعاني. وقد ذكر الحاجي خليفة خمس عشرة حاشية على المطول نفسه، من أشهرها حاشية علي بن محمّد الشريف الجرجاني (م 816 ه) والتي كتبت لها أيضاً ثلاث حواش.
وأما المختصر للتفتازاني، فلم يكن خالياً عن الشروح والحواشي أشهرها حاشية نظام الدين عثمان الخطّابي. ومن الطريف أن حاشية الخطّابي أيضاً لها عشر حواش!
والآن ونحن على أعتاب التلخيص نشاهد الحاجي خليفة يذكر عشرة شروح له إضافة إلى الحواشي الأربع الآنفة الذكر. ثم هناك ثلاث حواش ألفت لإيضاح أشعار التلخيص فقط أشهرها معاهد التنصيص على شواهد التلخيص لعبدالرحيم بن أحمد العباسي (م 963 ه). والأعجب أن التلخيص أيضاً لُخّص! فقد ذكر الحاجي خليفه ثمانية تلخيصات لتلخيص المفتاح. ثم قام بعضٌ بنظمه، ذُكرت خمس منظومات للتلخيص في كشف الظنون.
يُظهر هذا الكم الهائل من الشروح والحواشي التي ظهرت إثر كتابة تلخيص المفتاح في الثلث الأول للقرن الثامن الهجري يُظهر الزخم الكبير له، حيث أدّى إلى بروز ما يقارب ستين كتاباً في القرون الأربعة بعده.
وهذا الأمر يدل على التأثير العميق والشامل للكتاب من ناحية، ومن ناحية أخرى يبين خمود الإبداع وتدهوره في هذه القرون، ومن ناحية ثالثة يُبرز سبب تلقيب فترة ما بعد العصر العباسي الثاني في تاريخ الأدب العربي ب-«فترة الانحطاط».
وأما ما جاء في التلخيص، ففيما يلي: جاء في مقدمته (ص 2-6) تعريف للفصاحة والبلاغة والعلاقة بينهما؛ ثم بدأ النص الأصلي الذي يتكون من ثلاثة أقسام - وقد سمّى
ص: 7
المؤلف كلّاً منها «الفن» - وهي العلوم البلاغية نفسها، أعني المعاني والبيان والبديع. فيحتوي القسم الأول على ثمانية أبواب عناوينها: الإسناد، المسند إليه، المسند، متعلِّقات الفعل، القصر، الإنشاء، الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة (ص 7-60). والقسم الثاني يتناول أبحاث علم البيان الرئيسة، وهي: التشبيه والإستعارة والكناية (ص 61-88). والثالث في علم البديع وهو منقسم إلى قسمين: الصناعات أو المحسّنات المعنوية واللفظية (89-114). وينتهي الكتاب ببحث عن السَّرِقات الشعرية وما يتعلق بها (ص 115- 127).
وأما المحشّي الفاضل فهو سماحة آية اللّه المرحوم الشيخ مهدي غياث الدين النجفي (رحمة الله علیه) ، الذي كانت له يد طولى في الأدبين العربي والفارسي، وقد درّس كتابي مختصر المعاني والمطول مكرراً. وكان عنده نسخة من تلخيص المفتاح علّق عليها حواشي وتعليقات. فأراد نجله البارع آية الله الشيخ هادي النجفي (مدظله العالی) - والذي يسعى حثيثاً في إحياء التراث الإسلامي القيّم ولا سيما التراث المتبقّى من أسرة النجفي العريقة - أراد أن تخرج تلك الحواشي والتعليقات من زاوية النسيان وترى النور؛ فكلّفني بإنجاز هذه المهمة.
ففي البداية تم إعداد نص إلكتروني من تلخيص المفتاح وذلك بالاستعانة بالشبكة العنكبوتية - على صانعها ومطوِّرها آلاف الثّناء - فقد حصل المحقق على نص له بصيغة Word . فقابله بالطبعة (1) التي كتب فيها سماحة الشيخ النجفي (رحمة الله علیه) تعليقاته بجانب مقابلته بالنص الموجود في مختصر المعاني. ثم قام المحقق بتشكيل الكلمات الصعبة القراءة منه، وسُجّل بعض التغاير الموجود في النص الذي علّق المرحوم
ص: 8
النجفي وما في المختصر في الهامش.
وكان قد كتب سماحته حواشيه بقلم رصاص قد أصبحت باهتة طوال الزمان، لكن المحقق سعى سعياً أن يقرأها، فسجّلها كما هي في هامش كل صفحة. ولإثراء النص وإتقانه أكثر فأكثر، فقد قام المحقق بقراءة كتاب شروح التلخيص الذي يحتوي على نص إيضاح التلخيص - للخطيب نفسه - ومختصر المعاني مع حاشية الدسوقي عليه، ومواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح لابن يعقوب المغربي وعُرس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السّبكي. فزوّد النص بحواشي هذه الكتب بجانب ما كتب سماحة الشيخ النجفي (طاب ثراه) من التعليقات. وقد بلغ عدد التعليقات والحواشي تبلغ أكثر من ألفي تعليقة (1)علماً بأن الحواشي التي أضافها المحقق وُضعت داخل [ ] لتمايزها عن التعليقات النجفية.
وقد قام المرحوم النجفي (رحمة الله) بالتعليق على ستة أبواب من أبواب علم المعاني ولم يكتب شيئاً في البابين السابع والثامن منه (الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة)، فأضاف المحقق تعليقات متخذة من الكتب الآنفة الذكر إلى هذين البابين؛ ولم يكتب المرحوم تعليقة على قسم المحسّنات اللفظية في علم البديع وخاتمته - مبحث السّرقات الشعرية - ، فقام المحقق بدرج تعليقات على ذلك القسم والخاتمة أيضاً ليكون النص بأكمله مزوّداً بالتعليقات.
وأما الغرض من إدراج حواش غير تعليقات المرحوم النجفي (رحمة الله علیه) ، فهو لإزالة الغموض عن النص وتسهيل فهمه على القارئين لكي لا يحتاجوا إلى مراجعة الشروح والحواشي، إضافة إلى حصولهم على علم إجمالي لما جاء في حواشي تلخيص المفتاح. وقد استفاد المحقق من تلك الحواشي لإيضاح الكلمات الصعبة والأشعار،علماً بأنّه لم يسجّل
ص: 9
الآراء النقدية للمحشين تجنّباً للإطالة.
فالآن وبين يدي القارئ المحترم نصّ مصحَّح ومشكّل ل- تلخيص المفتاح مزوّداً بحواشي آية الله الشيخ مهدي غياث الدين النجفي (طاب ثراه) ، مشفوعاً بتعليقات مختارة من المحقق. وأطلب مقام القرّاء لو وجدوا فيه من الأخطاء أن ينظروا إليها نظر الكرام، فإن الإنسان محل السهو والنسيان.
مع التنبيه علی أنّ هذه الحواشي أوّلاً وبالذات تُفيد الطلبة غير العرب وثانياً وبالعرض الطلبة العرب الذين يرومون ترقية مدارجهم في سَلالم فنون البلاغة.
وفي الختام أشكر السيّدة تهمينه نصرآزاداني دامت عفتها لتخريج آيات القرآن الكريم الموجودة في الكتاب وتنظيم صفحاته.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل مقبولاً، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
علي زاهد بور
1393/2/10
30/ جمادي الآخری / 1435
ص: 10
بسم الله الرحمن الرحیم
هذه تعليقات والدي العلّامة (قدس سره) على متن تلخيص البيان للخطيب القزويني في علم المعاني والبيان والبديع. أُقدمها للقراء الکرام والأساتذة العظام مع تعليقات أخرى انتخبها محقّق هذا السفر الجليل.
والده آيةالله المعظّم الشيخ مجد الدين (مجد العلماء) النجفي الإصفهاني (1326-1403ق) صاحب اليواقيت الحسان في تفسير سورة الرحمن و ترجمة نقد فلسفة دارون، ابن آيةالله العظمى أبي المجد الشيخ محمّد الرضا النجفي (1287-1362ق) صاحب وقاية الأذهان ونقد فلسفة دارون، ابن آيةالله العظمى الشيخ محمّد حسين النجفي (1266-1308ق) صاحب مجد البيان في تفسير القرآن، ابن آيةالله العظمى الشيخ محمّد باقر النجفي (1235-1301ق) صاحب شرح هداية المسترشدين (حجّيّة المظنة)، ابن آيةالله العظمى الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الإصفهاني (ح 1185-1248ق) صاحب هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين وتبصرة الفقهاء.
ولد مِنْ أُمٍّ عريقةٍ بالشّرف والمجدِ والسّيادة وهي العَلَويّةُ الحاجّةٌ زينت آغا صدر هاشمي (المتوفاة في شهر رمضان 1387 = خرداد 1347ش بنت آية الله السيّد محمّدهادي صدرالعلماء الحسيني الشمس آبادي الأصفهاني المتوفى 1361ق = 1321ش) في اليوم العشرين من شهر صفر المظفر سنة 1355 الموافق 22 أرديبهشت
ص: 11
1315ش في مدينة إصفهان.
سمّاه والده «مهدي» ولقّبه جدّه ب- «غياث الدين»، وغلب اللقبُ ٱلاسْمَ، ولقّبه بعض النّاس ب- «مجد الإسلام» بعد ارتحال والده تخليداً لذکراه.
دخل المدرسة الإبتدائية في طفوليته ثمّ الثانوية، وأتمّها حاصلاً على بکالوريا الأدب في شهر خرداد 1335ش = 1375ق في مسقط رأسه إصفهان. وفي نفسها السنة دخل کلّية المعقول والمنقول بجامعة طهران وبلغ إلى المرتبة الأولى في عام 1377ق = 1337ش فيها و حضر على أساتذتها ومنهم: حکمت آل آقا، وبديع الزمان فروزان فر، والميرجلال الدين المحدّث الأرموي، والسيّد کمال الدين نوربخش الدهکردي، والشيخ حسينعلي الراشد التربتي، والسيّد محمّد المشکاة البيرجندي، والسيّد محمّد باقر السبزواري (عربشاهي)، والشيخ کاظم المعزي الدزفولي، والشيخ مهدي الحائري اليزدي، ومحمّد جعفر الجعفري اللنگرودي، ومحمود الشهابي التربتي، والشيخ مهدي الإلهي القمشه اي، والسيّد محسن صدر الأشراف، والسيّد حسن تقي زاده، والشيخ الميرزا خليل الکمره اي، وعبدالحسين زرين کوب، والشيخ زين العابدين ذوالمجدين، والدکتور محمود نجم آبادي5.
وحصل على مدرك البکالوريوس في الأدب العربي بالدرجة الجيّدة في عام 1378ق = 1338ش من جامعة طهران وفي نفس العام عاد إلى موطنه إصفهان.
وحضر في الدروس الحوزويّة من أوّل شبابه في إصفهان على الشيخ الجامي والشيخ غلامعلي الحاجي النجف آبادي في المقدّمات. وقرأ الشرائع وشرح اللمعة والمطول على الشيخ أمان الله القودجاني، وفي السطوح العالية حضر على الشيخ محمّد حسين الفاضل الکوهاني، وقرأ شرح المنظومة (للسبزواري) على الشيخ فرج الله الدّري (م 1382ق)، هذا کلّه في إصفهان.
وفي طهران حضر دروس مدرسة سپهسالار، ومنها درس: الشيخ المحسني الدماوندي.
ص: 12
ثمّ بعد عودته إلى إصفهان حضر في الدروس العالية (الخارج) على والده آية الله الشيخ مجدالدين النجفي، وآيةالله السيّد علي الموسوي البهبهاني (ح 1303ق-1395)، کما صدّق بعض المراجع ٱجتهاده.
بعد فراغه من التحصيل في جامعة طهران عاد إلى موطنه إصفهان في عام 1378ق = 1338ش و اشتغل بتدريس الأدبين الفارسي والعربي والمعارف الإسلامية والعقائد الحقّة والأحکام الشرعية في المدارس الثانوية وجامعة تربية المعلّم وبعض الجامعات الاُخر.
وبعد وفاة والده في العشرين من ذي الحجة الحرام عام 1403ق قام مقامه في إمامة الجماعة في المسجدين (مسجد نوبازار ومسجد الجامع العباسي). وقام بتعمير المسجد الأول، وأسّس في جواره مکتبة عامة سُميّت بعد وفاته بِاسْمِهِ: مکتبة آية الله النجفي.
والده آية الله الشيخ مجدالدين النجفی (قدس سره) .
وآية الله العظمى السيّد شهاب الدين المرعشي النجفی (قدس سره) .
وله الإجازة في الأمور الحسبية من الآيات العظام: السيّد المرعشي، والشيخ محمّدعلي الأراکي، والسيد محمّد الشيرازي5.
هذا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ هادي النجفي.
والمحقّق الفاضل الشيخ ناصر الباقري البيدهندي القمي.
1- أدبيات عرب در صدر اسلام.
طبع في عام 1404ق = 1363ش في ضمن منشورات مکتبة تديّن بإصفهان، وعليه تقريظ والده العلّامة (قدس سره).
ص: 13
2- الحاشية على تلخيص المفتاح، للخطيب القزويني.
وهي الّتي بين يديك.
3- درس هايى از جهان بينى اسلامى.
4- دين براى جوانان.
5- رسالة في الحقوق.
6- رسالة في قواعد الأدب الفارسي.
7- طرح سؤال وجواب اصول عقائد وفقه اسلامى وتاريخ تحليلى اسلام.
8- فيض الباري إلى قرة عيني الهادي.
وهي الإجازة الّتي أصدرها لنجله الفقير إلى الله هادي النجفي. وطبعت في کتاب قبيلهٔ عالمان دين، ص209-219.
9- گامى به سوى وحدت.
10- مقالات.
11- تقديم وتحقيق رساله أمجديه.
12- مقدمة على ديوان جدّه أبي المجد (طبعت مرّتين).
13- مقدّمة على کتاب بيان سُبُل الهداية في ذکر أعقاب صاحب الهداية أو تاريخ علمى و اجتماعى اصفهان در دو قرن اخير للسيّد مصلح الدين المهدوي (رحمة الله) .
14- مقدّمة على کتاب والده: «اليواقيت الحسان في تفسير سورة الرحمن».
15- مقدّمة على کتاب جدّه أبي المجد: «وقاية الأذهان».
16- مقدّمة على کتاب نجلّه الشيخ هادي النجفي: «ألف حديث في المؤمن».
17- مقدّمة على کتاب جدّه الأعلى الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني: «هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين» وطبعت مَرَّتَّيْن، وترجمها الشيخ محمود النعمتي إلى الفارسية، وطبعت في مجموعة مقالات مؤتمر الشيخ محمّد تقي الإيوانکي الرازي النجفي الأصفهاني صاحب الهداية صص32-61 في عام 1434ق =
ص: 14
1392ش.
ارتحل إلى جوار ربّه قبل ظهر يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر صفر المظفر عام 1422 = 27 ارديبهشت 1380.
وصلّى عليه آية الله العظمى الشيخ محمّد تقي المجلسي (دام ظله) في المسجد الجامع العباسي، وشُيّع تشييعاً حافلاً منه إلى مَسْجِدِ نو (بازار) في يوم الجمعة 24 صفر ودفن بجوار مکتبته العامرة الّتي أسّسها في جوار المسجد.
ورثاه العلّامة المحقّق الحجّة الثبت السيّد عبدالسّتار الحسني (دامت برکاته) في أبياتٍ وفيها مادّة تاريخ وفاته:
أوْدىٰ حَليفُ المَکْرُماتِ سُلالَةُ الْ- *** شَرَفِ المُؤَصَّلِ، حَيْثُ غَيَّبَهُ الرَّدَىٰ
فَبَکاهُ مِحْرابٌ، وَأَوْحَشَ مِنْبَرٌ *** فِي فَقْدِهِ ثَوْبَ الْحِدادِ قَدِ ارْتَدَىٰ
إذْ کانَ يَعْمُرُهُ بِنَشْرِ مَعَارِفٍ *** وَبَيَانِ أَحْکَامٍ لِشرْعَةِ أَحْمَدا
لَهْفِي لَهُ مِنْ راحِلٍ بِغِيابِهِ *** أَشْجَي الْقُلُوبَ وَلِلنَّواظِرِ سَهَّدا
وَعَلَيْهِ حَقَّ لِأصْفَهَانَ تَفَجُّعٌ *** في سائِرِ البُلْدانِ عَمَّ لَهُ صَدَىٰ
أَوَلَيْسَ قَدْ فَقَدَتْ بِهِ مَنْ عَنْ (أَبي الْ- *** مَجْدِ الرِّضا) وَرِثَ العُلا وَالسُّؤْدُدا
طَابَتْ أُرُومَتُهُ بِکُلِّ مُمَنَّع ٍ *** طَهُرَتْ مَنَاسِبُهُ وَأَعْرَقَ مَحْتِدا
إنْ خَطَّ (حَاشيَةً) عَلىٰ مَتْنٍ غَدَتْ *** تَزهُو (مَعالِمُها) بِمَا قَدْ قَيَّدا
أنّىٰ يُزايِلُهُ الْفَخَارُ وَبَيْتُهُ *** أضْحىٰ عَلىٰ هامِ الضّراحِ مُشَيَّدا
تَفْنىٰ زَخَارِفُ هٰذِهِ الدُّنْيا وَلا *** يَبْقىٰ سُوىٰ الذِّکْرِ الْجَمِيلِ مُخَلَّدا
وَکَفَىٰ أبَا الْهَادِي مَآثِرُ قَدْ أتَى الْ- *** هَادِي لِصَرْحِ شُمُوخِهِنَّ مُجَدِّدا
إنْ غَابَ عَنْ أنْظارِنا فَمِثالُهُ *** بَاقٍ تَجَسَّدَ فِي الْخَوَاطِرِ سَرْمَدا
وَمُذِ افْتَقَدْنَا شَخْصَهُ عَمَّ الأسىٰ *** وَغَدا بِهِ شَمْلُ السُّرُورِ مُبَدَّدا
وَبِعَدِّ (أسْماءِ الأئِمَّةِ) أرَّخُوا: *** (فِي غَيْبَةِ الْمَهْدِيِّ قَدْ نَاحَ الْهُدىٰ)
12+1410 = 1422ق
ص: 15
تجد ترجمته في الکتب التالية:
1- موسوعة أحاديث أهل البيت:، ج12، صص429-436، لنجله الشيخ هادي النجفي.
2- مقدمة رسالهٔ أمجديه، ص21، الطبعة الرابعة، لنجله الشيخ هادي النجفي.
3- يادوارهٔ پنجاهمين سال تأسيس دبيرستان هراتى، ص121.
4- قبيلهٔ عالمان دين، صص153-208، لنجله.
5- مجلة آينهٔ پژوهش، العدد الثاني من السنة الثاني عشر، خرداد 1380، الرقم 68، ص114.
6- اختران فضيلت، ج1، ص866، للشيخ ناصر الدين الأنصاري القمي.
7- گلشن أهل سلوك، ص142، للشيخ رحيم القاسمي.
8- شيخ محمّد تقى نجفى اصفهانى و خاندانش، ص753.
* * *
کما تجد اسمه في المصادر التالية:
1- تاريخ علمى و اجتماعى اصفهان در دو قرن اخير، ج1، ص31 و ج3، ص167 و 379 .
2- تبصرة الفقهاء، ج1، ص8 .
3- وارستهٔ پيوسته، زندگى نامه آية الله حاج شيخ محمّد حسين نجفى اصفهانى، ص23، للسيّد أبوالحسن المهدوي.
4- الآراء الفقهية، ج1، ص2 .
5- ميراث حوزهٔ اصفهان، المجلّد الخامس، ص601 .
6- نقد فلسفه داروين، شرح حال مترجم جلد اوّل، ص 97 و 104، رقم 67 و 110.
7- مقدمة نقد فلسفة دارون، ص 68.
8- الإجازة الشاملة للسيّدة الفاضلة، المطبوعة في مجلة علوم الحديث العدد الرابع، ص324 .
9- اوراق عتيق، ج2، ص309 .
10- الجيزة الوجيزة من السلسلة العزيزة، ص7، للسيّد محمّد حسين الجلالي.
11- كتابشناسی فهارس، ج1، ص371، تأليف: حسين متقي.
12- بيست مقاله، ص368، للشيخ رضا الأستادي.
13- مجدالبيان در تفسير قرآن، ص 38.
14- الإشارة إلی إجازات آل صاحب الهداية، رقم 18، للشيخ حسين حلبيان.
ص: 16
15- جريدة «نسل فردا» الإثنين 25/11/1389، العدد 3659.
16- مجلة آينهٔ پژوهش، العدد الثالث من السنة الحادي عشر، الرقم 63، ص 77.
17- مجلة آينهٔ پژوهش، العدد الثاني من السنة الثالث عشر، الرقم 74، ص 86-88 .
18- مجلة علوم الحديث، العدد العاشر، ص246 .
19- نسخه پژوهى، ج3، ص414 .
20- مجلهٔ علوم حديث (فارسى)، عدد 25، ص136 .
21- مجلهٔ جهان کتاب، السنة السابعة، العدد التاسع و العاشر، ص10 .
22- فصلنامهٔ کتاب هاى اسلامى، العدد السابع من السنة الثانية، ص225 .
23-, Trenchless Technology p5.
وفي الختام لابدّ لي أن أشکر أخي الفاضل الأديب الدکتور علي زاهدپور حفظه الله نجل المرحوم آية الله الشيخ أحمد الزاهد النجفي (1)1، لقيامه بتحقيق هذا السفر الجليل، لله تعالى درّه وعليه أجره.
إلى هنا تمّت هذه الترجمة بيد الشيخ هادي النجفي نجل محشي الکتاب في مساء يوم الخميس النصف من شهر رجب الأصب عام 1435 (25 ارديبهشت 1393) بمدينة أصفهان صانها الله تعالى عن طوارِق الحدثان.
والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
ص: 17
الصورة
صورة من حواشي آيةالله الشيخ مهدي غياث الدين النجفی (قدس سره) على متن تلخيص المفتاح بخطه
ص: 18
ص: 19
صورة من حواشي آيةالله الشيخ مهدي غياث الدين النجفی (قدس سره) على متن تلخيص المفتاح بخطه
ص: 20
بسم الله الرحمن الرحیم
اَلحمدُ للّهِ على ما أَنعمَ وعَلَّمَ مِن البيانِ ما لم نَعلمْ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدنا محمّدٍ خَيرِ مَنْ نَطَقَ بالصّوابِ، وأفضلِ مَن أوتيَ الحكمةَ وفصلَ الخِطابِ، وعلى آله الأطهارِ وصَحابَته (1) الأخيارِ.
أمّا بعدُ، فلمّا كان علمُ البلاغةِ وتوابعُها مِن أجَلِّ العلومِ قَدْراً وأدقِّها سِرّاً - إذ به تُعرَفُ دقائقُ العربيّةِ وأسرارُها، وتُكشَفُ عن وجوه الإعجازِ في نظم القرآن أستارُها - وكان القسمُ الثّالثُ مِن مِفتاح العلومِ الّذي صَنّفه الفاضلُ العلاّمةُ أبو يعقوبَ يوسفُ السَّكّاكِيُّ أعظمَ ما صُنِّف فيه مِن الكتبِ المشهورةِ نفعاً، لِكَونه أحسنَها ترتيباً، وأتمَّها تَحريراً، وأكثرَها للأصول جَمْعاً، ولكنْ كان غيرَ مَصونٍ عن الحَشْوِ والتّطويلِ والتّعقيدِ، قابلاً للاختصار ومُفتقِراً إلى الإيضاح والتّجريد، ألّفْتُ مختصراً يَتَضمّنُ ما فيه من القواعدِ، ويَشتَمِل على ما يُحتاجُ إليه مِن الأمثلةِ والشّواهدِ. ولَمْ آلُ (2) جُهداً في تحقيقِه وتهذيبِه، ورتّبتُه ترتيباً أقربَ تَناوُلاً مِن ترتيبِه، ولم أُبالِغْ في اختصار لفظِه تقريباً لِتعاطيه، وطَلَباً لِتسهيلِ فهمِه على طالبيه. وأضفتُ إلى ذلك فوائدَ عَثَرتُ (3) في بعض كُتُبِ القومِ
ص: 21
عليها، وزوائدَ لم أظفَرْ في كلام أحدٍ بالتّصريح بها ولا الإشارةِ إليها؛ وسمّيتُه «تلخيص المفتاح».
وأنا أسألُ اللهَ تعالى مِن فضله أن يَنْفَعَ به كما نَفَعَ بأصله (1)إنّه (2) وَليُّ ذلك (3)، وهو حَسْبي (4)، ونِعْمَ الوكيلُ (5)!
ص: 22
الفَصاحةُ (1) يوصَف بها المفردُ (2) والكلامُ (3) والمتَكَلِّمُ، والبلاغةُ (4) يوصَف بها الأخيرانِ (5) فقطْ (6).
فالفَصاحة في المفردِ: خُلوصُه (7) مِن تَنافُر الحروف والغرابةِ ومُخالَفَةِ القياسِ [اللُّغويِّ] (8)
فالتّنافرُ (9) نحوُ [قَوْلِ امرِئِ القَيسِ] (10):
غَدائِرُه (11) مُستشزِراتٌ (12) إلى العُلى *** [تَضِلُّ العِقاصُ (13) في مُثَنّیً ومُرسَلِ] (14)
ص: 23
والغَرابةُ (1) نحوُ:
[وَمُقْلَةً وَحاجِباً مُزَجَّجاً] (2) *** وفاحِماً (3) ومَرْسَناً (4) مُسَرَّجا
أي: كالسَّيف السُّرَيجيِّ (5) في الدّقّةِ والاستواء، أو كالسُّرُج في البَريقِ واللَّمَعانِ (6)؛ والمُخالَفَةُ (7) نحوُ:
اَلحمدُ للّه العَلِيِّ الأجلَلِ (8) *** [الواحدِ الفردِ القديمِ الأوّلِ] (9)
قيل: ومِن الكَراهة في السّمعِ، نحوُ (10):
[مُبارَكُ الاسمِ أغَرُّ اللقب] (11) *** كَريمُ الجِرِشّی (12) شريفُ النَّسبِ
و[الفصاحةُ] (13) في الكلام: خُلوصُه مِن ضعفِ التّأليفِ وتنافُر الكلماتِ والتعقيدِ، مع فصاحتها (14)
فالضَّعفُ نحوُ: ضَرَبَ غلامُه زيداً (15)؛ والتّنافرُ (16) كقوله:
وليسَ قُرْبَ قبْرِ حَرْبٍ قَبرُ *** [وقبرُ حرْبٍ بمکانٍ قفْرِ (17)] (18)
وقوله:
ص: 24
كَريمٌ متى أَمدَحْهُ أَمدَحْهُ (1) و (2) الْوَرى مَعي (3) *** وإذا ما لُمتُه لُمْتُه وَحْدي
والتّعقيدُ (4) أن لا يكونَ الكلامُ ظاهرَ الدِّلالةِ على المرادِ، لِخَلَلٍ (5):
إمّا في النّظمِ، کقول الفرزدقِ في خال (6) هِشام (7) [بن عبدِ المَلِكِ] (8):
وما مِثلُه في الناس إلّا مُمَلَّكاً (9) *** أبو أُمِّه حَيٌّ أبوه يُقارِبُه (10)
أي: ليس مِثلَه في الناس حَيٌّ يُقارِبُهُ (11) إلّا مُمَلَّكاً أبو أُمِّه أبوه؛
وإمّا في الانتقالِ (12)، كقول الآخَرِ (13):
سأطلُب بُعْدَ الدّار عنكم لِتَقرُبوا *** وَتَسكُبُ عَينايَ (14) الدُّموعَ لِتَجمُدا (15)
فإن الانتقالَ مِن جُمود العين إلى بُخْلها في الدُّموع، لا إلى ما قَصَده مِن السّرور.
قيل: ومِن كَثرة التَّكرار وتَتابُع الإضافاتِ، كقَوله:
ص: 25
[وَتُسْعِدُني في غَمْرَةٍ بعدَ غَمْرَةٍ (1)] (2) *** سَبوحٌ (3) لَها (4) مِنها (5) عليها (6) شواهِدُ (7) (8)
وقَولِه:
حَمامةُ (9) جَرْعى (10) حَومَةِ الجَندَلِ (11) اسجَعي *** [فأنتِ بِمرأیً مِنْ سُعادٍ وَمُسمَع] (12)
وفيه نظرٌ (13).
و[الفَصاحةُ] (14) في المتَكلِّم مَلَكةٌ يَقتَدِر بها (15) على التّعبيرِ عن المقصودِ بلفظٍ فصيحٍ.
والبلاغة في الكلامِ: مُطابَقَتُه لِمقتضى الحالِ مع فَصاحتِه، وهو مختلفٌ؛ فإنّ
ص: 26
مَقاماتِ الكلامِ متفاوتةٌ. فمَقامُ كُلٍّ مِن التّنكيرِ والإطلاقِ والتّقديمِ والذِّكرِ يُبايِنُ مَقامَ خِلافِه، ومَقامُ الفصلِ يُبايِنُ مَقامَ الوصلِ، ومَقامُ الإيجازِ يُبايِنُ مَقامَ خِلافه؛ وكذا خِطابُ الذَّكيِّ مع خِطاب الغَبيِّ (1)ولِكُلِّ كلمةٍ مع صاحبتِها مَقامٌ (2).
وارتفاعُ شأنِ الكلامِ في الحُسنِ والقبولِ بمطابَقَتِه للاعتبارِ المناسبِ وانحطاطُه (3) بعَدَمِها (4)فمُقتضَى الحالِ هو (5) الاعتبارُ المناسبُ. فالبلاغةُ راجعةٌ إلى اللَّفظِ باعتبار إفادتِه المعنى بالتركيب (6).
وكثيراً (7) ما (8) يُسمّى ذلك (9) فَصاحةً أَيضاً؛ ولها طَرَفانِ: أعلى، وهو حَدُّ الإعجازِ (10) و (11)ما يَقرُبُ منه (12) وأسفلُ، وهو ما إذا غُيِّرَ الكلامُ عنه إلى ما دونَهُ (13) التَحَقَ عند البُلَغاءِ بأصواتِ الحَيَواناتِ. وبينَهما مراتبُ كثيرةٌ، وتَتبَعُها (14) وجوهٌ أُخَرُ (15) تورِثُ الكلامَ حُسْناً.
ص: 27
و[البلاغةُ] في المُتَكلِّم: مَلَكةٌ يَقتَدِرُ بها على تأليفِ كلامٍ بليغٍ. فَعُلِمَ (1) أنّ كُلَّ بليغٍ فَصيحٌ ولا عَكْسَ (2)، وأنَّ البلاغةَ مَرجِعُها إلى الاحترازِ عن الخطإِ في تأديةِ المعنى المُرادِ، وإلى تَمييزِ الفصيحِ مِن غيره.
والثاني (3) منه (4) ما يُبَيَّنُ في علم مَتنِ اللُّغةِ (5) أو التّصريفِ (6) أو النّحوِ (7)، أو يُدرَكُ بالحِسِّ (8)وهو (9) ماعَدَا التّعقيدَ المعنويَّ (10)
وما يُحتَرَزُ به عن الأوّلِ (11) علمُ المعاني، وما يُحتَرَزُ به عن التَّعقيدِ المعنويِّ عِلمُ البيانِ، وما يُعرَفُ به وجوهُ التَّحسينِ علمُ البديعِ.
وكثيرٌ [من الناس] (12) يُسمّي الجميعَ علمَ البيانِ. وبعضُهم يُسمِّي الأوّلَ علمَ المعاني، والأخيرَينِ (13) علمَ البيانِ (14)، والثّلاثةَ عِلمَ البديعِ (15).
ص: 28
وهو عِلمٌ يُعرَفُ به أحوالُ اللَّفظِ العربِيِّ الّتي بها (1) يُطابِقُ مُقتضى الحالِ. وينحصرُ في ثمانيةِ أبوابٍ، وهي: أحوالُ الإسنادِ الخبريِّ، وأحوالُ المُسنَدِ إليه، وأحوالُ المُسنَدِ، وأحوالُ مُتَعَلِّقاتِ الفعلِ، والقصرُ، والإنشاءُ، والفصلُ والوصلُ، والإيجازُ والإطنابُ والمُساواةُ.
لأنّ الكلامَ إمّا خبرٌ (2) أو إنشاءٌ. لأنّه إنْ كانَ لِنِسبَته خارجٌ تُطابِقُهُ أو لا تُطابِقُهُ، فَخَبَرٌ، وإلّا فإنشاءٌ.
