دروس في الکفایة المجلد 5

هویة الکتاب

دروس في الکفایة

شارح: محمدي بامیاني، غلامعلي

كاتب: آخوند خراساني، محمدکاظم بن حسین

تعداد جلد: 7

لسان: العربية

الناشر: دار المصطفی (ص) لاحياء التراث - بیروت لبنان

سنة النشر: 1430 هجری قمری|2009 میلادی

رمز الكونغرس: 1430 /آ3 ک7028 159/8 BP

موضوع: اصول

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

ص: 4

تتمة المقصد السادس

اشارة

فصل لا يخفى (1): عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا، ضرورة: أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصّب طريقا؛ لجواز

=============

فصل في الكشف و الحكومة

اشارة

(1) المقصود الأصلي من عقد هذا الفصل هو: البحث عن إهمال النتيجة و كليتها.

و لكن حيث يتوقف تحقيق الكلام على البحث عن الكشف و الحكومة، فشرع المصنف أولا في البحث عنهما، ثم شرع في البحث عن المقصد الأصلي.

و كيف كان؛ فينبغي توضيح معنى الكشف و الحكومة فيقال: إنك قد عرفت: أن مقتضى مقدمات دليل الانسداد - على فرض تماميتها - هو حكم العقل بجواز العمل بالظن مطلقا، و قد وقع الخلاف في إن حكمه هذا هل هو من باب الكشف، بمعنى: أن العقل يكشف عن جعل الشارع الظن حجة حال الانسداد لا أنه ينشئ الحجية له ؟ أم من باب الحكومة ؟ بمعنى: أن العقل - بملاحظة تلك المقدمات يحكم بحجية الظن و ينشئها له حال الانسداد كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح و إنشائها له.

و بتعبير آخر - كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 5» -: أن العقل بعد ما لاحظ مقدمات الانسداد هل يستكشف منها عن جعل الشارع الظن حجة و إن احتمل مخالفته للواقع، فالشرع منشئ لحجيته و العقل كاشف عن هذا الإنشاء؟ أم أنه يحكم بوجوب متابعة الظن في مقام الامتثال، من غير أن يرى للشرع دخلا في ذلك، فالعقل يحكم بحجيته دون الشرع كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح، من غير دخل للشارع فيها.

إذا عرفت معنى الكشف و الحكومة فنقول: غرض المصنف من عقد هذا الفصل بيان أمرين:

أحدهما: أن نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن من باب الكشف أم حجيته من باب الحكومة.

و ثانيهما: بيان ما يترتب على الكشف من إهمال النتيجة و تعيينها.

ص: 5

اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال، و لا مجال (1) لاستكشاف نصب الشارع فحاصل الكلام: أن مقتضى مقدمات الانسداد هل هو استكشاف كون الظن في حال الانسداد طريقا منصوبا من قبل الشارع للوصول إلى التكاليف المعلومة بالإجمال، أو أن مقتضاها: استقلال العقل في الحكم بكون الظن حجة في حال الانسداد؛ كاستقلاله بكون العلم حجة في حال الانفتاح.

=============

و مع هذا الحكم العقلي المستقل في مقام الإطاعة: لا حاجة إلى حكم الشارع بحجية الظن، فتكون النتيجة: حجية الظن في مقام الإطاعة، بمعنى: حكم العقل بعدم جواز مطالبة المولى بأزيد من الإطاعة الظنية، و عدم جواز اقتصار المكلف على ما دونها من الإطاعة الشكية و الوهمية و ضمير «معها» راجع على المقدمات، و ضمير «أنه» للشأن، يعني: مع هذه المقدمات الدالة على حجية الظن «لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب» للأحكام الواقعية «طريقا لجواز اجتزائه» أي الشارع «بما استقل به» أي: باعتبار الظن «العقل في هذا الحال» أي: حال الانسداد.

و مختار المصنف: هو الثاني، و قد استدل عليه بما حاصله: من أن مقدمات الانسداد لا تنتج حجية الظن كشفا يعني: شرعا؛ بل مقتضاها: حجية الظن حكومة يعني: بحكم العقل؛ لأنه بعد إبطال المنجز العقلي - و هو الاحتياط الذي يقتضيه العلم الإجمالي بالتكاليف - بأدلة نفي الحرج قد وصلت النوبة إلى المقدمة الخامسة - و هي قبح ترجيح المرجوح على الراجح - المقتضية لتعين الإطاعة الظنية عقلا.

(1) إشارة إلى توهم و دفعه، فلا بد أولا: من تقريب التوهم، كي يتضح دفعه.

أما تقريب التوهم: فملخصه: إثبات حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل و بين ما حكم به الشرع، بمعنى: أن كل ما حكم به العقل و بين ما حكم به الشرع، بمعنى: أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع؛ إذ المفروض: أن العقل قد حكم باعتبار الظن حال الانسداد، فيستكشف من حكمه هذا - بهذه القاعدة - أن الشرع قد حكم باعتباره في هذا الحال أيضا، فيكون حجة شرعا.

فالمتحصل: أن الإطاعة الظنية حال الانسداد كما أنها عقلية كذلك شرعية بقاعدة الملازمة.

و أما الدفع: فهو أن قاعدة الملازمة أجنبية عن المقام، أعني: الإطاعة الظنية التي هي من مراتب الإطاعة، فلا تجري هذه القاعدة فيها حتى تكون الإطاعة موردا للحكم المولوي؛ و ذلك لأن القاعدة تجري في مورد قابل للحكم المولوي؛ كحسن رد الوديعة

ص: 6

و قبح الظلم؛ و لا تجري في مورد غير قابل للحكم المولوي كالمقام أعني: الإطاعة الظنية، فإنها غير قابلة للحكم المولوي، فلا تجري القاعدة فيها.

وجه عدم قابليتها له: أن الحكم المولوي متقوم بشرطين مفقودين في المقام.

أحدهما: أن يكون متعلقه فعل العبد لا فعل المولى؛ إذ الأحكام الشرعية لا تتعلق بفعل الشارع، و إنما تتعلق بأفعال العباد، و فعل الشارع لا يتعلق به إلا حكم العقل.

ثانيهما: أن يترتب على تعلقه بالفعل فائدة غير الفائدة التي تترتب على نفس الفعل عقلا أو تكوينا، حيث إن الحكم الشرعي من الأفعال الاختيارية التي لا تصدر من العاقل فضلا عن الحكيم إلاّ بداع عقلائي، و حيث إن هذين الشرطين مفقودان فيما نحن فيه - أعني: الإطاعة الظنية - فلا يكون قابلا للحكم المولوي حتى تجري فيه قاعدة الملازمة؛ لتثبت بها شرعية الإطاعة الظنية.

وجه عدم تحققهما فيه: أن الإطاعة الظنية تنحل إلى أمرين:

أحدهما: عدم وجوب الإطاعة العلمية؛ لعدم التمكن منها، و لازم عدم وجوبها: قبح مؤاخذة الشارع على تركها.

ثانيهما: عدم جواز الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية أعني الإطاعة الشكية و الوهمية، و لازم عدم جوازه: حسن الإطاعة الظنية.

و شيء من هذين الأمرين لا يصلح لأن يتعلق به الحكم المولوي.

أما الأول: فلأن المؤاخذة فعل الشارع، و قد عرفت: أن فعل الشارع لا يكون موردا لحكم نفس الشارع، فلا يتعلق به حكمه، و إنما يتعلق به حكم العقل، فالحاكم بقبح المؤاخذة هو العقل دون الشرع.

و أما الثاني: فلأنه و إن كان في نفسه قابلا لحكم الشرع من جهة أن الموضوع فيه - أعني: الإطاعة الظنية أو الإطاعة الشكية و الوهمية - فعل العبد، لكن لا يترتب على تعلق الحكم الشرعي بهذا الموضوع فائدة لم يكن أيضا قابلا للحكم المولوي.

توضيح ذلك: أن الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية يكون بنفسه منشأ لاستحقاق العقاب، كما أن الإطاعة الظنية تكون بنفسها منشأ لاستحقاق الثواب، فلا حاجة إلى أمر المولى بها و لا إلى نهيه عن الاكتفاء بما دونها؛ لعدم ترتب فائدة على هذا الأمر أو النهي؛ إذ لو كان الغرض منهما إيجاد الداعي في نفس العبد إلى العمل بالظن و ترك

ص: 7

من حكم العقل؛ لقاعدة الملازمة، ضرورة: أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، و المورد هاهنا غير قابل له، فإن (1) الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها (2) في حال الانسداد إنما هي بمعنى: عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها (3)، و عدم اقتصار المكلف بدونها (4)، و مؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه (5)، و هو الاكتفاء بما دونه، فهو من قبيل طلب الحاصل المحال؛ لفرض حصول هذا الغرض بحكم العقل بحسن الأول و قبح الثاني، و إن كانا بدون غرض فهو قبيح على العاقل فضلا عن الحكيم.

=============

و خلاصة الكلام في المقام: فالمورد - أعني باب الإطاعة و المعصية الذي منها الإطاعة الظنية فيما نحن فيه - غير قابل للحكم المولوي حتى تجري فيه قاعدة الملازمة، كي تثبت بها حجية الظن حال الانسداد شرعا أيضا؛ إما لانتفاء الشرط الأول المعتبر فيه و هو كون موضوعه فعل العبد؛ لما عرفت من: أن الموضوع هنا هو المؤاخذة و هي فعل الشارع، فلا يتعلق بها حكم نفس الشارع، و إما لانتفاء الشرط الثاني، و هو ترتب الفائدة على تعلقه غير أصل الفائدة التكوينية أو العقلية كما عرفت توضيح ذلك؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 14» مع توضيح و تصرف منا.

قوله: «من حكم العقل» متعلق ب «استكشاف»، يعني: أنه لا مجال لأن يستكشف من حكم العقل نصب الشارع.

«لقاعدة» متعلق ب «استكشاف» و تعليل له.

(2) أي: بكفاية الإطاعة الظنية.

(3) أي: من الإطاعة الظنية، و المراد بالأزيد هو: الإطاعة العلمية، و هذا إشارة إلى الأمر الأول مما تنحل إليه الإطاعة الظنية.

«ضرورة» تعليل لقوله: «لا مجال»، فهو تقريب لدفع التوهّم، و ضمير «أنها» راجع على قاعدة الملازمة، «و المورد هاهنا» أي: في باب الإطاعة و المعصية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) تعليل لعدم قابلية المورد للحكم المولوي.

(4) أي: بأقل من الإطاعة الظنية هذا إشارة إلى الأمر الثاني مما تنحل إليه الإطاعة الظنية، و المراد من «بدونها» هو: الإطاعة الشكية و الوهمية.

(5) هذا هو الشرط الأول المعتبر في الحكم المولوي، و قد تقدم بقولنا: «أحدهما أن يكون متعلقه فعل العبد...» الخ.

ص: 8

واضح، و اقتصار (1) المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا (2)، أو فيما أصاب الظن (3)، كما (4) أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ (5)، أو أصاب (6) من (7) دون حاجة (8) إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان (9) حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى، و لا بأس به إرشاديا كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة و حرمة المعصية.

=============

(1) مبتدأ خبره «لما كان...» الخ. و ضمير «دونها» راجع على الإطاعة الظنية و هذا إشارة إلى بيان انتفاء الشرط الثاني مما يعتبر في الحكم المولوي هنا أي: في الإطاعة الظنية. فقوله: «بنفسه» إشارة إلى وجه عدم الفائدة في النهي المولوي عن الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية؛ إذ الفائدة - و هي إحداث الداعي للعبد إلى الترك - موجودة في ذاته، من دون حاجة إلى نهي الشارع، حيث إن العقل كاف في إحداث الداعي إلى ترك ما دون الإطاعة الظنية، فالنهي حينئذ يكون من تحصيل الحاصل.

(2) يعني: سواء أصاب الظن و أخطأ ما دونه - أعني: الشك و الوهم - فالعقاب يكون على تقويت الواقع أم أخطأ الظن و أصاب ما دونه، فالعقاب حينئذ: يكون على التجري.

و قوله: «أو فيما أصاب الظن» يعني: أن يكون الاقتصار على ما دون الظن موجبا للعقاب في خصوص ما إذا أصاب الظن و أخطأ ما دونه؛ ليكون العقاب على تفويت الواقع.

(3) لتفويته الواقع عن اختيار بترك العمل بالظن المفروض كونه مصيبا.

(4) عدل لقوله: «موجبا»، و ضمير «أنها، بنفسها» راجعان على الإطاعة الظنية.

(5) و الثواب يترتب حينئذ: على الانقياد.

(6) و الثواب حينئذ: على الإطاعة الحقيقية.

(7) متعلق بكل من «موجبا للعقاب» و «موجبة للثواب»، و ضميرا «بها» مخالفتها راجعان على الإطاعة الظنية.

(8) يعني: أن الحكم المولوي يكون لغوا، لعدم ترتب فائدة عليه كما عرفت.

(9) هذا جزاء الشرط في قوله: «لما كان» و جملة الشرط و الجزاء خبر «و اقتصار»، «و لا بأس به إرشاديا»، يعني: و لا بأس بحكم الشارع - في عدم جواز الاكتفاء بما دون الظن - إرشادا إلى حكم العقل به؛ إذ الممتنع جعل الحكم المولوي لوجوب الإطاعة الظنية لا الحكم الإرشادي.

و ضمير «هو» راجع إلى الإرشاد المستفاد من قوله: «إرشاديا». و ضميرا «شأنه، حكمه» راجعان على الشارع، يعني: كما أن الإرشاد شأن الشارع في حكمه بوجوب الإطاعة.

ص: 9

و صحة (1) نصبه الطريق و جعله في كل حال بملاك يوجب نصبه و حكمة داعية

=============

(1) إشارة إلى دفع ما يمكن أن يتوهم في المقام من: أنه إذا كان العقل هو الحاكم في باب الإطاعة و المعصية حتى إنه لا يصح للشرع نصب الطريق، فكيف يمكن نصبه للطريق في حال الانفتاح، و أي فرق بين حال الانسداد و حال الانفتاح ؟ و هذا ينافي ما تقدم آنفا من كون الظن طريقا عند الانسداد عقلا لا شرعا.

و حاصل الدفع: أن صحة نصب الطريق غير منافية لكون العقل مستقلا في باب الإطاعة؛ إذ ربما ينصب الشارع طريقا للتسهيل بما ليس للعقل نصبه كما لو نصب الشارع الشهرة طريقا، فإن العقل لا يرى للشهرة كشفا عن حكم المولى.

فقوله: «لا تنافي» خبر لقوله: «صحة نصبه». و الحاصل: أن العقل لا يمنع نصب الشارع للطريق، و إنما يمنع عن كون الطريق الذي عينه العقل مجعولا للشارع مولويا، فالعقل يستقل بلزوم الإطاعة «بنحو» الظن «حال الانسداد، كما يحكم بلزومها» أي:

الإطاعة «بنحو آخر» كالقطع «حال الانفتاح...» الخ.

أنه لا فائدة حينئذ في هذا الحكم المولوي؛ بعد حكم العقل بلزوم إحراز الحكم الواقعي بالظن، دفعا للعقوبة المحتملة في صورة ترك العمل به.

و أما إذا لوحظ الظن موضوعيا بحيث يترتب المثوبة على موافقته و العقوبة على مخالفته مع قطع النظر عن الواقع كسائر الأحكام الظاهرية، فلا وجه لمنع تعلق الحكم المولوي بالعمل بالظن و استكشاف حكمه من حكم العقل بقاعدة الملازمة.

فالمتحصل: أنه يمكن استكشاف حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة.

و أما الدفع فتوضيحه: أن نصب الطريق لا بملاك إحراز الواقع و إن كان جائزا؛ لكن لا يمكن استكشافه بقاعدة الملازمة، و ذلك لاعتبار وحدة الموضوع في الحكم الشرعي و العقلي في هذه القاعدة كالظلم، حيث إنه موضوع لحكم العقل - أعني: القبح - و هو بنفسه موضوع أيضا لحكم الشرع - أعني: الحرمة - و هذا بخلاف المقام، فإن الظن الملحوظ طريقا صرفا لإحراز الواقع - و هو الموضوع للحجية العقلية - غير الظن الملحوظ طريقا شرعا؛ إذ على التقدير الأول: يكون الفعلي هو الحكم الواقعي، و على الثاني:

يكون الفعلي هو الحكم الظاهري؛ لامتناع فعلية حكمين واقعي و ظاهري معا لموضوع واحد؛ كما عرفت في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

ص: 10

إليه لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا؛ لما عرفت (1).

فانقدح بذلك (2): عدم صحة تقرير المقدمات إلا علي نحو الحكومة دون الكشف. و عليها (3): فلا إهمال في النتيجة أصلا سببا و موردا...

=============

و بالجملة: لا مانع من تعلق الحكم المولوي بالظن؛ لكن لا بنحو حكم العقل به؛ بل بملاك آخر كالتسهيل على المكلف، فإن نصب طريق خاص لامتثال الأحكام ربما يوجب ضيقا عليه، فيرفعه الشارع بجعل الحجية لمطلق الظن بالحكم الشرعي.

و ضمير «جعله» راجع إلى الشارع «بملاك» أي: لا بملاك حكم العقل به؛ بل بملاك التسهيل مثلا. و قوله «و حكمة» عطف تفسيري للملاك.

(1) يعني: من عدم قابلية باب الإطاعة للحكم المولوي بقوله: «و المورد هاهنا غير قابل له...» الخ، فهو تعليل لقوله: «من دون استكشاف». و «من دون» متعلق بقوله: «يحكم».

(2) أي: باستقلال العقل بالإطاعة الظنية حال الانسداد، و عدم استكشاف الحكم المولوي بها بقاعدة الملازمة ظهر: أن نتيجة المقدمات هي الحكومة دون الكشف، و قد عرفت سابقا: مبنى الكشف و الحكومة.

و المتحصل: أن التقرير على وجه الكشف باطل؛ لأن المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع للظن مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة حجة؛ لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا.

عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة

(3) أي: على الحكومة. هذا شروع في بيان ثمرة الحكومة و الكشف و ما يترتب عليهما من إهمال النتيجة و عدم إهمالها. فيقال: إنه بناء على الحكومة لا إهمال في النتيجة أصلا لا سببا و لا موردا و لا مرتبة؛ بل معينة، لكنها من حيث الأسباب كلية، و من حيث الموارد و المرتبة جزئية، إذ الإهمال في النتيجة يكون في صورة الشك و الترديد في الحكم، و لا يتصور الشك و الترديد من الحاكم - و هو هنا العقل - في حكمه الفعلي؛ لأنه إذا أحرز مناط حكمه بشيء حكم به، و إلا لم يحكم أصلا، لا أنه يحكم مع الشك و الترديد.

أما عدم الإهمال من حيث الأسباب - بمعنى: كلية النتيجة و عدم اختصاص حجية الظن الانسدادي بحصوله من سبب دون سبب - فلأن المناط في حكم العقل بلزوم

ص: 11

و مرتبة (1) لعدم تطرق الإهمال و الإجمال في حكم العقل كما لا يخفى.

و أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها (2).

و أما بحسب الموارد (3) فيمكن أن يقال: بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية؛ إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب و ترك الحرام،...

=============

العمل بالظن هو أقربيته إلى الواقع من الشك و الوهم، و هذا المناط لا يختلف باختلاف أسباب الظن، فالنتيجة كلية - و هي معينة - لا مهملة.

و أما عدم الإهمال بحسب الموارد - المسائل الفقهية - و كون النتيجة بحسبها جزئية معينة: فلأن المتيقن من حكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية هو: ما إذا لم يكن للشارع مزيد اهتمام به؛ إذ لو كان كذلك - كما في النفوس و الأعراض و الأموال - لم يستقل العقل بكفاية الظن فيه؛ بل حكم بوجوب الاحتياط فيه، و حيث كان لحكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية حال الانسداد قدر متيقن بحسب الموارد كانت نتيجة مقدمات الانسداد جزئية معينة أيضا، و ليست مهملة.

و أما عدم الإهمال بحسب المرتبة: فلأن النتيجة هي: حجية خصوص الظن الاطمئناني إن كان وافيا؛ و إلا فيتعدى عنه إلى غيره بمقدار الكفاية؛ بحيث لا يلزم من الاحتياط في سائر الموارد - التي لم يقم ظن اطمئناني على الحكم الشرعي فيها - عسر أو حرج، فإن استلزم الاحتياط فيها عسرا أو حرجا: لم يقتصر على الظن الاطمئناني؛ بل يتعدى إلى غيره بمقدار ارتفاع الحرج.

و كيف كان؛ فالنتيجة بحسب المرتبة أيضا معينة جزئية لا أنها مهملة.

(1) قوله: «سببا، موردا، مرتبة» بيان لقوله: «أصلا»، و «لعدم» تعليل لعدم الإهمال، كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 19-21».

(2) أي: في الأسباب يعني: فلا تفاوت بنظر العقل بين الأسباب، فكل من الظن الاطمئناني الحاصل من خبر العدل، و القوي الحاصل من خبر الثقة، و الضعيف الناشئ من الشهرة الفتوائية حجة بحكم العقل - في حال الانسداد - بوزان واحد، فالنتيجة من حيث الأسباب على الحكومة كلية، هي حجية الظن مطلقا من دون تفاوت بين أسبابه.

(3) أي: الموارد التي يتعلق بها الظن كمورد الطهارة و الصلاة و الزكاة و غيرها - من المسائل الفقهية - فقد عرفت كون النتيجة بحسها جزئية معينة و ليست بمطلقة؛ و ذلك لعدم استقلال العقل «بكفاية الإطاعة الظنية...» الخ.

ص: 12

و استقلاله (1) بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج و الدماء؛ بل (2) و سائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.

و أما بحسب المرتبة: فكذلك (3) لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف؛ إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر (4).

=============

(1) عطف على «عدم» في قوله: «بعدم»، يعني: فيمكن أن يقال باستقلال العقل بوجوب الاحتياط. و ضمير «فيه» في الموضعين راجع على الموصول في «فيما»، المراد به المورد في الموضعين.

(2) إضراب عن استقلال العقل بوجوب الاحتياط في الفردين إلى استقلاله بوجوبه في الفرد الخفي أيضا مما يمكن القول بوجوب الاحتياط فيها؛ ما لم يوجب عسرا أو حرجا، و أما في الموارد الثلاثة: فيجب فيها الاحتياط مطلقا، من غير تقييد بعدم استلزامه للحرج.

(3) أي: فكالمورد فيما ذكرناه من التفصيل بين الظن الاطمئناني و غيره كما عرفت.

و حاصله: أن حكم العقل في المقام معيّن و هو الاكتفاء بالإطاعة الظنية فما ليس للشارع مزيد اهتمام، و لزوم الاحتياط فيما علم للشارع مزيد اهتمام فيه. فالنتيجة من حيث الموارد معيّنة أيضا و لكنها ليست كلية بل هي حجية الظن في غير ما علم مزيد اهتمام الشارع فيه.

(4) و الحرج، فيتنزل إلى مرتبة الأقوى فالأقوى. هذا مبني على كون النتيجة التبعيض في الاحتياط بأن يقال: إن مقتضى العلم الإجمالي بالأحكام هو الاحتياط التام؛ لكنه - لإخلاله بالنظام، أو لإيجابه للعسر و الحرج - يرفع اليد عنه، و يقتصر فيه على المقدار غير الموجب للعسر، فإن ارتفع العسر برفع اليد عن الاحتياط في موهومات التكليف فقط اقتصر عليه، و وجب الاحتياط في غيرها من المظنونات و المشكوكات، إذا ارتفع العسر بتركه في بعض موهومات التكليف - و إن كان مما ظن اطمئنانا عدم التكليف فيه - اقتصر عليه، و وجب الاحتياط في البعض الآخر من موهومات التكليف؛ و إن كان من المظنون اطمئنانا عدم التكليف فيه.

و بالجملة: لا بد في رفع اليد عن الاحتياط التام من الاقتصار على ما يرتفع به محذور الاختلال أو العسر، و هذا هو المراد بقوله: «في رفع محذور العسر»؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 22».

ص: 13

و أما على تقدير الكشف (1): فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه؛ فلا إهمال فيها أيضا بحسب الأسباب؛ بل يستكشف حينئذ: أن الكل حجة

=============

(1) لما كان معنى حجية الظن على الكشف هو: نصب الشارع الظن - حال الانسداد طريقا، فالوجوه المتصورة في نصب الطريق الظني ثلاثة:

الأول: أن يستكشف بمقدمات الانسداد أن المنصوب هو الطريق الواصل بنفسه، بمعنى: كون المقدمات الجارية في الأحكام موجبة للعلم بجعل الشارع طريقا معينا و أصلا بنفسه، فلا حاجة في تعيين ذلك الطريق إلى غير المقدمات الجارية في نفس الأحكام، و عليه: فالطريق الظني الذي يكشف عنه دليل الانسداد هو كل ما يورث الظن بالحكم مما وصل بنفسه إلى المكلف إذا لم يكن بعض أفراده متيقن الاعتبار بالنسبة إلى بعضها الآخر، فيكون مثل هذا الظن حجة مطلقا يعني: سواء حصل من الخبر الصحيح أم الموثق أم الحسن أم الضعيف المنجز بعمل المشهور، أم الإجماع المنقول أم غيرها، فلو كان بينها تفاوت فالواصل إلى المكلف هو الظن الحاصل من ذلك السبب الخاص كخبر العدل الإمامي دون غيره؛ لتعلق غرض الشارع بوصول الطريق و تعينه لديه، فلو لم يكن هذه المزية موجبة لتعينه لزم نقض الغرض، و سيأتي لازم هذا الوجه من إهمال النتيجة أو تعينها.

الثاني: أن يستكشف بمقدمات الانسداد أن المنصوب هو الطريق الواصل لو بطريقه، بمعنى: كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا معينا إلى الأحكام؛ و لو فرض تعينه لنا بغير هذه المقدمات مما يوجب العلم بطريقيته و تعينه؛ كإجراء مقدمات الانسداد مرة ثانية في نفس الطريق للكشف عنه، بأن يقال: إن مطلق الظن صار حجة بدليل الانسداد، و لم يعلم رضا الشارع بخصوص طريق دون آخر، و الاحتياط في الطرق باطل، و ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، و يستكشف منها حينئذ: نصب طريق خاص، و الفرق بين الانسداد الكبير الجاري في نفس الأحكام، و بين الجاري في الطرق هو: أن الأول يثبت رضا الشارع بتحصيل المكلف الظن بالحكم الشرعي، و أن الحجة عنده طبيعة الظن بلا نظر إلى الخصوصيات، و أما الثاني: فيتكفل تعين تلك الطرق الظنية التي اقتضتها مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام.

و بالجملة: فالمنصوب على هذا الوجه ما عينته المقدمات و لو بإجرائها مرة ثانية، و سيأتي لازم هذا الوجه أيضا من إهمال النتيجة أو تعينها.

ص: 14

الثالث: أن يستكشف بالمقدمات نصب طريق إلى الأحكام واقعا؛ بمعنى: كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام؛ و لو لم يصل إلينا، و لم يتعين لنا لا بنفسه و لا بطريق يؤدي إليه كانسداد آخر جار في نفس الطريق. و عليه: فالثابت بمقدمات الانسداد هو حجية ظن بنحو الفرد المنتشر بين الظنون، مع فرض عدم سبيل إلى إحراز اعتبار واحد منها بالخصوص - كالمستفاد من خبر الثقة مثلا - مع فرض اختلافها قوة و ضعفا، و سيأتي لازم هذا الوجه أيضا؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 23-24» -.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «فلا إهمال فيها أيضا»: أي فلا إهمال في النتيجة، كما لا إهمال فيها بحسب الأسباب، بناء على الحكومة. و هذا شروع في بيان لازم الوجه الأول، و حاصله: أنه - بناء على كون نتيجة مقدمات الانسداد على الكشف هو نصب الطريق الواصل بنفسه - لا إهمال فيها بحسب الأسباب، فالنتيجة حينئذ: معينة، و هي إما كلية، يعني أن الظن حجة من أي سبب حصل، و إما جزئية؛ و ذلك لأنه إن كان بين الأسباب ما هو متيقن الاعتبار كخبر العادل المزكى بعدلين مثلا، و كان وافيا بمعظم الفقه فهو حجة معينا دون سائر المظنون، أما أن المتيقن الاعتبار حجة معينا: فلفرض أقوائية سببه من سائر الأسباب المفيدة للظن الموجبة لتيقن اعتباره، و أما أن غيره - مما لم يتيقن باعتباره من سائر الظنون - لا يكون بحجة: فلعدم المجال لاستكشاف حجية غير متيقن الاعتبار بعد فرض أن الحجة هو خصوص الطريق الواصل بنفسه، و أنه المتيقن اعتباره دون غيره.

و إن لم يكن بين الأسباب ما هو متيقن الاعتبار، أو كان و لكن لم يف بمعظم الفقه:

كانت الحجة هو الظن الحاصل من أي سبب، عدا ما نهى الشارع عن اتباعه كالقياس.

هذا كله بحسب الأسباب.

و كذا بحسب الموارد - و هي الأحكام الفرعية من الطهارة و الصلاة و غيرهما من أحكام النفوس و الأعراض و الأموال - فإن النتيجة كلية أيضا؛ إذ لو لم تكن كلية و لو لأجل التردد في بعض الموارد لزم خلاف الفرض، و هو وصول الحجة بلا واسطة، يعني:

يلزم عدم وصول الحجة بنفسها إلينا؛ و لو كان عدم وصولها كذلك لأجل التردد في مواردها.

و أما بحسب المرتبة: فالنتيجة مهملة؛ لاحتمال كون الطريق المنصوب خصوص الظن

ص: 15

لو لم يكن بينها ما هو المتيقن. و إلاّ فلا مجال لاستكشاف حجية غيره و لا (1) بحسب الموارد؛ بل يحكم بحجيته في جميعها؛ و إلا (2) لزم عدم وصول الحجة و لو لأجل التردد في مواردها كما لا يخفى.

و دعوى الإجماع على التعميم بحسبها (3) في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا.

=============

الاطمئناني عند وفائه بالمعظم، فيقتصر عليه؛ إذ مع فرض الكفاية لا حاجة إلى غير الاطمئناني حتى يتعدى إليه.

و ضمير «بينها» راجع على الظنون «و إلا» يعني: و إن كان بين الظنون ما هو متيقن الاعتبار «فلا مجال لاستكشاف حجية غيره» أي: غير متيقن الاعتبار.

(1) عطف على «بحسب الأسباب»، و ضمير «بحجيته» راجع على الظن، و ضمير «في جميعها» راجع على الموارد.

(2) أي: و إن لم يحكم بحجية الظن في جميع الموارد و المسائل الشرعية لزم الخلف، أي: خلاف ما فرضناه من كون النتيجة هي الحجة الواصلة، يعني: حجية الطريق الواصل بنفسه، فيلزم من عدم الالتزام بحجية ما وصل إلينا من الطرق في جميع الموارد:

قوله: «حينئذ» أي: حين تقرير المقدمات، على نحو يستنتج منها نصب الطريق الواصل بنفسه يستكشف منها أن كل ظن من أي سبب حصل حجة.

عدم كون النتيجة حجية جميع ما وصل إلينا، و معنى ذلك: عدم وصول الحجة إلينا؛ و لو لأجل تردد ذلك الظن بين ظنون متعددة، للشك في اعتبار أي واحد منها.

(3) أي: بحسب الموارد. هذا دفع لما يدعيه الشيخ الأنصاري «قدس سره» من قيام الإجماع على التعميم بحسب الموارد، بتقريب: أن النتيجة ليست إلا الحجية في بعض الموارد، و أما سائر الموارد المشكوكة: فحجية الظن فيها إنما هو بالإجماع، فالمقدمات إنما تفيد الحجية في بعض الموارد غير المهمة. و الإجماع يفيد الحجية في الموارد المهمة؛ لأنه قام على التعميم.

و أما دفع دعوى الإجماع على التعميم: فحاصله: أن دعوى الإجماع على التعميم بحسب الموارد مجازفة جدا؛ إذ هذه المسألة ليست معنونة في كتب القدماء حتى يثبت الإجماع فيها، فالنتيجة بحسب الموارد و إن كانت كلية؛ و لكن لا للإجماع كما يدعيه الشيخ «قدس سره»؛ بل لمنافاة الإهمال فيها لفرض وصول الطريق بنفسه بناء على الكشف؛ إذ التردد في الطريق مناف لوصوله و تعينه، فلا يحصل الإجماع كي

ص: 16

و أما بحسب المرتبة: ففيها (1) إهمال؛ لأجل حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا، فلا بد من الاقتصار عليه (2).

و لو قيل بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل و لو بطريقه: فلا إهمال فيها (3) يستكشف به رأي الإمام «عليه السلام».

=============

و بالجملة: أن المفروض وصول الطريق المنصوب شرعا بنفسه، و قيام الإجماع عليه ينافي الوصول بنفسه.

(1) أي: ففي النتيجة إهمال؛ «لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه»، أي:

من الظن إذا كان وافيا بجميع الأحكام أو معظمها.

(2) أي: على الظن الاطمئناني.

و حاصل الكلام في المقام: أنه لو قلنا بكون النتيجة على الكشف هي الطريق الواصل بنفسه فهل يكون كل ظن حجة، سواء كان ظنا ضعيفا أو ظنا قويا، أم تختص بالظن القوي فقط؟ و لازم ذلك: عدم الإهمال في النتيجة؛ و ذلك لإن الظن القوي لو كان وافيا بالفقه فلا إهمال من جهة أنه الحجة فقط دون الظن الضعيف؛ لأنّه وصل الطريق - بسبب الظن القوي - و إن لم يكن وافيا: فلا إهمال أيضا من جهة أن الجميع حجة؛ و إلا فليس الطريق واصلا بنفسه، و هو خلاف الفرض. فحينئذ: ما ذكره المصنف بقوله: «ففيها إهمال» لا يخلو عن إشكال؛ إذ لا فرق بين المرتبة و السبب، فما قلنا في السبب يجري هنا أيضا.

هذا كله الأقسام الثلاثة السبب، و المورد، و المرتبة بناء، على كون الطريق واصلا بنفسه - و هو القسم الأول بناء على الكشف - و أما القسم الثاني بناء على الكشف، و هو ما أشار إليه بقوله: «لو قيل بأن النتيجة» لمقدمات الانسداد «هو نصب الطريق الواصل و لو بطريقه»، بمعنى: أن الطريق المكشوف من المقدمات يصل إلينا بواسطة مقدمات أخرى، فليس الطريق واصلا بنفسه، بل واصلا بطريقه.

(3) أي: فلا إهمال في النتيجة بحسب الأسباب، هذا شروع في بيان لازم الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في نتيجة المقدمات بناء على الكشف، و هو كون النتيجة حجية الطريق الواصل و لو بطريقه.

و توضيح ما أفاده فيه بالنسبة إلى السبب - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 28». هو: أن الظن بالحكم حجة إن كان سببه واحدا، و كذا إن كان متعددا؛ لكن مع التساوي في اليقين بالاعتبار أو الظن به.

ص: 17

بحسب الأسباب؛ لو لم يكن فيها تفاوت (1) أصلا لو لم يكن بينها إلا...

=============

و أما بحسب المورد: فالنتيجة - بناء على الكشف و كون الطريق واصلا و لو بطريقه - عامة بالنسبة إلى الموارد كالواصل بنفسه؛ و إلا لزم عدم وصوله و لو للتردد في مواردها؛ كما تقدم في الواصل بنفسه.

و أما بحسب المرتبة: فهي مهملة؛ لما تقدم أيضا من احتمال حجية خصوص الظن الاطمئناني إذا كان وافيا، و التعدي إلى غيره مع عدم الوفاء.

(1) يعني: لو لم يكن في الأسباب تفاوت في تيقن الاعتبار و عدمه كما عرفت توضيحه، و عليه: فلا إهمال في صورتين:

أما الأول: فلأن الوحدة في السبب توجب التعين الذاتي، فلا إهمال في النتيجة.

و أما الثاني: فلأن تعين بعض الأفراد مع فرض التساوي بينها، و عدم التفاوت بين أسبابها يكون من الترجيح بلا مرجح و هو قبيح، فلا بد من الالتزام بحجية الجميع.

الأولى: إذا لم يكن بين الأسباب الموجبة للظن تفاوت في تيقن الاعتبار؛ بل كانت متساوية من حيث الاعتبار؛ كخبر العدل و الإجماع و الشهرة مثلا.

الثانية: إذا لم يكن سبب للظن إلا واحد نوعي، فالنتيجة جزئية، و هي حجية خصوص خبر الواحد مثلا بأقسامه المتعددة، و عدم حجية غيره.

ص: 18

واحد (1)، و إلا (2) فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها (3) أو مظنونه بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ (4) مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب، حتى ينتهي إلى ظن واحد، أو إلى ظنون متعددة (5) لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها، توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

=============

(1) أي: واحد نوعي، كخبر الواحد في مقابل الإجماع المنقول و الشهرة و غيرهما.

(2) أي: و إن كان بينها تفاوت في اعتبار بعضها دون الآخر، «فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار» إذا كان التفاوت بين الظنون في اليقين بالاعتبار.

(3) أي: من الأسباب المتعددة، و الحاصل: أنه لا إهمال أصلا بحسب الأسباب.

أما في صورة وحدة السبب: فلأنها موجبة للتعيين بالذات، فلا مجال للإهمال و التردد.

و أما في صورة التعدد مع التساوي: فلأن التساوي مانع من تعيين البعض؛ إذ لا وجه لتعيين الخبر دون الإجماع مثلا، مع فرض تساويهما من جميع الجهات.

(4) أي: حين التعدد و التفاوت بالظن باعتبار بعضها دون بعض «مرة: أو مرات».

توضيحه: إن كان بعضها مظنون الاعتبار دون ما سواه: جرى دليل الانسداد في تعيين الحجة على الاعتبار، فيقال: الظن بالواقع منه مظنون الاعتبار، و منه مشكوك الاعتبار، و منه موهوم الاعتبار.

ثم يقال: الظن بالاعتبار بعض الظنون المتعلقة بالواقع إما أن يكون واحدا فهو الحجة على الاعتبار أو متعددا، و كلها متساوية في تيقن الاعتبار أو الظن به كما تقدم، فكلها حجة أيضا، أو بعضها متيقن الاعتبار دون غيره، فهو الحجة دون غيره، و إن كان متعددا متفاوتا في الظن بالاعتبار: فلا بد من إجراء الدليل ثالثا لتعيين الحجة على اعتبار الظن بالاعتبار، فيقال كما ذكر، و هكذا حتى ينتهي الأمر إلى ظن واحد أو ظنون متساوية، أو بعضها متيقن الاعتبار فيكون ذلك هو الحجة، ثم ينتقل منه إلى إثبات غيره حتى يتعين الظن الذي هو حجة على الواقع، و يكون واصلا إلى المكلف بطريقه لا بنفسه؛ كما في «حقائق الأصول، ج 2، ص 193».

(5) كما عرفت أيضا في الطريق الواصل بنفسه، غاية الأمر: أن تعيين هذين القسمين - أعني الظن الواحد و الظنون المتعددة التي لا تفاوت بينها - كان في الطريق الواصل بنفسه بإجراء مقدمات الانسداد في نفس الأحكام، و في المقام - و هو الطريق الواصل و لو بطريقه - بإجرائها ثانيا في الطريق إلى الأحكام، و ثالثا و هكذا.

ص: 19

أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار، فيقتصر عليه (1).

و أما بحسب الموارد و المرتبة: فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه (2)، فتدبر جيدا.

و لو قيل: بأن النتيجة (3) هو الطريق و لو لم يصل أصلا، فالإهمال فيها يكون من

=============

(1) أي: فيقتصر على متيقن الاعتبار.

(2) قد عرفت توضيحه بقولنا: «و كذا بحسب الموارد فالنتيجة...» الخ، فالظن في جميع الموارد حجة - سواء كان من الأمور المهمة، كالنفوس أم لا كالطهارة - و ذلك لأنه لو لم يكن في بعضها حجة كان خلاف الغرض و إنه لم يصل الطريق و لو بطريقه؛ لكن النتيجة مهملة بالنسبة إلى المرتبة؛ لاحتمال حجية الظن الاطميناني فقط إذا كان وافيا.

(3) أي: نتيجة دليل الانسداد «هو الطريق و لو لم يصل أصلا»، بمعنى: أن المقدمات تنتج أن الشارع جعل طريقا لكنه غير معلوم و مشتبه بين الطرق التي بأيدينا، «فالإهمال فيها» أي: في النتيجة «يكون من الجهات» أي: الموارد و الأسباب و المراتب؛ لأنه لم يعلم - بعد الإهمال - خصوصية و تعيين بالنسبة إلى إحدى الجهات، و لا طريق إلى التعيين.

و كيف كان؛ فهذا الكلام من المصنف تعرض للازم الوجه الثالث من الوجوه المحتملة في نتيجة المقدمات بناء على الكشف، و هي كون النتيجة حجية الطريق إجمالا، يعني:

و لو لم يصل أصلا لا بنفسه و لا بطريقه.

و توضيح ما أفاده في ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 31» -: أن النتيجة مهملة من الجهات الثلاث، و تتعين الوظيفة حينئذ بالاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي بالطريق؛ بأن يؤخذ بكل ما يحتمل كونه طريقا إن لم يلزم منه محذور عقلا كاختلال النظام، أو شرعا كالعسر.

و إن لزم منه ذلك: فلا بد من التنزل من الكشف إلى حكومة العقل، بما يظن طريقيته فقط إذا لم يكن بين الظنون ما هو متيقن الاعتبار؛ و إلا فالمتعين الأخذ به كشفا.

و الوجه في تعين الحكومة في صورة تساوي الظنون: أنه لا سبيل لاستكشاف الطريق المنصوب، و المفروض: عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه، فيتعين المصير إلى الحكومة.

و بالجملة: فمع إمكان الاحتياط لا كشف و لا حكومة، و مع عدمه تتعين الحكومة؛ لفرض: عدم وصول الطريق المنصوب و لو بالواسطة.

و لا يخفى: أن ما أفاده المصنف «قدس سره» - من ابتناء إهمال النتيجة و تعيينها على أن تكون نتيجة المقدمات بناء على الكشف نصب الطريق الواصل بنفسه أو بطريقه أو

ص: 20

الجهات، و لا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، لو لم يلزم منه محذور؛ و إلاّ (1) لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم (2) و دفع:

لعلك تقول: أن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة: أنه من مقدماته: انسداد باب العلمي أيضا.

=============

الطريق و لو لم يصل أصلا - تعريض بشيخنا الأعظم و غيره؛ إذ الظاهر من كلامه «قدس سره»: أن لازم القول بالكشف هو الإهمال، فيحتاج تعميم النتيجة حينئذ إلى الوجوه التي ذكروها للتعميم.

قال الشيخ: «أما على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجية الظن في الجملة، فقد عرفت: أن الإهمال بحسب الأسباب و بحسب المرتبة، و يذكر للتعميم من جهتهما وجوه»، و ظاهره: أن الإهمال لازم للكشف و هو ملزوم له، و لم يكن للتفصيل بين الاحتمالات الثلاثة عين و لا أثر في كلماتهم، فأورد المصنف على ذكر ذلك: بأن تعميم النتيجة بما ذكروه على الاحتمال الأول: يتوجه التعيين بالوجهين الأولين، كما أنه يتم التعميم بالوجه الثالث بناء على الاحتمال الثالث فقط، و لا يخفى: أن المصنف قد أوضح ذلك بعبارة وافية في حاشيته على الرسائل.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

«الجهات» الثلاث و هي: الأسباب و الموارد و المرتبة «و لا محيص حينئذ» أي: حين كون الإهمال من جميع الجهات. «لو لم يكن بينها» أي: بين أطراف الاحتمال، و المراد بالأطراف: الطرق.

«متيقن الاعتبار»؛ إذ لو كان، كان هو الحجة دون غيره.

(1) أي: و إن لزم المحذور من الاحتياط فلا بد من التنزل من الكشف إلى حكومة العقل مطلقا.

وهم و دفع

(2) و هذا الوهم إشكال على ما تقدم على الكشف من التفصيل بين وجود القدر المتيقن الوافي بمعظم الفقه المتعين في الحجية و بين عدمه، فالنتيجة على الأول: جزئية، و على الثاني: كلية، فلا بد أولا: من تقريب هذا الإشكال، و ثانيا: من الجواب عنه.

ص: 21

لكنك غفلت (1) عن أن المراد (2): ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله (3) لأجل و أما تقريب الوهم - و هو الإشكال على التفصيل المزبور - فيقال: إنه لا مجال لدليل الانسداد مع وجود القدر المتيقن؛ إذ لو كان في الظنون ظن متيقن الاعتبار بمقدار واف لمنع ذلك عن دليل الانسداد من أصله، كيف ؟ و من مقدماته انسداد باب العلمي بمعظم الأحكام، و هو الظن المعلوم اعتباره المعبر عنه بالظن الخاص.

=============

و عليه: فينهدم أساس الانسداد بناء على وجود المتيقن الوافي؛ لما عرفت من: أن العمدة هو انسداد باب العلمي، و على تقدير وجود الطريق المتيقن الاعتبار - كخبر العدل أو الثقة - يفتح باب العلمي، فلا بد من رفع اليد إما عن هذا التفصيل يبقى الكلام على الانسداد سليما عن الإشكال، و إما من الخروج عن فرض الانسداد إلى الانفتاح و هو خلف. هذا تمام الكلام في تقريب الوهم.

و أما الدفع: فحاصله: أن وجود القدر المتيقن إنما ينافي الانسداد إذا لم يكن للانسداد دخل فيه، و أما إذا كان القدر المتيقن مستندا إلى الانسداد و معلولا له: فلا ينافيه؛ لامتناع أن يكون المعلول منافيا لعلته.

توضيح استناد القدر المتيقن إلى الانسداد: أن نتيجة الانسداد هي اليقين بنصب الطريق. و هناك يقين آخر و هو القطع بالملازمة بين نصب الطريق، و بين كون الطريق المنصوب هو القدر المتيقن، و هذا اليقين و إن لم يكن مستندا إلى دليل الانسداد؛ لكن اليقين الأول مستند إليه و هو كاف في دخالته في حصول القدر المتيقن؛ لأن اليقين بأحد المتلازمين دليل على الملازم الآخر، فاليقين بنصب الطريق شرعا - الذي هو نتيجة دليل الانسداد و أحد المتلازمين - دليل على حجية خبر العادل مثلا و هو الملازم الآخر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «أيضا» أي: كانسداد باب العلم، و ضمير «مقدماته» راجع على دليل الانسداد.

(1) هذا دفع الإشكال، و قد تقدم توضيح ذلك.

(2) أي: المراد بقوله: فيما تقدم: «لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار...».

(3) أي: من قبل دليل الانسداد، يعني: أن اليقين بالاعتبار ينشأ من ناحية دليل الانسداد لا غيره حتى ينافيه، و من المعلوم: أن اليقين بالاعتبار الذي هو معلول الانسداد لا ينافي عليته أصلا.

ص: 22

اليقين (1) بأنه لو كان شيء حجة شرعا كان هذا الشيء حجة قطعا، بداهة: أن (2) الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر؛ لا الدليل على الملازمة.

=============

(1) تعليل لحصول اليقين بالاعتبار من دليل الانسداد، يعني: أن الوجه في حصول اليقين باعتبار طريق مخصوص كخبر العادل من دليل الانسداد هو أن دلالة دليل الانسداد - الكاشف عن نصب طريق فرض كونه أحد المتلازمين - على الملازم الآخر و هو اعتبار المتيقن كخبر العادل أو الثقة إنما هي بواسطة اليقين بالملازمة المزبورة، الذي هو واسطة ثبوتية للدلالة المذكورة، فقوله: «لأجل اليقين» معناه: لأجل اليقين بالملازمة.

الضمير في قوله «بأنه» للشأن يعني: لو كان طريق حجة شرعا كان خبر الثقة حجة قطعا، و هذه القضية هي تقريب الملازمة المذكورة، و منشأ القطع باعتباره غلبة مطابقته للواقع، فالمراد من «شيء» الفرد المنتشر من الطريق، و من «الشيء» خصوص فرد معين كخبر العدل مثلا، و التقييد بقوله: «شرعا» لأجل ابتناء أصل التوهم على حجية الظن على نحو الكشف لا الحكومة.

(2) تعليل لكون المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبل دليل الانسداد، فهو في الحقيقة إشارة إلى دفع ما يمكن أن يتوهم في المقام من أن الإشكال المزبور - و هو كون القدر المتيقن الوافي منافيا لدليل الانسداد، لفرض: انفتاح باب العلمي حينئذ - لم يندفع بما تقدم من أن اليقين بالاعتبار مستند إلى دليل الانسداد، و هو كاف في انسداد باب العلمي أي: الظن الخاص.

وجه عدم الاندفاع: أن القطع بحجية ظن و إن كان مستندا إلى دليل الانسداد؛ لكن اليقين بالملازمة بينه و بين حجية خبر العادل مثلا مستند إلى الخارج لا إلى دليل الانسداد، فيعود المحذور و هو عدم انسداد باب العلمي و الظن الخاص.

توضيح دفع التوهم - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 38» - أن الدليل على التلازم بين شيئين ليس دليلا على وجود المتلازمين أو أحدهما حتى يعود المحذور، أعني:

انفتاح باب العلمي؛ و ذلك لأن دليل التلازم لا يثبت إلا الملازمة بين شيئين، و أما وجود نفس الشيئين المتلازمين، أو وجود أحدهما: فيحتاج إلى دليل آخر.

و في المقام نقول: إن الدليل على التلازم بين حجية طريق و حجية خصوص خبر العادل مثلا - كقوله: لو نصب الشارع طريقا لكان خبر العادل حجة - لا يستفاد منه إلا وجود العلقة بينهما واقعا، و أنه إذا ثبت أحدهما - و هو حجية الطريق - ثبت الآخر، أعني: حجية خبر العادل أيضا، و أما أن الطريق حجة فعلا؛ حتى يكون العادل حجة

ص: 23

فعلا لكونها لازمة لحجية الطريق: فلا يتكفله الدليل على التلازم المذكور؛ بل إنما يتكفله دليل الانسداد، و قد تقرر في محله: أن الدليل على وجود أحد المتلازمين دليل على وجود الآخر، و أما الدليل على أصل الملازمة بينهما: فلا يكون دليلا على وجودهما أو وجود أحدهما.

و السر فيه واضح، فإن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على وجود الطرفين أو أحدهما، أ لا ترى أن قوله «عليه السلام»: في حديث «و إذا قصرت أفطرت و إذا أفطرت قصرت»(1) إنما يدل على أصل الملازمة بين التقصير و الإفطار، و لا يكون دليلا على ثبوت الإفطار فعلا؟ بل ثبوته كذلك يحتاج إلى دليل آخر، و هو الدليل على وجوب القصر، فإن دل على وجوبه دليل: ثبت فعلا و ثبت وجوب الإفطار كذلك أيضا بمقتضى الملازمة بينهما؛ و إلا لم يثبت لعدم ثبوت القصر، و لا تنافي بين عدم ثبوته فعلا - لعدم ثبوت القصر كذلك - و بين ثبوت الملازمة بينهما واقعا؛ لما عرفت من: عدم توقف صدق الشرطية على ثبوت طرفيها.

و بهذا البيان ظهر: أن مقصود المصنف «قدس سره» بقوله: «إنما هو الدليل...» الخ.

هو: أن الدليل على ثبوت الملازمة بين شيئين لا يكون دليلا على وجودهما أو وجود أحدهما، بل الدليل على وجود أحدهما يكون هو الدليل على وجود الآخر، و كان هذا - أعني: تخيل أن ثبوت الملازمة دليل على ثبوت أحد المتلازمين - هو منشأ التوهم المزبور، فزعم أن المقصود حصول القدر المتيقن الوافي بمجرد ثبوت الملازمة، مع قطع النظر عن دليل الانسداد.

و ليس كما توهم؛ بل المقصود حجية المتيقن الاعتبار الثابت بدليل الانسداد المثبت لحجية طريق ما، فلا بد أولا من ملاحظة دليل الانسداد ليثبت شرعا حجية طريق ما حتى تثبت - بمقتضى الملازمة - حجية المتيقن الاعتبار، و عليه: فالدليل على الملازمة ليس دليلا على حجية خبر العادل المفروض كونه متيقن الاعتبار؛ بل الدليل على حجيته هو دليل الانسداد؛ لأنه دليل على ملازمة و هو اعتبار طريق ما.

و بالجملة: فتيقن الاعتبار إنما نشأ من دليل الانسداد بضميمة دليل الملازمة.

و إن شئت قلت: حجية القدر المتيقن - كخبر العادل في المثال - مستندة إلى الملازمة،

ص: 24


1- الفقيه 437:1 /ذيل ح 1269، تهذيب الأحكام 22:3 /ذيل ح 551، الوسائل 8: 503 /ذيل ح 11291.

ثم لا يخفى (1): أن الظن باعتبار ظن بالخصوص يوجب اليقين باعتباره من باب و دليل الملازمة مستند إلى الانسداد، فحجية القدر المتيقن مستندة إلى الانسداد.

=============

طرق تعميم النتيجة على الكشف

طرق تعميم النتيجة على الكشف(1) هذا شروع من المصنف «قدس سره» في مناقشة المعمم الأول، و غرض المصنف فعلا: هو التعرض لما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره». و من تقدم عليه؛ من جعل النتيجة بناء على الكشف مهملة بحسب الأسباب و الموارد و المرتبة، و تعميمها بحسب الموارد بالإجماع، بلا تفصيل بين ما للشارع فيه مزيد اهتمام و غيره. و أما بحسب الأسباب و المرتبة: فقد نقلت عنهم طرق ثلاثة لتعميم النتيجة.

فلا بد أولا: من الإشارة إلى تلك الطرق، و ثانيا: من بيان مناقشة المصنف و إشكاله عليها. و قد أشار المصنف إلى المعمم الأول و الثالث دون المعمم الثاني، و نذكر جميع المعممات الثلاثة قبل إشكال المصنف على الأول و الثالث منها.

فنقول: طرق تعميم النتيجة على الكشف هي ثلاثة:

الأول: أن الشيخ الأنصاري «قدس سره» لما اختار أن النتيجة على الكشف كلية بحسب الموارد، يعني بها: المسائل الفقهية، بدعوى: الإجماع القطعي على أن العمل بالظن لا يفرق فيه بين أبواب الفقه، و أنها مهملة بحسب الأسباب و المرتبة - إلى أن قال - «و يذكر للتعميم من جهتهما وجوه:

الأول: عدم المرجح لبعضها على بعض، فيثبت التعميم لبطلان الترجيح بلا مرجح، و الإجماع على بطلان التخيير، و التعميم بهذا الوجه يحتاج إلى ذكر ما يصلح أن يكون مرجحا و إبطاله - إلى أن قال - فنقول: ما يصلح أن يكون معينا أو مرجحا أحد أمور ثلاثة.

الأول: كون بعض الظنون متيقنا بالنسبة إلى الباقي، بمعنى: كونه واجب العمل على كل تقدير، فيؤخذ به و يطرح الباقي للشك في حجيته.

الثاني: كون بعض الظنون أقوى من بعض فتعين العمل عليه.

الثالث: كون بعض الظنون مظنون الحجية، فإنه في مقام دوران الأمر بينه و بين غيره يكون أولى من غيره؛ إما لكونه أقرب إلى الحجية من غيره، و إما لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع»(1). انتهى مورد الحاجة من بعض عبارات الشيخ «قدس سره»، و تركنا

ص: 25


1- فرائد الأصول 472:1-473.

مناقشته على المرجحات الثلاثة رعاية للاختصار. هذا ما أشار إليه بقوله: «إن الظن باعتبار ظن بالخصوص».

أما الثاني من طرق التعميم فحاصله: أنهم اعترفوا بعد تقسيم الظنون إلى مظنون الاعتبار و مشكوكه و موهومه بأن مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة و إن كان هو الاقتصار على مظنون الاعتبار، ثم على المشكوك، ثم يتعدى إلى الموهوم؛ إلا إن الظنون التي هي مظنونة الاعتبار غير كافية إما بأنفسها بناء على انحصارها في الأخبار الصحيحة، و إما لأجل العلم الإجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني المرادة منها، و وجود مخصصاتها و مقيداتها و القرائن لمجازاتها في ظنون مشكوكة الاعتبار، فلا بد بمقتضى قاعدة الانسداد، و لزوم المحذور من الرجوع إلى الأصول: من التعدي إلى ظنون مشكوكة الاعتبار، التي دلت على إرادة خلاف الظاهر من ظواهر ظنون مظنونة الاعتبار، فيعمل بما هو مشكوك الاعتبار مما هو مخصص لعمومات مظنون الاعتبار و مقيد لاطلاقاته، و قرائن لمجازاته، فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل لغيرها مما ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات التي هي مظنونة الاعتبار بالإجماع المركب؛ بل بالأولوية القطعية؛ لأنه إذا وجب العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار: فالعمل بما ليس له معارض أولى، ثم يقال بعين ذلك كله في التعدي إلى موهوم الاعتبار أيضا طابق النعل بالنعل.

و أما المعمم الثالث: فقد أشار إليه بقوله: «و أما تعميم النتيجة و حاصله: أنه بناء على الكشف يكون مقتضى العلم الإجمالي بنصب الطريق هو الاحتياط في جميع الأطراف، فالمعمم هو العلم الإجمالي الذي يقتضي الاحتياط.

و بالجملة: إن مقتضى قاعدة الاشتغال بناء على أن الثابت من دليل الانسداد و إن كان هو وجوب العمل بالظن في الجملة إلاّ إنه إن لم يكن هناك قدر متيقن واف في الفقه وجب العمل بكل ظن، سواء كان مظنون الاعتبار أو مشكوكه أو موهومه.

هذا تمام الكلام في طرق ثلاثة لتعميم النتيجة على الكشف.

ص: 26

و المصنف لم يتعرض إلى المرجح الأول في المقام، نعم؛ أشار إليه في ضمن كلماته السابقة بقوله: «لو لم يكن بينها ما هو المتيقن...» الخ، أو بقوله: «فلا بد من الاقتصار على متقين الاعتبار منها...» الخ.

و أما المرجح الثاني - و هو كون بعض الظنون أقوى من بعض - فهو مما يوجب اليقين بالاعتبار على الطريق الواصل بنفسه، فلا يكون باطلا، و إليه أشار بقوله: «و من هنا ظهر حال القوة...» الخ.

و أما المرجح الثالث - و هو الظن باعتبار بعض الظنون كما أشار إليه بقوله: «أن الظن باعتبار ظن بالخصوص...» الخ.

فحاصل الكلام فيه: أنه مما يوجب اليقين بالاعتبار على الطريق أو الواصل بنفسه؛ و إلا يلزم عدم الوصول، و هو خلف.

و قد تقدم منه: أنه على الطريق الواصل بنفسه لا إهمال في النتيجة بحسب الأسباب، فالكل حجة لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، فإذا ادعي في المقام أن الظن بالاعتبار مما يوجب اليقين بالاعتبار فقهرا تكون النتيجة على الطريق الواصل بنفسه جزئية بحسب الأسباب لا كلية، بمعنى: أنه تختص الحجية بمتيقن الاعتبار دون غيره و لو من ناحية الانسداد، و كذلك في المرجح الثاني، فتكون النتيجة على الطريق الواصل بنفسه جزئية أيضا بحسب المرتبة لا كلية، بمعنى: أنه تختص الحجية بالمرتبة القوية من الظن دون غيرها.

هذا تمام الكلام في رد المعمم الأول.

و أما الرد على المعمم الثالث فحاصله: أن التعميم بقاعدة الاحتياط إنما يتم على القول بكون النتيجة هي نصب الطريق و لو لم يصل أصلا إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان الجميع حجة، و لو كان هي الطريق الواصل و لو بطريقه أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط. هذا هو الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني من الرد على المعمم الثالث: فقد أشار إليه بقوله: «مع أن التعميم بذلك» أي بالعلم الإجمالي توضيح ذلك إن هذا التعميم لا يوجب العمل إلا بالطرق المثبتة للتكليف لموافقتها للاحتياط، و لا يقتضي العمل بالنافيات؛ لأنها مع الشك في حجيتها لا تصلح للمؤمنية، فلا يمكن الاعتماد عليها في رفع اليد عن الواقعيات؛ إلا إذا

ص: 27

دليل الانسداد على تقرير الكشف، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه حينئذ: يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أو لا.

و احتمال (1) عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، كان هناك ناف من جميع الأصناف، كما إذا قام خبر العادل و الإجماع المنقول و غيرهما على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، حيث إن الحجة قامت على نفي التكليف، فتصلح للمؤمنية.

=============

و بهذا أجاب الشيخ الأنصاري عن المعمم الثالث، حيث قال(1): «و لكن فيه أن قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظن معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعية، كما إذا اقتضى الاحتياط في الفرع وجوب السورة و كان ظن مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها، فإنه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع و قراءة السورة؛ لاحتمال وجوبها...»؛ كما في «منتهى الدراية ج 5، ص 49».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و الضمير في «باعتباره» راجع على «ظن بالخصوص»، و الضمير في قوله: «فإنه» للشأن. «حينئذ» أي: حين كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه. و الضمير في قوله:

«بكونه، و غيره» راجع إلى ظن بالخصوص كخبر العدل.

(1) إشارة إلى توهم، و هو: أن الظن باعتبار بعض الظنون - كالظن الحاصل من خبر العدل - لا يصلح لأن يوجب القطع باعتباره دون سائر الظنون الحاصلة من أسباب أخر؛ إذ المفروض: إن الظن الخبري مثلا لم يكن بنفسه حجة لو لا دليل الانسداد؛ لعدم تمامية أدلة حجية الخبر؛ و إلا لكان باب العلمي مفتوحا، فدليل حجية الخبر ليس إلا دليل الانسداد، و من المعلوم: أن شأنه اعتبار الظن مطلقا من أي سبب حصل عدا ما نهي عنه كالقياس؛ لا اعتبار خصوص الظن الخبري، و عليه: فقيام الظن على اعتبار بعض الظنون يكون بلا أثر، و لا يوجب اختصاص الحجية بالمظنون اعتباره.

قوله: «بالخصوص» يعني: من باب الظن الخاص لا بدليل الانسداد.

قوله: «لا ينافي» خبر لقوله: «و احتمال» و دفع للتوهم، توضيحه: أنه لا منافاة بين احتمال عدم حجيته بالخصوص و بين القطع بحجيته بملاحظة دليل الانسداد؛ إذ المفروض: أن هذا الفرد الخاص واجد لمزية لم تكن في سائر الأفراد، و هذه المزية - و هي الظن بالاعتبار - توجب اليقين باعتباره.

ص: 28


1- فرائد الأصول 497:1.

ضرورة (1): أنه على الفرض (2) لا يحتمل أن يكون غير حجة (3) بلا نصب قرينة؛ و لكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه (4) من خصوصية الظن بالاعتبار.

و بالجملة: الأمر يدور (5) بين حجية الكل و حجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.

و من هنا (6) ظهر حال القوة، و لعل نظر من رجح بها (7) إلى هذا...

=============

قوله: «بملاحظة الانسداد» متعلق ب «القطع»، و ضمير «بحجيته» راجع على «ظن بالخصوص».

(1) تعليل لقوله: «لا ينافي»، و حاصله: أنه مع فرض كون نتيجة دليل الانسداد نصب الطريق الواصل بنفسه لا يحتمل أن يكون غير الظن المظنون اعتباره حجة بدون القرينة؛ لكن يحتمل أن يكون مظنون الاعتبار حجة بدونها؛ لخصوصية الظن باعتباره.

و ضمير «أنه» للشأن.

(2) و هو كشف دليل الانسداد عن الطريق الواصل بنفسه.

(3) أي: لا يحتمل حجية غير هذا الظن الخبري مثلا بلا نصب قرينة، أي: دليل يخصص الحجية به؛ لتساوي جميع الظنون في الحجية بدليل الانسداد، و قبح الترجيح بلا مرجح.

(4) تعليل لقوله: «و لكنه...»، و ضمير «فيه» راجع على «ظن بالخصوص»، و «من خصوصية» بيان للموصول.

(5) يعني: يدور الأمر - بملاحظة دليل الانسداد - بين حجية جميع الظنون فيكون الظن المظنون اعتباره حجة؛ لكونه من جملتها، و بين حجية خصوص الظن المظنون اعتباره - دون سائر الظنون - لكونه ذا مزية، و هي قيام الظن على اعتباره، فبدليل الانسداد يكون الظن المظنون اعتباره مقطوع الاعتبار؛ لكونه حجة على كلا التقديرين.

فالضمير المستتر في «فيكون» راجع على الظن المظنون اعتباره.

(6) أي: و من صيرورة ظن مقطوع الاعتبار لقيام ظن على اعتباره: ظهر حال الترجيح بالقوة، و صحة الاتكال عليها في تعيين الطريق و حاصله: أنه إذا كان بعض الظنون أقوى من بعض كالظن الحاصل من الخبر بالنسبة إلى الشهرة الفتوائية مثلا أمكن الترجيح به؛ كالترجيح بالظن بالاعتبار؛ لصحة الاعتماد عليه في تعيين الطريق، فيكون الظن القوي لاشتماله على خصوصية القوة متيقن الاعتبار، و غيره مشكوك الاعتبار.

(7) أي: بالقوة و بناء على تثنية الضمير كما في بعض النسخ، فالضمير راجع على القوة و الظن بالاعتبار، و الصحيح هو تثنية الضمير؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 44».

ص: 29

الفرض (1)، و كان منع شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» عن الترجيح بهما (2) بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل و لو بطريقه أو الطريق و لو لم يصل أصلا، و بذلك (3) يوفق بين كلمات الأعلام في المقام، و عليك بالتأمل التام.

=============

(1) أي: فرض كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه، و هذا إشارة إلى ما وقع من الخلاف - في جواز الترجيح بكل من الظن بالاعتبار و بالقوة - بين المحقق القمي و الفاضل النراقي و غيرهما المجوزين للترجيح بهما على ما نسب إليهم، و بين الشيخ المانع عن الترجيح بهما، فإنه «قدس سره» بعد بيان المرجحات المتقدمة ناقش فيه، فقال معترضا على الترجيح بالقوة: «إن ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر... إلى أن قال: مع أن كون القوة معينة للقضية المجملة محل منع؛ إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره؛ كما هو المشاهد في الظنون الخاصة، فإنها ليست على الإطلاق أقوى من غيرها بالبديهة... إلى أن قال: فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونه هو المجعول...».

و قال معترضا على الترجيح بالظن بالاعتبار ما لفظه: «إن الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوة و الضعف في أن مداره على الأقرب إلى الواقع، و حينئذ: فإذا فرضنا كون الظن الذي لم يظن بحجيته أقوى ظنا بمراتب من الظن الذي ظن حجيته فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني...».

و المصنف «قدس سره» يريد أن يجمع بين تجويز الترجيح و المنع عنه بجعل النزاع لفظيا، بأن يقال: إن مراد الشيخ المانع من الترجيح هو: عدم الترجيح فيما إذا كانت النتيجة الطريق الواصل؛ و لو بطريقه أو حجية الطريق و لو لم يصل أصلا، و مقصود المجوزين هو: الترجيح به إذا كانت النتيجة الطريق الواصل بنفسه؛ إذ لو لم يكن الظن بالاعتبار و القوة معينين لما نصبه الشارع مع تقدم المظنون اعتباره، و الظن القوي على غيره من الظنون لم يكن الطريق واصلا بنفسه، و هو خلاف الفرض.

(2) أي: بالظن بالاعتبار و بالقوة، أو بالقوة بناء على النسخة الثانية.

(3) أي: «و بالتوجيه الذي ذكرناه من احتمال اختلاف المباني ربما يوفق...» الخ.

و قد عرفت توضيح التوجيه بقولنا: «و المصنف يريد أن يجمع بين تجويز الترجيح و المنع عنه بجعل النزاع لفظيا...» الخ.

و كيف كان؛ فقد تحصّل من مجموع ما أفاده المصنف: أن الترجيح بالظن بالاعتبار و بالقوة إن تم فلازمه كون النتيجة معينة و هي جزئية؛ إذ المفروض: عدم حجية الظن

ص: 30

ثم لا يذهب عليك: أن الترجيح بها (1) إنما هو على تقدير كفاية الراجح (2)، و إلا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار (3) الكفاية، فيختلف الحال باختلاف الأنظار (4)؛ بل الأحوال.

و أما تعميم النتيجة (5) بأن قضية العلم الإجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه:

=============

الفاقد للمزية، و إن نوقش في الترجيح بهما - كما أفاده الشيخ الأعظم حيث ناقش في جميع المرجحات الثلاثة - كانت النتيجة كلية بمعنى حجية كل ظن، و هذا هو المراد بالتعميم.

(1) أي: بالقوة، و كان الأولى تثنية الضمير حتى يرجع إلى كل من الظن بالاعتبار و القوة؛ بأن يقال: «إن الترجيح بهما»؛ كما في بعض النسخ.

(2) بحيث يجوز الرجوع في غير مورد الراجح إلى الأصول النافية للتكليف من دون محذور، و أما على تقدير عدم كفاية الظن الراجح: فلا بد من التعدي عنه إلى غيره، فيكون عدم كفاية الظن الراجح معمما للنتيجة، و موجبا لحجية كل ظن، و هذا معنى قوله: «و إلا فلا بد من التعدي...» الخ.

و هذا أعني: عدم كفاية الظن الراجح هو: المعمم الثاني ذكره الشيخ الأعظم بقوله:

«الثاني من طرق التعميم ما سلكه غير واحد من المعاصرين من عدم الكفاية، حيث اعترفوا بعد تقسيم الظنون إلى مظنون الاعتبار و مشكوكه و موهومه: بأن مقتضى القاعدة - بعد إهمال النتيجة - الاقتصار على مظنون الاعتبار، ثم على المشكوك، ثم التعدي إلى الموهوم؛ لكن الظنون المظنون اعتبارها غير كافية...» الخ.

(3) متعلق ب «التعدي»، و ضمير «غيره» راجع على الراجح.

(4) فبنظر يكفي مظنون الاعتبار، و بنظر آخر لا يكفي.

و بعبارة أخرى: ربما يكون الظن بالاعتبار الموجب للترجيح حاصلا بنظر شخص دون غيره، أو الظن الراجح كافيا بنظر شخص دون نظر آخر؛ بل يختلف ذلك باختلاف الأحوال أيضا؛ بأن يكون شخص واحد يكفي عنده الظن الراجح بمعظم المسائل أو جميعها في حال، و لا يكفي في حال آخر، أو يكون الظن راجحا في حال و غير راجح في حال آخر.

(5) هذا هو الطريق الثالث من طريق تعميم النتيجة، و قد ذكره الشيخ بقوله:

«الثالث من طرق التعميم: ما ذكره بعض مشايخنا «طاب ثراه» من قاعدة الاشتغال، بناء على أن الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظن في الجملة، فإذا لم يكن قدر

ص: 31

فهو (1) لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق و لو لم يصل أصلا.

مع إن التعميم بذلك (2) لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافيات (3)؛ إلا فيما كان هناك ناف من جميع الأصناف (4)، ضرورة (5): إن متيقن كاف في الفقه وجب العمل بكل ظن...». و حاصله: أنه بناء على الكشف يكون مقتضى العلم الإجمالي بنصب الطريق هو الاحتياط في جميع الأطراف، فالمعمم هو العلم الإجمالي.

=============

(1) أي: فتعميم النتيجة، و هذا جواب قوله: «و أما تعميم النتيجة»، و ردّ للمعمم الثالث بوجهين: أحدهما: ما أفاده هنا و في حاشية الرسائل من اختصاص هذا المعمم بما إذا كانت النتيجة بناء على الكشف الطريقي و لو لم يصل أصلا؛ إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان الجميع حجة، و لو كانت هي الطريق الواصل و لو بطريقه أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 48».

(2) أي: بالعلم الإجمالي، و هذا ثاني وجهي رد المعمم الثالث.

وجه عدم المنافاة: أن النافي ليس مقتضيا للعمل به؛ حتى يكون مزاحما للاحتياط في المسألة الفرعية من باب تزاحم المقتضيين حتى يقدم الاحتياط في المسألة الفرعية، أعني:

ص: 32

الاحتياط فيها لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا (1) لزم حيث (2) لا ينافيه كيف (3)؟ و يجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية كما لا يخفى، فما ظنك بما لا يجب الأخذ بموجبه (4) إلا من باب الاحتياط؟...

=============

المثبت للتكليف، بأن يقال: إن الاحتياط في المسألة الفقهية يقتضي الفعل، و الاحتياط في المسألة الأصولية يقتضي الترك، فيتزاحم المقتضيان، و يقدم الأول أعني: الاحتياط في المسألة الفقهية.

وجه عدم المزاحمة: ما عرفت من: أن الحجة النافية لا ترفع حسن الاحتياط بالفعل، كما إذا قامت أمارة معتبرة على عدم وجوب السورة في الصلاة، فإنها لا تزاحم حسن الاحتياط بفعلها؛ إذ موضوع الاحتياط هو احتمال المطلوبية، و هو باق في صورة قيام معلوم الحجة على نفي التكليف فضلا عن مشكوكها، و حيث كانت مطلوبية الاحتياط بالفعل باقية حتى بعد قيام الحجة النافية للتكليف جاز العمل بالنافية، مع بقاء حسن العمل بالمثبتة أيضا.

(1) ظرف للاحتياط في المسألة الفرعية، و الضمير المستتر في «لزم» راجع على الاحتياط، و ضمير «فيها» إلى النافيات، يعني: أنه إذا كان التكليف الإلزامي محتملا في المسألة الفرعية لزم الاحتياط فيها؛ و إن قام مشكوك الاعتبار على نفيه، كما إذا قلنا بوجوب الاحتياط في الأقل و الأكثر الارتباطيين على ما هو مذهب جمع.

و وجه عدم اقتضاء النافيات: رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية ما عرفته من:

أن النافيات لا تقتضي الترك و لا الأمن من العقوبة.

(2) تعليل لقوله: «لا يقتضي»، و الأولى إبداله ب «لأنه لا ينافيه» دفعا لاحتمال كونه ظرفا يعني: أن النافي للتكليف لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية كما عرفت توضيحه.

(3) أي: كيف ينافي مشكوك الاعتبار الاحتياط في المسألة الفرعية ؟ و الحال أن النافي المعلوم اعتباره لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية، فغرضه من قوله: «كيف ؟» هو: أن مشكوك الحجية ليس بأقوى من معلوم الحجية، فكما أن معلوم الاعتبار لا ينافي حسن الاحتياط بالفعل فكذلك مشكوك الاعتبار لا ينافيه بطريق أولى. و ضمير «فيها» راجع على المسألة الفرعية.

(4) بفتح الجيم أي: مقتضاه، و ضميره راجع على الموصول في «بما» المراد به النافي، و حاصله - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 51» - أنه إذا جاز الاحتياط مع قيام

ص: 33

فافهم (1).

=============

و إنما الخلاف في أن حكمه هذا هل هو من باب الكشف، بمعنى: أن العقل يكشف جعل الشارع الظن حجة حال الانسداد أم من باب الحكومة بمعنى: أن العقل بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم بحجية الظن حال الانسداد كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح.

إذا عرفت معنى الكشف و الحكومة فنقول: أن غرض المصنف من هذا الفصل بيان أمرين: أحدهما: أن نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن من باب الكشف أم الحكومة ؟

و ثانيهما: بيان ما يترتب على الكشف و الحكومة من إهمال النتيجة و تعيينهما.

و كيف كان؛ فحاصل الكلام في المقام: إن مقتضى مقدمات الانسداد هل هو استكشاف كون الظن حال الانسداد طريقا منصوبا من قبل الشارع للوصول إلى التكاليف المعلومة بالإجمال، أو أن مقتضاها استقلال العقل في الحكم بحجية الظن حال الانسداد؛ كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح، و مختار المصنف هو: الحجية من باب الحكومة.

استدلال المصنف على الحكومة:

الحجة على نفي التكليف فكيف لا يجوز مع ما لا يجب الأخذ بمقتضاه إلا من باب الاحتياط لكونه مشكوك الاعتبار؟

(1) لعله إشارة إلى ضعف الجواب الثاني؛ لأن دليل الانسداد يقتضي حجية الطرق المثبتة للأحكام على ما هو مقتضى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة المقدسة، و ليس حجية الطرق النافية للتكليف نتيجة له حتى يتم ما ذكر في الجواب الثاني، فالعمدة في الجواب عن المعمم الثالث هو الوجه الأول.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان معنى الكشف و الحكومة قبل بيان ما هو المقصود بالأصالة، - أعني: إهمال النتيجة و كليتها - فيقال: إنه لا ريب في أن مقتضى مقدمات دليل الانسداد هو حكم العقل بجواز العمل بالظن مطلقا.

إن مقدمات الانسداد لا تنتج حجية الظن شرعا من باب الكشف؛ بل تنتج حجية الظن عقلا من باب الحكومة؛ إذ بعد تمامية مقدمات الانسداد - و منها بطلان الاحتياط -

ص: 34

تصل النوبة إلى المقدمة الخامسة - و هي: قبح ترجيح المرجوح على الراجح، - المقتضية لتعين الإطاعة الظنية عقلا.

و مع هذا الحكم العقلي في مقام الإطاعة لا حاجة إلى حكم الشارع بحجية الظن.

فالمتحصل: أن النتيجة هي حجية الظن في مقام الإطاعة بمعنى: حكم العقل بعدم جواز مطالبة المولى من العبد بأزيد من الإطاعة الظنية، و عدم جواز اقتصار العبد على ما دون الإطاعة الظنية من الإطاعة الشكية و الوهمية.

3 - توهم: إثبات حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، بمعنى: أن العقل قد حكم باعتبار الظن حال الانسداد، فيستكشف من حكمه هذا بقاعدة الملازمة: أن الشارع قد حكم باعتباره في هذا الحال أيضا؛ مدفوع: بأن قاعدة الملازمة أجنبية عن المقام - أعني: الإطاعة الظنية التي هي من مراتب الإطاعة - لأن الإطاعة غير قابلة للحكم المولوي، فلا تجري القاعدة فيها.

وجه عدم القابلية: أن الحكم المولوي متقوم بشرطين مفقودين في المقام.

أحدهما: أن يكون متعلقه فعل العبد لا فعل المولى.

ثانيهما: أن يترتب على تعلقه بالفعل فائدة غير الفائدة التي تترتب على نفس الفعل عقلا أو تكوينا، و حيث إن هذين الشرطين مفقودان فيما نحن فيه - أعني: الإطاعة الظنية، و وجه عدم تحققهما فيه: أن الإطاعة الظنية تنحل إلى أمرين: أحدهما: عدم وجوب الإطاعة العلمية لعدم تمكن العبد منها فلا يجوز العقاب على تركها.

ثانيهما: عدم جواز الاقتصار بما دون الإطاعة الظنية. و شيء من هذين الأمرين لا يصلح أن يتعلق به الحكم المولوي؛ لأن الأول - أعني مطالبة الإطاعة الظنية و عدم المؤاخذة على تركها - من أفعال الشارع، و فعل الشارع لا يكون موردا لحكمه، فالحكم بقبح المؤاخذة على الترك هو من العقل لا من الشارع.

و أما الثاني: فلأنه و إن كان قابلا لحكم الشرع في نفسه من جهة أن الإطاعة الظنية أو الشكية و الوهمية من العبد؛ لكن لا يترتب على تعلق الحكم به شرعا فائدة لم يكن أيضا قابلا للحكم المولوي؛ لأن الفائدة - و هو إيجاد الداعي في نفس العبد إلى العمل - حاصل بحكم العقل، فلا يكون إيجاد الداعي من الشارع بالأمر إلا طلب الحاصل المحال.

نعم؛ لا بأس بأن يكون حكم الشارع إرشادا إلى ما حكم به العقل.

ص: 35

أما توهم: عدم قابلية الإطاعة الظنية للحكم الظنية للحكم المولوي إنما هو فيما إذا لوحظ الظن طريقا لإحراز الواقع. و أما إذا لوحظ الظن موضوعيا؛ بحيث يترتب الثواب على موافقته و العقاب على مخالفته، مع قطع النظر عن الواقع كسائر الأحكام الظاهرية:

أما عدم الإهمال بحسب الموارد - أعني: المسائل الفقهية - فلأن المتيقن من حكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية هو: ما إذا لم يكن للشارع مزيد اهتمام به؛ إذ لو كان كذلك - كما في النفوس و الأعراض و الأموال - لم يستقل العقل بكفاية الظن فيه، و حيث كان لحكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية حال الانسداد قدر متيقن بحسب الموارد كانت النتيجة جزئية معينة أيضا لا مهملة.

و أما عدم الإهمال بحسب المرتبة: فلأن النتيجة هي حجية خصوص الظن الاطمئناني إن كان وافيا؛ و إلا فيتعدى عنه إلى غيره بمقدار الكفاية.

ص: 36

فالمتحصل: أن النتيجة بحسب المرتبة أيضا معينة جزئية؛ لا أنها مهملة. هذا تمام الكلام على الحكومة.

6 - أما على تقرير الكشف: فتختلف النتيجة من حيث الإهمال و التعيين باختلاف الوجوه المتصورة في نصب الطريق الظني، و هي ثلاثة:

الوجه الأول: أن المنصوب هو الطريق الواصل بنفسه، بمعنى: كون المقدمات الجارية في الأحكام موجبة للعلم بجعل الشارع طريقا معينا واصلا بنفسه، فلا حاجة في تعيين ذلك الطريق إلى غير المقدمات الجارية في نفس الأحكام.

الوجه الثاني: أن المنصوب هو الطريق الواصل بطريقه، بمعنى: كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا معينا إلى الأحكام؛ و لو فرض تعينه لنا بغير هذه المقدمات مما يوجب العلم بتعينه كإجراء مقدمات الانسداد مرة ثانية في نفس الطريق للكشف عنه.

الوجه الثالث: أن يستكشف بالمقدمات نصب طريق إلى الأحكام واقعا، بمعنى:

كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام، و لو لم يصل إلينا، و لم يتعين لنا لا بنفسه و لا بطريق يؤدي إليه كانسداد آخر جار في نفس الطريق.

إذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فاعلم: أنه لا إهمال في النتيجة على الوجه الأول بحسب الأسباب، و هي إما كلية و إما جزئية.

أما الأول: فهو ما إذا لم يكن بينها ما هو متيقن الاعتبار، أو كان و لكن لم يف بمعظم الفقه، فحينئذ: تكون النتيجة هي حجية الظن الحاصل من أي سبب؛ عدا ما نهى الشارع عن اتباعه كالقياس.

و أما الثاني: فهو ما إذا كان بين الأسباب متيقن الاعتبار، كخبر العادل مثلا؛ و على كلا التقديرين: تكون النتيجة معينة غير مهملة. و كذلك تكون النتيجة كلية معينة بحسب الموارد.

و أما بحسب المرتبة: فالنتيجة مهملة؛ لاحتمال كون الطريق المنصوب هو خصوص الظن الاطميناني، و مع هذا الاحتمال يتردد الطريق المنصوب بين مطلق الظن و الظن الاطميناني، فتكون النتيجة مهملة.

و أما على الوجه الثاني: فلا إهمال في النتيجة بحسب الأسباب لو لم يكن بينها تفاوت، أو لم يكن هناك إلا سبب واحد.

ص: 37

و أما على تقدير التفاوت بينها: فلا بد من الأخذ بما هو متيقن الاعتبار، و لا إهمال فيها.

و أما بحسب الموارد: فهي عامة بالنسبة إلى الموارد؛ كالطريق الواصل بنفسه.

و أما بحسب المرتبة: فهي مهملة؛ لما تقدم في الطريق بنفسه من احتمال حجية خصوص الظن الاطميناني، أو التعدي منه إلى غيره إذا لم يكن وافيا. و أما على الوجه الثالث: فالنتيجة مهملة من جميع الجهات، أعني: الأسباب و الموارد و المرتبة.

- توهم: الإشكال على التفصيل - بين وجود القدر المتيقن و غيره، بمعنى: أن تكون النتيجة كلية على الأول و جزئية على الثاني، بتقريب: أنه لا مجال لدليل الانسداد مع القدر المتيقن؛ لكونه مستلزما لانفتاح باب العلمي. و عليه: فينهدم أساس الانسداد؛ إذ العمدة هو انسداد باب العلمي، فلا بد من رفع اليد عن هذا التفصيل المذكور - مدفوع بأن وجود القدر المتيقن مستند إلى الانسداد و معلول له، فلا ينافيه لامتناع أن يكون المعلول منافيا لعلته.

8 - قد أشار المصنف إلى طريقين من طرق تعميم النتيجة على الكشف ثم أورد عليهما.

الأول: كون بعض الظنون متيقن الاعتبار، بمعنى: كونه واجب العمل على كل تقدير فيؤخذ به، و يطرح غيره للشك في حجيته.

أما الطريق الأول: فحاصله: عدم المرجح بحسب الموارد؛ إذ ليس هناك مرجح لبعضها على بعض؛ لأن ما يصلح أن يكون مرجحا أحد أمور:

الثاني: كون بعض الظنون أقوى من بعض، فيتعين العمل به.

الثالث: كون بعض الظنون مظنون الحجية، فهو أولى من غيره فيؤخذ به؛ لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع.

و حاصل إيراد المصنف: أن هذا المعمم مبني على بطلان المرجحات الثلاثة، فيكون باطلا مع صحة المرجحات المذكورة كلا أو بعضا.

أما الطريق الثاني: فهو التعميم بقاعدة الاحتياط، و مقتضاها هو: الأخذ بجميع أطراف العلم الإجمالي.

و حاصل إيراد المصنف عليه: أن التعميم بقاعدة الاحتياط إنما يتم على القول بكون النتيجة هي الطريق و لو لم يصل أصلا؛ إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان

ص: 38

الجميع حجة. و لو كانت هي الطريق الواصل و لو بطريقه: أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط. هذا مع أن هذا التعميم لا يوجب العمل إلا بالطرق المثبتة للتكليف لموافقتها للاحتياط، دون الطرق النافية لأنها مع الشك في حجيتها لا تصلح للمؤمنيّة، فلا يمكن الاعتماد عليها في رفع اليد عن الواقعيات إلا إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - إن حجية الظن على فرض تمامية مقدمات الانسداد إنما هي من باب الحكومة لا من باب الكشف.

2 - عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة؛ لا من حيث الأسباب و لا الموارد و لا المرتبة.

ص: 39

ص: 40

فصل

قد اشتهر الإشكال بالقطع بخروج القياس (1) عن عموم نتيجة دليل الانسداد

=============

فصل إشكال خروج القياس من عموم النتيجة

الثاني: استقلال العقل بكون الظن في حال الانسداد كالعلم - في حال الانفتاح - مناطا للإطاعة و المعصية.

الثالث: أن القياس مفيد للظن بالحكم.

الرابع: منع الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

(1) و قبل الخوض في الإشكال ينبغي بيان ما هو مورد للإشكال، فنقول: إنه قد عرفت احتمالين في نتيجة مقدمات الانسداد، و هما حجية الظن من باب الحكومة أو الكشف، فمورد الإشكال هو خروج الظن الحاصل من القياس عن عموم حجية الظن بدليل الانسداد بناء على الحكومة؛ إذ لا إشكال في خروجه بناء على الكشف؛ إذ المفروض: أن حجية الظن حينئذ تكون بجعل الشارع، فله إثبات الحجية لبعض الظن، و نفيها عن الآخر حسبما تقتضيه المصلحة في نظره.

و عليه: فالعقل لا يستكشف حينئذ عن حجية ظن نهي الشارع عنه كالقياس، فلا يكون الظن القياسي طريقا منصوبا من قبل الشارع لإثبات الأحكام أو نفيها؛ بل الحجة هو ما عداه من الظنون.

و كيف كان؛ فالغرض من عقد هذا الفصل: بيان خروج الظن القياسي من عموم حجية الظن بدليل الانسداد على الحكومة لا على الكشف.

و أما توضيح الإشكال: فيتوقف على مقدمة و هي أمور:

الأول: بيان الفرق بين الأحكام العقلية و بين غيرها، و هو: أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، فلا يصح أن يقال: إن العقل يحكم باستحالة اجتماع النقيضين إلا في مورد فلان. هذا بخلاف غيرها من الأحكام غير العقلية، حيث يصح أن يقال: إن شرب الخمر حرام شرعا إلا إذا كان لأجل التداوي. و كل فاعل مرفوع إلا الفاعل في «و كفى بالله شهيدا».

ص: 41

بتقرير الحكومة، و تقريره (1) على ما في الرسائل (2): أنه كيف يجامع حكم العقل الخامس: أنه لو جاز المنع عن العمل بالظن القياسي لجاز المنع عن العمل بسائر الظنون؛ لما هو المعروف من: أن حكم الأمثال فيما يجوز و لا يجوز واحد. فلا يستقل العقل حينئذ بالعمل بالظن أصلا؛ لاحتمال النهي عن غير الظن القياسي من الظنون أيضا.

=============

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم: أنه يمكن أن يقال في توضيح الإشكال: إنه مع استقلال العقل بكون مطلق الظن حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح مناطا للإطاعة و العصيان - كما هو مقتضى الأمر الثاني - كيف يمكن منع الشارع عن بعض أفراد الظن - و هو القياس - مع أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص - كما هو مقتضى الأمر الأول ؟ إذ لو صح هذا المنع لزم أحد محذورين:

الأول: التخصيص في حكم العقل و هو باطل.

الثاني: الخلف بتقريب: أنه لو صح منع الشارع عن الظن القياسي لصح منعه عن غيره من الظنون أيضا؛ بمقتضى وحدة حكم الأمثال في الجواز و المنع، و مع قيام احتمال المنع عن غير الظن القياسي لا يستقل العقل بحجية الظن أصلا و هو الخلف؛ لأنه على خلاف ما فرضناه من استقلال العقل باعتبار الظن حال الانسداد.

و كيف كان؛ فالحاصل: أن خروج القياس عن عموم نتيجة مقدمات الانسداد ينافي استقلال العقل بحجية الظن مطلقا حال الانسداد، و قد فرضنا استقلاله بها كذلك.

هذا غاية ما يمكن أن يقال: في توضيح إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «بالقطع» متعلق بالإشكال، و الباء للسببية، يعني: أن الإشكال ينشأ من القطع بخروج القياس عن عموم النتيجة.

(1) أي: تقرير الإشكال، و المستفاد من هذا التقرير: أمور تقدم ذكرها في المقدمة لتوضيح الإشكال.

(2) للشيخ الأنصاري «قدس سره»، و هذا الإشكال إنما هو على تقرير الحكومة.

فحاصل ما أفاده الشيخ في تقرير الإشكال: أنه كيف يخرج عن تحت عمومه ؟ مع أن حكم العقل مما لا يقبل التخصيص و رفع حكمه عن موضوعه مما لا يمكن إلا إذا

ص: 42

بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة و المعصية، و يقبح على الآمر و المأمور التعدي عنه، و مع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس، و لا يجوّز (1) الشارع العمل به ؟ فإن المنع (2) عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى (3) في غير القياس، فلا يكون (4) العقل مستقلا (5)؛ إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس و اختفى علينا، و لا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك (1) انتفى الموضوع، فينتفى الحكم بانتفائه، و السر في عدم جواز تخصيص حكم العقل هو لزوم التناقض؛ بتقريب: أن العقل إذا حكم حكما عاما بنحو يشمل هذا الفرد بعينه، ثم خصصنا حكمه و رفعناه عن هذا الفرد لزم التناقض بين حكمه و بين التخصيص.

=============

و هذا بخلاف التخصيص في العمومات اللفظية، فإن التناقض فيها صوري لا جدي، و حكم العقل ليس من قبيل اللفظ كي يعقل فيه التناقض.

قوله: «حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة و المعصية» إشارة إلى الأمر الثاني من الأمور المذكورة في المقدمة. و ضمير «عنه» راجع على الظن. يعني: فلا يجوز للآمر - و هو الشارع - مطالبة العبد بأكثر من الإطاعة الظنية، كما لا يجوز للمأمور الاقتصار بما دونها من الإطاعة الشكية و الوهمية.

قوله: «و مع ذلك» إشارة إلى الأمر الثالث. أي و مع كون الظن مناطا للإطاعة و المعصية «يحصل الظن من القياس...».

(1) إشارة إلى الأمر الرابع، و هذه الجملة في موضع المفعول لقوله: «كيف يجامع» فالأولى أن يقال: «كيف يجتمع حكم العقل... مع نهي الشارع عن العمل به...؟».

ص: 43

على الشارع؛ إذ (2) احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه، و هذا (3) من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص(1). انتهى موضع الحاجة من كلامه «زيد في علو مقامه».

و أنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال (4) بعد وضوح كون حكم العقل بذلك

=============

(1) هذا إشارة إلى النهي يعني: و لا دفع لاحتمال نهي الشارع عن أمارة مثل ما نهى عن القياس إلا قبح النهي عليه الموجب لامتناعه حال الانسداد فإن احتمال صدور أمر ممكن ذاتا عن الحكيم من قبيل مؤاخذة من لا ذنب له و نحوه؛ مما لا يرتفع إلا بقبحه عليه، فيستحيل صدوره منه و وقوعه في الخارج.

(2) تعليل لانحصار دافع احتمال النهي في قبحه على الشارع؛ لأنه الموجب لامتناعه.

(3) إشارة إلى الأمر الأول من الأمور المذكورة في المقدمة، يعني: و حكم العقل بحجية الظن في حال الانسداد على الحكومة من أفراد القاعدة الكلية و هي: أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص.

(4) هذا إشارة إلى جواب إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة الانسداد.

توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن الإشكال المذكور بتقرير الحكومة: يتوقف على مقدمة و هي إن للعقل حكمين: أحدهما: تنجيزي و الآخر تعليقي، و هو ما يكون حكم العقل معلقا على عدم نهي الشارع عن ظن بالخصوص، فلو نهى الشارع عن العمل به لم يبق موضوع الحكم العقل بحجية مطلق الظن، فينتفي حكمه حينئذ من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فيكون خروج ما نهى عنه الشارع من باب التخصص لا من باب التخصيص، بمعنى: بقاء موضوع حكمه مع ارتفاع حكمه حتى يقال: إن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن خروج الظن القياسي شرعا لا ينافي استقلال العقل بالحكم بحجية الظن؛ لأن حكمه هذا يكون تعليقيا لا تنجيزيا، و المنافاة إنما تكون في الحكم التنجيزي دون التعليقي؛ لأن حكم العقل في كيفية الإطاعة لما كان لأجل تحصيل الأمن من تبعات تكاليف الشارع فهو معلق على عدم حكم الشارع نصبا و ردعا، فإذا أمر بالعمل بطريق لا يفيد الظن فلا إشكال في عدم حكم العقل بقبح الأخذ به مع حكمه بالقبح في صورة عدم أمر الشارع به، فكما يكون حكم العقل معلقا على عدم

ص: 44


1- فرائد الأصول 516:1-517.

معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا، و عدم حكمه به فيما كان هناك منصوب و لو كان أصلا.

بداهة (1): أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم و لا علمي، فلا موضع لحكمه مع أحدهما (2)، و النهي (3) عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شيء؛ بل نصب الشارع فكذلك يكون معلقا على عدم ردعه عن ظن، فلا منافاة بين خروج بعض الظنون - لنهي الشارع عنه - و بين استقلال العقل باعتبار الظن في حال الانسداد.

=============

فالمتحصل: أن خلاصة القول في جواب الإشكال أن يقال: إن حكم العقل بلزوم اتباع الظن في حال الانسداد ليس إلا على نحو التعليق بعدم المنع عنه شرعا، فلا مجال له مع المنع.

و المشار إليه في قوله: «بذلك» هو: اعتبار الظن بدليل الانسداد، فمعنى العبارة: أن حكم العقل «بذلك» أي: باعتبار الظن بدليل الانسداد يكون «معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا».

و ضمير «حكمه» راجع على العقل، و ضمير «به» إلى اعتبار الظن.

و أما تعليقه على عدم نهي الشارع عن العمل بظن كالقياس: فلا مجال له؛ لأنه ليس كنصب الطريق موجبا لانفتاح باب العلمي حتى يصح تعليق حكم العقل عليه.

و «كان» في قوله: «فيما كان» تامة بمعنى: وجد، يعني: و بعد وضوح عدم حكم العقل باعتبار الظن في صورة نصب الشارع طريقا؛ و لو كان ذلك الطريق أصلا.

(1) تعليل لكون حكم العقل باعتبار الظن حال الانسداد تعليقيا.

(2) أي: فلا موضع لحكم العقل بحجية الظن مع وجود العلم أو العلمي.

(3) يعني: أن حكم العقل معلق على عدم الردع كتعليقه على عدم النصب.

و هذا الكلام إشارة إلى وهم و دفعه، فلا بد من توضيح الوهم قبل الدفع.

و توضيحه: أن تعليق حكم العقل بحجية الظن على عدم نصب الشارع طريقا في محله، حيث إن النصب يهدم انسداد باب العلمي الذي هو من مقدمات دليل الانسداد، و يوجب انفتاحه.

و حاصل الدفع: الذي أشار إليه بقوله: - «ليس إلا...» الخ - أن النهي عن ظن ناش عن سبب خاص كالقياس ليس إلا كنصب طريق، حيث إنه بعد النهي عنه لا يصلح لأن يقع به الامتثال، فلا يكون مؤمّنا؛ بل يمكن أن يقال: إن النهي عن ظن يستلزم نصب طريق لامتثال الحكم الواقعي حتى لا تفوت مصلحته، فعليه: يكون النهي عن

ص: 45

هو (1) يستلزمه فيما كان في مورده (2) أصل شرعي، فلا يكون (3) نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه؛ بل به (4) يرتفع موضوعه. و ليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالأمر (5) بما لا يفيده، و كما لا حكومة معه (6) للعقل لا حكومة له معه، و كما لا يصح بلحاظ حكمه الإشكال فيه، لا يصح الإشكال فيه بلحاظه.

=============

نصب طريق في إناطة حكم العقل بحجية الظن بعدمه.

(1) أي: بل النهي عن ظن يستلزم نصب طريق.

(2) الضمير راجع على الموصول في «فيما» المراد به الواقعة التي ليست من دوران الأمر بين المحذورين، و أما فيه فلا أصل شرعي؛ لأنه فاعل تكوينا أو تارك كذلك.

(3) هذا نتيجة ما أفاده من أن حكم العقل بحجية الظن تعليقي، يعني: بعد ما كان حكمه معلقا على ما ذكر، فلو نهى الشارع عن بعض الظنون لم يكن ذاك رافعا لحكم العقل عن موضوعه حتى يستشكل فيه بعدم تعقّل التخصيص في الأحكام العقلية؛ بل يكون رافعا لموضوع حكمه، فضمير «نهيه» راجع على الشارع، و ضمير «عنه» إلى الظن الحاصل من القياس مثلا، و ضمير «لحكمه» راجع على العقل، و ضمير «موضوعه» إلى «حكمه».

(4) أي بل بالنهي الشرعي يرتفع موضوع حكم العقل، فيكون تخصصا لا تخصيصا حتى يكون محالا.

(5) خبر «و ليس» و الضمير البارز في «لا يفيده» راجع على الظن، و المستتر راجع على الموصول في «بما» المراد به السبب و الطريق، يعني: أنه لا فرق في عدم استقلال في الحكم - لعدم بقاء موضوع حكمه - بين الأمر بشيء لا يفيد الظن؛ كالأمر باتّباع خبر العادل غير المفيد للظن فضلا عن الاطمئنان، و بين النهي عما يفيد الظن كالقياس؛ لما عرفت من: كون حكم العقل في باب الإطاعة معلقا على عدم نهي الشارع عن طريق مخصوص إلى الإطاعة؛ و إلا سقط ذلك الطريق عن الحجية العقلية.

(6) أي: مع الأمر «للعقل» بمعنى: أنه كما ليس للعقل أن يقول: حيث لم يحدث الظن فلا تكليف، فكذلك لا حكومة للعقل مع النهي عن ظن خاص، فليس له أن يقول: حيث حدث الظن وجب الاتّباع.

و الحاصل: كما أنه ليس للعقل الحكم بعدم حجية ما لا يفيد الظن إذا أمر الشارع باتّباعه كذلك ليس له الحكم بحجية ما يفيد الظن إذا نهى الشارع عن اتّباعه.

ص: 46

نعم (1)؛ لا بأس بالإشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه، بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير تقدم الكلام في تقريرها ما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق، غاية الأمر: تلك المحاذير - التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت (2) في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة؛ و لكن من الواضح، أنه لا دخل

=============

(1) استدراك على قوله: «و أنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال».

و غرضه: أن الإشكال في النهي عن القياس يكون من جهتين:

الأولى: من جهة حكم العقل بالإطاعة الظنية، و قد تقدم دفعه.

الثانية: من جهة نفس نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس؛ إذ لو فرض إصابته للواقع لم يصح النهي عنه؛ لأنه موجب لفوات الواقع.

و غرضه: أن إشكال المحاذير المتقدمة في كلام ابن قبة. وارد في النهي عن القياس؛ كوروده في الأمر بالطريق، و قد عرفت توضيح ذلك. و المراد بالمحاذير في قوله: «لمحاذيره هي المحاذير الخطابيّة و الملاكية كما عرفت.

(2) خبر «تلك المحاذير»، و الجملة خبر «غاية الأمر»، و «في مورد الإصابة» خبر

ص: 47

لذلك (1) في الإشكال على دليل الانسداد...

=============

«كانت»، و الأولى سوق العبارة هكذا: «غاية الأمر: أن تلك المحاذير التي كانت في صورة خطأ الطريق المنصوب تكون في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة مثلا: إذا أدى القياس إلى وجوب شيء، و هو واجب واقعا، فإنه يجتمع مصلحة الواقع مع المفسدة المفروضة في العمل بالقياس.

و كيف كان؛ فحاصل الإشكال - على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4، ص 182» - أن يقال: كيف يصح للشارع النهي عن الظن، و الحال أن الظن قد يصادف الواقع ؟ فلو صادف الظن القياسي بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال الواقع - بأن كان الدعاء واجبا واقعا - كان نهي الشارع عن العمل بهذا الظن تفويتا للواقع. و هذا الإشكال لا يرتبط بالظن القياسي فقط؛ بل هو جار في مطلق المنع عن الظن سواء كان قياسا أم لا.

و هذا الإشكال في باب النهي عن الظن يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجية للطرق الظنية مثل خبر الواحد بأنه كيف يمكن للشارع أن يجعل الطريق الظني حجة، مع أنه قد يخالف الواقع ؟ فلو قال الشارع بحجية خبر الواحد، و أدى الخبر إلى عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال - و كان الدعاء واجبا واقعا - كان جعل الحجية لخبر الواحد مفوتا للواقع، فكما أن نصب الطريق موجب للإشكال في صورة المخالفة للواقع، كذلك النهي عن الظن موجب للإشكال في صورة الموافقة للواقع.

و الحاصل: أن إشكال الأمر يختص بصورة الخطأ، و إشكال النهي يختص بصورة الإصابة. هذا حاصل الإشكال في المنع عن الظن، «و لكن من الواضح: أنه لا دخل لذلك» الإشكال المتقدم في الطرق - و هو المحذور الخطابي و الملاكي - في إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة؛ بل هو إشكال عام متوجه على منع الشارع عن العمل بالظن.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) يعني: لا دخل للإشكال المتقدم في الطرق - و هو المحذور الخطابي و الملاكي - في إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بناء على الحكومة؛ و ذلك لأن إشكال خروج القياس إشكال في صحة النهي عنه من ناحية حكم العقل المنافي لهذا النهي؛ لا من ناحية صحة النهي في نفسه؛ و من المعلوم: أن اختلاف الجهتين واضح، فلا يرتبط إحداهما بالأخرى؛ لأن تصحيح النهي من الجهة الأولى - و هي حكم العقل

ص: 48

بخروج (1) القياس، ضرورة: أنه (2) بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة (3) قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل (4)، و قد عرفت (5): أنه بمكان من الفساد.

و استلزام (6) إمكان المنع عنه لاحتمال المنع عن أمارة أخرى قد اختفى علينا، و إن بحجية الظن مطلقا أو معلقا على عدم نهي الشارع - لا يغني عن تصحيحه بلحاظ الجهة الثانية و هي نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

=============

(1) متعلق بالإشكال.

(2) الضمير للشأن، و هذا تعليل لعدم دخل إشكال النهي في نفسه في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس؛ لأن هذا الإشكال إنما يكون بعد الفراغ عن صحة النهي في نفسه.

(3) يعني: مع قطع النظر عن حكم العقل بحجية الظن، و ضمير «عنه» راجع على القياس.

(4) بما تقدم تقريره عن «الرسائل»، و «بملاحظة» متعلق ب «أشكل».

(5) في قوله: «و أنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال».

(6) غرضه من هذا الكلام: دفع ما ذكره الشيخ «قدس سره» في تقرير الإشكال بقوله: «فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل...».

و توضيح الدفع: أن احتمال المنع عن أمارة أخرى لا دافع له إذا كان غيرها من سائر الأمارات كافيا، و مع كفايتها لا يحكم العقل باعتبار تلك الأمارة المحتمل منعها كالأولوية الظنية؛ لعدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة، و عدم حاجة إلى اعتبارها لوفاء غيرها من الأمارات التي لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه؛ بل يحكم العقل حينئذ باعتبار غير تلك الأمارة من سائر الأمارات الوافية بالفقه.

و أما إذا لم تكن تلك الأمارات وافية: فباب احتمال النهي عنها منسد؛ لما تقدم من اهتمام الشارع بالأحكام، و قبح تفويتها بلا تدارك، و عدم الترخيص في مخالفة الظن حينئذ.

و بالجملة: ففي الصورة الأولى و إن كان احتمال النهي عن بعض الأمارات موجودا؛ لكنه لا يضر بحكم العقل بحجية غيرها، و في الصورة الثانية باب الاحتمال منسد؛ لما عرفت من اهتمام الشارع بالأحكام.

و المتحصل: أن احتمال منع الشارع عن بعض الظنون غير قادح في استقلال العقل

ص: 49

كان (1) موجبا لعدم استقلال العقل إلا إنه يكون (2) بالإضافة إلى تلك الأمارة (3) لو كان غيرها (4) مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية؛ و إلا (5) فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض (6) استقلال العقل، ضرورة (7): عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع و الممنوع.

و قياس (8) حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح: لا يكاد يخفى على أحد فساده؛ لوضوح: أنه مع بحجية الظن، إما للوفاء بالفقه، و إما لاهتمام الشارع بها.

=============

قوله: «لاحتمال المنع» متعلق ب «و استلزام».

(1) خبر «و استلزام» يعني: و إن كان الاستلزام موجبا لعدم استقلال العقل، و ضمير «اختفى» راجع على المنع.

(2) الضمير المستتر فيه و ضمير «أنه» راجعان على عدم استقلال العقل بحجية الظن.

(3) أي: التي احتمل المنع عنها كالأولوية الظنية.

(4) أي: غير تلك الأمارة التي يحتمل المنع عنها، فكلمة «غيرها» اسم «كان» و «بمقدار الكفاية» خبره، و «مما» بيان ل «غيرها»، يعني: لو كان غير الأمارة التي يحتمل المنع عنها وافيا بالأحكام؛ كخبر الواحد و الإجماع المنقول و الشهرة الفتوائية، فإنه لا يستقل العقل حينئذ باعتبار مثل الأولوية الظنية مما يحتمل المنع عنه، و لا مانع من عدم استقلال العقل بحجيته حينئذ مع وفاء غيرها مما لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه.

(5) يعني: و إن لم يكن غير تلك الأمارة المحتمل فيها المنع كافيا: فلا مجال لاحتمال المنع في تلك الأمارة التي يحتمل النهي عنها؛ و ذلك للاهتمام.

(6) متعلق ب «لا مجال»، و وجه استقلال العقل هو: أن اهتمام الشارع بالأحكام، و عدم كفاية سائر الظنون مما لا يحتمل المنع عنه يوجبان استقلال العقل بحجية الظن المحتمل منعه.

(7) تعليل لقوله: «فلا مجال» يعني: أن احتمال المنع مناف لاستقلال العقل؛ لوضوح:

أنه مع احتمال المنع لا يحرز جميع ما له دخل في موضوع حكمه، و من المعلوم: أن عدم المانع مما له دخل في ذلك، فلا يحكم العقل إلا بعد إحرازه، كما هو واضح.

(8) الغرض منه: دفع ما ذكره الشيخ «قدس سره»، في تقرير إشكال خروج القياس بقوله: «كيف يجامع حكم العقل». و حاصل ما ذكره: قياس حجية الظن في حال الانسداد على حجية العلم في حال الانفتاح، فكما إن حكم العقل باعتبار العلم حال

ص: 50

الفارق، ضرورة (1): أن حكمه في العلم على نحو التنجز، و فيه على نحو التعليق.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الإشكال (2) بالنهي عن القياس، مع جريانه في الأمر بطريق غير مفيد للظن، بداهة (3): انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع الانفتاح لا يقبل التخصيص ببعض أفراده دون بعض، فكذا حجية الظن حال الانسداد غير قابل للتخصيص؛ لمنافاته لما استقل به العقل.

=============

و قد دفعه المصنف بما حاصله: أن هذا القياس مع الفارق؛ لأن حكم العقل في العلم تنجيزي، و في الظن تعليقي بالتقريب المتقدم.

قوله: «على حكمه» متعلق ب «و قياس»، و ضمير «حكمه» راجع على العقل. و المراد ب «هذا الحال»: حال الانسداد أي: انسداد باب العلم و العلمي، و ضمير «لها» راجع على الإطاعة.

قوله: «لا يكاد» خبر «و قياس» و دفع له، و ضمير «فساده» راجع على القياس.

قوله: «لوضوح» تعليل لفساد قياس الظن على العلم، و ضمير أنه راجع على القياس، يعني: أن قياس الظن حال الانسداد على العلم حال الانفتاح قياس مع الفارق.

(1) تعليل لكون هذا القياس مع الفارق، و ضمير «حكمه» راجع على العقل، و ضمير «فيه» إلى الظن.

(2) غرضه: أنه لا وجه لتخصيص الإشكال على دليل الانسداد - بناء على الحكومة - بالنهي عن القياس، المفروض إفادته للظن مع وحدة الملاك فيه و في الأمر بما لا يفيد الظن كاليد و السوق؛ إذ كما يكون النهي منافيا لحكم العقل و موجبا لارتفاعه، كذلك الأمر، فإن العقل حاكم بقبح الاكتفاء بما دون الظن؛ لكنه فيما إذا لم يأمر الشارع بالعمل بما لا يفيد الظن، فلو أمر بالعمل بما لا يفيده: لم يحكم العقل بقبحه، فلا فرق في انتفاء حكم العقل بين النصب و الردع، لأن حكمه معلق على عدم النصب و الردع.

و الحاصل: أن نصب الطريق و النهي عنه من واد واحد في أن حكم العقل معلق على عدم تصرف الشارع، فلا مجال لتقرير الإشكال بالنسبة إلى خصوص النهي عن القياس كما عرفت.

(3) بيان لوجه اشتراك الإشكال بين الأمر بطريق غير مفيد للظن كاليد و السوق، و بين النهي عن مثل القياس، فيقال في تقريب الإشكال: كيف يأمر الشارع بالعمل بما يفيد الظن كاليد و السوق، فإنهما أمارتان اعتبرهما الشارع و إن لم يفيدا الظن مع حكم العقل باعتبار الظن فقد و قبح العمل بما لا يفيده ؟ و حكم العقل غير قابل للتخصيص.

ص: 51

أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك (1)، و ليس (2) إلا لأجل أن حكمه به معلق على عدم النصب (3)، و معه لا حكم له، كما هو كذلك (4) مع النهي عن بعض أفراد الظن. فتدبر جيدا.

و قد انقدح بذلك (5): أنه لا وقع للجواب عن الإشكال تارة: بأن (6) المنع عن

=============

(1) أي: بالأمر بطريق لا يفيد الظن، بأن يقول: كيف يأمر الشارع بطريق لا يفيد الظن، مع استقلال العقل بعدم كفاية الإطاعة بما دون الظن ؟

(2) أي: و ليس عدم الإشكال في مورد الأمر بالطريق إلا لأجل أن حكم العقل بالظن معلق على عدم نصب الشارع طريقا خاصا و لو لم يفد الظن، و عليه: فليكن حكمه باعتبار مطلق الظن حال الانسداد معلقا أيضا على عدم نهي الشارع عن طريق مخصوص كالقياس في المقام، و ضمير «معه» راجع على النصب و «له» العقل.

(3) أي: عدم نصب الشارع، فإذا نصب الشارع لم يكن للعقل حكم أصلا؛ لانتفاء موضوعه، إذ موضوعه فيما لم يكن هناك علم و لا علمي، و من المعلوم: أن مع النصب يوجد العلمي.

(4) أي: كما أن حكم العقل معلق مع النهي عن بعض الظنون.

هذا تمام الكلام في جواب المصنف عن إشكال خروج القياس، و قد أجاب الشيخ «قدس سره» عن الإشكال بجوابين آخرين، جعلهما سادس الأجوبة و سابعها، و قد أشار المصنف إليهما و إلى غيرهما من الوجوه المذكورة لدفع الإشكال ثم ناقش فيها الوجوه المذكورة لدفع الإشكال و المناقشة فيها.

(5) أي: بما ذكرناه من أن إشكال القياس إنما هو بعد الفراغ عن صحة النهي في نفسه، فتصحيح النهي بأحد الوجوه الآتية لا يرفع إشكال خروجه عن نتيجة دليل الانسداد بملاحظة حكم العقل، فإن هذين الجوابين اللذين ذكرهما الشيخ «قدس سره» يدفعان الإشكال من الجهة الأولى دون الثانية، و هي بملاحظة حكم العقل، و على هذا فلا ربط لهما بالإشكال من الجهة التي نحن فيها.

(6) هذا هو الوجه السابع الذي اختاره الشيخ «قدس سره» في دفع الإشكال حيث قال: «الوجه السابع هو: أن خصوصية القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع، كما يشهد به قوله «أن السنة إذا قيست محق الدين»(1)، و قوله: «كان ما يفسده

ص: 52


1- المحاسن 314:1 /ذيل ح 97، الكافي 57:1 /ذيل ح 15، الفقيه 118:4 /ذيل ح 5219، الوسائل 41:27 /ذيل ح 33160.

القياس لأجل كونه غالب المخالفة، و أخرى (1): بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة؛ و ذلك (2) لبداهة: أنه إنما يشكل بخروجه أكثر مما يصلحه»(1) و قوله: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من دين الله»(2)، و غير ذلك(3).

=============

و هذا المعنى لما خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنية عند فقد العلم، فهو إنما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيات المجهولة، فإذا كشف الشارع عن حال القياس، و تبين عند العقل حال القياس، فيحكم حكما إجماليا بعدم جواز الركون إليه...» الخ.

(1) و هو الوجه السادس الذي أفاده الشيخ، و لكن أورد عليه بعد ذلك حيث قال:

«إن النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعية المدركة على تقدير العمل به، فالنهي عن الظنون الخاصة في مقابلة حكم العقل بوجوب العمل بالظن مع الانفتاح...»(4) الخ.

و حاصل هذين الوجهين: أن العقل إنما يحكم بلزوم اتباع الظن لكونه أقرب إلى الواقع، و عدم مزاحمته بالمفسدة الغالبة، و كونه غالب الإيصال إليه؛ لأجل استيفاء مصلحته، فإذا كشف نهي الشارع عن أن الظن الحاصل من القياس غير مصيب للواقع غالبا، أو أن المفسدة المترتبة على الأخذ به أكثر من مصلحته: فلا محالة يحكم العقل بعدم جواز الركون إليه تخصيصا لحكمه بلزوم مراعاة الظن.

(2) أي: و ذلك الذي ذكرنا من أنه لا وقع لهذين الجوابين، «لبداهة» أن الجوابين يفيدان صحة النهي عن القياس، و أنه إنما نهي عنه - مع أن النهي مفوت لمصلحة الواقع - لكونه كثير المخالفة، أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع المحرزة بسببه.

أما الجواب عن إشكال أنه كيف يمنع عنه في حال الانسداد الذي يحكم العقل بحجية مطلق الظن فيه ؟ فليس هذان الجوابان دافعين عنه.

و إن شئت قلت: إن الإشكال في صحة النهي عن القياس من جهتين من حيث نفسه، و من حيث منافاته لحكم العقل بحجية الظن في حال الانسداد، و هذان الجوابان

ص: 53


1- عوالي اللآلي 22/6:4، مستدرك الوسائل 21247/248:17.
2- الوارد في كتب الحديث: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»: المحاسن 2: 300 /ذيل ح 5، الوسائل 192:27 /ذيل ح 33572. أو «ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه»: تفسير العياشي 2/11:1، الوسائل 33605/204:27.
3- فرائد الاصول 529:1.
4- فرائد الأصول 528:1.

بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه بملاحظة (1) حكم العقل بحجية الظن، و لا يكاد يجدي صحته كذلك (2) في الذّب عن الإشكال في صحته (3) بهذا اللحاظ، فافهم (4) فإنه لا يخلو عن دقة.

=============

إنما يدفعان الإشكال من الجهة الأولى، أما الجهة الثانية: فلا ربط لهذين الجوابين بها.

و كيف كان؛ فقوله: «لبداهة» تعليل لقوله: «لا وقع للجواب».

و توضيح ذلك بعد مقدمة و هي: أن إشكال النهي عن العمل بالقياس يقع في جهتين:

الأولى: في صحة النهي عنه في نفسه مع الغض عن دليل الانسداد.

الثانية: في صحة النهي عنه بملاحظة الانسداد بناء على الحكومة، و أنه كيف يصح تخصيص الشارع حكم العقل بلزوم مراعاة الظن، مع فرض استقلاله في حكمه ؟

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه من المعلوم: أن الوجهين المتقدمين عن الشيخ «قدس سره» يصححان النهي عنه باعتبار الجهة الأولى، و لا يصححانه باعتبار الجهة الثانية، يعني: حتى مع استقلال العقل بحجية الظن حال الانسداد.

(1) متعلق ب «يشكل» أي: يشكل خروج القياس «بملاحظة حكم العقل...» الخ.

و ضمير «أنه» للشأن، و ضميرا «بخروجه، عنه» راجعان على القياس.

(2) أي: في نفسه يعني: لا يجدي صحة المنع عن القياس «كذلك» أي في نفسه بلحاظ كونه غالب المخالفة للواقع، أو لأن في العمل به مفسدة غالبة على مصلحة الواقع عند الإصابة في دفع الإشكال عن صحة المنع عنه بلحاظ حكم العقل بحجية مطلق الظن، و الظرف متعلق ب «يجدي»، و قد مر غير مرة: أن الصواب في ذب الإشكال هو:

كون حكم العقل بحجة الظن الانسدادي معلق على عدم نهي الشارع عن ظن خاص كالقياس.

(3) أي: صحة المنع «بهذا اللحاظ»، أي: لحاظ حكم العقل في حال الانسداد.

(4) لعله إشارة إلى أن الجوابين صحيحان حتى بالنسبة إلى إشكال خروج الظن القياسي عن حكم العقل في حال الانسداد؛ لأن العقل إنما يحكم بحجية الظن في حال الانسداد؛ لما يرى من قربه إلى الواقع بدون مفسدة، فإذا استكشف - من نهي الشارع عن القياس بقول مطلق - عدم قرب القياس إلى الواقع؛ لكثرة الخطأ، أو استكشف وجود مفسدة فيه تزاحم مصلحة الواقع لم يحكم بحجيته، و ليس ذلك تخصيصا؛ بل تخصصا.

ص: 54

و أما ما قيل في جوابه، من منع عموم المنع عنه (1) بحال الانسداد، أو منع (2) حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، و أن ما يفسده أكثر مما يصلحه ففي غاية الفساد (3)، فإنه - مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد؛...

=============

و قد ذكر الشيخ «قدس سره» في الرسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد، و في كلا الجوابين نظر أشار إليه المصنف بقوله: «و أما ما قيل في جوابه...» الخ. و قد جعلهما الشيخ الأمرين الأولين من الأمور السبعة.

(1) أي: عن القياس.

و حاصل الأمر الأول في الجواب: أنه لا مجال لإشكال المنافاة بين نهي الشارع عن العمل بالقياس، و بين حكم العقل بحجية مطلق الظن؛ و ذلك لاختصاص الأخبار الناهية عن العلم بالقياس بحال الانفتاح، و عدم شمولها لحال الانسداد؛ إذ من المعلوم: أن بعض تلك الأخبار كان في مقابل معاصري الأئمة «عليهم السلام» من العامة التاركين للثقلين، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر، و رجعوا إلى اجتهاداتهم و آرائهم، فقاسوا و استحسنوا، و ضلوا و أضلوا. و عليه: فحكم العقل باعتبار مطلق الظن حال الانسداد باق على عمومه؛ و إن حصل من القياس.

(2) هذا هو الأمر الثاني في الجواب و حاصله: أن خروج القياس عن عموم النتيجة تخصصي لا تخصيص في حكم العقل حتى يتوجه الإشكال؛ إذ بعد ملاحظة الأخبار الناهية عن العمل به لا يحصل الظن منه حتى يشمله حكم العموم بعموم حجية الظن ليشكل خروجه بنهي الشارع عنه.

و من المعلوم: عدم وقوع التنافي حينئذ بين نهي الشارع و بين حكم العقل؛ إذ موضوع حكمه هو الطريق المفيد للظن بحكم الله لا نفس القياس، و إن لم يفد الظن، و من المسلم: عدم حصول الظن من القياس مع ملاحظة المنع الشرعي.

و هذا تمام الكلام في بعض الأمور السبعة في الجواب عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة الانسداد. و لم يتعرض المصنف جميع الوجوه السبعة.

(3) هذا جواب قوله: «و أما ما قيل...» الخ، و هذا شروع في الرد على الأمرين - أي:

المنعين - و هذا الرد على وجهين:

أحدهما: ما يكون جوابا عن كل منهما على حدة.

و ثانيهما: ما يشتركان فيه.

أما الوجه الأول: فمحصل الجواب عن الأمر الأول: عدم صحة منع عموم الأخبار

ص: 55

لدعوى (1): الإجماع على عموم المنع (2)، مع إطلاق أدلته (3)، و عموم علته (4) و شهادة (5) الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان -...

=============

الناهية عن العمل بالقياس لحال الانسداد، و محصل الجواب عن الأمر الثاني: عدم صحة منع حصول الظن من القياس.

و أما عدم صحة منع العموم - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 71» - فلجهات ثلاث:

الأولى: دعوى الإجماع على عموم المنع عن العمل بالقياس لحال الانسداد.

قال الشيخ «قدس سره» في رد الوجه الأول: «لكن الإنصاف أن إطلاق بعض الأخبار و جميع معاقد الاجماعات يوجب الظن المتاخم بالعلم؛ بل العلم بأنه ليس مما يركن إليه في الدين، مع وجود الأمارات السمعية»(1).

الثالثة: عموم علة المنع لحال الانسداد أيضا، مثل قولهم: «عليهم السلام» في مقام تعليل النهي عن القياس: ب «أن السنة إذا قيست محق الدين»، و «أن ما يفسده أكثر مما يصلحه»، حيث إن ظاهر التعليل اقتضاء ذات القياس لمحق الدين و محوه، و من المعلوم:

الثانية: إطلاق دليل المنع الشامل لحال الانسداد على ما هو شأن كل إطلاق أحوالي.

أن ما كان من مقتضيات الذات لا يتخلف عنه في حال دون حال كما هو واضح.

و أما عدم صحة منع حصول الظن: فلما سيأتي. فانتظر.

(1) هذا شروع في الجواب عن الأمر الأول المختص به، و هذا إشارة إلى أول وجوهه الثلاثة.

(2) يعني: لحال الانسداد.

(3) أي: أدلة المنع عن القياس، و هذا إشارة إلى ثاني وجوهه.

(4) أي: علة المنع، مثل: «إن السنة إذا قيست محق الدين»، و هذا إشارة إلى ثالث وجوهه.

(5) عطف على «دعوى»، و هذا شروع في الجواب عن الأمر الثاني المختص به الذي أشرنا إليه بقولنا: «و أما عدم صحة منع حصول الظن من القياس: فلما سيأتي».

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 72» - أنا نمنع عدم حصول الظن من القياس؛ بل ربما يحصل منه القطع في بعض الأحيان، فكيف يقال بعدم حصول الظن منه بعد ملاحظة نهي الشارع ؟

ص: 56


1- فرائد الأصول 530:1.

لا يكاد (1) يكون في دفع الإشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية و عليه: فيعود الإشكال بعدم قابلية حكم العقل للتخصيص.

=============

و هذا الجواب أورده الشيخ الأعظم أيضا على الأمر الثاني، فقال: «و فيه: أن منع حصول الظن من القياس في بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان... إلى أن قال: و أما منعه عن ذلك دائما فلا، و كيف و قد يحصل من القياس القطع ؟»(1).

و قد تحصل من كلمات المصنف في الجواب الأول عن الأمرين: أنّا نمنع الأمر الأول بعدم اختصاص بحال الانفتاح؛ للإجماع و إطلاق الأدلة و عموم العلة، كما نمنع الأمر الثاني بأنه قد يحصل الظن في بعض الموارد من القياس، فيعود الإشكال. هذا كله في الجواب الأول المختص بكل واحد من الأمرين.

و أما الجواب الثاني المشترك بينهما فسيأتي.

(1) خبر «فإنه» و اسم «يكون» ضمير راجع على الموصول في «ما قيل» المراد به كلا المنعين، و «بمفيد» خبره، أي: لا يكون المنع عن عموم الأدلة الناهية، و كذا المنع عن حصول الظن من القياس بمفيد. و هذا هو الجواب الثاني المشترك لكلا الأمرين - أعني:

و حاصله: أن هذين الأمرين لا يدفعان إشكال خروج القياس و التنافي بين حكمي العقل و الشرع، ضرورة: أن الإشكال بخروجه إنما هو على فرض حصول الظن منه.

المنعين -.

فمنع هذا الإشكال تارة: بأن القياس لا يفيده بعد منع الشارع عن العمل به، و أخرى:

بجواز العمل بالظن الحاصل من القياس حال الانسداد خروج عن الفرض، و هدم لموضوع الإشكال، فهو في الحقيقة تسليم للإشكال لا دفع له مع بقاء موضوعه، و الجواب بهذا النحو عن الإشكال نظير الجواب عن الإشكال على عدم إكرام زيد، المفروض أنه من العلماء بأنه ليس بعالم، فإن هذا الجواب لا مساس له بالإشكال - بعد فرض أنه من العلماء - فهو فرار عن الإشكال إن لم يكن تسليما له، لا أنه جواب عنه كما لا يخفى.

و بالجملة: فلا بد من علاج محذور لزوم تخصيص الحكم العقلي بحجية مطلق الظن، و لا يرتفع هذا المحذور بدعوى: أن نهي الشارع عن العمل بالقياس مانع عن حصول الظن به، أو أن نهيه عنه كاشف عن كونه غالب المفسدة؛ إذ من المعلوم: أن جميع النواهي الشرعية كاشفة عن وجود المفاسد الكامنة في متعلقاتها - بناء على مذهب

ص: 57


1- فرائد الأصول 531:1.

الأمر (1): أنه لا إشكال (2) مع فرض أحد المنعين؛ لكنه (3) غير فرض الإشكال، فتدبر جيدا.

=============

العدلية - و هذا لا مساس له بإشكال عدم قابلية حكم العقل للتخصيص في شيء من الحالات.

قوله: «بالقطع» متعلق ب «الإشكال»، و ضمير «منه» راجع على القياس.

(1) لعل الأولى تبديله بما يفيد التعليل فيقال: «لأنه لا إشكال».

(2) لعدم بقاء موضوع الإشكال مع أحد المنعين، و هما عدم إفادة القياس للظن، أو عدم شمول دليل النهي له أصلا.

(3) أي: لكن فرض ثبوت أحد المنعين غير فرض الإشكال، مع فرض عدمهما؛ لأن فرض ثبوت المنعين دفع للإشكال برفع موضوعه، و هو خلاف فرض دفع الإشكال، مع فرض بقاء موضوعه كما هو المطلوب.

و بعبارة أخرى - كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 74» -: لو سلمنا المنعين المذكورين لزم الخروج عن مورد الكلام، و هو فرض إشكال خروج القياس مع إفادته الظن و حرمة العمل به حال الانسداد أيضا، فقوله: «لكنه غير فرض الإشكال» معناه: أن فرض ثبوت أحد المنعين غير فرض إشكال خروج القياس، مع إفادته الظن و حرمة العمل به حال الانسداد أيضا.

فالمتحصل: أنه لو سلمنا المنعين فإشكال خروج القياس و التهافت بين حكمي العقل و الشرع - فيما إذا فرض إفادته الظن و عدم ثبوت جواز العمل به حال الانسداد - بعد باق. و في المقام أجوبة أخرى لا داعي إلى نقلها.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - مورد الإشكال: هو خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

و أما بناء على الكشف: فلا إشكال في خروجه عن عموم دليل الانسداد.

أما توضيح الإشكال: فيتوقف على تقديم أمور:

1 - أن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

2 - استقلال العقل بكون الظن مناطا للإطاعة و المعصية حال الانسداد، كما أن العلم يكون مناطا لهما حال الانفتاح.

ص: 58

3 - أن القياس مفيد للظن بالحكم.

4 - منع الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

أحدهما: تنجيزي، و الآخر تعليقي، و هو ما يكون حكم العقل معلقا على عدم نهي الشارع عن ظن بالخصوص، فلو نهى عن العمل به لم يبق موضوع لحكم العقل بحجية مطلق الظن، فيكون خروج ما نهى عنه الشارع من باب التخصص لا من باب التخصيص حتى يقال: إن حكم العقل غير قابل للتخصيص، فخروج الظن القياسي حينئذ شرعا لا ينافي استقلال العقل بالحكم بحجية الظن؛ لأن حكمه هذا يكون تعليقيا، و المنافاة إنما تكون في الحكم التنجيزي دون التعليقي.

3 - توهم: أن تعليق حكم العقل بحجية الظن على عدم نصب الشارع طريقا و إن كان في محله، حيث إن النصب يهدم انسداد باب العلمي الذي هو من مقدمات دليل الانسداد و يوجب انفتاحه؛ إلا إن تعليقه على عدم نهي الشارع عن العمل بظن خاص كالقياس لا مجال له؛ لأنه ليس كنصب الطريق موجبا لانفتاح باب العلمي حتى يصح تعليق حكم العقل عليه؛ مدفوع بأن النهي عن ظن ناشئ عن سبب خاص كالقياس ليس لا كنصب طريق، حيث إنه بعد النهي عنه لا يصلح لأن يقع به الامتثال فلا يكون مؤمّنا.

5 - أنه لو جاز المنع عن العمل بالظن القياسي لجاز المنع عن العمل بغيره من سائر الظنون، فلا يستقل العقل حينئذ بالعمل بالظن أصلا؛ لاحتمال النهي عن غير الظن القياسي أيضا.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فنقول في توضيح الإشكال: إنه مع استقلال العقل بكون مطلق الظن حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح مناطا للإطاعة و المعصية؛ كيف يمكن منع الشارع عن بعض أفراد الظن كالظن القياسي ؟ مع أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص. و لو صيح هذا المنع لزم التخصيص في حكم العقل، و قد عرفت أنه غير قابل له.

ص: 59

4 - «نعم لا بأس بالإشكال فيه في نفسه»: استدراك على قوله: «و أنت خبير...» الخ، و غرضه: أن الإشكال عن القياس يكون من جهتين:

الأولى: من جهة حكم العقل بالإطاعة الظنية، و هو محل الكلام، و قد تقدم دفعه.

الثانية: من جهة نفس نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس، و تقريب الإشكال من الجهة الثانية: أنه لو فرض إصابة الظن الحاصل من القياس للواقع لم يصح النهي عنه، لأنه موجب لفوات الواقع.

ثم دفع الإشكال من الجهة الأولى لا يغني عن دفعه من الجهة الثانية؛ إذ النهي عن الظن القياسي كالنهي عن مطلق الأمارة مستلزم للمحاذير المتقدمة في كلام ابن قبة فراجع.

و كيف كان؛ فهذا الإشكال يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجية للطرق الظنية كخبر الواحد مثلا.

5 - قوله: «و استلزام إمكان المنع عنه لاحتمال المنع عن أمارة أخرى» دفع لما ذكره الشيخ «قدس سره» في تقرير الإشكال بقوله: «فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل...» الخ.

و حاصل الدفع: أن احتمال المنع عن أمارة أخرى لا دافع له إذا كان غيرها من الأمارات كافيا بالفقه، و مع كفايتها لا يحكم العقل باعتبار تلك الأمارة المحتمل منعها كالأولوية الظنية؛ لعدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة، و عدم حاجة إلى اعتبارها لوفاء غيرها من الأمارات التي لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه؛ بل يحكم العقل حينئذ باعتبار غير تلك الأمارة لأنها وافية بالفقه.

و أما إذا لم تكن تلك الأمارات وافية بالفقه؛ فباب احتمال المنع منسد؛ لاهتمام الشارع بالأحكام.

فالمتحصل: أن احتمال منع الشارع عن بعض الظنون غير قادح في استقلال العقل بحجية الظن؛ إما للوفاء بالفقه، و إما الاهتمام الشارع بها.

6 - قوله: «و قياس حكم العقل...» الخ، دفع لما ذكره الشيخ في تقرير إشكال خروج القياس بقوله: «كيف يجامع حكم العقل ؟».

و حاصل ما ذكره الشيخ «قدس سره»: عبارة عن قياس حجية الظن في حال الانسداد على حجية العلم في حال الانفتاح، فكما أن حكم العقل باعتبار العمل حال الانفتاح لا يقبل التخصيص فكذلك حجية الظن حال الانسداد غير قابل للتخصيص؛

ص: 60

لمنافاته لما استقل به العقل.

و حاصل الدفع: أن هذا القياس قياس مع الفارق؛ لأن حكم العقل في العلم تنجيزي، و في الظن تعليقي كما عرفت.

7 - و قد يقال: إنه لا وجه لتخصيص الإشكال على دليل الانسداد - بناء على الحكومة - بالنهي عن القياس المفروض إفادته للظن، مع وحدة الملاك فيه و في الأمر بما لا يفيد الظن كاليد و السوق مثلا؛ إذ كما يكون النهي منافيا لحكم العقل و موجبا لارتفاعه، كذلك الأمر، فإن العقل حاكم بقبح الاكتفاء بما دون الظن، فلا فرق في انتفاء حكم العقل بين النصب و الردع؛ لأن حكمه معلق على عدم النصب و الردع، فنصب الطريق و النهي عنه من واد واحد في تعليق حكم العقل على عدم تصرف الشارع، فلا مجال لتقرير الإشكال بالنسبة إلى خصوص النهي عن القياس.

و حاصل هذين الوجهين: أن العقل إنما يحكم بلزوم اتباع الظن لكونه أقرب إلى الواقع، و عدم مزاحمته بالمفسدة الغالبة، و كونه غالب الإيصال إليه، فإذا كشف نهي الشارع عن أن الظن الحاصل من القياس غير مصيب للواقع غالبا، أو أن المفسدة المترتبة على العمل به أكثر من مصلحته، فلا محالة يحكم العقل بعدم جواز الركون إليه تخصيصا؛ لحكمه بمراعاة الظن.

9 - ردّ المصنف على هذين الوجهين: أن هذين الوجهين يفيدان صحة النهي عن القياس، بمعنى: أن الشارع نهى عن القياس لكونه كثير المخالفة، أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع.

و بعبارة أخرى: أنه قد مرّ غير مرة: إن النهي عن الظن القياسي من جهتين، و الوجهان المتقدمان عن الشيخ «قدس سره» يصححان النهي عنه باعتبار الجهة الأولى، و لا

ص: 61

يصححانه باعتبار الجهة الثانية، مع أن صحة النهي من الجهة الثانية هي محل الكلام في المقام.

10 - و قد ذكر الشيخ في الرسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد.

و في كلا الجوابين نظر قد أشار إليه المصنف بقوله: و أما ما قيل.

و حاصل الجواب الأول من الشيخ «قدس سره»: أنه لا مجال لإشكال المنافاة بين نهي الشارع عن القياس، و بين حكم العقل بحجية مطلق الظن؛ لاختصاص النهي عن العمل بالقياس بحال الانفتاح، و عدم شموله لحال الانسداد.

و حاصل الجواب الثاني منه «قدس سره»: أن خروج القياس عن عموم النتيجة تخصص لا يكون تخصيصا في حكم العقل حتى يتوجه الإشكال إليه؛ إذ بعد ملاحظة النهي عن العمل به لا يحصل الظن منه حتى يشمله حكم العقل بحجية مطلق الظن.

و أما ردّ المصنف عليهما يكون بوجهين:

أحدهما: ما يكون جوابا عن كل منهما على حدة، و الآخر ما يشتركان فيه.

أما الأول: فحاصل رد المصنف على الجواب الأول هو: عدم صحة منع عموم النهي عن القياس لحال الانسداد، و عن الجواب الثاني: هو عدم صحة منع حصول الظن من القياس.

و أما الوجه الثاني المشترك لكلا الجوابين أعني: المنعين فحاصله: أن هذين الجوابين من الشيخ «قدس سره» لا يدفعان إشكال خروج القياس، ضرورة: أن الإشكال على خروجه إنما هو على فرض حصول الظن منه، فمنع هذا الإشكال تارة: بأن القياس لا يفيد الظن بعد منع الشارع عنه. و أخرى: بجواز العمل بالظن الحاصل من القياس حال الانسداد؛ لعدم شمول النهي له خروج عن الفرض، و هدم لموضوع الإشكال، فهو في الحقيقة تسليم للإشكال لا دفع له، مع بقاء موضوعه.

و كيف كان؛ فلو سلّمنا المنعين، أعني: الجوابين من الشيخ «قدس سره» فإشكال خروج القياس فيما إذا فرض كونه مفيدا للظن بعد باق.

11 - رأي المصنف «قدس سره»:

إن خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة إنما هو من باب التخصص؛ لا من باب التخصيص كي يرد عليه بأن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

ص: 62

فصل

إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص (1)؛ فالتحقيق أن يقال - بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد -: أنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل

=============

فصل في الظن المانع و الممنوع

(1) قبل الخوص في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

و كيف كان؛ فالغرض من عقد هذا الفصل: بيان حكم الظن المانع و الممنوع من حيث الاعتبار و الحجية، فإذا منع ظن عن العمل بظن مخصوص، كما إذا قامت الشهرة على عدم حجية الظن الحاصل من الاستحسان، كما إذا قام الاستحسان على وجوب الزكاة في النقود الورقية في يومنا هذا تشبيها لها بالدرهم و الدينار، فحصل الظن بوجوب الزكاة في النقود الورقية من الاستحسان في حال الانسداد. و هذا هو الظن الممنوع و الظن الحاصل من الشهرة هو الظن المانع، فإنه بناء على تقرير مقدمات الانسداد على نحو الحكومة لا ريب في تساويهما - المانع و الممنوع - في نظر العقل من حيث الحجية؛ إذ المفروض: إفادة كليهما للظن. هذا من جهة. و من جهة أخرى: يستحيل العمل بكليهما معا كما هو واضح، فلا بد من الأخذ بأحدهما فقط.

فيقع الكلام فيما هو مقتضى مقدما الانسداد؛ هل هو الأخذ بالظن الممنوع و الحكم بوجوب الزكاة في النقود الورقية ؟ أو أنها تقتضي تقديم الظن المانع، فتصير النتيجة:

ص: 63

وجوب الأخذ بالظن الحاصل من الشهرة، و الحكم بعدم وجوب الزكاة في النقود الورقية أو أنها تقتضي تقديم ما له مرجح منهما أو يتساقطان ؟ وجوه؛ بل أقوال:

1 - وجوب العمل بالظن الممنوع.

2 - وجوب العمل بالظن المانع.

3 - وجوب الأخذ بما له مرجح.

4 - تساقط الظنين و الرجوع إلى الأصول العمليّة.

أما وجه وجوب الأخذ بما له مرجح: فهو واضح، بمعنى: وجوب الأخذ بأقوى الظنين، خصوصا إذا قلنا بأن نتيجة مقدمات الانسداد جزئية من ناحية المراتب.

و أما وجه سائر الوجوه: فهو مبني على كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن في الفروع أو الأصول أو كليهما، فإن قلنا: إن نتيجتها هي الحجية في الفروع فالمقدم هو الظن الممنوع، و إن قلنا: إن النتيجة هي الحجية في الأصول: فالمقدم هو الظن المانع، و إن قلنا بحجية كليهما معا: فيتساقطان.

و مختار المصنف هو: تقديم الظن المانع؛ كما أشار إليه بقوله: «فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع...» الخ.

و توضيح ما أفاده المصنف في وجهه - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 74» -:

أن حكم العقل بحجية الظن معلق على إحراز عدم الردع عنه فاحتماله مانع عن حكمه بها، و مع احتمال المنع عن الظن الحاصل من الاستحسان مثلا - فضلا عن قيام الظن على عدم اعتباره - لا يستقل العقل بحجية الظن الحاصل منه؛ لما تقدم في الفصل السابق من: عدم استقلال العقل بحجية الظن، مع احتمال المنع عنه شرعا، فلا بد من الاقتصار على ظن لا يحتمل المنع عنه أصلا، و هو الظن المانع كالشهرة في المثال المتقدم، فإن و فى بالأحكام فهو المطلوب؛ و إلا ضم إليه ظن احتمل المنع عنه - لا ما ظن بعدم اعتباره - و يكون الظن الذي يحتمل المنع عنه حجة شرعا، و لا يعتنى باحتمال المنع عنه؛ و ذلك للعلم باهتمام الشارع بالأحكام، و المفروض: قيامه ببعضها، فيجب الأخذ به. انتهى موضوع الحاجة من كلامه مع توضيح و تصرف منا.