والخبرُ لا بُدَّ له مِن مُسنَدٍ ومُسنَدٍ إليهِ (3) وإسنادٌ. والمُسندُ قد يكونُ له متعلِّقاتٌ إذا كان فِعلاً، أو في معناه. وكُلٌّ مِن الإسنادِ والتَّعلُّقِ إمّا بقصرٍ أو بغيرِ قَصرٍ. وكُلُّ جملةٍ قُرِنت بأخرى إمّا معطوفةٌ عليها أو غيرُ معطوفةٍ.
والكلامُ البليغُ إمّا زائدٌ على أصل المُرادِ لفائدةٍ أو غيرُ زائدٍ.
تنبيه: صِدقُ الخبر مطابقَتُه للواقع وكِذبُه عدمُها (4)وقيل: مطابقَتُه لاعتقاد المُخبرِ
ص: 29
- ولو خَطأً - وعدمُها، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(1)ورُدَّ بأنّ المعنى: لَكاذبونَ في الشّهادةِ أو في تَسميتِها أو في المشهودِ به في زعمِهم.
وقالَ الجاحِظُ: مطابقَتُه مع الاعتقادِ وعدمُها معه، وغيرُهما ليس بصدقٍ ولا كذبٍ، بدليل: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾(2)؛ لأنّ المرادَ بالثّاني (3) غيرُ الكذبِ؛ لأنّه قسيمُه وغيرُ الصِّدقِ؛ لأنّهم لم يعتقدوه. ورُدَّ بأنّ المعنى: أم (4) لم يَفتَرِ. فعَبَّر عنه بالجِنَّة؛ لأنّ المجنونَ لا افتراءَ له.
ص: 30
[الباب الأوّل] أحوالُ الإسنادِ (1) الخبريِّ
لا شكَّ أنّ قصدَ المُخبرِ بخبره إفادةُ المخاطَبِ، إمّا الحكمَ، أو كَونَه (2) عالِماً به. ويسمَّى الأوّلُ (3) فائدةَ الخبرِ، والثّاني (4) لازمَها. وقد يُنَزَّلُ العالمُ بهما منزلةَ الجاهلِ لِعدمِ جَرْيِهِ (5) على موجِب العلمِ. فينبغي أن يَقتصِرَ مِن التّركيبِ على قدرِ الحاجةِ. فإن كان خاليَ الذِّهنِ مِن الحُكمِ والتَّردُّدِ فيه، استغنى عن مؤكِّداتِ الحُكمِ؛ وان كان مُتَرَدِّداً فيه طالباً له، حَسُنَ تقويتُه بمؤكِّدٍ؛ وان كان مُنكِراً، وجِبَ تَوكيدُه بحَسَب الإنكارِ، كما قال تعالى حكايةً عن رُسلِ عيسى (علیه السلام)؛ إذ كُذِّبوا في المرَّةِ الأولى: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾(6)، وفي الثّانيةِ: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ (7)ويسمّى الضَّربُ الأوّلُ ابتدائيّاً، والثّاني طلبيّاً، والثّالثُ إنكاريّاً. وإخراجُ الكلامِ عليها إخراجاً على مقتضَى الظّاهِر.
وكثيراً ما يُخرَّجُ الكلامُ على خِلافه، فَيُجعَلُ غَيرُ السّائلِ كالسّائلِ، إذا قُدِّمَ إليه ما يُلَوِّحُ له بالخَبر، فَيَستشرِفُ له استشرافَ (8) المتَردِّد الطالبِ، نحو:
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي (9) فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (10)؛ وغَيرُ المُنكِرِ كالمُنكِر إذا لاحَ (11) عليه شيءٌ مِن أمارات الإنكارِ، نحو:
جاء شقيقٌ عارضاً رُمحَه *** إنّ بني عَمِّك فيهم رِماح
و[يُجعَلُ] (12) المُنكِرُ كغير المنكِرِ، إذا كان معه ما إنْ تَأمَّلَه ارتَدَعَ، نحو: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾(13).
ص: 31
وهكذا اعتباراتُ النَّفيِ.
ثُمّ الإسنادُ منه حقيقةٌ عقليّةٌ، وهي إسنادُ الفعلِ أو معناهُ إلى ما هُو له عند المتكَلِّمِ في الظّاهر، کقول المُؤمنِ: «أنبتَ اللهُ البَقلَ»، وقولِ الجاهلِ: «أنبتَ الرّبيعُ البَقلَ»، وكقولك: «جاءَ زيدٌ» وأنت تعلمُ أنّه لم يَجِئْ.
ومنه مجازٌ عقليٌّ، وهو إسنادُه (1) إلى مُلابَسٍ (2) له غيرِ ما هُوَ له بتأوُّلٍ (3)وله مُلابَساتٌ شتّى: يُلابِسُ الفاعلَ والمفعولَ به والمصدرَ والزّمانَ والمكانَ والسّببَ. فإسنادُه إلى الفاعلِ والمفعولِ به إذا كان مَبنيّاً له حقيقةٌ - كما مَرَّ - وإلى غيرهما للمُلابَسَة (4) مَجازٌ، كقَولهم: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ (5) (6)، و«سَيلٌ مُفعَمٌ» (7)، و«شِعرٌ شاعرٌ»، و«نَهارُه (8) صائمٌ»، و«نَهرٌ (9) جارٍ»، و«بَنَى الأميرُ المدينةَ».
وقَولُنا «بِتأوُّلٍ» يُخرِجُ ما مَرّ مِن قَول الجاهلِ؛ ولهذا لم يُحمَلْ نحوُ قَوله:
أشابَ (10) الصَّغيرَ وأفنَى (11) الكبيرَ كَرُّ (12) الغَداةِ (13) ومَرُّ العَشِيِّ (14)
على المَجاز، ما لم يُعلَمْ أو يُظَنَّ أنّ قائلَه لم يُرِد ظاهرَه، كما استُدِلَّ على أنّ إسنادَ «مَيَّزَ» في قول النّجم:
مَيَّزَ (15) عنه قُنزُعاً (16) عن قُنزُع
جَذبُ (17) اللّيالي (18) أبطِئي أو أسرِعي
مَجازٌ، بقَولِه عقيبَه:
ص: 32
أفناه قيلُ (1) اللهِ للشّمسِ اطلَعي
وأقسامُه أربعةٌ؛ لأنّ طَرَفَيهِ إمّا حَقيقتانِ، نحوُ: «أنبتَ الرّبيعُ البقلَ»؛ أو مَجازانِ، نحوُ: «أحيا الأرضَ شَبابُ الزّمانِ»؛ أو مُختلفانِ، نحوُ: «أنبتَ البَقلَ شَبابُ الزّمانِ»، و«أحيا الأرضَ الرّبيعُ». وهو في القرآن كثيرٌ: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ (2)(3)،﴿يُذَبِّحُ (4) أَبْنَاءَهُمْ﴾ (5)،﴿يَنْزِعُ (6) عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ (7)،﴿يَوْمًا (8) يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ (9) شِيبًا(10)﴾ (11)،﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ(12) أَثْقَالَهَا﴾ (13)، وغيرُ مختصٍّ بالخبر، بل يَجري في الإنشاءِ، نحو: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا(14)﴾(15).
ولا بُدّ له مِن قرينةٍ لفظيّةٍ - كما مَرَّ (16) - ، أو معنويّةٍ؛ لاستحالة قيامِ المُسند بالمذكور عقلاً، كقَولك: «مَحَبَّتُك جاءت بي إليك»، أو عادةً نحو: «هَزَمَ (17) الأميرُ الجندَ (18)»، و[امتَنَع] (19) صُدورُه عن المُوحِّدِ في مثل: «أشابَ الصَّغيرَ».
ومَعرفةُ حَقيقتِه إمّا ظاهرةٌ، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾(20)؛ أي: فما رَبِحوا في تِجارتهم (21)، وإمّا خَفِيَّةٌ، كما في قولك: «سَرَّتني رُؤيتُك»؛ أي: سَرَّنيَ اللّهُ عند رُؤيتِك. وقوله:
[لِعُتبةَ صَفحَتا قمرٍ *** يَفوقُ سَناهما القَمَرا] (22)
ص: 33
يَزيدُك وَجْهُه حُسْناً *** إذا ما زِدْتَه نظرا
أي: يَزيدُك اللهُ حُسناً في وَجْهه. وأنكرَه السَّكّاكيُّ ذاهباً إلى أن ما مَرّ ونحوَه استعارةٌ بالكنايةِ، على أنّ المرادَ بالرّبيع الفاعلُ الحقيقيُّ بقرينةِ نسبةِ الإنباتِ إليه، وعلى هذا القياسِ غيرُه. وفيه نظرٌ؛ لأنه [1] يَستلزمُ أن يكون المرادُ ب-«عيشةٍ» في قوله تعالى: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾(1) صاحبَها - كما (2) سيأتي -، و[2] أن لا تَصحَّ الإضافةُ في نحو: «نَهارُه صائمٌ» - لِبُطلان إضافة الشَّيءِ إلى نفسه - ، و[3] أن لا يكونَ الأمرُ بالبِناء لِهامانَ، و[4] أن يتوقَّفَ نحوُ: «أَنبتَ الرّبيعُ البَقلَ» على السّمعِ - واللّوازمُ كلُّها منتفيةٌ - ، و[5] لأنّه (3) يُنتَقَضُ بنحو: «نَهارُه صائمٌ»، لاشتِمالِه على ذِكر طَرَفي التّشبيه.
ص: 34
[الباب الثّاني] (1) أحوالُ المسندِ إليه
أمّا حذفُه (2)، ف- [1] للاحتراز عن العَبَث بِناءً على الظّاهر (3)، أو [2] تخييلِ العُدول إلى أقوَى الدَّليلَينِ مِن العقل واللّفظِ، كقوله:
قال لي: کيف أنتَ؟ قلتُ: عليلُ (4) *** [سَهَرٌ (5) دائمٌ (6) وحُزنٌ طويلُ] (7)
أو [3] اختبارِ تَنبُّه السّامع عند القرينةِ، أو [4] مقدارِ تنبُّهِه، أو [5] إيهامِ صَونه (8) عن لسانِك (9)، أو [6] عكسِه (10)، أو [7] تأتّي الإنكارِ لدى الحاجةِ (11)، أو [8] تعيُّنِه (12)، أو [9] ادّعاءِ التّعيُّن، أو نحوِ ذلك (13).
وأما ذِكرُه، [1] فَلِكَونه الأصلَ - ولا مقتضىً للعُدول عنه - أو [2] للاحتياط - لضعف التّعويل على القرينةِ - ، أو [3] التّنبيهِ على غَباوة السّامع، أو [4] زيادةِ الإيضاحِ والتّقرير (14)، أو [5] إظهارِ تعظيمِه (15)، أو [6] إهانته (16)، [7] أو التّبرّكِ بذِكرِه، أو [8] استلذاذِه (17)، [9] أو بسطِ الكلام حيثُ الإصغاءُ (18) مطلوبٌ، نحوُ: ﴿هِيَ عَصَايَ ﴾ (19).
ص: 35
وأمّا تعريفُه (1)، فبالإضمار؛ لأنّ المقامَ للتّكلُّم أو الخِطابِ أو الغَيبةِ، وأصلُ الخِطاب أن يكونَ لِمُعيَّنٍ. وقد يُترَكُ إلى غيره لِيَعُمَّ كُلَّ مخاطبٍ، نحو: ﴿وَلَوْ (2) تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ (3) عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (4)؛ أي: تَناهَت حالُهم في الظُّهور؛ فلا يَختَصُّ بها مُخاطبٌ.
وبالعَلَميّة، [1] لإحضاره بعينه في ذهن السّامعِ ابتداءً باسمٍ مختصٍّ به، نحوُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾(5)، أو [2] تعظيمٍ، أو [3] إهانةٍ، أو [4] كنايةٍ (6)، أو [5] إيهامِ استلذاذِه، أو [6] التّبرّكِ به (7)، أو نحوِ ذلك.
و بالمَوصوليّةِ، [1] لعدم علم المخاطبِ بالأحوال المختصّةِ به سِوَى الصِّلة، كقولك: «الّذي كان مَعَنا أمسِ رجلٌ عالمٌ»، [2] أو استهجانِ (8) التّصريح بالاسم، أو [3] زيادةِ التّقرير، نحو: ﴿وَرَاوَدَتْهُ (9) الَّتِي هُوَ (10) فِي بَيْتِهَا (11) عَنْ نَفْسِهِ﴾ (12)، [4] أو التّفخيمِ (13)، نحو: ﴿فَغَشِيَهُمْ (14) مِنَ الْيَمِّ (15) مَا (16) غَشِيَهُمْ﴾(17)، أو [5] تنبيهِ المخاطبِ على خطإ، نحو:
إنّ الّذين تَرَونَهُم إخوانَكم *** يَشفي غَليلَ (18) صُدورهم أن تُصرَعوا (19)
ص: 36
أو [6] الإيماءِ إلى وجهِ بِناء الخبرِ، نحو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾(1)(2).
ثم [7] إنّه ربما جُعِل ذريعةً الى التّعريضِ بالتّعظيم لِشأنِه، نحو:
إنّ الَّذي سَمَكَ السَّماءَ (3) بَنى لنا *** بيتاً دَعائِمُه أَعَزُّ (4) وأطوَلُ (5)
أو شأنِ غيرِه (6)، نحو: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ﴾ (7).
و بالإشارة [1] لتمييزِه، نحو:
هذا أبو الصَّقر (8) فَرْداً في مَحاسِنِه *** مِن نسل شيبانَ بين الضّالِ والسَّلَمِ (9)
أو [2] التّعريضِ بغَباوة السّامعِ، نحو:
أولئك آبائي فَجِئْني بِمِثلهم *** إذا جَمَعَتْنا يا جريرُ المَجامِعُ (10)
أو [3] بيانِ حالِه في القُربِ أو البُعدِ أو التَّوسُّطِ، كقولك: «هذا أو ذلك أو ذاك زيدٌ»، أو [4] تحقيرِه بالقُربِ، نحو: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ (11)، أو [5] تَعظيمِه بالبُعد، كقَولِه تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (12)، أو [6] تحقيرِه، كما يقال: «ذلك اللّعينُ فَعَلَ كذا»، أو [7] التّنبيهِ عند تعقيب المُشارِ إليه بأوصافٍ على أنّه جَديرٌ بما يَرِدُ بعدَه مِن أجْلها، نحو: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (13)،
ص: 37
وباللام [1] للإشارةِ إلى معهودٍ، نحو: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾(1)(2)(3)؛ أي: ليس الذي طَلبَتْ (4) كالّتي وُهِبَتْ لها، أو [2] إلى نفس الحقيقة، كقولك: «الرّجلُ (5) خيرٌ مِن المرأةِ». و[3] قد يأتي لواحدٍ باعتبار عَهديَّته في الذّهنِ، كقولك: «أدخُلُ السّوقِ»، حيثُ لا عهدَ (6)وهذا (7) في المعنى كالنَّكِرة (8)و[4] قد يُفيد الاستغراقَ، نحو: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (9)وهو (10) ضربان: حقيقيٌّ نحو: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (11)؛ أي: كلِّ غيبٍ وشهادةٍ، وعُرفيٌّ (12) كقولنا: «جمعَ الأميرُ الصّاغَةَ (13)»؛ أي: صاغةَ بَلَده أو مَملَكَته.
واستغراقُ المفردِ أشملُ بدليل صحّةِ «لا رِجالَ في الدار»، إذا كان فيها رجلٌ أو رجلانِ، دون «لا رَجُلَ». ولا تَنافِيَ بين الاستغراقِ وإفرادِ الاسمِ؛ لأنّ الحرفَ إنّما يَدخُل عليه (14) مجرّداً عن معنى الوحدةِ، ولأنّه بمعنى كلِّ فردٍ (15) لا مجموعِ الأفرادِ (16)، ولهذا امتَنَع وصفُه بنعت الجمع.
وبالإضافة؛ [1] لأنها أخصَرُ (17) طريق إلى إحضارِ المُسندِ إليه، نحو:
ص: 38
هَوايَ (1) مع الرَّكبِ اليَمانِيِّ (2) مُصْعِدٌ *** [جَنيبٌ (3) وجُثماني بمکّةَ مُوثَقُ (4)] (5)
أو [2] تَضَمُّنِها تعظيماً لشأن المضاف إليه، أو [3] المضافِ أو غيرهما كقولك: «عبدي حَضَرَ»، و«عَبدُ الخليفةِ رَكِبَ»، و«عَبدُ السُّلطانِ عندي»، أو [4] تحقيراً، نحو: «وَلَدُ الحَجّامِ حاضرٌ».
وأما تنكيرُه، [1] فللإفراد نحو: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ (6)، أو [2] النَّوعيّة، نحو: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ (7) (8)، أو [3] التّعظيم، أو [4] التّحقير، كقوله:
لَه حاجِبٌ في كُلِّ أمرٍ يَشينُهُ (9) *** وليس له عن طالِب العُرْفِ (10) حاجِبُ (11)
أو [5] التّكثير كقولهم: ﴿إنّ له لَإبِلاً (12) وإنّ له لَغَنَماً﴾، أو [6] التّقليل، نحو: ﴿وَرِضْوَانٌ (13) مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ (14) (15)و[7] قد جاء للتّعظيم والتّكثير، نحو: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ (16) مِنْ قَبْلِكَ﴾ (17)؛ أي: ذَوو عددٍ كثيرٍ وآياتٍ عظامٍ.
ومِن تَنكيرِ غيره (18) [1] للإفراد أو النَّوعيّةِ، نحو: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ص: 39
مَاءٍ﴾(1)(2)، و [2] للتّعظيمِ، نحو: ﴿فَأْذَنُوا (3) بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾(4)، و[3] للتّحقيرِ، نحو: ﴿إِنْ (5) نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾ (6).
وأما وصفُه، فلِكَونه [1] مُبيِّناً له كاشفاً عن معناه (7)، كقولك: «الجسمُ الطّويلُ العريضُ العميقُ يَحتاجُ إلى فَراغٍ يَشغَلُه (8)». ونحوه في الكشف قوله:
الأَلْمعيُّ (9) الّذي يَظُنُّ بك الظَّنْ *** نَ کَأنْ قد رآی وقد سَمِعا
أو [2] مُخصِّصاً، نحو: «زيدٌ التّاجرُ عندنا»، أو [3] مدحاً، أو [4] ذمّاً، نحو: «جاءني زيدٌ العالمُ أو الجاهلُ»، حيثُ يَتعَيَّنُ المَوصوفُ قبلَ ذِكرِه (10)، أو [5] تأكيداً، نحو: «أمسِ الدّابرُ كان يوماً عظيماً».
وأما توكيدُه، [1] فَلِلتّقريرِ، أو [2] لِدفع توهُّم التَّجوُّزِ (11)، أو [3] عدم الشُّمولِ.
وأما بيانُه (12)، [1] فلإيضاحه باسمٍ مختصٍّ به، نحو: «قَدِم صَديقُك خالدٌ».
وأما الإبدالُ (13) منه، فَلِزيادة التّقرير، نحو: «جاءني زيدٌ أخوك» (14)، «وجاء القومُ أكثرُهم» (15)، و«سُلِبَ عَمرٌو ثَوبُهُ» (16).
وأما العطفُ، [1] فَلِتفصيل المسندِ إليه مع اختصار، نحو: «جاءني زيدٌ وعمروٌ»، أو المسندِ كذلك، نحو: «جاءني زيدٌ لا عمروٌ»، أو [2] صَرفِ الحُكم إلى آخَرَ، نحو: «جاءني زيدٌ بل عمروٌ»، و«ما جاءني عمروٌ بل زيدٌ»، أو [3] الشّكِّ أو [4] التّشكيكِ
ص: 40
للسّامعِ، نحو: «جاءني زيدٌ أو عمروٌ».
وأما فصلُه (1)، فَلِتَخصيصِه (2) بالمسند.
وأما تقديمُه (3)، فَلِكَون ذكرِه أهمَّ، إمّا [1] لأنّه الأصلُ ولا مُقتضًى للعدول عنه، وإمّا [2] لِيَتَمكَّنَ الخبرُ في ذهن السّامع؛ لأنّ في المبتدإ تشويقاً إليه، كقوله (4):
والّذي حارَتِ (5) البريّةُ (6) فيه *** حَيَوانٌ مُستَحدَثٌ (7) مِن جَمادِ
و[3] إمّا لتعجيلِ المَسرَّة، أو [4] المَساءةِ للتَّفاؤُلِ أو التَّطيُّرِ (8)، نحو: «سَعدٌ في دارك، والسَّفّاحُ في دارِ صديقِك» (9)، و[5] إمّا لإيهامِ أنّه لا يَزولُ عن الخاطر، أو [6] أنّه يُستَلَذُّ به، وإمّا لِنَحوِ ذلك.
قال عبد القاهر: وقد يُقَدَّمُ (10) لِيُفيدَ تَخصيصَه بالخبر الفعلىِّ إِن وَلِىَ (11) حرفَ النَّفيِ، نحو: «ما أنَا قُلتُ هذا»؛ أي: لم أقُلْه مع أنّه مَقولٌ لِغيرى، ولِهذا لم يَصِحَّ: «ما أنَا قُلتُ هذا ولا غَيرى»، ولا «ما أنا رأيتُ أحَداً (12)»، ولا «ما أنا ضَرَبتُ إلّا زَيداً»، وإلّا فقد يأتي للتّخصيصِ ردّاً على مَن زَعَمَ انفرادَ غيرِه به أو مُشارَكتَه فيه، نحو: «أنا سَعَيتُ في حاجتِك». ويُؤَكَّدُ على الأوّلِ بنحوِ «لا غيري»، وعلى الثاني بنحو «وحدى».
وقد يأتي لتقوية الحكمِ، نحو: «هو يُعطي الجَزيلَ»؛ وكذا إذا كان الفعلُ مَنفيّاً، نحو: «أنت لا تَكذِبُ»؛ فإنّه أشدُّ لنفي الكذب من «لا تَكذِبُ»، وكذا مِن «لا تَكذِبُ
ص: 41
أنتَ»؛ لأنّه لتأكيدِ المحكومِ عليه (1) لا الحكمِ.
وإن بُنِى (2) الفعلُ على مُنَكَّرٍ، أفاد (3) تَخصيصَ الجنسِ أو الواحدَ به، نحو: «رجلٌ جاءني»؛ أي: لا امرأةٌ أو لا رَجُلانِ.
ووافَقَه السَّكّاكىُّ على ذلك، إلّا أنّه قال: التّقديمُ يُفيدُ الاختصاصَ إن جاز تقديرُ كَونِه في الأصلِ مُؤخَّراً على أنّه فاعلٌ معنًى فقط، نحو: «أنا قُمتُ»، وقُدِّرَ، وإلّا فلا يُفيدُ إلّا تَقَوّي الحكمِ؛ سَواءٌ جازَ (4) - كما مَرَّ - ولَم يُقَدَّرْ، أو لَم يَجُزْ، نحو: «زيدٌ قام». واستثنَى (5) المُنَكَّرَ، فجعله من باب ﴿وَأَسَرُّوا (6) النَّجْوَى الَّذِينَ (7) ظَلَمُوا﴾ (8)؛ أي: على القول بالإبدال من الضّمير، لئلاّ يَنتفي التّخصيصُ؛ إذ لا سببَ له (9) سِواهُ (10)، بخلاف المُعَرَّفِ (11)
ثم قال: وشَرطُه (12) أن لا يَمنَعَ مِن التّخصيص مانعٌ، كقولنا: «رجلٌ (13) جاءني» - على ما مَرَّ - دونَ قَولِهم: «شَرٌّ أهَرَّ (14) ذا نابٍ». أمّا على التقدير الأوّلِ (15)، فَلِامتِناعِ أن يُرادَ المُهِرُّ شَرٌّ لا خَيرٌ، وأمّا على الثّاني (16)، فَلِنُبُوِّه (17) عن مَظانِّ استِعماله؛ إذ قد صَرَّح
ص: 42
الأئمّةُ (1) بتخصيصه، حيثُ تَأَوَّلوه ب-«ما أهَرَّ ذا نابٍ (2) إلّا شَرٌّ». فالوجهُ تَفظيعُ شأنِ الشَّرِّ بتنكيرِه. وفيه نظرٌ؛ إذِ الفاعلُ اللّفظيُّ والمعنويُّ سَواءٌ في امتناع التّقديمِ ما (3) بَقِيا على حالِهما؛ فَتجويزُ تقديم المعنويِّ دونَ اللّفظيِّ تَحَكُّمٌ (4)
ثُمّ لا نُسلِّمُ (5) انتفاءَ التّخصيصِ لولا تقديرُ التّقديمِ، لِحصولِه (6) بغيره (7) كما ذَكرَه (8)؛ ثم لا نُسلِّمُ امتناعَ أن يُرادَ المُهِرُّ شَرٌّ لا خَيرٌ.
ثم قال (9): وَيَقرُبُ مِن «هو قامَ» «زيدٌ قائمٌ» في التَّقَوّى، لِتضمُّنِه الضَّميرَ. وشَبَّهَهُ بالخالي عنه (10) مِن جِهةِ عدمِ تَغَيُّرِه في التّكلُّمِ والخِطابِ والغيبَةِ (11)؛ ولهذا لمْ يُحكَمْ بأنّه (12) جُملةٌ ولا عُومِلَ مُعامَلَتَها في البِناءِ.
وممّا يُرى تقديمُه (13) كالّلازمِ لَفظُ مِثلٍ وغَيرٍ في نحو «مِثلُكَ لا يَبخَلُ»، و«غَيرُك لا يَجودُ»، بمعنى أنت لا تَبخَلُ، وأنت تَجودُ، مِن غير إرادةِ تعريضٍ لغير المخاطبِ؛ لكَونه (14) أعونَ (15) على المُرادِ بهما (16)قيل: وقد يُقَدَّمُ (17) لأنّه على العمومِ (18)، نحو: «كُلُّ إنسانٍ لَم يَقُمْ» (19)، بخلاف ما لو أُخِّرَ، نحو: «لم يَقُمْ كُلُّ إنسانٍ» (20)؛ فإنّه يُفيدُ نفيَ الحكمِ
ص: 43
عن جُملةِ (1) الأفرادِ لا عن كُلِّ فردٍ، و ذلك لِئَلّا يَلزِمَ ترجيحُ التّأكيدِ على التّأسيسِ (2)؛ لأنَّ الموجَبةَ (3) المُهمَلةَ (4) المَعدولةَ المَحمولِ (5) في قُوَّةِ السّالبةِ الجزئيَّةِ (6) المُستلزِمةِ نَفيَ الحُكمِ عن الجملةِ دون (7) كُلِّ فردٍ، والسّالبةَ المُهمَلةَ (8) في قُوَّةِ السّالبةِ الكُلِّيَّةِ (9) المُقتضِيةِ للنَّفيِ عن كلُّ فردٍ، لِوُرود مَوضوعِها (10) في سياق النَّفيِ (11)وفيه نظرٌ (12)؛ لأنّ النّفيَ عن الجملةِ (13) في الصّورة الأولى (14) وعن كُلِّ فردٍ في الثّانيةِ (15) إنّما أفادَه (16) الإسنادُ إلی ما أُضيفَ إليه كُلٌّ، وقد زال ذلك الإسنادُ، فيكونُ تأسيساً لا تأكيداً (17)، ولأنَّ الثّانيةَ إذا أفادت النَّفيَ عن كلِّ فردٍ، فقد أفادتِ النَّفيَ عن الجملة؛ فإذا حُمِلَت على الثّاني (18)، لا يكونُ «کُلٌّ» تأسيساً؛ و لأنّ النَّكرةَ المَنفِيَّةَ إذا عَمَّتْ، كان قَولُنا: «لم يَقُمْ إنسانٌ» كُلِّيَّةً لا مُهمَلةً.
وقال عبدُ القاهرِ: إن کانت كَلمةُ «كُلٍّ» داخلةً في حَيِّزِ النّفيِ بأن أُخِّرت عن أداتِه (19)، نحو:
ما (20) كُلُّ ما يَتَمَنَّى المرءُ يُدرِکُه *** [تَجري الرّياحُ بما لا تَشتَهي السُّفُنُ] (21)
أو معمولةً للفعل المَنفِيِّ، نحو: «ما جاءني القومُ كُلُّهم» أو «ما جاءني كُلُّ القومِ»، أو «لم آخُذْ كُلَّ الدّراهمِ» أو «كُلَّ الدراهم لم آخُذْ»، تَوَجَّهَ النّفيُ إلى الشُّمولِ خاصّةً (22)،
ص: 44
وأفاد ثبوتَ الفعلِ أو الوصفِ لِبعضٍ أو تَعَلُّقَه به، وإلّا عَمَّ، کقول النّبيِّ لمّا قال له ذو اليَدَينِ: «أقَصُرَتِ الصّلاةُ أم نَسيتَ؟»، «كُلُّ ذلك لم يَكُن». وعليه قوله (1):
قد أصبَحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي *** عليَّ ذَنْباً (2) کُلُّه (3) لم أصنَعِ (4)
وأمّا تأخيرُه (5)، فلاقتضاء المقامِ تقديمَ المسندِ.
هذا كلُّه مقتضى الظّاهرِ. وقد يُخَرَّجُ (6) الكلامُ على خِلافه، فيوضَعُ المُضمرُ مَوضِعَ المُظهَرِ، كقَولهم: «نِعْمَ رجلاً» مكانَ «نِعْمَ الرَّجُلُ زيدٌ» - في أحدِ القولَين - ، وقَولِهم: «هو أو هي زيدٌ عالمٌ» مكانَ الشّأنِ أو القصَّةِ، لِيَتَمَكَّنَ ما يَعقُبُه في ذهن السّامعِ؛ لأنّه (7) إذا لم يَفهَمْ منه (8) معنىً، اِنتَظَرَهُ.
وقد يُعكَسُ (9): فإنْ كان اسمُ إشارةٍ، [1] فَلِكمالِ العنايةِ بتمييزِه؛ لاختصاصِه بحكمٍ بديعٍ (10)، كقوله (11):
کَمْ (12) عاقلٍ عاقلٍ أعيَتْ (13) مَذاهبُه *** وجاهلٍ جاهلٍ تَلْقاهُ مَرزوقا
هذا (14) الّذي تَرَک الأوهامَ حائرةً (15) *** وصَيَّرَ (16) العالمَ النِّحريرَ (17) زِنديقا (18)
أو [2] التَّهكُّمِ (19) بالسّامعِ، كما إذا كان فاقدَ البَصَرِ، أو [3] النِّداءِ على كَمال
ص: 45
بَلادتِه (1)، أو [4] فَطانتِه (2)، أو [5] ادّعاءِ كمالِ ظُهوره؛ وعليه من غير هذا الباب:
تعالَلتِ (3) کَيْ أشجی (4) وما بكِ علَّةٌ *** تُريدينَ قتلي قد ظَفَرتِ بِذلكِ (5)
وإن كان غيرَه (6)، [1] فلزيادةِ التّمكُّنِ، نحو: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ (7)ونظيره من غيره (8): «وبالحقِّ (9) أنزلناه وبالحَقِّ نَزَلَ»، أو [2] إدخالِ الرَّوعِ (10) في ضمير السّامع وتربِيَة المَهابةِ (11)، أو [3] تقويةِ داعي (12) المأمورِ. مِثالُهما قَولُ الخلفاءِ: «أميرُ المؤمنينَ يأمرُك بكذا» (13)وعليه من غيره: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (14) (15)، أو [4] الاستعطافِ (16)، كقوله:
إلهي عبدُكَ (17) العاصي أتاکا (18) *** [مُقِرّاً بالذُّنوب وقد دَعاکا] (19)
تَطاوَلَ لَيلُكَ (1) بالأَثمُدِ (2) *** [ونامَ الخَلِيُّ (3) ولم تَرقُدِ (4)]
[وباتَتْ وباتَتْ له ليلةٌ *** کليلةِ ذي العائر الأرمَد] (5)
والمشهورُ أنّ الالتفاتَ هو التّعبيرُ عن معنًى بطريقٍ مِن الثّلاثة (6) بَعدَ التَّعبيرِ عنه (7) بآخَرَ منها (8)، وهذا أخصُّ (9)
مثالُ الالتفات من التّكلُّم إلى الخِطابِ: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (10) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (11)، وإلى الغيبةِ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ (12) وَانْحَرْ﴾ (13)، ومن الخِطاب إلى التكلم ك-:
طَحا بكَ (14) قلبٌ في (15) الحِسان (16) طَروبٌ (17)
بُعَيدَ (18) الشَّبابِ عَصرَ حانَ (19) مَشيبُ (20)
ص: 47
يُكَلِّفُني (1) لَيلى وقد شَطَّ (2) وَلْيُها (3) *** وعادتْ عَوادٍ (4) بينَنا وخُطوبُ (5)
وإلى الغيبة: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ (6) بِهِمْ﴾ (7) (8)، ومن الغيبة إلى التّكلّم: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ (9) الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ (10) سَحَابًا فَسُقْنَاهُ﴾ (11) (12)، وإلى الخِطاب: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (13).
ووجهُهُ (14) أنّ الكلامَ إذا نُقل من أسلوبٍ إلی أسلوبٍ، كان أحسنَ تَطرِيَةً (15) لِنَشاط السّامع، وأكثرَ إيقاظاً للإصغاءِ إليه.
وقد تَختصُّ مَواقِعُه (16) بلطائفَ، كما في الفاتحةِ؛ فإنَّ العبدَ إذا ذَكر الحقيقَ (17) بالحمد عن قلبٍ حاضرٍ، يَجِدُ مِن نَفْسه مُحرِّكاً للإقبالِ عليه؛ وكُلَّما أَجرى عليه صفةً مِن تلک الصّفاتِ العِظامِ، قَوِيَ ذلك المُحرِّكُ (18) إلی أن يَؤولَ [الأمرُ] (19) إلی خاتِمتها المفيدةِ أنّه مالكُ الأمرِ كُلِّه في يَومِ الجزاءِ؛ فحينئذٍ يُوجِبُ الإقبالَ عليه، والخِطابَ بتخصيصه بغايةِ الخضوعِ والاستعانةِ في المُهِمّاتِ.
ومِن خِلافِ المُقتضى تَلَقِّى (20) [1] المُخاطَبِ بغير ما يَتَرقَّبُ، بحَمْلِ كلامه على خِلاف مُراده تنبيهاً على أنّه هو الأَولى بالقصدِ، كقَول القَبَعْثَرى للحَجّاجِ، وقد قال له
ص: 48
مُتَوَعِّداً: «لَأَحمِلَنَّكَ على الأدهمِ (1)»، «مِثلُ الأميرِ يَحمِلُ على الأدهمِ والأشهب»؛ أي: مَن كان مِثلَ الأميرِ في السُّلطانِ وبَسْطَةِ اليَدِ، فَجديرٌ بأن يُصْفِدَ (2) لا أنْ يَصْفِدَ (3)أو [2] السّائلِ بغير ما يَتَطَلَّبُ بتنزيلِ سُؤاله منزلةَ غيرِه (4) تنبيهاً على أنه الأَولى بحالِه أو المُهِمُّ له، كقَوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ (5) لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ (6)، وكقَوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (7).
و[3] منه (8) التّعبيرُ عن المستقبَل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقُّق وُقوعه، نحو: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ (9) مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ (10)، ومِثلُه: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ (11) لَوَاقِعٌ﴾ (12)، ونحوه: ﴿ذَلِكَ (13) يَوْمٌ مَجْمُوعٌ (14) لَهُ النَّاسُ﴾ (15)
و[4] منه القلبُ، نحو: «عَرَضتُ النّاقةَ على الحَوْضِ». وقَبِلَه (16) السَّكّاكِىُّ مُطلقاً، ورَدَّه غيرُه مطلقاً، والحَقُّ (17) أنه إن تَضَمَّنَ اعتباراً لطيفاً قُبِلَ، کقوله:
وَمَهْمَةٍ (18) مُغْبَرَّةٍ أرجاؤُه (19) *** كأنَّ لَونَ أرضِهِ سَماؤُه
أي: لَونُها (20)، وإلّا رُدَّ، كقَوله:
ص: 49
أما تَركُه، فلِما مَرَّ (1)، كقولِه:
[ومَن يكُ أمسی بالمدينةِ رَحلُه] *** فإنّي وقَيّارٌ (2) بها لَغَريبُ
وقوله:
نَحنُ بما عندنا وأنت بما عِن- *** دَكَ راضٍ (3) والرّأيُ مُختلفُ
وقَولِك: «زيدٌ منطلقٌ (4) وعمروٌ»؛ وقَولِك: «خرجتُ فإذا زَيدٌ (5)»؛ وقولِه:
إنَّ مَحَلّاً وإنّ مُرتَحَلاً (6) *** وإنّ في السَّفْر إذ مَضَوْا مَهَلا (7)
أي: إنّ لنا في الدّنيا (8) ولنا عنها (9)؛ وقَولِه تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ (10).
وقَولُه تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ (11) يَحتَمِلُ الأمرَيْنِ (12)؛ أي: «أجْمَلُ»، أو «فأمري» (13)
ولا بُدَّ مِن قرينةٍ: كوقوع الكلامِ جواباً لِسؤالٍ مُحَقَّقٍ، نحو: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (14) (15)، أو مقدَّرٍ، نحو:
لِيُبْكَ يَزيدُ (16) ضارعٌ (17) لِخُصومة *** [ومُختَبِطٌ (18) ممّا تُطيح الطّوائحُ (19)] (20)
ص: 51
وفَضَّلُه (1) على خِلافه (2) بتَكَرُّرِ الإسنادِ إجمالاً، ثمّ تفصيلاً، وبوقوعِ نحوِ «يَزيدَ» غيرَ فَضلَةٍ، وبِكَونِ معرفةِ الفاعلِ كحُصول نعمةٍ غيرِ مُتَرقَّبةٍ؛ لأنّ أوّلَ الكلامِ غيرُ مَطمَع في ذكره (3)
وأما ذِكرُه: فَلِما مَرّ، أو أن يَتعيَّنَ كَونُهُ اسماً أو فِعلاً.
وأمّا إفرادُه (4): فلِكَونه غيرَ سببِىٍّ (5) مع عدمِ إِفادةِ تَقَوّى الحكمِ. والمُرادُ بالسّببىِّ نحوُ: «زَيدٌ أبوه مُنطلقٌ» (6)وأمّا كَونُه (7) فِعلاً، فَلِلتّقييدِ بأحد الأزمِنةِ الثّلاثة على أخصرِ وجهٍ مع إفادةِ التّجدُّد (8)، کقوله:
أوَ كُلّما وَرَدَت عُكاظَ قَبيلةٌ *** بَعَثوا إلَیَّ عَريفَهم (9) يَتَوسَّمُ؟
وأمّا كَونُه (10) اسماً، فَلِإفادةِ عدمِها (11)، کقوله:
لا يَألِفُ الدِّرهَمُ المَضروبُ (12) صُرَّتَنا (13) *** لكنْ يَمُرُّ عليها وهْو منطلقُ
وأمّا تَقييدُ الفعلِ بمفعولٍ ونحوِه (14)، فَلِتربيةِ (15) الفائدةِ. والمُقَيَّدُ في نحو «كان زيدٌ مُنطلِقاً» هو «منطلِقاً» لا «كان».
وأمّا تركُه (16)، فَلِمانعٍ منها.
ص: 52
وأمّا تقييدُه بالشّرط، فلِاعتباراتٍ (1) لا تُعرَفُ إلّا بمعرفةِ ما بين أدَواتِه (2) مِن التّفصيلِ. وقد بُيِّنَ ذلك في علم النّحوِ، ولكنْ لا بُدَّ مِن النّظرِ ههُنا في «إنْ» و«إذا» و«لَو». ف-«إنْ» و«إذا» للشّرط في الاستقبالِ، لكنَّ أصلَ «إنْ» عدمُ الجزمِ بوقوعِ الشّرطِ، وأصلَ «إذا» الجزمُ بوقوعِه (3)؛ ولذلك كان النّادرُ مَوقِعاً لِ-«إنْ»، وغَلَبَ لَفظُ الماضي مع «إذا»، نحو: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا (4) بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ (5)؛ لأنّ المرادَ بالحسنةِ الحسنةُ المطلَقةُ، ولهذا عُرِّفَتْ تعريفَ الجنسِ، والسَّيِّئةُ نادرةٌ بالنِّسبة إليها (6)، ولهذا نُكِّرتْ.
وقد تُستَعملُ «إنْ» في الجزم [1] تَجاهُلاً، أو [2] لعدم جَزْم المخاطبِ، كقَولك لِمَن يُكذِّبُك: «إن صَدَقتُ، فماذا تفعلُ؟»، أو [3] لِتنزيلِهِ (7) منزلةَ الجاهلِ لِمُخالَفَته لِما اقتضى العلمُ (8)، أو [4] التَّوبيخِ وتصويرِ أنّ المقامَ - لاشتمالِه على ما يَقلَعُ (9) الشّرطَ عن أصله - لا يَصلُحُ إلّا لِفَرضه (10) كما يُفرَضُ المحالُ، نحو: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ (11) الذِّكْرَ صَفْحًا (12) أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ (13) - فيمن قرأ «إنْ» بالكسر -، أو [5] تغليبِ غير المتَّصفِ به (14) على المتَّصِفِ به؛ وقَولُه تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾(15) يَحتَمِلُهما (16)
والتّغليبُ يَجري في فنونٍ كثيرةٍ، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (17)؛ وقوله
ص: 53
تعالى: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾(1) (2)؛ ومنه: أبَوان (3) ونحوُه (4)ولِكَونِهما (5) لِتعليق أمرٍ (6) بِغيرِه (7) في الاستقبالِ، كان كُلٌّ (8) مِن جُملَتَي (9) كُلٍّ (10) فعليّةً استقباليّةً، ولا يُخالَفُ ذلك لفظاً إلّا لنكتةٍ (11)؛ كإبراز (12) غيرِ الحاصلِ (13) في مَعرِض (14) الحاصلِ (15) ل- [1] قوّة الأسباب، أو [2] كَونِ ما هو للوقوع كالواقعِ، أو [3] التّفاؤلِ، أو [4] إظهارِ الرَّغبةِ في وقوعهِ (16)، نحو: «إن ظفرتَ بحُسن العاقبةِ فهو المَرامُ». فإنّ الطالب إذا عَظُمت رَغبتُه في حصول
ص: 54
أمرٍ، يَكثُر تصوُّرُه إيّاه (1)، فَرُبما يُخَيَّلُ إليه حاصلاً، وعليه: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ (2) (3).
قال السّكّاكِىُّ: أو [5] للتّعريضِ نحو: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (4)، ونظيره في التّعريضِ: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ (5)؛ أي: وما لكم لا تَعبُدونَ الّذي فَطَرَكُم؟ بدليلِ ﴿وَإِلَيْهِ (6) تُرْجَعُونَ﴾ (7)ووجهُ حُسْنِه (8) إسماعُ المخاطبين الحقَّ على وجهٍ لا يَزيدُ غضبَهم - وهو (9) تركُ التَّصريحِ بنسبتِهم إلى الباطل - ويُعينُ على (10) قبولِه (11)، لِكَونه أدخلَ في إمحاضِ (12) النُّصحِ، حيثُ لا يُريدُ لهم إلّا ما يُريدُ لنفسه.
و«لَو» (13) للشَّرطِ في الماضي مع القطعِ بانتفاء الشّرطِ، فيَلزَمُ عدمَ الثّبوت والمُضيَّ في جملَتَيها. فدخولُها على المضارع في نحو: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾(14)(15) لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتاً فوقتاً؛ كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ (16)(17)، وفي نحو: ﴿وَلَوْ تَرَى (18) إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ (19)(20) ل- [1] تنزيله (21) منزلةَ الماضي،
ص: 55
لِصدورِه عمّن لا خِلافَ في إخباره (1)، كما في ﴿رُبَمَا يَوَدُّ (2) الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (3)، أو [2] لِاستِحضارِ (4) الصّورةِ، كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ (5) استحضاراً لتلك الصّورة البديعةِ الدّالّة على القدرةِ الباهرةِ.
وأما تنكيرُه (6): [1] فلإرادة عدمِ الحصرِ والعهدِ، كقولك: «زيد كاتبٌ وعمروٌ شاعرٌ»؛ أو [2] للتّفخيمِ، نحو: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (7) (8)، أو [3] للتّحقير.
وأما تخصيصُه بالإضافة (9) أو الوصف (10)، فَلِتكونَ الفائدةُ أتمَّ، كما مَرّ.
وأما تركُه، فظاهرٌ ممّا سبقَ.
وأما تعريفُه، فلإفادة السّامعِ [1] حُكماً على أمرٍ معلومٍ له بإحدى طُرُق التّعريف بآخرَ مِثلِه، أو [2]لازمَ حُكمٍ كذلك، نحو: «زيدٌ أخوك وعمروٌ المنطلقُ» باعتبارِ تعريفِ العهدِ أو الجنسِ، وعكسُهُما (11)والثّاني (12) قد يُفيدُ قَصْرَ (13) الجنسِ على شىءٍ تحقيقاً، نحو: «زيدٌ الأميرُ»، أو مُبالَغةً لِكمالِه (14) فيه (15)، نحو: «عمروٌ الشُّجاعُ».
وقيل: الاسمُ مُتعيَّنٌ للابتداءِ لِدَلالتِه على الذّاتِ، والصِّفَةُ للخبريّةِ لِدِلالتها على أمرٍ نِسبيٍّ؛ ورُدّ بأنّ المعنى الشّخصُ الّذي له صفةُ صاحبِ الاسمِ.
وأمّا كَونُه (16) جملةً، ف- [1] لِلتّقوّي (17)، أو [2] لِكَونه سبباً، لِما مرّ؛ واسميّتُها (18) وفعليّتُها وشرطيّتُها لِما مَرّ.
ص: 56
وظرفيّتُها، لاختصار الفعليّة؛ إذ هي مقدَّرةٌ بالفعل على الأصَحِّ.
وأمّا تأخيرُه، فلأنّ ذِكرَ المُسندِ إليه أهمُّ، كما مَرّ.
وأمّا تقديمُه، فل- [1] -تخصيصِهِ (1) بالمسندِ إليه، نحو: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ (2)(3)؛ أي: بخلاف خُمور الدّنيا؛ ولهذا لم يُقَدَّمِ الظّرفُ في ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (4)، لئلاّ يُفيدَ ثُبوتَ الرّيبِ في سائر كُتبِ اللّهِ تعالى، أو [2] التّنبيهِ مِن أوّلِ الأمرِ على أنّه خبرٌ لا نعتٌ، كقَولِه (5):
له هِممٌ لا مُنتَهى لِكِبارها *** وهِمَّتُه الصّغرى أجَلُّ من الدّهرِ
أو [3] التّفاؤلِ، أو [4] التّشويقِ إلى ذِكرِ المسندِ إليه، نحو:
ثلاثةٌ تُشرِقُ (6) الدُّنيا ببَهجتها *** شمسُ الضُّحى (7) وأبو إسحقَ والقمرُ
تنبيه: كثيرٌ ممّا ذَكَره في هذا الباب والّذي قبلَه غيرُ مختصٍّ بهما، كالذِّكر والحذفِ وغيرِهما (8)، والفَطِنُ إذا أَتقَنَ اعتبارَ ذلك فيهما (9)، لا يَخفى عليه اعتبارُه في غيرهما.
ص: 57
الفعلُ مع المَفعولِ كالفِعلِ مع الفاعلِ (1) في أنّ الغرضَ مِن ذِكرِه (2) مَعَهُ (3) إفادةُ تَلَبُّسِه (4) به (5) لا إفادةُ وقوعِهِ (6) مطلقاً. فإذا لم يُذكَرْ (7) مَعَهُ (8) لغرضٍ، إن كانَ إثباتُه (9) لفاعله أو نفيُه عنهُ (10) مطلقاً، نُزِّل مَنزلةَ اللازمِ، ولم يُقَدَّرْ له مفعولٌ؛ لأنّ المقدَّرَ كالمذكور. وهو ضَرْبانِ: لأنه إمّا أن يُجعَلَ الفعلُ مطلقاً كنايةً عنه (11) متعلِّقاً بمفعولٍ مخصوصٍ دلّت عليه قرينةٌ أو لا. الثّاني. كقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(12)(13).
السَّكّاكِىُّ: ثُمّ إذا كانَ المقامُ خِطابيّاً لا استدلاليّاً، أفادَ ذلك مع التّعميمِ دَفعاً للتّحكُّمِ (14)
والأوّلُ كقول البُحتُرِيِّ في المُعتَزِّ باللّهِ:
شَجْوُ (15) حُسّاده (16) وغَيْظُ عِداه (17) *** أن يَرى مُبصِرٌ ويَسمَعَ واعى (18)
أي: أن يكونَ (19) ذو رؤيةٍ وذو سمْعٍ، فيُدرِكُ مَحاسنَه وأخبارَه الظّاهرةَ الدّالّةَ عَلى استِحقاقِه الإمامةَ (20) دونَ غيره، فلا يَجِدوا إلى مُنازَعَته سبيلاً، وإلّا وجبَ التّقديرُ بحسب القرائنِ.
ص: 58
ثُمّ الحذفُ (1)، إمّا [1] للبيان بعد الإبهام، كما في فعل المشيئة، ما لم يكن تعلُّقُه (2) به (3) غريباً، نحو: ﴿فَلَوْ شَاءَ (4) لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (5)، بخلاف نحو:
ولو شِئتُ أن أبکي دَماً لَبَکَيتهُ (6) *** عليه ولکنَّ ساحةَ الصّبر أوسعُ
وأمّا قَولُه:
ولم يُبقِ (7) منّي الشَّوقُ غَيرَ تَفَكُّرى *** فَلَو شِئتُ أن أبكي بكَيتُ تفكُّرا
فليس منه؛ لأن المرادَ بالأوّل البُكاءُ الحقيقيُّ؛
وإمّا [2] لدفع توهُّم إرادةِ غيرِ المرادِ ابتداءً، کقوله (8):
وكَم ذُدتُ (9) عنّي مِن تَحامُل حادثٍ (10) *** وسَوْرةِ أيّامٍ (11) حَزَزنَ (12) إلى العَظْمِ (13)
إذ لو ذَكَر اللّحْمَ، لَرُبما تُوُهِّمَ قبلَ ذِكر ما بعدَه أنّ الحزَّ لم ينتَهِ إلى العظْمِ.
وإمّا [3] لأنّه أُريدَ ذكرُه (14) ثانياً على وجهٍ يَتَضمّنُ إيقاعَ الفعل على صريحِ لفظه إظهاراً لكمال العناية بوقوعه (15) عليه (16)، کقوله (17):
ص: 59
قد طَلَبنا (1) فلم نجِدْ لك في السُّؤ *** دُدِ (2) والمَجدِ والمَكارمِ (3) مَثَلا
ويَجوزُ أنْ يكونَ السّببُ تركَ مُواجَهَةِ (4) الممدوحِ بطلبِ مِثلٍ له.
وإمّا [4] للتّعميمِ مع الاختصارِ، کقولك: «قد كانَ مِنك ما يُؤلِمُ (5)»؛ أي: كُلَّ أحدٍ. وعليه: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ (6).
وإمّا [5] لمجرّد الاختصارِ عند قيامِ قرينةٍ، نحو: «أَصغيتُ إليه (7)»؛ أي: أُذُني. وعليه: ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ (8)؛ أي: ذاتَك؛
وإمّا [6] للرِّعاية على الفاصلةِ، نحو: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾(9)(10)؛
وإمّا [7] لِاستِهجانِ (11) ذِكرِه، کقول عائشةَ (رضی الله عنها) (12): «ما رأيتُ منه ولا رأى منّي»؛ أي: العَورةَ؛
وإمّا [8] لنكتة أخرى.
وتقديمُ مفعوله ونحوِه (13) عليه (14) لِردِّ الخطإِ في التّعيينِ، کقولك: «زيداً عرفتُ»، لِمَن اعتقد أنّك عرفتَ إنساناً وأنّه غيرُ زيدٍ، وتقول لتأكيده لا غيره؛ ولذلك لا يقالُ: «ما زيداً ضربتُ ولا غيرَه»، ولا «ما زيداً ضربتُ ولكنْ أكرمتُه». وأمّا نحو: «زيداً عرفتُه»،
ص: 60
فتأكيدٌ إنْ قُدِّر المُفسِّرُ قبلَ المنصوبِ، وإلّا فتخصيصٌ. وأمّا نحو: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾(1)، فلا يُفيد إلّا التّخصيصَ. وكذلك قولُك: «بزَيدٍ مررتُ» (2).
والتّخصيصُ لازمٌ للتّقديمِ غالباً؛ ولهذا يُقالُ في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (3) معناه: نَخُصُّك بالعبادة والاستعانة؛ وفي: ﴿لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ (4) معناه: إليه لا إلى غيره. ويُفيد (5) في الجميعِ وراءَ (6) التّخصيصِ اهتماماً بالمقدَّم (7)؛ ولهذا يُقَدَّرُ في «بسم الله» مؤخَّراً. وأُورِدَ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ (8)، وأُجيبَ بأن الأهمَّ فيه القراءةُ، وبأنَّه متعلِّقٌ ب-«اقرأ» الثاني ومعنى الأول: أَوجِدِ القِراءةَ.
وتقديمُ بعضِ معمولاتِه (9) على بعضٍ لأنّ [1] أصلَه التّقديمُ ولا مقتضىً للعُدول عنه، كالفاعل في نحو: «ضرب زيدٌ عَمراً»، والمفعولِ الأوّل في نحو: «أعطيتُ زيداً درهماً»؛
أو [2] لأنّ ذِكرَه أهمُّ، کقولك: «قَتَل الخارجِيَّ فُلانٌ»؛
أو [3] لأنّ في التّأخيرِ إخلالاً ببيان المعنی، نحو: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾(10)فإنّه لو أُخِّر ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ عن قوله: ﴿يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾، لَتُوُهِّمَ (11) أنّه مِن صِلَةِ (12) ﴿يَكْتُمُ﴾، فلا يُفهَمُ أنّه (13) مِنهم؛
أو [4] بالتّناسب، كرعاية الفاصلة، نحو: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾(14) (15).
ص: 61
[الباب الخامس] القصر (1)
القصرُ حقيقيٌّ (2) وغيرُ حقيقيٍّ، و منهما نَوعانِ: قصرُ المَوصوفِ على الصِّفةِ وقصرُ الصِّفةِ على الموصوفِ. والمرادُ المعنويَّةُ (3) لا النَّعتُ (4).
والأوّلُ (5) مِن الحقيقيِّ نحوُ: «ما زيدٌ إلّا كاتبٌ»، إذا أُريدَ أنّه لا يَتَّصِفُ بغيرها. وهو لا يَكادُ يوجَدُ لِتَعذُّر (6) الإحاطةِ بصفاتِ الشّيءِ (7)والثاني (8) كثيرٌ، نحو: «ما في الدّار إلّا زيدٌ». وقد يُقصَدُ به المُبالَغةُ لعدم الاعتدادِ (9) بغير المذكور.
والأوّلُ مِن غير الحقيقيِّ (10): تخصيصُ أمرٍ (11) بصفةٍ دون أخرى أو مكانَها (12)والثاني: تخصيصُ صفةٍ بأمر دونَ آخرَ أو مكانَه. فكلٌّ منهما ضَربانِ، والمخاطَبُ بالأوّل مِن ضربَينِ كُلُّ مَن يَعتقد الشَّرِكةَ (13)، ويُسَمّى «قَصرُ إفرادٍ (14)» لقطع الشِّرْكةِ؛ وبالثاني [1] مَن يَعتقدُ العكسَ، ويُسمّى «قَصرُ قَلبٍ (15)» لِقَلب حُكمِ المخاطبِ؛ أو [2] تَساوَيا
ص: 62
عنده، ويُسمّى «قَصرُ تَعيينٍ». وشرطُ قصرِ الموصوفِ على الصّفةِ إفراداً عدمُ تنافي الوصفَين، وقلْباً تَحَقُّقُ تَنافيهما، وقَصرُ التّعيين أعَمُّ.
وللقصر طرقٌ (1)؛ منها:
[1] العطفُ، كقولك في قصره (2): «زيدٌ شاعرٌ لا كاتب»، أو «ما زيدٌ كاتباً بل شاعرٌ». وقلباً: «زيدٌ قائمٌ لا قاعدٌ»، أو: «ما زيدٌ قاعداً بل قائمٌ». وفي قصرها (3): «زَيدٌ شاعرٌ لا عمروٌ»، أو «ما عمروٌ شاعراً بل زيدٌ».
ومنها [2] النّفيُ والاستثناءُ، کقولك في قصره: «ما زيدٌ إلّا شاعرٌ»، و«ما زيدٌ إلّا قائمٌ»، وفي قصرها: «ما شاعرٌ إلّا زيدٌ».
ومنها [3] إنّما، کقولك في قصره: «إنّما (4) زيدٌ كاتبٌ»، و«إنّما زيدٌ قائمٌ»، وفي قصرها: «إنّما قائمٌ زيدٌ» لِتَضَمُّنِه معنى «ما» و«إلّا»، [1] لِقَول المفسّرينَ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ (5) بالنّصبِ، معناه: «ما حَرَّم عليكم إلّا الميتةَ» وهو المُطابِقُ لقِراءة الرّفعِ لِما مَرّ؛ و[2] لِقَول النُّحاةِ: «إنّما لإثباتِ ما يُذكَرُ بعدَه ونَفيِ ما سِواه»؛ و[3] لِصحة انفصال الضّمير معه (6)قال الفرزدق:
أنا الذّائدُ (7) الحامِي (8) الذِّمارِ (9) و (10)إنّما *** يُدافِعُ عن أحسابِهم (11) أنَا أو مِثلي
ص: 63
ومنها [4] التّقديمُ، کقولك في قصرِه: «تَميميٌّ أنا»، وفي قصرها: «أنا كَفَيتُ مُهمَّكَ». وهذه الطُّرقُ تَختلفُ مِن وجوهٍ:
[1] فدَلالة الرّابع (1) بالفَحوى (2)، والباقيةِ بالوضعِ؛ [2] والأصلُ في الأول (3) النّصُّ على المُسبَّبِ والمَنفِىِّ - كما مَرّ - فلا يُترَكُ إلّا كَراهةَ الإطنابِ؛ كما إذا قيل: «زيدٌ يَعلَمُ النَّحوَ والتّصريفَ والعَروضَ»، أو: «زيدٌ يَعلمُ النَّحوَ وعَمروٌ وبَكرٌ»، فتقولُ فيهما: «زيدٌ يَعلمُ النَّحوَ لا غيرُ»، أو نحوُه (4)، وفي الثَّلاثةِ الباقيةِ (5) النّصُّ على المُثبَتِ فقط؛ [3] والنّفيُ لا يُجامِع الثّانيَ (6)؛ لأنّ شرطَ المنفيِّ ب-«لا» أن يکون مَنفيّاً بغيرها، ويُجامِعُ الأخيرَين (7)؛ فيُقالُ: «إنّما تميميٌّ لا قَيسيٌّ»، «وهو يأتينا لا عمروٌ»؛ لأنّ النّفيَ فيهما (8) غيرُ مُصرَّحٍ (9) به؛ کما يُقالُ (10): «اِمتَنَع زيدٌ عن المجيءِ لا عمروٌ».
السَّکّاکِيُّ: شرطُ مُجامَعَتِه للثّالثِ (11) أن يکونَ الوصفُ مختصّاً بالموصوف، نحو: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ (12)[فقالَ] (13) عبدُ القاهر: لا تَحسُنُ في المختصّ كما تَحسُنُ في غيره؛ و هذا أقربُ؛
[4] وأصلُ الثّاني (14) أن يکونَ ما استُعمِل له ممّا يَجهَلُه المُخاطبُ ويُنكِرُهُ، بخلاف الثّالثِ (15)، کقولك لصاحبك وقد رأيتَ شَبَحاً مِن بعيدٍ: «ما هو إلّا زيدٌ»، إذا اعتقدتَ غيرَه مُصِرّاً.
ص: 64
وقد يُنَزَّلُ المعلومُ مَنزلةَ المجهولِ، لاعتبارٍ مناسبٍ، فيُستَعمَلُ له الثّاني إفراداً، نحو: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ (1)؛ أي: مقصورٌ على الرّسالةِ لا يَتَعدّاها (2) إلی التّبرّي من الهلاك، نُزِّلَ استِعظامُهم هلاكَه منزلةَ إنکارِهم إيّاهُ؛ أو قلباً، نحو: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ (3)فالمُخاطَبون - وهُم الرُّسُلُ عليهم الصّلاةُ والسّلامُ - لم يكونوا جاهلينَ بكَونِهم بَشَراً، ولا مُنكِرين لذلك، لكنَّهم نُزِّلوا منزلةَ المُنكِرينَ لاعتقاد القائلينَ أنّ الرّسول لا يكونُ بشراً، مع إصرارِ المخاطبينَ (4) على دعوى الرّسالةِ. وقولُهم (5): ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ (6) مِن مُجاراة (7) الخصمِ (8) لِيَعثِرَ (9)؛ حيثُ يُرادُ تَبكيتُه (10) لا تسليمُ انتفاء الرّسالةِ.
وكقَولِكَ (11): «إنّما هو أخوكَ»، لِمَن يَعلَم ذلك وتُريدُ أن تُرَقِّقَهُ (12) عليه.
وقد يُنزَّلُ المجهولُ (13) منزلةَ المعلوم (14) لادّعاء ظهورِه (15)، فيُستعمَلُ له الثّالثُ (16)، نحو: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (17)؛ ولذلك (18) جاءَ: ﴿أَلَا (19) إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾(20) للرّدِّ عليهم مؤكِّداً بما ترى.
ص: 65
ومزيّةُ «إنّما» على العطف أنّه يُعقَلُ منها الحُكمانِ (1) معاً. وأَحسَنُ مَواقِعِها التّعريضُ (2)، نحو: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (3)؛ فإنّه تعريضٌ بأنّ الكفّارَ مِن فَرطِ جَهلِهم كالبهائِمِ؛ فطَمَعُ النّظرِ (4) منهم كطَمَعِه منها (5)
ثُمّ القصرُ كما يقعُ بين المبتدإِ والخبرِ - على ما مَرَّ - يَقعُ بينَ الفعلِ والفاعلِ وغيرِهما (6)ففي الاستثناءِ يُؤَخَّرُ المَقصورُ عليه مع أداة الاستثناءِ. وقَلَّ تقديمُهما بحالهما، نحو: «ما ضَرَب إلّا عَمراً زيدٌ» (7)، و«ما ضَربَ إلّا زيدٌ عَمراً» (8)؛ لاستِلزامِه قصرَ الصِّفة قبلَ تمامها.
ووجهُ الجميعِ أنّ النّفيَ في الاستثناءِ المفرَّغِ (9) يَتَوجّهُ إلی المُقدَّر، وهو مستثنىً منه عامٌّ مُناسبٌ للمستثنى في جنسه وصفته. فإذا أُوجِبَ (10) منه (11) شيءٌ ب- «إلّا»، جاء القصرُ.
وفي «إنّما» يُؤخَّرُ المقصورُ عليه. تقول: «إنّما ضَرب زيدٌ عَمراً»، ولا يجوز تقديمُه (12) على غيره (13) للإلباس.
و«غيرُ» ك-«إلّا» في إفادة القصرَينِ (14) وفي امتناع مُجامَعَة «لا».
ص: 66
إن كانَ طلباً، استدعى مطلوباً غيرَ حاصلٍ وقتَ الطّلبِ. وأنواعُه (1) كثيرةٌ؛ منها: التمني، واللّفظُ المَوضوعُ له «لَيتَ»، ولا يُشتَرَطُ إمكانُ المُتَمَنّى. تقول: «لَيتَ الشَّبابَ يَعودُ». وقد يُتَمَنّى ب-«هَلْ»، نحو: «هَل لي مِن شفيعٍ؟!»، حيثُ يُعلَمُ أنْ لا شفيعَ له. وقد يُتَمَنّی ب-«لَوْ»، نحو: «لَو (2) تأتيني فَتُحَدِّثَني!» - بالنصب.
السّكّاكِىُّ: كأنّ حروفَ التّنديم والتّحضيض - وهي «هَلّا» و«ألّا» (بقلب الهاء همزةً) و«لولا» و«لوما» (3) مأخوذةٌ منهما (4) مُركَّبتَينِ مع «لا» و«ما» المَزيدتَين لِتضمينهما معنَى التّمنّي، لِيَتَوَلَّدَ منه (5) في الماضي التَّنديمُ -، نحو: «هَلاّ أكرمتَ زيداً؟!» - وبالمضارع التّحضيضُ -، نحو: «هَلاّ تَقومُ؟!».