قوله: «بعد تصور المنع عن بعض الظنون» يعني: بعد إمكانه كالقياس؛ إذ بناء على استحالة المنع حتى عن مثل القياس - كما مال إليها بعض في الفصل السابق في دفع إشكال خروج القياس عن نتيجة دليل الانسداد بناء على الحكومة - يمتنع فرض قيام ظن

ص: 64

المنع عنه، فضلا عما إذا ظن كما أشرنا إليه في الفصل السابق (1)، فلا بد (2) من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه (3) بالخصوص (4)، فإن كفى (5) و إلا فبضميمة ما لم يظن المانع عنه؛ و إن احتمل (6) مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد و إن انسد باب هذا الاحتمال معها كما لا يخفى، و ذلك (7) ضرورة: أنه لا احتمال مع كالشهرة على المنع عن ظن آخر؛ كالظن الحاصل من الاستحسان.

=============

لكن قد عرفت هناك: عدم استحالة المنع؛ بل إمكانه و وقوعه كالمنع عن القياس نظرا إلى أن حكم العقل بحجية الظن تعليقي لا تنجيزي.

(1) حيث قال: «ضرورة: عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع و الممنوع».

(2) هذا نتيجة عدم استقلال العقل بحجية ظن ظن أو احتمل المنع عنه، و على هذا:

فاستقلال العقل بحجية الظن لا يكون في مورد الظن بالمنع أو احتماله؛ بل ينحصر في مورد واحد، و هو القطع بعدم ردع الشارع عنه.

(3) كخبر الواحد الذي يعلم بعدم الردع عنه بالخصوص.

(4) يعني: لا بنحو العموم المقتضي لعدم حجية شيء من الظنون، مثل قوله تعالى:

إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً * الدال على عدم حجية شيء من الظنون ضرورة: أنه لا عبرة بهذا النهي العام؛ للزوم رفع اليد عنه بدليل الانسداد المقتضي لحجية الظن.

(5) يعني: فهو المطلوب، و لم يجز التعدي عنه إلى موهوم المنع أو مشكوكه، فضلا عن محتمله أو مظنونه؛ «و إلا» أي: و إن لم يكف ما قطع بعدم الردع عنه بالخصوص في استفادة الأحكام، فلا بد من ضم ما يحتمل المنع عنه إليه، دون ما ظن المنع عنه.

(6) أي: و إن احتمل المنع عن بعض الظنون بلحاظ حال الانفتاح، فإن ذلك الاحتمال مانع عن حجيته حاله لا حال الانسداد؛ لعدم العبرة - حال الانسداد - باحتمال المنع.

و ضمير «معها» راجع على المقدمات. فمعنى العبارة: «و إن انسد باب هذا الاحتمال» أي:

احتمال المنع مع وجود مقدمات الانسداد. و إنما قيدنا الظن المحتمل منعه بكون احتمال منعه قبل مقدمات الانسداد؛ لأن الظن المحتمل منعه بعد تمامية مقدمات الانسداد حاله حال الظن المقطوع منعه؛ لما عرفت - في فصل الظن القياسي - من أن احتمال المنع كالقطع بالمنع في خروج الظن عن حكم العقل بحجية مطلق الظن تخصصا.

(7) أي الذي ذكرنا من كون احتمال المنع قبل مقدمات الانسداد غير ضار، «ضرورة: أنه لا احتمال» للمنع «مع الاستقلال» للعقل بحجية كل ظن.

ص: 65

الاستقلال حسب الفرض (1).

و منه (2) انقدح: أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم.

=============

قوله: «ضرورة» تعليل لانسداد باب احتمال المنع عن بعض الظنون مع مقدمات الانسداد، و حاصله: - على ما «في منتهى الدراية، ج 5، ص 77» - أنه - مع مقدمات الانسداد - ينسد باب احتمال المنع عن بعض الظنون، فلو لم ينسد بابه لزم عدم استقلال العقل بحجية الظن، و المفروض استقلاله.

(1) أي: فرض الانسداد.

و المتحصل مما أفاده: أن الظنون غير المحتمل منعها إن كانت وافية بمعظم الفقه، فالعقل يحكم بحجيتها فقط، و لا يحكم باعتبار ما يحتمل منعه من الأمارات، فضلا عن مظنون المنع، و إن لم تكن وافية، فيضم إليها ما لا يظن المنع عنه؛ و إن احتمل مع الغض عن مقدمات الانسداد، و انسد هذا الاحتمال بسببها؛ لمنافاته لاستقلال العقل كما عرفت.

(2) هذا رد لما استظهره الشيخ «قدس سره» من كلمات جمع من المحققين في مسألة تقديم الظن المانع أو الممنوع؛ من ابتناء الأقوال فيها على ما يستفاد من دليل الانسداد، و أن تقديم الظن الممنوع مبني على القول بأن النتيجة حجية الظن في الفروع، و تقديم الظن المانع مبني على القول بأن النتيجة حجيته في الأصول، قال الشيخ: «ذهب بعض مشايخنا إلى الأول بناء منه على ما عرفت سابقا من بناء غير واحد منهم على أن دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظن في المسائل الأصولية التي منها مسألة حجية الظن الممنوع، و لازم بعض المعاصرين الثاني - أي: تقديم المانع - بناء على ما عرفت منه من: أن اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن بالطريق، فلا عبرة بالظن بالواقع ما لم يقم على اعتباره الظن، و قد عرفت ضعف كلا البناءين...»(1) الخ.

و قوله المصنف: «و منه انقدح...» الخ، يعني: مما حققناه بقولنا: «ضرورة: أنه لا احتمال مع الاستقلال» ظهر: أنه لا تتفاوت الحال في وجوب الأخذ بالمانع و طرح الممنوع بين ما اختاره صاحب الفصول و غيره؛ من اقتضاء مقدمات الانسداد حجية الظن في الأصول أي: بالطرق المتكفلة للأحكام فقط، و بين ما ذهب إليه آخرون

ص: 66


1- فرائد الأصول 532:1.

كصاحب الرياض و شريف العلماء على ما حكي عنهما «قدس سرهما» من اختصاص حجية الظن بالفروع فقط، و بين ما اختاره المصنف تبعا للشيخ من اقتضائها حجيته إذا تعلق بكل من الواقع و الطريق، و أن الأقوال في هذه المسألة ليست مبنية على ما يستفاد من دليل الانسداد.

وجه عدم تفاوت الحال: ما عرفت من: أنه مع احتمال المنع فضلا عن ظنه لا استقلال للعقل بحجية الظن، سواء كانت نتيجة الانسداد حجية الظن بالفروع أم بالأصول أم بهما.

أما الأول: أعني: عدم استقلال العقل بحجية غير الظن المانع فيما إذا كانت نتيجة الانسداد حجية الظن بالفروع: فلأن احتمال عدم حجية ظن بالفروع كاف في منع استقلال العقل بحجية ذلك الظن، بعد ما تقدم من أن المانع هو الردع الواقعي اللازم منه كفاية احتماله في منع استقلال العقل، فدليل الانسداد و إن لم يثبت حجية خصوص الظن بالطريق أي: الظن المانع؛ لكنه لا يثبت عدم حجيته أيضا، فهو باق تحت عموم نتيجة دليل الانسداد، و هذا بخلاف الظن الممنوع المتعلق بالفروع، فإن احتمال حجية الظن المانع الموجب لاحتمال عدم حجية الظن الممنوع لما كان باقيا على حاله؛ لشمول دليل الانسداد له كما تقدم، فهو يمنع استقلال العقل بحجية الظن الممنوع.

و أما الثاني - أعني: عدم استقلاله بحجية غير الظن المانع، فيما إذا كانت النتيجة حجية الظن بالطريق - فلأن المفروض: اقتضاء دليل الانسداد لحجيته، فالعقل مستقل بها، فيكون الظن المانع هو الحجة فقط، فلا يجوز العمل بالممنوع.

و أما الثالث - أعني: عدم استقلاله بحجية غير المانع فيما إذا كانت النتيجة حجية الظن بالفروع و الطريق معا - فلأن دليل الانسداد و إن كان مقتضيا لحجية كل من الظن بالفروع و الأصول - أي: الممنوع و المانع - إلا إن اقتضاءه لحجية المانع تنجيزي؛ لعدم إناطته بشيء و اقتضائه لحجية الممنوع تعليقي، يعني: أنه معلق على عدم ما يمنع استقلال العقل بحجيته، و حيث إن شمول نتيجة الانسداد للظن المانع موجب لسلب استقلال العقل بحجية الظن الممنوع، فيسقط عن الحجية، فيكون المانع هو الحجة دون الممنوع؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 79».

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى ضعف الاستظهار المذكور في نفسه، و أن ما بنى عليه المحققون في نتيجة دليل الانسداد من حجية الظن في الفروع أو الأصول لا يقتضي ما

ص: 67

استظهره الشيخ «قدس سره» منه من حجية الظن الممنوع أو المانع.

قال المصنف في حاشيته على «الرسائل» معلقا على قول الشيخ «قدس سره» ما هذا لفظه: «لا يخفى: أن هذا البناء لا يقتضي وجوب العمل بالممنوع، ضرورة: أن عدم حجية الظن إلا في الفروع لا يلازم حجيته فيها مطلقا؛ و لو ظن عدم اعتباره - إلى أن قال: كما إنه ليس لازم من ذهب إلى حجية الظن في الأصول حجية المانع مطلقا؛ لإمكان أن يكون كل من المانع و الممنوع فيها؛ كما لو قام ظن على عدم حجية ظن قام على حجية أمارة أو أصل، و إنما يصح ذلك فيما كان الممنوع في فرع».

و كيف كان؛ فالكلام في المقام طويل، فمن شاء تفصيل ذلك فليرجع إلى المفصلات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - الظن المانع و الممنوع: توضيح ذلك: كما إذا قامت الشهرة على عدم حجية الظن الحاصل من الاستحسان.

فالظن الحاصل من الشهرة يسمى مانعا، و الظن الحاصل من الاستحسان يسمى ممنوعا و هما متساويان في نظر العقل عند الانسداد من حيث الحجية؛ لإفادة كليهما للظن. غاية الأمر: لا يمكن الأخذ بكليهما معا، فلا بد من الأخذ بأحدهما فقط، فيقع الكلام فيما هو مقتضى مقدمات الانسداد؛ هل هو حجية الظن الممنوع أو المانع، أو تقديم ما له مرجح أو حجية كليهما هناك وجوه؛ بل أقوال.

2 - وجه الأخذ بما هل مرجح: واضح، لا يحتاج إلى البيان. و أما وجه سائر الوجوه و الأقوال: فهو مبني على كون نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن في الفروع، أو في الأصول، أو في كليهما.

فإن قلنا: بأن النتيجة هي الحجية في الفروع: فالمقدم هو الظن الممنوع، و إن قلنا: إن النتيجة هي الحجية في الأصول: فالمقدم هو الظن الممنوع، و إن قلنا: بأن النتيجة حجية كليهما معا: فيتساقطان.

3 - رأي المصنف:

هو تقديم الظن المانع.

ص: 68

فصل

لا فرق (1) في نتيجة دليل الانسداد بين الظن بالحكم من أمارة عليه، و بين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية؛ كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، و هو واضح.

=============

فصل فى الظن بألفاظ الآية أو الرواية

اشارة

(1) أي: لا فرق في عموم النتيجة بين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة عليه بلا واسطة؛ كما إذا قامت الشهرة على وجوب شيء أو حرمته، و بين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة عليه مع الواسطة؛ كالظن الحاصل من أمارة على تفسير لفظ من ألفاظ الكتاب أو السنة؛ «كما إذا قال اللغوي: إن الصعيد هو مطلق وجه الأرض، فأورث الظن في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً * بجواز التيمم بالحجر مثلا، مع وجود التراب الخالص». أو على وثاقة راو ينقل الحكم عن المعصوم «عليه السلام»، فأورث الظن بذلك الحكم.

و الوجه في عدم الفرق: هو إطلاق حكم العقل بحجية الظن حال الانسداد، فلا فرق عنده بين ظن يوصلنا إلى الحكم الواقعي بلا واسطة، أو مع الواسطة، فلا حاجة إلى إعمال انسداد آخر صغير في مثل هذه الموارد «أي: موارد الرجوع إلى قول اللغوي، و علماء الرجال»؛ بل يكفي جريان مقدمات الانسداد الكبير في معظم أحكام الفقه.

ثم إن الظن الحاصل من قول اللغوي حجة إذا كان متعلقا بحكم شرعي، و ليس بحجة في تشخيص موضوعات الأحكام؛ كالألفاظ الواردة في رسائل الوصية أو الوقف؛ لأن المفروض: هو انسداد باب العلم و العلمي في الأحكام، فتكون مقدمات الانسداد تامة في خصوص الأحكام لا الموضوعات. هذا خلاصة الكلام في المقام.

و كيف كان؛ فالغرض من عقد هذا الفصل: التنبيه على أن مقتضى إنتاج مقدمات الانسداد: حجية الظن بمناط الأقربية إلى الواقع، و قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو حجية الظن مطلقا، سواء تعلق بالحكم الشرعي بلا واسطة أو معها كما عرفت؛ إذ بعد حجية مطلق الظن بالانسداد لا فرق في الحجية بين تعلقه بالحكم الشرعي بلا واسطة؛

ص: 69

و لا يخفى: أن اعتبار ما يورثه (1)...

=============

كنقل الراوي عن الإمام «عليه السلام» وجوب صلاة الجمعة، و بين تعلقه بالحكم مع الواسطة أي: بأمارة أخرى غير الأمارة الدالة على نفس الحكم، كما إذا ورد الأمر بالتيمم بالصعيد في قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، و شككنا في جوازه بمطلق وجه الأرض الشامل للحجر مثلا، و فرضنا انسداد باب العلم و العلمي بجوازه، فإذا قال اللغوي: «الصعيد هو مطلق وجه الأرض»، و فرضنا إفادة كلامه للظن، فإنه حينئذ:

يحصل لنا الظن بالحكم الشرعي و هو جواز التيمم بمطلق وجه الأرض؛ لكن بواسطة قول اللغوي، فيجوز لنا أن نقول حينئذ هكذا: يجوز التيمم بالصعيد؛ لأن الصعيد هو مطلق وجه الأرض، فيجوز التيمم بمطلق وجه الأرض، فإذا ثبت جواز التيمم بمطلق وجه الأرض ثبت جوازه بالحجر أيضا؛ لأنه من أفراد مطلق وجه الأرض. فالنتيجة هي: حجية قول اللغوي بدليل الانسداد.

و كذا الكلام بالنسبة إلى الظن الحاصل من كلام الرجالي في تمييز المشتركات مثلا، كما إذا قال: إن عمر بن يزيد الواقع في سند الرواية الكذائية هو الثقة بقرينة كون الراوي عنه ثقة، فإن توثيقه موجب للظن بالحكم الشرعي الذي تضمنته الرواية.

و السر في عدم الفرق في ذلك كله: وحدة المناط في حجية الظن - و هو الأقربية إلى الواقع - في الجميع كما تقدم، و هذا المناط يوجب التلازم بينه و بين مؤدى الأمارة، فيكون الجميع حجة؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 82».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية كما هو العادة.

(1) الضمير المستتر راجع على الموصول المراد به الأمارة، و الضمير البارز راجع على الظن بالحكم، و اسم «كان» ضمير مستتر راجع على الموصول في «فيما» أو «بما» المراد به الحكم.

و غرضه من هذا الكلام: أن اعتبار الأمارة الموجبة للظن بالحكم مع الواسطة - كقول اللغوي - مختص بأحكام انسد فيها باب العلم و العلمي، فمع انفتاح باب العلم و العلمي بها لا يكون ذلك الظن الحاصل من تلك الأمارة حجة فيها - أي: في الأحكام - و إن انسد باب العلم و العلمي في اللغة، فالمدار في حجية قول اللغوي على انسداد باب العلم و العلمي في الأحكام دون انسداد بابهما في اللغة مع فرض الانفتاح في أكثر الأحكام.

و الحاصل: أن المعيار في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي هو: انسداد باب العلم بالأحكام دون اللغات.

ص: 70

لا يختص (1) عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم فقول أهل اللغة حجة (2) فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد؛ و لو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم (3)؛ لا يكاد يترتب عليه أثر آخر (4) من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو

=============

(1) الظاهر أنه هو الصحيح؛ إذ هو في مقام بيان مورد حجية الظن الحاصل من اللغوي، فما في بعض النسخ من «لا يختص» لعله سهو من النساخ.

(2) يعني: إذا انسد باب العلم باللغة في مورد - كلفظ الصعيد في المثال المتقدم - كان قول اللغوي حجة فيه إذا أورث الظن بالحكم الشرعي، مع انسداد باب العلم بالأحكام، و لو فرض انفتاح باب العلم باللغة في غير ذلك المورد؛ إذ المناط في حجية الظن بالحكم الشرعي الثابتة بدليل الانسداد في مورد كلفظ الصعيد تحقق الانسداد؛ و لو في خصوص ذلك المورد.

(3) استدراك على حجية الظن بالحكم الشرعي، الحاصل ذلك الظن من كلام اللغوي بدليل الانسداد.

و حاصله: منع الملازمة في حجيته إذا تعلق بالحكم الشرعي مع حجيته في الموضوعات الخارجية.

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 83» - أن حجية قول اللغوي في الأحكام إذا أوجب الظن بها لا تستلزم حجيته في الموضوعات الخارجية؛ كالوصية و الإقرار و غيرهما من الموضوعات ذوات الآثار؛ لاختصاص دليل الانسداد بالأحكام الكلية، فلا يثبت حجية الظن في غيرها كلفظ «كثير» و «بعض» إذا ورد في وصية أو إقرار؛ كما إذا أوصى زيد بأن يعطى كثير من أمواله لعمرو، أو أقر بأن بعض عقاره لبكر، فإن الظن المتعلق بهما بواسطة قول اللغوي لا يكون حجة؛ بل يتوقف حجيته في الموضوعات ذوات الآثار على قيام دليل غير دليل الانسداد على حجية الظن مطلقا في تلك الموضوعات، سواء حصل من قول اللغوي أم غيره، أو قيام دليل على حجية قول اللغوي في كل مورد حكما كان أو موضوعا، فالظن الحاصل من قول اللغوي بمراد الموصي لا يصير حجة إلا بأحد هذين النحوين.

و هذا الاستدراك أفاده الشيخ أيضا بقوله: «و هل يعمل ذلك الظن في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى اللفظ غير مقام تعيين الحكم الشرعي الكلي كالوصايا و الأقارير و النذور؟ فيه إشكال و الأقوى العدم...»(1) الخ.

(4) يعني: غير تعيين مراد الشارع، و «من تعيين» بيان له و ضمير «عليه» راجع على

ص: 71


1- فرائد الأصول 538:1.

غيرهما (1) من الموضوعات الخارجية؛ إلا (2) فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص (3)، أو ذاك (4) المخصوص، و مثله (5) الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي؛ كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا لا آخر (6).

فانقدح (7): أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد؛ و لو لم يقم دليل على اعتبار قول اللغوي في الأحكام.

=============

(1) أي: كالوقف و النذر اللذين هما من الموضوعات الخارجية، التي يترتب عليها أحكام شرعية جزئية.

(2) استثناء من قوله: «لا يكاد يترتب» يعني: لا يكاد يترتب على الظن «أثر آخر» غير الحكم «من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية؛ إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص»؛ بأن قام دليل عام على حجية الظن مطلقا بالنسبة إلى قول اللغوي؛ كما لو جرت في أقوالهم مقدمات الانسداد كأن يقال: إنا نقطع بتوجه تكاليف إلينا في أبواب الوصايا و الأقارير و نحوهما، و انسد باب العلم و العلمي بمعاني اللغات، و الاحتياط موجب للعسر أو الاختلال، و يقبح ترجيح المرجوح على الراجح، فلا بد من كفاية الظن في اللغة.

(3) متعلق ب «يثبت» يعني: إلا في الموضوع الذي يثبت فيه بالخصوص جواز التعويل على مطلق الظن، و ذلك كالضرر و النسب و غيرهما، فإذا حصل الظن - من أي سبب - بترتب الضرر على الفعل الكذائي كان حجة و ترتب عليه الحكم الشرعي.

(4) عطف على «الخصوص».

(5) أي: و مثل الظن الحاصل بالحكم من أمارة متعلقه بألفاظ الآية أو الرواية: الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي؛ كالظن الحاصل من قول الرجالي في توثيق بعض الرواة و كذا في تعيين المشتركين في اسم واحد؛ كتعيين إن زرارة الواقع في سند كذا هو ابن أعين - على وزن أحمد - الثقة، بقرينته من يروي عنه؛ لا ابن لطيفة.

و وجه اعتبار هذا الظن ما تقدم من أن مقتضى دليل الانسداد هو: حجية الظن بالحكم الشرعي الكلي، سواء تعلق بالظن بالواقع بلا واسطة أم معها.

(6) و هو زرارة بن لطيفة، أو غيره من الستة الذين هم مجاهيل.

(7) أي: فظهر بما ذكر من كفاية كل ظن متعلق بالحكم في حال الانسداد: «أن الظنون الرجالية»، و هي عبارة عن الظن بكثير من الرواة أنهم ثقة أو غير ثقة «مجدية في

ص: 72

اعتبار قول الرجالي لا من باب الشهادة، و لا من باب الرواية.

تنبيه (1): لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند حال الانسداد» أي: انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية؛ «و لو لم يقم دليل» خاص و لا دليل انسداد صغير خاص بباب الرجال، «على اعتبار قول الرجالي لا من باب الشهادة»، و هي الإخبار بشيء عن حسّ ؛ بشرط تعدد المخبر و عدالته؛ بأن يكون اثنين أو أربعة على اختلاف الموارد المعهودة في الشرع، و اندراج قول الرجالي في باب الشهادة إنما هو لأجل تعلقه بموضوع خارجي كالعدالة و الوثاقة و الاستقامة في المذهب و غير ذلك.

=============

و من المعلوم: أن الغالب عدم اقتران قول الرجالي بما يعتبر في الشهادة من التعدد و العدالة.

«و لا من باب الرواية» و هي: إخبار واحد أو أزيد، ففي الشهادة: يعتبر التعدد دون الرواية. و اعتبار قول الرجال في حال الانسداد يكون لأجل الانسداد.

و حاصل كلام المصنف: أن الظن الحاصل من قول الرجالي حجة بدليل الانسداد، من دون حاجة إلى تكليف إثبات حجيته من باب الشهادة أو من باب الرواية.

نعم؛ على فرض الانفتاح: لا بد لإثبات حجيته من الالتزام بكونه من باب الشهادة أو الرواية، أو لأجل الوثوق و الاطمئنان.

تقليل الاحتمالات المتطرقة في الرواية

(1) و قبل الخوض في أصل المقصود ينبغي بيان ما يمكن أن يكون محل الكلام و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن استكشاف الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على حفظ جهات ثلاثة:

1 - الصدر. 2 - الدلالة. 3 - جهة الصدور.

فهناك أقسام، و عمدتها هي ثلاثة:

الأول: إمكان العلم الوجداني في تمامها.

الثاني: إمكان العلمي كذلك.

الثالث: عدم إمكانهما في جميعها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو القسم الثالث، ثم نقول: إن الغرض من هذا التنبيه: أنه إذا حصل الظن بالحكم الشرعي من أمارة قامت عليه، و كان احتمال خلافه ناشئا عن أمور كثيرة مرتبطة بسند تلك الأمارة أو متنها أو دلالتها أو غير

ص: 73

ذلك، و تمكن المكلف من رفع تلك الأمور أو بعضها؛ ليرتفع احتمال الخلاف؛ و ذلك بالفحص عن وجود حجة رافعة لها من علم أو علمي، وجب تحصيل تلك الحجة و رفع الاحتمال مهما أمكن، و إن لم يحصل له بذلك العلم بالحكم؛ و ذلك لأن رفع احتمال الخلاف أو تقليله ربما أوجب قوة في الظن المذكور.

و ببيان أوضح - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 87» -: أنه لا بد في التمسك بالخبر و فهم مراد الشارع منه من إحراز أمور ثلاثة:

أحدها: أصل صدوره.

ثانيها: دلالته على المراد و عدم إجماله.

ثالثها: جهة صدوره، أعني: إحراز أنه صدر لبيان الحكم الواقعي لا لتقيّة مثلا.

و من المعلوم: أن إحراز هذه الأمور - في ظرف الانفتاح - لا بد أن يكون بعلم أو علمي فقط، و لا يكفي إحرازها بالظن المطلق، فإذا ورد في سند رواية «عن ابن سنان» مثلا فلا بد من تحصيل الوثوق بأنه عبد اللّه بن سنان الثقة(1) لا محمد بن سنان الضعيف(2).

و هكذا الكلام بالنسبة إلى دلالة الخبر و جهة صدوره، و هل في حال الانسداد - كما هو المفروض - يتنزل من العلم إلى مطلق الظن و لو بمرتبته الضعيفة، أم اللازم تحصيل المرتبة القوية منه و هي الموجبة للاطمئنان مثلا و جعل الاحتمال الآخر المخالف للظن ضعيفا جدا؟

اختار المصنف وجوب تقليل الاحتمال و الأخذ بخصوص الاطمئنان إذا أمكن؛ و ذلك لأنه - بناء على كون نتيجة مقدمات دليل الانسداد حجية الظن حكومة - لا يبعد استقلال العقل بالحكم بوجوب تضعيف احتمال خلاف الظن من تقليل الاحتمالات

ص: 74


1- هو عبد الله سنان «بن طريف، مولى بني هاشم، و كان خازنا للمنصور و المهدي و الهادي و الرشيد. كوفي، ثقة من أصحابنا، جليل، لا يطعن عليه في شيء. روى عن أبي عبد الله «عليه السلام»، و قيل: روى عن أبي الحسن موسى «عليه السلام»، و ليس يثبت». له كتب. رجال النجاشي: 558/214.
2- محمد بن سنان: «أبو جعفر الزاهري، من ولد زاهر جولى عمرو بن المحق الخزاعي.. روى عن الرضا «عليه السلام».. و هو رجل ضعيف لا يعوّل عليه و لا يلتفت إلى ما تفرد به..»، رجال النجاشي: 88/338. و قد حدّث قبل وفاته أنه «كل ما حدثتكم به لم يكن لي سماع و لا رواية؛ و إنما وجدته». اختيار معرفة الرحال 976/796:2.

أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية (1)، و عدم اقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه (2) فيه (3) بالحجة (4) من علم أو علمي؛...

=============

المتطرقة في السند أو غيره، مثلا: إذا ظن بأن زرارة الراوي هو ابن عين، و كان احتمال إنه ابن لطيفة مثلا ناشئا من أمور يمكن سد بعضها بالحجة من علم أو علمي حتى يصير الظن بأنه ابن أعين في أعلى مراتبه، فمقتضى القاعدة وجوب السد؛ لأن العقل الحاكم بكفاية الإطاعة الظنية إنما يحكم بكفاية خصوص الظن الاطمئناني منها؛ لأنه أقرب إلى الواقع من غيره، فمع التمكن منه لا تصل النوبة إلى غيره من الظنون الضعيفة.

فعلى هذا يجب تقليل الاحتمالات سواء كانت في السند أم الجهة أم الدلالة.

و هذا خلافا لما حكي عن بعضهم من التفصيل في وجوب تقليل الاحتمالات بين الصدور و غيره، و أنه لو فرض إمكان تحصيل العلم أو العلمي بالصدور في مسألة كان باب العلم بحكم تلك المسألة مفتوحا، و إن كان بابه بالنسبة إلى الدلالة وجهة الصدور مسدودا، و عليه: فلا يجوز التنزل في تلك المسألة إلى الظن الانسدادي؛ لعدم تحقق الانسداد؛ بل يجب تحصيل العلم أو العلمي بالصدور، و تحصيل الجهتين الأخريين إما بالعلم أو العلمي إن أمكن أيضا؛ و إلا فبالظن المطلق، و إن لم يكن تحصيل العلم أو العلمي بالصدور؛ بأن كان باب العلم به مسندا وجب التنزل فيه حينئذ إلى ما استقل به العقل، أعني: الظن المطلق؛ و إن أمكن تحصيل العلم أو العلمي بالنسبة إلى الجهتين الأخريين.

و بالجملة: فالمدار في جواز التنزل إلى ما استقل به العقل عند هذا المفصل هو: انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إلى الصدور فقط، و عند المصنف «قدس سره»: هو انسداده بالنسبة إلى أية واحدة من تلك الجهات؛ لكن المعتبر هو التنزل إلى الظن القوي منه، المعبر عنه بالاطمئنان إذا أمكن. و السر في عدم الفرق واضح؛ فإن مجرد كون سند الرواية معلوم الصدور أو مظنونا بالظن الخاص لا يوجب العلم بالحكم الشرعي؛ ما لم تكن ظاهرة في المقصود، و لم يحرز أن صدورها لبيان الحكم الواقعي.

و عليه: فلا فرق بين السند و غيره أعني: الجهتين فيما ذكر من عدم جواز التنزل - حال الانسداد - إلى الظن الضعيف، مع التمكن من الظن القوي عقلا.

(1) التي هي سبب للظن بالحكم، و ضمير «منها» راجع على السند و أخويه.

(2) أي: باب الاحتمال، و الأولى تأنيث الضمير لرجوعه إلى الاحتمالات. و المراد بها الاحتمالات المقابلة للظنون أي: الموهومات.

(3) في السند أو الدلالة أو الجهة، و الأولى تأنيثه أيضا.

(4) متعلق ب «سد» أي: سد باب الاحتمال يكون بالحجة من علم أو علمي.

ص: 75

و ذلك (1) لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف، مع التمكن من القوي (2) أو ما بحكمه (3) عقلا (4)، فتأمل جيدا.

=============

(1) علة لوجوب تقليل الاحتمالات.

فالحاصل: أن المعيار في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي أو الرجالي هو انسداد باب العلم بالأحكام لا باللغات و الموضوعات.

3 - تنبيه: في تقليل الاحتمالات المتطرقة في السند أو الجهة أو الدلالة أو فيها جميعا، بمعنى: أنه إذا حصل الظن بالحكم الشرعي من أمارة، و كان احتمال خلافه ناشئا من

ص: 76

أمور كثيرة مرتبطة بالسند أو الدلالة أو الجهة، و تمكن المكلف من رفع تلك الأمور أو بعضها بالفحص عن وجود حجة رافعة لها من علم أو علمي: وجب تحصيل تلك الحجة، و رفع الاحتمال مهما أمكن و إن لم يحصل له بذلك العلم بالحكم و ذلك لأن رفع احتمال الخلاف أو تقليله ربما يوجب قوة في الظن المذكور.

هذا ما أشار إليه بقوله: «لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات»، مثلا: إذا ظن بأن زرارة الراوي هو ابن أعين، و كان احتمال أنه ابن لطيفة مثلا ناشئا من أمور يمكن سد بعضها بالحجة من علم أو علمي حتى يصير الظن بأنه ابن أعين في أعلى مراتبه: فمقتضى القاعدة: وجوب السد؛ لأن العقل الحاكم بكفاية الإطاعة الظنية إنما يحكم بكفاية خصوص الظن الاطمئناني منها؛ لأنه أقرب إلى الواقع من غيره، فمع التمكن منه لا تصل النوبة إلى غيره من الظنون الضعيفة.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - هو حجية الظن بالحكم الشرعي مطلقا، يعني: سواء كان متعلقا بالحكم الشرعي بلا واسطة أو معها.

2 - وجوب تقليل الاحتمالات، سواء كانت في السند أم الجهة أم الدلالة.

ص: 77

ص: 78

فصل

إنما الثابت (1) بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام هو: حجية الظن فيها لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها؛ بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها كما لا يخفى.

=============

فصل فى الظن بالفراغ

الظن بالاشتغال و الامتثال

(1) المقصود من هذا الفصل: بيان عدم اعتبار الظن الانسدادي في مقام الامتثال، بمعنى: أن الثابت بمقدمات الانسداد هو: حجية الظن في إثبات الأحكام الشرعية لا في إسقاطها و تطبيق المأتي به عليها، فلو ظن المكلف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان هذا الظن حجة، و أما لو شك في الساعة الثانية من أول ليلة من الشهر في أنه هل أتى بالدعاء أم لا؟ ثم حصل له الظن بالإتيان لم يكن ظنه هذا حجة؛ بل يجب عليه الإتيان بالدعاء؛ لأن مقدمات الانسداد لم تدل على حجية الظن بالامتثال؛ بل لا بد و أن يرجع في مقام الامتثال إلى القواعد الخاصة بهذا المقام؛ من استصحاب و قاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز و نحوها.

فالظن الانسدادي إنما يكون حجة في مقام إثبات التكليف، و لا يكون حجة في مقام إسقاط التكليف و امتثاله. هذا مجمل الكلام في المقام.

و أما تفصيل ذلك فيتوقف على مقدمة و هي: إن للعمل بالحجج - و منها الظن الانسدادي - مرحلتين:

الأولى: إثبات التكليف و اشغال الذمة به من علم أو علمي؛ كقيام الدليل على وجوب صلاة الجمعة مثلا.

الثانية: امتثال التكليف و تفريغ الذمة عنه، و لا ملازمة بين المرحلتين في حجية شيء، بمعنى: أنه إذا صار شيء حجة في مرحلة إثبات التكليف و اشغال الذمة به: فلا يستلزم ذلك أن يكون في مرحلة امتثاله و الفراغ عنه حجة أيضا، بتوهم: أن أصل التكليف لما كان ثبوته ظنيا - حسب الفرض - كان امتثاله ظنيا أيضا؛ و إن حصل العلم بالإتيان بمتعلقه و انطباقه على المأتي به.

ص: 79

إذا عرفت هذه المقدمة فالوجه في ذلك واضح، فإن العقل إنما يستقل بحجية الظن و تقرير الجاهل في خصوص ما انسد عليه باب العلم فيه، و هو نفس الحكم.

أما فيما يمكنه فيه العلم كالموضوعات الخارجية و منها امتثال الحكم و تفريغ الذمة عنه:

فلا يستقل بحجية الظن فيه و لا يعذر الجاهل.

ففي المقام: إذا ظن بالانسداد أن صلاة الجمعة واجبة كان هذا الظن في مرحلة ثبوت التكليف به حجة قطعا، و وجبت عليه صلاة الجمعة، فإذا ظن بالظن الانسدادي أيضا أنه أتى بصلاة الجمعة، أو علم أنه أتى بصلاة قطعا، و ظن بالانسداد أن ما أتى به مطابق للمأمور به، مع احتمال عدم الإتيان بها، أو عدم مطابقته له لاختلال بعض الأجزاء أو الشرائط، لم يكن هذا الظن حجة؛ بل لا بد له في مقام الفراغ عما اشتغلت ذمته به من الرجوع إلى غير الظن من علم أو علمي أو أصل كقاعدتي الفراغ و التجاوز.

فحاصل ما اختاره المصنف هو: عدم حجية الظن الانسدادي في مقام الامتثال.

و مثل الظن بأصل الإتيان - في عدم الحجية - الظن بانطباق عنوان الواقع المنجز على المأتي به؛ كما إذا علم بأنه أتى في أول الزوال بصلاة، و بعد مضي زمان صلاة الجمعة حصل له الظن بأنه أتى بها بعنوان صلاة الجمعة لا صلاة الظهر، فلا يكتفي بها؛ بل عليه تحصيل اليقين بإتيان الواقع المنجز، و كذا إذا حصل له الظن بأن قبلة أهل العراق ما بين المشرق و المغرب؛ لكنه لم يتيقن بوقوع الصلاة إليها؛ بل ظن به، فإنه ظن في التطبيق، و لا يندرج في الظن المعتبر بدليل الانسداد.

فالمتحصل: إن اعتبار الظن بدليل الانسداد إنما هو في نفس الأحكام لا في امتثالها؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 92» مع تصرف و تلخيص منا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و ضمير «فيها» و «معها» راجعان على الأحكام، و «معها» متعلق بالتطبيق. و الأولى تبديله ب «عليها». و الأولى سوق العبارة هكذا: «لا حجيته في انطباق الواقع على المأتي به في الخارج»؛ و ذلك لأن الكلي هو الذي ينطبق على الفرد المتشخص الموجود في الخارج دون العكس.

قوله: «فيتبع» يعني الظن، و «في وجوب» متعلق ب «يتبع»، و ضمير «يومها» راجع على الجمعة، و ضميرا «في إتيانها، بإتيانها» راجعان على صلاة الجمعة.

ص: 80

نعم (1)؛ ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من (2) انسداد باب العلم به غالبا.

و اهتمام (3) الشارع به؛ بحيث علم بعدم الرضاء بمخالفة الواقع بإجراء (4) الأصول

=============

(1) استدراك على عدم حجية الظن في غير إثبات الأحكام الكلية من الموضوعات الخارجية؛ كالإتيان و الانطباق، «و في الأحكام» متعلق ب «الانسداد»، و «في بعض» متعلق ب «يجري».

و غرضه: إثبات حجية الظن في بعض الموضوعات بدليل يحتوي على مقدمات تشبه مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام، بعد وضوح عدم وفاء دليل الانسداد المعروف بحجية الظن في الموضوعات؛ و ذلك يتحقق في موضوع ثبت له أحكام شرعية كالضرر الذي أنيط به بعض الأحكام؛ كجواز التيمم و الإفطار، فيقال: إن باب العلم و العلمي إلى الضرر منسد غالبا، و لا يجوز مخالفته لاهتمام الشارع به، و ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، و الاحتياط فيه غير واجب شرعا أو غير ممكن عقلا، و عليه: فإذا دار حكم الوضوء مثلا بين الوجوب إن لم يكن ضرريا، و الحرمة إن كان ضرريا و لم يثبت بعلم و لا علمي كونه ضرريا، فلا محيص حينئذ عن اعتبار الظن في تشخيص الضرر؛ إذ ليس شيء أقرب إليه من الظن.

(2) بيان لقوله: «نظير»، فما ذكره بقوله «من انسداد باب العلم - إلى قوله: - أو عدم إمكانه عقلا» مقدمات تجري في بعض الموضوعات الخارجية، و هي نظير مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام الكلية. و ضمير «به» في الموضعين راجع على بعض الموضوعات.

(3) عطف على «انسداد». ثم إن هذه المقدمة مما لا بد منها لإجراء مقدمات الانسداد في مثل الضرر، و لم يذكرها الشيخ الأنصاري «قدس سره»، مع الاحتياج إليها؛ إذ مجرد انسداد باب العلم بالضرر و استلزام إجراء الأصل للوقوع في مخالفة الواقع كثيرا لا يوجب حجية الظن فيه؛ ما لم ينضم إليهما علمنا باهتمام الشارع، و عدم رضاه بمخالفة الواقع، فإن مجرد الوقوع في الخلاف ليس محذورا حتى يستكشف منه حجية الظن، و لذا لا محذور في اتباع أصالة الطهارة في باب النجاسات، مع العلم بالمخالفة في بعض الموارد واقعا فضلا عن الظن.

(4) متعلق ب «بمخالفة الواقع»، و ضمير «فيه» راجع على بعض الموضوعات.

ص: 81

فيه مهما أمكن، و عدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا؛ كما (1) في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب و الحرمة مثلا، فلا محيص (2) عن اتباع الظن حينئذ (3) أيضا، فافهم (4).

=============

«و مهما أمكن» قيد ل «عدم الرضاء».

(1) مثال لعدم إمكان الاحتياط عقلا؛ لدورانه بين المحذورين، كما أن المراد من «شرعا» قيام الدليل النقلي على عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه.

(2) هذه نتيجة جريان مقدمات الانسداد في بعض الموضوعات.

(3) يعني: حين جريان مقدمات الانسداد في بعض الموضوعات الخارجية. و قوله:

«أيضا» يعني: كما لا محيص عن اتباع الظن في الأحكام حال الانسداد.

(4) لعله إشارة إلى عدم الحاجة إلى اعتبار الظن في مثل الضرر و نحوه بإجراء نظير مقدمات الانسداد؛ كما نبّه عليه الشيخ «قدس سره» بقوله: و أما إذا أنيط - أي: الضرر - بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك؛ بل يشمل حينئذ الشك أيضا؛ و ذلك لأن إجراءها فيه منوط بعدم الخوف موضوعا في الأدلة الشرعية كما في الإفطار و التيمم و غيرهما، فإن الخوف فيهما موضوع، أو طريق إلى الموضوع، و من المعلوم: أن الخوف يحصل بالاحتمال العقلائي، و لا يحتاج إلى الظن، فلا مانع من ترتيب أحكام الضرر بمجرد الاحتمال الموجب للخوف.

و خلاصة الكلام في المقام: أن الغرض من عقد هذا الفصل هو بيان عدم اعتبار الظن الانسدادي في مقام الامتثال، بمعنى: أن الثابت بمقدمات الانسداد هو حجية الظن في إثبات التكليف لا في إسقاطه و امتثاله و تطبيق المأتي به على المأمور به.

فلو ظن المكلف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال: كان هذا الظن حجة. و أما لو شك في الساعة الثانية في أنه هل أتى بالدعاء أم لا؟ ثم حصل له الظن بالإتيان لم يكن ظنّه هذا حجة؛ بل يجب عليه الإتيان بالدعاء؛ لأن مقدمات الانسداد لم تدل على حجية الظن في مقام الامتثال، فلا بد من الرجوع في مقام الامتثال إلى القواعد الخاصة بهذا المقام؛ كالاستصحاب و قاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز و نحوها.

و من هنا يظهر ما هو رأي المصنف «قدس سره» من أن الظن الانسدادي إنما يكون حجة في مقام إثبات التكليف كما عرفت، و لا يكون حجة في مقام إسقاط التكليف و امتثاله.

ص: 82

خاتمة يذكر فيها أمران استطرادا:

اشارة

الأول (1): هل الظن كما يتبع عند الانسداد - عقلا - في الفروع العملية المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح، يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من

=============

الاول حكم الظن فى الامور الاعتقادية

الظن في الأمور الاعتقادية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر الأول: هو بيان حكم الظن الانسدادي من حيث الحجية و عدمها في الأمور الاعتقادية حال الانسداد، بمعنى: أن الظن الانسدادي هل يكون حجة في الأمور الاعتقادية حال الانسداد كما هو حجة في الفروع العملية أم لا؟ يقول المصنف «قدس سره»: إن الحق عدم حجيته فيها؛ كما أشار إليه بقوله: «الظاهر لا».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي إن الأمور الاعتقادية - على ما يظهر من المصنف «قدس سره» - على قسمين:

الأول: ما لا يجب على المكلف تحصيل العلم و اليقين به لا عقلا و لا شرعا، و هو ما يكون متعلق الوجوب فيه نفس عقد القلب و الالتزام بما هو الواقع، من دون أن يتعلق تكليف بلزوم تحصيل المعرفة به، ثم عقد القلب به عن علم؛ إلا إذا حصل له العلم به أحيانا، فيجب بحكم العقل و الشرع الاعتقاد به و عقد القلب له، و لا يجوز له الإنكار و الجحود كتفاصيل البرزخ و المعاد؛ من سؤال القبر و الصراط و الحساب و الكتاب و الميزان و الجنة و النار و غيرها. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «فإن الأمر الاعتقادي و إن انسد باب القطع به إلا إن باب الاعتقاد إجمالا - بما هو واقعه و الانقياد له و تحمله - غير منسد»، فهذا القسم ما لا يجب فيه تحصيل العلم حال الانفتاح حتى يجب تحصيل الظن حال الانسداد.

و القسم الثاني: ما يكون متعلق الوجوب فيه معرفته و العلم به ليكون الاعتقاد به عن علم، فيجب على المكلف تحصيل العلم به تفصيلا بحكم العقل، ثم الاعتقاد به و عقد القلب عليه عن علم؛ كالتوحيد و النبوة و الإمامة. و هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «نعم؛ يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن من باب وجوب المعرفة لنفسها».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحق عدم حجية الظن في الأمور الاعتقادية.

أما عدم اعتبار الظن في القسم الأول: فلما عرفت من عدم اعتبار العلم فيه حتى يقوم الظن مقامه مع الانسداد، فإن المطلوب فيه - و هو الاعتقاد و التسليم بما هو في الواقع - يحصل بدون العلم و الظن، بداهة: حصول الانقياد بمجرد عقد القلب على الأمر

ص: 83

الاعتقادي على ما هو عليه في الواقع، فيحصل ما هو المطلوب في هذا القسم بمجرد الاعتقاد على ما هو عليه في الواقع.

و هذا بخلاف الفروع العملية، حيث إن المطلوب فيها: مطابقة عمل الجوارح مع الواقع، فإذا انسد باب العلم فيها لا يمكن العلم بمطابقة عمل الجوارح مع الواقع إلا بالاحتياط التام في الشبهات.

و لما كان الاحتياط كذلك موجبا للعسر و الحرج أو الاختلال: فليس هنا شيء أقرب إلى الواقع من العمل على وفق الظن.

فالمتحصل: أنه لا تجري مقدمات الانسداد في هذا القسم، و لا يكون مجال لحجية الظن فيه؛ لأنه إذا انسد باب العلم فيه يمكن العلم بمطابقة عمل الجوانح مع الواقع بالاعتقاد الإجمالي بما هو واقعه.

و أما عدم اعتبار الظن في القسم الثاني: - و هو ما يكون متعلق الوجوب فيه معرفته و العلم به؛ ليكون الاعتقاد به عن علم - فلعدم جواز الاكتفاء بالظن فيه قطعا؛ لأن الواجب عقلا عند العدلية و شرعا عند الأشاعرة: إنما هو المعرفة، و من البديهي: أن الظن ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن، و مع العجز عنه: كان معذورا، و لا دليل حينئذ على جريان مقدمات، أي: لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن عند اليأس عن تحصيل العلم في المقام؛ لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه؛ بل بعدم جوازه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

فحاصل الكلام في المقام: أنه لا مجال للظن في مطلق الأمور الاعتقادية، و هناك أقوال و في نقلها و النقض و الإبرام فيها يخرج الكلام عن الاختصار المطلوب في هذا الشرح.

قوله: «عقلا» إشارة إلى ما اختاره من حجية الظن حال الانسداد على الحكومة دون الكشف.

قوله: «المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح» إشارة إلى ما قيل في تعريف الحكام الفرعي من كونه مما يتعلق بالعمل بلا واسطة، فالمطلوب أولا: هو العمل بالجوارح، و الالتزام النفساني لو كان مطلوبا في الفروع كان مطلوبا ثانيا.

قوله: «يتبع في الأصول» خبر «هل الظن»، و «من الاعتقاد» بيان لعمل الجوانح.

ص: 84

الاعتقاد به، و عقد (1) القلب عليه، و تحمله و الانقياد له، أو لا؟.

الظاهر: لا، فإن (2) الأمر الاعتقادي و إن انسد باب القطع به؛ إلا إن باب الاعتقاد إجمالا - بما هو واقعه و الانقياد له و تحمله - غير (3) منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته (4) مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، و المفروض (5):

=============

(1) هذا و ما بعده بيان للاعتقاد و الضمائر الأربعة المجرورة راجعة على الأصل الاعتقادي المستفاد من «الأصول الاعتقادية»، و تأنيثها أولى.

ثم إن العلم و الاعتقاد ليسا متلازمين؛ بل النسبة بينهما عموم من وجه؛ لاجتماعهما في بعض الموارد كمن يعلم بأصول العقائد و يعقد قلبه عليها، و يفترقان في عقد القلب على ما هو عليه من دون علم به؛ كاعتقاد أكثر المؤمنين بخصوصيات البرزخ و الحشر مع عدم علمهم بها، و في علم بعض ببعض أصول العقائد، مع عدم عقد القلب عليه كالمنافقين، حيث إنهم يعلمون ببعض الأمور الاعتقادية و لا يعتقدون بها؛ كما يشهد به قوله تعالى: جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (1).

(2) تعليل لعدم حجية الظن في الأصول الاعتقادية. و حاصله: أن اعتبار الظن في الأصول الاعتقادية منوط بتمامية مقدمات الانسداد التي منها عدم إمكان الاحتياط المحرز عملا لمطابقة المأتي به للواقع؛ ليدور الأمر بين الأخذ بالمظنون و طرفه، و يقدم الأخذ بالمظنون نظرا إلى قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

و هذا بخلاف الأصول الاعتقادية، فإن باب الاعتقاد فيها و لو إجمالا مفتوح، و معه لا دوران حتى تصل النوبة إلى اعتبار الظن فيها.

(3) خبر «إن باب»، و قوله: «إجمالا» قيد للاعتقاد أي: الاعتقاد الإجمالي، و «بما» متعلق ب «الاعتقاد»، و ضمير «واقعه» راجع على الأمر الاعتقادي.

و قوله: «و الانقياد له و تحمله» عطف تفسيري للاعتقاد، و ضميرا «له، تحمله» راجعان على الموصول في «بما هو».

(4) أي: مطابقة العمل حال الانسداد كما هو مفروض البحث، و ضمير «فإنه» للشأن، و ضمير «واقعه» راجع على العمل بالجوارح.

(5) و الواو في «و المفروض» للحال أي: و الحال أن الاحتياط غير واجب شرعا، أو غير جائز عقلا؛ كما تقدم في مقدمات الانسداد.

ص: 85


1- النمل: 14.

عدم وجوبه شرعا أو عدم جوازه عقلا، و لا أقرب من العمل على وفق الظن (1).

و بالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية (2) على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يحتمل (3) إلا لما هو الواقع و لا ينقاد إلا له؛ لا لما هو مظنونه.

و هذا بخلاف العمليات (4)، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.

نعم؛ يجب (5) تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن من باب وجوب

=============

(1) يعني: و ليس شيء أقرب إلى الواقع من العمل بالظن، فلو لم يعمل به بل عمل بما دونه لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و قد عرفت قبحه في مقدمات الانسداد.

(2) من الانقياد و الاعتقاد المقابل للجحود و الإنكار، و ضمير «فيها» في الموضعين راجع على الاعتقاديات.

(4) و هي الفروع التي يكون المطلوب فيها العمل الخارجي. هذا تمام الكلام في القسم الأول من الأصول الاعتقادية.

(3) هذا نتيجة لقوله: «لا موجب مع انسداد باب العلم...».

(5) هذا شروع في بيان القسم الثاني من الأمور الاعتقادية، و هو ما يكون متعلق الوجوب فيه معرفته و العلم به؛ ليكون الاعتقاد به عن علم، و عرفت توضيح ذلك.

و حاصل الكلام فيه: أن تحصيل المعرفة بالله تعالى واجب نفسي عقلي عند العدلية، و شرعي عند الأشاعرة لإنكارهم التحسين و التقبيح العقليين، و الوجه في وجوبه عقلا:

هو وجوب شكر المنعم، و المعرفة تكون أداء له، فتجب، فنفس المعرفة شكر للمنعم، و هذا المناط يوجد في معرفة الأنبياء و الأئمة «عليهم السلام» فتجب معرفتهم من باب شكر المنعم؛ لأنهم وسائط نعمه و فيضه «جل و علا».

و لا دليل على وجوب المعرفة بأمر آخر غير ما ذكر إلا أن ينهض من الشرع ما يدل عليه. و زاد الشيخ الأنصاري «قدس سره» عليها: وجوب تحصيل المعرفة بالمعاد الجسماني حيث قال «قدس سره»: «و بالجملة: فالقول بأنه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات، المنزه عن النقائض و بنبوة محمد «صلى الله عليه و آله و سلم» و بإمامة الأئمة، و البراءة من أعدائهم و الاعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالبا عن الاعتقادات السابقة غير بعيد بالنظر إلى الأخبار و السيرة المستمرة...»(1) الخ. «الوصائل

ص: 86


1- فرائد الأصول 568:1.

المعرفة لنفسها (1).؛ كمعرفة الواجب تعالى و صفاته، أداء (2) لشكر بعض نعمائه، و معرفة (3) أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه و آلائه؛ بل و كذا معرفة الإمام «عليه السلام» على وجه صحيح (4)، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي و وصيه لذلك (5)، و لاحتمال الضرر (6) في تركه (7)، و لا يجب (8) عقلا معرفة غير ما ذكر؛ إلا ما وجب إلى الرسائل، ج 5، ص 80». و مراده بالاعتقادات السابقة: تفاصيل المعاد من الحساب و الصراط و الميزان و غيرها.

=============

(!) صريح العبارة: أن وجوب المعرفة نفسي لا غيري، و الوجه فيه كونه «تبارك و تعالى» مستجمعا لجميع صفات الكمال، فيستحق أن يعرف.

(2) ظاهره: أن وجوب المعرفة غيري مقدمة لشكر المنعم الواجب و هو ينافي وجوبها نفسيا؛ كما أفاده المصنف. إلا أن يقال: إن المراد من وجوب المعرفة نفسيا إن وجوبها ليس كالوجوبات المقدمية الناشئة من وجوب الغير، فلا ينافي كونه لأجل الغير و هو أداء الشكر. أو يقال: مقصوده «قدس سره»: أن نفس المعرفة بما هو شكر واجب؛ بل أعلى مراتب الشكر من العلم و الحال و العمل.

(3) عطف على «معرفة الواجب».

(4) و هو كون الإمامة كالنبوة من المناصب الإلهية، فالإمام كالنبي منصوب من قبله «سبحانه و تعالى»، و من وسائط نعمه و آلائه، فتجب معرفته «عليه السلام» كمعرفة النبي «صلى الله عليه و آله و سلم».

(5) أي: لأداء شكر المنعم.

(6) هذا وجه ثان لوجوب تحصيل المعرفة به تعالى و بنبيه و وصيه، يعني: أن وجوب معرفة الباري «عزّ و جل» و النبي و الوصي يكون لأداء الشكر، و لاحتمال الضرر في ترك المعرفة. هذا لكن التعليل باحتمال الضرر ينافي نفسية وجوب المعرفة و يجعله غيريا. إلا أن يوجه بما تقدم من أن المراد بنفسية الوجوب عدم كونه ناشئا عن وجوب الغير، فلا ينافي كونه لأجل الغير و هو الضرر.

(7) الأولى أن يقال: «في تركها» لرجوع الضمير إلى المعرفة.

(8) يعني: أن الأمور الاعتقادية التي يجب عقلا تحصيل المعرفة بها ثم عقد القلب عليها - الذي هو المطلوب في جميع الأمور الاعتقادية على ما تقدم في صدر البحث - منحصرة في الأمور الثلاثة المذكورة، أعني: ذات الباري تعالى، و النبي و الإمام «عليهما السلام»، و لا دليل عقلا على وجوب المعرفة في غيرهم من الاعتقاديات.

ص: 87

شرعا معرفته؛ كمعرفة الإمام «عليه السلام» على وجه آخر (1) غير صحيح؛ أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته.

و ما لا دلالة (2) على وجوب معرفته بالخصوص، لا من العقل و لا من النقل كان (3) أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة.

و لا دلالة لمثل قوله تعالى (4): وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ (2)...

=============

(1) و هو عدم كون الإمامة من المناصب الإلهية كما يقوله به غيرنا، و وجوب معرفته حينئذ لا يكون عقليا؛ لأنه على هذا المبنى الباطل ليس من وسائط نعمه «جل و علا»، فلو وجب معرفته لكان شرعيا كما ادعى دلالة الروايات المدعى تواترها مثل: «من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(1) على ذلك.

نعم؛ مقتضى كون المعاد من ضروريات الدين هو وجوب العلم به شرعا. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(2) غرضه من هذا الكلام: تمهيد قاعدة في موارد الشك في وجوب المعرفة فيما لم يثبت وجوب معرفته عقلا و لا شرعا، و أن أصالة البراءة محكمة فيها، فينفي وجوبها؛ لأنها المرجع فيها، و لا تختص أصالة البراءة بالفروع العملية لعموم أدلتها.

قوله: «أو أمر آخر» عطف على «الإمام»؛ و ذلك كالمعاد الجسماني، فإنه مما استقل العقل بوجوب وجوده؛ لكن لم يحكم بوجوب معرفته؛ لعدم وجود مناط الحكم العقلي - و هو شكر المنعم - فيه حتى تحصيل العلم به، بل و لا يتم الحكم بوجوب العلم به بمناط دفع الضرر المحتمل أيضا.

(3) خبر الموصول في «و ما لا دلالة» المراد به الأصل الاعتقادي الذي لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص، و ضمير «معرفته» راجع على هذا الموصول أيضا.

(4) إشارة إلى توهم و إشكال و دفعه، و الإشكال: أن ما ذكره المصنف من الرجوع إلى البراءة عند الشك و عدم دلالة على وجوب المعرفة مجرد فرض لا واقع له؛ إذ هناك جملة من الآيات و الروايات تدل على وجوب معرفة جميع ما جاء به النبي، سواء كان من الأمور الاعتقادية أو الفرعية، فليس هناك ما لا دلالة له على وجوب معرفته حتى يرجع فيه إلى أصالة البراءة؛ بل المرجع عند الشك هو: عموم وجوب المعرفة المستفاد من

ص: 88


1- الإيضاح: 76، كمال الدين: 5/409، ينابيع المودة 373:3.
2- الذاريات: 56.

الآية (1)، و لا لقوله (2): «صلى الله عليه و آله و سلم»: «و ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس»(1) ، و لا لما دل على وجوب التفقه (3) و طلب العلم من الآيات و روايات على وجوب معرفته بالعموم.

ضرورة (4): أن المراد من يَعْبُدُونَ * هو خصوص عبادة الله و معرفته، و النبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات؛ لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا، و مثل آية جملة من الآيات و الروايات، فلا بد أولا من تقريب الاستدلال بهما كي يتضح الجواب عنهما ثانيا.

=============

(1) و أما تقريب الاستدلال بالآية المباركة بعد البناء على تفسير لِيَعْبُدُونِ ب «يعرفون» - كما حكي اتفاق المفسرين عليه، حيث فسرت العبادة بالمعرفة - فيقال: أن الغاية المطلوبة من الخلقة هي المعرفة و هي مطلقة، و مقتضى إطلاقها: عدم اختصاص وجوب المعرفة بذاته «تبارك و تعالى» و بصفاته، و بالنبي و الإمام «عليهما السلام»، فحينئذ:

كل مورد شك في وجوب تحصيل المعرفة فيه يتمسك بالإطلاق المزبور.

(2) عطف على «لمثل قوله تعالى»، و تقريب الاستدلال بقول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»: أن الصلوات الخمس الواجبة جعلت متأخرة عن المعرفة، فيعلم من وجوبها وجوب المعرفة، و لما كان وجوبها مطلقا فمقتضى إطلاقه جواز التمسك به في موارد الشك في وجوب المعرفة.

(3) إشارة إلى تقريب الاستدلال بآية النفر، فيقال في تقريب الاستدلال بها: أن الآية المباركة - لمكان قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا - تدل على وجوب التفقه و التعلم، و مقتضى إطلاقه: عدم اختصاصه بمورد دون آخر.

و كذا ما ورد من الروايات في الحث على طلب العلم، فإن إطلاق الأمر بتحصيله يشمل الأصول الاعتقادية و تفاصيلها. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بجملة من الآيات و الروايات على وجوب المعرفة، و مقتضى الإطلاق أو العموم فيهما هو: الرجوع إلى الإطلاق و العموم في موارد الشك في وجوب المعرفة، لا إلى أصالة البراءة؛ إذ لا يجوز الرجوع إلى الأصول العملية مع وجود الأدلة الاجتهادية.

(4) تعليل لقوله: «و لا دلالة»، و شروع في الجواب عن الاستدلال بجملة من الآيات و الروايات على وجوب المعرفة مطلقا.

ص: 89


1- الكافي 1/264:3، تهذيب الأحكام 932/236:3، و فيهما: «من هذه الصلاة» بدل «الصلوات الخمس».

النفر، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب؛ لا بيان ما يجب فقهه و معرفته، كما لا يخفى.

و كذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه؛ لا بصدد بيان ما يجب العلم به (1).

=============

توضيح الجواب: أن الأدلة المتقدمة لا تنهض لإثبات وجوب تحصيل المعرفة مطلقا؛ حتى يندرج المقام فيه، فلا دلالة لشيء مما ذكر من الآيات و الروايات بالعموم على وجوب المعرفة في جميع المسائل الاعتقادية تفصيلا. و أما الآية الشريفة - وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ - فلأن المستفاد منها هو خصوص معرفة الله، فالمعرفة فيها تختص به سبحانه و لا تعم غيره؛ لأن النون في لِيَعْبُدُونِ للوقاية، و قد حذف ياء المتكلم و كان في الأصل «ليعبدوني»، و معه فلا إطلاق فيه حتى يستدل به على وجوب المعرفة بتفاصيل الأمور الاعتقادية.

و أما النبوي: فلأنه ليس بصدد بيان حكم المعرفة حتى يكون له إطلاق يؤخذ به في مورد الشك في وجوب المعرفة؛ بل إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات الخمس و أهميتها و أنها أفضل من سائر الواجبات بعد المعرفة، فلا يستفاد منه إطلاق و لا عموم لوجوب المعرفة.

و أما آية النفر: فهي في مقام كيفية النفر للتفقه؛ لا في مقام ما يجب فقهه و معرفته.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و بعبارة أخرى: إنها ليست بصدد بيان موضوع التعلم حتى يكون إطلاقها قاضيا بعدم الاختصاص ببعض الموارد؛ بل إنما هي بصدد بيان ما يجعل وسيلة إلى التفقه الواجب، و طريق يسهل معه التعلم الواجب، و أنه يحصل بأن ينفر من كل فرقة طائفة للتفقه، و لا يجب نفر الجميع، و عليه: فلا إطلاق فيها من حيث المورد.

و أما الروايات الدالة على طلب العلم: فلأنها في مقام وجوب طلب العلم، من دون نظر إلى ما يجب العلم به، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى ما يجب علمه. حتى يتمسك به في موارد الشك في وجوب المعرفة.

و بالجملة: فلا دليل على وجوب المعرفة مطلقا حتى يصح التمسك به في موارد الشك في وجوبها.

(1) أي: و الإطلاق فرع كونها في مقام بيان ما يجب العلم به.

ص: 90

ثم إنه (1) لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا، حيث إنه ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن، و مع العجز عنه: كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب، مع قلة الاستعداد كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، و لو لأجل حب طريقة الآباء و الأجداد، و اتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخلف، و قلّما عنه تخلف.

و المراد من المجاهدة في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا(1) هو المجاهدة مع النفس؛ بتخليتها عن الرذائل و تحليتها بالفضائل، و هي التي كانت أكبر

=============

(1) الضمير للشأن غرضه بيان قيام الظن مقام العلم بعد الفراغ مما يجب تحصيل المعرفة به عقلا أو شرعا و عدم قيامه مقامه، و مرجعية البراءة في موارد الشك.

و توضيح ما أفاده: أنه قد استدل على كفاية الظن في أصول الدين بوجوه:

الأول: أن الظن معرفة مطلقا، سواء في حال الانفتاح أم الانسداد؛ بحيث تصدق المعرفة عليه كصدقها على العلم، فيكتفى بالظن في الأصول حتى في حال انفتاح باب العلم بها. و فيه ما أشار إليه المصنف بقوله: «حيث إنه ليس بمعرفته قطعا». و حاصله: أن الظن ليس مصداقا للمعرفة الواجبة في بعض الأصول الاعتقادية؛ إذ المعرفة عرفا هي العلم و لا تصدق على غيره، فمع التمكن من تحصيل العلم يجب تحصيله، و لا يجوز الاكتفاء بالظن. و مع عدم التمكن منه: يكون معذورا إن كان العجز عن تحصيل العلم مستند إلى القصور الناشئ عن عدم المقتضي؛ كقلة الاستعداد و غموض المطلب، أو وجود المانع كغفلته و عدم التفاته.

و إن كان العجز عنه مستندا إلى التقصير في الاجتهاد؛ و لو لأجل حب طريقة الآباء:

فإن هذا الحب ربما يوهم كون تلك الطريقة حقا، فيورث الخطأ في الاجتهاد، فهو غير معذور؛ بل مقصر لأجل الحب المزبور الملقى له في الخطأ.

قوله: «كما هو المشاهد...» الخ. إشارة إلى دفع ما قيل: من عدم وجود القاصر استنادا إلى حصر المكلف في المؤمن و الكافر، و خلود الكافر في النار، و إلى قوله تعالى:

وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا .

و أما دلالة حصر المكلف في المؤمن و الكافر على نفي الجاهل القاصر: فيتوقف على مقدمة و هي: أن هناك ما دل على خلود الكافر في النار، و هناك حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر.

ص: 91


1- العنكبوت: 69.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن انضمام حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر، مع ما دل على خلود الكافر في النار ينتج: أن يكون كل كافر إما عالما أو جاهلا عن تقصير، فحينئذ: ما تراه قاصرا عاجزا عن العلم قد يمكن عليه تحصيل العلم بالحق؛ و لو في زمان ما و إن صار عاجزا قبل ذلك أو بعده، و العقل لا يقبح عقاب مثل هذا الشخص.

و أما قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا على نفي الجاهل عن قصور:

فلأن الآية المباركة تدل على انفتاح الطريق إلى معرفة الحق في جميع الحالات، و الطريق هو الجهاد في سبيل الوصول إلى الحق، فقد وعد الله تعالى في هذه الآية: أن كل من جاهد في الحق و تفحص عنه يهتدي إلى سبيل الهداية و يصل إلى مطلوبه و هو الحق.

فالمتحصل: أن الآية المباركة تدل على أن من جاهد في سبيله تعالى بتحصيل المعرفة به و بأنبيائه و أوصيائه «عليهم السلام» فقد هداه الله تعالى و جعل له مخرجا، فالمكلف إما عالم مؤمن و هو المجاهد في سبيل ربه لتحصيل المعرفة، و إما جاهل مقصر كافر، و هو التارك للمجاهدة بتحصيل المعرفة، فلا وجود للقاصر.

و حاصل جواب المصنف «قدس سره» عن الأول - و هو حصر الناس في المؤمن و الكافر - وجود القاصر في أصول الدين كما هو المشاهد و المحسوس «في كثير من النساء» و الأطفال في أوائل البلوغ؛ «بل الرجال»، و لذا قال الشيخ «قدس سره»: «و لكن الذي يقتضيه الإنصاف: شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين»، إلى أن قال: «مع ورود الأخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن و الكافر»(1)، و تركنا ذكر تلك الأخبار رعاية للاختصار.

و أما الجواب عن آية المجاهدة: فلأنه ليس المراد من المجاهدة الواردة في الآية النظر و الاجتهاد في تحصيل العلم و المعرفة؛ بل هو المجاهدة مع النفس التي هي أكبر من الجهاد مع الكفار، كما في حديث أن رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» قال لأصحابه: - بعد رجوعهم من محاربة المشركين - «قد بقي عليكم الجهاد الأكبر». قالوا: و ما هو يا رسول الله ؟ قال: «الجهاد مع النفس»(2). فالآية أجنبية عن المقام.

و كيف كان؛ فليس المراد من المجاهد في الآية المباركة: النظر و الاجتهاد في المطالب

ص: 92


1- فرائد الأصول 576:1.
2- الكافي 382:5، أمالي الصدوق: 740/553، و بلفظ: «مجاهدة العبد هواه»؛ كما في فيض القدير 6107/669:4، أو «جهاد القلب» كما في كشف الخفاء 1362/424:1.

من الجهاد؛ لا النظر و الاجتهاد (1) و إلا (2) لأدى إلى الهداية، مع أنه يؤدي إلى الجهالة و الضلالة إلا إذا كانت هناك منه تعالى عناية، فإنه (3) غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق لا بصدد الحق، فيكون مقصرا مع اجتهاده، و مؤاخذا (4) إذا أخطأ على قطعه و اعتقاده.

ثم لا استقلال للعقل (5) بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم، فيما (6) العلمية التي منها أصول الدين؛ حتى تكون المجاهدة مؤدية إلى الواقع، و لا يقع فيها الخطأ أصلا؛ إذ لو كان المقصود من المجاهدة النظر في المطالب العلمية لزم - بمقتضى قوله تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا

=============

- إصابة الاجتهاد بالواقع دائما، مع وضوح التخلف في كثير من الاجتهادات، و هذا التخلف يشاهد على أن المقصود من الآية المباركة هو الحث على مجاهدة النفس بترك العمل بمشتهياتها؛ لا الترغيب على خصوص تحصيل العلم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: ليس المراد من المجاهدة النظر و الاجتهاد.

(2) أي: و لو كان المراد بالمجاهدة الاجتهاد و النظر: لزم إصابته دائما، مع أنه يخطئ كثيرا بشهادة الوجدان، فضمير «أنه» راجع على النظر و الاجتهاد.

(3) تعليل لقوله: «يؤدي»، و الضمير راجع على المجتهد و الناظر.

(4) أي: فيكون الناظر و المجتهد مؤاخذا على عدم إصابة الواقع لتقصيره بعدم طلبه للحق، و قوله: «على قطعه» متعلق ب «مؤاخذا».

(5) هذا إشارة إلى أحد الوجوه التي استدل بها على وجوب تحصيل الظن في أصول الدين عند تعذر العلم، و حاصله: دعوى استقلال العقل بلزوم تحصيل الظن عند انسداد باب العلم في أصول العقائد؛ لأن الظن من مراتب العلم، فيكون كالعلم شكرا للمنعم.

و ملخص جواب المصنف عنه: هو منع استقلال العقل؛ لعدم الحاجة إلى الظن بعد عدم توقف امتثال التكليف - أعني: وجوب الاعتقاد - على الظن.

قال الشيخ: - بعد إثبات وجود القاصر خارجا - ما لفظه: «و المقصود فيما نحن فيه الاعتقاد، فإذا عجز عنه فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الذي لا يغني من الحق شيئا»(1).

(6) متعلق ب «تحصيل الظن»، و المراد بالموصول في «فيما»: الموارد التي يجب تحصيل العلم فيها، و ضمير «تحصيله» راجع على العلم يعني: لا يستقل العقل بوجوب تحصيل الظن في هذه الموارد عند اليأس عن تحصيل العلم فيها، و هي المعرفة بالصانع «عزّ و جل»

ص: 93


1- فرائد الأصول 577:1.

يجب تحصيله عقلا لو أمكن (1)، لو لم نقل (2) باستقلاله بعدم وجوبه؛ بل (3) بعدم جوازه؛ لما (4) أشرنا إليه من إن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها و الانقياد لها، فلا (5) إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العلمية، كما لا يخفى.

و كذلك (6) لا دلالة من النقل على وجوبه، فيما يجب معرفته مع الإمكان و بالنبي و الأئمة «عليهم السلام».

=============

(1) قيد ل «يجب»، و الضمير المستتر فيه راجع على تحصيل العلم.

(2) قيد لقوله: «لا استقلال»، و هو إضراب عن عدم استقلال العقل بالوجوب إلى استقلاله بعدم الوجوب، و حاصله: أن العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الظن عند تعذر العلم؛ بل يحكم بعدم لزومه؛ لما عرفت من: عدم الحاجة إلى الظن في عقد القلب الذي هو المطلوب في الأصول الاعتقادية.

(3) متعلق ب «لو لم نقل» و إضراب عن استقلال العقل بعدم الوجوب إلى استقلاله بعدم جواز تحصيل الظن؛ لأن عقد القلب على المظنون تشريع محرم.

(4) تعليل لعدم الوجوب لا عدم الجواز، و حاصله: ما تقدم من: أنه مع انسداد باب العلم في الأمور الاعتقادية لا موجب للتنزل إلى الظن فيها؛ لإمكان عقد القلب على ما هو واقعها، و عليه: فلا استقلال للعقل بحجية الظن في الاعتقاديات.

و هذا بخلاف الأمور العملية، فإن امتثال الأحكام الفرعية موقوف على العلم بمطابقة العمل لمتعلق الحكم، أو الاحتياط، و الثاني غير واجب أو غير جائز، و قد أشار إلى ذلك بقوله سابقا: «فلا يتحمل إلا لما هو الواقع، و لا ينقاد إلا له؛ لا لما هو مظنونه». و هذا بخلاف العمليات، فلا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.

(5) هذا قرينة على أن قوله: «لما أشرنا» علة لعدم تحصيل الظن لا لعدم جوازه؛ لأن الإلجاء يوجب حجية الظن، و هو مفقود هنا؛ إذ ليس في مرحلة العمل حتى يتعذر التوقف فيه و يتعين العمل بالعلم إن أمكن تحصيله، أو بالظن مع تعذره؛ لكونه أقرب إلى الواقع من غيره، مع فرض عدم جواز إجراء الأصول النافية لاستلزامه الخروج عن الدين، و لا الاحتياط لعدم وجوبه أو عدم جوازه، و هذا السبب لجواز العمل بالظن مفقود هنا، و بانتفائه بالنسبة إلى الأصول الاعتقادية ينتفي المسبب، و هو حجية الظن فيها.

(6) عطف على قوله: «لا استقلال للعقل» يعني: كما أنه لا استقلال للعقل بلزوم تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم بالاعتقاديات، كذلك لا دلالة للنقل على وجوب تحصيل الظن عند تعذر العلم فيما يجب معرفته عن علم مع الإمكان؛ بل في

ص: 94

شرعا (1)؛ بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن، دليل على عدم جوازه أيضا (2).

و قد انقدح من مطاوي ما ذكرنا (3): أن القاصر يكون في الاعتقاديات (4) للغفلة، وجوب تحصيل الظن عند تعذر العلم فيما يجب معرفته عن علم مع الإمكان؛ بل في النقل ما يدل على عدم الجواز، و هو ما دل على النهي عن متابعة الظن، فإنه إما مختص بأصول الدين و إما عام، و على التقديرين: يثبت المقصود و هو النهي عن اتباع الظن في الأصول، غاية الأمر: أن الأثر الشرعي تارة: يترتب على العمل الجوانحي، و هو الاعتقاد كما هو المطلوب في أصول العقائد، و أخرى: على العمل الجوارحي كما هو المطلوب في الفروع، و هذا الاختلاف غير قادح في شمول الدليل و عمومه.

=============

(1) قيد ل «وجوبه»، و ضمير «وجوبه» راجع على تحصيل الظن، و «مع الإمكان» قيد «يجب» يعني: لا يدل النقل على وجوب تحصيل الظن شرعا، كما لا يدل العقل على وجوبه.

(2) يعني: كما كان العقل دالا على عدم جواز تحصيل الظن كما تقدم في قوله:

(3) و هو قوله: «و مع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلته».

و غرضه: بيان وجود القاصر في الخارج، و لعل إعادته مع بنائه على مراعاة الإيجاز لأجل الإشارة إلى بعض صور القاصر من حيث المعذورية و عدمها؛ إذ القاصر على قسمين:

أحدهما: أن يكون غافلا محضا.

الثاني: أن يكون ملتفتا مع قصوره عن الوصول إلى الواقع؛ لعدم استعداده و هو على وجوه: أحدها: أن يكون منقادا لما يحتمله واقعا.

ثانيها: أن لا يكون منقادا و لا معاندا له.

ثالثها: أن يكون معاندا لما يحتمله حقا في الواقع.

لا إشكال في المعذورية في القسم الأول، و هو كونه غافلا محضا، و كذا في الوجه الأول من القسم الثاني، و هو كونه منقادا لما يحتمله واقعا.

و أما الوجهان الأخيران منه: فالظاهر عدم كونه معذورا، خصوصا الأخير و هو المعاند لما يحتمله.

(4) بمعنى: أن القاصر يوجد في الاعتقاديات، ف «يكون» تامة، و فاعله ضمير مستتر راجع على القاصر، يعني: أن القاصر يوجد في الاعتقاديات. و قوله: «للغفلة» علّة لوجود القاصر.

ص: 95

أو عدم الاستعداد للاجتهاد (1) فيها؛ لعدم (2) وضوح الأمر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير كما لا يخفى. فيكون (3) معذورا عقلا.

و لا يصغى (4) إلى ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها؛ لكنه (5) إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق إذا لم يكن يعانده؛ بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله (6).

هذا بعض الكلام مما يناسب (7) المقام.

و أما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر و الإسلام: فهو مع عدم مناسبته (8) خارج عن وضع الرسالة (9).

=============

(1) متعلق ب «الاستعداد»، يعني: أو لعدم استعداده للبحث و الفحص في الاعتقاديات عن الحق لينقاد له.

(2) علة لوجود القاصر في الاعتقاديات؛ لعدم الاستعداد، و حاصله: أن الاعتقاديات ليست في كمال الوضوح حتى يكون الجهل بها عن تقصير فقط، و لا يتصور فيها الجهل القصوري فقط؛ بل قد يكون الجهل - بسبب عدم وضوح الأمر - عن قصور، و قد يكون عن تقصير، فقوله: «لا يكون» صفة لقوله «مثابة».

(3) نتيجة لما ذكرناه من استناد الجهل بالأصول الاعتقادية - لعدم استعداده - إلى القصور دون التقصير، فيكون هذا الجاهل القاصر معذورا عقلا.

(4) إشارة إلى ما نسب إلى بعض؛ بل إلى المشهور من عدم وجود القاصر.

و قد عرفت الإشارة إليه سابقا، و ضمير «فيها» راجع على الاعتقاديات.

(5) استدراك على قوله: «فيكون معذورا عقلا»، و ضميره راجع على الجاهل القاصر، يعني: أن معذورية الجاهل القاصر إنما هي في بعض صوره و هو القسم الأول، و الوجه الأول من القسم الثاني كما تقدم.

(6) الضمائر الأربعة راجعة على الحق.

(7) من حيث البحث عن حجية الظن في الأصول و عدمها؛ لأنه المناسب للأصول.

(8) وجه عدم المناسبة: أن البحث عن كفر الجاهل و إسلامه من المباحث الفقهية من جهة، و الكلامية من جهة أخرى، و على كل حال: ليس بحثا أصوليا، فلا يناسب ذكره في المقام.

(9) لبناء وضع الرسالة على نهاية الإيجاز.

هذا تمام الكلام في باب الظن في أصول الدين حسب اقتضاء المقام.

ص: 96

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - المقصود من الأمر الأول: هو بيان حجية الظن الانسدادي في الأمور الاعتقادية، و الحق عند المصنف هو: عدم الحجية؛ و ذلك لأن الأمور الاعتقادية على قسمين: القسم الأول - و هو ما يكون متعلق الوجوب فيه نفس الاعتقاد و الالتزام بما هو الواقع - لا حاجة فيه إلى العلم و لا إلى الظن، إذ يكفي الاعتقاد بما هو الواقع.

و أما القسم الثاني - و ما يكون متعلق الوجوب فيه معرفة شيء و العلم به ليكون الاعتقاد به عن علم - فلا يجوز الاكتفاء بالظن فيه؛ لأن الواجب هو المعرفة و الظن ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم مع الإمكان و كان معذورا عند العجز عن تحصيل العلم.

2 - المرجع: هو أصالة البراءة عن وجوب المعرفة عند الشك، و عدم ثبوت وجوبها عقلا أو شرعا.

و أما توهم: كون المرجع هو عموم أو إطلاق جملة من الآيات و الروايات، و مقتضى عمومها أو إطلاقها هو: وجوب المعرفة، فلا مجال لأصالة البراءة؛ فمدفوع: بأن شيئا مما ذكر لا يدل على وجوب المعرفة مطلقا؛ لأن المراد من المعرفة في قوله تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (1) أي: ليعرفون هو معرفة الله تعالى؛ لا معرفة من سواه.

و أما النبوي - و هو قوله «صلى الله عليه و آله»: «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس» - فهو في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس و أهميتها، و لا يستفاد منه إطلاق و لا عموم لوجوب المعرفة مطلقا.

و أما آية النفر: فلأنها في مقام بيان كيفية النفر للتفقه؛ لا في مقام بيان ما يجب فقهه و معرفته.

و أما ما دل على وجوب طلب العلم: فلأنه في صدد الحث على طلب العلم؛ لا في مقام بيان ما يجب علمه.

3 - توهم: عدم وجوب الجاهل القاصر في الأمور الاعتقادية استنادا إلى حصر المكلف في المؤمن و الكافر.

ص: 97


1- الذاريات: 56.

و إلى قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (1)؛ مدفوع: لوجود الجاهل القاصر بالوجدان كما هو المشاهد في كثير من النساء؛ بل الرجال.

و ليس المراد من المجاهدة الواردة في الآية الشريفة: النظر و الاجتهاد في تحصيل العلم و المعرفة؛ بل المراد من المجاهدة هو: المجاهدة مع النفس التي هي أكبر من الجهاد؛ كما في حديث أن رسول «صلى الله عليه و آله و سلم» قال لأصحابه - بعد رجوعهم من محاربة المشركين: - «قد بقى عليكم الجهاد الأكبر». قالوا: و ما هو يا رسول الله ؟ قال: «الجهاد مع النفس».

و حينئذ: فالآية المباركة أجنبية عن المقام.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - عدم حجية الظن في الأمور الاعتقادية.

2 - المرجع عند الشك في وجوب معرفة شيء هو: أصالة البراءة.

3 - وجود الجاهل القاصر في الأمور الاعتقادية.

ص: 98


1- العنكبوت: 69.

الثاني (1): الظن الذي لم يقم على حجيته دليل، هل يجبر به ضعف السند أو

=============

الثانى الترجيح و الوهن بالظن

جبر السند أو الدلالة بالظن غير المعتبر

(1) هذا هو الأمر الثاني من الأمرين اللذين يذكران في الخاتمة استطرادا، و المقصود من عقده: هو بيان حكم الظن غير المعتبر من حيث كونه جابرا لضعف سند رواية أو كاسرا لصحته أو قوته، أو مرجحا لدلالة رواية على دلالة رواية أخرى حال التعارض، و قد جعل البحث فيه في مقامين:

الأول: في الظن غير المعتبر الذي يكون عدم اعتباره بمقتضى الأصل الأولي، المقتضي لحرمة العمل بالظن، من دون قيام دليل على حجيته لا بالخصوص و لا بدليل الانسداد؛ كالشهرة في الفتوى، و الأولوية الظنية، و الاستقراء إذا فرضنا فيها ذلك.

الثاني: في الظن غير المعتبر، الذي يكون عدم اعتباره للدليل على عدم حجيته بالخصوص كالقياس.

أما المقام الأول: فقد اختلفوا فيه، و أن هذا الظن غير المعتبر هل يكون جابرا لضعف سند الرواية أو دلالتها؛ بحيث يوجب حجية الرواية سندا أو دلالة، أو يكون موهنا لهما؛ كما إذا كان الخبر صحيحا مثلا و لكن قام الظن غير المعتبر على خلافه، فهل هذا الظن موهن لصحته و كاسر لسورة حجيته، أو يكون مرجحا لأحد المتعارضين إذا كان على طبق أحدهما، أم لا يكون كذلك ؟

و مجمل ما أفاده المصنف في المقام: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 126» - أن المعيار في الجبر بهذا الظن غير المعتبر هو: كونه موجبا. لاندراج ما يوافقه من الخبر مثلا تحت دليل الحجية، فإن أوجب اندراجه في دليل الحجية كان جابرا له؛ و إلا فلا، فإذا كان هناك خبر ليس بنفسه مظنون الصدور، و فرضنا أن موضوع دليل الاعتبار هو الخبر المظنون صدوره مطلقا، يعني: سواء حصل الظن بالصدور من نفس السند لوثاقة الرواة، أم غير السند؛ كالظن غير المعتبر المبحوث عنه في المقام الموافق للخبر المذكور:

كانت موافقة هذا الظن لهذا الخبر جابرة لضعف سنده؛ لأنها موجبة لاندراج الخبر المذكور تحت موضوع دليل الاعتبار.

و ذا كان هناك خبر ضعيف - لعدم كون جميع رواته عدولا - و فرضنا أن موضوع دليل الاعتبار هو خبر العادل أي: الذي يكون جميع رواته عدولا: لم تكن موافقة الظن غير المعتبر للخبر المذكور جابرة لضعف سنده، و موجبة لاندراجه في موضوع دليل الاعتبار و هو خبر العادل؛ لعدم كون جميع رواته عدولا حسب الفرض.

ص: 99

و كذا ترجيح مضمون أحد الخبرين المتعارضين على الآخر، فإن المعيار أيضا في ترجيح أحدهما - لأجل موافقته لهذا الظن غير المعتبر - على الآخر هو اندراج ما يوافقه تحت دليل الحجية، فإن أوجبت موافقته للظن المذكور دخوله تحت دليل الحجية كانت موجبة له؛ و إلا فلا، هذا.

و ترجيح مضمون أحد الخبرين المتعارضين على الآخر يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يتعارض الخبران من جميع الجهات؛ إلا إن أحدهما موافق لظن غير معتبر كالشهرة الفتوائية إذا فرضناها ظنا غير معتبر.

ثانيهما: أن يتعارض الخبران من جميع الجهات أيضا، سوى أن أحدهما أرجح من الآخر من حيث الظهور، و الآخر المرجوح موافق لظن غير معتبر كالشهرة الفتوائية المذكورة؛ كما إذا ورد في أحد الخبرين «لا تبل تحت شجرة مثمرة» فإنه ظاهر في الحرمة، و ورد في الآخر: «لا ينبغي أن تبول تحت شجرة مثمرة» فإنه ظاهر في الكراهة، و لا ريب: في أن الجمع العرفي يقتضي بتقديم ظهور «لا تبل» على ظهور «لا ينبغي» لأقوائية ظهور «لا تبل» في الدلالة على الحرمة من ظهور «لا ينبغي» في الكراهة، فإذا وجدت الشهرة الفتوائية على وفق أحد الخبرين المتعارضين في الوجه الأول، أو وجدت على الكراهة في مثال الوجه الثاني، فهذه الشهرة الفتوائية إنما توجب رجحان ما يوافقها من الخبرين المتعارضين، أو رجحان الخبر المرجوح منها في المثال المذكور إذا أوجبت اندراج أحدهما تحت دليل الحجية؛ و إلا لم توجب رجحان شيء منهما.

كما أن المعيار في الوهن بهذا الظن غير المعتبر هو: خروج ما يخالفه من الخبر المعتبر مثلا عن دليل الاعتبار و الحجية، فإن أوجبت مخالفته لهذا الظن غير المعتبر خروجه عن موضوع دليل الاعتبار كان هذا الظن موهنا له؛ و إلا فلا.

هذا مجمل القول في المقام الأول.

و أما بيان ما هو مختار المصنف فيتوقف على مقدمة: و هي: إن الوجوه المحتملة في أدلة الحجية ثلاثة:

الأول: أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره بنفس السند لكون رواته ثقات مثلا.

الثاني: أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره؛ و إن كان الظن بصدوره مستندا إلى غير السند كعمل الأصحاب به و استنادهم إليه الموجب للظن بصدوره.

ص: 100

الدلالة؛ بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن (1) به ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به أحد المتعارضين؛ بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح الثالث: أن يكون موضوعها ما هو أعم من ذلك و من مظنون المطابقة، يعني: أن الحجة هي الخبر المظنون صدوره - بأي واحد من النحوين المذكورين - أو مظنون الصحة، أي: مظنون المطابقة للواقع، مع فرض كون نفس الخبر ضعيفا سندا؛ و لو حصل الظن بالصحة من الخارج كالشهرة الفتوائية مع عدم العلم باستنادهم إلى هذا الخبر الضعيف. و لأجل هذه الاحتمالات اختلفت المباني، بمعنى: إنه من يعتمد على الأول لا يجبر بالظن المزبور الخبر الذي لا يكون مظنون الصدور بنفس السند؛ كما إذا كان بعض رواته ضعيفا أو مهملا أو مجهولا؛ لأنه لا يدخل بالظن المزبور تحت أدلة الاعتبار.

=============

و من يعتمد على الآخرين يجبره بذلك، فيسهل الأمر حينئذ في بعض الروايات الضعيفة سندا إذا كانت موافقة لفتوى المشهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المصنف قد اعتمد على الاحتمال الأخير بقرينيّة قوله: «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه».

و ضميرا «به، لولاه» راجعان إلى الظن غير المعتبر، و «ما» الموصول نائب فاعل «يوهن»، و المراد بالموصول: الظن القوي، و ضمير «خلافه» راجع إلى هذا الموصول النائب عن الفاعل، يعني: لو لا هذا الظن غير المعتبر على خلاف ذلك الظن القوي لكان الظن القوي حجة.

قوله: «أو يرجح» عطف على قوله «يجبر»، و «أحد» نائب فاعل له، و ضميرا «به، لولاه» راجعان على الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره، و ضمير «وفقه» راجع على أحد المتعارضين. «بحيث» متعلق ب «يرجح» يعني: أو هل يرجح أحد المتعارضين - بسبب موافقة الظن غير المعتبر له - على معارضة الآخر أم لا؟

ص: 101

لأحدهما، أو كان (1) للآخر منهما أم لا؟

و مجمل القول في ذلك (2): أن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك (3) تحت دليل الحجية أو المرجحية، الراجعة (4) إلى دليل الحجية. كما أن (5) العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة (6) عن تحت دليل الحجية، فلا يبعد

=============

(1) عطف على قوله: «لما كان»، و الضمير المستتر فيه راجح إلى الترجيح.

يعني: أو هل يرجح بالظن غير المعتبر أحد المتعارضين؛ بحيث لو لا موافقة هذا الظن غير المعتبر له كان الترجيح للمعارض الآخر الذي لم يوافقه هذا الظن.

و بعبارة أخرى: لو كان أحد المتعارضين راجحا على الآخر، و كان الظن غير المعتبر موافقا للآخر المرجوح، فهل توجب موافقته لهذا الآخر المرجوح رجحان هذا المرجوح على ذلك المعارض الراجح أم لا توجب رجحانه ؟ و قد تقدم توضيح هذا بقولنا: «ثانيهما: أن يتعارض الخبران من جميع الجهات أيضا سوى أن أحدهما أرجح من الآخر...».

(2) أي: فيما ذكر من الأمور الثلاثة من الجبر و الوهن و الترجيح، و قد عرفت حاصل مرامه بقولنا: «و مجمل ما أفاده المصنف في المقام».

(3) أي: بسبب الجبران أو الرجحان، و ضمير «بموافقته» راجع إلى الظن غير المعتبر.

(4) صفة «المرجحية»، يعني: أن المناط في حصول رجحان شيء بسبب الظن غير المعتبر هو اندراج ذلك الشيء لأجل رجحانه بهذا الظن - لو بنينا على رجحانه به تحت دليل المرجحية، و معنى قوله: «الراجعة على دليل الحجية» أن مرجع دليل المرجحية إلى دليل الحجية، بمعنى: أن دليل الحجية هو منشأ اعتباره و حجيته؛ و ذلك لأن دليل الترجيح هو الذي يجعل ما اشتمل على المرجح حجة؛ بحيث لو لا هذا الدليل لما كان حجة، فحجيته هي التي تجعله مرجحا، و حينئذ: فالموافق للظن غير المعتبر إنما يرجح به إذا اندرج - برجحانه به - تحت دليل المرجحية المستندة إلى دليل الحجية.

(5) يعني: كما أن المناط في كون الظن غير المعتبر موهنا لشيء يكون حجة - لو لا هذا الظن غير المعتبر على خلافه - هو خروج ذلك الشيء بسبب مخالفة هذا الظن غير المعتبر له عن موضوع دليل الحجية؛ كما إذا فرض أن موضوع دليل الحجية هو الخبر المظنون صدوره، و كان هناك خبر مظنون الصدور، و كان مخالفا لظن غير معتبر؛ بحيث أوجبت مخالفته لهذا الظن غير المعتبر الشك في صدوره، فلا ريب في خروجه حينئذ عن موضوع دليل الحجية، و هذا معنى كون الظن غير المعتبر موهنا له.

(6) الباء للسببية، و هو مع قوله: «عن تحت» متعلقان بالخروج، و المراد بالمخالفة مخالفة

ص: 102

جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره (1)، أو بصحة مضمونه (2)، و دخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به، فراجع أدلة اعتبارها (3).

و عدم (4) جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد؛ لاختصاص (5) دليل الحجية بحجية الموهون - و هو الخبر الصحيح مثلا - للموهن و هو الظن المشكوك اعتباره، كإعراض المشهور عنه الموهن للظن الحاصل بصدوره من صحة السند.

=============

و حاصله: أن الظن غير المعتبر إذا كان موجبا للظن بالصدور أو صحة المضمون بمعنى: مطابقة مضمونه للواقع كان ذلك موجبا لاندراج الخبر الموافق له تحت أدلة اعتبار الخبر الموثوق به.

قوله: «في الخبر» متعلق ب «السند» يعني: جبر ضعف سند الخبر.

و قوله: «بالظن» متعلق ب «جبر».

و قوله: «بصدوره» متعلق ب «الظن»، و ضمائر «بصدوره، مضمونه، دخوله» راجعة على الخبر.

قوله: «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر...» الخ نتيجة لما ذكره من المعيار في الجبر و غيره و متفرع عليه.

و قوله: «بذلك» إشارة إلى جبر ضعف السند، و ضمير «به» راجع على الموصول في «ما يوثق» المراد به الخبر، و ضمير «اعتبارها» راجع على الخبر، فالصواب تذكيره و إن احتمل رجوعه إلى الأمارات المستفادة من سوق العبارة.

(1) كالظن الحاصل من عمل الأصحاب برواية ضعيفة سندا.

(2) كما تقدم في الظن الحاصل من الشهرة الموافق لأحد الخبرين المتعارضين..

(3) و قد ذكرنا الوجوه المحتملة في أدلة الحجية، مع ما هو رأي المصنف، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

(4) عطف على «جبر ضعف السند»، يعني: لا يبعد عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد الحاصل من الظن الخارجي لا من ظاهر اللفظ.

(5) هذا وجه عدم الجبر.

توضيحه: على ما في «منتهى الدراية ج 5، ص 133»، أن دليل الحجية مختص بحجية ظهور اللفظ في تعيين المراد، بمعنى: أن الظن بالمراد إن استند إلى ظهور اللفظ فذلك حجة بمقتضى أدلة اعتبار الظهورات، و إن استند إلى غيره من الظن الحاصل من أمارة خارجية؛ كما هو المبحوث عنه في المقام، فلا دليل على اعتباره، فليس الظن بالمراد

ص: 103

الظهور في تعيين المراد و الظن من أمارة خارجية به لا يوجب (1) ظهور اللفظ فيه، كما هو ظاهر؛ إلا (2) فيما أوجب القطع و لو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه؛ لو لا (3) عروض انتفائه.

و عدم (4) وهن السند بالظن بعدم صدوره،...

=============

جابرا لضعف الدلالة؛ إذ لا يندرج بذلك في حيز دليل الحجية، و قد عرفت: أن المعيار في الجبر هو شمول دليل الحجية له، مثلا: دلالة قوله «عليه السلام»: «في الغنم السائمة زكاة» على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة ضعيفة؛ لقوة احتمال عدم حجية مفهوم الوصف، فإذا قامت الشهرة الفتوائية على عدم وجوبها في المعلوفة يظن بذلك إرادة عدم وجوبها من قوله «عليه السلام»: «في الغنم السائمة»؛ لكن هذا الظن بمراد الشارع لم ينشأ من ظهور اللفظ فيه؛ بل من الخارج و هو الشهرة، فلا ينجبر ضعف دلالة القول المزبور بالظن المذكور، فلا يكون مجرد الظن بالمراد - و لو من غير ظهور اللفظ - موضوعا للحجية؛ حتى يكون الظن الخارجي بالمراد موجبا لشمول دليل الاعتبار له.

و لذا قال الشيخ «قدس سره»: «لا ينبغي التأمل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظن المطلق؛ لأن المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في دلالتها؛ لا مجرد الظن بمطابقة مدلولها للواقع و لو من الخارج...» الخ. «الوصائل إلى الرسائل، ج 5، ص 127».

(1) خبر «و الظن»، و ضميرا «به، فيه» راجعان إلى المراد.

(2) استثناء من «لا يوجب» و لكنه لا يناسب المقام؛ إذ القطع باحتفاف الكلام بما يوجب الظهور يخرجه عن صيرورة المراد مظنونا بالظن غير المعتبر الذي هو محل البحث.

و كيف كان؛ فقوله: «أوجب القطع» يعني: القطع بالمراد.

و ضمير «باحتفافه» راجع على اللفظ، و هو متعلق ب «أوجب».

و قوله: «بما» متعلق ب «احتفافه»، و ضمير «لظهوره» راجع على اللفظ، و ضمير «فيه» إلى المراد.

(3) قيد لقوله: موجبا، و ضمير «انتفائه» راجع على الموصول في «بما» المراد به ما يوجب ظهور اللفظ في المراد.

(4) عطف على «جبر ضعف السند»، يعني: و كذا لا يبعد عدم وهن السند بالظن غير المعتبر بعدم صدوره، و كذا عدم وهن دلالته بهذا الظن.

و حاصل مرامه: أن الظن غير المعتبر لا يوهن السند و لا الظهور؛ لعدم تقيد إطلاق

ص: 104

و كذا (1) عدم وهن دلالته مع ظهوره؛ إلاّ (2) فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لو لا تلك القرينة؛ لعدم (3) اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة، و لا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صوره، أو ظن بعدم إرادة ظهوره (4).

و أمّا الترجيح (5) بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به بعد سقوط الأمارتين أدلة اعتبارهما بعدم قيام الظن على خلافهما، فلا يكون الظن غير المعتبر موهنا لهما إلا إذا كشف الظن عن ثبوت خلل في السند، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهور اللفظ فيما يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا.

=============

(1) يعني: و كذا لا يبعد عدم وهن دلالته بالظن غير المعتبر.

و ضمائر «صدوره، دلالته، ظهوره» راجعة إلى الخبر.

(2) أي: إلا فيما كشف الموهن بالكسر و هو الظن غير المعتبر بسبب أمارة إلى معتبرة من علم أو علمي «عن ثبوت خلل في سنده...» الخ، و لا إشكال في الوهن حينئذ؛ لكنه خارج عن موضوع البحث، و هو وهن السند و الظهور بالظن غير المعتبر، فالاستثناء منقطع.

«فيما يكون اللفظ فيه ظاهرا»؛ لكن الأول أولى.

و المراد بالموصول في «فيما فيه» هو المعنى الذي يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا، و ضمير «ظهوره» راجع إلى اللفظ، و الصناعة تقتضي رفع الظاهر - كما في بعض النسخ - لا نصبه كما في بعضها الآخر؛ و ذلك لأن كلمة «ظاهر» خبر لمبتدا محذوف، أعني:

الضمير الذي هو صدر صلة الموصول، فتكون العبارة هكذا: «فيما هو ظاهر». و ضمير «هو» راجع إلى اللفظ. و يمكن تصحيح نصب «الظاهر» بأن يكون خبرا لمحذوف تقديره:

قوله: «لو لا تلك القرينة» قيد لقوله: «انعقاد ظهوره» يعني: أن الظهور ينعقد لو لا تلك القرينة.

(3) علة لعدم وهن السند و الدلالة بالظن غير المعتبر.

توضيحه: أن إطلاق دليل اعتبار خبر الثقة و الظهور يقتضي عدم وهن السند و الظهور بقيام ظن غير معتبر على عدم صدور الخبر، أو عدم إرادة ظهوره.

(4) هذا الضمير و ضمير «صدوره» راجعان إلى «خبر»، و «بما» متعلق ب «اختصاص».

(5) عطف على قوله: «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر» الخ. و الأولى سوق العبارة هكذا: «و الترجيح بالظن فرع الدليل على الترجيح به «؛ إذ لم يذكر لفظ «أمّا» قبل ذلك ليعطف عليه بلفظ «أمّا» هنا.

ص: 105

بالتعارض من البين (1)، و عدم (2) حجية واحد منهما بخصوصه و عنوانه؛ و إن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته (3)، و لم يقم (4) دليل بالخصوص على الترجيح به؛ و إن ادعى شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» استفادته (5) من الأخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة، على ما يأتي تفصيله في التعادل و الترجيح.

=============

و كيف كان؛ فهو شروع في بيان الترجيح بالظن غير المعتبر و عدمه.

و توضيح ما أفاده فيه - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 135» - هو عدم كون الظن غير المعتبر مرجحا لأحد المتعارضين؛ لعدم الدليل على الترجيح به بعد كون المرجحية - كالحجية - منوطة بقيام دليل عليها، فالأمارتان المتعارضتان بعد تساقطهما و عدم حجية واحدة منهما - بناء على الطريقية - لا تكون إحداهما بالخصوص حجة، إلا بالدليل، فجعل إحداهما بالخصوص حجة بسبب موافقة ظن غير معتبر لها موقوف على دليل على الترجيح بذلك الظن غير المعتبر، و لم يثبت ذلك و إن استدل له بوجوه أشار في المتن إلى جملة منها و سيأتي بيانها.

(1) كما هو مقتضى الأصل الأولي في تعارض الأمارات، بناء على الطريقية. و كلمة «بعد» ظرف لقوله: «على الترجيح به»، و ضمير «به» راجع على الظن غير المعتبر.

(2) عطف تفسيري لسقوط المتعارضين.

و غرضه: أن الروايتين المتعارضتين يسقط كل منهما بالتعارض عن الحجية، و لا تبقى إحداهما بالخصوص على الحجية و إن بقيت إحداهما لا بعينها على الحجية لنفي الثالث.

كما إذا دل أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، و آخر على استحبابه، فإنهما يتساقطان بالتعارض في مدلولهما المطابقي، و لكنهما يشتركان في الثالث أعني:

في نفي ما عدا الوجوب و الاستحباب من الأحكام.

(3) حجية أحدهما بلا عنوان، و الصواب تأنيث الضمائر في «بخصوصه، عنوانه، حجيته»، و كذا تأنيث «واحد» و «أحدهما»؛ لأن المراد بها: الأمارة.

(4) الواو للحال، فكأنه قال: و أما الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به، يعني: بالظن غير المعتبر.

(5) أي: استفادة الترجيح بالظن غير المعتبر من الأخبار.

و هذا هو الوجه الأول: مما استدل به على الترجيح بالظن غير المعتبر.

و كيف كان؛ فقال الشيخ هنا ما هذا لفظه: «الثالث: ما يظهر من الأخبار من أن المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع، سواء كان لمرجح داخلي

ص: 106

و مقدمات الانسداد (1) في الأحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة؛ لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما.

«الوصائل إلى الرسائل، ج 5، ص 189».

و مقدماته (2) في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين كالأعدلية مثلا، أو لمرجح خارجي كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر، مثل ما دل على الترجيح بالأصدقية في الحديث...»(1) الخ.

=============

و حاصله: التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع من الآخر. و يأتي في بحث التعادل و الترجيح تفصيل ذلك.

(1) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر، و حاصله: أن مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام الكلية توجب الترجيح بالظن غير المعتبر، فإن نتيجتها حجية الظن مطلقا، سواء تعلق بالحكم أم بالحجة أم بالترجيح، فالظن بالترجيح أيضا حجة.

قوله: «إنما توجب» خبر «و مقدمات» و جواب عنه، و حاصله: أن الظن الانسدادي إنما يكون حجة إذا تعلق بالحكم كالوجوب و الحرمة، أو بالطريق كالظن بحجية الإجماع المنقول، أو هما معا على الخلاف السابق، و الظن بالترجيح خارج عن كليهما.

و بالجملة: فمقدمات الانسداد لا توجب حجية الترجيح بالظن ما لم توجب الظن بالحكم أو الطريق.

(2) أي: و مقدمات الانسداد، و هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 138» - أنه يمكن إجراء مقدمات الانسداد في خصوص المرجحات؛ لتنتج حجية الظن في مقام الترجيح، بأن يقال: إنا نعلم إجمالا بمرجحات للروايات في الشريعة المقدسة، و باب العلم و العلمي بها منسد، و لا يجوز إهمالها للعلم الإجمالي المزبور. و لا يمكن التعرض لها بالاحتياط لعدم إمكانه، حيث إنه يدور الأمر بين المحذورين لحجية الراجح و عدم حجية المرجوح، و لا يمكن الاحتياط فيهما، و لا يجوز الرجوع إلى الأصل؛ إذ مقتضاه عدم الحجية، و هو ينافي العلم الإجمالي المزبور بوجودها، و مقتضى قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو العمل بالظن، و نتيجة ذلك: حجية الظن في مقام الترجيح.

ص: 107


1- فرائد الأصول 610:1.

المرجح (1)، لا أنه مرجح؛ إلاّ (2) إذا ظن أنه أيضا (3) مرجح، فتأمل جيدا.

=============

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه الثالث أولا: بما أشار إليه بقوله: «لو جرت» من عدم تسليم جريان مقدمات الانسداد في خصوص الترجيح، و لعله لأجل عدم العلم الإجمالي بعد كون المرجحات المنصوصة بمقدار المعلوم بالإجمال.

و ثانيا: بأن مصب المقدمات المذكورة هو المرجحات المعلومة إجمالا - بعد الفراغ عن مرجحيتها - بالمعتبر بالانسداد هو: الظن بتعيين ما هو مرجح؛ لا الظن بأن هذا الشيء مرجح، فمقدمات الانسداد إنما تنتج حجية الظن بتعيين تلك المرجحات المعلومة إجمالا، فإن ظن بأن الشهرة الفتوائية مثلا مرجحة للخبر كان هذا الظن حجة بدليل الانسداد، و تثبت به مرجحية الشهرة للخبر المبتلى بالمعارض، و لا تنتج حجية الظن بأن هذا الشيء مرجح كما هو المطلوب.

قوله: «إنما توجب» خبر «و مقدماته»، و هذا إشارة إلى الجواب الثاني.

(1) أي: الذي هو من المرجحات المعلومة إجمالا.

(2) استثناء من قوله: «لا أنه مرجح» المعطوف على قوله: «تعيين»، و ضمير «أنه» في الموضعين راجع على الظن، و قوله: «أيضا» يعني: كما أنه معين للمرجح المعلوم إجمالا كونه مرجحا.

(3) أي: كحجية الظن بالمرجح.

و حاصل الكلام في المقام: أنه إذا علم إجمالا بمرجحية أمور، و حصل الظن - بمقدمات الانسداد - بأن منها الشهرة في الرواية، فهذا الظن الانسداد معين للمرجح أعني: الشهرة، فإذا حصل الظن بأن هذه الشهرة المستندة إلى الظن الانسدادي بنفسها مرجحة لأحد الخبرين المتعارضين: جاز الترجيح بها.

و الحاصل: أن مقدمات الانسداد لو جرت في المرجحات - كجريانها في الأحكام - أنتجت أمرين: أحدهما: حجية الظن في تعيين المرجح، و الآخر: حجية الظن بمرجحية الأقربية مثلا.

قوله: «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى: أن دليل الانسداد قاصر عن إثبات حجية الظن في الأحكام الشرعية، فضلا عن حجيته في تعيين المرجحات عند التعارض؛ إذ لم يثبت وجوب الترجيح بها حتى يكون انسداد باب العلم بها كانسداد باب العلم بالأحكام موجبا للأخذ بالظن؛ لإمكان حمل الأمر بالترجيح - كما سيأتي في باب التعادل و الترجيح - على الاستحباب كما اختاره المصنف و جماعة، فلا يبقى مجال للتمسك

ص: 108

هذا (1) فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

و أما ما قام (2) الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس: فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح فيما لا يكون لغيره (3) أيضا، و كذا فيما يكون به...

=============

بمقدمات الانسداد. و لو سلم جريانها في نفس الأحكام، فلا موجب لجريانها في المرجحات؛ لإمكان الاحتياط، أو الرجوع إلى الأصل العملي في مورد الشك.

الجبر و الوهن و الترجيح بمثل القياس

(2) هذا هو المقام الثاني أعني به: الظن غير المعتبر الذي ثبت عدم اعتباره بدليل خاص كالقياس.

و نخبة القول فيه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 141» - أنه لا يوجب انجبار ضعف و لا وهنا و لا ترجيحا؛ لأن الدليل المانع عنه بالخصوص يوجب سقوطه عن الاعتبار أصلا، فلا يصلح لشيء مما ذكر؛ لأن هذه الأمور نحو استعمال للقياس في الشرعيات، و المفروض: المنع عنه. انتهى مورد الحاجة.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لحكم الظن الذي لم يقم على عدم اعتباره دليل خاص؛ بل كان عدم اعتباره لأجل عدم الدليل على حجيته، الموجب لاندراجه تحت الأصل الدال على عدم حجية الظن و حرمة العمل به.

(1) أي: ما ذكرناه من الوهن و الجبر و الترجيح كان متعلقا بالظن الذي لم يثبت اعتباره بدليل خاص.

قوله: «كذلك» يعني: بخصوصه، و «يكون» في المواضع الثلاثة تامة بمعنى «يحصل»، و فاعل «يكون» الأولى هو قوله: «جبر»، و فاعل الثانية ضمير مستتر فيها راجع على «جبر»، و فاعل الثالثة هو قوله: «أحدها»، و ضميرا «به جبر، لغيره» راجعان على الموصول في قوله: «ما قام» المراد به الظن الذي قام الدليل على المنع عنه بخصوصه كالقياس.

و غرضه: إنه لا يحصل الجبر و أخواه بالظن الذي قام الدليل الخاص على المنع عنه، و أن وجوده كعدمه في عدم ترتب شيء من الجبر و أخويه عليه، و أن ترتب جميع هذه الأمور الثلاثة أو بعضها على الظنون غير المعتبرة بنحو العموم كالشهرة الفتوائية، بناء على بقائها تحت أصالة عدم حجية الأمارات غير العلمية، و عدم شمول دليل الانسداد لها، حيث إنها حينئذ ظن ممنوع عنه بنحو العموم، فلو حصل لها في مورد جبر أو أحد أخويه لم يحصل شيء منها للقياس.

(3) أي: من سائر الظنون «أيضا» جبر و وهن و ترجيح.

ص: 109

أحدها (1) «أحدهما»؛ لوضوح (2): أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه (3)

=============

(1) الضمير راجع على «جبر أو وهن أو ترجيح»، و معنى العبارة: أنه لا يكاد يحصل بالظن - الذي قام دليل خاص على عدم اعتباره - جبر أو وهن أو ترجيح في مورد لا يحصل الجبر أو أخواه لغير هذا الظن أيضا من الظنون غير المعتبرة؛ لأجل عدم نهوض دليل على اعتبارها، و بقائها تحت أصالة عدم الحجية، و كذا في مورد يحصل الجبر أو أخواه بالظن الذي لم يقم على اعتباره دليل.

و ببيان أوضح: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 142» - أنه لا يحصل شيء من الجبر و أخويه للقياس مطلقا، سواء حصل الجبر و أخواه أو بعضها لغيره من الظنون غير المعتبرة؛ لأصالة عدم الحجية، أم لم يحصل شيء منها له.

و بالجملة: لا حظّ لمثل القياس من الظنون الممنوعة بدليل خاص من الجبر و أخويه، ففرق بينه و بين الظن غير المعتبر بالعموم.

و هذا خلافا لجماعة كالمحقق و صاحب الضوابط تبعا لشيخيه شريف العلماء كما حكاه شيخنا الأعظم بقوله: «نعم، يظهر من المعارج(1) وجود القول به بين أصحابنا، حيث قال في باب القياس: ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا، و كان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

و يمكن أن يحتج لذلك: بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل بهما و طرحهما، فتعين العمل بأحدهما. و إذا كان التقدير تقدير التعارض: فلا بد للعمل بأحدهما من مرجح، و القياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه... إلى أن قال: و مال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين بعض الميل و الحق خلافه...»(2).

(2) علة لعدم الجبر و الوهن و الترجيح بالظن غير المعتبر بالخصوص، و حاصله: أن مناط هذه الأمور مفقود هنا؛ إذ المعيار فيها كون الظن سببا للدخول تحت أدلة الحجية أو الخروج عنها، و بعد فرض النهي الخاص عن ظن مخصوص لا يصلح ذلك الظن للدخول تحتها.

(3) الضمير راجع على الموصول المراد به الظن المعتبر قبل المنع عن الظن القياسي،

ص: 110


1- معارج الأصول: 186.
2- فرائد الأصول 597:1، و 143:4.

لكان حجة - بعد المنع عنه - لا يوجب (1) خروجه عن تحت دليل الحجية، و إذا كان (2) على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، و هكذا (3) لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين؛ و ذلك (4) لدلالة دليل المنع على إلغائه (5) و اسم «كان» ضمير راجع على الموصول المراد به الحجة المعتبرة فإذا دل الخبر المعتبر على حكم مخالف للقياس أخذ به، و لا يعتني بالقياس أصلا؛ لعدم اعتباره، هذا في عدم وهن الحجة بمخالفة القياس، و ضمير «عنه» راجع على الظن القياسي.

=============

(1) خبر «أن الظن»، و ضمير «خروجه» راجع على الموصول المراد به الحجة المعتبرة، يعني: لا يوجب الظن القياسي، بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن الحجية.

غرضه: أن مخالفة القياس قبل المنع عنه كما لا توهن الظن المعتبر و لا تخرجه عن الحجية، كذلك بعد النهي عنه، فقوله: «بعد المنع» متعلق ب «لا يوجب»، فكأنه قال: إن الظن القياسي إذا كان على خلاف الظن الذي لو لا القياس لكان حجة لا يوجب هذا الظن القياسي بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن موضوع دليل الحجية.

(2) عطف على «إذا كان»، و الضمير المستتر فيه و البارز في «لولاه» راجعان على الظن القياسي، و المراد بالموصول: ما لا يكون بنفسه حجة، و قوله: «لا يوجب» خبر «إن الظن القياسي»، و فاعله ضمير مستتر فيه راجع على «كون الظن القياسي على وفق ما ليس بنفسه حجة»، المستفاد من سياق العبارة، و ضمير «دخوله» راجع إلى الموصول في «ما لولاه» المراد به ما ليس بنفسه حجة يعنى: إن موافقة الظن القياسي لما ليس بنفسه حجة لا توجب دخول هذا الشيء الذي وافقه الظن القياسي تحت دليل الاعتبار.

(3) يعني: أن الظن القياسي كما لا يكون جابرا و موهنا؛ كذلك لا يكون مرجحا.

(4) تعليل لعدم الترجيح و الوهن و الجبر بالقياس، و حاصله، كما تقدم في كلام الشيخ: أن دليل المنع يدل على إلغاء الشارع للظن القياسي رأسا، و عدم جواز استعماله في الشرعيات، و من المعلوم: أن الجبر أو الوهن أو الترجيح مما يصدق عليه الاستعمال فلا يجوز.

(5) الضمير في «إلغائه» راجع على الظن القياسي، و هو مفعول المصدر المضاف و الشارع فاعله، و الأولى سوق العبارة هكذا «على إلغاء الشارع إياه»؛ و ذلك لأن إضافة المصدر إلى مفعوله و تكميل عمله بالمرفوع - كما في المتن - قليل؛ بل ربما قيل باختصاصه بالشعر.

ص: 111

الشارع رأسا، و عدم (1) جواز استعماله في الشرعيات قطعا، و دخله (2) في واحد منها نحو استعمال له فيها كما لا يخفى، فتأمل جيدا (3).

=============

(1) عطف على «إلغائه» و مفسر له.

(2) مبتدأ خبره «نحو استعمال»، و ضميرا «دخله، له» راجعان على الظن القياسي و ضميرا «منها، فيها» راجعان على الجبر و الوهن و الترجيح.

(3) كي تعلم أن الاعتناء بالظن القياسي ممنوع شرعا مطلقا، فليس القياس غبر المعتبر بدليل خاص كالظن غير المعتبر بدليل عام؛ إذ يمكن الجبر أو حد أخويه به في بعض الموارد، بخلاف القياس، فإنه لا يمكن فيه شيء من ذلك أصلا كما عرفت وجه ذلك.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - خلاصة الكلام في المقام الأول: أنه قد اختلفوا فيه، و مجمل الكلام في هذا المقام: أن المعيار في الجبر بهذا الظن غير المعتبر هو كونه موجبا لاندراج ما يوافقه تحت دليل الحجية، فكان جابرا و إلا فلا.

و كذا المعيار في كونه مرجحا لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر هو: اندراج ما يوافقه منهما تحت دليل الحجية، كما أن المعيار فيه الوهن بهذا الظن غير المعتبر هو خروج ما يخالفه من الخبر المعتبر عن تحت دليل الاعتبار و الحجية.

2 - بيان الوجوه المحتملة في أدلة الحجية: و هي ثلاثة:

الأول: أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره بنفس السند لكون رواته ثقات مثلا.

الثاني: أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره، و إن كان الظن بصدوره مستندا إلى غير السند كعمل الأصحاب به و استنادهم إليه الموجب للظن بصدوره.

الثالث: أن يكون موضوعها ما هو أعم من ذلك و من مظنون المطابقة يعني: أن الحجة هي الخبر المظنون صدوره - بأي واحد من النحوين المذكورين - أو مظنون الصحة أي: مظنون المطابقة للواقع، مع فرض كون نفس الخبر ضعيفا سندا، و لأجل هذه الاحتمالات اختلفت المباني. بمعنى أنه من يعتمد على الأول لا يجبر بالظن المذكور.

و من يعتمد على الأخيرين يجبره بالظن المذكور، و مختار المصنف هو: الاحتمال الثالث.

ص: 112

3 - الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر:

الأول: كونه موجبا لأقربية ما يوافقه إلى الواقع.

الثاني: أن مقومات الانسداد الجارية في الأحكام توجب الترجيح بالظن غير المعتبر، فإن نتيجتها حجية الظن مطلقا، سواء تعلق بالحكم أم بالحجة، أم بالترجيح، فالظن بالترجيح أيضا حجة.

الثالث: أنه يمكن إجراء مقدمات الانسداد في خصوص المرجحات لتنتج حجية الظن في مقام الترجيح بأن يقال: إنا نعلم إجمالا بمرجحات للروايات في الشريعة المقدسة، و باب العلم و العلمي بها منسد. و لا يمكن إهمالها للعمل الإجمالي المزبور، و لا يمكن الاحتياط لعدم إمكانه، و لا يجوز الرجوع إلى الأصل؛ إذ مقتضاه: عدم الحجية، و هو ينافي العلم الإجمالي المزبور بوجودها.

و مقتضى قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو: العمل بالظن، و لازم ذلك: حجية الظن في مقام الترجيح.

4 - جواب المصنف عن هذه الوجوه الثلاثة:

أما الجواب عن الوجه الأول: فلأنه لم يقم دليل على الترجيح بالظن غير المعتبر.

و أما الجواب عن الوجه الثاني: فلأن جريان مقدمات الانسداد في الأحكام لا تنتج إلا حجية الظن بالأحكام أو الطرق، على خلاف تقدم، و الظن بالترجيح خارج عنهما.

و أما الجواب عن الوجه الثالث: فلأنه يقال: أولا: إنه لا تجري مقدمات الانسداد في خصوص الترجيح.

و ثانيا: أن مصب المقدمات المذكورة هو المرجحات المعلومة إجمالا - بعد الفراغ عن مرجحيتها فالمعتبر بالانسداد هو الظن بتعيين ما هو مرجح لا حجية الظن بأن هذا الشيء مرجح.

5 - المقام الثاني - و هو الظن غير المعتبر الذي ثبت عدم اعتباره بدليل خاص كالقياس - فحاصل الكلام فيه: أنه لا يوجب انجبار ضعف و لا وهنا و لا ترجيحا؛ لأن الدليل المانع عنه بالخصوص يوجب سقوطه عن الاعتبار أصلا، فلا يصلح لشيء مما ذكر لأن هذه الأمور نحو استعمال للقياس في الشرعيات، و المفروض المنع عنه.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن المناط في الجبر و الترجيح اندراج ما يوافق الظن غير المعتبر تحت دليل الحجية،

ص: 113

كما أن المناط في الوهن خروج ما يخالفه عن تحت دليل الحجية.

2 - موضوع أدلة الحجية هو الاحتمال الثالث.

3 - الظن القياسي لا يكون موجبا للانجبار و لا موجبا للوهن و لا الترجيح.

ص: 114

المقصد السابع في الأصول العملية

ص: 115

ص: 116

المقصد السابع: في الأصول العملية (1)

اشارة

=============

الأصول العملية

(1) و قبل الخوض في أصل البحث ينبغي تقديم أمور:

الأول: بيان الفرق بين الأدلة الاجتهادية و الأصول العملية.

و حاصل الفرق بينهما: أن المراد بالأصول العلمية هو: الوظائف المقررة للشاك الذي لم يكن له طريق معتبر إلى الواقع من القطع أو الأمارة، التي جعلها الشارع حجة و طريقا إلى الواقع.

فالأصل العملي عبارة عن حكم مجعول للشك و في ظرف الشك؛ بحيث لوحظ الشك موضوعا له و يقابله الدليل الاجتهادي، حيث أن الحكم مجعول للواقع في مورد الشك؛ و لكن الشك ليس جزءا من موضوعه، مثلا: خبر الواحد حجة عند الشك في الحكم الواقعي؛ لكن ليس الموضوع مأخوذا فيه الشك، فقول زرارة بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن الواقع؛ و إن كان حجية خبره في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

أما أصالة البراءة: فقد أخذ في موضوعها الشك؛ لأنها تقول: إذا لم تدر وجوب الدعاء أجر البراءة، فالدعاء المشكوك مجرى للبراءة.

فالمتحصل: أن المجعول في الأصول العملية حكم على الشك، و في الأدلة حكم على الواقع حال سترته، مع جعل الأمارة دليلا عليه.

أما الفرق بينهما من حيث التسمية: فلأن الأصول العملية الدالة على الوظائف في الشك تسمى أدلة فقاهتية، و الأدلة الدالة على الحكم الشرعي في نفس الأمر تسمى أدلة اجتهادية؛ و ذلك لمناسبة موجودة في تعريف الفقه و الاجتهاد، حيث عرفوا الفقه «بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية»، و ليس المراد من الأحكام هي الأحكام الواقعية؛ لعدم تعلق العلم بها دائما.

فتعين أن يكون المراد بها هي: الظاهرية الموجودة في مواضع الأصول العلمية. فناسب أن يسمى ما دل على الأحكام الظاهرية التي تعلق بها العلم بالأدلة الفقاهتية.

و عرفوا الاجتهاد: «باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي»، و من المعلوم: أن ليس المراد منه هو الحكم الظاهري؛ و إلا يكون معلوما لا مظنونا؛ بل المراد هو الحكم

ص: 117

الواقعي الذي تعلق به الظن، فناسب ذلك أن يسمى ما دل على ذلك الحكم الواقعي الذي يتعلق به الظن دليلا اجتهاديا، و لا مناقشة في الاصطلاح.

ثم الأصول العملية قد تكون في مقابل الأصول الاعتقادية التي يجب الاعتقاد بها، فهذه للاعتقاد و تلك للعمل، و إذا أطلق الأصول احتمل أن يراد به: أصول الفقه الشامل للأصل و الدليل، و احتمل أن يراد به: أصول الاعتقاد. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الثاني: بيان ما هو الوجه، و السبب لمخالفة المصنف مع الشيخ الأنصاري «قدهما»، حيث عنون المصنف مبحث البراءة بعنوان واحد، و جعله مسألة واحدة. هذا بخلاف الشيخ «قدس سره» حيث جعل الشك في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثني عشرة مسألة، و تعرض في ضمن مباحث وسائل متعددة. باعتبار أن الشبهة تارة: تكون وجوبية، و أخرى: تكون تحريمية، و ثالثة: تكون مشتبهة بينهما؛ كدوران الأمر بين الوجوب و الحرمة و الإباحة، و منشأ الشك في الجميع: إما فقدان النص أو إجماله، أو تعارض النصين، أو الأمور الخارجية.

فحاصل ضرب الثلاثة في الأربعة اثنا عشر.

ثم تعرض الشيخ «قدس سره» للبحث عن كل قسم مستقلا، و الوجه و السبب لتفصيل الشيخ و تقسيمه «قدس سره» أمران:

الأول: اختصاص بعض أدلة البراءة بالشبهة التحريمية؛ كقوله «عليه السلام»: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1).

الثاني: أن النزاع المعروف بين الأصوليين و الأخباريين مختص بالشبهة التحريمية، و أما الشبهة الوجوبية: فوافق الأخباريون الأصوليين في الرجوع إلى البراءة، فالحاصل: أن السبب لتفصيل الشيخ «قدس سره» هو: اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات و لذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية، و إلى الاحتياط في الشبهة التحريمية، بدعوى: وجود الفرق بينهما، فلا بد من البحث عن كل مسألة على حدة؛ لاختلاف جهة البحث.

و أما المصنف: فقد خالف الشيخ، حيث جعل البحث عاما لمطلق الشك في التكليف الجامع بين جميع الأقسام المذكورة؛ إلا فرض تعارض النصين، فأخرجه من هذا البحث

ص: 118


1- الفقيه 937/317:1، الوسائل 289:6.

بدعوى: إنه ليس موردا للبراءة؛ لأن المتعيّن فيه الرجوع إلى المرجحات، و مع فقدها:

يتخير.

و كيف كان؛ فهو خارج عن المبحث لقيام الحجة المعينة على الترجيح أو التخيير عند تمامية أدلة العلاج ترجيحا أو تخييرا، فإن أصالة البراءة تكون مرجعا عند عدم الدليل، و مع وجود الدليل تعيينا - كما إذا كان أحد النصين راجحا على الآخر - أو تخييرا - كما إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر - لا تصل النوبة إلى البراءة، فالسبب و الوجه لما صنعه المصنف «قدس سره»: أن تعدد المسائل بنظره إنما هو بتعدد جهة البحث، فمع وحدة الجهة تتحد المسألة و لو مع تعدد الموضوع أو المحمول. و بما أن جهة البحث هاهنا واحدة يعم البحث و يشمل جميع ما فرض من الموضوعات المتنوعة، و لا خصوصية لبعض تلك الموضوعات عن الأخرى، في جهة البحث.

الثالث: بيان وجه حصر الأصول في الأربعة، و هي: الاستصحاب و البراءة و الاحتياط و التخيير. قيل: الوجه في ذلك أمران:

الأول: جريان الأصول الأربعة في جميع أبواب الفقه.

الثاني: عدم كثرة النقض و الإبرام إلا في هذه الأربعة. ثم انحصار مجاري الأصول و مواردها و إن كان عقليا؛ لأنه يدور بين النفي و الإثبات؛ إلا إن حصر نفس الأصول في الأربعة استقرائي، بمعنى: أن الأصول التي تجري في جميع أبواب الفقه منحصرة فيها؛ و إلا فالأصول التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل أكثر من هذه الأربعة؛ كقاعدة الفراغ، و قاعدة التجاوز، و قاعدة الطهارة، و قاعدة الحلية، و ما أشبهها.

و لذا يقول المصنف «قدس سره»: «و المهم منها أربعة».

الرابع: إن الأصول العقلية ليست في طول الأصول الشرعية؛ بل الجميع في عرض واحد، ففي الظرف الذي يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يحكم الشرع برفع الحكم عن الجاهل.

نعم؛ يظهر من صاحب مصباح الأصول: كون الأصول العقلية في طول الأصول الشرعية، حيث قال: «فإن المكلف إذا لم يصل إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني و لا بالتعبد الشرعي، و عجز أيضا عن معرفة الحكم الظاهري تعيّن عليه الرجوع إلى ما يستقل به العقل من البراءة أو الاحتياط أو التخيير على اختلاف الموارد. و تسمى هذه القواعد بالأصول العلمية العقلية». «مصباح الأصول، ج 2، ص 248». و ظاهر كلامه

ص: 119

و هي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص (1) و اليأس عن الظفر بدليل مما (2) دل هو: كون الأصول العقلية في طول الأصول الشرعية، و لازم ذلك: أن لا تصل النوبة إلى الأصول العقلية؛ إذا ما من مورد إلا و فيه أصل شرعي كالبراءة الشرعية و غيرها، فالحق: أن الجميع في عرض واحد، و أن الاختلاف في التسمية لأجل الاختلاف في المصدر و الدليل.

=============

إذا عرفت هذه الأمور، فنرجع إلى توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» كما هو العادة.

(1) يعني: أن رتبة الأصل العملي متأخرة عن الدليل، فلا تصل النوبة إليه إلا بعد اليأس عنه؛ لتوقف موضوع الأصل العملي - و هو الشك في الحكم الواقعي - على عدم الدليل عليه؛ فمعه لا موضوع للأصل و لو تعبدا، ثم إن توصيف الأصول العملية بما أفاده إنما هو لإدراجها في المسائل الأصولية، و إخراج القواعد الفقهية؛ كقاعدة: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» عنها.

و أما الثاني: فلأنه لا ينتهي الفقيه بعد الفحص عن الدليل على الحكم إلى القواعد الفقهية؛ لعدم ترتبها على مشكوك الحكم؛ كما هو شأن الأصول العملية؛ بل هي أحكام كلية يرجع إليها المجتهد ابتداء.

(2) بيان لقوله: «التي ينتهي إليها»، و المراد بالموصول: الوظائف المدلول عليها بسوق الكلام، يعني: من الوظائف التي دل عليها حكم العقل، كالبراءة العقلية المستندة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو دل عليها عموم النقل كالبراءة الشرعية المستندة إلى مثل حديث الرفع.

فقوله: «حكم العقل أو عموم النقل» إشارة إلى انقسام الأصول إلى العقلية و الشرعية.

أما الأول: فلأن الأصول العلمية لا تقع في طريق الاستنباط؛ لعدم انطباق ضابط المسألة الأصولية عليها، حتى تكون من المسائل الأصولية التي هي كبريات القياسات المنتجة - بعد ضم صغرياتها إليها - لأحكام كلية فرعية؛ إذ ليست الأصول العملية إلا وظائف للجاهل بالحكم الشرعي الواقعي بعد اليأس عن الظفر بدليل عليه، من دون أن تقع في طريق الاستنباط ليستنتج منها حكم كلي فرعي، فلا بد من تعميم القواعد الأصولية لما ينتهي إليه المجتهد بعد الفحص عن الدليل على الحكم و عدم الظفر به، حتى تندرج الأصول العملية في المسائل الأصولية.

ص: 120

عليه حكم العقل أو عموم النقل، و المهم منها أربعة (1). فإن مثل (2) قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية (3)؛ و إن كان مما ينتهي (4) إليها فيما لا حجة على طهارته و لا على نجاسته، إلا إن البحث (5) عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض و إبرام، بخلاف الأربعة و هي البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب، و يحتاج تنقيح مجاريها و توضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث و بيان و مئونة حجة

=============

(1) و هي الاستصحاب و التخيير و البراءة و الاشتغال، و قد يعبر عنه: بالاحتياط تسمية للملزوم باسم لازمه، و المقصود واحد. أما غيرها من «أصالة العدم» و «أصالة عدم الدليل دليل العدم»، و «أصالة الحلية» و «أصالة الحظر» فقد قيل: باندراج الأولى في الاستصحاب، و الثالثة في البراءة، و الآخرين في الأمارات؛ لكنه لا يخلو عن إشكال، و التفصيل لا يسعه المقام.

(2) غرضه: الاعتذار عن عدم تعرضهم لقاعدة الطهارة، مع أنها في الشبهات الحكمية من الأصول العملية.

و حاصل ما أفاده في الاعتذار يرجع إلى وجهين:

الأول: أن حجيتها لا تحتاج إلى النقض و الإبرام؛ بل هي ثابتة عند الكل من دون خلاف فيها و لا كلام، فلا حاجة إلى البحث عنها؛ بخلاف الأربعة المزبورة، فإنها محل البحث و تحتاج إلى النقض و الإبرام.

الثاني أن قاعدة الطهارة مختصة ببعض أبواب الفقه - أعني: باب الطهارة و النجاسة - بخلاف غيرها من الأصول الأربعة، فإنها عامة لجميع أبواب الفقه.

(3) أما أصالة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية: فهي مما لا ينتهي إليها المجتهد؛ للعلم بالحكم الكلي، فيجوز للمقلد إجراؤها أيضا؛ كالشك في طهارة الماء الموجود في هذا الإناء، مع عدم العلم بحالته السابقة، فإنه يحكم المقلد بطهارته أيضا، و يرتب آثارها عليه.

(4) يعني: المجتهد، و ضمير «إليها» راجع على الموصول في «مما» المراد به الأصول و القواعد.

(5) هذا إشارة إلى الوجه الأول المتقدم بقولنا: «الأول: أن حجيتها...» الخ. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

ص: 121

و برهان، هذا مع جريانها (1) في كل الأبواب، و اختصاص تلك القاعدة ببعضها فافهم (2).

=============

(1) أي: الأصول الأربعة. هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي تقدم توضيحه.

(2) لعله إشارة إلى عدم صلاحية الوجه الثاني للاعتذار؛ لأن الاختصاص ببعض الأبواب لا يسوّغ الإهمال؛ و إلا لزم خروج جملة من المسائل الأصولية عن علم الأصول؛ لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه؛ كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد، حيث إنه يختص بالعبادات، و لا يجري في سائر أبواب الفقه، هذا؛ بل الوجه الأول أيضا لا يصلح للاعتذار؛ لأن مجرد كون المسألة اتفاقية بل ضرورية لا يسوّغ إهمالها، و عدم ذكرها في مسائل ذلك العلم؛ بل لا بد من بيان جميع مسائله الخلافية و الوفاقية.

و خلاصة الكلام فيما هو المهم في المقام: أن المصنف خالف الشيخ حيث جعل البحث عاما شاملا لمطلق الشك في التكليف، و قد أخرج فرض تعارض النصين عن هذا البحث، بدعوى: قيام الحجة على التعيين أو التخيير، و مع قيام الدليل لا تصل النوبة إلى البراءة و السبب لتفصيل الشيخ «قدس سره» هو: اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات، و لذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية، و إلى الاحتياط في الشبهة التحريمية، بدعوى: وجود الفرق بينهما، فلا بد من البحث عن كل مسألة مستقلا؛ لتعدد المسائل و اختلاف جهة البحث فيها.

ص: 122

فصل

لو شك (1) في وجوب شيء أو حرمته، و لم تنهض عليه (2) حجة جاز شرعا و عقلا ترك الأول (3) و فعل الثاني، و كان (4) مأمونا من عقوبة مخالفته (5)، كان (6) عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص (7) أو إجماله، و احتماله الكراهة (8) أو

=============

فصل أصالة البراءة

اشارة

و سيأتي البحث عنه.

ثم إن المصنف لم يتعرض لجريان البراءة و عدمه في غير الوجوب و الحرمة من الاستحباب و الإباحة و الكراهة، و لعله لأجل اختصاص الخلاف في البراءة و الاحتياط بالتكليف الإلزامي هذا أولا. و ثانيا: لو فرض شموله للمستحب و المكروه يظهر حالهما من الواجب و الحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

(2) على شيء من الوجوب أو الحرمة.

(1) المراد بالشك المأخوذ موضوعا في الأصول العملية ليس بمعنى تساوي طرفيه؛ بل المراد به: خلاف اليقين و الحجة، بمعنى: عدم الحجة على وجوب شيء في الشبهة الوجوبية، و عدم الحجة على حرمته في الشبهة التحريمية، فالمراد بالشك في الوجوب: هو الشك فيه مع العلم بعدم حرمته؛ كالدعاء عند رؤية الهلال، كما أن المراد بالشك في الحرمة هو الشك فيها مع العلم بعدم وجوبه؛ كشرب التتن مثلا، فيدور الأمر بين الوجوب و غير الحرمة في الأول، و بين الحرمة و غير الوجوب في الثاني.

و أما مع العلم إجمالا بالوجوب أو الحرمة: فيكون من دوران الأمر بين المحذورين.

(3) أي: ترك ما شك في وجوبه، و كذلك جاز فعل ما شك في حرمته.

(4) عطف على قوله: «جاز» و هو بمنزلة التفريع على الجواز العقلي و الشرعي.

(5) أي: مخالفة الشيء المشكوك وجوبه أو حرمته.

(6) أي: سواء «كان عدم نهوض الحجة...» الخ.

(7) المراد به: مطلق الدليل لا خصوص الرواية.

(8) بيان لإجمال النص، و هذا يكون في صورة الشك في الحرمة؛ كما إذا قال: «لا

ص: 123

الاستحباب (1)، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما (2) ترجيح، بناء (3) على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.

و أما بناء على التخيير - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة و غيرها (4)؛ لمكان (5) وجود الحجة المعتبرة و هو أحد النصين فيها كما لا يخفى.

و قد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة:

أما الكتاب: فبآيات (6) أظهرها قوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً(1).

=============

تشرب التتن» مثلا، و احتمل إرادة الكراهة من النهي.

(1) و هذا يكون في صورة الشك في الوجوب؛ كما إذا قال: «اغتسل للجمعة»، و احتمل إرادة الاستحباب من الأمر.

(2) أي: بين النصين المتعارضين؛ إذ لو ثبت بينهما ترجيح فالمتعين الأخذ بالراجح؛ لأدلة الترجيح الظاهرة في وجوب الترجيح. ثم إن التوقف و الرجوع إلى الأصل في صورة التكافؤ هو القول الشاذ؛ و إلا فعلى المشهور من التخيير لا تصل النوبة إلى الأصل؛ لوجود الدليل و هو أحد المتعارضين.

(3) قيد لقوله: «جاز» يعني: أن الرجوع إلى الأصل في تعارض النصين مبني على التوقف في مسألة التعارض، دون التخيير؛ إذ بناء على التخيير لا بد من الأخذ بأحد المتعارضين، دون الرجوع إلى الأصل.

(4) يعني: من سائر الأصول كالاستصحاب و الاحتياط.

(5) تعليل لقوله: «لا مجال»، و وجهه واضح؛ إذ الحجة على الواقع موجودة و إن كانت مرددة بين شيئين. و ضمير «فيها» راجع على مسألة تعارض النصين.

و قد استدل على ذلك بالادلة الاربعة

الاستدلال بالكتاب على البراءة

(6) و قد ذكر الشيخ الأنصاري(2) «قدس سره» جملة من الآيات التي استدل بها لأصالة البراءة.

منها: قوله تعالى: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ مٰا آتٰاهٰا (3)، و الاستدلال بهذه الآية على البراءة يتوقف على كون المقصود من الموصول التكليف، و المراد من الإيتاء المستفاد من آتٰاهٰا : إعلامه و إيصاله إلى المكلف، فيكون معنى الآية حينئذ: ألا يكلف الله

ص: 124


1- الإسراء: 15.
2- فرائد الأصول 21:2-22.
3- الطلاق: 7.

أحدا إلا بما أعلمه و أوصله إليه من التكليف، فالتكليف الذي لم يصل إلى المكلف مرفوع عنه، فتكون دلالة الآية على البراءة على هذا الاحتمال واضحة.

إلا إن هذا الاحتمال ينافي مورد الآية، فيكون بعيدا عن أن يكون مرادا منها، فالآية أجنبية عن مسألة البراءة؛ لأن كون المراد من الموصول التكليف و إن كان محتملا؛ إلا إن كون المراد من الإيتاء هو الإعلام و إيصال التكليف إلى المكلف ممنوع؛ إذ الإيتاء إنما هو بمعنى الإعطاء أو الإقدار لا الإعلام.

و كيف كان؛ فالظاهر أن المراد من الموصول أحد الأمور الثلاثة:

1 - المال.

2 - القدرة.

3 - التكليف.

و على تقدير إرادة الأول و الثاني: يلزم تقدير كلمة «بقدر» أي: لا يكلف الله نفسا إلا بقدر المال الذي أعطاها، أو بقدر القدرة التي أقدرها، و على تقدير إرادة الثالث: يكون معنى الآية: «لا يكلف الله نفسا إلا تكليفا أقدرها»، و على جميع الاحتمالات تكون الآية أجنبية عن مسألة البراءة كما هو واضح.

و منها: قوله تعالى: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا (1) بتقريب: أن إطاعة الحكم المجهول خارجة عن وسع المكلف في نظر عامة الناس، فيكون الحكم المجهول مرفوعا.

هذا معنى البراءة.

و الجواب عنها: أن ظاهر الآية هو نفي التكليف بغير المقدور، و من المعلوم: أن عدم صحة التكليف بغير المقدور من الأمور المسلمة بينهم، فيكون مضمون الآية أجنبيا عن أصالة البراءة؛ إذ ليس الاحتياط بترك ما يحتمل التحريم من التكليف بغير المقدور.

و منها: قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (2) بتقريب:

أنه ليهلك من ضل بعد قيام الحجة عليه، فتكون حياة الكافر و بقاؤها هلاكا له، و يحيا من اهتدى بعد قيام الحجة عليه، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. و قوله: عَنْ بَيِّنَةٍ أي: بعد بيان و إعلام، و من المعلوم: أن قضية تخصيص الضلال و الاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب و الحرمة قبله، و هذا معنى البراءة.

ص: 125


1- البقرة: 286.
2- الأنفال: 42.

و فيه (1): أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى و الجواب عنها: أن دلالتها على البراءة مبنية على كون الهلاك بمعنى العذاب الأخروي، و البينة بمعنى: الطريق الكاشف عن الواقع.

=============

و ليس الأمر كذلك؛ بل المراد من الهلاك هو الموت و القتل، و من الحياة هو الإسلام، و المراد من البينة هو خصوص المعجزة الدالة على صدق نبوة نبينا محمد «صلى الله عليه و آله و سلم»، فيكون مضمون الآية أجنبيا عن أصالة البراءة أصلا. فهذه الآيات أجنبية عن مسألة البراءة أصلا. و لذا ترك المصنف الاستدلال بها و قال: أظهرها قوله تعالى:

وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً .

وجه الأظهرية هو: أن همّ الأصولي تحصيل ما يؤمنه من العقاب على مخالفة التكليف، و لا ريب في ظهور هذه الآية المباركة في نفي العذاب قبل تبليغ الأحكام.

فيقال في تقريب دلالتها على البراءة: إن التعبير ببعث الرسول ليس لأجل خصوصية فيه؛ بل بعثه الرسول كناية عن بيان الأحكام للأنام، و إتمام الحجة عليهم، فبعث الرسول كناية عن قيام الحجة، نظير قول القائل: «لا أصلي حتى يؤذن المؤذن»، يقصد به: الكناية عن دخول الوقت، فتكون الآية ظاهرة في نفي العذاب قبل قيام الحجة، فلا عقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف، و هذا معنى البراءة.

(1) و قد أورد على الاستدلال بهذه الآية الشريفة بوجوه:

الأول: أنها تختص بنفي العذاب الدنيوي، فلا ظهور لها في ما نحن فيه من نفي العذاب الأخروي؛ لأن نفي التكليف بأصالة البراءة مستلزم لنفي العذاب الأخروي؛ لا العذاب الدنيوي.

الثاني: أنها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة، بمعنى: أن المراد من الآية هو:

الإخبار عن عدم وقوع العذاب على الأمم السابقة إلا بعد البيان، بقرينة التعبير بلفظ الماضي في قوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ ، فيكون المراد هو الإخبار عن عدم وقوع العذاب الدنيوي فيما مضى من الأمم السابقة إلا بعد البيان فلا دلالة لها على نفي العذاب الأخروي عند عدم البيان حتى تدل الآية على البراءة، لأن نفي العذاب الأخروي كاشف عن نفي التكليف.

الثالث: أن دلالة الآية على البراءة تتوقف على مقدمة و هي: ثبوت الملازمة بين نفي فعلية التعذيب و بين نفي استحقاقه؛ إذ لو لم تثبت الملازمة بينهما بأن كان نفي الفعلية لازما أهم من نفي الاستحقاق، و من ثبوته مع انتفاء فعليته منّة و تفضلا منه

ص: 126

على عبادة، مع استحقاقهم لذلك، و لو سلم (1) اعتراف الخصم بالملازمة بين تعالى على العباد لم تدل الآية على البراءة؛ لعدم دلالتها حينئذ على عدم الاستحقاق الذي هو معنى البراءة؛ لأن نفي الحكم ملازم لنفي الاستحقاق من باب انتفاء المعلول عند انتفاء العلة.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المنفي في الآية فعلية العقاب، لا استحقاقه، و من المعلوم: إن نفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق؛ إذ نفي الفعلية ربما يكون من باب المنّة و التفضل، مع أن محل الكلام بيننا و بين الأخباريين هو نفي الاستحقاق الكاشف عن نفي التكليف، و ظاهر المصنف: هذا الإيراد الثالث، فهذه الآية المباركة لا تدل على البراءة. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و المشار إليه «لذلك» هو العذاب يعني: مع استحقاق العباد للعذاب، فلا يدل نفي الفعلية على نفي الاستحقاق، حتى يصح الاستدلال بها على البراءة.

(1) لما أنكر المصنف «قدس سره» الملازمة بين نفي الفعلية و الاستحقاق الذي هو مبنى الاستدلال بالآية على البراءة، أشار إلى دفع ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره»، من أن الآية الشريفة و إن كانت ظاهرة في نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق؛ لكنه لا يضر بصحة الاستدلال بها على البراءة المنوطة بدلالتها على نفي الاستحقاق؛ إذ الخصم - و هو المحدث القائل بوجوب الاحتياط في الشبهات - يعترف بالملازمة بين الاستحقاق و الفعلية، فينتفي الاستحقاق بانتفاء الفعلية، فإذا دلت الآية على نفي الفعلية صح الاستدلال بها على البراءة؛ لاعتراف الأخباري بالملازمة بين نفي الفعلية و نفي الاستحقاق.

أما اعترافه بالملازمة: فيظهر من دليله، حيث أنه يستدل بأخبار التثليث الدالة على أن ارتكاب الشبهة موجب للوقوع في الهلكة، و ظاهرها هو: الهلكة الفعلية لا صرف الاستحقاق لما ورد فيها «و من اقتحم الشبهات هلك من حيث لا يعلم»، و عليه: فإذا انتفت الفعلية بالآية انتفى الاستحقاق بمقتضى الملازمة التي يعترف بها الخصم. هذا ملخص تصحيح دلالة هذه الآية على البراءة.

و أما الدفع: الذي ذكره المصنف فهو يرجع إلى وجهين:

الأول: أن الاستدلال على البراءة بالآية الشريفة يكون حينئذ جدليا لا حقيقيا، حتى يجدي في إثبات المدعى.

ص: 127

الاستحقاق و الفعلية لما صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه (1)، ضرورة:

أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده (2) بأعظم مما علم بحكمه، و ليس (3) حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به (4) فيه، فافهم (5).

=============

نعم؛ يثبت الدعوى باعتقاد الخصم، و هو لا ينفع الأصولي الذي ينكر الملازمة بين نفي فعلية العذاب و نفي الاستحقاق كما لا يخفى.

الثاني: أنه لم يظهر وجه لاعتراف المحدثين بالملازمة، حيث إن الشبهة لا تزيد على المعصية الحقيقية، و من المعلوم: أن أدلة وجوب الاحتياط في المشتبهات ليست بأقوى من أدلة المحرمات المعلومة، و الخصم لا يدعي الملازمة بين الاستحقاق و الفعلية في المعصية القطعية؛ لإمكان تعقبها بالتوبة أو الشفاعة، فكيف يدعيها في الشبهة ؟

قوله: «لما صح الاستدلال بها إلا جدلا» إشارة إلى الوجه الأول، و القياس الجدلي: ما يتألف من المشهورات و المسلمات كما في علم المنطق.

(1) أي: منع اعتراف الخصم بالملازمة، و هو إشارة إلى الوجه الثاني.

(2) أي: عند الخصم و هو المحدث المنكر للبراءة.

(3) الواو للحال، يعني: و الحال إن الوعيد بالعذاب فيما شك في وجوبه أو حرمته ليس إلا كالوعيد بالعذاب فيما علم وجوبه أو حرمته، و إن ارتكاب الشبهة ليس بأسوإ حالا من المعصية الحقيقية في عدم فعلية العذاب.

(4) أي: بالعذاب فيما علم حكمه.

(5) لعله إشارة إلى أن منشأ دعوى الملازمة إن كان أخبار التثليث الظاهرة في الهلكة الفعلية: فلا بد من رفع اليد عن ظهورها، و صرفه إلى الاستحقاق؛ لما عرفت من: أن الشبهة ليست أسوأ حالا من المعصية الحقيقية.

أو إشارة إلى عدم كون الاستحقاق محل الكلام؛ إذ محل الكلام هو: لزوم الاجتناب شرعا و عدمه، فالأخباري أيضا لا بد و أن يلتزم بعدم وجوب الاجتناب؛ لأنه لا محذور فيه، و مجرد الاستحقاق المحتمل مع القطع بعدم الفعلية لا يكفي في ثبوت الاحتياط.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالآيات على البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

1 - الاستدلال بقوله تعالى: - لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ مٰا آتٰاهٰا - على البراءة،

ص: 128

بتقريب: أن المراد من الموصول هو التكليف، و المراد من الإيتاء هو الإعلام، و بيان التكليف و إيصاله إلى المكلف، فيكون معنى الآية حينئذ: «لا يكلف الله نفسا إلا تكليفا أعلمها به و أوصله إليها فالتكليف الذي لم يصل إلى المكلف مرفوع عنه، فدلالة الآية على البراءة على هذا الاحتمال واضحة.

و الجواب عنها: أن كون التكليف مرادا من الموصول مجرد احتمال؛ بل ينافي مورد الآية و هو المال، فالمراد من الموصول هو: المال، و المراد من الإيتاء هو: الإعطاء، فمعنى الآية: لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من المال. فالآية أجنبية عن مسألة البراءة.

2 - و أما قوله تعالى: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا فناظر إلى اشتراط التكليف بالقدرة، فمفادها عدم صحة التكليف بغير المقدور، فلا ربط لها بمسألة البراءة أصلا.

و كذلك قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ليس مفادها نفي التكليف قبل البيان؛ بل المراد من الهلكة: هو الموت، و المراد من الحياة: هو الإسلام، و المراد من البينة: هو خصوص المعجزة الدالة على صدق نبوة نبينا محمد «صلى الله عليه و آله سلم».

فلا علاقة بمسألة البراءة أصلا.

3 - أظهر الآيات: قوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً .

وجه الأظهرية: أن هذه الآية ظاهرة في نفي العذاب قبل بيان الأحكام؛ لأن بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام للأنام، فلا عقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف، و هذا معنى البراءة.

و عمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الآية: أن دلالة الآية على البراءة تتوقف على ثبوت الملازمة بين نفي فعلية التعذيب و بين نفي استحقاقه، فبالآية تنفي فعلية العذاب، و بالملازمة ينفي استحقاقه، و لازم عدم الاستحقاق: عدم التكليف. هذا معنى البراءة.

و الجواب عنها: هو عدم ثبوت الملازمة بينهما؛ لأن المنفي بالآية فعلية العذاب، و نفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق؛ إذ ربما لا يكون العذاب فعليا من باب التفضل و المنّة مع ثبوت الاستحقاق، مع أن محل الكلام بين الأصولي و الأخباري هو نفي الاستحقاق الكاشف عن عدم التكليف، فهذه الآية لا تدل على البراءة.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم تمامية دلالة الآيات على البراءة.

ص: 129

و أما السنة: فبروايات منها (1): حديث الرفع، حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة

=============

الاستدلال بالسنة على البراءة
اشارة

الاستدلال بالسنة على البراءة(1) من الروايات: حديث الرفع، و هي الرواية المروية عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» قال: «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الطيرة و الحسد و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة». و لا إشكال في سند الحديث؛ لأنه في الخصال(1) و التوحيد(2)بسند صحيح، و إنما الكلام في دلالته على البراءة.

و تقريب الاستدلال به عليها: يتوقف على مقدمة، و هي أمور تالية:

1 - أن الرفع في هذا الحديث متعلق بأمور مثل: الخطأ و النسيان و غيرهما، و كلها موجودة في الخارج، فالمراد برفع هذه الأمور سوى «ما لا يعلمون» لم يكن تكوينا؛ لأنها موجودة في الخارج بالضرورة و الوجدان.

الثاني: جميع الآثار كذلك.

و حينئذ: لا بد من تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء حتى يكون هو المرفوع حفظا لكلام النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» عن الكذب، و المقدر المرفوع لا يخلو عن أحد أمور:

الأول: خصوص المؤاخذة في الجميع.

الثالث: الأثر الظاهر في كل واحد منها.

نعم؛ يمكن أن يكون المرفوع في «ما لا يعلمون» تكوينا فيما إذا كان المراد بالموصول هو الحكم الشرعي.

2 - أن يكون المراد من الآثار المرفوعة بحديث الرفع في غير «ما لا يعلمون»: هي الآثار التي تعرض على موضوعاتها، من دون أن تكون مقيدة بوجود أحد هذه العناوين و لا بعدمها؛ إذ لو كانت مقيّدة بوجودها لكانت الآثار ثابتة عند وجود هذه العناوين؛ كوجوب سجدتي السهو عند زيادة شيء أو نقصانه في الصلاة نسيانا مثلا، و ذلك لأن ثبوت العنوان حينئذ يقتضي وضع الأثر لا رفعه. و أما لو كانت مقيدة بعدم أحد هذه العناوين كانت الآثار مرفوعة بارتفاع موضوعها، بلا حاجة إلى حديث و الرفع كالكفارة في إفطار صوم شهر رمضان عمدا، حيث تكون مقيدة بعدم كون الإفطار نسيانا، فترتفع

ص: 130


1- الخصال: 9/417.
2- التوحيد: 24/353.

إذا كان الإفطار نسيانا، و يكون ارتفاعها بارتفاع الموضوع؛ لأن موضوعها هو الإفطار عن عمد كما هو واضح.

3 - أن حديث الرفع حيث ورد في مقام الامتنان على الأمة، فيكون مختصا برفع ما كان في رفعه منّة على الأمة.

4 - و فيما هو المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» خلاف بين المصنف و بين الشيخ «قدس سرهما»، حيث يظهر من بعض كلمات الشيخ «قدس سره»: اختصاص الموصول بالشبهة الموضوعية بوحدة السياق، بمعنى: أن المراد من الموصول هو الفعل الخارجي المجهول نفسه لا حكمه؛ كالمائع الخارجي المردد بين الخمر و الخل، فكأن الحديث حينئذ مختصا بالشبهة الموضوعية، و أجنبيا من الشبهة الحكمية.

و أما على قول المصنف «قدس سره»: فالمراد من الموصول هو مطلق الحكم الإلزامي من الوجوب و الحرمة، سواء كان في الشبهة الحكمية؛ بأن يكون منشأ الاشتباه فقدان النص كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو الموضوعية؛ كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمرا فالجامع هو التكليف الإلزامي المشكوك أعم من كونه تكليفا كليا و كان منشأ الشك فيه فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين كما في الشبهات الحكمية، و كونه تكليفا جزئيا كان منشأ الشك هو الاشتباه في الأمور الخارجية.

فالمتحصل: أن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» عند الشيخ هو الفعل الخارجي بوحدة السياق حيث المراد من الموصول في غير «ما لا يعلمون» هو الفعل الإكراهي و الاضطراري و نحوهما؛ إذ لا معنى لتعلق الإكراه و الاضطرار بنفس الحكم، فالمراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضا هو الفعل المجهول لا الحكم، فيختص الحديث بالشبهات الموضوعية الخارجة عن محل الكلام.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم: أنه يقال في تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة: بأن الحديث ظاهر في رفع مطلق الحكم الإلزامي المجهول، سواء كان ذلك الحكم الإلزامي كليا كما في الشبهة الحكمية، أم جزئيا كما في الشبهة الموضوعية، و يكون إسناد الرفع إلى الحكم إسنادا حقيقيا لكونه إلى ما هو له؛ لأن المرفوع ما فيه الثقل، و الثقل إنما هو في إلزام المكلف بالفعل في الشبهة الوجوبية. أو الترك كما في الشبهة التحريمية.

ص: 131

المرفوعة فيه، فالإلزام المجهول (1) مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا (2)؛ و إن كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة عليه (3) قطعا.

لا يقال: ليست المؤاخذة (4) من الآثار الشرعية؛ كي ترتفع بارتفاع التكليف فالمتحصل: أن الموجب للثقل و الضيق هو حكم الشارع، فيصح إسناد الرفع إليه. غاية الأمر: أن المرفوع هو الحكم الظاهري الفعلي لا الحكم الواقعي حتى يلزم التصويب، فلا مؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي لعدم كونه فعليا.

=============

توضيح: بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة، و هذا التقريب مبني على إرادة الحكم من الموصول لا الموضوع كما عرفت.

(2) يعني: ظاهرا «و إن كان ثابتا واقعا»؛ لما تحقق في محله من أن الجهل لا يقيد الأحكام الواقعية؛ بل هي ثابتة على المكلفين، سواء علموا أم جهلوا، فالأحكام الواقعية لا تختص بالعالم فقط؛ بل مشتركة بين العالم و الجاهل، غاية الأمر: إذا كان الجاهل قاصرا لم يعاقب على مخالفة الحكم الواقعي لأنه خلاف العقل و النقل، فإن العقل و النقل اتفقا على قبح مؤاخذة الجاهل القاصر. هذا ما أشار إليه بقوله: «فلا مؤاخذة عليه قطعا».

(3) يعني: فلا مؤاخذة على الإلزام المجهول؛ لترتب استحقاق المؤاخذة على مخالفة الحكم الفعلي المنجز، و المفروض: انتفاء هذه المرتبة.

فحديث الرفع يدل على البراءة، و أن الاستدلال به عليها متين جدا؛ لما عرفت في المقدمة من: أن المراد بالموصول هو نفس الحكم، سواء كان الشك فيه ناشئا من عدم الدليل، أم من الأمور الخارجية، فيراد من الموصول: كلتا الشبهتين الحكمية و الموضوعية، من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و من دون لزوم تقدير شيء أصلا.

(4) هذا الإشكال مع جوابه مأخوذان عن كلام للشيخ «قدس سره» في المقام، و له مجال على قول الشيخ، حيث قال: إن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون»: هو فعل المكلف نظير سائر الفقرات لا الحكم المجهول، فلا بد من تقدير ما هو المرفوع بحديث الرفع، و المقدر هو خصوص المؤاخذة على احتمال، فيتوجه إليه هذا الإشكال و يقال إن المرفوع بأدلة البراءة لا بد و أن يكون من الآثار الشرعية، و المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية حتى ترتفع بحديث الرفع.

ص: 132

و أما على قول المصنف حيث قال: إن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون»: هو الحكم و هو قابل للرفع لحديث الرفع، فلا مجال لهذا الإشكال أصلا.

نعم؛ يمكن أن يقال في تصحيح هذا الإشكال على قول المصنف: إن الغرض في المقام من التمسك بأدلة البراءة هو نفي المؤاخذة و العقوبة على مخالفة التكليف حتى يكون المكلف الجاهل في مأمن منها فيقال في تقريب الإشكال: إن أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية لا تنفي إلا الآثار الشرعية، و لا ترفع الآثار العقلية و لا الأمور التكوينية، و المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية؛ لأن نفس المؤاخذة أمر تكويني من فعل المولى، فليس وضعها و لا رفعها بيد الشارع بما هو شارع حتى يرفعها.

و أما استحقاق العقوبة على المخالفة و المعصية: فهو أثر عقلي لا يرتفع بحديث الرفع.

ثانيتهما: إن المؤاخذة ليست من آثار التكليف المجهول حتى ترتفع برفعه؛ بل هي من آثار التكليف الفعلي المنجز، فلا عقاب عقلا على ما لم يتنجز.

و يندفع الإشكال من الجهة الأولى: بأن رفع المؤاخذة ليس للتعبد برفع نفسها حتى لا يعقل التعبد به نفيا و إثباتا؛ بل لنفي موضوعها و هو التكليف الفعلي الواقعي أو الظاهري، فإن استحقاقها مترتب على مخالفته بعد وصوله إلى المكلف، فعدم الاستحقاق إنما هو لعدم مخالفة التكليف الواصل، سواء كان هناك تكليف واقعا و لم يصل إلى المكلف و لو بإيجاب الاحتياط، أم لم يكن أصلا.

و يندفع الإشكال من الجهة الثانية: بأن المؤاخذة و إن لم تكن من آثار التكليف المجهول بما هو مجهول؛ لكنها من آثار ما يقتضيه الواقع المجهول من إيجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة، فهي أثر الأثر الشرعي، فرفع التكليف المجهول تعبدا رفع لأثره أعني:

إيجاب الاحتياط الذي هو موضوع الاستحقاق، فلا مانع من رفع المؤاخذة بإجراء أصالة البراءة في التكليف المجهول.

فالمتحصل: أن المؤاخذة و إن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا قابلا للرفع إلا إنها مما يترتب على التكليف المجهول بسبب ما هو أثره الشرعي القابل للرفع و هو إيجاب الاحتياط، فإذا

ص: 133

المجهول ظاهرا (1)، فلا دلالة له (2) على ارتفاعها.

فإنه يقال: إنها (3) و إن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا إلا إنها (4) مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره و باقتضائه، من (5) إيجاب الاحتياط شرعا.

فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه (6)، المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على دل حديث الرفع على رفع التكليف المجهول فقد دل على عدم إيجاب الاحتياط المستتبع لعدم استحقاق المؤاخذة عليه.

=============

و بالجملة: إن للتكليف المجهول أثرين أحدهما: شرعي و هو إيجاب الاحتياط، و الآخر: عقلي و هو استحقاق العقاب على مخالفته، غايته أن الشرعي سبب لترتب العقلي، و انتفاؤه سبب لانتفائه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) قيد ل «ارتفاع التكليف».

(2) أي: فلا دلالة لحديث الرفع على ارتفاع المؤاخذة، مع أن ارتفاعها و عدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام.

(3) أي: المؤاخذة، و توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة و هي: أن الآثار العقلية تثبت تارة: لمجرى الأصل واقعا، و أخرى: لما هو أعم من الواقع و الظاهر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: إن الآثار العقلية إن كانت من قبيل الأول: فالأصل لا يثبتها، و هذا ما اشتهر بينهم من أن الأصل لا يثبت الآثار غير الشرعية، و إن كانت من قبيل الثاني: فالأصل يثبتها، و قبح العقاب من هذا القبيل؛ لترتبه على عدم الحكم مطلقا و إن كان ظاهرا، و مثله حسن المؤاخذة فإنه يترتب على ثبوت التكليف و لو ظاهرا.

فالنتيجة: أن أصالة البراءة النافية للتكليف ظاهرا تنفي استحقاق المؤاخذة كما ينتفي استحقاقها بعدم الحكم واقعا.

(4) أي المؤاخذة، و ضمير «عليه» راجع على التكليف المجهول.

(5) بيان ل «ما» الموصول و ضميرا «أثره، باقتضائه» راجعان على التكليف المجهول، يعني: أن المؤاخذة من آثار إيجاب الاحتياط، الذي هو من آثار الحكم المجهول. و ضمير «رفعه» راجع على التكليف المجهول.

(6) أي: إيجاب الاحتياط، يعني: أن الدليل على نفي التكليف المجهول دليل على نفي إيجاب الاحتياط؛ لعدم ارتفاع الواقع بالجهل به، فلا بد أن يكون المرفوع أثره و مقتضاه و هو إيجاب الاحتياط.

ص: 134

مخالفته (1).

لا يقال (2): لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول؛ بل على مخالفة نفسه، كما هو قضية إيجاب غيره (3).

فإنه يقال (4): هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا؛ و إلا...

=============

(1) أي: مخالفة التكليف، و «المستتبع» صفة ل «عدم إيجابه» يعني: لما كان إيجاب الاحتياط علة للمؤاخذة، فنفيه علة لعدمها.

(2) توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: إن كل واجب بالوجوب المولوي في الشرع في مخالفته عقاب و في امتثاله و موافقته ثواب، فإذا ارتفع الوجوب يرتفع العقاب على مخالفته.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن رفع إيجاب الاحتياط لا يوجب رفع المؤاخذة على التكليف المجهول؛ بل يوجب رفعها على نفسه؛ و ذلك لما عرفت في المقدمة من أن شأن الوجوب المولوي هو استحقاق المؤاخذة على مخالفته، فوجوب الاحتياط لما كان علة لاستحقاق المؤاخذة على مخالفة نفسه كان رفع وجوبه علة لارتفاع المؤاخذة على نفس وجوب الاحتياط؛ لا لارتفاع المؤاخذة على التكليف المجهول.

فحاصل الإشكال: أن إيجاب الاحتياط و إن كان أثرا شرعيا للتكليف المجهول و هو قابل للرفع؛ و لكنه ليس سببا لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول؛ بل على مخالفة نفسه كما هو مقتضى سائر الأوامر الصادرة من المولى.

(3) أي: كما أن استحقاق المؤاخذة هو مقتضى مخالفة غير الاحتياط من الواجبات؛ كالصلاة و الصوم و نحوهما.

(4) هذا جواب عن الإشكال المذكور، و توضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن الوجوب على قسمين: نفسيّ و طريقيّ ، و استحقاق العقاب مختص بالأول دون الثاني؛ إذ الوجوب الطريقي تابع للواقع، فلا مؤاخذة عليه في نفسه، و إنما فائدته المؤاخذة على مخالفة الواقع عند الإصابة، كما هو الحال في جميع الأوامر الطريقية عند الإصابة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن تشريع وجوب الاحتياط إنما كان لأجل التحفظ على الواقع عند الجهل به، فهو نظير الإيجاب الطريقي، فإن فائدته ليست إلا تنجز الواقع عند الإصابة و العذر عند الخطأ، و لا يترتب على نفس الطريق غير ما يترتب على موافقة الواقع و مخالفته، فللمولى مؤاخذة العبد إذا خالف الواقع بترك الاحتياط فيه كصحة مؤاخذته على مخالفة الطريق المصيب.

ص: 135

فهو (1) موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول كما هو الحال في غيره (2) من الإيجاب و التحريم الطريقيين (3)، ضرورة (4): أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، و يقال: لم أقدمت مع إيجابه به ؟ و يخرج به عن العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما.

و قد انقدح بذلك (5): أن رفع التكليف المجهول كان منّة على الأمة، حيث كان له قوله: «هذا» أي: استتباع مخالفة وجوب الاحتياط للمؤاخذة على نفسه موقوف على القول بوجوبه نفسيا؛ إذ عليه يلزم استحقاق المؤاخذة على مخالفته كلزومه على مخالفة سائر التكاليف النفسية.

=============

و أما إذا كان إيجاب الاحتياط طريقيا: فلا يستحق المؤاخذة على مخالفة نفسه؛ بل إنما يستحقها على مخالفة ذي الطريق و هو التكليف المجهول، و عليه: فترتفع المؤاخذة من البين ببركة حديث الرفع الرافع لموضوع المؤاخذة أعني: إيجاب الاحتياط؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 199».

(1) أي: و إن كان إيجاب الاحتياط طريقيا «فهو موجب...» الخ.

(2) أي: غير الاحتياط.

(3) أي: كالإيجاب و التحريم المقدمي؛ كوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين، و حرمة الإلقاء من السطح، فإنه لا عقاب فيهما، و إنما العقاب على مخالفة التكليف المجهول، مثلا: الإلقاء من السطح حرام؛ لكنه حرام طريقي لحرمة قتل النفس، فإذا ألقى نفسه و مات عوقب على القتل لا على الإلقاء.

(4) تعليل لقوله: «فهو موجب».

توضيحه: أن إيجاب الاحتياط لتنجيز الواقع؛ كالإيجاب و التحريم الطريقيين في صحة الاحتجاج و المؤاخذة، و عدم كون العقاب معه عقابا بلا بيان؛ بل مؤاخذة مع الحجة و البرهان، فوزان إيجاب الاحتياط من حيث كونه حجة على الواقع وزان الإيجاب و التحريم الطريقيين، فالتكليف بعد إيجاب الاحتياط و إن لم يخرج وجدانا عن الاستتار؛ بل هو باق على المجهولية؛ لكنه خرج عن التكليف المجهول الذي لم تقم عليه حجة، و صار مما قام عليه البرهان. و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «بهما» في الموضعين راجع على الإيجاب و التحريم، و الضمير في «أن يحتج به، إيجابه، يخرج به» راجع على إيجاب الاحتياط.

(5) أي: قد ظهر بذلك الذي ذكرنا من كون التكليف المجهول مقتضيا لإيجاب

ص: 136

تعالى وضعه (1) بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه (2). فافهم (3).

(2) أي: فرفع التكليف الواقعي المجهول برفع مقتضاه و هو إيجاب الاحتياط.

ثم لا يخفى (4): عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة و لا غيرها من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون»، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الاحتياط تحفظا عليه و رفعه علة لعدمه، و غرضه: أن الحديث بعد أن كان واردا في مقام الامتنان، ففي جعل المرفوع في «ما لا يعلمون» إيجاب الاحتياط منّة على العباد؛ لأن رفعه يوجب السعة عليهم، بخلاف إيجابه، فإنه يوجب الضيق و الكلفة عليهم.

=============

(3) لعله إشارة إلى الفرق بين الاحتياط و بين سائر الأوامر الطريقية، فإن في ترك الاحتياط تجريا عقاب و إن أتى بالتكليف الواقعي؛ كما لو صلى إلى طرف واحد - فيما اشتبهت القبلة - و ترك سائر الجهات، و صادفت تلك الجهة الواقع، فإنه يعاقب للتجري - كما هو مذهب المصنف - و هذا ليس كسائر الأوامر الطريقية التي لا عقاب لها قطعا.

(4) و قد عرفت فيما تقدم الخلاف بين المصنف و الشيخ «قدس سرهما» فيما هو المراد من الموصول في «ما لا يعلمون»، حيث قال المصنف: بأن المراد من الموصول: هو الحكم المجهول، و هو بنفسه قابل للرفع و لو بمعنى رفع تنجزه و هو المرتبة الأخيرة منه، بلا حاجة إلى تقدير شيء فيه أصلا.

و من هنا يقول المصنف: إنه لا حاجة إلى تقدير شيء في «ما لا يعلمون»؛ و إن كان في غيره من سائر الفقرات لا بد من تقدير المؤاخذة، أو تمام الآثار، أو الأثر الظاهر في كل منها، أو إسناد الرفع إليه مجازا بلحاظ المؤاخذة، أو جميع الآثار أو الأثر الظاهر، من قبيل إسناد السؤال إلى القرية مجازا بلحاظ الأهل.

(1) يعني: كان له تعالى وضع التكليف المجهول على العباد بوضع ما يقتضيه و هو إيجاب الاحتياط؛ و ذلك لأن الحكم الواقعي يقتضي - في ظرف الجهل به - إيجاب الاحتياط تحفظا عليه، فإيجاب الاحتياط مقتضى الجهل بالحكم الواقعي، فضمير «قضيته» راجع على التكليف المجهول، و «من إيجاب» بيان للموصول في «بما».

هذا بخلاف قول الشيخ «قدس سره»: حيث قال: بأن المراد من الموصول هو الفعل المجهول عنوانه بوحدة السياق، فلا بد من تقدير شيء في «ما لا يعلمون» كسائر الفقرات.

و كيف كان؛ فغرض المصنف: هو التعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» من لزوم التقدير في الحديث.

ص: 137

و توضيح تعريض المصنف بالشيخ: يتوقف على مقدمة و هي: إن المحتمل في الموصول في «ما لا يعلمون» وجوه ثلاثة:

الأول: أن يراد به: خصوص الفعل غير المعلوم عنوانه؛ كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو الخل كما يقول به الشيخ «قدس سره»، و الحديث حينئذ: مختص بالشبهات الموضوعية، فلا يصح الاستدلال به على البراءة في الشبهات الحكمية.

الثاني: أن يراد به: الحكم المجهول مطلقا، يعني: سواء كان منشأ الجهل بالحكم فقد النص أم إجماله - كما في الشبهات الحكمية - أم اشتباه الأمور الخارجية؛ كما في الشبهات الموضوعية، و عليه: فيشمل الحديث كلا من الشبهات الحكمية و الموضوعية؛ ما هو مختار المصنف «قدس سره».

الثالث: أن يراد به: ما يعم الاحتمال الأول و الثاني، يعني: يراد به الحكم و الفعل، و على هذين الاحتمالين يتم الاستدلال بالحديث على البراءة في الشبهات الحكمية و الموضوعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا حاجة إلى تقدير شيء في «ما لا يعلمون» استنادا إلى دلالة الاقتضاء حتى يقال: إن المقدر فيه إما خصوص المؤاخذة، أو جميع الآثار، أو الأثر الظاهر المناسب لكل واحد من التسعة كما يقول به الشيخ «قدس سره».

و توضيح اعتراض المصنف عليه: أنه لا حاجة إلى التقدير في «ما لا يعلمون» بعد إمكان إرادة نفس الحكم الشرعي من الموصول؛ لأن الحكم بنفسه قابل للوضع و الرفع تشريعا، سواء كان منشأ الجهل به فقد النص أم إجماله، أم الاشتباه في الأمور الخارجية، فيكون حديث الرفع بهذا التقريب دليلا على أصل البراءة في الشبهات الحكمية و الموضوعية معا؛ بلا تكلف أصلا.

نعم؛ دلالة الاقتضاء في غير «ما لا يعلمون» توجب إما تقدير جميع الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة، و إما الالتزام بالمجاز في الإسناد بلا تقدير شيء، يعني: أسند الرفع إلى نفس المضطر إليه؛ و لكن المقصود رفع أمر آخر من المؤاخذة و نحوها؛ لاستلزام رفع تلك العناوين للكذب لتحققها خارجا قطعا، فلا بد إما من التقدير أو المجاز في الإسناد حفظا لكلام الحكيم عن الكذب.

الكلام في توضيح العبارات:

قوله: «كان في الشبهة الحكمية...» الخ بيان لقوله: «مطلقا».

ص: 138

الموضوعية بنفسه قابل للرفع و الوضع شرعا؛ و إن كان في غيره (1) لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه (2)، فإن ليس «ما اضطروا و ما استكرهوا...» إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.

نعم (3)؛ لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله و لم يعلم عنوانه، لكان أحد الأمرين (4) مما لا بد منه أيضا (5) ثم لا وجه (6) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها.

=============

قوله: «فإن ما لا يعلم» تعليل لقوله: «عدم الحاجة...» الخ.

قوله: «بنفسه قابل للرفع» أي: لا بآثاره كما في غير «ما لا يعلمون» من سائر الفقرات، حيث إنها بنفسها غير قابلة للرفع، و إنما تقبل الرفع باعتبار آثارها، و «قابل» خبر «فإن ما لا يعلم».

وجه اللابدية هو: دلالة الاقتضاء.

فالمراد من آثار ما استكرهوا عليه - مثلا - فانه إذا شرب الإنسان الخمر عوقب في الآخرة، و جلد في الدنيا، و كره تزويجه؛ لكن دليل الرفع دل على عدم ترتب تلك الآثار على ما إذا كان الشرب عن إكراه.

(1) أي: غير «ما لا يعلمون» من سائر الفقرات «لا بد من تقدير الآثار».

(2) أي: إلى غير «ما لا يعلمون»، مثل: «ما استكرهوا»، مع إن الإسناد في الحقيقة إلى الآثار أو إلى المؤاخذة، فيكون من قبيل إسناد الجريان إلى الميزاب، و الحال أنه مسند إلى الماء حقيقة في قولنا: «جرى الميزاب» فإنه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.

و وجهه واضح، فإن الاضطرار و الإكراه و الخطأ موجودة تكوينا، فلا معنى لرفعها تشريعا، فلا بد من تقدير أمر آخر يكون هو المرفوع حقيقة.

(3) استدراك على قوله: «عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة»، و غرضه: أنه إن أريد بالموصول ما استظهره الشيخ «قدس سره» من الموضوع الخارجي المشتبه عنوانه؛ كالمائع المردد بين الخمر و الخل، فلا بد من تقدير أحد الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب و اللغو؛ لعدم كون الأمور المجهولة عناوينها مرفوعة حقيقة.

(4) و هما تقدير أحد الأمور الثلاثة، و ارتكاب المجاز في إسناد الرفع.

(5) أي: كسائر الفقرات التي لا بد من التقدير فيها.

(6) هذا تعريض آخر بالشيخ الأنصاري «قدس سره»، فإنه جعل دلالة الاقتضاء

ص: 139

فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها (1)، أو تمام آثارها (2) قرينة على تقدير أحد الأمور الثلاثة. ثم استظهر أن يكون المقدر هو المؤاخذة استنادا إلى وحدة السياق، فأورد عليه المصنف «قدس سره»: بأن الحاجة إلى التقدير في غير «ما لا يعلمون» من العناوين التي أسند الرفع إليها كالخطأ و النسيان و غيرهما؛ و إن كانت شديدة؛ لما عرفت من: عدم صحة إسناد الرفع التشريعي إلى الفعل الخارجي التكويني؛ إلا إنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة فيها؛ إذ المقدر في بعضها - و هو الإكراه و عدم الطاقة و الخطأ بقرينة رواية المحاسن، التي أشار إليها في المتن - هو الحكم الوضعي من طلاق الزوجة و انعتاق العبد و صيرورة الأموال ملكا للفقراء، فلا وجه حينئذ لاختصاص المقدر بالمؤاخذة، فالمقدر إما جميع الآثار أو الأثر الظاهر لكل من التسعة، و إن كان ورود الحديث في مقام الامتنان مقتضيا لرفع جميع الآثار.

=============

نعم؛ في خصوص «ما لا يعلمون» يتجه تقدير المؤاخذة لكونها الأثر الظاهر لرفع الحكم الواقعي المجهول؛ لكن لا يتعين ذلك، سواء أريد من الموصول خصوص فعل المكلف كما استظهره الشيخ، أم أريد به الحكم المجهول كما التزم به المصنف.

قوله: «في غير واحد» و هو «ما استكرهوا عليه، و ما لا يطيقون، و الخطأ، و الطيرة و الوسوسة». و ضمير «غيرها» راجع على المؤاخذة.

و وجه كون المقدر غير المؤاخذة هو: ظاهر رواية المحاسن، فإن شهادتها بعدم اختصاص المرفوع بالمؤاخذة مما لا يقبل الإنكار.

(1) أي: من التسعة، حتى يكون معنى الرفع رفع الأثر الظاهر لما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه. و هكذا.

(2) أما كون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها: فلتيقن إرادته على كل حال، سواء كان للرفع إطلاق أم لا.

و أما كونه تمام الآثار، فلوجهين:

الوجه الأول: أن الرفع في الحديث وقع في مقام الامتنان المناسب لارتفاع جميع الآثار ما لم يلزم منه محذور، و هو منافاته للامتنان بالنسبة إلى بعض الأمة؛ كما إذا استلزم رفع جميع الآثار ضررا على مسلم، فإن المرفوع حينئذ لا يكون تمام الآثار.

فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان، و كذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما اضطروا إليه؛ إذ لا امتنان في رفع الأثر عن

ص: 140

التي تقتضي المنة رفعها، كما أن ما يكون (1) بلحاظه الإسناد إليها مجازا هو هذا، كما لا يخفى.

=============

الفاعل بالإضرار بالغير. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني: هو اقتضاء إطلاق الرفع لجميع الآثار.

(1) يعني: إذا التزمنا في حديث الرفع بالمجاز في الإسناد؛ بأن يكون إسناد الرفع إلى كل واحد من التسعة مجازا، نظير إسناد الإنبات إلى الربيع في قولك «أنبت الربيع البقل» كان هذا الإسناد المجازي في الحديث بلحاظ الأثر الظاهر أو جميع الآثار، و ليس الإسناد المجازي بلحاظ رفع خصوص المؤاخذة، فالمشار إليه بقوله: «هذا» هو قوله:

ص: 141


1- المحاسن 124/339:2، نوادر الأشعري: 660/75، الوسائل 29436/226:23.

فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منّة (1) على الأمة، كما استشهد الإمام «عليه السلام» بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق و الصدقة و العتاق.

ثم لا يذهب عليك: أن المرفوع (2) فيما اضطر إليه و غيره مما أخذ بعنوانه الثانوي:

=============

فالمتحصل: أن استشهاد الإمام «عليه السلام» على عدم الأمور المذكورة مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع أقوى شاهد على كون المرفوع به هو جميع الآثار؛ لا خصوص المؤاخذة. هذا ما أشار إليه بقوله: «فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي».

(1) بخلاف ما إذا لم يكن في رفعه منّة عليهم؛ بأن كان رفعه بالنسبة إلى بعضهم مخالفا للامتنان على الآخرين؛ كما إذا استلزم جريان البراءة بالنسبة إلى شخص ضررا على الغير، فإن الحديث لا يرفع هذا الأثر الموجب رفعه ضررا على الغير؛ لمنافاته للامتنان على الغير.

و قوله: «بمثل هذا الخبر» إشارة إلى الحديث المتقدم المروي عن المحاسن، فإن شهادته بعدم اختصاص المرفوع بالمؤاخذة مما لا يقبل إنكاره، و لا يقدح في ذلك: اختصاص النبوي المحكي في كلام الإمام «عليه السلام» بثلاثة من التسعة بعد وحدة السياق، و كذا لا يقدح فيه اختلافهما في بعض الكلمات، فإن المذكور في النبوي المعروف: «ما استكرهوا عليه»، و في المروي عن المحاسن «ما أكرهوا»، فإن مثل هذا الاختلاف لا يضر بما نحن بصدده كما هو واضح.

(2) الغرض من هذا الكلام: بيان ما هو المرفوع بحديث الرفع.

يقول المصنف: إن المرفوع بحديث الرفع هو: الأثر الشرعي المترتب على الفعل بعنوانه الأولي الذي يقتضيه دليله؛ لو لا حديث الرفع.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي أن التسعة المرفوعة في الحديث على قسمين:

القسم الأول: ما هو معنون بعنوانه الأولي كالحسد، و الطيرة، و التفكر في الخلق.

القسم الثاني ما هو معنون بعنوانه الثانوي مثل ما لا يعلمون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه و الخطأ و النسيان و نحوها، فإن هذه العناوين من العناوين الثانوية و لها آثار.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه إذا بنينا على كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار، كما صرح به المصنف بقوله: «فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي» فلا شك في أن المرفوع في القسم الأول آثار هذه الأمور بعناوينها الأولية، فالمعنى: أنه لا أثر

ص: 142

شرعي للحسد و للطيرة و للتفكر، و لا عقاب عليها إذا لم تظهر بيد أو لسان؛ كما في الحديث.

و أما القسم الثاني: أعني: ما هو معنون بعنوانه الثانوي؛ كعدم العلم و الاضطرار و الإكراه و الخطأ و النسيان: فالمرفوع هي الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو و بعنوانه الأوّلي؛ بحيث كان طرو واحد من العناوين الثانوية كالخطأ و النسيان و أخواتهما رافعا للآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأوّلي؛ لا الآثار المترتبة على نفس تلك العناوين الثانوية؛ كوجوب الدية المترتب على الخطأ في القتل، و وجوب سجدتي السهو المترتب على النسيان في بعض أجزاء الصلاة و نحوهما، فإن العنوان الثانوي موضوع للآثار، فكيف يعقل أن يكون هو سببا في رفعه ؟ كما أشار إليه المصنف بقوله: «و الموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجبا لرفعه ؟».

و إن شئت قلت: إن المرفوع هو الآثار المترتبة على الشيء بعنوانه الأولي و ذلك بوجهين:

الأول: إن هذه العناوين إذا كانت موجبة لطرو أحكام خاصة؛ كوجوب الدية في القتل خطأ، و سجدتي السهو عند نيسان بعض الأجزاء في الصلاة: فلا معنى لأن تكون موجبة لرفعها؛ إذ ما يوجب وضع أثر خاص لا يكون رافعا له؛ لاستلزامه التناقض، فلا بد من الالتزام بأن المرفوع بالحديث هي الآثار المترتبة على الشيء بعنوانه الأوّلي، مثلا: الآثار المترتبة على نسيان السورة على قسمين: قسم يترتب على نفس السورة كبطلان الصلاة بتركها. و قسم يترتب عليها بما أنها متعلقة للنسيان؛ كسجدتي السهو، و المقصود من الآثار المرفوعة بحديث الرفع: إنما هو القسم الأول لا الثاني؛ و إلا يلزم التناقض في كلام الشارع؛ لأن المفروض: كون السهو كالسبب لتشريع سجدتي السهو، فكيف يكون رافعا لهما؟

الثاني: أن المتبادر من العناوين التالية: الخطأ و النسيان و أخواتهما كونها مأخوذة على وجه الطريقية إلى متعلقاتها، فحينئذ: يكون المرفوع نفس آثار المتعلق عند عروض هذه العناوين.

و أما الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين عند أخذها على وجه الموضوعية: فخارجة عن حريم الحديث قطعا.

فالمرفوع ما للمعنون من الآثار لا ما للعنوان منها.

ص: 143

إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي، ضرورة (1): أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع، و الموضوع (2) للأثر مستدع لوضعه (3)، فكيف يكون موجبا لرفعه ؟

=============

نعم؛ الحسد و الطيرة و التفكر في الخلق عناوين نفسية، فالمرفوع آثار أنفسها.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف «قدس سره».

(1) تعليل لقوله: «إن المرفوع...» الخ.

قوله: «إنما هو الآثار...» الخ. خبر «أن المرفوع»، و ضمير «عليه» راجع على ما اضطروا إليه و غيره.

و المراد من العناوين في «هذه العناوين» هي: العناوين الثانوية؛ كالخطأ و النسيان و الاضطرار و غيرها.

(2) مبتدأ و خبره «مستدع»، توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 212» - أن المرفوع بهذا الحديث هو الأثر المترتب على الفعل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي؛ لأن الظاهر أن العنوان الثانوي هو الذي أوجب رفع الأثر المترتب عليه، فلو فرض ترتب أثر على الفعل بعنوانه الثانوي؛ كترتب وجوب الدية على العاقلة على القتل الخطأ، و وجوب سجدتي السهو على نسيان بعض أجزاء الصلاة أو على التكلم فيها سهوا، لم يكن هذا العنوان الثانوي موجبا لرفعه؛ لأن هذا العنوان هو الذي صار موضوعا للأثر، و الموضوع يستدعي وضع الأثر و ثبوته، فلا يكون رافعا له؛ و إلا لزم كون الشيء رافعا لما يقتضي وضعه، و هو محال.

و بعبارة أخرى: أن حديث الرفع إنما يرفع الآثار المترتبة على الموضوع قبل طروّ هذه العناوين المذكورة فيه، و أما الآثار المترتبة على الموضوع بعد طرو هذه العناوين عليه، فلا ترتفع بهذا الحديث؛ لأن هذه العناوين حينئذ موضوعات لتلك الآثار و مقتضية لثبوتها، فيستحيل أن تكون رافعة لها.

(3) أي: لثبوته، و ضميره و كذا ضمير «لرفعه» راجع على الأثر، و اسم «يكون» ضمير مستتر راجع على الموضوع، أي: فكيف يكون الموضوع - و هو أحد العناوين الثانوية - موجبا لرفع الحكم المترتب على ذلك الموضوع ؟

فالمتحصل: أن آثار العنوان الثانوي يجب أن يكون العنوان الثانوي علة لثبوتها لا علة لرفعها.

ص: 144

لا يقال (1): كيف ؟ و إيجاب الاحتياط فيما لا يعلم و إيجاب التحفظ في الخطأ و النسيان يكون أثرا لهذه العناوين بعينها و باقتضاء نفسها (2)؟

فإنه يقال (3): بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة: أن الاهتمام به يوجب إيجابهما؛ لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى.

=============

(1) لا يقال: إن ما ذكرتم من كون حديث الرفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأولي؛ لا بعنوانه الثانوي يقتضي أن لا يرفع الاحتياط - بأن يجب الاحتياط فيما لا يعلمون - إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتى يرفع بحديث الرفع، بل هو من آثار الجهل بالواقع، و هذا خلاف البداهة، فإن حديث الرفع يرفع الاحتياط، و على هذا: فلا يخص حديث الرفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأولي؛ بل يرفع آثار العنوان الثانوي أيضا كالجهل و نحوه.

و كيف كان؛ فغرض المصنف من هذا الإشكال: أن حديث الرفع يدل على رفع آثار نفس هذه العناوين الثانوية و هي الجهل و الخطأ و النسيان؛ لا رفع آثار ذوات المعنونات أعني: الموضوعات بما هي هي، يعني: بعناوينها الأولية كما المدعى.

بتقريب: أن إيجاب الاحتياط من آثار الجهل بالتكليف و لا يعقل تشريعه حال العلم به، و كذا إيجاب التحفظ، فإنه من آثار الخطأ و النسيان دون التذكر، و مقتضى ما ذكر:

ثبوت إيجاب الاحتياط و التحفظ لهذه العناوين، مع أن حديث الرفع ينفي الإيجاب الذي هو من آثار الجهل و الخطأ و النسيان، و هذا خلاف المقصود.

(2) أي: نفس العناوين الثانوية لا أثرا لها بعناوينها الأوّلية و ضميرا «بعينها، نفسها» راجعان على العناوين.

و حاصل الإشكال: كان حديث الرفع خاصا برفع الأثر على العناوين الأولية فقط لم يرفع به الاحتياط و التحفظ، اللذان هما أثران للعناوين الثانوية.

(3) هذا جواب عن الإشكال المذكور: و حاصله: إن إيجاب الاحتياط فيما لا يعلمون، و إيجاب التحفظ في الخطأ و النسيان ليسا من الآثار المترتبة على نفس عنوان ما لا يعلم أو عنوان الخطأ و النسيان؛ بل هما من آثار الواقع المجهول أو الواقع الصادر خطأ أو نسيانا، فليسا من العناوين الثانوية «بل إنما تكون» هذه الأمور أعني: الاحتياط في مورد الجهل، و التحفظ في مورد الخطأ و النسيان «باقتضاء» الحكم الثابت في «الواقع في موردها» أي: في مورد الجهل و الخطأ و النسيان، ففي موردها إشارة إلى ظرفية الجهل و الخطأ و النسيان لإيجاب الاحتياط و التحفظ.

ص: 145

«ضرورة: أن الاهتمام به» أي: بالواقع «يوجب إيجابهما» أي: الاحتياط و التحفظ؛ «لئلا يفوت على المكلف» الواقع، و من هنا تبين: أن حديث الرفع إنما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأولية.

و كيف كان؛ فإيجاب الاحتياط ليس أثرا ل «ما لا يعلمون» بهذا العنوان؛ بل من آثار التكليف الواقعي الناشئ عن الملاك الذي اهتم به الشارع و لم يرض بتركه حتى في حال الجهل به كما في النفوس و الأعراض؛ إذ لو لم يهتم به لم يوجب الاحتياط، فوجوب الاحتياط ليس أثرا للفعل المجهول بما هو مجهول حتى يقال أنه أثر للفعل بعنوانه الثانوي، فلا يصح رفعه به؛ لأن المقتضى للشيء لا يكون رافعا له؛ بل هو في الحقيقة من آثار العناوين الأولية التي هي موضوعات الأحكام الواقعية، الناشئة من المصالح الداعية إلى تشريعها.

نعم؛ لما لم يعقل إيجاب الاحتياط في حال العلم بالواقع؛ لتقوّم مفهوم الاحتياط بالجهل به اختص تشريعه بصورة الجهل، و أما المقتضي لتشريعه فهو مصلحة الحكم الواقعي المجعول للعنوان الأوّلي، و كذا الحال في وجوب التحفظ. فحينئذ لا مجال له إلا في حال الخطأ و مورده.

و أما المقتضي له: فهو مصلحة الحكم الواقعي الثابت للعناوين الأولية.

هذا تمام الكلام في البحث حول الاستدلال بحديث الرفع على البراءة. بقي ما لا يخلو ذكره عن فائدة:

1 - توضيح بعض العناوين المذكورة في ذيل الحديث و هي: الحسد و الطيرة و الوسوسة في التفكر في الخلق.

2 - نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأحكام الأولية.

و أما توضيح الأمور الثلاثة و إن كان خارجا عن موضوع البراءة فيقال: إنه لا إشكال في أن المراد من الحسد هي الحالة النفسانية التي توجب عدم تحمل الإنسان نعمة أعطاها الله تعالى أخاه المؤمن قبل إظهارها عملا، و أما إذا أقدم بعمل في سبيل زوالها: فلا إشكال أيضا في كونه معصية، و لا يكون حينئذ مشمولا للحديث الشريف.

و أما الطيرة: فهي من مادة الطير، بمعنى: التشأم و قراءة الطالع بالطيور، ثم توسع في

ص: 146

ذلك حتى عمت سائر طرق التشأم، فإن العرب في الجاهلية كانت تلتزم و تعتني بما يتشأم بالطيور و غيرها، و كانت الطيور تصدهم عن مقاصدهم، فللشارع المقدس أن يمضي تلك الالتزامات؛ و لكنه ردع عنها امتنانا حتى لا تتعطل حياتهم لأمور لا واقع لها.

و أما الوسوسة في التفكر في الخلق، أو التفكير في الوسوسة في الخلق: فالمراد من الخلق في هذه الجملة يمكن أن يكون أحد معنيين:

الأول: أن يكون بمعنى الخالق أي: خالق الباري، فيتفكر في أنه من خلق الباري تعالى ؟

و هو سؤال يشكل جوابه على العوام و إن كان واضحا عند المحققين؛ لأن الحاجة إلى الخالق تتصور بالنسبة إلى كل حادث أو ممكن الوجود، و الله «تبارك و تعالى» لا يكون حادثا أو ممكنا، و مع ذلك كان أمرا شايعا في عصر صدور الحديث، و كانوا يتوهمون حصول الكفر به، فرفع الشارع أثره المتوهم امتنانا.

الثاني: أن يكون في مقابل الخالق، و المراد منه حينئذ: الوسوسة في التفكر في البلايا و الشرور، و تكرار القول ب «لم» بالنسبة إليها أي: القول بأن الله تعالى لم خلق الشيء الفلاني، و لم خلق العالم كذا و كذا، فرفع الشارع حرمة هذه الوساوس امتنانا؛ كما في بعض الكتب المبسوطة.

و أما نسبة هذا الحديث إلى أدلة الأحكام الأولية: فهي حكومة على المشهور، فحديث الرفع حاكم على أدلة الأحكام الأولية؛ كأدلة نفي الضرر و الحرج.

توضيح ذلك: أن أدلة الأجزاء و الشرائط و الموانع مثلا تدل على أصل الجزئية و الشرطية و المانعية، و لا تدل على كيفية دخلها، و حديث الرفع يتعرض لكيفية الدخل، و أن جزئيتها أو شرطيتها أو مانعيتها مختصة بغير حال النسيان مثلا، فضابط الحكومة - و هو تعرض أحد الدليلين لما لا يتكفله الآخر - ينطبق على حديث الرفع.

و بعبارة أخرى: لا شك أن إطلاق الأدلة الأولية يعم كثيرا من الأحوال الثانوية؛ ككون الحكم ضرريا أو حرجيا أو مجهولا أو منسيا، و غير ذلك من العناوين الثانوية، و كون المكلف مضطرا أو مكرها، فإذا ورد قوله: «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ و النسيان

ص: 147

و ما لا يعلمون...» الخ. يفهم منه العرف أن الثاني ناظر إلى تحديد دلالة الأدلة الأولية، و تضييقها بغير هذه الصور و الحالات. و هذا ما نعبر عنه بالحكومة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة:

إن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو: مطلق الإلزام المجهول، سواء في الشبهة الحكمية؛ كحرمة شرب التتن، أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. أو الشبهة الموضوعية؛ كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمرا، فالاستدلال بالحديث على رفع الحكم الشرعي إنما يتم إذا كان الموصول في «ما لا يعلمون» شاملا للحكم الشرعي، و لا يكون ظاهرا في خصوص الموضوع المجهول الحال من كونه خلا أو خمرا؛ و إلا لسقط الاستدلال به في مورد البحث.

2 - الإشكال: بأن أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية لا تنفي إلا الآثار الشرعية، فلا ترفع المؤاخذة؛ لأنها ليست من الآثار الشرعية بل نفسها من الأمور التكوينية و استحقاقها من الأحكام العقلية، و على كلا التقديرين: لا ترتفع بإجراء البراءة؛ مدفوع: بأنها و إن كانت من الأحكام العقلية؛ إلا إن حكم العقل هذا سبب عن حكم الشرع بوجوب الاحتياط، و هو ناش من الحكم الواقعي المجعول شرعا، فيمكن للشارع أن يرفعها برفع ما هو السبب أعني: وجوب الاحتياط، يعني: لما كان إيجاب الاحتياط علة للمؤاخذة فنفيه علة لعدمها.

3 - الإشكال: بأن إيجاب الاحتياط، و إن كان أثرا شرعيا للتكليف المجهول و هو قابل للرفع؛ إلا إنه ليس سببا لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول؛ بل على مخالفة نفسه؛ مدفوع: بأن إيجاب الاحتياط ليس نفسيا كي يكون العقاب على مخالفة نفسه؛ بل يكون طريقيا قد شرّع لأجل حفظ الواقع في المشتبهات، فيوجب استحقاق العقاب على الواقع المجهول في المشتبهات؛ إذ لا عقاب على مخالفة ما يكون وجوبه طريقيا.

4 - أن رفع التكليف المجهول إنما هو من باب الامتنان على الأمة، فلا يجوز رفع ما ليس في رفعه امتنان عليهم؛ بأن يكون ضررا على البعض.

ص: 148

«فافهم»، لعله إشارة إلى الفرق بين الاحتياط و بين سائر الأوامر الطريقية، فإن في ترك الاحتياط تجريا عقاب و إن أتى بالتكليف الواقعي؛ كما لو صلى إلى جهة واحدة فيما اشتبهت القبلة، و صادفت تلك الجهة الواقع، فإنه يعاقب للتجري كما هو مختار المصنف «قدس سره»، و هذا بخلاف سائر الأوامر الطريقية التي لا عقاب لها قطعا.

5 - إشكال المصنف على الشيخ: حيث قال بلزوم التقدير استنادا إلى دلالة الاقتضاء. و حاصل ما أورده عليه المصنف: أنه لا حاجة في «ما لا يعلمون» بعد إمكان إرادة نفس الحكم الشرعي من الموصول إلى التقدير؛ لأن الحكم بنفسه قابل للرفع، فيكون حديث الرفع دليلا على أصل البراءة في الشبهات الحكمية و الموضوعية؛ بلا تكلف تقدير شيء أصلا.

نعم؛ دلالة الاقتضاء في غير «ما لا يعلمون» توجب إما تقدير جميع الآثار، أو الأثر الظاهر، أو المؤاخذة، و إما الالتزام بالمجاز في الإسناد بلا تقدير شيء أصلا؛ لاستلزام رفع تلك العناوين للكذب لتحققها خارجا قطعا، فلا بد من الالتزام بالتقدير أو المجاز في الإسناد حفظا لكلام الحكيم عن الكذب.

6 - الإشكال الآخر على الشيخ: حيث قال بتقدير خصوص المؤاخذة، بناء على كون المراد من الموصول هو: ما اشتبه حاله من الفعل، فأورد عليه المصنف: بأنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة، بعد أن المقدر في غير واحد من العناوين المذكورة؛ كالإكراه و عدم الطاقة و الخطأ غير المؤاخذة بقرينة رواية المحاسن، التي أشار إليها في المتن، حيث إن المقدر فيها هو الحكم الوضعي من صحة الطلاق و الانعتاق و ملكية الأموال.

7 - إن المرفوع بحديث الرفع هي: الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو، و بعنوانه الأوّلي؛ لا الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الثانوي، فإن العنوان الثانوي موضوع للآثار المترتبة عليه، فكيف يعقل أن يكون هو سببا لرفعها؟

8 - الإشكال: بأن ما ذكرتم من كون حديث الرفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي يقتضي أن لا يرفع وجوب الاحتياط - بأن يجب الاحتياط فيما لا يعلمون - إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتى يرفع بحديث الرفع؛ بل هو من آثار الجهل بالواقع.

و هذا خلاف البداهة، فإن حديث الرفع يرفع الاحتياط.

و من المعلوم: أن وجوب الاحتياط من آثار الفعل بعنوانه الثانوي لا بعنوانه الأوّلي، فلا يخص حديث الرفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي؛ مدفوع: بأن إيجاب الاحتياط فيما

ص: 149

و منها (1): حديث الحجب، و قد انقدح تقريب الاستدلال به (2) مما ذكر في حديث الرفع.

=============

لا يعلمون، و إيجاب التحفظ في الخطأ و النسيان ليسا من الآثار المترتبة على نفس عنوان ما لم يعلم أو عنوان الخطأ و النسيان؛ بل هما من آثار الواقع المجهول أو الواقع الصادر خطأ أو نسيانا بعنوانه الأوّلي، فالجهل و الخطأ و النسيان ظرف لإيجاب الاحتياط و التحفظ، بمعنى: أنه لما لم يعقل إيجاب الاحتياط في حال العلم بالواقع لتقوّم مفهوم الاحتياط بالجهل به اختص تشريعه بصورة الجهل. و أما المقتضي لتشريعه: فهو مصلحة الحكم الواقعي المجعول للعنوان الأولي، و كذا الحال في وجوب التحفظ، فإنه لا مجال له إلا في الخطأ و مورده.

و أما المقتضي له: فهو مصلحة الحكم الواقعي الثابت للعناوين الأولية.

فالحاصل: أن حديث الرفع إنما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأولية.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - إن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو: الحكم الإلزامي لا الموضوع الخارجي.

2 - دلالة الحديث على البراءة في الشبهة الحكمية و الموضوعية.

3 - و المقدر هو جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة في «ما لا يعلمون» على فرض تقدير شيء فيه.

في الاستدلال بحديث الحجب على البراءة

في الاستدلال بحديث الحجب على البراءة(1) و من الروايات التي استدل بها على البراءة: حديث الحجب، و هو قوله «عليه السلام»: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1)، و هو من حيث السند تام، حيث إن رجاله معروفون.

و أما الدلالة: فتقريب الاستدلال به: أن الإلزام المجهول وجوبيا كان أو تحريميا حكميا كان أو موضوعيا تكليفيا كان أو وضعيا محجوب عن العباد، فهو مرفوع عنهم، فشرب التتن محجوب عن العباد حكمه التحريمي مثلا، فلا تحريم. و دعاء الرؤية حكمه الإيجابي محجوب عنهم، فلا وجوب.

(2) أي: بحديث الحجب، يعني: و قد ظهر تقريب الاستدلال بحديث الحجب مما

ص: 150


1- الكافي 3864:1، التوحيد: 9/43، الوسائل 33496/163:25.

ذكر في تقريب الاستدلال بحديث الرفع، بمعنى: أن المراد من الموصول في «ما حجب الله» عاما يعم كل محجوب، سواء كان حكما أو هوية الموضوع، و ليس حديث الحجب مقرونا بشيء يوهم اختصاصه بالشبهة الموضوعية، بخلاف حديث الرفع فإن قرينة السياق كانت موجبة للشك في عموميته.

نعم؛ يمكن أن يقال: إن حديث الحجب على عكس حديث الرفع، بمعنى: أن حديث الرفع بقرينة وحدة السياق ظاهر في الشبهة الموضوعية. و حديث الحجب بقرينة إسناد الحجب إلى الله تعالى ظاهر في الشبهة الحكمية، فإنه يتناسب مع إرادة الحكم الكلي المجهول من الموصول كما لا يخفى.

هذا مجمل الكلام في الاستدلال بحديث الحجب على البراءة.

و أما تفصيل الكلام في توضيح الاستدلال به على البراءة فيتوقف على مقدمة و هي:

شرح مفردات الحديث، و هي الحجب، و العلم، و الوضع.

أما الحجب: فهو لغة بمعنى: الشر، و المحجوب هنا هو الحكم الشرعي المجهول لا الملاكات و المقتضيات، حيث إن وظيفة الشارع من حيث إنه شارع بيان الأحكام، و حجب الحكم يتحقق تارة: بأمره حجبه بعدم تبليغه إلى العباد، و أخرى باختفائه عنهم بعد تبليغه لمعصية العصاة المانعة عن وصوله إلى المكلفين.

و أما العلم: فالمراد به حيث يطلق في الروايات و غيرها هو: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع؛ لا كل اعتقاد جازم و إن كان مخطئا.

و أما كلمة «وضع»: فإن تعدت بحرف الاستعلاء: دلت على جعل شيء على شيء و إثباته عليه، و إن تعدت بحرف المجاوزة: دلت على معنى الإسقاط؛ كقوله تعالى:

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ (1) أي: أسقطها عنهم، و من المعلوم: أن إسقاط شيء كالحق عن الذمة فرع استقراره فيها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن تقريب الاستدلال بالحديث على البراءة من الوضوح على حد لا يخفى على أحد، حيث إنه يدل على أن الحكم الواقعي المجهول قد وضعه الشارع عن العباد و رفعه عنهم فعلا، فيكون المراد بحجبه: عدم وصوله، سواء كان بعدم بيانه أم بإخفاء الظالمين له، و من الواضح: إن المرفوع ليس نفس الحكم الواقعي المجهول؛ لاستلزامه التصويب، فلا بد أن يكون الموضوع عن العباد إيجاب الاحتياط،

ص: 151


1- الأعراف: 157.

إلا إنه ربما يشكل (1) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من (2) التكليف؛ بدعوى:

ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه (3)، و يمكن شموله و بهذا التقريب تتم دلالة الحديث على البراءة؛ بحيث يصلح للمعارضة مع أدلة الأخباريين على الاحتياط المقتضية لاشتغال الذمة بالتكاليف الواقعية المجهولة؛ بل هذا أظهر في الدلالة على البراءة من حديث الرفع؛ لما عرفت من أن المراد بالموصول: هو الحكم قطعا بخلاف حديث الرفع.

=============

(1) أي: إلا إن الاستدلال يشكل، و المستشكل هو الشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث قال بعد تقريب الاستدلال: «و فيه أن الظاهر...» الخ.

و توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن «ما حجب الله علمه عن العباد» لا يخلو عن أحد احتمالين:

الأول: هو أن يكون المراد منه: ما لم يبينه للعباد من الأول و سكت عنه، و لم يأمر رسوله.

الثاني: أن يكون المراد منه: ما بيّنه، و أمر رسوله بتبليغه، فبلغه الرسول للعباد؛ و لكن اختفى عليهم لأجل الحوادث الخارجية؛ كإخفاء الظالمين و العاصين إياه عنهم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع بين الأخباريين و الأصوليين - حيث يقول الأول: بوجوب الاحتياط و الثاني: بالبراءة - هو الاحتمال الثاني، أي: ما بيّنه و حجب علمه عن العباد بواسطة إخفاء الظالمين، و أما ما لم يبيّنه من الأول: فهو مرفوع عنهم بالاتفاق، و الظاهر من الرواية: هذا الاحتمال أعني: الاحتمال الأول بقرينة نسبة الحجب إلى الله تعالى، فحديث الحجب أجنبي عن المقام؛ لأنه مساوق لما ورد عن أمير المؤمنين «عليه السلام»: «إن الله حدّ حدودا، فلا تعتدوها، و فرض فرائض، فلا تعصوها، و سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها، فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم»(1).

(2) كما هو المطلوب في البراءة، «و بدعوى» متعلق ب «يشكل» و بيان له، و ضمير «ظهوره» في الموضعين راجع على حديث الحجب.

(3) أي: على ما لا يعلم من التكليف، و ضمير «بتبليغه» راجع على الموصول في «ما تعلقت» المراد به الحكم الذي منع اطلاع العباد عليه، و ضمير «بدونه» راجع على منعه تعالى اطلاع العباد عليه.

و حاصل الإشكال: إن حجب الله تعالى لا يصدق إلا في صورة عدم أمره تعالى

ص: 152


1- الفقيه 5149/75:4، الوسائل 33531/175:27.

للشبهة الموضوعية أيضا بأن المراد من الموصول هو: خصوص الحكم المحجوب علمه مطلقا و لو كان منشأ الحجب اشتباه الأمور الخارجية.

و منها (1): قوله «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام رسله بالتبليغ؛ إذ الحكم الذي أمر رسله بتبليغه لا يصدق عليه أنه تعالى حجبه عن العباد كما هو واضح، فهذا الحديث الشريف لا يصلح لأن يكون مستندا لأصل البراءة.

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

فكما يقال في تقريب الاستدلال بحديث الرفع: أن الإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع ظاهرا و إن كان ثابتا واقعا، فكذلك يقال في تقريب الاستدلال بحديث الحجب:

إن الإلزام المجهول مما حجب الله علمه عن العباد، فيكون موضوعا عنهم.

و ملخص الإشكال على هذا الاستدلال:

أن الحديث أسند الحجب إلى الله تعالى، و هو حينئذ ظاهر فيما سكت الله عنه و لم يأمر نبيه بالإبلاغ، لا ما بيّنه و اختفى عنهم بعروض الحوادث؛ الذي هو المبحوث عنه في المقام.

رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم دلالة هذا الحديث على البراءة؛ لأنه لم يجب عن الإشكال، فعدم جوابه عن الإشكال كاشف عن صحة الإشكال على الاستدلال بحديث الحجب.

و نظرا إلى الإشكال المذكور لا يصلح أن يكون حديث الحجب دليلا على البراءة.

الاستدلال بحديث الحل

(1) أي: و من الروايات التي استدل بها على البراءة: قوله «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه».

تقريب الاستدلال به على البراءة: أن يقال: أن قوله «عليه السلام»: «حتى تعرف» قيد للموضوع - و هو شيء - و معناه: أن كل شيء مشكوك الحل و الحرمة حلال، سواء كان منشأ الشك فقد النص أم إجماله أم تعارضه أم اشتباه الأمور الخارجية، و عليه:

فشرب التتن المشكوك حكمه من حيث الحل و الحرمة حلال، و كذا شرب المائع المردد بين الخل و الخمر.

هذا خلاصة الكلام في تقريب الاستدلال بهذا الحديث على البراءة.

و لما كان ظاهره بقرينة قوله «بعينه» الذي هو قيد احترازي عن معرفة الحرام لا بعينه -

ص: 153

بعينه»(1) الحديث. حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا؛ و لو كان (1) من جهة عدم الدليل على حرمته، و بعدم (2) الفصل قطعا بين إباحته و عدم وجوب الاحتياط اختصاصه بالشبهات الموضوعية لأن كلمة «بعينه» تكون بمعنى: التشخص و التعين الخارجي فكان أصل الحرمة معلوما، و أن الإمام «عليه السلام» كان بصدد بيان حكم الحرام الذي علم حرمته؛ لكنه لم يعلم هو معينا - كما هو شأن الشبهة الموضوعية - لا بيان حكم نفس الحرمة إذا كانت مشكوكة، فلا يشمل الحديث الشبهات الحكمية؛ إذ الشك في حرمة شرب التتن مثلا ليس من أفراد الشك في الحرمة بعينها، و إنما هو شك في أصل الحرمة.

=============

كما أن ظاهر الحديث أيضا بقرينة قوله: «حتى تعرف الحرام» اختصاصه بالشبهات التحريمية؛ و أن الحكم بحلية الشيء مختص بما إذا تردد حكمه بين الحرمة و غير الوجوب، فالحاصل: أنه لما كان ظاهر الحديث اختصاصه بالشبهات الموضوعية التحريمية: تصدى المصنف لتعميمه أولا للشبهات الحكمية التحريمية، ثم للشبهات الوجوبية.

و أما التعميم الأول: فهو الذي أشار إليه بقوله: «مطلقا و لو كان...» الخ.

توضيحه: أن الحديث يدل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا، يعني: سواء كان عدم العلم بحرمته ناشئا من عدم العلم بعنوانه، و أنه من أفراد المحلل، أو من أفراد المحرم مع العلم بأصل الحرمة؛ كالمائع المردد بين الخل و الخمر مع العلم بأصل حرمة الخمر، أم ناشئا من عدم الدليل على الحرمة، أم من تعارض ما دل على حرمته مع ما دل على حليته، أم غير ذلك، و يجمع الكل عدم العلم مهما كان منشؤه. هذا تمام الكلام في التعميم الأول؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 241».

و أما التعميم الثاني: فهو ما أشار إليه بقوله: «و بعدم الفصل قطعا».

(1) بيان للإطلاق، يعني: و لو كان عدم العلم بحرمته من جهة عدم الدليل عليها.

هذا ملخص الكلام في التعميم الأول. و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(2) متعلق بقوله: «يتم المطلوب»، و هذا إشارة إلى التعميم الثاني للشبهات الوجوبية.

و قد افاد المصنف هذا التعميم بوجهين:

أولهما: و حاصله: دعوى عدم الفصل بين الشبهات التحريمية و الشبهات الوجوبية في الحكم، بمعنى: أن كل من قال بجريان البراءة و عدم وجوب الاحتياط في الشبهات

ص: 154


1- الكافي 339/313:5، الفقيه 4208/341:3، تهذيب الأحكام 988/226:7، الوسائل 22050/86:17.

فيه (1)، و بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب (2).

مع (3) إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال، تأمل.

=============

التحريمية قال بجريانها و عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية أيضا، فبضميمة عدم الفصل المعبر عنه بالإجماع المركب أيضا إلى حديث الحل - الدال على البراءة في الشبهات التحريمية - يتم المطلوب، و هو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات؛ و ذلك لأن المحدّثين إنما قالوا بوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية، دون الوجوبية؛ لذهابهم إلى عدم وجوب الاحتياط فيها، فإذا ثبت بأدلة البراءة عدم وجوبه في الشبهات التحريمية أيضا تم المطلوب، و هو عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا، أما التحريمية: فبأدلة البراءة، و أما الوجوبية: فباعتراف المحدثين أنفسهم به.

و احتمال العكس - و هو وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية دون التحريمية - لا قائل به حتى نحتاج في إبطاله إلى إقامة الدليل أيضا.

و بالجملة: فحديث الحل بضميمة عدم الفصل كاف في إثبات عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 254».

(1) هذا الضمير و ضمير «إباحته» راجعان على ما يعلم حرمته، و قوله: «و عدم» عطف تفسير ل «إباحته».

(2) و هو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الثاني للتعميم للشبهات الوجوبية، و حاصله: إدراج الشبهة الوجوبية تحت مدلول الحديث، من دون حاجة إلى دعوى عدم الفصل.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 255» - أن الشيء إذا كان فعله واجبا قطعا: كان تركه حراما قطعا، و إذا كان فعله محتمل الوجوب: كان تركه محتمل الحرمة لا معلوم الحرمة؛ كما قد يتوهم أنه مقتضى أدلة الاحتياط حتى يجب فعله كما هو قول بعض المحدثين، و حينئذ: فالشيء المحتمل الوجوب يكون تركه محتمل الحرمة، يعني: مرددا بين الحرمة و غير الوجوب، فيدخل تحت حديث الحل، و بهذه العناية يشمل الحديث الشبهة الوجوبية أيضا، و به يثبت حل تركه و يتم المطلوب.

قوله: «تأمل» إشارة إلى ضعف الوجه الأخير؛ لعدم وجود جامع بين الفعل و الترك أولا، و عدم انحلال كل حكم إلى حكمين ثانيا؛ فإن الفعل إذا كان واجبا لم يكن تركه حراما شرعا، بحيث يكون وجوبه منحلا إلى حكمين؛ لبطلان الانحلال.

ص: 155

و منها (1): قوله «عليه السلام»: «الناس في سعة ما لا يعلمون»(1) فهم في...

=============

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال به على البراءة: ان قوله: «حتى تعرف» قيد للموضوع، و معناه حينئذ: أن كل شيء مشكوك الحل و الحرمة حلال، سواء كان منشأ الشك فقدان النص أم إجماله أم تعارضه أم اشتباه الأمور الخارجية، فيشمل الشبهات الحكمية و الموضوعية.

2 - جواب المصنف: عن إشكال اختصاص الحديث بالشبهات التحريمية الموضوعية.

و حاصل الجواب: أنه تصدى لتعميمه للشبهات الحكمية و الوجوبية.

و أما تعميمه للشبهات الحكمية: فإن الحديث يدل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا أي: سواء كان عدم العلم بالحرمة ناشئا من عدم العلم بعنوانه، و إنه من أفراد المحل أو المحرم؛ مع العلم بأصل الحرمة، أم ناشئا من عدم الدليل على الحرمة.

3 - و أما التعميم للشبهات الوجوبية: فلأحد وجهين:

الأول: عدم الفصل بين الشبهات التحريمية و الوجوبية، بمعنى: كل من قال بجريان البراءة في الشبهات التحريمية قال كذلك في الشبهات الوجوبية، فضميمة عدم الفصل إلى حديث الحل الدال على البراءة في الشبهات التحريمية يتم المطلوب، و هو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات.

الثاني: إرجاع الشبهات الوجوبية إلى التحريمية، بمعنى: كل محتمل الوجوب تركه محتمل الحرمة؛ و محتمل الحرمة من الشبهات التحريمية، فيندرج تحت حديث الحل.

«تأمل» إشارة إلى عدم صحة إرجاع الشبهات الوجوبية إلى التحريمية أولا؛ لأنه خلاف ظاهر الحديث، و ثانيا: لعدم صحة انحلال كل حكم إلى حكمين.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

الظاهر منه تمامية هذا الحديث المذكور في المتن - على البراءة من حيث الدلالة؛ لو لم يكن ضعيفا من حيث السند.

في الاستدلال بحديث السعة

(1) أي: و من الروايات التي استدل بها على البراءة قوله «عليه السلام»: «الناس في

ص: 156


1- النوادر للراوندي 219، عن علي «عليه السلام»، عوالي اللآلي 109/424:1، و فيهما «ما لم يعلموا»، بحار الأنوار 7/78:77، و فيه «هم في سعة عن أكلها ما لم يعلموا».

سعة (1) ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم (2) وجوبه أو حرمته، و من الواضح (3): أنه لو سعة ما لا يعلمون».

=============

تقريب الاستدلال بحديث السعة يتوقف على مقدمة و هي: إن كلمة «ما» في «ما لا يعلمون» إما موصولة قد أضيفت إليها كلمة «سعة»، أو مصدرية زمانية بمعنى: ما دام، و «سعة» حينئذ: مقطوعة عن الإضافة، فتكون مع التنوين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الرواية تدل على البراءة على التقديرين، أي: سواء كانت كلمة «ما» موصولة أو مصدرية زمانية و ظرفا للسعة.

أما على الأول: فيكون مفادها: الناس في سعة الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه، فالضيق الناشئ من التكليف الواقعي المجهول؛ و لو كان لأجل وجوب الاحتياط منفي.

فيكون حديث السعة حينئذ: معارضا لأدلة وجوب الاحتياط، فوزانه وزان حديث الرفع المتقدم في نفيه لإيجاب الاحتياط، فيقع التعارض بينه و بين أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط؛ للتنافي بين ما ينفي الضيق حال الجهل، و بين ما يثبته كذلك، و لا تقدم لأدلته على هذا الحديث.

(3) هذا تتميم للاستدلال بالحديث على المدعى، يعني: أن حديث السعة ينفي

ص: 157

كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا، فيعارض به (1) ما دل على وجوبه، كما لا يخفى.

لا يقال: قد علم به (2) وجوب الاحتياط.

فإنه يقال (3): لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من وجوب الاحتياط المدلول عليه بمثل قوله «عليه السلام»: «أخوك دينك فاحتط لدينك»(1)؛ لظهوره في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول، فهو معارض لأدلة الاحتياط، و لا وجه لتقديم أدلته على هذا الحديث ورودا أو حكومة كما سيأتي.

=============

(1) أي: فيعارض بحديث السعة: ما دل على وجوب الاحتياط، فلا ورود و لا حكومة له على حديث السعة؛ إذ لا تعارض بين الوارد و المورود، و بين الحاكم و المحكوم كما هو مبيّن في محله.

(2) أي: قد علم بما دل على وجوب الاحتياط «وجوب الاحتياط»، فيكون دليل الاحتياط واردا على «الناس في سعة»، و هذا هو إشكال الشيخ «قدس سره» على الاستدلال بهذا الحديث.

توضيح الإشكال: أنه لا سعة مع العلم بالوظيفة الفعلية؛ و إن كانت هي حكما ظاهريا؛ كوجوب الاحتياط، فإذا لم يعلم المكلف بشيء من الحكم الواقعي و الظاهري فهو في سعة، فموضوع السعة هو الجهل بمطلق الوظيفة، و أما إذا علم بالوظيفة الفعلية - و إن كانت هي وجوب الاحتياط - فلا سعة له؛ لأن العلم بها قاطع لعذره الجهلي؛ و إن كان نفس الحكم الواقعي باقيا على المجهولية.

و من المعلوم: أن المحدثين يدعون العلم بوجوب الاحتياط الذي هو وظيفة الجاهل بالحكم الواقعي، فيخرج العلم بوجوبه عن الجهل و عدم البيان اللذين هما موضوعان للبراءة العقلية و الشرعية، حيث إن ما دل على وجوب الاحتياط بيان رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و موجب للعلم بالوظيفة الفعلية الرافع للسعة و الرخصة؛ و إن كان الحكم الواقعي مجهولا بعد؛ لما عرفت من: كفاية العلم بالحكم الظاهري كوجوب الاحتياط في رفع السعة، و عليه: فلا يصح الاستدلال على البراءة بمثل حديث السعة لمعارضة أدلة الاحتياط؛ بل هي واردة عليه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال على الاستدلال به على البراءة.

(3) هذا جواب عن إشكال الشيخ «قدس سره».

ص: 158


1- أمالي المفيد: 9/283، أمالي الطوسي: 168/110، الوسائل 33509/167:27.

توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة و هي: إن وجوب الاحتياط إما طريقي و إما نفسي، و الفرق بينهما: أن الوجوب الطريقي معناه أنه يجب الاحتياط؛ لأنه طريق إلى الحكم الواقعي المجهول من الوجوب أو الحرمة، فلا ثواب على موافقة أمر هذا الاحتياط، و لا عقاب على مخالفته؛ لأن الملاك الداعي إلى إيجاب الشارع للاحتياط هو: مجرد حفظ الواقع في ظرف الجهل به.

و أما كون وجوب الاحتياط نفسيا: فمعناه - أنه في ظرف الجهل بالواقع - يجب الاحتياط في نفسه بفعل محتمل الوجوب و ترك محتمل الحرمة، فيترتب الثواب و العقاب حينئذ على موافقة أمر هذا الاحتياط و مخالفته، و ليس الملاك في هذا النحو من الاحتياط النظر إلى الواقع و التحفظ عليه؛ بل الملاك فيه جعل المكلف أشد مواظبة و أقوى عزما على فعل الواجبات و ترك المحرمات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإشكال المذكور إنما يتم لو كان إيجاب الاحتياط نفسيا و هو غير ثابت، و لا يتم لو كان إيجابه طريقيا.

و أما وجه عدم تماميته على فرض الطريقية: فلأن العلم بوجوب الاحتياط حينئذ لا يستلزم العلم بالوجوب أو الحرمة الواقعيين؛ حتى يقع المكلف في ضيق منهما.

و بعبارة أخرى: أن إيجاب الاحتياط - بناء على طريقيته - و إن كان وظيفة فعلية، لكنه لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة - و هو الجهل بالحكم الواقعي - بل الحكم الواقعي باق على مجهوليته، فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدم دليله عليه ورودا أو حكومة - كما يقول الشيخ «قدس سره» - بل هما متعارضان؛ لظهور حديث السعة في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول، فالمكلف في سعة منه، و ظهور دليل الاحتياط الطريقي في أن إيجابه إنما هو لأجل التحفظ على الإلزام المجهول، فالمكلف في ضيق منه فهما متعارضان، و المرجع فيهما قواعد التعارض.

و أما وجه تمامية الإشكال: - على فرض كون إيجاب الاحتياط نفسيا - فلأن المكلف بعد العلم بوجوب الاحتياط يقع في ضيق لأجله؛ لكونه حينئذ مما يعلم، فيكون رافعا لموضوع حديث السعة فيقدم عليه، و لا يقع في الضيق من أجل الحكم الواقعي المجهول حتى يعارض الحديث؛ لأن وجوب الاحتياط - حسب الفرض - حكم نفسي ناش من ملاكه، و ليس ناشئا من الواقع المجهول، و حينئذ: فمع العلم بالوظيفة الفعلية لا يبقى

ص: 159

أجله (1)؟ نعم (2)؛ لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان (3) وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه؛ لكنه عرفت (4): أن وجوبه كان طريقيا، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا، فافهم.

=============

موضوع لحديث السعة، فيتم ما ذكره الشيخ «قدس سره» من تقدم الاحتياط عليه من باب الورود أو الحكومة.

و لكن وجوبه النفسي غير ثابت؛ بل الثابت أن وجوب الاحتياط طريقي، شرع لأجل التحفظ على الواقع المجهول و عدم وقوع المكلف في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا.

و عليه: فلا يبقى مجال لدعوى تقدم أدلته على الحديث ورودا أو حكومة؛ بل يقع بينهما التعارض، فلا بد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «بعد» أي: بعد وجوب الاحتياط طريقيا، يعني: أنه مع فرض وجوب الاحتياط طريقيا لا يصير المكلف عالما بالواقع حتى يقع في ضيقه، و لا يكون في سعة منه؛ إذ لا يوجب الاحتياط العلم بالواقع و لا يكشف عنه أصلا.

(1) أي: من أجل الوجوب أو الحرمة المجهولين.

غرضه: أن غاية السعة هي العلم بالتكليف المجهول لا العلم بإيجاب الاحتياط، و أنه لا يوجب العلم بالحكم المجهول حتى يرفع السعة و يوقع المكلف في الضيق.

(2) استدراك على قوله: «فكيف يقع ؟» و قد عرفت توضيحه بقولنا: «و إن كان إيجابه نفسيا ثم ما ذكره...» الخ.

(3) أي: ثبت و تحقق، و ضمير «وقوعهم» راجع على المكلفين المستفاد من سياق الكلام.

(4) يعني: عرفت في الاستدلال بحديث الرفع، حيث قال هناك: «هذا إذا لم يكن إيجابه - يعني: الاحتياط - طريقيا، و إلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول...» الخ.

قوله: «بعد العلم بوجوبه» إشارة إلى أن لوجوب الاحتياط كالأحكام الأولية مراتب، و المجدي منها هنا هو مرتبة التنجز؛ إذ لا يترتب المقصود - و هو وقوع المكلف في الضيق - على مجرد تشريع إيجاب الاحتياط؛ بل على وصوله إلى العبد كما هو ظاهر.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى أن الغرض من إيجاب الاحتياط طريقيا تنجيز الواقع، و هو كاف في تحقق الضيق و ارتفاع السعة؛ و إن لم يوجب العلم بالتكليف المجهول.

ص: 160

أو إشارة إلى احتمال أن يكون «ما» في قوله «في سعة ما لا يعلمون» ظرفية أي: أن الناس في سعة ما دام لم يعلموا، فإذا علموا وجوب الاحتياط لم تكن سعة؛ إذ ما لم يعلموا محذوف المتعلق حينئذ، و يحتمل متعلقه الحكم الواقعي و أن يكون أعم من الواقع و الاحتياط، و على هذا: يكون دليل الاحتياط واردا، و يكون حاله حال ما لو قال المولى لعبده: «إذا لم تعلم شيئا فأنت في سعة»، ثم قال له بالنسبة إلى «دعاء الرؤية»: واجب عليك، و قال بالنسبة إلى «الإناءين المشتبهين». احتط عنهما، فإنه لا شك في ورود كلا الدليلين على الدليل المتضمن للسعة؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4، ص 272».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال بحديث السعة على البراءة: أن الرواية تدل على البراءة، سواء كان «ما» في «ما لا يعلمون» موصولة أو مصدرية، فيكون مفادها على الأول:

2 - الإشكال على هذا الاستدلال: بأن الأخباري يدعي العلم بوجوب الاحتياط بما دل عليه من النقل، فيكون ما دل على وجوب الاحتياط واردا على هذا الحديث الدال على البراءة في مورد عدم العلم بالحكم؛ مدفوع: بأن الإشكال المذكور مبنيّ على أن يكون وجوب الاحتياط نفسيا؛ بحيث يترتب الثواب على موافقة أمره، و العقاب على مخالفته، و ليس كذلك بل وجوبه يكون طريقيا، بمعنى: أن الاحتياط طريق إلى الحكم الواقعي المجهول قد شرع لأجل حفظ الواقع في ظرف الجهل، فالعلم بوجوب الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة - و هو الجهل بالحكم الواقعي - بل الحكم الواقعي باق على مجهوليته.

فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدم دليله عليه من باب الورود؛ كما هو المفروض في الإشكال.

الناس في سعة التكليف الذي لا يعلمونه.

و على الثاني: أنهم في سعة ما داموا لا يعلمون، و من المعلوم: أن وجوب الاحتياط ينافي كونهم في السعة، فينفى بالرواية؛ إلا إن السعة في صورة كون «ما» موصولة مضافة إلى الما، و في صورة كونها مصدرية مقطوعا عن الإضافة فيكون منوّنا.

ص: 161

و منها (1): قوله «عليه السلام»: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي».

=============

و عليه: فلا يبقى موضوع لدعوى كون دليل الاحتياط واردا على حديث السعة.

3 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو تمامية الاستدلال بحديث السعة على البراءة من حيث الدلالة.

في الاستدلال بمرسلة الصدوق على البراءة التي رواها الصدوق مرسلا في صلاة الفقيه

في الاستدلال بمرسلة الصدوق على البراءة التي رواها الصدوق مرسلا في صلاة الفقيه(1)

أي: من الروايات التي استدل بها على البراءة: قوله «عليه السلام»: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1).

و تقريب الاستدلال بهذه الرواية: مبنيّ على أن يكون المراد من الورود في قوله:

«يرد» هو: إيصال التكليف إلى المكلف الا صدوره من المولى و من النهي الواقعي المتعلق بالشيء بعنوانه لأولي لا بعنوانه الثانوي، أي: كونه مجهول الحكم، فيكون مفادها - حينئذ - «كل شيء مطلق و مباح ما لم يصل فيه النهي من الشارع، فيكون شرب التتن مباحا بعنوان كونه شرب التتن، ما لم يصل فيه النهي من الشارع بعنوان كونه شرب التتن؛ لا بعنوان كونه مجهول الحكم، فتكون دلالة هذه الرواية على البراءة أوضح من الكل، فحينئذ: لو تمت دلالة أدلة وجوب الاحتياط وقع التعارض بينها و بين هذه الرواية، فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض من التخيير أو الترجيح أو غيرهما.

فهذه الرواية و إن كانت مختصة بالشبهة التحريمية إلا إنه لا بأس بالاستدلال بها على البراءة من هذه الجهة، فإن عمدة الخلاف بين الأصوليين و الأخباريين إنما هي في الشبهة التحريمية.

و أما الشبهة الوجوبية: فوافق الأخباريون الأصوليين في عدم وجوب الاحتياط فيها؛ إلا القليل منهم كالمحدث الاسترابادي فإنه قال بوجوب الاحتياط فيها أيضا.

بل اختصاص هذه الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سائر الروايات التي استدل بها على البراءة، باعتبار أنها أخص من أخبار الاحتياط، فلا ينبغي الشك في تقدمها عليها، و لذا قال الشيخ «قدس سره»: إنها أظهر روايات الباب.

و لكن المصنف «قدس سره» لم يرتض الاستدلال بها، فذكر أنه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للإطلاق هو: صدور الحكم من المولى و جعله؛ لا وصوله إلى المكلف، فيكون مفاد الرواية حينئذ: أن كل شيء لم يصدر فيه نهي، و لم

ص: 162


1- الفقيه 937/317:1.

و دلالته (1) تتوقف على عدم صدق الورود؛ إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي (2) عنه و إن (3) صدر عن الشارع و وصل إلى غير واحد، مع أنه...

=============

تجعل فيه الحرمة فهو مطلق و مباح، و هذا خارج عن محل الكلام، فإن الكلام فيما إذا شك في صدور النهي من المولى و عدمه.

و كيف كان؛ فمعنى الحديث حينئذ: أن ما لم يصدر فيه نهي واقعا - بمعنى سكوت الله تعالى عنه - فهو حلال، في مقابل ما إذا صدر النهي عنه واقعا فليس حلالا و إن لم يعلم به المكلف، فوزان هذا الحديث حينئذ وزان حديث السكوت أعني: قوله «عليه السلام»: «... و سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها»(1)، و عليه: فلا يصح الاستدلال به على البراءة.

و الوجه فيه واضح، فإن المقصود إثبات البراءة في كل ما لم يصل فيه نهي إلينا؛ لا فيما لم يصدر فيه نهي واقعا.

و الحاصل: أنه مع احتمال إرادة الصدور من الورود لا موجب للجزم في خصوص الوصول حتى يتجه الاستدلال به على البراءة.

(1) هذا تعريض بما أفاده الشيخ في الاستدلال بالمرسلة حيث قال: بأن دلالته على المطلب أوضح من الكل(2). و قد عرفت اعتراض المصنف، فلا حاجة إلى التكرار. و قد عرفت اعتراض المصنف، فلا حاجة إلى التكرار.

و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) متعلق بقوله: «العلم». و ضمير «عنه» راجع على شيء، و ضمير «بحكمه» إلى العلم، و المراد بما يحكم العلم: هو الأمارة غير العلمية.

(3) كلمة إن وصلية يعني: أن الاستدلال بهذا الحديث للبراءة يتوقف على أن يكون ورود النهي بمعنى وصوله إلى المكلف بالعلم به أو ما هو بحكمه كالأمارة المعتبرة، ليكون معنى الحديث: أن ما لا يعلم المكلف حرمته فهو حلال، سواء لم يصدر فيه نهي أصلا أم صدر و لم يصل إلى هذا المكلف، و على أن لا يصدق الورود على مجرد صدوره و إن لم يعلم به المكلف كما هو مبنى استظهار الشيخ «قدس سره»، و حيث إنه يصدق الورود على مجرد الصدور أيضا فلا يتم الاستدلال به على البراءة.

ص: 163


1- نهج البلاغة 105/34:4، الوسائل 20452/260:15.
2- فرائد الأصول 43:2.

ممنوع (1) لوضوح: صدقه على صدوره عنه (2)، سيما (3) بعد بلوغه إلى غير واحد، و قد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال: نعم (4)؛ و لكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به و تم.

فإنه يقال (5): و إن تم الاستدلال به...

=============

(1) يعني: مع أن عدم صدق الورود على الصدور ممنوع، و هذا هو الوجه في اعتراض المصنف بما استظهره الشيخ من الحديث و استدلاله به على البراءة و محصل ما أريد من هذه العبارة: أن الورود يصدق على الصدور، و مع صدق الورود عليه لا تجري البراءة لتحقق غاية الإطلاق و هو صدور النهي عنه، فيكون هذا الحديث مساوقا لحديث السكوت كما تقدم.

(2) أي: لوضوح صدق الورود على صدور النهي عن الشارع.

(3) وجه الخصوصية: أنه مع وصول النهي إلى بعض الأمة يصدق الورود من الشارع قطعا، و إن سلمنا عدم صدقه مع صدوره واقعا و عدم اطلاع أحد عليه و مع تحقق الغاية لا يصح الاستدلال.

(4) استدراك على قوله: «و دلالته تتوقف»، و تصحيح للاستدلال بالحديث حتى مع صدق الورود على الصدور.

بيانه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 84» - أن الورود و إن كان صادقا على الصدور أيضا كصدقه على الوصول، و عدم ظهوره في خصوص بلوغ الحكم إلى المكلف؛ إلا إنه يمكن تصحيح الاستدلال بالمرسلة حتى بناء على إرادة الصدور و التشريع من قوله: «حتى يرد فيه نهي»، و ذلك لإمكان إحراز عدم الصدور من الشارع بالاستصحاب، حيث إن تشريع النهي من الحوادث المسبوقة بالعدم، فيجري فيه استصحاب عدمه و ينقح به عدم صدور النهي من الشارع فيشمله الحديث.

و عليه: فقوله: «نعم» تصديق لصحة إطلاق الورود على مجرد الصدور و إن لم يصل إلى المكلف، و المشكل بقوله: «لا يقال» يريد إثبات تمامية الاستدلال بالرواية على البراءة؛ لا كما سلكه الشيخ «قدس سره» من جعل الورود بمعنى العلم و الوصول؛ بل باستصحاب عدم الصدور، ليكون صغرى لقوله «عليه السلام» «كل شيء مطلق» أي:

مباح ظاهرا و هو المطلوب.

(5) هذا جواب الإشكال و حاصله: أن الاستدلال على البراءة بهذا الحديث - بعد ضم استصحاب عدم الورود إليه - و إن كان تاما، إلا إن الحكم بإباحة مجهول الحرمة

ص: 164

بضميمتها (1)، و يحكم بإباحة مجهول الحرمة و إطلاقه؛ إلا إنه (2) لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا؛ بل بعنوان أنه (3) مما لم يرد عنه النهي واقعا (4).

لا يقال (5):

=============

حينئذ يكون بعنوان ما لم يرد فيه نهي؛ لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا كما هو مورد البحث، و الفرق بين العنوانين واضح فإن ما شك في حرمته يكون - بلحاظ أصالة عدم ورود النهي عنه - بمنزلة ما علم عدم ورود النهي عنه، فالحكم بإباحة مجهول الحرمة حينئذ يكون لأجل العلم بعدم حرمته.

و هذا خلاف ما يقصده المستدل من الحكم بإباحته لأجل كونه مجهول الحكم، بمعنى: دخل الجهل بالحكم الواقعي في موضوع الحكم بالإباحة؛ لأن موضوع أصالة البراءة هو ذلك، يعني: الشك في الحكم لا لأجل العلم بعدم حرمته و لو بالبناء على عدم ثبوت حكم في الواقع.

و بعبارة أخرى - كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 285» -: المطلوب هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة لعدم العلم بحرمته، لا للعلم بعدم حرمته و لو تعبدا؛ لأن مقتضى الاستصحاب هو الثاني.

و عليه: فاستصحاب عدم ورود النهي لا يثبت حكم المشكوك فيه الذي هو المقصود.

(1) أي: بضميمة أصالة العدم و ضمير «إطلاقه» راجع على «مجهول» و «إطلاقه» عطف تفسير لقوله: «إباحة».

(2) أي: إلا إن الحكم بالإباحة ليس بعنوان مجهول الحرمة كما هو المطلوب في البراءة، و إنما هو بعنوان ما يعلم عدم ورود النهي عنه.

(3) أي: أن مجهول الحرمة «مما لم يرد عنه النهي»، و ضمير «عنه» راجع على الموصول المراد به مجهول الحرمة.

(4) يعني: و لو تعبّدا كما هو مقتضى إحراز عدم ورود النهي بالاستصحاب.

(5) لا يقال: إنه مهم الفقيه هو الحكم بالإطلاق و الإباحة، من دون فرق بين أن يكون مستندة الحديث وحده، أو بضميمة أصالة العدم. و هذا الإشكال ناظر إلى قوله:

«لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا»، بتقريب: أن عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب و إن كان مغايرا لعنوان «مجهول الحرمة، لكن لا تفاوت بينهما في الغرض و هو إثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن، فهذا الفعل مباح ظاهرا، سواء كان

ص: 165

نعم (1)؛ و لكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فإنه يقال (2): حيث إنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا، بعنوان عدم ورود النهي عنه واقعا و لو تعبدا كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهي عنه، أم بعنوان كونه مجهول الحكم.

=============

فالمتحصل: من قوله: «لا يقال» هو: صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة و إن كان الحكم بالإباحة بعنوان ما لم يرد؛ لا بعنوان مجهول الحرمة.

(1) يعني: نسلم أن التفاوت بين العنوانين موجود؛ إذ هناك فرق من حيث السبب للإباحة؛ لكنه لا يوجب تفاوتا «فيما هو المهم من الحكم بالإباحة» و الإطلاق «في مجهول الحرمة كان» الحكم بالإباحة «بهذا العنوان» أي: بعنوان أنه مجهول الحكم إذا قلنا بدلالة الحديث، «أو بذلك العنوان» أي: عنوان أنه لم يرد عنه النهي واقعا المكشوف ذلك بأصالة العدم؛ إذا قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم.

(2) أي: يقال في الجواب: إنه ليس الأمر على ما ذكرتم من عدم التفاوت؛ بل هناك تفاوت بأن الدليل - بناء على كونه مركبا من الحديث و أصالة العدم - أخص من الدليل - بناء على كونه الحديث فقط - إذ لو كان المعيار هو مجهول الحكم شمل الحكم بالإباحة ما طرأ إباحة و حرمة، و لم يعلم السابق منهما، و لو كان المعيار إجراء أصالة العدم لم تجر في هذا الفرض، فلا يحكم فيه بالإباحة.

و بعبارة واضحة: أنه إذا جعل الحكم بالإباحة لمشكوك الحكم بعنوان أنه «لم يرد فيه نهي» كان هذا الدليل أعني: الحديث المذكور أخص من المدعى؛ و ذلك لأن الحديث إذا دل على إباحة مشكوك الحكم بعنوان أنه مشكوك الحكم - بلا ضم استصحاب عدم الورود إليه - شمل جميع موارد الشك في الحكم حتى صورة فرض العلم الإجمالي بورود النهي عن ذلك الفعل المشكوك الحكم في زمان، و إباحته في زمان آخر؛ إذ المفروض: أن الفعل - فعلا - مجهول الحرمة، و الحديث دال على إباحته ظاهرا فيحكم بإباحته.

و هذا بخلاف ضم الاستصحاب المذكور إليه، فإن الاستدلال به يختص حينئذ بما إذا شك في ورود النهي عنه و أحرز عدم وروده بالاستصحاب، و لا يشمل ما إذا علم بورود نهي و إباحة معا في شيء و اشتبه المتقدم منهما بالمتأخر.

وجه عدم الشمول: أن استصحاب عدم ورود النهي عنه - الذي هو جزء لموضوع

ص: 166

و لا يكاد يعم (1) ما إذا ورد النهي عنه في زمان و إباحة في آخر، و اشتبها من حيث التقدم و التأخر (2).

لا يقال: هذا (3) لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

=============

الحديث المذكور حسب الفرض - لا يجري حينئذ؛ إذ المفروض: العلم بارتفاع إطلاق ذلك المشكوك الحكم بسبب العلم بورود النهي عنه، فليس مطلقا حتى تجري فيه أصالة البراءة، مع أنه لا إشكال في أنه من مجاريها.

و بالجملة: فلو قيد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» لم يشمل هذا الحديث جميع موارد الشك في الحكم التي منها تعاقب الحالتين؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 287» مع تصرف منّا.

توضيح بعض العبارات:

ضمير «أنه» في قوله: «حيث إنه» راجع على الحكم بإباحة ما لم يرد فيه نهي، و الأولى تبديل «لاختص» ب «يختص»؛ لأنه «قدس سره» جعله جوابا ل «حيث» المتضمن لمعنى الشرط، و لم يعهد دخول اللام على جوابه.

(1) أي: لا يكاد يعم الحكم بالإباحة الذي جعل لعنوان «ما لم يرد فيه نهي»؛ لما إذا ورد النهي عنه في زمان... الخ.

(2) كما في موارد تعاقب الحالتين.

(3) يعني: أن التفاوت المذكور بين العنوانين - و هو صيرورة الدليل أخص من المدعى - فيما إذا قيد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» مسلم لو لم يثبت عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

كيف ؟ و هو ثابت، حيث إن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقا - يعني: سواء كان الفرد المشتبه مما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي عنه أم لا تجري فيه؛ كمورد تعاقب الحالتين - كالمحدثين، و بين من يقول بالبراءة فيها كذلك و هم المجتهدون، و لم يدع أحد التفصيل بين الأفراد المشتبهة بأن يقول بالبراءة فيما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي و يقول بالاحتياط فيما لا تجري فيه كمورد التعاقب، و عليه:

فالتفاوت المذكور مرتفع.

و الحاصل: أن إشكال أخصية الحديث من المدعى يندفع بتعميم دلالته بعدم القول بالفصل في الحكم بالإباحة بين أفراد مشتبه الحكم، فما لا تجري فيه أصالة العدم يلحق بالموارد التي تجري فيها.

ص: 167

فإنه يقال (1): و إن لم يكن بينها (2) الفصل؛ إلا إنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل؛ لا الأصل فافهم.

=============

(2) أي: و إن لم يكن بين أفراد ما اشتبهت حرمته فصل، إلا إنه...

و حاصل الجواب: أن التلازم في الحكم بالإباحة بين أفراد ما اشتبهت حرمته و إن كان ثابتا؛ إلا إن المثبت لأحد المتلازمين لا يجب أن يكون مثبتا للملازم الآخر مطلقا، يعني: دليلا كان هذا المثبت أم أصلا، بل إنما يثبته إذا كان هذا المثبت دليلا، حيث إن الدليل يثبت اللوازم و الملزومات و الملازمات بخلاف الأصل، فإنه قاصر عن إثبات الملازم الآخر، مثلا: إذا قلنا بالملازمة بين الأمر بشيء و النهي عن ضده، فإن ثبت الأمر بالدليل الاجتهادي - كالأمر بالصلاة الثابت بمثل قوله تعالى: أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ - ثبت ملازمه و هو النهي عن ضد الصلاة كالاشتغال بالكتابة فيما إذا ضاق وقت الصلاة، و إن ثبت الأمر بالأصل العملي - كاستصحاب وجوب الصلاة لمن كان عليه فريضة و شك في الإتيان بها و الوقت باق - لم يثبت ملازمه المذكور؛ لعدم ثبوت اللوازم بالأصول العملية كما حرر في محله.

و كذا لو قلنا: بثبوت الملازمة بين حرمة العصير العنبي بعد الغليان و قبل ذهاب ثلثيه و بين نجاسته، فإن ثبت حرمته بالدليل ثبتت نجاسته أيضا، و إن ثبت بالأصل كاستصحاب عدم ذهاب ثلثيه لم تثبت نجاسته؛ لما تقدم. و هكذا.

ففي المقام: إن كان المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الدليل فلا إشكال في ثبوت الفرد الآخر الملازم لما لم يرد فيه نهي أعني: مجهول الحرمة، و إن كان المثبت للإباحة هو الأصل - كما هو مفروض البحث؛ إذ المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الاستصحاب - لم يثبت به الملازم أعني: الإباحة في مجهول الحرمة؛ لما قرر في محله من عدم حجية الأصل في اللوازم و الملازمات؛ إذ لم يقل أحد بحجية الأصل المثبت.

نعم؛ إذا فرض التلازم بين الأفراد في الحكم مطلقا و إن كان ظاهريا، فلا بأس به، و لعل مقصود مدعي الإجماع المركب ثبوت الملازمة بين الأفراد المشتبهة حتى في الحكم الظاهري؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 289».

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى: أن المثبت للحكم بالإباحة هو الدليل لا الأصل، نعم؛

ص: 168

الأصل ينقح الموضوع - و هو عدم الورود - ثم يشمله قوله «عليه السلام»: «كل شيء مطلق»، و هو نظير إحراز عالمية زيد بالاستصحاب يندرج في قوله: «أكرم العلماء»، فإن الدال على وجوب الإكرام هو الدليل لا الاستصحاب.

أو إشارة إلى: أن مدعي الإجماع يريد به الإجماع على الحكم الظاهري، فكأنه يقول: كل من قال بالإباحة قال في الجميع، و كل من قال بالاحتياط قال في الجميع، فالقول بالإباحة في البعض و الاحتياط في البعض إيجاد قول ثالث و هو مخالف للإجماع المركب، فالإباحة الثابتة في اللازم إنما هو بنفس الإجماع لا بسبب كونه لازما حتى يقال: بأن الأصل لا يثبت لوازمه. هذا تمام الكلام في الاستدلال بالروايات على البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره»

يتلخص البحث في أمور:

1 - تقريب الاستدلال بهذه الرواية مبني على أن يكون المراد من الورود المستفاد من «يرد»: إيصال التكليف إلى المكلف لا صدوره من الشارع، و من النهي: النهي الواقعي عن الشيء بعنوانه الأولي، فيكون مفادها حينئذ: كل شيء مطلق و مباح ما لم يصل فيه النهي عن الشارع، فيكون دلالة الرواية على البراءة أوضح من الكل، كما قال الشيخ «قدس سره».

و أورد المصنف على الاستدلال بهذه الرواية على البراءة بما حاصله: من أنه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للإطلاق هو: صدور الحكم من الشارع، و جعله لا وصوله إلى المكلف، فيكون مفاد الرواية: أن كل شيء لم يصدر فيه نهي و لم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق، و هذا خارج عن محل الكلام أصلا.

2 - قوله: «لا يقال: نعم» تصحيح للاستدلال بالحديث على البراءة، حتى مع صدق الورود على الصدور؛ و ذلك لإمكان إحراز عدم الصدور من الشارع بالاستصحاب، فإن النهي من الحوادث المسبوقة بالعدم، فيجري فيه استصحاب عدمه، فينقح به عدم صدور النهي من الشارع، فيشمله الحديث.

3 - و حاصل الجواب عن هذا التصحيح: أن الاستدلال على البراءة بهذا الحديث - بعد ضم الأصل المذكور - و إن كان تاما إلا إن الحكم بالإباحة حينئذ يكون بعنوان «ما

ص: 169

لم يرد فيه نهي»، و هذا خارج عن محل البحث؛ لأن محل الكلام هو الحكم بالإباحة بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا؛ إذ الحكم بالإباحة بعنوان عدم ورود النهي بمنزلة العلم بعدم النهي و الحرمة، و هذا خلاف ما يقصده المستدل من الحكم بالإباحة لأجل كونه مجهول الحرمة.

و كيف كان؛ فالمطلوب هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة؛ لعدم العلم بحرمته لا للعلم بعدم حرمته.

4 - توهم عدم الفرق فيما هو المهم من الحكم بالإباحة، سواء كان مستنده الحديث وحده، أو بضميمة أصالة العدم، بتقريب: أن عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب و إن كان مغايرا لعنوان «مجهول الحرمة» لكن لا تفاوت بينهما في الغرض، و هو إثبات إباحة مجهول الحرمة، فيصح الاستدلال بالحديث على البراءة؛ و إن كان الحكم بالإباحة بعنوان عدم ورود النهي لا بعنوان مجهول الحرمة؛ مدفوع:

بالتفاوت بين العنوانين و الأمرين.

و حاصل التفاوت: أن الدليل بناء على كونه مركبا من الحديث و الأصل - أخص من المدعى بخلاف كون الدليل هو الحديث فقط؛ إذ الأول لا يجري في مورد تعاقب الحالتين.

و الثاني: يجري في جميع الموارد أي: موارد الشك.

5 - توهم: أن كون الدليل أخص من المدعى في محله إذا لم يثبت عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته ؟ كيف ؟ و هو ثابت حيث إن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقا، يعني: سواء كان الفرد المشتبه مما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي عنه أم لا تجري فيه؛ كمورد تعاقب الحالتين كالأخباريين. و بين من يقول بالبراءة فيها كذلك كالأصوليين.

و عليه: فالتفاوت المذكور مرتفع؛ مدفوع: بأن التلازم في الحكم بالإباحة بين أفراد ما اشتبهت حرمته و إن كان ثابتا؛ إلا إن المثبت لأحد المتلازمين لا يجب أن يكون مثبتا للملازم الآخر مطلقا يعني: دليلا كان أو أصلا؛ بل إنما يثبته ما إذا كان هذا المثبت دليلا، حيث أن الدليل يثبت اللوازم، بخلاف الأصل فإنه قاصر عن إثبات الملازم الآخر.

ففي المقام على فرض ضميمة الأصل المثبت للإباحة في «ما لم يرد فيه نهي» المثبت

ص: 170

و أما الإجماع (1): فقد نقل على البراءة؛ إلا إنه موهون، و لو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، و من واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا.

=============

هو هذا الأصل، فلم يثبت الملازم الآخر أعني الإباحة في مجهول الحرمة؛ لعدم حجية الأصل المثبت.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن المثبت للحكم بالإباحة هو الدليل لا الأصل، نعم؛ الأصل ينقح به الموضوع - و هو عدم ورود النهي - ثم يشمله قوله «عليه السلام»: «كل شيء مطلق».

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو عدم تمامية دلالة هذه الرواية على البراءة.

الاستدلال بالإجماع على البراءة

(1) هذا إشارة إلى ما أفاده الشيخ «قدس سره» في الاستدلال على البراءة بالإجماع، فينبغي نقل كلام الشيخ في تقرير الإجماع حتى يتضح ما أورده المصنف عليه.

فقد ذكر الشيخ «قدس سره» لتقريره وجهين:

«الأول: دعوى إجماع العلماء كلهم من المجتهدين و الأخباريين على أن الحكم - فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو، و لا على تحريمه من حيث إنه مجهول - هو البراءة و عدم العقاب على الفعل». «دروس في الرسائل، ج 2، ص 287».

و ملخص تقرير هذا القسم الأول من الإجماع هو: أن حكم المشتبه و ما لم يعلم حكمه الواقعي هو البراءة باتفاق المجتهدين و الأخباريين، و يكون هذا الاتفاق منهم على فرض عدم دليل من العقل أو النقل على التحريم، فيكون الإجماع المزبور فرضيا و تعليقيا، و لا ينفع إلا بعد إثبات عدم تمامية ما سيأتي من الدليل العقلي و النقلي على وجوب الاحتياط من جانب الأخباريين، و لو تم دليل الاحتياط كان حاكما على دليل البراءة، كما يكون حاكما على حكم العقل الآتي على البراءة، حيث يحكم بقبح العقاب بلا بيان؛ و لكن ما يدل على وجوب الاحتياط يكون بيانا للحكم الظاهري، فيكون حاكما أو واردا على حكم العقل، فيكون هذا الإجماع الفرضي نظير حكم العقل الآتي.

«الثاني: دعوى الإجماع على أن الحكم - فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو - هو عدم وجوب الاحتياط و جواز الارتكاب». و هذا القسم الثاني من الإجماع يكون إجماعا تنجيزيا، في مقابل القسم الأول الذي كان فرضيا و تعليقيا، و المراد منه هو

ص: 171

الإجماع المحصل. ثم شرع في بيان تحصيل هذا الإجماع قولا و عملا، حيث قال:

«و تحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه».

قوله: «فإن تحصيله» تعليل لقوله: «موهون».

و مجمل تلك الوجوه أمور تالية:

1 - «ملاحظة فتاوى العلماء من المحدثين و المجتهدين...» الخ.

2 - «الإجماعات المنقولة على البراءة...» الخ.

3 - «الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم «عليه السلام» بجواز ارتكاب المشتبه من حيث هو».

4 - «سيرة أهل الشرائع كافة على البراءة في مشتبه الحكم...» الخ.

5 - «سيرة كافة العقلاء على قبح مؤاخذة الجاهل...» الخ.

هذا تمام الكلام في نقل مورد الحاجة من كلام الشيخ «قدس سره».

ثم إن مقصود المصنف من الإجماع هو القسم الثاني؛ إذ القسم الأول لم يتحقق بعد وجود الدليل على لزوم الاحتياط و التوقف عند الشبهات حسب دعوى الأخباريين لذلك.

و أما القسم الثاني - و هو الإجماع المنجز - فهو و إن كان محصلا في نظر الشيخ «قدس سره»؛ إلا إنه عند المصنف منقول؛ إذ العمدة من وجوه تحصيله هو الوجه الثاني من الوجوه الخمسة أعني: الإجماعات المنقولة المحققة، و هي مهما بلغت كثرة لا يحصل منها إجماع محصل كي يستند به في المقام في عرض الاستدلال بالكتاب و السنة.

الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و لو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة».

و حاصل هذا الوجه: أنه لو سلم تحقق الإجماع المنقول في المقام فهو غير معتبر؛ لأنه على القول باعتباره إنما يعتبر في الجملة يعني: فيما إذا لم يحتمل كونه مدركيا، و في المقام حيث يحتمل كونه كذلك؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى ما ذكر فيه من الأدلة العقلية و النقلية، فلا يكون هذا الإجماع حجة؛ لعدم كونه حينئذ كاشفا عن قول المعصوم «عليه السلام».

و أما ما أورده المصنف على هذا الوجه من الإجماع فهو وجهان:

الأول ما أشار إليه بقوله: «إنه موهون»؛ إذ مع مخالفة الأخباريين لا يتحقق الإجماع من الكل؛ إذ هم من العلماء الأجلاء.

ص: 172

و أما العقل (1): فإنه قد استقل بقبح العقوبة و المؤاخذة على مخالفة التكليف و خلاصة البحث: أن الإجماع التقديري و المعلق غير مفيد، و الإجماع المنجز و المحصل غير ثابت؛ إذ الفرض في الأول: عدم تحقق الإجماع. و في الثاني: عدم حجيته.

=============

و المتحصل: أنه لو قال المستدل: أجمع العلماء على أن الأصل في الأحكام التي لم تصل إلينا لا بنفسها و لا بطريقها - كالأمر بالاحتياط - هو البراءة، فالكبرى مسلمة؛ و لكن الصغرى غير محققة عند الجميع، أعني: الأخباريين، فهم يدعون أن الأحكام المجهولة واصلة إلينا بطريقها، أعني: الروايات الدالة على الاحتياط و التوقف.

و لو قال المستدل: أجمع العلماء على أن الأصل في الأحكام الواقعية المجهولة بنفسها هو البراءة أو الإباحة و الترخيص، فالصغرى محققة لأن هناك أحكاما واقعية غير واصلة؛ و لكن الكبرى غير مسلمة؛ لمخالفة الأخباريين في ذلك بأن الأصل في ذاك المقام هو الاحتياط.

رأي المصنف «قدس سره»: هو عدم صحة الاستدلال بالإجماع على البراءة.

الاستدلال بالعقل على البراءة

(1) بعد أن فرغ المصنف من الاستدلال على البراءة بالنقل كتابا و سنة و إجماعا، شرع في الاستدلال عليها بالعقل.

و تحقيق الحال في الاستدلال بالعقل على البراءة يقتضي التكلم في جهتين:

الجهة الأولى: في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفسها أولا. و تقريب الاستدلال بها على البراءة بعد فرض تماميتها ثانيا.

الجهة الثانية: في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

و أما الجهة الأولى: فلا شك في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان على القول بالتحسين و التقبيح العقليين كما عليه العدلية.

و أما على قول الأشاعرة الذين لا يقولون بهما: فلا تتم هذه القاعدة؛ إذ لا قبح حتى يحكم به العقل. فهي تامة في نفسها على ما هو الحق من مذهب العدلية.

و أما تقريب الاستدلال بهذه القاعدة على البراءة فيتوقف على مقدمة، و هي: أن المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لحكم العقل بقبح العقاب ليس هو البيان الواصل بنفسه؛ بل هو البيان الذي يمكن الوصول إليه و لو بالفحص عنه، فإن مجرد عدم البيان الواصل بنفسه مع احتمال وجود البيان الذي لو تفحص عنه لظفر عليه مما لا يكفي في

ص: 173

المجهول، بعد الفحص و اليأس عن الظفر بما كان حجة عليه، فإنهما (1) بدونها عقاب بلا بيان، و مؤاخذة بلا برهان، و هما قبيحان بشهادة الوجدان.

=============

حكم العقل بقبح العقاب؛ بل إذا تفحص عنه و لم يكن هناك بيان فعند ذلك يستقل العقل بقبح العقاب و إن احتمل وجود بيان في الواقع لا يمكن الوصول إليه و لو بالفحص.

و الوجه في ذلك: التكليف بوجوده الواقعي لا يكون محركا للعبد لا بعثا و لا زجرا.

بل الانبعاث نحو الفعل و الانزجار عنه إنما هما من آثار التكليف الواصل المنجز و هو مدار الإطاعة و المعصية.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد فحصه موارد وجود التكليف فحصا كاملا، و عدم وجدانه دليلا عليه، فيكون - حينئذ - معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول؛ لأن فوت التكليف - حينئذ - مستند إلى عدم البيان الواصل إليه من المولى؛ لا إلى تقصير من العبد.

و لا فرق في استقلال العقل بقبح العقاب هنا بين عدم البيان أصلا و بين عدم وصوله إلى العبد و اختفائه عليه بعد الفحص عنه في مظانه بقدر وسعه.

و بالجملة: فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تامة بلا شبهة و إشكال.

(1) أي: فإن العقوبة و المؤاخذة بدون الحجة عقاب بلا بيان. و ضمير «عليه» راجع على التكليف المجهول. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

و أما الجهة الثانية: فالمشهور بينهم - كما ذكره «قدس سره» -: أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ إذ مع حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول التكليف إلى العبد لا يبقى احتمال الضرر كي يجب دفعه بحكم العقل. هذا ما أشار إليه بقوله: «أنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة...» الخ.

و أشكل عليه بإمكان العكس؛ بأن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها، و هو عدم البيان. هذا ما أشار إلى دفعه المصنف بقوله: «و لا يخفى أنه مع استقلاله بذلك»، أي: بقبح العقاب بلا بيان؛ «لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته» أي: مخالفة التكليف المجهول؛ بل المؤاخذة تكون معلومة العدم، و الضرر معلوم الانتفاء.

فمقصود المصنف «قدس سره» من هذا الكلام: هو دفع إشكال العكس.

ص: 174

و لا يخفى: أنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا و التحقيق في الجواب عن الإشكال يقتضي التكلم في مقامين:

=============

المقام الأول: هو تقريب الإشكال.

المقام الثاني: توضيح الجواب.

و أما المقام الأول: - أعني: تقريب الإشكال فيتوقف على مقدمة و هي: أن في المقام قاعدتين عقليتين:

الأولى: هي قبح العقاب بلا بيان.

الثانية: هي وجوب دفع الضرر المحتمل.

و القاعدة الأولى: و إن كانت من المستقلات العقلية كما تقدم؛ إلا إن المقام - و هو الشبهة بعد الفحص - يكون صغرى للقاعدة الثانية، و ذلك لوجود احتمال الضرر الناشئ عن احتمال الحرمة.

فالقاعدة الثانية: - و هي وجوب دفع الضرر المحتمل - تصلح للبيانية، لأن المراد بالبيان الرافع لموضوع القاعدة الأولى ليس خصوص الطريق الشرعي على الواقع كخبر الواحد؛ بل المراد به كان كل ما يكون صالحا لتنجيز الخطاب، و رافعا لقبح المؤاخذة على مخالفة التكليف أعم من الواقعي و الظاهري و الشرعي و العقلي، و بهذا المعنى العام تكون القاعدة وجوب الدفع بيانا يرتفع به موضوع قاعدة القبح.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تكفي أن تكون بيانا لوجوب الاحتياط في محتمل الحرمة، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها، فلا يمكن الاستدلال بها على البراءة. هذا تمام الكلام في المقام الأول، أعني:

تقريب الإشكال.

و أما المقام الثاني: - و هو توضيح الجواب - فيتوقف أيضا على مقدمة و هي: أن الضرر المحتمل الذي يجب دفعه بحكم العقل إما أن يراد به الضرر الأخروي أعني: العقاب، أو الضرر الدنيوي.

إذا عرفت هذه المقدمة القصيرة فاعلم: أن قاعدة وجوب الدفع غير ثابتة في المقام؛ إذ هي مركبة من صغرى و هي احتمال الضرر - و كبرى و هي وجوب دفع الضرر المحتمل، فإذا كان المراد من الضرر المحتمل الضرر الأخروي: فلا صغرى لها، و إذا كان المراد منه الضرر الدنيوي: فلا كبرى لها؛ لأن الضرر الأخروي معلوم الانتفاء بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. هذا معنى انتفاء الصغرى.

ص: 175

يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل؛ كي يتوهم أنها (1) بيانا، كما أنه مع احتماله لا حاجة (2) إلى القاعدة؛ بل في صورة المصادفة استحق (3) العقوبة على المخالفة؛ و لو (4) قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

=============

و أما إذا كان المراد بالضرر الضرر الدنيوي: فلا يجب دفعه عقلا حتى تثبت كبرى القاعدة المذكورة. هذا معنى انتفاء الكبرى.

هذا خلاصة الكلام في المقام. و هناك بحوث طويلة خارجة عما هو المقصود، أضربنا عنها رعاية للاختصار المطلوب في هذا الشرح.

فالمتحصل: أن هاتين القاعدتين لهما موردان و لا ترتبط إحداهما بالأخرى، فإن جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يبق مورد لقاعدة دفع الضرر المحتمل؛ إذ لا احتمال للضرر حينئذ، و إن لم تجر قاعدة القبح يلزم عقلا اجتناب الضرر المحتمل - و إن قلنا: بأنه لا دليل لوجوب دفع الضرر المحتمل - و ذلك لأنه لو صادف العمل الواقع المعاقب عليه حسن العقاب، و لا مانع عنه؛ لأن المفروض: عدم قبح العقاب، فالعقل يلزم باجتناب المحتمل لئلا يصادف الواقع فيعاقب. هذا ما أشار إليه بقوله: «بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة، و لو قيل بعدم وجوب الضرر المحتمل».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «هاهنا» أي: في الشبهة البدوية بعد الفحص؛ إذ لا احتمال للعقوبة كما عرفت.

(1) أي: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل. و ضمير «احتماله» راجع على الضرر المراد به العقوبة.

(2) وجه عدم الحاجة: أن استحقاق المؤاخذة عند احتمال الحكم ثابت لا محتمل حتى يحتاج في دفعه إلى التمسك بقاعدة الدفع؛ إذ المفروض: استقلال العقل بصحة المؤاخذة على المجهول، و عدم استقلاله بتوقفها على البيان، فإذا احتمل أن التكليف الواقعي في شرب التتن مثلا هو الحرمة لزم الاجتناب عنه؛ لتنجز الواقع بنفس الاحتمال مع عدم مؤمّن لارتكابه، فإن تنجز الواقع يصحح العقوبة حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فتصح المؤاخذة في صورة الإصابة لوجود المنجز؛ بل في صورة المخالفة أيضا بناء على ما هو الحق من استحقاق المتجري للعقوبة.

(3) الأولى أن يقال: «يستحق العقوبة».

(4) كلمة «لو» وصلية، و قيد لقوله: «استحق»، يعني: إذا احتمل الضرر الأخروي في شرب مائع خاص فشربه، و كان حراما واقعا، فإنه يستحق العقوبة على مخالفة هذا

ص: 176

و أما (1) ضرر غير العقوبة: فهو و إن كان محتملا؛ إلا إن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع (2) شرعا و لا عقلا، ضرورة (3): عدم القبح في تحمل التكليف الإلزامي أعني الحرمة؛ حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن وجوب دفعه - بحكم العقل - إرشاد إلى عدم الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي، و ليس وجوبا مولويا، و من المعلوم: أن ذلك الضرر يترتب على الفعل لو فرض حرمته واقعا؛ كترتب الضرر الدنيوي على شرب ذلك المائع، سواء قلنا: بوجوب دفع الضرر المحتمل أم لم نقل به.

=============

(1) عطف على قوله: «لا احتمال لضرر العقوبة»، يعني: و أما إذا أريد بالضرر الضرر الدنيوي دون العقوبة الأخروية، فهو و إن كان محتملا عند ارتكاب الشبهة التحريمية، و لا يرتفع احتماله بقبح العقاب بلا بيان؛ لكنه لا يجب دفعه.

و قد أجاب المصنف عن توهم وجوب دفعه بوجهين، أشار إلى أولهما بقوله: «إلا إن المتيقن...» الخ.

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 315» - أن ما لا يكون ترتبه على التكليف مشروطا بتنجز التكليف و وصوله إلى المكلف، بل يترتب على وجود الحكم واقعا و لو لم يصل إليه، لا ينفك احتمال التكليف التحريمي عن احتمال الضرر، و هذا الضرر و إن لم يمكن التخلص عنه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكونه أجنبيا عنها بعد فرض الضرر أمرا غير العقوبة الأخروية، لكن لا مجال أيضا للتثبت بقاعدة وجوب الدفع لإثبات لزوم الاجتناب عنه؛ و ذلك لأن شمول الكبرى - و هي وجوب دفع الضرر - للضرر الدنيوي المحتمل ممنوع؛ بل لا دليل على لزوم التحرز عن الضرر الدنيوي المعلوم فضلا عن محتمله؛ إذ لا قبح عقلا في تحمل بعض المضار الدنيوية لبعض الدواعي العقلائية، فإن العقلاء مع علمهم بالضرر يصرفون الأموال و يتحملون المشاق لأجل تحصيل العلم أو كسب المال بالتجارة، و ليست الغاية معلومة الحصول لهم؛ بل ربما لا تكون مظنونة أيضا.

و أما احتمال الضرر: فلا ينفك عن كثير من أفعالهم، و هم لا يعتنون به أصلا و أما تحمل الضرر المعلوم أو المحتمل شرعا: فلا منع فيه، بل قد يستحب في بعض الموارد، و قد يجب في موارد أخرى.

(2) كما حكى اعتراف الخصم به، و ضميرا «منه، محتمله» راجعان على الضرر غير العقوبة.

(3) تعليل لعدم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا. و ضمير «جوازه» راجع على

ص: 177

بعض المضار ببعض الدواعي عقلا و جوازه شرعا.

مع أن (1) احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة؛ و إن كان ملازما «تحمل بعض المضار» كبذل المال لتحصيل الاعتبار و نحوه. هذا بحسب حكم العقل.

=============

و أما شرعا: فكجواز إتلاف النفس لإقامة الدين و شعائره، و جواز بذل المال للطهارة و الساتر في الصلاة.

(1) هذا هو الوجه الثاني من الجواب.

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 316» - أن الأحكام الشرعية و إن كانت تابعة للملاكات النفس الأمرية من المصالح و المفاسد الكامنة في أفعال المكلفين، و من المعلوم: عدم إناطة ترتبها عليها بالعلم بالأحكام؛ للملازمة بين التكليف و ملاكه مطلقا، علم به أم لا.

فاحتمال التكليف الوجوبي أو التحريمي ملازم لاحتمال المصلحة أو المفسدة؛ إلا إنه لا كبرى لوجوب دفع الضرر المحتمل في المقام، أعني: الضرر غير العقوبة؛ لتوقف الملازمة - بين احتمال الوجوب أو الحرمة، و بين وجوب دفع الضرر المحتمل غير العقوبة - على تبعية الحكم الشرعي للمصلحة أو المفسدة، بمعنى: النفع أو الضرر الدنيويين، و هذه التبعية غير ثابتة، إنما الثابت تبعيته للمصالح و المفاسد الواقعية التي هي العلل للأحكام الشرعية، و هي التي توجب حسن الفعل أو قبحه، و لا ربط لها بالمنافع و المضار العائدتين إلى المكلف، يعني: أن المصالح و المفاسد الواقعية إنما توجبان حسن الفعل أو قبحه، من دون لزوم ضرر على فاعله أو نفع عائد إليه.

و بالجملة: فاحتمال الحرمة و إن كان ملازما لاحتمال المفسدة لكنه لا يلازم الضرر بالفاعل حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع، و يجب ترك محتمل الحرمة تحرزا عن الضرر؛ بل ربما كان ترك الحرام تحرزا عن المفسدة مستلزما للضرر على التارك؛ كما في ترك البيع الربوي تحرزا عن مفسدته، فإنه موجب لذهاب المنفعة المالية على المتحرز. كما أن احتمال الوجوب و إن كان ملازما لاحتمال المصلحة؛ لكنه لا يلازم المنفعة حتى يجب فعل محتمل الوجوب استيفاء للمنفعة المالية؛ بل ربما كان فعل الواجب استيفاء للمصلحة موجبا للضرر على الفاعل كما في أداء الزكاة استيفاء لمصلحتها، فإن فيه ضررا ماليا على الدافع بناء على كونه مالكا لتمام المال الزكوي، و خروج حصة الفقراء من ملكه، لا مالكا لما عدا مقدار الزكاة؛ و إلا لم يكن دفعه ضررا عليه كما هو واضح، و عليه: فاحتمال الحرمة بالنسبة إلى الضرر الدنيوي غير واجب الدفع، فلا تتم كبرى

ص: 178

لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح: أن المصالح و المفاسد و التي تكون مناطات الأحكام (1)، و قد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح، و قبح ما كان ذات المفاسد ليست (2) براجعة إلى المنافع و المضار، و كثيرا ما يكون (3) محتمل التكليف مأمون الضرر.

=============

قاعدة وجوب الدفع حتى يجب الاجتناب عن كل محتمل الحرمة.

قوله: «لوضوح...» الخ تعليل لقوله: «لا يلازم احتمال المضرة».

(1) يعني: بناء على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد.

(2) خبر «أن المصالح» يعني: أن المصالح و المفاسد الكامنة في أفعال المكلفين ليستا دائما من المنافع و المضار القائمة بالأفعال حتى يجب امتثال محتمل التكليف استيفاء للمنفعة أو دفعا للضرر؛ بل قد تكون منها و قد لا تكون، و ذلك لأن المصلحة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تحسنها و توجب محبوبيتها تكوينا أو تشريعا، و المفسدة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تقبحها، و توجب كراهتها تكوينا أو تشريعا، و النفع ما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه و الوصول إلى المطلوب خير، فالنفع هو الخير و الضرر ضده، و النسبة بين المصلحة و المنفعة عموم من وجه؛ لاجتماعهما في الصوم النافع للبدن، و افتراق المصلحة عن المنفعة في أداء الزكاة و الخمس مثلا؛ إذ فيه المصلحة دون المنفعة، و افتراق المنفعة عن المصلحة في الربا مثلا إذ فيه المنفعة دون المصلحة.

و كذا بين المفسدة و الضرر؛ لاجتماعهما في شرب المسكر المضر بالبدن و افتراق المفسدة عن الضرر في غصب المال أو الحق؛ إذ فيه المفسدة دون الضرر و افتراق الضرر عن المفسدة في دفع مثل الزكاة و الخمس؛ إذ فيه الضرر دون المفسدة كما هو واضح.

و بالجملة: فاحتمال التكليف التحريمي و إن كان ملازما لاحتمال المفسدة؛ لكنه لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع و يجب الاجتناب عنه؛ بل كثيرا ما يكون محتمل الحرمة مأمون الضرر.

(3) غرضه: تثبيت ما تقدم من أن احتمال التكليف التحريمي لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون من موارد القاعدة، يعني: أن هناك موارد كثيرة جدا يحتمل فيها التكليف التحريمي، مع العلم بانتفاء الضرر الدنيوي؛ بل قد يعلم بالحرمة و يعلم بعدم الضرر كما في كثير من المحرمات كالزنا و النظر إلى الأجنبية - بناء على عدم كون الحد و التعزير ضررا دنيويا -

و كيف كان؛ فمع العلم بعدم الضرر حتى مع العلم بالحرمة في كثير من الموارد كيف

ص: 179

نعم (1)؛ ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا و عقلا.

و قد تحصل من جميع ما ذكر حول قاعدة وجوب الدفع: أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب: فلا موضوع للقاعدة في الشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص؛ لانتفاء العقاب قطعا بقاعدة القبح، و إن كان غير العقوبة الأخروية: فلا يجب دفعه بعد ثبوت جوازه لبعض الأغراض العقلائية، سواء أريد به الضرر الدنيوي أم المفسدة؛ كما عرفت تفصيله.

إن قلت (2): نعم؛ و لكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته، يمكن دعوى أن احتمال الحرمة يجب دفعه؛ لأنه يلازم الضرر، و دفع الضرر المحتمل واجب.

=============

(1) استدراك على قوله: «ليست براجعة على المنافع و المضار»، يعني: أنه قد يتفق كون مناط حكم العقل أو الشرع هو النفع أو الضرر الموجود في الفعل؛ لكن ذلك قاصر عن إثبات الملازمة؛ لما عرفت من عدم كونهما غالبا مناطين للحكم حتى يكون احتمال الحرمة مساوقا لاحتمال المفسدة، فالملاك في خيار الغبن و وجوب التيمم مع خوف الضرر باستعمال الماء هو الضرر لئلا يتضرر المغبون و المتطهر، و لكن لا سبيل إلى إحراز الملاك في كثير من الأحكام حتى يلازم احتمال الحرمة احتمال الضرر الدنيوي كي يجب دفعه.

و بالجملة: لا مجال للقاعدة في الشبهات الحكمية؛ إما لانتفاء الصغرى أو الكبرى.

(2) غرض المستشكل: هو تقديم قاعدة أخرى - غير وجوب دفع الضرر المحتمل - على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و هي حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته كقبحه على ما علم مفسدته.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن احتمال التكليف التحريمي و إن لم يستلزم احتمال العقاب الأخروي و لا الضرر الدنيوي؛ إلا إنه بناء على مذهب العدلية من كون الأحكام تابعة للملاكات، لا ينفك احتمال الحرمة عن احتمال المفسدة - و لو النوعية منها - و ذلك لفرض التلازم بين المحتملين - و هما الحرمة و المفسدة -

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة؛ فالإقدام على محتمل الحرمة إقدام على المفسدة المحتملة، فيقال: قبح الإقدام على المفسدة المحتملة كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة، فيؤلف القياس و يقال: احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة، و احتمال المفسدة كالعلم بها يجب دفعه، فاحتمال الحرمة يجب

ص: 180

و أنه (1) كالإقدام على ما علم مفسدته؛ كما استدل به شيخ الطائفة «قدس سره» على أن الأشياء على الحظر أو الوقف(1).

قلت: استقلاله بذلك (2) ممنوع، و السند شهادة الوجدان و مراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل و الأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، و لا يعاملون معه (3) ما علم مفسدته.

=============

دفعه، فتكون هذه الكبرى بيانا للمشكوك و صالحة لرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فالمتحصل: نعم احتمال الوجوب لا يلازم احتمال المنفعة، و احتمال الحرمة لا يلازم احتمال المضرة و لا العقاب الأخروي؛ «و لكن العقل يستقل بقبح الإقدام...» الخ. و هذا المقدار كاف في حكم العقل بلزوم الاجتناب عن محتمل الحرمة الملازم لاحتمال المفسدة، فإن المفسدة المحتملة مما لا يجوز الإقدام عليها، كما لا يجوز الإقدام على المفسدة المعلومة.

(1) عطف على «قبح»، و ضميره راجع على الإقدام، أي: و بأن الإقدام على «ما لا تؤمن مفسدته كالإقدام على ما علم مفسدته» في القبح عقلا.

(2) أي: استقلال العقل بقبح الإقدام على محتمل المفسدة، و أنه كالإقدام على معلوم المفسدة ممنوع. هذا جواب عن الإشكال المذكور.

و حاصل الجواب: أن ما ذكر من الحكم العقلي ممنوع لشهادة الوجدان، و جريان عادة العقلاء على عدم التحرز عن محتمل المفسدة، و لزوم التحرز عن معلومها، فإنهم يركبون أمواج البحار و يقتحمون أهوال البراري و القفار للتجارة و غيرها، مع احتمال الغرق و غيره من الأخطار؛ لا مع العلم به.

هذا مضافا إلى إذن الشارع في الإقدام على المفسدة المحتملة في الشبهات الموضوعية، بمثل قوله «عليه السلام»: «كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»، فلو كان الإذن في الإقدام عليها قبيحا كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة لم يأذن فيه؛ لأن الإذن في الإقدام على القبيح قبيح، و يمتنع صدور القبيح عن الحكيم تعالى.

فصدور الإذن فيه منه تعالى يشهد بعدم قبحه، فلا أصل للقاعدة المذكورة.

(3) أي: مع ما لا تؤمن مفسدته.

ص: 181


1- عدة الأصول 750:2.

كيف (1)؟ و قد أذن الشارع بالإقدام عليه، و لا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل (2).

=============

(1) يعني: كيف يكون الإقدام على محتمل المفسدة قبيحا؟ و الحال أن الشارع قد أذن في الإقدام عليه، مع قضاء الضرورة بامتناع صدور الإذن في ارتكاب القبيح منه.

أو إشارة إلى: أن التخلص بإذن الشارع في الشبهة الموضوعية عن قبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته يخرجنا عن التمسك بالدليل العقلي على البراءة، و يحوجنا في الجواب عن تلك القاعدة إلى الترخيص الشرعي.

هذا تمام الكلام في الأدلة الأربعة التي أقيمت على جريان البراءة في الشبهة البدوية - وجوبية كانت أم تحريمية، موضوعية أم حكمية - من غير فرق في الشبهة الحكمية بين كون سبب الشبهة إجمال النص أو فقدانه أو تعارض النصين، كل ذلك لإطلاق أدلة البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور تالية:

1 - تقريب الاستدلال العقلي على البراءة يتوقف على مقدمة و هي:

(2) لعله إشارة إلى أن إذن الشارع في ارتكاب محتمل المفسدة لا يكون شاهدا على عدم قبحه ارتكابه؛ إذ من الممكن إذنه في ارتكاب محتمل المفسدة مع بقائه على قبحه، غاية الأمر: أن إذنه فيه سبب لتدارك قبحه و لو بالمصلحة التسهيلية، أو كاشف عن وجود المزاحم الأهم أو المساوي، أو إشارة إلى تفريق العقلاء بين المفاسد المحتملة، ففي بعضها لا يجيزونها و لا يقدمون عليها؛ لأن المفسدة المحتملة كبيرة. هذا بخلاف المفاسد الجزئية.

أولا: أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما يكون دليلا على البراءة، بناء على ما هو مذهب العدلية من القول بالحسن و القبح العقليين.

و أما بناء على قول الأشاعرة الذين لا يقولون بهما: فلا يكون دليلا على البراءة؛ إذ لا قبح حتى يحكم به العقل.

و ثانيا: بأن يكون المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لحكم العقل بقبح العقاب هو البيان الواصل إلى المكلف؛ لا البيان الواقعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك: حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد فحصه موارد وجود التكليف، و عدم وجدانه دليلا عليه، فيكون حينئذ

ص: 182

معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول؛ لأن فوت التكليف حينئذ مستند إلى عدم البيان من المولى؛ لا إلى تقصير من المكلف.

2 - الإشكال على هذه القاعدة بقاعدة عقلية ثانية: - و هي وجوب دفع الضرر المحتمل - فيقال في تقريب الإشكال: بأن القاعدة الثانية تصلح للبيانية، فتكون واردة على القاعدة الأولى، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها.

و حاصل جواب المصنف عن هذا الإشكال: أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل؛ إذ بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان تنفي احتمال الضرر الأخروي، بمعنى العقاب، فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل؛ إذ ليس هناك احتمال الضرر الأخروي أصلا.

و أما الضرر الدنيوي و إن كان محتملا؛ إلا إنه مما لا يجب دفعه لا عقلا و لا شرعا.

3 - الإشكال بأن هناك قاعدة ثالثة: - و هي حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته - واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فيقال في تقريب هذا الإشكال: إن احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة، و احتمال المفسدة كالعلم بها مما يجب دفعه، فاحتمال الحرمة يجب دفعه بالاجتناب عن محتمل الحرمة، فتكون هذه القاعدة بيانا للمشكوك، و صالحة لرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

مدفوع: بأن استقلال العقل بقبح الإقدام على محتمل المفسدة، و أنه كالإقدام على معلوم المفسدة ممنوع بوجهين:

الأول: شهادة الوجدان و جريان ديدن العقلاء على عدم التحرز عن محتمل المفسدة، و لزوم التحرز على معلوم المفسدة.