وقد يُتَمنّى ب-«لَعلَّ» (6) ويُعطى حُكمَ «لَيتَ»، نحو: «لَعَلّي (7) أحُجُّ فأزورَكَ» - بالنّصبِ - ؛ لِبُعدِ المَرجُوِّ عن الحصول.
ومنها الاستفهامُ، وألفاظُه المَوضوعةُ له: الهمزةُ وهَلْ وما ومَنْ وأيْنَ وكَمْ وكَيْفَ وأَيْنَ وأنّی ومَتى وأَيّانَ.
فالهمزةُ لِطَلَب التّصديقِ (8)، کقولك: «أ قامَ زيدٌ»، و«أ زيدٌ قائمٌ»؛ أو التّصوُّرِ (9)، کقولك: «أَ دِبْسٌ (10) في الإناءِ أم عسلٌ؟»، و«أ في الخابيةِ (11) دِبسُكَ أم في الزِّقّ (12)؟!».
ص: 67
ولهذا لَم يَقبُحْ «أ زيدٌ قامَ؟»، و«أ عَمراً عرفتَ؟». والمسئولُ عنه (1) بها (2) هو ما يَليها (3)؛ كالفعل في «أ ضربتَ زيداً؟»، والفاعل في «أأنتَ ضربتَ»، والمفعولِ في«أ زيداً ضربتَ؟».
وهَلْ لِطلبِ التَّصديقِ فحسبُ، نحو: «هل قام زيدٌ؟» و«هل عمروٌ قاعدٌ؟». ولهذا امتنع «هل زيدٌ قام أم عمروٌ؟»، وقَبُحَ: «هل زيداً ضربتَ؟»؛ لأنّ التّقديمَ يَستدعى حُصولَ التّصديقِ بنفس الفعلِ، دونَ (4) «هل زيداً ضربتَهُ؟» لِجواز تقديرِ المُفسِّر قَبلَ «زيداً».
وجَعل السَّکّاکيُّ قُبحَ «هل رجلٌ عَرَف؟» لذلك، ويَلزَمُه (5) أن لا يَقبُحَ: «هل زيدٌ عَرَف؟». وعَلَّلَ (6) غيرُه (7) قُبحَهما بأنّ «هَل» بمعنى «قد» في الأصل، وتَركُ الهمزةُ قبلَها لِكَثرة وقوعِها في الاستفهام.
وهي تُخَصِّصُ المضارعَ بالاستقبالِ، فلا يَصِحُّ «هل تَضربُ زيداً وهو أخوكَ؟!»؛ کما يصحُّ «أتضربُ زيداً وهو أخوكَ؟!».
ولاختصاصِ التّصديقِ بها (8) وتخصيصِها المضارعَ بالاستقبالِ كان لها مزيدُ اختصاصٍ بما كَونُه زمانيّاً أظهرَ كالفعلِ (9)؛ ولهذا كان ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (10) أدَلَّ على طلب الشُّكر مِن «فهل تَشكُرونَ»، و«فَهَل أنتم تَشكُرونَ»؛ لأنّ إبرازَ ما سَيتَجَدَّدُ في مَعرِضِ الثّابت أدلُّ على كمال العنايةِ بحصوله مِن «أ فأنتم شاكرونَ»، وإن كان للثّبوت؛
ص: 68
لأن «هل» أدعى للفعل مِن الهمزةِ، فَتَركُه (1) معها (2) أدلُّ على ذلك؛ ولهذا لا يَحسُنُ «هل زيدٌ منطلق؟» إلّا مِن البليغِ (3)
وهِىَ (4) قِسمانِ: بسيطةٌ، وهي التي طُلِب بها وجودُ الشّيءِ، کقولنا: «هل الحركةُ موجودةٌ؟»، ومركّبةٌ، وهي التي بها وجودُ شيءٍ لشيءٍ، کقولنا: «هل الحركةُ دائمةٌ؟»؛ والباقيةُ لطلب التّصوُّر فقط.
قيل: فَيُطلَبُ ب-«ما» [1] شرحُ الاسمِ، کقولنا: «ما العنقاءُ؟»، أو [2] ماهيّةُ المُسمّى (5)، کقولنا: «ما الحركةُ؟». وتقع «هل» البسيطةُ في التّرتيب بينهما؛ وب-«مَنْ» العارضُ المشخَّصُ لذى العِلمِ، کقولنا: «مَنْ في الدار؟».
وقال السّكّاكىُّ: يُسأل ب-«ما» عن [1] الجنس. تقول: «ما عندكَ؟»؛ أي: أيُّ أجناسِ الأشياءِ عندك؟ وجوابُه: كتابٌ ونحوه؛ أو عن [2] الوصف. تقول: «ما زيدٌ؟»، وجوابُه الكريم ونحوه.
وب-«مَن» عن الجنس مِن ذوي العلمِ. تقول: «مَن جِبريلُ؟»؛ أي: أ بشرٌ هو أ ملَكٌ أم جِنِّيٌّ؟ وفيه نظرٌ.
وب-«أيّ» عمّا يُميِّزُ أحدَ المُشتَرَکينَ في أمر يَعُمُّهما، نحو: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا﴾ (6)؛ أي: أنَحنُ أم أصحابُ محمّدٍ (صلی الله علیه و آله و سلم).
وب-«كَم» عن العدد، نحو: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ (7).
وب-«كَيفَ» عن الحال؛ وب-«أَينَ» عن المكان؛ وب-«متی» عن الزّمانِ (8)؛ وب-«أَيّانَ» عن المستقبل. قيل: وتُستَعمَلُ في مواضعِ التّفخيم، مثل: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ (9) يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ (10)
ص: 69
و«أنّى» تُستَعمَلُ تارةً بمعنى «كيفَ»، نحو: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ (1)، وأخرى بمعنى «مِن أينَ»، نحو: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ (2)
ثمّ إنّ هذه الكلماتِ کثيراً ما تُستَعمَلُ في غير الاستفهام؛ ك- [1] الاستبطاءِ (3)، نحو: «كَم دَعَوتُكَ؟!»؛ و[2] التّعجّبِ، نحو: ﴿مَا (4) لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ (5)؛ و[3] التّنبيهِ على الضَّلالِ، نحو: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ (6)؛ و[4] الوعيدِ (7)، كقَولِك لِمَن يُسيءُ الأدَبَ: «ألَم أُؤَدِّبْ فلاناً؟»، إذا عَلِمَ ذلك. و[5] التقريرِ (8) بإيلاء المقرَّرِ به الهمزةَ - كما مرّ-، و[6] الإنکارِ كذلك، نحو: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾ (9)، ومنه: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (10)؛ أي: اَللّهُ كافٍ له، ونَفيُ النّفيِ إثباتٌ، وهذا مُرادُ مَن قال: إنّ الهمزةَ فيه للتّقرير بما دَخَلَه النَّفيُ (11) لا بالنَّفي (12)ولإنکارِ (13) الفعل صورةٌ أخرى، وهي نحو: «زيداً ضربتَ أم عَمراً؟» لِمَن يُردِّدُ الضّربَ بينهما. والإنکارُ إمّا للتَّوبيخِ (14)؛ أي: ما كان يَنبغي أن يکونَ ذلك، نحو: «أ عَصيتَ ربَّكَ؟»، أو لا يَنبَغي أن يکونَ (15)، نحو: «أ تَعصی ربَّكَ؟»؛ أو للتّكذيبِ، أي لم يكنْ، نحو: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ (16)، أو لا يكونُ، نحو: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ (17)؛ و[7] التَّهكُّمِ، نحو: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ
ص: 70
آبَاؤُنَا﴾ (1)؛ و[8] التّحقيرِ نحو: «مَن هذا؟»؛ و[9] التهويلِ، كقراءة ابن عباس ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ﴾(2) - بلفظ الاستفهامِ ورفعِ فرعونَ؛ ولهذا قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (3)؛ و[10] الاستبعادِ، نحو: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ (4).
ومنها (5) الأمرُ، والأظهرُ أنّ صيغتَه مِن المُقتَرِنةِ باللام، نحو: لِيَحضُرْ زيدٌ، وغيرها نحو: أكرِمْ عَمراً، ورُوَيدَ بَكراً موضوعةٌ (6) لطلب الفعل استعلاءً (7)، لِتبادُر الفهمِ عند سَماعها إلی ذلك المعنى.
وقد تُستعمَلُ لغيره ك- [1] الإباحةِ، نحو: «جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سيرينَ»؛ و[2] التّهديدِ، نحو: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ (8)؛ و[3] التّعجيزِ (9)، نحو: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ (10)؛ و[4] التّسخيرِ (11)، نحو: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (12)؛ و[5] الإهانةِ (13)، نحو: ﴿كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾ (14)؛ و[6] التّسويةِ، نحو: ﴿اصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ (15)؛ و[7] التّمنّي، نحو:
ص: 71
ألا أيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انجَلي *** [بِصُبْحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ]
و[8] الدُّعاءِ (1)، نحو: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ (2)؛ و[9] الالتماسِ، كقَولِكَ لِمَن يُساويكَ رُتبةً: «اِفعَل» - بدونِ الاستعلاءِ.
ثُمّ الأمرُ. قال السّكّاكىُّ: حَقُّه الفَوْرُ؛ لأنّه [1] الظّاهرُ مِن الطّلب، و[2] لِتبادُر الفهمِ عند الأمر بشيءٍ بعدَ الأمرِ بخِلافه إلی تغيير الأوّل دون الجمعِ وإرادة التّراخي؛ وفيه نظرٌ.
ومنها النّهيُ، وله حرفٌ واحدٌ وهو «لا» الجازمةُ في نحو قولك: «لا تَفعَلْ». وهو كالأمر في الاستعلاء. وقد يُستَعمَلُ في غير طلبِ الكَفِّ أو التّركِ، كالتّهديدِ، کقولِك لعبدٍ لا يَتمَثَّلُ أمرَك: «لا تَمتَثِلْ أمري».
وهذه الأربعةُ يَجوزُ تَقديرُ الشّرط بعدَها، کقولك: «لَيتَ لي مالاً أُنفِقْهُ»، و«أينَ بَيتُكَ أَزُرْكَ»، و«أكْرِمني أُكْرِمْكَ»، و«لا تَشتُمْني يَكُنْ خيراً لكَ».
وأمّا العَرْضُ (3)، کقولك: «ألا تَنزِلْ تُصِبْ خيراً؟!». فمُوَلَّدٌ مِن الاستفهامِ. ويجوز (4) في غيرها (5) لقرينةٍ، نحو: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ (6)؛ أي: إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍّ.
ومنها النِّداءُ ، وقد تُستَعملُ صيغتُه كالإغراء في قولك لِمَن أَقبَلَ يَتَظَلَّمُ (7): «يا
ص: 72
مظلومُ» (1)، والاختصاصِ في قولهم: «أنا أفعَلُ كذا أيُّها الرّجلُ» (2)؛ أي: مُتَخصِّصاً مِن بين الرِّجال.
ثُمّ الخبرُ قد يَقَعُ مَوقعَ الإنشاءِ، إمّا [1] للتّفاؤُلِ، أو [2] لإظهار الحرصِ في وقوعه - كما مَرَّ. والدُّعاءُ بصيغة المُضيِّ مِن البليغِ يَحتَمِلُهما، أو [3] للاحترازِ عن صورةِ الأمرِ، أو [4] حمْلِ المخاطبِ على المطلوبِ بأَنْ (3) يكونَ ممّن لا يُحِبُّ أن يُكَذَّبَ الطّالبُ (4)
الإنشاءُ كالخبر في كثيرٍ ممّا ذُكر في الأبواب الخمسةِ السّابقةِ (5)، فَليَعتبِرْه النّاظرُ.
ص: 73
الوصلُ عطفُ بعضِ الجُمَلِ على بعضٍ، والفصلُ تَركُه. فإذا أتَتْ جُملةٌ بعدَ جُملةٍ، فالأُولى إمّا يَكونُ لها مَحلٌّ مِن الإعرابِ أو لا؛ وعلى الأوّلِ،إن قُصِد تَشريكُ الثّانيةِ لها في حُكمِه، عُطِفَتْ عليها (1) كالمفردِ. فشرطُ کَونِه مقبولاً - بالواو ونحوِه - أنْ يکونَ بينَهما جِهةٌ جامعةٌ، نحو: «زيدٌ يکتُبُ ويَشعُرُ»، أو «يُعطي ويَمنَعُ»؛ ولهذا (2) عيبَ علی أبي تَمّامٍ قَولُه:
لا والّذي هو عالمٌ! أنّ النّوی *** صَبِرٌ (3) وأنّ أبا الحسينِ کريمُ (4)
وإلّا فُصِلَتِ الثانيةُ عنها، نحو: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ (5).
لم يُعطَف ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ علی ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾؛ لأنّه ليسَ مِن مَقولهم.
وعلی الثّاني (6)، إنْ قُصِد ربطُها بها (7) علی معنیً عاطفٍ سِوی الواو، عُطفتْ به (8)، نحو: «دَخلَ زيدٌ فخرجَ عمروٌ»، أو «ثُمّ خرجَ عمروٌ». وإذا قُصِد التّعقيبُ أو المُهلةُ، فإن کان للأُولی حُکمٌ لم يُقصَدْ إعطاؤُه للثّانية، فالفصلُ، نحو: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ (الآية) لم يُعطَفْ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ علی ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾؛ لئلّا يُشارِکَه في الاختصاصِ بالظّرفِ لِما مَرَّ. وإلّا فإن کان بينَهما کمالُ الانقطاع بلا إيهامٍ أو کمالُ الاتّصالِ أو شِبهُ أحدِهما، فکذلكَ، وإلّا فالوصلُ.
أما کمالُ الانقطاعِ، فلاختلافِهما خبراً وإنشاءً، لفظاً ومعنیً، نحو:
ص: 74
وقال رائدُهم (1): أرسوا (2) نُزاولُها (3) *** فکُلُّ حَتف امرئٍ يَجري بمقدارِ (4)
أو معنیً فقط، نحو: «مات فلانٌ. رَحِمَه اللهُ!». أو لأنّه لا جامِعَ بينهما - کما سيأتي.
وأمّا کمالُ الاتّصال، فلکَون الثّانيةِ [1] مؤکِّدةً للأُولی لدفع توهُّمِ تجوُّزٍ أو غلطٍ (5)، نحو: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (6)؛ فإنّه لمّا بولِغَ في وصفه ببُلوغه الدّرجةَ القُصوی في الکمال بجعْلِ المبتدإ ذلك، جازَ أن يَتوهَّمَ السّامعُ قبلَ التّأمُّلِ أنّه (7) مِمّا يُرمی به جَزافاً، فأتبَعَه نفياً لذلك؛ فَوِزانُه وِزانُ «نفسه» في: «جاءني زيدٌ نفْسُه». ونحو: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (8)؛ فإنّ معناه أنّه في الهداية بالِغٌ درجةً لا يُدرَكُ کُنهُها حتّی کأنّه هدايةٌ محضةٌ. وهذا معنی ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (9)؛ لأن معناه - کما مَرَّ - الکتابُ الکاملُ؛ والمرادُ بکمالِه کمالُه في الهدايةِ؛ لأنّ الکتبَ السّماويّةَ بحسَبِها تتفاوتُ في درجات الکمالِ. فوِزانُه وزانُ «زيد» الثّاني في «جاءني زيدٌ زيدٌ»؛ أو [2] بدلاً منها؛ لأنها غيرُ وافيةٍ بتمام المُرادِ أو کغيرِ الوافيةِ بخِلاف الثّانيةِ، والمقامُ يقتضي اعتناءً بشأنه لنکتةٍ ککَونه مطلوباً في نفسه أو فظيعاً أو عجيباً أو لطيفاً، نحو: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ (10) (11)؛ فإنّ المرادَ التّنبيهُ على نِعَم اللّه تعالى. والثّاني أوفى بتأديتِه لِدَلالتِهِ عليها بالتّفصيلِ مِن غَيرِ
ص: 75
إحالةٍ على عِلمِ المُخاطَبينَ المُعانِدينَ، فَوِزانُه وِزانُ «وجهه» في «أعجَبَني زيدٌ وجهُهُ» لدُخول الثّاني في الأول.
والثّاني (1) نحوُ قوله:
أَقولُ له ارحَلْ لا تُقيمَنَّ عِندَنا *** وإلّا فَكُنْ في السِّرِّ والجَهرِ مُسلِما
فإنّ المُرادَ به (2) کمالُ إظهارِ الكَراهةِ لإقامته (3)وقَولُه: «لا تُقيمَنَّ عندنا» أوفی بتأديتِه، لِدِلالتِه (4) عليه (5) بالمطابَقَة مع التّأكيد، فَوِزانُه (6) وِزانُ «حُسْنها» في «أعجَبَني الدّارُ حُسْنُها»؛ لأنّ عدمَ الإقامةِ مُغايرٌ للارتحالِ وغيرُ داخلٍ فيه مع ما بينَهما مِن المُلابَسَة؛ أو [3] بياناً لها لِخَفائها (7)، نحو: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ (8)، فإنّ وِزانَه (9) وِزانُ «عُمَر» في قوله:
أُقسِمُ باللّه أبو حفصٍ عُمَر
وأمّا كَونُها (10) كالمنقطعةِ عنها، فَلِكَونِ عطفِها عليها موهِماً لِعَطفِها على غيرها؛ ويُسَمّى الفَصلُ لذلك «قَطعاً»، مثالُه:
وتَظُنُّ سَلمى أنّنى أبغى بها *** بَدلاً أراها في الضَّلالِ تَهيمُ
ويُحتَملُ الاستئنافُ.
وأمّا كَونُها كالمتّصلة بها، فلِكَونها جواباً لِسُؤالٍ اقتَضَتهُ الأُولى، فتُنَزَّلُ مَنزلَتَه، فَتُفصَلُ عنها كما يُفصَلُ الجوابُ عن السّؤالِ.
السَّکّاکِيُّ: فيُنَزَّلُ ذلك منزلةَ الواقعِ لنُكتةٍ، كإغناءِ السّامعِ عن أن يَسألَ، أو أن لا يُسمَعَ منه شيءٌ، ويسمّى «الفصلُ» لذلك استئنافاً، وكذا الثّانيةُ؛ وهو (11) ثلاثةُ أضرُبٍ؛
ص: 76
لأنّ السّؤالَ إمّا عن سبب الحكمِ مطلقاً، نحو:
قال لي: كيف أنتَ؟ قلتُ: عليلُ *** سَهَرٌ دائمٌ وحُزنٌ طَويلُ
أي: «ما بالُكَ عليلاً؟»، أو «ما سببُ علّتكَ (1)؟» (2)؛
وإمّا عن سببٍ خاصٍّ، نحو: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (3)؛ كأنّه قيل: «هل النّفسُ أمّارةٌ بالسّوء؟» (4)وهذا الضّربُ يقتضي تأكيدَ الحكمِ (5) - كما مَرَّ (6)
وإمّا عن غيرِهما، نحو: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ (7)؛ أي: «فماذا قال؟». وقَولِه:
زَعَم العَواذلُ (8) أنّني في غمرةٍ
صَدَقوا (9) ولكن غَمرَتي لا تنجلي
وأيضاً منه (10) ما يأتي بإعادة اسمِ ما استُؤنِفَ عنهُ، نحو: «أَحسنْتَ إلی زيدٍ زيدٌ حَقيقٍ بالإحسانُ»؛ ومنه ما يُبنی على صفتِه، نحو: «صَديقُكَ القديمُ أهلٌ لذلك»؛ وهذا أبلغُ.
وقد يُحذَفُ صدرُ الاستئنافِ، نحو: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ﴾(11) (12)؛ وعليه: «نِعمَ الرَّجلُ زيدٌ» على قولٍ.
ص: 77
وقد يُحذَفُ كُلُّه، إمّا مع قيامِ شيءٍ مَقامَه، نحو (1):
زَعَمتُم أنّ إخوتَكم قُرَيشٌ *** لهم إلْفٌ (2) وليس لكم إِلافُ (3)
أو بدون ذلك، نحو: ﴿فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ (4)؛ أي: «نحنُ»، على قول.
وأمّا الوصلُ، لِدَفْع الإيهامِ، فكقولِهم: «لا، وأيَّدَك اللّهُ!».
وأمّا لِلتَّوسُّط (5)، فإذا اتَّفَقتا خَبراً وإنشاءً لفظاً ومعنىً، أو معنىً فقط بجامعٍ، كقوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (6)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (7)، وقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (8)، وكقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (9)؛ أي: لا تَعبُدوا وتُحسِنون، بمعنى: أَحسِنوا أو وأحسِنوا. والجامعُ بينهما يجبُ أن يکونَ باعتبارِ المسندِ إليهما والمُسنَدَينِ جميعاً، نحو: «يَشعُرُ زيدٌ ويَكتُبُ ويُعطى ويَمنَعُ»، «وزيدٌ شاعرٌ وعمروٌ كاتبٌ، وزيدٌ طويلٌ وعمرو قصيرٌ» لمناسبةٍ بينهما، بخِلاف: «زيدٌ شاعرٌ وعمروٌ كاتبٌ» بدونِها (10) بينهما، و«زيدٌ شاعرٌ وعمروٌ طويلٌ مطلقاً».
ص: 78
السَّكّاكِىُّ: الجامعُ بين الشّيئينِ إمّا [1] عَقليٌّ، بأنْ يكونَ بينَهما اتّحادٌ في التّصوُّر، أو تَماثُلٌ، فإنّ العقلَ بتجريده المِثْلَينِ عن التّشخُّصِ في الخارجِ يَرفَعُ التَّعدُّدَ بينهما، أو تَضايُفٌ، كما بينَ العِلّةِ والمعلولِ أو الأقلِّ والأكثرِ؛ أو [2] وَهْميٌّ بأنْ يَكونَ بينَ تصويرِهما شِبْهُ تَماثُلٌ، كَلَوْنَي بَياضٍ وصُفْرَةٍ؛ فإنَّ الوهمَ يُبرِزُهما في مَعرِض المِثْلَيْن، ولِذلك حَسُنَ الجمعُ بين الثّلاثة الّتي في قوله:
ثلاثةٌ تُشرِقُ الدّنيا ببَهجَتِها *** شَمسُ الضُّحى وأبو إسحقَ والقَمَرُ
أو تَضادٌّ، كالسَّواد والبَياض، والكُفر والإيمانِ، وما يَتَّصِفُ بها، كالأبيضِ والأسودِ، والمُؤمنِ والكافِر؛ أو شِبهُ تَضادٍّ، كالسّماء والأرضِ، والأوّلِ والثّاني؛ فإنّه يُنزِّلُهما منزلةَ التّضايُفِ، ولذلك تَجِدُ الضِّدَّ أقربَ خُطوراً بالبالِ مع الضِّدِّ؛ أو [3] خَيالِيٌّ بأن يكونَ بين تصوُّرَيْهِما تَقارنٌ في الخَيالِ سابِقٌ، وأسبابُه (1) مُختلفةٌ؛ ولذلكَ اخْتَلَفَتِ الصُّورُ الثّابتةُ في الخَيالاتِ تَرَتُّباً ووُضوحاً. ولِصاحبِ عِلم المعاني فضْلُ احتياجٍ إلی مَعرفةِ الجامعِ لا سِيَّما الخَيالِيَّ؛ فإنَّ جَمْعَه على مَجْرَى الإِلْفِ والعادةِ.
ومِن مُحَسَّناتِ الوصلِ تَناسُبُ الجُملَتَيْنِ في الاسميّةِ أو الفعليّةِ، والفِعْلِيَّتَيْن في المُضِيِّ والمُضارَعَةِ إلّا لِمانعٍ (2)
تذنيب: أصلُ الحالِ المُنتقلةِ (3) أنْ تَكونَ بغير واوٍ؛ لأنّها في المعنى حُكمٌ على صاحبها كالخبرِ (4)، ووصْفٌ له كالنّعتِ، لكنْ خولِفَ هذا (5) إذا كانت جملةً؛ فإنّها مِن حَيثُ هي جملةٌ مُستقِلّةٌ بالإفادة، فتَحتاجُ إلی ما يَربِطُها بصاحبها، وكُلٌّ مِن الضّمير والواوِ صالحٌ للرّبطِ. والأصلُ هو الضّميرُ بدليل المُفرَدَةِ والخبرِ والنّعتِ (6).
ص: 79
فالجملةُ إنْ خَلَتْ عن ضميرِ صاحِبِها، وَجَبَ فيها الواوُ (1)، وكُلُّ جملةٍ خاليةٍ عن ضميرٍ ما يَجوزُ أن يَنْتَصِبَ عنه حالٌ يَصِحُّ (2) أنْ تَقَعَ حالاً عنه بالواوِ إلّا المُصَدَّرةَ بالمُضارع المُثبَتِ، نحوُ: «جاءَ زيدٌ، ويتكلَّمُ عمروٌ»، لِما سيأتي. وإلّا فإنْ كانتْ فِعليَّةً والفعلُ مُضارعٌ مُثبَتٌ، امتَنَع دُخولُها، نحو: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ (3) (4)؛ لأنَّ الأصلَ مُفردةٌ، وهي تَدُلُّ على حُصولِ صفةٍ (5) غيرِ ثابتةٍ مُقارِنةٍ لِما جُعِلَت قَيداً له، وهو (6) كذلك. أمَّا الحُصولُ، فَلِكَونه فعلاً (7) مُثبتاً، وأمّا المُقارَنَةُ، فَلِكَونه مُضارعاً، وأمّا ما جاء مِن نحوِ: «قُمتُ وأَصَكُّ (8) وَجهَهُ»، وقَولِه:
فَلَمّا خَشيتُ أظافيرَهُم (9)
نَجَوْتُ وأرهَنُهُمْ مالكا (10)
فقيلَ: عَلى حَذفِ المُبتدإ؛ أي: «وأنا أصَكُّ»، «وأنا أرهَنُهُم». وقيل الأوّلُ شاذٌّ والثّاني ضرورةٌ.
وقال عبدُ القاهرِ: هي فيهما للعطفِ، والأصلُ: وصَكَكْتُ ورَهَنْتُ، عُدِلَ إلی المضارع حكايةً للحالِ.
وإنْ كان مَنفيّاً، فالأمرانِ (11)، كقِراءَةِ ابنِ ذَكْوانَ: ﴿فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ (12)
ص: 80
بالتّخفيفِ (1)؛ ونحو: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ (2) لِدَلالته على المُقارَنَةِ لِكَونه مضارعاً، دونَ الحُصول لِكَونه مَنفِيّاً.
وكذا (3) إنْ كانَ ماضياً لفظاً أو معنىً (4)، كقَوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ (5)، وقَولِه: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ (6)، وقَولِه: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ (7)، وقولِه: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ (8)، وقَولِه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ (9).
أمّا المُثبَتُ (10)، فَلِدَلالتِه على الحصولِ، لِكَونِه فِعْلاً مُثبَتاً دونَ المُقارَنَةِ لِكَوْنِه ماضياً؛ ولِهذا شُرِطَ أنْ يکونَ معَ «قَدْ» ظاهرةً أو مُقدَّرَةً.
وأمّا المَنفِيُّ، فَلِدِلالتِه علَى المُقارَنَةِ دونَ الحُصولِ. أمّا الأوّلُ، فَلِأَنَّ «لَمّا» لِلْاِسْتِغراقِ وغَيرُها لِانتِفاءِ مُتَقَدِّمٍ مَعَ أنَّ الأصلَ استِمْرارُه، فَيَحصُلُ به الدَّلالَةُ عليها عند الإطلاقِ بخِلافِ المُثبَتِ؛ فَإنّ وَضْعَ الفِعلِ على إفادةِ التَّجدُّدِ، وتَحقيقُه أنّ استِمْرارَ العَدَمِ لا يَفتَقِرُ إلی سببٍ بخِلافِ استمرارِ الوجودِ، وأمّا الثّاني، فَلِكَونِهِ مَنْفِيّاً.
وإنْ كانَتْ اسْمِيَّةً، فَالمشهورُ جَوازُ تَركِها، لِعَكْسِ ما مَرَّ في الماضي المُثبتِ، نحو: «كَلَّمْتُهُ فُوهُ إلی فِي»، وأنَّ دُخولَها أَوْلى لِعَدمِ دِلالتِها على عدمِ الثُّبوتِ مع ظُهورِ الاستئنافِ فيها؛ فَحَسُنَ زيادةُ رابطٍ، نحو: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (11).
وقال عبدُ القاهرِ: إنْ كانَ المُبتدأُ ضميرَ ذي الحالِ وَجَبَتْ، نحو: «جاءني زيدٌ
ص: 81
وهو يُسرِعُ»، أو «وهو مُسْرِعٌ». وإنْ جُعِلَ نحوُ «عَلى كَتِفِه سَيْفٌ» حالاً، كَثُرَ فيها تَرْكُها، نحو:
[إذا أنکرَتْني بلدةٌ أو نَکِرتُها] *** خَرجتُ مع البازِي عَلَىَّ سَوادُ (1)
ويَحْسُنُ التَّركُ (2) تارةً لِدخولِ حرفٍ على المُبتَدأِ، كقَولِه (3):
فقُلتُ عَسى أنْ تُبصِريني كأنَّما *** بَنىَّ حَوالِى الأسودُ الْحَوارِدُ (4)
وأخرى لِوقوعِ الجملةِ الاسميّةِ بِعَقِبِ مفردةٍ (5)، كقوله (6):
واللّهُ يُبقيكَ لَنا سالِماً *** بُرْداكَ تَبْجيلٌ وتَعْظيمُ (7)
ص: 82
السّكّاكِىُّ: أمّا الإيجازُ والإطنابُ، فَلِكَوْنهما نِسبِيَّيْنِ لا يَتَيَسَّرُ الكلامُ فيهما إلّا بِتَرْكِ التّحقيقِ والتّعيينِ (1)، وبالبِناءِ على أمرٍ عُرْفِيٍّ، وهو مُتَعارَفُ الأوْساطِ (2)؛ أيْ: كَلامُهُم في مَجْرى عُرْفِهِم في تأديةِ المعنى (3)، وهو (4) لا يُحْمَدُ في باب البلاغةِ (5) ولا يُذَمُّ. فالإيجازُ أداءُ المقصود بأقلَّ مِن عِبارةِ المُتَعارَفِ، والإطنابُ أداؤهُ بأكثرَ منها. ثم قال: الاخْتِصارُ لِكَونه نِسْبِيّاً، يُرْجَعُ فيه تارةً إلی ما سَبَقَ (6)، وأُخْرى إلی كَوْنِ المَقامِ خَليقاً (7) بأبسطَ مِمّا ذُكِرَ (8)وفيه (9) نظرٌ؛ لأنّ كَونَ الشَّيءِ نِسْبِيّاً لا يقتضي تَعَسُّرَ تَحقيقِ مَعناهُ.
ثُم البِناءُ على المُتَعارَفِ والبَسطِ المَوصوفِ رَدٌّ إلی الجَهالَةِ، والأقرَبُ أنْ يُقالَ: المقبولُ مِن طُرُق التّعبير عن المرادِ تأديةُ أصْلِهِ (10) بلفظٍ مُساوٍ له، أو ناقصٍ عنه وافٍ، أو زائِدٍ عليه لِفائدةٍ. واحْتُرِزَ ب-«وافٍ» عن الإخلالِ، كقوله:
والعَيشُ خيرٌ في ظِلال النُّو *** كِ (11) مِمّن عاش كَدّا (12)
أي: النّاعمُ وفي ظِلال العقلِ (13)وب-«فائدةٍ» عن التّطويلِ، نحو:
ص: 83
[وقَدَّدتُ الأديمَ (1) لِراهِشَيه (2)]
وأَلْفى (3) قَولَها كَذِباً ومَيْنا (4)
وعن الحَشْوِ المُفسِدِ كالنّدى في قوله (5):
ولا فضلَ فيها للشَّجاعةِ والنّدى *** وصَبْرِ الفَتى لولا لِقاءُ شَعوبِ (6)
وغيرِ المفسد، كقوله (7):
وأَعلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قَبلَه (8) *** [ولکنّني عن عِلمِ ما في غدٍ عَمِ]
ص: 84
المُساواةُ نحوُ قَولِه تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ (1) الْمَكْرُ السَّيِّئُ (2) إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾(3) (4)، وقَولِه (5):
فإنّكَ كاللَّيْل الّذي هُو مُدْرِكي *** وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عنكَ واسعُ
والإيجازُ ضَرْبانِ:
إيجازُ القَصْرِ، وهو ما لَيْسَ بحذفٍ (6)، نحو: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (7)؛ فإنّ مَعناهُ كثيرٌ ولَفْظَه يَسيرٌ ولا حَذْفَ فيه. وفَضْلُه (8) على ما كان عِندَهم أوْجَزُ كلامٍ في هذا المعنى وهو «القَتْلُ أنْفى للْقتل» ب- [1] قِلَّةِ حروفِ ما يُناظِرُه منه، و[2] النَّصِّ على المَطلوبِ (9)، و [3] ما يُفيدُه تَنْكيرُ «حَياةٍ» مِن التَّعظيمِ لِمَنْعه (10) عمّا كانوا عليه مِنْ قَتْلِ جماعةٍ بواحدٍ، أو النَّوْعيَّةِ (11) الحاصلةِ لِلْمقتولِ (12) والقاتلِ (13) بالارتِداع، و[4] اطِّرادِه، و[5] خُلُوِّهِ عن التَّكْرارِ، و[6] استِغْنائِه عن تقديرِ محذوفٍ، و[7] المُطابَقَةِ (14).