الثاني: أنه قد أذن الشارع في الإقدام على المفسدة المحتملة في الشبهات الموضوعية.

«فتأمل» لعله إشارة إلى فرق العقلاء بين المفاسد الكبيرة و الصغيرة، فحكمهم بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته إنما هو في القسم الأول دون الثاني.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو تمامية الاستدلال بالدليل العقلي على البراءة.

فيصح الاستدلال بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على البراءة.

ص: 183

و احتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالأدلة الثلاثة (1):

أما الكتاب (2): فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم، و عن الإلقاء في التهلكة و الآمرة بالتقوى.

=============

في أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط

اشارة

في أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط(1) يعني: «الكتاب - السنة - العقل».(2) استدل الأخباريون بطوائف من الآيات على وجوب الاحتياط:

الأولى: ما دل على النهي عن القول بغير علم، كقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)، و قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (2).

الثانية: ما دل على النهي عن الإلقاء في التهلكة، كقوله تعالى: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (3).

الثالثة: ما أمر فيها بالتقوى، كقوله تعالى: اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ (4)، و قوله تعالى:

فَاتَّقُوا اَللّٰهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ (5) هذا مجمل الكلام في الآيات.

و أما تفصيل الكلام فيها فيقع في مقامين:

المقام الأول: تقريب الاستدلال بهذه الآيات على وجوب الاحتياط.

المقام الثاني: في الجواب عن الاستدلال بها على الاحتياط.

و أما تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى على وجوب الاحتياط:

و أما الجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: فتارة: بالنقض، و أخرى بالحل.

فلأن الحكم بجواز ارتكاب محتمل الحرمة و نسبته إلى الشارع افتراء على الشارع، فيكون تشريعا محرما، و كذلك القول بالإباحة في محتمل الحرمة قول بغير علم، فيكون محرما بهذه الطائفة من الآيات.

أما النقض: فيقال: لو كان الحكم بجواز ارتكاب محتمل الحرمة قولا بغير علم لكان القول بوجوب الاحتياط فيه أيضا قولا بغير علم.

و أما الحل: فلأن الحكم بالجواز استنادا إلى ما مر من الأدلة ليس قولا بغير علم؛ لأن

ص: 184


1- الإسراء: 36.
2- الأعراف: 33.
3- البقرة: 195.
4- آل عمران: 102.
5- التغابن: 170.

و الجواب: إن القول بالإباحة شرعا و بالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم؛ لما دل على الإباحة من النقل و على البراءة من حكم العقل، و معهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، و لا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.

=============

الترخيص في محتمل الحرمة حكم ظاهري ثابت بأدلة قطعية، بل القول بغير علم صادق في الحكم بوجوب الاحتياط لعدم دليل عليه.

و أما تقريب الاستدلال بالطائفة الثانية على وجوب الاحتياط: فلأن ارتكاب الشبهة التحريمية يكون من الإلقاء في التهلكة، فيكون محرما، فلا بد من الاحتياط في المشتبه، و هو المطلوب.

و أما الجواب عنها: فلأن المراد من التهلكة: إن كان هو العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة، فدليل البراءة وارد على الآية كوروده على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

و إن كان هو الضرر الدنيوي: فمضافا إلى كون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاحتياط، فإنه ليس كل ضرر دنيوي يعدّ تهلكة؛ بل التهلكة ما يؤدي إلى الموت، و من المعلوم: أن المحرمات المحتملة لا يحتمل فيها الضرر بهذا المعنى.

و أما تقريب الاستدلال بالطائفة الثالثة على وجوب الاحتياط: فلأن الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى، و كل ما كان كذلك واجب ينتج: «الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب».

و أما الجواب عنها: فلأن ارتكاب محتمل الحرمة لا يكون منافيا للتقوى؛ لأن التقوى عبارة عن ترك ما نهى الشارع عنه، و فعل ما أمر به.

و أما محتمل الحرمة الذي لا يوجد دليل على حرمته و رخص الشارع على ارتكابه:

فارتكابه لا ينافي التقوى. هذا مضافا إلى أن آيات التقوى تدل على استحباب الاتقاء، فتكون خارجة عن المقام؛ لأن النزاع إنما هو في وجوب الاحتياط. و أما استحبابه فهو مورد للاتفاق.

فالمتحصل: أنه بعد دلالة الدليل العقلي و النقلي على البراءة لا يكون فعل محتمل الحرمة مخالفا للتقوى، و لا موجبا للتهلكة بمعنى العقوبة، و لا الحكم بجواز ارتكابه قولا بغير علم.

و لهذا يقول المصنف «قدس سره»: «إن القول بالإباحة شرعا و بالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم...» الخ.

ص: 185

و أما الأخبار (1): فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللا في بعضها: بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الأخبار الكثيرة الدالة عليه

=============

الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط

الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط(1) و قد أشار المصنف «قدس سره» إلى طائفتين من الأخبار

إحداهما: هي الأخبار الدالة على مطلوبية التوقف مطابقة لاشتمالها على مادة الوقوف.

ثانيتهما: هي الأخبار الدالة على التوقف التزاما؛ لعدم اشتمالها على مادة الوقوف؛ بل هي الآمرة بالكف و التثبت عند الشبهة، و لازم الكف عن الشبهة هو: التوقف و عدم الدخول في الشبهة.

و أما تقريب الاستدلال: بأخبار التوقف المعللة - مثل قوله «عليه السلام» في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد تكافؤ المرجحات في الخبرين المتعارضين - «فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1)، فيتوقف على مقدمة: و هي بيان أمور:

الأولى: ما دل على وجوب التوقف.

الثانية: ما دل على وجوب الاحتياط.

ثم الطائفة الأولى: - و هي الأخبار الآمرة بالتوقف - على طائفتين:

الأول: أن كلمة «خير» و إن كانت من صيغ التفضيل إلا إنها منسلخة هنا عن التفضيل، فلا يكون المراد منها التفضيل في هذه الأخبار؛ إذ لا خير في الاقتحام في الهلكة حتى يكون معناها: أن الخير في الوقوف عند الشبهة أكثر من الاقتحام فيها.

الثاني: أن يكون المراد بالتوقف التوقف العملي أي: مطلق السكون و عدم المضي في ارتكاب الفعل، فوجوب التوقف بهذا المعنى معناه: وجوب الاحتياط في موارد الشبهة.

الثالث: أنه لا بد من السنخية بين العلة و المعلول، بمعنى: أنه لا يصح تعليل الحكم التحريمي بعلة جائزة لعدم السنخية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ظهور المقبولة و ما بمضمونها في وجوب التوقف و الاحتياط واضح؛ إذ يستفاد من التعليل: وجوب التوقف في كل شبهة، و معنى التوقف:

عدم الحركة بارتكاب الشبهة، و هو مدعى الأخباريين.

ص: 186


1- الكافي 67:1 /ذيل ح 10، الفقيه 8:3 /ذيل 3233، تهذيب الأحكام 301:6 /ذيل ح 845.

مطابقة أو التزاما، و بما (1) دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة (2).

و الجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية (3)، مع دلالة النقل على الإباحة، و حكم العقل بالبراءة كما عرفت.

=============

و أما من الأخبار الدالة على التوقف التزاما: فهي موثقة حمزة بن طيار: أنه عرض على أبي عبد الله «عليه السلام» بعض خطب أبيه «عليه السلام»، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: «كف و اسكت»، ثم قال أبو عبد الله «عليه السلام»: «إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه و التثبت و الرد إلى أئمة الهدى؛ حتى يحملوكم فيه على القصد، و يجلوا عنكم فيه العمى و يعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ (1)»(2).

و دلالة هذه الرواية و ما بمضمونها على وجوب التوقف التزاما عند الشبهة واضحة؛ إذ لازم الكف و التثبت هو: التوقف من حيث العمل، و السؤال من أهل الذكر و هم الأئمة «عليهم السلام»؛ على ما في بعض التفاسير(3).

(1) عطف على «بما» في قوله: «فبما دل»، و هذا إشارة إلى الطائفة الثانية من الأخبار التي تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية.

(2) و الظاهر: أن مراده «قدس سره» من الألسنة المختلفة هو: دلالتها على وجوب الاحتياط مطابقة و التزاما.

فالأول: هو ما اشتمل منها على مادة الاحتياط بهيئات مختلفة مثل: «احتط» و «فعليكم بالاحتياط»(4) و «خذ بالحائطة لدينك»(5)، و نحوها.

و الثاني: - و هو ما دل على وجوب الاحتياط التزاما مثل: ما ورد من النهي عن القول - يعني: الإفتاء - بغير علم، فيدل بالالتزام على وجوب الاحتراز عن المشتبه عملا، و عدم جواز الاقتحام فيه.

(3) هذا جواب عن أخبار التوقف المشتملة على التعليل، و حاصله: - على ما في

ص: 187


1- النحل: 43، الأنبياء: 7.
2- الكافي 10/50:1، الوسائل 33113/25:27.
3- تفسير العياشي 160/117:2، 30/260، 32 تفسير القمي 86:2، تفسير فرات: 316/315/235، مجمع البيان 73:7.
4- الكافي 291:1 /ذيل ح 1، تهذيب الأحكام 417:5 /ذيل ح 1639.
5- تهذيب الأحكام 259:2 /ذيل ح 1031، الوسائل 4840/176:4.

و ما دل على وجوب الاحتياط (1) لو سلم و إن كان واردا على حكم العقل فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.

=============

تقريب الدور: أن وجوب التوقف متوقف على الهلكة؛ لأنه معلول لها، و الهلكة متوقفة على البيان؛ لقبح العقاب بدونه، فلو توقف البيان على وجوب التوقف كان وجوب التوقف متوقفا على وجوب التوقف و هو الدور.

و المراد من «النقل» من قوله: «مع دلالة النقل على الإباحة»: هي أحاديث الرفع و الحل و السعة الدالة على إباحة ما لا تعلم حرمته ظاهرا؛ «كما عرفت» في أدلة البراءة.

و من هنا يظهر الجواب عن الأخبار التي تدل على وجوب التوقف التزاما.

و هناك وجوه أخرى في الجواب تركناها رعاية للاختصار.

(1) إشارة إلى الجواب عن أخبار الاحتياط مطلقا، سواء دلت على الاحتياط مطابقة أو التزاما. و الأول: مثل قول أمير المؤمنين «عليه السلام» لكميل بن زياد: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»، و الثاني: ما ورد من النهي عن القول بغير علم.

«منتهى الدراية، ج 5، ص 333» - أن هذه الروايات أجنبية عن إثبات وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص.

بيان ذلك: أن هذه الروايات مشتملة على موضوع و هو الهلكة، المراد بها - بقرينة بعضها كمقبولة عمر بن حنظلة - العقوبة؛ إذ النهي الظاهر في التحريم لا يكون إلا عما هو حرام، و الحرمة توجب استحقاق العقوبة لا الهلكة الدنيوية كما هو واضح، و على محمول و هو وجوب التوقف المستفاد من الأمر به بمثل قوله «عليه السلام»: «قفوا عند الشبهة»، و قوله: «فإن الوقوف خير...»(1) الخ. بالتقريب المتقدم، و لا ريب في: أن نسبة المحمول إلى الموضوع كنسبة المعلول إلى العلة في تأخره عنها رتبة، فلا بد حينئذ من وجود العقوبة قبل الأمر بالتوقف حتى ينبعث عنها الأمر به، و هذا يختص بما إذا أحرز من الخارج ما يصحح العقوبة عليه، و هو منحصر في الشبهة البدوية قبل الفحص، و الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. و أما في المقام، فبما أن المقصود إجراء البراءة بعد الفحص و اليأس من الدليل؛ لما دل من الدليل العقلي و النقلي على جريانها بعد إحراز عدم البيان، فلا مانع من إجراء البراءة. و لا يمكن إثبات البيان بنفس أخبار التوقف؛ لأنه مستلزم للدور كما لا يخفى.

و كيف كان؛ فحاصل ما أفاده المصنف في الجواب يرجع إلى وجوه ثلاثة:

ص: 188


1- المحاسن 102/215:1، الكافي 1/50:1، و فيهما «الوقوف عند الشبهة».

الأول: ما أشار إليه بقوله: «لو سلم»، و توضيحه: أن أوامر الاحتياط مثل: «وقفوا عند الشبهة»، و «عليكم بالكف و التثبت»، و «خذ بالحائطة لدينك»، و «و عليكم بالاحتياط» و نحوها؛ و إن كانت ظاهرة بدوا في الوجوب المولوي المستلزم لترتب المثوبة على موافقته و العقوبة على مخالفته؛ إلا إنها تصرف عن هذا الظهور إلى الإرشاد أو الطلب المولوي الجامع بين الوجوب و الندب أو الاستحباب، كقوله «عليه السلام» في مرفوعة أبي شعيب: «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(1)، و قوله «عليه السلام»: «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»(2)، و قوله «عليه السلام»: «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك»(3).

و أما ما لا بد من حمله على الطلب الجامع: فمثل قوله «عليه السلام»: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(4)، و قوله «عليه السلام»: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» و نحوهما، فإن حمل هذه الروايات على الوجوب مستلزم لارتكاب التخصيص بإخراج الشبهات الوجوبية و الموضوعية عنها؛ لاعتراف الأخباريين بعدم وجوب الاحتياط فيها، مع أن سياقها آب عن التخصيص، و حملها على الاستحباب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط مما تنجّز فيه التكليف و دار المكلف به بين أطراف محصورة، و عليه: فتتعيّن إرادة مطلق الرجحان الجامع بين الوجوب و الاستحباب، فالاحتياط واجب في بعض الموارد كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، و مستحب في بعض الموارد كالشبهات البدوية بعد الفحص.

نعم؛ مع الغض عما تقدم و البناء على الأخذ بظواهر أوامر الاحتياط في الوجوب المولوي: يكون ما دل على وجوبه واردا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، و رافعا لموضوعه؛ لوجود البيان الظاهري المصحح للعقوبة على مخالفته. هذا ما أشار إليه بقوله:

«لو سلم» يعني: لو سلم دلالتها على الوجوب، و لم نقل بوجود قرائن تدل على أن الأمر فيها للاستحباب أو الإرشاد. «و إن كان واردا على حكم العقل...» الخ.

ص: 189


1- الخصال: 56:16، الوسائل 33492/162:27.
2- نهج البلاغة 26:4 /جزء من 113، الوسائل 33486/161:27.
3- صحيح البخاري 4:3.
4- المحاسن 102/275:1، الكافي 9/50:1، تهذيب الأحكام 474:7 /ذيل ح 924، الوسائل 255:20 /ذيل ح 25573.

و لا يصغى إلى ما قيل (1): من «أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن قوله: «فإنه كفى بيانا» تعليل للورود على حكم العقل، يعني: فإن ما دل على وجوب الاحتياط كاف في البيانية على التكليف المحتمل لتنجزه به.

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب عن أخبار التوقف و الاحتياط.

و القائل هو الشيخ الأنصاري، و قد أجاب بهذا الوجه عن خصوص أخبار التوقف، فإنه «قدس سره» بعد أن أجاب عن تلك الأخبار - بحمل الأمر على الطلب المشترك بين الوجوب و الندب أورد على نفسه إشكالا حاصله: استكشاف وجوب الاحتياط شرعا، حيث قال ما هذا لفظه: «فإن قلت: إن المستفاد منها - يعني: من الأخبار - احتمال التهلكة في مخالفة كل محتمل التكليف - إلى أن قال - فيكشف هذا الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل الجهل، و لازم ذلك إيجاب الشارع الاحتياط؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح، فيكون إيجاب الاحتياط طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لكونه بيانا.

ثم أجاب عنه بقوله: «قلت: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول و هو قبيح كما اعترف به. و إن كان حكما ظاهريا نفسيا: فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته؛ لا مخالفة الواقع، و صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية»(1). انتهى.

و حاصل الجواب: أن إيجاب الاحتياط لا يمكن أن يكون طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

توضيح ذلك: إن إيجاب الاحتياط شرعا إن كان لأجل التحرز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول لكان قبيحا؛ إذ على هذا كان العقاب على التكليف المجهول عقابا بلا بيان إذا المفروض: لا بيان له؛ لأن إيجاب الاحتياط لا يرفع الجهل بالواقع، فيكون العقاب عليه عقابا على المجهول، و هو قبيح عقلا كما اعترف به المستشكل نفسه و إن كان إيجاب الاحتياط نفسيا، لوجود ملاك في نفس الاحتراز عن الشبهة و مع الغض عن الحكم الواقعي المجهول: فاللازم ترتب العقاب على مخالفته لا مخالفة الواقع، و هذا المعنى و إن كان صحيحا في نفسه إلا إنه غير مقصود للأخباريين، حيث إنهم التزموا بدلالة أخبار التوقف و الاحتياط في الشبهات لأجل الاحتراز عن الهلكة المحتملة المترتبة على الاقتحام في الشبهات؛ لا لأجل الاحتراز عن مخالفة الاحتياط، و هذا البيان

ص: 190


1- فرائد الأصول 71:2.

عقاب الواقع المجهول: فهو قبيح (1)، و إن كان نفسيا: فالعقاب على مخالفته (2) لا على مخالفة الواقع (3)»؛ و ذلك (4) لما عرفت من: أن إيجابه يكون طريقيا،...

=============

ظاهر في مطلوبية الاحتياط في نفسه، و ليس كذلك؛ بل الغرض منه هو التحفظ على الأحكام الواقعية.

و الحاصل: أنه - مع بطلان كل من الاحتمالين في استفادة وجوب الاحتياط شرعا من الأخبار المتقدمة - لا محيص عن حملها على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام الشيخ «قدس سره».

(1) لأن الشيء المجهول لا عقاب عليه؛ لما تقدم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ لا يرتفع بإيجاب الاحتياط شرعا ما هو مناط قبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول و هو الجهل به؛ كحرمة شرب التتن، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان. و ضمير «فهو» راجع على ترتب العقاب على المجهول المستفاد من سياق الكلام.

(2) أي: مخالفة الاحتياط لكونه حينئذ ذا مصلحة في نفسه، مع الغض عن الواقع مثل: حصول ملكة التقوى له، كما ربما يستفاد ذلك من مثل قوله «عليه السلام»: «فهو لما استبان له من الإثم أترك». و ضمير «مخالفته» راجع على الاحتياط.

(3) مع أن مقصود الأخباريين - كما عرفت - كون مخالفة الاحتياط موجبة للوقوع في الهلكة من ناحية التكليف المحتمل؛ لا على مخالفة نفس الاحتياط بما هو.

و كيف كان؛ فعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الاحتياط طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(4) تعليل لقوله: «و لا يصغى» يعني: أن وجه عدم الإصغاء إلى ما قيل ما عرفت من «أن إيجابه يكون طريقيا». فهذا رد لجواب الشيخ «قدس سره» عما أورده على نفسه من الإشكال المتقدم، و قد عرفت الإشكال مع جوابه.

و توضيح هذا الرد من المصنف على الشيخ «قدس سرهما»: أن الأمر المولوي بالاحتياط - على فرض تسليم وجوبه شرعا - لا ينحصر في القسمين الباطلين أعني:

النفسي و المقدمي؛ ليبطل وجوب الاحتياط، و تجري أدلة البراءة بلا معارض، بل هناك قسم آخر منه - و هو الوجوب الطريقي بمعنى إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول؛ بأن يكون الغرض من إنشاء وجوب الاحتياط إقامة الحجة على التكليف الواقعي المجهول؛ بحيث توجب تنجزه و حفظه حال الجهل به، لاهتمام الشارع

ص: 191

و هو (1) عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو (2) الحال في أوامر الطرق و الأمارات و الأصول العملية؛ إلا إنها تعارض بما هو أخص و أظهر، ضرورة: أن ما دل على حلية المشتبه أخص؛ بل هو في الدلالة على الحلية بمصلحته، و حينئذ: فإذا خالفه و اتفق مصادفته للواقع استحق العقوبة على ذلك؛ لصدق العصيان عليه بعد تنجزه على المكلف بإيجاب الاحتياط، فالعقاب حينئذ على الواقع المجهول عقاب مع البيان، و عليه: فتكون أدلة إيجاب الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لصلاحيتها للبيانية، فلا يحكم العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان و قبح العقاب مع إيجاب الاحتياط كما يحكم به بدونه.

=============

(1) هذا الضمير و ضمير «به» راجعان على الإيجاب الطريقي.

(2) أي: كما يصح الاحتجاج من المولى على عبده على مخالفة الواقع بسبب الأمر بسلوك الطرق و الأصول المثبتة، و لا يقبح المؤاخذة عليها، فكذا لا يقبح العقاب على المخالفة بسبب إيجاب الاحتياط؛ لأن جميعها قد وضع طريقا لدرك مصلحة الواقع، و مع ذلك فإنها كلها واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و لا فرق بين الاحتياط شرعا في الشبهة البدوية - إذا قلنا به - و الاحتياط عقلا في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

و كيف كان؛ فالحق في الجواب أن نقول: إن أخبار الاحتياط و إن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان «إلا إنها تعارض بما هو أخص» منها «و أظهر». و ضمير «أنها» راجع على أخبار الاحتياط المستفاد من قوله: «و ما دل على وجوب الاحتياط»، و هذا استدراك على قوله: «و إن كان واردا على حكم العقل»، و إشارة إلى الوجه الثالث من الجواب عن تلك الأخبار.

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 346» - أن أخبار الاحتياط - بناء على ظهورها في الوجوب المولوي - و إن كانت واردة على قاعدة القبح؛ لصلاحيتها للبيانية كما عرفت، و لا يبقى معها موضوع للبراءة العقلية؛ إلا إنها معارضة بأخبار البراءة، و يتعين تقديمها على أخبار الاحتياط لوجهين:

أحدهما: أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط، و من البديهي:

تقدم الخاص على العام.

و الآخر: أظهريتها في الدلالة على حلية المشتبه من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهات.

و أما توضيح الوجه الأول: فلأن ما دل على البراءة و حلية المشتبه مثل قوله: «كل

ص: 192

شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»، و «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»، و حديث الرفع و السعة و نحوها، لا يشمل الشبهات قبل الفحص؛ إذ لا خلاف بين الأصولي و الأخباري في وجوب الاحتياط فيها، و إنما الخلاف بينهما في وجوبه فيها بعد الفحص.

و ما دل على وجوب الاحتياط مثل قوله «عليه السلام»: «فعليكم بالاحتياط» يدل عليه مطلقا، يعني: قبل الفحص و بعده، فيكون أعم مما دل على البراءة، و لا ريب في وجوب تخصيص العام بالخاص، فيخصص ما دل على وجوب الاحتياط بما دل على البراءة.

فالنتيجة: أنه يجب الاحتياط في كل شبهة إلا في الشبهات البدوية بعد الفحص، و هو المطلوب.

و أما توضيح الوجه الثاني: فلأنه - مع الغض عن أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط، و تسليم أن الموضوع في كل منهما عنوان المشتبه و المجهول - يتعين تقديم أخبار البراءة عليها بمناط الأظهرية، ضرورة: أن دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التوقف و الاحتياط عن الشبهات مستندة إلى ظهور هيئة «افعل» في قولهم «عليهم السلام»: «احتط لدينك» في الوجوب، و لا شك في عدم صراحة الصيغة فيه، و هذا بخلاف أدلة البراءة، فإنها إما نص في حلية مشتبه الحكم مثل حديث الحل الوارد فيه «فهو حلال»، و ما أظهر في البراءة مثل حديث الرفع و السعة و نحوهما.

فإنها لو لم تكن نصا في الترخيص فلا أقل من كونها أظهر فيه من دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التحرز عن المشتبه، و من المقرر في محله: تقدم الأظهر على الظاهر، و عدم ملاحظة قواعد التعارض بينهما.

و عليه: فتقدم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط بمناط الأظهرية.

هذا على ما هو الموجود في المتن من عطف «أظهر» على «أخص» بالواو، و أما بناء على كون العطف ب «أو» كما في بعض النسخ فمعنى العبارة: أن تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط مستند إلى أحد الوجهين على سبيل منع الخلو، يعني: أن أدلة البراءة قرينة على التصرف في أدلة الاحتياط فتقدم عليها؛ إما لأن موضوعها أخص من موضوع أدلة الاحتياط، و إما لأنها أظهر في الترخيص من أدلة الاحتياط في وجوب التحرز.

قوله: «ضرورة» بيان لقوله: «أنها تعارض بما هو أخص و أظهر».

ضمير «هو» في قوله: «بل هو في الدلالة» راجع على «ما» الموصول، يعني: أن

ص: 193

نص، و ما دل (1) على الاحتياط، غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط. مع (2) أن هناك الأخصية و إن كانت ملازمة غالبا للأظهرية، إلا إن في المقام خصوصية تجعل أخبار البراءة نصا في الترخيص، و تلك الخصوصية عبارة عن كون الدال على البراءة هي المواد مثل: «حلال و مطلق و سعة» و نحوها دون الهيئات، فإنه ليس شيء أوضح دلالة على الحلية و الترخيص من مثل قوله «عليه السلام»: «فهو حلال»، بخلاف الهيئات كما في أدلة الاحتياط، فإن هيئة «افعل» كما في قوله «عليه السلام»: «احتط لدينك» ليست أكثر من كونها ظاهرة في الوجوب.

=============

(1) عطف على «ما دل» و وجه ظهورها في وجوب الاحتياط ما عرفت من دلالة الهيئة عليه، و من المعلوم: أن الهيئة ظاهرة في الوجوب، و ليست نصا فيه، فيمكن رفع اليد عنه بقرينة ما هو نص أو أظهر منه، كما هو الحال في رفع اليد عما هو ظاهر في الوجوب بقرينة الاستحباب، فتحمل أوامر الاحتياط على الفضل.

(2) يعني: أن ما ذكرناه إلى هنا من تقديم أخبار البراءة على أدلة الاحتياط بمناط الأخصية أو الأظهرية إنما هو مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الطلب المولوي، حتى تصل النوبة إلى علاج المانع، و هو تعارضها مع أدلة البراءة بتقديمها على أدلة الاحتياط بالجمع الدلالي، و لكن لا مجال لهذا الجمع بعد قصور أخبار الاحتياط عن إثبات الطلب المولوي و لو الاستحبابي منه، و ذلك لوجود قرائن داخلية و خارجية دالة على أن الأمر بالاحتياط للإرشاد. و ضمير «أنه» راجع على ما دل على وجوب الاحتياط.

ثم إن سياق كلام المصنف يقتضي جعل - قوله: «مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد» - جوابا عن خصوص أخبار الاحتياط؛ لأنه ذكره في ذيل الجواب عنها، لكن بعض القرائن التي أقامها على كون الأمر به للإرشاد غير مختص بها؛ بل يختص بعضها بأخبار الوقوف.

و عليه: فيمكن أن يكون نظره - و إن كان خلاف ظاهر عبارته - إلى الجواب عن مجموع أخبار الوقوف و الاحتياط.

و كيف كان؛ فهذه القرائن هي التي نبه عليها الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و هي بين ما يشترك فيها جميع الأخبار، و بين ما تختص ببعضها و هي - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 356» - كثيرة:

القرينة الأولى: لزوم محذور تخصيص الأكثر لو لم يكن الأمر للإرشاد.

بيانه: أن موضوع الأمر بالتوقف و الاحتياط هو الشبهة، و الأخذ بظاهره من الطلب

ص: 194

المولوي اللزومي مستلزم لتخصيص الأكثر، ضرورة: أن عنوان «الشبهة» صادق على الشبهات مطلقا يعني: الحكمية و الموضوعية، الوجوبية منهما و التحريمية. و قد اتفق الفريقان على جريان البراءة في غير الحكمية التحريمية، فيلزم حينئذ تخصيص الأكثر؛ لخروج أكثر الشبهات عن موضوع الأمر بالتوقف و الاحتياط. و هي الشبهات الموضوعية مطلقا و الشبهات الحكمية الوجوبية، و من المعلوم: أن تخصيص الأكثر مستهجن، فلا يصار إليه. كما أن حمل الأمر بهما على الندب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فلا مناص عن حمله على الإرشاد المطلق، فيكون إرشادا إلى وجوب الاحتياط في مورد وجوبه و هو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، و إلى استحبابه في غيرها.

القرينة الثانية: إباء سياقها عن التخصيص.

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 357» - أنك قد عرفت آنفا عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الوجوبية و الموضوعية مطلقا؛ و لو كان الأمر به مولويا، و حينئذ: فلو كان الأمر بالتوقف و الاحتياط للطلب المولوي اللزومي، فلا بد من ارتكاب التخصيص في تلك الأخبار بأن يقال: «لا خير في الاقتحام في الهلكة بارتكاب الشبهات إلا إذا كانت الشبهة موضوعية مطلقا أو حكمية وجوبية»، مع أن سياقها آب عن التخصيص؛ و ذلك لأن مقتضى تخصيصها بها أن في ارتكابها - يعني:

الشبهات الموضوعية و الوجوبية - الخير، و هذا لا معنى له، و عليه: فحيث أن كلمة خير منسلخة هنا عن التفضيل كما عرفت فيتعين - بمقتضى هذا التعليل - الاجتناب عن جميع الشبهات؛ إذ المعنى على تقدير الانسلاخ: إن الوقوع في الهلكة لا خير فيه أصلا؛ بل الخير كله في الوقوف عند الشبهة و عدم الاقتحام فيها. و لكن المحدثين لما اعترفوا بورود الترخيص في ارتكاب بعض الشبهات فلا مناص عن حمل الأمر في تلك الأخبار على الإرشاد حتى يتبع المرشد إليه في الوجوب الاستحباب.

هذا في أخبار الوقوف، و كذا قوله «عليه السلام» في خبر التثليث: «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات»، فإن الشبهة الموضوعية التي تجري فيها أدلة البراءة ليست قسما رابعا، لأن ظاهر الحديث حصر الأمور في ثلاثة أقسام: الحلال البين و الحرام البيّن و الشبهات، و لا شك: في اندراج الشبهة الموضوعية في القسم الثالث، و مقتضاه:

الاحتياط فيها، و قد التزم الكل بالبراءة فيها، مع أنها ليست من الحلال البين قطعا، فلا

ص: 195

قرائن دالة على أنه للإرشاد، فيختلف (1) إيجابا و استحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه،. و يؤيده (2): أنه (3) لو لم يكن للإرشاد لوجب (4) تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات (5) إجماعا، مع أنه (6) آب عن التخصيص قطعا.

كيف (7) لا يكون قوله: «قف عند الشبهة، فإن الوقوف عند الشبهة خير من يقال: «من ترك الشبهات إلا الموضوعية نجا من المحرمات»؛ لأن مقتضى الحصر الاقتصار على الحلال البين فقط، و لا مفر عن هذا المحذور غير الحمل على الإرشاد.

=============

القرينة الثالثة: ظهور قوله «عليه السلام»: «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم» في ترتب الهلكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف، و حيث لا عقوبة على مخالفة الأمر لم يكن مولويا، فيكون للإرشاد لا محالة.

و الأمر الإرشادي ما لا يترتب على مخالفته عقاب غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك و العقاب المحتمل فيها.

هذه جملة من القرائن التي تستفاد من مجموع كلمات الشيخ الأنصاري «قدس سره»، و قد أشار في المتن إلى بعضها.

و تركنا ذكر جميع القرائن رعاية للاختصار.

(1) الضمير المستتر راجع على الأمر المستفاد من قوله: «و ما دل على الاحتياط».

(2) أي: و يؤيد كون الأمر بالاحتياط للإرشاد «أنه لو لم يكن للإرشاد...» الخ.

و هذا إشارة إلى إحدى قرائن الإرشاد و هي القرينة الثانية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(3) الضمير للشأن، و ضميرا «يكن، تخصيصه» راجعان على الأمر بالاحتياط.

المستفاد من قوله: «ما دل».

(4) جواب الشرط، و المعنى واضح، و الضمير المستتر فيه راجع على عدم كون الأمر للإرشاد المدلول عليه ب «لو لم يكن».

(5) المراد من بعض الشبهات هي: الشبهة الموضوعية مطلقا و الحكمية الوجوبية، و قوله: «إجماعا» متعلق ب «لوجب تخصيصه».

(6) يعني: مع أن ما دل على الاحتياط آب عن التخصيص قطعا؛ لما سيذكره بقوله:

«كيف لا يكون ؟».

(7) هذا إشارة إلى قرينة أخرى على الإرشاد، و تختص بأخبار الوقوف المعللة، و توضيحها: أن المراد بالهلكة ما يرجع إلى المكلف في الآخرة و هو العقوبة، و مقتضى

ص: 196

الاقتحام في الهلكة» للإرشاد؟ مع أن الهلكة ظاهرة في العقوبة، و لا عقوبة في الشبهة البدوية (1) قبل إيجاب الوقوف و الاحتياط، فكيف يعلل إيجابه (2) بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ؟

=============

التعليل بقوله: «فإن الوقوف»: كون الهلكة ثابتة قبل إيجاب الاحتياط؛ لأن الهلكة في هذه الأخبار موضوع للحكم بوجوب التوقف، و من المعلوم: تقدم الموضوع على الحكم؛ لأنه كالعلة له، فلا بد أن تكون العقوبة مفروضة الوجود قبل الأمر بالتوقف حتى يكون إيجابه لأجل التحرز عنها، و من الواضح: أن هذه الهلكة ليست على مخالفة الإلزام الواقعي المجهول؛ لقضاء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقبحها، فلا بد أن تكون على التكليف المنجز بغير الأمر بالتوقف، و إلا لزم الدور - كما سيأتي - و حينئذ: فيختص الأمر بالتوقف بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، و الشبهة البدوية قبل الفحص، و يكون الأمر بالاحتياط إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه؛ لتنجز الواقع بالعلم الإجمالي، و لا مساس له بالشبهة البدوية بعد الفحص.

نعم؛ إذا كان أمر الاحتياط نفسيا لا إرشادا إلى التحفظ على الأحكام الواقعية ترتب استحقاق العقوبة على مخالفته؛ لكن لازمه أجنبية التعليل عن المعلل؛ لعدم كون التوقف في الشبهة البدوية بعد الفحص معلولا للعقوبة الواقعية؛ بل واجبا مستقلا مستتبعا للمؤاخذة على مخالفة نفسه، مع أن ظاهر التعليل بقوله «عليه السلام»: «فإن الوقوف عند الشبهة...» هو التحرز عن عقوبة التكليف الواقعي المجهول، و قد عرفت: أن لازم ذلك وجود الهلكة قبل الأمر بالاحتياط حتى يحسن الإرشاد إليه بالأمر بالتوقف.

قوله: «للإرشاد» خبر لقوله: «لا يكون».

(1) لاعتراف المحدثين بكونه من العقاب بلا بيان المتسالم قبحه و عدم صدوره من الحكيم؛ لكنهم يدعون وجود التكليف الظاهري و هو وجوب الاحتياط.

(2) هذا الضمير و ضمير «بأنه» راجعان على الوقوف و الاحتياط يعني: بعد أن اتضح لزوم كون الهلكة مفروضة الوجود قبل الأمر بالاحتياط؛ لأنها علة لوجوده، فلا يعقل تأخرها عنه و نشوؤها منه لاستلزامه الدور، بتقريب: أن الهلكة - لكونها علة لإيجاب الاحتياط - مقدمة عليه رتبته كتقدم سائر العلل على معاليلها، فلو ترتبت الهلكة على إيجاب الاحتياط كما هو مدعى الخصم - حيث يدعي ترتب العقوبة على ترك الاحتياط؛ لأنه يعترف بقبح المؤاخذة على التكليف المجهول - كانت مؤخرة عنه و هو

ص: 197

لا يقال (1): نعم؛ و لكنه يستكشف منه على نحو الإن إيجاب الاحتياط من قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة.

=============

الدور، لتوقف إيجاب الاحتياط على الهلكة، و توقف الهلكة على إيجاب الاحتياط، فلا بد من القول بعدم ترتب الهلكة على الأمر بالتوقف و الاحتياط، و الالتزام بترتبها على التكليف المنجز بغير الأمر بهما؛ دفعا لمحذور الدور، فإذا لم تترتب الهلكة عليه كان الأمر للإرشاد.

و بالجملة: لا يصح جعل الهلكة علة لإيجاب الاحتياط مع فرض ترتب الهلكة عليه كما يدعيه الخصم؛ لاستلزامه - بمقتضى تقدم العلة على المعلوم - أن يكون كل منهما مقدما على صاحبه و مؤخرا عنه في آن واحد و هو محال، فلا محيص عن الالتزام بتقدم الهلكة رتبة على الأمر بالاحتياط دون تأخرها عنه، بمعنى: كونها معلولة له؛ بل هي معلولة لشيء آخر كما تقدم. و هذا نظير قوله: «لا تعبر الطريق الفلاني؛ لأن فيه قاطع الطريق»، فإن التعليل به لا يصح إلا مع وجوده قبل النهي عن العبور.

(1) الغرض من هذا الإشكال: استكشاف الأمر المولوي الظاهري بالاحتياط بالبرهان الإني.

و توضيح الإشكال: يتوقف على مقدمة و هي أمور تالية:

الأول: إن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان على الحكم الواقعي فقط حتى يجري بمجرده؛ و لو مع وجود البيان على الحكم الظاهرى؛ بل هو عدم البيان على كليهما معا، فلو وجد البيان على الحكم الظاهري فقط لم تجر القاعدة، كما لا تجري لو وجد على الحكم الواقعي فقط.

الثاني: أن ظاهر تعليل حكم متعلق بطبيعة هو سريان الحكم في جميع مصاديق تلك الطبيعة، و عدم اختصاصه ببعض أفرادها كما في قولك: «لا تأكل الرمان لأنه حامض»، و موضوع الأمر بالتوقف في المقام هو: «الشبهة»، و هي بإطلاقها تشمل مورد النزاع أعني: الشبهة البدوية بعد الفحص، فإذا لم يوجد مقيد شمله الحكم بالوقوف.

الثالث: أن الحكم الشرعي إما أن يدل عليه الخطاب بالمطابقة كقوله: «يجب كذا»، أو «يحرم كذا»، أو يدل عليه بالالتزام مثل قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا (1) فإنه يدل بالالتزام على حرمة القتل عمدا؛ و إلا لم يكن وجه لجزاء القاتل بخلوده في جهنم.

ص: 198


1- النساء: 93.

فإنه يقال: إن مجرد إيجابه (1) واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، و لا يخرجها الرابع: أن المقصود من الهلكة - كما هو المتبادر منها إلى الذهن أو المنصرف إليه من إطلاقها - هو العقاب الأخروي، ضرورة: أن همّ الشارع صرف العباد عن العقوبة الأخروية.

=============

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة، فنقول: حاصل الإشكال: أنه و إن لم يمكن أن يكون الأمر بالوقوف و الاحتياط في الأخبار المثبتة للهلكة للطلب المولوي الإلزامي؛ بل لا بد من حمله على الإرشاد كما تقدم، لكن يمكن استفادة طلب ظاهري مولوي آخر من تلك الأخبار بالدلالة الالتزامية، و ذلك لأنه لما كانت العقوبة من آثار الطلب المولوي - كما هو المستفاد منها حيث رتبت الهلكة يعني: العقوبة على محتمل التكليف الإلزامي الذي منها الشبهة البدوية بعد الفحص - كان الدليل الدال على وجود العقوبة في الشبهة كاشفا عن وجود البيان على التكليف، و دالا عليه بالدلالة الالتزامية، و أن الشارع قد اكتفى بذكر اللازم - و هو الابتلاء بالعقوبة الأخروية - عن بيان ملزومه و هو الوجوب الشرعي.

و بالجملة: فالأخبار المثبتة لترتب الهلكة على ترك الاحتياط في الشبهة التي منها البدوية بعد الفحص كاشفة عن وجوب الاحتياط شرعا، كشفا بالمعلول عن العلة؛ و إلا كان المعلول بلا علة و العقاب بلا بيان.

قوله: «نعم» استدراك على قوله: «فكيف يعلل ؟»، و ضمير «لكنه» للشأن، يعني: أن مقتضى ما تقدم من انبعاث الأمر بالتوقف عن الهلكة المفروضة الوجود و إن كان هو وجودها في رتبة سابقة على الأمر، فلا يمكن استكشاف الهلكة من الأمر ليحمل على كونه مولويا؛ لكن يمكن استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من الهلكة المترتبة على الأمر به بالبرهان الإني كما عرفت.

و ضمير «منه» راجع على التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإن الوقوف».

قوله: «على نحو الإنّ » إشارة إلى البرهان الإني، و هو العلم بالعلة من العلم بالمعلول، و استكشافها منه.

(1) أي: إيجاب الاحتياط.

و توضيح الجواب عن الإشكال: أن العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط في الشبهة البدوية ما لم يصل إلى المكلف عقاب بلا بيان؛ إذ المصحح للمؤاخذة هو البيان الواصل؛ لا التكليف بوجوده الواقعي، سواء كان الحكم الواقعي نفسيا أم طريقيا

ص: 199

عن أنها بلا بيان و لا برهان، فلا محيص (1) عن اختصاص...

=============

كإيجاب الاحتياط، و المفروض: عدم وصوله بغير أخبار الوقوف، و استكشاف وصوله مما اشتمل على ثبوت الهلكة في ارتكاب الشبهة، من باب دلالة اللازم على ثبوت ملزومه - بدعوى عموم الشبهات في قوله «عليه السلام»: «فمن ترك الشبهات»، أو إطلاق الشبهة في قوله «عليه السلام»: «فإن الوقوف عند الشبهة» - غير ممكن لاستلزامه الدور؛ و ذلك لأن بيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي منوطة بإمكان الأخذ بظاهر الهلكة و هو العقوبة ليدل قوله: «قفوا» على الوجوب إذ لو أريد بالهلكة معنى آخر غير العقوبة الأخروية لم يدل عليه، لعدم وجوب دفع غير العقوبة وجوبا مولويا، و حمل الهلكة على العقوبة منوط بكون قوله: «قفوا» بيانا و إعلاما لحكم المشتبه - و هو وجوب الاجتناب عن الواقع المجهول - إذ لو لم يكن بيانا و منجزا له لم يصح حمل الهلكة على ظاهرها، أعني:

العقوبة.

و بعبارة أخرى على - ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 370» -: الأخذ بظاهر «قفوا» من الوجوب المولوي متوقف على حمل الهلكة على العقوبة، و حملها عليها متوقف على كون الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي، فبيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها له، و هو الدور. و من هنا يظهر الفرق بين المقام، و ما ورد من الوعيد الصريح في العقوبة الأخروية على بعض الأفعال - كقتل المؤمن متعمدا - الدال بالالتزام على حرمته المولوية، حيث إن الوعيد لا بد أن يكون بمقتضى دلالة الاقتضاء كناية عن التحريم و بيانا عليه، و لا يلزم منه محذور الدور؛ لأن الدور هناك كان ينشأ من توقف حمل الهلكة على العقوبة، على أن الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي، و توقف كونه للوجوب على حمل الهلكة على العقوبة بخلاف الوعيد هنا، فإنه صريح في العقوبة، و لا يتوقف حملها عليها على شيء، فيستكشف منه الحرمة المولوية، و لا وجه لحمل النهي عن ذلك الفعل المتوعد عليه - فيما إذا ورد نهي عنه - على الإرشاد و هذا بخلاف أخبار الوقوف، فحيث كان محذور الدور مانعا عن إرادة الإيجاب المولوي تعين حمل الشبهة على ما تنجز فيه التكليف بمنجز آخر كالمقرونة بالعلم الإجمالي و الشبهة البدوية قبل الفحص، و يكون الأمر بالوقوف إرشادا إلى حكم العقل بلزوم رعاية العلم الإجمالي و الاحتمال.

و الضمير في «يخرجها، أنها» راجعان على العقوبة.

(1) هذا نتيجة بطلان ما ذكره في «لا يقال:»، و أن التعليل المذكور في أخبار التوقف لا يدل على وجوب الاحتياط مولويا، فمثل هذا الحديث أجنبي عن مورد

ص: 200

مثله (1) بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا (2)، أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمل جيدا.

=============

البحث و هو الشبهة الحكمية بعد الفحص، و مختص بالشبهات التي تنجز فيها الحكم كالشبهة البدوية قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيهما.

(1) يعني: مثل التعليل الوارد في حديث مسعدة بن زياد: «وقفوا عند الشبهة».

(2) أي: سواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية.

و في بعض الشروح كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

ص: 201

و أما الجواب عن الطائفة الثانية: فلأن المراد من التهلكة إن كان العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة.

و إن كان المراد منها هو الضرر الدنيوي فليس كل ضرر من التهلكة؛ لأنها مما يؤدي إلى الموت، و المحرمات المحتملة ليس فيها الضرر الدنيوي بهذا المعنى.

و أما الجواب عن الطائفة الثالثة: فلأن ارتكاب محتمل الحرمة ليس منافيا للتقوى؛ لأن التقوى هي: ترك ما نهى عنه الشارع، و فعل ما أمر به. هذا مضافا إلى أن مفاد الآية استحباب التقوى، و محل الكلام هو وجوب الاتقاء احتياطا.

3 - الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط:

و هي بين ما يدل على وجوب التوقف، و ما يدل على وجوب الاحتياط.

و أما تقريب ما يدل على التوقف: فلأن المراد من كلمة «خير» - في قوله «عليه السلام»: «فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» - ليس معناها التفضيلي في هذه الأخبار؛ إذ لا خير في الاقتحام في الهلكة.

ثم المراد بالتوقف هو: التوقف العملي، أعني: مطلق السكون و عدم المضي في ارتكاب الفعل، و لازمه هو الاحتياط بترك ارتكاب الشبهة.

و أما ما يدل على الاحتياط فواضح، كقوله «عليه السلام»: «فعليكم بالاحتياط»، و «خذ بالحائطة لدينك».

4 - الجواب عن أخبار التوقف:

إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل فيها على الإباحة، و حكم العقل بالبراءة.

و أما الجواب عن أخبار الاحتياط: فلأن ما دل على وجوب الاحتياط لو سلم و إن كان واردا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فإنه كفى بيانا؛ لأنه ظاهر في الوجوب المولوي إلا إنه لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور، و حمل أخبار الاحتياط على الإرشاد أو الطلب المولوي الجامع بين الوجوب و الندب؛ لئلا يلزم التخصيص بإخراج الشبهات الوجوبية و الموضوعية عنها، و لا يجب الاحتياط فيها عند الأخباريين أيضا. هذا مع أن سياقها آب عن التخصيص.

و حملها على الاستحباب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط؛ كما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، و كانت الشبهة محصورة.

ص: 202

و عليه: فتتعين إرادة مطلق الرجحان الجامع بين الوجوب الندب، و لازم ذلك: وجوب الاحتياط في بعض الموارد و استحبابه في بعضها الآخر.

5 - ما ذكره الشيخ الأنصاري:

من استكشاف وجوب الاحتياط شرعا من هذه الأخبار، ثم أجاب عنه بما حاصله:

من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب على الحكم الواقعي: فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول و هو قبيح، و إن كان حكما ظاهريا نفسيا بالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته؛ لا على مخالفة الواقع، و هذا مخالف لصريح الأخبار؛ إذ صريحها إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير مخالفة الحرمة الواقعية، و مقصود الأخباريين أيضا هو الاحتراز عن الهلكة المحتملة، المترتبة على الاقتحام في الشبهات؛ لا لأجل الاحتراز عن مخالفة الاحتياط.

فمع بطلان الاحتمالين لا محيص عن حمل الأخبار على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام الشيخ «قدس سره».

6 - الجواب عن كلام الشيخ «قدس سره»: بما حاصله: من أن الأمر المولوي بالاحتياط - على فرض تسليم وجوبه شرعا - لا ينحصر في القسمين الباطلين أعني:

النفسي و المقدمي ليبطل وجوب الاحتياط ببطلانهما، و تجري أدلة البراءة بلا معارض؛ بل هناك قسم آخر - و هو الوجوب الطريقي - بمعنى: أن إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول؛ بأن يكون الغرض من إنشاء وجوب الاحتياط إقامة الحجة على التكليف الواقعي المجهول؛ بحيث توجب تنجزه و حفظه حال الجهل، فالعقاب حينئذ على تقدير المخالفة على الواقع المجهول: عقاب مع البيان، فتكون أدلة الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ مع إيجاب الاحتياط لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فالصحيح في الجواب أن يقال: إن أخبار الاحتياط و إن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إلا إنها تعارض بما هو أخص منها و أظهر فيتعين تقديم أدلة البراءة على أخبار الاحتياط لوجهين:

أحدهما: كون أخبار البراءة أخص من أدلة الاحتياط، و تقديم الخاص على العام يكون أمرا بديهيا.

الثاني: أظهرية أخبار البراءة عن أخبار الاحتياط.

ص: 203

أما توضيح الوجه الأول: فلأن ما دل على البراءة لا يشمل الشبهات قبل الفحص؛ إذ لا خلاف في وجوب الاحتياط فيها بين الأصولي و الأخباري، و إنما الخلاف في وجوب الاحتياط فيها بعد الفحص. و مفاد ما دل على وجوب الاحتياط مثل قوله «عليه السلام»: «فعليكم بالاحتياط» يشمل قبل الفحص و بعده، فيكون أعم مما دل على البراءة، فيخصص ما دل على وجوب الاحتياط بما دل على البراءة، و لازم التخصيص هو: وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص لا بعده، و هو المطلوب في المقام.

و أما توضيح الوجه الثاني: فلأنه مع الغض عن أخصية موضوع أخبار البراءة يتعين تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط بمناط الأظهرية؛ لأنها إما نص في حلية مشتبه الحكم مثل: حديث الحل و إما أظهر في البراءة مثل: حديث الرفع و السعة و نحوهما، فإنها لو لم تكن نصا في الترخيص فلا أقل من كونها أظهر فيه من دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التحرز عن المشتبه.

و من المقرر في محله: تقدم الأظهر على الظاهر، و عدم ملاحظة قواعد التعارض بينهما.

7 - هناك قرائن على إرشادية أوامر الاحتياط يعني: أن ما ذكرناه إلى هنا من تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط إنما هو مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الطلب المولوي حتى تصل النوبة إلى الجمع الدلالي بينها و بين أخبار البراءة، بتقديم الثاني على الأول بمناط الأخصية و الأظهرية، و لكن لا مجال لهذا الجمع بعد قصور أخبار الاحتياط عن إثبات الطلب المولوي؛ لوجود قرائن داخلية و خارجية على الإرشادية، كما أشار إليها بقوله: «مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد» أي: على أن ما دل على وجوب الاحتياط إنما يكون للإرشاد.

القرينة الأولى: لو لا الإرشاد لزم محذور تخصيص الأكثر؛ و ذلك لاتفاق الفريقين على البراءة في غير الشبهة الحكمية التحريمية؛ كالشبهات الموضوعية مطلقا، و الشبهات الحكمية الوجوبية، فيلزم تخصيص الأكثر و هو مستهجن، فلا يصار إليه، فلا مناص عن حملها على الإرشاد المطلق؛ لئلا يلزم محذور تخصيص الأكثر.

الثانية: إباء سياقها عن التخصيص، فإن مقتضى تخصيصها بها أن في ارتكابها في موارد الشبهات الموضوعية و الحكمية الوجوبية خيرا، و مقتضى سياقها أنه لا خير في ارتكاب الشبهات أصلا، بل فيه الهلكة، فالخير كله في الوقوف عند الشبهة و الاحتياط

ص: 204

بعدم الاقتحام فيها. هذا من جانب.

و من جانب آخر: أن الأخباريين لما اعترفوا بورود الترخيص في ارتكاب بعض الشبهات فلا مناص من حمل الأمر في تلك الأخبار على الإرشاد؛ حتى يتبع المرشد إليه في الوجوب و الاستحباب.

الثالثة: ظهور - قوله «عليه السلام»: «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم» - في ترتب الهلاكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف، و حيث لا عقاب على مخالفة الأمر بالتوقف، فلا يكون مولويا، فيكون للإرشاد لا محالة؛ لأن الأمر الإرشادي ما لا يترتب على مخالفته عقاب.

هذه جملة من القرائن. و تركنا جميع القرائن رعاية للاختصار.

8 - استكشاف الأمر المولوي الظاهري بالاحتياط بالبرهان الإني:

مدفوع؛ بأن العقاب على مخالفة الاحتياط في الشبهة البدوية ما لم يصل إلى المكلف عقاب بلا بيان؛ لأن المصحح للمؤاخذة هو البيان الواصل، لا التكليف بوجوده الواقعي، سواء كان الحكم الواقعي نفسيا أو طريقيا؛ كإيجاب الاحتياط، و المفروض:

عدم وصوله بغير أخبار التوقف، و استكشاف وصوله بأخبار التوقف غير ممكن لكونه مستلزما للدور؛ لأن بيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي موقوفة على إمكان الأخذ بظاهر الهلكة في العقوبة الأخروية، و حمل الهلكة على العقوبة الأخروية موقوف على كون قوله: «قفوا عند الشبهات» بيانا و إعلاما لحكم المشتبه، و هو وجوب الاجتناب عن الواقع المجهول؛ إذ لو لم يكن بيانا له لم يصح حمل الهلكة على العقوبة الأخروية هذا دور صريح؛ إذ بيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها.

و بعبارة واضحة: الأخذ بظاهر «قفوا» في الوجوب المولوي متوقف على حمل الهلكة على العقوبة، و حملها عليها متوقف على كون الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي، فبيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها له و هو الدور، فلا بد من حمل أخبار التوقف و الاحتياط على موارد تنجز التكليف؛ كالشبهات البدوية قبل الفحص، أو المقرونة بالعلم الإجمالي.

9 - رأي المصنف «قدس سره»:

عدم تمامية استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط بالأدلة الثلاثة و هي: الكتاب و السنة و العقل.

ص: 205

و أما العقل (1): فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه و ترك ما احتمل حرمته، حيث (2) علم إجمالا بوجود واجبات و محرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته؛ مما (3) لم يكن هناك حجة، على حكمه تفريغا (4) للذمة بعد اشتغالها، و لا خلاف (5) في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلا من بعض الأصحاب (6).

=============

و قد تقدم الكلام في الكتاب و السنة، و بقي الكلام في الاستدلال بالعقل على وجوب الاحتياط.

في الاستدلال بالعقل للقول بالاحتياط

(1) بعد أن فرغ المصنف من بيان الدليل النقلي على وجوب الاحتياط تعرض للدليل العقلي و قد قرر هذا الدليل بوجهين:

أحدهما: هو هذا. و ثانيهما: ما أشار إليه بقوله الآتي.

و ربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع.

و أما تقريب هذا الوجه: فيتوقف على مقدمة و هي: أن هناك صغرى وجدانية، و كبرى برهانية.

و أما الصغرى فهي: أن كل مكلف بمجرد التفاته يعلم إجمالا بوجود واجبات و محرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب و الحرمة.

و أما الكبرى فهي: استقلال العقل بتنجز التكاليف الشرعية بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد تقرر في محله وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، فلا بد من فعل كل ما احتمل وجوبه، و ترك كل ما احتمل حرمته تفريغا للذمة المشغولة قطعا؛ لاقتضاء الاشتغال اليقيني البراءة اليقينية.

(2) ظرف و تعليل لقوله: «فلاستقلاله»، و إشارة إلى الصغرى المذكورة و هي العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة.

(3) بيان للموصول في «فيما»، و هو يتعلق ب «وجود». و ضمير «حكمه» راجع على الموصول في «مما».

(4) تعليل لاستقلال العقل بالاحتياط، يعني: أن علة هذا الحكم العقلي هو لزوم تفريغ الذمة عما اشتغلت به.

(5) إشارة إلى الكبرى المتقدمة أعني: منجزية العلم الإجمالي للتكليف.

(6) و هو المحقق القمي «قدس سره»، حيث جعل العلم الإجمالي كالشك البدوي؛

ص: 206

و الجواب (1): أن العقل و إن استقل بذلك، إلا إنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى إلا إن الحق خلاف ذلك فإن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في المنجزية، فيكون علة تامة لكل من الموافقة و المخالفة القطعيتين.

=============

(1) و حاصل جواب المصنف هو: دعوى انحلال العلم الإجمالي.

و توضيح مراد المصنف من الانحلال يتوقف على مقدمة و هي: بيان صور الانحلال؛ بحيث لا يكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف بعد الانحلال، و هي ثلاثة:

الأولى: الانحلال الحكمي، بمعنى: زوال أثر العلم الإجمالي من التنجيز و إن كان باقيا بنفسه، و ذلك كما في موارد قيام الأمارات على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف، فإنه لا يكون منجزا في الطرف الآخر.

الثانية: الانحلال الحقيقي: و هو على قسمين: الأول: الانحلال الحقيقي التكويني بواسطة العلم التفصيلي بالمعلوم بالإجمال؛ كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحد هذين الإناءين، ثم علم تفصيلا بأن قطرة البول وقعت في هذا الإناء المعين، فإن العلم الإجمالي يزول قهرا؛ إذ لا تردد بعد العلم التفصيلي.

الثاني: الانحلال الحقيقي، و لكن لا بواسطة حدوث علم تفصيلي؛ بل بواسطة انكشاف عدم تعلق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، فيزول أثره و هو التنجيز، و يصح أن نعبر عن مثل هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي البدوي؛ لأنه يزول بعد ذلك، كما في موارد تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء، و ما هو ليس بمحل الابتلاء، فإن العلم الإجمالي يحدث بدوا؛ لكن بعد معرفة أن أحد طرفيه خارج عن مورد الابتلاء المنافي لتعلق التكليف الفعلي به، يزول العلم الإجمالي و ينكشف بأنه لا تكليف على كل تقدير من أول الأمر، و أن العلم الإجمالي كان وهميا. فهذه الصورة ليست عبارة عن انحلال العلم الإجمالي، بل عبارة عن زواله لانكشاف الخلاف نظير موارد الشك الساري.

و الجامع بين هذه الأقسام هو: عدم تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد جمع المصنف في جوابه جميع أقسام الانحلال، فقد أشار إلى الانحلال الحكمي في صدر جوابه، و إلى الانحلال الحقيقي التكويني في ذيل كلامه بقوله: «هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية...».

و أما بيان الانحلال الحكمي فحاصله: أن منجزية العلم الإجمالي و إن كانت مما يستقل بها العقل؛ لكنها منوطة ببقاء العلم الإجمالي على حاله و عدم انحلاله إلى علم

ص: 207

علم تفصيلي و شك بدوي، و قد انحل هاهنا فإنه (1) كما علم بوجود تكاليف إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق و أصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد (2)، و حينئذ (3) لا علم بتكاليف أخرى غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من (4) الطرق و الأصول العملية.

إن قلت (5): نعم؛ لكنه إذا لم يكن العلم...

=============

تفصيلي و شكّ بدوي، فلو انحل في مورد سقط حكم العقل بلزوم الاحتياط في سائر الأطراف؛ و ذلك لسلامة الأصل النافي للتكليف الجاري فيها عن المعارض، و المفروض في المقام: انحلال العلم الإجمالي - بوجود الواجبات و المحرمات في الوقائع المشتبهة - بعلم إجمالي آخر متعلق بالطرق و الأصول المثبتة لمقدار من تكليف مساو للمعلوم بالإجمال أو أزيد منه، فينحل العلم الإجمالي الكبير - المتعلق بجميع الأحكام الإلزامية الواقعية - بهذا العلم الإجمالي الصغير المتعلق بالأمارات و الأصول المثبتة للمقدار المذكور من التكاليف، و بعد الظفر بهذا المقدار الذي أدت إليه الأمارات و الأصول لا يبقى علم بتكاليف واقعية أخرى غيرها حتى يجب رعاية الاحتياط فيها، فما عداها مشكوك بالشك البدوي الذي يكون دعوى الاحتياط فيه عين المتنازع فيه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

و المشار إليه في «بذلك» لزوم الاحتياط، و ضمير «إلا إنه» راجع على لزوم الاحتياط.

و جملة «و قد انحل هاهنا» حالية، أي: و الحال أنه قد انحل العلم الإجمالي هاهنا إلى علم تفصيلي بما تضمنته الطرق و الأصول، و الشك بدوي فيما عداها.

(1) هذا تقريب الانحلال، و قد عرفت توضيحه. و الأولى تبديل قوله إجمالا بعد «كذلك» ب «تفصيلا» بقرينة تصريحه بذلك في قوله: إلى علم تفصيلي و شك بدوي.

(2) عطف على «بمقدار» يعني: أن مؤديات الطرق و موارد الأصول المثبتة ربما تكون أزيد من أطراف العلم الإجمالي بوجود الواجبات و المحرمات في المشتبهات. و المراد بالتكاليف المعلومة هي: المعلومة بالعلم الإجمالي الكبير الحاصل بمجرد الالتفات إلى الشريعة المقدسة.

(3) أي: و حين العلم بثبوت طرق و أصول معتبرة مثبتة للتكاليف «لا علم بتكاليف أخرى...».

(4) بيان «المثبتة».

(5) هذا إشكال على الانحلال لوجود مانع منه. و هو سبق العلم الإجمالي بوجود

ص: 208

تكاليف على العلم بثبوت الطرق و الأصول المثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة.

توضيح هذا الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن العلم الإجمالي الصغير بالطرق و الأصول المثبتة تارة: يكون سابقا عن العلم الإجمالي الكبير، و هو العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية في الشريعة المقدسة، و أخرى: يكون مقارنا له، و ثالثة: يكون لاحقا له.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن العلم الإجمالي الصغير و هو العلم الإجمالي بالطرق و الأصول المثبتة و إن كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية في الشريعة إن كان سابقا أو مقارنا له، فلا يلزم حينئذ رعاية الاحتياط في سائر الأطراف؛ إلا إنه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية إذا كان لاحقا؛ لأن العلم الإجمالي الكبير بالأحكام قد أثر حينئذ في التنجيز بمجرد حدوثه، فتجب رعاية جانب التكاليف المحتملة في المشتبهات التي ليست مؤديات للأمارات و الأصول المثبتة بالاحتياط فيها، و لا موجب لرفع اليد عنه فيها بمجرد قيام الأمارات على مقدار من الأحكام؛ لتوقف الفراغ اليقيني من التكاليف المعلومة إجمالا على ترك المشتبهات في سائر الأطراف.

فلا بد في المقام من التفصيل بين كون العلم بمؤديات الأمارات و موارد الأصول سابقا على العلم الإجمالي الكبير بالأحكام أو مقارنا له، و بين كونه لاحقا، فإنه في صورة تقدمه أو مقارنته يمنع عن تأثير العلم الإجمالي الكبير في تنجيز التكاليف، فلا يلزم رعاية الاحتياط في الشبهات، و أما في صورة لحوقه له و تأخره عن العلم الإجمالي الكبير: فلا يؤثر في انحلاله له؛ بل يلزم رعاية الاحتياط في سائر الأطراف أيضا.

فالمقام - من جهة التنجيز و عدم الانحلال - نظير ما ذكره الشيخ الأنصاري في خامس تنبيهات الشبهة المحصورة من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف إن كان قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له منع من تنجيزه بالنسبة إلى ما لا اضطرار إليه، و إن كان بعده لم يمنع عنه، فيتعين رعاية الاحتياط في سائر الأطراف.

و المتحصل: أن العلم الإجمالي بوجود التكاليف في الشريعة المقدسة لما كان سابقا على العلم بمؤديات الطرق و موارد الأصول لم ينحل به؛ بل تجب رعاية الاحتياط فيها.

فحاصل الإشكال: إن العلم بالأحكام التي هي مؤديات الطرق و موارد الأصول و إن كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي بالأحكام، و لكن هذا الانحلال ليس مطلقا؛ بل هو

ص: 209

بها (1) مسبوقا بالعلم بالتكاليف.

قلت (2): إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا (3)، و أما إذا لم يكن كذلك (4)؛ بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي و الشك البدوي.

إن قلت (5): إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال، مشروط بما إذا لم يكن العلم بالتكاليف التي تضمنتها الطرق و الأصول مسبوقا بالعلم الإجمالي بالتكاليف، و المفروض: سبق العلم الإجمالي بها على العلم بما في الأمارات، فلا ينحل به؛ لأن انتفاء الشرط مستلزم لانتفاء المشروط.

=============

(1) أي: بالتكاليف التي هي مؤديات أمارات و أصول معتبرة.

فالنتيجة هي: وجوب الاحتياط لتنجز التكاليف الواقعية بالعلم الإجمالي السابق.

(2) هذا جواب الإشكال و حاصله: أن العلم الإجمالي السابق إنما لا ينحل بالعلم التفصيلي اللاحق إذا كان المعلوم بالعلم التفصيلي أمرا حادثا غير المعلوم بالإجمال، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بوقوع قطرة من البول في أحدهما، ثم وقعت قطرة من الدم في أحدهما المعين، فهاهنا لا ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي اللاحق.

و أما إذا كان المعلوم بالتفصيلي اللاحق مما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال السابق؛ كما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما بالخصوص و نحن نحتمل أن هذا هو عين ما علمناه إجمالا بنجاسته سابقا، فحينئذ ينحل العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي اللاحق، و المقام من هذا القبيل، فإن التكاليف التي قامت عليها الطرق و الأصول المثبتة إن لم تكن هي عين المعلوم بالإجمال السابق فنحن نحتمل لا محالة أن تكون هي عينه، فينحل العلم الإجمالي من أصله.

(3) كما إذا علم إجمالا في الساعة الأولى بإصابة الدم لأحد الإناءين، ثم علم في الساعة الثانية بوقوع قطرة من البول في أحدهما المعين كالإناء الأبيض مثلا، و لا مجال للانحلال هنا؛ لمغايرة سبب المعلوم بالإجمال لسبب المعلوم بالتفصيل، و اقتضاء كل من العلمين تكليفا يمتاز عن الآخر.

(4) أي: لم يكن اللاحق حادثا آخر - يعني: تكليفا جديدا - بل كان متحدا مع السابق، و السابق منطبقا عليه كالمثال الثاني، فلا محالة قد ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي.

(5) هذا إشكال على ما ذكره من انطباق المعلوم الأول على مؤديات الطرق،

ص: 210

ذلك (1) إذا كان قضية قيام الطرق على تكليف موجبا لثبوته (2) فعلا.

=============

و انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي.

و توضيح هذا الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: أن في حجية الأمارات و الطرق قولين: أحدهما: حجيتها من باب الطريقية.

و ثانيهما: حجيتها من باب السببية و الموضوعية، و الفرق بينهما: أن الأول عبارة عن جعل الحجية للأمارات، بمعنى: ترتيب ما للطرق المعتبرة عليها من الآثار العقلية كالتنجيز في صورة الإصابة، و التعذير في صورة الخطأ؛ كما في القطع عينا، غايته: أن الحجية بمعنى المنجزية و المعذرية في القطع ذاتية، و في الأمارات مجعولة بجعل الشارع. هذا بخلاف الثاني أعني: حجية الأمارات من باب الموضوعية؛ بأن تكون مؤدياتها أحكاما واقعية فعلية، بمعنى: أن قيامها على وجوب شيء أو حرمة ذلك الشيء سبب لحدوث مصلحة نفسية في متعلق الحكم أو مفسدة كذلك، و موجب لجعل حكم واقعي نفسي من وجوب أو حرمة على طبقها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الانطباق المذكور منوط باعتبار الأمارات من باب الموضوعية و السببية؛ بأن تكون مؤدياتها أحكاما واقعية فعلية - كما هو مقتضى حجية الطرق بنحو السببية - فإنه يعلم حينئذ ثبوت التكاليف تفصيلا بقيام الطرق عليها، فتكون دعوى انطباق الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا على تلك المؤديات في محلها.

و أما بناء على اعتبارها بنحو الطريقية - كما هو مذهب المصنف في باب جعل الطرق - فلا يتم الانحلال أصلا؛ و ذلك لعدم العلم التفصيلي بالتكاليف في مؤدياتها حينئذ حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها؛ لاحتمال خطئها، و مع احتمال خطئها واقعا لا يقطع في مواردها بأحكام حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها، فلا مجال لدعوى الانطباق مع كون التكليف الذي نهض عليه الطريق محتملا غير مقطوع به.

و عليه: فلا مجال للانحلال، و لا بد من الاحتياط في المشتبهات.

و كيف كان؛ فلا يكاد ينحل العلم الإجمالي السابق بقيام الطرق و الأمارات؛ إذ لا حكم مجعول في مواردها على طبق مؤدياتها؛ كي توجب انحلال العلم الإجمالي السابق.

(1) أي: الانحلال، و هو مفعول لقوله: «يوجب».

(2) هذا الضمير و ضمير «له» راجعان على التكليف.

ص: 211

و أما (1) بناء على أن قضية حجيته و اعتباره شرعا ليس (2) إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا - و هو (3) تنجز ما أصابه و العذر عما أخطأ عنه - فلا (4) انحلال؛ لما علم بالإجمال أولا كما لا يخفى.

قلت (5): قضية الاعتبار على اختلاف ألسنة أدلته و إن كانت ذلك على ما قوينا

=============

(1) هذا عدل لقوله: «إذا كان...»، و ضميرا «حجيته، اعتباره» راجعان على الطريق.

(2) خبر «أن قضية»، يعني: بناء على أن مقتضى حجية الأمارة و الطريق هو ترتيب الآثار العقلية المترتبة على القطع - من التنجيز و التعذير و استحقاق الثواب على الانقياد و العقاب على التجري - على الطريق غير العلمي لا يكون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم الظاهري على طبق المؤدى حتى يوجب الانحلال؛ لعدم إمكان وجود حكمين فعليين لموضوع واحد، أحدهما بمقتضى العلم الإجمالي، و الآخر بقيام الطريق.

(3) الضمير راجع على الموصول في «ما للطريق». المراد به: الآثار العقلية الثابتة للقطع.

(4) هذا جواب «و أما بناء». و وجه عدم الانحلال: ما عرفت من عدم حصول العلم - بناء على الطريقية - بأن مؤديات الطرق هي الأحكام الواقعية؛ لاحتمال عدم إصابتها للواقع، فالتكليف حينئذ محتمل لا معلوم. و التكليف المحتمل غير موجب للانحلال.

(5) هذا جواب الإشكال. و توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة و هي: إن الانحلال على قسمين: أحدهما: هو الانحلال الحقيقي و ثانيهما: هو الانحلال الحكمي. و الفرق بينهما: أن الأول: هو زوال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي. و الثاني:

هو زوال أثر العلم الإجمالي و ارتفاع حكمه من وجوب الاحتياط بقيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف؛ و إن كان العلم الإجمالي باقيا على حاله.

و ذلك لعدم اقتضاء الأمارة غير العلمية لارتفاع التردد و الإجمال من البين. فالتكليف الفعلي هو مؤدى الأمارة فقط، و بعد انحصار الأحكام المنجزة في دائرة الطرق و الأمارات فلا مانع من جريان البراءة في سائر الأطراف.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقتضى أدلة اعتبار الأمارات؛ و إن كان هو الطريقية بمعنى: ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا - و هو العلم - من التنجيز و التعذير عليها، دون الموضوعية أعني: ثبوت التكليف الفعلي، ضرورة: أن مفاد «صدق العادل» هو البناء على أن ما أخبر به العادل هو الواقع و عدم الاعتناء باحتمال خلافه، و ليس مقتضاه حدوث مصلحة في المؤدى بسبب قيام الطريق عليه؛ كي توجب جعل حكم على طبقها حتى

ص: 212

في البحث؛ إلا إن نهوض الحجة على ما ينطبق المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، يكون عقلا بحكم الانحلال، و صرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف يتحقق الانحلال الحقيقي الذي هو زوال الصورة العلمية الإجمالية، ضرورة: بقاء العلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أيضا على حاله.

=============

لكنا ندعي في المقام تحقق الانحلال الحكمي بمعنى: اقتضاء الأمارة غير العلمية انصراف التكليف المنجز بالعلم الإجمالي إلى خصوص الطرف الذي قامت عليه الأمارة، فتجري البراءة في غيره من أطراف الشبهة.

و بعبارة أخرى: لما كان مقتضى تنزيل الأمارة غير العلمية منزلة العلم هو ترتيب أثر العلم - من التنجيز و التعذير - عليها، فتكون الأمارة بمنزلة العلم في الآثار التي منها الانحلال، فكما أن العلم التفصيلي بوجود التكليف في طرف معين يوجب انحلال العلم الإجمالي، فكذلك قيام الأمارة على وجوده في أحد الأطراف بعينه يوجب انحلاله.

غاية الأمر: أن الانحلال في العلم حقيقي؛ لتبدل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي و الشك البدوي، و في الأمارة حكمي بمعنى: ارتفاع حكم العلم الإجمالي - و هو وجوب الاحتياط - بقيام الأمارة على التكليف في طرف معين؛ و إن كان العلم الإجمالي باق على حاله؛ لعدم اقتضاء الأمارة غير العلمية لارتفاع التردد و الإجمال من البين، فلا مانع من جريان البراءة في سائر أطراف المشتبهة.

توضيح بعض العبارات:

ضمير «أدلته» راجع على الاعتبار و المراد من اختلاف ألسنة أدلة الاعتبار هو: وجوب العمل تعبدا كما عليه الشيخ «قدس سره»، أو تتميم الكشف كما عليه بعض المحققين، أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما بنى عليه المصنف في بعض تنبيهات القطع.

و من المعلوم: أن كلا من جعل الحجية المعبّر عنه بتتميم الكشف، و تنزيل الأمارة منزلة العلم، و جعل الأحكام الظاهرية الطريقية المعبر عنه بتنزيل المؤدى منزلة الواقع مما لا ينفك عن الآخر، فيقع الكلام في أن المستفاد من الأدلة في مقام الإثبات أولا هل هو جعل الحجية كي يستلزمه جعل أحكام ظاهرية طريقية أو بالعكس ؟ أي: المستفاد منها أولا هو جعل أحكام ظاهرية طريقية، و يستلزمه جعل الحجية. و المشار إليه لقوله: «ذلك» هو:

كون حجية الأمارات من باب الطريقية و مجرد ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا و هو العلم من التنجيز و التعذير على الطرق غير العلمية و هو غير موجب لانحلال العلم الإجمالي كما تقدم توضيحه.

ص: 213

و العذر (1) عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلا (2): إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين، و قامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه (3) كما إذا قوله: «على ما قويناه في البحث» إشارة إلى ما تقدم في أوائل بحث الظن، حيث قال: «لأن التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، و الحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق؛ بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب، و صحة الاعتذار به إذا أخطأ... كما هو شأن الحجة غير المجعولة».

=============

قوله: «إلا إن نهوض...» استدراك على قوله: «و إن كان ذلك».

و قوله: «في بعض الأطراف» متعلق ب «نهوض».

و ضمير «عليه» راجع على الموصول المراد به التكليف، يعني: أن قيام الحجة في بعض الأطراف على التكليف، الذي ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا بحكم الانحلال.

قوله: «و صرف تنجزه...» عطف على «حكم الانحلال» و تفسير له، و ضمير «تنجزه» راجع على «المعلوم بالإجمال». و المراد بحكم الانحلال هو: صرف تنجز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه الحجة، يعني: أن قيام الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا صارفا لتنجّز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه من الأطراف فيما إذا صادف الواقع؛ بأن كان ما قامت عليه الحجة هو المكلف به واقعا، و موجبا للعذر - فيما إذا أخطأ - بأن كان المعلوم بالإجمال في غير ما قامت عليه الحجة، مثلا: إذا علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين، ثم شهدت البينة بخمرية الإناء الأبيض مثلا، فإن مقتضى دليل اعتبار البينة هو وجوب الاجتناب عن خصوص الإناء الأبيض، و البناء على حصر الخمر الواقعي فيما قامت البينة على خمريته، و انتقال المعلوم بالإجمال إليه، فإذا ارتكبه و صادف كونه خمرا استحق العقوبة على مخالفة التكليف المنجز، و إذا ارتكب الإناء الآخر و تبين أنه الخمر المعلوم بالإجمال كان معذورا في ارتكابه؛ لعدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الخمر بالنسبة إلى هذا الطرف، و اختصاصه بالطرف الذي قامت عليه البينة.

(1) عطف على «صرف»، و هو أثر آخر من آثار الحجة.

(2) الغرض من هذا المثال: تنظير المقام به من جهة صرف التنجز إلى ما قامت عليه الحجة.

(3) هذا الضمير راجع على قيام البينة، و قوله: «كما إذا علم...» خبر «أن» و ضمير

ص: 214

علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر، و لو لا ذلك (1) لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة (2): أنها تكون كذلك بسبب حادث، و هو كونها مؤديات الأمارات «أنه» الثاني راجع على الإناء الذي قامت البينة على أنه إناء زيد، و ضمير «إناؤه» في الموضعين راجع على زيد و ضمير «خصوصه» راجع على «إناء زيد». يعني: لا شك في أن قيام البينة على أن هذا الإناء المعين هو إناء زيد كالعلم بأنه إناء زيد في لزوم الاجتناب عنه بخصوصه.

=============

(1) يعني: لو لا ما ذكرناه من أن قيام الأمارات و الطرق بناء على اعتبارها بنحو الطريقية يكون بحكم الانحلال؛ لم يكن قيامها - بناء على اعتبارها بنحو السببية - مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي، فكأنه قال: لو لم يثبت الانحلال الحكمي بناء على الطريقية لم يثبت الانحلال الحقيقي بناء على السببية أيضا.

و غرضه من هذا الكلام: أنه لا بد عند قيام الأمارات و الطرق على بعض الأطراف - بناء على الطريقية في اعتبارها - من الالتزام بالانحلال الحكمي، و بصرف التنجز إلى ما قام الطريق التعبدي عليه؛ إذا لو لم نلتزم بذلك - بناء على اعتبارها بنحو الطريقية - لم يكن قيامها على بعض الأطراف بناء على اعتبارها بنحو السببية أيضا مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي الذي اعترف المستشكل بتحققه على مبنى السببية.

فالنتيجة: أنه لو لا الانحلال الحكمي - عند قيام الأمارة بنحو الطريقية - لم يتحقق الانحلال عند قيامها أصلا، سواء قلنا باعتبارها بنحو السببية أم بنحو الطريقية. أما على الطريقية: فواضح؛ لاحتمال خطأ الأمارة، فلا يتحقق الانحلال. و أما على السببية: فلأن مقتضاها حينئذ و إن كان جعل مؤدياتها أحكاما فعلية؛ إلا إن صيرورتها كذلك إنما هي بسبب حادث و هو قيام الطريق الموجب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى توجب تشريع حكم على طبقها، و هذا السبب - لمكان تأخره زمانا عن العلم الإجمالي - لا يقتضي انحلاله لا حقيقة و لا حكما؛ لأنه حادث آخر غير المعلوم بالإجمال، فاللازم على هذا: رعاية الاحتياط في جميع الأطراف كما بنى عليه المحدثون و قد تقدم في «إن قلت» الأول ما يوضح وجه عدم الانحلال بأكثر من هذا.

(2) تعليل لقوله: «لما كان يجدي»، و ضمير «أنها» راجع على «المؤديات».

و قوله: «كذلك» يعني: أحكاما شرعية فعلية، و قد عرفت وجه عدم الإجداء في الانحلال بقولنا: «و أما على السببية فلأن مقتضاها حينئذ و إن كان...» الخ.

ص: 215

الشرعية (1).

هذا (2) إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار (3) المعلوم بالإجمال؛ و إلا (4) فالانحلال إلى العلم بما في الموارد و انحصار أطرافه (5) بموارد تلك الطرق بلا إشكال كما لا يخفى.

=============

(1) يعني: فكيف يصير هذا الحادث المتأخر موجبا لانحلال العلم الإجمالي المتقدم عليه المغاير له ؟

(2) يعني: أن ما ذكرناه من الانحلال الحكمي إنما يكون في صورة عدم العلم بإصابة الطرق للواقع، و احتمال كل من الإصابة و الخطأ فيها، و إلا فمع العلم بإصابة مقدار من الأمارات مساو للمعلوم بالإجمال يكون الانحلال حقيقيا بلا إشكال.

و عليه: فملاك هذا الجواب دعوى انحصار التكاليف المعلومة إجمالا في موارد الأصول المثبتة و مؤديات الأمارات المعتبرة، و هذا يوجب زوال العلم الإجمالي بتلك التكاليف، فإذا علمنا إجمالا بوجود ألف حكم إلزامي مثلا في الشريعة المقدسة، و ظفرنا على هذا المقدار في الأمارات و الأصول المثبتة كفى في الانحلال، و الكاشف عنه أن إخراج ما يساوي مقدار المعلوم بالإجمال - الذي ظفرنا به في الطرق المعتبرة - عن المحتملات، يوجب زوال العلم الإجمالي حقيقة، و صيرورته مجرى للأصل النافي السليم عن المعارض.

و قد تحصل من كلمات المصنف في جواب المحدثين: أن العلم الإجمالي - الذي استدلوا به على وجوب الاحتياط في الشبهات - منحل إما حقيقة بناء على كون مؤديات الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال أولا، و العلم بمطابقتها للواقع ثانيا. و إما حكما بناء على عدم العلم بإصابتها للواقع و إن كانت بمقدار المعلوم بالإجمال؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 297-298».

(3) متعلق ب «ثبوت».

(4) أي: و إذا علم ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال؛ فلا إشكال في حصول الانحلال الحقيقي.

(5) الضمير راجع على العلم الإجمالي، و «بلا إشكال» خبر «فالانحلال».

و قوله: «و انحصار» عطف على «فالانحلال» و مفسر له؛ إذ انحصار أطراف العلم الإجمالي بموارد الطرق لازم الانحلال.

ص: 216

و ربما استدل بما قيل: من استقلال (1) العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية قبل

=============

(1) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط.

الثاني: أن الأصل فيها الإباحة، و أن العقل يحكم بجوازها ما لم يصل من الشارع منع عنها، و يعبر عنه بأصالة الإباحة، و ذهب إليه كثير من متكلمي البصريين و كثير من الفقهاء، و اختاره السيد المرتضى «قدس سره»، و نظرهم في ذلك إلى أن كل ما يصح الانتفاع به و لا ضرر فيه عاجلا أو آجلا على أحد فهو حسن؛ إذ ليس الضرر إلا مفسدة دينية أو دنيوية، فلو كان فيه ضرر لوجب على القديم تعالى إعلامنا به، و حيث لم يعلمنا به - حسب الفرض - علمنا إنه ليس فيه ضرر فهو حسن، و حيث كان حسنا كان مباحا و هو المطلوب.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجه المتقدم إنما هو لوجهين:

أحدهما: أن حكم العقل بوجوب الاحتياط على الوجه الأول كان بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل، مع ملاحظة العلم الإجمالي بالتكاليف، بخلاف حكمه به على هذا الوجه، فإنه يكون إما بملاك قبح التصرف في مال الغير بدون إذنه - بناء على الحظر - أو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل بناء على الوقف، فلا يكون حكمه به بلحاظ العلم الإجمالي بالتكاليف.

و ثانيهما: أن الوجه المتقدم جار في كل شبهة بمقتضى تعميم متعلق العلم الإجمالي للشبهة الوجوبية و التحريمية، بخلاف هذا الوجه فإنه مختص بالشبهة التحريمية.

الثالث: أن الأصل فيها الوقف بمعنى: أنه لا حكم للعقل فيها لا بالحظر و لا بالإباحة

ص: 217

الشرع، و لا أقل من الوقف و عدم (1) استقلاله لا به و لا بالإباحة، و لم يثبت (2) شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

=============

لبطلان ما استند إليه أصحاب القولين الأولين، و ذهب إليه كثير من الناس، و اختاره الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي «قدهما».

و قال الشيخ الطوسي في عدة الأصول في وجه بطلان القول بالإباحة ما لفظه: «قد ثبت في العقول: أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل إقدامه على ما علم قبحه».

إذا عرفت هذه الأقوال فاعلم: أن استدلال الأخباريين بأصالة الحظر على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية منوط بالقول بالحظر في تلك المسألة، فكل فعل محتمل الحرمة - بلا اضطرار إليه - محكوم بالحرمة عقلا، و لو لم نقل به فلا أقل من الوقف، فيكون الإقدام على المشتبه كالإقدام على معلوم الحرمة، فلا يجوز ارتكابه، فشرب التتن المشكوك حكمه غير جائز بحكم العقل، و معه لا يتوجه الالتزام بإباحة ما لم ينهض دليل على حرمته، و هنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار. هذا تلخيص ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 400-402».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «قبل الشرع» ظرف لقوله: «استقلال العقل»، يعني: فيثبت الحظر فيما بعد الشرع باستصحاب عدم تشريع الإباحة بناء على جريانه في العدم الأزلي، و يمكن أن يراد بقوله: «قبل الشرع» القبلية في الرتبة، فالمعنى: أن العقل - مع الغض عن الشرع - يستقل بالحظر، فهو الحاكم به متى ما شك في تشريع الإباحة.

(1) عطف تفسيري على «الوقف»، و ضمير «به» راجع على الحظر.

(2) إشارة إلى أن هذا الدليل العقلي مؤلف من مقدمتين:

إحداهما: ما أشار إليه بقوله: «من استقلال العقل بالحظر»، و قد تقدمت.

ثانيتهما: ما أشار إليه هنا بقوله: «و لم يثبت شرعا...» الخ، و يكون وجه عدم ثبوت الإباحة شرعا إما عدم نهوض دليل عليها، و إما ابتلاؤه بالمعارض، فلا يجوز الارتكاب حينئذ إذ لا مؤمّن له عقلا و لا شرعا.

قوله: «فإن ما دل...» الخ تعليل لقوله: «و لم يثبت»، و قد عرفته أيضا.

ص: 218

و فيه أولا (1): أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف (2) و الإشكال؛ و إلا لصح (3) الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال (4) على الإباحة.

و ثانيا (5): أنه تثبت الإباحة شرعا؛ لما عرفت: من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط للمعارضة لما دل عليها.

=============

(1) أي: قد أورد المصنف «قدس سره» على هذا الوجه العقلي بوجوه ثلاثة:

أولها: ما أشار إليه بقوله: «إنه لا وجه للاستدلال...»، و هو راجع على منع المقدمة الأولى، و هي استقلال العقل بالحظر.

و تقريب المنع: أن ما ذكرتم من كون الأصل في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع هو الحظر حتى يبني عليه وجوب الاحتياط في مسالة البراءة و الاحتياط غير مسلم، لما عرفت من أنه أحد الأقوال الثلاثة فيها، فمسألة أصالة الحظر بنفسها محل الخلاف، و لا وجه لابتناء وجوب الاحتياط على ما هو بنفسه محل الكلام و مورد النقض و الإبرام.

و لو صح ذلك لصح الاستدلال بالقول الثاني في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع - و هو أصالة الإباحة - على البراءة في المقام، فإن القائل بالبراءة في مشتبه الحكم استند - كما تقدم في بيان أدلته - إلى استقلال العقل بها؛ لقبح العقاب بلا بيان، و ادعى أنها الأصل في الأشياء قبل الشرع.

(2) و هو أن الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو الإباحة.

(3) يعني: و إن صح للخصم الاستدلال بما هو محل الخلاف لصح لنا أيضا «الاستدلال...» الخ.

(4) أي: الأفعال غير الضرورية مما لا يدرك العقل حسنها أو قبحها.

(5) هذا هو الوجه الثاني من وجوه إيراد المصنف على الوجه الثاني من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط، و هو راجع على منع المقدمة الثانية منه، و هي عدم ثبوت إباحة ما اشتبه حرمته، فيقال في توضيحه: إن الإباحة ثابتة شرعا؛ لما عرفت من عدم نهوض أدلة التوقف و الاحتياط للمعارضة مع ما دل على البراءة، و تقديم ما دل على البراءة عليها؛ لما عرفت: من أخصية و أظهرية أدلتها من أدلة التوقف و الاحتياط.

هذا مضافا إلى وجود القرائن الصالحة لصرف ظواهر أوامر الوقوف و الاحتياط من المولوية إلى الإرشادية كما تقدم بيانه تفصيلا. و عليه: فالإباحة ثابتة شرعا لمجهول الحكم، و لا تصل النوبة إلى أصالة الحظر على فرض تسليمها. و ضمير «عليها» راجع على الإباحة و البراءة.

ص: 219

و ثالثا (1): أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة؛ لاحتمال (2) أن يقال معه بالبراءة لقاعدة (3) قبح العقاب بلا بيان.

و ما قيل (4): من «أن الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته كالإقدام على ما تعلم فيه

=============

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه إيراد المصنف إلى الدليل العقلي الثاني، و هو راجع على منع الملازمة بين المسألتين، فيقال في توضيحه: إنه بعد تسليم عدم ثبوت الإباحة شرعا - لا ملازمة بين القول بالوقف في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع من الحظر و الإباحة، و بين القول بالاحتياط في مسألة البراءة؛ بحيث يكون اختيار الوقف في تلك المسألة كافيا في ثبوت الاحتياط هنا؛ و ذلك لاختلاف المسألتين موضوعا - كما نسب إلى المصنف في بحثه الشريف - ضرورة: أن الموضوع في تلك المسألة فعل المكلف من حيث هو، يعني: مع قطع النظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف، فيبحث هناك عن أن هذا الفعل من حيث هو هل يكون - في نظر العقل - محكوما بالإباحة أم بالحظر؟ بخلاف مسألة البراءة، فإن الموضوع فيها هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم هل يحكم عليه شرعا بالإباحة أم بالاحتياط؟

(2) تعليل لقوله: «لا يستلزم»، و ضمير «معه» راجع على «القول بالوقف في تلك المسألة».

(3) تعليل لقوله: «أن يقال»، يعني: من الممكن أن يكون القول بالبراءة مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في هذه المسألة، مع اختيار الوقف في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع من الإباحة و الحظر.

(4) هذا إشارة إلى قول شيخ الطائفة «قدس سره» في عدة الأصول.

و غرض المصنف من ذكر كلامه هنا هو: دفع توهم عدم جريان البراءة العقلية نظرا إلى كلام شيخ الطائفة؛ بأن يقال في تقريب توهم عدم جريانها: إن احتمال التكليف يلازم احتمال المصلحة أو المفسدة بناء على ما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، و عليه: فمخالفة محتمل الحرمة توجب احتمال الضرر الناشئ من الملاك و هو المفسدة؛ لأنها ضرر على المكلف، و دفع الضرر المحتمل واجب فيجب ترك محتمل الحرمة، و لا تصل النوبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل واردة عليها.

و عليه: فهذا التوهم مؤلف من صغرى و هي: «أن ارتكاب محتمل الحرمة لكونه محتمل المفسدة ضرر كارتكاب معلوم الحرمة».

ص: 220

المفسدة ممنوع (1).

و لو قيل (2) بوجوب دفع الضرر المحتمل: فإن (3) المفسدة المحتملة في المشتبه ليس و كبرى و هي: «أن كل ضرر يجب دفعه»، فارتكاب محتمل الحرمة يجب دفعه، و لا يتحقق دفعه إلا بتركه فيجب.

=============

فالنتيجة: أن الإقدام على ارتكاب المشتبه حرام.

(1) خبر «و ما قيل»، و جواب عن التوهم المزبور.

و حاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التوهم: هو وجهان: الأول منهما يرجع إلى منع الصغرى، و الثاني منها يرجع إلى منع الكبرى.

و حاصل الوجه الأول: أن الأحكام و إن كانت تابعة للمصالح و المفاسد؛ إلا إنهما ليستا راجعتين إلى المنافع و المضار حتى يكون احتمال المفسدة مساوقا لاحتمال الضرر، و احتمال المصلحة مساوقا لاحتمال المنفعة؛ بل قد تكون المصلحة منفعة و قد لا تكون، بل قد يكون فيما فيه المصلحة ضرر على المكلف كالإحسان إلى الفقراء، فإن مصلحته منوطة ببذل المال و هو ضرر، و كذا المفسدة فقد تكون ضررا و قد لا تكون؛ بل قد يكون فيما فيه المفسدة منفعة كسرقة الأموال.

و عليه: فاحتمال الضرر في مشتبه الحكم ضعيف لا يعتد به العقلاء، و لا يحكم العقل بوجوب دفعه.

و حاصل الوجه الثاني: - و هو منع الكبرى - أنه بعد تسليم الصغرى - بأن يقال: إن المصلحة و المفسدة مساوقتان للمنفعة و المضرة - لا يجب الاجتناب عن كل ضرر؛ بل قد يجب عقلا و شرعا تحمل بعض المضار مثل حكم العقل بوجوب بذل المال الكثير لإنقاذ مؤمن من الغرق. و حكم الشارع بوجوب ما يستلزم الضرر في المال أو النفس كالحج و الجهاد مثلا، هذا بالنسبة إلى الضرر المعلوم حيث وجب تحمله عقلا و شرعا، فكيف بالمشكوك فإنه أولى بالتحمل ؟

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) فلو لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فالمنع أولى.

(3) تعليل لقوله: «ممنوع»، و إشارة إلى منع الصغرى؛ إذ لا ملازمة بين الضرر و المفسدة، فإن في عدم إعطاء الزكاة مفسدة، و ليس فيه ضرر، و في بذل المال للفقراء مصلحة و ليس فيه نفع.

ص: 221

بضرر غالبا، ضرورة (1): أن المصالح و المفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع و المضار؛ بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر (2)، و المفسدة فيما فيه المنفعة (3)، و احتمال (4) أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا.

مع أن (5) الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا؛ بل يجب ارتكابه (6) أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها:

=============

(1) تعليل لعدم كون المفسدة ضررا غالبا.

(2) كدفع الزكاة.

(3) كسرقة أموال الغير.

(4) مبتدأ خبره قوله: «ضعيف»، و هو تتمة للمطلب المتقدم، أعني: عدم كون المفسدة المحتملة في المشتبه ضررا غالبا، فاحتمال ضرر في المشتبه ضعيف غالبا؛ بحيث لا يعتنى به قطعا؛ لأن إحراز الصغرى في ترتيب حكم الكبرى عليها مما لا بد منه.

(5) إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب، و هو يرجع إلى منع الكبرى.

و قد تقدم توضيح المنع.

و كيف كان؛ فوجوب دفع الضرر عقلا إنما يكون فيما إذا تعلق الغرض بدفعه، و أما إذا تعلق بعدم دفعه كما في فرض مزاحمته لما هو أهم منه فلا يستقل العقل حينئذ بلزوم دفعه.

(6) هذا الضمير و ضميرا «به، احتماله» راجعة على الضرر، و المراد بالموصول في «فيما» المورد الضرري، و ضمير «عليه» راجع على الموصول في «فيما»، و ضمير «نظره» راجع على الشارع. و المراد بالموصول في «مما» المصلحة، و ضمير «ضرره» راجع على المورد الضرري، و المعنى: أنه يجب ارتكاب الضرر أحيانا في المورد الضرري الذي يكون الأثر المترتب على ذلك المورد أهم في نظر الشارع من المصلحة الموجودة في الاحتراز عن ضرر ذلك المورد؛ كبذل المال، فإنه ضرر لكن يجب ارتكابه أحيانا في بعض الموارد كتحصيل الطهارة المائية؛ لأن الأثر المترتب على بذل المال في هذا المورد الضرري أهم في نظر الشارع من مصلحة إمساك المال و ترك بذله.

و في بعض الحواشي: جعل مرجع الضمير في «نظره» العقل لا الشارع.

و ضميرا «به، احتماله» راجعان على الضرر.

و كيف كان؛ فما في «الوصول إلى كفاية الأصول، ج 4 ص 311» - لا يخلو عن فائدة

ص: 222

بالنسبة المحصلين حيث قال: «فمثلا: كان في السفر ضرر خسارة أجرة الطريق لكن كان ترك هذا السفر موجبا لسرقة اللص أمواله؛ بحيث كان الضرر المتوجه عليه من ارتكاب السفر الضار لا يعد شيئا بالنسبة إلى الضرر المتوجه إليه في تركه، فإن العقل يوجب ارتكاب ذلك الضرر المتيقن فرارا عن ضرر أكثر، فكيف إذا كان الضرر محتملا لا متيقنا؟ و ما نحن فيه كذلك، فإن ضرر العسر و الحرج الناشئ من اجتناب المشتبهات أكثر من ضرر المشتبه حتى لو قطعنا بضرره، فكيف بما لو احتملنا ضرره كما هو الغالب ؟

و بهذا كله تحقق أن الأصل في المشتبه البراءة مطلقا من غير فرق بين الشبهة الحكمية و الموضوعية و الوجوبية و التحريمية إلا ما خرج بالدليل، أو لم يشمله دليل البراءة كالشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص، و الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، و الشبهة في الأمور المهمة كالدماء و الأموال و الفروج؛ بل و الشبهة البدوية الموضوعية قبل الفحص».

و تفصيل الكلام في هذه الموارد موكول إلى محله.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - قد قرر الدليل العقلي على وجوب الاحتياط بوجهين:

أما توضيح الوجه الأول منهما فيتوقف على مقدمة، و هي مؤلفة من صغرى وجدانية، و كبرى برهانية.

و الصغرى: أن كل مكلف بمجرد التفاته يعلم إجمالا بوجود واجبات و محرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب و الحرمة.

و الكبرى هي: استقلال العقل بتنجز التكاليف الشرعية بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد تقرر في محله: وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي من فعل كل ما احتمل وجوبه و ترك كل ما احتمل حرمته؛ لأن العلم بالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

و حاصل جواب المصنف عن هذا الوجه: هو انحلال العلم الإجمالي حقيقة أو حكما، و الأول: عبارة عن زوال العلم الإجمالي. و الثاني: أن لا يكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف كما في موارد الطرق و الأمارات.

2 - الإشكال على الانحلال بوجود مانع: و هو سبق العلم الإجمالي بوجود

ص: 223

تكاليف كثيرة على العلم بثبوت الطرق و الأصول المثبتة للتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة بالعلم الإجمالي السابق، فيؤثر العلم الإجمالي السابق في تنجز التكاليف المعلومة به، و لازم ذلك: وجوب الاحتياط في غير موارد الطرق و الأصول المثبتة من موارد الشك في التكليف و هو المطلوب مدفوع؛ بأن العلم الإجمالي السابق يؤثر في وجوب الاحتياط إذا كان المعلوم بالعلم اللاحق أمرا حادثا غير المعلوم بالعلم الإجمالي كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بوقوع قطرة من البول في أحدهما، ثم وقعت قطرة من الدم في أحدهما المعين، فلا ينحل العلم الإجمالي السابق بالعلم التفصيلي اللاحق.

و أما إذا كان المعلوم بالعلم التفصيلي اللاحق مما ينطبق عليه المعلوم بالعلم الإجمالي السابق، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما بالخصوص - في المثال المذكور - و نحن نحتمل أن هذا هو عين ما علمناه إجمالا بنجاسته سابقا، فينحل العلم الإجمالي السابق بالعلم التفصيلي اللاحق، و المقام من هذا القبيل، فإن التكاليف التي قامت عليها الطرق و الأصول المثبتة إن لم تكن هي عين المعلوم بالإجمال السابق فنحن نحتمل لا محالة أن تكون هي عينه، فينحل العلم الإجمالي من أصله.

3 - الإشكال على الانحلال: بأن الانحلال مبني على الانطباق أي: انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الأول على مؤديات الطرق. و الانطباق المذكور مبني على القول بحجية الأمارات و الطرق من باب السببية. و أما على القول بحجيتها من باب الطريقية كما هو الحق عند المصنف «قدس سره» فلا يتم الانحلال بانطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الأول على مؤديات الأمارات؛ و ذلك لاحتمال خطئها، و مع هذا الاحتمال لا يقطع في مواردها بأحكام حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها، فلا مجال حينئذ لدعوى الانطباق؛ و ذلك لكون التكليف الذي نهض عليه الطريق محتملا لا مقطوعا به.

و عليه: لا بد من الاحتياط في المشتبهات مدفوع؛ بأن الانحلال الحقيقي و إن كان غير حاصل إلا إن الانحلال الحكمي بمعنى اقتضاء الأمارة غير العلمية انصراف التكليف المنجز بالعلم الإجمالي إلى خصوص الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد يكون حاصلا، فنجري البراءة في غير مورد الأمارة من أطراف الشبهة و هو المطلوب.

4 - تقريب الوجه الثاني من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط: أن الأصل في الأشياء التي لا يدرك العقل حسنها و لا قبحها قبل الشرع هو الحظر و المنع، فيجب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية، فكل فعل محتمل الحرمة محكوم بالحرمة

ص: 224

عقلا، فشرب التتن المشكوك حكمه غير جائز عقلا.

5 - و قد أجاب - عن هذا الوجه - المصنف بوجوه:

الأول: أن مسألة الحظر في الأشياء قبل الشرع محل الخلاف و الإشكال، و لا يصح الاستدلال بما هو محل الخلاف، و لو صح ذلك لصح الاستدلال بالقول بالإباحة في حكم الأشياء قبل الشرع على البراءة في المقام.

الثاني: أن الإباحة ثابتة شرعا لما عرفت من تقديم أدلة البراءة على أدلة الاحتياط و التوقف للأخصية و الأظهرية. هذا مضافا إلى القرائن الصالحة لصرف ظواهر أوامر التوقف و الاحتياط من المولوية إلى الإرشادية.

عدم تمامية الاستدلال بالدليل العقلي على وجوب الاحتياط.

ص: 225

الأول (1): إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا و عقلا فيما لم يكن هناك أصل

=============

في تنبيهات البراءة

اشارة

(1) الغرض من عقد الأمر الأول: هو بيان شرط من شروط جريان أصالة البراءة و هو عدم وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها، فأصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي في مورده؛ لأن الأصل الجاري في الموضوع يتقدم على الأصل الجاري في الحكم بالحكومة كما يقول الشيخ به أو بالورود، كما هو مختار المصنف.

و توضيح ما هو المراد من الأصل الموضوعي يتوقف على مقدمة و هي: أن الأصل الموضوعي و إن كان يطلق بحسب الاصطلاح على الأصل الجاري في الموضوع لإحراز حكمه؛ كاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلا فإنه رافع لموضوع أصالة الحل فيه؛ إلا أن المراد منه في المقام ليس ما هو المصطلح؛ بل هو مطلق الأصل الذي يكون رافعا لموضوع الأصل الآخر، سواء كان جاريا في الموضوع كالمثال المذكور، أو في الحكم كاستصحاب حرمة الوطء عند الشك في جوازه بعد حصول النقاء، و قبل اغتسال المرأة عن الحيض. فاستصحاب حرمة الوطء مقدم على أصالة الإباحة الحكمية من باب الحكومة أو الورود؛ لأن الحكم بالحلية عند الشك فيها و في الحرمة إنما يصدق إذا لم يرد من الشارع تعبد بأحد طرفي الشك، و معه لا شك في الحرمة الظاهرية.

و بعبارة واضحة: أن الشك في حلية الوطء و حرمته ناش عن الشك في بقاء الحرمة السابقة و عدمه، فمع الأمر بالبقاء و النهي عن النقض لا شك في الحكم حتى يتمسك بأصالة الحلية.

و كيف كان؛ فإن موضوع أصل البراءة عقلا هو عدم البيان، و الأصل الموضوعي بيان يرتفع به موضوع أصل البراءة عقلا و موضوع أصل البراءة شرعا هو الشك قد يرتفع تعبدا بالأصل، فيكون الأصل السببي من مصاديق الأصل الموضوعي؛ لأنه حاكم على الأصل المسببي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن ما أفاده المصنف من أن جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي كالبراءة في شرب التتن مثلا حيث لا يكون في موردها أصل موضوعي، و إلا فالأصل الموضوعي يكون بيانا عقلا و حجة شرعا، فيكون رافعا للشك و لو تعبدا، فيتقدم على أصالة البراءة بالحكومة أو الورود على خلاف، من دون فرق بين أن تكون الشبهة حكمية كاستصحاب حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال، فيما إذا شك في جواز الوطء، أو تكون الشبهة موضوعية

ص: 226

كاستصحاب خمرية مائع فيما إذا شك في انقلابه خلا، فإن الاستصحاب في الأول يمنع عن التمسك بأصالة البراءة، و في الثاني رافع لموضوع البراءة فيتقدم على أصالة البراءة في كلا الموردين.

و كيف كان؛ فالضابط هو: أن كل مورد جعل الشارع للحكم بالحلية سببا خاصا كالأموال و الفروج و اللحوم، حيث جعل سبب حلية الأموال الملكية، و الفروج النكاح، و اللحوم التذكية، فإذا شك في حلية هذه الأمور لأجل الشك في تحقق أسبابها لا تجري أصالة الحلية و البراءة؛ لأجل وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها، و هو أصالة عدم تحقق السبب في كل واحد منها.

ثم يتفرع على الضابط المذكور جريان أصالة عدم التذكية و الحكم بالحرمة و النجاسة فيما إذا شك في حلية لحم حيوان من جهة الشك في قبوله التذكية؛ لأن من شرائط التذكية قابلية المحل لها، و هي مشكوكة بالفرض، فتجري أصالة عدم التذكية، و حينئذ:

لا مجال لأصالة البراءة.

و حاصل الكلام في المقام: أن أصل المطلب بنحو الكلية معلوم لا كلام فيه، و إنما الكلام في الفرع المذكور في المسألة و هو ما إذا شك في حلية حيوان لأجل الشك في التذكية، فهل تجري أصالة عدم التذكية؛ كي لا يكون مجال لأصالة البراءة أو لا تجري ؟ و كيف كان؛ فإن المشهور مثلوا في المقام بأصالة عدم التذكية عند الشك فيها، فحكموا بتقدمها على أصالة الطهارة و الحل.

و بما أن المسألة مفيدة جدا فلا بد من بسط الكلام في توضيحها فنقول: إن توضيحها يتوقف على مقدمة و هي مشتملة على أمور تالية:

1 - بيان صور المسألة و أقسامها.

2 - بيان ما هو المقصود من التذكية شرعا.

3 - بيان ما هو موضوع الحرمة و النجاسة.

و أما صور المسألة فهي: أن الشك في الحرمة لا يخلو عن أحد احتمالين:

أحدهما: أن تكون الشبهة فيه حكمية.

و ثانيهما: أن تكون موضوعية.

و أما أقسام الشبهة الحكمية فهي أربعة.

1 - أن يكون الشك في الحلية من غير جهة التذكية و عدمها، و إنما هو من جهة عدم

ص: 227

الدليل على الحلية كالشك في لحم الحمار فرضا، و المرجع فيه أصالة الحلية لكون التذكية محرزة بالوجدان، فيحكم بالحلية ما لم تثبت الحرمة.

2 - أن يكون الشك في الحلية لأجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية؛ كالحيوان المتولد من الشاة و الخنزير، من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما، و لم يكن له مماثل مما يقبل التذكية أو لا يقبلها، فالمرجع فيه أصالة عدم التذكية؛ لأن القابلية إما جزء لها أو قيد، و على كل تقدير: فلا يفيد قطع الأوداج مع سائر شرائط التذكية إلا إذا وقع على حيوان قابل للتذكية، و مع الشك فيها يستصحب عدم التذكية إلا أن يكون هناك عموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل كالخنزير مثلا، فحينئذ يحكم بالحلية بعد وقوع التذكية عليه؛ إذ مع وجود الدليل الاجتهادي - كالعموم - لا تجري أصالة عدم التذكية.

3 - أن يكون الشك في الحلية ناشئا من جهة الشك في اعتبار شيء في التذكية، كما إذا شك في اعتبار كون الذبح مشروطا بآلة من الحديد و عدمه مثلا، و المرجع فيه أصالة عدم التذكية فيما إذا تم الذبح بغير الحديد؛ للشك في تحقق التذكية فيحكم بالحرمة.

4 - أن يكون الشك في الحلية بعد العلم بالتذكية من جهة مانع عن تأثيرها في الحلية؛ كعروض الجلل للحيوان، و المرجع فيه أصالة عدم المانعية، فيحكم بالحلية. هذا تمام الكلام في أقسام الشبهة الحكمية.

و أما أقسام الشبهة الموضوعية فهي أيضا أربعة:

1 - ما كان الشك فيه ناشئا من جهة احتمال عدم وقوع التذكية لأجل الشك في أصل تحقق الذبح، أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط؛ ككون الذابح مسلما أو كون الذبح بالحديد أو غيرهما، مع العلم بكون الحيوان قابلا، و المرجع فيه هو: أصالة عدم التذكية فيحكم بالحرمة.

2 - ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة دوران اللحم بين كونه من حيوان مأكول اللحم، و بين كونه من غيره، بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية و وقوعها عليه مع الشرائط، كما إذا لم يعلم أنه من الشاة أو الأرنب، فالمرجع فيه هو أصالة الحلية، و ذلك للعلم بالتذكية، و احتمال الحرمة يرتفع بأصالة الحلية.

ص: 228

3 - ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة احتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتا بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه، كما لو تردد المذبوح بين كونه شاة أو كلبا من جهة الظلمة مثلا، فالمرجع فيه أصالة الحلية إذا قلنا بعموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية، أو قلنا بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي؛ كاستصحاب عدم الكلبية في المقام مثلا.

و أما إذا منعنا عن كلا الأمرين أو عن أحدهما: فإن قلنا: بأن التذكية أمر وجودي بسيط مسبب عن الذبح الجامع للشرائط، فالمرجع هو استصحاب عدم التذكية، فيحكم بالحرمة. و أما إذا قلنا: بأن التذكية عبارة عن نفس الفعل الخارجي: فالمرجع هو أصالة الحلية للقطع بتحقق التذكية.

4 - ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة احتمال طرو عنوان مانع عن التذكية؛ كالجلل في الشاة مثلا بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ذاتا، و العلم بوقوعها عليه، و مرجعه إلى أصالة الحلية لأصالة عدم طرو مانع عن التذكية، فتثبت التذكية بضم الوجدان و هو الذبح الجامع للشرائط إلى الأصل المذكور؛ كما في «دروس في الرسائل، ج 2، ص 405».

هذا تمام الكلام في صور المسألة و أحكام تلك الصور و الأقسام.

و أما الأمر الثاني - و هو بيان ما هو المقصود من التذكية شرعا - فالتحقيق: أن التذكية بمفهومها العرفي و إن كانت عبارة عما يساوق النزاهة و النظافة و الطهارة؛ إلا إنها شرعا في محل الكلام تدور بين أمور:

1 - أن تكون أمرا بسيطا مسببا من الأمور التالية:

أ - فري الأوداج.

ب - و كونه بالحديد.

ج - و قابلية الحيوان للذبح.

د - مستقبلا إلى القبلة.

ه - كون الذبح بالتسمية.

و - كون الذابح مسلما.

2 - أن تكون أمرا انتزاعيا ينتزع من هذه الأمور، دون أن يكون له واقعية وراء منشأ انتزاعه.

ص: 229

3 - أن تكون مركبة من هذه الأمور في حال الاجتماع.

و لا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الرابع؛ إذ مقتضى الشك في بعض ما يعتبر في التذكية عدم تحققه.

و أقرب الاحتمالات هو الاحتمال الرابع.

و الاحتمالان الأولان بعيدان عن الفهم العرفي، و لعل من ذهب إلى أن التذكية أمر بسيط أو منتزع خلط التذكية «بالذال» بالتزكية «بالزاء»، فكون الثاني أمرا بسيطا أو منتزعا أمر محتمل، و أما الأول فالظاهر هو الذبح و فري الأوداج الوارد على حيوان قابل، غير أن الشارع شرط هنا شرائط و التذكية بمعنى الذبح و فري الأوداج أمر عرفي كان قبل الإسلام و بعده، غير أن الإسلام أضاف شروطا، و لذلك يصح الرجوع إلى إطلاق أدلة التذكية لنفي اعتبار الأمر المشكوك، خلافا لمن لم يجعلها أمرا عرفيا كالمحقق الخوئي «قدس سره»؛ كما في «المحصول في علم الأصول، ج 3، ص 435» مع تصرف ما.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني من المقدمة.

بقي الكلام في الأمر الثالث و هو: بيان ما هو موضوع الحرمة و النجاسة و الأقوال فيه ثلاثة:

4 - أن تكون عبارة عن فري الأوداج مشروطة بالأمور الخمسة الباقية.

إذا عرفت هذه الاحتمالات في التذكية فاعلم: أنه لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية على المعنى الأول في صورة الشك في تحقق التذكية؛ لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في حصول ذلك الأمر البسيط و عدمه.

و لا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الثالث إلا من باب أصل العدم الأزلي؛ لأن الجزء الأول و الثاني و الرابع و الخامس و السادس حاصل بالوجدان، و الجزء الثالث - و هو القابلية ليس عدمه متيقنا في السابق إلا من باب العدم الأزلي، فتجري حينئذ أصالة الطهارة بلا مانع، بناء على القول بعدم حجية أصل العدم الأزلي.

قول: بأن موضوع الحرمة و النجاسة أمر وجودي، و هو الميتة لازمة لعدم التذكية.

و قول: بأنه أمر عدمي و هو غير المذكى.

و قول: بالتفصيل بين الحرمة و النجاسة، فموضوع الحرمة أمر عدمي، و موضوع النجاسة أمر وجودي.

فإذا كان موضوع الحرمة أمرا وجوديا لم تنفع أصالة عدم التذكية - على تقدير

ص: 230

جريانها - في إثبات الحرمة؛ إلا بناء على الأصل المثبت. و أما على القول الثاني: فتترتب الحرمة على أصل عدم التذكية؛ إذ ترتب الحرمة على أصالة عدم التذكية حينئذ يكون من قبيل ترتب الحكم على موضوعه. هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فنعود إلى كلام المصنف في هذه المسألة.

فنقول: إن المصنف لم يذكر جميع صور المسألة، بل أشار إلى بعض صورها و هي خمسة من الثمانية، و هي ثلاث صور من الشبهة الحكمية، و صورتان من الشبهة الموضوعية.

و أما صور الشبهة الحكمية فهي الثلاثة من الأربعة أعني: الصورة الأولى و الثانية و الرابعة.

و الصورة الأولى: ما إذا كان الشك في مقدار قابلية الحيوان للتذكية بعد العلم بأصلها بمعنى: أنه لا يعلم بأن المترتب عليها هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية، و قد عرفت: أن المرجع فيها أصالة الحلية.

الصورة الثانية: ما إذا كان الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية، و أنه خلق قابلا لها أم لا؟ و قد عرفت: أن المرجع فيها هو الأصل الموضوعي أعني: استصحاب عدم التذكية، فيحكم بنجاسته و حرمة لحمه.

الصورة الرابعة: ما إذا كان الشك في بقاء القابلية؛ لاحتمال ارتفاعها ببعض ما طرأ على الحيوان كالجلل، و قد عرفت: أن المرجع فيها أصالة عدم المانعية، أو استصحاب بقاء القابلية، فيحكم بطهارته و حلية لحمه. هذا كله في صور الشبهة الحكمية.

و أما صورتا الشبهة الموضوعية، و هما الصورة الأولى و الرابعة و قد عرفت: أن المرجع في الصورة الأولى هو أصالة عدم التذكية، فيحكم بالحرمة، و في الصورة الرابعة هو أصالة الحلية لأصالة عدم طرو عنوان مانع عن التذكية. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني - أعني ما هو المقصود من التذكية - فظاهر كلام المصنف «قدس سره» أن التذكية عبارة عن فري الأوداج مع الشرائط التي منها قابلية المحل، حيث قال:

«بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج مع سائر شرائطها».

و أما الأمر الثالث - أعني ما هو موضوع الحرمة و النجاسة - فظاهر كلامه: أن موضوعهما كل واحد من الميتة و غير المذكي، بمعنى: أن الحرمة و النجاسة كما تترتبان

ص: 231

موضوعي مطلقا (1) و لو كان (2) موافقا لها، فإنه (3) معه لا مجال لها أصلا...

=============

على الميتة تترتبان على غير المذكى؛ إذ الخارج عن موضوعهما هو المذكى فقط.

و على هذا: لا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا في ترتيب أثري الحرمة و النجاسة كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس سره»، فالميتة عنده ليست وجودية؛ بل هي عدمية أي: لم يذك و إنما قال المصنف بعدم الحاجة إلى ما صنعه الشيخ؛ لضرورة: كفاية كون عنوان عدم التذكية مثل عنوان الميتة حكما، فهما في حكم الشارع بالنجاسة و الحرمة سواء، و لا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الموضوع - كما فعله الشيخ «قدس سره».

هذا غاية ما يمكن في توضيح هذه المسألة على نحو الاختصار، و هناك كلام طويل جدا تركناه رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: سواء كان الأصل الموضوعي موافقا للبراءة أو مخالفا لها.

(2) بيان للإطلاق. و المقصود: أن عدم جريان أصالة البراءة فيما إذا كان المورد مجرى للأصل الموضوعي لا يختص بما إذا كان مفاد أصالة البراءة منافيا لما يقتضيه الأصل الموضوعي، كما إذا اقتضى الاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلا المستلزمة لحرمته، و اقتضى أصالة البراءة جواز شربه؛ بل لا تجري البراءة حتى إذا كان مفادها موافقا للأصل الموضوعي الجاري في موردها كجريان الاستصحاب في حلية مائع شك في انقلابه خمرا، فإن لازم مفاده - و هو حلية الشرب - و إن كان موافقا لمفاد أصالة البراءة؛ لكنها لا تجري أيضا بعد جريان الأصل الموضوعي المحرز للموضوع.

ففي كل مورد جرى فيه أصل موضوعي لم يجز إجراء البراءة.

و الوجه فيه: أن الأصل الموضوعي، يخرج الموضوع عن كونه مشكوكا؛ إذ هو في حكم العلم، فكما أنه لا تجري البراءة مع العلم لا تجري مع جريان أصل موضوعي، و لو كان موافقا لها؛ بأن كانت البراءة و الأصل الموضوعي كلاهما يحكمان بالإباحة.

(3) الضمير للشأن، و هذا تعليل لاشتراط جريان أصالة البراءة بعدم وجود الأصل الموضوعي.

وجه الاشتراط: هو كون الأصل الموضوعي واردا على أصالة البراءة.

فمع وجود الأصل الموضوعي لا مجال للبراءة أصلا.

ص: 232

لوروده (1) عليها كما يأتي تحقيقه (2)، فلا تجري (3) مثلا (4) أصالة الإباحة في حيوان

=============

(1) أي: الأصل الموضوعي «عليها» أي: على البراءة، و معنى الورود: هو رفع موضوع البراءة شرعا؛ إذ موضوع البراءة هو الشك و الأصل الموضوعي يرفع الشك.

و توضيح ما ذكره المصنف «قدس سره»: أن الشك في ذكاة الحيوان تارة: يكون لأجل الشك في نفس الحكم، فالشبهة حكمية و أخرى: لأجل الشك في متعلقه، بعد العلم بنفس الحكم، فالشبهة موضوعية.

الشبهة الموضوعية - أيضا قد يكون للشك في أصل قابلية الحيوان المعين للتذكية لأجل الشك في كونه مما يقبل التذكية، كما إذا شك في أن هذا الحيوان المذبوح غنم أو كلب بعد العلم بحكم كليهما، و أن الأول يقبل التذكية و الثاني لا يقبلها، و قد يكون للشك في طروء مانع عن قابليته للتذكية كالجلل بعد العلم لمانعيّته شرعا، كما إذا شك في أن هذا الغنم المذبوح هل كان جلالا حتى لا تؤثر التذكية فيه، أم لا حتى تؤثر و يكون مذكى، فهذه خمس صور من الصور الثمان تعرض لها المصنف «قدس سره».

(4) التعبير ب «مثلا» لإفادة أن تقدم الأصل الموضوعي على غيره لا يختص بما إذا كان ذلك الغير أصالة الإباحة المثبتة للإباحة الظاهرية؛ بل يقدم أيضا على أصالتي

ص: 233

شك في حليته، مع الشك في قبوله التذكية (1)، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط الطهارة و البراءة النافية لحرمة اللحم المشكوك قابليته للتذكية، و ذلك لورود الأصل الموضوعي - و هو فيما نحن فيه أصالة عدم التذكية - على جميع هذه الأصول.

=============

(1) هذا شروع في بيان الصورة الأولى من الصور الثلاث للشبهة الحكمية و هي:

قابلية حيوان للتذكية، كما إذا تولد حيوان من طاهر و نجس - مثل الغنم و الكلب - و لم يتبع أحدهما في الاسم، و لم يكن له اسم خاص يندرج به تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة فيشك في قابليته للتذكية، فإن أصالة الحل لا تجري فيه إذا ذبح على الشرائط المخصوصة من إسلام الذابح و التسمية و غيرهما، و ذلك لوجود الأصل الموضوعي و هو استصحاب عدم التذكية أي: عدم وقوع التذكية المعتبرة شرعا على هذا الحيوان، حيث إن من شرائطها قابلية المحل لها، و مع الشك في القابلية يشك في وقوع التذكية المعتبرة عليه، فيستصحب عدمها، بتقريب: أن هذا الحيوان حال حياته لم يكن مذكى، و بعد قطع أوداجه يشك في انتقاض عدم التذكية بالتذكية، فيستصحب عدمها. هذا هو الأصل الموضوعي، و مع جريان هذا الأصل الموضوعي الموجب لاندراج الحيوان في «ما لم يذك» لا مجال لأصالة الحل.

و ذلك لأن موضوعها - كاللحم فيما نحن فيه - هو الشيء بوصف أنه مشكوك الحكم، فإذا جرى الأصل الموضوعي و اندرج في غير المذكى صار معلوم الحكم؛ لقيام الإجماع على حرمته حينئذ كحرمة الميتة، فينتفي موضوع أصالة الحل و هو الجهل بحكمه، فلا يبقى مجال لجريانها كما إذا مات حتف أنفه.

لا يقال: الميتة أمر وجودي؛ لأنها عبارة عما مات حتف أنفه، و المذكى أيضا أمر وجودي؛ لأنه عبارة عن الحيوان الذي زهق روحه بكيفية خاصة اعتبرها الشارع، فهما ضدان وجوديان، و حرمة أكل اللحم مترتبة في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ (1)على عنوان «الميتة» لا على عنوان «غير المذكى»، و حينئذ: فاستصحاب كون الحيوان غير المذكى لا يصلح لإثبات كونه ميتة حتى يترتب عليه حرمة الأكل؛ لأن إثباته به يكون من إثبات أحد الضدين، و هو الميتة، بنفي الضد الآخر أعني المذكى، و هو متين على القول بحجية الأصل المثبت. و سيأتي في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى عدم حجيته، فيسقط استصحاب عدم التذكية، و تصل النوبة إلى الأصل المحكومة أو المورود و هو أصالة الحل.

ص: 234


1- المائدة: 3.

المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجه (1) فيما لم يذكّ و هو (2) حرام إجماعا؛ كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة (3) إلى إثبات أن الميتة تعمّ غير المذكى لأنا نقول: استصحاب عدم التذكية و إن لم يصلح لإثبات كون الحيوان ميتة؛ لعدم حجية الأصل المثبت، لكن حيث أن حرمة الأكل لم تثبت في الآية الشريفة للميتة على سبيل الحصر، و قد ثبت بالإجماع اتحاد الميتة و غير المذكى حكما، فالحرمة كما ثبتت في الأدلة للميتة كذلك ثبتت لغير المذكى أيضا فعنوان «غير المذكى» كعنوان «الميتة» بنفسه موضوع مستقل لحكم الشارع بالحرمة، و من الممكن إحراز هذا الموضوع بأصالة عدم التذكية فيترتب عليه الحرمة، فليس المقصود إثبات حرمة الميتة له ليتوجه الإشكال، بل نقول: هما موضوعان مختلفان حكم على كليهما بحكم واحد و هو الحرمة.

=============

(1) هذا الضمير و ضميرا «حليته، فإنه» راجعة على الحيوان.

(2) يعني: أن «ما لم يذك» بنفسه موضوع للحكم بالحرمة، فيجري فيه الأصل و إن لم يصدق عليه «الميتة»، حيث إنها ما مات حتف الأنف و قد عرفت توضيحه في «لا يقال... لأنا نقول».

و كيف كان؛ فمعنى العبارة: أن أصالة عدم التذكية تجري و تدرج الحيوان في عنوان غير المذكي، و هو «غير المذكى» «حرام إجماعا» كحرمة الميتة.

(3) هذا متفرع على تغاير «ما لم يذك» و «الميتة» مفهوما، و اتحادهما حكما بالإجماع، و فيه تعريض بكلام الشيخ الأنصاري، حيث حكم بحرمة «غير المذكى»؛ لصدق عنوان «الميتة» عليه في لسان الشرع، حيث قال: «إن الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه؛ بل كل إزهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا». «دروس في الرسائل، ج 3، ص 11».

و حاصل ما أفاده الشيخ «قدس سره»: أن الميتة و إن كانت بحسب اللغة بمعنى ما مات حتف أنفه؛ إلا إنها شرعا بمعنى غير المذكى، فالميتة تعم غير المذكى شرعا، فيحكم بحرمة غير المذكى كحرمة الميتة.

و حاصل اعتراض المصنف «قدس سره» عليه: أن إدراج «غير المذكى» في الميتة غير وجيه؛ لأن الميتة لغة مباين لغير المذكى، لأن الميتة لغة: عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه، و غير المذكى عبارة عما زهق روحه بسبب غير شرعي و لو كان بالذبح الفاقد لبعض الشروط المعتبرة فيه؛ كالاستقبال و التسمية، فهما متباينان.

و مع مباينة هذين الموضوعين معنى لا وجه لتعميم أحدهما و هو الميتة للآخر أعني:

ص: 235

شرعا (1)، ضرورة (2): كفاية كونه (3) مثله حكما؛ و ذلك (4) بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة (5)، مع سائر شرائطها (6) عن خصوصية في الحيوان التي (7) بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، و مع الشك في تلك الخصوصية (8):

=============

غير المذكى كما صنعه الشيخ «قدس سره»، فلذا قال المصنف اعتراضا عليه: «فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى».

نعم؛ هما متحدان حكما؛ للإجماع على لحوق أحكام الميتة لما لم يذك من الحيوانات، و بهذا يصير «غير المذكى» موضوعا لحكم الشارع بحرمة لحمه، و لا مانع من إحرازه بأصالة عدم التذكية.

(1) كما التزم بهذا التعميم الشيخ الأنصاري «قدس سره»، فحكم بأن الميتة شرعا أعم من الميتة لغة.

(2) تعليل لقوله «فلا حاجة»، و بيان لوجه التعريض بكلام الشيخ «قدس سره».

(3) أي: كفاية كون «ما لم يذك» مثل: «ما مات حتف أنفه» - المستفاد من قوله:

«و هو حرام إجماعا كما إذا مات حتف أنفه» - حكما و إن اختلفا مفهوما، فيحكم عليه بالحرمة و النجاسة كما حكم بهما على ما مات حتف أنفه.

(4) بيان لوجه جريان أصالة عدم التذكية المشار إليها في قوله: «فأصالة عدم التذكية تدرجه فيما لم يذك». و محصله: أن التذكية لما كانت عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع الشرائط الشرعية التي منها خصوصية في الحيوان تجعله قابلا لتأثير التذكية بهذا المعنى في ترتب الطهارة فقط، أو هي مع حلية الأكل على الحيوان.

(5) أي: مريء الطعام و التنفس و عرقا الدم الغليظان.

(6) أي: الإسلام و الحديد و القبلة و التسمية؛ بأن تكون هذه الشرائط مع خصوصية «في الحيوان التي بها»، أي: بتلك الخصوصية «يؤثر» هذا الفري «فيه» أي: في ذلك الحيوان «الطهارة وحدها» في الحيوانات التي ليست قابلة للأكل كالسباع، «أو مع الحلية» في الحيوانات القابلة لها كالأنعام و نحوها. و صريح كلام المصنف في المقام - حيث قال: «بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج...» الخ - أن التذكية بنظره هو نفس الذبح بالشرائط لا المجموع المركب من الأمور المعهودة مع القابلية، و لا الأمر البسيط المتحصل من الأفعال.

(7) المراد بالموصول هو: الخصوصية التي قد عبر عنها الشيخ بالقابلية.

(8) أي: مع الشك في أن الحيوان هل فيه هذه القابلية أم لا؟ يكون مقتضى

ص: 236

فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها (1) كما لا يخفى.

نعم (2)؛ لو علم بقبوله التذكية و شك في الحلية: فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه استصحاب عدم التذكية عند الشك في القابلية هو عدم الطهارة و الحلية، و لا مجرى لأصالة الإباحة في لحم الحيوان المشكوك قابليته لها.

=============

(1) أي: شرائط التذكية من التسمية و استقبال القبلة و إسلام الذابح و الذبح بالحديد، و منها الخصوصية بمعنى القابلية، فمع الشك فيها كان الأصل عدمها، فلا يحكم بحلية حيوان إن أجريت عليه التذكية الظاهرية إذا لم يعلم بوجود تلك الخصوصية فيه؛ كالمتولد من الشاة و الكلب، و إنما تعلم تلك الخصوصية من حكم الشارع بقابلية الحيوان الفلاني للتذكية، أو قيام الإجماع عليه؛ و إلا كان الأصل عدمها.

(2) استدراك على قوله: «فالأصل عدم تحقق التذكية»، و إشارة إلى الصورة الثانية.

و هي ما إذا كان الشك في حلية لحمه مع العلم بتأثير التذكية في طهارته.

و غرضه من هذا الاستدراك: أن أصالة الإباحة تجري في هذه الصورة الثانية.

توضيح ذلك: أنه إذا علم قابلية الحيوان للتذكية و علم حصول طهارته بها لإحراز الذبح بشرائطه؛ لكن شك في حلية لحمه أيضا بالتذكية، فإن أصالة الحل تجري و يحكم بحلية لحمه، و لا مجال للأصل الحاكم أو الوارد و هو استصحاب عدم التذكية، للعلم بتحققها حسب الفرض، و الشك إنما هو في أن ما يترتب عليها أثران و هما الطهارة و الحلية كما تترتبان على تذكية مأكول اللحم، أو أثر واحد و هو الطهارة فقط، كما تترتب على تذكية غير مأكول اللحم ؟

يعني: نعلم أن هذا الحيوان قابل للتذكية؛ لكن لا نعلم أنه من قبيل البقر و الغنم، أو من قبيل الأرنب و الثعلب، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية و بحلية لحمه استنادا إلى أصالة الحل.

و وجه عدم المجال للأصل الحاكم - أعني: استصحاب عدم التذكية - أنه ليس هنا أصل يجري في نفس قابلية الحيوان لحلية لحمه بالتذكية حتى يستند إليه و يحكم بمقتضاه بحلية لحمه مثلا؛ لأن الحيوان إما خلق قابلا لها أو خلق غير قابل لها، فليس للقابلية المذكورة أو لعدمها حالة سابقة حتى تستصحب، و حيث لا يجري الأصل الحاكم فتصل النوبة إلى الأصل المحكوم، أعني: أصالة الحل؛ لأن هذا الحيوان بعد ورود التذكية الموجبة لطهارته عليه يكون ظاهرا مشكوك الحل و الحرمة، فيحكم بحليته استنادا إلى

ص: 237

حينئذ (1) إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، و لا أصل فيه إلا أصالة الإباحة، كسائر ما شك (2) في أنه من الحلال أو الحرام.

هذا (3) إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية؛ كما إذا أصالة الحل، فهو نظير شرب التتن المشكوك حكمه الكلي، حيث تجري فيه أصالة الحل بلا مانع كما هو واضح.

=============

(1) أي: حين العلم بقبوله للتذكية و صيرورته طاهرا بورودها عليه.

(2) كالشك في حلية شرب التتن و نحوه من الشبهات الحكمية، فإن المرجع فيه أصالة الحل.

(3) إشارة إلى الصورة الثالثة، و هي ما إذا كان الشك في الحكم لأجل الشك في مانعية شيء عن تأثير التذكية في الطهارة وحدها، أو هي مع الحلية، يعني: ما ذكرناه من عدم جريان الأصل الحكمي كأصالتي الحل و الطهارة عند جريان الأصل الموضوعي كاستصحاب عدم التذكية لوروده عليه إنما هو فيما إذا لم يكن أصل موضوعي آخر يوافق الأصل الحكمي، و نعني بالأصل الموضوعي الموافق له: ما يثبت قابليته للتذكية، فلو كان هناك أصل موضوعي موافق حكم به و لم يجر الأصل الحكمي كما لم يجر في الصورة الأولى.

و غرضه «قدس سره» من هذا الكلام: أن ما ذكرناه في الصورة الأولى - من عدم جريان أصالة الإباحة مع وجود الأصل الموضوعي المخالف لها، كاستصحاب عدم التذكية المقتضي لنجاسته الحيوان و حرمة لحمه كما عرفت توضيحه - بعينه جار في هذه الصورة الثالثة، و هي ما إذا كان الأصل الموضوعي موافقا لأصالة الإباحة؛ كاستصحاب قبوله التذكية الموافق لأصالة الطهارة و الحلية، فإنها لا تجري أيضا، و إنما الجاري هو الأصل الموضوعي المقتضي لطهارة الحيوان و حلية لحمه.

و كيف كان؛ فإن الأصل الموضوعي كالاستصحاب إذا جرى في مورد كان واردا على أصالة الحل، سواء وافقها في المؤدى كاستصحاب قابلية الحيوان للتذكية، أم خالفها فيه كاستصحاب عدم التذكية؛ و ذلك لزوال الشك في ناحية الحكم بإجراء الأصل الموضوعي.

و على هذا: فإذا علم قابلية حيوان للتذكية و شك في ارتفاعها بجلل و نحوه: فإن استصحاب بقاء القابلية للتذكية - بعد صيرورته جلالا - يحرز قيد التذكية الموجبة لحلية اللحم حينئذ، و هذا الأصل الموضوعي الموافق لأصالة الحل كما يمنع عن جريان أصالة

ص: 238

شك (1) - مثلا - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها أم لا (2)؟ فأصالة قبوله (3) لها معه محكمة، و معها (4) لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو (5) قبل الجلل كان يطهر و يحل بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنه (6) كذلك بعده.

=============

الحل لكونها مورودة، كذلك يمنع عن جريان أصالة عدم التذكية لأن منشأ الشك في التذكية ليس أصل القابلية حتى تجري أصالة عدم التذكية من جهة عدم إحراز شرط التذكية و هو القابلية؛ بل منشأ الشك بقاء القابلية بعد العلم بوجودها حسب الفرض، و إنما الشك في رافعية الموجود - و هو الجلل - لها، فتستصحب و يحرز بقاؤها تعبدا، و قد ورد فعل المذكى عليه بالوجدان، فتحرز التذكية بما لها من الأجزاء و الشرائط - بناء على تركبها من فري الأوداج و غيره - كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان، و بعضها بالأصل، فلا يكون استصحاب القابلية مثبتا كي يقال بعدم حجية الأصل المثبت.

(1) نعم؛ بناء على بساطة التذكية - و هي الأثر المترتب على الذبح - لا تثبت التذكية الفعلية بأصالة بقاء القابلية إلا على القول بحجية الأصل المثبت. فتدبر.

مثال للمنفي، و هو وجود أصل موضوعي آخر في المسألة غير أصالة عدم التذكية، و هو الأصل الموضوعي المثبت للتذكية؛ كاستصحاب قبول الحيوان لها.

ثم إن هذا إشارة إلى الصورة الثالثة.

(2) هذا مجرد فرض، و إلا فلا شك بحسب الأدلة الاجتهادية في عدم حلية لحم الجلال بالذبح؛ بل تتوقف على استبراء الحيوان على النحو المذكور في كتاب الفقه.

(3) أي: فأصالة قبول الحيوان للتذكية، يعني: استصحاب قابليته لها الثابتة له قبل الجلل محكمة، و ضمير «قبوله» راجع على «الحيوان»، و ضمير «لها» إلى التذكية، و ضمير «معه» إلى «الجلل».

(4) يعني: و مع أصالة بقاء قابليته للتذكية الثابتة له قبل الجلل لا مجال لجريان أصالة عدم تحقق التذكية؛ لتقدم استصحاب القابلية التي هي شرط للتذكية عليها.

(5) هذا استصحاب حكمي تعليقي لإثبات الطهارة و الحلية، بأن يقال: كان هذا الحيوان قبل الجلل إذا ذبح على الوجه المشروع يطهر و يحل، و هو باق على ما كان عليه.

(6) هذا الضمير راجع على الحيوان، و قوله: «كذلك» يعني: يطهر و يحل بالفري مع سائر شرائط التذكية، و ضمير «بعده» راجع على الجلل يعني: أن مقتضى الأصل و هو الاستصحاب صيرورة الحيوان طاهرا و حلالا بالفري مع سائر الشرائط بعد الجلل أيضا.

ص: 239

و مما ذكرنا (1): ظهر الحال فيما اشتبهت حليته و حرمته بالشبهة الموضوعية من و في «منتهى الدراية، ج 5، ص 429» ما هذا لفظه: «و قد تحصل إلى هنا أن المصنف «قدس سره» بيّن من صور الشك في التذكية ثلاث صور للشبهة الحكمية:

=============

«الأولى: الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية، و أنه خلق قابلا لها أم لا، و قد عرفت: أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي، أعني: استصحاب عدم التذكية، فيحكم بنجاسته و حرمة لحمه.

الثانية: الشك في مقدار قابليته لها بعد العلم بأصلها، فلا يعلم أن المترتب عليها هل هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية، و قد عرفت أيضا: أن الجاري فيه هو الأصل الحكمي، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية، و بحلية لحمه استنادا إلى أصالة الحل.

الثالثة: الشك في بقاء القابلية لاحتمال ارتفاعها ببعض ما طرأ على الحيوان كالجلل، و قد عرفت: أن الجاري هو الأصل الموضوعي أيضا، أعني: استصحاب قابليته لها، فيحكم بطهارته و حلية لحمه. هذا كله في صور الشبهة الحكمية من الشك في التذكية، و أما صورتا الشبهة الموضوعية فسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(1) هذا شروع في بيان صورتي الشبهة الموضوعية من الشك في التذكية، يعني: و مما ذكرنا - من جريان أصالة عدم التذكية إذا شك في أصل القابلية، كما في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية، و جريان أصالة بقاء القابلية إذا شك في زوالها بجلل و نحوه، كما في الصورة الثالثة منها - ظهر حكم صورتي الشبهة الموضوعية بتقريب: أن منشأ الشك في التذكية إن كان هو الشك في وجود ما يعتبر فيها من إسلام الذابح، و توجيه الحيوان إلى القبلة و نحوهما جرى فيها أصالة التذكية، فإذا شك في أن ذابح هذا الحيوان كان مسلما أم لا، أو ذبحه إلى القبلة أم لا حكم بعدم كونه مذكى، كما هو كذلك فيما إذا شك في أنه غنم أو كلب، حيث عرفت في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية أنه لا يحكم عليه بالتذكية.

و إن كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية، لاحتمال تحقق الجلل بأكل عذرة الإنسان مدة يشك في تحققه به فيها - جرى استصحاب بقائها، فيحكم بكونه مذكى لكون الشك حينئذ في وجود الرافع، كما كان استصحاب بقائها جاريا عند الشك في رافعية الجلل الموجود - لو فرض الشك في رافعيته شرعا كما تقدم في الصورة الثالثة من الشبهة الحكمية، حيث عرفت: أنه يحكم عليه بالتذكية، و هاتان هما صورتا الشبهة الموضوعية، فمجموع الصور خمس كما عرفت.

ص: 240

الحيوان، و أن (1) أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا، كما أن (2) أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه (3)، فيحكم بها (4) فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه كما لا يخفى، فتأمل جيدا.

=============

(1) عطف على «الحال» و تفسير له و إشارة إلى الصورة الرابعة، و هي الأولى من صورتي الشبهة الموضوعية.

(2) إشارة إلى الصورة الخامسة، و هي الثانية من صورتي الشبهة الموضوعية، و قد تقدم ذكرها في قولنا: «و إن كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية...» الخ.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية و الأولى من الشبهة الموضوعية يحكم بأصالة عدم التذكية، فيحكم بنجاسة الحيوان و حرمة لحمه، و في الثانية و الثالثة من الشبهة الحكمية و الثانية من الموضوعية يحكم بالتذكية، فيحكم بطهارته و حلية لحمه.

(3) أي: عن قبول التذكية.

(4) أي: بالتذكية في صورة إحراز فري الأوداج، مع سائر شرائط التذكية، عدا ما يمنع عن قبول التذكية، يعني: إذا كان الحيوان قابلا للتذكية كالغنم فأجرينا الفري مع باقي شرائط التذكية عليه، و شككنا في عروض ما يمنع عن تحققها كالجلل، فإن أصالة قبول التذكية محكمة، فيحكم بها، فتكون التذكية محرزة بما لها من الأجزاء و الشرائط، غاية الأمر: أن بعضها حينئذ محرز بالوجدان كفري الأوداج، و بعضها و هو بقاء القابلية بالتعبد، أعني: الاستصحاب، و هذا كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان و بعضها بالتعبد.

و ضمير «عداه» راجع على «ما» في قوله: «ما يمنع عنه».

هذا تمام الكلام في الأمر الأول، و بيان جريان أصالة عدم التذكية و عدمه في الموارد المشكوكة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - المراد من الأصل الموضوعي ليس الأصل الجاري في الموضوع فقط؛ بل المراد هو مطلق الأصل الذي يكون رافعا لموضوع الأصل الآخر، سواء كان جاريا في الموضوع أو في الحكم.

ص: 241

و معه لا يبقى موضوع لأصل البراءة؛ لأنه بيان فيرتفع به موضوع البراءة العقلية، و هو عدم البيان و لأنه حجة و علم تعبدا، فيرتفع به موضوع البراءة الشرعية و هو الشك و عدم الحجة على الحكم الشرعي.

و الضابط فيه: أن كل مورد جعل الشارع للحكم بالحلية سببا خاصا مثل موارد الأموال، و الفروج، و اللحوم، حيث جعل سبب حلية الأموال الملكية، و الفروج النكاح، و اللحوم التذكية، فإذا شك في تلك الأمور لأجل تحقق أسبابها لا تجري أصالة البراءة و الحل؛ لأجل وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها، و هو أصالة عدم السبب في كل منها؛ إلا أن المشهور مثلوا للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في اللحوم.

فيتفرع على الضابط المذكور: جريان أصالة عدم التذكية، فيحكم بالحرمة و النجاسة فيما إذا شك في حلية لحم حيوان من جهة الشك في قبوله التذكية؛ إذ من شرائطها قابلية المحل لها، فأصالة عدم التذكية حاكمة أو واردة على أصالة الطهارة و الحل.

2 - صور مسألة أصالة عدم التذكية: و إن كانت ثمانية؛ إلا إن المصنف «قدس سره» أشار إلى خمسة منها، و هي بين ثلاث صور للشبهة الحكمية، و صورتان للشبهة الموضوعية.

و أما صور الشبهة الحكمية فالأولى: هي ما إذا كان الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية، و قد عرفت أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي، أعني: استصحاب عدم التذكية، فيحكم بنجاسته و حرمة لحمه.

الثانية: ما إذا كان الشك في مقدار قابليته لها بعد العلم بأصلها، بمعنى: أنه لا يعلم أن المترتب عليها هل هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية، و قد عرفت: أن الجاري فيه هو الأصل الحكمي، فيحكم بطهارته و حلية لحمه استنادا إلى التذكية و أصالة الحل.

الثالثة: هي ما إذا كان الشك في بقاء القابلية لاحتمال ارتفاعها بالجلل، و قد عرفت:

أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي أيضا، أعني: استصحاب قابليته لها، فيحكم بطهارته و حلية لحمه.

و أما صورتا الشبهة الموضوعية: فالأولى منهما: ما إذا كان منشأ الشك في التذكية هو الشك في وجود ما يعتبر فيها من إسلام الذابح، و توجيه الحيوان إلى القبلة و نحوهما جرى فيها أصالة عدم التذكية، و يحكم بعدم كونه مذكى، و لازم ذلك هو الحكم بالنجاسة و الحرمة.

ص: 242

الثانية: ما إذا كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية؛ لاحتمال تحقق الجلل بأكل عذرة الإنسان مدة يشك في تحققه به فيها، جرى استصحاب بقائها، فيحكم بكونه مذكر.

هذا تمام الكلام في الصور الخمس من صور مسألة الشك في التذكية التي أشار إليها المصنف «قدس سره».

3 - التذكية شرعا تدور بين أمور:

1 - أن تكون أمرا بسيطا مسببا من أمور.

2 - أن تكون أمرا انتزاعيا ينتزع من هذه الأمور.

3 - أن تكون مركبة من هذه الأمور.

4 - أن تكون عبارة عن فري الأوداج مشروطة بالأمور المذكورة.

و لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية على المعنى الأول عند الشك في تحققها؛ لأن الشك إنما هو في حصول ذلك الأمر البسيط.

و لا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الثالث.

و لا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الرابع، و هو أقرب الاحتمالات.

4 - موضوع الحرمة و النجاسة يمكن أن يكون أمرا وجوديا و هو الميتة.

و يمكن أن يكون أمرا عدميا و هو غير المذكى.

و قيل بالتفصيل بمعنى: أن موضوع الحرمة يكون أمرا عدميا و هو غير المذكى.

و موضوع النجاسة يكون أمرا وجوديا و هو الميتة.

و لكن عند المصنف «قدس سره» كل من الميتة و غير المذكى موضوع مستقل للحكم بالحرمة و النجاسة، فهما موضوعان لكل من الحرمة و النجاسة، فلا حاجة حينئذ إلى ما صنعه الشيخ الأنصاري من تعميم الميتة شرعا لغير المذكى؛ بل يكفي عنوان غير المذكى في حكم الشارع بالنجاسة و الحرمة كعنوان الميتة، و لا حاجة إلى إدراج أحدهما في الآخر كما فعل الشيخ «قدس سره».

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - تقديم الأصل الموضوعي على أصالة البراءة و الحل إنما هو من باب الورود؛ لا من باب الحكومة.

2 - التذكية عبارة عن فعل الذابح و المذكي من فري الأوداج مع الشرائط المعتبرة شرعا.

ص: 243

الثاني (1): أنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا و عقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات و غيرها (2)، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما 3 - موضوع الحرمة و النجاسة هو كل واحد من غير المذكى و الميتة على نحو الاستقلال.

=============

في تصحيح الاحتياط في العبادة مع الشك في الأمر

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه: هو التعرض لإشكال الاحتياط في العبادات في الأفعال التي يدور أمرها بين الوجوب و غير الاستحباب؛ بحيث لم يحرز تعلق أمر الشارع بها.

و الظاهر أن المقصود من عنوان هذا البحث هو: توجيه فتوى جملة من القدماء باستحباب أفعال لم يقم نص على استحبابها، و أنه هل يمكن أن يكون وجه ذلك رجحان الاحتياط أم لا؟

و قبل بيان الإشكال و الجواب عنه ينبغي التصدي لأمرين:

الأول أنه لا إشكال في حسن الاحتياط عقلا و رجحانه شرعا في كل شبهة وجوبية كانت أم تحريمية، و الذي أنكره الأصوليون هو وجوبه الشرعي خلافا للأخباريين، حيث التزموا بوجوبه في الشبهة التحريمية الناشئة من فقدان النص.

أما حسنه العقلي: فلكونه محرزا عمليا للواقع، و موجبا للتحرز عن المفسدة الواقعية المحتملة، و استيفاء المصلحة كذلك.

و بعبارة أخرى: أن الاحتياط انقياد للمولى، فيكون حسنا عقلا.

و أما حسنه الشرعي: فلإمكان استفادته من بعض الأخبار كقوله «عليه السلام» في مقام الترغيب عليه: «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك...» الخ.

فالمستفاد من الأخبار: أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل في متحمل الوجوب.

(2) أي: المعاملات كالإتيان بما يحتمل دخله في صحة المعاملة، مع عدم ما يدل على اعتباره. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «كما لا ينبغي الارتياب...» إلخ.

و توضيح هذا الأمر الثاني: أنه لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب على الاحتياط في كل من الشبهة الوجوبية و التحريمية، كما إذا أتى بالفعل باحتمال أمر المولى، أو تركه باحتمال نهيه؛ و ذلك لأنه انقياد للمولى و تخضّع له، بل استحقاقه عليه

ص: 244

إذا احتاط و أتى أو ترك (1) بداعي احتمال الأمر أو النهي.

و ربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب أولى من استحقاق العقاب على ترك الاحتياط اللازم؛ لأن الأمر في جانب الثواب أوسع منه في جانب العقاب، و لذا لا يعاقب إلا بالاستحقاق، و لكن ربما يثاب بدونه تفضلا.

=============

(1) يعني: أتى بداعي احتمال الأمر، أو ترك بداعي احتمال النهي. و من المعلوم: أن الإتيان يكون في الشبهة الوجوبية و الترك في الشبهة التحريمية. هذا تمام الكلام في بيان هذين الأمرين قبل بيان الإشكال و الجواب عنه، و المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه هو: بيان الإشكال و الجواب عنه، و قد أشار إلى الإشكال بقوله: «و ربما يشكل في جريان الاحتياط...» الخ.

و توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة و هي: بيان أمور ثلاثة:

الأول: أن العبادة تتوقف على قصد القربة؛ بحيث تكون من القيود المعتبرة في متعلق الأمر كسائر ما له دخل فيه من الأجزاء و الشرائط؛ بل يكون قصد القربة مقوما لعبادية العبادة، و هو الفارق بين الواجب التوصلي و التعبدي؛ لسقوط أمر الأول بإتيانه كيفما اتفق بخلاف الثاني.

الثاني: أن قصد القربة عبارة عن قصد الأمر دون غيره مما يوجب القرب إليه جل و علا.

الثالث: أن الأمر الذي يعتبر قصد التقرب به هو الأمر المعلوم، فلا يجدي وجود الأمر واقعا في تحقق القصد المزبور؛ بل لا بد من العلم به إما تفصيلا كقصد الأمر المتعلق بالصلاة المعلوم تفصيلا جميع أجزائها و شرائطها، و إما إجمالا كقصد الأمر المتعلق بإحدى الصلوات الأربع مثلا عند اشتباه القبلة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاحتياط - كما قيل - هو الأخذ بالأوثق و الإتيان بكل فعل أو ترك يحرز به الواقع، و لما كانت عبادية العبادة متقومة بالإتيان بجميع الشرائط و الأجزاء عن داع قربيّ كما عرفت، فالاحتياط عبارة عن الإتيان بالعمل العبادي بجميع ما له دخل فيه و منه قصد الأمر، فإذا شك في تعلق الأمر بعمل من جهة دوران ذلك العمل بين أن يكون واجبا غير مستحب لم يكن الإتيان به من الاحتياط في العبادة أصلا؛ لعدم إحراز تعلق الأمر بذلك العمل، و عليه: فعنوان الاحتياط في العبادة حينئذ غير ممكن التحقق؛ إذ لا علم بأمر الشارع لا تفصلا و لا إجمالا و معه لا يتمشى منه قصد القربة. هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال في الاحتياط في العبادة.

ص: 245

و غير الاستحباب (1)؛ من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا، و حسن الاحتياط عقلا (2) لا يكاد يجدي في رفع

=============

(1) التقييد بغير الاستحباب إشارة إلى إمكان الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين وجوب فعل و استحبابه؛ للعلم بكونه مأمورا به على كل تقدير بناء على كفاية ذلك في الاحتياط، و عدم توقفه على إحراز نوع الحكم من الوجوب أو الاستحباب، فإشكال الاحتياط في العبادات مختص بما إذا لم يعلم وجود الأمر أصلا؛ كما إذا دار أمر فعل بني الوجوب و غير الاستحباب من الإباحة أو الكراهة.

قوله: «من جهة» متعلق ب «يشكل»، و بيان لوجه الإشكال.

(2) و كيف كان؛ فقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة قد بدأ بها المصنف بقوله:

«و حسن الاحتياط عقلا».

و توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة و هي هناك قاعدة الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و هي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع هو أن حكم العقل بحسن الاحتياط يلازم الأمر المولوي بالاحتياط شرعا، فيأتي المكلف بمحتمل الوجوب بقصد هذا الأمر الملازم لحكم العقل بحسن الاحتياط، فيتم الاحتياط في العبادة.

و قد أجاب المصنف عنه بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «لا يكاد يجدي في رفع الإشكال»، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن حكم العقل تارة: يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام كحسن الانقياد و الإطاعة. و أخرى: يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام و ملاكاتها، نظير قبح الظلم، و حسن ردّ الوديعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط بقاعدة الملازمة حتى يتقرب به، ضرورة: أن حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها، نظير قبح الظلم، و حسن ردّ الوديعة، حيث يكون الأول قبيحا عقلا و حراما شرعا. و الثاني حسنا عقلا و واجبا شرعا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع. هذا بخلاف حسن الاحتياط عقلا في المقام حيث إنه ليس من موارد تلك القاعدة.

و عليه: فالمقام أجنبي عن قاعدة الملازمة؛ إذ الاحتياط من أنحاء الإطاعة المترتبة على الأمر و النهي الشرعيين و في طولهما.

و من المعلوم: أن حسن الإطاعة حينئذ لا يلازم الأمر المولوي بها.

ص: 246

الإشكال؛ و لو قيل (1) بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا، بداهة (2): توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته (3)؟

=============

فالمتحصل: أن حسن الاحتياط عقلا لا يدل بقاعدة الملازمة على تعلق الأمر المولوي به أولا؛ إذ الأمر المتعلق بالاحتياط كالأمر بالإطاعة الحقيقية إرشادي، و من الواضح: أن الأمر الإرشادي لا يصلح للتقرب به. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني - و هو لزوم الدور - فلأن الحسن عارض على الاحتياط، و الاحتياط معروض له، فيجب أن يكون الاحتياط مقدما على الحسن؛ إذ كل معروض مقدم على العارض هذا من ناحية، و من ناحية أخرى: أن الاحتياط متأخر عن الأمر، لأن الاحتياط يتوقف على الأمر؛ إذ لو لا الأمر لم يكن الاحتياط احتياطا، فكيف يمكن أن يؤثر الحسن المتأخر عن الاحتياط في الأمر المتقدم عليه.

و بتقريب آخر: أن الأمر يتوقف على حسن صلاة الجمعة مثلا، و حسنها يتوقف على أن تكون الصلاة احتياطا، و كونها احتياطا يتوقف على قصد القربة؛ إذ بدون قصد القربة لا تكون صلاة. و قصد القربة يتوقف على الأمر فالأمر يتوقف على الأمر.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأول الذي عرفت توضيحه.

(2) تعليل لقوله: «لا يكاد يجدي»، و بيان للوجه الثاني و هو لزوم الدور. و قد عرفت توضيحه.

و ضمير «توقفه» راجع على الأمر بالاحتياط، و ضمير «ثبوته» راجع على الاحتياط، و «توقف العارض» مفعول مطلق نوعي، يعني: أن الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط، فيتوقف على ثبوت الاحتياط؛ لكونه متأخرا عنه كما هو الحال في جميع العوارض بالنسبة إلى معروضاتها، سواء كان ذلك في الوجود الخارجي كالبياض العارض على الجسم، أم في عارض الوجود الذهني كالجنسية و النوعية في قولنا؛ الحيوان جنس و الإنسان نوع.

و بالجملة: فالأمر بالاحتياط لكونه عارضا عليه متوقف على الاحتياط و متأخرا عنه، فلا يعقل أن يكون الأمر من مبادئ وجود الاحتياط و متقدما عليه.

(3) أي: الاحتياط. و اسم «يكون» ضمير مستتر راجع على الأمر، يعني: كيف يعقل أن يكون الأمر من مبادئ ثبوت الاحتياط و علل وجوده، مع أنه متأخر عن الاحتياط كما عرفت وجهه ؟.

ص: 247

و انقدح بذلك (1): أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا (2): القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه، ضرورة (3): أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ

=============

(1) هذا إشارة إلى الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادة، يعني: ظهر - من ترتب محذور الدور على استكشاف الأمر بالاحتياط من قاعدة الملازمة - أنه لا سبيل أيضا لإحراز الأمر الشرعي بالاحتياط من ترتب الثواب عليه.

ص: 248


1- أمالي الطوسي: 410/232، الوسائل 33370/120:27.
2- كامل الزيارات: 826/536، ثواب الأعمال: 98، عيون أخبار الرضا 1:299:2، الوسائل 19850/576:14.

جريانه ؟ هذا مع أن (1) حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللمّ (2)، و لا ترتب الثواب عليه (3) بكاشف عنه بنحو...

=============

و توضيح هذا الإيراد المشترك بين الجواب الأول و الثاني: إن تعلق الأمر بالاحتياط - سواء كان بنحو اللمّ لقاعدة الملازمة؛ كما في الجواب الأول، أم بنحو الإن لترتب الثواب على الاحتياط كما في الجواب الثاني - فرع إمكان الاحتياط. و قد عرفت في الجواب الأول: عدم إمكانه لمحذور الدور، و هو توقف الأمر بالاحتياط على إمكانه، و توقف إمكانه على العلم بالأمر به حتى يقصد ذلك الأمر، و يندرج الإتيان بالفعل بداعي أمره في الاحتياط في العبادة، و العلم بالأمر به متوقف على الأمر به حتى يتعلق به العلم، و الأمر به متوقف على إمكانه و هو الدور، و حيث يتعذر العلم بالأمر لمحذور الدور فيتعذر الاحتياط. هذا تمام الكلام في عدم صحة استكشاف الأمر بالاحتياط بنحو اللمّ بقاعدة الملازمة.

و كذا لا يمكن استكشاف الأمر بالاحتياط بالبرهان الإني أعني: ترتب الثواب عليه في بعض الأخبار؛ لأنه لو ثبت هذا الأمر كان لا محالة متأخرا عن موضوعه و هو الاحتياط، فكيف يكون من مبادئ ثبوت الاحتياط؟ إذ لا يعقل أن يكون الحكم مثبتا لموضوعه، فلا يكون هذا الأمر المتأخر عن الاحتياط من مبادئ جريانه.

و عليه: فلا يكون ترتب الثواب على الاحتياط كاشفا عن تعلق الأمر به؛ بل يكون ترتبه عليه بلا وساطة أمر به، فلو تعلق به أمر كان إرشاديا في الأمر بالإطاعة الحقيقية.

(1) إشارة إلى توضيح الإيراد الأول - و هو لزوم الدور - على الجواب الأول - أعني به: استكشاف تعلق الأمر بالاحتياط من حسنه عقلا - عن إشكال الاحتياط في العبادة، و قد تقدم بقوله: «و لو قيل بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا»، كما أن قوله: «و ترتب الثواب...» الخ. توضيح للإيراد الثاني - و هو لزوم الدور أيضا - على الجواب الثاني، و هو استكشاف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه بنحو الإن، و قد تقدم أيضا بقوله:

«و انقدح بذلك أيضا».

فقد تحصل مما ذكرنا: أن إشكال لزوم الدور مشترك الورود على كلا الجوابين.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) كما في الوجه الأول، حيث إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو اللمّ أي: من ناحية العلة، و هو حسنه العقلي.

(3) أي: على الاحتياط بكاشف عن الأمر بالاحتياط بالبرهان الإني.

ص: 249

الإن (1)؛ بل يكون حاله (2) في ذلك حال الإطاعة، فإنه (3) نحو من الانقياد و الطاعة «و الإطاعة».

و ما قيل (4) في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل

=============

(1) كما في الوجه الثاني، حيث إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو الإن، أي: من ناحية المعلول و هو ترتب الثواب عليه.

(2) أي: يكون حال الاحتياط في حسنه و ترتب الثواب عليه حال الإطاعة، يعني:

كما أن الإطاعة الحقيقية حسنة عقلا، و يترتب الثواب عليها؛ لا لتعلق الأمر بها، بل لكونها في نفسها انقيادا، فكذلك الاحتياط فإنه - لكونه نحوا من الإطاعة - حسن عقلا، و يترتب عليه الثواب، و لا يكشف ذلك عن تعلق الأمر به، و ليس ترتب الثواب عليه كترتبه على الصدقة و صلة الأرحام و تسريح اللحية و كثير من المستحبات، حيث إنه كاشف عن استحباب تلك الأفعال و تعلق الأمر المولوي بها.

و السر في ذلك واضح؛ فإن حسن تلك الأفعال واقع في سلسلة علل الأحكام و ملاكاتها، فلذا كان حسنها و ترتب الثواب عليها كاشفا عن استحبابها، و تعلق الأمر المولوي بها، بخلاف الاحتياط فإنه - لكونه نحوا من الإطاعة كما تقدم - يكون حسنه كحسن الإطاعة الحقيقية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكشف حسنه، و كذا ترتب الثواب عليه عن تعلق الأمر المولوي به، كما لا يكشف حسن الإطاعة الحقيقية و ترتب الثواب عليها في قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ * عن تعلق الأمر المولوي بها؛ بل هي غير قابلة لذلك كما ثبت في محله، و من هنا يحمل الأمر بها في قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ * على الإرشاد إلى حكم العقل بحسنها.

و بالجملة: فحال الاحتياط حال الإطاعة الحقيقية في حسنها، و ترتب الثواب عليها، و عدم كشفها عن تعلق الأمر المولوي بها و أنه لو تعلق بها كان للإرشاد.

(3) يعني: فإن الاحتياط من أنحاء الإطاعة و مراتبها.

(4) هذا هو الجواب الثالث عن إشكال الاحتياط في العبادات، و القائل هو الشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث قال: «إن المراد من الاحتياط و الاتقاء في هذه الأوامر هو:

مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة، فمعنى الاحتياط في الصلاة:

الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل، و حينئذ:

فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر». «دروس في الرسائل، ج 3، ص 51».

ص: 250

و لتوضيح كلامه و إيراد المصنف عليه ينبغي بيان النزاع في كيفية دخل قصد القربة في العبادة، و حلّ إشكال الدور فنقول: قد نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس سره» أن قصد القربة كسائر الشرائط المعتبرة في المأمور به، غاية الأمر: أن الشارع يتوسل لبيان اعتباره بأمر آخر غير الأمر المتعلق بذات العبادة؛ كالصلاة التي أولها التكبير و آخرها التسليم، فمدلول هيئة «صل» هو وجوب هذه الماهية بما لها من الأجزاء و الشرائط عدا نيّة التقرب؛ إذ من المعلوم أن هذا الأمر قاصر عن الدعوة إلى نفسه؛ بل يدعو إلى متعلقه، فيتوسل الشارع - إلى لزوم الإتيان بالصلاة على وجه قربي - بالأمر الثاني الدال على اشتراط الإتيان بتلك الماهية بداعي الأمر الأول، و بهذا البيان يترفع محذور الدور؛ إذ لم نقل بدخل قصد القربة - أي: قصد الأمر - في موضوع الأمر الأول حتى يتوجه المحذور من جهة تأخره عنه كي يتعذر أخذه في المتعلق.

و الحاصل: أن الشيخ «قدس سره» قد صحح قصد القربة بتعدد الأمر؛ كما مر في بحث التعبدي و التوصلي في كيفية دخل دخل قصد القربة في العبادة.

و لكنه قد صحح الاحتياط في العبادة هنا بوجه آخر، و هو الإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة، فإنه بهذا المعنى المجازي لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

و تقريب هذا الوجه: أن مدلول الأمر في قوله «عليه السلام»: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ليس هو الاحتياط بمعنى الإتيان بالفعل المحتمل الوجوب و الإباحة مثلا بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد القربة؛ حتى يتوجه عليه محذور الدور الذي أورده على ما تقدم من استدلال الشهيد في الذكرى؛ بل وزان قوله: «احتط» وزان قوله: في الأوامر الواقعية مثل: «صل» في كون المتعلق هو ذات الفعل المجرد عن قصد القربة، فمدلول هيئة «احتط» هو البعث على الفعل الجامع لتمام ما يعتبر فيه شطرا و شرطا إلا نيّة التقرب و هي قصد الأمر، و يكون الاحتياط بهذا المعنى مأمورا بمقتضى الأخبار الآمرة به، و حينئذ:

فيقصد المكلف التقرب بهذا الفعل - كقضاء الصلوات احتياطا لأجل احتمال وقوع خلل فيها - بنفس الأمر بالاحتياط. و بهذا يتوجه صحة الفتوى باستحباب بعض الأعمال التي لا دليل على استحبابها في الشرع.

و قد ظهر: عدم لزوم محذور الدور، أعني: توقف عنوان الاحتياط على الأمر به الذي يتوقف هو أيضا على الاحتياط؛ كتوقف سائر الأحكام على موضوعاتها.

وجه عدم اللزوم: أنه إنما يلزم إذا أريد بالاحتياط في الروايات الآمرة به معناه

ص: 251

الحقيقي، و هو الإتيان بالفعل المشتمل على قصد القربة؛ دون معناه المجازي الصوري و هو الإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة، فإنه بهذا المعنى المجازي الصوري لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» و للمصنف على هذا الجواب إيرادان:

الإيراد الأول: ما أشار إليه بقوله: «مضافا إلى عدم مساعدة دليل».

و الإيراد الثاني: ما أشار إليه بقوله: «إنه التزام بالإشكال».

توضيح الإيراد الأول: - على ما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 493» - أنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الاحتياط - في الأخبار الآمرة به - في معناه الحقيقي، أعني: الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى نية التقرب المعتبرة في العبادات، فلا وجه لصرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي - و هو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة - حتى يتمكن منه في العبادات التي لم يعلم أمر الشارع بها، و ذلك لمغايرة الاحتياط بهذا المعنى المجازي للاحتياط المأمور به في الأخبار موضوعا و حكما.

أما موضوعا: فلأن ما يستقل بحسنه العقلي و يرشد إليه النقل هو الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد التقرب في العبادة فجعل الاحتياط المأمور به هو ذات الفعل المجرد عن نية التقرب أجنبي عن معناه المعروف المصطلح عليه.

و أما حكما: فلوجوه ثلاثة أولها: أن الأمر بالاحتياط بهذا المعنى - أي الإتيان بالفعل مجردا عن قصد التقرب، و هو الذي اختاره الشيخ الأنصاري لحل الإشكال - أمر مولوي يصح قصد التقرب به؛ إذ المفروض: مطلوبية الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه بدون قصد التقرب، و تتحقق القربة بقصد هذا الأمر المولوي المتعلق بالاحتياط بهذا المعنى الوارد ذلك الأمر في مثل قوله «عليه السلام»: «أخوك دينك فاحتط لدينك»، و الأمر بالاحتياط بمعناه الحقيقي إرشادي لا يصح التقرب به، فاختلف الاحتياطان حكما، هذا و لكن الالتزام بكون الأمر بالاحتياط بمعناه المجازي مولويا خلافا تصريح الشيخ الأنصاري «قدس سره» بأنه إرشادي غير صالح للتقرب به؛ كما تقدم في عبارته المنقولة سابقا بقوله: «إن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي... إرشادي محض... فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي، و لا ينفع في جعل الشيء عبادة».

ثانيها: أنه لو سلم أن الأمر به مولوي فهو نفسي؛ لقيام المصلحة بالإتيان بالفعل

ص: 252

العبادي المحتمل وجوبه بهذا النحو - أي: مجردا عن قصد القربة - و لم يكن الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية المحتملة؛ لأن الفعل على فرض وجوبه واقعا لم يسقط أمره بالإتيان به بدون قصد التقرب؛ إذ قوام العبادة به و هو دخيل في صميمه، و لو كان الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية لوجب الإتيان به مع قصد القربة، فالأمر بالإتيان به مجردا عن القصد المذكور أمر نفسي يثاب على طاعته و يعاقب على مخالفته إذا كان إلزاميا كما هو شأن التكليف النفسي لا غيري، مع أنه لا سبيل إلى الالتزام بنفسية أوامر الاحتياط، ضرورة: أن المقصود من تشريعه التحفظ على الغرض الواقعي كما هو شأن سائر الواجبات الغيرية التي تقوم المصلحة بما يترتب عليها؛ كالمسير إلى الحج الذي تكون مطلوبيته للتوصل إلى الواجب النفسي، أعني: الحج، فالاحتياط بالصلاة إلى جهات أربع عند اشتباه القبلة واجب غيري، أمر الشارع به تحفظا على «معراج المؤمن» مثلا الذي هو ملاك لتشريع الصلاة، و حيث إن العبادة المحتملة قد سلب عنها قصد القربة، فليس المراد بالاحتياط التوصل إليها، فلو وجب وجب لذاته كسائر الواجبات النفسية لا للتوصل إلى الواقع المجهول.

ثالثها: أن الأمر بالاحتياط بهذا النحو - على تقدير تسليم نفسيته - يكون عباديا لا يسقط أمره إلا بالإتيان بالفعل متقربا به إليه تعالى، مع أن المقصود تجريده عن قصد التقرب، و أن المطلوب هو وجود المتعلق في الخارج كيفما اتفق كتطهير اللباس للصلاة و دفن الميت، فيكون الأمر به توصليا؛ لوفاء مطلق وجوده في الخارج بالغرض الداعي إلى التشريع و لو لم يأت به عن داع إلهي، فالإتيان بمحتمل الوجوب سواء انبعث عن الأمر المحتمل أم عن الأمر بالاحتياط هو المطلوب للشارع، فلا محالة يتمحض الأمر به في التوصلية، فلا يلزم قصد التقرب به مع أن مفروض كلام الشيخ «قدس سره» التقرب بالأمر بالاحتياط كما عرفت.

و الحاصل: أن التقرب بالأمر بالاحتياط يتوقف على كونه مولويا نفسيا عباديا مع وضوح أن الأمر به ليس كذلك لأنه إرشادي فكيف يتقرب به ؟

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

«حينئذ» أي: كون المراد بالاحتياط هو الفعل المجرد عن نية التقرب، و هذا هو المراد بقوله: «بهذا المعنى». و ضمير «فيها» راجع على العبادات. و ضمير «حسنه» راجع على الاحتياط.

ص: 253

المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة.

فيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة (1):

أنه ليس باحتياط حقيقة؛ بل (2) هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا (3) نفسيا عباديا و العقل (4) لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، و النقل لا يكاد يرشد إلا إليه.

نعم (5)؛ لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما

=============

(1) تعليل لعدم مساعدة دليل الاحتياط على حسنه بهذا المعنى المجازي لوضوح: أن الإتيان بالمأمور به العبادي مجردا عن قصد التقرب مغاير للاحتياط موضوعا، و ليس امتثالا لأمره أصلا؛ بل هو أجنبي عنه بالمرة كما عرفت توضيحه.

(2) هذا إشارة إلى مغايرة الاحتياط - بالمعنى الذي ذكره الشيخ - موضوعا للاحتياط الذي هو مدلول الأخبار، و قد تقدم توضيح المغايرة بقوله: «و أما موضوعا...» الخ.

و ضمير «هو» راجع على قوله: «الفعل المطابق للعبادة»، و هو الاحتياط الذي ذكره الشيخ الأنصاري «قدس سره».

يعني: الاحتياط - بمعنى الفعل المطابق للعبادة - شيء «لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا».

(3) هذا إشارة إلى الوجه الأول من وجوه المغايرة بين الاحتياطيين حكما، و «نفسيا» إشارة إلى الوجه الثاني منها، و «عباديا»، إلى الثالث منها، و قد تقدمت هذه الوجوه.

(4) الواو للحال، يعني: و الحال أن العقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط لا بحسن ما ذكره الشيخ «قدس سره» لمعنى الاحتياط، الذي عرفت: أنه لو دل عليه دليل لم يكن إلا مطلوبا مولويا نفسيا عباديا، كما أن الشرع أيضا لا يرشد إلا إلى حسن الاحتياط لا إلى حسن هذا المعنى الذي جعله الشيخ «قدس سره» لمعنى الاحتياط؛ لأنه أجنبي عما يحكم بحسنه العقل و يرشد إليه النقل.

و بالجملة: فالأمر في مثل - «خذ بالحائطة لدينك»، و «عليكم بالاحتياط و نحوهما - أمر إرشادي، و متعلقه هو الاحتياط الذي يحكم به العقل المنوط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله في تحصيل الغرض؛ لا المجرد عن نية التقرب فيما يحتمل عباديته، فالمأمور به هو معناه الحقيقي لا الصوري الذي يصح سلب عنوان الاحتياط عنه حقيقة، فإنه بهذا المعنى ليس حسنا عقلا، و لا مما يرشد إليه الشرع.

(5) استدراك على قوله: «لعدم مساعدة دليل».

و غرضه: أن حمل الاحتياط على معناه المجازي لا وجه له إلا إذا ألجأتنا دلالة

ص: 254

كان محيص عن دلالته (1) اقتضاء، على أن المراد به ذاك المعنى بناء (2) على عدم إمكانه (3) فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى أنه (4) التزام بالإشكال، و عدم جريانه فيها، الاقتضاء إلى ذلك، كما ألجأتنا في مثل قوله تعالى: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ

=============

إلى حمله على المجاز في الحذف بتقدير «الأهل»، فإنه إذا قام دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة كقضاء الصلوات لمجرد خلل موهوم فيها، و لم يمكن إرادة معناه الحقيقي لعدم إحراز الأمر حسب الفرض حتى يقصده و يتصف الفعل بكونه عباديا، فإنه لا بد حينئذ: من تجريد الفعل عن نية التقرب، و الإتيان به كذلك امتثالا لأمر الشارع بالاحتياط و ارتكاب هذا المعنى المجازي مما لا بد منه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية؛ إذ لو لم يجرد الفعل عن قصد القربة لم يمكن الاحتياط فيه، فلا بد من تعلق الأمر الاحتياطي بما عدا القربة من الأجزاء و الشرائط.

و الحاصل: أن ارتكاب هذا المعنى المجازي منوط بورود الأمر بالاحتياط في خصوص العبادة، و لا وجه لصرف أوامر الاحتياط عن ظاهرها إلى هذا المعنى المجازي.

(1) يعني: دلالة الدليل على الترغيب، و ضمير «به» راجع على الاحتياط، و «ذاك المعنى» يعني: المجازي.

(2) قيد لقوله: «أن المراد به ذاك المعنى».

و غرضه: أن الالتزام بالمعنى المجازي - لورود أمر بالاحتياط في العبادة - لدلالة الاقتضاء إنما هو إذا تعذر حمل ذلك الأمر على معناه الحقيقي، كما هو كذلك بناء على عدّ قصد القربة من الأجزاء، و الشرائط. و أما بناء على كونه من كيفيات الإطاعة: فلو فرض ورود أمر بالاحتياط في خصوص العبادة أمكن حمله على معناه الحقيقي؛ لعدم كون القربة في عداد سائر الشرائط كما سيظهر.

(4) مبتدأ مؤخر، و خبره قوله المتقدم: «فيه مضافا». و الجملة بأجمعها خبر لقوله:

(3) أي: إمكان الاحتياط في العبادة بمعناه الحقيقي.

«و ما قيل».

و ضمير «أنه» راجع على «ما قيل». و قوله: «و عدم» عطف على الإشكال و تفسير له.

و هذا هو الإيراد الثاني على كلام الشيخ «قدس سره» و هو المقصود الأصلي في مقام الاعتراض عليه.

توضيحه: أن صرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي - و هو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة - تسليم لإشكال جريان الاحتياط؛ و ذلك لأن تجريده عن

ص: 255

و هو (1) كما ترى.

قلت (2): لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل قصد الأمر دليل على عدم إمكان الاحتياط بمعناه الحقيقي في العبادة.

=============

و الالتزام بأنه بمعناه الحقيقي لا يجري في العبادة حتى ينسلخ منه قصد الأمر.

(1) أي: و الحال أن الالتزام بعدم جريان الاحتياط في العبادة كما لا يمكن المصير إليه، كيف و هو مورد فتوى المشهور؟ فلا بد لحل الإشكال من التماس وجه آخر و هو ما اختاره المصنف «قدس سره».

(2) هذا هو الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادة، و هذا الجواب هو مختار المصنف، و هو تزييف للمبنى الذي أسس عليه هذا الإشكال، فيقال في توضيح هذا الجواب: إن الإشكال المذكور نشأ من تخيل كون وزان القربة المعتبرة في العبادة وزان غيرها مما يعتبر فيها شطرا أو شرطا في اعتبار تعلق الأمر بها، فيتعلق أمر العبادة في مثل: «صل» بقصد القربة كتعلقه بغيره مما هو دخيل في المأمور به، فيشكل حينئذ جريان الاحتياط في العبادة؛ لتعذر قصد الأمر مع الشك فيه.

لكن هذا التخيل فاسد؛ لما ذكره المصنف في مبحث التعبدي و التوصلي من عدم كون قصد القربة دخيلا في المأمور به على نحو دخل مثل الاستقبال و الستر في الصلاة؛ بل هو من الأمور المحصلة للغرض و الحاكم باعتباره و لزومه هو العقل، فمتعلق الطلب في مثل: «صل»، و «احتط» هو ذات الفعل، و القصد المزبور خارج عن ماهية المأمور به، و لا يلزم الدور إذ لم يكن قصد الأمر المتأخر عن الأمر دخيلا في المتعلق على نحو سائر الأجزاء و الشرائط؛ بل هو من كيفيات الإطاعة التي هي في رتبة تالية للأمر، و به يصير الاحتياط في العبادة ممكنا؛ إذ كما يأتي المكلف بالصلاة الواقعية المعلومة بداعي أمرها المعلوم بحيث يكون الأمر المعلوم هو الداعي للمكلف و المحرك له نحو الإتيان بالصلاة لا داع آخر من الدواعي النفسانية، كذلك يأتي المكلف بالصلاة الاحتياطية بداعي الأمر المحتمل، و حينئذ: فلو كانت مأمورا بها واقعا لكانت مقربة.

و بالجملة: أنه يمكن دفع إشكال الاحتياط في العبادة على وجه لا يلزم المحذور، و هو أن اعتبار القربة - في جميع العبادات - ليس شرعيا بل هو عقلي، و العقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميا كان أو احتماليا، فحينئذ: يتحقق الاحتياط بلا حاجة إلى أمر الشارع المستلزم للدور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

ص: 256

سائر الشروط المعتبرة فيها مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها، فيشكل جريانه حينئذ (1) لعدم التمكن من قصد القربة فيها.

و قد عرفت: أنه (2) فاسد، و إنما اعتبر قصد القربة فيها (3) عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه، و عليه (4): كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان، ضرورة (5): التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه و كماله، غاية الأمر: أنه لا بد أن يؤتى به (6) على نحو لو كان (7) مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر، أو احتمال كونه (8) محبوبا له تعالى، فيقع (9) حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا قوله: «مما» - المراد به الشروط - بيان ل «الشروط». و ضمير «بها» راجع على الموصول في «مما» باعتبار الشروط. و ضمير «جريانه» راجع على الاحتياط. و ضمير «بها» في «المتعلق بها» راجع على العبادة.

=============

(1) أي: فيشكل جريان الاحتياط حين كون القربة مثل سائر الشروط المعتبرة في العبادة كالطهارة و الاستقبال في الصلاة كما هو مبنى التخيل المذكور.

(2) أي: التخيل الذي صار منشأ للإشكال المتقدم فاسد؛ لما تقدم من امتناع أخذ الأمر في المتعلق شرعا؛ بل المتعلق ذات العبادة.

(3) هذا الضمير و ضمير «فيها» راجع على العبادة. و ضمير «بدونه» راجع على قصد القربة.

(4) أي: و بناء على أن اعتبار قصد القربة عقلي؛ كان جريان الاحتياط في العبادة بمكان من الإمكان. كان الأولى تأنيث ضمير «فيه» لرجوعه إلى العبادة التي هي ظرف الاحتياط؛ إلا أن يرجع إلى العمل العبادي.

(5) تعليل ل «كان جريان الاحتياط».

(6) يعني: بما احتمل وجوبه.

(7) اسم كان ضمير راجع على «ما احتمل وجوبه». و الضمائر المذكورة من قوله:

«ما احتمل وجوبه» إلى قوله: «فيقع الأمر به» كلها راجعة على «ما احتمل وجوبه».

(8) أي: كون الفعل المحتمل وجوبه محبوبا له تعالى. و هذا إشارة إلى عدم انحصار نية القربة في الأمر؛ بل مطلق إضافته إليه تعالى - كقصد المحبوبية - من القربة المطلوبة في العبادة.

(9) أي: فيقع الفعل المحتمل وجوبه حين الإتيان به بالنحو المذكور، أعني: «أنه لو كان مأمورا به لكان مقربا» امتثالا له تعالى على تقدير الأمر به، و انقيادا له «عزّ و جل» على تقدير عدمه.

ص: 257

لأمره تعالى، و على تقدير عدمه انقيادا لجنابه «تبارك و تعالى»، و يستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد (1).

و قد انقدح بذلك (2): أنه لا حاجة في جريانه في العبادة إلى تعلق أمر بها؛ بل لو

=============

(1) الذي هو في حكم الإطاعة الحقيقية، ثم إن هذا و ما قبله مفسر لقوله «على كل حال».

(2) يعني: و قد ظهر مما ذكرنا - من عدم دخل قصد القربة في المتعلق، و إنما هو دخيل عقلا في حصول غرض المولى من الأمر - أنه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادة إلى تعلق أمر بها حتى يقصد؛ «كأن يقول المولى: «احتط في العبادة لمجرد خلل موهوم فيها»، فيكفي في جريان الاحتياط فيها نفس الأمر المحتمل، يعني: أن احتمال بقاء الأمر بالصلاة كاف في مشروعية الاحتياط و قضائها؛ بل لو علم تعلق أمر بها لم يكن من الاحتياط في شيء؛ بل كان إطاعة حقيقية، لتقوّم الاحتياط باحتمال الأمر، فمع العلم به لا احتياط، و يكون ذلك الأمر تكليفا نفسيا وجوبيا أو استحبابيا؛ كما تقدم الكلام فيه.

و الحاصل: أن قوام الاحتياط و الإتيان بالفعل برجاء مطلوبيته و موافقته للأمر الواقعي المحتمل، فإذا ورد أمر من الشارع بفعل مشكوك المطلوبية - بهذا العنوان - لم يكن الإتيان به احتياطا؛ بل كان إطاعة جزمية لأمر معلوم، فيقصد ذلك الأمر المعلوم الوارد على «عنوان محتمل المطلوبية».

و حاصله: أنه لو لم تصلح أوامر الاحتياط لإثبات مشروعيته في الفعل الدائر بين كونه واجبا عباديا و مباحا، فأخبار «من بلغ» تصلح لإثبات استحباب نفس العمل الذي قام على استحبابه خبر ضعيف، كالدعاء عند رؤية الهلال، فإن الرواية الفاقدة لشرائط الحجية و إن لم تصلح لإثبات استحبابه؛ إلا إنه يتحقق - بهذا الخبر الضعيف - موضوع أخبار «من بلغ» و هو البلوغ، فيثبت استحبابه ببركة هذه الأخبار المعتبرة، و بعد العلم بالأمر المستفاد منها يجري الاحتياط في العبادة.

ص: 258

فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء (1)؛ بل كسائر ما علم (2) وجوبه أو استحبابه منها (3) كما لا يخفى.

=============

هذا ما استظهره الشيخ «قدس سره»؛ و لكن المصنف أورد عليه: بأنه مع تسليم دلالة أخبار «من بلغ» على استحباب الفعل الذي ورد الثواب عليه في خبر ضعيف لم يكن الإتيان بذلك الفعل بداعي أمره المستفاد من هذه الأخبار من الاحتياط أصلا، بل هو من الإطاعة الحقيقية، لفرض العلم بالأمر حينئذ دون احتماله المقوّم للاحتياط.

و بما ذكرناه: ظهر وجه ارتباط البحث عن مفاد أخبار «من بلغ» بمسألة الاحتياط في العبادة، و أن إشكال الاحتياط في العبادة كما يمكن حله بالتصرف في معنى الاحتياط و إرادة معنى مجازي منه - كما عليه الشيخ - كذلك هل يمكن حله بتعلق الأمر المولوي المستفاد من أخبار «من بلغ» بكل فعل دل على استحبابه رواية ضعيفة أم لا؟

(1) لتقوّم الاحتياط بإتيان العمل برجاء وجود الأمر الواقعي.

(2) المراد به: الفعل المعلوم وجوبه، حيث يقصد ذلك الأمر، و ليس من الاحتياط في شيء بل من الإطاعة الحقيقية؛ كالصلوات اليومية و غيرها من الواجبات المعلومة.

(3) أي: من العبادات. هذا إشارة إلى وجه خامس لدفع إشكال الاحتياط في العبادة،

و حاصل هذا الوجه: أن مشكوك العبادية و إن لم يمكن الإتيان به بقصد القربة من جهة أنه لم يحرز تعلق الأمر به؛ لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ»، فقد ورد في مستفيض الأحاديث: أن «من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه و إن لم يكن كما بلغه»، فلو قام خبر ضعيف على استحباب الأذان لصلاة مستحبة مثلا صح الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار «من بلغ»؛ لكن هذا الوجه أيضا مخدوش بوجهين:

أحدهما: أن هذا لا يدفع الإشكال عن جميع موارد الشبهة في العبادة و إنما يختص بما ورد فيه أمر و لو بخبر ضعيف.

ثانيهما: أن موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعة جزمية، و يخرج عن المتنازع فيه الذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب أو الاستحباب؛ كصلاة الليل و النوافل المرتبة و غسل الجمعة، و كثير من المستحبات التي هي من ضروريات المذهب بل الدين، و يقصد ذلك الأمر الاستحبابي المعلوم.

ص: 259

فظهر (1): أنه لو قيل (2) بدلالة أخبار «من بلغه ثواب» على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب و لو بخبر ضعيف لما كان (3) يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه. خبر ضعيف؛ بل كان (4) عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه لا يقال (5): هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ

=============

(1) متفرع على ما أفاده من عدم الحاجة في جريان الاحتياط في العبادة إلى العلم بالأمر؛ بل مع العلم به لا يكون من الاحتياط أصلا.

(2) القائل هو الشيخ الأنصاري «قدس سره». و قد تقدم كلامه سابقا.

(3) جواب «لو قيل» ورد له.

توضيح الرد: أنه إذا تعلق الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» بعمل كالدعاء عند رؤية الهلال، كان العمل مأمورا به جزما، فيكون الإتيان به إطاعة حقيقية لقصد امتثال ذلك الأمر حين العمل، فلا يكون الإتيان به حينئذ من باب الاحتياط المتقوم بداعي احتمال تعلق الأمر به واقعا؛ بل هو إطاعة علمية تفصيلية. فالأخبار الكثيرة الدالة على ترتب الثواب على العمل الذي دل خبر ضعيف على وجوبه أو استحبابه على تقدير دلالتها على الاستحباب لا تجدي في دفع إشكال جريان الاحتياط في العبادة عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب؛ لصيرورة العمل بسبب تلك الأخبار مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسية، فالإتيان به بقصد استحبابه إطاعة حقيقية لا احتياطية.

و المتحصل: أن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» يوجب استحباب العمل البالغ عليه الثواب بخبر ضعيف كسائر المستحبات، و هو أجنبي عن الاحتياط الذي هو مورد البحث، و لا يستفاد من تلك الأخبار استحباب العمل الذي شك في استحبابه من غير ناحية الخبر الضعيف.

(4) اسم كان ضمير راجع على الموصول في «ما دل» المراد به العمل الذي دل الدليل على استحبابه؛ كزيارة المعصومين «عليهم السلام».

(5) هذا إشكال على ما أفاده المصنف «قدس سره» من عدم كون الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة؛ بل يكون الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة، فيكون هذا جوابا سادسا عن إشكال الاحتياط في العبادة.

تقريبه: يتوقف على مقدمة و هي: أن في أخبار «من بلغ» احتمالين:

الأول: أن يكون المستفاد منها هو استحباب العمل الذي قام خبر ضعيف على

ص: 260

عليه الثواب بعنوانه (1)، و أما لو دل (2) على استحبابه لا بهذا العنوان (3)؛ بل بعنوان أنه محتمل الثواب لكانت دالة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط كأوامر (4) الاحتياط لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي

=============

الثاني: أن يكون المستفاد منها استحباب عمل لا بعنوانه الأولي؛ بل بعنوان كون العمل محتمل الثواب كما هو ظاهر بعض تلك الأخبار مثل: «فعمله طلبا لقول النبي «صلى الله عليه و آله»...»، أو «التماس ذلك الثواب».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الإشكال على الاستدلال بأخبار «من بلغ» على الاحتياط في العبادة الذي هو مورد للبحث في المقام إنما يتم على الاحتمال الأول، فيصح أن يقال في تقريب الإشكال: إن أخبار «من بلغ» لا تجدي في جريان الاحتياط في العبادة؛ لأن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» إنما هو كسائر المستحبات النفسية، فالإتيان به بقصد استحبابه إطاعة حقيقية. و من المعلوم: أنه لا ربط له حينئذ بالاحتياط المحرز للواقع.

و أما إذا كان المستفاد من تلك الأخبار أمرا بما هو محتمل الواقع - كنفس أوامر الاحتياط بناء على مولويتها - كما هو مقتضى الاحتمال الثاني، كان كافيا في إمكان التقرب بالعبادة المشكوكة لصيرورته مستحبا شرعيا؛ لأنه - على هذا التقدير - يصير نفس المحتمل بما هو محتمل مستحبا نفسيا يصح نية التقرب بأمره، فيصير الاحتياط مستحبا شرعا، و يرشد إلى هذا المعنى قوله «عليه السلام» في بعض تلك الأخبار:

«التماس ذلك الثواب»، أو «طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» حيث إن ترتب الثواب على ذلك الفعل منوط بالإتيان به بداعي احتمال مطلوبيته للشارع، فليس العمل بنفسه مستحبا - كما هو مقتضى الاحتمال الأول - حتى يقال: إن الإتيان به إطاعة حقيقية؛ بل هو مع الإتيان به برجاء محبوبيته فتعلق الأمر النفسي بالعمل برجاء الأمر به، فيقصد ذلك الأمر و يتحقق مشروعيته الاحتياط في العبادة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

استحبابه بعنوانه الأولي كعنوان زيارة المعصوم «عليه السلام».

(1) يعني: بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي، و هو كونه محتمل الثواب.

(2) هذا تقدم توضيحه بقولنا: «و أما إذا كان المستفاد...» إلخ.

(3) أي: لا بعنوانه الأولي بل بعنوانه الثانوي، و هو كونه محتمل الثواب.

(4) في استحباب الفعل بعنوان الاحتياط لا بعنوانه الأولي؛ بناء على مولوية الأمر

ص: 261

فإنه يقال (1): إن الأمر بعنوان الاحتياط و لو كان مولويا لكان توصليا، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط و مجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه (2) آنفا.

ثم (3) إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإن المتعلق بالاحتياط لا إرشاديته.

=============

(1) جواب عن قوله: «لا يقال». و قد أجاب المصنف عنه بوجهين:

الوجه الأول: ما أفاده بقوله: «إن الأمر بعنوان الاحتياط». و توضيحه: أن أوامر الاحتياط - على تقدير مولويتها - توصلية؛ إذ لا دليل على تعبديتها، فتسقط بمجرد موافقتها، و لا يتوقف سقوطها على قصد التقرب بها كما هو شأن الأوامر العبادية.

و عليه: فالأمر التوصلي كالأمر الإرشادي لا يصحح قصد القربة مع وضوح اعتباره في العبادة. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

و أما الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «مع أنه لو كان عباديا...» الخ.

و حاصله: أنه لا يصح قصد التقرب بأوامر الاحتياط حتى مع تسليم كونها عبادية، للزوم الدور، ضرورة: أن الاحتياط حينئذ يتوقف على الأمر به حتى يجوز الاحتياط بقصد الأمر به، و الأمر بالاحتياط يتوقف على وجود الاحتياط قبل الأمر به؛ لكون الأمر عارضا عليه، و العارض يستدعي تقدم المعروض عليه، فالأمر يستدعي تقدم الاحتياط عليه، فالنتيجة: أن الاحتياط يتوقف على نفسه، و هو الدور.

(2) يعني إلى عدم كونه مصححا للاحتياط؛ لاستلزامه الدور، و مراده بقوله: «آنفا» ما أفاده في أوائل هذا التنبيه حيث قال: بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه.

مفاد أخبار من بلغ

(3) بعد أن ناقش المصنف «قدس سره» في الاستدلال بأخبار «من بلغ» على تعلق الأمر المولوي بالاحتياط، تطرق إلى ما يمكن أن يستفاد من تلك الأخبار في أنفسها من الوجوه و المحتملات.

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في محتملات هذه الأخبار.

المقام الثاني: في الأقوال فيها.

و أما محتملات هذه الأخبار فهي ثلاثة:

ص: 262

الأول: أن يكون مفادها حكما أصوليا، و هو حجية الأخبار الضعيفة الدالة على استحباب بعض الأفعال من باب «التسامح في أدلة السنن»، فإذا دل خبر ضعيف السند على استحباب بعض الأعمال كأعمال يوم النيروز، و ترتب الثواب عليها كان ذلك الخبر الضعيف - ببركة هذه الأخبار - حجة، و صح الحكم بمضمونه نظرا إلى حجية سنده.

الثاني: أن يكون مفادها حكما فقهيا، و هو استحباب العمل الذي بلغ الثواب عليه، بمعنى: أنه إذا بلغ في رواية ثواب على عمل صح الحكم باستحباب ذلك العمل، مع قطع النظر عن سندها.

ثم هذا الاحتمال الثاني فيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون موضوع هذا الحكم الفقهي - أعني: الاستحباب - هو العمل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي - و هو كونه مما بلغ عليه الثواب؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية لترتب الثواب عليه؛ بل يكون بلوغ الثواب جهة تعليلية له، فإذا بلغ ثواب على عمل كان ذلك العمل بعنوانه الأولي مستحبا من المستحبات، فالمستحب هو نفس العمل.

ثانيهما: أن يكون موضوعه العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم، وجهة تقييدية لترتبه عليه، فالمستحب حينئذ: هو العمل المأتي به برجاء الثواب عليه لا نفس العمل بما هو.

و الفرق بين هذين الوجهين: أنه على الأول: يكون الأمر المستفاد من تلك الأخبار متعلقا بنفس العمل، و لذا يكون العمل بنفسه مستحبا.

و على الثاني: يكون متعلقا بالاحتياط، و هو الإتيان بالعمل برجاء الثواب عليه، فيكون الاحتياط هو المأمور به بالأمر المولوي دون نفس العمل، فموضوع الاستحباب على الأول: هو نفس العمل.

و على الثاني: هو الاحتياط.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

و أما المقام الثاني - و هو الأقوال في مفاد أخبار «من بلغ» - فثلاثة:

الأول: أن يكون مفادها حجية الخبر الضعيف، و هو ظاهر المشهور، حيث يظهر من فتاواهم باستحباب بعض الأعمال بمجرد ورود خبر ضعيف دال على ترتب الثواب عليه.

الثاني: أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب، كما هو

ص: 263

صحيحة (1) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال:

«من بلغه عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له؛ و إن كان رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» لم يقله»(1) ظاهرة (2) في أن الأجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه «صلى الله عليه و آله و سلم» أنه مختار المصنف «قدس سره»، حيث استظهر من صحيحة هشام المذكورة في المتن الاحتمال الثاني، نظرا إلى ظهورها في ترتب الثواب على نفس العمل؛ لا العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب. و أن المستفاد منها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي؛ لا بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب.

=============

الثالث: أن يكون مفادها هو استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب؛ كما استظهره الشيخ الأنصاري «قدس سره» من صحيحة هشام و نحوها، فالمستفاد منها عند الشيخ «قدس سره»: هو استحباب الاحتياط.

و عليه: فالمصنف و الشيخ «قدس سره» متفقان على أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حكم فرعي و هو الاستحباب؛ لا الأصولي و هو حجية الخبر الضعيف في المستحبات، و مختلفان في متعلقه، أعني: المستحب، فاستظهر الشيخ «قدس سره»: أنه هو العمل بعنوان الرجاء و الانقياد؛ بحيث يكون لهما دخل في المتعلق، و المصنف: أنه ذات العمل، و أن الرجاء و الانقياد خارجان عن متعلق الطلب الاستحبابي، و إنما هما داعيان لإيجاد العمل في الخارج، و من المعلوم: أن الداعي ليس داخلا في متعلق الطلب.

(1) بيان لقوله: «لا يبعد»، و استظهار لترتب الثواب على العمل بعنوانه الأولي.

(2) خبر لقوله: «فإن صحيحة هشام...» الخ و الضمير في «بلغه» راجع على الموصول في قوله: «من بلغه» المراد به العامل، و ضمير «عنه» راجع على النبي «صلى الله عليه و آله و سلم». و ضمير «أنه ذو ثواب» راجع على العمل، و جملته فاعل «بلغه».

و وجه الظهور: أن هذه الصحيحة تدل على ترتب الثواب الموعود الوارد في خبر ضعيف على نفس العمل؛ لا يستحقه العبد بحكم العقل إلا بكونه مطيعا، و لا إطاعة إلا مع تعلق الأمر بالمأتي به.

و عليه: فالإخبار بالثواب على نفس العمل إخبار عن تعلق الأمر المولوي بذلك العمل، و هو معنى الاستحباب.

ص: 264


1- المحاسن 2/25:1، ثواب الأعمال: 132، عن هاشم بن صفوان، الوسائل 80:1-182 ب 18.

ذو ثواب، و كون (1) العمل متفرعا على البلوغ، و كونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به، و بعنوان الاحتياط، بداهة: أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها و عنوانا يؤتى به بذاك الوجه و العنوان.

=============

(1) هذا إشارة إلى ما استفاده الشيخ «قدس سره» من أخبار «من بلغ»، فإنه «قدس سره» بعد أن استظهر استحباب العمل - الذي دل خبر ضعيف على استحبابه - من هذه الأخبار أورد على نفسه بوجوه ثلاثة أجاب عن اثنين منها، و قوى أولها - و هو ثبوت الأجر لا يثبت الاستحباب - ثم قال: «و أما الإيراد الأول: فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه؛ لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ، و كونه الداعي على العمل، و يؤيده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و التماس الثواب الموعود، و من المعلوم: أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح و الثواب». «دروس في الرسائل، ج 3، ص 58».

و حاصل الكلام: أنه قد اختلف المصنف و الشيخ «قدس سرهما» في مفاد أخبار «من بلغ».

قال المصنف: إن مفادها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي، و قال الشيخ «قدس سره»: إن مفادها هو استحباب الاحتياط أي: استحباب العمل بعنوانه الثانوي، و هو رجاء بلوغ الثواب و الانقياد.

و قد استدل المصنف «قدس سره» بإطلاق صحيحة هشام بن سالم، و هو قوله: «عليه السلام»: «فعمله، كان أجر ذلك له و إن كان رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم» لم يقله»، فإطلاق قوله: «فعمله، كان أجر ذلك له» يقتضي استحباب نفس العمل، و ترتب الثواب على ذات العمل بعنوانه الأولي؛ إذ لو كان الثواب مترتبا على العمل بعنوان الاحتياط و الرجاء لكان اللازم تقييده بعنوان الاحتياط و بلوغ الثواب أي: فيقول: «فعمله احتياطا و برجاء بلوغ الثواب و الانقياد كان أجر ذلك له». فظاهر الإطلاق هو:

استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي.

و أما دليل الشيخ على أن المستفاد من أخبار «من بلغ» هو استحباب الاحتياط فهو وجهان:

أحدهما: أن الظاهر من هذه الأخبار: هو كون العمل متفرعا على البلوغ، و كونه الداعي على العمل، بمعنى: أن المستحب هو العمل المأتي به بداعي البلوغ، فالثواب

ص: 265

و إتيان العمل بداعي طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» كما قيد به (1) يكون على العمل المأتي به بعنوان الاحتياط لا على نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بما هو هو.

=============

ثم قال: و يؤيده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و التماس الثواب الموعود.

و قد أجاب المصنف «قدس سره» عن هذا الوجه بقوله: «و كون العمل متفرعا على البلوغ»، و حاصله: أن تفرع العمل على البلوغ و كون البلوغ هو الداعي إليه مما لا يوجب أن يكون الثواب مترتبا عليه فيما إذا أتى به برجاء كونه مطلوبا، و بعنوان الاحتياط، فإن الداعي إلى الفعل مما لا يوجب وجها و عنوانا للفعل حتى يجب أن يكون الإتيان به بذلك الوجه و العنوان؛ بل يكون الثواب مترتبا على نفس العمل بعنوانه الأولي.

و ثانيهما: أن إتيان العمل في بعض الأخبار إنما هو مقيد بكونه بداعي طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أو التماسا للثواب الموعود، و ظاهر التقييد هو الاحتياط، فيقيد به إطلاق بعض الأخبار بمقتضى حمل المطلق على المقيد.

و قد أجاب المصنف عن هذا الوجه بقوله: «و إتيان العمل بداعي طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»».

و حاصل جواب المصنف عن هذا الوجه الثاني: أن تقييد العمل في بعض الأخبار - كخبر محمد بن مروان - بطلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» أو بالتماس الثواب الموعود غير مربوط بصحيحة هشام أصلا؛ إذ الثواب فيها مترتب على نفس العمل، فلا وجه لتقييدها به؛ بل لو أتى بالعمل طلبا لقول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، أو التماسا للثواب الموعود لترتب الثواب على نفس العمل بمقتضى الصحيحة.

فالمتحصل: أن الثواب رتب في الصحيحة على نفس العمل بعنوانه الأولي لخلوها عن قيد طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، فقوله «عليه السلام» فيها: «فعمله كان أجر ذلك له...» الخ. نظير قوله: «من سرح لحيته»، يعني: وزان هذا العمل المأتي به بداعي الثواب وزان قوله: «من سرح لحيته» في ترتب الثواب على نفس العمل، و هو تسريح اللحية بما هو هو؛ لا بعنوان بلوغ الثواب عليه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: بداعي طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» «في بعض الأخبار».

و المراد ببعض الأخبار هو: خبر محمد بن مروان عن أبي عبد الله «عليه السلام» «قال:

ص: 266

«من بلغه عن النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»؛ كان له ذلك الثواب و إن كان النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» لم يقله»(1). فالثواب - حسب ظاهر هذا الخبر - مترتب على العمل المأتي به بداعي الوصول إلى الثواب الموعود، فموضوع الثواب ليس ذات العمل كيفما وقع، بل العمل المأتي به رجاء الأجر، فلم يثبت استحباب نفس العمل كما يدعيه المصنف؛ بل الثابت استحباب الاحتياط كما يقول به الشيخ، فهذا يكون دليلا للشيخ «قدس سره».

و قد أشار المصنف «قدس سره» إلى ردّه بقوله: «إلا إن الثواب في الصحيحة».

و حاصل الرد: أن الثواب الموعود و إن رتب في خبر محمد بن مروان على الانقياد كما أفاده الشيخ «قدس سره»؛ لكنه رتب في الصحيحة على نفس العمل بعنوانه الأولي؛ لخلوها عن قيد طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»، فلا يجب تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان.

و لذا قال: «و لا موجب لتقييدها به»، يعني: و لا موجب لتقييد الصحيحة ببعض الأخبار.

و غرضه من هذا الكلام: هو دفع توهم.

و حاصل التوهم: أن الصحيحة و إن كانت مطلقة؛ لكنه لا بد من تقييد إطلاقها بمدلول خبر محمد بن مروان.

بيان ذلك: أن الصحيحة ظاهرة في ترتب الثواب على العمل الذي ورد الثواب عليه في الخبر الضعيف، سواء أتى به بداعي ذلك الثواب أم لا. و خبر محمد بن مروان ظاهر في ترتب الثواب على خصوص العمل المأتي به بداعي طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم»؛ لا مطلق العمل كيفما وقع.

و من المعلوم: أنه لا بد من تقييد المطلق بالمقيد إذا كان الحكم الذي تضمنه المقيد نفس ما دل عليه الخطاب المطلق، فلا بد من تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان.

هذا و قد دفع المصنف هذا التوهم بقوله: «و لا موجب لتقييدها به» و توضيحه: أن الصحيحة و الخبر و إن اختلفا إطلاقا و تقييدا؛ إلا إنه لا وجه للتقييد؛ لعدم وجود ضابطه، و هو التنافي بين المطلق و المقيد؛ بحيث لا يمكن الجمع بينهما بأن يكونا مختلفين في النفي و الإثبات؛ كأن يقول: «إن ظاهرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فلا تعتق رقبة

ص: 267


1- المحاسن 1/25:1، الوسائل 81:1.

في بعض الأخبار، و إن كان انقيادا؛ إلا إن الثواب في الصحيحة إنما رتب على نفس العمل، و لا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما؛ بل لو أتى به كذلك (1) أو التماسا (2) للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر (3)، لأوتي الأجر و الثواب على نفس العمل؛ لا بما هو احتياط و انقياد (4)،...

=============

كافرة»، أو كانا مثبتين مع إحراز أن المطلوب منهما صرف الوجود كقوله: «إن أفطرت فأعتق رقبة، و إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة»، حيث إنهما يتعارضان في عتق الكافرة، لاقتضاء دليل المطلق الأجزاء، و اقتضاء دليل التقييد العدم، فيتعين حمل المطلق على المقيد، الموجب لتعين عتق الرقبة المؤمنة، و عدم أجزاء عتق غيرها، و من المعلوم: أنه لا تنافي هنا بين الصحيحة و بين ما يشتمل على الالتماس و الطلب، حيث إن «البلوغ» ليس قيدا للموضوع حتى يتحقق التنافي، و إنما هو داع إلى إيجاد العمل في الخارج، و الداعي لا يكون قيدا لمتعلق الخطاب.

قوله: «لعدم المنافاة بينهما» تعليل لقوله: «و لا موجب» و ضمير بينهما راجع على الصحيحة و بعض الأخبار.

قوله: «بل» إضراب على قوله: «و لا موجب لتقييدها به».

و حاصله: أن طلب قول النبي «صلى الله عليه و آله و سلم» و نحوه - مضافا إلى عدم صلاحيته لتقييد موضوع الثواب - لا يصلح قصده أيضا لترتب الثواب عليه، و يكون لغوا. و ضمير «به» راجع على العمل.

(1) يعني: بداعي طلب قوله النبي «صلى الله عليه و آله و سلم».

(2) عطف على «كذلك».

(3) أي: بعض الأخبار كما عرفت، و هو خبر ابن مروان.

(4) أي: لا بما هو احتياط و انقياد حتى يثبت ما ادعاه المستشكل بقوله: «و أما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان»، و ذلك لأن ما دل على أن الثواب على نفس العمل كاشف عن ذلك، و قصد الانقياد لا يوجب انقلاب الثواب عما هو عليه إلى غيره، فإن الانقياد إنما ترتب على الواقع لا على القصد المتعلق به، فإن الإنسان سواء صلى بعنوان أنها واجبة، أو صلى بعنوان الانقياد أتاه ثواب الصلاة لا ثواب الانقياد.

نعم؛ فيما لم يكن هناك واقع مجعول عليه الثواب لا محالة يكون الثواب للانقياد.

و حال الثواب في ذلك حال العقاب في المعصية، فإنه لو عصى تجريا عوقب للمعصية لا للتجري.

ص: 268

فيكشف (1) عن كونه بنفسه مطلوبا و إطاعة، فيكون وزانه (2) وزان «من سرح لحيته»، أو «من صلى أو صام فله كذا»، و لعله (3) لذلك أفتى المشهور بالاستحباب فافهم و تأمل (4).

=============

نعم لو تجرّى بغير المعصية الحقيقية ظنا منه أنها معصية كان العقاب للتجري على القول به.

(1) يعني: أن ترتب الأجر على نفس العمل يكشف عن مطلوبية ذات العمل بعنوانه الأولي لا بعنوان الاحتياط، فيكون العمل البالغ عليه الثواب مستحبا شرعيا بالعنوان الأولي كسائر المستحبات الشرعية؛ كالصلاة و الصوم المندوبين، و الإتيان به إطاعة حقيقية لأمر مولوي.

(2) يعني: وزان هذا العمل المأتي به بداعي الثواب وزان قوله: «من سرح» في ترتب الثواب على نفس العمل و هو تسريح اللحية بما هو هو لا بعنوان بلوغ الثواب عليه.

(3) الضمير للشأن، يعني: لعله لما ذكرنا - من أن المستفاد من أخبار «من بلغ» استحباب نفس العمل و ترتب الأجر و الثواب عليه بعنوانه الأولي لا بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب - أفتى المشهور باستحباب كثير من الأفعال التي قامت الأخبار الضعاف على استحبابها.

(4) لعله إشارة إلى احتمال أن يكون نظر المشهور في استحباب نفس العمل من حيث هو - إلى أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حجية الخبر الضعيف في المستحبات، فتخصص عموم أدلة حجية خبر الواحد؛ إذ مفادها حينئذ هو: اعتبار الخبر الضعيف في المندوبات، و عدم اعتبار شرائط الحجية فيها، و هذا هو المراد بقاعدة التسامح في أدلة السنن. هذا ما يرجع إلى توضيح المتن. و تركنا تفصيل الكلام حول أخبار «من بلغ» رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه هو: بيان الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات و الجواب عنه.

و لكن قبل توضيح الإشكال و الجواب عنه ينبغي بيان أمرين:

أحدهما: أنه لا إشكال في حسن الاحتياط عقلا و رجحانه شرعا في كل شبهة. أما

ص: 269

حسنه عقلا: فلكونه محرزا عمليا للواقع، و موجبا للتحرز عن المفسدة الواقعية المحتملة أو استيفاء المصلحة كذلك.

و أما رجحانه شرعا: فلإمكان استفادته من بعض الأخبار كقوله «عليه السلام» في مقام الترغيب عليه: «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك»، فالمستفاد من بعض الأخبار: أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل في محتمل الوجوب، و بالترك في محتمل الحرمة.

ثانيهما: أنه لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب على الاحتياط في كل شبهة وجوبية كانت أم تحريمية؛ و ذلك لأنه انقياد للمولى. هذا تمام الكلام في الأمرين.

2 - أما توضيح إشكال الاحتياط في العبادات: فيتوقف على مقدمة و هي بيان أمور ثلاثة:

الثاني: أن قصد القربة عبارة عن قصد امتثال الأمر، فلا يمكن بدون إحراز الأمر و العلم به.

الأول: أن العبادة تتوقف على قصد القربة؛ بل قصد القربة يكون مقوما لعبادية العبادة، و هو الفارق بين الواجب التوصلي و التعبدي، حيث إن الأمر في الأول يسقط بإتيانه كيفما وقع، بخلاف الثاني فلا يسقط الأمر إلا بإتيانه بقصد امتثال الأمر.

الثالث: أن الأمر الذي يعتبر قصد التقرب به هو الأمر المعلوم، فلا يجدي وجود الأمر واقعا في تحقق قصد القربة، فلا بد من العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الاحتياط في العبادة عبارة عن الإتيان بالعمل العبادي بجميع ما له دخل فيه و منه قصد الأمر، فإذا شك في تعلق الأمر بعمل من جهة دوران ذلك العمل بين أن يكون واجبا غير مستحب لم يكن الإتيان به من الاحتياط في العبادات أصلا؛ لعدم إحراز تعلق الأمر به.

و عليه: فعنوان الاحتياط في العبادة حينئذ غير ممكن التحقق؛ إذ لا علم بأمر الشارع لا تفصيلا و لا إجمالا، و معه لا يتمشى منه قصد القربة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال.

و أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة:

3 - الجواب الأول: ما أشار إليه بقوله: «و حسن الاحتياط عقلا».

ص: 270

و حكم الشرع، و هي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مقتضى الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع هو:

أن حكم العقل بحسن الاحتياط يلازم الأمر المولوي بالاحتياط شرعا، فيأتي المكلف بمحتمل الوجوب احتياطا بقصد هذا الأمر الملازم لحكم العقل بحسن الاحتياط.

و قد أجاب المصنف عن هذا الجواب بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «لا يكاد يجدي في رفع الإشكال».

توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة: و هي أن حكم العقل تارة: يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام؛ كحسن الانقياد و الإطاعة. و أخرى: يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام و ملاكاتها؛ نظير قبح الظلم و حسن رد الوديعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط شرعا من قاعدة الملازمة حتى يتقرب به، ضرورة: أن حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها. و أما الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع - على تقدير تسليمها - فهي فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة عللها، فحسن الاحتياط عقلا في المقام ليس من موارد تلك القاعدة.

و عليه: فالمقام أجنبي عن قاعدة الملازمة؛ إذ الاحتياط من أنحاء الإطاعة المترتبة على الأمر الشرعي و في طوله.

و من المعلوم: أن حسن الاحتياط لا يلازم الأمر المولوي بالإطاعة؛ لأن الأمر بالاحتياط حينئذ يكون إرشاديا و الأمر الإرشادي لا يصلح للتقرب به.

و أما الوجه الثاني: فقد أشار إليه بقوله: «بداهة توقفه...» الخ. و حاصله: لزوم الدور بتقريب: أن الحسن عارض على الاحتياط و الاحتياط معروض له، فيجب أن يكون الاحتياط مقدما على الحسن تقدم المعروض على العارض، ثم الاحتياط متأخر عن الأمر؛ إذ لو لا الأمر لما كان الاحتياط احتياطا، فكيف يؤثر الحسن المتأخر عن الاحتياط في الأمر المتقدم عليه ؟ و هذا دور واضح.

4 - الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادات: ما أشار إليه بقوله: «و قد انقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه».

و توضيح هذا الجواب: أنه يمكن إحراز الأمر الشرعي بالاحتياط من ترتب الثواب

ص: 271

عليه على ما هو المستفاد من بعض الأخبار، فترتب الثواب على الاحتياط يكشف بنحو الإن على تعلق الأمر به و هو المطلوب، فيؤتى بالعبادة حينئذ بقصد هذا الأمر.

و حاصل الجواب: أنه لا ينفع في رفع الإشكال المتقدم كشف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه، كما لا ينفع في رفعه الجواب المتقدم الذي أشار إليه بقوله: «و حسن الاحتياط عقلا»؛ إذ تعلق الأمر بالاحتياط، سواء كان بنحو اللم لقاعدة الملازمة كما في الجواب الأول، أم بنحو الإن؛ لترتب الثواب على الاحتياط كما في الجواب الثاني فرع إمكان الاحتياط. و قد عرفت عدم إمكانه في الجواب الأول لمحذور الدور.

و كيف كان؛ فلا يصح استكشاف الأمر بالاحتياط لا بنحو اللم و لا بالبرهان الإني، و لازم ذلك: عدم صحة الاحتياط في العبادات لأجل عدم الأمر.

5 - الجواب الثالث عن إشكال الاحتياط في العبادات: ما أشار إليه بقوله: «و ما قيل دفعه...» الخ. و حاصل هذا الوجه هو: تصحيح الاحتياط في العبادات بتقريب: أن مدلول الأمر في قوله «عليه السلام»: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ليس هو الاحتياط بمعناه الحقيقي أعني: الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه مثلا بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد القربة؛ حتى يتوجه عليه محذور الدور؛ بل بمعناه المجازي أعني: الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا عدا نية القربة، فإن الاحتياط بهذا المعنى المجازي لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

و أما وجه عدم لزوم الدور: فإنه إنما يلزم إذا أريد بالاحتياط معناه الحقيقي، دون معناه المجازي. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح هذا الجواب الثالث.

6 - و للمصنف «قدس سره» على هذا الجواب إيرادان:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «مضافا». و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «أنه التزام بالإشكال».

و أما توضيح الإيراد الأول: فلأنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الاحتياط في معناه الحقيقي و حمله على معناه المجازي؛ إذ لا دليل على حسن الاحتياط بهذا المعنى المجازي؛ بل الاحتياط بهذا المعنى ليس باحتياط حقيقة.

ص: 272

الحقيقي في العبادة، و هذا تسليم بالإشكال و هو عدم إمكان الاحتياط في العبادات.

7 - الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادات: هو ما أشار إليه بقوله:

«قلت: لا يخفى»، و هذا الجواب هو تصحيح الاحتياط في العبادات على ما هو مبنى المصنف «قدس سره».

فيقال في توضيح هذا الجواب: إن الإشكال المذكور نشأ من تخيل كون وزان القربة المعتبرة في العبادة وزان غيرها مما يعتبر فيها شطرا أو شرطا في اعتبار تعلق الأمر بالقربة، كتعلقه بغيرها مما هو دخيل في المأمور به، فيشكل حينئذ جريان الاحتياط في العبادة؛ لتعذر قصد الأمر مع الشك فيه؛ لكن هذا التخيل فاسد لما ذكره المصنف «قدس سره»، في مبحث التعبدي و التوصلي من عدم قصد القربة دخيلا في المأمور به، على نحو دخل مثل الاستقبال و الستر في الصلاة؛ بل هو من الأمور المحصلة للغرض و الحاكم باعتباره و لزومه هو العقل، فلا يلزم الدور لعدم دخل قصد الأمر المتأخر عن الأمر في متعلق الأمر على نحو سائر الأجزاء و الشرائط، و به يصير الاحتياط في العبادة ممكنا؛ إذ كما يأتي المكلف بالصلاة الواقعية المعلومة تفصيلا بقصد أمرها المعلوم؛ كذلك يأتي بالصلاة الاحتياطية بقصد أمرها المحتمل، و حينئذ: فلو كانت مأمورا بها واقعا لكانت مقربة.

فالمتحصل: أن اعتبار قصد القربة في جميع العبادات يكون عقليا لا شرعيا، و الإشكال مبني على اعتبار قصد القربة شرعا لا عقلا، و العقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميا كان أم احتماليا، فحينئذ: يتحقق الاحتياط بلا حاجة إلى أمر الشارع المستلزم للدور.

فالتخيل الذي صار منشأ للإشكال في العبادة فاسد.

8 - الجواب الخامس عن إشكال الاحتياط في العبادة: هو أخبار «من بلغ».

و حاصل هذا الوجه: أن مشكوك العبادية و إن لم يكن الإتيان به بقصد القربة من جهة عدم إحراز تعلق الأمر به؛ لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ»، فقد ورد في مستفيض الأحاديث: «أن من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه و إن لم يكن كما بلغه»، فلو قام خبر ضعيف على استحباب عمل كاستحباب الأذان لصلاة مستحبة مثلا، صح الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة؛ لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار «من بلغ».

ص: 273

و لكن هذا الوجه مخدوش بوجهين:

أحدهما: أن هذا الوجه لا ينفع في دفع الإشكال عن جميع موارد الشبهة في العبادة، و إنما يختص بما ورد فيه أمر و لو خبر ضعيف.

و ثانيهما: أن موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعته جزمية، و يخرج عن محل النزاع الذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب.

فالمتحصل: أن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» يوجب استحباب العمل البالغ عليه الثواب بخبر ضعيف كسائر المستحبات، و هو أجنبي عن الاحتياط الذي هو مورد البحث؛ إذ لا يستفاد من تلك الأخبار الاحتياط في محتمل الوجوب.

9 - لا يقال: إن الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» يكون مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة؛ إذ المستفاد منها هو: استحباب العمل بعنوانه الثانوي - و هو كون العمل محتمل الثواب - إذ على هذا التقدير يصير نفس المحتمل بما هو محتمل مستحبا نفسيا يصح نية التقرب بأمره، فيصير الاحتياط مستحبا شرعيا، فقد تعلق الأمر النفسي بالعمل برجاء محبوبيته و يتحقق الاحتياط في العبادة بقصد ذلك الأمر.

فإنه يقال في الجواب: أولا: أن أوامر الاحتياط على تقدير مولويتها توصلية، فلا يتوقف سقوطها على قصد التقرب بها، فلا يصحح بها الاحتياط في العبادة.

و ثانيا: أنه لا يصح قصد التقرب بأوامر الاحتياط حتى مع تسليم كونها عبادية؛ و ذلك للزوم الدور، و قد مر بيان لزوم الدور في أوائل هذا التنبيه. فراجع.

10 - مفاد أخبار من بلغ:

و يقع الكلام في محتملات هذه الأخبار و هي ثلاثة:

الأول: أن يكون مفادها حكما أصوليا و هو حجية الأخبار الضعيفة من باب التسامح في أدلة السنن، فصح الحكم باستحباب عمل دل على استحبابه خبر ضعيف.

الثاني: أن يكون مفادها حكما فقهيا، و هو استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب، و هذا الاحتمال الثاني على قسمين:

أحدهما: أن يكون موضوع هذا الحكم الفقهي. أعني: الاستحباب هو العمل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي، فالمستحب هو نفس العمل.

ثانيهما: أن يكون موضوعه العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية.

ص: 274

الثالث (1): أنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو و الفرق بين هذين الوجهين: أنه على الأول: يكون الأمر المستفاد منها متعلقا بنفس العمل، و على الثاني يكون متعلقا بالاحتياط و هو الإتيان بالعمل برجاء الثواب عليه.

=============

و أما الأقوال في مفاد أخبار «من بلغ» فهي ثلاثة:

الأول: أن يكون مفادها حجية الخبر الضعيف، و هو ظاهر المشهور.

الثاني: أن يكون مفادها استحباب الاحتياط؛ كما استظهره الشيخ الأنصاري «قدس سره».

الثالث: أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب، و هو مختار المصنف «قدس سره».

11 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - إمكان الاحتياط في العبادات؛ لأن العبادة و إن كانت تتوقف على قصد القربة إلا إن اعتبار قصد القربة فيها يكون عقليا لا شرعيا، و الإشكال مبني على اعتبار قصد القربة فيها شرعا.

2 - الصحيح من الأجوبة عند المصنف «قدس سره» هو: الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادات.

3 - مفاد أخبار «من بلغ» عند المصنف «قدس سره» هو: استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب.

في دفع توهم لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية الموضوعية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر الثالث: هو دفع ما يتوهم في المقام من لزوم الاحتياط.

و أما توضيح التوهم فيتوقف على مقدمة و هي: أن التكاليف الشرعية قد تعلقت بالموضوعات الواقعية بما هي هي، من دون تقييدها بالعلم أو الجهل، كما أن الألفاظ - أيضا - وضعت للمعاني الواقعية كذلك، فحينئذ: يكون مفاد قول الشارع: «اجتنب عن الخمر» هو وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي، سواء علم المكلف به تفصيلا أو إجمالا أو لم يعلم به اصلا، فيكون المحرم هو الخمر الواقعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الواجب - حينئذ - هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية حتى يحصل العلم بالاجتناب عن الخمر الواقعي، فلا يجري حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لفرض وجود بيان من الشارع في الشبهات

ص: 275

الموضوعية و هذا التوهم ما أشار إليه الشيخ الأنصاري بقوله: «و توهم عدم جريان قبح التكليف من غير بيان هنا...» الخ. «دروس في الرسائل، ج 2، ص 425».

و كلام المصنف في هذا الأمر يكون ناظرا إلى ما أفاده الشيخ «قدس سره» في ذكر هذا التوهم و دفعه.

و توضيح التوهم بعبارة أخرى: أن أدلة البراءة الشرعية و العقلية لا تجري في الشبهة الموضوعية؛ كالمائع المردد بين الخل و الخمر، ضرورة: أن وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلا بيان الكبريات مثل: الماء حلال، و الخمر حرام، و قد بينها و وصلت إلى المكلف حسب الفرض، و إنما الشك في الصغرى، و هي: كون هذا المائع الخارجي مما ينطبق عليه متعلق الحرمة و هو الخمر مثلا أم لا؟ و من المعلوم: أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع، و حينئذ: فلا يحكم العقل بقبح المؤاخذة على تقدير مصادفة الحرام؛ بأن كان ما شربه من المائع المردد خمرا؛ إذ لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ضرورة: انتقاض عدم البيان بصدور الحكم الكلي و علم المكلف به، و تردد متعلق التكليف بين شيئين لأمور خارجية غير مرتبط بالشارع حتى يرفعه؛ بل على المكلف نفسه إزالة هذا التردد و الاشتباه عن طريق الاحتياط، و ترك كل ما فيه احتمال الخمر.

كما لا يجري فيه مثل حديث الرفع لإثبات الترخيص الظاهري؛ إذ الحديث إنما يرفع ما كان وضعه بيد الشارع، و ما يكون وضعه بيده هو إنشاء الحكم الكلي لا غير.

ثم قال الشيخ في دفع التوهم: «بأن النهي عن الخمر...» الخ.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأحكام الشرعية و إن كانت متعلقة بالموضوعات من دون تقييدها بالعلم أو الجهل، و الألفاظ و إن كانت موضوعة للمعاني كذلك؛ إلا إن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لم يكن مطلقا؛ بل يتوقف على عدم البيان الواصل إلى المكلف الذي يوجب تنجز التكليف، فإذا انتفى هذا القسم من البيان يحكم العقل بقبح العقاب، سواء لم يبينه الشارع أصلا، أو بيّنه و لم يصل إلى المكلف، أو وصل و لم يعلم بتوجهه إليه لأجل عدم العلم بوجود موضوعه لا تفصيلا و لا إجمالا كما في المقام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن العقل هنا يحكم بقبح العقاب لعدم تنجز التكليف؛ إذ شرط تنجزه هو العلم بالموضوع و المحمول معا، و المفروض: أنه لا يعلم بالموضوع.

ص: 276

و بعبارة أخرى: أن موضوع حكم العقل بقبح المعصية و استحقاق العقوبة عليها هو مخالفة التكليف المنجز المتوقف على إحراز كل من الصغرى و الكبرى، و مع الجهل بالصغرى يكون موضوع قاعدة القبح محققا؛ إذ ليس المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان خصوص بيان الشارع حتى يمنع عن جريان القاعدة في الشبهة الموضوعية من جهة صدور البيان و علم المكلف به؛ بل المناط فيه قبح مؤاخذة من لم يتنجز التكليف في حقه، سواء كان عدم التنجز لعدم بيان الشارع له أصلا؛ كما في الشبهة الحكمية الناشئة من فقد النص أم لإجمال بيانه، أم لمعارضته، أم للشك في تحقق متعلقه، أم في كون الموجود من مصاديق متعلقه كما في المقام، ففي جميع هذه الموارد تقبح المؤاخذة، فتجري قاعدة القبح.

و عليه: فمجرد العلم بالكبريات مثل: «الخمر حرام»، أو «لا تشرب الخمر» غير كاف في تنجز التكليف على المكلف حتى يقال بحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الأفراد المشكوكة؛ كحكمه بلزوم الاجتناب عن المصاديق المعلومة. و على هذا: فينحصر امتثال الخطاب في موردين: أحدهما: العلم بفردية المائع الخارجي بخصوصه للخمر المحرم، و الآخر العلم الإجمالي بخمرية أحد الإناءين مثلا. و أما الخمر المشتبه بالشبهة البدوية:

فلا يقتضي نفس الحكم الكلي وجوب الاجتناب عنه؛ بل مقتضى أدلة البراءة جواز ارتكابه، فلو ارتكبه المكلف فهو معذور في مخالفته لو صادف كونه خمرا واقعا. هذا غاية ما يمكن في توضيح التوهم و دفعه.

و ظاهر كلام الشيخ «قدس سره» هو: جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا، و المصنف منع هذا الإطلاق، و قال: إنه لا بد في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية من التفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة نحو: «لا تشرب الخمر»، حيث إن المطلوب ترك هذه الطبيعة، و بين تعلق الحكم بالأفراد نحو: «لا تكرم الفساق»، حيث إن المطلوب ترك إكرام كل فاسق، فلا تجري البراءة في الأول فيما لو شك في فرد أنه خمر أم لا؛ بل يجب الاجتناب عنه إلا إذا كان هناك أصل، و تجري في الثاني فيما لو شك في فرد أنه فاسق أم لا فيجوز إكرامه.

و هناك احتمال عدم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقا كما هو مفاد التوهم المذكور.

ص: 277

مكان؛ بحيث لو وجد في ذاك الزمان (1) أو المكان (2) و لو دفعة (3) لما امتثل أصلا، فهناك احتمالات ذهب المصنف إلى التفصيل، و توضيح هذا التفصيل يتوقف على مقدمة و هي: أن النهي عن العمل تارة: يرجع إلى النهي عنه و طلب تركه في زمان أو مكان؛ بحيث لو وجد الفعل دفعة واحدة لم يتحقق امتثال النهي أصلا، و أخرى: يرجع إلى طلب ترك كل فرد منه على حدة؛ بحيث يكون ترك كل فرد إطاعة على حدة، فلو جاء ببعض الأفراد و ترك البعض الآخر لأطاع و عصى.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على الأول لا بد على المكلف من إحراز ترك العمل بالمرة، فإذا شك في فرد أنه من أفراد ذلك العمل أولا، كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم تركه تحصيلا للفراغ اليقيني؛ إلا إذا أمكن إحراز ترك العمل المنهي عنه - في هذا الحال، و مع الإتيان بالمشكوك - بالأصل و هو استصحاب ترك العمل لو كان مسبوقا بالترك، فيثبت به الامتثال.

و أما على الثاني: فلا يلزم المكلف إلا ترك ما علم أنه فرد للعمل، و أما مع الشك في كونه من أفراده: فأصالة البراءة محكمة.

و قد تحصل مما ذكرناه: أن الفرد المشتبه بالشبهة الموضوعية على ثلاثة أقسام:

1 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بلحاظ أفرادها.

2 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي مع كونها مسبوقة بالترك.

3 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بما هي مع عدم كونها مسبوقة بالترك، و في الأولين يجوز ارتكاب مشكوك الفردية، و في الأخير لا يجوز، فما أفاده الشيخ «قدس سره» من جواز ارتكاب الأفراد المشتبهة مطلقا استنادا إلى البراءة ممنوع.

(1) كالنهي عن الصيد في حال الإحرام و زمانه، أو النهي عن الإفطار في يوم الصوم.

(2) كالنهي عن قطع شجر الحرم في مكة المكرمة.

(3) يعني: و لو دفعة واحدة؛ إذ من لوازم تعلق النهي بالطبيعة: أنه لو أوجد المكلف الشيء المنهي عنه - و لو مرة واحدة - لم يمتثل أصلا؛ إذ المطلوب حينئذ هو: ترك الطبيعة، و توجد الطبيعة المنهي عنها بإيجاد فرد منها، فيتحقق العصيان؛ و إن ترك سائر الأفراد؛ إذ لا أثر لتركها حينئذ في دفع العصيان.

ص: 278

كان (1) اللازم على المكلف إحراز أنه (2) تركه بالمرة و لو بالأصل، فلا يجوز (3) الإتيان بشيء يشك معه (4) في تركه؛ إلا (5) إذا كان مسبوقا به؛ ليستصحب (6) مع الإتيان به.

نعم (7)؛ لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه (8) على حدة لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد (9)، و حيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه (10) مصداقه، فأصالة (11) البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.

=============

(1) جواب قوله: «إذا كان»، و إشارة إلى النحو الأول من تعلق النهي بالطبيعة.

(2) أي: أن المكلف ترك الشيء - كشرب الخمر - بالمرة. و قوله: «بالأصل» قيد لقوله: «إحراز»، فالمعنى: و لو كان الإحراز بالأصل.

(3) هذا نتيجة لزوم إحراز أنه ترك الفعل المنهي عنه بالمرة فيما إذا تعلق النهي بالطبيعة.

(4) يعني: يشك - مع الإتيان بذلك الشيء المشتبه - في أنه ترك المنهي عنه بالمرة أم لا، حيث كان المطلوب منه تركه رأسا.

(5) استثناء من قوله: «فلا يجوز»، و اسم «كان» ضمير مستتر فيه راجع على الشيء المأتي به الذي شك مع الإتيان به في ترك المنهي عنه بالمرة. و ضمير «به» راجع على الترك، يعني: إلا إذا كان ذلك الشيء المأتي به المشكوك كونه فردا للمنهي عنه، فيحرز و لو تعبدا ترك المنهي عنه بالمرة، فيثبت المطلوب.

(6) أي: ليستصحب ترك الطبيعة مع الإتيان بالمشكوك كونه فردا لها، فيكون الشك في ترك الطبيعة مع الإتيان بمشكوك الفردية من الشك في رافعية الموجود.

(7) استدراك على قوله: «كان اللازم على المكلف إحراز...»، و إشارة إلى النحو الثاني من تعلق النهي بالطبيعة المعبر عنه بالحقيقة و الانحلال، لانحلال الحكم فيها إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الطبيعة، و قد عرفت توضيحه.

(8) أي: من الشيء الذي تعلق به النهي.

(9) أي: ما علم أنه فرد قطعي للمنهي عنه.

(10) أي: أنه مصداق المنهي عنه كزيد و عمر و بكر في مثال: «لا تكرم الفساق»، و ضمير «أنه» راجع على الموصول في «ما علم» المراد به الشيء.

(11) جواب «و حيث» يعني: فتجري البراءة في المائع المشكوك كونه خمرا، و وجه جريانها فيه: ما تقدم من أن الشك حينئذ في أصل التكليف و من المعلوم: أن الأصل الجاري فيه هو البراءة، بخلاف النحو الأول، فإن الشك في الفرد المشتبه فيه يرجع إلى

ص: 279

فانقدح بذلك (1): أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة (2)، أو كان الشيء مسبوقا بالترك (3)؛ و إلا (4) لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا (5)، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه، و عدم (6) إتيانه امتثالا لنهيه، غاية الأمر (7): كما يحرز الشك في الفراغ و السقوط؛ دون الشك في ثبوت التكليف، فلذا لا تجري فيه البراءة.

=============

(1) يعني: ظهر بما ذكرناه من أن تعلق النهي بالطبيعة يتصور على نحوين: أن مجرد العلم بحرمة شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عما شك في فرديته له إلا في صورة واحدة، و هي: ما إذا تعلق النهي بالطبيعة، و لم تكن مسبوقة بالترك، فيجب حينئذ - بقاعدة الاشتغال - الاجتناب عن الفرد المشتبه كوجوب الاجتناب عن الفرد المعلوم. و أما إذا تعلق النهي بالأفراد أو بالطبيعة مع سبق الترك فلا بأس بارتكاب المشتبه.

أما الأول: فلأصالة البراءة. و أما الثاني: فلإحراز ترك الطبيعة، مع الإتيان بالمشتبه بالاستصحاب. و لا فرق في لزوم إحراز ترك الطبيعة بين إحرازه بالوجدان أو بالتعبد كما مرّ في أوائل التنبيه الثالث.

فقول المصنف: «فانقدح بذلك» إشارة إلى ضعف ما أفاده الشيخ من جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية مطلقا، بل لا بد من التفصيل الذي تقدم في كلام المصنف «قدس سره».

(2) «نحو: لا تكرم الفساق».

ص: 280

وجود الواجب بالأصل، كذلك يحرز ترك الحرام به.

و الفرد (1) المشتبه و إن كان مقتضى البراءة جواز الاقتحام فيه؛ إلا (2) إن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، و لا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا.

فتفطن.

=============

(1) إشارة إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» في المقام بالنسبة إلى الفرد المشتبه.

و حاصله: أن الفرد المشتبه من المنهي عنه و إن جاز ارتكابه بمقتضى أصالة البراءة مع الغض عن العلم بحرمة صرف الطبيعة كما أفاده «قدس سره» بقوله: «فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته، و لا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه و بين الموضوع الكلي المشتبه حكمه؛ كشرب التتن في قبح العقاب عليه»؛ إلا إنه نظرا إلى العلم بحرمة صرف الطبيعة لا مورد لأصالة البراءة هنا؛ بل المقام مجرى قاعدة الاشتغال؛ لما عرفت مفصلا من أن تعلق النهي بالطبيعة إن كان بنحو الأول - و هو أن يكون المطلوب طلب ترك صرف الطبيعة - كان مقتضى ذلك وجوب الاجتناب عما احتمل فرديته لها كوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة، ضرورة: أن العلم بتعلق التكليف بالطبيعة - دون الأفراد - بيان وارد على أصالة البراءة، و رافع لموضوعها، فالشك في انطباق الطبيعة على الفرد المشتبه ليس مجرى لها؛ لتوقف العلم بتحقق هذا الترك الواجب على الاحتراز عن المشتبه.

نعم؛ لا بأس بإجراء البراءة في المصداق المشكوك إذا كان تعلق النهي بالأفراد نحو:

«لا تكرم الفساق». و قد عرفت توضيح ذلك.

(2) هذا رد لما أفاده الشيخ «قدس سره»، يعني: «إلا إن قضية لزوم إحراز الترك» فيما كان النهي متعلقا بالطبيعة أي: ترك الطبيعة، «اللازم وجوب التحرز عنه لا يكاد يحرز» الترك مطلقا «إلا بترك المشتبه أيضا»، أي: كما يترك المتيقن.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا الأمر الثالث: هو دفع توهم لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية الموضوعية.

توضيح التوهم: أن أدلة البراءة الشرعية و العقلية لا تجري في الشبهات الموضوعية كالمائع المردد بين الخل و الخمر؛ لأن وظيفة الشارع هو بيان الكبريات مثل: الماء حلال

ص: 281

و الخمر حرام و نحوهما، و قد بينها و وصلت إلى المكلف حسب الفرض و إنما الشك في الصغرى و هي: كون هذا المائع الخارجي مما ينطبق عليه متعلق الحرمة و هو الخمر أم لا؟ و من المعلوم: أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع، و حينئذ: فلا يحكم العقل بقبح المؤاخذة على تقدير مصادفة الحرام؛ بأن كان ما شربه من المائع المردد خمرا؛ إذ لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لانتقاض عدم البيان بالبيان بعد صدور الحكم الكلي من الشارع، و علم المكلف به.

2 - جواب الشيخ الأنصاري عن هذا التوهم: و قد أفاد الشيخ في الجواب ما حاصله: أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لم يكن مطلقا؛ بل يتوقف على عدم البيان الواصل إلى المكلف و لو لأجل عدم العلم بالصغرى، و موضوع الحكم و المقام من هذا القبيل؛ إذ المفروض: أن المكلف لم يعلم بالموضوع، و مع الجهل بالموضوع يكون موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان محققا بلا إشكال، فتجري البراءة. هذا خلاصة دفع التوهم المزبور.

3 - ظاهر كلام الشيخ الأنصاري «قدس سره»: هو جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا، و المصنف منع هذا الإطلاق، و قال بالتفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة نحو: «لا تشرب الخمر»، و بين تعلق الحكم بالأفراد نحو: «لا تكرم الفساق»، فلا تجري البراءة فيما إذا شك في فرد أنه خمر أم لا؟ بل يجب الاجتناب عنه حيث إن المطلوب ترك الطبيعة، و لا يحصل العلم بالترك إلا بترك محتمل الخمرية.

و تجري البراءة في الثاني فيما لو شك في فرد أنه فاسق أم لا، و هناك احتمال عدم الجريان مطلقا كما هو مفاد التوهم المذكور.

و قد تحصل مما ذكرناه: أن الفرد المشتبه بالشبهة الموضوعية على ثلاثة أقسام:

1 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بلحاظ أفرادها.

2 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي، مع كونها مسبوقة بالترك.

3 - المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي مع عدم كونها مسبوقة بالترك.

و تجري البراءة في الأولين دون الأخير. فما أفاده الشيخ من جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا و في جميع أقسامها ممنوع.

ص: 282

الرابع (1): أنه قد عرفت (2) حسن الاحتياط عقلا و نقلا، و لا يخفى أنه (3) مطلقا كذلك حتى (4) فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو......

=============

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو التفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة، و بين تعلقه بالأفراد، فتجري البراءة في الثاني دون الأول.

(2) يعني: في صدر التنبيه الثاني، حيث قال: «إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا و عقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية...».

(3) أي: الاحتياط «مطلقا» يعني في جميع الموارد «كذلك»، أي: حسن عقلا و شرعا.

(4) بيان للإطلاق. و هذا إشارة إلى الجهة الأولى و حاصلها: أن الاحتياط حسن مطلقا حتى في صورة قيام حجة على عدم التكليف الإلزامي في الشبهات الحكمية؛ كما إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو عدم وجوب السورة في الصلاة، أو قيام بينة مثلا على عدم كون المشتبه بالخمر بحكم الخمر حتى يحرم شربه، فإنه لا ريب في حسن الاحتياط في هذه الصورة أيضا؛ كحسنه في صورة عدم قيام حجة على عدم التكليف؛ إذ الاحتياط - لكونه محرزا للواقع عملا - حسن عقلا، فإنه مع قيام الحجة على عدم التكليف الإلزامي لا ينتفي موضوع حسنه و هو احتمال وجود التكليف واقعا.

و من المعلوم: أن حسنه مبني على رجاء تحصيل الواقع و إدراك المصلحة النفس الأمرية؛ لا على خصوص تحصيل المؤمّن من العقاب حتى يتوهم عدم بقاء الموضوع للحسن العقلي عند قيام حجة على نفي التكليف واقعا؛ لعدم العقاب على مخالفته حينئذ، لتوسعة الشارع على المكلف عند اشتباه التكليف.

قال الشيخ الأعظم «قدس سره»: «الثالث: أنه لا شك في حكم العقل و النقل

ص: 283

أمارة (1) معتبرة على أنه (2) ليس فردا للواجب (3) أو الحرام (4) ما لم يخل (5) بالنظام فعلا.

=============

برجحان الاحتياط مطلقا حتى فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الإباحة...». «منتهى الدراية، ج 5، ص 555».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) عطف على قوله: «حجة على...». و هذا في الشبهة الموضوعية.

(2) الضمير راجع على الموصول في «فيما»، المراد به: المورد الذي يحتمل التكليف الإلزامي فيه.

(3) كقيام البينة على عدم عالمية زيد مثلا مع وجوب إكرام العالم، فإن إكرام زيد - لكونه مما يحتمل مطلوبيته - حسن بلا إشكال.

(4) كقيام البينة على عدم خمرية هذا المائع المشتبه، فإن ترك شربه ترك لما يحتمل مبغوضيته، و هو أيضا حسن عقلا.

(5) ظرف لقوله: «مطلقا كذلك»، و إشارة إلى الجهة الثانية.

يعني: أن حسن الاحتياط مطلقا عقلا و نقلا منوط بعدم إخلاله بالنظام، فإذا بلغ حد الإخلال به لم يكن حسنا و لا راجحا شرعا.

أما عدم حسنه العقلي: فلأن ما يوجب اختلال النظام قبيح عند العقلاء؛ لأنه من مصاديق الظلم الذي هو التجاوز عن حدود العدل و الإنصاف و أما عدم رجحانه الشرعي: فلأن المانع عن رجحانه في هذا الحال موجود، و هو كون الإخلال بنظام النوع مبغوضا للشارع.

و عليه: فالمستفاد من ظاهر العبارة هو: عدم حسن الاحتياط عند لزوم اختلال النظام؛ لا عدم تحققه و صدقه.

و بعبارة أخرى: لزوم اختلال النظام رافع لحسن الاحتياط لا مانع عن نفس الاحتياط، فالسالبة حينئذ تكون بانتفاء المحمول، يعني: أن قولنا: «الاحتياط حسن» يؤول - عند اختلال النظام - إلى قولنا: «الاحتياط لا يحسن»؛ لا إلى قولنا: «الاحتياط لا يمكن».

و الوجه فيه واضح فإن المناط في صدق الاحتياط - و هو الجمع بين المحتملات لغرض إدراك المصلحة الواقعية و إحراز الواقع المحتمل - موجود عند إخلاله بالنظام أيضا، فالاحتياط متحقق عند الإخلال؛ لكنه غير حسن؛ لمزاحمة حسنه العقلي بالقبح الطاري عليه من جهة استلزامه اختلال النظام، و لكن هذا العنوان العارض لا يوجب تبدل

ص: 284

فالاحتياط قبل ذلك (1) مطلقا يقع حسنا، كان (2) في الأمور المهمة كالدماء و الفروج أو غيرها، و كان (3) احتمال التكليف قويا أو ضعيفا، كانت (4) الحجة على المصلحة الواقعية حتى لا يكون إحرازها احتياطا.

=============

قوله: «فعلا» قيد للاختلال، يعني: أن الرافع لنفس الاحتياط أو حسنه هو الاختلال الفعلي دون الشأني، فهو قبل وصوله إلى حد الإخلال بالنظام حسن.

(1) أي: قبل الإخلال الفعلي بالنظام، و المراد بحسنه مطلقا: هو حسنه من ثلاث جهات إحداها: الاحتمال، ثانيتها: المحتمل يعني: المورد، ثالثتها: وجود الحجة على عدم التكليف أو وجودها كما سيتضح.

(2) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث المحتمل، يعني: أن الاحتياط غير المخل بالنظام حسن، سواء كان مورده الأمور المهمة كالدماء و الأعراض، أم الأمور غير المهمة كسائر التكاليف الشرعية.

(3) عطف على «كان»، و هو بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث الاحتمال، يعني: أن موضوع حكم العقل بحسن الاحتياط و حكم الشرع برجحانه هو احتمال التكليف، سواء كان هذا الاحتمال ظنا أم شكا أم وهما، فالإتيان بالفعل المظنون وجوبه - بظن غير معتبر - إطاعة حكمية للمولى، فهو حسن عقلا و راجح شرعا، كما أن الإتيان بالفعل المشكوك أو الموهوم وجوبه إطاعة حكمية أيضا.

و كذا الكلام في ترك الحرام المظنون أو المشكوك أو الموهوم، فإنه حسن عقلا و راجح شرعا، و لا ترجيح للاحتمال القوي على الضعيف في مراعاة الاحتياط فيه دونه؛ لأن الظن بالتكليف لما لم يكن معتبرا - كما هو المفروض في المقام - كان مساويا للشك و الوهم، فلا يكون قوة الاحتمال فيه مرجحا له على أخويه حتى يراعى الاحتياط فيه دونهما بعد اشتراك الجميع في عدم الاعتبار.

(4) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث وجود الحجة على عدم التكليف أو عدم وجودها، يعني: أن نفس رعاية احتمال التكليف أمر مرغوب فيه، سواء كان هناك حجة معتبرة على عدم التكليف الإلزامي في البين، أم لم يكن دليل معتبر على نفيه، فيبقى نفس احتمال التكليف الواقعي غير المعارض بشيء، و هو الموضوع لحكم العقل و النقل بمطلوبية الاحتياط.

و في هذا إشارة إلى رد ما احتمله الشيخ الأنصاري «قدس سره» في حسن الاحتياط؛ من الفرق بين وجود أمارة على الإباحة و عدمه. قال «قدس سره»: و يحتمل التبعيض بين

ص: 285

خلافه أو لا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك (1) لا يكون حسنا كذلك (2)؛ و إن كان (3) الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض...

=============

موارد الأمارة على الإباحة، و موارد لا يوجد إلا أصالة الإباحة، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات على الثاني دون الأول؛ لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعية على الإباحة.

(1) أي: لاختلال النظام فعلا.

(2) يعني: لا يكون حسنا مطلقا، سواء كان الاحتمال قويا أم ضعيفا، و سواء كان المحتمل مهما أم لا، و سواء وجدت الحجة على خلافه أم لا.

(3) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة أعني: بيان كيفية التبعيض في الاحتياط المستحب إذا استلزم الاختلال بالنظام.

قال الشيخ «قدس سره»: «و يحتمل التبعيض بحسب المحتملات، فالحرام المحتمل إذا كان من الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء و الفروج؛ بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى يحتاط فيه، و إلا فلا...»(1) الخ.

و توضيحه: أن المكلف إذا التفت من أول الأمر إلى أن الاحتياط التام يؤدي إلى اختلال النظام كان الراجح له التبعيض في الاحتياط، بمعنى: ترجيح بعض الاحتياطات على بعض، و التبعيض في الاحتياط يكون بأحد وجهين - الأول: ترجيح بعض الأطراف بحسب المحتمل، فإن كان المورد مما اهتم به الشارع كالدماء و الأموال قدمه على غيره، سواء كان احتمال التكليف قويا أم ضعيفا، فالموارد المهمة على هذا الوجه أولى بالاحتياط من غيرها، و لا عبرة بقوة الاحتمال و ضعفه حينئذ.

الثاني: ترجيح بعض الأطراف بحسب الاحتمال، فإذا كان هناك تكاليف متعددة محتملة، بعضها مظنون و بعضها مشكوك أو موهوم أخذ بالمظنون و ترك الاحتياط في غيره، فقويّ الاحتمال على هذا الوجه أولى بالاحتياط من ضعيفه، و لا عبرة بالمحتمل حينئذ، سواء كان من الأمور المهمة أم لا. قال الشيخ «قدس سره»: «... فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات، فيحتاط في المظنونات، و أما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام...»(2) الخ. و المشار إليه في قوله: «ذلك» هو الاحتياط، أي إلى أن الاحتياط المطلق موجب للاختلال «من أول الأمر»؛ بأن أراد الاحتياط في الأبواب كلها.

ص: 286


1- فرائد الأصول 137:2.
2- فرائد الأصول 137:2.

الاحتياطات (1) احتمالا أو محتملا (2). فافهم.

=============

(1) على بعض كترجيح احتياطات باب الدماء و الفروج على احتياطات بابي الطهارة و النجاسة، أو ترجيح الاحتياطات التي يكون احتمال التكليف في مواردها قويا «احتمالا» هذا للثاني، «أو محتملا» هذا للأول إذ في باب الفروج المحتمل أقوى من باب الطهارة.

(2) قيدان ل «بعض الاحتياطات»، فإذا احتمل وجوب فعل احتمالا ضعيفا، و كان المحتمل من الأمور المهمة؛ بحيث لو كان وجوبه معلوما لاهتم به الشارع ترجحت مراعاة المحتمل، فيحتاط فيه نظرا إلى أهميته كما أنه لو احتمل وجوب فعل احتمالا قويا و لم يكن المحتمل من الأمور المهمة ترجحت مراعاة الاحتمال، فيحتاط فيه بالإتيان به نظرا إلى أهمية الاحتمال. و هناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

قوله: «فافهم» لعله إشارة إلى أن حسن الاحتياط قبل الإخلال و عدم حسنه حينه إنما هو بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة، و أما بالإضافة إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد: فهو مبني على إمكان الانفكاك بين الموافقة القطعية، و ترك المخالفة القطعية. فتدبر.

أو إشارة إلى وجوب الاحتياط في الأمور المهمة كالدماء و الأعراض.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في الأمور:

1 - الغرض من عقد هذا الأمر الرابع: بيان جهات ثلاث متعلقة بالاحتياط.

إحداها: حسنه حتى مع قيام الدليل على نفي التكليف.

ثانيتها: كون حسنه محدودا بما لم يستلزم اختلال النظام.

ثالثتها: كيفية التبعيض في الاحتياط إذا كان الاحتياط التام مستلزما لاختلال النظام.

2 - و حاصل الجهة الأولى: أن الاحتياط حسن مطلقا أي: حتى مع قيام حجة على عدم التكليف الإلزامي في الشبهة الحكمية، كما إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فلا شك في حسن الدعاء احتياطا من باب إحراز الواقع؛ إذ موضوع الاحتياط - و هو احتمال التكليف واقعا - ثابت، فيكون حسنا عقلا و راجحا شرعا.

و حاصل الكلام في الجهة الثانية: أن حسن الاحتياط مطلقا مشروط بعدم إخلاله للنظام، فإذا بلغ حد الإخلال به لم يكن حسنا عقلا و لا راجحا شرعا. و أما الأول: فلأنه

ص: 287

من مصاديق الظلم الذي هو التجاوز عن حدود العدل و الإنصاف.

و ما الثاني: فلأن المانع عن رجحانه في هذا الحال موجود، و هو مبغوضية الإخلال بالنظام عند الشارع.

3 - و أما حاصل الكلام في الجهة الثالثة: فلأن المكلف إذا التفت من أول الأمر إلى كون الاحتياط التام مؤديا إلى اختلال النظام، كان الراجح له التبعيض في الاحتياط بأحد وجهين:

أحدهما: ترجيح بعض الأطراف بحسب المحتمل، بمعنى: أنه إذا كان المورد مما اهتم به الشارع كالدماء و الأعراض قدمه على غيره، سواء كان احتمال التكليف قويا أم ضعيفا، فلا عبرة بقوة الاحتمال و ضعفه.

ثانيهما: ترجيح بعض الأطراف بحسب الاحتمال، بمعنى: إنه إذا كان هناك تكاليف متعددة محتملة بعضها مظنون و بعضها مشكوك أو موهوم، أخذ بالمظنون دون المشكوك و الموهوم، فلا عبرة بالمحتمل حينئذ، سواء كان من الأمور المهمة أم غيرها.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو: حسن الاحتياط؛ ما لم يكن مستلزما لاختلال النظام، فإذا كان موجبا له: فلا حسن عقلا، و لا رجحان شرعا.

ص: 288

فصل

إذا دار الأمر (1) بين وجوب شيء و حرمته؛...

=============

فصل فى اصالة التخيير

دوران الأمر بين المحذورين أو يقال: «أصالة التخيير»

(1) و قبل الخوض في البحث لا بد من تحرير ما هو محل النزاع في هذه المسألة فنقول: إن محل النزاع فيها يتضح بعد تقديم مقدمة و هي: بيان أمور:

1 - أن مورد النزاع: ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته و لم يحتمل غيرهما؛ و إلا فلو احتمل الإباحة مثلا لا شك في جريان البراءة بالنسبة إلى كل من الوجوب و الحرمة، و يحكم بالإباحة ظاهرا

2 - أن محل البحث ما لم يكن أحد الحكمين بخصوصه مسبوقا بالوجود و موردا للاستصحاب؛ إذ عليه يجري الاستصحاب فيه و في عدم الحكم الآخر، و به ينحل العلم الإجمالي.

3 - مثال الشبهة الحكمية: من كان مقطوع الذكر و متعذرا عليه الدخول إذا تزوّج و ساحق زوجته ثم طلقها، فإن كانت المساحقة في حكم الدخول، فطلاقها رجعي، و حينئذ: فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدة وجبت الإجابة عليها و إن لم تكن في حكم الدخول كان الطلاق بائنا، و ليس له الاستمتاع بها بالرجوع؛ بل بالعقد الجديد، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة، و عليه: فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة و الوجوب.

و مثال الشبهة الموضوعية: كما إذا علم الزوج أنه حلف إمّا على وطء زوجته هذه الليلة، أو على ترك وطئها في الليلة نفسها، فيدور حكم الوطء بين الحرمة و الوجوب.

هذا هو الدوران بين المحذورين في الشبهتين.

4 - أن محل النزاع ما لو كان كل من الوجوب و التحريم توصليا، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا.

و أما لو كان كلاهما ما تعبديا أو أحدهما المعين كذلك: كان خارجا عن محل

ص: 289

لعدم (1) نهوض حجة على أحدهما تفضيلا، بعد نهوضها عليه إجمالا ففيه وجوه (2):

=============

النزاع أولا؛ لعدم جريان جميع الأقوال فيه، و ثانيا: لإمكان المخالفة القطعية، و محل النزاع ما إذا كان كل من المخالفة القطعية و الموافقة القطعية متعذرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل النزاع ما إذا كان كلا الحكمين توصليا، أو أحدهما غير المعين تعبديا. هذا بخلاف ما يظهر من كلام الشيخ «قدس سره»، حيث اعتبر التوصيلة في كلا الحكمين.

(1) تعليل لقوله: «دار»، و ضمير «عليه» راجع على أحدهما، و قوله: «ففيه» جواب «إذا».

(2) يعني ففي دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة وجوه؛ بل أقوال في وجوه المسألة و بيان المختار منها.

الأول: الحكم بالبراءة شرعا و عقلا، نظير الشبهات البدوية عينا؛ و ذلك لعموم أدلة الإباحة الشرعية، و حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل و الترك جميعا. و قد أشار إليه المصنف «قدس سره» بقوله: «الحكم بالبراءة عقلا و نقلا...» الخ.

و العلم بأصل الإلزام ليس باعثا و لا زاجرا كما هو واضح، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع. و أما البراءة النقلية: فلأن مثل حديثي الرفع و الحجب لا يختص بما إذا كان أحد طرفي الشك في حرمة شيء هو الإباحة كشرب التتن، حتى يختص بالشبهة البدوية؛ بل يعم ما إذا علم جنس الإلزام و لم يعلم النوع الخاص منه، فالوجوب المشكوك فيه مرفوع كحرمة الحرمة المحتملة.

الثاني: وجوب الأخذ بجانب الحرمة تعيينا لوجوه:

أولها: لقاعدة الاحتياط، حيث يدور الأمر فيه بين التعيين و التخيير، فإن مقتضاها:

تقديم احتمال التحريم و البناء عليه في مرحلة الظاهر، و المقام من موارد الدوران المذكور، فيقدم احتمال التحريم.

ثانيها: الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة، بناء على كون المراد منه عدم الدخول في الشبهة و السكون عندها، فتدل على وجوب ترك الحركة نحو الشبهة، و هو معنى تقديم احتمال الحرمة.

ثالثها: حكم العقل و العقلاء بتقديم دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما، فاللازم رعاية جانب المفسدة الملزمة و ترك الفعل المشكوك حكمه؛ و إن استلزم فوت المصلحة الملزمة الواقعية.

ص: 290

الحكم بالبراءة عقلا و نقلا لعموم النقل، و حكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل (1) به،...

=============

رابعا: إفضاء الحرمة إلى المقصود منها أتم من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه، فإن المقصود من الحرمة ترك الحرام، و الترك يجتمع مع كل فعل، بخلاف الوجوب، فإن المقصود منه و هو فعل الواجب لا يتأتى غالبا مع كل فعل، مضافا إلى حصول الترك حالة الغفلة عنه أيضا إذا لم يكن الحرام المحتمل تعبديا كما هو الغالب، فلذا كان رعاية جانب الحرمة أرجح عند العقلاء؛ لأنها أبلغ في المقصود.

الثالث: وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا أي: تخييرا شرعيا قياسا لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية و قد أشار إليه بقوله «أو تخييرا... الخ».

الرابع: التخيير بين الفعل و الترك عقلا مع التوقف عن الحكم بشيء رأسا لا ظاهرا و لا واقعا، و قد أشار إليه بقوله: «و التخيير بين الترك و الفعل عقلا مع التوقف عن الحكم رأسا».

الخامس: التخيير بين الفعل و الترك عقلا و الحكم بالإباحة شرعا.

السادس: الاستقراء الذي يستفاد منه أن مذاق الشرع هو تقديم جانب الحرمة في موارد اشتباه الواجب بالحرام، و هذا يقتضي تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب أيضا. و قد أشار المصنف إلى بعض هذه الوجوه.

و مختار المصنف من هذه الوجوه: هو الوجه الخامس، حيث قال «أوجهها الأخير...» الخ، و هذا الوجه مركب من جزءين:

1 - التخيير بين الفعل و الترك عقلا.

2 - الحكم بالإباحة شرعا.

فقوله: «لعدم الترجح بين الفعل و الترك» دليل للجزء الأول، و قوله: «و شمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام له.. الخ، دليل للجزء الثاني.

توضيح بعض العبارات:

قوله: «لعموم النقل» إشارة إلى حديثي الرفع و الحجب.

(1) أي متعلق «قبح»، و ضمير «به» راجع على «خصوص»، و هذا تقريب جريان البراءة العقلية، يعني: أن الجهل بخصوصية الإلزام و نوعه موجب لصدق عدم البيان، الذي أخذ موضوعا لقاعدة القبح.

ص: 291

و وجوب (1) الأخذ بأحدهما تعيينا (2) أو تخييرا (3)، و التخيير بين (4) الترك و الفعل عقلا مع التوقف عن الحكم به رأسا، أو مع (5) الحكم عليه بالإباحة شرعا، أوجهها الأخير (6)؛ لعدم الترجيح بين الفعل و الترك، و شمول مثل: «كل شيء لك حلال حتى

=============

(1) عطف على «الحكم»، و إشارة إلى الوجه الثاني الذي استدل عليه بالوجوه المذكورة.

(2) أي: ترجيح جانب الحرمة معينا.

(3) إشارة إلى الوجه الخامس.

(4) إشارة إلى الوجه السادس.

(5) إشارة إلى الوجه السابع.

(6) أي الأخير المذكور في المتن هو الوجه السابع، فدعوى المصنف «قدس سره» مؤلفة من أمرين:

أحدهما: الحكم بالتخيير العقلي لا الشرعي.

ثانيهما: الحكم شرعا على المورد بالإباحة الظاهرية، و استدل على الأول بقوله: «لعدم الترجيح» بمعنى: أن المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك فلو اختار الفعل احتمل الموافقة على تقدير وجوبه واقعا، و المخالفة على تقدير حرمته كذلك، و كذا لو اختار الترك، فإنه يحتمل الموافقة و المخالفة أيضا، حيث لا مرجح لأحدهما على الآخر - كما هو المفروض - فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح، و هو قبيح، فيتساويان و هو معنى التخيير العقلي.

و استدل على الثاني - و هو الحلية الظاهرية - بقوله: «و شمول مثل»، و قبل توضيح الاستدلال به ينبغي التنبيه على أمر و هو: أن مراد المصنف بقوله: «مثل» هو سائر الروايات التي تصلح لإثبات قاعدة الحل، و ليس غرضه منه أخبار البراءة؛ كحديثي الرفع و الحجب و نحوهما؛ و ذلك لأن مدلول حديثي الرفع مطابقة نفي التكليف الإلزامي على ما اختاره المصنف في أول البراءة بقوله: «فالإلزام المجهول مرفوع فعلا»، فليس الحل الظاهري مدلوله المطابقي؛ بل و لا مدلوله الالتزامي أيضا؛ إذ مدلوله الالتزامي ليس إلا الترخيص الذي هو أعم من الإباحة بالمعنى الأخص التي هي المطلوبة، فأخبار البراءة تثبت التزاما ما هو أعم من الإباحة المقصودة.

و بالجملة: ففرق بين أصالتي البراءة و الحل؛ إذ مدلول الأولى: نفي التكليف الإلزامي في مرحلة الظاهر المستلزم للترخيص عقلا، و مدلول الثانية: حكم شرعي

ص: 292

ظاهري. و الشاهد على ما ذكرناه من الفرق بينهما هو: أن المصنف جعل الوجوه و الأقوال في المسألة خمسة - لا أربعة كما صنعه الشيخ «قدس سره» - وعد أولها الحكم بالبراءة عقلا و نقلا؛ و لكنه لم يرتض ذلك، و اختار الوجه الخامس من الوجوه المذكورة في كلامه، و لو كان مفاد أصالتي البراءة الشرعية و الحل واحدا لم يكن وجه لعدّهما قولين.

نعم؛ جمع الشيخ الأنصاري «قدس سره» بينهما كما يظهر من الجمع في الاستدلال على الإباحة الظاهرية بين أخبار البراءة و الحل، حيث قال: «فقد يقال في المقام بالإباحة ظاهرا لعموم أدلة الإباحة الظاهرية، مثل قولهم: «كل شيء لك حلال»، و قولهم: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»، فإن كلا من الوجوب و الحرمة قد حجب علمه من العباد، و غير ذلك من أدلته»(1).

و كيف كان؛ فالاستدلال بحديث الحل على إباحة ما دار أمره بين الوجوب و الحرمة يستدعي البحث في مقامين: الأول في وجود المقتضي، و الثاني: في عدم المانع.

أما المقام الأول - و هو الذي أشار إليه بقوله: «و شمول».

توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية» ج 5، ص 569» - أن الحديث يدل على حلية المشكوك حرمته ظاهرا، و إنها باقية إلى أن يحصل العلم بخصوص الحرمة، فموضوع حكم الشارع بالحلية الظاهرية هو ما شك في حرمته و غيرها، سواء كان ذلك الغير المقابل للحرمة هو الوجوب أم الإباحة بالمعنى الأخص، أم الاستحباب، أم الكراهة، و بهذا يندرج مورد الدوران بين المحذورين في موضوع الحديث لعدم العلم فيه بخصوص الحرمة المأخوذ غاية للحل، فإذا دار الأمر بين حرمة شيء و وجوبه صدق عليه عدم العلم بحرمته فهو حلال ظاهرا، و لا مفسدة في الاقتحام فيه حتى يعلم أنه حرام.

و أما الثاني - و هو الذي أشار إليه بقوله: «و لا مانع عنه عقلا و لا نقلا» - فتوضيحه:

أن العلم بالمانع يتوقف على بيان ما يمكن أن يكون مانعا شرعا أو عقلا و النظر فيه، و حيث لم يبين ذلك فمقتضى الأصل عدمه، فيكون مثل: «كل شيء لك حلال» شاملا للمورد، و هكذا تشمله أدلة الرفع و الحجب و السعة و ما شابهها، و لا اختصاص لهذه

ص: 293


1- فرائد الأصول 179:2.

تعرف أنه حرام له»، و لا مانع عنه عقلا (1) و لا نقلا (2).

=============

الروايات بما يدور أمره بين الحرمة و غير الوجوب أو الوجوب و غير الحرمة؛ بل هي عامة تشمل جميع الصور، «و لا مانع منه» أي من شمول مثل «كل شيء» الخ. «عقلا» أي:

ليس من أطراف الشبهة المحصورة التي كانت خارجة عن هذا العموم لدليل عقلي، «و لا نقلا» كما في الشبهة البدوية قبل الفحص أو بعده؛ بناء على مذهب الأخباري من شمول أخبار الاحتياط له.

(1) و مثال ما يوجد فيه المانع العقلي عن جريان قاعدة الحل هو الشبهة المحصورة، فإن العقل يمنع عن جريان القاعدة في الأطراف، و يوجب الاجتناب عن جميعها مقدمة للعلم بفراغ الذمة عن التكليف المعلوم بالإجمال، غير أن في المقام لا يتصور مانع عقلي إلا توهم لزوم المخالفة العملية، حيث إن جريان القاعدة يوجب الترخيص في المعصية، و من المعلوم: أن الترخيص في المعصية غير معقول، فلا بد من تخصيص دليل أصالة الحل بغير المقام كالشبهة البدوية.

لكن في هذا التوهم: أن المفروض هنا: عدم حصول العلم بالمخالفة العملية؛ لتعذر كل من الموافقة و المخالفة القطعيتين، و الموافقة الاحتمالية حاصلة قهرا كالمخالفة الاحتمالية؛ لعدم خلوّ المكلف من الفعل الموافق لاحتمال الوجوب أو الترك الموافق لاحتمال الحرمة.

و عليه: فلا يلزم من الحكم بإباحة كل من الفعل و الترك ظاهرا بالترخيص في المعصية كما يلزم من جريانها في أطراف الشبهة المحصورة.

(2) مثال ما يوجد فيه المانع الشرعي عن جريان أصالة الحل هو الشبهة البدوية - بناء على تقديم أخبار الاحتياط - فإن الشرع يمنع عن جريانها فيها كل قيل بوجوده في المقام بتوهم: رجحان جانب التحريم تمسكا بأخبار الوقوف، و تقديما لها على أدلة الإباحة؛ بل المحكي عن شرح الوافية: الاستدلال عليه بأخبار الاحتياط، كما يستدل بها على حرمة الاقتحام في الشبهة البدوية.

لكن في هذا التوهم: أن التوقف بالنظر إلى التعليل الوارد في أخباره ظاهر في ما لا يحتمل الضرر على ترك الشبهة. و في المقام حيث يلزم فوات المصلحة الملزمة على تقدير وجوب الفعل واقعا، فلا يكون مشمولا للأخبار الآمرة به، كما لا مجال للتمسك بأدلة وجوب الاحتياط لفرض تعذّره هنا، مضافا إلى عدم كون الوارد به مولويا؛ بل هو إرشاد إلى حسنه العقلي.

ص: 294

و قد عرفت (1): أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاما،...

=============

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: «لا يجب موافقة الأحكام التزاما».

(1) يعني: قد عرفت في الأمر الخامس من مباحث القطع: عدم وجوب الموافقة الالتزامية، حيث قال: «هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما أو لا يقتضي... الحق هو الثاني».

و غرضه من هذا الكلام هنا: بيان توهم وجود مانع عقلي عن جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين. و الجواب عنه.

فلا بد أولا من توضيح هذا التوهم حتى يتضح جواب المصنف عنه.

و توضيح التوهم يتوقف على مقدمة و هي: أن للتكليف موافقة و مخالفة، و كل منهما على قسمين: موافقة عملية، و موافقة التزامية، بمعنى الالتزام بالحكم الشرعي من الوجوب و الحرمة و غيرهما.

و كذلك المخالفة على قسمين: مخالفة عملية، و موافقة التزامية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن العقل كما يستقل بوجوب إطاعة الشارع عملا يعني: يستقل بوجوب الموافقة العملية؛ كذلك يحكم بوجوب إطاعته التزاما يعني يحكم بوجوب الموافقة الالتزامية، بمعنى لزوم التدين و الالتزام القلبي بأحكامه، و يحرم الالتزام بما يخالف الحكم الشرعي، و من المعلوم: أن علم المكلف بعدم خلوّ الواقع عن أحد الحكمين الإلزاميين ينافي البناء على إباحة كل من الفعل و الترك ظاهرا؛ لاقتضاء هذه الإباحة الظاهرية جواز الالتزام بخلاف ما هو معلوم عنده من الحكم الواقعي الدائر بين الوجوب و الحرمة، و هذا مما يمنع عنه العقل، فلا تجري أصالة الحل في المقام لمانع عقلي.

و قد أجاب المصنف «قدس سره» عن هذا التوهم بوجهين:

ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: «و لو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا».

و حاصل الوجه الأول: أن وجوب إطاعة أوامر الشارع و نواهيه عملا مما لا ريب في استقلال العقل به. و أما وجوب موافقتهما التزاما بعقد القلب عليها حتى يكون لكل حكم نحوان من الإطاعة، فلا دليل عليه؛ لأن العقل الحاكم بلزوم الامتثال العملي - حذرا عن عصيانه المتتبع لعقوبته - لا يحكم بلزوم الموافقة الالتزامية، و عليه: فلا دلالة من العقل على وجوبها.

و أما النقل: فليس فيه أيضا ما يقتضي ذلك بالطلب المولوي اللزومي؛ إذ لو كان دليل

ص: 295

و لو وجب (1) لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه (2) ممكنا. و الالتزام التفصيلي (3) بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا.

=============

في البين لكان إما نفس أدلة التكليف مثل: أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ * و إما ما ورد من وجوب التصديق بما جاء به النبي «صلى الله عليه و آله»، و شيء منهما لا يصلح لإثبات ذلك.

هذا مضافا إلى: أنه لو دل دليل من الشرع على وجوب الموافقة الالتزامية لكان مانعا شرعيا عن شمول أصالة الحل للمقام، لا مانعا عقليا كما هو مفروض الكلام، هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

و حاصل الوجه الثاني: أنه - بناء على تسليم وجوب الموافقة الالتزامية - لا منافاة بينه و بين جريان أصالة الحل، لإمكان الانقياد القلبي الإجمالي، بأن يلتزم إجمالا بالحكم الواقعي على ما هو عليه و إن لم يعلم بشخصه فعلا، فيتدين المكلف بما هو الواقع سواء كان وجوبا أم حرمة.

فالمتحصل: أن وجوب موافقة الأحكام التزاما لا يمنع من جريان أصالة الحل في مسألة الدوران بين المحذورين.

(1) الأولى «وجبت» «و تجب».

(2) أي: مع الشمول، يعني: أن الالتزام بالحكم الواقعي على إجماله مع شمول دليل أصالة الحل للمورد ممكن يعني: لتمكن المكلف من الالتزام بما هو الثابت واقعا.

(3) هذا دفع ما ربما يتوهم من عدم صحة الوجه الثاني من الجواب.

توضيح التوهم: أنه - مع تسليم وجوب الموافقة الالتزامية - لا يكون الالتزام بالواقع على ما هو عليه كافيا في امتثال هذا الحكم - أعني: وجوب الموافقة الالتزامية - بل يجب الالتزام التفصيلي بالوجوب فقط، أو بالحرمة كذلك، ضرورة: أن متعلق لزوم الموافقة الالتزامية هو الحكم بعنوان الخاص من الإيجاب أو التحريم، و ليس المطلوب نفس الواقع على ما هو عليه حتى تكفي الإشارة الإجمالية إليه.

و من المعلوم: استقلال العقل بلزوم إطاعة كل حكم بما يوجب القطع بفراغ الذمة عنه، و مع تعذر ذلك تصل النوبة إلى الموافقة الاحتمالية، و في المقام حيث دار الأمر بين الوجوب و الحرمة فقد تعذرت موافقته القطعية الالتزامية كتعذر موافقته القطعية العملية، و تعينت موافقته الاحتمالية، و هي الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة لكونها ممكنة، و لا تصل النوبة إلى الالتزام الإجمالي بالواقع حتى لا يكون منافيا للالتزام بالإباحة الظاهرية و البناء عليها.

ص: 296

و قياسه (1) بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة، و الآخر على الوجوب باطل، فإن التخيير بينهما - على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببيّة - يكون

=============

و قد أجاب المصنف عن هذا التوهم أيضا بوجهين:

توضيح الوجه الأول: يتوقف على مقدمة قصيرة و هي: أن التشريع - و هو بمعنى إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين - محرم شرعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الالتزام بأحدهما المعين مع فرض عدم العلم به تشريع محرم، مثلا لو التزم بالوجوب معينا، مع فرض احتمال الحرمة كان تشريعا و إن كان الحكم الواقعي هو الوجوب، و من المعلوم: أن مفسدة التشريع لو لم تكن أعظم من مصلحة وجوب الالتزام فلا أقل من مساواتها لها، فتسقطان بالتزاحم، فلا يبقى ملاك للقول بوجوب الموافقة الالتزامية التفصيلية. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

أما الوجه الثاني فحاصله: أنه - مع الغض عن محذور لزوم التشريع فيما إذا التزم بأحدهما معينا - لا دليل على وجوب هذا الالتزام التفصيلي مطلقا حتى فيما تمكن المكلف منه؛ لابتنائه على مقدمة و هي: كون متعلق وجوب الموافقة الالتزامية خصوص العناوين الخاصة من الإيجاب و التحريم، و عدم كفاية الالتزام بما هو الواقع.

و لكن هذه المقدمة ممنوعة؛ لعدم مساعدة دليل عليها.

و ببطلان الالتزام التفصيلي ظهر بطلان القول بلزوم البناء على الوجوب أو الحرمة.

(1) أي: قياس دور الأمر بين المحذورين «بتعارض الخبرين»... الخ، هذا الكلام من المصنف ردّ للوجه الثالث من الوجوه الخمسة المذكورة في المتن، فلا بد أولا من بيان قياس الوجه الثالث «بتعارض الخبرين»... الخ، ثم بيان بطلان هذا القياس ثانيا.

و أما تقريب القياس فيمكن بوجوه:

1 - دعوى: أن الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو مجرد إبدائهما احتمال الوجوب و الحرمة، و هذا الملاك موجود فيما نحن فيه، فيسوى الحكم بالتخيير إلى ما نحن فيه.

2 - دعوى: أن الملاك في التخيير بين الخبرين المتعارضين هو نفي الثالث، و ما نحن فيه كذلك.

3 - أن رعاية الحكم الظاهري - و هو الحجية - يدل بالفحوى على رعاية الحكم الواقعي، فإذا ثبت التخيير بين الحجتين و عدم طرحهما فثبوت التخيير بين الحكمين الواقعيين أولى.

ص: 297

4 - كون الملاك في التخيير بين الخبرين اهتمام الشارع بالعمل بالأحكام الشرعية و عدم إهمالها. و من المعلوم: أن المقام أولى بالرعاية من الخبرين للعلم هنا بعدم خلوّ الواقع عن الوجوب أو الحرمة. و هذا بخلاف الخبرين؛ لاحتمال كذبهما، و كون الحكم الواقعي غير مؤداهما. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب المقايسة من ناحية وحدة المناط في بعضها، و الأولوية في بعضه الآخر.

و لكن جميع هذه الوجوه ممنوعة:

أما الأول: فلأنه تخرّص و تحكّم على الغيب، بل بناء على السببيّة لا مجال له كما ستعرف لأن التخيير يكون من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين، و أي ربط لذلك بما نحن فيه.

و أما الثاني: فهو كالأوّل، مع أن نفي الثالث قد لا يقول به الكل، لا بهما - كما يراها الشيخ - لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية كتبعيتها لها في أصل الثبوت.

و لا بأحدهما - كما يراه صاحب الكفاية - لعدم تصور ما أفاده في تقريبه في محله فراجع. مع أن الكل يرى التخيير و لو لم يتكفل الخبران نفي الثالث.

و أما الوجه الثالث: فلأن الأولوية إنما تتم لو فرض ثبوت الموضوع لكل من الحكمين الواقعيين كثبوته للحكمين الظاهريين، و ليس الأمر كذلك بل هو حكم واقعي مردد بين الحكمين، بخلاف الحكمين الظاهريين، فإن كلا منهما واجد لموضوعه و هو الخبر التام الشرائط.

و كيف كان؛ فقد أجاب المصنف «قدس سره» عن هذه المقايسة بأنها مع الفارق، و القياس إذا كان مع الفارق كان باطلا، فهذا القياس باطل.

و توضيح الفرق يتوقف على مقدمة و هي: أن الأخبار إما أن تكون حجة من باب السببيّة، و إما من باب الطريقية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه على الأول يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة؛ لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدى بسبب قيام خبر على الوجوب، و حدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلق. و لما كان كل منهما مستجمعا لشرائط الحجية وجب العمل بكل منهما؛ لكن استيفاء المصلحة و الاحتراز عن المفسدة غير مقدور من جهة وحدة المتعلق، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذر موافقتهما، و يستقل العقل بالتخيير حينئذ مع التكافؤ، لما تقرر في محله من أن

ص: 298

على القاعدة، و من جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، و على (1) تقدير أنها من باب الطريقية: فإنه (2) و إن كان على خلاف القاعدة؛ إلا إن أحدهما - تعيينا أو (3) تخييرا - حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من (4) احتمال الإصابة مع اجتماع سائر التزاحم المأموري يوجب صرف القدرة في الأهم إن كان، و إلا فالتخيير كما في إنقاذ غريقين مؤمنين، و ليس مناط التخيير - و هو الحجية - في الاحتمالين المتعارضين موجودا حتى يحكم بالتخيير فيهما أيضا؛ إذ ليس في احتمالي الوجوب و الحرمة صفة الكشف و الطريقية حتى يصح قياسهما بتعارض الحجتين و هما الخبران المتعارضان، و عليه: فتزاحم الاحتمالين في المقام ليس لتزاحم الخبرين على السببيّة كي يصح قياس المقام بتعارض الخبرين.

=============

و أما على الثاني - و هو حجية الأخبار من باب الطريقية - فالقياس يكون مع الفارق أيضا، ضرورة: أن مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الطرق و إن كان هو التساقط لا التخيير، إلا إنه لما كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية و لمناط الطريقية - من الكشف نوعا عن الواقع، و احتمال الإصابة في خصوص كل واحد من المتعارضين - و لم يمكن الجمع بينهما في الحجيّة الفعلية لمكان التعارض، فقد جعل الشارع أحدهما حجة تخييرا مع التكافؤ و تعيينا مع المزية، و هذا بخلاف المقام؛ إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين المتعارضين، فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين و إجراء الإباحة الظاهرية.

توضيح بعض العبارات:

قوله: «باطل» خبر «و قياسه» و جواب عنه.

قوله: «فإن التخيير».. الخ، تعليل للبطلان، و ضمير «بينهما» راجع على الخبرين المتعارضين.

(1) عطف على «على تقدير كون»، و ضمير «أنها» راجع على الحجية المستفادة من العبارة.

(2) يعني: فإن التخيير «و إن كان على خلاف القاعدة»؛ لاقتضاء القاعدة الأولية في تعارض الطرق للتساقط، فالتخيير بين الخبرين تعبد شرعي على خلاف القاعدة.

(3) يعني: أحد الخبرين تعيينا في صورة وجود المرجح؛ كموافقة الكتاب و مخالفة العامة و غيرهما، «أو تخييرا» مع عدم المرجح.

(4) بيان للوصول في «لما هو»، و اسم «كان» ضمير راجع على أحدهما.

ص: 299

الشرائط صار (1) حجة في هذه الصورة (2) بأدلة الترجيح تعيينا (3)، أو التخيير تخييرا، و أين ذلك (4) مما إذا لم يكن المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ و هو (5) حاصل، و الأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه (6) بموصل.

نعم (7)؛ لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب و الحرمة،

=============

(1) جواب حيث المفيد للشرط، و جملة الشرط و الجواب خبر «أن أحدهما».

(2) يعني: في صورة التعارض بناء على الطريقية.

(3) يعني: مع المزية، و التخيير مع عدمها و «بأدلة» متعلق ب «صار حجة».

(4) أي: و أين حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا «مما إذا.....»، يعني: أن ما تقدم من حجية أحد الخبرين تعيينا أو تخييرا مغاير لما إذا لم يكن المطلوب إلا الالتزام بما هو حكم الله واقعا، فإن الالتزام به على ما هو عليه ممكن بخلاف الخبرين.

(5) الضمير راجع على الأخذ، و يحتمل فيه أمران:

أحدهما: الالتزام الإجمالي بخصوص ما صدر واقعا، و ليس غرضه الالتزام التفصيلي بالواقع؛ لتعذره مع الجهل بخصوصية الإلزام، مضافا إلى منافاته لقوله: «و الأخذ بخصوص»... الخ، إذ مع احتمال المخالفة كيف يجزم بأن ما التزم به هو الواقع ؟

ثانيهما: أن يراد بالأخذ العمل كما هو المطلوب في حجية أحد الخبرين، فيكون المراد في أن العمل بالواقع حاصل، لكن بالقدر الممكن و هو الموافقة الاحتمالية.

(6) أي: إلى خصوص ما صدر واقعا يعني: ربما لا يكون الأخذ بخصوص أحدهما موصلا إلى الحكم الواقعي؛ لاحتمال كون الواقع غير ما أخذ به، فكيف يتعين على المكلف الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا؟

(7) استدراك على قوله: «و قياسه باطل».

و غرضه: تصحيح القياس بعدم الفارق بين المقام و بين الخبرين المتعارضين، بتقريب:

أن مناط وجوب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين إنما هو إبداؤهما احتمال الوجوب و الحرمة دون غيره من السببيّة أو مناط الطريقية، و من المعلوم: أن هذا الاحتمال موجود في المقام، فلا بد من التخيير، و يبطل القول بالإباحة.

و حاصل الاستدراك: أنه على الاحتمال الأول المذكور في وجه المقايسة - و هو كون الملاك في حكم الشارع بالتخيير بين الخبرين إحداثهما و إبداؤهما احتمال الوجوب و الحرمة لا السببيّة، و لا غلبة الإصابة نوعا - يصح القياس المذكور، و اللازم حينئذ البناء على خصوص احتمال الحرمة أو خصوص احتمال الوجوب؛ إذ موضوع حكم الشارع

ص: 300

و إحداثهما (1) الترديد بينهما لكان (2) القياس في محله؛ لدلالة (3) الدليل على (4) التخيير بينهما على التخيير هاهنا، فتأمل جيدا. و لا مجال هاهنا (5) لقاعدة قبح بالتخيير حينئذ إنما هو احتمال الوجوب و الحرمة، سواء كان منشؤهما الخبرين أم غيرهما، و لا خصوصيّة للخبرين.