وإيجازُ الحَذْفِ والمحذوفِ إمّا [1] جُزْءُ جُملةٍ: مُضافٌ (15)، نحوُ قَوله تعالى:
ص: 85
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (1) (2)، أو مَوصوفٌ (3)، نحو:
أنَا ابْنُ جَلا وطَلّاعُ الثَّنايا *** [متی أَضَعِ العِمامةَ تَعرِفوني]
أي:أنا ابْنُ رجلٌ جَلا، أو صفةٌ نحو: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ (4)؛ أي: صحيحةٍ أو نحوِه (5) بدليلِ ما قَبْلَهُ (6)، أو شَرْطٌ - كما مَرَّ (7) - أوْ جوابُ شَرطٍ: إمّا [1] لِمُجرَّدِ الاختصارِ، نحو: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (8)؛ أي: أَعْرَضوا، بدليلِ ما بَعدَه (9)، أو [2] لِلدَّلالةِ على أنّه شيءٌ لا يُحيطُ به الوَصْفُ، أو [3] لَتَذْهَبُ نَفْسُ السّامعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمكِنٍ. مِثالُهما قَولُه تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ (10)، أو غَيرُ (11) ذلك، نحوُ قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ (12)؛ أي: ومَن أنْفَقَ وقاتَلَ، بدليل ما بعدَه (13)
ص: 86
وإمّا جُمْلَةٌ (1) مُسَبَّبَةٌ عن مذكورٍ، نحو: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ (2)؛ أي: فَعَلَ ما فَعَلَ؛ أو سَبَبٌ لِمَذكورٍ، نحو: ﴿فَانْفَجَرَتْ﴾ (3) (4) إن قُدِّرَ «فَضَرَبه بها» (5)ويَجوزُ أن يُقَدَّرَ: «فإن ضَرَبتَ بها، فقد انفَجَرَت»؛ أو غيرُهما (6)، نحو: ﴿فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ (7) (8) على ما مَرَّ.
وإمّا أكثرُ مِن جُملةٍ (9)، نحو: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ﴾ (10)؛ أي: إلی يوسفَ لِأستَعْبِرَهُ الرُّؤيا. فَفَعَلُوا وأتاهُ فقالَ له: يا يوسفُ.
والحذفُ على وَجهَيْنِ: أنْ لا يُقامَ شَيءٌ مُقامَ المَحذوفِ (11) - كما مَرَّ - ، وأنْ يُقامَ، نحو: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (12)؛ أي: فلا تَحْزَنْ واصْبِرْ.
وأدِلَّتُه (13) كثيرةٌ، منها: أنْ يَدُلَّ العَقْلُ عليه والمقصودُ الأظهَرُ على تَعيين المحذوفِ، نحو: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ (14)؛
ص: 87
ومنها أن يَدُلَّ العَقلُ عليهما (1)، نحو: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ (2)؛ أي: أمرُه أو عذابُه؛
ومنها أن يَدلّ العقلُ عليه والعادةُ على التّعيين، نحو: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ (3) (4)؛ فإنّه يُحتَمَلُ: «في حُبِّه»، لِقَوله تعالى: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ (5)؛ و«في مُراوَدَتِه»، لِقَوله تعالى: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ (6)؛ و«في شَأنِه» حتّى يَشمِلَها، والعادةُ دَلَّتْ على الثّاني؛ لأنّ الحُبَّ المُفرِطَ لا يُلامُ صاحبُه عليه في العادةِ لِقَهْره إيّاه؛ ومنها (7) الشروعُ في الفعل، نحوُ «بسم الله»، فَيُقَدَّرُ ما جُعِلِتَ التَّسميةُ مَبدئاً له؛ ومنها (8) الاقترانُ (9)، كَقَولهم لِلمُعْرِسِ (10): «بالرِّفاءِ والبَنينَ»؛ أي: أَعْرَستَ.
والإطْنابُ، إمّا [1] بالإيضاحِ بَعدَ الإبهامِ، لِيَرى (11) المعنى في صورتَينِ مختلفتَينِ (12)، أو لِيَتمَكَّنَ في النَّفسِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، أو لِتَكمُلَ لَذَّةُ العلمِ به، نحو: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (13)؛ فإنّ ﴿اشْرَحْ لِي﴾ يُفيدُ طَلَبَ شَرْحٍ لشَيْءٍ ما لَهُ، و ﴿صَدْرِي﴾ يُريدُ
ص: 88
تَفسيرَهُ. ومنه (1) بابُ «نِعْمَ» على أحدِ القَوْلَيْنِ (2)؛ إذ لو أُريدَ الاختصارُ، لَكَفى «نِعْمَ زيدٌ». وَوجْهُ حُسْنِه - سِوى ما ذُكِرَ - إبرازُ الكَلامِ في مَعْرِضِ الاعتدالِ وإيهامُ الجمْعِ بينَ المُتَنافِيَيْنِ.
ومِنه (3) التَّوشيعُ، وهو أنْ يُؤتى في عَجُزِ الكلامِ بمُثَنّىً مُفَسَّرٍ بِاثْنَيْنِ ثانيهما معطوفٌ على الأوّلِ، نحو: «يَشيبُ ابنُ آدَمَ ويَشيبُ معه خِصلَتانِ: الحِرصُ وطولُ الأمَل».
وإمّا [2] بذِكْر الخاصِّ بعدَ العامِّ للتّنبيهِ على فَضْلِه (4) حتّى كأنّه ليسَ مِن جِنْسه (5) تنزيلاً للتَّغايُرِ في الوَصْفِ مَنزِلَةَ التَّغايُرِ في الذّات (6)، نحو: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ (7) (8)
وإمّا [3] بالتّكريرِ لِنُكتَةٍ، كَتأكيدِ الإنذارِ في ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ (9)، وفي «ثُمّ» دَلالةٌ على أنّ الإنذارَ الثّاني أبلَغُ (10)
وإمّا [4] بالإيغال؛ فقيل: هو خَتْمُ البَيتِ بما يُفيدُ نُكتَةً يَتِمُّ المَعنى بدونها (11)؛ كزيادةِ المُبالَغَةِ في قولها (12):
ص: 89
وإنّ صَخْراً لَتَأتَمُّ (1) الهُداةُ به *** کأنّه عَلَمٌ (2) في رأسِه نارُ
وتحقيقِ التّشبيهِ في قوله:
كأنَّ عُيونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبائِنا *** وأرْحُلِنا الجَزْعُ (3) الّذي لَم يُثَقَّبِ
ولذلك قيلَ: لا يَختَصُّ بالشِّعرِ. ومَثَّلَ بقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (4) (5)
وإمّا [5] بالتّذليلِ، وهو تعقيبُ الجملةِ بجملةٍ أُخرى تَشتَملُ على معناها للتّأكيدِ. وهو ضَرْبانِ: ضَرْبٌ لم يُخْرَجْ مُخرَجَ المَثَلِ، نحو: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ (6) على وجهٍ (7)؛ وضرْبٌ أُخرِجَ مُخرَجَ المَثَلِ، نحو: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾(8).
وهو (9) أيضاً إمّا لِتأكيدِ منطوقٍ، كهذه الآيةِ، وإمّا لتأكيدِ مفهومٍ كقوله:
ص: 90
ولَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ (1) أخاً لا تَلُمُّهُ *** على شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذَّبِ؟! (2)
وإمّا [6] بالتّكميلِ، ويُسَمّى الاِحتراسَ (3) أيضاً، وهو أن يُؤتى في كلامٍ يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ بما يَدفَعُه (4)، كقوله:
فَسَقى ديارَك غَيرَ مُفسِدِها *** صَوبُ الرّبيعِ وديمَةٌ تَهمى (5)
ونحوِ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (6) (7).
وإمّا [7] بالتّتميم، وهو أن يُؤتى في كلامٍ (8) لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ بِفَضلةٍ لِنُكتةٍ، كالمبالغةِ، نحو: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ (9) في وجهٍ (10)؛ أي: مَعَ حُبِّه.
ص: 91
وإمّا [8] بالاعتراضِ، وهو أن يُؤتى في أثناءِ كلامٍ أو بَينَ كلامَينِ مُتَّصلَينِ معنىً (1) بجملةٍ أو أكثرَ لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ، لنُكتَةٍ سِوى دَفْع الإبهامِ، كالتّنزيهِ في قَوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ (2) (3)؛ والدُّعاءِ في قوله:
إنّ الثّمانينَ - وبُلِّغتَها (4) - *** قد أحوَجَتْ سَمعي إلی تَرجُمان
والتّنبيهِ في قوله:
وَاعلَمْ - فَعِلْمُ المَرءِ يَنفَعُه - *** أنْ سوفَ يأتي كُلُّ ما قُدِرا
وممّا جاء بينَ كلامَينِ وهو أكثرُ مِن جملةٍ أيضاً قَولُه تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ (5)، فإنّ قَولَه: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ بيانٌ لِقَوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾.
وقال قومٌ: قد تَكونُ النُّكتَةُ فيه غيرَ ما ذُكِرَ (6)ثُمّ جَوَّزَ بعضُهُم وقوعَه آخِرَ جُملةٍ لا تَليها جملةٌ متّصلةٌ بها، فَيَشملُ التَّذييلَ وبعضَ صُوَر التّكميلِ؛ وبعضُهم كَونَه غيرَ جُملةٍ متَّصِلةٍ بها، فيشملُ بعضَ صُوَرِ التّتميمِ والتّكميلِ.
وإمّا [9] بغير ذلك، كقَوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ (7)، فإنّه لو اختَصَرَ (8)، لم يَذكُرْ ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ لأن إيمانَهم لا
ص: 92
يُنكِرُهُ مَن يُثْبِتُهم ، وحُسْنُ ذِكْره إظهارُ شَرَفِ الإيمانِ ترغيباً فيه.
واعلَمْ أنّه قد يوصَفُ الكلامُ بالإيجازِ والإطنابِ باعتبارِ كَثرةِ حروفِه وقِلَّتِها بالنِّسبة إلی كلامٍ آخَرَ مُساوٍ له في أصلِ المعنى، كقوله:
يَصُدُّ عنِ الدّنيا إذا عَنَّ (1) سُؤدُدٌ *** [ولو برزَتْ في زيِّ عَذراءَ ناهِدِ]
وقوله:
ولستُ بنَظّارٍ (2) إلی جانب الغِنى (3) *** إذا كانتِ العَلياءُ في جانبِ الفَقْرِ (4)
ويَقْرُبُ منه قَولُه تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (5)، وقولُ الحِماسِيِّ (6):
ونُنْكِرُ إنْ شِئْنا على النّاس قَولَهم *** ولا يُنكِرونَ القولَ حين نَقولُ (7)
ص: 93
وهو علمٌ يُعرَفُ به إيرادُ المعنى الواحدِ بطُرُقٍ (1) مختلفةٍ في وضوحِ الدَّلالةِ عليه (2).
ودِلالةُ اللّفظِ إمّا على تمامِ ما وُضِعَ له (3)، أو على جُزئِه (4)، أو على خارجٍ عنه (5)وتُسمَّى الأُولى وضعيّةً، وكُلٌّ من الأخيرَتَينِ عقليّةً. وتَختصُّ (6) الأُولى بالمطابَقَةِ، والثّانيةُ بالتَّضمُّنِ (7)، والثّالثةُ بالالتزامِ. وشَرطُه (8) اللّزومُ الذِّهنِيُّ، ولو لِاعتقادِ المخاطبِ بعُرفٍ (9) عامٍّ أو غيرِه (10)
والإيرادُ المذكورُ لا يَتَأتّى (11) بالوضعيّةِ (12)؛ لأنّ السّامعَ إذا كان عالِماً بوضعِ الألفاظِ لم يَكُن بعضُها أوضَحَ، وإلّا (13) لم يكُن كلُّ واحدٍ منها دالّاً عليه. ويتأتّى (14)
ص: 94
بالعقليّةِ (1) لِجواز أن تَختلفَ مَراتبُ اللُّزومِ (2) في الوُضوح.
ثُمّ اللّفظُ المُرادُ به لازمُ ما وُضِعَ له، إن دلَّتْ قرينةٌ على عدم إرادته (3)، فَ-«مَجازٌ»، وإلّا (4) ف-«كِنايةٌ» (5)وقُدِّم عليها (6)؛ لأنّ معناه كجزءِ معناها (7)ثمّ منه (8) ما يَنبَني على التّشبيهِ (9)، فَتَعَيَّنَ التّعرُّضُ له (10)فَانحَصَر المقصودُ (11) في الثّلاثة (12)
ص: 95
[المقصد الأوّل] التّشبيه (1)
الدِّلالةُ على مُشارَكَةِ أمرٍ [آخرَ] (2) في معنىً (3)والمرادُ هاهنا ما لم تَكُنْ (4) على وجهِ الاستعارةِ التّحقيقيّةِ (5) والاستعارةِ بالكِنايةِ (6) والتّجريدِ (7)فدَخَلَ نحوُ قَولِنا: «زيدٌ أسدٌ» (8)؛ وقَولِه تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ (9) (10)والنّظرُ (11) هاهنا في أركانِه، وهي: طَرَفاه
ص: 96
ووجهُه وأداتُه، وفي الغرضِ منه (1) وفي أقسامه.
طَرَفاهُ: إمّا حِسّيّانِ، كالخَدِّ والوَرْدِ، والصَّوتِ والهَمْسِ، والنَّكهَةِ والعَنبَرِ، والرّيقِ (2) والخَمرِ، والجَلْد النّاعمِ والحَرير؛ أو عقلِيّانِ، كالعِلم والحياةِ؛ أو مختلفانِ (3) كالمَنِيَّة والسَّبُع، والعِطر وخُلقِ كريمٍ (4)
والمرادُ بالحِسِّىِّ المُدرَكُ هُوَ أو مادَّتُه (5) بإِحدَى الحواسِّ الخمسِ الظّاهرةِ. فدَخَلَ فيه (6) الخَيالِيُّ (7)؛ كما في قوله:
وكأنّ مُحْمَرَّ الشّقيقِ *** إذا تَصَوَّبَ أو تَصَعَّد (8)
أعلامُ ياقوتٍ نُشرنَ *** على رِماحٍ مِن زَبْرَجَدْ
وبالعقليِّ ماعدا ذلك (9)، فدَخَل فيه (10) [1] الوهميُّ؛ أي: ما هو غَيرُ مُدرَكٍ بها (11)، ولو أُدرِكَ، لَكانَ مُدرَكاً بها؛ كما في قوله:
[أيَقتُلُني والمَشرَفيُّ (12) مُضاجِعي] *** ومَسنونةٌ (13) زُرْقٌ کأنيابِ أغوالِ؟! (14)
و[2] ما يُدرَكُ بالوِجدان (15)؛ كاللَّذَّةِ والألَمِ.
ص: 97
ووَجْهُه ما (1) يَشتَرِكانِ فيه (2) تحقيقاً أو تخييلاً. والمرادُ بالتّخييل نحوُ ما قوله:
وكأنّ النّجومَ بَين دُجاها (3) *** سُنَنٌ لاحَ بَينهنّ ابتِداعُ
فإنّ وجْهَ الشَّبَه فيه هو الهَيئةُ الحاصلةُ مِن حُصولِ أشياءَ مُشرِقةٍ بيضٍ في جوانبِ شيءٍ مُظلِمٍ، فهي (4) غيرُ موجودةٍ في المُشَبَّهِ به إلا على طريق التّخييلِ؛ وذلك أنّه لمّا كانت البدعةُ وكُلُّ ما هو جَهْلٌ تَجعلُ صاحبَها كمَن يَمشي في الظّلمة، فَلا يَهتدي للطّريق ولا يَأمَلُ أن يَنالَ مكروهاً، شُبِّهت البدعةُ بها. ولَزِمَ بطريق العَكْسِ أن تُشَبَّهَ السُّنَّةُ وكُلُّ ما هو عِلْمٌ بالنّور، وشاعَ ذلك (5) حتى تُخُيِّلَ أنّ الثّانيَ ممّا له بَياضٌ وإشراقٌ، نحو: «أتيتُكم بالحنيفيّةِ (6) البَيضاءِ». والأوّلُ على خِلافِ ذلكَ، کقولك: «شاهَدتُ سَوادَ الكُفرِ مِن جَبينِ فلانٍ». فصار تشبيهُ النّجوم بينَ الدُّجى بالسُّنن بين الابتداعِ كتشبيهِها (7) بِبَياض الشَّيبِ في سَواد الشَّباب، أو بالأنوار (8) مُؤتَلِقَةً (9) بينَ النَّباتِ الشّديدِ الخُضرةِ. فَعُلِم فَسادُ
ص: 98
جَعْلِه (1) في قول القائل: «النّحوُ في الكلامِ كالمِلْح في الطّعامِ» كَونَ (2) القليلِ مُصلِحاً والكثيرِ مُفسِداً؛ لأنّ النّحوَ لا يَحتملُ القِلَّةَ والكَثرةَ بخلاف المِلْحِ.
وهو (3) إمّا [1] غيرُ خارجٍ عن حقيقتها؛ كما في تشبيهِ ثوبٍ بآخَرَ في نوعِهِما أو جِنسِهما، أو [2]خارجٌ صفةً، إمّا حقيقيةٌ، وإمّا حِسّيّةٌ كالكَيفيّاتِ الجِسميّةِ (4) ممّا يُدرَكُ بالبصرِ مِن الألوانِ والأشكالِ والمقاديرِ والحركاتِ وما يَتَّصِلُ بها، أو بالسَّمع مِن الأصوات الضّعيفة والقويّةِ والّتي بَينَ بَيْنَ، أو بالذَّوْق مِن الطُّعومِ، أو بالشَّمِّ مِن الرّوائحِ، أو باللّمْس مِن الحرارة والبُرودة واليُبوسة والخُشونة والمَلاسة (5) واللّينِ (6) والصّلابة (7) والخفّة (8) والثِّقل وما يتّصل بها؛ أو عقليّةٌ كالكَيفيّات النّفسانية مِن الذَّكاءِ والعلم والغضب والحِلْم وسائر الغرائز.
وإمّا اضافيّةٌ (9)؛ كإزالة الحِجاب في تشبيه الحُجّة بالشّمس.
وأيضاً إمّا واحدٌ، وإمّا بمنزلة الواحدِ، لِكَونه (10) مُرَكَّباً مِن مُتَعَدِّدٍ. وكُلٌّ منهما (11) حِسِّيٌّ أو عقليٌّ، وإمّا مُتعدِّدٌ كذلك أو مختلفٌ.
والحِسِّيُّ طَرَفاه حِسِّيّانِ لا غيرُ؛ لامتناعِ أنْ يُدرَك بالحسِّ مِن غير الحِسِّيِّ شَيءٌ.
والعقليُّ أعمُّ؛ لِجَواز أنْ يُدرَكَ بالعقل من الحِسِّيِّ شَيءٌ؛ ولذلك يقال: التّشبيهُ بالوجه العقليِّ أعمُّ.
فإنْ قيل: هو (12) مُشترَكٌ فيه (13)، فهو كُلِّىٌّ، والحِسِّىُّ ليس بكُلِّىٍّ، قُلنا: المُرادُ أنّ أفرادَه (14) مُدرَكةٌ بالحِسِّ. فالواحدُ الحِسِّىُّ كالحمراءِ والخَفاءِ وطيبُ الرّائحةِ ولَذَّةُ الطّعْمِ
ص: 99
ولين اللّمسِ فيما مَرَّ (1)
والعقليُّ كالعَراء (2) عن الفائدةِ والجَراءةِ (3) والهِداية واستِطابة النَّفْس في تشبيه وجودِ الشَّيءِ العديمِ النَّفْع بعدمه، والرَّجُلِ الشّجاعِ بالأسد، والعلم بالنّور، والعِطر بخُلقِ كريمٍ.
والمُركّبُ الحسِّيُّ فيما طَرَفاه مُفردان، كما في قوله:
وقد لاحَ في الصُّبح الثُّريّا كما ترى *** كعُنقودِ مُلّاحيّةٍ (4) حينَ نَوَّرا (5)
من الهَيئة الحاصلةِ مِن تَقارُن الصُّوَر البيضِ المستديرةِ الصِّغارِ المَقاديرِ في المرأى على الكَيفيّةِ المخصوصةِ إلی المقدارِ المخصوصِ.
وفيما طرفاه مركَّبانِ قَولُ بَشّارٍ:
كأنَّ مُثارَ النَّقْعِ (6) فَوقَ رُؤوسنا *** وأسيافَنا (7) لَيلٌ تَهاوى (8) كَواكِبُه
من الهيئة الحاصلةِ مِن هَوى (9) أجرامٍ مُشرِقةٍ مُستطيلٍ متناسبةِ المِقدارِ مُتفرِّقةٍ في جوانبِ شيءٍ مُظلِمٍ.
وفيما طَرَفاه مُختلفانِ كما مَرَّ في تشبيه الشَّقيقِ.
ومِن بديع المركَّب الحِسِّيِّ ما (10) يَجيءُ مِن الهَيَئاتِ الّتي تقعُ عليها الحرکةُ. ويَكونُ على وجهَينِ:
أحدُهما أنْ يُقْرَنَ بالحركة غيرُها مِن أوصافِ الجسمِ كالشَّكْل واللَّونِ، كما في قَوله:
ص: 100
والشَّمسُ كالمِرآة في كَفِّ الأشَلّ (1)
مِن الهَيئةِ الحاصلةِ مِن الاستدارةِ مع الإشراقِ، كأنّه يَهُمُّ بأنْ يَنبسِطَ حتّى يَفيضَ مِن جوانبِ الدّائرةِ، ثُمّ يَبدو له (2)، فَيَرجِعُ إلی الانقباضِ.
والثاني أن تُجَرَّدَ عن غيرها. فهناك أيضاً لا بُدَّ مِن اختلاطِ حركاتٍ إلی جِهاتٍ مختلفةٍ؛ فحرَكَةُ الرَّحى (3) والسَّهْمِ لا تَركيبَ فيها، بخِلاف حركةِ المُصحفِ في قوله:
وكأنَّ البرقَ مُصحَفُ قارٍ (4) *** فَانطباقاً مَرَّةً وانفِتاحا (5)
وقد يَقعُ التّركيبُ في هَيئَة السُّكونِ، كما في قوله في صفة كَلبٍ:
يُقعي (6) جُلوسَ البَدَويِّ (7) المُصطَلى (8)
مِن الهَيئة الحاصلةِ مِن مَوقِع كُلِّ عضوٍ منه في إقعائِه.
والعقليُّ (9) كَحِرمانِ الانتفاع بأبلغِ نافعٍ مع تحمُّل التَّعَب في استصحابه، في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (10).
واعلمْ أنّه قد يُنتَزَعُ مِن مُتَعدِّدٍ، فَيَقع الخطأُ لِوجوب انتزاعِه مِن أكثرَ، كما إذا انتُزِعَ من الشَّطْر الأوَّلِ مِن قوله:
كما أبْرَقَتْ قوماً عِطاشاً (11) غَمامةٌ (12) *** فلمّا رأَوْها أقشَعَتْ (13) وتَجَلَّتِ (14)
ص: 101
لِوجوب انتزاعِه من الجميع؛ فإنّ المرادَ التّشبيهُ باتّصالِ ابتداءِ مُطمِعٍ (1) بانتهاءِ مُؤيِسٍ.
والمُتَعدِّدُ الحسّىُّ: كاللَّون والطّعم والرّائحة في تشبيهِ فاكهةٍ بأخرى.
والعقليُّ: كحِدَّة النّظر وكمال الحَذَر وإخفاءِ السَّفادِ (2) في تشبيهِ طائرٍ بالغُراب.
والمختلفُ: كحُسْن الطَّلعةِ ونَباهةِ الشّأن في تشبيه إنسانٍ بالشّمسِ.
واعلمْ أنّه قد يُنتَزَعُ الشَّبَهُ مِن نفْسِ التّضادِّ، لاشتراكِ الضِّدَّيْنِ فيه، ثم يُنَزَّلُ منزلةَ التّناسُبِ بواسطة تمليحٍ أو تَهَكُّمٍ؛ فيُقالُ لِلجَبانِ: «ما أشْبَهَه بالأسد!» وللبخيل: «هو حاتَمٌ».
وأداتُه «الكاف» و«كأنّ» و«مِثل» وما في معناها. والأصلُ في نحو «الكاف» أنْ يَليهِ المُشَّبَهُ به؛ وقد يليه غَيرُه، نحو: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ﴾ (3)وقد يُذكَرُ فعلٌ يُنبِئُ عنه؛ كما في «عَلِمتُ زيداً أسداً» إنْ قَرُبَ؛ و «حَسِبتُ» إنْ بَعُدَ.
والغرضُ منه في الأغلبِ يَعودُ إلی المُشَبَّهِ، وهو بيانُ [1] إمكانِه، كما في قَوله:
فإِنْ تَفُقِ (4) الأنامَ وأنتَ منهم (5) *** فإنَّ المِسكَ بَعضُ دَم الغَزالِ
أو [2] حالِه، كما في تشبيهِ ثوبٍ بآخَرَ في السّواد؛ أو [3] مِقدارِها، كما في تشبيهه بالغُراب في شِدّتِه (6)؛ أو [4] تَقريرِها (7)، كما في تشبيهِ مَن لا يَحصُلُ مِن سَعْيِه على طائلٍ
ص: 102
بِمَن يَرقُمُ الماءَ. وهذه الأربعةِ تقتضي أن يَکونَ وَجهُ الشَّبَه في المُشبَّه به أتَمَّ، وهو (1) به (2) أشْهَرُ؛ أو [5] تزيينِه، كما في تشبيهِ وجهٍ أسودَ بمُقْلَة الظَّبْىِ؛ أو [6] تَشويهِه (3)، كما في تشبيهِ وجهٍ مَجدورٍ (4) بسَلْحَةٍ (5) جامدةٍ قد نَقَرَتْها الدِّيَكَةُ (6)؛ أو [7] استِطْرافِه، كما في تشبيهِ فَحْمٍ (7) فيه جَمْرٌ مُوقَدٌ (8) ببحرٍ مِن المِسْكِ مَوجُه الذَّهَبُ، لإبرازِه (9) في صورة المُمتنِع عادةً.
وللاستطرافِ وجهٌ آخَرُ، وهو أن يکونَ المُشبَّهُ به نادرَ الحضورِ في الذّهنِ، إمّا مطلقاً - كما مَرَّ -، وإمّا عند حضور المشبَّه، كما في قوله:
ولازِوَردِيّةٍ (10) تَزْهُو (11) بزُرقَتِها (12) *** بَينَ الرِّياضِ على حُمْرِ اليَواقيتِ
كأنّها (13) فوقَ قاماتٍ (14) ضَعُفْن بها (15) *** أوائلُ النّار في أطرافِ (16) كِبريتِ
وقد يَعودُ إلی المشبَّهِ به. وهو ضربانِ:
أحدُهما إيهامُ أنّه (17) أتمَّ مِن المُشبَّهِ، وذلك في التّشبيهِ المقلوبِ، كقوله:
وبدا الصَّباحُ كأنَّ غُرَّتَه *** وَجهُ الخَليفةِ (18) حين يُمتَدَحُ
ص: 103
والثاني: بيانُ الاهتمام؛ كتشبيه الجائعِ وجهاً كالبدرِ في الإشراقِ والاستدارةِ بالرَّغيفِ، ويسمّى هذا إظهارَ المطلوبِ (1)
هذا إذا أُريدَ إلحاقُ النّاقصِ حقيقةً أو ادّعاءً بالزائد (2)، فإنْ أُريدَ الجمعُ بين شيئينِ في أمرٍ، فالأحسنُ تَركُ التّشبيه إلی الحُكْم بالتّشابُه احترازاً مِن ترجيح أحد المُتَساوِيَيْنِ، کقوله:
تَشابَهَ دَمْعى إذْ جَرى ومُدامَتي *** فمِن مِثلِ ما في الكأس عَينِيَ تَسكُبُ
فَوَ اللّهِ ما أَدري أبِالخَمْر أسْبَلَتْ (3) *** جُفوني (4) أم مِن عَبرَتي كُنتُ أَشرَبُ
ويجوزُ التّشبيهُ أيضاً كتشبيه غُرّة الفَرَسِ بالصُّبْحِ وعكسِه، متى أُريدَ ظُهورُ مُنيرٍ في مُظلِمٍ أكثرَ منه.
وهو باعتبار طرفَيهِ، إمّا [1] تشبيهُ مفردٍ بمفردٍ، وهما غَيرُ مُقَيَّدَيْنِ، كتشبيه الخَدِّ بالوَرْدِ؛ أو مُقَيَّدانِ، کقولهم: «هو كالرّاقم على الماء»؛ أو مختلفان، كقَولِهم:
والشَّمسُ كالمِرآة في كَفِّ الأشَلّ
وعكسِه.
وإمّا [2] تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ، كما في بَيت بَشّارٍ (5)وإمّا [3] تَشبيهُ مفردٍ بمركّبٍ، كما مَرَّ مِن تشبيهِ الشّقيق. وإمّا [4] تشبيهُ مركّبٍ بمفرد، کقوله:
يا صاحِبَيَّ تَقَصَّيا نَظَرَيْكُما (6) *** تَرَيا وُجوهَ الأرض كيفَ تَصَوَّرُ
ص: 104
تَرَيا نَهاراً مُشْمِساً قد شابَهُ (1) *** زَهْرُ الرُّبی (2) فكأنّما هو مُقمِرُ (3)
وأيضاً إنْ تَعدَّدَ طَرَفاه، فإمّا [1] ملفوفٌ، كقوله:
كأنّ قُلوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً *** لَدى وَكْرِها العَنّابُ (4) والحَشَفُ البالي (5)
أو [2] مَفروقٌ، كقوله:
النَّشْرُ (6) مِسْكٌ والوُجوهُ دَناني- *** -رُ وأطرافُ الأكُفِّ عَنَم (7)
وإنْ تَعَدَّدَ طَرَفُه الأوّلُ، فَتشبيهُ التَّسوِيَةِ، كقوله:
صُدْغُ (8) الحَبيبِ وحالي *** کِلاهُما کاللّيالي
وإنْ تَعَدَّدَ طَرَفُه الثّاني، فَتشبيهُ الجمعِ، كقوله:
كأنّما يَبسِمُ (9) عَن لُؤلُؤٍ *** مُنَضَّدٍ (10) أو بَرَدٍ (11) أو أقاحْ (12)
وباعتبارِ وجهِهِ، إمّا تمثيلٌ، وهو ما وَجْهُه مُنتزَعٌ مِن مُتَعدِّدٍ - كما مَرّ (13) -. وقَيَّده السَّكّاكِىُّ بكَونِه (14) غيرَ حقيقيٍّ، كما في تشبيهِ مَثَلِ اليهودِ بمَثَل الحِمار؛ وإمّا غيرُ تَمثيلٍ، وهو بخِلافه.
ص: 105
وأيضاً إمّا مُجمَلٌ، وهو ما لم يُذكَرْ وَجْهُه. فَمِنه (1) ما هو ظاهرٌ يَفهَمُه كُلُّ أحدٍ، نحوُ: «زيدٌ كالأسد»؛ ومنه خَفِيٌّ لا يُدرِكُه إلّا الخاصّةُ، كقَول بعضِهم: «هُم كالحَلَقة المُفرَّغةِ (2) لا يُدری أينَ طرفاها؟»؛ أي: هم مُتناسبونَ في الشَّرَف، كما أنّها مُتناسِبةُ الأجزاءِ في الصّورة.
وأيضاً منه (3) ما لم يُذكَرْ فيه وصفُ أحَدِ الطَّرَفَينِ (4)؛ ومنه ما ذُكِر فيه وصفُ المُشبَّهِ به وَحْدَه؛ ومنه ما ذُكِر فيه وصْفُهما، كقوله:
صَدَفتُ (5) عنه ولم تَصْدِفْ مَواهِبُه *** عنّي وعاوَدَه (6) ظنّي فلَمْ يَخبِ
کالغَيث إن جِئتَه وافاكَ (7) رَيِّقُه (8) *** وإن تَرَحَّلتَ عنه لَجَّ في الطّلبِ
وإمّا مفصّل، وهو ما ذُكِر وجهُهُ، كقوله:
وثَغْرُه (9) في صفاء *** وأدمُعي كالَّلآلى
وقد يُتَسامَحُ (10) بذكرِ ما يَستَتْبِعُه (11) مكانُه، كقَولِهم للكلام الفصيحِ: «هو كالعسَلِ في الحلاوة»؛ فإنّ الجامعَ فيه لازمُها (12)، وهو مَيْلُ الطّبْع.
وأيضاً (13) إمّا [1] قَريبٌ مُبتذَلٌ، وهو ما يَنتَقِلُ فيه مِن المُشبَّهِ إلی المُشبَّهِ به مِن غيرِ تَدقيقِ نظرٍ، لِظُهورِ وجهِه في بادئِ الرّأيِ، إمّا لِكَونه أمراً جُمْلِيّاً، فإنّ الجُملةَ أسبقُ إلی النَّفْسِ؛ أو قَليلَ التّفصيلِ مع غَلَبة حضورِ المُشبَّه به في الذِّهنِ، إمّا (14) عند حضورِ المُشبَّهِ لِقُربِ المُناسَبَةِ، كتشبيه الجَرَّة الصّغيرةِ بالكُوز في المقدار والشَّكل؛ أو مُطلَقاً لِتَكرُّرِه (15)
ص: 106
على الحِسِّ، كالشَّمسِ بِالمِرآةِ المَجْلُوَّةِ في الاستدارة والاستنارةِ، لِمُعارَضَة كُلٍّ مِن القُرْب والتَّكرارِ للتّفصيل.
وإمّا [2] بَعيدٌ غريبٌ، وهو بخِلافِه لِعدمِ الظُّهورِ؛ إمّا لِكَثرةِ التّفصيلِ، كقوله: «والشّمسُ كالمِرآةِ»، أو نُدورِ حضورِ المشبَّه به، إمّا عند حضورِ المشبَّه لِبُعْد المُناسَبَة - كما مَرَّ (1) -، وإمّا مُطلقاً، لِكَونه وَهميّاً أو مُركّباً خَياليّاً أو عَقليّاً - كما مَرَّ - أو لِقِلَّةِ تكرُّرِه على الحِسِّ، كقوله: «والشّمسُ كالمِرآة». فالغرابةُ فيه مِن وَجهَينِ (2)
والمرادُ بالتّفصيل (3) أن يُنظَرَ (4) في أكثرَ مِن وصفٍ. ويَقعُ على وُجوهٍ أعرفُها أن تَأخُذَ بعضاً وتَدَعَ بعضاً، كما في قوله:
حَملتُ رُدَيْنِيّاً (5) كأنَّ سِنانَه (6) *** سَنا لَهَبٍ (7) لَم يَختَلِطْ بدُخانِ
وأنْ تَعتَبِرَ الجميعَ - كما مَرَّ - مِن تَشبيهِ الثُّريّا. وكُلّما كان التّركيبُ من أمورٍ أكثرَ، كان التّشبيهُ أبعدَ. وَالبليغُ ما كان مِن هذا الضّربِ (8)، لِغَرابته ولأنَّ نَيْلَ الشَّيْءِ بَعدَ طَلَبِه ألَذُّ.
وقد يُتَصَرَّفُ في القريب بما يَجعَلُه غريباً (9)، كقوله:
لمْ تَلْقَ (10) هذا الوَجْهَ شَمسُ نَهارِنا *** إلا بوجْهٍ لَيسَ فيه حَياءُ
وقوله:
عَزَماتُه (11) مِثلُ النّجومِ ثَواقِباً *** لَوْ لمْ يكُنْ للثّاقبات أُفولُ
ص: 107
ويُسمّى هذا «التّشبيهَ المَشروطَ».
وباعتبار أداتِه، إمّا مُؤكَّدٌ، وهو ما حُذِفَت أداتُه، مثلُ قَولِه تعالى: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ (1)، ومنه نحو:
والرّيحُ تَعبَثُ (2) بالغُصونِ (3) وقَدْ جرى (4) *** ذَهَبُ الأصيلِ على لُجَيْنِ الماءِ (5)
أو مُرسَلٌ، وهو بخِلافه - كما مَرَّ.
وباعتبار الغَرَض، إمّا مقبولٌ، وهو الوافي بإفادتِه كأنْ يَكونُ المُشبَّهُ به أعرَفَ شيءٍ بوجْهِ الشَّبَهِ في بيان الحال، أو أتَمَّ شيءٍ فيه في إلحاق النّاقص بالكامل، أو مُسَلَّمَ الحُكْمِ فيه (6) معروفَهُ (7) عند المخاطب في بيان الإمكانِ (8)؛ أو مَردودٌ، وهو بخِلافِه.
وأعلى مَراتبِ التّشبيهِ في قُوّةِ المُبالَغَة باعتبارِ ذِكرِ أركانه [کلِّها] (9) أو بَعْضِها حذفُ وَجْهِهِ وأداتِه فقط، أو مع حذفِ المشبَّهِ، ثُمّ حذفُ أحدِهما كذلك، ولا قُوَّة لِغيرهما.
ص: 108
وقد يُقَيَّدانِ باللُّغَوِيَّيْنِ.
الحقيقةُ: الكَلِمةُ المُستعمَلَةُ فيما وُضِعَتْ له في اصطلاحِ التّخاطُبِ. والوضعُ: تعيينُ اللّفظِ للدِّلالة علی معنیً بنفْسه، فخَرَج المَجازُ؛ لأنّ دَلالتَه بقرينةٍ دونَ المشترَكِ. والقَولُ بدِلالة اللفظ لِذاتِهِ ظاهرُهُ فاسدٍ، وقد تَأَوَّلَه السَّكّاكىُّ.
والمجازُ مُفردٌ ومركّبٌ. أمّا المُفردُ، فهو الكلمةُ المستعمَلَةُ في غير ما وُضِعتْ له في اصطلاحِ التّخاطُبِ على وجهٍ (1) يَصِحُّ مع قرينةِ عدمِ إرادتِه (2)فلا بُدَّ مِن العَلاقةِ لِيَخرُجَ (3) الغَلَطُ والكِنايةُ.
وكُلٌّ منهما (4) لُغَويٌّ وشَرعيٌّ وعُرْفيٌّ خاصٌّ أو عامٌّ، كأسَدٍ للسَّبُعِ (5) والرّجل الشّجاع (6)، وصَلاةٍ للعبادة المخصوصة (7) والدُّعاءِ (8)، وفِعلٍ لِلَّفظِ (9) والحَدَثِ (10)، ودابَّةٍ لذي الأربعِ (11) والإنسانِ (12).
وکثيراً ما تُطْلَقُ الاستعارةُ علَى استعمالِ اسمِ المُشبَّهِ به في المُشبَّه (1)، فَهُما مُستعارٌ منه (2) ومُستعارٌ له (3)، واللّفظُ مُستَعارٌ (4)
والمُرسَلُ كالْيَدِ في النِّعمة والقُدرَة، والرّاويةِ (5) في المَزادةِ (6)
ومنه (7) تَسميةُ الشّيءِ باسمِ جُزئِه، كَالعَينِ في الرَّبيئةِ (8)، وعَكْسُه كَالأصابعِ في الأنامِلِ. وتَسمِيَتُه (9) باسم سَبَبِه، نحو: «رَعَينا الغَيْثَ»؛ أو مُسَبَّبِه، نحو: «أمْطرتِ السَّماءُ نباتاً»؛ أو ما كانَ عليه، نحو: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ (10)؛ أو ما يَؤولُ إليه، نحو: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ (11)؛ أو مَحلِّه، نحو: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ (12)؛ أو حالِّهِ، نحو: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ (13)؛ أي: في الجنة؛ أو آلَتِه، نحو: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ (14)؛ أي ذِكْراً حسناً.
والاستِعارةُ قد تُقَيَّدُ بالتّحقيقيّةِ لِتحقُّقِ مَعناها حِسّاً أو عَقْلاً، كقَوله:
ص: 110
لدى (1) أسَدٍ شاكي (2) السِّلاحِ مُقَذَّفٍ (3) *** له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ (4)
أي: رجلٍ شجاعٍ. وقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (5)؛ أي: الدّينَ الحَقَّ.
ودليلُ أنّها مَجازٌ لُغويٌّ كَونُها مَوضوعةً للمشبَّهِ به لا للمشبَّه، ولا لِأعَمَّ منهما.
وقيل: إنّها مَجازٌ عَقليٌّ، بمعنى أنَّ التّصرُّفَ في أمرٍ عقليٍّ لا لُغَويٍّ؛ لأنّها (6) لمّا لم تُطْلَقْ على المشبَّهِ إلّا بعدَ ادّعاءِ دُخولِه (7) في جنس المشبَّه به، كانَ استِعمالُها فيما وُضِعت له؛ ولهذا (8) صَحَّ التّعجُّبُ في قوله:
قامتْ تُظَلِّلُني (9) مِن الشّمسِ *** نَفْسٌ أعَزُّ علَيَّ مِن نفسي
قامتْ تُظَلِّلُني ومِن عَجَبٍ *** شَمْسٌ تُظَلِّلُني مِن الشّمسِ
والنَّهْيُ عنه في قوله:
لا تَعجَبوا (10) مِن بِلی غَلالَتِه (11) *** قد زَرَّ أزرارَه (12) على القَمَرِ
ورُدَّ بأنّ الادِّعاءَ لا يَقتضي كَونَها مُستعمَلةً فيما وُضِعتْ له. وأمّا التّعجُّبُ والنّهيُ عنه، فلِلْبِناء على تَناسي التّشبيهِ قَضاءً (13) لِحَقِّ المُبالَغة.
ص: 111
والاستعارةُ تُفارِقُ الكِذْبَ بالبِناء على التّأويلِ ونَصْبِ القرينةِ على إرادةِ خِلافِ الظّاهر. ولا تَكونُ (1) عَلَماً لِمُنافاته الجِنْسيَّةِ، إلّا إذا تَضَمَّنَ نَوْعَ وَصْفيَّةٍ كَحاتَمٍ. وقرينتُها إمّا أمرٌ واحدٌ، كما في قولك: «رأيت أسداً يَرمي»، أو اكثر، كقوله:
وإنْ تَعافُوا (2) العَدْلَ والإيمانا *** فإنّ في أَيمانِنا (3) نيرانا
أو معانٍ مُلتَئِمةٍ (4)، كقوله:
وصاعقةٍ (5) مِن نَصْله (6) تَنْكَفي بها (7) *** على أرْؤُسِ (8) الأقرانِ (9) خَمْسُ (10) سَحائبِ
وهي (11) باعتبار الطّرَفَينِ قِسمانِ؛ لأنّ اجتماعَهما في شيءٍ إمّا ممكنٌ، نحو: ﴿أَحْيَيْنَاهُ﴾ في قوله: ﴿أَوَمَنْ (12) كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ (13)؛ أي: ضالّاً فهديناه. وَلْتُسَمَّ «وِفاقيَّةً» (14)؛ وإما ممتنعٌ، كاستعارة اسمِ المعدومِ للمَوجودِ لعدم غِنائه، وَلْتُسَمَّ «عِناديّةً» (15).
ص: 112
ومنها (1): التّهكُّميّةُ (2) والتّمليحيّةُ، وهما ما استُعمِل في ضِدِّه (3) أو نقيضِه (4) - لِما مرَّ -، نحو: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (5).
وباعتبارِ الجامعِ قسمانِ؛ لأنّه إمّا داخلٌ في مفهوم الطّرَفَينِ، نحو: «كُلَّما سَمِعَ هَيْعةً (6) طار إليها»؛ فإنّ الجامعَ بين الْعَدْوِ (7) والطَّيَرانِ هو قطعُ المسافة بسرعةٍ (8) وهو (9) داخلٌ فيهما؛ وإمّا غيرُ داخل - كما مَرَّ (10)
وأيضاً إمّا عامّيّةٌ، وهي المُبتَذَلةُ لظهور الجامع فيها (11)، نحو: «رأيتُ أسداً يرمي»، أو خاصِّيَّةٌ، وهي الغريبةُ. والغرابةُ قد تكونُ في نفْس الشَّبَهِ، كقوله:
وإذَا احتَبى (12) قَرَبوسَه (13) بعِنانِه *** عَلَكَ (14) الشَّكيمَ (15) إلَی انْصرافِ الزّائرِ
وقد تَحصُلُ بتصرُّفٍ في العامّيّةِ، كما في قوله:
[أخذنا بأطرافِ الأحاديثِ بينَنا] *** وسالَتْ بأعناق المطِيّ الأباطحُ (16)
إذْ أُسنِدَ الفعلُ إلی الأباطِحِ دونَ (17) المَطِىِّ أو (18) أعناقِها، وأُدخِلَ الأعناقُ في السَّيْرِ.
ص: 113
وباعتبار الثَّلاثةِ (1) سِتَّةُ أقسامٍ؛ لأنّ الطَّرَفَينِ إِنْ کانا حِسِّيَّيْنِ، فالجامعُ إمّا حِسّيٌّ، نحو: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا﴾ (2)؛ فإنّ المُستعارَ منه ولدُ البقرةِ، والمستعارَ له الحَيَوانُ الّذي خَلَقَهُ اللّهُ تعالى مِن حُلِىِّ الْقِبْطِ، والجامعَ لها الشَّكْلُ، والجميعُ حِسِّيٌّ.
وإمّا عقليٌّ، نحو: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾(3)؛ فإنّ المستعارَ منه كَشْطُ (4) الجَلْدِ عن نَحْوِ (5) الشّاةِ، والمُستعارَ له كَشْفُ (6) الضَّوْءِ عن مكان اللّيلِ، وهما حِسِّيّانِ، والجامعُ ما يُعقَلُ مِن تَرتُّبِ أمرٍ على آخرَ.
وإمّا مختلفٌ، كقولك: «رأيتُ شمساً»، وأنت تُريدُ إنساناً كالشّمسِ في حُسْن الطّلْعةِ (7) ونَباهة الشّأْن (8)
وإلّا فَهُما إمّا عقليّانِ، نحو: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ (9)؛ فإنّ المُستعارَ منه الرُّقادُ، والمُستعارَ له المَوتُ، والجامعَ عدمُ ظهورِ الفعل، والجميعُ عقليٌّ.
وإمّا مُختَلِفانِ والحِسِّيُّ هو المُستعارُ منه، نحو: ﴿فَاصْدَعْ (10) بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (11)؛ فإنّ المُستعارَ منه كَسرُ الزُّجاجة وهو حِسِّيٌّ، والمُستعارَ له التّبليغُ، والجامعَ التّأثيرُ، وهما عقليّانِ؛
وإمّا عَكسُ ذلك، نحو: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى (12) الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ (13)؛ فإنّ المُستعارَ له كَثرةُ الماءِ وهو حِسِّيٌّ، والمُستعارَ منه التّكبُّرُ، والجامعَ الاستعلاءُ المُفرِطُ، وهما عقليّانِ.
ص: 114
وباعتبار اللَّفظِ (1) قِسمانِ؛ لأنّه إن كان (2) اسمَ جنسٍ، فأصليّةٌ كأسدٍ وقَتْلٍ (3)، وإلّا فَتَبَعيَّةٌ كالفِعْلِ وما اشْتُقَّ (4) منه والحرفِ. فالتّشبيهُ في الأوَّلَيْنِ (5) لمعنى المصدرِ، وفي الثّالثِ (6) لِمُتَعَلَّقِ معناه، كالمجرور في: «زيدٌ في نعمةٍ»، فَيُقَدَّرُ في «نَطَقَتِ الحالُ» و«الحالُ ناطقةٌ بكذا» للدِّلالة بالنُّطْق، وفي لام التعليل، نحو: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ (7) للعَداوة والحُزْن بعدَ الالتقاطِ بعلَّته الغائيّة.
ومَدارُ قَرينتِها (8) في الأوَّلَينِ (9) على الفاعلِ، نحو: «نَطَقَتِ الحالُ (10) بكذا»؛ أو المفعولِ، نحو:
[جُمِعَ الحَقُّ لنا في إمامٍ] *** قَتَلَ البُخلَ وأحيا السِّماحا (11)
ونحو:
نَقْريهُمُ (12) لَهْذَمِيّاتٍ (13) نَقُدُّ (14) بها *** [ما کان خاطَ عليهِم کُلُّ زَرّادِ (15)]
أو المجرورِ، نحو: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (16).
وباعتبارٍ آخَرَ ثَلاثةُ أقسامٍ:
ص: 115
[1] مُطلَقَةٌ، وهي ما لَمْ تُقْرَنْ (1) بصفةٍ ولا تَفريعٍ (2)والمرادُ المعنويّةُ لا النّعْتُ. و[2] مُجرَّدةٌ، وهي ما قُرِنَ بما يُلائِمُ المُستَعارَ له، كقوله:
غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّمَ ضاحكاً *** غَلِقَتْ (3) لِضَحْکتِه رِقابُ المالِ
و[3] مُرَشَّحةٌ، وهي ما قُرِنَ بما يُلائِمُ المُستعارَ منه، نحو: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا (4) الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ (5)وقد يَجتَمِعانِ في قوله:
لدى أسدٍ شاكِي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** له لِبَدٌ أظفارُه لَم تُقَلَّمِ
والتّرشيحُ أبلَغُ (6)؛ لِاشتِماله على تحقيق المبالَغةِ، ومبناه على تناسي التّشبيهِ (7) حتى (8) إنّه يُبنی (9) على عُلُوِّ القَدْرِ (10) ما يُبْنى على عُلُوِّ المكانِ (11)، كقوله:
ويَصعَدُ حتّى يَظُنُّ الجَهول *** بأنّ له حاجةً في السّماءِ (12)
ص: 116
ونحوُه ما مَرَّ مِن التّعجُّب (1) والنّهي عنه (2)
وإذا جاز البِناءُ على الفرْعِ (3) مع الاعترافِ بالأصل (4)، كما في قوله:
هي الشّمسُ (5) مَسكَنُها في السّماء *** فَعَزِّ (6) الفُؤادَ عَزاءً جَميلا (7)
فلنْ تَستطيعَ إليها الصُّعودا *** ولن تَستطيعَ إليكَ النُّزولا
فمع جَحدِه (8) أولى.
وأمّا المركّبُ فهو اللّفظُ المُستَعمَلُ فيما شُبِّهَ بمعناه الأصليِّ (9) تَشبيهَ التَّمثيلِ للمُبالَغة؛ كما يُقالُ للمتردِّدِ في أمر: «إنّي أراكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وتُؤَخِّرُ أخرى» (10)وهذا التّمثيلُ (11) على سبيل الاستعارة (12)، وقد يُسمَّى التّمثيلَ مُطلقاً؛ ومتى فَشا (13) استِعمالُه،
ص: 117
كذلك (1) سُمِّيَ مَثَلاً؛ ولهذا لا تُغَيَّرُ الأمثالُ (2)
قد يُضْمَرُ التّشبيهُ في النَّفْسِ (3)، فلا يُصَرَّحُ بشيءٍ مِن أركانه سِوَى المُشبَّهِ، ويَدُلُّ عليه (4) بأنْ يُثْبِتَ للمشبَّهِ أمرٌ يَخْتَصُّ (5) بالمشبَّه به، فيُسَمَّى التَّشْبيهُ استعارةً بالكناية، أو مَكنِيّاً عنها. وإثباتُ ذلك الأمرِ للمُشبَّهِ استعارةٌ تخييليّةٌ، كما في قول الهُذَلِيِّ:
وإذا المَنيَّةُ أنشَبَتْ أظْفارَها *** ألْفَيتَ (6) كُلَّ تَميمةٍ لا تَنفَعُ
شَبَّهَ المَنيّةَ بالسَّبُعِ في اغتيالِ (7) النُّفوسِ بالقهر والغلبةِ مِن غير تَفْرِقةٍ بين نَفّاعٍ وضَرّارٍ؛ فَأَثبَتَ لها الأظفارَ الّتي لا يَكْمُلُ ذلك (8) فيه (9) بدونها (10)وكما في قَول الآخَرِ:
ولئِنْ نَطَقتُ بشُكرِ بِرِّكَ مُفصِحاً *** فَلِسانُ حالي بالشِّكاية أنطَقُ
شَبَّهَ الحالَ بإنسانٍ مُتَكلِّمٍ في الدِّلالة على المقصودِ؛ فأَثبَتَ لها اللِّسانَ الّذي به (11) قِوامُها (12) فيه (13)(14)
ص: 118
وكذا قول زُهَيرٍ:
صَحا القَلبُ (1) عَنْ سَلمى وأقْصَرَ باطلُه *** وعُرِّىَ (2) أَفراسُ الصِّبا ورَواحِلُه
أرادَ أن يُبَيِّنَ أنّه تَرَك ما كان يَرتَكِبُه (3) زمنَ المَحَبَّة مِن الجَهلِ، وأعرَضَ عن مُعاوَدَته (4)، فَبَطَلتْ آلاتُه، فَشَبَّه الصِّبا بجِهةٍ مِن جِهات المَسيرِ كالحَجِّ والتِّجارةِ قَضى منها الوَطَرَ، فَأُهمِلَتْ آلاتُها، فَأثْبَتَ لها الأفراسَ والرَّواحلَ. فالصِّبا مِن الصَّبْوة بمعنى المَيل إلی الجهلِ والفُتُوَّة. ويُحتَمَلُ أنّه أرادَ دَواعيَ النُّفوسِ وشَهَواتِها والقُوَى الحاصلةَ لها (5) في استيفاءِ اللَّذّاتِ، أو الأسبابَ الّتي قَلَّما تَتَآخَذُ (6) في اتِّباعِ الْغَيِّ إلّا أوانَ الصِّبا، فَتَكونُ الاستعارةُ تحقيقيَّةً.
عَرَّفَ السَّکّاکِيُّ الحقيقةَ اللُّغويَّةَ بالكَلِمةِ المُستَعمَلَةِ فيما (7) وُضِعَتْ هيَ له مِنْ غَير تأويلٍ في الوَضْعِ. وَاحتَرَزَ بالقَيْد الأخيرِ عن الاستعارةِ، على أصَحِّ القَوْلَيْنِ (8)، فإنّها (9) مُستعمَلةٌ فيما وُضِعتْ له بتأويلٍ.
وعَرَّفَ المَجازَ اللُّغويَّ بالكلمةِ المُستعمَلَةِ في غير ما وُضِعتْ له بالتَّحقيقِ في اصطِلاحٍ به التّخاطُبُ مَع قرينةٍ مانعةٍ عن إرادته (10)وأتى بقَيْد التّحقيق لِتَدخُلَ الاِستعارةُ - على ما مَرَّ.
ص: 119
ورُدَّ بأنّ الوضعَ إذا أُطلِقَ، لا يَتناوَلُ الوَضعَ بتأويلٍ؛ وبأنَّ التّقييدَ باصطلاح التّخاطُبِ لا بُدَّ منه في تعريفِ الحقيقةِ.
وقسَّمَ المَجازَ اللُّغويَّ إلی الاستعارةِ وغيرها (1)، وعَرَّفَ الاستعارةَ بأنْ تَذْكُرَ أحدَ طَرَفيِ التَّشبيهِ وتُريدُ به الآخَرَ (2) مُدَّعياً دُخولَ المُشبَّهِ في جنس المشبَّه به. وقسَّمَها إلی المُصرَّحِ بها والمَكْنِىِّ عَنها. وعَنى بالمُصرَّح بها أنْ يکونَ المذكورُ هو المشبَّهُ به، وجَعَلَ منها تَحقيقيّةً وتَخييليَّةً. وفَسَّرَ التّحقيقيَّة بما مَرَّ وعَدَّ التَّمثيلَ منها.
ورُدَّ بأنّه (3) مُستلزِمٌ للتّركيبِ المُنافي للإفرادِ.
وفَسَّرَ التّخييليَّةَ بما لا تَحَقُّقَ لِمعناهُ حِسّاً ولا عقلاً، بل هو صورةٌ وهميّةٌ مَحضةً؛ كلفظ الأظفارِ في قَول الهُذَلِيِّ؛ فإنّه لَمّا شَبَّهَ المَنيَّةَ بالسَّبُعِ في الاغتيال، أخَذَ الوَهْمَ في تصويرِها (4) بصورته (5) واختراعِ لوازمِه (6) لها، فاخْتَرَع لها (7) صورةً مِثلَ الأظفارِ، ثُمّ أطلَقَ عليه (8) لفظَ الأظفارِ.
وفيه تَعَسُّفٌ (9)، ويُخالِفُ تَفسيرَ غيرِه لها (10) بِجَعْلِ الشَّيءِ للشَّيءِ، ويَقتضي أنْ يَکونَ التَّرشيحُ تَخْييليّةً لِلُزوم مِثلِ ما ذَكَرَه فيه.
وعَنى (11) بالمَكْنِىِّ عنها أنْ يَکونَ المَذكورُ (12) هو المُشَبَّهُ (13) على أنّ المُرادَ بالمَنيَّةِ السَّبُعُ، بادِّعاءِ السَّبُعيَّةِ لها (14) بقرينةِ إضافةِ الأظفارِ إليها.
ورُدَّ بأنّ لفظَ المُشبَّهِ فيها (15) مُستعمَلٌ فيما وُضِعَ له تَحقيقاً، والاستعارةُ لَيستْ
ص: 120
كذلك، وإضافةُ نَحوِ «الأظفارِ» قَرينةُ التّشبيهِ.
واختارَ رَدَّ التَّبعيَّةِ إلی المَكْنِىِّ عنها بِجَعْلِ قَرينتِها مَكْنِيّاً عنها والتَّبَعيّةِ قَرينَتَها عَلى نَحوِ قَولِه في المَنِيّة وأظفارِها.
ورُدَّ بأنّه إنْ قُدِّرَ التَّبَعيَّةُ حَقيقةً، لَمْ تَكُنْ تَخييليّةً؛ لأنّها مَجازٌ عندَه، فلم تَكُنِ المَكْنِىُّ عنها مُستلزمةً للتّخييليَّةِ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق، وإلّا فَتَكونُ استِعارةً، فلم يَكُنْ ما ذهب إليه مُغْنِياً عمّا ذَكَرَ غيرُه.
حُسْنُ كُلٍّ مِن التّحقيقيّة والتّمثيلِ برِعايةِ جِهاتِ حُسْنِ التّشبيهِ، وأنْ لا يُشَمَّ رائحتُه لفظاً؛ ولِذلك يُوصی أنْ يکونَ الشَّبَهُ بين الطَّرَفيْنِ جَلِيّاً (1) لئلّا يَصيرَ ألْغازاً (2)، كما لو قيل: رأيتُ أسداً، وأريدَ إنسانٌ أبخَرُ (3)، و«رأيتُ إبِلاً مِائةً لا تَجِدُ فيها راحلةً» (4)، وأُريدَ النّاسُ. وبهذا ظَهَرَ أنّ التّشبيهَ أعمُّ مَحَلّاً، ويَتَّصِلُ به أنّه إذا قَوِىَ الشَّبَهُ بينَ الطَّرَفيْنِ حتّى اتَّحَدا - كالعِلمِ والنّور والشُّبْهةِ والظُّلْمة - لمْ يَحْسُنِ التّشبيهُ وتَعَيَّنتِ الاستعارةُ، والمَكْنِىُّ عنها كالتّحقيقيَّةِ، والتّخييليّةُ حُسْنُها بِحَسَبِ حُسْنِ المَكْنِىِّ عنها.
ص: 121
الكِنايةُ لفظٌ أريدَ به لازمُ مَعناهُ (1) مع جَوازِ إرادته معه (2)فظَهَرَ أنّها تُخالِفُ المَجازَ مِن جِهةِ [جوازِ] (3) إرادةِ المعنی مع إرادةِ لازمِه (4)وفُرِّقَ (5) بأنّ الانتقالَ فيها مِن اللّازمِ (6) وفيه مِن الملزومِ (7)ورُدَّ بأنّ اللّازمَ ما لم يكُنْ ملزوماً لم يَنْتَقِلْ منه (8)، وحينئذٍ يَكونُ الانتقالُ مِن المَلزوم (9).
ص: 123
وهي ثلاثةُ أقسامٍ:
الأُولى. المطلوبُ بها (1) غيرُ صفةٍ ولا نِسبةٍ (2)فمِنها ما هي معنىً واحدٌ (3)، كقوله:
[الضّاربينَ بکُلِّ أبيضَ مِخْذَمٍ (4)] *** والطّاعِنين (5) مَجامِعَ الأضغانِ (6)
ومنها ما هو مجموعُ معانٍ، کقولنا كنايةً عن الإنسان: «حَيٌّ (7) مُستوَى (8) القامةِ عريضُ (9) الأظفارِ» (10)وشرطُهما الاختصاصُ بالمَكْنِىِّ عنه.
والثانيةُ: المطلوبُ بها صفةٌ (11)فإنْ لم يكُنِ الانتقالُ بواسطةٍ، فقريبةٌ واضحةٌ، کقولهم كنايةً عن طول القامة: «طَويلٌ نِجادُهُ (12)»، و«طَويلُ النِّجاد». والأُولى ساذجةٌ (13)،
ص: 124
وفي الثّانية تصريحٌ ما لِتَضَمُّنِ الصِّفةِ الضّميرَ (1)؛ أو خَفيَّةٌ، کقولهم كنايةً عن الأبْلَه: «عَريض القَفا (2)». وإنْ كان بواسطةٍ فَبعيدةٌ، کقولهم: «كَثير الرَّماد»، كنايةً عن المِضْيافِ (3)؛ فإنّه يَنتقلُ مِن كَثرة الرَّماد إلی كَثرة إحْراقِ الحَطَبِ تَحتَ القُدور (4)، ومنها إلی كَثرةِ الطَّبائِخِ (5)، ومنها إلی كَثرة الأَكَلَةِ (6)، ومنها إلی كَثرةِ الضِّيفانِ (7)، ومنها إلی المقصود.
الثّالثةُ. المطلوبُ بها نسبةٌ، كقولهم:
إنّ السَّماحةَ (8) والمُروءةَ (9) والنّدى *** في قُبَّةٍ (10) ضُرِبَت على ابنِ الحَشرَجِ
فإنّه أرادَ أنْ يُثبِتَ اختِصاصَ (11) ابْنِ الْحَشْرَجِ بهذه الصِّفاتِ، فَتَرَكَ التّصريحَ بأن يَقولَ: إنّه مُختصٌّ بها أو نحوُه إلی الكنايةِ، بأنْ جَعَلَها (12) في قُبَّةٍ مَضروبةٍ عليه. ونحوُ قَولِهم: «المَجْدُ (13) بينَ ثَوبَيهِ (14)، والكَرَمُ (15) بين بُرْدَيْهِ (16)». والموصوفُ في هذَيْنِ القِسْمَينِ قد يكونُ غيرَ مذكورٍ؛ كما يُقال في عُرْضِ (17) مَن يُؤذي المسلمينَ: «المُسلمُ مَن سَلِمَ المُسلمونَ مِن لِسانه ويَدِه».
السَّکّاکِيُّ: الكِنايَةُ تَتَفاوَتُ (18) إلی تعريضٍ وتلويحٍ ورمْزٍ وإيماءٍ وإشارةٍ.
ص: 125
والمناسبُ لِلْعُرْضِيَّةِ التَّعريضُ (1)، ولغيرها (2): إنْ كَثُرَتِ الوَسائطُ التّلويحُ (3)، وإنْ قَلَّتْ مع خَفاءٍ الرّمزُ (4)، وبلا خَفاءٍ (5) الإيماءُ والإشارةُ.
ثمّ قال (6): والتّعريضُ قد (7) يَكونُ مَجازاً، کقولك: «آذَيتَني فَسَتَعرِفُ» (8)، وأنت تُريدُ إنساناً مع المخاطَبِ دونَه، وإنْ أرَدْتَهما جميعاً كان كنايةً، ولا بُدَّ فيهما مِن قرينةٍ.
أطْبَقَ (9) البُلغاءُ على أنّ المَجازَ والكِنايةَ أبلَغُ (10) مِن الحقيقةِ والتّصريحِ؛ لأنَّ الانتقالِ فيهما مِنَ المَلزوم إلی اللّازم (11)، فهو كَدَعوى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ (12)وأنَّ (13) الاستعارةَ أبلغُ مِن التّشبيهِ؛ لأنّها نَوعٌ مِن المَجازِ.