=============

(2) جواب «و لو كان».

(1) عطف تفسير ل «إبدائهما»، و ضميرا «إبدائهما و إحداثهما» راجعان على الخبرين، و ضميره بينهما، راجع على الوجوب و الحرمة.

(3) تعليل لصحة القياس.

(4) متعلق ب «دليل» و «على التخيير» متعلق ب «دلالة»، يعني: نفس الأخبار العلاجية الدالة على التخيير بين الخبرين المتعارضين تدل أيضا على التخيير في المقام، بناء على كون التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما الاحتمال؛ لوجود الترديد و الاحتمال هنا أيضا.

«فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى أنه لا مجال لاستفادة كون المناط في الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين هو إبداء الاحتمال حتى يحكم به فيما نحن فيه لهذا المناط.

وجه عدم المجال: أن من الواضح وجوب الأخذ بخصوص مضمون أحد الخبرين المتعارضين و إن احتمل كون الحكم الواقعي غيرهما، كما إذا دل أحد الخبرين على الوجوب و الآخر على الحرمة، و احتمل الكراهة، فإنه لا يجوز الاعتناء بها، بل لا بد من الالتزام بمضمون أحد الخبرين.

هذا مضافا إلى أنه لو كان المناط إبداء الاحتمال لزم لغوية الشرائط المعتبرة في حجية الخبرين، و مراعاة قواعد التعارض بين كل خبرين متعارضين يوجبان الاحتمال و إن كانا فاقدين لشرائط الحجية، و هو كما ترى. و قد تحصل: أن القول الثالث و هو التخبير الشرعي بين الاحتمالين لا دليل عليه، فلا مانع من شمول أصالة الحل للمقام.

(5) يعني: في الدوران بين المحذورين.

و المقصود من هذا الكلام: هو الإشارة إلى دليل القول الأول في مسألة الدوران - و هو جريان البراءة الشرعية و العقلية - و ردّه، و قوله: «لقاعدة، قبح العقاب بلا بيان» إشارة إلى الجزء الثاني منه و هو جريان البراءة العقلية لتحقق موضوعها، و هو عدم البيان، إذ لا بيان على خصوص الوجوب و الحرمة المحتملين، فالمؤاخذة على كل من الفعل و الترك في المقام مما يستقل العقل بقبحه، فتجري القاعدة بلا مانع، فإن القاعدة إنما تجري فيما لا بيان له، و ليس ما نحن فيه من ذلك؛ بل قد بين أحد الحكمين، كما أنه في مورد دوران

ص: 301

العقاب بلا بيان. فإنه لا قصور فيه - هاهنا - و إنّما عدم تنجز التكليف لعدم التمكن (1) من الموافقة القطعية كمخالفتها، و الموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى.

=============

الأمر بين طرفي العلم الإجمالي قد بيّن الحكم، فقد يكون متعلق الحكم الواحد مرددا بين اثنين، و قد يكون الشيء الواحد مرددا بين حكمين، و في كليهما قد بيّن الحكم في الجملة، «فلا قصور فيه» أي: في البيان.

(1) و عدم التمكن غير عدم البيان، و لذا نرى وجود البيان فيما لو دار الأمر بين وجوب هذا و حرمة ذلك، فإن العقل يرى ذلك بيانا و موجبا لإتيان محتمل الوجوب و ترك محتمل الحرمة؛ إذ لا فرق بين تردّد الحكم بين الوجوب و الحرمة، مع وحدة الموضوع المردد فيه - كما في المقام - أو مع تعدد الموضوع كما في مورد العلم الإجمالي بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، في وجود البيان و وجوب الاحتياط.

و كيف كان؛ فقوله: «فإنه لا قصور فيه...» الخ. ردّ على القول بجريان البراءة العقلية في المقام.

و توضيح الردّ: يتوقف على مقدمة و هي: أن تنجّز التكليف المصحح للعقوبة على مخالفته - يتقوم بأمرين:

أحدهما: وجود البيان على الحكم الشرعي و لو كان إجماليا،

و ثانيهما: قدرة المكلف على الموافقة القطعية، سواء كانت تفصيلية أم إجمالية، كالصلاة إلى أربع جهات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه بانتفاء أحد الأمرين و إن كان ينتفي تنجّز التكليف، و مقتضى انتفائه جريان قاعدة القبح؛ إلا إن القاعدة مع ذلك أيضا لا تجري هنا؛ لا لعدم البيان إذ البيان موجود، لغرض العلم بالتكليف و لو إجمالا و هو مطلق الإلزام، و لذا يكون منجزا إذا تعلق بأمرين كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال و حرمة شرب التتن، فإن الاحتياط حينئذ بفعل الدعاء و ترك الشرب لازم؛ بل عدم جريانها إنما هو لعدم التمكن من الامتثال القطعي مع وحدة المتعلق بالاحتياط بالجمع بين التكليفين، لامتناع الجمع بين الفعل و الترك، ضرورة: أنهما نقيضان؛ كعدم التمكن من المخالفة القطعية لاستحالة ارتفاع النقيضين، و إلا فالبيان و هو العلم بلزوم الفعل أو الترك موجود؛ لكن لما كان متعلقهما واحدا لم يؤثر العلم المذكور في نظر العقل، فيسقط عن المنجزية، بخلاف ما إذا تعدد المتعلق حيث يكون الاحتياط ممكنا.

و الحاصل: أن قبح العقاب في المقام مسلّم؛ لكنه ليس لأجل عدم البيان بل لعدم

ص: 302

ثم إنّ مورد هذه الوجوه (1) و إن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب و الحرمة قدرة المكلف على الامتثال القطعي، فلا مجال لتطبيق قاعدة القبح هنا لوضوح تحقق البيان الرافع لموضوع القاعدة بسبب العلم بأصل الإلزام؛ و لو مع الجهل بنوعه، فإن العلم بجنس التكليف كاف في البيانية، و لذا يجب الاحتياط إذا تمكن منه كما في تعدد المتعلق.

=============

و بالجملة: فلا مجال عند دوران الأمر بين المحذورين لجريان قاعدة القبح؛ لوجود البيان الإجمالي و هو العلم بأصل الإلزام، و هو كاف في المنع من جريانها.

نعم، لا يستحق المكلف للعقاب لأجل عدم القدرة على الامتثال و الموافقة القطعية؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 601» مع توضيح و تلخيص منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية»:

الضمير في «فإنه لا قصور فيه» للشأن، يعني: لا قصور في البيان في دوران الأمر بين المحذورين، و المراد بالبيان هو العلم بأصل الإلزام و يمكن أن يكون ضميرا «فإنه، فيه» راجعين إلى البيان.

قوله: «كمخالفتها» فاسد لفظا و معنى؛ لأن الضمير راجع على القطعية التي هي صفة لكل من الموافقة و المخالفة. و أما لفظا: فلأن القطعية صفة للمخالفة، و لازم العبارة حينئذ:

إضافة الموصوف إلى ضمير صفته و هو فاسد؛ إذ لا تقول مثلا: «أسهرني المرض الشديد و ألمه» بإرجاع الضمير إلى الشديد، بل تقول: «و الألم الشديد» و أما معنى: فلأن المقصود أن المانع عن تنجز التكليف هو عدم التمكن من الموافقة القطعية؛ كعدم القدرة على المخالفة القطعية، و عبارة المتن لو تركت بحالها تكون هكذا: «كمخالفة القطعية»، و هذا فاسد أيضا، فالصواب سوق العبارة هكذا: كالمخالفة القطعية أو لعدم التمكن من القطع بالموافقة و المخالفة». و كيف كان؛ فالمطلب واضح.

«و الموافقة الاحتمالية حاصلة» يعني: أن كلا من الموافقة و المخالفة الاحتماليتين حاصل قطعا، سواء جرت قاعدة القبح أم لا.

«لا محالة» لعدم خلو المكلف تكوينا من الفعل أو الترك.

(1) يعني: الوجوه الخمسة المتقدمة في الدوران بين الوجوب و الحرمة.

المقصود من هذه العبارة إلى قوله: «و لا يذهب عليك» هو: تضعيف ما أفاده الشيخ «قدس سره»، حيث قال في صدر البحث بعد بيان وجوه ثلاثة في المسألة «ما لفظه»:

«و محل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب و الحرمة توصليا؛ بحيث يسقط بمجرد

ص: 303

على التعيين تعبّديا (1)، إذ لو كانا (2) تعبديين أو كان أحدهما المعيّن كذلك، لم الموافقة؛ إذ لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف، أو كان أحدها المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلى الإباحة؛ لأنها مخالفة قطعية عملية».

=============

نعم، يختص الحكم بالإباحة الشرعية: بما إذا كانا توصليين، أو كان أحدهما غير المعيّن تعبديا؛ و إلا لم يمكن الحكم بها، و ذلك لتصوير المخالفة القطعية فيما إذا كانا تعبديين، أو كان أحدهما المعيّن تعبديا.

ففي الأول: لو أتى المكلف بالفعل لا بنحو قربي، أو تركه كذلك و في الثاني لو أتى بأحدهما المعين لا بنحو قربي تتحصل المخالفة القطعية حينئذ بلا شبهة، فتحرم بلا إشكال.

و كيف كان؛ فنظر صاحب الكفاية إنما هو إلى جريان التخيير العقلي، و هو يجري في جميع الصور، فلا وجه لإخراج بعض الصور عن مورد الوجوه المذكورة؛ كما صنعه الشيخ «قدس سره».

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المقام.

(1) خبر «لم يكن».

و حاصل ما أفاده الشيخ: من أن الحكم بالإباحة الظاهرية التي كانت هي إحدى وجوه المسألة مما لا يجري فيما إذا كان كل من الوجوب و الحرمة تعبديا، أو كان أحدهما المعيّن تعبديا؛ إذ لو حكمنا حينئذ بالإباحة، و لم نمتثل شيئا منهما على وجه قربي لحصلت المخالفة القطعية العملية، فلا يجري بعض الوجوه على هذا الفرض، فنظرا إلى جريان جميع الوجوه، و عدم لزوم المخالفة القطعية العملية قال الشيخ «قدس سره» باختصاص هذه الوجوه بما إذا كان كل من الوجوب و الحرمة توصليا.

و أما تعريض المصنف «قدس سره» على الشيخ: فلأجل أن المهم في المقام عند المصنف هو التخيير العقلي بين الفعل و الترك، و هو ما يجري في جميع الوجوه و الصور الأربع، و هي أن يكون كلاهما توصليا. و أن يكون كلاهما تعبديا. و أن يكون أحدهما المعيّن تعبديا. و أن يكون أحدهما غير المعيّن تعبديا.

غاية الأمر: يتخير عقلا في الثاني بين الإتيان بالشيء بنحو قربي، و بين تركه كذلك.

و في الثالث بين الإتيان بأحدهما المعيّن بنحو قربي، و بين مجرد الموافقة في الآخر.

(2) هذا هو كلام الشيخ الأنصاري، و قد تقدم متنا و توضيحا.

ص: 304

يكن (1) إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع (2) إلى الإباحة؛ لأنها (3) مخالفة عملية قطعية على ما أفاده شيخنا الأستاذ «قدس سره»؛ إلا إن (4) الحكم أيضا فيهما (5) إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي؛ بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، و تركه (6) كذلك؛ لعدم الترجيح (7) و قبحه (8) بلا مرجح.

فانقدح (9)، أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة (10) إلى ما هو المهم في المقام؛ و إن اختص بعض الوجوه بهما كما لا يخفى.

=============

(1) جواب «لو كانا». و قوله: «كذلك» يعني: تعبديا.

(2) بالجر عطف على «طرحهما».

(3) هذا تعليل لقوله: «لم يكن إشكال»، يعني: لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما، و عدم جواز الرجوع إلى الإباحة، و ذلك لأن الإباحة توجب المخالفة العملية القطعية على ما أفاده الشيخ «قدس سره»، و ضمير «لأنها» راجع على الإباحة.

(4) هذا إشارة إلى المناقشة في كلام الشيخ «قدس سره».

(5) أي: في الوجوب و الحرمة، قوله: «كذلك» يعني: تعبديين أو أحدهما المعيّن تعبديا، و المقصود: أن الحكم في الوجوب و الحرمة إذا كانا تعبديين أو أحدهما المعيّن تعبديا هو التخيير عقلا؛ كحكمهما إذا كانا توصليين، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا، و عليه: فالتخيير العقلي يجري في جميع الأقسام الأربعة. و الضمائر في «إتيانه، و به، و طلبه، و تركه» راجعة على أحدهما.

(6) بالجر عطف على «إتيانه»، و قوله «كذلك» يعني: على وجه قربي.

(7) تعليل لقوله: «هو التخيير عقلا».

(8) بالجر عطف على عدم الترجيح.

(9) هذا نتيجة ما أفاده لتعميم مورد جريان أصالة التخيير، يعني: فظهر من جميع ما ذكرنا: أن التخيير العقلي يجري في جميع الأقسام الأربعة التي تقدمت الإشارة إليها لمسألة الدوران بين المحذورين، لا في خصوص ما إذا كان الوجوب و الحرمة توصليين، أو كان أحدهما غير المعيّن توصليا، فلا وجه لاختصاص مورد الوجوه الخمسة المتقدمة - التي منها التخيير العقلي - بما إذا كانا توصليين، أو كان أحدهما غير المعيّن تعبديا، حتى يكون التخيير العقلي أيضا مختصا بهما؛ كما أفاده الشيخ «قدس سره» حيث خص - في كلامه المتقدم - مورد الوجوه بهما، نعم؛ القول بالإباحة يختص بهما؛ لما تقدم من لزوم المخالفة العملية القطعية لو جرت في غيرهما.

(10) متعلق ب «لا وجه» و المقصود بالمهم في المقام هو: التخيير العقلي المبحوث عنه

ص: 305

و لا يذهب عليك (1) أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين (2)،...

=============

في المقام، و هو دوران الأمر بين المحذورين، يعني: لا وجه لتخصيص مورد الوجوه الخمسة بالتوصليين. و المراد ببعض الوجوه هو: الأول و الخامس، و ضمير «بهما» راجع على التوصليين، فلا يجري بعض الوجوه في التعبديين؛ لوجود المانع و هو المخالفة العملية.

(1) مقصود المصنف من هذا الكلام هو: بيان أن ما تقدم من التخيير العقلي في هذا البحث ليس مطلقا و في جميع الموارد؛ بل مقيد بما إذا لم يكن - و لو احتمالا - مزية لأحد الاحتمالين ترجحه على الآخر، و معها لا استقلال للعقل بالتخيير، فهنا بحثان أحدهما: كبروي، و هو عدم استقلال العقل بالحكم بالتخيير فيما إذا كان لأحد الاحتمالين مزية على الآخر، بل يستقل بتعينه - و قوله: «أن استقلال العقل بالتخيير» إشارة إلى هذا البحث الكبروي. و الآخر صغروي، و هو بيان ما هو المناط في المزية التي يوجب وجودها - و لو احتمالا - عدم استقلال العقل بالحكم بالتخيير.

أما الأول: فملخص ما أفاده فيه هو: عدم استقلال العقل بالتخيير مع وجود رجحان أو احتماله في الفعل أو الترك يقتضي أهميته من الآخر، فإن احتمال الأهمية أيضا يوجب حكم العقل بتقديم واجد هذه الأهمية المحتملة على فاقدها؛ لكونه حينئذ: من صغريات التعيين و التخيير؛ كحكمه بتعين تقليد الأفضل لحجية قوله تعيينا أو تخييرا، و الشك في حجية قول غير الأفضل عند المخالفة، و كحكمه بلزوم إنقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير بدون إذنه؛ لأهمية وجوب حفظ النفس من حرمة الغصب، و هكذا.

و بالجملة: فحكم العقل بتقديم الأهم معلوما أو محتملا مما لا ينبغي الارتياب فيه.

و الذي يظهر من العبارة: أن المصنف قاس دوران الأمر بين المحذورين - في تقديم محتمل الأهمية أو معلومها - تارة: بدوران الأمر بين التعيين و التخيير؛ كما في مسألة تقليد الأفضل، و أخرى: بتزاحم الواجبين كما في إنقاذ أحد الغريقين المحتمل أهميته، و سننبه على عبارته التي يستفاد منها هذان القياسان؛ كما في «منتهى الدراية، ج 5، ص 610».

(2) قيد ل «أحدهما» يعني: في أحدهما المعين. و وجه التقييد به واضح؛ إذ لا عبرة باحتمال الترجيح في أحدهما لا على التعيين، فإن العقل يستقل بالتخيير فيه، كما يستقل به فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما أصلا كما تقدم توضيحه.

ص: 306

و مع احتماله (1): لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه؛ كما هو (1) الحال في دوران الأمر بين التخيير و التعيين في غير المقام.

و لكن (3) الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، و زيادته على الطلب في فالمتحصل مما ذكرنا: أنه إما أن لا يحتمل الترجيح في أحدهما أصلا، أو يحتمل.

=============

و على الثاني: فإما أن يحتمل في أحدهما غير المعين أو يحتمل في أحدهما المعين، فعلى الأولين: يستقل العقل بالتخيير، و على الثالث: لا يستقل به؛ بل يجب العمل بما يحتمل رجحانه كما هو ظاهر.

(1) يعني: مع احتمال ترجيح أحدهما المعيّن. و ضمير «بتعيينه» راجع على «أحدهما على التعيين».

(2) أي: كما أن استقلال العقل بتعين ما يحتمل ترجيحه مسلّم في دوران الأمر بين التعيين و التخيير. و هذا ما يستفاد منه القياس الأول.

و قد عرفت: أنه كحجيّة فتوى الأفضل تعيينا أو تخييرا، و الشك في حجية فتوى غير الأفضل.

و المراد بغير المقام في قوله: «غير المقام» موارد التزاحم؛ كمسألة تقديم إنقاذ الغريق المحتمل أهميته - لاحتمال كونه عالما - على إنقاذ الآخر.

(3) هذا إشارة إلى البحث الثاني و هو البحث الصغروي، و توضيح ما أفاده فيه: أن الموجب للتقديم هو أهمية الملاك الموجبة لشدة الطلب و تأكده و زيادته على الطلب في الآخر؛ بحيث لو كان المحتملان معلومين لكان أحدهما المعين لأهميته مقدما على صاحبه عند المزاحمة؛ كما في مثال إنقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير بدون رضاه، فإن كلا من الحكمين - و هما وجوب الإنقاذ و حرمة الغصب - معلوم و لا بد من امتثاله، و قد اتفق ابتلاء المكلف بهما في زمان واحد؛ لكن لما كان وجوب حفظ النفس المحترمة أهم من حرمة الغصب كان اللازم التصرف في مال الغير لأجل إنقاذ الغريق المؤمن، هذا في باب التزاحم.

و في المقام - و هو وجود احتمال حكمين لا نفس الحكمين الواقعيين - إذا كان الوجوب المحتمل أهم من الحرمة المحتملة قدم الفعل على الترك، و إن كان احتمال الحرمة أقوى؛ إذ المدار في الترجيح على أهمية المحتمل لا أقوائية الاحتمال، فإذا فرض أن احتمال الحرمة أقوى من احتمال الوجوب؛ لكن كان الوجوب المحتمل على تقدير ثبوته واقعا أشد و أهم من الحرمة المحتملة بل المظنونة قدم احتمال الوجوب الأهم على احتمال

ص: 307

الآخر بما (1) لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة (2)، و وجب (3) الترجيح بها (4)، و كذا (5) وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

(3) عطف على «لا يجوز» و بيان له.

و لا وجه لترجيح (6) احتمال الحرمة مطلقا؛ لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك الحرمة الأقوى؛ كالصلاة في أيام الاستظهار، فإنها إما واجبة إن كانت طاهرة، و إما حرام إن كانت حائضا؛ لكن حيث إنها لو كانت واجبة عليها واقعا كان وجوبها أهم من حرمتها، نظرا إلى أن وجوبها - على تقدير ثبوته واقعا - ذاتي، بخلاف حرمتها فإنها - على فرض ثبوتها - تشريعية، فيرجح الوجوب على الحرمة، و لذا يحكم بوجوبها عليها في تلك الأيام حتى لو فرض أن احتمال حرمتها - لاحتمال كونها حائضا - أقوى من احتمال وجوبها؛ لاحتمال كونها طاهرة.

=============

(4) هذا الضمير و ضمير «بها» المتقدم راجعان على الشدة و الزيادة.

(5) عطف على «لا يجوز»، يعني: كما أن العلم بشدّة يكون مرجحا في المتزاحمين المعلومين، حيث يتعدد الحكم فيهما حقيقة، فكذا يكون احتمال أهمية أحد المحتملين مرجحا في صورة الدوران بين المحذورين، الذي يكون الحكم الواقعي واحدا حقيقة دائرا بين الوجوب و الحرمة.

(6) هذا إشارة إلى القول الثاني في مسألة الدوران بين المحذورين؛ و هو وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا بترجيح جانب الحرمة على الوجوب، و قد تقدم ذكر الاستدلال

ص: 308

المصلحة، ضرورة (1): أنه ربّ واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله (2) في صورة الدوران بين مثليهما (3)؟ فافهم.

=============

عليه بوجوه، و قد أشار المصنف هنا إلى الوجه الثالث في تلك الوجوه، و هو: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. ثم أجاب المصنف عنه بقوله: «ضرورة: أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام».

و حاصل الجواب عنه: أنه ليس كل حكم تحريمي أهم من كل حكم إيجابي؛ حتى يكون احتمال الحرمة دائما مقدما على احتمال الوجوب؛ بل لا بد من ملاحظة المصالح و المفاسد التي هي ملاكات الأحكام، فرب واجب يكون أهم من الحرام كحفظ النفس، فإنه مقدم على حرمة الغصب عند المزاحمة، فلذا يكون احتمال وجوبه - مهما كان ضعيفا - مقدما على احتمال حرمة الغصب مهما كان قويا، و كذا إذا دار الأمر بين كون شخص نبيا أو سابا للنبي، فإن وجوب حفظ النبي أهم قطعا من حرمة حفظ سابه حدا.

و ربّ حرام يكون أهم من واجب كالغصب و الوضوء، و عليه: فلا يقدم احتمال الحرمة مطلقا على احتمال الوجوب. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله: «و لا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا؛ لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة».

قوله: «مطلقا» قيد «لترجيح» يعني: سواء كانت الحرمة مشتملة على الشدة و الزيادة أم لا. «لأجل» متعلق «لترجيح» و علة له.

(1) تعليل لقوله: «لا وجه»، و جواب عن مفاد الدليل و هو إطلاق الأولوية و الترجيح.

و قد تقدم توضيحه.

(2) أي: فكيف يقدم احتمال الحرام على احتمال الوجوب مطلقا؟

(3) أي: مثل الواجب و الحرام المتزاحمين. و المراد بمثليهما: الوجوب و الحرمة في المقام.

و الحاصل: أن المناط في ترجيح أحد احتمال الوجوب و الحرمة على الآخر في صورة دوران الأمر بين المحذورين هو المناط في ترجيح أحد المحتملين على تقدير العلم بهما و تزاحمها، فكما لا يكون هناك أحدهما مقدما مطلقا على الآخر؛ بل يكون المقدم منهما ما له شدة طلب و زيادة اهتمام به، سواء كان هو الواجب أم الحرام، فكذلك هنا.

و لو تمت الأولوية المذكورة مطلقا و في جميع الموارد لكان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهم الفرائض عند التزاحم، مع أن ترك الواجب سيّئ أيضا؛ بل عدّ ترك الصلاة من أكبر الكبائر.

ص: 309

و بالجملة: فكل ما يكون مرجحا في ظرف العلم بالواجب و الحرام يكون مرجحا أيضا في صورة احتمال الوجوب و الحرمة.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن الخصم لا يقول بوجوب الأخذ بجانب الحرمة مطلقا؛ حتى في صورة الدوران بين الواجب الأهم أو محتمل الأهمية، و بين الحرام المهم؛ بل يقول في صورة التساوي بينهما، بدعوى: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، أو إشارة إلى عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان، حيث حكم بعدم جريانها، و بين البراءة الشرعية، حيث حكم بشمولها للمقام.

إلى هنا كان الكلام في الشك في أصل التكليف، و من هنا يقع الكلام في الشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - تحرير محل النزاع: و هو ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته، و لم يحتمل غيرهما من الإباحة و لم يكن أحد الحكمين مسبوقا بالوجود حتى يستصحب، و ما لو كان كل من الوجوب و التحريم توصليا، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا.

و أما لو كان كلاهما تعبديا، أو أحدهما المعين تعبديا: لكان خارجا عن محل النزاع؛ لعدم جريان الوجوه المذكورة فيه أولا، و لزوم المخالفة القطعية ثانيا؛ إذ محل الكلام ما إذا كان كل من المخالفة القطعية و الموافقة متعذرة: و مثال الشبهة الحكمية: ما إذا ساحق مقطوع الذكر زوجته ثم طلقها، فإن كانت المساحقة في حكم الدخول فطلاقها رجعي و إن لم تكن في حكم الدخول كان الطلاق بائنا.

فعلى الأول: تجب عليها الإجابة عند طلب الزوج الاستمتاع منها في العدة. و على الثاني: تحرم عليها الإجابة عند طلب الزوج الاستمتاع منها في العدة؛ لأن الاستمتاع حينئذ إنما يجوز بالعقد الجديد، فيدور حكم الإجابة بين الحرمة و الوجوب.

و مثالا الشبهة الموضوعية: ما إذا علم الزوج أنه حلف إما على وطء زوجته في هذه الليلة، أو على ترك وطئها في نفس الليلة، فيدور حكم الوطء في الليلة المعينة بين الحرمة و الوجوب.

ص: 310

2 - في وجوه المسألة و بيان مختار المصنف منها:

الأول: الحكم بالبراءة عقلا و نقلا، نظير الشبهات البدوية؛ و ذلك لعموم أدلة الإباحة الشرعية، و حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل و الترك جميعا.

الثاني: وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا؛ كالأخذ بالحرمة تعيينا لوجوه:

1 - قاعدة الاحتياط، حيث يدور الأمر بين التعيين و التخيير.

2 - الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة، بناء على كون المراد منه هو عدم الدخول في الشبهة، و هو معنى تقديم جانب الحرمة على الوجوب.

3 - وجوب الأخذ بجانب الحرمة؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

الثالث: وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا، أي: تخييرا شرعيا قياسا لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية.

الرابع: التخيير بين الفعل و الترك عقلا، مع التوقف عن الحكم بشيء رأسا لا ظاهرا و لا واقعا.

الخامس: التخيير بين الفعل و الترك عقلا مع الحكم عليه بالإباحة شرعا. و هذا هو مختار المصنف «قدس سره».

3 - توهم: أن لزوم المخالفة الالتزامية القطعية مانع عن الرجوع إلى الإباحة شرعا، فإن العقل كما يستقل بوجوب إطاعة المولى عملا، كذلك يحكم بوجوب إطاعته التزاما، بمعنى: لزوم التدين و الالتزام القلبي بأحكامه. و من المعلوم: أن علم المكلف بعدم خلو الواقع عن أحد الحكمين الإلزاميين ينافي البناء على إباحة كل من الفعل و الترك ظاهرا؛ لاقتضاء هذه الإباحة الظاهرية جواز المخالفة الالتزامية، و هذا مما يمنع عنه العقل، فلا تجري أصالة الحل في المقام لمانع عقلي؛ مدفوع لوجهين:

أحدهما: عدم وجوب موافقة الأحكام التزاما.

و ثانيهما: هو كفاية الالتزام بالواقع بما هو عليه إجمالا على تقدير وجوب موافقة الأحكام التزاما.

و الالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لم ينهض دليل على وجوبه قطعا.

4 - قياس دوران الأمر بين المحذورين بتعارض الخبرين: بتقريب: أن الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو نفي الثالث، أو اهتمام الشارع بالعمل

ص: 311

بالأحكام الشرعية و عدم إهمالها موجود في المقام باطل؛ لكونه مع الفارق.

و توضيح الفرق: أن التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة بناء على حجية الأخبار من باب السببية لأجل التزاحم بينهما، فيحكم العقل بالتخيير مع التكافؤ و من المعلوم: أن تزاحم الاحتمالين في المقام ليس كتزاحم الخبرين على السببية؛ كي يصح قياس المقام بتعارض الخبرين.

و أما على الطريقية: فأيضا يكون القياس مع الفارق، ضرورة: أن مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الخبرين و إن كان هو التساقط لا التخيير؛ إلا أنه لما كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية و لمناط الطريقية من الكشف نوعا عن الواقع، و احتمال الإصابة في خصوص كل واحد منهما لم يمكن الجمع بينهما في الحجية الفعلية لمكان التعارض، فجعل الشارع أحدهما حجة تخييرا مع التكافؤ و تعيينا مع الترجيح. و هذا بخلاف المقام؛ إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين المتعارضين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين المتعارضين، فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين و إجراء الإباحة الظاهرية.

5 - عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام: لوجود البيان في المقام، و إنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية، فلا يتمكن المكلف من الاحتياط بالجمع بين الفعل و الترك؛ إذ الجمع بينهما جمع بين النقيضين، فيكون مستحيلا.

و كيف كان؛ فقبح العقاب في المقام مسلّم لكنه ليس لأجل عدم البيان؛ بل لأجل عدم قدرة المكلف على الامتثال القطعي، فلا مجال لجريان قاعدة القبح لوجود البيان الإجمالي، و هو العلم بأصل الإلزام، و هو كاف في المنع عن جريانها.

6 - مورد هذه الوجوه الخمسة هو: ما إذا لم يكن واحد من الوجوب و الحرمة على التعيين تعبديا، فتجري فيما إذا كانا توصليين، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا. و لا تجري فيما إذا كان تعبديين، أو كان أحدهما المعين تعبديا. هذا تعريض من المصنف على الشيخ «قدس سرهما»، حيث اعتبر في جريان الوجوه المذكورة: كون كلا الحكمين توصليا؛ للزوم المخالفة القطعية لو كان كليهما أو أحدهما المعين تعبديا. إلا أن المصنف نظر إلى التخيير العقلي الجاري في جميع الصور الأربع، فلا وجه لإخراج بعض الصور عن مورد الوجوه المذكورة؛ كما صنعه الشيخ «قدس سره».

ص: 312

7 - لا وجه لترجيح احتمال الحرمة: بدعوى: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة؛ إذ ليس كل حكم تحريمي أهم من كل حكم إيجابي حتى يكون احتمال الحرمة دائما مقدما على احتمال الوجوب.

بل لا بد من ملاحظة المصالح و المفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية، فرب واجب يكون أهم من الحرام؛ كحفظ النفس، فإنه مقدم على حرمة الغصب عند المزاحمة.

و ربّ حرام يكون من أهم من واجب كالغصب و الوضوء.

و عليه: فلا يقدم احتمال الحرمة مطلق على احتمال الوجوب.

«فافهم»: لعله إشارة إلى عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان، حيث حكم بعدم جريانها في المقام، و بين البراءة الشرعية حيث حكم بجريانها و شمولها للمقام.

8 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - هو التخيير عقلا مع الحكم بالإباحة شرعا.

2 - عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

3 - مورد الوجوه و الأقوال هو: ما إذا لم يكن واحد من الوجوب و الحرمة على التعيين تعبديا.

4 - حكم العقل بالتخيير إنما هو فيما لم يكن هناك ترجيح لأحد الاحتمالين؛ و إلا فيقدم ما له ترجيح و مزيّة.

ص: 313

ص: 314

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من (1) الإيجاب و التحريم، فتارة

=============

فصل في أصالة الاشتغال

اشارة

(1) بيان للتكليف يعني: أنه يعتبر في جريان قاعدة الاشتغال - التي هي من الأصول العملية الأربعة - العلم بنوع التكليف كالعلم بوجوب فعل مردد بين المتباينين كالظهر و الجمعة، أو بين الأقل و الأكثر الارتباطيين كتردد أجزاء الصلاة بين التسعة و العشرة، أو العلم بحرمة فعل مردد بين فعلين كشرب هذا الإناء أو ذاك الإناء؛ للعلم بإصابة بنجس بأحدهما إجمالا، و لا يكفي العلم بجنس التكليف - و هو الإلزام الدائر بين وجوب فعل و حرمة آخر - في جريان قاعدة الاحتياط، و ذلك - أي: اعتبار العلم بنوع التكليف و عدم كفاية العلم بجنسه في جريان أصالة الاشتغال.

و كيف كان؛ فلا بد من تحرير محل النزاع قبل الخوض في البحث فنقول: إن تحرير محل النزاع يتوقف على مقدمة و هي: بيان مجاري الأصول العملية فيقال: إن الأصول العملية على أربعة أقسام:

1 - أصالة البراءة.

2 - أصالة التخيير.

3 - أصالة الاشتغال.

4 - الاستصحاب.

و ملخص الفرق بين هذه الأصول العملية:

أن مجرى أصالة البراءة هو الشك في أصل التكليف بأن لا يكون التكليف الإلزامي معلوما لا جنسا و لا نوعا.

و مجرى أصالة التخيير هو: دوران الأمر بين المحذورين مع العلم الإجمالي بجنس التكليف أعني: الإلزام و عدم العلم بنوع التكليف من أنه الوجوب أو الحرمة.

ص: 315

لتردده (1) بين المتباينين، و أخرى بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

=============

و مجرى الاستصحاب هو: ملاحظة الحالة السابقة.

إذ عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه قد تقدم الكلام في أصالة البراءة و أصالة التخيير، فيكون البحث فعلا في أصالة الاشتغال و مجراها - كما عرفت - هو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي بأن يكون الشك في المكلف به و هو متعلق التكليف، مع العلم بأصل التكليف.

ثم الشك في المكلف به على قسمين:

إذا قد يكون الشك في المكلف به دائرا بين المتباينين؛ كما لو علم بوجوب صلاة يوم الجمعة و لم يدر أنها الجمعة أو الظهر، أو علم بحرمة وطء إحدى المرأتين لكونها أخته من الرضاعة.

و على هذا فيقع الكلام في مقامين: الأول: في دوران الأمر بين المتباينين. و الثاني: في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و قد يكون دائرا بين الأقل و الأكثر، و هذا ينقسم إلى قسمين؛ لأن الأقل و الأكثر قد يكونان ارتباطيين؛ كما لو شك في كون السورة من أجزاء الصلاة أم لا، فيكون الشك في أن أجزاء الصلاة هل هي تسعة أو عشرة مثلا.

و قد يكونان غير ارتباطيين؛ كما لو شك في أن الدّين على ذمته عشر دنانير أو تسعة؛ لكن هذا القسم من الأقل و الأكثر حيث يؤول أمره إلى الشك في أصل التكليف، إذ الفرض أنه لا يعلم أنه مديون بدينار آخر فوق تلك الدنانير التسعة أم لا.

فهو ليس مربوطا بمحل الكلام.

توضيح بعض العبارات.

(1) أي: تردد المكلف به «بين المتباينين» و هما ما ليس أحدهما داخلا في الآخر، ثم الشك في المكلف به قد يكون لتردده بين المتباينين ذاتا؛ كدوران الواجب بين الصوم و الصدقة، أو عرضا كدورانه بين القصر و التمام فيما إذا علم بوجوب أحدهما إجمالا فإن التباين بينهما إنما هو لكون الركعتين الأولتين ملحوظتين في الأول بشرط لا، و في الثاني بشرط شيء، و لذا لا ينطبق أحدهما على الآخر، كما لا ينطبق أحد المتباينين ذاتا كالصوم و الصدقة على الآخر.

و الضابط في العلم الإجمالي المتعلق بالمتباينين هو: رجوعه إلى قضية منفصلة مانعة الخلو، فيقال في المثال المذكور: «الواجب إما الصوم و إما الصدقة»، و هذا يرجع إلى

ص: 316

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في دوران الأمر بين المتباينين (1). لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما

=============

المقام الاول: فى دوران الامر بين المتباينين

اشارة

قضيتين شرطيتين يكون مقدم كل واحدة منها إحدى طرفي العلم الإجمالي، و تاليها نقيض الطرف الآخر، فيقال حينئذ: «إن كان الصوم واجبا فليست الصدقة واجبة» و بالعكس. و هذا بخلاف الأقل و الأكثر، فإنه لا يصح ذلك فيهما، فلا يقال: «إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة» بداهة: أن التسعة بعض العشرة، فوجوب العشرة وجوب التسعة و زيادة، فوجوب التسعة قطعي سواء كان الأكثر واجبا أم لا.

و قد قيد المصنف الأقل و الأكثر بالارتباطيين؛ لأن المردد بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين خارج موضوعا عن الشك في المكلف به؛ إذ لا إجمال في المكلف به حقيقة، ضرورة: أنه يعلم من أول الأمر بتعلق التكليف بالأقل، و يشك بتعلقه بالزائد عليه.

(1) المراد بهما: أن لا يكون بينهما قدر متيقن، سواء كان تباينهما ذاتيا أم عرضيا كما مر آنفا، بخلاف الأقل و الأكثر، فإن بينهما قدرا متيقنا، و المراد بهما فعلا هو الارتباطيان اللذان تكون أوامر أجزائهما متلازمة الثبوت و السقوط؛ دون الأقل و الأكثر الاستقلاليين اللذين لا تكون أوامر أجزائهما كذلك كالدين المردد بين الأقل و الأكثر؛ لأن امتثال الأمر بالأقل ليس منوطا بامتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته واقعا.

و قبل الخوض في البحث في المقام الأول نذكر ما هو الفرق بين طريقة الشيخ و طريقة المصنف في بيان مسألة أصالة البراءة و أصالة التخيير و أصالة الاشتغال، فقد عقد الشيخ «قدس سره»، لكل من أصالة البراءة و أصالة التخيير و أصالة الاشتغال ثماني مسائل، أربع للشبهة التحريمية، و أربع للشبهة الوجوبية، و ذلك لأن منشأ الاشتباه في كل واحدة منها هي أربعة:

1 - فقدان النص.

2 - إجمال النص.

3 - تعارض النصين.

4 - الأمور الخارجية.

و الشبهة في الأخير تسمى بالموضوعية، و في الثلاثة الأولى تسمى بالحكمية.

ثم ما كان منشأ الاشتباه تعارض النصين خارج عن محل الكلام؛ إذ حكمه هو التخيير أو الترجيح على الخلاف الآتي في باب التعادل و التراجيح لا الاحتياط و الاشتغال كما هو محل الكلام في المقام.

ص: 317

مطلقا و لو (1) كانا فعل أمر و ترك آخر إن كان فعليا من جميع الجهات؛ بأن (2) يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال و التردد و أما طريقة المصنف فإنه قد عقد لكل واحدة منها مسألة واحدة فقد عقد للمقام مسألة واحدة جمع فيها بين المسائل الثمان كما فعل ذلك في أصالة البراءة و أصالة التخيير.

=============

و كيف كان؛ فالحق في تحرير الدوران بين المتباينين أن يقال: إن التكليف المعلوم بالإجمال المردد بين أمرين متباينين أو أكثر إن كان حرمة فالشبهة تحريمية، و إن كان وجوبا فالشبهة وجوبية، سواء كان منشأ الاشتباه فقدان النص أو إجماله، أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) بيان لقوله: «مطلقا»، و توضيحه: أن العلم بالتكليف يتصور على وجهين:

أحدهما: العلم بنوعه كالوجوب مع تردد متعلقه بين المتباينين كالظهر و الجمعة.

ثانيهما: العلم بجنس التكليف مع تردد نوعه بين نوعين و هما الوجوب و الحرمة؛ كالإلزام المردد بين فعل كالدعاء و حرمة آخر كشرب التتن.

و مقتضى العبارة اندراج العلم بجنس التكليف في الشك في المكلف به، فيصح أن يقال: «يجب فعل الدعاء عند رؤية الهلال أو يحرم شرب التتن»، و هذا تعريض بشيخنا الأعظم، حيث خص النزاع بالعلم بنوع التكليف، و جعل العلم بالجنس مجرى البراءة.

و هناك تطويل في الكلام أضربنا عنه رعاية للاختصار.

(2) هذا شروع في بيان منجزية العلم الإجمالي بالتكليف.

الأقوال المعروفة لا تتجاوز عن خمسة:

1 - العلم الإجمالي غير مؤثر لا في وجوب الموافقة و لا في حرمة المخالفة، فتجوز المخالفة القطعية فضلا عن الاحتمالية، و نسب هذا القول إلى العلامة المجلسي.

2 - أنه مؤثر في حرمة المخالفة و وجوب الموافقة على نحو المقتضي لا العلة التامة، و هو مختار المصنف «قدس سره» في باب مباحث القطع من الكتاب.

3 - أنه مؤثر فيهما على نحو العلة التامة، و هو مختار المصنف في المقام.

4 - أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية، و مقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

5 - أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

ص: 318

و أما بالنسبة إلى الموافقة كذلك فغير مؤثر أبدا؛ لا على نحو العلة التامة و لا على نحو المقتضي، و بذلك يمتاز عن القول الرابع، و نسب إلى المحقق القمي «قدس سره».

و كيف كان؛ فلا بد قبل تقريب كلام المصنف «قدس سره» من تمهيد مقدمة و هي:

أن للأحكام الشرعية مراتب:

1 - مرتبة الاقتضاء و الشأنية، و هي عبارة عن ملاكات الأحكام كالمصالح و المفاسد على مذهب العدلية.

2 - مرتبة الإنشاء و الجعل، و هي صدور الأوامر و النواهي من المولى مثلا.

3 - مرتبة الفعلية، و هي بيان الأحكام بالبعث و الزجر، فتكون الأحكام فعلية قبل علم المكلفين بها.

4 - مرتبة التنجز، و هي استحقاق العقوبة على المخالفة، و هي مرتبة وصول الأحكام إلى المكلفين و علمهم بها.

ثم مرتبة الفعلية مقولة بالتشكيك فهي على قسمين:

الأول: أن يكون التكليف و الحكم فعليا من جميع الجهات بمعنى: أن يكون الغرض الداعي إليه مهما بمثابة لا يرضي المولى - و هو الشارع - بفواته أصلا؛ بل تتعلق إرادته باستيفائه على كل تقدير، يعني سواء علم به المكلف لوصول الخطاب إليه و لو تصادفا، أم لم يعلم به و في مثله يكون على الحاكم إيصال التكليف إلى العبد و رفع موانع تنجزه إما برفع جهل العبد بجعله عالما بالحكم تكوينا، و إما بنصب طريق مصيب إليه و إما بتشريع إيجاب الاحتياط عليه؛ لمنجزية نفس الاحتمال، و حيث تنجز التكليف بأي سبب من أسبابه استحق العقوبة على المخالفة لقيام الحجة القاطعة للعذر عليه.

الثاني: أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو يريد من العبد استيفاءه على كل حال؛ بل يريده على تقدير وصول الخطاب به إليه تفصيلا و لو من باب الاتفاق، و حينئذ فالحكم الذي يدعو إليه هذا النحو من الغرض يكون واجدا لمرتبة ما من التحريك، و فعليته منوطة بالعلم به تفصيلا؛ بحيث يكون العلم التفصيلي به موجبا لتمامية فعليته أولا و لتنجزه ثانيا، و من المعلوم: أن إيصال الحكم الناشئ عن هذا النحو من الغرض الملزم و الخطاب المتكفل له إلى العبد ليس من وظيفة المولى؛ لما تقدم من أن إرادته لاستيفاء الغرض ليست على كل تقدير، بل إنما هي على تقدير وصول الخطاب إلى المكلف و لو من باب الاتفاق، فكما لا يجب حينئذ على الحاكم رفع موانع تنجزه،

ص: 319

فكذلك يجوز له إيجاد المانع من وصوله إلى المكلف بنصب طريق غير مصيب أو أصل مرخص؛ لعدم الفرق بين إبقاء المانع و إيجاده، إذ المفروض: عدم تعلق إرادة المولى باستيفاء هذا الغرض على كل تقدير.

فالمتحصل: أن التكليف في كل من القسمين واصل إلى مرتبة البعث و الزجر، و واجد لما هو قوام الحكم؛ لكن مراتب التحريك و الردع مختلفة كما عرفت، فيكون فعليا حتميا تارة كما في القسم الأول، و تعليقيا أخرى كما في القسم الثاني.

إذا عرفت هذه المقدمة و أن التكاليف الفعلية على قسمين، فاعلم: أن قوله: «إن كان فعليا من جميع الجهات...» الخ. إشارة إلى القسم الأول منهما.

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 10» - أن العلم بما هو طريق للواقع لا يفرق فيه بين الإجمالي و التفصيلي في وجوب اتباعه و الجري على وفقه؛ لكن التكليف المعلوم بالإجمال إن كان من سنخ القسم الأول فهو يتنجز بالعلم الإجمالي؛ لوصول البعث أو الزجر إلى العبد الرافع لعذره الجهلي، فيستحق العقوبة على المخالفة و الإجمال في المتعلق غير مانع عن التنجيز بعد فرض ارتفاع عذره الجهلي، غاية الأمر:

حكم العقل بلزوم الاحتياط بالإتيان بجميع المحتملات كما سيأتي. و حينئذ: فالأدلة النافية للتكليف - بعد فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي - لا بد من تخصيصها؛ لقيام القرينة القطعية عليه، و هي استلزام شمولها للأطراف للترخيص في المعصية، ضرورة: أن المعلوم بالإجمال واجد للمرتبة الأكيدة من البعث و الزجر، و لا يرضى الحاكم بالمخالفة أصلا، و لازم الإذن في الاقتحام عدم لزوم موافقته على بعض التقادير، و هو كون الطرف المأذون فيه متعلقا للحكم و هذا هو التناقض المستحيل.

و إن كان التكليف من سنخ القسم الثاني فهو لا يتنجز بالعلم الإجمالي - لا القصور في العلم - بل لخلل في المعلوم، و هو عدم تحقق شرط تمامية فعليته أعني: العلم التفصيلي به، و لما كان التكليف في كل واحد من الأطراف مشكوكا فيه أمكن جعل الحكم الظاهري فيه لتحقق موضوعه - أعني: الشك في الحكم الواقعي - مع العلم الإجمالي بمرتبة من الفعلية. و عليه: فالمدار في التنجيز و عدمه على فعلية المعلوم لا على العلم من حيث التفصيلية و الإجمالية.

ثم إن إحراز كون الحكم المعلوم بالإجمال من القسم الأول أو الثاني منوط باستظهار الفقيه من أدلة الأحكام، فإن كان المورد من قبيل الدماء و الأعراض كان الحكم فعليا من

ص: 320

و الاحتمال، فلا محيص (1) عن تنجزه و صحة العقوبة على مخالفته، و حينئذ (2) لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع (3) أو الوضع (4) أو السعة (5) أو الإباحة (6) مما يعم أطراف العلم (7) مخصصا (8) عقلا لأجل مناقضتها (9) معه.

=============

جميع الجهات، فالعلم الإجمالي بوجود دم محقون مردد بين شخصين أحدهما مؤمن متق و الآخر كافر حربي جائز القتل منجز للتكليف.

و من هذا القبيل: حكمهم بوجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية الوجوبية كالاستطاعة المالية، و بلوغ المال الزكوي حد النصاب، فإنهم مع التزامهم بالبراءة في الشبهات الموضوعية حكموا بالاحتياط و وجوب الفحص في هذين الموردين. و إن كان كالخمر الدائر بين الإناءين أمكن إثبات حلية كل واحد من الأطراف بالأدلة المرخصة.

(1) جواب «إن كان»، و ضميرا «تنجزه، مخالفته» راجعان على التكليف.

و غرضه: أن فعلية التكليف من جميع الجهات توجب تنجزه و امتناع جعل الترخيص شرعا؛ لكون الترخيص مضادا للتكليف الفعلي و نقضا للغرض منه و هو جعل الداعي حقيقة من غير فرق فيهما بين العلم بالتكليف و الظن به و احتماله؛ لأن شمول أدلة الترخيص للأطراف يوجب العلم باجتماع الضدين في صورة العلم بالتكليف، و الظن باجتماعهما في صورة الظن به، و احتمال اجتماعهما في صور احتماله، و من المعلوم:

امتناع الجميع.

(2) أي: و حين كون التكليف فعليا من جميع الجهات لا محالة... و الأولى اقتران «لا محالة» بالفاء فيقال «فلا محالة».

(3) نحو: «رفع ما لا يعلمون».

(4) نحو: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

(5) نحو: «الناس في سعة ما لا يعلمون».

(6) نحو: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه».

(7) أي: العلم الإجمالي. قوله: «مما يعم» بيان للموصول في «ما دل»، و المراد بالعلم هو الإجمالي.

(8) بصيغة اسم المفعول خبر «يكون» يعني: أن أدلة البراءة الشرعية و إن كانت شاملة - بمقتضى إطلاقها - لأطراف العلم الإجمالي لكن لا بد من تخصيصها بالشبهات البدوية؛ لمحذور المناقضة المذكورة.

(9) أي: مناقضة الرفع و الوضع و السعة و الإباحة مع التكليف الفعلي من جميع

ص: 321

و إن لم يكن (1) فعليا كذلك (2) - و لو كان (3) بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله و صح العقاب على مخالفته (4) -...

=============

الجهات. فقوله: «لأجل» تعليل لتخصيص ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة عقلا.

نعم لو قطعنا بعدم التكليف - كما في الشبهات البدوية بعد الفحص - تجري البراءة.

إن قلت: نحتمل التكليف في الشبهات البدوية فكيف تجري البراءة ؟ و ذلك يستلزم احتمال المناقضة، و هو أيضا لا يجامع البراءة؛ لأنه من احتمال الجمع بين الضدين. و هو كالقطع به مستحيل.

قلت: لا يحتمل التكليف الفعلي في الشبهات البدوية بعد الفحص و اليأس.

(1) عطف على «إن كان فعليا» و الضمير المستتر فيه و في «لو كان» راجع على المعلوم بالإجمال.

(2) أي: فعليا من جميع الجهات، و هذا إشارة إلى القسم الثاني من التكليف الفعلي، و هو الفعلي التعليقي و قد تقدم توضيحه بقولنا: «الثاني أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو...» الخ، يعني: أن فعليته التامة تتوقف على العلم به تفصيلا، فالعلم الإجمالي لا يوجب تنجزه قهرا؛ لكنه لا لقصور في العلم، بل لعدم بلوغ ملاكه بدون العلم التفصيلي حدا يقتضي لزوم إيصاله إلى المكلف بأي نحو كان، فالخلل في المعلوم لا في العلم.

و لما كان كل واحد من الأطراف مجرى للأصل النافي للتكليف؛ للشك في كون كل واحد منها متعلقا للحكم الفعلي، كان المقتضي لجريان أصل البراءة فيه موجودا و المانع عنه مفقودا، و معه يرتفع موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة على ارتكاب كل واحد من الأطراف.

(3) للمعلوم بالإجمال الذي لا يكون فعليا من جميع الجهات فردان: أحدهما: أن لا يكون فعليا أصلا يعني: لا من جهة العلم و لا من سائر الجهات.

ثانيهما: أن لا يكون فعليا من جهة العلم فقط، فقوله: «و لو كان بحيث...» الخ.

إشارة إلى الخفي منهما و هو الثاني.

(4) إذ لا يبقى مع العلم التفصيلي مرتبة الحكم الظاهري محفوظة فإن الحكم الظاهري في مرتبة الجهل بالواقع و العلم التفصيلي لا يبقى مجالا للجهل، و ذلك بخلاف أطراف العلم الإجمالي التي يكون مرتبة الحكم الظاهري في كل طرف منها محفوظة.

ص: 322

لم يكن (1) هناك مانع عقلا و لا شرعا.

=============

(1) جواب «و إن لم يكن» و ضميرا «امتثاله، مخالفته» راجعان على المعلوم بالإجمال.

أما عدم المانع العقلي: فلأن المانع هو قبح الترخيص في المعصية القطعية، و هو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا من جميع الجهات، و أما إذا لم يبلغ هذه المرتبة و لو لعدم العلم التفصيلي به، فلا مانع حينئذ من الإذن في ارتكاب تمام الأطراف.

و أما عدم المانع الشرعي: فلأن المتوهم من المانع شرعا في المقام هو لزوم محذور التناقض بين صدر أدلة الأصول و ذيلها إذا بنينا على شمولها لأطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

توضيح لزوم التناقض: أن مقتضى عموم قوله: «عليه السلام»: «كل شيء لك حلال» حلية المشتبه بالشبهة البدوية، و كذا كل واحد من الأطراف في المقرونة، و مقتضى إطلاق ذيله - أعني: «حتى تعلم أنه حرام» - هو تنجز الحرمة بالعلم الإجمالي، لأن «تعلم» مطلق يشمل كلا من العلم التفصيلي و الإجمالي، فيلزم الحكم بالحلية لكل طرف بمقتضى الصدر، و الحكم بالحرمة بمقتضى الذيل.

و هذا الإشكال - و هو التناقض المذكور - تعرض له الشيخ الأنصاري «قدس سره» في بحث تعارض الاستصحابين بالنسبة إلى بعض أخبار الاستصحاب المشتمل على الذيل.

قال الشيخ «قدس سره»: «فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك؛ لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله»(1)؛ لكن هذا المحذور مفقود هنا، لاختصاصه بالأدلة المرخصة المشتملة على هذا الذيل.

و أما الفاقد له مثل حديث الرفع فلا تناقض فيه أصلا، فلا مانع من شموله للأطراف و إثبات الترخيص فيها، و الحاصل: أنه مع عدم وجود المحذور العقلي و الشرعي عن شمول أدلة الأصول النافية للأطراف لا مناص من الحكم بحليتها.

فالمتحصل: أن المصنف قال في مباحث القطع: بأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة و قال في حاشيته على بحث القطع، إن العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة.

و قال هنا: بالتفصيل بين ما إذا كان التكليف فعليا من جميع الجهات، فكان العلم

ص: 323


1- فرائد الأصول 410:3.

و من هنا (1) انقدح: أنه لا فرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي إلا إنه لا مجال (2) للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات (3) لا الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة.

=============

و إن لم يكن التكليف فعليا من جميع الجهات لكان العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة و حرمة المخالفة، فالمراد بقوله: «و إن لم يكن فعليا» ليس نفي فعليته رأسا بأن يكون التكليف اقتضائيا أو إنشائيا؛ بل معناه نفي الفعلية من جميع الجهات؛ بأن يكون التكليف فعليا و لكن لا من جميع الجهات، فحينئذ يكون لترخيص الشارع مجالا لأجل التردد و الشك في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي، فيختلف العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي بمعنى إنه لا مجال لأصل البراءة في مورد العلم التفصيلي، هذا بخلاف العلم الإجمالي حيث يكون هناك مجال لأصل البراءة. هذا غاية ما يمكن أن يقال فيما أفاده المصنف من التفصيل في المقام.

(1) يعني: و من انقسام الفعلي إلى قسمين ظهر: عدم الفرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي في علية كل منهما للتنجيز إذا كان المعلوم فعليا من جميع الجهات.

و أما إذا لم يكن فعليا كذلك فيحصل الفرق بين العلمين، ضرورة: أن الفعلي بمرتبته الأولى يتنجز إذا علم به تفصيلا، و لا يبقى مجال للإذن في مخالفته؛ لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري - و هو الشك في الحكم الواقعي - لانكشافه تمام الانكشاف حسب الفرض.

و أما إذا علم به إجمالا فرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه للشك في وجود التكليف في كل واحد من الأطراف، و به يتحقق موضوع الأصل النافي، فيجري بلا مانع.

فبالجملة: فالتفاوت في ناحية المعلوم لا في ناحية العلم؛ إذ لو كانت فعلية التكليف تامة من ناحية إرادة المولى و كراهته - بحيث لا يتوقف استحقاق العقوبة على مخالفته إلا على وصوله إلى المكلف بأي نحو من أنحاء الوصول - تنجز بالعلم الإجمالي أيضا. و إن لم تكن الفعلية تامة إلا بالعلم التفصيلي، لم يؤثر العلم الإجمالي في تنجيزه؛ لعدم حصول شرط فعليته التامة و هو العلم به تفصيلا، فموضوع الأصل المرخص باق مع العلم الإجمالي كما كان قبله.

(2) لما عرفت من عدم الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري مع العلم التفصيلي.

و توضيح بعض العبارات كان غالبا طبقا لما في «منتهى الدراية».

(3) أي: من غير جهة العلم التفصيلي به؛ بل من جهة الملاك و إرادة المولى و كراهته،

ص: 324

محالة (1) يصير فعليا معه من جميع الجهات، و له (2) مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليا معه (3)؛ لإمكان جعل الظاهري في أطرافه (4) و إن كان (5) فعليا من غير هذه الجهة فافهم (6).

ثم إن الظاهر (7) أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعليا من جميع...

=============

فإذا علم به تفصيلا صار فعليا من جميع الجهات، فيصير حتميا و لا يبقى معه مجال لحكم آخر.

(1) الأولى اقترانه بالفاء، لأنه جواب «فإذا كان» إلا أن يكون الجواب قوله: «يصير»؛ لكن ينبغي حينئذ تأخير «لا محالة» عنه لأنه من معمولات «يصير».

و الضمير في «معه» راجع على العلم التفصيلي حتى لا يبقى للحكم الظاهري مجال.

(2) أي: و للحكم الظاهري مجال مع العلم الإجمالي لوجود موضوعه و هو الشك معه، و الضمير المستتر في «يصير» في الموردين راجع على الحكم الواقعي.

(3) أي: مع العلم الإجمالي؛ إذ المفروض: وجود الجهل في كل طرف الذي هو مناط الحكم الظاهري، و قد أشار إلى وجه عدم فعلية الحكم مع العلم الإجمالي بقوله:

«لإمكان».

و حاصله: أن اقتران العلم الإجمالي بالشك أوجب إمكان جعل الحكم الظاهري في أطرافه، و هذا مفقود في العلم التفصيلي.

(4) أي: أطراف العلم الإجمالي.

(5) يعني: و إن كان الحكم الواقعي «فعليا من غير هذه الجهة» أي: من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز و لم يكن فعليا من الجهة المضادة؛ لجعل الترخيص و الحكم الظاهري في أطرافه.

(6) لعله إشارة إلى عدم الفرق عقلا و شرعا بين العلمين في عدم صحة الترخيص؛ إذ فعلية الحكم لا تتوقف على العلم بنفس الحكم لا تفصيلا و لا إجمالا و إلا لزم دخل العلم فيه و هو خلاف الإجماع؛ بل الضرورة، فالحكم يصير فعليا بمجرد وجود موضوعه علم به المكلف أم لا.

و عليه: فجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون الحكم فعليا من جميع الجهات لم يظهر له وجه وجيه؛ بل الحق بناء على منجزية العلم الإجمالي أنه لا تجري الأصول في أطرافه أصلا كالعلم التفصيلي.

(7) هذا الكلام من المصنف «قدس سره» تعريض بما اشتهر من التفصيل في وجوب

ص: 325

الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بين الشبهة المحصورة بوجوبه فيها، و غير المحصورة بعدم وجوبه فيها، و يظهر هذا التفصيل من الشيخ الأنصاري «قدس سره» أيضا.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما هو المناط لوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

و يظهر من كلام الشيخ «قدس سره» تبعا للمشهور: أن المناط لوجوب الاحتياط و عدم وجوبه فيها هو كون الشبهة محصورة أو غير محصورة، فيجب الاحتياط على الأول؛ لأن العلم الإجمالي منجز للتكليف الواقعي فيجب علينا امتثاله؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و لا يحصل العلم بالبراءة إلا بالاحتياط و الإتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية و ترك الجميع في الشبهة التحريمية.

هذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة غير محصورة، حيث لا يؤثر العلم الإجمالي في تنجز التكليف الواقعي، فلا يجب الاحتياط.

و أما مناط وجوب الاحتياط عند المصنف «قدس سره» فهو كون التكليف فعليا من جميع الجهات، سواء كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة،

و لا يجب الاحتياط لو لم يكن التكليف فعليا كذلك من دون فرق بين كون الشبهة محصورة أو غير محصورة.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك إشكال المصنف على هذا التفصيل.

و حاصل الإشكال: أن المعلوم إجمالا إن كان فعليا من جميع الجهات وجب الاحتياط في جميع الأطراف؛ و إن كانت غيره محصورة، و إن لم يكن فعليا كذلك لم يجب الاحتياط في شيء منها؛ بل تجوز مخالفته القطعية و إن كانت الأطراف محصورة؛ إذ لا علم حينئذ بحكم فعلي من جميع الجهات حتى تجب موافقته و تحرم مخالفته.

و بالجملة فلا وجه لإناطة تنجيز العلم الإجمالي بحصر الأطراف تنجيزه بعدم حصرها؛ بل المدار في التنجيز و عدمه على الفعلية التامة و عدمها، فلا تفاوت بين حصر الأطراف و عدم حصرها.

نعم يكون بينهما تفاوت فيما أشار إليه بقوله: «و إنما التفاوت».

و حاصل التفاوت: أن الشبهة غير المحصورة تلازم غالبا جهة مانعة عن فعلية الحكم كالخروج عن الابتلاء، و الاضطرار المانع عن الفعلية؛ لكون الرفع فيه واقعيا لا ظاهريا، فتكون كثرة الأطراف ملازمة لما يمنع الفعلية التامة، فالتفاوت أيضا من ناحية المعلوم لا

ص: 326

الجهات (1) لوجب عقلا موافقته (2) مطلقا و لو كانت أطرافه غير محصورة، و إنما التفاوت بين المحصورة و غيرها هو: أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعليا لولاه (3) من سائر الجهات.

و بالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة و غيرها في التنجز و عدمه (4) فيما (5) كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث (6) المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه...

=============

من جهة كثرة الأطراف، فإذا كانت الأطراف الكثيرة مورد الابتلاء، و لم يترتب الحرج المنفي شرعا على الاجتناب عن جميعها كان العلم الإجمالي منجزا؛ لتعلقه بتكليف فعلي، و عليه، فلا يدور عدم تنجيز العلم الإجمالي مدار عدم انحصار الأطراف كما سيأتي في التنبيه الثالث، فانتظر.

(1) أي: حتى الإرادة و الكراهة.

(2) أي: موافقة التكليف الفعلي بالاجتناب عن جميع أطرافه في الشبهة التحريمية «مطلقا»، أي: و لو كانت أطرافه غير محصورة.

(3) أي: لو لا ما يمنع، فالضمير راجع على الموصول في «ما يمنع» المراد به ما عدا سائر الجهات كالخروج عن الابتلاء، و ضمير «كونه» راجع على المعلوم بالإجمال، و «من سائر الجهات» متعلق ب «فعليا».

و توضيحه - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 24» -: أن الحكم الواقعي في غير المحصورة فعلي من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري، فهو بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز؛ لكن هذه الفعلية في كل طرف منوطة بعدم ما يمنع عنها بالنسبة إلى ذلك الطرف كخروجه عن مورد الابتلاء أو الاضطرار إلى ارتكابه أو نحوهما، فإنه لو لا خروج بعض الأطراف عن الابتلاء مثلا لكان الحكم الواقعي بالنسبة إليه فعليا من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري، لكن هذا المانع أخرجه عن الفعلية من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري أيضا، فعدم فعليته حينئذ ليس من جهة واحدة؛ بل من جهات عديدة، و لذا لو تعلق به العلم التفصيلي لم يتنجز أيضا.

(4) يعني: عدم التنجز، فإن كان العلم الإجمالي منجزا في المحصورة كان في غير المحصورة كذلك.

(5) متعلق ب «تفاوتا» و «ما» ظرف لكون المعلوم بالإجمال فعليا.

(6) إن كان التكليف المعلوم إجمالا هو الوجوب كالأمر المردد بين القصر و التمام في بعض الموارد «يبعث المولى نحوه فعلا» بأن يريده.

ص: 327

كذلك (1)، مع (2) ما هو عليه من كثرة أطرافه.

و الحاصل: أن اختلاف الأطراف في الحصر و عدمه لا يوجب (3) تفاوتا في ناحية العلم، و لو أوجب (4) تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر و عدمها (5) مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلة و كثرة في التنجيز (6) و عدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية و عدمها (7)...

=============

(1) أي: فعلا بأن يكرهه.

(2) متعلق بكل من «يبعث، و يزجر»، و ضمير «هو» راجع على المعلوم بالإجمال، و ضمير «عليه» راجع على الموصول، و «من كثرة أطرافه» بيان له يعني مع كثرة أطراف المعلوم بالإجمال.

(3) بحيث يوجب تنجز العلم لو كانت الأطراف محصورة و عدمه إن لم تكن كذلك كما عليه المشهور؛ بل ادعي عليه الإجماع كما قال الشيخ.

و كيف كان؛ فاختلاف الأطراف في الحصر في عدد قليل و عدم الحصر في عدد قليل «لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم»؛ بأن ينجز العلم في أحدهما فيجب الاجتناب عن جميع أطرافه، و لا ينجز في الآخر فلا يجب الاجتناب كما هو المستفاد من كلام الشيخ و المنسوب إلى جماعة آخرين.

(4) أي: و لو أوجب اختلاف الأطراف في الحصر و عدمه «تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم»، أي: أن العلم الذي كشف عن الواقع - الذي هو معلوم - لا يوجب التفاوت، و إنما الواقع المكشوف بالعلم يوجب التفاوت، فإن كان الواقع فعليا - بأن أراده المولى أو كرهه - كان سببا للاحتياط في الأطراف كلها و لو كانت محصورة فالاختلاف لم يحدث من ناحية الأطراف قلة و كثرة و إنما حدث من ناحية الواقع «في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر». هذا بيان لقوله: «ناحية المعلوم» «مع الحصر» متعلق ب «فعلية البعث»، فلو كانت الأطراف محصورة كان الواقع فعليا فيجب الاحتياط فيها.

(5) أي: و عدم الفعلية مع عدم الحصر، يعني: أن الحكم فعلي مع الحصر و غير فعلي مع عدمه.

(6) متعلق ب «يختلف»، و «ما» في «ما لم يختلف» ظرف له.

(7) و عدم الفعلية بتفاوت الأطراف كثرة و قلة، يعني: أن التنجيز غير منوط بقلة الأطراف حتى تكون كثرتها مانعة عنه، بل المناط في التنجيز و عدمه هو فعلية المعلوم و عدمها، فكثرتها و قلتها إن أوجبتا اختلاف المعلوم في الفعلية و عدمها اختلف في التنجيز و إلا فلا كما مر آنفا.

ص: 328

بذلك (1)، و قد عرفت آنفا (2): أنه لا تفاوت بين التفصيلي و الإجمالي في ذلك (3) ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم (4) أيضا (5)، تأمل تعرف.

و قد انقدح (6): أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرورة: أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجبت موافقته قطعا؛

=============

(1) أي: بسبب القلة و الكثرة فإن أوجب كثرة الأطراف عدم إرادة المولى لم يجب الاحتياط؛ و إلا وجب و إن كانت الأطراف كثيرة جدا.

(2) أي: قوله: «و من هنا انقدح أنه لا فرق بين...» الخ.

(3) أي: في التنجيز و عدمه.

(4) أي: من حيث الفعلية التامة و عدمها.

(5) الظاهر زيادة هذه الكلمة؛ إذ المدار في التنجيز و عدمه هو الفعلية التامة و عدمها، لا تفصيلية العلم و إجماله، و لا كثرة الأطراف و قلتها، و من المعلوم: ظهور «أيضا» في عدم انحصار مناط التنجيز في فعلية المعلوم فقط؛ بل للعلم دخل فيه أيضا، و هذا خلاف ما صرح به آنفا.

(6) و هذا الكلام من المصنف تعريض بكلام الشيخ «قدس سره»، حيث يظهر منه التفصيل بين وجوب الموافقة القطعية و حرمة مخالفتها و جعل العلم الإجمالي علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، و مقتضيا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان الأقوال في المسألة، فهناك أربعة أقوال:

1 - أنه لا تأثير للعلم الإجمالي أصلا؛ بل حكمه حكم الشك فتجري البراءة في جميع أطرافه.

2 - أنه كالعلم التفصيلي علة تامة بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة كذلك.

3 - أنه مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية، فيؤثر في كل منهما لو لا المانع.

4 - أنه علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، و مقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

و هذا الأخير ما ذهب إليه الشيخ «قدس سره».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المصنف اعترض على التفصيل الذي قال به الشيخ «قدس سره»، فإنه بعد أن حكم بلزوم الاجتناب عن كلا المشتبهين بحكم العقل قال:

ص: 329

و إلا (1) لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (2)...

=============

«نعم لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز...».

و حاصل كلام الشيخ قبل إيراد المصنف عليه: أن للشارع التصرف في مرحلة الامتثال بأن يقنع بالموافقة الاحتمالية الحاصلة بترك أحد الطرفين، و الترخيص في ارتكاب الآخر لمصلحة تقتضيه، فإذن الشارع في ارتكاب الحرام الواقعي لا يقبح مع جعل الحلال الواقعي بدلا عنه إذا كان ما ارتكبه هو المحرم المعلوم بالإجمال، و تكون مصلحة الترخيص جابرة لمفسدة ارتكاب الحرام الواقعي. و عليه: فالامتثال التعبدي الحاصل باجتناب ما جعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعي مؤمن من عقوبة المولى و رافع لموضوع حكم العقل بلزوم رعاية التكليف في كل واحد من المشتبهين، و من المعلوم: أن قناعة الشارع بالموافقة الاحتمالية مبنية على كون العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية؛ لا علة تامة له، إذ لو كان علة له لم يتوجه الترخيص في بعض الأطراف. هذا ما أفاده الشيخ «قدس سره» في هذا المقام.

و حاصل ما أورد المصنف: أنه لا وجه للتفكيك - في علية العلم الإجمالي للتنجيز - بين حرمة المخالفة و وجوب الموافقة القطعيتين؛ بل إما أن يكون علة لكليهما فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية، أو لا يكون علة لشيء منهما، فلا تحرم المخالفة القطعية كما لا تجب الموافقة القطعية؛ إذ لو كان المعلوم بالإجمال إلزاما فعليا من جميع الجهات - بمعنى: كونه بالغا من الأهمية حدا لا يرضى معه المولى بمخالفته على كل تقدير كما عرفت توضيحه في بيان الفعلي من جميع الجهات - حرمت مخالفته و وجبت موافقته قطعا، و إن لم يكن إلزاما بالغا هذا الحد جازت مخالفته القطعية، و لم تجب موافقته كذلك؛ لفرض توقف فعليته التامة على العلم به تفصيلا، و المفروض عدم حصوله، و الحكم غير الفعلي الحتمي لا موافقة و لا مخالفة له و لا تشتغل الذمة به.

و المتحصل: أن تأثير العلم الإجمالي في كل من الموافقة و المخالفة على حد سواء، و المدار على المعلوم، فما أفاده الشيخ «قدس سره» من إمكان عدم وجوب الموافقة القطعية بناء على جعل البدل لا يخلو عن إشكال.

(1) أي: و إن لم يكن التكليف فعليا لم تحرم مخالفته القطعية.

(2) أي: كعدم وجوب موافقته القطعية، فقوله: «كذلك» أي قطعا. و هناك كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

ص: 330

و منه (1) ظهر: أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا إما (2) من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه أو (3) من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا،...

=============

و خلاصة ما يظهر من الشيخ و جماعة آخرين: أنه يشترط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي: أن لا تكون الأطراف غير محصورة، و أن لا يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء، و أن لا يكون بعضها مضطرا إليه، و أن لا يكون تدريجيا، و لكن المصنف «قدس سره» على أن جامع هذه الشرائط عدم فعلية التكليف، فإن كان التكليف فعليا لم يفد شيء من ذلك فإنه يرى دوران الأمر مدار الفعلية فقط، و لذا قال:

«و منه»، أي: مما تقدم من كون التنجز دائرا مدار فعلية الواقع و عدمها «ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به» أي: بالتكليف «إجمالا» لم تجب الموافقة و جازت المخالفة؛ لعدم الإرادة الفعلية للواقع.

(3) عطف على «إما من جهة» و إشارة إلى الجهة الثانية و هي الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا؛ كما إذا كان في أحد الإناءين المشتبهين ماء و في الآخر ماء الرمان، و اضطر إلى شرب ماء الرمان للتداوي مثلا، أو مرددا كالاضطرار إلى شرب ماء أحد

ص: 331

أو (1) من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر كأيام حيض الإناءين المشتبهين لرفع العطش الحاصل بشرب أي واحد منهما، فإن الاضطرار بأي نحو كان مانع عن فعلية وجوب الاجتناب، و سيأتي تفصيل ذلك في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى فانتظر.

=============

في منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات

(1) عطف أيضا على «إما من جهة»، و إشارة إلى الجهة الثالثة المعبر عنها بالعلم الإجمالي في التدريجيات، و هي عدم العلم بتحقق موضوع التكليف فعلا و إن علم تحققه إجمالا في الشهر مثلا، و علم تعلق التكليف به أيضا، فإن العلم بتحقق الموضوع فعلا شرط في فعلية التكليف و تنجزه.

بيان ذلك - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 38» -: أنه لا ريب في أنه إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات - التي منها العلم الإجمالي بتحقق موضوعه - كان التكليف منجزا، و وجبت موافقته و حرمت مخالفته القطعيتان كما مر غير مرة، سواء كانت أطراف الشبهة دفعية - أي: موجودة في زمان واحد - كالخمر المردد بين الإناءين اللذين يتمكن المكلف من ارتكاب أيهما شاء، أم تدريجية أي:

موجودة شيئا فشيئا في أزمنة متعددة، فإن التدرج في وجود الأطراف لا يمنع عن فعلية التكليف و تنجزه؛ إذ كما يصح تعلقه بأمر حاصل و يكون منجزا كذلك يصح تعلقه بأمر مستقبل كما هو الحال في الواجب المعلق، و مثل له المصنف في فوائده: بما إذا علم المكلف وجوب فعل خاص عليه بالنذر أو الحلف في يوم معين، و تردد ذلك اليوم بين يومين؛ كما إذا علم أنه نذر صوم يوم معين و شك في أن ذلك اليوم هو يوم الخميس أو الجمعة، فإنه بمجرد انعقاد النذر أو حصول المعلق عليه - فيما إذا كان النذر معلقا على شيء كصحة مريض أو قدوم مسافر - يصير وجوب الوفاء بالنذر حكما فعليا يجب الخروج عن عهدته بتكرار الفعل المنذور، فيجب عليه صوم كلا اليومين الخميس و الجمعة، فلو توقف الامتثال في طرفه على إيجاد مقدمات قبل حلول زمان الإطاعة وجب تحصيلها؛ لأن وجوب الوفاء غير معلق على شرط غير حاصل، بل هو منجز فعلا، و مجرد عدم حضور زمان الامتثال حين العلم الإجمالي لا يمنع من فعلية وجوب الصوم المنذور، و تنجز خطابه، و يشهد له صحة إيجاب الحج على المستطيع قبل الموسم، و وجوب تهيئة المقدمات الموجبة للكون في المواقف المشرفة في أيام ذي الحجة، و كذا وجوب الغسل على الجنب لصوم الغد، و هكذا.

ص: 332

المستحاضة مثلا لما (1) وجب موافقته بل جاز مخالفته (2)، و أنه (3) لو علم فعليته - و لو كان (4) بين أطراف تدريجية - لكان منجزا و وجب موافقته، فإن التدرج لا يمنع عن و أما إذا لم يكن التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات؛ لأجل عدم العلم بتحقق موضوعه فعلا لم يكن منجزا، فلا تجب موافقته؛ بل جازت مخالفته القطعية، كما إذا كانت المرأة مستمرة الدم من أول الشهر إلى آخره و علمت بأنها في أحد ثلاثة أيام من الشهر حائض، فإنه لا يجب عليها و لا على زوجها ترتيب أحكام الحيض في شيء من أيام الشهر؛ إذ لا تكليف ما لم تصر الزوجة حائضا، و ليس قبل الحيض إلزام فعلي حتى تجب رعايته بترتيب الأحكام المختصة به في أيام الشهر.

=============

فلها إجراء الأصل الموضوعي أعني: استصحاب الطهر من أول الشهر إلى أن تبقى ثلاثة أيام منه، ثم ترجع في الثلاثة الأخيرة إلى أصالة البراءة عن الأحكام الإلزامية للحائض، و لا مجال لاستصحاب عدم الحيض فيها؛ إذ مع انقضاء زمان يسير من هذه الثلاثة الأخيرة تعلم المرأة بانتقاض الطهر في تمام الشهر، إما في هذه الثلاثة و إما فيما انقضى من الأيام، فلا مجال للاستصحاب، فترجع حينئذ إلى الأصل المحكوم و هو أصالة الإباحة.

و عليه: فلهذه المرأة ترتيب جميع الأحكام التكليفية و الوضعية، فيجوز لها دخول المسجد كما يجوز لزوجها مباشرتها و طلاقها؛ لأن موضوع حرمة دخول المسجد و وجوب الاعتزال و فساد الطلاق هو الحائض، و المفروض: عدم إحرازه في شيء من أيام الشهر، و حيث إنه لم يحرز الموضوع لم يكن الحكم المترتب عليه فعليا. فلا تجب موافقته و لا تحرم مخالفته.

و هناك كلام طويل متضمن لكون المصنف مخالفا للشيخ من حيث المبنى تركناه رعاية للاختصار.

(1) جواب «لو لم يعلم»، و ضمائر «موافقته، مخالفته، فعليته» راجعة على التكليف.

(2) كما عرفت في مثال المرأة المستمرة دما في أيام الشهر.

(3) عطف على «أنه لو لم يعلم»، و الضمير راجع على التكليف لو لم يكن للشأن.

(4) بأن يكون وجود بعض الأطراف مترتبا زمانا على وجود الآخر؛ كعلمه إجمالا بوجوب صوم أحد اليومين بالنذر، فإن مجرد التدريجية لا تمنع عن الفعلية؛ لصحة التكليف الفعلي بأمر استقبالي كصحته بأمر حالي، حيث يكون الوجوب حاليا و الواجب استقباليا، كما هو الحال في الواجب المطلق الفصولي كالحج حيث إنه يستقر

ص: 333

الفعلية، ضرورة: أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي كالحج في الموسم للمستطيع فافهم (1).

=============

وجوب الحج في ذمة المستطيع قبل حلول زمان الواجب و هو الموسم، و لذا يجب عليه المسير و تهيئة المقدمات التي يتمكن بها من إتيان المناسك في وقتها.

(1) لعله إشارة إلى أن صحة التكليف بأمر استقبالي - بحيث يكون التكليف فعليا غير مشروط بشيء - محل الكلام؛ إذ القيود غير الاختيارية لا محالة تخرج عن حيز الطلب و يتقيد هو بها، و لذا بنى غير واحد من المتأخرين على استحالة الواجب المعلق خلافا لآخرين. أو إشارة إلى عدم صحة الواجب المعلق أصلا كما تقدم في بحث الواجب المعلق.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - أصالة الاشتغال، و مجراها هو الشك - في المكلف به مع العلم بنوع التكليف و إمكان الاحتياط.

ثم الشك في المكلف به على قسمين:

1 - أن يكون المكلف به دائرا بين المتباينين؛ كدورانه يوم الجمعة بين الظهر و الجمعة مع العلم بوجوب صلاة فيه.

2 - أن يكون دائرا بين الأقل و الأكثر الارتباطيين كما لو شك في كون الاستعاذة من أجزاء الصلاة أم لا بمعنى: أن أجزاء الصلاة هل هي تسعة أو عشرة ؟

و على هذا فيقع الكلام في مقامين:

الأول: في دوران الأمر بين المتباينين.

الثاني: في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

الكلام فعلا في المقام الأول أعني: دوران الأمر بين المتباينين و المراد بهما: أن لا يكون لهما قدر متيقن، سواء كان تباينهما ذاتا كدوران الواجب بين الصوم و الصدقة، أم عرضا كدورانه بين القصر و التمام فيما إذا علم بوجوب أحدهما إجمالا، فإن التباين بينهما باعتبار بشرط اللائية و بشرط الشيئية.

2 - و الضابط في العلم الإجمالي المتعلق بالمتباينين: هو رجوعه إلى قضية منفصلة مانعة الخلو، فيقال في المثال المذكور. «الواجب إما الصوم و إما الصدقة»، و هذا يرجع إلى قضيتين شرطيتين يكون مقدم كل واحدة منهما إحدى طرفي العلم الإجمالي. و تاليها

ص: 334

نقيض الطرف الآخر. فيقال: حينئذ: «إن كان الصوم واجبا فليست الصدقة واجبة»، و بالعكس.

هذا بخلاف الأقل و الأكثر، فإنه لا يصح ذلك فيهما، فلا يقال: «إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة» لوجوب التسعة على كل تقدير.

و قد قيد المصنف «قدس سره» الأقل و الأكثر بالارتباطيين؛ لأن المردد بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين خارج موضوعا عن الشك في المكلف به؛ بل هو شك في أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد.

3 - الأقوال المعروفة في المقام لا تتجاوز عن خمسة:

الأول: العلم الإجمالي غير مؤثر أصلا لا في وجوب الموافقة و لا في حرمة المخالفة فتجوز المخالفة القطعية فضلا عن الاحتمالية نسب هذا القول إلى العلامة المجلسي.

الثاني: أنه مؤثر في حرمة المخالفة و وجوب الموافقة على نحو المقتضي لا العلة التامة، و هو مختار المصنف في مبحث القطع من الكتاب.

الثالث: أنه مؤثر فيهما على نحو العلة التامة، و هو مختار المصنف في المقام.

الرابع: أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية و مقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

الخامس: أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية. و أما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فغير مؤثر أصلا، و نسب هذا القول إلى المحقق القمي «رحمه الله».

4 - المناط لوجوب الاحتياط و الموافقة القطعية عند المصنف «قدس سره» كون التكليف فعليا من جميع الجهات؛ لا كون الشبهة محصورة كما يظهر من الشيخ تبعا للمشهور.

و أما إذا لم يكن التكليف فعليا من جميع الجهات: فلا مانع عقلا و لا شرعا من جريان البراءة، و أما عدم المانع عقلا فلأن المانع عقلا هو قبح الترخيص في المعصية القطعية، و هو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا من جميع الجهات، و أما لو لم يبلغ هذه المرتبة و لو لأجل عدم العلم التفصيلي به فلا مانع حينئذ من الإذن في ارتكاب تمام الأطراف.

و أما عدم المانع شرعا: فلأن المتوهم من المانع شرعا في المقام هو لزوم محذور التناقض بين صدر أدلة الأصول و ذيلها إذا بنينا على شمولها لأطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ص: 335

و لكن هذا المحذور مفقود فيما إذا لم يكن الدليل مغيّا بالعلم - نحو: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» - مثل حديث الرفع و الحجب و نحوهما.

5 - لا فرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي في علية كل منهما لتنجز التكليف فيما إذا كان التكليف فعليا من جميع الجهات.

و أما إذا لم يكن كذلك: فيحصل الفرق بين العلمين بمعنى: أن التكليف الفعلي يتنجز إذا علم به تفصيلا؛ إذ لا يبقى حينئذ مجال للإذن في مخالفته لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري و هو الشك في الحكم الواقعي.

و أما إذا علم به إجمالا فرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه للشك في وجود التكليف في كل واحد من الأطراف، و به يتحقق موضوع الأصل النافي فيجري بلا مانع أصلا.

6 - الجهات المانعة عن فعلية التكليف:

الأولى: عدم الابتلاء، فإن الابتلاء بجميع الأطراف شرط في فعلية التكليف.

الثانية: الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا أو مرددا، فإن الاضطرار بأي نحو كان مانع عن فعلية التكليف.

الثالثة: هي كون أطراف العلم الإجمالي من التدريجيات.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم صحة الواجب المعلق أصلا كما تقدم. فكيف يستشهد به في المقام ؟

7 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - أن العلم الإجمالي مؤثر على نحو العلة التامة بالنسبة إلى كل واحدة من الموافقة القطعية و المخالفة كذلك.

2 - المناط لوجوب الاحتياط هو كون التكليف فعليا من جميع الجهات.

ص: 336

تنبيهات

الأول (1): أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين.

=============

تنبيهات الاشتغال
التنبيه الاول مانعية الاضطرار عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي

(1) و قبل الشروع في البحث في هذا التنبيه لا بد من بيان أمر به يتضح محل البحث، و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأفعال الصادرة عن المكلفين تارة:

معنونة بعناوين أولية و ذاتية، و أخرى: معنونة بعناوين ثانوية و عرضية.

ثم الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية أيضا على قسمين:

تارة: تكون مثبتة لها على الموضوعات بعناوينها الأولية نحو: الخمر حرام، و الميتة حرام، و الوضوء واجب، و الصوم واجب.

و أخرى: تكون مثبتة لها على الموضوعات بعناوينها الثانوية نحو: «رفع ما اضطروا إليه، و رفع ما استكرهوا عليه»، و «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»، مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، و من المعلوم: أن هذه الأدلة حاكمة على الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية على الموضوعات بعناوينها الأولية، فالاضطرار مانع عن فعلية حرمة الميتة مثلا، و محل البحث في هذا التنبيه الأول هو كون الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي مانعا عن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك: أن محل البحث في هذا التنبيه هو كون الاضطرار مانعا عن تنجز التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي، ثم محل الكلام ما إذا كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال؛ كما إذا علم بنجاسة أحد المائعين المضافين، ثم اضطر إلى شرب أحدهما، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار، فيقع الكلام في أنه هل ينحل العلم الإجمالي بذلك أم لا؟

و أما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار؛ كما لو علم بنجاسة أحد الماءين المطلقين، ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم

ص: 337

هو حرمة الشرب و عدم جواز الوضوء به، و الاضطرار إنما يرفع الأول دون الثاني، فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي و هو واضح، فلا يجوز الوضوء بشيء منهما، فهذا خارج عن محل الكلام.

إذا عرفت ما هو محل البحث في هذا التنبيه الأول فاعلم: أن غرض المصنف من عقد هذه التنبيهات هو: بيان موانع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال.

ثم غرض المصنف من عقد هذا التنبيه هو: التعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» في التنبيه الخامس من التنبيهات التي عقدها الشيخ «قدس سره» للشبهة التحريمية الموضوعية من الاشتغال. فلا بد من ذكر ما أفاده الشيخ «قدس سره» في التنبيه الخامس حتى يتضح ما أورده صاحب الكفاية عليه.

قال الشيخ: «الخامس: لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات: فإن كان بعضا معينا فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه؛ لرجوعه إلى عدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي؛ لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه». - إلى أن قال: «و إن كان بعده، فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر». دروس «في الرسائل، ج 3، ص 249».

و أما توضيح اعتراض المصنف عليه: فيتوقف على مقدمة و هي: بيان صور المسألة مع ما فيها من الخلاف بين الشيخ و المصنف.

و أما صورة المسألة فهي ست؛ و ذلك لأن الاضطرار يمكن أن يحصل قبل العلم الإجمالي، أو معه، أو بعده. و على جميع التقادير: إما أن يكون الاضطرار إلى واحد معين من أطراف الشبهة، أو إلى واحد غير معين منها.

و مثال الاضطرار إلى المعين هو: ما إذا كان أحد المشتبهين بالنجس ماء، و الآخر ماء الرمان مثلا، فاضطر إلى شرب ماء الرمان لمعالجة المرض. و مثال الاضطرار إلى الواحد غير المعين هو: ما إذا كان كلا المشتبهين بالنجس ماء و كان شرب أحدهما كافيا في رفع الاضطرار.

و كيف كان؛ فصور الاضطرار ستة فلا بد من حكمها عند المصنف و الشيخ «قدس سرهما».

فيقال: إنه لا خلاف و لا إشكال في رفع حرمة ما اضطر إليه بالاضطرار، فيجوز ارتكاب أحد المشتبهين معينا فيما إذا اضطر إليه معينا، أو مخيرا فيما إذا كان الاضطرار

ص: 338

إلى أحدهما لا بعينه، و إنما الخلاف في حكم ما بقي من أطراف الشبهة بعد ارتكاب المكلف الطرف المضطر إليه، فهل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا أو لا يجب كذلك أو فيه تفصيل ؟

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مختار المصنف هو: الاحتمال الثاني، فإن الاضطرار عنده كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين، ضرورة: أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا، و هو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.

و مختار الشيخ «قدس سره» هو: الاحتمال الثالث أعني: التفصيل.

و قد استدل الشيخ على التفصيل بوجهين:

أحدهما: إن وجوب الاحتياط و الاجتناب عن كلا المشتبهين إنما هو مع تنجز التكليف بالحرام على كل تقدير؛ بحيث لو علم تحريمه تفصيلا لوجب الاجتناب عنه، و هذا المناط مفقود في المقام، إذ على تقدير العلم التفصيلي بحرمة المضطر إليه لا يجب الاجتناب عنه لرفع التكليف بالاضطرار إليه، فيرجع الشك في الباقي إلى الشك في أصل التكليف، فلا مانع من الرجوع إلى أصل البراءة.

و ثانيهما: أن المناط في وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين هو تعارض الأصول فيهما، و هو مفقود هنا أيضا؛ و ذلك لأن الاضطرار يوجب سقوط الأصل في المضطر إليه، فيبقى الأصل في الباقي سليما عن المعارض، و لازمه: عدم وجوب الاجتناب عنه.

و هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده الشيخ في المقام.

فالمتحصل: أن الشيخ «قدس سره» أوجب الاجتناب عن الباقي في أربع صور من الصور الست، ثلاث منها هي صور كون الاضطرار إلى غير المعين، و الرابعة هي صورة كون الاضطرار إلى معين مع حصوله بعد العلم الإجمالي، و لم يوجب الاجتناب عن الباقي في اثنتين منها، و هما كون الاضطرار إلى معين مع حصوله قبل العلم الإجمالي أو معه، فيظهر من كلامه «قدس سره» تفصيلان تفصيل بين الاضطرار إلى المعين و غير المعين فيجب الاجتناب عن الباقي في الأول دون الثاني، و تفصيل بين الاضطرار بعد العلم الإجمالي و بين حصوله قبله أو معه فيجب الاجتناب عن الباقي في الأول دون الثاني و الثالث.

و يظهر من المصنف «قدس سره» في المتن: الإشكال على كلا التفصيلين، بتقريب: أن

ص: 339

ضرورة (1): أنه (2) مطلقا موجب لجواز ارتكاب (3) أحد الأطراف، أو تركه (4) الاضطرار من حدود التكليف بمعنى اشتراط فعلية التكليف بالاختيار و دورانه مداره حدوثا و بقاء، و عدم حصول العلم بالتكليف الفعلي المنجز في الاضطرار السابق على زمان العلم به و المقارن له واضح؛ كما يظهر من التزام الشيخ بالبراءة في سائر الأطراف في هاتين الصورتين، و كذا في الاضطرار اللاحق؛ لأن العلم بالتكليف الفعلي و إن كان ثابتا ظاهرا حال اختيار المكلف و قدرته على الامتثال؛ إلاّ إن طروء الاضطرار يوجب انتفاء العلم بالتكليف الفعلي المنجز لاعتبار الاختيار في فعلية الحكم حدوثا و بقاء كما عرفت. و مع احتمال انطباق الحرام الواقعي على المضطر إليه لا مقتضى لوجوب الاجتناب عن سائر الأطراف كما في الاضطرار السابق و المقارن. و العلم الإجمالي و إن حصل في زمان الاختيار و استقل العقل بلزوم رعايته؛ إلاّ إن طروء الاضطرار بعده أوجب اختصاص تنجيزه بزمان قبل عروض الاضطرار؛ لعدم بقاء العلم بالتكليف الفعلي المنجز على كل تقدير بعد عروضه، حيث إنه ترتفع به القضية المنفصلة الحقيقية المقومة للعلم الإجمالي، لمنافاة الترخيص الفعلي في المضطر إليه مع التكليف الإلزامي المحتمل وجوده؛ لأن احتمال جعل المتنافيين كالقطع به في الاستحالة.

=============

و كيف كان؛ فالتكليف مشروط بالاختيار حدوثا و بقاء، فينتفي مع الاضطرار من دون فرق بين الصور الست أصلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين» يعني: كذلك يكون الاضطرار مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان الاضطرار إلى طرف غير معين من الأطراف. و هذا إشارة إلى أول تفصيلي الشيخ «قدس سره»، و هو متضمن للصورة الرابعة و الخامسة و السادسة.

(1) تعليل لقوله: «مانعا» و إشكال على هذا التفصيل و قد عرفت توضيحه.

(2) أي: الاضطرار مطلقا - سواء كان إلى معين أم إلى غير معين - موجب لجواز الارتكاب في الشبهة التحريمية؛ لما عرفت: من منافاة الترخيص الفعلي مع فعلية الحرمة على كل تقدير، فلا وجه للتفصيل بين المعين و غير المعين.

(3) هذا في الشبهة التحريمية؛ كالاضطرار إلى شرب أحد الماءين معينا أو مخيرا، مع العلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين.

(4) عطف على «ارتكاب» هذا في الشبهة الوجوبية؛ كما إذا وجب عليه الإتيان

ص: 340

تعيينا أو تخييرا (1)، و هو (2) ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا (3).

و كذلك لا فرق (4) بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا؛ و ذلك (5) لأن التكليف المعلوم بينها من أول...

=============

بأربع صلوات عند اشتباه القبلة، و اضطر لضيق الوقت أو غيره إلى ترك إحداها معينة أو غير معينة. و ضمير «تركه»، راجع على «أحد».

(1) قيدان لجواز الارتكاب أو الترك تعيينا في الاضطرار إلى المعين؛ و تخييرا في الاضطرار إلى غير المعين.

(2) أي: جواز الارتكاب أو الترك. و هذا شاهد صدق على عدم الفرق - في ارتكاب بعض الأطراف بالاضطرار - بين كونه إلى طرف معين أو غير معين أي: الجامع، و ذلك لمنافاة إذن الشارع و ترخيصه لفعلية التكليف و تنجزه بالعلم الإجمالي كما مر توضيحه.

و الحاصل: أن الباقي مشكوك الحرمة بعد احتمال كون النجس هو الذي ارتكبه، فلا يكون الحكم فعليا.

(3) قيد ل «بحرمة المعلوم أو بوجوبه»، و ضمير «بينها» راجع على الأطراف.

(4) يعني: لا فرق في عدم تنجيز العلم الإجمالي و عدم وجوب الاحتياط.

هذا إشارة إلى التفصيلي الثاني للشيخ «قدس سره» و إشكال عليه، و حاصله: أنه لا فرق في عدم وجوب الاحتياط «بين أن يكون الاضطرار كذلك» أي: إلى أحد الأطراف «سابقا على حدوث العلم»؛ بأن اضطر إلى أحدهما ثم علم بأن أحدهما نجس، «أو لاحقا» بأن علم بنجاسة أحدهما ثم اضطر، أم مقارنا له، فإن الاضطرار اللاحق إن أوجب ارتفاع فعلية المعلوم فدافعيته لها في صورة المقارنة تكون بالأولوية و لعله «قدس سره» ترك ذكره لوضوحه فتدبر.

(5) بيان لوجه الإشكال على التفصيل الثاني، و حاصله: أن التكليف المعلوم بالإجمال ليس مطلقا، بل هو مقيد بعدم الاضطرار، فمع عروضه يشك في التكليف حدوثا إن كان الاضطرار سابقا على العلم أو مقارنا له، أو بقاء إن كان الاضطرار لاحقا، فالمورد من مجاري أصل البراءة.

و بعبارة أخرى: أن الشك إن كان في مرحلة الفراغ و سقوط ما في الذمة كان المرجع فيه قاعدة الاشتغال، و إن كان في مرحلة ثبوت التكليف و اشتغال الذمة به كان المرجع أصالة البراءة. و حيث إن الحكم الواقعي مقيد بعدم طروء الاضطرار، فمع طروئه لا علم

ص: 341

الأمر (1) كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان (2) التكليف به معلوما؛ لاحتمال (3) أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون (4) هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

لا يقال (5): الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلا كفقد...

=============

بالتكليف حتى يكون الشك في مرحلة الاشتغال و الفراغ لتجري فيه قاعدة الاشتغال؛ بل الشك يكون في مقام الثبوت الذي هو مجرى البراءة.

(1) أي: من زمان تشريعه، فإن التكليف المعلوم إجمالا شرع مقيدا بعدم الاضطرار، و ضمير «بينها» راجع على الأطراف.

(2) جواب «فلو عرض» أي: فلو عرض الاضطرار إلى بعض أطراف العلم لما كان التكليف بالمتعلق معلوما بهذا العلم الإجمالي، و ضميرا «أطرافه، به» راجعان على متعلق التكليف.

(3) تعليل لقوله: «لما كان» يعني: لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما عرضه الاضطرار، فلم يثبت تعلق التكليف به حدوثا أو بقاء حتى تجري فيه قاعدة الاشتغال، و ضمير «هو» راجع على «متعلقه».

(4) عطف على قوله: «يكون» يعني: أو لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما اختاره المكلف من الأطراف في رفع اضطراره، فيما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.

(5) هذا إشكال على ما أفاده بقوله: «و كذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا»، و تأييد لتفصيل الشيخ «قدس سره» في الاضطرار إلى المعين بين الاضطرار السابق و اللاحق.

و توضيح الإشكال - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 61» -: أن الاضطرار يقاس بفقدان بعض الأطراف، فكما لا إشكال - في صورة فقدان بعض الأطراف - في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه، فكذلك لا ينبغي الإشكال في صورة الاضطرار إلى بعض الأطراف في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه، فيجب الاحتياط في سائر المحتملات خروجا عن عهدة التكليف المعلوم قبل عروض الاضطرار، فيندرج المقام في كبرى قاعدة الاشتغال لا البراءة؛ كما إذا علم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين أو بوجوب تجهيز أحد الميتين عليه، فأريق ما في أحد الإناءين، أو افترس السبع أحد الجسدين أو أخذه السيل، فإنه لا ريب في وجوب الاجتناب عن ثاني الإناءين، و وجوب تجهيز الميت الآخر. و لو كان الفقدان قبل العلم الإجمالي - بأن أريق ما في أحد الإناءين

ص: 342

بعضها (1) فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي (2) أو ارتكابه (3) خروجا (4) عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

فإنه يقال (5): حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به و قيوده...

=============

أو فقد أحد الميتين، ثم علم إجمالا بحرمة شرب هذا الماء الموجود أو ذاك الإناء المفقود، أو وجوب تجهيز هذا الميت الموجود أو ذاك المفقود - لم يلزم الاحتياط بالنسبة إلى باقي الأطراف. و عليه: فحال الاضطرار حال الفقدان في منعه عن تنجيز العلم الإجمالي إذا كان سابقا، و عدم منعه عنه إذا عرض بعد العلم، فالحق ما ذكره الشيخ «قدس سره» من التفصيل بين الاضطرار اللاحق و غيره.

(1) أي: الفقدان الطاري على العلم الإجمالي لا السابق عليه و لا المقارن له، و ضمير «بعضها» راجع على الأطراف.

(2) في الشبهة التحريمية، و ضمير «رعايته» راجع على الاحتياط.

(3) في الشبهة الوجوبية، كما إذا علم إجمالا بأن أحد الغريقين مما يجب إنقاذه و الآخر كافر حربي، فهلك أحدهما قبل الإنقاذ، فإن إنقاذ الآخر واجب لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه، و المفروض تنجز هذا الاحتمال بالعلم الإجمالي الحاصل قبل عروض الاضطرار.

(4) تعليل لقوله: «فيجب الاجتناب...» الخ. و ضمير «عروضه» راجع على الاضطرار، و ضمير «عليه» راجع على «ما» الموصول المراد به وجوب الاجتناب.

(5) هذا دفع الإشكال. و حاصل الدفع: يتوقف على مقدمة و هي الفرق بين الاضطرار و الفقدان و حاصل الفرق: أن الأول: من قيود التكليف شرعا بحيث يكون كل حكم إلزامي مقيدا حقيقة بعدم الاضطرار، فمع طروئه يرتفع الحكم واقعا، إذ الاضطرار يزاحم الملاك الداعي إلى الحكم، فإن ملاك حرمة أكل مال الغير يؤثر في تشريع الحرمة إن لم يزاحم بمصلحة أهم كحفظ النفس، و لذا يجوز أكله في المخمصة بدون رضا مالكه فاشتراط التكليف بعدم الاضطرار إلى متعلقه إنما هو من اشتراط الملاك بعدم المزاحم له، و هذا بخلاف الفقدان، فإن الحكم لم يقيد في الأدلة الشرعية بعدمه؛ بل عدم الموضوع يوجب انتفاء الحكم عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الحكم لما كان مقيدا بعدم الاضطرار شرعا لا يجب الاحتياط مع طروئه. هذا بخلاف الفقدان حيث إن الحكم لا يكون مقيدا بعدمه،

ص: 343

كان (1) التكليف المتعلق به مطلقا (2)، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك (3)، و هذا بخلاف الاضطرار إلى تركه (4) فإنه (5) من حدود التكليف به و قيوده (6)، و لا يكون (7) الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة به (8) إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده (9)، و لا يكون (10) إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم و تأمل فإنه دقيق جدا.

=============

فيجب الاحتياط فيما بقي من الأطراف؛ لكون الشك في بقاء الحكم المطلق بعد العلم باشتغال الذمة به فيجب الإتيان بالباقي أو الاجتناب عنه تحصيلا للعلم بفراغ الذمة.

و عليه: فقياس الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي بفقدان بعض الأطراف بعد العلم قياس مع الفارق فيكون باطلا.

و المراد بالمكلف به هو: متعلق المتعلق، و هو الموضوع كالإناء في المثال أو الغريق في وجوب الإنقاذ.

(1) جواب «حيث»، و ضمير «به» راجع على المكلف به، و ضمير «قيود» راجع على التكليف.

(2) أي: غير مقيد شرعا بالفقدان، «و المتعلق» بكسر اللام، و ضمير «به» راجع على المكلف به.

(3) أي: يقينا، و ضمائر «عنه، به» في الموضعين راجعة على المكلف به.

(4) الأولى إضافة «أو ارتكابه» إليه؛ إذ الاضطرار إلى الترك إنما هو في الشبهة الوجوبية دون التحريمية، فلا بد من عطف «أو ارتكابه» على «تركه» حتى يعم كلا من الشبهة الوجوبية و التحريمية، حيث إن الاضطرار في الشبهة التحريمية يكون إلى ارتكاب بعض أطرافها لا إلى تركه.

(5) أي: فإن الاضطرار إلى ترك المكلف به من شرائط التكليف بترك المتعلق كشرب الحرام أو النجس، و من المعلوم: عدم بقاء المحدود بعد الحد.

(6) أي: من قيود التكليف شرعا، و إلا فقيدية بقاء الموضوع للحكم عقلا مما لا إشكال فيه، و ضمير «به» راجع على «تركه».

(7) هذه الجملة مفسرة لقوله: «من حدود التكليف».

(8) أي: بالمكلف به، و ضمير «عروضه» راجع على الاضطرار.

(9) أي: رعاية التكليف فيما بعد الاضطرار، و المراد بهذا الحد: الاضطرار.

(10) الضمير المستتر فيه راجع على ما يستفاد من قوله: «رعايته» يعني: و لا يكون

ص: 344

رعاية التكليف - بعد طروء الاضطرار - بالاحتياط في باقي الأطراف إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية في عدم اللزوم؛ لأن العلم و إن حصل أولا لكنه بعد طروء الاضطرار تبدل بالشك، فلا يقين بالتكليف الفعلي حتى يجب الاحتياط في أطرافه.

و تركنا طول الكلام في المقام رعاية للاختصار.

قوله: «فافهم و تأمل» إشارة إلى دقة المطلب بقرينة قوله: «فإنه دقيق جدا» و بالتأمل حقيق.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل البحث في هذا التنبيه الأول و هو: كون الاضطرار إلى بعض الاضطرار معينا أو غير معين، فيقع الكلام في أنه هل هو مانع عن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال أم لا؟

ثم محل البحث ما إذا كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال؛ كما إذا علم بنجاسة أحد المائعين المضافين، ثم اضطر إلى شرب أحدهما، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار. هذا بخلاف ما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار؛ كما لو علم بنجاسة أحد الماءين المطلقين ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم هو حرمة الشرب و عدم جواز الوضوء به، و الاضطرار إنما يرفع الأول دون الثاني، فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي بالاضطرار و هو واضح.

2 - اعتراض المصنف على الشيخ «قدس سرهما»:

و هو يتوقف على بيان ما هو مختار الشيخ في المقام فيقال: إنه يظهر منه تفصيلان:

التفصيل الأول هو التفصيل بين الاضطرار إلى معين و إلى غير معين، حيث قال بعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الباقي في الفرض الثاني مطلقا، يعني: سواء كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي أو قبله أو معه.

ثم على الفرض الأول و هو الاضطرار إلى المعين قال: بوجوب الاحتياط لو كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي، و عدم وجوبه فيما لو كان الاضطرار إلى المعين قبل العلم الإجمالي أو معه.

ص: 345

الثاني (1): أنه لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو إذا عرفت ما ذهب إليه الشيخ من التفصيليين فاعلم: أن المصنف قد أورد على كلا التفصيليين بتقريب: أن الاضطرار من حدود التكليف فلا تكليف معه أصلا، سواء كان سابقا أو لاحقا أو مقارنا له؛ إذ التكليف مشروط بالاختيار حدوثا و بقاء فينتفي مع الاضطرار مطلقا.

=============

3 - إشكال قياس الاضطرار بفقدان بعض الأطراف، فكما يجب الاحتياط بالنسبة إلى الباقي في صورة فقد بعض الأطراف، كذلك يجب الاحتياط في صورة الاضطرار إلى بعض الاضطرار مدفوع بالفرق بين الاضطرار و الفقدان؛ لأن الأول من قيود التكليف و حدوده دون الثاني.

و عليه: فقياس الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي بفقدان بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي قياس مع الفارق، فيكون باطلا.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو أن الاضطرار مطلقا مانع عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

التنبيه الثانى في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه: بيان شرط من شرائط فعلية الحكم، و هو كون المكلف به موردا لابتلاء المكلف، بمعنى: كونه مقدورا عاديا له.

و قد تعرض في هذا التنبيه لجهتين: إحداهما في اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

و ثانيتهما: في حكم الشك في الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره.

و قد تعرض الشيخ الأنصاري «قدس سره» لاعتبار هذا الأمر في خصوص التكاليف التحريمية، و هو أول من اعتبر هذا الشرط مضافا إلى الشرائط العامة الأربعة في كل تكليف كما في بعض الشروح.

و كيف كان؛ فيقع الكلام فعلا في الجهة الأولى و هو اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

و توضيح الكلام: فيها يتوقف على مقدمة و هي: أنه لا شك في اعتبار القدرة على جميع أطراف العلم الإجمالي في منجزيته و استحقاق العقوبة على مخالفته، فيعتبر في صحة النهي عن الشيء أو الأمر به كون المتعلق مقدورا، فلو كان بعض الأطراف غير مقدور للمكلف كان التكليف فيه ساقطا لا محالة؛ لقبح التكليف بغير المقدور، و هو في

ص: 346

سائر الأطراف مشكوك فيجري فيها الأصل النافي بلا معارض. و هذا واضح.

و إنما المقصود هنا بيان أن المعتبر في توجه الخطاب إلى المكلف هو إمكان الابتلاء عادة؛ إذ مع عدم إمكان الابتلاء عادة بجميع الأطراف على البدل لا يصح توجه النهي إليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في توضيح الجهة الأولى: إن غرض الشارع من النهي عن فعل إنما هو إحداث المانع في نفس المكلف عن ارتكاب متعلق النهي الواصل إليه، بحيث يستند ترك المنهي عنه إلى النهي، و هذا يتحقق في موردين:

أحدهما: أن لا يكون للمكلف داع إلى الترك أصلا، و إنما حدث الداعي له إلى الترك بزجر الشارع و نهيه.

ثانيهما: أن يكون له داع إلى الترك، و لكن تتأكد إرادة تركه للمنهي عنه بواسطة النهي؛ إذ لو لا الزجر الشرعي ربما كانت وسوسة النفس تحمل المكلف على المخالفة، و توجد فيه حب الارتكاب له. إلاّ إنه بعد العلم بخطاب الشارع و بما يترتب على مخالفته من استحقاق العقوبة يقوى داعيه إلى الترك، فيجتنب عن الحرام أو يقصد القربة بالترك، و لو لا نهي الشارع لما تمكن من قصد القربة لتوقفه على وصول الخطاب المولوي إليه.

و من المعلوم: أن داعوية النهي للترك تتوقف على إمكان تعلق إرادة العبد بكل من الفعل و الترك؛ بحيث يمكنه عادة اختيار أيهما شاء، و مع خروج متعلق النهي - كالخمر - عن معرضية الابتلاء به لا يتمكن عادة من الارتكاب، و مع عدم التمكن منه كذلك لا تنقدح الإرادة في نفس المكلف، و مع عدم انقداحها يكون نهي الشارع عن مبغوضه لغوا؛ لوضوح أن ترك الحرام يستند حينئذ إلى عدم المقتضى - و هو الإرادة - لعدم وجود المتعلق حتى يتمكن من إرادة ارتكابه لا إلى وجود المانع و هو زجر الشارع و نهيه، و قد تقرر أن عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع؛ بل إلى عدم مقتضيه؛ لتقدمه الطبيعي على المانع.

و عليه: فالنهي عن فعل متروك بنفسه - مثل شرب الخمر الموجود في إناء الملك مع عدم قدرته عليه عادة - لغو؛ لعدم ترتب فائدته و هي إحداث الداعي النفساني إلى الترك عليه، و اللغو لا يصدر من الحكيم لمنافاته للحكمة؛ بل يكون من طلب الحاصل المحال في نفسه.

ص: 347

تركه لو لم يكن له داع آخر (1)، و لا يكاد يكون (2) ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة: أنه (3) بلا فائدة و لا طائل؛ بل يكون و بهذا يظهر وجه اشتراط تنجيز العلم الإجمالي بكون تمام الأطراف مورد الابتلاء، ضرورة: أنه يتوقف عليه حصول العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف موجبا لصحة توجيه الخطاب إلى المكلف، و مع خروج بعضها عن الابتلاء لا يحصل العلم كذلك، لاحتمال انطباق الحرام على الخارج عن الابتلاء المانع عن جريان الأصل فيه؛ لعدم ترتب أثر عملي عليه، فيجري فيما بقي من الأطراف بلا معارض.

=============

قوله: «أن يصير داعيا للمكلف» إشارة إلى أول الموردين المتقدمين يعني: أن النهي يوجب أرجحية ترك متعلقه من فعله، لما يترتب على فعله من المؤاخذة، فيحدث بالنهي الداعي العقلي إلى تركه إن لم يكن له داع آخر.

(1) يعني: غير النهي، كعدم الرغبة النفسانية و الميل الطبعي إلى المنهي عنه. و هذا إشارة إلى ثاني الموردين المتقدمين، يعني: و أن كان له داع آخر إلى الترك كان النهي مؤكدا له و مصححا لنية التقرب بالترك إن أراد قربيته.

(2) أي: و لا يكاد يكون النهي داعيا «إلاّ...» و هذا شروع في الجهة الأولى من الجهتين اللتين عقد لهما هذا التنبيه و هي بيان أصل اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف في منجزية العلم الإجمالي، و حاصله: أن الشيء إذا كان بنفسه متروكا بحيث لا يبتلي به المكلف عادة حتى يحصل له داع إلى فعله فلا وجه للنهي عنه، لعدم صلاحيته لإيجاد الداعي إلى الترك، فيكون النهي لغوا، و اللغو مناف للحكمة فلا يصدر من الحكيم؛ بل النهي محال في نفسه، لكونه طلبا للحاصل المحال، ضرورة: أن الغرض من النهي - و هو عدم الوقوع في المفسدة - حاصل بنفس خروج المتعلق عن الابتلاء، فلا يعقل طلبه حينئذ. و ضميرا «به، عنه» راجعان على «ما» الموصول في «ما لا ابتلاء» المراد به المورد الخارج عن الابتلاء، و ضمير «بحسبها» راجع على العادة.

(3) أي: أن النهي عما لا ابتلاء به بحسب العادة بلا فائدة؛ لعدم ترتب الغرض من النهي و هو كونه داعيا إلى الترك عليه، و هذا إشارة إلى لغوية الخطاب بالخارج عن الابتلاء، و هي تستفاد من كلام الشيخ «قدس سره»، «و السر في ذلك أن غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه، فلا حاجة إلى نهيه».

ص: 348

من قبيل طلب الحاصل (1) كان (2) الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم، فإنه بدونه (3) لا علم بتكليف فعلي؛ لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

و منه (4) قد انقدح: أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر و انقداح (5) طلب تركه في نفس المولى فعلا هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد، مع اطلاعه على ما هو عليه من (6) الحال.

=============

(1) لحصول الغرض من النهي و هو ترك المفسدة بالترك الحاصل قهرا بنفس عدم الابتلاء، و معه يستحيل طلب الترك بالخطاب.

(2) جواب «لما» في قوله: «لما كان النهي عن الشيء...» الخ.

(3) أي: بدون الابتلاء بجميع الأطراف، و ضمير «فإنه» للشأن، و ضمير «منه» راجع على «ما» الموصول. و حاصله: أنه بدون الابتلاء بتمام الأطراف - بحيث يكون قادرا عادة بالمعنى المتقدم على ارتكاب أي واحد منها شاء - لا علم بتكليف فعلي؛ لاحتمال كون موضوعه ما هو خارج عن الابتلاء، و لذا لا يجب الاحتياط حينئذ في سائر الأطراف؛ لعدم دوران متعلق التكاليف الفعلي بينها بالخصوص مع احتمال كونه هو الطرف الخارج عن الابتلاء، فلا يكون التكليف الفعلي في الأطراف المبتلى بها محرزا حتى يجب فيها الاحتياط.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(4) يعني: و من كون النهي عن الشيء لأجل إحداث الداعي إلى الترك ظهر ما هو الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر، و محصله: أن انقداح طلب الترك الفعلي في نفس المولى تابع لإمكان حصول الداعي إلى الفعل في نفس العبد، فإن أمكن للعبد إرادة شيء جاز للمولى طلبه منه؛ إذ لا يريد إلا ما يمكن للعبد إرادته، لقبح التكليف بغير المقدور، و حينئذ: فإن علم العبد بتكليف مردد بين أمور، فإن أمكنه إرادة فعل كل واحد منها أمكن أيضا للمولى إرادته و طلب ذلك منه، و إلا فلا. و هذا مرادهم بقولهم: إن الإرادة الأمرية تابعة للإرادة المأمورية، أو الإرادة التشريعية تابعة للإرادة التكوينية، كما أن إرادة العبد في مقام الامتثال و انبعاثه تابعة لإرادة المولى و بعثه لأنها علّة لإرادة العبد كما ثبت في محله.

(5) عطف تفسيري ل «فعلية»، و الأولى إضافة «عنه» إلى كلمة «الزجر» و ضمير «هو» خبر «أن الملاك».

(6) بيان للموصول في «ما هو»، و ضمير «هو» راجع على الفعل المنهي عنه، و ضمير

ص: 349

و لو شك في ذلك (1) كان المرجع هو البراءة؛...

=============

«عليه» راجع على الموصول، و ضمير «اطلاعه» إلى المولى، يعني: أن المولى إذا اطلع على حال العبد من حيث كونه داخلا في الابتلاء أو خارجا عنه، فإن رأى صحة انقداح الداعي في نفس العبد إلى فعله صح له الزجر عنه و إلا فلا. هذا تمام الكلام في اعتبار الابتلاء و العلم به.

(1) يعني: في الابتلاء، و هذا شروع في الجهة الثانية من جهتي هذا التنبيه و هي بيان حكم الشك في الابتلاء، كما إذا علم إجمالا بأن دارا مغصوبة مرددة بين هذه الدار التي يريد المكلف شراءها و دارا أخرى في بلد آخر يشك المكلف في دخولها في محل الابتلاء و خروجها عنه، فهل يكون هذا العلم الإجمالي منجزا و إن مشكوك الابتلاء به محكوم بحكم ما هو معلوم الابتلاء به أم لا يكون منجزا، و أن مشكوك الابتلاء محكوم بحكم ما هو خارج عنه قطعا؟ فيه خلاف بين الشيخ و المصنف «قدس سرهما»، فذهب الشيخ إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الابتلاء به، و تمسك لذلك بالأصل اللفظي أعني:

أصالة الإطلاق المقتضية لتنجز الخطاب بالمعلوم الإجمالي، و ذهب المصنف إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الخروج عن محل الابتلاء، و أورد على الشيخ بما سيأتي، ثم جعل المرجع في الشك في الابتلاء أصالة البراءة.

و حاصل الكلام في الجهة الثانية: و هي بيان حكم الشك في الابتلاء، فإذا شك في كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه و عدم تعين حدوده بناء على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف، فهل يرجع إلى إطلاقات أدلة التكليف و يحكم بالتنجيز في الطرف المشكوك كالمبتلى به، أو إلى أصالة البراءة ؟

ذهب الشيخ «قدس سره» إلى الأول بدعوى: أن الإطلاقات هي المرجع ما لم يثبت التقييد، فلا مجال لجريان الأصل، فإن مقتضى الإطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي، فلا يجري الأصل في أطرافه.

و ذهب المصنف «قدس سره» إلى الثاني بدعوى: أن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات إنما يصح فيما إذا أمكن الإطلاق في مقام الثبوت ليستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات الإطلاق في مقام الثبوت، و مع الشك في إمكان الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا، و المقام من هذا القبيل، فإنه بعد الالتزام باعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف عقلا، كان الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء من حيث

ص: 350

المفهوم شكا في إمكان الإطلاق بالنسبة إليه، و مع الشك في الإمكان ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الإطلاق في مقام الإثبات.

و كذا الحال عند الشك في أصل اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف، فإنه أيضا شك في الإمكان ثبوتا، فلا يمكن الرجوع إلى الإطلاق إثباتا.

و كيف كان؛ فلا بد من توضيح كل ما ذهب إليه الشيخ و المصنف «قدس سرهما».

فأما توضيح ما ذهب إليه الشيخ «قدس سره» فحاصله: أنه لا شك في فعلية التكليف و تنجزه مع العلم بمعرضية الأطراف للابتلاء بها، كما لا شك في عدم فعليته مع العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

و أما إذا شك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء من جهة الشك في مفهومه سعة و ضيقا، و عدم تعين حدوده لعدم الإحاطة بحقيقته العرفية، كان مقتضى إطلاق الهيئة مثل: «لا تشرب الخمر» فعلية التكليف في الطرف المبتلى به؛ إذ لو كان الطرف المشكوك فيه خارجا عن مورد الابتلاء كان الخطاب بالنسبة إليه مقيدا، فإنه بمنزلة قوله:

«لا تشرب الخمر إن ابتليت به»، و لو كان داخلا فيه لم يكن الحكم مقيدا به، و من المعلوم: أن المرجع في الشك في أصل التقييد و في التقييد الزائد هو إطلاق الخطاب؛ إذ الخارج عنه قطعا بملاحظة الاستهجان العرفي هو ما لا ابتلاء به أصلا.

و أما المشكوك خروجه عن الابتلاء فهو مما يشمله الإطلاق، و لا بد من الاحتياط، و معه لا تصل النوبة إلى التمسك بالأصل العملي المحكوم من الاحتياط و البراءة. هذا محصل ما اختاره الشيخ «قدس سره».

و أما المصنف: فقد التزم بالرجوع إلى البراءة في مورد الشك؛ لأنه من الشك في التكليف الفعلي الذي هو مجرى الأصل النافي لإناطة فعلية الحكم بالابتلاء بالمتعلق، و مع الشك في الابتلاء به يشك في نفس الحكم.

و أصالة الإطلاق و إن كانت حاكمة أو واردة على الأصول العملية إلا إنه لا سبيل للتمسك بها هنا.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن القيد تارة: يكون مصححا للخطاب بحيث لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية؛ لقبح التكليف بغير المقدور. و أخرى:

لا يكون كذلك؛ بل يصح الخطاب بدونه كما يصح تقييده به أيضا كالاستطاعة الشرعية بالنسبة إلى وجوب الحج؛ إذ يمكن توجيه الخطاب إلى المكلف القادر عقلا

ص: 351

لعدم (1) القطع بالاشتغال، لا إطلاق (2) الخطاب، ضرورة (3): إنه لا مجال للتشبث على الحج و إن لم يكن مستطيعا شرعا، كما يصح توجيه الخطاب إليه مقيدا بالاستطاعة أيضا، فإذا شك في دخل الاستطاعة الشرعية فمقتضى إطلاق وجوب الحج عدم دخلها فيه، نظير إطلاق الرقبة في قوله: «أعتق رقبة» في التمسك به عند الشك في تقيدها بالإيمان.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن التمسك بإطلاق الخطاب إنما يصح إذا كان ما شك في قيديته من قبيل القسم الثاني لصحة الإطلاق - بمعنى رفض القيد المشكوك اعتباره - حينئذ قطعا، و بالتمسك به ينتفي الشك في إطلاق الحكم ثبوتا؛ لكشف إطلاقه إنا في مقام الإثبات عن إطلاقه ثبوتا، فيثبت إطلاق الحكم واقعا بالنسبة إلى القيد الذي يكون من قبيل القسم الثاني كالاستطاعة.

و أما إذا كان القيد من قبيل القسم الأول و هو ما لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية أو العادية التي منها الابتلاء، فلا معنى للتمسك بالإطلاق في مرحلة الإثبات؛ لعدم إمكان الإطلاق في مقام الثبوت بعد دخل القدرة في التكليف حتى يستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات، فكل خطاب محفوف بمقيد عقلي - و هو كون متعلقه مقدورا عقلا و مبتلى به عادة - لا يمكن تشريع الخطاب بنحو الإطلاق من دون هذا القيد العقلي ثبوتا حتى تصل النوبة إلى الإطلاق إثباتا، و مع تقييد إطلاق الحكم بالقدرة العادية لا يبقى إطلاق في مثل قوله: «لا تشرب الخمر» حتى يتمسك به في الشك في الابتلاء.

فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في أصل الحكم، و المرجع فيه أصالة البراءة.

و المتحصل: التمسك بالإطلاق منوط بإحراز صحة إطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، فلا يصح التمسك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه كالابتلاء فيما نحن فيه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) هذا تعليل لجريان البراءة و محصله: عدم منجزية العلم الإجمالي المثبت للتكليف؛ ما لم يكن المعلوم حكما فعليا على كل تقدير، و ذلك منوط بالابتلاء بتمام الأطرف، و المفروض: عدم إحراز الابتلاء بجميعها، فيصير الحكم مشكوكا فيه فتجري فيه البراءة.

(2) كما يقول الشيخ على ما عرفت ذلك.

(3) تعليل لعدم صحة التمسك بإطلاق الخطاب، و قد عرفت توضيح ذلك.

ص: 352

به (1) إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد (2) الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا (3) فيما شك في اعتباره في صحته (4)، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.

=============

(1) أي: بالإطلاق، و ضمير «إنه» للشأن، و «بشيء» متعلق ب «التقييد»، و ضمير «بدونه» راجع على «التقييد بشيء»، أو إلى الشيء و ذلك كالابتلاء الذي يتقيد كل خطاب به.

(2) متعلق ب «شك»، و إشارة إلى القسم الثاني من قسمي دخل القيد في الخطاب كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، فإنه يصح التمسك بإطلاق الرقبة إذا شك في تقيدها به.

(3) عطف على «فيما إذا شك» و إشارة إلى القسم الأول من قسمي القيد و هو ما اعتبر في صحة نفس الخطاب، يعني: أنه لا يصح التمسك بالإطلاق فيما شك في تحقق ما اعتبر في صحة الإطلاق بدونه كالابتلاء، فإنه لا يصح الخطاب بدونه.

(4) أي: صحة الإطلاق، فلا يمكن التثبت بالإطلاق، إذا كان الشك في قيد لا يصح الإطلاق بدونه كما فيما نحن فيه، فإن الابتلاء قيد لا يصح الإطلاق بدونه، فإنه إذا كان إناء الجار خارجا عن محل الابتلاء لا يصح أن يطلق المولى.

قوله: «اجتنب عن إناء زيد»، و إنما يصح أن يقول: «اجتنب عنه إن ابتليت به». و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

و قد تعرض المصنف في هذا التنبيه لجهتين:

إحداهما: في اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

ثانيتهما: في حكم الشك في الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره.

و الشيخ أول من اعتبر هذا الشرط، غاية الأمر: أنه تعرض لاعتبار هذا الشرط في خصوص التكاليف التحريمية.

2 - الكلام في الجهة الأولى: أن غرض الشارع من النهي عن فعل هو إحداث المانع في نفس المكلف عن ارتكاب متعلق النهي الواصل إليه؛ بحيث يستند ترك المنهي عنه إلى النهي. و هذا يتحقق في موردين.

ص: 353

الأول: أن لا يكون للمكلف داع إلى الترك أصلا و إنما حدث الداعي له إليه بنهي الشارع عنه.

الثاني: أن يكون له داع إلى الترك و لكن لو لا نهي الشارع ربما كانت وسوسة النفس تحمل المكلف على المخالفة، فتتأكد إرادة ترك المنهي عنه بواسطة النهي فيجتنب عن الحرام.

و كيف كان؛ فالنهي عن فعل متروك بنفسه لغو؛ بل يكون من طلب الحاصل المحال، و بهذا يظهر وجه اشتراط تنجيز العلم الإجمالي بكون تمام الأطراف مورد الابتلاء.

و بالجملة: إن الشيء إذا كان بنفسه متروكا بحيث لا يبتلي به المكلف عادة حتى يحصل له داع إلى فعله فلا وجه للنهي عنه لعدم صلاحية النهي لإيجاد الداعي إلى الترك، فيكون النهي لغوا، و اللغو مناف للحكمة فلا يصدر من الحكيم.

3 - الكلام في الجهة الثانية: و هي بيان حكم الشك في الابتلاء، فإذا شك في كون بعض الأطراف خارجا عن مورد الابتلاء من جهة الشك في مفهومه بناء على اعتبار دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء في صحة التكليف. فهل يرجع إلى إطلاقات أدلة التكليف فيحكم بالتنجيز في الطرف المبتلى به، أو إلى أصل البراءة ؟

ذهب الشيخ «قدس سره» إلى الأول بدعوى: أن إطلاق الدليل هو المرجع ما لم يثبت التقييد، فإن مقتضى الإطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي، فلا يجري الأصل في أطرافه.

و ذهب المصنف «قدس سره» إلى الثاني بدعوى: أن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات إنما هو فرع إمكان الإطلاق في مقام الثبوت، و مع الشك في إمكان الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا كما هو الحال في المقام؛ لأن الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء من حيث المفهوم يكون شكا في إمكان الإطلاق بالنسبة إليه. و مع الشك في الإمكان ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الإطلاق إثباتا؛ لأن التمسك بالإطلاق منوط بإحراز صحة إطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، فلا يصح التمسك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه كالابتلاء فيما نحن فيه.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - اعتبار دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء في فعلية الحكم و تنجزه بالعلم الإجمالي.

ص: 354

الثالث (1): أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن تكون 2 - المرجع عند الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء هو: أصل البراءة لا إطلاق الدليل.

=============

التنبيه الثالث في الشبهة غير المحصورة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه: بيان أمرين:

الأول: أن ما قيل من كثرة الأطراف بنفسها مانعة عن فعلية التكليف و عن تنجيز العلم الإجمالي فيها مما لا أصل له و لا دليل عليه، و ضمير «أنه» الأول كالثاني للشأن.

الثاني: أن مرجع الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هل هو إطلاق الدليل أم أصالة البراءة ؟

و خلاصة ما أفاده المصنف «قدس سره» في الأمر الأول: هو عدم الفرق بين الشبهتين مع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال. و عرفت سابقا: أن المدار في تنجيز العلم الإجمالي للتكليف إنما هو فعلية التكليف من جميع الجهات لا قلة أطرافها، فلو كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا تنجز بالعلم الإجمالي، من دون تفاوت بين أن تكون الأطراف محصورة أو غير محصورة، فلا ينبغي حينئذ عقد مقامين للشبهة الموضوعية التحريمية أحدهما: للمحصورة و الآخر لغير المحصورة كما و صنعه الشيخ، و اختار في الثاني منهما عدم وجوب الاحتياط، و استدل عليه بوجوه ستة أولها الإجماع، راجع «دروس في الرسائل، ج 3، ص 275».

و كيف كان؛ فالمدار في تنجيز العلم الإجمالي عند المصنف إنما هو فعلية التكليف لا قلة الأطراف كما يقول الشيخ «قدس سره».

نعم؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو غيرهما مما لا يكون التكليف معه فعليا، فلا يجب حينئذ الاحتياط؛ لكن يمكن طروء هذه الموانع في الشبهة المحصورة أيضا، فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط.

و لذا يقول المصنف: بعدم تفاوت بين الشبهتين مع فعلية التكليف بمعنى: أنه يجب الاحتياط فيهما معها.

و لكن الشيخ «قدس سره» بحث عنها مفصلا، و ذهب إلى عدم وجوب الاحتياط فيها من ناحية كثرة الأطراف، و تبعه غيره من الأعلام، فالمسألة حينئذ ذات قولين على الأقل. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

و أما الأمر الثاني الذي أشار إليه بقوله: «و لو شك في عروض الموجب» فتوضيحه

ص: 355

أطرافه محصورة، و أن تكون غير محصورة (1).

نعم؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها (2)، أو ارتكابه (3)، أو ضرر (4) فيها أو غيرهما (5) مما لا يكون...

=============

يتوقف على مقدمة و هي: أن في المسألة صورتين:

الأولى: أن يكون دليل التكليف المعلوم بالإجمال لفظيا مطلقا كقوله: «اجتنب عن المغصوب»، و يستلزم الاجتناب عن الجميع ضررا ماليا، و يكون الشك في جريان نفي الضرر هنا من جهة عدم العلم بحدود مفهومه و قيوده، فإن كان المقام من موارد الضرر المنفي في الشريعة المقدسة كانت القاعدة حاكمة و موجبة لسقوط العلم الإجمالي حينئذ عن التأثير، و إن لم يكن من موارده أو شك في كونه من موارده كان المعلوم فعليا منجزا.

الثانية: أن يكون دليل الحكم المعلوم إجمالا لبيا كالإجماع أو لفظيا مجملا و اشتبه المحرم بين أطراف غير محصورة، و شك في استلزام الاجتناب عن الجميع لعروض مانع عن التكليف من العسر و الحرج و نحوهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المرجع في الصورة الأولى هي قاعدة الاشتغال، و هي لزوم الاجتناب عن جميع الأطراف إلا ما علم كونه مستلزما للضرر أو الحرج أو نحوهما.

و المرجع في الثانية أصالة البراءة للشك في التكليف الفعلي مع احتمال ارتفاعه بالمانع.

و الفرق بين الصورتين: أن الدليل إذا كان لبيا كما في الصورة الثانية لا يجب الأخذ إلا بالمتيقن منه، و هو ما علم ثبوته، و عدم عروض شيء من الموانع حتى ما يشك في مانعيته. هذا بخلاف الدليل اللفظي كما في الصورة الأولى، فإن إطلاقه محكم و به يدفع احتمال قيدية المشكوك و يثبت به الحكم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) سيأتي بيان بعض ما قيل في تحديد عدم الحصر.

(2) هذا في الشبهة التحريمية، كما إذا تردد إناء الخمر بين ألفي إناء مثلا.

(3) أي: ارتكاب كل الأطراف، و هذا في الشبهة الوجوبية؛ كما إذا تردد زيد العالم الواجب إكرامه بين ألفي شخص مثلا.

(4) بالجر عطف على «عسر»، و ضمير «فيها» راجع على «موافقته» أي: موجبة لضرر في الموافقة القطعية.

(5) أي: غير العسر و الضرر من موانع فعلية التكليف؛ كخروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء.

ص: 356

معه (1) التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا، و ليس (2) بموجبة لذلك (3) في غيره، كما أن نفسها (4) ربما تكون موجبة لذلك (5) و لو كانت (6) قليلة في مورد آخر (7).

فلا بد (8) من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه (9)

=============

(1) الضمير راجع على الموصول في «مما» المراد به مانع فعلية التكليف غير العسر و الضرر، و «بعثا، أو زجرا» قيدان للتكليف.

(2) عطف على «موجبة» و في بعض النسخ «و ليست» يعني: أن كثرة الأطراف قد تكون موجبة لأحد موانع الفعلية في مورد، و لا تكون موجبة في غير ذلك المورد، فلا تلازم بين كثرة الأطراف و بين وجود بعض موانع الفعلية، و الأولى أن يقال: «و غير موجبة لذلك في غيره».

(3) يعني: لا تكون كثرة الأطراف موجبة للعسر في غير ذلك المورد، مثلا لو اشتبهت حبة من الحنطة النجسة في ألف حبة لا يوجب الاجتناب عن الألف عسرا.

(4) أي: نفس الموافقة القطعية ربما تكون موجبة لذلك العسر.

(5) يعني: لأحد موانع الفعلية، و لو كانت الأطراف قليلة، بمعنى: أنه قد يتفق عروض أحد موانع الفعلية في صورة قلة الأطراف أيضا، كما إذا اشتبه الماء المطلق بين إناءين مثلا، و كانت الموافقة القطعية بالتوضؤ بهما معا موجبة للعسر أو الضرر.

(6) كلمة لو وصلية، فالمعنى و لو كانت الأطراف قليلة في مورد آخر، يعني: غير المورد الذي أوجبت فيه كثرة الأطراف عروض بعض الموانع عن فعلية التكليف.

(7) كما لو كانت المخابز في البلد خمسين و علمنا بنجاسة أحدها، فإنّ الاجتناب عن الجميع مقدمة للموافقة القطعية موجب للعسر، و بهذا تبين: أن ليس للعسر الذي هو مناط لسقوط التكليف ميزان خاص، فقد تكون الأطراف كثيرة و لا يوجب الاجتناب عسرا، و قد تكون الأطراف قليلة و يوجب الاجتناب عسرا، فليس المناط هو المحصورة و غير المحصورة و إنما المناط هو العسر و الضرر و الخروج عن محل الابتلاء كما تقدم.

(8) الظاهر عدم الحاجة إليه، إذ المستفاد من كلامه: أن التكليف من البعث أو الزجر لا يكون فعليا مع أحد هذه الموانع، فقوله: «فعلا» مستدرك فحق العبارة أن تكون هكذا:

مما لا يكون معه التكليف البعثي أو الزجري فعليا. الأولى أن تكون العبارة هكذا: فلا بد من ملاحظة أنه يكون في هذا المورد ذلك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أو لا يكون عن فعلية التكليف، كما في هامش «منتهى الدراية، ج 6، ص 112».

(9) أي: الموجب، و الأولى أن يقال: «و أنه يكون»، و «يكون» في المواضع الثلاثة

ص: 357

يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون (1) مع كثرة أطرافه، و ملاحظة (2) أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى.

و لو شك (3) في عروض الموجب فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان (4)؛ و إلا (5) فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي.

هذا (6) هو حق القول في المقام.

=============

تامة، يعني: هل يوجد المانع الفعلية في ذلك المورد مطلقا أي: من غير فرق بين قلة الأطراف و كثرتها، أم يوجد المانع مع كثرة الأطراف فقط.

(1) هذا عدل لقوله: «أنه يكون...».

(2) أي: مع ملاحظة أن الموجب لرفع فعلية التكليف يوجد مع أية مرتبة من مراتب الكثرة و لا يوجد مع أية منها؛ إذ يمكن أن يكون ذلك الموجب مع بعض المراتب لا جميعها، و ضمير «أنه» راجع على الموجب، و ضمير «أطرافه» راجع على «المعلوم بالإجمال»، و ضمير «كثرتها» راجع على الأطراف.

(3) هذا هو الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه في بداية هذا التنبيه، و هو بيان حكم الشك في ارتفاع فعلية التكليف من جهة الشك في طروء الرافع لها مثل الضرر و العسر مثلا.

توضيح ذلك: أنه بناء على ما تقدم من منجزية العلم الإجمالي بفعلية التكليف في الشبهة غير المحصورة أيضا، فإذا شك في أن الاجتناب عن جميع الأطراف هل يستلزم الضرر المنفي أو العسر و الحرج الشديدين حتى يرتفع التكليف به أم لا؟ ففي المسألة صورتان، و قد تقدم توضيح المسألة بكلتا صورتيها، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

و أضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(4) أي: لو ثبت إطلاق، ف «كان» هنا تامة. يعني: فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان إطلاق في المقام، فيقال أن قوله تعالى: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ مطلق و لا يعلم وجود عسر في المقام رافع لهذا التكليف فالمرجع هو الإطلاق.

(5) أي: و إن لم يكن إطلاق في البين، كما إذا كان الدليل لبيا أو لفظيا مجملا، فالمرجع أصالة البراءة؛ لكون الشك في التكليف.

(6) أي: التفصيل في رعاية المعلوم بالإجمال و عدمها بين ما إذا ثبت بدليل لفظي مطلق، و بين ما إذا ثبت بغيره من إجماع و غيره، فالمرجع هو لزوم الاحتياط على الأول،

ص: 358

و ما قيل (1) في ضبط المحصور و غيره لا يخلو من الجزاف.

=============

و أصالة البراءة في الثاني. و هكذا التفصيل بين كون التكليف فعليا من جميع الجهات و بين عدم كونه كذلك حيث يجب الاحتياط على الأول، من دون فرق بين الشبهة المحصورة و بين الغير المحصورة، و لا يجب الاحتياط على الثاني كذلك.

(1) في تعريف الشبهة غير المحصورة لا يخلو من الجزاف؛ إذ لا دليل على شيء من التعريفات المذكورة، مضافا إلى ورود الإشكال فيها.

توضيح ذلك: أنه قد عرفت الشبهة غير المحصورة بوجوه:

منها: أن غير المحصورة ما يعسر عده.

و فيه أولا: أنه إحالة إلى أمر غير منضبط؛ لاختلاف الأشخاص و الأزمان في تحقق العسر بالعد.

و ثانيا: أن العسر قد يعد بالنسبة إلى بعض الأشياء من الشبهة غير المحصورة؛ كتردد شاة محرمة بالغصب أو غيره بين عشرة آلاف شاة، و قد لا يعد من الشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى بعضها الآخر، كتردد حبة واحدة متنجسة من الحنطة مثلا بين مائة ألف حبة، فإن العسر مع تحققه في كليهما لا يوجب كون المثال الثاني من الشبهة غير المحصورة.

و ثالثا: أن التحديد بالعسر ناظر إلى ما يرفع الحكم، و من المعلوم: أن المناط حينئذ هو لحاظ ذلك العنوان الرافع بالنسبة إلى عمل المكلف، فالعسر يرفع الفعل العسري أو الترك كذلك. و أما عسر العد مع عدم العسر في الفعل أو الترك فلا تصلح لرفع الحكم حتى يناط به حد الشبهة غير المحصورة.

و منها: أن الشبهة غير المحصورة ما تعسر موافقتها القطعية.

و فيه أولا: أنه تعريف باللازم الأعم؛ لعدم اختصاص العسر المزبور بالشبهة غير المحصورة، إذ قد يتفق ذلك في المحصورة أيضا.

ثانيا: أن عسر الامتثال اليقيني لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي حتى يرفع التكليف رأسا كما هو المقصود في غير المحصورة؛ بل يوجب التنزل إلى الإطاعة الاحتياطية الناقصة.

ثالثا: أنه لا انضباط لاختلافه بحسب الأشخاص و الأزمان، فالإحالة إليه إحالة إلى أمر مجهول.

و منها: أن الضابط هو الصدق العرفي، فما صدق عليه عرفا أنه غير محصور ترتب عليه حكمه.

ص: 359

و فيه أولا: أن الرجوع إلى العرف في تشخيص المفاهيم إنما يكون في الألفاظ الواقعة في الأدلة الشرعية لترتيب ما لها من الأحكام عليها، و من المعلوم: أن لفظ «غير المحصورة» لم يقع في شيء من تلك الأدلة حتى يرجع في تشخيص مفهومه إلى العرف، بل هو اصطلاح مستحدث من الأصوليين.

و ثانيا: أن الرجوع إلى العرف لا يوجب تميز ضابط غير المحصور عن المحصور؛ إذ ليس له معنى متأصل عندهم، بل هو من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص و الأزمان، فلا جدوى في الرجوع إليهم في تعيين ما هم فيه مختلفون.

و هناك تعريفات كثيرة للشبهة غير المحصورة تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

فالمتحصل: أن ما ذكر لها من الضوابط و التعريفات لا يخلو من الجزاف؛ لما عرفت من عدم دليل على شيء منها، مضافا إلى ما ورد من الإشكال على كل واحد منها.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الغرض من عقد هذا التنبيه بيان أمرين:

الأول: أن ما قيل من كون كثرة الأطراف مانعة عن فعلية التكليف و عن تنجيز العلم الإجمالي فيها مما لا أصل له و لا دليل عليه.

الثاني: أن مرجع الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هل هو إطلاق الدليل أم أصالة البراءة ؟

2 - خلاصة بيان الأمر الأول هو: عدم الفرق بين الشبهتين في وجوب الاحتياط مع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال؛ بل المدار في تنجيز العلم الإجمالي هو فعلية التكليف من جميع الجهات لا قلة الأطراف، فلا ينبغي حينئذ عقد مقامين أحدهما للشبهة المحصورة و الآخر لغير المحصورة كما صنعه الشيخ «قدس سره» نعم؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو غيرهما مما لا يكون التكليف معه فعليا، فلا يجب حينئذ الاحتياط؛ لكن يمكن طروء هذه الموانع للشبهة المحصورة أيضا فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط.

و لكن الشيخ «قدس سره» قال بعدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة، و تبعه غيره من الأعلام، فالمسألة ذات قولين.

ص: 360

3 - و أما خلاصة بيان الأمر الثاني: - و هو بيان حكم الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف من العسر و نحوه -.

و إن لم يكن من موارده، أو شك في كونه من موارده: كان المعلوم بالإجمال فعليا منجزا.

فتوضيحه يتوقف على مقدمة و هي: أن دليل التكليف المعلوم إجمالا على قسمين:

الأول: أن يكون لفظيا مطلقا نحو: «اجتنب عن المغصوب»، و كان الاجتناب عن جميع الأطراف مستلزما لضرر مالي، و يكون الشك في جريان نفي الضرر هنا من جهة عدم العلم بحدود مفهومه و قيوده.

فإن كان المقام من موارد الضرر المنفي في الشريعة: كانت القاعدة حاكمة و موجبة لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير.

القسم الثاني: أن يكون الدليل لبّيا كالإجماع أو مجملا و اشتبه الحرام بين أطراف غير محصورة، و شك في استلزام الاجتناب عن الجميع لعروض مانع عن التكليف من العسر و الحرج و نحوهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المرجع في القسم الأول هي قاعدة الاشتغال، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف، و في القسم الثاني أصل البراءة للشك في التكليف الفعلي.

4 - و ما قيل في ضبط المحصور و غيره لا يخلو عن الجزاف؛ إذ لا دليل على شيء من الضوابط المذكورة للحصر و عدمه، مضافا إلى ما ورد من الإشكال على كثير منها كما يظهر من مراجعة الكتب المبسوطة.

5 - نظريات المصنف «قدس سره»:

1 - عدم الفرق بين الشبهة المحصورة و غير المحصورة في وجوب الاحتياط إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات.

2 - الملاك في وجوب الاحتياط هو: فعلية التكليف لا الحصر، و قلة أطراف العلم الإجمالي.

3 - المرجع عند الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هو: إطلاق الدليل إن كان و إلا فأصل البراءة.

4 - عدم صحة ما ذكر م الضوابط للشبهة غير المحصورة.

ص: 361

الرابع (1): أنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف، مما يتوقف

=============

التنبيه الرابع في حكم ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي

التنبيه الرابع في حكم ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي(1) الغرض من عقد هذا التنبيه هو: بيان حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة التي تنجز فيها التكليف، سواء كانت محصورة أم غيرها، و إن اشتهر في الألسنة و الكتب:

جعل العنوان ملاقي الشبهة المحصورة.

قال في العروة: «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة»(1). إلا إن هذا الاشتهار مبني على مذاق القوم الذين جعلوا مدار تنجيز العلم الإجمالي على حصر الأطراف، دون المصنف «قدس سره» الذي جعل مداره على فعلية التكليف كما عرفت في التنبيه الثالث، فعلى هذا المسلك يتعين جعل العنوان ملاقي بعض أطراف الشبهة التي تنجز فيها التكليف؛ محصورة كانت أم غيرها.

و كيف كان؛ فينبغي قبل الخوض في البحث بيان ما هو محل الكلام في هذا التنبيه فيقال: إن الكلام إنما هو فيما إذا كانت الملاقاة مختصة ببعض الأطراف لا جميعها؛ إذ لو فرضنا أن شيئا لا في جميع الأطراف فهو معلوم النجاسة تفصيلا و خارج عن محل الكلام، و كذا لو فرضنا شيئين لاقى أحدهما طرفا من العلم الإجمالي و الآخر لاقى الطرف الآخر، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن كلا الملاقيين، كوجوب الاجتناب عن نفس الطرفين. فهذا الغرض أيضا خارج عن محل الكلام.

هذا تمام الكلام في بيان ما هو محل الكلام و النزاع.

و كيف كان؛ فقد وقع الخلاف في حكم ملاقي بعض المشتبهين بالنجس، بمعنى: أنه هل يحكم بتنجس ملاقيه مطلقا أم لا يحكم بتنجسه مطلقا، أم فيه تفصيل ؟ وجوه؛ بل أقوال:

الأول: ما حكي عن العلامة في المنتهى و ابن زهرة في الغنية من تنجس الملاقي و وجوب الاحتياط مطلقا.

الثاني: ما ذهب إليه المشهور من عدم تنجس ملاقي النجس مطلقا.

الثالث: ما أفاده المصنف في الكفاية من التفصيل بين صور ثلاث.

هذا بيان مجمل الوجوه و الأقوال في المسألة. و أما وجه هذه الأقوال فيقال: إن القول الأول و الثاني مبنيان على أن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس هل هو من شئون الحكم و هو وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - من جهة الملازمة عرفا، بين وجوب

ص: 362


1- العروة الوثقى 114:1 /المسألة 154.

على اجتنابه (1) أو ارتكابه (2) حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في الاجتناب عن النجس، و بين وجوب الاجتناب عن ملاقيه، أو من جهة تحقق الموضوع و هو التنجس بالملاقاة.

=============

فعلى الأول: يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين؛ و ذلك لتحقق الحكم بوجوب الاجتناب في الملاقى - بالفتح - و المفروض: أن الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - من شئون الحكم بوجوبه عن الملاقى - بالفتح - و الملازمة بينهما و على الثاني لا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - و ذلك لعدم العلم لملاقاته للجنس؛ لأن المفروض:

أن الحكم بوجوب الاجتناب في الملاقي تابع لتحقق نجاسته بالملاقاة مع النجس و هي مشكوكة، فتجري فيه أصالة الطهارة و الحلية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن هذه الصور الثلاث تختلف حكما، بمعنى: أنه لا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - في الصورة الأولى؛ بل يجب الاجتناب عن

ص: 363

الملاقى - بالفتح - فقط. و يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح - في الصورة الثانية.

و يجب الاجتناب عنهما معا في الصورة الثالثة.

و أما وجه كل واحدة من هذه الصور الثلاث فيتوقف بيانه على مقدمة: و هي بيان أمور:

1 - أن هناك خطابات عديدة في الشرع نحو: «اجتنب عن النجس» و «اجتنب عن المتنجس» و «اجتنب عن ملاقي النجس» و «اجتنب عن ملاقي المتنجس» و «اجتنب عن ملاقي جميع أطراف العلم الإجمالي بالنجس».

و المورد الأول: هو ما إذا لاقى ثوب المكلف بالإناء الأحمر مثلا، ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي - بالكسر - و هو الثوب أو الإناء الأبيض حين كون المكلف غافلا عن ملاقاة الثوب مع الإناء الأحمر، فتنجز التكليف بوجوب الاجتناب عن الثوب - و هو الملاقي - و عن الإناء الأبيض بهذا العلم الإجمالي، ثم علم إجمالا بنجاسة الإناء الأحمر أو الإناء الأبيض.

و هذا العلم الإجمالي الثاني لا يؤثر في وجوب الاجتناب عن الإناء الأبيض لما في

ص: 364

البين دون غيرها و إن كان حاله حال بعضها (1) في كونه محكوما بحكم (2) واقعا.

و منه (3) ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم المقدمة من أن المنجز لا يتنجز؛ إذ وجوب الاجتناب فيه قد تنجز بالعلم الإجمالي الأول، فلا يجري فيه الأصل و يجري الأصل في جانب الإناء الأحمر بلا معارض، فلا يجب الاجتناب عنه و هو - الملاقى - بالفتح - على الفرض، فالنتيجة هي: وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - و هو الثوب دون الملاقى - بالفتح - و هو الإناء الأحمر.

=============

و المورد الثاني هو ما إذا علم بملاقاة ثوب المكلف بالإناء الأحمر مثلا، ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى - و هو الإناء الأحمر - أو الطرف الآخر و هو الإناء الأبيض حين خروج الإناء الأحمر عن مورد الابتلاء، فيجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - و هو الثوب دون الملاقى - بالفتح - و هو الإناء الأحمر؛ لكونه خارجا عن مورد الابتلاء، و قد عرفت في المقدمة اعتبار الدخول في مورد الابتلاء في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

فحاصل الكلام في الصورة الثانية هو: وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - في الموردين دون الملاقى - بالفتح -.

و الصورة الثالثة: هي ما إذا علم بملاقاة ثوب المكلف بالإناء الأحمر، ثم علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين أعني: الأحمر أو الأبيض، فيجب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى معا، و ذلك لكون العلم الإجمالي متعلقا بالأطراف الثلاثة دفعة واحدة؛ إذ تصبح حينئذ جميع الأطراف - و هي الملاقي و الملاقى و الطرف الآخر - من أطراف العلم الإجمالي، فيجب الاجتناب عن الجميع. هذا هو معنى وجوب الاجتناب عنهما معا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المقام.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: بعض الأطراف، و ضميرا «حاله، كونه» راجعان على «غيرها».

(2) الصواب «بحكمه» باتصال الضمير به، يعني: و إن كان حال ذلك الغير المغاير للأطراف - و هو الملاقي - حال بعض الأطراف و هو الملاقى بحسب الواقع من حيث الطهارة أو النجاسة.

(3) أي: و مما ذكرناه - من اختصاص حكم العقل بلزوم الاجتناب من باب المقدمة العقلية بخصوص الأطراف دون غيرها كالملاقي لبعضها - ظهر: أنه يجب التفصيل في حكم الملاقي لبعض أطراف النجس المعلوم إجمالا بالاجتناب تارة عن الملاقي دون ملاقيه، و أخرى بالعكس، و ثالثة عن كليهما، فالصور ثلاث، و قد عرفت بيانها تفصيلا.

ص: 365

بالإجمال، و أنه (1) تارة: يجب الاجتناب عن الملاقى (2) دون ملاقيه، فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها (3)،...

=============

(1) عطف تفسيري للحال و الضمير للشأن.

(2) بالفتح كالإناء الأحمر في المثال المذكور في مقام توضيح كلام المصنف «قدس سره». قوله: «فيما» متعلق ب «يجب».

(3) أي: بين الأطراف، و هذا بيان للصورة الأولى، و قد عرفت حالها و نزيدها توضيحا، فنقول: إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين المفروض أحدهما أحمر و الآخر أبيض، ثم علم بملاقاة ثوب للأحمر مثلا، وجب الاجتناب عقلا عن خصوص الطرفين دون الثوب الملاقي لأحدهما؛ لعدم كون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم إجمالا المردد بين الإناءين. و احتمال نجاسة الملاقي و إن كان موجودا؛ إلا إنه على تقدير نجاسته يتوقف وجوب الاجتناب عنه على خطاب آخر غير الخطاب المعلوم بالإجمال و هو «اجتنب عن ملاقي النجس»، و لما كانت ملاقاة النجس مشكوكة لأنه لاقى محتمل النجاسة و لم يلاق النجس المعلوم فتوجه خطاب آخر أعني:

«اجتنب عن الملاقي للنجس» إلى المكلف غير معلوم، و مقتضى الأصل الموضوعي أعني:

استصحاب عدم الملاقاة للنجس أو الأصل الحكمي كاستصحاب الطهارة أو قاعدتها هو عدم وجوب الاجتناب عنه لسلامة أصله من التعارض و الحكومة، فإن الشك في نجاسته و إن كان ناشئا من الشك في نجاسة الملاقي و مسببا عنه، و مقتضى حكومة الأصل السببي على المسببي عدم جريان الأصل فيه؛ إلا إن سقوط أصل الملاقى بالمعارضة مع أصل طرفه أوجب سلامة الأصل و جريانه في ملاقيه بلا مانع من التعارض و الحكومة.

لا يقال: إنه يحدث بالملاقاة علم إجمالي آخر طرفاه الملاقي - بالكسر - و هو الثوب في المثال المذكور و عدل الملاقى - بالفتح - و هو الإناء الأبيض، و هو يوجب الاجتناب عن الملاقي أعني: الثوب أيضا، و لا يجري الأصل النافي فيه للتعارض، كما لا يجري في الأصلين.

فإنه يقال: إن هذا العلم الإجمالي و إن كان يحدث حينئذ قطعا؛ لكنه غير مؤثر في توجيه الخطاب بالملاقي، لتنجز أحد طرفيه - أعني به عدل الملاقى - بمنجز سابق و هو العلم الإجمالي الأول الدائر بين الأصلين، فلا أثر للعلم الإجمالي الثاني في تنجزه من جديد؛ لعدم تنجز المنجز ثانيا.

هذا مجمل الكلام حول عدم تنجز التكليف بالعلم الإجمالي الثاني بالنسبة إلى الملاقي.

ص: 366

فإنه (1) إذا اجتنب عنه و طرفه (2) اجتنب عن النجس في البين قطعا، و لو (3) لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه (4) على تقدير نجاسته لنجاسته (5) كان فردا آخر من النجس قد شك في وجوده كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر (6).

و منه (7) ظهر: أنه لا مجال لتوهم أن...

=============

(1) هذا تعليل لوجوب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه، و قد عرفت توضيحه مفصلا. و ضمير «فإنه» إما راجع على المكلف، و إما للشأن.

(2) بالجر عطف على ضمير «عنه» و ضمير «عنه» راجعان على الملاقى.

و المراد بقوله: «عن النجس» هو النجس المعلوم إجمالا.

(3) كلمة «لو» وصلية، يعني: حتى إذا لم يجتنب عن الملاقي، و لكن اجتنب عن الملاقى و طرفه؛ لما عرفت: من أن ملاقيه على تقدير نجاسته فرد آخر للنجس، و ليس مما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال حتى يشمله خطابه و يتوقف امتثاله على اجتناب ما يلاقي بعض الأطراف.

(4) تعليل لتحقق امتثال خطاب «اجتنب عن النجس» بمجرد الاجتناب عن الأصلين، من دون توقفه على الاجتناب عن الملاقي.

(5) أي: لنجاسة الملاقى، و ضميرا «فإنه، نجاسته» راجعان على الملاقي، و قوله:

«كان» خبر «فإنه».

(6) يعني: كشيء آخر لا علاقة له بالطرفين و لا بالملاقي، حيث لا يجب الاجتناب عنه فيما إذا شك في نجاسته بسبب آخر غير ملاقاته ببعض أطراف العلم الإجمالي؛ كما إذا شك - بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بالبول مثلا - في نجاسة العباءة بالدم أو غيره، فإن من الواضح عدم توقف اليقين بامتثال «اجتنب عن النجس» المردد بين الإناءين على اجتناب العباءة؛ لتعدد الخطاب.

هذا كله بناء على أن يكون الاجتناب عن الملاقي للنجس للتعبد و كونه موضوعا آخر. و أما بناء على السراية فسيأتي فانتظر.

(7) أي: و من كون الملاقي لبعض الأطراف على تقدير نجاسته بإصابته للنجس واقعا فردا آخر للنجس، لا علاقة له بأطراف المعلوم بالإجمال حتى يتوقف امتثاله على اجتنابه أيضا ظهر: أنه لا وجه لتوهم اقتضاء نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس لوجوب الاجتناب عن ملاقيه، بدعوى: أن الملاقي من شئون الملاقى.

و هذا الكلام من المصنف إشارة إلى القول بوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس

ص: 367

المعلوم بالعلم الإجمالي «و لذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية(1) على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2). و يدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار من الاستدلال على حرمة الطعام الذي ماتت فيه فارة بأن الله سبحانه حرم الميتة، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه...»(3).

و كيف كان؛ فلا بد أوّلا من بيان ما استدل به على توهم وجوب الاجتناب عن الملاقي، و ثانيا من الجواب عن الاستدلال عليه.

و حاصل الاستدلال على التوهم هو: دعوى الملازمة بين المتلاقيين في الحكم، و قد قيل في وجه ذلك أمران:

أحدهما: ظهور الآية المباركة في الملازمة بين وجوب هجر عين النجس و الاجتناب عنه، و بين وجوب هجر ما يلاقيه، و لو لا هذا الظهور لم يتجه استدلال السيد أبي المكارم «قدس سره» - على انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة و وجوب الاجتناب عنه - بالآية الشريفة.

وجه الظهور: لزوم هجر النجس بتمام شئونه و توابعه، و من توابعه ملاقيه فيجب هجره أيضا.

ثانيهما: رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر «عليه السلام» قال «أتاه رجل فقال: وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله ؟ قال: فقال أبو جعفر «عليه السلام»: لا تأكله، فقال له الرجل: الفارة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، فقال «عليه السلام»: إنك لم تستخف بالفارة و إنما استخففت بدينك، إن الله حرّم الميتة من كل شيء»(4).

و تقريب دلالتها على المدعى - أعني به: كون نجاسته الملاقي للميتة عين نجاسة الميتة و حرمته عين حرمتها - هو: أن الإمام «عليه السلام» علل حرمة أكل السمن الملاقي للميتة بقوله: «إن الله حرم الميتة من كل شيء»، فلو لا أن وجوب الاجتناب عن الشيء مستلزم لوجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضا لم يكن لهذا التعليل وجه، ضرورة: أن أكل الطعام

ص: 368


1- غنية النزوع: 42.
2- المدثر: 5.
3- فرائد الأصول 239:2.
4- تهذيب الأحكام 1327/420:1، الاستبصار 60/24:1.

قضية (1) تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا (2).

ضرورة (3): أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه (4) لا تنجز الاجتناب عن الملاقي للميتة ليس استخفافا بتحريم الميتة؛ بل هو استخفاف بحرمة أكل ملاقي الميتة الثابت بدليل آخر، فالتعليل بحرمة الميتة لا يتجه إلا بكون حرمة ملاقي الميتة هي حرمة نفس الميتة.

=============

و المتحصل: أن مقتضى هذا الأمر و الوجه هو نجاسة الملاقي. و عليه فلا بد من الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

هذا تمام الكلام في توضيح الاستدلال على توهم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

فأما الجواب عن الاستدلال المذكور: فلمنع كلا الأمرين:

فأما الأمر الأول: فلأن الأمر بالهجر تعلق بعين الرجز، لا بما هو أعم من العين و الملاقي.

و أما الأمر الثاني: فلضعف الرواية سندا و دلالة.

و أما الأول: فبعمرو بن شمر، حيث أن النجاشي(1) ضعّفه بقوله: «ضعيف جدا».

و أما الثاني: فبأن ظاهرها الملازمة بين حرمة الشيء سواء كان نجسا أم طاهرا و بين حرمة ملاقيه؛ لأن الميتة المحرمة لا تختص بالنجسة و هي ميتة الحيوان الذي له نفس سائله، و ليس هذا هو المدعى الذي استدل عليه بهذه الرواية؛ بل المدعى هو الملازمة بين نجاسة الشيء و نجاسة ملاقيه، فالاستدلال بها على المطلوب منوط باختصاص الحرام بما إذا كان نجسا، و أما إذا كان طاهرا - كميتة الحيوان الذي ليس له دم سائل - فلا يكون ملاقيه حراما و واجب الاجتناب، و هذا خارج عن طريق الاستدلال بالرواية.

و عليه: فبعد قصور الدليل عن إثبات نجاسة الملاقي تعيّن الالتزام بمذهب المشهور من كون نجاسة الملاقي و وجوب الاجتناب عنه لأجل التعبّد الخاص، لا لتبعيته للملاقى أو بمذهب المصنف من التفصيل بين الصور الثلاث كما عرفت توضيح ذلك.

(1) أي: أن مقتضى مثل: «و الرجز فاهجر» هو الاجتناب عن النجس المعلوم إجمالا بين الطرفين، و عن الملاقي لأحدهما، فضمير «عنه» راجع على الملاقي.

(2) يعني: كما يجب الاجتناب عن الملاقى.

(3) تعليل لقوله: «لا مجال» و حاصله: منع الاقتضاء المزبور، لما عرفت من بطلان مبنى هذا القول.

(4) هذا الضمير و ضمير «به» راجعان على النجس.

ص: 369


1- رجال النجاشي: 765/287، خلاصة الأقوال: 6/378.

فرد آخر (1) لم يعلم حدوثه؛ و إن احتمل.

و أخرى (2): يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو علم إجمالا نجاسته (3) أو نجاسة شيء آخر، ثم حدث العلم بالملاقاة و العلم (4) بنجاسة الملاقي أو ذاك الشيء (5) أيضا (6)، فإن (7) حال الملاقي في هذه الصورة بعينها بعين ما لاقاه في الصورة السابقة

=============

(1) و هو الملاقي، و «لم يعلم» صفة ل «فرد آخر» يعني: لم يعلم بعلم إجمالي منجز، و إلا فكون الملاقي موردا لعلم إجمالي آخر حادث بينه و بني طرف الملاقى غير قابل للإنكار؛ لكنه لا أثر له بعد تنجز العلم الإجمالي الأول الحاصل بين الملاقى و طرفه. و قد عرفت: أن من شرائط مجزية العلم الإجمالي عدم سبق تنجز التكليف إلى بعض الأطراف بمنجّز شرعي أو عقلي. و ضمير «حدوثه» راجع على فرد آخر و ضمير «احتمل» راجع على حدوثه.

و قد تحصل مما أفاده المصنف في الصورة الأولى و هي الاجتناب عن الملاقى: أن الملاقي على تقدير تنجسه بالملاقاة موضوع آخر لخطاب وجوب الاجتناب، و مخالفة هذا الخطاب و موافقته أجنبيتان عن إطاعة خطاب الملاقى و عصيانه كما عرفت مفصلا.

(2) عطف على قوله: «تارة»، و إشارة إلى الصورة الثانية و هو وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، و اقتصر المصنف في الفوائد على ذكر المورد الثاني المذكور هنا، و لم يتعرض للمورد الأول، و لما كان حكمه بلزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي مستبعدا في بادئ النظر، إذ الملاقي هو المنشأ لاحتمال نجاسة الملاقي و وجوب الاجتناب عنه، فالحكم به في الملاقي دون الملاقى كأنه من قبيل زيادة الفرع على الأصل، كان اللازم بيان مقصود المصنف «قدس سره»، كما هو حقه حتى يظهر حال بعض الإشكالات التي توجهت عليه، و قد ذكر «قدس سره» لهذه الصورة الثانية موردين، و تقدم الكلام فيها فلا حاجة إلى تكرارهما، و قد أضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(3) الضمير راجع على الموصول في «عما لاقاه» المراد به الملاقي، و ضمير «دونه» راجع على الملاقي.

(4) هذا هو العلم الإجمالي الثاني الذي في المثال السابق بين الإناء الأحمر و الأبيض فاقدا لشرائط التنجيز.

(5) المراد به عدل الملاقي و هو الإناء الأبيض في المثال المتقدم، و فرضنا أن الملاقى هو الإناء الأحمر و الملاقي هو الثوب.

(6) يعني: كما حصل العلم الإجمالي أولا بين الملاقي و طرفه أي: الإناء الأبيض.

(7) تعليل لقوله: «يجب الاجتناب عما لاقاه دونه» و الوجه في كون الملاقى في هذه

ص: 370

في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي (1)، و أنه (2) فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا، لا إجمالا و لا تفصيلا (3). و كذا (4) لو علم بالملاقاة، ثم حدث الصورة كالملاقي في الصورة السابقة في عدم الاجتناب عنه ما تقدم من تنجّز وجوب الاجتناب عن طرفه و هو الإناء الأبيض بالعلم الإجمالي الأول الحادث سابقا بينه و بين الملاقي أعني: الثوب، فيكون العلم الإجمالي الثاني الحادث لاحقا بين الملاقى أي:

=============

الأحمر و طرفه أي: الأبيض فاقدا لصفة التنجيز بالنسبة إليهما، فلا يجب الاجتناب عنهما بلحاظ هذا العلم، و إنما يجب الاجتناب عن الإناء الأبيض باعتبار كونه طرفا للعلم الإجمالي الأوّل المنجّز.

(1) أي: العلم الإجمالي المنجّز.

(2) عطف على «عدم»، و ضميره و ضمير «كونه» راجعان على الملاقى.

(3) أما تفصيلا: فواضح، و أما إجمالا: فلما عرفت من عدم كون الملاقى طرفا لعلم إجمالي منجّز.

(4) يعني: يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، و هو إشارة إلى المورد الثاني من الصورة الثانية، و هي ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى و هو حصول العلم بالملاقاة، ثم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقي، و خروج الملاقى عن محل الابتلاء، و صيرورته مبتلى به ثانيا، توضيحه: أن إذا علمنا - في المثال السابق - بنجاسة الثوب أو الإناء الأحمر ثم بملاقاة الثوب للإناء الأحمر في الساعة الأولى، و خرج الإناء الأحمر الملاقى عن محل الابتلاء، ثم علمنا في الساعة الثانية بنجاسة الثوب الملاقي أو الإناء الأبيض، ثم صار الأبيض مبتلى به ثانيا وجب الاجتناب عن الثوب الملاقي و الإناء الأبيض دون الإناء الأحمر الملاقى.

و الوجه في ذلك: أما وجوب الاجتناب عن الثوب و الإناء الأبيض فلتنجز العلم الإجمالي الثاني الحاصل في الساعة الثانية بين نجاسته و نجاسة الإناء الأبيض، فيكون الاجتناب عن كل منهما مقدمة علمية لامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» المردد بينهما. و أما عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى - أي: الإناء الأحمر - فلعدم توجه تكليف اليد، لعدم كونه طرفا لعلم إجمالي منجز، أما بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأول الذي كان بينه و بين الثوب فلخروجه عن محل الابتلاء، و قد عرفت في التنبيه الثاني: أن الخروج عن محل الابتلاء مانع عن فعلية التكليف، و أن من شروط تنجز العلم الإجمالي الابتلاء بجميع الأطراف، و أما بالنسبة إلى العلم الثاني الحاصل في الساعة الثانية بين

ص: 371

العلم الإجمالي، و لكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حالة حدوثه (1)، و صار مبتلى به بعده. و ثالثة: يجب الاجتناب عنهما (2) فيما لو حصل العلم الإجمالي ملاقيه - أعني: و بين الإناء الأبيض فهو و إن كان منجزا، لكنه - أي: الملاقى ليس طرفا له.

=============

و أما بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأول - بعد صيرورته مبتلى به ثانيا - فلأن تنجز العلم الإجمالي الثاني يكون مانعا عن تنجزه، لما عرفت سابقا من: أن المنجّز لا يتنجز ثانيا، و لا يحدث بضمه - بعد الابتلاء به ثانيا - إلى الأبيض فردا آخر من المشبه يكون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثال علم إجمالي منجز، لاحتمال أن يكون النجس الواقعي هو الإناء الأبيض، فلا يعلم حدوث خطاب ب «اجتنب عن النجس» مردد بينه و بين الإناء الأبيض حتى يكون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثاله.

فالمتحصل: أن العلم الإجمالي في هذا المورد الثاني من الصورة الثانية غير منجز بالنسبة إلى الملاقى، كما كان كذلك في المورد الأول منها، و كالملاقي في الصورة الأولى.

فإن قلت: العلم الإجمالي بوجود النجس بين الملاقى و الطرف قد حصل حسب الفرض، و هو يقتضي تنجز وجوب الاجتناب عنهما فعلا بشرط الابتلاء بهما، فإذا حصل الشرط و دخل الملاقى في الابتلاء فقد أثر العلم أثره، و إلا لزم انفكاك العلة التامة - و هو العلم الإجمالي بوجود النجس عن معلولها و هو التنجيز، أو عدم كون العلم بوجود النجس المبتلى علّته، و هو خلف.

قلت: التكليف بوجوب الاجتناب عن النجس الواقعي المردد بين الملاقي - الثوب - و طرفه قبل الابتلاء بالملاقى - و هو الإناء الأحمر - منجز يجب الاجتناب عن طرفيه من باب المقدمة العلمية، و بعد الابتلاء بالملاقي لم يعلم حدوث تكليف آخر بالاجتناب عن الملاقي أو الطرف حتى ينتجز بحصول شرط التنجيز و هو الابتلاء، لفرض قصور هذا العلم عن التأثير بعد تنجّز حكم الطرف بالعلم الأول، فلا مقتضى لتنجيز العلم الثاني الحاصل بين الملاقى المبتلى به و طرفه، فضلا عن يكون علّة تامّة له حتى يجب الاجتناب عن الملاقي من باب المقدمة العلمية. و تركنا ما في المقام من التطويل في الكلام رعاية للاختصار.

(1) أي: حدوث العلم الإجمالي، و ضمير «بعده» راجع على حدوثه، و اسم «صار» ضمير راجع على الملاقى.

(2) أي: عن الملاقى و الملاقي. و قوله: «و ثالثة» إشارة إلى الصورة الثالثة التي حكم المصنف «قدس سره» فيها بوجوب الاجتناب عن المتلاقيين و الطرف، و هو فيما إذا كانت

ص: 372

بعد العلم بالملاقاة، ضرورة (1): أنه حينئذ (2) نعلم إجمالا إما بنجاسة الملاقى و الملاقي، أو بنجاسة شيء آخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، و هو الواحد (3) أو الاثنان (4).

=============

الملاقاة قبل العلم الإجمالي بوجود النجس بين الملاقى و طرفه، كما إذا علم أولا بملاقاة ثوب للإناء الأحمر، ثم علم إجمالا بإصابة النجس - قبل الملاقاة - لأحد الإناءين الأحمر و الأبيض، فيجب الاجتناب عن الجميع، للعلم بتعلق خطاب الاجتناب إما عن الملاقي و الملاقى و هما الثوب و الإناء الأحمر، و إما عن الإناء الأبيض الذي هو طرف الملاقى، فيجب الاجتناب عن كل واحد من الثلاثة مقدمة لحصول العلم بموافقة خطاب «اجتنب عن النجس أو المتنجس» المفروض تنجزه بهذا العلم الإجمالي.

فالمقام نظير العلم الإجمالي بإصابة النجس لإناء كبير أو لإناءين صغيرين في كونه موجبا لوجوب الاجتناب عن الثلاثة.

و عليه فتقدم العلم بالملاقاة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي و طرفه يجعل المتلاقيين معا طرفا من أطراف العلم الإجمالي، و المفروض عدم وجود المانع من منجّزية هذا العلم؛ لعدم تنجز التكليف قبله بمنجز آخر في بعض الأطراف حتى لا يؤثر هذا العلم الذي له أطراف ثلاثة في التنجيز.

و هذا بخلاف الصورتين المتقدمتين، فإنه قد سبق التنجز إلى الملاقي و الطرف في الصورة الأولى، و إلى الملاقي و الطرف في الصورة الثانية.

و بالجملة: فالعلم الإجمالي هنا بالنسبة إلى الجميع من المتلاقيين و الطرف منجز بلا إشكال.

(1) تعليل لوجوب الاجتناب عن المتلاقيين و طرف الملاقى، و قد عرفته.

(2) يعني: حين حدوث العلم بالملاقاة الحاصل قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

(3) كالإناء الأبيض في المثال، و ضمير «هو» راجع على «النجس».

(4) و هما المتلاقيان، كالثوب و الإناء الأحمر في المثال المذكور.

لكن هذا إذا كان الملاقي - بالكسر - في حال العلم محلا للابتلاء، أما لو لم يكن كما لو لاقى الأحمر إناء فعلمت في حال كون ذلك الإناء خارجا عن محل الابتلاء بنجاسة الواحد أو الاثنين، ثم صار محلا للابتلاء وجب الاجتناب عن الإناءين الأحمر و الأبيض دون ذلك الملاقي - بالكسر - لما تقدم في الصورة الثانية القائلة بوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح.

ص: 373

و الكلام في المقام يحتاج إلى بسط خارج عن وضع هذا المختصر، فتركنا ما في المقام من بسط الكلام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان ما هو محل الكلام في هذا التنبيه فيقال: إن الكلام إنما هو فيما إذا كانت الملاقاة مختصة ببعض الأطراف؛ لأن ملاقي جميع الأطراف معلوم النجاسة، فيكون خارجا عن محل النزاع، و كذا فرض الملاقيين بأن يكون لكل طرف ملاق حيث لا إشكال حينئذ في وجوب الاجتناب عن كلا الملاقيين كوجوب الاجتناب عن نفس الطرفين، فهذا الفرض أيضا خارج عن محل الكلام.

2 - قد وقع الخلاف في حكم ملاقي بعض أطراف المشتبهين بالنجس.

فهناك وجوه؛ بل أقوال:

الأول: ما حكي عن العلامة في المنتهى و ابن زهرة في الغنية من تنجّس الملاقي و وجوب الاحتياط مطلقا.

الثاني: ما عن المشهور من عدم تنجّس ملاقي النجس مطلقا.

الثالث: ما هو مختار المصنف «قدس سره» من التفصيل بين صور ثلاث.

ثم القول الأوّل و الثاني مبنيان على أن وجوب الاجتناب عن النجس هل هو من شئون الحكم و هو وجوب الاجتناب عن الملاقى أو من جهة تحقق الموضوع و هو التنجّس بالملاقاة ؟ فعلى الأول: يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين لتحقق الحكم بوجوب الاجتناب في الملاقى.

و على الثاني: لا يجب الاجتناب عن الملاقي؛ و ذلك لعدم العلم بالملاقاة للنجس؛ لأن المفروض: أن الحكم بوجوب الاجتناب في الملاقي تابع لتحقق نجاسته بالملاقاة مع النجس و هي مشكوكة، فتجرى فيه أصالة الطهارة و الحلية.

3 - أما الاستدلال على القول بوجوب الاجتناب عن الملاقي فلوجهين:

أحدهما: ظهور الآية المباركة - أعني: قوله تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ - في الملازمة بين هجر عين النجس و هجر ما يلاقيه.

وجه الظهور: لزوم هجر النجس بتمام شئونه و توابعه، و من توابعه ملاقيه فيجب هجره أيضا.

ص: 374

ثانيهما: رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر «عليه السلام» حيث فيها قوله «عليه السلام»: «إن الله حرم الميتة من كل شيء»، بتقريب: أن الإمام «عليه السلام» علل حرمة أكل السمن الملاقي للميتة بقوله: «إن الله حرم الميتة من كل شيء» فلو لا وجوب كون الاجتناب عن الشيء مستلزما لوجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضا لم يكن لهذا التعليل وجه، فالتعليل بحرمة الميتة لا يتجه إلا بكون حرمة ملاقي الميتة هي حرمة نفس الميتة.

و عليه: فلا بد من الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

الجواب عن الاستدلال المذكور: هو المنع عن كلا الوجهين:

أمّا الاستدلال بالآية المباركة: فلأن الأمر بالهجر تعلق بعين الرجز لا بما هو أعم من العين و الملاقي.

4 - توضيح ما هو مختار المصنف «قدس سره» من التفصيل يتوقف على مقدمة و هي: بيان صور ثلاث:

الأولى: هي ما إذا تقدم العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين و تأخرت الملاقاة و العلم بها، ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن الملاقى دون الملاقي.

الثانية: هي ما إذا لاقى ثوب الإناء الأحمر، ثم غفل المكلف عن هذه الملاقاة إلى أن علم إجمالا بنجاسة الثوب أو الإناء الأبيض، ثم ارتفعت الغفلة و علم بالملاقاة سابقا، ثم علم إجمالا بالعلم الإجمالي الثاني بنجاسة الإناء الأحمر أو الأبيض، فوجب الاجتناب عن الملاقي - الثوب - و الإناء الأبيض دون الملاقى و هو الإناء الأحمر. هذا هو المورد الأول.

و المورد الثاني: هو ما إذا لاقى ثوب أحد الإناءين ثم علم إجمالا بنجاسته أحدهما، و قد خرج الملاقى - بالفتح - عن محل الابتلاء حين العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، فوجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في هذين الموردين.

الثالثة: هي ما إذا لاقى ثوب أحد الإناءين، ثم علم إجمالا بنجاسته أحدهما مع فرض كلا الإناءين محل الابتلاء، فيجب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى معا.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

هو التفصيل بين الصور الثلاث:

1 - وجوب الاجتناب عن الملاقى دون الملاقي في الصورة الأولى.

2 - وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في الصورة الثانية.

3 - وجوب الاجتناب عنهما معا في الصورة الثالثة.

ص: 375

المقام الثاني (1):

في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، و الحق أن العلم الإجمالي بثبوت

=============

المقام الثانى الأقل و الأكثر الارتباطيان

اشارة

(1) يعني: من الشك في المكلف به، فإن المقام الأول منه كان في دوران الأمر بين المتباينين، و المقام الثاني منه يكون في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: بيان أمور:

الأول: بيان الفرق بين المتباينين و الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و حاصل الفرق بينهما: أن المتباينين ما لا ينطبق أحد طرفي الترديد على الطرف الآخر كالظهر و الجمعة و الصوم و الإطعام إذا تردد المكلف به بينهما، و يتحقق الاحتياط بالجمع بينهما.

و أما الأقل و الأكثر: فطرفا الترديد يمكن اجتماعهما بالإتيان بالأكثر، فيتحقق الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

الثاني: هو بيان الفرق بين الأقل و الأكثر الارتباطيين و الأقل و الأكثر الاستقلاليين.

و حاصل الفرق بينهما: أن المركب الارتباطي يتألف من أشياء يكون بين الأوامر المتعلقة بها ملازمة ثبوتا و سقوطا؛ كتلازم الأغراض و الملاكات الداعية إلى تلك الأوامر التي هي أمر واحد حقيقة منبسط على تلك الأشياء. و المركب الاستقلالي يتألف من أشياء يتعلق بها أوامر لا ملازمة بينها ثبوتا و سقوطا؛ بل يكون لكل منها إطاعة مستقلة.

و عليه: فالحكم في المركب الارتباطي واحد و في الاستقلالي متعدد، فأمر التكبير و غيرها من أجزاء الصلاة - التي هي من المركبات الارتباطية - لا يسقط إلا مع سقوط أوامر سائر أجزائها من الركوع و السجود و القراءة و التشهد و التسليم و غيرها من الأجزاء.

و لأجل هذا الارتباط: عدّ المقام من صور الشك في المكلف به، فلو علم إجمالا بوجوب الصلاة و تردد متعلقه بين تسعة أجزاء و عشرة، فإن مقتضى الارتباطية عدم سقوط أمر الصلاة لو أتى بها مجردة عن مشكوك الجزئية على تقدير جزئيته واقعا.

و هذا بخلاف الاستقلاليين، فإن وجود الأكثر - على تقدير وجوبه واقعا - غير معتبر في صحة الأقل و سقوط أمره، فإن الأمر بالأقل نفسي استقلالي أيضا، و يترتب الغرض عليه مطلقا و لو مع عدم تحقق الأكثر؛ نظير الدين و قضاء الفوائت و قضاء صوم رمضان إذا ترددت بين الأقل و الأكثر، فإن أداء الأقل من الدين و قضاء الفوائت و قضاء صوم

ص: 376

شهر رمضان يوجب سقوط أوامرها و إن كان الأكثر واجبا واقعا، و لزم امتثاله أيضا، حيث إن وجوبه استقلالي كوجوب الأقل، فلا يعتبر في سقوطه إطاعة الأمر بالأكثر.

و الحاصل: أن وحدة التكليف في الارتباطيين و تعدده في الاستقلاليين المستلزم لتعدد الإطاعة و العصيان هو الفارق بينهما.

الثالث: أن نزاع الأقل و الأكثر الارتباطيين كما يجري في الشبهات الوجوبية مثل الصلاة كذلك يتصور في الشبهات التحريمية، و يمكن التمثيل له بحرمة تصوير تمام الجسم من ذوات الأرواح، فإن الأقل منهما و هو تصوير بعضه مشكوك الحرمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام في هذا المقام الثاني هو دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين في الشبهات الوجوبية، و أما دوران الأمر بين الاستقلاليين فهو خارج عن محل الكلام؛ لرجوع الشك فيه إلى الشك في أصل التكليف، فتجري فيه البراءة بلا خلاف و إشكال، و كذا دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين في الشبهات التحريمية خارج عن محل النزاع للعلم بحرمة الأكثر، فلا بد من تركه.

و كيف كان فمحل الكلام هو دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين في الشبهات الوجوبية.

و فيه ثلاثة أقوال:

الأول: ما اختاره الشيخ الأنصاري «قدس سره» من جريان البراءة العقلية و النقلية في الأكثر حيث قال: «فالمختار جريان أصل البراءة، و لنا على ذلك حكم العقل و ما ورد من النقل». «دروس في الرسائل، ج 3، ص 402».

الثاني: عدم جريان شيء منهما؛ بل الحكم هو وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر و هو المنسوب إلى المحقق السبزواري على ما حكاه عنه الشيخ بقوله: «بل الإنصاف أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء و الشرائط». «دروس في الرسائل، ج 3، ص 402».

الثالث: التفصيل بين البراءة العقلية و الشرعية، بجريان الثانية دون الأولى، فلا بد من الاحتياط عقلا، و هذا هو مختار المصنف في كفاية الأصول. هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع و مجمل الأقوال في المقام.

و كيف كان؛ فللمصنف دعويان:

الدعوى الأولى: عدم جريان البراءة العقلية.

ص: 377

الدعوى الثانية: جريان البراءة الشرعية.

و الدعوى الأولى مبنية على عدم انحلال العلم الإجمالي بالتكليف إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي؛ لأن أساس القول بالبراءة على الالتزام بانحلال العلم الإجمالي و عدم تأثيره.

و المصنف أنكر الانحلال و قال باستحالته بوجهين:

الأول: أن الانحلال يستلزم الخلف.

و الثاني: أنه يستلزم التناقض حيث يلزم من فرض الانحلال عدم الانحلال و كلاهما محال.

و أما استلزامه الخلف: فلأن المفروض توقف الانحلال على تنجّز وجوب الأقل على كل تقدير، سواء كان الواجب الواقعي هو الأقل أو الأكثر مع إنه ليس كذلك، فإن الواجب الواقعي لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجزا؛ إذ وجوب الأقل حينئذ يكون مقدميا و من باب تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدمة في التنجز، و المفروض:

عدم تنجز وجوب ذي المقدمة و هو الأكثر لجريان البراءة فيه على الفرض، فليس وجوب الأقل ثابتا على كل تقدير، مع أن المعتبر في الانحلال وجوبه كذلك، و هذا خلاف الفرض.

و أما لزوم محذور عدم الانحلال من الانحلال فتوضيحه: أن انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي موقوف على العلم بوجوب الأقل تفصيلا، و هذا العلم التفصيلي موقوف على تنجز وجوب الأقل مطلقا نفسيا كان أو غيريا، و تنجز وجوبه الغيري يقتضي تنجز وجوب الأكثر نفسيا حتى يترشح منه الوجوب على الأقل و يصير واجبا غيريا.

و لا يخفى أن تنجز وجوب الأكثر يقتضي عدم الانحلال، فيلزم من الانحلال عدم الانحلال و هو محال.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول الذي استدل به المصنف على لزوم الاحتياط عقلا.

و أما الوجه الثاني على وجوب الاحتياط عقلا: فقد أشار إليه بقوله: «مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر».

و توضيح الاستدلال بالوجه الثاني على وجوب الاحتياط عقلا يتوقف على مقدمة و هي: أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و الأغراض على مذهب العدلية.

ص: 378

التكليف بينهما (1) أيضا (2) يوجب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر (3)؛ لتنجزه به (4) حيث (5) تعلق بثبوته فعلا.

و توهم انحلاله (6) إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا و الشك في وجوب الأكثر فلا بد من تحصيل غرض المولى بحكم العقل، فيجب الإتيان بما يحققه و يحصل به الغرض.

=============

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن المقام من صغريات الشك في المحصل و هو مجرى الاحتياط بالاتفاق، فيجب الإتيان بالأكثر للزوم تحصيل الغرض، و هو لا يحصل إلا بإتيان الأكثر و هذا معنى الاحتياط في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح استدلال المصنف على وجوب الاحتياط عقلا في المقام، و هناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) أي: بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، و هذا شروع في الاستدلال على مختاره من لزوم الاحتياط عقلا، و أما جريان البراءة شرعا فسيأتي بعد الفراغ من الاستدلال على وجوب الاحتياط عقلا بالوجهين، و قد عرفت توضيحهما على وجوب الاحتياط عقلا فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(2) أي: كما أن العلم بثبوت التكليف بين المتباينين يوجب الاحتياط.

(3) قيل: إن مفروض الكلام هو: ما إذا لم يكن الزائد المحتمل وجوبه من الأركان التي يبطل الكل بتركه مطلقا عمدا أو سهوا أو نسيانا كالركوع في الصلاة؛ بل مثل السورة فيها، لكنه لا يخلو من التأمل؛ إذ لا فرق في جريان البراءة على القول به بين كون مجراها محتمل الركنية أو غيره كما هو مقتضى إطلاق دليلها.

(4) أي: لتنجز التكليف بالأكثر بالعلم الإجمالي.

(5) تعليل لقوله: «لتنجزه» و حاصله: أن علة تنجز التكليف الموجب للاحتياط عقلا هي كون العلم الإجمالي هنا واجدا لشرط التنجيز و هو العلم بالتكليف الفعلي، فلا محيص حينئذ من تحصيل العلم بالفراغ بإتيان الأكثر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(6) أي: انحلال العلم الإجمالي. هذا إشارة إلى كلام الشيخ الأنصاري القائل بالانحلال و جريان البراءة العقلية و النقلية في المقام، و استدل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان

ص: 379

بدوا، ضرورة (1): لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعا أو لغيره كذلك (2) أو عقلا، و بأحاديث البراءة، و ذكرنا أن القول بالبراءة يكون مبنيا على انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالنسبة إلى الأقل، و الشك البدوي بالنسبة إلى الأكثر، فالشيخ يقول بانحلال العلم الإجمالي و صيرورة الشبهة بدوية بالنسبة إلى الأكثر.

=============

«و توهم انحلاله» إشارة إلى قول الشيخ الأنصاري، ثم حكم المصنف بفساد هذا التوهم بقوله: «فاسد» و قد عرفت: فساد الانحلال بالوجهين اللذين تقدم توضيحهما.

و أما توهم الانحلال المستلزم للبراءة بالنسبة إلى الأكثر فتوضيحه: أن العلم الإجمالي بالوجوب النفسي المردد بين الأقل و الأكثر ينحل بوجوب الأقل تفصيلا إما بوجوب نفسي لو كان هو المأمور به، و إما بوجوب غيري لو كان المأمور به هو الأكثر، فاجتمع علمان في الأقل أحدهما العلم التفصيلي بتعلق إلزام المولى، و ثانيهما العلم الإجمالي بوجهه، و هو تردده بين النفسي و الغيري، و المعتبر في الانحلال هو العلم التفصيلي بالإلزام في أحد الطرفين و إن لم يعلم وجهه، إذ الموضوع لحكم العقل باشتغال الذمة هو العلم بذات الوجوب، و أما العلم بخصوصيته فلا يعتبر فيه.

و عليه: فالتكليف بالنسبة إلى الأقل منجز، و يترتب العقاب على مخالفته؛ لكونه مخالفة لما هو واجب على كل تقدير.

فترك الواجب إذا كان من ناحية الأقل ترتب عليه استحقاق العقوبة، بخلاف ما إذا كان تركه من ناحية الأكثر، فإنه لا يترتب عليه استحقاق المؤاخذة؛ لعدم تنجز وجوبه، فالتكليف بالنسبة إليه بلا بيان و هو مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا بحسب حكم العقل. يعني: ما تقدم من الاحتياط بلزوم إتيان الأكثر كان راجعا إلى إثبات أحد جزءي المدعى، و هو جريان قاعدة الاشتغال في الأقل و الأكثر الارتباطيين، و عدم جريان البراءة العقلية فيهما.

و أما إثبات جزئه الآخر و هو جريان البراءة النقلية فيهما فخلاصته: أن البراءة الشرعية تجري في جزئية ما شك في جزئيته؛ لشمول حديث الرفع لها، فترتفع به، و يتعين الواجب في الأقل.

(1) تعليل لقوله: «انحلاله» و بيان له، و قد عرفت توضيحه.

(2) أي: شرعا، و قوله: «لغيره» معطوف على «لنفسه» و ضميراهما راجعان على «الأقل». ثم إن هذا الوجوب الشرعي مبني على كون وجوب المقدمة شرعيا كما قيل

ص: 380

و معه (1) لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر فاسد (2) قطعا؛ لاستلزامه الانحلال لقاعدة الملازمة أو غيرها، و قوله: «عقلا» قيد أيضا ل «غيره» أي: بناء على كون وجوب المقدمة غيريا عقليا.

=============

(1) أي: و مع الانحلال لا يوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر، فضمير «يوجب» راجع على العلم الإجمالي، و ضميرا «تنجزه، كان» راجعان على التكليف.

(2) خبر «و توهم» ورد لكلام الشيخ الأعظم «قدس سره»، و قد أجاب عنه بوجهين:

أحدهما: استلزام الانحلال للمحال و هو الخلف و ما يترتب عليه المحال محال أيضا.

و ثانيهما: التناقض، و قد عرفت توضيح هذين الوجهين.

و أما توضيح الوجه الأول - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 196» - فمنوط بالإشارة إلى أمور:

الأول: أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط و الفعلية و التنجز؛ لأن وجوبها سواء كان بحكم الشرع أم العقل وجوب ترشّحي متفرع في مقام الثبوت على وجوب ذي المقدمة، فيقال: وجب ذو المقدمة فوجبت مقدمته، فلا بد من تنجز حكم ذي المقدمة حتى يتنجز حكم المقدمة، و هذا واضح.

الثاني: أن الخلف محال، مثلا: إذا فرض اشتراط جواز التقليد بعدالة المجتهد، ثم بني على جواز تقليد الفاسق، لزم أن لا يكون ما فرض شرطا له بشرط، و هذا محال للزوم التناقض و هو دخل العدالة و عدمه في جواز التقليد.

الثالث: أن يكون وجوب الأقل غيريا على تقدير وجوب الأكثر نفسيا، بناء على ما قيل من تصوير المقدمات الداخلية.

الرابع: يعتبر في انحلال العلم الإجمالي بالتكليف تنجز الطلب في بعض الأطراف على كل تقدير، حتى يتبدل العلم الإجمالي به بعلم تفصيلي بالتكليف في ذلك الطرف، و شك بدوي في الآخر، و حينئذ: يستقل العقل باشتغال الذمة بالتكليف فيما تنجز فيه و البراءة عما لم يتنجز فيه، فالعلم بوجوب الأقل نفسيا أو غيريا إنما ينحل إذا كان وجوبه المعلوم بالتفصيل منجزا على كل تقدير؛ إذ لو لم يكن كذلك بأن كان منجزا على تقدير وجوبه النفسي، و غير منجز على تقدير وجوبه الغيري؛ لجريان البراءة عن الأكثر المستلزم لعدم تنجز وجوب الأقل غيريا و مقدميا، لما أمكن دعوى اشتغال الذمة به قطعا حتى يرتفع الترديد المقوم للعلم الإجمالي؛ إذ الموجب لاشتغال الذمة هو

ص: 381

المحال، بداهة (1): توقف لزوم الأقل فعلا إما لنفسه أو لغيره (2) على تنجز التكليف التكليف الفعلي المنجز لا الفعلي و لو لم يبلغ مرتبة التنجز، فإذا لم يتنجز وجوب الأكثر لم يتنجز وجوب الأقل الذي هو مقدمة له، و حينئذ فلم يعلم اشتغال الذمة بهذا الأقل على تقدير وجوبه الغيري، و المفروض: أن الانحلال متوقف على القطع بالاشتغال بأحد الطرفين بالخصوص على كل تقدير؛ و إلا فلا مجال له، لتبعية النتيجة لأخسّ المقدمتين كما في علم الميزان.

=============

إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم: أن دعوى انحلال العلم الإجمالي هنا في غير محلها؛ لأنه خلاف الفرض؛ إذ المفروض: توقف الانحلال على تنجز وجوب الأقل على كل تقدير - بمقتضى المقدمة الرابعة - سواء كان الواجب الواقعي هو الأقل أم الأكثر، مع أنه ليس كذلك، فإن الواجب لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجزا؛ لتعبية وجوب المقدمة لوجوب ذيها كما عرفت في الأمر الأول، و المفروض: عدم تنجز وجوب ذيها و هو الأكثر، فيكون تنجز الأقل مختصا بتقدير تعلق الوجوب به لا بالأكثر، مع أن المعتبر في الانحلال تنجز الأقل على كل تقدير، ففي الحقيقة يكون لتنجز الأكثر دخل في الانحلال حتى يكون وجوب الأقل منجزا على كل من تقديري وجوبه النفسي و المقدمي، و ليس له دخل؛ لأن دخله مانع من الانحلال و هذا هو الخلف المحال.

و إن شئت فقل: إن الانحلال الموجب لعدم تنجز وجوب الأكثر موقوف على العلم التفصيلي بوجوب الأقل فعلا، و هذا العلم يتوقف على تنجز وجوب الأقل على كل حال؛ سواء كان الوجوب متعلقا بالأقل أم بالأكثر، و قد فرض عدم تنجز وجوب الأكثر بالانحلال لجريان البراءة فيه.

فدعوى: تنجز وجوب الأقل على كل تقدير تنافي عدم تنجز وجوب الأكثر، فالذي يكون دخيلا في الانحلال هو تنجز الوجوب المتعلق بالأقل فقط، و هو خلاف ما فرضناه من دخل تنجز وجوبه مطلقا؛ و لو كان الواجب هو الأكثر. هذا تقريب إشكال الخلف.

و أما إشكال التناقض: فقد يأتي في كلام المصنف حيث قال: «مع أنه يلزم من وجوده عدمه». و خلاصته: أنه يلزم من وجود الانحلال عدمه، و ما يلزم من وجوده عدمه محال؛ لأنه من التناقض فالانحلال محال، و قد عرفت توضيح ذلك فلا حاجة إلى ذكره ثانيا على نحو التفصيل.

(1) بيان لاستلزام الانحلال المحال و هو الخلف، و قد عرفته بقولنا: «إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن دعوى انحلال العلم الإجمالي...».

(2) هذا و «لنفسه» قيدان ل «لزوم» المقيد بقوله: «فعلا». و «على تنجز» متعلق

ص: 382

مطلقا؛ و لو كان (1) متعلقا بالأكثر، فلو كان لزومه (2) كذلك مستلزما لعدم تنجزه (3)؛ إلا إذا كان متعلقا بالأقل كان (4) خلفا، مع (5) أنه يلزم من وجوده عدمه لاستلزامه (6) ب «توقف» يعني: بداهة توقف وجوبه الفعلي النفسي أو الغيري على تنجز التكليف... الخ.

=============

(1) بيان للإطلاق.

(2) أي: «فلو كان لزوم الأقل مطلقا - و لو كان متعلقا بالأكثر - مستلزما لعدم تنجزه...» الخ.

(3) أي: لعدم تنجز التكليف كما ادعاه الشيخ «قدس سره» في تقريب الانحلال.

(4) جواب «فلو كان»، و قد عرفت تقريب الخلف.

(5) هذا هو الوجه الثاني من الإشكال على الانحلال و هو التناقض، و محصله: أنه يلزم من وجود الانحلال عدمه و ما يلزم من وجوده عدمه محال؛ لأنه من التناقض فالانحلال محال، توضيحه: أن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، و الشك البدوي منوط بالعلم بوجوب الأقل تفصيلا، و هذا العلم التفصيلي موقوف على تنجز وجوب الأقل مطلقا نفسيا كان أو غيريا، و تنجز وجوبه الغيري يقتضي تنجز وجوب الأكثر نفسيا حتى يترشح منه على الأقل و يصير واجبا غيريا؛ لما مر من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في أصل الوجوب و التنجز، مع اقتضاء الانحلال لعدم تنجز التكليف بالأكثر نفسيا المستلزم لعدم تنجز وجوب الأقل غيريا، فإذا لم يكن وجوب الأكثر منجزا - لجريان قاعدة القبح فيه - فلا يتنجز وجوب الأقل أيضا، فيمتنع الانحلال.

و إن شئت فقل: إن لازم الانحلال عدم تنجز وجوب الأكثر على تقدير تعلق الوجوب به، و لازم عدم تنجزه عدم الانحلال؛ لإناطة الانحلال بتنجز وجوب الأقل مطلقا و لو كان الواجب هو الأكثر، فإذا كان تنجز وجوب الأقل في صورة واحدة و هي وجوب الأقل نفسيا، فلا ينحل العلم الإجمالي بالتفصيلي؛ لعدم حصول العلم التفصيلي حينئذ بوجوب الأقل على كل حال؛ بل يبقى العلم الإجمالي على حاله، و مقتضاه:

وجوب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر تفريغا للذمة عن الواجب النفسي المعلوم.

و عليه: فوجوب الأقل ثابت على كل حال، و غير ثابت كذلك، و ليس هذا إلا التناقض، فملاك هذا الإشكال هو التناقض، كما أن ملاك الإشكال الأول هو الخلف.

(6) هذه الضمائر غير ضمير «أنه» الذي هو للشأن راجعة على الانحلال، و قد عرفت وجه الاستلزام؛ إذ معنى الانحلال هو تنجز التكليف في بعض الأطراف بالخصوص، و صيرورة غيره مشكوكا فيه بالشك البدوي، و كون التكليف فيه غير منجز على تقدير تعلقه به.

ص: 383

عدم تنجز التكليف على كل حال (1) المستلزم (2) لعدم لزوم الأقل مطلقا (3) المستلزم (4) لعدم الانحلال، و ما (5) يلزم من وجوده عدمه محال.

نعم (6)؛ إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حينئذ (7) يكون

=============

(1) أي: سواء كان وجوب الأقل نفسيا أم غيريا.

(2) صفة لقوله: «عدم» و الوجه في الاستلزام ما عرفت من: أنه على تقدير عدم تنجز وجوب الأكثر نفسيا استقلاليا ينتفي تنجز وجوب الأقل غيريا؛ لتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في التنجز و عدمه، فيصير الأقل منجزا في صورة واحدة، و هو وجوبه نفسيا لا مطلقا و لو كان غيريا.

(3) أي: و لو كان متعلقا بالأكثر؛ لأن وجوب الأقل حينئذ غيري و ليس بمنجز؛ لعدم تنجز وجوب الأكثر.

(4) بالكسر نعت لقوله: «لعدم»، و الوجه في هذا الاستلزام أيضا واضح؛ إذ لا بد من تنجز وجوب الأقل على كل تقدير حتى ينحل به العلم الإجمالي، و المفروض: عدم تنجزه كذلك كما مر غير مرة.

(5) أي: الانحلال المستلزم للمحال محال أيضا، و هذا هو التناقض، و ضميرا «وجوده، عدمه» راجعان على الموصول المراد به الانحلال.

(6) استدراك على عدم انحلال العلم الإجمالي بالأقل و الأكثر الارتباطيين، و هذا الاستدراك خارج موضوعا عن محل البحث كما سينبه عليه المصنف.

و حاصله: أن الأقل و الأكثر إذا كانا استقلاليين، و علم إجمالا بمطلوبية أحدهما فلا مانع عقلا من انحلاله، فإن المصلحة الملزمة في الأقل تقتضي وجوبه النفسي الاستقلالي؛ لامكان وجود مصلحتين ملزمتين تقوم إحداهما بالأقل و الأخرى بالأكثر، فلو اقتصر على الأقل ترتبت عليه مصلحته، و جرت البراءة عن وجوب الأكثر؛ كتردد الدين بين الدرهم و الدرهمين.

هذا إذا لم يتوقف استيفاء مصلحة الأقل على استيفاء مصلحة أخرى؛ و إلا فمع التوقف أو التلازم لا يستقيم جريان البراءة عن الأكثر الموقوف جريانها على انحلال العلم الإجمالي؛ لتلازم أوامر الأجزاء حينئذ ثبوتا و سقوطا، الموجب لاندراجه في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

(7) أي: فإن وجوب الأقل حين كونه ذا مصلحة نفسية مستقلة - و إن كانت بالنسبة إلى مصلحة الأكثر ضعيفة - يكون معلوما له.

ص: 384

معلوما له، و إنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين (1) أو مصلحة أقوى (2) من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله و إن استقل بالبراءة (3) بلا كلام، إلا إنه خارج (4) عما هو محل النقض و الإبرام في المقام، هذا (5) مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر.

بناء (6) على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور بها و المنهي عنها، و كون (7) الواجبات الشرعية ألطافا في

=============

(1) يعني: غير متلازمتين، و إلا فيجري عليهما حكم الارتباطية؛ لعدم قيام المصلحة بالأقل على فرض كون واجد الملاك واقعا هو الأكثر كما أشرنا إليه.

(2) بلا ملازمة بين مراتب المصلحة المترتبة على الأقل و الأكثر؛ بحيث يمكن استيفاء مصلحة الأقل بدون مصلحة الأكثر.

(3) للشك في تعلق خطاب نفسي آخر بالأكثر غير ما تعلق قطعا بالأقل.

(4) أي: خروجا موضوعيا؛ لأن محل الكلام هو الأقل و الأكثر الارتباطيان، و ليس هذا منهما؛ بل من الاستقلاليين اللذين لا إشكال في استقلال العقل بالبراءة فيهما لكون العلم الإجمالي فيهما صوريا لا حقيقيا؛ لأنه من أول الأمر يعلم تفصيلا بوجوب الأقل و يشك في وجوب الأكثر، فالتعبير بالانحلال فيهما مسامحة.

(5) أي: ما ذكرناه من لزوم الإتيان بالأكثر عقلا في الارتباطيين؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي بالتكليف الدائر بين الأقل و الأكثر.

و محصل هذا الوجه: هو اقتضاء الغرض الداعي إلى التشريع؛ لوجوب الاحتياط بناء على تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها كما عليه مشهور العدلية، فإذا علم المكلف بأمر المولى المتعلق إما بالأقل و إما بالأكثر فقد علم بالغرض الملزم الوحداني المترتب عليه؛ لاستلزام العلم بالمعلول للعلم بالعلة، فيجب عقلا تحصيل العلم باستيفاء ذلك الغرض، و الاقتصار على فعل الأقل لا يوجب العلم باستيفائه؛ للشك في كونه محصلا له، فلا يجوز الاكتفاء به عقلا، بل لا بد في إحراز الغرض اللازم الاستيفاء من الإتيان بالأكثر؛ لكونه محصلا له قطعا.

و بالجملة: فالمقام من صغريات الشك في المحصل و هو مجرى قاعدة الاشتغال.

(6) و أما بناء على حصول الغرض بنفس الأمر لا بفعل المأمور به و ترك المنهي عنه، فلا موجب للاحتياط حينئذ؛ للعلم بحصول الغرض بمجرد إنشاء الأمر.

(7) بالجر عطف على قوله: «تبعية». و حاصله: أن الواجبات الشرعية تقرب العباد

ص: 385

إلى الواجبات العقلية، و هي القرب إليه «جل و علا»، فإن التنزه عن القبائح تخلية للنفس عن الرذائل، و فعل الواجبات تكملة و تحلية لها بالفضائل كما يرشد إليه قوله تعالى:

أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ ، و إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ فالواجب تحصيل اللطف، و هو يتوقف على الإتيان بالأكثر لأنه محصل له قطعا بخلاف الأقل، فإنه يشك معه في تحقق تلك الواجبات العقلية، فلا وجه للاقتصار عليه.

و بعبارة أخرى: أن قوله: «مع أن الغرض الداعي» إشارة إلى الوجه الثاني من المصنف على وجوب الاحتياط عقلا في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن في كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد أقوالا:

الأول: أن مشهور العدلية يقولون: إنها تابعة للمصالح و المفاسد في متعلقاتها، بمعنى:

أن في الصلاة مصلحة ملزمة، و في شرب الخمر مفسدة ملزمة، فوجوب الصلاة تابعة للمصلحة فيها، و حرمة شرب الخمر تابعة للمفسدة فيه.

الثاني: أن بعض العدلية يقول: بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد فيها لا في متعلقاتها، بمعنى: أن أمر الشارع فيه مصلحة، و كذلك نهيه نظير الأوامر الامتحانية.

الثالث: قول الأشاعرة حيث يقولون بعدم كون الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد أصلا، ثم هناك خلاف آخر في علم الكلام، حيث إن العدلية يقولون: بأن أفعال الله معللة بأغراض، و الأشاعرة ينكرون ذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأصوليين من العدلية يقولون بوجوب الاحتياط عقلا في موردين:

الأول: في الشك في محصل عنوان المأمور به نحو عنوان الصلاة مثلا، فإذا شك في تحقق عنوان الصلاة المأمور بها عند ترددها بين الأقل و هو تسعة أجزاء، و بين الأكثر و هو عشرة أجزاء مع العلم بتحقق عنوان الصلاة المأمور بها بالأكثر و هو الإتيان بعشرة أجزاء، فيجب الإتيان بالأكثر احتياطا لتحصيل عنوان المأمور به.

الثاني: في الشك في محصل غرض المولى، فإذا شك المكلف في محصل غرض المولى هل هو الأقل أو الأكثر، مع علمه بأن الإتيان بالأكثر محصل للغرض قطعا، فيجب عليه الإتيان بالأكثر احتياطا للعلم بتحصيل غرض المولى.

ص: 386

الواجبات العقلية (1)، و قد مر (2) اعتبار موافقة الغرض و حصوله (3) عقلا في إطاعة فالمتحصل: أن الشك في المحصل مجرى الاحتياط، سواء كان الشك في محصل عنوان المأمور به أو في محصل غرض المولى الحاصل بإتيان الأكثر؛ لأن الغرض أو المصلحة في المأمور به علة لأمر الشارع، فلا يسقط الأمر إلا بتحققهما، و لا يعلم بتحققهما إلا بإتيان الأكثر، فيجب احتياطا الإتيان بالأكثر حتى يعلم بتحققهما.

=============

(1) توضيح «كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية» يتوقف على مقدمة و هي: بيان ما هو المراد من الكلمات الثلاث، فيقال: إن المراد من الواجبات الشرعية واضح، و هو الصوم و الصلاة و نحوهما. و المراد من الواجبات العقلية هي: الأمور الاعتقادية نحو معرفة الحق تعالى بما له من صفات الكمال و الجلال حتى يحصل القرب بين الواجب تعالى و بين العباد.

و المراد من الألطاف جمع اللطف: ما يكون معه العبد أقرب إلى الطاعة و أبعد من المعصية. هذا معنى اللطف في اصطلاح المتكلمين.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك معنى قوله «قدس سره»: الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية؛ إذ بالواجب الشرعي يكون العبد أقرب إلى الطاعة و أبعد من المعصية، فيحصل له القرب إلى الله بالطاعة و ترك المعصية بعد العلم بالواجب و صفاته «سبحانه تعالى».

فيكون الواجب الشرعي مقربا إلى الواجب العقلي و هو القرب إليه تعالى بالطاعة.

(2) حيث قال في بحث التعبدي و التوصلي في مقام الفرق بينهما: «بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك؛ بل لا بد في سقوطه و حصول غرضه من الإتيان به متقربا به منه تعالى».

و معنى كلامه هنا: أن الغرض لا يسقط في التعبديات، إلا مع قصد الإطاعة، و الإطاعة فيها يتوقف على قصد أمرها، فما لم يقصد أمرها لم يسقط الغرض الباعث على الأمر.

(3) أي: و حصول الغرض «عقلا في إطاعة الأمر و سقوطه»، فإن العقلاء يلومون العبد التارك للغرض و إن أتى بالمأمور به، فلو أمر المولى عبده أن يسد باب البيت و علمنا أن غرضه عدم ضياع ولده، ثم أطاع العبد بسد الباب؛ لكن الولد ألقى بنفسه من السطح في الشارع مما يسبب ضياعه فأهمله العبد، كان ملوما عند العقلاء إذا لم ينقذه من الضياع و إن اعتذر بأنه أطاع الأمر، و أن المولى لم يقل له بأكثر من ذلك.

ص: 387

الأمر و سقوطه، فلا بد من إحرازه (1) في إحرازها كما لا يخفى.

و لا وجه (2) للتفصي عنه تارة: بعدم ابتناء مسألة البراءة و الاحتياط على ما ذهب

=============

(1) أي: إحراز الغرض في إحراز الإطاعة. و حاصله: أن علة الأمر حدوثا و بقاء هو الغرض، فسقوط الأمر موقوف على سقوط الغرض، و من المعلوم: عدم حصول العلم بتحقق الغرض إلا بالإتيان بالأكثر. و ضمير «إحرازها» راجع على «إطاعة».

و كيف كان؛ فما ذكرنا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الوجه الثاني على وجوب الاحتياط عقلا.

(2) يعني: لا وجه للتفصي عن الاستدلال بالغرض. و هذا إشارة إلى ما أجاب به الشيخ عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم تحصيل الغرض، و قد أجاب الشيخ عن الاستدلال المذكور بوجهين:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «تارة: بعدم ابتناء مسألة البراءة...» الخ.

و الثاني: ما أشار إليه بقوله: «و أخرى: بأن حصول المصلحة...» الخ.

و حاصل الكلام في المقام: أن الشيخ «قدس سره» قد أجاب عن برهان الغرض الموجب للاحتياط بفعل الأكثر بوجهين:

الأول: أن الالتزام بوجود الغرض مبني على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في متعلقاتهما و هي أفعال المكلفين، و من المعلوم: أن مسألة البراءة و الاحتياط ليست مبنية على ذلك؛ بل تجري على مذهب بعض العدلية أيضا المكتفي بوجود المصلحة في نفس الأمر الذي هو فعل المولى، و على مذهب الأشعري من عدم التبعية أصلا و لو في نفس الأمر، فيمكن المصير إلى أحد هذين المذهبين، و من المعلوم:

عدم وجود غرض حينئذ حتى يجب إحرازه في إحراز سقوط الأمر المنوط بإتيان الأكثر.

الثاني: أن الغرض بعد تسليم كونه في فعل العبد - كما هو مقتضى مذهب المشهور من العدلية - و إن كان موردا لقاعدة الاشتغال؛ لما اشتهر من عدم جريان البراءة في الشك في المحصل؛ إلا إنه يكون فيما يمكن تحصيل العلم بوجود الغرض، و أمّا فيما لا يمكن للعبد إحرازه فلا، كالمقام، ضرورة: أن حصول المصلحة في العبادات و إن كان منوطا بقصد الإطاعة؛ لكنه يحتمل عدم حصولها بمجرد ذلك، لاحتمال دخل قصد وجه أجزاء العبادة من الوجوب و الندب في تحققها أيضا. و من المعلوم: أن هذا القصد موقوف على معرفة وجه الأجزاء من الوجوب و الندب، و مع الجهل به لا يتمشى قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالغرض.

ص: 388

إليه مشهور العدلية، و جريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين (1) لذلك، أو بعض العدلية المكتفين (2) بكون المصلحة في نفس الأمر (3) دون المأمور به.

و أخرى (4): بأن حصول المصلحة و اللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال، و حينئذ (5): كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال (6)، و معه (7) لا يكاد يقطع بحصول اللطف و المصلحة الداعية و بالجملة: فمرجع هذا الوجه إلى عدم القدرة على تحصيل العلم بوجود الغرض في العبادات، فلا يجب إحرازه، فمن ناحية الغرض لا يبقى وجه لوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر، و حينئذ فلا يبقى في البين إلا التخلص عن تبعة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي، و البيان المسوّغ للمؤاخذة على المخالفة منحصر بالأقل دون الأكثر، فلو كان هو الواجب فالمؤاخذة عليه تكون بلا حجة و بيان، و هو قبيح بالوجدان، فلا ملزم بإتيان الأكثر احتياطا.

=============

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الوجه الأول من جواب الشيخ عن الاستدلال بالغرض على وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «و جريانها» عطف على «عدم ابتناء»، و الضمير راجع على «مسألة البراءة» و «على ما ذهب» متعلق ب «ابتناء».

(1) أي: المنكرون لما ذهب إليه العدلية من قيام الملاكات بالمتعلقات.

(2) الصواب «المكتفى» لكونه صفة ل «بعض» كما أن الصواب «المنكرون».

(3) لا في فعل العبد الذي هو المأمور به حتى يلزم إحرازه؛ بل الغرض قائم بفعل المولى و هو الأمر.

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما الشيخ «قدس سره» عن الاستدلال ببرهان الغرض على وجوب الاحتياط، و قد عرفت توضيح هذا الوجه، فلا حاجة إلى التكرار و الإعادة.

(5) أي: و حين عدم حصول المصلحة إلا بإتيان العبادة على وجه الامتثال. و ضمير «بإتيانها» راجع على «العبادات».

(6) اسم «كان»، و «لاحتمال» خبره و ضمير «أجزائها» راجع على «العبادات»، و ضمير «بها» راجع على «أجزائها».

(7) أي: و مع احتمال اعتبار معرفة الأجزاء لا يكاد يحصل القطع بحصول المصلحة

ص: 389

إلى الأمر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان (1) ما علم تعلقه (2) به، فإنه (3) واجب عقلا و إن لم يكن في المأمور به مصلحة و لطف رأسا؛ لتنجزه بالعلم به (4) إجمالا. و أما الزائد عليه (5) لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته (6)، فإن العقوبة عليه بلا بيان.

و ذلك (7) ضرورة: أن حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري...

=============

بدون قصد وجه الأجزاء، و لا يتمشى هذا القصد مع فرض عدم معرفة وجه الأجزاء، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر من ناحية لزوم تحصيل الغرض.

(1) متعلق ب «التخلص»، و ضمير «مخالفته» راجع على الأمر.

(2) أي: تعلق الأمر، و ضمير «به» راجع على الموصول في «ما علم» المراد به فعل العبد؛ لأنه المتعلق للأمر كالصلاة و الصوم و غيرهما من أفعاله. و المراد ب «ما علم» هو الأقل، و حاصله: أنه بعد عدم إمكان تحصيل الغرض بإتيان الأكثر لا يبقى في البين إلا التخلص عن تبعة مخالفة التكليف، و هو يحصل بفعل الأقل؛ لأنه المنجز بالعلم الإجمالي.

(3) أي: فإن الإتيان بالأقل المعلوم تعلق الأمر به واجب عقلا؛ لكونه إطاعة تجب بحكم العقل، فإن وجوب الإطاعة حكم عقلي، و أمرها الشرعي أمر إرشادي كما هو واضح.

(4) هذا الضمير و ضمير «لتنجزه» راجعان على الأمر، و قوله: «لتنجزه» متعلق بقوله:

«واجب عقلا»، يعني: يجب عقلا الإتيان بمتعلق الأمر - و هو الأقل - لتنجزه بالعلم به إجمالا.

(5) أي: على ما علم تعلق الأمر به و هو الأقل، و المراد بالزائد هو الأكثر.

(6) أي: فلا تبعة على مخالفة الأمر من جهة الزائد؛ لعدم تنجز أمره على تقدير وجوده واقعا، فالعقوبة عليه بلا بيان.

(7) تعليل لقوله: «و لا وجه للتفصي عنه»، و شروع في الإشكال على كلا الجوابين اللذين أجاب بهما الشيخ «قدس سره» عن الاستدلال بالعلم بالغرض.

و ملخص إشكال المصنف على الجواب الأول هو: أن إنكار أصل الغرض بناء على مذهب الأشعري لا يجدي في التخلص عن برهان الغرض على مذهب غيره، نعم هو يجدي من يلتزم بذلك المذهب الفاسد.

و ما أفاده الشيخ من إمكان كون الغرض في نفس الأمر كما عليه بعض العدلية لا في

ص: 390

لا يجدي (1) من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية؛ بل (2) من ذهب إلى ما عليه غير المشهور؛ لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر و مصلحته (3) على هذا المذهب (4) أيضا (5) هو (6) ما في الواجبات من المصلحة، و كونها (7) ألطافا، فافهم (8).

=============

المأمور به - حتى يكون الغرض مشكوك الحصول بالإتيان بالأقل و يوجب ذلك فعل الأكثر - يرد عليه: أن مقصود ذلك البعض من العدلية القائل بتبعية الأمر لمصلحة في نفسه هو ردّ من التزم بوجوب كون المصلحة في المأمور به بأنه يجوز أن تكون المصلحة في نفس الأمر، لا أنه يجب أن تكون في المأمور به، و على هذا فيحتمل أن تكون في المأمور به، و مع هذا الاحتمال لا يمكن الاقتصار على الأقل؛ لعدم العلم بحصول الغرض منه.

(1) لفرض قيام الملاكات بنفس المتعلقات الموجب للاحتياط بإتيان الأكثر.

(2) عطف على «مذهب»، و هو منصوب محلا لكونه مفعولا به ل «لا يجدي» يعني: و لا يجدي هذا التفصي على مذهب غير المشهور أيضا القائل بقيام المصلحة بنفس الأمر، وجه عدم الإجداء ما عرفت آنفا من أن غرض ذلك البعض جواز قيامها بالأمر؛ لا منع قيامها بالمأمور به، و مع احتمال قيامها بالمتعلقات يقضي العقل بالاحتياط بفعل الأكثر.

(3) عطف على الداعي، و ضميره راجع على الأمر، و قوله: «لاحتمال» تعليل لعدم إجداء حكم العقل بالبراءة على مذهب غير المشهور من العدلية، و قد مر توضيحه بقولنا:

«و مع احتمال قيامها بالمتعلقات...» الخ.

و الأولى إضافة كلمة «أيضا» بعد قوله «غير المشهور» كما لا يخفى وجهه.

(4) يعني: مذهب غير المشهور من العدلية.

(5) يعني: كمذهب مشهور العدلية.

(6) أي: الداعي إلى الأمر.

(7) عطف على «المصلحة»، يعني: أن الداعي إلى الأمر هو ما في الواجبات من المصلحة، و من كون الواجبات ألطافا، فقوله: «من المصلحة» بيان للموصول في «ما في الواجبات».

(8) لعله إشارة إلى احتمال أن من ذهب إلى ما عليه غير المشهور لا يقول بالمصلحة إلا في الأمر فقط من غير أن يحتملها في المأمور به، و عليه فكما أن العقل يحكم بالبراءة على مذهب الأشعري المنكر للمصلحة و الغرض، فكذلك يحكم على مذهب بعض العدلية القائل بوجود المصلحة في الأمر دون المأمور به.

ص: 391

و حصول اللطف (1) و المصلحة في العبادة و إن كان يتوقف على الإتيان بها على وجه الامتثال؛ إلا إنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء و إتيانها على وجهها، أو إشارة إلى أن مجرد الاحتمال لا يكفي في لزوم الإتيان بالأكثر؛ لأن الشك حينئذ في الاشتغال لا في الامتثال؛ إذ الشك الشخصي في أن للمولى غرضا في المأمور به، فالمجرى البراءة لا الاحتياط.

=============

أو إشارة إلى أنه بعد احتمال كون الغرض الداعي إلى الأمر على مذهب بعض العدلية هو المصلحة في نفس الأمر لا المأمور به، فلا يكون هنا علم بغرض قائم بفعل حتى يجب عليه إحرازه؛ إذ لو كان قائما بنفس الأمر فليس مقدورا للعبد؛ لعدم كون الأمر فعل العبد؛ و مع احتمال قيام الغرض بالأمر لا ملزم بالاحتياط بفعل الأكثر لا عقلا و لا نقلا.

(1) هذا شروع في الإشكال على الوجه الثاني من جواب الشيخ «قدس سره» من تعذر استيفاء الغرض في العبادات؛ لاحتمال دخل قصد وجه أجزائها في تحققه، فيصير الشك في حصول الغرض الداعي إلى الأمر بدون قصد الوجه شكا في المحصل الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال لا البراءة، لكن يتعذر الاحتياط هنا؛ لعدم المعرفة بوجه الأجزاء حتى يقصد، فلا يبقى إلا الإتيان بما قام عليه البيان، و هو الأقل تخلصا عن تبعة مخالفته.

و المصنف أورد عليه بوجوه:

الأول: ما أشار إليه بقوله: «إلا إنه لا مجال...»، و بيانه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 215» - أن حصول المصلحة في العبادات و إن كان منوطا بقصد الامتثال؛ لكنه لا يتوقف على قصد وجه الأجزاء؛ إذ لا منشأ لاحتمال اعتباره فيها، فإنه مع هذا الاحتمال يخرج المقام - أعني: الأقل و الأكثر الارتباطيين - عن الشك في المكلف به الذي يمكن معه الاحتياط، و يندرج فيما يتعذر فيه الاحتياط، مع أن من الواضح كون الارتباطيين كالمتباينين في إمكان الاحتياط بالإتيان بكلا الطرفين، كما لو دار أمر العبادة بين القصر و التمام، فإنه لو اعتبر في صحة الامتثال الجزم بالوجه لما أمكن فيها الاحتياط؛ لعدم العلم بجزئية ما زاد على المتيقن - و هو الأقل - حتى يقصد المكلف وجوبه، إلا مع التشريع المحرم، فيترتب على اعتبار هذا القصد احتياطا خلاف الاحتياط لعدم التمكن منه، مع أن البحث في المقام و في المتباينين ليس في إمكان الاحتياط؛ بل في لزومه و عدم لزومه بعد الفراغ عن إمكانه كما هو واضح.

ص: 392

كيف ؟ (1) و لا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا (2) كما في المتباينين، و لا يكاد (3) يمكن مع اعتباره، هذا مع (4) وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه...

=============

فحاصل الوجه الأول: أنه لا دليل على اعتبار قصد وجه الأجزاء في العبادة، حتى يتم كلام الشيخ من عدم إمكان الاحتياط بإتيان الأكثر؛ بل الدليل على خلافه موجود، و هو كون المقام كالمتباينين في إمكان الاحتياط كما عرفت.

(1) يعني: كيف يكون لهذا الاحتمال مجال مع أنه لا إشكال في إمكان الاحتياط هنا كالمتباينين ؟ و لا يكاد يمكن الاحتياط مع اعتبار إتيان الأجزاء على وجهها. و الضمير في «إتيانها، وجهها» راجع على الأجزاء و «إتيانها» عطف على «معرفة».

(2) يعني: في الأقل و الأكثر الارتباطيين، و الحاصل: أن الاتفاق على حسن الاحتياط هنا يأبى عن اشتراط إتيان الأجزاء على وجهها.

(3) يعني: و لا يكاد يمكن الاحتياط مع اعتبار إتيان الأجزاء على وجهها، و من المسلم إمكان الاحتياط فيها فهو دليل على عدم اعتبار قصد الوجه فيها.

(4) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي أوردها المصنف على الشيخ.

و محصله: أنه على تقدير اعتبار الجزم بالنية في العبادة ليس المقصود منه اعتباره في كل واحد من الأجزاء؛ بل المقصود منه اعتباره في العبادة في الجملة، و هذا المقدار يمكن تحققه بالاحتياط بإتيان الأكثر بقصد وجوبه النفسي في الجملة بما اشتمل على الأجزاء و الشرائط.

بيانه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 217» - أن القائل بلزوم الإتيان بالعبادة على وجهها من الوجوب و الاستحباب - كما حكي عن العلامة «قدس سره» - إنما يدعي لزوم فعل العبادة الواجبة بقصد وجوبها النفسي، و من المعلوم: أن الاحتياط بفعل الأكثر بقصد مطلوبيته النفسية بمكان من الإمكان، و ليس مقصوده لزوم قصد الوجوب في كل واحد من الأجزاء، إما بالوجوب الغيري المقدمي - كما تضمنه كلام الشيخ «قدس سره» من وجوب الأجزاء ترشحيا غيريا، و إما بالوجوب النفسي الضمني الثابت للأجزاء بواسطة اتصاف الكل بالوجوب؛ لوقوعه تحت الطلب حتى يتعذر الاحتياط بفعل الأكثر، لعدم الجزم بوجوب تمام الأجزاء.

و مع عدم اعتبار قصد وجوب كل واحد من الأجزاء و استحبابه، فللمكلف إيقاع العبادة بنيّة وجوبها النفسي في الجملة أي: بلا تعيين أن فرد الواجب تمام المأتي به أو بعضه كالصلاة المشتملة على السورة مع عدم وجوبها في الصلاة، فتكون السورة

ص: 393

كذلك (1)، و المراد (2) بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه و وجوب (3) اقترانه به: هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري (4) أو وجوبها العرضي (5)،...

=============

كالإتيان بالفريضة في المسجد من مشخصات طبيعة الصلاة و خارجة عن ماهيتها و حقيقتها. فلو كان الأكثر هو الواجب فقد أتى به لاشتمال المأتي به على السورة المشكوكة جزئيتها للعبادة، و لو كان الأقل هو المأمور به فقد أتى به أيضا، و احتمال اشتماله على ما ليس بواجب - و هو السورة - مثلا غير قادح في قصد الوجوب النفسي لطبيعة الصلاة و إن لم يقصد وجوب خصوص الجزء المشكوك فيه، فإن السورة حينئذ كسائر المشخصات الفردية التي ليست دخيلة في مطلوبية الطبيعة، و لا تضر في صدقها على الفرد المتشخص بها للقطع بعدم كونها من الموانع.

نعم؛ لو كان مشكوك الجزئية محتمل المانعية أيضا لكان منافيا لقصد وجوب الفعل المشتمل عليه؛ إلا إن المفروض: أن السورة يدور أمرها بين كونها جزءا للطبيعة، و بين كونها من مشخصات الماهية التي تكون الطبيعة صادقة في صورتي وجود السورة و عدمها، و ليست كالمانع في الإخلال بقصد الوجوب النفسي للصلاة إجمالا، و عليه:

فيكون الأكثر محصلا للغرض من المأمور به.

(1) أي: قصد الوجه في كل واحد من الأجزاء.

(2) الأولى أن يقال: «إذ المراد» لأنه تعليل لوضوح الفساد و ليس وجها آخر. و قصد الوجه لو قيل باعتباره إنما يكون مورده هو الوجوب النفسي المتعلق بعنوان المركب كالصلاة؛ لا الوجوب الغيري أو العرضي لأجزائها.

(3) عطف على «وجوب»، و ضمائر «اقترانه، نفسه، وجوبه» راجعة على الواجب، و ضمير «به» راجع على الوجه.

(4) صفة ل «وجوبها». و هذا إشارة إلى ما قيل في وجوب المقدمة من كونه غيريا، يعني: أن وجوب الأجزاء ليس لمصلحة في نفسها حتى يكون نفسيا؛ بل المصلحة في المركب، فيكون كل واحد من الأجزاء واجبا غيريا، لكونها مقدمة لتحقق الكل، و ضمير «وجوبها» راجع على «أجزائه».

(5) يعني: الوجوب النفسي من الأمر بالكل على كل واحد من الأجزاء، و تسميته بالعرضي إنما هي لأجل كون المتصف بالوجوب أولا و بالذات هو الكل؛ لتعلق الطلب به بقوله: «صلّ »، و وجوب الجزء يكون ثانيا و بالعرض، و ليس المراد بالعرضي ما يساوق

ص: 394

و إتيان (1) الواجب مقترنا بوجهه غاية و وصفا بإتيان (2) الأكثر بمكان من الإمكان؛ لانطباق (3) الواجب عليه و لو كان (4) هو الأقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه (5) و احتمال اشتماله (6) على ما ليس من أجزائه ليس (7) بضائر إذا قصد وجوب المأتي به الوساطة في العروض الذي يصح معه سلب المحمول حقيقة عن الموضوع؛ كما في جالس السفينة المتحركة. و ضمير «وجوبها» راجع على «أجزائه».

=============

(1) مبتدأ خبره قوله: «بمكان من الإمكان».

و غرضه: إثبات إمكان الإتيان بالأكثر بقصد الوجه بعد وضوح: أن قصده على تقدير اعتباره يكون في نفس الواجب لا في أجزائه؛ إذ من المعلوم: أن إتيان صلاة الظهر مثلا بفعل الأكثر بقصد الوجه بمكان من الإمكان؛ لأن المشكوك فيه إن كان مرددا بين كونه جزءا للماهية و جزءا للفرد انطبق طبيعي الواجب على تمام الأجزاء، و إن كان مرددا بين كونه جزءا للماهية أو الفرد و بين كونه مقارنا - إما للغويته أو وجوبه نفسيا أو استحبابه كذلك من قبيل الواجب في الواجب أو المستحب كذلك - انطبق الطبيعي المأمور به إما على تمامه بناء على جزئيته، و إما على ما عدا المشكوك من سائر الأجزاء بناء على عدم جزئيته.

الفرق بين جعل الوجه غاية و بين جعله و صفا: أن في الأول أن ينوي: «أصلي صلاة الظهر لوجوبها»، و في الثاني يقول: «أصلي صلاة الظهر الواجبة» بدل «لوجوبها».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) متعلق ب «إتيان الواجب».

(3) تعليل لقوله: «بمكان من الإمكان»، و ضمير «عليه» راجع على الأكثر.

(4) أي: و لو كان الواجب بحسب الواقع هو الأقل.

(5) يعني: فيتأتى من المكلف مع هذا النحو من الإتيان قصد الوجه.

(6) أي اشتمال الأكثر، هذا إشارة إلى إشكال و دفعه.

أما الإشكال فهو: أنه قد يستشكل فيما أفاده من إمكان إتيان الواجب مقترنا بوجه نفسه بإتيان الأكثر بما محصله: عدم إمكان ذلك؛ لاحتمال اشتمال الأكثر على ما ليس جزءا له، و معه كيف يمكن قصد الوجه بإتيان الأكثر؟

و أما الدفع فملخصه: أن الاحتمال المزبور لا يقدح في تمشي قصد الوجه بإتيان الواجب إجمالا و إنما يقدح في قصد الوجوب بالنسبة إلى كل جزء من أجزاء الواجب.

(7) خبر «و احتمال»، و هو إشارة إلى دفع الإشكال، و قد عرفت توضيح ذلك.

ص: 395

على إجماله (1) بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه، لا سيما (2) إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته و جزءا لفرده، حيث (3) ينطبق الواجب على المأتي به حينئذ (4) بتمامه و كماله؛ لأن الطبيعي (5) يصدق على الفرد بمشخصاته (6).

نعم (7)؛ لو دار بين كونه (8) جزءا أو مقارنا لما كان (9) منطبقا عليه بتمامه لو لم

=============

(1) أي: بلا تعيين أنه الأقل أو الأكثر، و «من أجزائه» بيان ل «ما له دخل».

(2) وجه الخصوصية: أنه جزء قطعا، غاية الأمر: أنه يشك في كونه جزءا للماهية إن كان واجبا، أو جزءا للفرد إن كان مستحبا، و ذلك كالسورة مثلا بالنسبة إلى الصلاة، إذا فرض دورانها بين جزئيتها للماهية إن كانت واجبة، و للفرد إن كانت مستحبة، فعلى تقدير جزئيتها للماهية: فالواجب هو الأكثر، و على تقدير جزئيتها للفرد و كونها من مشخصاته: فالواجب هو الأقل، فالسورة كالاستعاذة حينئذ.

و عليه: فالمراد بجزء الماهية ما تنتفي بانتفائه الماهية كالأجزاء الواجبة، و بجزء الفرد ما ينتفي بانتفائه الفرد كالأجزاء المستحبة و إن لم تنتف الماهية، فالصلاة تصدق مثلا على الواجدة للاستعاذة و الفاقدة لها؛ لعدم كونها من مقومات الطبيعة، بخلاف الأجزاء الواجبة، فإن الفاقد لها لا يكون مصداقا للماهية.

(3) تعليل لقوله: «لا سيما»، و قد عرفت وجه الخصوصية، و أنه لا يكون الزائد لغوا على كل حال، بل هو إما جزء الفرد و إما جزء الماهية.

(4) أي: حين دوران الزائد بين الجزئية للماهية و للفرد.

(5) تعليل لقوله: «حيث ينطبق».

(6) فإن طبيعي الإنسان يصدق على زيد مع أن له مشخصات فردية؛ لكن الصدق باعتبار أنه فرد للحيوان الناطق، و كذا الصلاة جماعة في المسجد من مشخصات الفرد، و يصدق الطبيعي عليه.

(7) استدراك على قوله: «لأن الطبيعي يصدق». و حاصل الاستدراك: أنه إذا دار أمر المشكوك فيه بين كونه جزءا مطلقا - للماهية أو الفرد - و بين كونه خارجا و أجنبيا عن العبادة لم ينطبق الطبيعي عليه بتمامه؛ إذ المشكوك فيه على تقدير عدم جزئيته خارج عن صميم الفعل العبادي و إن لم يكن منافيا له، و إنما هو لغو، و لكن ينطبق الواجب على المأتي به في الجملة، أي: على أجزائه المعلومة، و هو كاف في صحة العبادة.

(8) هذا الضمير و المستتر في «دار» راجعان على المشكوك فيه، و مع احتمال مقارنته لا جزئيته لا وجه لقصد الوجوب به بالخصوص.

(9) جواب «لو دار». و اسم «كان» ضمير راجع على الطبيعي.

ص: 396

يكن جزءا (1)، لكنه (2) غير ضائر؛ لانطباقه عليه أيضا (3) فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا، غايته لا بتمامه (4) بل بسائر أجزائه. هذا مضافا (5) إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس (6) مما يقطع بخلافه.

مع أن (7) الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من (8) العبادات.

=============

(1) لا للماهية و لا للفرد، و ضمير «عليه» راجع على الفرد المأتي به.

(2) أي: لكن عدم الانطباق على المأتي به بتمامه لو لم يكن المشكوك فيه جزءا غير ضائر لانطباق الكلي على المأتي به إجمالا.

(3) أي: كانطباق الكلي على المأتي به في صورة دوران الجزء بين جزئيته للماهية و الفرد.

(4) أي: لا ينطبق الطبيعي على تمام المأتي به؛ بل على ما عدا ذلك الزائد من الأجزاء المعلومة.

(5) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الإشكال و المناقشة في كلام الشيخ «قدس سره».

و حاصله: القطع بعدم دخل قصد الوجه أصلا لا في نفس الواجب و لا في أجزائه، و ما تقدم في الوجه الأول كان ناظرا إلى عدم الدليل على اعتبار قصد الوجه في خصوص الأجزاء.

(6) أي: لا في الواجب و لا في أجزائه، و ذلك لما تقدم منه في مباحث القطع من أنه ليس منه في الأخبار عين و لا أثر، و في مثله مما يغفل عنه غالبا لا بد من التنبيه عليه حتى لا يلزم الإخلال بالغرض.

(7) هذا هو الوجه الرابع من وجوه الإشكال، و حاصله: أن ما تقدم في كلام الشيخ أخص من المدعى؛ إذ المدعى و هو جريان البراءة في الأقل و الأكثر الارتباطيين لا يختص بالعبادات التي يعتبر فيها الإتيان بها على وجه قربي؛ بل يعم التوصليات، لاشتمالها أيضا على المصالح و من المعلوم: عدم اعتبار قصد الوجه في ترتبها على تلك الواجبات، فيتوقف استيفاء الغرض فيها على فعل الأكثر، مع عدم لزوم قصد الامتثال فيها فضلا عن قصد الوجه، و حديث قصد الوجه مختص بالعبادات كما لا يخفى.

(8) بيان للموصول في «بما لا بد أن يؤتى به...»، و ضمير «به» راجع على «ما» الموصول.

ص: 397

مع أنه (1) لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد و الاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلا و لو (2) بإتيان الأقل لو لم

=============

(1) هذا هو الوجه الخامس من الإشكالات، و هو إشكال على كلام الشيخ الذي حكاه المصنف عنه بقوله: «فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به...».

و توضيحه: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 223» - أن قصد الوجه الذي يتوقف عليه حصول الغرض الداعي إلى الأمر لا يخلو إما أن يكون شرطا في حصوله مطلقا حتى مع تعذر الإتيان به من جهة تردد المأمور به بين الأقل و الأكثر المانع من تحقق قصد الوجوب، و إما أن يكون مقيدا بصورة التمكن منه.

فعلى الأول: يلزم سقوط التكليف من أصله؛ لتعذر شرطه الناشئ من الجهل بوجوب كل جزء، و سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز رأسا حتى بالنسبة إلى الأقل؛ لفرض عدم حصول الغرض لا به و لا بالأكثر، فلا عقاب على تركه حتى يجب التخلص منه بفعل الأقل كما أفاده الشيخ «قدس سره».

و على الثاني: يلزم سقوط قصد الوجه عن الاعتبار، و عدم توقف حصول الغرض عليه، و لا بد حينئذ من تحصيل الغرض. و العلم بحصوله منوط بإتيان الأكثر، فيجب عقلا فعله، بداهة: عدم إحراز تحقق المصلحة و الملاك بالأقل، و لا مؤمّن من تبعة التكليف المعلوم إجمالا، فيحتاط المكلف بفعل كل ما يحتمل دخله في حصول الغرض، نظير الشك في المحصل.

قوله: «على وجه» متعلق ب «قصد الوجه»، و ضمير «ينافيه» راجع على قصد الوجه، يعني: إذا كان قصد الوجه المعتبر منوطا بتمييز وجه كل جزء من الأجزاء من الوجوب و الاستحباب، فلا محالة لا يتمشى قصده مع احتمال الجزئية و ترددها؛ لعدم إمكان تمييز الوجه حينئذ حتى يقصد.

قوله: «فلا وجه معه...» جواب لو و «للزوم» متعلق ب «فلا وجه»، و ضمير «معه» راجع على التردد و الاحتمال.

(2) وصلية، و وجه عدم حصول الغرض هو: توقف حصوله على قصد الوجه الموقوف على التمييز، و مع عدم قصد الوجه لا يحصل الغرض؛ لتوقفه على ما ليس بمقدور للعبد أعني: تمييز وجه المشكوك فيه.

و وجه عدم مراعاة الأمر المعلوم إجمالا و لو بإتيان الأقل الذي التزم الشيخ «قدس

ص: 398

يحصل الغرض، و للزم (1) الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله؛ ليحصل (2) القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه (3) مع الأقل بسبب بقاء غرضه، فافهم (4).

=============

سره» بفعله تخلصا عن العقاب هو: ما أوضحناه بقولنا: «فعلى الأول يلزم سقوط التكليف من أصله...» الخ.

(1) عطف على قوله: «فلا وجه معه» يعني: لو قيل باعتبار قصد الوجه على هذا النحو، فإن لم يحصل الغرض سقط العلم الإجمالي عن التأثير حتى بالنسبة إلى الأقل، فلا يجب الإتيان به أيضا، و إن حصل الغرض لزم الإتيان بالأكثر؛ لتوقف يقين الفراغ بعد العلم بالاشتغال عليه؛ إذ مع الاقتصار على الأقل لا يحصل العلم بالفراغ؛ لاحتمال بقاء الأمر بسبب احتمال بقاء غرضه، فلا بد من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بتحقق الغرض.

(2) يعني: أنه بعد فرض إمكان تحصيل الغرض يجب الإتيان بالأكثر، لكون المقام من صغريات قاعدة الاشتغال؛ للشك في الفراغ مع الاقتصار على الأقل، و ضمير «حصوله» راجع على «الغرض».

(3) أي: لاحتمال بقاء الأمر مع الإتيان بالأقل بسبب بقاء غرضه و ضمير «غرضه» راجع على الأمر.

(4) لعله إشارة إلى: أن حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الفرض؛ إذ المفروض: اعتبار قصد الوجه المنوط بمعرفة وجه الأجزاء تفصيلا في العبادة، و مقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو هو: عدم إمكان إحرازه لا بالأقل و لا بالأكثر، فلا موجب للإتيان بالأكثر أيضا كما لا يخفى.

أو إشارة إلى: أن الشيخ «قدس سره» لم يجزم باعتبار قصد الوجه حتى لا يمكن تحصيل الغرض، و يوجب ذلك سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقا حتى بالنسبة إلى إتيان الأقل؛ بل احتمله، حيث قال: «فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل...» الخ.

و من الواضح: أن الاحتمال لا يوجب شيئا من القطع بعدم حصول الغرض، و لا القطع بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. و عليه: فيبقى المجال لمراعاة التكليف المعلوم بالإجمال و لو بإتيان الأقل تخلصا عن تبعة مخالفة الأمر المعلوم إجمالا كما أفاده الشيخ «قدس سره»، فلا يرد عليه خامس الإشكالات.

ص: 399

هذا (1) بحسب حكم العقل.

و أما النقل (2): فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله يرتفع الإجمال و التردد عما تردد أمره بين الأقل و الأكثر و يعيّنه في الأول.

=============

(1) يعني: ما تقدم من الاحتياط بلزوم إتيان الأكثر كان راجعا إلى إثبات أحد جزءي المدعى، و هو جريان قاعدة الاشتغال في الأقل و الأكثر الارتباطيين، و عدم جريان البراءة العقلية فيهما. و أما إثبات جزئه الآخر و هو جريان البراءة النقلية فيهما، فمحصله:

أن البراءة الشرعية تجري في جزئية ما شك في جزئيته؛ لشمول حديث الرفع لها، فترتفع به، و يتعين الواجب في الأقل.

في عدم وجوب الاحتياط شرعا

(2) يعني: و أما النقل فهو يقضي برفع جزئية ما شك في جزئيته.

و بعبارة واضحة: أن جميع ما تقدم من أول البحث إلى هنا كان بيانا لعدم جريان البراءة العقلية. و أما البراءة النقلية فهي تجري عن جزئية ما شك في جزئيته، و هذا هو التفصيل الذي اختاره المصنف، حيث اختار التفصيل بين البراءة العقلية فلا تجري، و البراءة الشرعية فتجري.

فقوله: «و أما النقل» فإشارة إلى الجزء الأخير من تفصيله. و هذا التفصيل اعتراض من المصنف على الشيخ الأنصاري «قدس سره» حيث قال بجريان البراءة عقلية كانت أم نقلية.

و توضيح ما أفاده الشيخ «قدس سره» في البراءة الشرعية هو: جريان حديث الرفع و الحجب و نحوهما في وجوب الجزء المشكوك وجوبه، و أن وجوب الأكثر مما حجب علمه فهو موضوع عن العباد، و لا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقل؛ للعلم بوجوبه المردد بين النفسي و الغيري.

و كيف كان؛ فالمقتضي للبراءة الشرعية موجود، و هو كون المرفوع مجعولا شرعيا مجهولا و في رفعه منّة، و المانع مفقود، فإن المانع إما هو العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل و الأكثر، و إما هو معارضة الأصل مع أصالة عدم وجوب الأقل.

أما الأول: فلارتفاعه؛ لأن هذه الأخبار حاكمة عليه و موجبة لانحلاله، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر المشكوك لو كان هو الواجب واقعا، و معه لا يحكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف الإلزامي في الأكثر من باب المقدمة العلمية.

ص: 400

و أما الثاني: فلعدم كون الأقل موردا للأصل؛ للعلم بوجوبه تفصيلا

المتحصل: هو جريان البراءة مطلقا.

ثم تعرض الشيخ لكلام صاحب الفصول الذي منع من جريان البراءة في التكليف، و حكم بجريانها في الحكم الوضعي، قال: «و التحقيق التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي و هي الجزئية و الشرطية»(1). و ناقش الشيخ فيه بوجوه، قال في جملتها:

«و منع كون الجزئية أمرا مجعولا شرعيا غير الحكم التكليفي، و هو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء». هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام الشيخ «قدس سره».

و المصنف أورد على الشيخ بوجهين من الإشكال تعرض لأحدهما في المتن و للآخر في حاشية الرسائل.

و أما توضيح ما في المتن حيث يكون إشكالا من المصنف على كلام الشيخ ردا لصاحب الفصول حيث قال: بأن أخبار البراءة تدل على نفي الحكم الوضعي كالجزئية و الشرطية دون الحكم التكليفي حيث قال: «و التحقيق التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي و هي الجزئية و الشرطية» فقال الشيخ «قدس سره» ردا عليه بوجوه منها:

ما لفظه: «و منع كون الجزئية أمرا مجعولا شرعيا غير الحكم التكليفي و هو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء»(2)، فلا بد أولا من توضيح إشكال الشيخ على صاحب الفصول. و ثانيا من توضيح إشكال المصنف على الشيخ «قدس سرهما».

و أما توضيح إشكال الشيخ على صاحب الفصول فيتوقف على مقدمة و هي: أن أدلة البراءة تنفي و ترفع ما يكون وضعه بيد الشارع، و كل ما يكون وضعه بيد الشارع كان قابلا للرفع بأخبار البراءة؛ و إلا فلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في تقريب إشكال الشيخ على صاحب الفصول: إن الجزئية ليست مجعولة شرعا، فلا تكون قابلة للرفع بأدلة البراءة، و المجعول شرعا هو الحكم التكليفي كالوجوب و الحرمة و نحوهما.

و أخبار البراءة تنفي ما يكون مجعولا شرعا، فمجراها مختص بالحكم التكليفي، و الجزئية ليست من الأحكام التكليفية فلا تجري فيها البراءة الشرعية.

ص: 401


1- فرائد الأصول 330:2.
2- فرائد الأصول 333:2.

فما ذكره صاحب الفصول من جريانها في الجزئية لا يرجع إلى محصل صحيح.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح إشكال الشيخ على صاحب الفصول.

و أما توضيح إشكال المصنف على الشيخ: فأيضا يتوقف على مقدمة و هي:

أن المجعول على قسمين:

الأول: أن يكون الشيء مجعولا بالأصالة و على نحو الاستقلال كالحكم التكليفي.

الثاني: أن يكون مجعولا بتبع الجعل الشرعي لمنشا انتزاعه كجزئية السورة للمأمور به، حيث تكون مجعولة بتبع جعل وجوب المركب من الأجزاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في توضيح إشكال المصنف على الشيخ إن أدلة البراءة تشمل كلا القسمين. و لا تختص بالقسم الأول لعدم الدليل على اختصاص مجراها بما هو مجعول بالأصالة و الاستقلال، بل يشمل المجعول الانتزاعي و التبعي أيضا، فما أفاده صاحب الفصول من أن أدلة البراءة ترفع جزئية ما شك في جزئيته كالسورة مثلا في محله؛ لأن جزئيتها و إن لم تكن مجعولة بالأصالة بعنوان أنها جزء، و لكنها مجعولة تبعا و بلحاظ منشأ انتزاعها حيث إنه إذا أمر الشارع بمركب من الأجزاء و تكون منها السورة مثلا، يتنزع العقل من ذلك جزئية السورة، فإذا شك في جزئيتها للمركب ترفع بالأصل و لو برفع الأمر عن الأكثر و هو منشأ انتزاعها. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح إشكال المصنف على الشيخ «قدس سرهما».

و أما ما في حاشية الرسائل فهذا لفظه: «يمكن أن يقال: إن وجوب واحد من الأقل و الأكثر نفسيا مما لم يحجب علمه عنا و لسنا في سعة منه كما هو قضية العلم به بحكم العقل أيضا حسب الفرض، و هذا ينافي الحكم على الأكثر على التعيين بأنه موضوع عنا و نحن في سعته، فإن نفي الوضع و السعة عما علم إجمالا وجوبه مع العلم تفصيلا بوجوب أحد طرفيه يستدعي نفيهما عنه، و لو كان هو الطرف الآخر، فلا بد إما من الحكم بعدم شمول هذه الأخبار لمثل المقام مما علم إجمالا وجوب شيء إجمالا، و إما من الحكم بأن الأكثر ليس مما حجب علمه، فإنه يعلم الإتيان به بحكم العقل مقدمة للعلم بإتيان ما لسنا بسعته...». فما ذكر الشيخ من البراءة الشرعية عن الأكثر مما ليس في محله. و في المقام مناقشة تركناها رعاية للاختصار.

و لكن المصنف عدل عن جريان الأصل في التكليف - كما في كلام الشيخ - إلى

ص: 402

لا يقال (1): إن جزئية السورة المجهولة - مثلا - ليست بمجعولة و ليس لها أثر جريانه في الوضع و هو الجزئية - كما في كلام صاحب الفصول -.

=============

في وجه عدول المصنف عن البراءة عن الحكم التكليفي إلى الوضعي

و أما توضيح وجه العدول: فيتوقف على مقدمة و هي: أن الأصل السببي دائما يتقدم على الأصل المسببي من باب الحكومة، بمعنى: أن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الأصل في الحكم التكليفي في الشك في الجزئية مسببي، و الأصل في الجزئية سببي؛ لأن الجزئية موضوع للحكم بوجوب الجزء، فلا تصل النوبة إلى الأصل في نفي وجوب شيء بعد الأصل لنفي جزئية ذلك الشيء؛ لما عرفت من: أن الأصل في جانب الموضوع يكون سببيا، و في جانب الحكم مسببيا، فلا يجري الأصل في جانب الحكم مع وجود الأصل في جانب الموضوع، و لازم ذلك عدم جريان الأصل في جانب الوجوب عند جريان الأصل في نفي الجزئية.

(1) هذا إشكال على جريان البراءة الشرعية في وجوب الأكثر المشكوك فيه بالتقريب الذي ذكره المصنف من جريانها في الوضع و هو الجزئية.

و هذا ناظر إلى ما تقدم نقله من كلام الشيخ في جواب صاحب الفصول «قدهما».

و توضيح الإشكال: أن البراءة إنما تجري فيما إذا كان المجهول أثرا شرعيا؛ لأن مجرى البراءة - على ما قرر في محله - لا بد و أن يكون مما تناله يد الوضع و الرفع التشريعيين، و المفروض: أن الجزئية ليست أثرا شرعيا كحرمة شرب التتن و وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، و لا مما يترتب عليها أثر شرعي. و عليه: فلا مجال لجريان البراءة في الجزئية؛ بل لا بد من إجرائها في التكليف مثل: وجوب الجزء المشكوك فيه أو وجوب الأكثر.

و دعوى: أن الجزئية مما يترتب عليه أثر شرعي و هو وجوب الإعادة - على تقدير كون الواجب الواقعي هو الأكثر - فالبراءة تجري في الجزئية بلحاظ أثرها و هو وجوب الإعادة، مدفوعة:

أولا: بأن وجوب الإعادة أثر لبقاء الأمر الأول أي: الأمر بالأكثر، لا جزئية السورة؛ لأن الأمر بنفسه - ما لم يمتثل - يقتضي الإعادة عقلا دون الجزئية، فالإعادة أثر لبقاء الأمر الأول، لا أثر للجزئية.

و ثانيا: بأن وجوب الإعادة لا يرتفع بمثل حديث الرفع لكونه عقليا من باب وجوب الإطاعة عقلا.

ص: 403

مجعول، و المرفوع (1) بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، و وجوب (2) الإعادة إنما (3) هو أثر بقاء الأمر الأول بعد العلم مع (4) أنه عقلي، و ليس إلا من باب وجوب الإطاعة عقلا.

لأنه يقال (5): إن الجزئية و إن كانت غير مجعولة بنفسها، إلا إنها مجعولة بمنشإ انتزاعها، و هذا (6) كاف في صحة رفعها.

لا يقال (7): إنما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه و هو الأمر و بالجملة: فلا مجال للبراءة في جزئية المشكوك فيه، لعدم كونها أثرا شرعيا و لا مما له أثر شرعي.

=============

(1) الواو للحال، يعني: و الحال أنه يعتبر أن يكون المرفوع بحديث الرفع حكما أو موضوعا لحكم شرعي، فالمراد ب «بنفسه» الحكم و ب «أثره» الموضوع للحكم.

(6) أي: الجعل التبعي للجزئية كاف في صحة جريان البراءة فيها. و ضمير «رفعها» راجع على الجزئية.

ص: 404

الأول (1)، و لا دليل (2) آخر على أمر آخر (3) بالخالي عنه (4).

لأنه يقال: نعم (5)؛ و إن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه؛ إلا إن نسبة حديث توضيح هذا الإشكال - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 234» - هو: أنه بعد جريان أصالة البراءة في الأمر بالأكثر - الذي هو منشأ انتزاع الجزئية - لا يبقى أمر يتعلق بالأقل، و المفروض: عدم دليل آخر يدل على كون الواجب هو الأقل، و أصالة البراءة أيضا لا تثبته إلا على القول بحجية الأصول المثبتة، فلا وجه حينئذ لما أفيد قبيل هذا من «أن عموم حديث الرفع يرفع الإجمال و التردد عن الواجب المردد بين الأقل و الأكثر و يعينه في الأقل»؛ و ذلك لبداهة: ارتفاع الأمر بأصل البراءة و لا أمر آخر يدل على كون الواجب هو الأقل الخالي عما شك في جزئيته.

=============

فالنتيجة: أن البراءة الشرعية لا تجري حتى يثبت أن الواجب هو الأقل و ينحل به العلم الإجمالي؛ بل يجب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر.

(1) و هو الأمر المتعلق بالأكثر المفروض ارتفاعه بحديث الرفع.

(2) أي: و الحال أنه لا دليل آخر على تعلق طلب آخر بالأقل.

(3) يعني: غير الأمر الأول المتعلق بالأكثر المرتفع بحديث الرفع.

(4) أي: بالخالي عما شك في جزئيته، و المراد بالخالي عن المشكوك: هو الأقل.

(5) أي: و إن لم يكن دليل آخر على وجوب الأقل بعد نفي الأكثر بالبراءة؛ إلا إنه يمكن إثبات وجوب الأقل بطريق آخر سيأتي بيانه.

و هذا جواب الإشكال و محصله: - على ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 235» - أن الوجه في ثبوت الأمر بالأقل ليس هو البراءة الشرعية حتى يقال: إن الأصل لا يثبت اللوازم؛ بل الوجه في ذلك هو: الجمع بين أدلة الأجزاء و بين أدلة البراءة الشرعية، حيث إن وجوب الأقل معلوم بنفس أدلة الأجزاء، و وجوب الأكثر منفي بالبراءة الشرعية، فيكون مثل حديث الرفع بمنزلة الاستثناء و تقييد إطلاقها لحالتي العلم و الجهل بجزئية الأجزاء، فإذا فرض جزئية السورة مثلا للصلاة واقعا كان مثل حديث الرفع نافيا لجزئيتها في حال الجهل بها، فكأن الشارع قال: «يجب في الصلاة التكبير و القراءة و الركوع و السجود و التشهد مطلقا علم بها المكلف أم لا، و تجب السورة إذا علم بجزئيتها». و هذا التحديد نشأ من حكومة حديث الرفع على أدلة الأجزاء و الشرائط حكومة ظاهرية موجبة لاختصاص الجزئية بحال العلم بها على نحو لا يلزم التصويب؛ كما مر في بحث أصل البراءة، كما أن إطلاق دليل الجزئية لحالتي التذكر و النسيان يتقيد بفقرة «رفع النسيان» بصورة التذكر.

ص: 405

الرفع الناظر (1) إلى الأدلة على بيان الأجزاء إليها نسبة (2) الاستثناء، و هو (3) معها يكون دالا «دالة» على جزئيتها إلا مع الجهل بها كما لا يخفى. فتدبر جيدا.

=============

و بالجملة: فوجوب الأقل مستند إلى أدلة الأجزاء لا إلى حديث الرفع حتى يتوهم أن إثبات ذلك به يتوقف على القول بالأصل المثبت، و الحديث ينفي خصوص الوجوب الضمني المتعلق بما شك في جزئيته، و لا ينفي تمام الوجوب على تقدير ثبوته للأكثر.

و ضميرا «ارتفاعه، انتزاعه» راجعان على الأمر الانتزاعي، و هذا كارتفاع جزئية السورة بارتفاع منشأ انتزاعه، و هو الأمر الضمني المتعلق بها.

(1) صفة ل «حديث الرفع»، و إشارة إلى الحكومة التي أشرنا إليها بقولنا: «و هذا التحديد نشأ من حكومة حديث الرفع...» الخ. و ضمير «إليها» راجع على «الأدلة».

(2) خبر «أن نسبة» فكأنه قيل: «السورة مثلا واجبة في الصلاة إلا مع الجهل بجزئيتها»، و هذا الاستثناء مفاد حديث الرفع، فبعد انضمامه إلى أدلة الأجزاء يستفاد وجوب الأقل و عدم جزئية مشكوك الجزئية و إن كان جزءا واقعا.

(3) يعني: و حديث الرفع مع أدلة الأجزاء يكون دالا على جزئية الأجزاء إلا مع الجهل بجزئيتها، و هذا محصل الجمع بين أدلة الأجزاء و حديث الرفع الذي جعل كالاستثناء بالنسبة إليها. و ضمير «هو» راجع على «حديث الرفع»، و ضمير «معها» راجع على «الأدلة»، و ضمير جزئيتها راجع على «الأجزاء»، و ضمير «بها» إلى «جزئيتها».

و هنا تطويل الكلام بالنقض و الإبرام تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل الكلام في المقام يتوقف على أمور:

الأول: الفرق بين المتباينين و الأقل و الأكثر الارتباطيين: أن المتباينين ما لا ينطبق أحد طرفي الترديد على الطرف الآخر، بخلاف الأقل و الأكثر، فطرفا الترديد يمكن اجتماعهما بإتيان الأكثر.

الثاني: الفرق بين الارتباطيين و الاستقلاليين: أن الأمر بالمركب يسقط بمقدار الأقل إذا أتى به؛ كتردد ما في الذمة من الدين بين خمسة آلاف ليرة سورية و بين عشرة آلاف، فإذا دفع الخمسة يسقط الدين مقدار الخمسة لو كان الدين عشرة. هذا بخلاف الارتباطيين كالصلاة المرددة بين التسعة الأجزاء و عشرة الأجزاء، فإذا أتى بالتسعة الأجزاء و كان الواجب العشرة الأجزاء تقع الصلاة باطلة.

ص: 406

الثالث: أن نزع الأقل و الأكثر الارتباطيين لا يختص بالشبهات التحريمية؛ بل يجري في الشبهات الوجوبية أيضا.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين في الشبهات الوجوبية.

2 - الأقوال فيه ثلاثة:

الأول: ما اختاره الشيخ الأنصاري من جريان البراءة العقلية و الشرعية في الأكثر.

الثاني: عدم جريان شيء منهما؛ بل الحكم هو وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر كما نسب إلى المحقق السبزواري.

الثالث: التفصيل بين البراءة العقلية و الشرعية بجريان الثانية دون الأولى، فلا بد من الاحتياط عقلا. هذا هو مختار المصنف «قدس سره».

فللمصنف دعويان:

الأولى: عدم جريان البراءة العقلية.

الثانية: جريان البراءة الشرعية.

ثم الدعوى الأولى مبنية على عدم انحلال العلم الإجمالي بالتكليف إلى العلم التفصيلي و الشك البدوي؛ لأن أساس القول بالبراءة على الالتزام بالانحلال، و المصنف أنكر الانحلال و قال باستحالته بوجهين:

الأول: أن الانحلال يستلزم الخلف.

الثاني: أنه يستلزم التناقض، كما عرفت تفصيل ذلك.

3 - و أما توهم الانحلال - كما عن الشيخ «قدس سره» - فتوضيحه: أن العلم الإجمالي بالوجوب النفسي المردد بين الأقل و الأكثر ينحل إلى وجوب الأقل تفصيلا و الشك في وجوب الأكثر فتجري البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر مطلقا؛ لأنه شك في أصل التكليف الزائد.

و قد أجاب المصنف عن هذا التوهم بعدم الانحلال؛ لما عرفت من: أن البراءة مبنية على الانحلال و هو محال؛ لكونه مستلزما للخلف و التناقض.

نعم؛ ينحل العلم الإجمالي في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر؛ لكون الشك فيه شكا في أصل التكليف.

ص: 407

4 - استدلال المصنف على التفصيل بوجهين:

أحدهما: عدم انحلال العلم الإجمالي؛ بل إنه محال لما عرفت: من المحذور العقلي.

هذا هو الدليل على وجوب الاحتياط عقلا.

و ثانيهما: أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يحصل إلا بالأكثر فيجب الإتيان به تحصيلا للغرض، فالمقام يكون من صغريات الشك في المحصل و هو مجرى قاعدة الاشتغال.

5 - جواب الشيخ «قدس سره» عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم تحصيل الغرض بوجهين:

الأول: الالتزام بالغرض مبني على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في متعلقاتهما، و مسألة البراءة و الاحتياط ليست مبنية على ذلك؛ بل تجري على مذهب بعض العدلية المكتفي بوجود المصلحة في نفس الأمر، و على مذهب الأشعري القائل بعدم التبعية أصلا، فيمكن المصير إلى أحد هذين القولين، فليس غرض في متعلق الأمر حتى يجب تحصيله بإتيان الأكثر.

الثاني: أن الغرض و إن كان موردا لقاعدة الاشتغال على مذهب مشهور العدلية؛ إلا إنه فيما يمكن تحصيل العلم بوجوب الغرض و لا يمكن تحصيل العلم بوجود الغرض، و ذلك لاحتمال دخل قصد وجه الأجزاء في تحقق الإطاعة، و هذا القصد يتوقف على معرفة وجه الأجزاء، و مع الجهل به - كما هو المفروض - لا يتمشى قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالغرض، فلا وجه لوجوب الأكثر احتياطا من ناحية تحصيل الغرض؛ لعدم إمكانه و لازم ذلك هو: إتيان الأقل تخلصا عن تبعة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي دون الأكثر، فلا ملزم بإتيان الأكثر احتياطا.

هذا تمام الكلام في جواب الشيخ عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم تحصيل الغرض بالوجهين المذكورين؛ إلا إن هذا الجواب من الشيخ مدفوع: بأن إنكار أصل الغرض على مذهب الأشعري لا يجدي من يلتزم في التخلص عن برهان الغرض على مذهب غيره.

و أما ما أفاده الشيخ من إمكان كون الغرض في نفس الأمر - كما هو مذهب بعض العدلية - فمردود: بأن مقصود ذلك البعض من العدلية القائل بتبعية الأمر لمصلحة في نفسه هو ردّ من التزم بوجوب كون المصلحة في المأمور به بأنه يجوز أن تكون المصلحة في نفس الأمر؛ لا إنه يجب أن تكون في المأمور به، فيحتمل أن تكون في نفس الأمر،

ص: 408

و مع هذا الاحتمال لا يمكن الاقتصار على الأقل لعدم العلم بحصول الغرض منه.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن من ذهب إلى ما عليه غير المشهور لا يقول بالمصلحة إلا في الأمر فقط من غير أن يحتملها في المأمور به و عليه: فكما أن العقل يحكم بالبراءة على مذهب الأشعري المنكر للمصلحة و الغرض، فكذلك يحكم على مذهب بعض العدلية القائل بوجود المصلحة في الأمر دون المأمور به.

6 - الإشكال على ما أفاده الشيخ: من تعذر استيفاء الغرض في العبادات بعد احتمال دخل قصد وجه أجزائها في تحققه، فيصير الشك في حصول الغرض الداعي إلى الأمر بدون قصد الوجه شكا في المحصل الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال لا البراءة؛ لكن يتعذر الاحتياط هنا لعدم المعرفة بوجه الأجزاء حتى يقصد، فلا يبقى إلا الإتيان بما قام عليه البيان و هو الأقل تخلصا عن تبعة مخالفته.

الثاني: أنه على تقدير اعتبار الجزم بالنيّة في العبادة ليس المقصود منه اعتباره في كل واحد من الأجزاء؛ بل المقصود منه اعتباره في العبادة في الجملة. و هذا المقدار يمكن تحققه بالاحتياط بإتيان الأكثر بقصد وجوبه النفسي في الجملة. و من المعلوم: أن الاحتياط بفعل الأكثر بقصد مطلوبيته النفسية بمكان من الإمكان، و ليس المقصود لزوم قصد الوجوب في كل واحد من الأجزاء كي يكون متعذرا مع عدم معرفة الأجزاء، و مع عدم اعتبار قصد وجوب كل واحد من الأجزاء فللمكلف إيقاع العبادة بنية وجوبها النفسي في الجملة أي: بلا تعيين أن فرد الواجب تمام المأمور به أو بعضه.

الثالث: أن القطع بعدم دخل قصد الوجه أصلا.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الغرض، إذ المفروض: اعتبار قصد الوجه المنوط بمعرفة الأجزاء تفصيلا في العبادات،

ص: 409

و مقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو هو: عدم إمكان إحرازه لا بالأقل و لا بالأكثر، فلا موجب للإتيان بالأكثر أيضا.

8 - أما عدم وجوب الاحتياط شرعا: فلجريان حديث الرفع و الحجب و نحوهما في وجوب الجزء المشكوك وجوبه، و أن وجوب الأكثر مما حجب علمه فهو موضوع عن العباد، و لا يعارضه أصل البراءة عن وجوب الأقل؛ للعلم بوجوبه المردد بين النفسي و الغيري.

و كيف كان؛ فالمقتضي للبراءة الشرعية موجود، و هو كون المرفوع مجعولا شرعيا مجهولا و في رفعه منّة. و المانع مفقود، فإن المانع إما العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل و الأكثر و إما معارضة الأصل مع أصالة عدم وجوب الأقل، و كلا الأمرين مفقود.

أما العلم الإجمالي: فلارتفاعه بأخبار البراءة لأنها حاكمة عليه و موجبة لانحلاله.

و أما التعارض: فلعدم كون الأقل موردا للأصل للعلم بوجوبه تفصيلا مع جريان الأصل في الأكثر فقط.

9 - و أما إشكال الشيخ على صاحب الفصول: - حيث قال بجريان البراءة في الحكم الوضعي و هو الجزئية - فلأن الجزئية غير مجعولة فلا ترتفع بأدلة البراءة.

ثم أورد المصنف على الشيخ: بأن الجزئية و إن لم تكن مجعولة بالأصالة و الاستقلال، إلا إنها مجعولة بتبع الحكم التكليفي، و هذا المقدار يكفي في جريان البراءة، فما أفاده صاحب الفصول من أن أدلة البراءة ترفع جزئية ما شك في جزئيته صحيح و في محله.

10 - أما وجه عدول المصنف عن البراءة في الحكم التكليفي إلى البراءة في الحكم الوضعي: فلأن الأصل في جانب الحكم الوضعي كالجزئية يكون سببيا، و في جانب الحكم التكليفي يكون مسببيا، و من المعلوم: أن الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي من باب الحكومة، فلا يجري الأصل المسببي مع جريان الأصل السببي.

11 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - التفصيل بين البراءة العقلية و الشرعية، حيث قال بجريان الثانية دون الأولى؛ بل حكم العقل هو وجوب الاحتياط.

2 - ثم البراءة تجري في الجزئية و هو الحكم الوضعي لا في نفي وجوب الجزء و هو الحكم التكليفي.

ص: 410

الأجزاء التحليلية

بعد ما فرغ المصنف عن حكم الأجزاء الخارجية من حيث جريان البراءة و عدم جريانها فيها، شرع في حكم الأجزاء التحليلية.

و قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في الأمر الأول.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الأجزاء على قسمين:

1 - الخارجية. 2 - التحليلية العقلية.

و الفرق بينهما: أن الأولى لا تحتاج إلى دقة فكر و تأمل عقل، نظير الأمر بالصلاة مع السورة مثلا، فإن نفس قول القائل: «صل مع السورة» يدل على التركيب و كاشف عنه، و أما الثانية: فهي تحتاج إلى تأمل عقل و إعمال فكر، نظير الأنواع و الأجناس كالإنسان و الحيوان، حيث كل واحد منهما يحلل بالدقة العقلية إلى الأجزاء؛ كتحليل الإنسان إلى حيوان ناطق، و تحليل الحيوان إلى جسم نام متحرك بالإرادة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو المركب من الأجزاء التحليلية، كما أن المراد بالمركب في المباحث المتقدمة هو المركب من الأجزاء الخارجية.

و قد تقدم: أن المصنف قال في الأجزاء الخارجية بالتفصيل بين حكم العقل و الشرع بمعنى: أن مقتضى حكم العقل هو الاحتياط دون البراءة، و مقتضى حكم الشرع هو البراءة. و قد تقدم وجه ذلك تفصيلا.

ثم يقول المصنف في المقام: إنه قد ظهر - مما مر من دوران الأمر بين الأقل و الأكثر في المركب من الأجزاء الخارجية، حيث قلنا بالاحتياط عقلا و البراءة شرعا - حال دوران الأمر بين المشروط بشيء كقوله «صل مع الطهارة»، «و مطلقه» أي: الخالي من الشرط؛ كأن شككنا في أن الواجب مثلا هل هو الصلاة أو الصلاة حال الطهارة، و دوران الأمر بين العام و الخاص؛ كأن شككنا في أن الواجب هو الإتيان بالإنسان أو بالحيوان في قول المولى: «ائتني بشيء»، و نعلم إجمالا بأن المراد بالشيء هو الحيوان، و لكن لا نعلم بأن المراد هو الجنس أو النوع كالإنسان. و يقول المصنف: إنه لا مجال هاهنا للبراءة عقلا؛ «بل كان الأمر فيهما أظهر» يعني: بل كان الاشتغال في المطلق و المقيد و العام و الخاص «أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الأقل و الأكثر» باليقين التفصيلي بالنسبة إلى الأقل، و الشك البدوي بالنسبة إلى الزائد الذي هو مجرى البراءة «لا يكاد يتوهم هاهنا بداهة:

ص: 411

أن الأجزاء التحليلية» كالحيوان و الرقبة في المثالين «لا تكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا».

فالمتحصل: أن الأجزاء الخارجية قابلة للاتصاف بالأقل و الأكثر، و لازم ذلك هو:

الانحلال إلى اليقين التفصيلي بالنسبة إلى الأقل، و الشك البدوي بالنسبة إلى الزائد.

هذا بخلاف الأجزاء التحليلية، حيث لا تقبل الاتصاف بالأقل و الأكثر، بل المطلق و المقيد و العام و الخاص من الأمور المتباينة؛ إذ المطلق اعتبر لا بشرط و المقيد اعتبر بشرط شيء فهما متباينان، و كذلك العام و الخاص فهما أيضا متباينان.

و مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين المتباينين هو: الاحتياط عقلا و شرعا، و لازم ذلك هو: الإتيان بالمقيد و الخاص.

فحاصل كلام المصنف في الأمر الأول هو: عدم جريان البراءة العقلية في الشك في الشرط و العام و الخاص؛ بل عدم جريان البراءة العقلية هنا أولى من عدم جريانها فيما تقدم من الشك في الجزئية في الأجزاء الخارجية، و ذلك لعدم توهم انحلال العلم الإجمالي هنا و توهمه في الشك في الجزئية في الأجزاء الخارجية.

و كيف كان؛ فقبل توضيح مرامه ينبغي التعرض لما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس سره» هنا لأن كلام المصنف ناظر إليه و إشكال عليه.

فنقول: إن حاصل كلام الشيخ في المقام: أنه قسم الأجزاء الذهنية إلى قسمين:

الأول: ما يكون ناشئا و منتزعا من فعل خارجي مغاير للمقيد في الوجود الخارجي بحيث لا وجود له؛ بل الوجود يكون لمنشا انتزاعه؛ كتقيد الصلاة بالطهارة المعنوية المنتزعة من الوضوء و الأفعال الخارجية، حيث إن الوضوء و لو كان له وجود مغاير لوجود المأمور به أي: الصلاة، و يكون منشأ لانتزاع الطهارة المعنوية منه؛ و لكن الطهارة المعنوية لا وجود لها في الخارج.

و الثاني: ما يكون متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة مثلا.

و بعبارة أخرى: الثاني: عبارة عن خصوصية تتحقق في المأمور به، و يكون لها الوجود، غاية الأمر: لا تتحقق و لا توجد تلك الخصوصية إلا بتحقق المأمور به كالإيمان في الرقبة مثلا، ثم حكم بجريان البراءة العقلية و النقلية في القسم الأول، و أنه لو شك في وجوب الوضوء و تقيد الصلاة بالطهارة المنتزعة منه ينحل التكليف إلى معلوم تفصيلي

ص: 412

و هو الصلاة المركبة من الأجزاء المعلومة، و شك بدوي في الطهارة و تقيد الصلاة بها فيدفع بالأصل.

و كذا في القسم الثاني و إن استشكل فيه أولا بعدم انحلال التكليف بواسطة عدم تعدد الوجود؛ إلا إنه حكم أخيرا بجريان البراءة فيه أيضا، و أنه لو شك في اعتبار الإيمان و لزوم تحصيل وجوده في الرقبة يدفع وجوب تحصيله بالأصل. راجع «دروس في الرسائل، ج 3، ص 498».

و لكن المصنف قسم الأجزاء الذهنية إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما يكون من قبيل القيود و الشروط.

الثاني: الخصوصية التي لا تتحقق إلا بتحقق المأمور به كما عرفت.

الثالث: العام و الخاص كالحيوان و الإنسان، و أن الأمر تعلق بالحيوان أو الإنسان مثلا.

ثم أورد المصنف على الشيخ الأنصاري بما حاصله: من الحكم بعدم جريان البراءة العقلية في الكل و ذلك لعدم انحلال العلم الإجمالي في الأجزاء التحليلية بالطريق الأولى.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: الفرق بين الأجزاء الخارجية و الأجزاء التحليلية و هو: أن الأجزاء الخارجية لكون وجوداتها المستقلة يمكن أن تتصف بالوجوب مطلقا نفسيا أو غيريا، فيدعى العلم التفصيلي بوجوبها كذلك الموجب لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل و شك بدوي في وجوب الأكثر.

و هذا بخلاف الأجزاء التحليلية التي لا يميزها إلا العقل، و لا ميّز لها في الخارج أصلا، و يعد واجد الجزء التحليلي و فاقده من المتباينين لا من الأقل و الأكثر؛ إذ كون الأقل معلوما مبني على تصور وجود له غير وجود الأكثر، و في الجزء التحليلي لا وجود للأقل في الخارج في قبال الأكثر، فلا ينحل التكليف إلى معلوم تفصيلي و شك بدوي حتى يكون مجرى البراءة، فلا تجري البراءة إذ جريان البراءة مبني على الانحلال، و يشترط في الانحلال: أن يكون في البين وجود معلوم الوجوب - أي: الأقل - و وجود آخر مشكوك الوجوب مغاير للمعلوم أي: الزائد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن قياس الأجزاء التحليلية بالأجزاء الخارجية مع الفارق، لوضوح: أن كل واحد من الأجزاء الخارجية كالتكبيرة و القراءة و السجود

ص: 413

و نحوها لما كان موجودا مستقلا أمكن اتصافه بالوجوب، و يقال: إن هذه الأشياء واجبة قطعا و الزائد عليها مشكوك الوجوب، فتجري فيه البراءة، هذا بخلاف ذات المشروط للأقل في المقام أي: الصلاة؛ لعدم وجود مغاير لها في قبال وجود الأكثر حيث إنها مع الطهارة المعنوية موجودة بوجود واحد في عالم الخارج.

و بخلاف ذات المقيد كالرقبة أو ذات العام كالحيوان فإن شيئا منهما لا يتصف بالوجوب حتى يقال وجوب ذاتهما معلوم تفصيلا إما نفسيا أو غيريا؛ و ذلك لعدم وجود مغاير للحيوان و الرقبة مع الناطق و الإيمان في الخارج، فلا تتصف الأجزاء التحليلية باللزوم و الوجوب من باب المقدمة عقلا، فلا يتصور فيها الانحلال، فلا تجري البراءة العقلية فيها فدوران الأمر بين المطلق و المقيد أو المشروط و بين العام و الخاص من دوران الأمر بين المتباينين لا بد من الاحتياط بالإتيان بالصلاة مع الطهارة، و بالرقبة مع الإيمان، و بالحيوان الناطق.

و أما البراءة النقلية: فلا تجري إلا بالنسبة إلى ما يكون أمر وضعه و رفعه بيد الشارع، فتجري في دوران الأمر بين المشروط و مطلقه؛ لأن الشرط ينتزع من أمر الشارع، فلا مانع من نفيه بحديث الرفع عند الشك فيه.

و هذا بخلاف دوران الأمر بين العام و الخاص كالحيوان و الناطق، فإن خصوصية الإنسان منتزعة عن ذات المأمور به لا من أمر خارج عنه حتى ينتفي بالأصل، و حينئذ فيكونان من قبيل المتباينين.

و الاشتغال يقتضي الإتيان بالخاص تحصيلا للفراغ اليقيني.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله: «مما مر» يعني: في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الأجزاء الخارجية من امتناع الانحلال عقلا لوجهين من الخلف و الاستحالة. و وجه ظهور حكم المقام مما مر هو: وحدة المناط في استحالة انحلال العلم الإجمالي.

قوله «حال دوران الأمر بين المشروط بشيء و مطلقه»؛ كالشك في شرطية الإقامة للصلاة مع خروج ذاتها عنها، و إنما اعتبر التقيد بها في ماهيتها، و كلام المصنف يشمل المطلق و المشروط و المطلق و المقيد، لدخل التقيد في كل منهما في الواجب و إن كان منشأ التقيد في المشروط موجودا خارجيا كالطهارة، و في المقيد أمرا متحدا معه كالإيمان.

ص: 414

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأول: أنه ظهر مما مرّ: حال دوران الأمر بين المشروط بشيء و مطلقه، و بين الخاص كالإنسان و عامه كالحيوان (1)، و أنه (2) لا مجال هاهنا للبراءة عقلا (3)؛ بل كان الأمر فيهما (4) أظهر، فإن (5) الانحلال المتوهم في الأقل و الأكثر لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة: أن (6) الأجزاء التحليلية (7) لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة

=============

تنبيهات
التنبيه الاول: الشك فى الشرطية و الخصوصية...

(1) المراد بالعام و الخاص هنا هو: العام المنطقي كالحيوان و الخاص المنطقي كالإنسان كما مثل بهما في المتن، و هذا إشارة إلى موارد الدوران بين التعيين و التخيير كما إذا أمر المولى بإطعام حيوان و شك في دخل خصوصية الإنسانية فيه.

و الوجه في كونه مثالا للتعيين و التخيير هو: أن الحيوان حيث لا تحقق له خارجا و ذهنا بدون فصل من فصوله، لأنه علة لوجود ماهية الجنس، و لذا لا يكون عروض الوجود لها كعروض الأعراض لموضوعاتها؛ بل عروضه لها مجرد التصور مع اتحادهما هوية، و أن الوجود لها من قبيل الخارج المحمول، فمرجع الشك فيه إلى أنه أمر بإطعام حيوان مخيرا بين فصوله، أو معينا في فصل الناطقية مثلا، و قد يمثل شرعا بدوران مطلوبية مطلق الذكر في الركوع و السجود أو خصوص التسبيحة.

(5) تعليل للإضراب المدلول عليه بكلمة «بل كان» فهو تعليل للأظهرية.

(6) تعليل لفساد توهم الانحلال هنا.

(7) قد يطلق الجزء التحليلي و يراد منه الجزء المقوم كالفصل للنوع.

و قد يطلق و يراد به كل ما يقابل الجزء الخارجي، فيعم موارد الدوران بين الجنس و الفصل، و بين المطلق و المشروط، و بين المطلق و المقيد. و غرضه هنا: كل ما يكون في قبال الجزء الخارجي، و ذلك بقرينة قوله: «بين المشروط بشيء و مطلقه» حيث إن التقيد جزء ذهني.

ص: 415

عقلا (1)، فالصلاة مثلا (2) في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها، و في ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها (3) و خصوصيتها تكون متباينة (4) للمأمور بها كما لا يخفى.

نعم (5)؛ لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط

=============

(1) قيد للمقدمة، يعني: أن الأجزاء التحليلية ليست مقدمة عقلا حتى يعلم بوجوبها تفصيلا كي ينحل به العلم الإجمالي.

(2) غرضه: بيان وجه عدم اتصاف الجزء التحليلي باللزوم، و حاصله: أن الصلاة الفاقدة للطهارة مثلا مباينة للصلاة المأمور بها التي هي المشروطة بالطهارة، و ليست جزءا من الصلاة المأمور بها حتى يعلم وجوبها تفصيلا، و المفروض: أنه على تقدير الانحلال لا بد أن يكون الأقل معلوم الوجوب تفصيلا و موجودا بوجود على حدة، كما هو الحال في المركب الخارجي، سواء كان الزائد عليه واجبا أم لا. كما عرفت في الصلاة المؤلفة من عشرة أجزاء مثلا، فإنها لا تتغير بلحوق الجزء المشكوك فيه و عدمه، و هذا بخلاف الصلاة الفاقدة للشرط أو الخصوصية فإنها مباينة للمأمور به، و ليست جزءا منه أصلا حتى يكون الفاقد مقدمة عقلية للواجد، و مع عدم كون الفاقد جزءا للمأمور به لا مجال لدعوى انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل.

قوله: «أو الخاصة» عطف على «المشروطة»، و ذلك كالصلاة المقصورة المباينة للتامة، و ليست مقدمة لها حتى تجب بوجوب غيري مقدمي، فضابط الانحلال مفقود؛ لعدم العلم التفصيلي بشيء واحد مع تعلق العلم الإجمالي بالمتباينين، و ضمير «وجودها» راجع على المشروطة أو الخاصة، فلا تعدد في الوجود بأن تكون ذات الصلاة غير الصلاة الخاصة كي تتحقق المقدمية، و يدعى العلم بوجوبها تفصيلا.

(3) كالفاقدة للطهارة مثلا، و فاقدة الخصوصية كصلاة الفجر الفاقدة لخصوصية صلاة الآيات إذا كانت هي الواجبة.

(4) بحيث لا مقدمية بينهما؛ لعدم وقوع الصلاة الفاقدة للطهارة في صراط تحقق الصلاة عن طهارة حتى تجب بوجوب غيري، فالمراد بالمتباينين هنا: عدم مقدمية أحدهما للآخر لا مجرد المباينة، لمغايرة كل مقدمة لذيها وجودا.

و قوله: «تكون» خبر للصلاة المقدرة قبل قوله: «و في ضمن».

(5) غرضه: إبداء الفرق بين المشروط و مطلقه، و بين الخاص و غيره بجريان البراءة النقلية في الأول و عدمه في الثاني، و حاصله: أن الشرط ينتزع من أمر الشارع كقوله:

ص: 416

و غيره، دون دوران الأمر بين الخاص و غيره؛ للدلالة (1) مثل (2) حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته. و ليس كذلك (3) خصوصية الخاص، فإنها نما تكون منتزعة عن نفس الخاص (4) فيكون الدوران بينه (5) و بين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين (6)، فتأمل جيدا.