ص: 126
الفنّ الثّالث: علم البديع (1)
وهو علمٌ يُعَرفُ به (2) وُجوهُ (3) تَحسينِ (4) الكلامِ بعدَ رِعاية المطابَقَةِ (5) ووُضوح الدَّلالةِ (6)وهو (7) ضَرْبانِ: مَعنوِيٌّ ولفْظيٌّ.
أمّا المَعنويُّ، فمنه:
المُطابَقَةُ، وتُسمّى الطِّباقَ والتَّضادَّ أيضاً، وهي الجمعُ بَينَ مُتضادَّيْنِ؛ أي: مَعنَيَيْنِ مُتقابِلَيْنِ في الجملة (8)ويكونُ بلَفظَيْنِ مِن نوعٍ (9): اسْمَيْنِ، نحو: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا (10) وَهُمْ رُقُودٌ﴾ (11)(12)؛ أو فِعْلَيْنِ، نحو: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ (13)؛ أو حَرفَيْنِ، نحو: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ
ص: 127
وَعَلَيْهَا (1) مَا اكْتَسَبَتْ﴾(2)(3)؛ أو مِن نَوعَيْنِ، نحو: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ (4) (5)وهو ضَرْبانِ (6): طِباقُ الإيجابِ - كما مَرَّ -، وطِباقُ السَّلْبِ، نحو: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ﴾ (7)، ونحو: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ (8).
ومِن الطِّباق نحو قوله:
تَرَدّى (9) ثِيابَ الْموتِ حُمْراً (10) فما أتى *** لَها (11) اللَّيْلُ إلّا وَهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ (12) خُضْرِ
ويُلْحَقُ به نحو: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (13)؛ فإنّ الرّحمةَ مُسَبَّبَةٌ عَن اللِّينِ. ونحو قوله:
لا تَعْجَبي يا سَلْمُ (14) مِن رَجُلٍ *** ضَحِكَ المَشيبُ برأسِه فَبَكى
ويُسمَّى الثّاني إبهامَ التَّضادِّ.
المُقابَلَة، ودَخَل فيه ما يَختَصُّ باسم المُقابَلَةِ (15)، وهي أنْ يُؤْتى بمعنَيَيْنِ مُتوافِقَيْنِ أو أكثرَ، ثمّ بما يُقابِلُ ذلك على التّرتيبِ. والمُرادُ بالتّوافُقِ خِلافُ التَّقابُلِ، نحو: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ (16) ونحو قوله:
ص: 128
ما أحْسَنَ (1) الدّينَ والدُّنيا إذَا اجتَمَعا *** وأقْبَحَ (2) الكُفرَ والإِفلاسَ (3) بالرَّجُل
ونحو: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ (4) لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ (5) بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (6) * وَكَذَّبَ (7) بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (8) (9) المُرادُ ب-«استَغنى» أنّه زَهِدَ فيما عند اللّهِ تَعالى، كأنّه مُسْتَغْنٍ عنه، فَلَمْ يَتَّقِ؛ أو استَغْنى بشَهَوات الدّنيا عن نعيم الجَنَّة، فلم يتَّقِ.
وزاد السَّکّاکِيُّ: وإذا شُرِطَ هنا أمْرٌ، شُرِطَ ثَمَّةَ (10) ضِدُّه، كَهاتَينِ الآيَتَينِ؛ فإنّه لَمّا جُعِلَ التَّيسيرُ (11) مُشترَكاً بينَ الإعطاءِ والاتِّقاءِ والتّصديق، جُعِلَ ضِدُّه (12) مُشترَكاً بينَ أضدادِها (13)
ومنه مُراعاةُ النّظيرِ، ويُسَمّى التّناسُبَ والتَّوْفيقَ، وهو جَمْعُ أمرٍ وما يُناسِبُه لا بالتَّضادِّ، نحوُ: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (14)، وقوله:
كالقِسِىِّ (15) المُعَطَّفاتِ (16) بَلِ الأَسْ- *** هُمِ (17) مَبْرِيَّةً (18) بَلِ الأوتارِ
ص: 129
ومنها ما يُسمّيه بعضُهم تَشابُه الأطرافِ؛ وهو أن يُختَمَ الكَلامُ بما يُناسِبُ ابتداءَهُ في المعنى، نحو: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (1)، ويُلحَقُ بها (2) نحو: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ (3) وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (4)، ويُسَمّى إيهامَ التّناسُبِ.
ومنه الإرصادُ (5)، ويُسَمّيه بعضُهم التَّسهيمَ، وهو أن يُجْعَلَ قبلَ العَجُزِ مِن الفِقْرةِ أو مِن البيتِ ما يَدُلُّ عليه (6) إذا عُرِفَ الرَّوِىُّ، نحو: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(7) (8)وقوله:
إذا لَمْ تَسْتَطِعْ شيئاً فَدَعْهُ (9) *** وجاوِزْهُ إلی ما تَستَطيعُ
ومنه المُشاكَلَةُ، وهي ذِكْرُ الشَّيْءِ (10) بلفظِ غيرِه، لوقوعه (11) في صُحْبَته (12)، تَحقيقاً أو تقديراً. فالأوّلُ نحوُ قوله:
قالوا: اقتَرِحْ (13) شيئاً نُجِدْ (14) لك طَبخَهُ (15) *** قُلتُ: اطْبُخوا لي جُبَّةً وقَميصا
ونحو: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ (16) (17)والثاني نحو: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ (18) (19)، وهو مصدرٌ مُؤَكِّدٌ ل-«آمَنّا باللّهِ»؛ أي: تَطهيرَ اللّهِ؛ لأنّ الإيمانَ يُطهِّرُ النّفوسَ.
ص: 130
والأصلُ فيه أنّ النّصارى كانوا يَغْمِسونَ (1) أولادَهم في ماءٍ أصفرَ (2) يُسمّونه «المَعموديَّة» (3)، ويقولون: إنّه تَطهيرٌ لهم. فعَبَّرَ عن الإيمانِ باللّه بِصِبغةِ اللّه لِلمُشاكَلَة (4) بهذه القرينةِ.
ومنه المُزاوَجَةُ (5)، وهي أن يُزاوَجَ بينَ معنَيَيْنِ في الشَّرطِ والجزاءِ (6)، كقَوله:
إذا (7) ما نَهَى (8) النّاهي فَلَجَّ به (9) الهَوى (10)
أصاخَتْ (11) إلی الواشي (12) فَلَجَّ بها الهَجْرُ
ومنه العكْسُ (13)، وهو أنْ يُقَدَّمَ جزءٌ في الكلام على جزءٍ، ثمّ يُؤَخَّرُ. ويَقَعُ على وجوهٍ، منها أنْ يقعَ بَينَ أحدِ طَرَفَيِ الجملةِ وما أُضيفَ إليه، نحو: «عاداتُ السّاداتِ ساداتُ العاداتِ»؛ ومنها أن يقعَ بينَ مُتَعَلِّقِي فِعلَيْنِ في جملَتَيْنِ، نحو: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾(14)؛ ومنها أنْ يَقَعَ بَينَ لَفظَتَيْنِ في جملَتَيْنِ، نحو: ﴿لَا هُنَّ (15) حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ (16) يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ (17).
ومنه الرُّجوعُ، وهو العَوْدُ إلی الكلام السّابق بالنّقْضِ (18) لنُكتةٍ، كقوله:
ص: 131
قِفْ بالدِّيارِ الّتي لَمْ يَعْفُها (1) القِدَمُ *** بَلى وغَيَّرَها الأرواحُ (2) والدِّيَمُ (3)
ومنه التَّورِيَةُ، وتُسمّى الإيهامَ أيضاً، وهي أنْ يُطْلَقَ لفظٌ له مَعنَيانِ: قَريبٌ وبعيدٌ، ويُرادُ البعيدُ. وهي ضَرْبانِ: مُجرَّدةٌ، وهي الّتي لا تُجامِعُ (4) شيئاً ممّا يُلائِمُ القريبَ، نحو: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (5)؛ ومُرَشَّحةٌ، نحو: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا (6) بِأَيْدٍ﴾ (7) (8) (9)
ومنه الاستخدامُ، وهو أنْ يُرادَ بلفظٍ له مَعنَيانِ: أحدُهما (10)، ثُمّ يُرادَ بضميره (11) الآخَرُ، أو يُرادَ بأَحَدِ ضَميرَيْهِ أحدُهُما، ثُمَّ بالآخَرِ الآخَرُ (12).
فالأوّلُ (13) كقوله:
إذا نَزَلَ السّماءُ (14) بأرضِ قَومٍ *** رَعَيناهُ (15) وإن كانوا غِضابا (16)
والثّاني (17) كقوله:
ص: 132
فَسَقَى الْغَضى (1) والسّاكِنيه (2) وإنْ هُمُ *** شَبُّوهُ (3) بينَ جَوانِحي (4) وضُلوعي (5)
ومنه اللَّفُّ والنَّشْرُ، وهو ذِكْرُ مُتَعَدِّدٍ على التّفصيلِ أو الإجمالِ، ثمّ ما لِكُلِّ واحدٍ مِن غير تعيينٍ ثِقَةً بأنّ السّامعَ يَرُدُّه إليه. فالأوّلُ ضَرْبانِ؛ لأنَّ النّشْرَ إمّا على ترتيبِ اللَّفِّ، نحو: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا (6) فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا (7) مِنْ فَضْلِهِ﴾ (8)؛ وإمّا على غير ترتيبه، كقوله:
كَيفَ أسْلو (9) وأنتِ حِقْفٌ (10) وغُصْنٌ (11) *** وغزالٌ (12) لَحْظاً (13) وقَدّاً (14) ورِدْفا (15)
والثاني كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا (16) أَوْ نَصَارَى﴾ (17)؛ أي: قالتِ اليهودُ: لَنْ يَدخُلَ الجنَّةَ إلّا مَنْ كان هوداً، وقالت النّصارى: لَنْ يَدخُلَ الجنّةَ إلّا مَنْ كان نَصاري، فَلَفَّ (18) لعدم الالتباسِ (19)، لِلْعِلم بتضليلِ (20) كُلِّ فريقٍ صاحبَه.
ومنه الجمعُ، وهو أنْ يُجمَعَ بين مُتعدِّدٍ في حكمٍ واحدٍ، كقوله تعالی: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (21)، و نحو:
ص: 133
إنّ الشَّبابَ (1) والفراغَ (2) والجِدَهْ (3) *** مَفسَدةٌ لِلمرءِ أيُّ مَفسَدهْ (4)
ومنه التّفريقُ، وهو إيقاعُ (5) تَبايُنٍ (6) بين أمرَينِ مِن نوعٍ، في المدحِ أو غيرِه، كقوله:
ما نَوالُ الغَمامِ (7) وَقتَ ربيعٍ (8) *** كَنَوالِ (9) الأميرِ (10) وَقتَ سَخاءِ (11)
فَنَوالُ الأميرِ بَدرَةُ عَينٍ *** ونَوالُ الغَمامِ قَطرةُ ماءِ (12)
ومنه التّقسيمُ، وهو ذِكْرُ مُتَعَدِّدٍ، ثمّ إضافةُ (13) ما لِكُلٍّ إليه على التّعيينِ، كقوله:
ولا يُقيمُ (14) على ضَيْمٍ (15) يُرادُ به *** إلّا الأَذَلّانِ (16): عَيْرُ (17) الْحَيِّ (18) والوَتَدُ
هذا (19) على الخَسْفِ (20) مَربوطٌ بِرُمَّتِه (21) *** وذا يُشَجُّ (22) فلا يَرْثي له أحدُ
ومنه الجمعُ مع التّفريق، وهو أنْ يُدخَلَ شيئانِ في معنىً، ويُفْرَقَ بينَ جِهَتَيِ الإدخالِ، كقوله:
فَوَجهُكَ كالنّار في ضَوْئِها (23) *** وقلبيَ كالنّار في حَرِّها (24)
ومنه الجمعُ مع التّقسيم، وهو جمعٌ بينَ مُتعدِّدٍ تحتَ حُكمٍ، ثُمّ تقسيمُه أو العكسُ.
فالأوّلُ كقوله (25):
ص: 134
حتى أقامَ على أرباضِ (1) خُرْشُنَةٍ (2) *** تَشقى (3) به الرّومُ والصُّلْبانُ والبِيَعُ (4)
لِلسَّبْىِ ما نَكَحوا والقَتْلِ ما وَلَدوا *** والنَّهْبِ (5) ما جَمَعوا والنّارِ ما زَرَعوا
والثاني كقوله:
قومٌ إذا حارَبوا ضَرّوا عَدُوَّهُمُ *** أو حاوَلُوا النَّفعَ في أشْياعِهم نَفَعوا
سَجِيَّةٌ (6) تلكَ منهم غيرُ مُحدَثَةٍ (7) *** إنّ الخَلائقَ (8) - فاعلَمْ - شَرُّها البِدَع (9)
ومنه الجمعُ مع التّفريقِ والتّقسيمِ، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (10) فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ (11) وَشَهِيقٌ (12) * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ (13) (14).
وقد يُطلَقُ التّقسيمُ على أمرَيْنِ آخَرَيْنِ، أحدُهما أنْ يُذْكَرَ أحوالُ الشَّيءِ مُضافاً (15) إلی كُلٍّ ما يَليقُ به، كقوله:
سأطلُبُ حقّي بالقَنا (16) ومَشايخٍ (17) *** کأنّهمُ مِن طول ما (18) التَثَموا مُرْدُ (19)
ص: 135
ثِقالٌ إذا لاقَوْا خِفافٌ إذا دُعُوا (1) *** كَثيرٌ إذا شَدّوا (2) قليلٌ إذا عُدُّوا
والثّاني استيفاءُ (3) أقسامِ الشّيءِ، كقوله تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (4) * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ (5) ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ (6) (7).
ومنه التّجريدُ، وهو أنْ يُنْتَزَعَ مِن أمرٍ ذي صفةٍ آخَرُ مِثْلُهُ فيها مُبالَغةً (8) لِكمالها (9) فيه (10)وهو أقسامٌ (11):
منها نحوُ قَولِهم: «لي مِنْ فُلانٍ صَديقٌ حَميمٌ (12)» (13)؛ أي: بَلَغَ مِن الصِّداقة حَدّاً (14)
ص: 136
صَحَّ معه (1) أن يُستَخْلَصَ (2) منهُ (3) آخَرُ مِثْلُه فيها (4)
ومنها (5) نحوُ قَولهم: «لَئِنْ سَألتَ فُلاناً لَتَسأَلَنَّ به البَحرَ (6)».
ومنها (7) نحوُ قَوله:
وشَوهاءَ تَغدُو بي (8) إلی صارخِ الوَغى (9) *** بمُستَلْئِمٍ (10) مِثلِ العتيقِ (11) المُرَحَّلِ (12)
ومنها (13) نحوُ قَوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ﴾ (14)؛ أي: في جهنَّمَ، وهي دارُ الخُلْدِ.
ومنها (15) نحوُ قَوله:
ولَئِن بَقيتُ لَأرحَلَنَّ (16) بِغَزوَةٍ *** تَحوي الغَنائمَ (17) أو يَموتَ كَريمُ (18)
ص: 137
وقيل: تَقديرُه: أو يَموتَ منّى كريمٌ؛ وفيه نظرٌ.
ومنها (1) نحوُ قَوله:
يا خيرَ مَن يَركَبُ المَطىَّ (2) ولا *** يَشرَبُ كأساً بِكَفِّ (3) مَنْ بَخِلا (4)
ومنها مُخاطَبَةُ الإنسانِ نَفسَه، كقوله:
لا خَيْلَ (5) عندك تُهديها ولا مالُ *** فَلْيُسعِدِ (6) النُّطقُ إن لَم يُسْعِدِ الحالُ (7)
ص: 138
ومنه المُبالَغَةُ المَقبولةُ. والمُبالَغَةُ أن يُدَّعى (1) لوصفٍ (2) بُلوغُه (3) في الشِّدَّةِ أو الضَّعفِ حَدّاً مُستحيلاً (4) أو مُستَبعَداً (5)، لِئَلّا يُظَنَّ (6) أنّه (7) غيرُ مُتَناهٍ فيه (8)وتَنحَصِرُ في التّبليغِ والإغراقِ والغُلُوِّ؛ لأنّ المُدَّعى إنْ كان مُمكِناً عقلاً وعادةً، فَتبليغٌ، كقوله:
فَعادى (9) عِداءً بَينَ ثَوْرٍ (10) ونَعجَةٍ (11) *** دِراكاً (12) فَلَم يَنضَحْ (13) بماءٍ فيُغسَلِ
وإنْ كان مُمكناً عَقلاً لا عادةً، فإغراقٌ، كقوله:
ونُكرِمُ جارَنا (14) مادامَ فينا *** ونُتْبِعُهُ (15) الكَرامةَ حيثُ مالا
وهُما مقبولانِ، وإلّا فَغُلُوٌّ، كقوله:
ص: 139
وأَخَفْتَ (1) أهلَ الشِّركِ حتّى إنّه (2) *** لَتَخافُكَ النُّطَفُ (3) الّتي لم تُخْلَقِ (4)
والمقبولُ منه أصنافٌ: منها ما أُدخِلَ عليه ما يُقرِّبُه إلی الصِّحَّةِ، نحو: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ (5) وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ (6).
ومنها ما تَضَمَّنَ نَوعاً حَسَناً مِن التّخييلِ، كقوله:
عَقَدَتْ (7) سَنابِكُها (8) عليها عِثْيَراً (9) *** لو تَبتَغي (10) عَنَقاً (11) عليه لَأمْكَنا
وقد اجتَمَعا في قوله:
يُخَيَّلُ لي (12) قد سُمِّرَ (13) الشُّهْبُ (14) في الدُّجى (15) *** وشُدَّتْ (16) بأَهدابي (17) إليهنّ (18) أجفاني (19)
ومنها ما خُرِّجَ مخرجَ الهَزْلِ (20) والخَلاعةِ (21)، كقوله:
أَسْكَرُ بالأمسِ (22) إنْ عزمتُ على الشُّر *** بِ غَداً (23) إنّ ذا مِنَ العَجَبِ (24)
ص: 140
ومنه المذهبُ (1) الكلاميُّ؛ وهو إيرادُ حجّةٍ (2) للمطلوبِ على طريقةِ أهل الكلامِ، نحو: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (3)، وقوله:
حَلَفْتُ فلم أترُكْ لِنَفْسك رَيْبةً (4) *** وليس وراءَ اللّهِ للمرء مَطلَبُ
لئِنْ كُنتَ قد بُلِّغْتَ (5) عنّي وِشايةً *** لمبْلِغُكَ الواشي أغَشُّ (6) وأكذَبُ
ولكنَّني كُنْتُ امرَءً لِيَ جانِبٌ *** مِن الأرضِ فيه مُستَرادٌ ومَذهبُ (7)
مُلوكٌ وإخوانٌ إذا ما مدحتُهم *** أُحَكَّمُ في أموالِهِم وأُقَرَّبُ
كفِعْلِكَ في قومٍ أراكَ اصْطَفَيتَهم *** فَلَمْ تَرَهُمْ في مدحهم لك أذْنَبُوا
ومنه حُسْنُ التّعليلِ (8)، وهو أنْ يُدَّعى لوصفٍ عِلَّةٌ مُناسبةٌ له باعتبارٍ لطيفٍ غيرِ حقيقيٍّ. وهو أربعةُ أضرُبٍ؛ لأنّ الصِّفةَ إمّا ثابتةٌ قُصِدَ بيانُ علَّتِها، أو غيرُ ثابتةٍ أريدَ إثباتُها. والأُولى إمّا أنْ لا يَظْهَرَ لها في العادة عِلَّةٌ، كقَوله:
لم يَحْكِ نائِلَك السَّحابُ وإنّما *** حُمَّتْ (9) به فَصَبيبُها (10) الرُّحَضاءُ
أو يَظهَرَ لها عِلَّةٌ غيرُ المذكورةِ (11)، كقوله:
ما به (12) قَتْلُ أعاديهِ ولكنْ *** يَتَّقي إِخلافَ (13) ما تَرْجُو الذِّئابُ
فإنّ قَتْلَ الأعداءِ في العادة لِدَفْع مضَرَّتِهم لا لِما ذَكَرَه.
والثانيةُ، إمّا ممكنةٌ، كقوله:
يا واشِياً حَسُنَتْ فينا إساءَتُهُ *** نَجّى حَذارُكَ (14) إِنْساني مِن الغَرَق
ص: 141
فإنّ استِحسانَ الواشي ممكنٌ، لكنْ لَمّا خالَفَ النّاسَ فيه، عَقَّبهُ بأنَّ حَذارَه منه نَجّى إِنسانَه مِن الغرقِ في الدُّموعِ.
أو غيرُ ممكنةٍ، كقوله:
لو لم تَكُنْ نيَّةُ الجَوزاءِ خِدمتَهُ *** لما رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتَطِقِ
وأُلْحِقَ به ما يُبنی على الشَّكِّ، كقوله:
كأنَّ السّحابَ الغُرَّ (1) غَيَّبْنَ تَحتَها *** حَبيباً فلَمْ تَرْقَأْ (2) لهنّ مَدامِعُ (3)
ومنه التّفريعُ، وهو أنْ يُثْبَتَ لِمُتعلَّقِ أمرٍ حُكْمٌ بعدَ إثباتِه لِمُتعَلَّقٍ له آخَرَ، كقوله:
أحلامُكم لِسِقام (4) الجهلِ شافيةٌ *** كما دِماؤُكُمُ تَشفي مِن الكَلَبِ (5)
ومنه تأكيدُ المدح بما يُشْبِهُ الذَّمَّ، وهو ضَرْبانِ، أفضلُهما أن يُستَثنی مِن صفةِ ذمٍّ مَنْفِيَّةٍ عن الشّيء صفةُ مدحٍ بتقديرِ دخولِها فيه، كقوله:
ولا عَيبَ فيهم (6) غيرَ أنّ سُيوفَهم *** بهنَّ (7) فُلولٌ (8) مِن قِراعِ (9) الكتائبِ (10)
أي: إنْ كان فُلولُ السَّيفِ عَيباً. فَأَثْبَتَ شيئاً منه (11) على تقديرِ كَونه منه (12)، وهو محالٌ. فهو في المعنى تعليقٌ (13) بالمحالِ. فالتّأكيدُ فيه (14) مِن جِهةِ أنّه كدعوى الشَّيءِ ببَيِّنةٍ، وأنّ الأصلَ في الاستثناءِ هو الاتِّصالُ. فذِكْرُ أداتِه (15) قبلَ ذِكْر ما بعدَها يُوهِمُ (16) إخراجَ شيءٍ ممّا قَبلَها. فإذا وَلِيَها صفةُ مدحٍ، جاءَ التّأكيدُ.
ص: 142
والثاني أنْ يَثْبُتَ لشيءٍ صِفةُ مدْحٍ، ويُعَقَّبَ بأداةِ استثناءٍ (1) تَليها صفةُ مدحٍ آخرَ له، نحو: «أنا أفصحُ العربِ بَيْدَ (2) أنّى مِن قريشٍ». وأصلُ الاستثناء فيه أيضاً أن يکونَ منقطعاً کالضَّرْب الأوّلِ، لكنّه (3) لم يُقَدَّرْ متّصلاً، فلا يُفيدُ التّأكيدَ إلّا من الوجهِ الثّاني؛ ولهذا كان الأوّلُ أفضلَ.
ومنه ضربٌ آخَرُ، وهو نحو: ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا (4) إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ (5)والاستدراكُ (6) في هذا الباب كالاستثناءِ، كما في قوله:
هو البدرُ إلّا أنّه البحرُ زاخراً (7) *** سِوى أنّه الضَّرغامُ (8) لكنّه الوَبْلُ (9)
ومنه تأكيدُ الذَّمِّ بما يُشبِه المدحَ، وهو ضَرْبانِ:
أحدُهما أنْ يُستثنی مِن صفةِ مدحٍ منفيّةٍ عن الشّيءِ صِفةُ ذمٍّ له بتقديرِ دُخولِها (10) فيها (11)، كقولك: «فُلانٌ لا خيرَ فيه إلّا أنّه يُسيءُ إلی مَن أحسَنَ إليه».
وثانيهما أن يَثبُتَ لشيءٍ صِفَةُ ذَمٍّ، وتُعَقَّبَ بأداةِ استثناءٍ يَليها صفةُ ذمٍّ أخرى له، كقولك: «فلانٌ فاسقٌ إلا أنّه جاهلٌ». وتحقيقُهما على قياس ما مَرَّ.
ومنه الاستتباع، وهو المدحُ بشيءٍ على وجهٍ يَستَتْبِعُ المدحَ بشيءٍ آخَرَ، كقوله:
نَهَبْتَ (12) مِن الأعمارِ (13) ما (14) لو حَوَيْتَه *** لَهُنِّئَتِ (15) الدّنيا بأنّك خالدُ (16)
مَدَحَه بالنِّهاية في الشَّجاعةِ على وجهٍ اُستُتْبِعَ (17) مدحُه بكَونه سبباً لِصلاح الدّنيا
ص: 143
ونظامِها (1)، وفيه (2) أنّه (3) نَهَبَ الأعمارَ دونَ الأموالِ، وأنّه لم يكنْ ظالماً في قَتْلِهم.
و منه الإدماجُ (4)، وهو أنْ يُضَمَّنَ كلامٌ سيقَ (5) لمعنىً مَعنىً آخَرُ، فهو أعمُّ مِن الاِستِتْباعِ، كقوله:
أُقَلِّبُ (6) فيه (7) أجْفاني كأنّى *** أَعُدُّ (8) بها على الدَّهر الذُّنوبا
فإنّه ضَمَّنَ وَصْفَ اللَّيلِ بالطّول الشِّكايةَ مِن الدَّهْر.
ومنه التَّوجيهُ، وهو إيرادُ الكلامِ مُحتمِلاً لِوَجْهَينِ مُختلِفَينِ، كقولِ مَن قال لِأعْوَرَ:
لَيتَ عَينَيْهِ سَواءُ
السَّکّاکيُّ: ومنه (9) مُتَشابِهاتُ القرآنِ باعتبارٍ (10)
ومنه الهَزْلُ الّذي يُرادُ به الجِدُّ، كقوله:
إذا ما (11) تَميمِيٌّ أتاكَ (12) مُفاخِراً (13) *** فَقُلْ: عَدِّ (14) عَن ذا (15)، كيف أكلُكَ للضَّبِّ (16)؟!
ومنه تَجاهُلُ العارفِ - وهو كما سمّاهُ (17) السَّکّاکِيُّ - سَوْقُ المَعلومِ مَساقَ (18) غيرِه لِنكتةٍ، كالتَّوبيخِ في قول الخارجيَّةِ (19):
ص: 144
أيا شَجرَ الخابورِ (1) ما لَكَ مُورِقاً (2) *** كأنّك (3) لم تَجْزَعْ (4) على ابنِ طريفِ؟!
والمبالَغَةِ في المدحِ، كقوله:
ألَمْعُ بَرقٍ سَرى (5) أم ضَوءُ مِصباحٍ؟ *** أمِ ابتِسامَتُها (6) بالمَنْظَر (7) الضّاحي (8)؟
أو في الذَّمِّ، كقوله:
وما أدري (9) ولَستُ (10) إِخالُ أدري *** أقَومٌ (11) آلُ حِصْنٍ (12) أم نِساءُ؟!
و التَّدَلُّه في الحُبِّ (13)، في قوله:
باللهِ يا ظَبياتِ (14) القاعِ (15) قُلْنَ لنا *** لَيلايَ منكنّ أم لَيلی مِن البشرِ؟!
ومنه القَولُ بالموجَبِ، وهو ضرْبانِ: أحدُهما أنْ تَقَع صفةٌ في كلامِ الغيرِ كنايةً عن شيءٍ أُثْبِتَ له حُكمٌ، فتُثبِتُها (16) لغيره مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ (17) لِثُبوته له أو انتفائِه عنه، نحو: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (18).
والثّاني. حَمْلُ لفظٍ وقَعَ في كلامِ الغيرِ على خِلاف مُرادِه مما يَحْتَمِلُه (19) بذكْرِ مُتَعلَّقِه، كقوله:
ص: 145
قُلتُ: ثَقَّلْتُ (1) إذْ أتيتُ مِراراً *** قالَ: ثَقَّلْتَ كاهِلي (2) بالأيادي (3)
ومنه الاطِّرادُ، وهو أنْ تَأتيَ بأسماءِ الممدوحِ أو غيرِه وآبائِه على ترتيب الوِلادةِ مِن غير تَكَلُّفٍ، كقوله:
إنْ يَقتُلوك فقد ثَلَلْتَ (4) عُروشَهُمُ (5) *** بِعُتَيْبَةَ بنِ الحارِثِ بنِ شِهابِ
ص: 146
[المُحَسِّنات اللّفظيّة] (1)
وأمّا اللّفظيُّ، فمنه:
الجِناسُ بينَ اللّفظَينِ، وهو تَشابُهُهما في اللّفظِ (2)والتّامُّ منه أن يَتَّفِقا في أنواعِ الحُروفِ (3) وفي أعدادِها (4) وفي هَيَئاتِها (5) وفي تَرتيبِها (6)فإنْ كانا مِن نَوعٍ كَاسْمَينِ، سُمِّيَ مُتَماثِلاً، نحو: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ (7)؛ وإن كانا مِن نَوعَينِ، سُمِّيَ مُسْتَوفًى (8)، كقوله:
ما (9) ماتَ مِن كَرَم الزّمانِ فإنّه
يَحْيا (10) لدى يَحْيَى بنِ عبدِ اللّهِ (11)
وأيضاً إنْ كانَ أحدُ لَفظَيْه مُركَّباً، سُمِّيَ جِناسَ التّركيبِ. فإنِ اتَّفَقا في الخَطِّ، خُصَّ باسمِ المُتشابِه، كقوله (12):
ص: 147
إذا مَلِكٌ لم يَكُن ذا هِبَه *** فَدَعْهُ فَدَولَتُه ذاهِبَه
وإلّا خُصَّ باسم المفروق، كقوله:
كُلُّكُم قد أخذ الجامَ ولا جامَ لنا *** ما الّذي ضَرَّ مُديرَ الجامِ لو جامَلَنا (1)
وإن اخْتَلَفَتا في هَيَئاتِ الحُروفِ فقطْ (2)، يُسَمّى مُحَرَّفاً (3)، كقولهم: «جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ»؛ ونحوُه: «الجاهلُ إمّا مُفْرِطٌ أو مُفَرِّطٌ». والحرفُ المُشَدَّدُ في حكم المخَفَّفِ، وكقولهم: «البِدعةُ شَرَكُ الشِّرْكِ» (4)
وإن اختَلَفا في أعدادها، يُسَمّى ناقصاً (5)وذلك إمّا بحرفٍ في الأوّلِ، مثلُ: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ (6)؛ أو في الوَسَطِ، نحو: «جَدّى جَهدي» (7)؛ أو في الآخِر، كقوله (8):
يَمُدّون مِن أيدي عَواصٍ عَواصِمُ
[تَصول بأسيافٍ قواضٍ قواضِبُ] (9)
ورُبما سُمِّيَ هذا مُطَرَّفاً (10).
ص: 148
وإمّا بأكثرَ (1)، كقولها:
إنَّ البُكاءَ هو الشِّفا *** ءُ مِنَ الْجَوى بينَ الجَوانِحِ (2)
ورُبما سُمِّيَ مُذَيَّلاً (3)
وإن اختَلَفا في أنواعِها (4)، فَيُشتَرَطُ ألّا يَقَعَ بأكثرَ مِنْ حرفٍ (5)ثُمّ الحرفانِ إنْ كانا مُتَقارِبَيْنِ (6)، سُمِّيَ مُضارِعاً (7)وهو إمّا في الأوّلِ، نحو: «بَيْني وبَيْنَ كِنّى لَيلٌ دامِسٌ وطريقٌ طامسٌ» (8)؛ أو في الوسط، نحو: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ (9) (10)؛ أو في الآخِر نحو: «الخَيلُ معقودٌ بنواصيها الخَيرُ» (11)
وإلّا سُمِّيَ لاحقاً (12)وهو أيضاً إمّا في الأوّلِ، نحو: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ (13)؛
ص: 149
أو في الوسط، نحو: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ (1)؛ أو في الآخر، نحو: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ (2).