=============

«أعتق رقبة مؤمنة»، فإن شرطية الإيمان تكون بأمر الشارع، و لا مانع من نفيه بحديث الرفع عند الشك فيه، و هذا بخلاف خصوصية الإنسان، فإنها منتزعة عن ذات المأمور به لا من أمر خارج عنه حتى ينفى بالأصل، و حينئذ: يدور الأمر بين وجوب الخاص و وجوب العام، فيكونان من قبيل المتباينين، و الاشتغال يقتضي الإتيان بالخاص تحصيلا للفراغ اليقيني. و ضمير «غيره» راجع على الخاص، و المراد بالغير العام.

(1) تعليل لقوله: «لا بأس»، و قد عرفت توضيحه.

(2) التعبير بالمثل لأجل دلالة سائر أخبار البراءة أيضا على نفي الشرطية.

(3) أي: و ليست خصوصية الخاص موردا للبراءة النقلية، «فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص».

(4) أي: لا بجعل الشارع، و الفرق: أنه يتعلق التكليف بالخاص و تنتزع الخصوصية منها، بخلاف المشروط، لتعلق الأمر بكل من الشرط و المشروط.

(5) أي: بين الخاص كالإنسان، و بين غيره من الخاص الآخر كالفرس، و قوله «فيكون» تفريع على الفرق بين المقامين.

(6) في لزوم الاحتياط عقلا، لكن بالإتيان بالخاص لا بالجمع بين الأطراف كما كان في المتباينين حقيقة.

و في هامش منتهى الدراية ما لا يخلو ذكره عن فائدة علمية حيث قال: «الحق جريان البراءة عقلا و نقلا في الأقل و الأكثر مطلقا، سواء كانا من قبيل الجزء و الكل كتردد أجزاء الصلاة بين ثمانية و عشرة مثلا، أم من قبيل الشرط و المشروط بأقسامه من كون منشأ انتزاع الشرطية شيئا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود كالوضوء للصلاة، و كون منشئه أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود كالإيمان و العدالة بالنسبة إلى الرقبة و الشاهد مثلا، أم كان الأقل و الأكثر من قبيل الجنس و النوع كالحيوان و الإنسان.

و الوجه في جريان البراءة في مطلق الأقل و الأكثر الارتباطيين و لو كانت أجزاؤهما تحليلية هو: اجتماع أركان البراءة فيهما، فإن أركانها من قابلية موردها للوضع و الرفع

ص: 417

تشريعا، و من تعلق الجهل به، و من كون رفعه منة على العباد موجودة في جميع أقسام الأقل و الأكثر، ضرورة: أن الشك في شرطية شيء للمركب سواء كان منشأ انتزاعها موجودا مغايرا للمشروط كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، أم متحدا معه في الوجود كالعدالة بالنسبة إلى الشاهد مثلا يرجع إلى الشك في جعل الشارع، بداهة: أن الشرطية مما تناله يد التشريع، فتجري فيها البراءة، فإذا أمر الشارع بعتق رقبة و شككنا في اعتبار خصوصية الإيمان فيها، و لم يكن لدليله إطلاق جرت فيه البراءة.

و كذا إذا أمر المولى بإطعام حيوان و شككنا في أنه اعتبر ناطقيته أولا، فلا مانع من جريان البراءة في اعتبار الناطقية فيه؛ لأن اعتبارها مما تناله يد التشريع، فيصح أن يقال:

إطعام الحيوان معلوم الوجوب، و تقيده بالناطقية مشكوك فيه، فتجري فيه البراءة.

و كذا يصح أن يقال: إن عتق الرقبة معلوم الوجوب، و تقيدها بالإيمان مشكوك فيه، فينفى بالبراءة، و لا يعتبر في الانحلال و جريان أصل البراءة إلا المعلوم التفصيلي و الشك البدوي، و أما اعتبار كون الشيء المعلوم وجوبه تفصيلا موجودا كأجزاء المركب الخارجي كالصلاة، فلا دليل عليه لا عقلا و لا نقلا، و إنما المعتبر فيه هو كونه قابلا لتعلق الحكم الشرعي به، و ذلك حاصل، لإمكان إيجاب عتق مطلق الرقبة و إطعام مطلق الحيوان بدون تقيد الرقبة بالإيمان، و تقيد الحيوان بفصل خاص من فصوله و إن توقف وجوده على أحد فصوله، إلا إنه يمكن لحاظه موضوعا بدون اعتبار فصل خاص من فصوله، فيكون المطلوب حينئذ مطلق وجود الحيوان من دون دخل فصل خاص في موضوعيته.

و عليه: فتجري البراءة في دوران الأمر بين التعيين و التخيير، ففي مثال إطعام الحيوان إذا شك في اعتبار خصوصية الإنسان كان من صغريات التعيين و التخيير؛ لأنه يجب إطعام الإنسان إما تخييرا إن كان الواجب إطعام مطلق الحيوان، و إما تعيينا إن كان الواجب إطعام الحيوان، و كونه خصوص فيصح أن يقال: إن المعلوم وجوبه تفصيلا هو إطعام الحيوان، و كونه خصوص الإنسان مشكوك فيه، و لم يقم بيان على اعتباره، فتجري فيه البراءة العقلية، و كذا النقلية؛ للجهل باعتبار الخصوصية الموجب لجريان البراءة الشرعية فيه.

نعم؛ إذا علم إجمالا بتقيد الجنس كالحيوان بنوع خاص، و تردد بين نوعين أو أنواع دخل في دوران الأمر بين المتباينين، لتباين الحصص الجنسية بالفصول المحصلة لها، فإن

ص: 418

الإنسان مباين لسائر أنواع الحيوان من الفرس و البقر و غيرهما، فلا بد من الاحتياط و لا مجال لجريان البراءة فيها، فإنها متعارضة في الأنواع، و المفروض: أن الواجب إطعام نوع خاص لا مطلق الحيوان حتى يقال: إن وجوب إطعامه معلوم تفصيلا و خصوصية النوع مشكوكة، حيث إن دخل نوع خاص معلوم إجمالا، فلا تجري فيه البراءة، كسائر أقسام المتباينين بل يجب فيه الاحتياط.

و بالجملة: فلا فرق في جريان البراءة عقلا و نقلا بين أقسام الأقل و الأكثر من الأجزاء الخارجية و التحليلية؛ إذ المناط في جريانها عدم البيان و قابلية المورد للجعل الشرعي، و المفروض: وجودهما في جميع أقسام الأقل و الأكثر. انتهى ما في «منتهى الدراية، ج 6، ص 267».

و مما ذكره ظهر: ضعف ما في المتن من عدم جريان البراءة مطلقا إلا في المطلق و المشروط، حيث إنه أجرى فيه البراءة الشرعية دون العقلية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الفرق بين الأجزاء الخارجية و التحليلية: أن الأولى لا تحتاج إلى دقة فكر نظير الأمر بالصلاة مع السورة.

و أما الثانية: فتحتاج إلى إعمال فكر نظير الأنواع و الأجناس، و محل الكلام هنا هو:

المركب من الأجزاء التحليلية، كما أن المراد بالمركب في المباحث المتقدمة هو: المركب من الأجزاء الخارجية.

و كذا الفرق بينهما من حيث جريان البراءة و عدم جريانها، حيث قال المصنف في الأجزاء الخارجية بالاحتياط عقلا و البراءة شرعا، و يقول هنا بعدم جريان البراءة العقلية بالطريق الأولى، و ذلك لعدم توهم انحلال العلم الإجمالي هنا و توهمه هناك، و تجري البراءة النقلية في الشك في الشرطية دون دوران الأمر بين العام و الخاص أو المطلق و المقيد.

2 - أن كلام المصنف في هذا الأمر الأول ناظر إلى كلام الشيخ الأنصاري و إشكال عليه، فينبغي عرض ما أفاده الشيخ أولا كي يتضح ما أورده المصنف عليه.

ص: 419

و حاصل ما أفاده الشيخ في المقام: أنه قسم الأجزاء الذهنية إلى قسمين:

الأول: ما يكون ناشئا و منتزعا عن فعل خارجي مغاير للمقيد و المشروط في الوجود الخارجي؛ كتقيد الصلاة بالطهارة المعنوية المنتزعة من الوضوء، و للوضوء وجود في الخارج و ليس للطهارة المعنوية المنتزعة عنه وجود في الخارج.

الثاني: ما يكون متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة مثلا. ثم حكم الشيخ «قدس سره» بجريان البراءة العقلية و النقلية في كلا القسمين؛ و إن استشكل في القسم الثاني في البداية.

ثم أورد المصنف على الشيخ، حيث حكم بعدم جريان البراءة العقلية في كلا القسمين، و ذلك لعدم انحلال العلم الإجمالي في الأجزاء التحليلية بطريق أولى.

3 - أن قياس الأجزاء التحليلية بالأجزاء الخارجية على ما يظهر من الشيخ قياس مع الفارق، فيكون باطلا.

و حاصل الفرق: أن كل واحد من الأجزاء الخارجية لما كان موجودا مستقلا أمكن اتصافه بالوجوب و يقال: هذا واجب قطعا و الزائد عليه مشكوك الوجوب، فتجري البراءة.

و هذا بخلاف ذات المشروط كالصلاة في المقام حيث إنها مع الطهارة المعنوية موجودة بوجود واحد في عالم الخارج، فليس هنا ما هو معلوم الوجوب و ما هو مشكوكه، و كذا الأمر في المطلق و المقيد و العام و الخاص، فإن شيئا منهما لا يتصف بالوجوب حتى يقال: إن وجوب ذاتهما معلوم تفصيلا، و وجوب القيد و الخاص مشكوك حتى تجري فيه البراءة العقلية.

و أما البراءة النقلية: فتجري في الشرط؛ لأنه منتزع من أمر الشارع، فلا مانع من نفيه بحديث الرفع.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - وجوب الاحتياط مطلقا في دوران الأمر بين العام و الخاص.

2 - وجوب الاحتياط مطلقا في دوران الأمر بين المطلق و المقيد.

3 - وجوب الاحتياط عقلا و البراءة شرعا في دوران الأمر بين المشروط و مطلقه.

ص: 420

الثاني (1): أنه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في

=============

الثانى الشك في إطلاق الجزء و الشرط لحال النسيان

الثانى الشك في إطلاق الجزء و الشرط لحال النسيان(1) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان حكم الجزء أو الشرط المتروك نسيانا، كقراءة السورة و الطهارة في الصلاة، فيقع البحث في أن النسيان هل يوجب ارتفاع الجزئية أو الشرطية أم لا فيما لا يكون لدليليهما إطلاق يشمل حال النسيان ؟

و قبل الخوض في البحث، ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي: أن الشك قد يكون في أصل جزئية شيء أو شرطيته، و هذا خارج عن محل الكلام، و قد تقدم تفصيل البحث عنه.

و قد يكون الشك في عموم جزئية شيء أو شرطيته لحال النسيان بعد العلم بأصل الجزئية أو الشرطية. و هنا احتمالات:

الأول: هو العلم باختصاص الجزئية و الشرطية بحال الذكر و الالتفات، و لازم ذلك:

عدم وجوب الإعادة عند ترك الجزء أو الشرط نسيانا.

الثاني: هو العلم بالجزئية أو الشرطية في جميع الأحوال حتى حال السهو و النسيان، و لازم ذلك: وجوب الإعادة لبطلان الصلاة لأجل نقصان الجزء أو الشرط.

الثالث: هو الشك في اختصاصهما بحال الذكر و الالتفات أو عدم الاختصاص بهما؛ بل كون الجزئية و الشرطية في جميع الأحوال. إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن محل الكلام هو هذا الاحتمال الثالث، فيقع الكلام في أنه إذا نقص جزء من أجزاء العبادة سهوا و نسيانا، فهل الأصل بطلانها أم لا؟ فاختار الشيخ «أعلى الله مقامه» بطلانها لعموم جزئية الجزء و شمولها لحالتي الذكر و النسيان جميعا، ثم أشكل على نفسه بما ملخصه: أن عموم جزئية الجزء لحال النسيان إنما يتم إذا أثبتت الجزئية بدليل لفظي مثل قوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»(1)، دون ما إذا ثبتت بدليل لبي لا إطلاق له، كما إذا قام الإجماع على جزئية شيء في الجملة، و احتمل اختصاصها بحال الذكر فقط. و حينئذ: فمرجع الشك إلى الشك في الجزئية في حال النسيان، فيرجع فيها إلى

ص: 421


1- الرواية عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر «عليه السلام» نصها هكذا: (سألته عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته، قال: «لا صلاة له إلا أن يبدأ بها في جهر أو إخفات». الكافي 3: 28/317، تهذيب الأحكام 573/146:2، الاستبصار 1152/31:1، أو قوله لسماعة: «فليقرأها ما دام لم يركع، فإنه لا قراءة حتى يبدأ بها»، تهذيب الأحكام 674/147:2. أو عنه «صلى الله عليه و آله»: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». مسند أحمد 314:5، صحيح البخاري 184:1.

البراءة أو الاحتياط على الخلاف المتقدم في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

ثم أجاب عنه بما ملخصه: أنه إن أريد من عدم جزئيته ما ثبتت جزئيته في الجملة و من ارتفاعها بحديث الرفع في حق الناس إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء المنسي عليه فهو غير قابل لتوجيه الخطاب إليه؛ إذ بمجرد أن خوطب بعنوان الناسي يتذكر و ينقلب الموضوع. و إن أريد منه إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعية، فهو حسن و لكن الأصل عدمه بالاتفاق و هذا معنى بطلان العبادة الفاقدة للجزء نسيانا، بمعنى: عدم كونها مأمورا بها. انتهى «عناية الأصول، ج 4، ص 231».

و أما المصنف «قدس سره»: فيرى المسألة أيضا من صغريات الأقل و الأكثر الارتباطيين، و من جزئيات الشك في الجزئية أو الشرطية، فلا تجري فيها البراءة العقلية، و تجري فيها البراءة الشرعية على مسلكه المتقدم في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و ظاهر قوله: «إن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء...» الخ. أن كلامه مفروض فيما إذا لم يكن دليل الجزء أو الشرط لفظيا له عموم يشمل حالتي الذكر و النسيان جميعا كي يمنع عن البراءة.

ثم إن ارتباط هذه التنبيه بمباحث الأقل و الأكثر الارتباطيين إنما هو من جهة العلم بتعلق التكليف بالجزء أو الشرط إجمالا، و الجهل بإطلاقه لحالتي الذكر و النسيان، أو اختصاصه بحال الالتفات فقط، و المباحث المتقدمة كانت في مرجعية الأصل عند الشك في أصل الجزئية و الشرطية، و هنا في سعة دائرة المجعول و ضيقها بعد العلم بأصله، للعلم بانبساط الوجوب الضمني على ذكر الركوع و السجود مثلا، و الشك لأجل إجمال النص و نحوه في إطلاق المأمور به و تقييده، و بهذا يندرج الكلام هنا في كبرى الأقل و الأكثر، أما في الأجزاء الخارجية: فللشك في الجزئية حال النسيان، و أما في الأجزاء التحليلية: فمن جهة الشك في إطلاق المجعول و تقيده.

و كيف كان؛ فتنقيح الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور:

الأول: فيما يقتضيه الأصل العملي،

الثاني: فيما يقتضيه الدليل الاجتهادي،

الثالث: في صحة العمل الخالي عن المنسي الملزوم لوجوبه، و كونه مأمورا به.

و أما الأول فحاصله: أن مقتضى قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «رفع ما لا يعلمون»، و حديث الحجب و نحوهما هو جريان البراءة الشرعية عند الشك في الجزئية

ص: 422

حال نسيانه عقلا و نقلا، ما ذكر (1) في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية (2)، فلو لا و الشرطية دون البراءة العقلية؛ لما تقدم في الشك في أصل الجزئية و الشرطية من جريان البراءة النقلية فيه دون العقلية؛ لعدم الانحلال و بقاء العلم الإجمالي الموجب للاشتغال على التفصيل المتقدم هناك، فإن المقام من صغريات تلك المسألة، فلو لا البراءة الشرعية كان مقتضى قاعدة الاشتغال إعادة المأمور به الناقص، و الإتيان به بجميع ما دخل فيه من الأجزاء و الشرائط.

=============

و قوله: «إن الأصل فيما إذا شك...» الخ. إشارة إلى الأمر الأول، و المراد به بقرينة قوله: «ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية» هو أصل البراءة، لكن لا يلائمه.

قوله: «و لا تعاد في الصلاة» فإن عطف ذلك على «حديث الرفع» عطف الدليل الاجتهادي على الأصل العملي المستلزم لكونهما في رتبة واحدة، مع أنه ليس كذلك، ضرورة: تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي من باب الورود أو الحكومة، و حينئذ:

فلا بد و أن يراد بالأصل ما هو أعم من الأصل العملي و المتصيد من الدليل الاجتهادي.

قوله: «في حال نسيانه» يعني: بعد العلم بجزئيته أو شرطيته في غير حال النسيان، و إنما الشك فيهما نشأ من نسيان الجزء أو الشرط لا نسيان الجزئية أو الشرطية حتى يندرج في نسيان الحكم المدرج له في الجهل الطارئ بالحكم.

و ضميرا «شرطيته، نسيانه» راجعان على الشيء، و «في حال» قيد ل «جزئية شيء أو شرطيته».

قوله: «عقلا و نقلا» قيد لقوله: «الأصل»، و المراد بقوله: «عقلا» هو قاعدة الاشتغال كما مر آنفا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(1) خبر «أن» في قوله: «أن الأصل»، و الوجه في كون الشك في جزئية المنسي كالشك في أصل الجزئية هو: اندراجه في كبرى الشك في الأقل و الأكثر، حيث إنه مع عدم إطلاق يدل على جزئية المنسي حال النسيان يشك في جزئيته في هذا الحال، فإن كان جزءا فالواجب هو الأكثر، و إلا فالأقل.

(2) كما لو شك بأن السورة جزء أم لا، أو الطهارة في سجدة السهو شرط أم لا، فإن مقتضى الأصل الاحتياط، فإن حال الجزء و الشرط المشكوكين في بعض الأحوال - كحال النسيان - حالهما في جميع الأحوال. هذا من جهة العقل.

و أما من جهة النقل: فأدلة البراءة و ما أشبهها محكمة.

ص: 423

مثل حديث الرفع (1) مطلقا (2) و «لا تعاد» في الصلاة (3) يحكم عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا، كما هو (4) الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا (5) نصا أو إجماعا (6).

ثم لا يذهب عليك (7): أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا...

=============

(1) المراد به «ما لا يعلمون»؛ لأن رفع النسيان داخل فيما يذكره من قوله: «يمكن تخصيصها بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية»، فحديث الرفع - حيث إن نسبته إلى أدلة الأجزاء و الشرائط كالاستثناء على ما تقدم بيانه - يدل على صحة العمل الفاقد للجزء أو الشرط المنسي.

(2) يعني: في الصلاة و غيرها.

(3) يعني: و حديث «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»(1) المروي عن الباقر «عليه السلام» في خصوص باب الصلاة، و قد مر آنفا: أن الأنسب ذكر «لا تعاد» في عداد الأدلة الاجتهادية.

قوله: «يحكم عقلا...» الخ جواب «فلو لا»، و المراد بحكم العقل هو: قاعدة الاشتغال الثابتة بالعلم الإجمالي الذي لم ينحل على مذهب المصنف «قدس سره». كما تقدم، و ضميرا «بجزئه، شرطه» راجعان على «ما» الموصول.

(4) يعني: كما أن وجوب الإعادة ثابت في الجزء أو الشرط الذي دل الدليل على جزئيته أو شرطيته في جميع الحالات التي منها النسيان، غاية الأمر: أن وجوب الإعادة حينئذ مستند إلى نفس دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية، و في صورة الشك إلى قاعدة الاشتغال لو لم تجر أصالة البراءة.

(5) يعني: و لو في حال النسيان.

(6) الأول: كالخمسة المستثناة في حديث «لا تعاد» المعبر عنها بالأركان.

و الثاني: كتكبيرة الإحرام، فإن اعتبارها إنما هو بالإجماع الذي يعم معقده جميع الحالات التي منها النسيان دون الروايات؛ لعدم نهوضها على ذلك كما لا يخفى على من راجعها.

(7) هذا إشارة إلى الأمر الثاني، و هو إمكان إقامة الدليل الاجتهادي على نفي الجزئية أو الشرطية في حال نسيان الجزء أو الشرط؛ بحيث ينقسم المكلف بحسب

ص: 424


1- الخصال: 35/284، الفقيه 857/278:1، تهذيب الأحكام 597/152:2، الوسائل 980/371:1.

الحال (1) بمثل حديث الرفع، كذلك يمكن تخصيصها (2) بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية، كما إذا وجه الخطاب (3) على نحو يعم الذاكر و الناسي...

=============

الالتفات و النسيان إلى قسمين: الذاكر و الناسي، و يصير الواجب بتمام أجزائه و شرائطه واجبا على الذاكر، و بما عدا الجزء أو الشرط المنسي منه واجبا على الناشئ خلافا للشيخ الأنصاري «قدس سره»، حيث منع عن تنويع المكلف و جعله قسمين ذاكرا و ناسيا، نظرا إلى أن الغرض من الخطابات لمّا كان هو البعث و الزجر المعلوم ترتبهما على إحراز المكلف انطباق العنوان المأخوذ في حيز الخطاب على نفسه؛ إذ الغافل عن الاستطاعة مثلا لا ينبعث عن إيجاب الحج على المستطيع أصلا، و من المعلوم: امتناع خطاب الناسي بهذا العنوان، ضرورة: أن توجيه هذا الخطاب إليه يخرجه عن عنوان الناسي و يجعله ذاكرا، فلا بد للناسي في الشك في الجزئية أو الشرطية من الإتيان بالواجب بتمامه، من دون فرق في إطلاق الجزئية و الشرطية بين الذاكر و الناسي، و التفكيك بينهما لا وجه له أصلا.

(1) أي: حال النسيان بحديث الرفع و مثله من سائر أدلة البراءة النقلية.

(2) أي: تخصيص الجزئية أو الشرطية بهذا الحال أي: حال النسيان بحسب الأدلة الاجتهادية، بنحو لا يلزم محذورا أصلا؛ إذ لا يتوقف تنويع المكلف بالذاكر و الناسي على جعل الناسي موضوعا للخطاب حتى يمتنع ذلك لانقلابه بالذاكر كما أفاده الشيخ «قدس سره».

و لذا حكم بجزئية شيء حال النسيان إن لم يكن لدليلها إطلاق يشمل تلك الحالة، و إن كان له إطلاق فهو دليل عليها و موجب لبطلان العبادة الفاقدة للجزء المنسي(1).

و الحاصل: أنه «قدس سره» يقول بأصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا(2)، إما لإطلاق دليل الجزئية، و إما لامتناع خطاب الناسي بما عدا المنسي، و الحكم بالصحة منوط بدليل عام أو خاص يدل على الصحة.

(3) هذا جواب المصنف عن إشكال الشيخ «قدس سره»: و قد أجاب عنه في المتن بوجهين:

أحدهما: و هو الذي أشار إليه بقوله: «كما إذا وجه الخطاب...» الخ أن يجعل عنوان عام يشمل الذاكر و الناسي كعنوان «المكلف» و يخاطب بما عدا المنسي من الأجزاء، ثم يكلف الملتفت بالمنسي، فالذاكر الآتي بتمام المأمور به آت بوظيفته، و الناسي الآتي

ص: 425


1- منتهى الدراية: 276:6.
2- فرائد الأصول: 362:2.

بالخالي (1) عما شك في دخله مطلقا (2)، و قد دل دليل آخر (3) على دخله في حق الذاكر، أو وجه (4) إلى الناسي خطاب يخصه (5) بوجوب (6) الخالي بعنوان آخر عام أو خاص؛ لا بعنوان الناسي كي (7) يلزم استحالة إيجاب ذلك (8) عليه بهذا العنوان؛ لخروجه (9) عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهم لذلك (10) استحالة بالناقص آت أيضا بوظيفته، من دون توجه خطاب إليه بعنوان الناسي حتى يلزم محذور الانقلاب، و الخروج عن حيز الخطاب المتوجه إليه.

=============

و بالجملة: فهذا الوجه يدفع استحالة تكليف الناسي بما عدا المنسي.

ثانيهما: أن يكلف الملتفت بتمام المأمور به و الناسي بما عدا المنسي؛ لكن لا بعنوان الناسي حتى يلزم الانقلاب إلى الذاكر بمجرد توجيه الخطاب إليه، بل بعنوان آخر عام ملازم لجميع مصاديقه كالبلغمي أو قليل الحافظة أو كثير النوم، أو نحو ذلك أو بعنوان خاص كأخذ العناوين المختصة بأفراد الناسي كقوله: «يا زيد و يا عمرو و يا بكر» إذا كان أحدهم ناسيا للسورة، و الآخر لذكر الركوع، و الثالث لذكر السجود مثلا.

(1) متعلق ب «الخطاب»، و «على نحو» متعلق ب «وجه»، كأنه قيل: «إذا وجه الخطاب بالخالي على نحو يعم الذاكر و الناسي».

(2) يعني: حتى في حق الناسي، و ضمير «دخله» راجع على «ما» الموصول.

(3) يعني: غير ما دل على كون ما عدا المنسي مأمورا به للذاكر و الناسى و ضمير «دخله» راجع على الموصول في «عما شك».

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا: «ثانيهما: أن يكلف الملتفت بتمام المأمور به».

(5) أي: يخص الناسي في مقابل الوجه الأول الذي كان الخطاب فيه شاملا له و للذاكر.

(6) هذا «و بعنوان» متعلقان ب «خطاب».

(7) تعليل لعدم صحة توجيه الخطاب بعنوان الناسي، و قد تقدم بيانه.

(8) أي: الخالي عن المنسي، و ضمير «عليه» راجع على الناسي، و هو المراد أيضا بقوله: «بهذا العنوان».

(9) تعليل للاستحالة، و ضمير «لخروجه» راجع على الناسي، و ضمير «عنه» راجع على عنوان الناسي، و ضمير «إليه» راجع على الناسي.

(10) أي: لاستحالة خطاب الناسي بعنوان النسيان، و هذا إشارة إلى كلام الشيخ

ص: 426

تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر، و إيجاب (1) العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل (2).

=============

«قدس سره»، و قد تقدم توضيحه، و ملخصه: أن تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر بالدليل الاجتهادي على النحو المذكور ممتنع، و لذا ذهب هو «قدس سره» إلى استحالته -، و تعبير المصنف بالتوهم إنما هو لأجل عدم التلازم بين التخصيص المزبور و استحالته بالدليل الاجتهادي، و عدم المانع من التخصيص بالدليل كما أفاده بأحد الوجهين المتقدمين في المتن.

(1) عطف على «تخصيص» و مفسر له، و إشارة إلى الأمر الثالث و هو كون الخالي عن المنسي واجبا حتى يلزمه الصحة و عدم وجوب الإعادة، و هو مسألة فقهية و تفصيلها يطلب في الفقه، و محصله: أن مقتضى حديث «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، و النصوص الخاصة وجوب الأركان مطلقا حتى في حق الناسي، فنسيان شيء منها يوجب الإعادة في الوقت و خارجه. و أما غيرها: فنسيانه لا يوجب الإعادة لا في وقت و لا في خارجه.

(2) عن إمكان قيام الدليل الاجتهادي بأحد الوجهين المتقدمين في المتن على عدم جزئية المنسي لئلا تقول بالاستحالة كما قال بها الشيخ و النراقي في محكى العوائد.

لا يقال: إنه يمكن توجيه الخطاب إلى كلي الناسي على نحو القضية الحقيقية كإيجاب الحج على المستطيع كذلك و إن لم يصح توجيهه إلى الناسي الخارجي، لانقلابه إلى الذاكر، فما أفاده الشيخ من الاستحالة يختص بمخاطبة الناسي الخارجي الشخصي دون الكلي.

فإنه يقال: إن كل خطاب لا يمكن الانبعاث عنه أصلا و لو في زمان من الأزمنة لغو، و من المعلوم: أن المقام كذلك، ضرورة: أن أفراد طبيعة الناسي يمتنع أن يطبقوا هذه الطبيعة عليهم و يرون أنفسهم مأمورين بالأمر الموجه إلى عنوان الناسي، بداهة: أن إحراز انطباقه عليهم يوجب الانقلاب إلى الذاكر بحيث يمتنع انبعاثهم عن الأمر الموجه إلى كلي الناسي، و ليس كإيجاب الحج على كلي المستطيع؛ لانبعاث أفراد المستطيع خارجا عن إيجاب الحج على هذا الكلي.

فقياس المقام بمثل إيجاب الحج على المستطيع في غير محله، و من البديهي: امتناع صدور اللغو عن الحكيم.

فالمتحصل: أن خطاب الناسي بعنوانه كليا و جزئيا غير سديد، و محذور الاستحالة لا

ص: 427

يندفع بجعله موضوعا للخطاب و لو على نحو القضية الحقيقية فتدبر. و هنا كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - محل الكلام: ما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في جميع الحالات حتى حال السهو و النسيان، أو اختصاصهما بحال الذكر و الالتفات، فيقع الكلام فيما إذا نقص جزء من أجزاء العبادة سهوا و نسيانا فهل الأصل بطلانها أم لا؟ فاختار الشيخ «قدس سره» بطلانها لعموم جزئية الجزء لحالتي الذكر و النسيان جميعا.

ثم أشكل على نفسه: بأن عموم جزئية الجزء لحال النسيان إنما يتم إذا ثبتت الجزئية بدليل لفظي، دون ما إذا ثبتت بدليل لبي، كما إذا قام الإجماع على جزئية شيء في الجملة، و احتمل اختصاصها بحال الذكر فقط.

و حينئذ: فمرجع الشك إلى الشك في الجزئية في حال النسيان، فيرجع فيها إلى البراءة أو الاحتياط على الخلاف المتقدم في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

ثم أجاب عنه بما حاصله: أنه إن أريد من عدم جزئية ما ثبتت جزئيته في الجملة إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء المنسي عليه: فهو غير قابل لتوجيه الخطاب إليه؛ إذ بمجرد الخطاب بعنوان الناسي يتذكر و ينقلب الموضوع. و إن أريد منه إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعية، فهو حسن و لكن الأصل عدمه بالاتفاق.

و هذا معنى بطلان العبادة الفاقدة للجزء نسيانا بمعنى عدم كونها مأمورا بها.

2 - و أما المصنف «قدس سره»: فيرى المسألة من صغريات الأقل و الأكثر الارتباطيين و من جزئيات الشك في الجزئية أو الشرطية، فلا تجري فيها البراءة العقلية، و تجري فيها النقلية.

و ظاهر قوله: «إن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء...» الخ: أن كلامه مفروض فيما إذا لم يكن دليل الجزء أو الشرط لفظيا له عموم يشمل حالتي الذكر و النسيان جميعا كي يمنع عن البراءة.

3 - ثم ارتباط هذا التنبيه بمباحث الأقل و الأكثر الارتباطيين إنما هو من جهة العلم

ص: 428

بتعلق التكليف بالجزاء أو الشرط إجمالا، و الجهل بإطلاقه لحالتي الذكر و النسيان، و المباحث المتقدمة كانت في مرجعية الأصل عند الشك في أصل الجزئية و الشرطية، و هنا في سعة دائرة المجعول و ضيقها بعد العلم بأصله، للعلم بانبساط الوجوب الضمني على ذكر الركوع و السجود مثلا. و الشك لأجل إجمال النص و نحوه في إطلاق المأمور به و تقييده، و بهذا يندرج الكلام هنا في كبرى الأقل و الأكثر الارتباطيين.

4 - و تنقيح الكلام في المقام يتوقف على أمور:

الأول: فيما يقتضيه الأصل العملي.

و الثاني: فيما يقتضيه الدليل الاجتهادي.

و الثالث: في صحة العمل الخالي عن الجزء المنسي.

و أما الأول فحاصله: أن مقتضى حديث الرفع و نحوه جريان البراءة الشرعية عند الشك في الجزئية و الشرطية، دون البراءة العقلية لعدم انحلال العلم الإجمالي، و لو لا البراءة الشرعية كان مقتضى قاعدة الاشتغال إعادة المأمور به الناقص و الإتيان بجميع ما له دخل فيه من الأجزاء و الشرائط.

5 - جواب المصنف «قدس سره» عن الشيخ: القائل باستحالة خطاب الناسي للزوم انقلاب الناسي إلى الذاكر.

و قد أجاب المصنف عن هذا المحذور بوجهين:

أحدهما: أن يجعل عنوان عام يشمل الذاكر و الناسي كعنوان «المكلف»، و يخاطب بما عدا المنسي من الأجزاء، ثم يكلف الملتفت بالمنسي.

فهذا الوجه يدفع استحالة تكليف الناسي بما عدا المنسي.

ثانيهما: أن يكلف الملتفت بتمام المأمور به و الناسي بما عدا المنسي؛ لكن لا بعنوان الناسي حتى يلزم الانقلاب إلى الذاكر؛ بل بعنوان آخر عام كالبلغمي أو قليل الحافظة أو كثير النوم أو نحو ذلك، أو بعنوان خاص كقوله: «يا زيد و يا عمر و يا بكر» إذا كان أحدهم ناسيا للسورة، و الآخر ناسيا لذكر الركوع، و الثالث ناسيا لذكر السجود.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

يرى المصنف هذه المسألة من صغريات مسألة الأقل و الأكثر الارتباطيين، فلا تجري البراءة العقلية فيها و تجري النقلية؛ كما هو رأي المصنف في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

ص: 429

الثالث (1): أنه ظهر مما مر: حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو

=============

الثالث في زيادة الجزء عمدا أو سهوا

(1) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان حكم زيادة الجزء عمدا أو سهوا، لكن الشيخ «قدس سره» عقد مسائل ثلاث لبيان حكم الإخلال بالجزء نقيصة و زيادة:

أحدها: لنقيصة الجزء سهوا.

ثانيها: لزيادة الجزء عمدا.

ثالثها: لزيادة الجزء سهوا.

و المصنف تعرض لنقيصة الجزء سهوا في التنبيه المتقدم. و جمع بين الزيادة العمدية و السهوية للجزء في هذا التنبيه الثالث، و الشك في الأمر السابق كان في دخل الوجود و عدمه، و في هذا الأمر يكون الشك في دخل العدم شرطا أو شطرا.

و كيف كان؛ فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في إمكان زيادة الجزء عمدا أو سهوا، و اعتبار القصد في تحققها في المركبات الاعتبارية.

المقام الثاني: في بيان حكم الزيادة العمدية و السهوية.

و أما الكلام في المقام الأول: فيقع من جهتين:

الأولى: في إمكان الزيادة حقيقة في المركبات الاعتبارية و عدم إمكانها.

و الثانية: في اعتبار قصد الزيادة في تحققها و عدمه.

و أما الجهة الأولى: فقد يقال فيها باستحالة تحقق الزيادة حقيقة و إن كانت متحققة بالمسامحة العرفية، نظرا إلى أن كل جزء أخذ في المركب إن كان مأخوذا على نحو لا بشرط و من غير تقييد بالوجود الواحد، فلا يعقل فيه تحقق الزيادة؛ إذ كل ما أتى بفرد من طبيعي ذلك الجزء كان مصداقا للمأمور به، سواء كان المأتي به فردا واحدا أو أكثر.

و إن كان مأخوذا بشرط لا عن الوجود الثاني: فالإتيان به مرة ثانية مستلزم لفقدان القيد المأخوذ في الجزء المستلزم للنقيصة لا محالة، و على كل حال: فلا يعقل تحقق الزيادة حقيقة.

و الجواب عن الإشكال المذكور: أن اعتبار اللاشرطية لا ينافي تحقق الزيادة، فإن أخذ بشيء جزءا للمأمور به على نحو اللابشرط يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يكون طبيعي ذلك الجزء مأخوذا في المركب، من دون نظر إلى وحدة الفرد و تعدده، و في مثل ذلك لا يمكن تحقق الزيادة كما مر.

ص: 430

و ثانيهما: أن يعتبر صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات جزءا للمركب، سواء انضم إليه وجود ثان أم لم ينضم، ففي مثل ذلك الانضمام و عدمه و إن كانا على حد سواء في عدم دخلهما في جزئية الوجود الأول الذي هو معنى أخذ لا بشرط؛ إلا إنه لا يقتضي كون الوجود الثاني أيضا مصداقا للمأمور به، و حينئذ: تتحقق الزيادة مع كون الجزء مأخوذا لا بشرط بهذا النحو، على أن عدم صدق الزيادة حقيقة و بالدقة العقلية لا يترتب عليه أثر بعد كون الأحكام تابعة للصدق العرفي، و من الضروري صدقها عرفا و لو مع أخذ الجزء بشرط لا كما هو ظاهر، و مما ذكرنا يظهر الحال في صحة صدق الزيادة إذا كان الزائد غير مسانخ للأجزاء المأمور بها. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

و أما الجهة الثانية: فالظاهر اعتبار القصد في تحقق عنوان الزيادة، و الوجه في ذلك:

أن المركب الاعتباري كالصلاة مركب من أمور متباينة مختلفة وجودا و ماهية، و الوحدة بينها متقومة بالقصد و الاعتبار، فلو أتى بشيء بقصد ذلك العمل كان جزءا له و إلا فلا.

هذا في غير الركوع و السجود، و أما فيهما: فالظاهر تحقق الزيادة بنفس وجودهما و إن لم يكن الإتيان بهما بعنوان الصلاة؛ و ذلك لما دل على أن الإتيان بسجدة التلاوة زيادة في الفريضة، مع أن المفروض: عدم الإتيان بها بعنوان الصلاة، فبالتعبد الشرعي يجري على ذلك حكم الزيادة و إن لم يكن من الزيادة حقيقة. و يلحق بالسجدة الركوع بالأولوية القطعية.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الشك في بطلان العمل من جهة الزيادة العمدية أو السهوية يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمها في المأمور به لا محالة، و من الظاهر أنه ما لم يقم عليه دليل كان مقتضى الأصل الشرعي عدمه، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية.

و أما البراءة العقلية: فلا تجري بل يحكم العقل بالاحتياط كما عرفت هذا التفصيل من المصنف في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و لذا يقول: «الثالث: أنه ظهر مما مر حال زيادة الجزء...» الخ.

أي: أنه قد ظهر مما مر في التنبيه الثاني «حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا»، بأن يكون من شرط الصلاة عدم قراءة السورة في الركعة الثالثة، كما أن من شرط الصلاة عدم الضحك و نحوه، «أو شطرا» بأن كان العدم جزءا من الواجب، فإنه كما أن الشيء الوجودي قد يكون شرطا و قد يكون جزءا كذلك عدم الشيء قد يكون

ص: 431

شطرا في الواجب (1)، مع عدم اعتباره (2) في جزئيته؛ و إلاّ (3) لم يكن من زيادته، بل من نقصانه (4)، و ذلك (5) لاندراجه في الشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا، شرطا و قد يكون جزءا، و الفرق أن الصلاة لو كانت مركبة من وجودات و أعدام - كالحج - يكون الأمر العدمي جزءا، و لو كانت مركبة من وجودات و كان الأمر العدمي خارجا لكن أخذت الصلاة بشرط السكون به كان لعدم شرطا فتدبر(1).

=============

(1) أي: شك في أن عدم الزيادة على الأجزاء و الشرائط المسلمة هل هو مأخوذ في الواجب بنحو الشرط أو الشطر؟

أما تصوير الشرطية في الشيء بعدم شيء آخر يكون فيه أو معه فواضح؛ لكن تصوير أخذ عدم الشيء جزءا في شيء آخر غير صحيح؛ لأن العدم ليس بمنشإ أثر حتى يصح أخذه جزءا لمركب ذي أثر؛ كما هو واضح.

(2) قيد لقوله: «زيادة الجزء»، توضيحه: أن اتصاف زيادة الجزء بكونها زيادة الجزء إنما هو في مورد لم يؤخذ في جزئية الجزء قيد الوحدة و كونه بشرط لا؛ إذ لو أخذ ذلك في جزئيته لم يصدق عليه زيادة الجزء، بل يندرج في نقص الجزء؛ إذ لو أخذ الجزء بشرط أن لا يتكرر فإنه إذا شرط عدم التكرر و تكرر لم يكن الفرض حينئذ من باب زيادة الجزء، بل من باب نقصان الجزء؛ لفرض أن الجزء أخذ بشرط لا، فإذا تكرر فقد فقد شرطه و المشروط عدم عند عدم شرطه.

و كيف كان؛ فإذا اعتبر في جزئية الركوع قيد الوحدة، و أتى به مرتين صدق عليه نقص الجزء؛ إذ لا فرق في عدم تحقق الركوع مثلا الذي هو جزء للصلاة بين تركه رأسا، و بين الإتيان به بدون شرطه، و هو عدم تكرره، فيصدق على كلا التقديرين أن الصلاة فاقدة للركوع المأمور به، فتكون باطلة من حيث النقيصة لا من حيث الزيادة.

(3) يعني: و إن اعتبر عدم زيادة الجزء في جزئيته لم تكن الزيادة من زيادة الجزء، بل تكون من نقصانه.

(4) هذا الضمير و ضمير «زيادته» راجعان على الجزء.

(5) تعليل لقوله: «ظهر مما مر حال زيادة الجزء»، و محصله: أن الشك في أخذ العدم شطرا أو شرطا في الواجب كالشك في أخذ الوجود شطرا أو شرطا فيه في جريان البراءة الشرعية فيه دون العقلية، فلو لا البراءة النقلية كان مقتضى الاحتياط العقلي بطلان الواجب و لزوم إعادته، فيصح العلم، للبراءة النقلية القاضية بعدم مانعية الزيادة، سواء أتى

ص: 432


1- الوصول إلى كفاية الأصول ج 4، ص 433.

فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا، أو سهوا (1) و إن استقل العقل (2) لو لا النقل بلزوم (3) الاحتياط لقاعدة الاشتغال.

نعم (4)؛ لو كان عبادة و أتى به...

=============

بالزيادة عمدا تشريعا، كما إذا علم بعدم جزئية الزيادة و مع ذلك قصد الجزئية تشريعا.

«أو جهلا» كما إذا اعتقد الجزئية للجهل القصوري أو التقصيري، فيأتي بالزيادة باعتقاد مشروعيتها.

(1) عطف على «عمدا»، و هذا إشارة إلى الزيادة السهوية التي عقد لها الشيخ مسألة على حدة.

فالمتحصل: أنه في جميع هذه الصور يصح الواجب.

و ضمير «اندراجه» راجع على الشك في اعتبار عدم الزيادة، و ضمير «فيه» راجع على «الواجب».

فالزيادة السهوية تندرج في الشك في شرطية عدمها، و الأصل فيه البراءة و صحة الواجب كما أفاده المصنف.

و أما الشيخ فيحكم بالبطلان لإلحاقه الزيادة السهوية بالنقيصة السهوية، لأن مرجعه إلى الإخلال بالشرط و هو عدم الزيادة.

(2) قيد لقوله: «فيصح» و إشارة إلى ما تقدم من جريان البراءة النقلية دون العقلية.

(3) متعلق ب «استقل» و قوله: «لقاعدة» متعلق ب «لزوم». و حاصله: أن مقتضى قاعدة الاشتغال بالمأمور به التام هو الاحتياط بالإعادة و عدم الاجتزاء بالمأتي به مع الشك في مانعية الزيادة؛ لكن البراءة النقلية الرافعة لمانعية الزيادة اقتضت صحة العبادة و عدم لزوم الاحتياط بإعادتها.

(4) استدراك على قوله: «فيصح»، و محصله: أن الواجب إن كان توصليا ففي جميع صور الزيادة يصح العمل، و لا تكون الزيادة من حيث هي موجبة للبطلان.

نعم؛ إذا كان الواجب عباديا فلا بد من ملاحظة أن الزيادة هل توجب فقدان قصد القربة فيه أم لا؟ فإن أوجبت ذلك أبطلت العبادة، و إلا فلا، و لذا أشار إلى بعض الصور التي يكون التشريع فيها منافيا لقصد القربة و مبطلا للعبادة، و هي ما إذا قصد كون الزيادة جزءا للواجب بحيث لو لم تكن جزءا لما أتى بالواجب.

و بعبارة أخرى: إن كان التشريع على وجه التقييد كان ذلك منافيا لقصد القربة فيبطل مطلقا، يعني: حتى في صورة الدخل واقعا، و ذلك لعدم انبعاثه عن أمر الشارع،

ص: 433

كذلك (1) على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه لكان باطلا مطلقا (2) أو في (3) صورة عدم دخله فيه؛ لعدم (4) قصد الامتثال في هذه الصورة (5)، أو يبطل في خصوص صورة عدم الدخل؛ لعدم قصد امتثال أمر الشارع، فالعقل بمقتضى قاعدة الاشتغال حاكم بلزوم الإعادة.

=============

و الحاصل: أن التشريع إن كان على وجه التقييد أوجب البطلان لعدم قصد امتثال أمر الشارع، و إلا فلا.

(1) أي: بقصد جزئية الزائد مطلقا، سواء كان عمدا تشريعا أم شرعا للجهل قصورا أو تقصيرا أم سهوا. و الظاهر أن إطلاق هذا الكلام يشمل جميع الصور الثلاث التي ذكرها الشيخ «قدس سره» من قصد كون الزائد جزءا مستقلا، و من كون الزائد و المزيد عليه جزءا واحدا، و من إتيان الزائد بدلا عن المزيد عليه، ففي جميع هذه الصورة يحكم المصنف بالصحة إلا في صورة كون التشريع على وجه التقييد.

(4) تعليل للبطلان، و حاصله: عدم الانبعاث عن الأمر الواقعي على ما هو عليه، و المفروض: أنه شرط التقرب، فقاعدة الاشتغال في صورة عدم الدخل واقعا تقضي بلزوم الإعادة؛ للشك في تحقق الإطاعة المقومة لعبادية العبادة.

(5) و هي صورة عدم الدخل واقعا، و الإتيان بالعمل المشتمل على الزائد على وجه

و الشيخ يذهب إلى البطلان في الصورة الأولى دون الأخيرتين، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في شرطية عدم الزيادة، و أصالة البراءة تقتضي عدمها، بخلاف الصورة الأولى، حيث إن المأتي به المشتمل على الزيادة بقصد كونها جزءا مستقلا غير مأمور به، قال «قدس سره»: «فلا إشكال في فساد العبادة... لأن ما أتى به و قصد الامتثال به و هو المجموع المشتمل على الزيادة غير مأمور به، و ما أمر به و هو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به»(1).

قوله: «على نحو» متعلق ب «كذلك» و إشارة إلى كون التشريع على وجه التقييد، و هو المراد ب «على نحو».

(2) يعني: حتى في صورة الدخل، فضمائر «به، فيه، إليه، وجوبه» راجعة على الواجب، و «وجوبه» فاعل «يدعو»، و «لكان» جواب «لو كان».

(3) عطف على «مطلقا»، و ضمير «دخله» راجع على الزائد، و ضمير «فيه» راجع على الواجب.

ص: 434


1- فرائد الأصول 371:2.

مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال (1) لقاعدة الاشتغال. و أما لو أتى به (2) على نحو يدعوه إليه (3)...

=============

التقييد، فمع عدم الدخل لا أمر واقعا حتى ينبعث عنه.

(1) يعني: مع الجهل بدخل الزيادة واقعا و عدمه، و من المعلوم: أنه مع هذا الجهل يشك في تحقق الامتثال الذي هو شرط صحة العبادة بل مقومها، و لذا يحكم العقل بلزوم الإعادة؛ لقاعدة الاشتغال الجارية في صورة الشك و اشتباه الحال. و أما مع القطع بعدم الدخل فالإعادة إنما هي للقطع بالبطلان، لا لقاعدة الاشتغال.

فكأن المصنف استدل بوجهين على بطلان العبادة مع التشريع:

الأول: الجزم بعدم امتثال الأمر الواقعي؛ لكونه قاصدا للأمر التشريعي.

الثاني: أنه مع التنزل و عدم دعوى القطع بالبطلان من جهة عدم قصد الامتثال، فلا أقل من بطلانها لأجل قاعدة الاشتغال الحاكمة بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك، و من المعلوم: أنه يشك في حصول الامتثال بهذا العمل المشتمل على الزائد مع التقييد.

فالمتحصل: أن المصنف يقول بالصحة في جميع موارد الزيادة العمدية و السهوية؛ إلاّ في العبادة التي يكون التشريع فيها مخلا بقصد القربة، و هو صورة التقييد، و الشيخ يقول بالبطلان في الزيادة السهوية مطلقا؛ لأن مرجعه إلى الإخلال بالشرط و هو عدم الزيادة.

و في الزيادة العمدية في خصوص الصورة الأولى، و هي ما أتى بالزيادة بقصد كونها جزءا مستقلا، دون الصورتين الأخيرتين، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في شرطية عدم الزيادة، و مقتضى أصل البراءة عدمها و صحة الواجب، و بهذا ظهر موردا اختلاف نظر المصنف و الشيخ.

(2) هذا إشارة إلى التشريع الذي لا يبطل العبادة؛ لعدم منافاته لقصد القربة، و هو ما إذا كان التشريع في تطبيق المأمور به الخالي عن الزيادة على المأتي به المشتمل عليها، بدعوى: أنه المأمور به بأمر الشارع، فلا يتصرف في المأمور به و لا في الأمر؛ بل في التطبيق فقط ادعاء، فداعوية أمر الشارع حينئذ ليست مشروطة بدخل الزيادة في موضوع الأمر؛ بل الانبعاث عن أمره ثابت مطلقا سواء كانت الزيادة دخيلة في الواجب أم لا، و لا موجب للبطلان حينئذ، إذ لا خلل في الامتثال و لا تحكم في مقام العبودية كما كان في صورة التقييد.

(3) أي: إلى الواجب، و كذا ضمير «به» و الضمير المستتر في «يدعوه» راجع على

ص: 435

على أي حال كان (1) صحيحا و لو كان (2) مشرّعا في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه (3) بدخله، فإن تشريعه (4) في تطبيق المأتي مع المأمور به و هو (5) لا ينافي قصده الامتثال و التقرب (6) به على كل حال (7).

(4) تعليل لقوله: «كان صحيحا و لو كان مشرعا»، و قد عرفت تقريبه، و أن التشريع في التطبيق ليس تشريعا في نفس الأمر و لا في المأمور به، فلا ينافي داعوية الأمر المقومة للقربة. و قوله: «في تطبيق» خبر «فإن تشريعه».

ثم إنه (8) ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة،...

=============

«وجوبه» و الضمير البارز فيه راجع على فاعل «أتى» يعني: و أما لو أتى بالواجب لا على نحو التشريع التقييدي كالصورة السابقة، بل على نحو يدعوه الوجوب إلى فعل الواجب على أي حال أي: سواء كانت الزيادة دخيلة في الواجب أم لم تكن دخيلة فيه.

(5) أي: التشريع في تطبيق المأمور به لا ينافي قصد الامتثال و التقرب بالأمر، إذ المفروض: أن التشريع ليس في نفس الأمر حتى يكون الأمر التشريعي داعيا له و منافيا لإطاعة أمر الشارع؛ بل الداعي للإطاعة هو أمر الشارع.

(6) عطف على الامتثال و ضمير «به» راجع على «وجوبه».

(1) جزاء «و أما»، و وجه الصحة في هذه الصورة ما عرفت من تحقق امتثال أمر الشارع، و عدم قدح التشريع في تطبيق المأمور به في داعوية الأمر.

(2) كلمة «لو» وصلية، يعني: و لو كان المكلف مشرّعا، و هذا بيان للفرد الخفي من الموردين اللذين تصح العبادة فيهما. و ضمير «دخله» راجع على المكلف، و ضمير «فيه» إلى الواجب.

(3) إذ مع علمه بدخل الزائد في موضوع الأمر لم يكن إدخال الزائد فيه تشريعا، و إن كان مخطئا في اعتقاده على تقدير عدم الدخل واقعا، فالتشريع منوط بالعلم بعدم دخل الزيادة في الواجب، أو عدم العلم بالدخل و عدمه، و ضمير «علمه» راجع على المكلف، و ضمير «دخله» إلى الزائد.

(7) يعني: سواء كان للزائد دخل واقعا أم لا، فإن هذا التشريع لا ينافي التقرب بأمر الشارع. و في المقام كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

(8) غرضه: الإشارة إلى ضعف ما قيل من إثبات صحة العبادة مع الزيادة باستصحاب الصحة لا بأصالة البراءة في الشك في مانعية الزيادة، بزعم أن الشك يكون في بقاء الصحة المعلومة حدوثا قبل فعل الزيادة المشكوكة بقاء بعد فعلها؛ للشك في

ص: 436

و هو (1) لا يخلو من كلام و نقض و إبرام خارج عما هو المهم في المقام (2)، و يأتي مانعية الزيادة، و هو مجرى استصحاب الصحة، لاجتماع أركانه، دون أصالة البراءة في مانعية الزيادة؛ لحكومته عليها.

=============

و لا يخفى: أن مورد هذا الاستصحاب هو ما إذا نشأ احتمال البطلان في أثناء الصلاة بزيادة جزء تشريعا، و أما إذا قصد التشريع من أول الصلاة بحيث كان الداعي له الأمر التشريعي، فلا مجال حينئذ للاستصحاب؛ لانهدام ركنه الأول و هو اليقين السابق بالصحة؛ بل اليقين بعدمها ثابت، فالاستصحاب يجري فيما لو علم بالصحة قبل فعل الزيادة و نشأ الشك في البطلان في الأثناء.

إذا عرفت هذا، فاعلم: أن للاستصحاب تقريبات عديدة نذكر بعضها:

منها: أن المستصحب موافقة الأجزاء السابقة لأوامرها الضمنية.

و منها: بقاء الأجزاء السابقة على تأثيرها في المصلحة، بداهة: أن لكل جزء تأثيرا في المصلحة المترتبة على الكل.

و منها: كون الأجزاء السابقة بحيث لو انضم إليها سائر الأجزاء لالتأم الكل و منها غير ذلك.

راجع لمعرفة جميع تقريبات الاستصحاب: «دروس في الرسائل، ج 4، ص 33-35».

(1) هذا إشارة إلى تضعيف الشيخ لهذا الاستصحاب، و حاصله: أن استصحاب صحة الأجزاء السابقة لا يجدي في صحة الأجزاء اللاحقة؛ لأن المستصحب إن كان هو الصحة بمعنى موافقة الأجزاء السابقة لأوامرها الضمنية فذلك قطعي البقاء، و لا شك فيها حتى يجري فيها الاستصحاب، حيث إن الشيء لا يتغير عما وقع عليه. و هذه الصحة مع القطع بها فضلا عن استصحابها لا تنفع في صحة الأجزاء اللاحقة.

و كذا الحال إن كان المستصحب هو المعنى الثالث؛ للعلم ببقاء قابلية الأجزاء السابقة للانضمام و عدم الشك فيه، و إنما الشك في مانعية الزيادة، و الاستصحاب لا يرفع المانعية، فمع الزيادة لا يعلم بالتئام الكل بانضمام اللاحقة إلى السابقة.

و إن كان المستصحب هو المعنى الثاني، فلعدم اليقين السابق حتى يكون الشك في البقاء ليستصحب، ضرورة: أن الشك في البقاء يتصور فيما إذا كان مشكوك المانعية رافعا لأثر الأجزاء السابقة، و أما إذا احتمل كونه مانعا عن تأثيرها من أول الأمر كان الشك في الحدوث دون البقاء، و معه لا مجال للاستصحاب.

(2) إذ المهم في المقام هو إحراز صحة العبادة مع الزيادة، بحيث يسقط بها الأمر، و هي الصحة الفعلية التي لا تثبت بالاستصحاب.

ص: 437

تحقيقه في مبحث الاستصحاب (1) إن شاء الله تعالى.

=============

(1) لا يخفى: أن المصنف «قدس سره» لم يف بوعده و لم يتعرض لتحقيقه في مبحث الاستصحاب.

و كيف كان؛ فالأولى في تضعيف استصحاب الصحة أن يقال: إن أقصى ما صح أن يدعى في تقريب استصحاب الصحة هو: أن المراد منه استصحاب صحة الأجزاء السابقة بمعنى: أنها قبل الزيادة كانت بحيث لو انضم إليها الأجزاء اللاحقة التأمت معها و حصل الكل بالمجموع، و بعد الزيادة يقع الشك في بقائها على هذه الصفة فتستصحب، و حينئذ: يرد عليه: أنه لو كان المراد من ذلك أن الأجزاء السابقة كانت بحيث لو انضم إليها تمام ما يعتبر في الواجب من الأجزاء و الشرائط التأم معها و حصل الكل بالمجموع، فهذا حق، و لكن لم يعلم حينئذ انضمام التآم؛ إليها إذ من المحتمل أن يكون من الشرائط عدم الزيادة و لم ينضم إليها إذ المفروض تحقق الزيادة.

و إن كان المراد منه: أن الأجزاء السابقة كانت بحيث لو انضم إليها بقية الأجزاء المعلومة دون المشكوكة لالتأم معها، و حصل الكل بالمجموع، فهذا ممنوع جدا إذ لم يكن لنا يقين كذلك كي تستصح الصحة بهذا المعنى. و هذا واضح. و أضربنا عن طول الكلام في المقام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - الكلام في مقامين: المقام الأول: في إمكان تحقق الزيادة عمدا أو سهوا و اعتبار القصد في تحققها.

المقام الثاني: في بيان الزيادة العمدية و السهوية.

الكلام في المقام الأول يقع من جهتين:

الأولى: إمكان تحقق الزيادة.

الثانية: اعتبار قصد الزيادة في تحققها.

و أما الجهة الأولى: فقد يقال فيها باستحالة الزيادة حقيقة؛ لأن الجزء المأخوذ في المركب إما مأخوذ على نحو لا بشرط أو على نحو بشرط لا، و لا يعقل تحقق الزيادة على كلا التقديرين؛ إذ على الأول: كل ما أتى به مصداق للمأمور به، سواء كان المأتي به واحدا أو أكثر.

ص: 438

و على الثاني: فالإتيان به مرة ثانية مستلزم لفقدان القيد المأخوذ في الجزء المستلزم للنقيصة لا محالة.

و الجواب عنه: أن اعتبار اللابشرطية لا ينافي تحقق الزيادة، فإن أخذ شيء جزءا للمركب لا بشرط يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يكون طبيعي ذلك الجزء مأخوذا في المركب، من دون نظر إلى وحدة الفرد و تعدده، و في مثل ذلك لا يمكن تحقق الزيادة كما مر.

و ثانيهما: أن يعتبر صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات جزءا، و لا بشرط بهذا المعنى لا يقتضي كون الوجود الثاني أيضا مصداقا للمأمور به، و حينئذ: تتحقق الزيادة مع كون الجزء مأخوذا لا بشرط بهذا المعنى. هذا مضافا إلى: أن الملاك في صدق الزيادة هو نظر العرف لا الدقة العقلية، و من الضروري صدقها عرفا و لو مع أخذ الجزء بشرط لا.

و أما الجهة الثانية: فالظاهر اعتبار القصد في تحقق الزيادة؛ إذ تحقق أجزاء المركبات الاعتبارية متقوم بالقصد.

2 - و أما حكم الزيادة: فهي صحة العبادة معها بمقتضى البراءة الشرعية؛ لأن الشك في بطلان العمل من جهة الزيادة العمدية أو السهوية يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمها في المأمور به لا محالة، و من الظاهر: أنه لو لم يقم عليه دليل كان مقتضى الأصل عدمه، فلا بأس بالزيادة العمدة فضلا عن السهوية. و أما البراءة العقلية فلا تجري بل يحكم العقل بالاحتياط.

فالمتحصل: أن الشك في أخذ العدم شرطا أو شطرا في الواجب كالشك في أخذ الوجود شرطا أو شطرا فيه في جريان البراءة الشرعية فيه دون البراءة العقلية، فيصح العمل للبراءة النقلية القاضية بعدم مانعية الزيادة، سواء أتى بها عمدا تشريعا أو جهلا أو سهوا. فيصح العمل في جميع هذه الصور.

نعم؛ إذا كان الواجب عباديا فلا بد من ملاحظة أن الزيادة هل توجب فقدان قصد القربة فيه أم لا؟ فإن أوجبت ذلك أبطلت العبادة و إلا فلا.

و التشريع إذا كان على نحو التقييد كان ذلك منافيا لقصد القربة فيبطل العمل

ص: 439

العبادي مطلقا أي: حتى في صورة دخل الزيادة في المأمور به واقعا؛ لعدم امتثال أمر الشارع.

3 - كأن المصنف استدل بوجهين على بطلان العبادة مع التشريع:

الأول: الجزم بعدم امتثال الأمر الواقعي لكونه قاصدا للأمر التشريعي.

الثاني: أنه مع التنزل و عدم دعوى القطع بالبطلان من جهة عدم قصد الامتثال، فلا أقل من بطلانها لأجل قاعدة الاشتغال الحاكمة بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك، و من المعلوم: أنه يشك في حصول الامتثال بهذا العمل المشتمل على الزائد مع التقييد.

فالمتحصل: أن المصنف يقول بالصحة في جميع موارد الزيادة العمدية و السهوية إلا في العبادة التي يكون التشريع فيها مخلا بقصد القربة و هو صورة التقييد.

4 - التمسك باستصحاب الصحة لإثبات الصحة لا بأصالة البراءة في الشك في مانعية الزيادة.

بزعم أن الشك يكون في بقاء الصحة المعلومة حدوثا قبل فعل الزيادة و هو مجرى استصحاب الصحة، و لا يخفى: أن مورد هذا الاستصحاب هو ما إذا نشأ احتمال البطلان في أثناء الصلاة بزيادة الجزء تشريعا.

و أما إذا قصد التشريع من أول الأمر و أول الصلاة؛ بحيث كان الداعي له الأمر التشريعي، فلا مجال حينئذ للاستصحاب لانهدام ركنه الأول و هو اليقين السابق بالصحة، بل اليقين بعدمها ثابت. فالاستصحاب يجري فيما لو علم بالصحة قبل فعل الزيادة و نشأ الشك في البطلان في الأثناء.

و يرد على التمسك بالاستصحاب بما حاصله: أنه إن كان المراد منه استصحاب الصحة الفعلية الكلية فلا يكون لذلك حالة سابقة، و إن كان المراد منه الصحة التأهلية فغير مفيد؛ لأنه لا يثبت عدم مانعية الزيادة.

5 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - جريان البراءة الشرعية لنفي مانعية الزيادة.

2 - مقتضى حكم العقل هو الاحتياط بإتيان العمل بدون الزيادة.

ص: 440

الرابع (1): أنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة (2)، و دار الأمر بين أن

=============

الرابع في تعذر الجزء أو الشرط
اشارة

الرابع في تعذر الجزء أو الشرط(1) الغرض من عقد هذا الأمر: بيان حال الجزء و الشرط من حيث الركنية و عدمها.

و قبل البحث لا بد من بيان ما هو محل الكلام في المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على مقدمة و هي بيان صور لهذه المسألة

الأولى: أن يكون لكل من دليلي المركب و الجزء إطلاق.

الثانية: أن يكون لخصوص دليل المركب إطلاق دون دليل الجزء كقوله: «الصلاة لا تترك بحال» و نفرض عدم إطلاق لدليل الجزء و الشرط.

الثالثة: عكس هذه الصورة كما إذا قيس قوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» و «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) إلى قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ (2)».

الرابعة: أن لا يكون لأحدهما إطلاق.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مورد البحث هو الصورة الرابعة، لأن حكم الصور الثلاثة المتقدمة واضح؛ لأنه في الصورة الأولى يقدم إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركب لكونه أخص منه و في الصورة الثانية يؤخذ بإطلاق دليل المركب و يحكم بالإتيان بالباقي، عكس الصورة الثالثة، فيؤخذ فيها بإطلاق دليل الجزء و يحكم بكونه مقوّما و ركنا.

و إنما الكلام في الصورة الرابعة حيث يدور أمرها بين أن يكون الجزء جزءا و الشرط شرطا مطلقا حتى في حال العجز عنه كي يسقط بتعذره أمر سائر الأجزاء أو في خصوص حال التمكن منه حتى لا يسقط بتعذره أمر الكل، و المرجع هو الأصل العملي من البراءة العقلية فإن العقاب على ترك الباقي الناقص الفاقد للجزء و الشرط بلا بيان فيكون قبيحا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(2) كما إذا لم يكن الدليل الجزء أو الشرط و لدليل المأمور به إطلاق كما عرفت.

ص: 441


1- المحاسن 78:1 /ذيل ح 1، الفقيه 67/33:1، تهذيب الأحكام 144/50:1، الوسائل 829/315:1.
2- البقرة: 43، 83، 110، الخ.

يكون جزءا أو شرطا مطلقا و لو (1) في حال العجز عنه، و بين (2) أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الأمر بالعجز عنه على الأول (3)؛ لعدم (4) القدرة حينئذ على المأمور به لا على الثاني (5)، فيبقى متعلقا (6) بالباقي و لم يكن (7) هناك ما يعين أحد الأمرين من (8) إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا، أو إطلاق (9) دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله (10)...

=============

(1) بيان للإطلاق، و ضمير «عنه» راجع على «شيء».

(2) عطف على «بين».

(3) و هو الجزئية المطلقة أو الشرطية كذلك، و الفاء في «فيسقط» للتفريع، يعني: أن ثمرة إطلاق الجزئية أو الشرطية هي سقوط الأمر بالكل، لانتفاء القدرة - التي هي شرط التكليف - على فعل المأمور به بتمامه، و ضميرا «منه، عنه» راجعان على «شيء» و المراد «بالأمر» هو الأمر بالكل، كأمر الصلاة، و الباء في «بالعجز» للسببية، يعني: أن العجز عن الجزء أو الشرط صار سببا لعدم القدرة على إتيان المأمور به، فلا محالة يسقط الأمر عن الكل.

(4) تعليل لسقوط الأمر بالكل بسبب العجز عن الجزء أو الشرط يعني: أن عدم القدرة على المأمور به الناشئ عن العجز المزبور صار علة لسقوط الأمر.

و قوله: «حينئذ» يعني: حين العجز عما علم دخله إجمالا في المأمور به.

(5) و هو اختصاص الجزئية أو الشرطية بحال التمكن، فيبقى الأمر متعلقا بما عدا الجزء أو الشرط غير المقدور.

(6) هذا هو الصواب، و ما في بعض النسخ من «معلقا» فلعله من سهو الناسخ، و ذلك لأن ظاهر قوله: «معلقا» هو عدم الجزء ببقاء الأمر بالباقي، و هذا خلاف لازم ما فرضه من دخل التمكن في الشرط و الجزء.

(7) عطف على قوله: «علم»، و ضمير «فيبقى» راجع على «الأمر».

(8) بيان ل «ما» الموصول و المراد بالأمرين: هو الجزئية أو الشرطية المطلقة أو المقيدة بحال التمكن.

(9) عطف على «إطلاق دليل» و لازم إطلاق المأمور به و إجمال دليل الجزء و الشرط هو وجوب الفاقد للمتعذر، لكونه مطلوبا سواء تمكن من المتعذر أم لا، فقوله: «مع إجمال» قيد لإطلاق دليل المأمور به، إذ لو كان لدليل الجزء إطلاق أيضا قدم على إطلاق دليل المأمور به لحكومته عليه.

(10) أي: إهمال الدليل، و ضميرا «اعتباره» في الموردين راجعان على «شيء» و المراد

ص: 442

لاستقل (1) العقل بالبراءة عن الباقي، فإن العقاب على تركه بلا بيان و المؤاخذة عليه بلا برهان.

لا يقال: نعم (2)؛ و لكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه.

=============

بالإجمال: هو قصور الخطاب عن إفادة الإطلاق في مقام الإثبات، لعدم ظهوره الناشئ عن إجماله؛ لا اشتراك اللفظ أو غيره، و المراد بالإهمال: هو عدم كون المولى في مقام البيان الذي هو من مقدمات الإطلاق.

(1) جواب «لو» في قوله: «لو علم بجزئية شيء...» الخ.

و محصل ما أفاده المصنف «قدس سره» من أول الأمر الرابع إلى هنا هو: أنه مع الشك في كون الجزء أو الشرط دخيلا في حالتي التمكن و العجز معا أو في خصوص حال التمكن، و عدم دليل اجتهادي يعين إحدى الكفتين تجري البراءة العقلية عن وجوب الباقي إذا تعذر بعض أجزاء الواجب أو شرائطه لأن العقاب على ترك الباقي بلا بيان.

(2) هذا استدراك على قوله: «لاستقل العقل» و إشكال عليه.

و غرض المستشكل: أن البراءة العقلية و إن كانت جارية في وجوب الباقي، و رافعة للعقاب على تركه، إلا إنه لا مانع من جريان البراءة الشرعية الثابتة بحديث الرفع و نحوه في نفي الجزئية أو الشرطية في حال التعذر و البناء على وجوب الباقي بها، حيث إن حديث الرفع يضيق دائرة الجزئية أو الشرطية و يخصصها بحال التمكن، فلا يكون للجزء أو الشرط المتعذر دخل في الواجب حتى يقيد الباقي به، و يلتزم بسقوطه، بل الباقي مطلق بالنسبة إلى المتعذر، فيجب الإتيان به، فوزان التعذر وزان النسيان، فكما يثبت بحديث الرفع وجوب ما عدا الجزء أو الشرط، المنسي فكذلك يثبت به وجوب ما عدا المتعذر من الجزء أو الشرط فقوله: «نعم» تصديق لجريان البراءة العقلية؛ و لكن البراءة الشرعية تثبت وجوب الباقي، لأن الشك في بقائه نشأ عن الشك في اعتبار المتعذر مطلقا حتى في حال التعذر، و حديث الرفع يرفع اعتباره كذلك و مقتضاه بقاء وجوب الباقي و عدم تقيده بالمتعذر. و عليه: فالمراد بحديث الرفع هنا: جملة «ما لا يعلمون» لفرض الجهل بكيفية دخل الجزء و الشرط في المأمور به. و ضمير «منه» راجع على «شيء» و المراد به:

الجزء أو الشرط.

ص: 443

فإنه يقال (1): إنه لا مجال هاهنا (2) لمثله، بداهة (3): أنه ورد في مقام الامتنان فيختص (4) بما يوجب نفي لتكليف لا إثباته (5).

=============

(1) هذا دفع الإشكال المزبور، و محصله: عدم جريان البراءة الشرعية في نفي الجزئية أو الشرطية في حال التعذر، بداهة أن من شرائط جريانها حصول الامتنان، و هو مفقود في تعذر الجزء أو الشرط، لأن لازم اعتبارهما في خصوص حال التمكن وجوب سائر الأجزاء عند تعذرهما، و هذا ينافي الامتنان المعتبر في جريان البراءة الشرعية، فلا يقاس التعذر بحال نسيان الجزء أو الشرط الذي تجري فيه البراءة الشرعية، و ذلك لأن في جريانها هناك كمال الامتنان، لاقتضائها نفي الإعادة بعد الالتفات و التذكر، ففرق بين بين النسيان و التعذر، لوجود الامتنان في جريان البراءة في الأول دون الثاني.

(2) يعني: في تعذر الجزء أو الشرط، و غرضه: بيان الفرق بين التعذر و بين النسيان و قد عرفت الفارق بينهما، و ضمير «أنه» للشأن، و ضمير «لمثله» راجع على «حديث الرفع».

(3) تعليل لقوله: لا مجال، و قد مرّ توضيحه: بقولنا بداهة: أن من شرائط جريانها حصول الامتنان و هو مفقود، و ضمير «أنه» راجع على «مثله».

(4) يعني: فيختص مثل حديث الرفع بنفي التكليف بقرينة قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «عن أمتي»، و ضمير «أنه» راجع على «مثل حديث الرفع».

(5) أي: إثبات التكليف كالمقام، فإن لازم اختصاص الجزئية أو الشرطية بحال التعذر بأصالة البراءة وجوب الباقي، و هو ينافي الامتنان؛ لأنه إثبات للتكليف، مع أن البراءة رافعة له.

فحاصل مرام المصنف «قدس سره» هو: أن البراءة العقلية تجري في نفي وجوب الباقي، و عدم العقاب على تركه، و لا تجري البراءة الشرعية في نفي الجزئية أو الشرطية لأنها تقتضي وجوب الباقي و هو خلاف الامتنان.

و كيف كان؛ ففي المسألة قولان: قول بعدم وجوب الباقي بالبراءة العقلية و هو مختار المصنف «قدس سره»، و قول بوجوب الباقي.

و قد استدل عليه بوجوه: منها الاستصحاب كما أشار إليه المصنف بقوله: «نعم؛ ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي...» الخ. و يمكن تقريب الاستصحاب بوجهين: على ما هو ظاهر كلام المصنف «قدس سره»، أحدهما: أن يستصحب الوجوب الكلي الجامع بين الضمني و الاستقلالي المتعلق بغير المتعذر من

ص: 444

نعم؛ ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا.

و لكنه (1) لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي، الأجزاء و الشرائط، فإن وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتا و نشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه، فتمسك بالاستصحاب في الحكم ببقائه.

=============

و بعبارة أخرى أن يقال: إن الصلاة كانت واجبة مع السورة و الاستقبال و الستر مثلا و يشك في حدوث الوجوب لها مقارنا لتعذر بعض أجزائها أو شرائطها، فيستصحب طبيعي الوجوب الجامع بين الغيري المرتفع بتعذر البعض، و النفسي المحتمل حدوثه للباقي مقارنا لارتفاع الوجوب الغيري. هذا ثاني وجوه ثالث أقسام استصحاب الكلي؛ كاستصحاب كلي الاستصحاب مثلا فيما إذا وجد في ضمن زيد و علم بارتفاعه و شك في وجود عمرو مقارنا لارتفاعه.

و المراد من بعض الصور: ما إذا علم بوجوب الباقي قبل طروء التعذر، كما إذا تعذر بعض الأجزاء بعد توجه الخطاب و تعلق الأمر بالكل؛ إذ لو كان التعذر قبل ذلك لم يكن هناك يقين بوجوب الباقي حتى يستصحب؛ بل الشك حينئذ يكون في أصل الحدوث لا في البقاء، و من المعلوم: أن المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء دون الحدوث.

قوله: «أيضا» يعني: كوجوب الباقي قبل التعذر.

و ثانيهما: كون المستصحب خصوص الوجوب النفسي القائم بالكل بدعوى: بقاء الموضوع بالمسامحة العرفية، و جعل المتعذر من الجزء أو الشرط من قبيل حالات الموضوع لا من مقوّماته، فيقال: «هذا الباقي كان واجبا نفسيا سابقا، و الآن كما كان»، نظير المثال المعروف و هو استصحاب كرّية ماء أو قلته فيما إذا أخذ منه مقدار أو زيد عليه، فيقال: «إن هذا الماء كان كرّا أو قليلا و الآن كما كان»، مع وضوح: أن هذا الماء بالدقة العقلية و مع الغض عما زيد عليه أو نقص عنه لم يكن كرّا أو قليلا؛ لكنه بالمسامحة العرفية كذلك. هذا تمام الكلام في إثبات وجوب الباقي بالاستصحاب.

(1) أي: الاستصحاب، و يمكن أن يكون الضمير للشأن.

و كيف كان؛ فغرضه «قدس سره»: هو الإشكال على أول تقريبي الاستصحاب و حاصله: أن الاستصحاب بالتقريب الأول يكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي، و هو ليس بحجة كما يأتي في باب الاستصحاب.

ص: 445

أو على (1) المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب، و كان ما تعذر مما يسامح به عرفا؛ بحيث (2) يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، و ارتفاعه (3) لو قيل بعدم وجوبه، و يأتي (4) تحقيق الكلام في غير المقام (5).

=============

(1) عطف على «على صحة...» الخ، و إشارة إلى التقريب الثاني من الاستصحاب، و غرضه: التنبيه على أن صحة الاستصحاب على التقريب الثاني منوطة بالمسامحة العرفية في تعيين موضوع الاستصحاب؛ بأن لا يكون المتعذر جزءا أو شرطا من مقوّمات الموضوع؛ بل من حالاته المتبادلة حتى يصح أن يقال: إن الفاقد هو الواجد عرفا ليجري فيه الاستصحاب، فلو كان المفقود قادحا في صدق اتحاد الفاقد مع الواجد عرفا، كما إذا كان المفقود معظم الأجزاء لم يجر الاستصحاب؛ لعدم صدق الشك في البقاء حينئذ. و مختار المصنف جواز المسامحة العرفية في الموضوع.

(2) متعلق ب «يسامح» و بيان لمقدار التسامح، يعني: أن تكون المسامحة العرفية بمثابة يصدق على الفاقد للمتعذر أنه الموضوع السابق، كما إذا لم يكن المتعذر معظم الأجزاء و الشرائط حتى يكون وجوبه بقاء ذلك الوجوب لا وجوبا حادثا لموضوع جديد، و عدم وجوبه ارتفاعا له عن ذلك الموضوع؛ إذ مع عدم صدق الموضوع لا يعدّ رفع الحكم رفعا عنه و نقضا لليقين السابق؛ بل هو من باب عدم الموضوع.

و الحاصل: أنه لا بد في صحة الاستصحاب من صدق النقض على نفي الحكم و الإبقاء على إثباته، و هذا الصدق منوط بوحدة الموضوع، نظير استصحاب عدالة زيد، فإن موضوعها لا ينثلم بالمرض و الصحة و الفقر و الغنى، فإذا شك في عدالته فلا مانع من استصحابها مع عروض هذه العوارض؛ لأنها من الحالات المتبادلة التي لا يتغير بها الموضوع أعني: زيدا. و ضمير «تعذره» راجع على ما شك في كيفية دخله من الجزء و الشرط.

(3) عطف على «بقاء» الذي هو فاعل «يصدق»، و ضمير «ارتفاعه» راجع على «الوجوب»، و ضمير «وجوبه» راجع على «الباقي». و «لو قيل» قيد لبقاء الوجوب.

(4) بعد التنبيه الرابع عشر من تنبيهات الاستصحاب، و قد اختار هناك كون المرجع في تعيين الموضوع هو نظر العرف دون غيره من العقل و دليل الحكم، و ضمير «منه» راجع على «تعيين».

(5) أي: في غير هذا المقام المبحوث عنه فعلا، و هو أواخر الاستصحاب حيث إنه يبحث هناك عن تعيين الموضوع في الاستصحاب. هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية في المسألة.

ص: 446

كما أن وجوب الباقي في الجملة (1) ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله و أما حكمها القواعد الثانوية و الأدلة الاجتهادية: فقد ادعى ثبوت الأخبار الدالة على وجوب الباقي عند تعذر بعض الأجزاء، و المستفاد من هذه الأخبار: قاعدة يصطلح عليها ب «قاعدة الميسور».

=============

قاعدة الميسور

(1) أي: في خصوص ما يعد فاقد الجزء أو الشرط ميسورا للواجد لا مطلقا، كما هو مفاد قوله «عليه السلام»: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، أو في خصوص الجزء دون الشرط كما هو مقتضى الخبر الأول و الثالث المذكورين في المتن.

و كيف كان؛ فغرض المصنف «قدس سره» - بعد أن اختار هو عدم وجوب الباقي للبراءة العقلية -: الإشارة إلى أدلة القائلين بوجوب الباقي، و هي الاستصحاب الذي تقدم تقريبه بالوجهين، و قاعدة الميسور التي تعرض لها بقوله: «مقتضى ما يستفاد»، و الفرق بينها و بين الاستصحاب هو: أن القاعدة دليل اجتهادي و معها لا تصل النوبة إلى الأصل العملي أعني: الاستصحاب، كما لا تجري معها البراءة العقلية في وجوب الباقي لورود قاعدة الميسور عليها، حيث إنها بيان رافع لعدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان.

و كيف كان؛ فقد يستدل على وجوب الباقي تحت عنوان قاعدة الميسور المستفادة من الأخبار، و هذه الأخبار ثلاثة مروية في غوالي اللئالي:

الأول: النبوي الشريف و هو قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم».

و الثاني - العلوي الشريف و هو - قول علي «عليه السلام»: «الميسور لا يسقط بالمعسور».

و الثالث: - العلوي الشريف أيضا و هو -: قوله «عليه السلام»: «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

فيقع الكلام في هذه الروايات واحدا بعد واحد. فنقول: إنه قد اشتهر نقل هذه الروايات بين الأصحاب و عملهم بها و استنادهم في فتاويهم إليها، و هذا يكفي في الوثوق بها و حجيتها و في عدم لزوم التفتيش عن سندها، فيقع الكلام في دلالتها فقط.

فيقع الكلام في دلالتها إجمالا قبل البحث فيها تفصيلا.

و أما دلالتها على ما هو المقصود إجمالا: فلأن المستفاد منها هو عدم سقوط

ص: 447

«صلى الله عليه و آله و سلم»: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1). و قوله:

«الميسور لا يسقط بالمعسور»(2) ، و قوله: «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(3) ، و دلالة التكليف بتعذر بعض الأجزاء و الشرائط، بل يجب على المكلف الإتيان بما يتمكن منه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، و ما لا يتمكن المكلف من إتيان كله لا يجوز له ترك الكل، بل عليه الإتيان بما يتمكن منه. و كذلك النبوي ظاهر في وجوب إتيان ما يتمكن منه المكلف من بعض الأجزاء بعد عدم التمكن من الجميع؛ لأنه كلمة «من» في قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «فأتوا منه» ظاهرة في التبعيض إن لم تكن حقيقة فيه، و كلمة «ما» في قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «ما استطعتم» ظاهرة في الموصولة، فيدل النبوي على وجوب الإتيان بما هو المقدور من المركب. هذا مجمل الكلام في دلالة هذه الأخبار على المطلوب.

=============

و أما تفصيل الكلام في دلالتها فنقول: إن المحتملات في الرواية الأولى - أعني:

النبوي الشريف - هي أربعة:

الأول: أن تكون كلمة «من» تبعيضية بحسب الأجزاء، و يكون المعنى: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا من أجزائه ما استطعتم»، و هذا هو المطلوب في المقام.

الثاني: أن تكون كلمة «من» تبعيضية، و لكن بحسب الأفراد، و المعنى حينئذ: «فأتوا من أفراده ما استطعتم»، و هذا خارج عن البحث في ما نحن فيه و لا ينفعنا في المقصود؛ لأن الكلام في الميسور من الأجزاء لا الأفراد.

و يشهد لهذا الاحتمال: مورد الرواية؛ لأن سؤال السائل كان عن وجوب الحج في كل سنة، فكان سؤاله عن الأفراد لا عن الأجزاء.

الثالث: أن تكون كلمة «من» للتعدية بمعنى الباء، فيكون قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «فأتوا به» نظير قولك: أتى به، أو يأتون به، و المعنى حينئذ: «فأتوا بالعمل ما استطعتم»، و المقصود منه: تكرار العمل بقدر الاستطاعة، و تكون الرواية ناظرة حينئذ إلى الأفراد أيضا.

الرابع: أن تكون كلمة «من» بيانية، و كلمة «ما» موصولة، فيكون حاصل المعنى: أنه إذا أمرتكم بطبيعة فأتوا ما استطعتم من أفرادها، و هذه الاحتمالات متصورة في الرواية

ص: 448


1- بحار الأنوار 31:22، مسند أحمد 247:2، صحيح البخاري 142:8.
2- عوالي اللآلي 205/58:4.
3- عوالي اللآلي 207/58:4.

الأول مبنية على كون كلمة «من» تبعيضية (1)...

=============

الأولى؛ و لكن المفيد بالمقصود هو الاحتمال الأول فقط؛ و لكنه لا يناسب مورد الرواية، فهذه الرواية أجنبية عن المقام و لا تدل على ما هو المقصود.

و أما الرواية الثانية: و هي قوله «عليه السلام»: «الميسور لا يسقط بالمعسور» فتقريب الاستدلال بها و إن كان واضحا؛ و لكن يرد عليه:

أولا: بمثل ما أورد على الحديث الأول من أن كلمة «الميسور» مردّدة بين الميسور من الأفراد و الميسور من الأجزاء، فلا يمكن الاستدلال به لكونه مجملا و خارجا عن محل الكلام على أحد الاحتمالين.

و ثانيا: بأن المجموع من الأجزاء واجب بوجوب استقلالي، و الباقي من الأجزاء واجب بوجوب ضمني، و ليس الواجب بالوجوب الضمني ميسورا للواجب بالوجوب الاستقلالي، فيتعين أن يكون هذا الحديث مختصا بالميسور من الأفراد، و لا يشمل الميسور من الأجزاء.

و أما الرواية الثالثة: و هي قوله «عليه السلام»: «ما لا يدرك كله لا يترك كله» فيرد على الاستدلال بها:

أولا: أن كلمة «كل» مجملة لدورانها بين المجموع بحسب الأفراد و المجموع بحسب الأجزاء.

و ثانيا: إجمال قوله «عليه و آله السلام»: «لا يترك»، و دورانه بين إرادة الوجوب بالخصوص و إرادة الأعم من الوجوب و الندب، فلا يمكن الاستدلال؛ بها لأنه بناء على الاحتمال الثاني لا يستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي. فالنتيجة هي: عدم تمامية الاستدلال بهذه الروايات على وجوب الباقي عند تعذر بعض الأجزاء.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(1) غرضه: أن الاستدلال بالخبر الأول على قاعدة الميسور مبني على أمرين:

الأول: كون كلمة «من» تبعيضية؛ إذ لو كانت بيانية أو بمعنى الباء فمعنى الخبر حينئذ: وجوب الإتيان بنفس المأمور به الكلي بقدر الاستطاعة لا وجوب الإتيان ببعضه الميسور كما هو المقصود، فلا يشمل الخبر الكل و المركب الذي تعذر بعض أجزائه.

الثاني: كون التبعيض بحسب الأجزاء لا الأفراد؛ إذ مفاد الخبر حينئذ هو وجوب الإتيان بما تيسر من أفراد الطبيعة، فيدل على وجوب التكرار، و عدم كون المطلوب صرف الوجود، و لذا استدل به بعض المحققين كصاحب الحاشية في مبحث الأوامر على وجوب التكرار في قبال القول بالمرة و القول بالطبيعة. و من المعلوم: أنه أجنبي عن

ص: 449

لا بيانية (1) و لا بمعنى الباء، و ظهورها (2) في التبعيض و إن كان مما لا يكاد يخفى (3)؛ إلا إن (4) كونه بحسب الأجزاء غير واضح؛...

=============

المطلوب و هو وجوب ما تيسر من أجزاء المركب الذي تعذر بعض أجزائه.

(1) «المراد بها: كون مدخول «من» هو الجنس الذي يكون المبين - بالفتح - منه كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ و قوله: «أثوابى من قطن و خواتيمى من فضة»(1)، و هذا الضابط للبيانية لا ينطبق على المقام، ضرورة: أن مدخول «من» هنا ليس إلا نفس الشيء المذكور قبله، حيث إن الضمير عين مرجعه. فكأنه قيل: «إذا أمرتكم بشيء فأوجدوه ما استطعتم»، و هذا عبارة أخرى عن دخل القدرة في متعلق الخطاب، و أنه مع التمكن يجب فعل المأمور به و لا يجوز تركه، و هذا لا يدل على وجوب بعض المركب المأمور به إذا تعذر بعض أجزائه، لو لم يدل على وجوب تكرار الطبيعة المأمور بها كما مر آنفا»(2).

و حاصل الكلام في المقام: أن جعل «من» بمعنى الباء في كل مورد، و بيانية في خصوص هذا المورد خلاف الظاهر الذي لا يصار إليه بلا دليل، فالمتعين حينئذ: كون كلمة «من» تبعيضية لا بيانية و لا بمعنى الباء، و مع ذلك لا يدل الخبر الأول على اعتبار قاعدة الميسور في المقام؛ و ذلك لما عرفت: من احتمال الميسور بحسب الأفراد، و محل الكلام هو الميسور بحسب الأجزاء لا الأفراد.

(2) أي: كلمة «من» في التبعيض الذي هو عبارة عن صحة قيام كلمة «بعض» مقام كلمة «من»، و قد عرفت: تقريب هذا الظهور الذي هو أحد الوجهين اللذين يكون الاستدلال بالخبر الأول مبنيا عليهما.

(3) لما مر من عدم ثبوت استعمال «من» بمعنى الباء، و عدم انطباق ضابط البيانية أيضا عليه، فالمتعين كون «من» هنا للتبعيض، فهذا الوجه الأول ثابت.

(4) غرضه: الإشكال على كون التبعيض بحسب الأجزاء لا الأفراد.

و محصل الإشكال: أن التبعيض إن كان بلحاظ الجامع بين الأجزاء و الأفراد؛ بأن يراد بالشيء ما هو أعم من الكل ذي الأجزاء كالصلاة و الحج و الكلي و ذي الأفراد كالعالم، أو بلحاظ خصوص الأجزاء، كان الخبر دليلا على المقصود و هو وجوب بعض أجزاء المركب مع تعذر بعضها الآخر.

ص: 450


1- الحج: 30.
2- منتهى الدراية 338:6.

لاحتمال (1) أن يكون بلحاظ الأفراد.

و لو سلم (2) فلا محيص عن أنه - هاهنا - بهذا اللحاظ (3) يراد، حيث (4) ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به، فقد روي: «أنه خطب رسول الله، فقال: «إن الله كتب عليكم الحج»، فقام عكاشة و يروى سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول الله ؟ فاعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال: «ويحك و ما يؤمنك أن أقول نعم، و الله لو قلت نعم لوجب، و لو وجب ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، و إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

=============

و إن كان بلحاظ الأفراد أو مجملا: لم يصح الاستدلال بالخبر المزبور على المقصود.

و ضمير «كونه» راجع على «التبعيض».

(1) تعليل لقوله: غير واضح. و محصله: أن احتمال كون التبعيض بلحاظ الأفراد مانع عن الاستدلال بالخبر المزبور؛ لما مر من ابتنائه على كون التبعيض بلحاظ الأجزاء دون الأفراد، و مع هذا الاحتمال المصادم لظهور كون التبعيض بلحاظ الأجزاء يسقط الاستدلال. و اسم «يكون» ضمير راجع على التبعيض.

(2) يعني: و لو سلم ظهور كلمة «من» في التبعيض بلحاظ الأجزاء بحسب الاستعمالات المتعارفة، و لكنه بقرينة المورد لا بد هنا من إرادة التبعيض بحسب الأفراد، حيث إن هذا الخبر ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أن خطب رسول الله «صلى الله عليه و آله و سلم»، فقال: «إن الله كتب عليكم الحج»، فقام عكاشة إلى آخر ما ذكره في المتن، فلا محيص عن إرادة التبعيض هنا بحسب أفراد العام لا بحسب أجزاء الكل؛ إذ لا معنى لوجوب بعض أجزاء الحج في كل عام.

(3) أي: لحاظ الأفراد، و ضمير «أنه» راجع على التبعيض، و المشار إليه في «هاهنا» هو الخبر النبوي المذكور الوارد في الحج، و «يراد» خبر «أنه».

(4) تعليل لقوله: «فلا محيص»، و قد مر تقريبه بقولنا: «و لكنه بقرينة المورد لا بد هنا من إرادة التبعيض بحسب الأفراد.

فمحصل ما أفاده المصنف «قدس سره» في هذا الخبر: عدم تمامية الاستدلال به على وجوب الإتيان بالمركب الذي تعذر بعض أجزائه.

و المراد من الاستطاعة المذكورة في آخر الخبر هو: الاستطاعة العرفية لا العقلية، ضرورة: أن ترك إطاعة الأمر لعدم الاستطاعة العقلية لا يوجب الكفر كما هو قضية قوله

ص: 451

و من ذلك (1): ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضا (2)، حيث (3) لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛ لاحتمال (4) إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها (5).

=============

«صلى الله عليه و آله و سلم»: «و لو تركتم لكفرتم».

فمعناه: «أنه لو قتل: نعم، لوجب عليكم الحج في كل عام و كان ذلك عسرا عليكم، و لو تركتم و لو مع المشقة العرفية لكفرتم».

(1) أي: و من عدم ظهور الخبر الأول في التبعيض بحسب الأجزاء ظهر الإشكال في دلالة الخبر الثاني و هو: «الميسور لا يسقط بالمعسور».

و الإشكال عليه من وجهين:

أحدهما: أن الميسور أن يكون بحسب الأفراد لا بحسب الأجزاء، و المفروض: أن الاستدلال به منوط بإرادة الميسور من الأجزاء، و مع احتمال إرادة غيره لا يصلح للاستدلال به على المقام.

ثانيهما: أنه لا يدل على المطلوب و هو وجوب الأجزاء الميسورة بتعذر بعض الأجزاء أو الشرائط، حيث إن الميسور عام للواجبات و المستحبات، فإن دل الخبر على وجوب الميسور لزم خروج المستحبات التي تعذر بعض أجزائها أو شرائطها، فيدور الأمر بين تخصيص الميسور بالواجبات و إخراج المستحبات عنه، و هو مخالف لبنائهم على جريان قاعدة الميسور فيها أيضا، و بين التصرف في ظهور الأمر في الوجوب و حمله على مطلق الرجحان، فلا يدل حينئذ على وجوب الباقي الميسور و هو المطلوب في المقام، و الظاهر عدم أولوية أحد التصرفين من الآخر، فلا يصح الاستدلال به على وجوب الميسور؛ كعدم صحته بناء على أظهرية حمل الأمر على مطلق الرجحان و المطلوبية كما قيل من تخصيص الميسور بالواجبات.

(2) يعني: كالإشكال على الخبر الأول، و المراد بالثاني: هو خبر «الميسور لا يسقط بالمعسور».

(3) هذا تقريب الإشكال الأول المتقدم بقولنا: «أحدهما: أن الميسور يحتمل...» الخ.

(4) تعليل لقوله: «حيث لم يظهر» و حاصله: أن هذا الاحتمال مصادم لاحتمال «الميسور من الأجزاء» بحيث يبطل الاستدلال على قاعدة الميسور، و الضمير المستتر في «يظهر» راجع على الثاني.

(5) هذا الضمير راجع على «أفراد»، و «من أفراد» متعلق «بالميسور»، و «بالمعسور» متعلق ب «سقوط».

ص: 452

هذا مضافا (1) إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما (2)؛ لعدم (3) اختصاصه بالواجب، و لا مجال معه (4) لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم؛ إلا (5) أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان أو ندبا بسبب سقوطه (6) عن المعسور؛ بأن

=============

(1) هذا إشارة إلى ثاني وجهي الإشكال المتقدم آنفا بقولنا: «ثانيهما: أنه لا يدل على المطلوب و هو وجوب الأجزاء الميسور...» الخ.

(2) يعني: كما هو المطلوب، فلا يدل الخبر الثاني على وجوب الأجزاء الميسورة؛ لعدم اختصاصه بالواجبات؛ لما عرفت: من عموم «الميسور» لكل من الواجب و المستحب، و ضميرا «دلالته، اختصاصه» راجعان على «الثاني».

(3) تعليل لعدم دلالة الخبر الثاني على عدم سقوط الميسور لزوما، و قد عرفت تقريبه بقولنا: «لعدم اختصاصه بالواجبات لما عرفت من عموم...» الخ.

(4) أي: مع عدم اختصاص الخبر الثاني بالواجب لا مجال لتوهم دلالته على أن عدم السقوط يكون بنحو اللزوم، و هذا من تتمة الإشكال، فالأولى أن يقال: «فلا مجال» لأنه نتيجة عدم اختصاصه بالواجب. و ضمير «دلالته» راجع على «الثاني»، و ضمير «أنه» راجع على «عدم السقوط».

(5) هذا دفع الإشكال الثاني المذكور بقوله: «مضافا إلى عدم دلالته»، و استدراك عليه.

و محصل الدفع: أن «لا يسقط» إن كان إنشاء لوجوب الميسور كانت المستحبات خارجة عن مورد قاعدة الميسور، و اختصت القاعدة بالواجب المتعذر بعض أجزائه؛ لكنه ليس كذلك، لظهور «لا يسقط» في حكايته عن عدم سقوط حكم الميسور من الوجوب أو الندب بسقوط حكم المعسور، فيشمل كلا من الواجب و المستحب المتعذر بعض أجزائهما أو شرائطهما، فلا تخرج المستحبات عن حيز قاعدة الميسور، و هذا ك «إبقاء ما كان» في الاستصحاب، فمعنى «لا تنقض اليقين بالشك» إبقاء المتيقن السابق، سواء كان حكما تكليفيا أم وضعيا أم موضوعا، و ليس معناه وجوب الإبقاء حتى يختص الاستصحاب بالواجبات.

و ثبوت حكم الميسور بلسان ثبوت موضوعه، و هو الميسور نظير نفي الموضوع المراد به نفي حكمه ك «لا ضرر» و نحوه من العناوين الثانوية الرافعة للحكم الأولي، فلزوم البيع مثلا منفي إن كان ضرريا.

(6) أي: سقوط الحكم عن المعسور. و ضميرا «سقوطه، له» راجعان على الميسور، و «من» بيان ل «ما» الموصول، و «بسبب متعلق ب «عدم سقوطه».

ص: 453

يكون (1) قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث (2) إن الظاهر من مثله هو ذلك (3)، كما إن الظاهر من مثل «لا ضرر و لا ضرار» هو نفي ما له من تكليف أو وضع لا (4) أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه و بقائه على عهدة المكلف كي لا يكون

=============

(1) هذا مبين لكون سقوط الميسور بماله من الحكم، و قد مر آنفا تقريبه بقولنا:

«و محصل الدفع أن لا يسقط...» الخ. فقوله: «بحكمه» أي: بما للميسور من الحكم واجبا كان أم مستحبا.

(2) غرضه: الاستشهاد على كون قضية الميسور كناية عن عدم سقوط حكمه بأن الظاهر من مثل هذا الكلام النافي لموضوع أو المثبت له هو نفي الحكم عن الموضوع أو إثباته له، حيث إن نفي الموضوع أو إثباته شرعا لا يراد منه الرفع التكويني أو الإثبات كذلك؛ لمنافاة التكوين للتشريع، و من المعلوم: أن مورد الرفع و الوضع التشريعيين هو الحكم، فإثبات الموضوع شرعا أو نفيه كذلك لا معنى له إلا إثبات حكمه أو نفيه، نظير «لا ضرر»، فإن نفي الضرر الخارجي كذب، فالمراد به: نفي حكمه مطلقا تكليفيا كان أم وضعيا، و هذا التعبير عن ثبوت الحكم بلسان ثبوت موضوعه و نفيه بلسان نفي موضوعه شائع متعارف، و ضميرا «سقوطه، بحكمه» راجعان على الميسور، و ضمير «مثله» راجع على «الثاني» المراد به «الميسور لا يسقط بالمعسور»، و المراد ب «مثله»: كل ما هو بلسانه من إثبات الموضوع أو نفيه.

(3) أي: عدم سقوطه بحكمه، و حاصله: أن إثبات الموضوع و نفيه في الخطابات الشرعية كناية عن إثبات حكمه شرعا أو نفيه كذلك.

(4) يعني: لا أن قضية الميسور عبارة عن عدم سقوط الميسور بنفسه و بقائه على عهدة المكلف حتى تختص القاعدة بالواجبات و لا تشمل المستحبات؛ لاختصاص العهدة بالواجبات.

و الحاصل: أن الجمود على ظاهر إسناد عدم السقوط إلى نفس الميسور يقتضي أن يكون نفس الميسور ثابتا في الذمة، و حيث إنه لا عهدة في المستحبات فيختص بالواجبات، و لا يشمل المستحبات.

و لكن أورد عليه: بأن الظاهر من ثبوت الموضوع شرعا و نفيه كذلك هو ثبوت الحكم أو نفيه عنه، و عليه: فيدل «الميسور لا يسقط بالمعسور» على ثبوت حكمه مطلقا وجوبا كان أم مستحبا، فتجري قاعدة الميسور في المستحبات بلا عناية و تكلف، و ضمائر «سقوطه، بنفسه، بقائه» راجعة على الميسور.

ص: 454

له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه (1)، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر (2)، فافهم (3).

و أما الثالث (4): فبعد تسليم (5) ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي لا

=============

(1) و هو جعل «لا يسقط» للوجوب، فإنه حينئذ يختص بالواجبات و لا يشمل المستحبات.

(2) أي: على وجه آخر و هو حمله على الثبوت و مطلق الرجحان و المطلوبية.

(3) لعله إشارة إلى: أن حمل «عدم السقوط» على عدم سقوطه بنفسه و بقائه على عهدته لا يوجب خروج المستحبات عن حيّز قاعدة الميسور؛ إذ لا مانع من كون المستحبات في عهدة المكلف كالواجبات، و يدل عليه: مثل ما رواه مرازم، قال: (سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله «عليه السلام»، فقال: أصلحك الله إن عليّ نوافل كثيرة، فكيف أصنع ؟ فقال: «اقضها، فقال: إنها أكثر من ذلك قال: اقضها، قلت: لا أحصيها، قال: توخّ »)(1) الحديث.

و عليه: فالمستحب كالواجب يستقر في العهدة، غاية الأمر: عدم وجوب إبراء الذمة عنه، نظير كون المال الذي أتلفه الصبي في عهدته مع عدم وجوب إبراء ذمته قبل بلوغه، فلا ملازمة بين الحكم الوضعي و التكليفي.

أو إشارة إلى: أن ما اختاره من عدم سقوط الميسور بما له من الحكم وجوبا كان أو ندبا يشمل الواجب و المندوب بلا تكلف، فلا يلزم خروج المستحبات أصلا.

(4) و هو «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

(5) هذا إشارة إلى أحد الإشكالات التي أوردها الشيخ الأنصاري «قدس سره» على الاستدلال بهذا الخبر.

و محصل هذا الإشكال: أن الاستدلال به منوط بإرادة الكل ذي الأجزاء من كلمة «كله» كما هو واضح؛ إذ لو أريد الكل ذو الأفراد كما هو المحتمل كان أجنبيا عن مورد قاعدة الميسور، فإذا أمر بصوم كل يوم من شهر رمضان أو إكرام كل عالم، تعذر صوم بعض الأيام أو وجوب إكرام بعض العلماء، فلا وجه للتمسك بقاعدة الميسور لوجوب صوم بعض الأيام أو وجوب إكرام بعض العلماء؛ لأن الميسور منهما ليس ميسورا لذلك المعسور بعد وضوح كون صوم كل يوم و إكرام كل فرد من أفراد العالم موضوعا مستقلا

ص: 455


1- الكافي 4/451:3، علل الشرائع 362:2 /ب 82، ح 2، تهذيب الأحكام 26/12:2، الوسائل 4558/78:4.

دلالة له (1) إلا على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به - واجبا أو مستحبا - عند (2) تعذر بعض أجزائه؛ لظهور (3) الموصول فيما يعمها، و ليس...

=============

للحكم بنحو العام الاستغراقي.

و المصنف «قدس سره» - بعد تسليم ظهور الخبر في الكل المجموعي حتى يشمل المركب و يصح الاستدلال به من هذه الحيثية على قاعدة الميسور، و الغض عن احتمال إرادة الكل الأفرادي من لفظ «كله» الأول - يورد على الاستدلال به من جهة أخرى، و هي: أن الموضوع و هو «ما» الموصول عام يشمل الواجبات و المستحبات، فلا بد حينئذ أن يراد من «لا يترك» معنى عام و هو مطلق الرجحان ليناسب عمومية الموضوع؛ لامتناع أخصية المحمول من الموضوع «الحيوان إنسان»، و لئلا يلزم وجوب الإتيان بالبعض الميسور من المستحب الذي تعذر بعض أجزائه إن أريد به حرمة الترك، و من المعلوم: أن مطلق الرجحان لا يدل على حرمة ترك الباقي و وجوب الإتيان بما عدا المتعذر.

لا يقال: إن ظهور «لا يترك» في الوجوب يوجب تخصيص عموم «ما» الموصول بالواجبات، فيختص الخبر بها و لا يعم المستحبات.

فإنه يقال: إن ظهور الموصول في العموم لكونه بالوضع أقوى من ظهور «لا يترك» في الوجوب لكونه بالإطلاق، فيمكن أن يكون ذلك قرينة على حمل «لا يترك» على الكراهة و مطلق المرجوحية.

فالنتيجة: أن الخبر لا يدل على وجوب الإتيان بما عدا المتعذر. و لو سلم عدم أقوائية ظهور الموصول في العموم من ظهور «لا يترك» في الوجوب فلا أقل من التساوي، فيصير الخبر مجملا لا يصح الاستدلال به.

(1) أي: للخبر الثالث و هو «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

(2) متعلق ب «الإتيان»، و ضمير «أجزائه» راجع على «المأمور به».

(3) تعليل لعدم دلالة هذا الخبر إلا على مجرد رجحان الإتيان بباقي المأمور به، و قد تقدم آنفا تقريبه بقولنا: «و هي أن الموضوع و هو ما الموصول عام يشمل الواجبات و المستحبات»، و ضمير «يعمهما» راجع على الواجب و المستحب.

و بالجملة: فالإشكالات التي أشار إليها المصنف أمور:

الأول: ما تعرض له الشيخ «قدس سره» أيضا من: أنه يحتمل أن يكون المراد بالكل هو الأفرادي، و معه لا يمكن الاستدلال به لكونه أجنبيا عن الكل ذي الأجزاء الذي هو مورد البحث، و قد أشار إليه و إلى دفعه بقوله: «فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي».

ص: 456

ظهور (1) «لا يترك» في الوجوب لو سلم (2) موجبا لتخصيصه (3) بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي (4).

و كيف كان؛ فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا (5) و لو قيل (6) بظهوره فيه في غير المقام (7).

=============

الثاني: أن أعمية الموصول من الواجبات و المستحبات توجب حمل «لا يترك» على مطلق المرجوحية، و تمنع عن إرادة حرمة الترك حتى يدل على وجوب الإتيان بباقي المأمور به. و أشار إلى هذا الإشكال بقوله: «لا دلالة له إلا على رجحان الإتيان».

الثالث: أن ظهور الجملة الخبرية مثل «لا يترك» في الوجوب غير مسلم؛ لذهاب بعض الأعاظم إلى عدم دلالتها على الوجوب. لكن المصنف دفع هذا الإشكال و اعترف بدلالة الجملة الخبرية على الوجوب كما أوضحه في مبحث الأوامر.

(1) قد مر توضيحه بقولنا: «لا يقال: إن ظهور لا يترك في الوجوب...» الخ.

(2) إشارة إلى الإشكال الذي تقدم آنفا بقولنا: «الثالث: أن ظهور الجملة الخبرية مثل لا يترك في الوجوب...» الخ.

(3) أي: الموصول الذي يعم الواجب و المستحب، و هذا إشارة إلى: أن ظهور «لا يترك» في الوجوب لا يوجب اختصاص الموصول بالواجب لو لم يكن عموم الموصول قرينته على التصرف في ظهور «لا يترك» بحمله على الكراهة، أو مطلق المرجوحية، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «فإنه يقال: إن ظهور الموصول في العموم أقوى من ظهور لا يترك في الوجوب...»، و ضمير «ظهوره» راجع على الموصول.

(4) و هو «لا يترك»؛ لكن كون «لا» نافية غير معلوم، لقوة احتمال كونها ناهية.

و على هذا الاحتمال ينتفي موضوع الإشكال في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب لكونها حينئذ جملة إنشائية.

(5) يعني: في «لا يترك» لمعارضة ظهور الموصول في الأعم من الواجب و المستحب له، و الضمير المستتر في «ليس» راجع على «لا يترك».

(6) كلمة «لو» وصلية يعني: و أن قلنا: بظهور الجملة الخبرية في سائر الموارد في الوجوب، إلا إنه لا نقول به في المقام، للمعارضة المذكورة، و ضمير «بظهوره» راجع على «لا يترك»، و ضمير «فيه» راجع على اللزوم.

(7) أي: في سائر المقامات.

ص: 457

ثم إنه (1) حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا (2)، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا (3)، لصدقه (4) حقيقة عليه مع

=============

(1) «الضمير للشأن و غرضه من هذه العبارة: بيان موارد قاعدة الميسور، و أنها تجري في تعذر كل من الجزء و الشرط، و لا تختص بتعذر الجزء كما هو خيرة الشيخ «قدس سره» حيث قال: «و أما القاعدة المستفادة من الروايات المتقدمة - يعني: بها قاعدة الميسور - فالظاهر عدم جريانها» يعني: عند تعذر أحد الشروط، و إن اختار في أثناء كلامه جريان القاعدة في بعض الشروط التي يحكم العرف و لو مسامحة باتحاد المشروط الفاقد له مع الواجد له كاتحاد الصلاة الفاقدة للطهارة و الستر و الاستقبال مثلا للواجدة لها.

و كيف كان؛ فالمعتبر في جريان قاعدة الميسور عند المصنف «قدس سره» هو صدق الميسور عرفا على الفاقد، سواء كان المفقود جزءا أو شرطا، حيث إن وزان هذه القاعدة وزان الاستصحاب في إبقاء الحكم السابق للباقي من حيث كون الفاقد هو الواجد، و إلا لم يكن إبقاء لذلك الحكم بل كان تشريعا لحكم جديد لموضوع مباين»(1).

(2) الوجه في اعتبار صدق الميسور عرفا على الباقي في جريان القاعدة فيه هو: عدم صدق بقاء الحكم السابق كما مر آنفا، و عدم سقوطه إلا إذا كان الباقي ميسورا للواجد حتى يكون الفاقد هو الواجد عرفا، و الحكم الثابت له فعلا هو نفس الحكم الذي كان له قبل تعذر بعض الأجزاء. و عليه: فلا يصدق ميسور الشيء إلا على ميسور الأجزاء و الشرائط، و لا يصدق على ميسور الأفراد الملحوظة بنحو العام الاستغراقي كما مر سابقا، فإن الحج الميسور في هذه السنة ليس ميسور الحج في العام الماضي.

(3) يعني: كما تجري القاعدة مع تعذر الجزء، و هذا تعريض بما أفاده الشيخ «قدس سره» أولا من عدم جريان قاعدة الميسور في تعذر الشرط و إن عدل عنه أخيرا، و التزم بجريانها في بعض الشروط كما مر آنفا.

(4) تعليل لجريان القاعدة في تعذر الشرط.

و حاصل التعليل: صدق الميسور على فاقد الشرط، و هذا هو المناط في جريان القاعدة، و ضمير «صدقه» راجع على الميسور، و ضمير «عليه» إلى الباقي، و ضمير «تعذره» إلى الشرط و «حقيقة، عرفا» قيدان ل «صدقه» يعني: أن صدق الميسور على فاقد الشرط يكون بنظر العرف على وجه الحقيقة لا المجاز.

ص: 458


1- منتهی الدرایة 6 : 354

تعذره عرفا، كصدقه (1) عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة (2)، و إن (3) كان فاقد الشرط مباينا للواجب عقلا.

و لأجل ذلك (4): ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها موردا لها (5) فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا؛ و إن كان غير مباين للواجد عقلا (6).

نعم (7)؛ ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا...

=============

(1) يعني: كصدق الميسور على الباقي عرفا مع تعذر الجزء، فقوله: «كذلك» يعني:

عرفا.

(2) يعني: بعض الأجزاء، و هو غير المعظم منها كما سيأتي.

(3) كلمة «إن» وصلية و غرضه: أن المناط في صدق الميسور على الباقي هو نظر العرف، فلو صدق الميسور عرفا على فاقد الشرط - و إن لم يصدق عليه عقلا بل كان فاقده بنظره مباينا لواجده - جرت فيه قاعدة الميسور. قوله: «عقلا» قيد لقوله: «مباينا»، فإن فاقد الشرط مباين عقلا لواجده.

(4) يعني: و لأجل كون المناط في صدق الميسور على الباقي هو النظر العرفي دون العقلي ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو للركن منها موردا لقاعدة الميسور؛ لعدم صدق الميسور من الصلاة عرفا على فاقدة الأركان و إن كانت من مراتب الصلاة و ميسورها عقلا.

(5) أي: لقاعدة الميسور، و «موردا» خبر «يكون» و عدم صدق الميسور عرفا على فاقد الركن مما لم يتعرض له الشيخ «قدس سره»؛ و إن كان الحق ما أفاده المصنف «قدس سره»، و ضمير «لركنها» راجع على الأجزاء.

(6) بأن كان الفاقد بعض مراتب الواجد، فيكون الفاقد ميسورا عقلا لا عرفا لخفاء كيفية دخل المفقود في المركب على العرف الموجب لعدم حكمهم بكون الفاقد ميسورا عرفيا، فيفترق الميسور العقلي عن العرفي حينئذ.

(7) هذا استدراك على ما ذكره من كون الملاك في جريان قاعدة الميسور هو صدق الميسور العرفي على الباقي.

و غرضه: أن هذا الملاك مطرد في جميع الموارد إلا فيما قام الدليل على خروج الميسور العرفي عن حيّز هذه القاعدة و عدم جريانها فيه مع كونه ميسورا عرفيا، أو قام الدليل على جريان القاعدة فيما ليس بميسور عرفا.

و بالجملة: الضابط المزبور و هو اعتبار كون الميسور عرفيا متبع إلا مع قيام الدليل شرعا

ص: 459

بتخطئة (1) للعرف، و أن (2) عدم العد - كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد من قيامه في هذا الحال (3) بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال (4)؛ و إلا (5) على إلحاق غير الميسور العرفي بالميسور العرفي في جريان قاعدة الميسور فيه كصلاة الغرقى مثلا، فإنها ليست بنظر العرف ميسور الصلاة؛ لكن دل الدليل على أنها ميسورها إما تخطئة للعرف، لعدم اطلاعه على وفاء الفاقد في حال التعذر بجميع مصلحة الواجد أو معظمها؛ إذ مع اطلاعه على ذلك لعده كالشرع ميسورا، و إما تشريكا للميسور و توسعة له في الحكم مع عدم كونه ميسورا حقيقة.

=============

أو مع قيام الدليل على إخراج الميسور العرفي عن حيز قاعدته، إما تخصيصا لعموم القاعدة على حذو تخصيص سائر القواعد العامة، و إما تخطئة للعرف في عدّهم الفاقد ميسورا؛ لعدم قيامه بشيء من مصلحة الواجد، كأمر الشارع بالتيمم لمن لا يتمكن عن غسل عضو من أعضاء الوضوء، فإن صدق ميسور الوضوء عرفا على غسل سائر الأعضاء و إن كان مسلما؛ لكن الشارع لم يعتن بهذا الميسور العرفي و أمر بالتيمم الذي هو بدل الوضوء.

و بالجملة: فنظر العرف في تمييز الميسور متبع ما لم يقم دليل شرعا على الإدراج أو الإخراج.

و مع الشك في صدق الميسور عرفا على الفاقد و عدم دليل خاص على حكمه إلحاقا أو إخراجا لا يرجع إلى قاعدة الميسور؛ لكونه تشبثا بالدليل لإحراز موضوعه؛ بل يرجع إلى ما تقدم من استصحاب وجوب الباقي على فرض صحّته؛ و إلا فإلى البراءة العقلية كما عليه المصنف، أو النقلية كما عليه الشيخ، و قد عرفت هناك: أن الحق وجوب الباقي و جريان البراءتين في نفس المتعذر جزءا أو شرطا. «منتهى الدراية، ج 6، ص 357».

(1) أي: بتخطئة الشرع للعرف، و ضمير «به» راجع على الميسور عرفا.

(4) أي: في غير حال التعذر و هو متعلق ب «قام»، و «بمعظمه» عطف على «بتمام»، و المراد بتمام ما قام عليه الواجد أو معظمه هو: الملاك الداعي إلى تشريع الأمر بالكل، و ضمير «بمعظمه» راجع على «ما» الموصول المراد به الملاك.

(2) عطف على «تخطئة» و مفسر له.

(3) أي: حال التعذر، و «من» مفسر ل «ما» الموصول و ضمير «قيامه» راجع على الفاقد.

(5) أي: و إن اطلع العرف على قيام الفاقد بتمام مصلحة الواجد أو معظمها لعدّ الفاقد

ص: 460

عد أنه ميسوره، كما (1) ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك، أي:

للتخطئة، و أنه (2) لا يقوم بشيء من ذلك (3).

و بالجملة: ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق، كان المرجع هو الإطلاق (4)، و يستكشف منه (5): أن الباقي قائم بما يكون المأمور به (6) قائما بتمامه،...

=============

ميسورا للواجد، و ضمير «أنه» راجع على الفاقد، و ضمير «ميسوره» راجع على الواجد.

(1) هذا معادل لقوله: «ربما يلحق به شرعا» يعني: كما ربما يلحق شرعا غير الميسور العرفي بالعرفي، كذلك يخرج الميسور العرفي عن حيّز قاعدة الميسور لتخطئة الشرع للعرف في عدّ الفاقد هنا ميسورا، و ذلك لعدم قيامه بشيء من مصلحة الواجد، فلا يكون الفاقد حينئذ ميسورا له.

و الحاصل: أن الميزان في تشخيص الميسور هو العرف إلا أن يسقطه الشارع بأن يخطئه في تشخيصه نفيا أو إثباتا، فيخرجه عن الميسور الذي يكون من صغريات قاعدة الميسور، أو يلحقه بصغرياتها مع عدم كونه ميسورا عرفيا، فإن المعول عليه حينئذ هو هذا الدليل لا العرف.

و مع شك العرف في صدق الميسور على الفاقد و عدم قيام دليل على حكمه يرجع إلى ما تقدم قبيل هذا من قولنا: «بل يرجع إلى ما تقدم من استصحاب وجوب الباقي على فرض صحته...» الخ.

(2) عطف على «تخطئة» و مفسر لها، و ضميره راجع على «ميسور».

(3) أي: الملاك الداعي إلى التشريع؛ بحيث لو اطلع العرف على ذلك لاعترف بخطئه في عد الفاقد ميسورا.

(4) أي: إطلاق دليل قاعدة الميسور؛ لما مر من: أن المدار في تشخيص الميسور نظر العرف، فهو الحجة ما لم يتصرف الشارع فيه نفيا أو إثباتا على التفصيل المتقدم.

نعم؛ مع شك العرف في تشخيص الميسور لا يرجع إلى القاعدة؛ بل يرجع إلى استصحاب وجوب الباقي أو غيره على ما تقدم.

(5) أي: يستكشف من الإطلاق أن الباقي و هو الفاقد قائم بتمام ملاك الواجد أو بمقدار يوجب إيجاب الباقي في الواجب و استحبابه في المستحب؛ لكن هذا الاستكشاف مبني على لحاظ الملاك في كون الفاقد ميسورا. و أما بناء على لحاظ نفس أجزاء المركب في ذلك مع الغض عن ملاك الواجد فلا يستكشف منه ذلك.

(6) أي: الواجد، و «قائما» خبر «يكون» و ضمير «بتمامه» راجع على «ما» الموصول

ص: 461

أو (1) بمقدار يوجب إيجابه في الواجب و استحبابه في المستحب، و إذا قام دليل على أحدهما (2) فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول (3)، و تشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع (4) في الثاني (5)، فافهم (6).

=============

المراد به الملاك.

(1) عطف على «بما» يعني: و يستكشف من الإطلاق: «أن الباقي قائم بمقدار من الملاك يوجب إيجاب الباقي...» الخ.

(2) أي: الإخراج و الإلحاق، فيخرج بدليل الإخراج أو يدرج بدليل الإلحاق.

(3) و هو الإخراج عن الميسور العرفي كصلاة فاقد الطهورين على المشهور، حيث إنها مما يعد ميسورا لصلاة واجد الطهورين؛ لكن الشارع لم يعتن بهذا الميسور العرفي و أخرجه منه إما تخطئة للعرف في تمييز الميسور، و إما تخصيصا لعموم قاعدة الميسور.

و إن شئت فقل: إن الإخراج إما موضوعي إن كان تخطئة، و إما حكمي إن كان تخصيصا.

(4) كالتنزيلات الشرعية، نظير تنزيل الطواف منزلة الصلاة في الحكم مع عدم تصرف في الموضوع.

(5) و هو الإلحاق، و الأولى إضافة التخطئة إلى التشريك كما ذكرها في قوله: «نعم؛ ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف»، فحق العبارة أن تكون هكذا: «و تشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع، أو تخطئة للعرف بالإدراج في الموضوع في الثاني».

(6) لعله إشارة إلى: أن المعيار في صدق الميسور على الباقي إن كان هو قيامه بتمام الغرض القائم بالمأمور به الواجد أو بمقدار يوجب التشريع، كان ذلك مسقطا لنظر العرف عن الاعتبار في تشخيص الميسور في الماهيات المخترعة الشرعية، ضرورة: أن العرف لا يطلع غالبا أو دائما على الملاكات حتى يقدر على تمييز ميسورها عن غيره، فاللازم حينئذ: إناطة العمل بقاعدة الميسور بعمل الأصحاب في كل مورد بالخصوص؛ إذ المفروض: عدم قدرة العرف على معرفة الميسور، فعملهم يكشف عن كون ذلك المورد ميسورا و موردا للقاعدة. و لعل هذا صار منشأ لذهاب المشهور إلى عدم العلم بها إلا مع إحراز عملهم بها، و إلا فمع البناء على اعتبار الميسور العرفي لا وجه للتوقف في العمل بها و إناطته بعمل المشهور.

أو إشارة إلى: أن تصرف الشارع بالإدراج أو الإخراج ليس تخطئته للعرف في

ص: 462

الموضوع؛ بل هو إما تشريك و إما تخصيص، و كلاهما تصرف في الحكم. و عليه:

فيكون نظر العرف في تشخيص الميسور متبعا إلا فيما قام الدليل على التخصيص أو التشريك، فمع عدم قيام دليل عليهما يكون الميسور العرفي مجرى لقاعدة الميسور، من دون توقف جريانها فيه على عمل الأصحاب؛ إذ الملحوظ هو الميسور بالنظر إلى أجزاء المأمور به، لا إلى ملاكه حتى يتوقف العمل بها على عملهم الكاشف عن كونه ميسورا ملاكيا عند الأئمة «عليهم الصلاة و السلام».

و كيف كان؛ فلا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة في المرتبة النازلة من كل جزء من أجزاء المركب مع تعذر المرتبة العالية؛ كعدم الإشكال في جريانها في تعذر جميع مراتب جزء من الأجزاء مع تيسر بعضها الآخر.

أو إشارة إلى: أن الدليل الشرعي إذا قام على الإخراج أو الإدراج فهو من باب التخصيص في الحكم أو التشريك فيه لا من باب التخطئة في الموضوع؛ إذ لا وجه لتخطئة العرف في عدهم الفاقد ميسورا أو غير ميسور، فإن ملاك الصدق و عدمه أمر مضبوط عندهم و هو كون الفاقد واجدا لمعظم الأجزاء مثلا أو غير واجد له، فإن كان واجدا فهو ميسور و إلا فهو مباين.

نعم؛ للشارع أن يخرج تخصيصا أو يلحق تشريكا من جهة اطلاعه على عدم قيامه بشيء مما قام به الواجد مع كونه ميسورا عرفا، أو بقيامه بتمام ما قام به الواجد أو بمعظمه مع عدم كونه ميسورا عرفا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتلخص البحث في أمور:

1 - بيان محل الكلام و هو يتوقف على مقدمة و هي صور المسألة:

1 - أن يكون لكل من دليلي المركب و الجزء إطلاق.

2 - أن يكون لخصوص دليل المركب إطلاق.

3 - عكس هذه الصورة.

4 - أن لا يكون لأحدهما إطلاق

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن مورد البحث هي الصورة الرابعة، حيث يدور أمرها بين أن يكون الجزء جزءا و الشرط شرطا مطلقا حتى حال العجز كي يسقط بتعذره أمر

ص: 463

سائر الأجزاء، أو في خصوص حال التمكن منه حتى لا يسقط بتعذره أمر الكل.

و المرجع هو الأصل العملي من البراءة العقلية، فإن العقاب على ترك الباقي الناقص الفاقد للجزء أو الشرط بلا بيان.

2 - و الإشكال على البراءة العقلية بجريان البراءة الشرعية، حيث يكون مقتضى حديث الرفع و نحوه نفي الجزئية أو الشرطية في حال التعذر، و لازم ذلك: وجوب الباقي و عدم تقيده بالمتعذر.

مدفوع؛ بعدم جريان البراءة الشرعية في نفي الجزئية أو الشرطية في حال التعذر؛ إذ لازم جريانها هو وجوب الباقي، و هو ينافي حصول الامتنان المعتبر في البراءة الشرعية؛ إذ الامتنان إنما هو في نفي التكليف لا في إثباته.

3 - و في المسألة قولان؛ قول: بعدم وجوب الباقي بالبراءة العقلية و هو مختار المصنف «قدس سره»، و قول: بوجوب الباقي.

و قد استدل عليه بوجوه:

منها: الاستصحاب و تقريبه بوجهين:

أحدهما: أن يستصحب الوجوب الجامع بين الغيري و النفسي بأن يقال: إن الصلاة كانت واجبة مع السورة و الاستقبال و الستر مثلا، و يشك في حدوث الوجوب لها مقارنا لتعذر بعض أجزائها أو شرائطها، فيستصحب طبيعي الوجوب الجامع بين الغيري المرتفع بتعذر البعض و النفسي المحتمل حدوثه للباقي مقارنا لارتفاع الوجوب الغيري و هذا قسم ثالث من أقسام استصحاب الكلي.

و ثانيهما: كون المستصحب خصوص الوجوب النفسي القائم بالكل بدعوى: بقاء الموضوع بالمسامحة العرفية، و جعل التعذر من الجزء أو الشرط من قبيل حالات الموضوع لا من مقوماته فيقال: هذا الباقي كان واجبا نفسيا سابقا الآن كما كان. هذا تمام الكلام في وجوب الباقي بالاستصحاب.

و الإشكال عليه أنه بالتقريب الأول كان قسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي و هو ليس بحجة كما يأتي في باب الاستصحاب، و أما صحة الاستصحاب بالتقريب الثاني فمنوطة بالمسامحة العرفية في تعيين موضوع الاستصحاب، فعلى المسامحة العرفية يجري الاستصحاب و إلا فلا.

4 - وجوب الباقي بقاعدة الميسور المستفادة من الأخبار، و هي النبوي و العلويان؛

ص: 464

الأول: قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

الثاني: قوله «عليه السلام»: «الميسور لا يسقط بالمعسور».

الثالث: قوله «عليه السلام»: «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

و أما دلالة هذه الروايات على المطلوب فواضحة؛ لأن المستفاد منها هو: عدم سقوط التكليف بتعذر بعض الأجزاء و الشرائط؛ بل يجب على المكلف الإتيان بما يتمكن منه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، و ما لا يتمكن المكلف من إتيان كله لا يجوز له ترك الكل؛ بل عليه الإتيان بما يتمكن منه. و كذلك النبوي ظاهر في وجوب إتيان ما يتمكن منه المكلف من بعض الأجزاء بعد عدم التمكن من الجميع؛ لأن كلمة «من» في قوله «صلى الله عليه و آله و سلم»: «فأتوا منه» تبعيضية.

5 - الجواب عن الاستدلال بهذه الأخبار: بأنه لا يصح الاستدلال بها على ما هو المطلوب في المقام، و أما عدم صحة الاستدلال بالنبوي: فلأن الاستدلال به مبني على أن تكون كلمة «من» تبعيضية، بحسب الأجزاء، و ليس الأمر كذلك؛ بل إنها تبعيضية بحسب الأفراد كما هو مورده.

و كذلك المراد بالميسور - في العلوي - يحتمل أن يكون بحسب الأفراد لا الأجزاء، فلا يصح الاستدلال به لكونه مجملا و خارجا عن محل الكلام على أحد الاحتمالين.

و أما الرواية الثالثة: فيرد على الاستدلال بها:

أولا: أن كلمة «كل» مجملة لدورانها بين العموم بحسب الأفراد و الأجزاء.

ثانيا: إجمال قوله «عليه السلام»: «لا يترك» و دورانه بين إرادة الوجوب بالخصوص و إرادة الأعم من الوجوب و الندب، فلا يصح الاستدلال بها؛ لأنه بناء على الاحتمال الثاني لا يستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي، فالنتيجة هي: عدم تمامية الاستدلال بهذه الروايات على وجوب الباقي عند تعذر بعض الأجزاء.

6 - رأي المصنف «قدس سره»:

1 - جريان البراءة العقلية عن وجوب الباقي؛ لأن العقاب على ترك الباقي بلا بيان.

2 - عدم صحة الاستدلال بالاستصحاب على وجوب الباقي.

3 - عدم تمامية الاستدلال «بقاعدة الميسور» على وجوب الباقي.

ص: 465

تذنيب (1): لا يخفى أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته و بين مانعيته أو

=============

في دوران الأمر بين الجزئية و الشرطية و بين المانعية و القاطعية

(1) الغرض من عقدة: بيان حكم شيء دار أمره بين الجزئية و المانعية و القاطعية، أو بين الشرطية و المانعية و القاطعية، و لا بد قبل التعرض لحكمه من بيان صوره و هي أربعة:

الأولى: دوران شيء بين جزئيته و مانعيته كالاستعاذة بعد تكبيرة الإحرام؛ لاحتمال كل من جزئيتها و مانعيتها، و كالسورة الثانية لاحتمال جزئيتها و مانعيتها، و كونها مبطلة للصلاة بناء على مبطلية القران بين السورتين.

الثانية: دورانه بين جزئيته و قاطعيته، كما إذا فرض أن الاستعاذة إن لم تكن جزءا كانت من القواطع المبطلة للصلاة، و إن وقعت بين الأجزاء، لا في الأجزاء، و هذا هو الفارق بين القاطع و بين المانع الذي تختص مبطليته بما إذا وقع في نفس الأجزاء، و يعبّر عن بعض الموانع بالقاطع؛ لكونه قاطعا للهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة على ما قيل.

و هناك فرق آخر بين المانع و القاطع و هو: أن الأول يمنع عن تأثير المقتضي فيقابل الشرط الذي يكمل اقتضاء المقتضي، و يوجب إتمام تأثيره، و أما الثاني: فهو ما يتخلل بين الأجزاء و يقطع المقتضي، فهو يمنع عن وجود المقتضي، بينما الأول يمنع عن تأثيره بعد وجوده.

الثالثة: دورانه بين الشرطية و المانعية؛ كالجهر بالقراءة في ظهر الجمعة للقول بوجوبه أي: شرطيته، و القول بمبطليته أي: مانعيته.

الرابعة: دورانه بين الشرطية و القاطعية؛ كجواب السلام في أثناء الصلاة إذا شك في أنه شرط أو قاطع.

إذا عرفت صور الدوران، فاعلم: أن المصنف «قدس سره» بنى على جريان حكم المتباينين فيها، حيث إنه لا جامع بين المشروط بشيء و المشروط بشرط لا، فلا يمكن الإتيان بهما معا، مثلا: إذا كان الجهر بالقراءة واجبا كانت الأجزاء مشروطة بوجوده، و إذا كان الإخفات واجبا و الإجهار مبطلا كانت الأجزاء مشروطة بعدم الجهر، و لا جامع بين الوجود و العدم، فلا يمكن الإتيان بالطبيعة المأمور بها في واقعة واحدة إلا بأحدهما، و يمكن الاحتياط بإتيانها مع كليهما في واقعتين. و هذا هو ضابط المتباينين، فلا يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المحذورين حتى يكون الحكم فيه التخيير كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره»، بتقريب: أنه على تقدير جزئيته أو شرطيته يجب الإتيان به،

ص: 466

قاطعيته لكان من قبيل المتباينين، و لا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين (1)؛ لإمكان الاحتياط (2) بإتيان العمل مرتين مع ذلك الشيء (3) مرة، و بدونه أخرى كما هو أوضح من أن يخفى (4).

=============

و على فرض المانعية أو القاطعية يحرم الإتيان به، فيدور أمره بين الوجوب و الحرمة، و هذا هو الدوران بين المحذورين.

(1) هذا إشارة إلى ما أفاده الشيخ «قدس سره» من اندراج المقام في الدوران بين المحذورين؛ لإجرائه البراءة فيما إذا دار أمره بين الجزئية و المانعية، أو الشرطية و القاطعية، بناء على عدم حرمة المخالفة القطعية غير العملية كما في دوران الأمر بين المحذورين على ما صرح هو «قدس سره» بذلك في العلم الإجمالي من مباحث القطع، و المخالفة الالتزامية المترتبة على الأصل الجاري في الطرفين لا محذور فيها؛ لعدم وجوبها عنده، فلا محالة يكون الحكم في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير بين الفعل و الترك.

(2) هذا دفع توهم كون المقام من الدوران بين المحذورين.

(4) نعم؛ لو لم يتمكن من الإتيان مرتين، كما لو كان الوقت ضيقا - مثلا - كان من دوران الأمر بين المحذورين، و يكون المرجع التخيير.

ص: 467

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس سره» يتخلص البحث في أمور:

1 - بيان صور المسألة:

1 - دوران شيء بين جزئيته و مانعيته كالاستعاذة بعد تكبيرة الإحرام.

2 - دورانه بين جزئيته و قاطعيته كما إذا فرض أن الاستعاذة إن لم تكن جزءا كانت من القواطع المبطلة للصلاة.

3 - دورانه بين الشرطية و المانعية كالجهر بالقراءة في ظهر الجمعة.

4 - دورانه بين الشرطية و القاطعية كجواب السلام في أثناء الصلاة لا يعلم أنه شرط أم قاطع.

2 - المصنف بنى على جريان حكم المتباينين في المقام، حيث إنه لا جامع بين المشروط بشيء و المشروط بشرط لا؛ إذ لا جامع بين الوجود و العدم، فلا يمكن الإتيان بهما معا، و يمكن الاحتياط بإتيان الطبيعة المأمور بها مع كليهما.

هذا ضابط المتباينين، فلا يكون المقام من دوران الأمر بين المحذورين كما ذهب إليه الشيخ «قدس سره»، بتقريب: أنه على تقدير جزئية الشيء أو شرطيته يجب الإتيان به و على فرض مانعيته أو قاطعيته يحرم الإتيان به، و هذا معنى الدوران بين المحذورين.

3 - قد أجاب المصنف عن قول الشيخ: بأن ضابط الدوران بين المحذورين هو احتمال الموافقة و المخالفة في كل من الفعل و الترك، و عدم إمكان الموافقة القطعية، و هذا الضابط لا ينطبق على المقام لإمكان الموافقة القطعية بتكرار العمل؛ بأن يؤتى بالصلاة تارة مع الجهر بالقراءة و أخرى بدونه.

4 - رأي المصنف «قدس سره»:

إن حكم المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين. فيجب الاحتياط فيه كما يجب في دوران الأمر بين المتباينين.

ص: 468

فهرس الجزء الخامس

في الكشف و الحكومة 5

عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة 11

التفصيل في إهمال النتيجة و تعيينها على الكشف 14

طرق تعميم النتيجة على الكشف 25

الطريق الثالث من طرق تعميم النتيجة 31

خلاصة البحث مع رأي المصنف 34

إشكال خروج القياس من عموم النتيجة 41

محذور النهي عن العمل بالقياس إذا كان مطابقا للواقع 47

قياس حجية الظن في حال الانسداد بحجية العلم في حال الانفتاح 50

خلاصة البحث مع رأي المصنف 58

في الظّن المانع و الممنوع 63

خلاصة البحث مع رأي المصنف 68

الظّن بألفاظ الآية أو الرواية 69

تقليل الاحتمالات المتطرقة في الرواية 73

خلاصة البحث مع رأي المصنف 76

الظن بالاشتغال و الامتثال 79

الظّن في الأمور الاعتقادية 83

الاستدلال على كفاية الظن في أصول الدين 91

أقسام الجاهل القاصر من حيث المعذورية و عدمها 95

خلاصة البحث مع رأي المصنف 97

جبر السند أو الدلالة بالظن غير المعتبر 99

ص: 469

الجبر و الوهن و الترجيح بمثل القياس 109

خلاصة البحث مع رأي المصنف 112

المقصد السابع: في الأصول العملية 115

في أصالة البراءة 123

الاستدلال بالكتاب على البراءة 124

الإشكال على الاستدلال بالآية على البراءة 126

خلاصة البحث مع رأي المصنف 128

الاستدلال بالسنة على البراءة 130

تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة 132

توضيح اعتراض المصنف على الشيخ الأنصاري 138

توضيح ما هو المرفوع بحديث الرفع 142

توضيح بعض العناوين المذكورة في حديث الرفع 146

خلاصة البحث مع رأي المصنف 148

الاستدلال بحديث الحجب على البراءة 150

الإشكال على أن الاستدلال بحديث الحجب 152

خلاصة البحث مع رأي المصنف 153

الاستدلال بحديث السعة على البراءة 156

توضيح الجواب عن الاستدلال بحديث السعة 159

خلاصة البحث مع رأي المصنف 161

الاستدلال بحديث «كل شيء مطلق» على البراءة 162

توضيح بعض عبارات المتن 167

خلاصة البحث مع رأي المصنف 169

الاستدلال بالإجماع على البراءة 171

الاستدلال بالعقل على البراءة 173

توضيح الإشكال على الاستدلال بالعقل على البراءة 175

خلاصة البحث مع رأي المصنف 182

ص: 470

في أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط 184

الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط 186

توضيح إشكال المصنف على الشيخ الأنصاري 191

خلاصة البحث مع رأي المصنف 201

في الاستدلال بالعقل على وجوب الاحتياط 206

توضيح الإشكال على الاستدلال بالعقل 209

توضيح بعض عبارات المتن 213

الاستدلال بحكم العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية على وجوب الاحتياط 217

خلاصة البحث مع رأي المصنف 223

تنبيهات البراءة 226

التنبيه الأول من تنبيهات البراءة هو اشتراط جريان البراءة بعدم وجود أصل موضوعي 226

بيان أقسام الشبهة الموضوعية مع أحكامها 228

إشكال المصنف على الشيخ الأنصاري في تفسير الميتة 235

التنبيه الرابع: في التبعيض في الاحتياط المخل بالنظام 283

خلاصة البحث مع رأي المصنف 241

التنبيه الثاني: في تصحيح الاحتياط في العبادة مع الشك في الأمر 244

توضيح الإشكال على الاحتياط في العبادة و المناقشة فيه 245

توضيح إشكال المصنف على جواب الشيخ الأنصاري على إشكال الاحتياط في العبادة 251

ما هو مختار المصنف في الجواب عن إشكال الاحتياط في العبادة 256

تصحيح الاحتياط في العبادة بأخبار من بلغ 260

بيان مفاد أخبار من بلغ 262

خلاصة البحث مع رأي المصنف 269

التنبيه الثالث: في دفع توهم لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية الموضوعية 275

خلاصة البحث مع رأي المصنف 281

ص: 471

خلاصة البحث مع رأي المصنف 287

فصل: في دوران الأمر بين المحذورين أو أصالة التخيير 289

توضيح بعض عبارات المتن 291

توضيح التوهم مع المقدمة مع الجواب عنه 295

توضيح بعض عبارات المتن 299

اعتراض المصنف على الشيخ الأنصاري 304

خلاصة البحث مع رأي المصنف 310

في أصالة الأشغال 315

الأقوال المعروفة في المسألة 318

بطلان التفصيل بين الشبهة المحصورة و غيرها 326

اعتراض المصنف على الشيخ الأنصاري 329

في منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات 332

خلاصة البحث مع رأي المصنف 334

في تنبيهات الاشتغال 337

التنبيه الأول: مانعية الاضطرار عن تنجيز التكليف بالعلم الإجمالي 337

الخلاف بين الشيخ و المصنف 338

توضيح بعض عبارات المتن 340

دفع الإشكال مع المقدمة 343

خلاصة البحث مع رأي المصنف 345

التنبيه الثاني: في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء 346

توضيح بعض عبارات المتن 349

خلاصة البحث مع رأي المصنف 353

التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة 355

في الأقوال في تعريف الشبهة غير المحصورة 359

خلاصة البحث مع رأي المصنف 360

التنبيه الرابع: في حكم الملاقي في بعض أطراف العلم الإجمالي 362

ص: 472

توضيح بعض عبارات المتن 365

خلاصة البحث مع رأي المصنف 374

المقام الثاني: في دوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين 376

توضيح بعض عبارات المتن 379

دعوى انحلال العلم الإجمالي مخالفة للغرض 382

الخلاف بين العدلية و الأشاعرة في كون الحكام تابعة للمصالح و المفاسد 386

إشكال المصنف على الشيخ الأنصاري 392

الوجه الثالث و الرابع من وجوه الإشكال على الشيخ الأنصاري 397

في عدم وجوب الاحتياط شرعا 400

في وجه عدول المصنف عن البراءة عن الحكم التكليفي إلى البراءة في الحكم الوضعي 403

خلاصة البحث مع رأي المصنف 406

في حكم الأجزاء التحليلية 411

في تنبيهات الأقل و الأكثر: الأول: الشك في الشرطية و الخصوصية 415

خلاصة البحث مع رأي المصنف 419

الثاني: حكم ناسي الجزئية 421

جواب المصنف على إشكال الشيخ بوجهين 425

خلاصة البحث مع رأي المصنف 428

الثالث: في زيادة الجزء عمدا أو سهوا 430

يقول المصنف بالصحة في جميع موارد الزيادة العمدية و السهوية 435

خلاصة البحث مع رأي المصنف 438

الرابع: في تعذر الجزء أو الشرط 441

قاعدة الميسور 447

توضيح الإشكال على الاستدلال بقوله «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» على قاعدة الميسور 450

المناقشة في رواية «ما لا يدرك كله لا يترك كله» 456

خلاصة البحث مع رأي المصنف 463

ص: 473

في دوران الأمر بين الجزئية و الشرطية و بين المانعية و القاطعية 466

ص: 474

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.