وإن اختَلَفا في ترتيبها (3)، سُمِّيَ تَجنيسَ القلبِ (4)، نحو: «حُسامُه (5) فَتْحٌ لِأوليائِه حَتْفٌ (6) لأعدائه». ويُسمّى قَلبَ كُلٍّ، ونحو: «اللّهُمَّ اسْتُرْ عَوْراتِنا (7) وآمِنْ رَوْعاتِنا (8)»، ويُسمّى قَلبَ بعضٍ.
وإذا وَقَعَ أحدُهما في أوّل البيتِ والآخَرُ في آخِرِه، سُمِّيَ مقلوباً مُجَنَّحاً (9)
وإذا وَلِيَ أحدُ المُتجانِسَينِ الآخَرَ، سُمِّيَ مُزْدَوَجاً ومُكرَّراً ومُرَدَّداً، نحو: ﴿جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (10).
ويَلحَقُ بالجِناسِ شَيئانِ:
أحدُهما أنْ يَجْمَعَ اللّفظَيْنِ الاِشتقاقُ (11)، نحو: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ (12)؛ والثّاني أن يَجمَعَهما المُشابَهَةُ (13)، وهي ما يُشبِهُ الاشتقاقَ، نحو: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
ص: 150
الْقَالِينَ﴾ (1).
ومنه ردّ العَجُز على الصّدرِ وهو في النّثرِ أن يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَيْنِ المُكرَّرَينِ (2) أو المُتَجانِسَينِ (3) أو المُلحَقَينِ بهما (4) في أوّل الفِقْرةِ والآخَرُ في آخِرها، نحو: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (5)، ونحو: «سائِلُ اللّئيمِ يَرْجِعُ ودَمعُهُ سائِلٍ»، ونحو: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ (6)، ونحو: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾ (7)وفي النّظمِ أنْ يکونَ أحدُهما في آخِر البيتِ والآخَرُ في صدرِ المصراعِ الأوّلِ أو حَشْوِه أو آخِرِه أو صَدْر الثّاني، كقوله:
سريعٌ إلی ابْنِ العَمِّ يَلطِمُ وَجهَه *** وليس إلی داعي النَّدى بسريعِ (8)
وقوله (9):
تَمَتَّعْ مِن شَميمِ عَرار (10) نَجْدٍ *** فما بعدَ العَشيَّةِ مِن عَرارِ (11)
وقوله:
مَن كان بالبيضِ الكواعبِ مُغْرَما *** فما زِلْتُ بالبيض القواضِبِ مُغْرَما (12)
وقوله:
ص: 151
وإنْ لم يكنْ إلّا مُعَرَّجَ (1) ساعةٍ *** قليلاً فإنّي نافعٌ لي قَليلُها
وقوله:
دَعاني مِن مَلامِکُما سَفاهاً! *** فداعي الشَّوقِ قَبلَكُما دَعاني (2)
وقوله:
وإذا البَلابِلُ أفصَحَتْ بِلُغاتِها (3) *** فَانْفِ البَلابِلَ (4) باحتِساءِ بَلابِلِ (5)
وقوله:
فمشغوفٌ بآيات المثاني (6) *** ومفتونٌ بِرَنّاتِ المَثاني (7)
وقوله:
أمَّلْتُهُم ثُمّ تأمَّلتُهُم *** فَلاحَ لي أن ليس فيهم فَلاح (8)
وقوله:
ص: 152
ضَرائبَ (1) أبدَعْتَها في السِّماح *** فَلَسْنا نرى لك فيها ضَريبا (2)
وقوله:
إذا المَرْءُ لم يَخزِنْ عليه لِسانُه (3) *** فليسَ على شَيءٍ سِواه بِخَزّانِ
وقوله:
لوِ اختَصَرتُم مِنَ الإحسانِ زُرْتُكُمُ *** والعَذْبُ (4) يُهْجَرُ للإفراط في الْخَصَرِ (5)
وقوله:
فَدَعِ الوَعيدَ فما وَعيدُكَ ضائِري *** أطَنينُ أجنِحَةِ الذُّبابِ يَضيرُ؟!
وقوله (ابي تمام):
وقد كانتِ البيضُ القَواضِبُ في الوغى *** بَواتِرُ فَهْىَ الآنَ مِن بَعده بُتْرُ (6)
ومنه السّجعُ. قيل: وهو تَواطُؤُ (7) الفاصِلَتَينِ (8) مِن النّثرِ على حرفٍ واحدٍ. وهو معنى قَولِ السَّکّاکيِّ: هو في النّثرِ كالقافيةِ في الشِّعرِ.
وهو [1] مُطَرَّفٌ إنِ اختَلَفَتا (9) في الوزنِ (10)، نحو: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا *
ص: 153
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (1)؛ وإلّا فإنْ كان ما في إحدَى القرينَتَينِ أو أكثَرِهِ مِثلَ ما يُقابِلُه في الأخرى في الوزنِ والتّقفيةِ ف- [2]ترصيعٌ (2)، نحو: «فهو يَطبَعُ الأسجاعَ بجواهر لفظِه ويَقرَعُ الأسماعَ بزواجِر وعظِه»؛ وإلّا [3] فَمُتَوازٍ، نحو: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (3) * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ (4) (5).
وقيل: وأحسنُ السَّجْعِ ما تساوَتْ قَرائنُه، نحو: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ (6)، ثم ما طالَتْ قرينَتُه الثّانيةُ، نحو: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ (7)، أو الثّالثةُ، نحو: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ (8)ولا يَحسُنُ أن يُولى قرينةٌ (9) أَقصَرُ منها (10) کثيراً (11)والأسجاعُ (12) مَبنيّةٌ علی سکون الأعجازِ (13)،
ص: 154
کقولهم: ما أبعدَ ما فاتَ (1) وما أقربَ ما هو آتٍ! (2)» (3).
قيل: ولا يُقالُ: في القرآن أسجاعٍ، بل يُقالُ: فَواصِلُ.
وقيل: السّجْعُ غيرُ مختصٍّ بالنّثرِ. ومِثالُه في النّظمِ قَولُه:
تَجَلّى به رُشدي (4) وأثْرَتْ (5) به يَدي *** وفاضَ به ثِمْدي (6) وأورى به زَنْدي (7)
ومِن السَّجْعِ على هذا القولِ ما يُسمّى التَّشطيرَ، وهو جَعْلُ كُلٍّ مِن شَطْرَيِ البيتِ سَجْعَةً مخالِفةً لِأُخْتها، كقوله (8):
تدبيرُ مُعتَصِمٍ باللّه مُنتَقِمٍ *** لِلّه مُرتَغِبٍ في اللّه مُرتَقِبِ (9)
ومنه المُوازَنَةُ، وهي تَساوي الفاصلَتَيْنِ (10) في الوزنِ دونَ التَّقفيةِ، نحو: ﴿وَنَمَارِقُ
ص: 155
مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ (1)فإنْ كان ما في إحدى القرينَتَينِ أو أكثَرِه مِثْلَ ما يُقابِلُه من القرينةِ الأخرى في الوزنِ، خُصَّ باسمِ المُماثَلَةِ، نحو: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (2)؛ وقوله:
مَها (3) الوَحشِ إلّا أنّ هاتا (4) أوانِسُ (5) *** قَنا الخَطِّ (6) إلّا أنّ تلك ذَوابِلُ (7)
ومنه (8) القلبُ،كقوله:
مَوَدَّتُه تَدومُ لِكُلِّ هَولٍ *** وهَلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تَدومُ؟!
وفي التنزيل: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ﴾ (9)، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (10) (11)(12)
ص: 156
ومنه التّشريعُ (1)، وهو بِناءُ البيتِ على قافيتَيْنِ يَصِحُّ المعنى عند الوقوفِ على كلٍّ منهما، كقوله:
يا خاطِبَ الدُّنيا (2) الدَّنيَّةِ (3) إنّها *** شَرَكُ الرَّدى (4) وقَرارةُ الأكدارِ (5)
ومنه لُزومُ ما لا يَلزَمُ (6)، وهو أن يَجيءَ قَبلَ حرفِ الرَّوِىِّ (7) أو ما في معناه (8) مِن الفاصلةِ ما (9) ليس بلازمٍ في السّجعِ، نحو: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ (10) (11)، وقوله:
سَأشكُرُ عَمْراً إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي *** أياديَ (12) لم تَمْنُنْ (13) وإنْ هي جَلَّتِ (14)
فَتىً (15) غيرُ مَحجوبِ الغِنى عن صديقِه (16) *** ولا مُظْهِرُ الشَّكوى (17) إذا النَّعْلُ زَلَّتِ (18)
ص: 157
رأى خَلَّتي (1) مِن حَيثُ يَخفی مَكانُها (2) *** فكانتْ قَذى عَينَيْهِ (3) حتّى تَجَلَّتِ (4)
وأصلُ الحُسْنِ في ذلك كُلِّه (5) أنْ تَكونَ الألفاظُ تابعةً للمَعاني دونَ العكسِ.
ص: 158
خاتمة في السَّرِقات الشِّعريّةِ وما يَتّصلُ بها (1) وغيرِ ذلك (2)
اتّفاقُ القائلَيْنِ (3) إنْ كانَ في الغرضِ على العُمومِ (4)، كالوصفِ بالشَّجاعةِ والسَّخاءِ ونحوِ ذلكَ، فلا يُعَدُّ سَرِقَةً لِتَقَرُّرِه في العقولِ والعاداتِ (5)وإنْ كانَ (6) في وجهِ الدّلالةِ (7) کالتّشبيهِ والمَجازِ والکِنايةِ وكَذِكْرِ هَيَئاتٍ تَدُلُّ على الصِّفةِ لاختصاصِها (8) بِمَنْ (9) هِيَ (10) له (11) - كَوَصْفِ الجَوادِ بالتَّهلُّلِ عند ورودِ العُفاةِ (12)، والبخيلِ بالعَبوسِ مع سَعَةِ ذاتِ الْيَدِ (13) - فإنْ اشتَرَكَ النّاسُ في معرفتِه (14) لِاستقرارِه فيهما (15)، كتشبيهِ الشُّجاعِ بالأسدِ والجوادِ
ص: 159
بالبحرِ، فهو كالأوّلِ، وإلّا جازَ أنْ يُدَّعى فيه السَّبْقُ والزِّيادةُ.
وهو ضَربانِ: خاصِّيٌّ (1) في نفسه غريبٌ، وعامِّيٌّ (2) تُصُرِّفَ فيه بما أخرَجَه مِن الابتذالِ إلی الغَرابةِ - كما مَرَّ.
فالأخْذُ والسَّرِقَةُ نَوعانِ: ظاهرٌ (3) وغيرُ ظاهرٍ.
أمّا الظّاهِرُ، فهو أنْ يُؤْخَذَ المعنى كُلُّه، إمّا مع اللّفظِ كُلِّه أو بعضِه أو وحدَه. فإنْ أُخِذَ اللّفظُ كُلُّه مِن غيرِ تغييرٍ لِنظمِه، فهو مذمومٌ؛ لأنّه سَرِقةٌ مَحضةٌ، ويُسَمّى نَسْخاً وانْتِحالاً (4)، كما حكی عبدُ الله بنُ الزَّبيرِ (5) أنّه فَعَلَ ذلك بقَوْلِ مُعَنِ بنِ أَوْسٍ (6):
إذا أنتَ لَمْ تُنْصِفْ أخاك (7) وَجَدتَه *** على طَرَفِ الهِجْرانِ إنْ كانَ يَعقِلُ
ويَركَبُ حَدَّ السَّيفِ (8) مِنْ إنْ تَضيمَه (9) *** إذا لم يَكُنْ عَن شَفْرةِ السَّيفِ (10) مُزْحَلُ (11)
ص: 160
وفي معناه أنْ يُبَدِّلَ بالكلِماتِ كُلِّها أو بَعضِها ما يُرادِفُها (1)
وإنْ كانَ مع تغييرٍ لِنَظْمِه أو أخْذِ بعضِ اللّفظِ، سُمِّي إغارَةً ومَسْخاً. فإنْ كان الثّاني أبلَغَ لِاختِصاصِه بفضيلةٍ، فممدوحٌ، كقول بَشّارٍ:
مَنْ راقَبَ النّاسَ (2) لم يَظفَرْ بحاجَتِه *** وفاز بالطَّيِّباتِ الفاتِكُ (3) اللَّهِجُ (4)
وقول سَلْمٍ:
مَنْ راقَبَ النّاسَ ماتَ غَمّاً *** وفازَ باللَّذَّةِ الجَسورُ
وإنْ كانَ دونَه (5)، فمذمومٌ، كقولِ أبي تَمّامٍ:
هيهاتَ لا يَأتي الزَّمانُ بمِثلِه *** إنّ الزَّمانَ بمِثلِه لَبَخيلُ
وقَولِ أبي الطَّيِّبِ:
أعدَى الزَّمانَ (6) سَخاؤُه فَسَخا به (7) *** ولقد يكونُ به الزَّمانُ بَخيلا (8)
وإنْ كان مِثْلَهُ، فأبعدُ من الذَّمِّ (9) والفضلُ للأوّلِ (10)، كقول أبي تَمّامٍ:
ص: 161
لو حارَ (1) مُرتادُ المَنِيَّةِ (2) لم يَجِدْ *** إلّا الفِراقَ على النُّفوسِ دَليلا
وقَولِ أبي الطَّيِّبِ:
لولا مُفارَقَةُ الأحبابِ ما وَجَدَتْ *** لها المَنايا إلی أرواحِنا سُبُلا (3)
وإنْ أخَذَ المعنى وحَدَّدَهُ، سُمِّيَ إلْماماً (4) وسَلْخاً (5)وهو ثلاثةُ أقسامٍ كذلك:
أوّلُها كقَول أبي تَمّامٍ:
هو (6) الصُّنْعُ (7) إنْ يَعْجَلْ فَخيرٌ وإنْ يَرِثْ (8) *** فَلَلرَّيْثُ في بعضِ المواضعِ أنفَعُ (9)
وقَولِ أبي الطَّيِّبِ:
ومِنَ الخَيرِ بُطْءُ سَيْبِكَ (10) عنّي *** أسْرَعُ السُّحْبِ في المَسير الجَهامُ (11)
وثانيها كقول البُحتُرِيِّ:
وإذا تَأَلَّقَ في النّدىِّ (12) كَلامُه ال- *** مَصقولُ (13) خِلْتَ (14) لِسانَه مِن عَضْبِه (15)
ص: 162
وقَول أبي الطَّيِّبِ:
كأنَّ ألْسُنَهم في النُّطقِ (1) قَد عَجِلَتْ *** على رِماحِهِمُ في الطَّعْنِ خُرصانا (2)
وثالثُها كقَولِ الأعرابيِّ:
ولم يَكُ أكثَرَ الفِتْيانِ مالاً (3) *** ولكنْ كانَ أرحَبَهُم ذِراعا (4)
وقَولِ أشجَعَ (5):
وليس بأوسَعِهم في الغِنى *** ولكنَّ معروفَه (6) أوسعُ
وأمّا غيرُ الظّاهرِ (7)، فمِنهُ أنْ يَتَشابَهَ المَعْنَيانِ (8)، كقول جَريرٍ:
فلا يَمْنَعْكَ مِنْ أَرَبٍ (9) لِحاهُم (10) *** سَواءٌ ذو العِمامةِ والخِمارِ (11)
وقَولِ أبي الطَّيِّبِ:
ومَنْ في كَفِّهِ منهم قَناةٌ *** كَمَن في كَفِّه منهم خِضابُ (12)
ومنه (13) النَّقلُ، وهو أنْ يَنْقُلَ المعنى إلی آخَرَ (14)كقول البُحتُرِيِّ:
ص: 163
سُلِبوا (1) وأشرَقَتِ (2) الدِّماءُ عَلَيهِمُ *** مُحْمَرَّةً فكأنّهم لم يَلْبِسوا (3)
وقولِ أبي الطَّيِّبِ:
يَبِسَ النَّجيعُ (4) عليه وهْوَ (5) مُجرَّدٌ *** مِنْ غِمْدِه فكأنّما هو مُغْمَدُ (6)
ومنه أنْ يکونَ الثّاني أشمَلَ، كقول جَريرٍ:
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تَميمٍ *** وَجدتَ النّاسَ كُلَّهُمُ غِضابا (7)
وقول أبي نواسٍ:
ليسَ على اللّه بمُسْتَنْكَرٍ (8) *** أنْ يَجمَعَ العالَمَ في واحدِ (9)
ومنه (10) القلْبُ، وهو أنْ يکونَ الثّاني نقيضَ الأوّلِ، كقَول أبي الشَّيْصِ:
أجِدُ المَلامَةَ في هواكِ لَذيذةً *** حُبّاً لِذِكْرِكِ (11) فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ (12)
وقَولِ أبي الطَّيِّبِ:
ص: 164
أَأُحِبُّه وأُحِبُّ فيه مَلامةً؟! (1) *** إنّ الملامةَ فيه مِن أعدائِه (2)
ومنه أنْ يُؤخَذَ بعضُ المعنى ويُضافَ إليه ما يُحْسِنُهُ، كقول الأفْوَهِ:
وتَرَى الطَّيْرَ على آثارِنا (3) *** رأْىَ عَيْنٍ ثِقةً (4) أنْ سَتُمارُ (5)
وقولِ أبي تَمّامٍ:
وقد ظُلِّلَتْ (6) أعلامُ عِقْبانِه (7) ضُحىً *** بِعِقْبانِ طَيْرٍ في الدِّماءِ نَواهِلِ (8)
أقامتْ معَ الرّاياتِ حتّى كأنّها *** مِن الجَيْشِ إلّا أنّها لم تُقاتِلِ
فإنّ أبا تمّامٍ لم يُلِمَّ بشيءٍ مِنْ معنى قَوْلِ الأفْوَهِ: «رأىَ عينٍ»، وقَولِه: «ثِقَةً أنْ سَتُمارُ»، ولكنْ زادَ عليه بقَوله: «إلّا أنّها لم تُقاتِلْ»، وبقوله: «في الدِّماءِ نَواهِلُ»، وبإقامتِها مع الرّاياتِ حتّى كأنّها مِنَ الجَيْشِ، وبها يُتِمُّ حُسْنَ الأوّلِ (9)
وأكثرُ هذه الأنواعِ (10) ونحوِها مَقبولةٌ، بل منها ما يُخْرِجُه حُسْنُ التَّصرُّف مِن قَبيلِ الاِتِّباعِ إلی حَيِّزِ الاِبتداعِ، وكُلَّما كانَ أشَدَّ خفاءً (11)، كان أقربَ إلی القبولِ.
ص: 165
هذا كُلُّه إذا عُلِمَ أنّ الثّانيَ أُخِذَ مِن الأوّلِ (1) لِجوازِ أنْ يَكونَ الاتِّفاقُ (2) مِنْ قبيل تَوارُدِ الْخَواطِرِ؛ أي: مَجيئُه (3) على سبيلِ الاتِّفاقِ مِنْ غَيرِ قصدٍ لِلْأَخْذِ. فإذا لم يُعلَمْ (4)، قيلَ: «قال فلانٌ كذا»، و«سَبَقَهُ إليه فُلانٌ، فَقال: كذا».
وممّا يَتَّصِلُ بهذا (5) القولِ في الاقتباسِ والتَّضمينِ والعَقْدِ والحَلِّ والتَّلميحِ (6)
أمّا الاقتِباسُ، فهو أنْ يُضَمَّنَ الکلامُ شيئاً مِن القرآنِ والحديثِ (7)، لا على أنّه منه (8)، كقَولِ الحريريِّ: «فلمْ يكنْ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ (9) أو هو أقْرَبُ حتّى أَنْشَدَ فَأغْرَبَ (10)». وقولِ الآخَرِ:
إنْ كُنتِ أزْمَعْتِ (11) على هَجْرِنا *** مِنْ غيرِ ما جرم فصبْرٌ جَميل
وإنْ تَبدَّلتِ بنا غَيرَنا (12) *** فحَسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل
وقولِ الحريريِّ: «قلنا: شاهَت الوُجوهُ (13) وقُبِحَ اللُّكَعُ (14) ومَنْ يَرْجوه!».
وقولِ ابنِ عَبّادٍ:
قال لي: إنّ رقيبي *** سَيِّءُ الْخُلْقِ فَدارِهْ
قُلتُ: دَعْني وجْهُكَ الجَنْ *** نَةُ حُفَّتْ بالمَكارِهْ (15)
ص: 166
وهو ضرْبانِ: ما يُنْقَلُ فيه المُقْتَبَسُ عن معناهُ الأصْلِيِّ، كما تَقَدَّمَ، وخِلافُهُ كقوله:
لئِنْ أخْطأتُ في مَد *** حِك ما أخطأتَ في مَنْعي
لقدْ أنْزَلْتُ حاجاتي *** بوادٍ غيرِ ذي زَرْعِ
ولا بأسَ بتغييرٍ يَسيرٍ لِلوزنِ أو غيرِه، كقوله:
قد كانَ ما خِفْتُ أنْ يَکونا *** إنّا إلی اللهِ راجِعونا
وأمّا التّضمينُ، فهو أنْ يُضَمَّنَ الشِّعْرُ شيئاً مِن شِعر الغيرِ (1) مع التّنبيهِ عليه، إنْ لم يکنْ مشهوراً عند البُلغاءِ، کقَوله:
علی أنّي سأُنشِدُ عندَ بَيعي *** [أضاعُوني وأيَّ فتیً أضاعوا]
وأحسَنُه ما زادَ علی الأصلِ بنکتةٍ کالتَّوْريةِ والتَّشبيهِ في قَوله:
إذا الوهمُ أبدی (2) لي لَماها (3) وثَغرَها *** تَذَکَّرتُ ما بَينَ العُذَيبِ (4) وبارِقِ (5)
ويُذکِرُني مِن قَدِّها ومَدامِعي *** مَجَرَّ عَوالينا (6) ومَجرَی السّوابق (7)
ولا يَضُرُّ التّغييرُ اليَسيرُ.
ورُبما سُمِّيَ تضمينُ البَيتِ فما زادَ استعانةً، وتَضمينُ المِصراعِ فما دونَه (8) إبداعاً (9) ورَفْواً (10).
ص: 167
وأمّا العَقْدُ، فهو أن يُنظَمَ نَثْرٌ لا علی طريقِ الاقتِباسِ (1)، کقَولِه:
ما بالُ مَن أوَّلُه نطفةٌ *** وجيفةٌ آخِرُه يَفخُرُ؟!
عَقَدَ قولَ عليٍّ (رضی الله عنه): «وما لابْنِ آدَمَ والفَخْرِ (2)؟! وإنّما أوّلُهُ (3) نُطفةٌ وآخِرُه جيفةٌ (4)».
وأمّا الحَلُّ، فهو أنْ يُنْثَرَ نظْمٌ، کقَولِ بعضِ المَغارِبَةِ: «فإنّه لَمّا قَبُحَتْ فَعَلاتُه (5) وحَنْظَلَتْ نَخَلاتُه (6)، لم يَزَلْ سوءُ الظَّنِّ يَفْتادُهُ (7) ويُصَدِّقُ توهُّمَه الّذي يَعتادُهُ (8)» حَلَّ قولَ أبي الطَّيِّبِ (9):
إذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءت ظُنونُه *** وصَدَّقَ (10) ما يَعتادُه مِن توهُّمِ (11)
ص: 168
وأمّا التّلميحُ، فهو أنْ يُشارَ (1) إلی قِصّةٍ أو شِعْرٍ (2) مِن غيرِ ذکرٍ، کقولِه (3):
فوَ الله ما أدري أأحلامُ نائمٍ *** ألَمَّت بِنا أم کانَ في الرَّکبِ يوشَعُ؟! (4)
أشارَ إلی قِصّةِ يوشَعَ (علیه السلام) واستيقافِهِ الشَّمسَ (5)وکقَولِه:
لَعَمروٌ مع الرَّمضاءِ (6) والنّارُ تَلتَظي *** أرَقُّ (7) وأحفی (8) منك في ساعةِ الکَربِ
أشارَ إلی البيتِ المشهورِ:
المُستَجيرُ بعمروٍ عند کُربَتِهِ *** کالمُستَجيرِ مِن الرَّمْضاءِ بالنّارِ (9)
ص: 169
يَنبَغي للمتَکلِّمِ أن يَتَأنَّقَ (1) في ثلاثةِ مواضعَ مِن کلامِه حتّی تکونَ (2) أعذَبَ لفظاً (3) وأحسَنَ سَبْکاً (4) وأصَحَّ معنیً (5)أحدُها الابتداءُ، کقَوله (6):
قِفا نَبْكِ مِن ذِکری حَبيبٍ ومَنزِلِ *** بسِقْطِ اللِّوی بينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ
وکقوله (7):
قَصْرٌ عليه تحِيَّةٌ وسلامُ *** خَلَعَتْ عليه جَمالَها الأيّامُ
وينبغي أن يُجتَنَبَ في المديحِ ما يُتَطَيَّرُ به، کقَوله (8):
مَوعِدُ أحبابِك بالفُرقةِ غَد
وأحسَنُه ما يُناسِبُ المقصودَ (9)، ويُسَمّی براعةَ الاستهلالِ (10)، کقَوله في التَّهْنِئَةِ (11) (12):
بُشری فقد أَنجَزَ الإقبالُ ما وَعَدا *** وکَوکَبُ المَجْدِ (13) في أُفْق العُلا صَعَدا (14)
ص: 170
وقَولِه في المَرثِيةِ: (1)
هِيَ الدُّنيا تَقولُ بِمِلْءِ (2) فيها *** حَذارِ حَذارِ مِن بَطْشي (3) وفَتْکي (4)
وثانيها (5) التّخَلُّصُ (6) بما شُبِّبَ الکلامُ به (7) مِن تشَبيبٍ (8) أو غَيرِه (9) إلی المقصودِ مع رِعايةِ المُلاءَمَةِ بينَهما (10)، کقوله:
تَقولُ في قُومَسٍ قَومي وقد أخَذَتْ *** مِنّا السُّری (11) وخُطا (12) المَهرِيَّةِ (13) القُودِ (14)
ص: 171
أمَطلَعَ الشّمسِ تَبغي أن تَؤُمَّ (1) بنا؟ *** فقُلتُ کَلّا ولکن مَطلَعَ الجُودِ (2)
وقد يُنتَقَلُ منه (3) إلی ما لا يُلائِمُه، ويُسَمّی الاِقتِضابَ (4)، وهو مَذهبُ العربِ ومَنْ يَليهِم مِنَ المُخَضْرَمينَ (5)، کقوله (6):
لو رأی الله (7) أنَّ في الشَّيْبِ خَيراً *** جاوَرَتْه الأبرارُ في الخُلْدِ شَيْبا (8) (9)
کُلَّ يومٍ تُبدي صُروفُ اللَّيالي (10) *** خُلُقاً (11) مِن أبي سعيدٍ غَريبا (12)
ص: 172
ومنه ما (1) يَقرُبُ (2) مِن التَّخلُّصِ، کقَولك بعدَ حمدِ الله: «أمّا بعدُ». قيل: وهو فَصْلُ الخِطابِ (3)وکقَولِه تعالی (4): ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ (5)؛ أي: الأمرُ هذا (6)، أو هذا کَما ذُکِرَ. وقوله: ﴿هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (7)ومنه (8) قَولُ الکاتبِ (9): هذا بابٌ (10).
وثالثُها (11) الانتهاءُ (12)، کقوله (13):
وإنّي جَديرٌ إذْ بَلَغتُكَ (14) بالمُنی (15) *** وأنَّ بما أمَّلتُ (16) منك جَديرُ
فإنْ تُولِني (17) منك الجميلَ فأهلُهُ (18)
وإلّا فإنّي عاذِرٌ (19) وشَکورُ (20)
ص: 173
وأحسَنُه ما آذَنَ (1) بانتهاءِ الکَلامِ، کقَوله (2):
بقيتَ بقاءَ الدّهرِ يا کَهْفَ أهلِه! *** وهذا دُعاءٌ للبَريّةِ شاملُ (3)
وجميعُ فَواتحِ السُّوَرِ وخَواتِمِها واردةٌ علی أحسَنِ الوُجوهِ وأکمَلِها (4) يَظهَرُ ذلك بالتّأمُّلِ (5) مع التَّذَکُّرِ لِما تَقدَّمَ (6).
وصلّی اللّهُ علی سَيِّدِنا محمّدٍ وعلی آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ. اللّهُمَّ اغفِرْ لي بفضْلِك ولِمَنْ دعا لي بخيرٍ واغفِر لِوالدَيَّ ولِکُلِّ المسلِمين! آمّينَ! وصَلِّ وسَلِّمْ علی جميع الأنبياءِ والمُرسَلينَ وعلی آلِهم وأصحابهم والتّابعينَ خُصوصاً النَّبيَّ المصطفی والحَبيبَ المُجتَبی وآلَه وأصحابَه.
ص: 174
الصورة
صورة المحشي آيةالله الشيخ مهدي غياث الدين النجفی (قدس سره)
ص: 175
بعض منشورات مكتبة آيةالله النجفي
ايران - اصفهان - مسجد نو بازار - ALNAJAFI.IR
1- تبصرة الفقهاء (ثلاثة مجلّدات)، لآیةالله العظمیٰ الشیخ محمّدتقي الرازي النجفي الأصفهانی (قدس سره) صاحب هدایة المسترشدین، تحقیق: السیّد صادق الحسیني الإشكوري.
2- رسالهٔ صلاتیه، له أیضاً، بالفارسیة، تحقیق: الشیخ مهدي الباقري السیاني.
3- شرح هدایة المسترشدین، لآیةالله العظمیٰ الشیخ محمّدباقر النجفي الأصفهاني نجل صاحب الهدایة (المتوفیٰ عام 1301ق)، تحقیق: الشیخ مهدي الباقري السیاني.
4- اشارات ایمانیه، لآیةالله العظمیٰ الشیخ محمّدتقي آقاالنجفي الأصفهاني (المتوفیٰ عام 1332ق)، تحقیق: مهدي الرضوي، المطبوع في ضمن منشورات انجمن مفاخر فرهنگی ایران.
5- مجدالبیان در تفسیر قرآن، تألیف: آیةالله العظمیٰ الحاج الشیخ محمّدحسین النجفي الأصفهاني (المتوفیٰ عام 1308ق)، الانتقاء والترجمة إلی الفارسية: سیّد مهدي الحائري القزویني.
6- نقد فلسفة دارون، لآیةالله العظمیٰ الشیخ أبوالمجد محمّدالرضا النجفي الأصفهاني (المتوفیٰ عام 1362ق)، تحقیق: الدكتور حامد ناجي الأصفهاني، المطبوع في ضمن منشورات مكتبة مجلس الشوریٰ الإسلامي.
7- نقد فلسفه داروين، ترجمه آية الله مجدالعلماء النجفي وآيةالله حسن الصافي الأصفهاني، تحقيق وتصحيح وتكميل الدكتور علي زاهدبور، المطبوع في ضمن منشورات مؤسسة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بقم
8- الآراءُ الفقهیة - المكاسب المحرمة - والبیع (6مجلّدات)، لآیةالله الشیخ هادي النجفي.
9- إرشاد الأذهان، للعلّامة الحلّي، ترجمه إلی الفارسیة: آیةالله الشیخ مهدي النجفي الأصفهاني (المتوفیٰ عام 1393ق) ، المطبوع في ضمن منشورات انجمن مفاخر فرهنگی ایران.
10- أجود البيان في تفسير القرآن، الجزء الثالث والجزء الرابع (مجلّدان) لآية الله الشيخ هادي النجفي.
11- أساور من ذهب در احوال حضرت زینب سلام الله علیها، لآیةالله الشیخ مهدي النجفي الأصفهاني (المتوفیٰ 1393ق) بالفارسیة، تحقیق: جویا جهانبخش.
12- الأرائك في علم أصول الفقه، لآیةالله الشیخ مهدي النجفي الأصفهاني (المتوفیٰ عام 1393ق)، المطبوع في ضمن منشورات The open school شیكاغو أمریكا.
13- غرقاب (تراجم أعلام القرن الحادي عشر وما بعده)، للسیّد محمّدمهدي الموسوي الشفتي (المتوفیٰ عام 1326ق)، تحقیق: مهدي الباقري السیاني ومحمود النعمتي.
14- ترجمة توحید المفضل إلی الإنجلیزية، ترجم بأمر آیةالله الشیخ مهدي النجفي الأصفهاني، المطبوع في ضمن منشورات The open school شیكاغو أمریكا، ومنشورات أنصاریان، قم المقدّسة.
15 الكنز الجلي لولدي علي (گنج نامه)، للشيخ هادي النجفي، ترجمة علي أصغر حبيبي، منشورات انصاريان، قم.
ص: 176