موسوعة الفقيه الشيرازي
(13)
تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی كتاب الطهارة
الجزء الأول
تقرير الأبحاث
آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي رحمه اللّه
السيد محمد علي الحسيني الشيرازي
بطاقة تعريف:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.
عنوان المؤلف واسمه:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.
تفاصيل النشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.
مواصفات المظهر:21ج.
شابك:دوره: 8-270-204-964-978
ج21: 3-291-204-964-978
حالة الاستماع:فيپا
لسان:العربية
مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول، جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).
موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14
تصنيف الكونجرس:1394 8م5ح/8/159BP
تصنيف ديوي:297/312
رقم الببليوغرافيا الوطنية:4153694
ص: 1
سرشناسه:الحسيني الشيرازي، محمد رضا، 1338-1387.
عنوان و نام پديدآور:موسوعة الفقيه الشيرازي / تأليف محمد رضا الحسيني الشيرازي.
مشخصات نشر:قم: دار العلم، 1437ق = 1394ش.
مشخصات ظاهری:21ج.
شابك:دوره: 8-270-204-964-978
ج13: 8-283-204-964-978
وضعيت فهرست نويسی:فيپا
يادداشت:عربي
مندرجات:ج1 (المدخل)؛ ج2-3 (التدبر في القرآن، جزء1-2)؛ ج4-11 (تبيين الأصول،جزء 1-8)؛ ج12 (الترتب)؛ ج13-14 (تبيين الفقه في شرح العروة الوثقی، جزء1-2)؛ ج15 (بحوث في فقه النظر)؛ ج16-17 (التعليقة علی المسائل المتجدّدة، جزء1-2)؛ ج18-19 (التعليقة علی كتاب الدلائل، جزء1-2)؛ ج20 (تعليقة علی مباني منهاج الصالحين)؛ ج21 (توضيح علی العروة الوثقی).
موضوع:اصول، فقه شيعه - قرن 14
رده بندی كنگره:1394 8م5ح/8/159BP
رده بندی ديويی:297/312
شماره كتابشناسی ملی:4153694
موسوعة الفقيه الشيرازي
شجرة الطيبة
--------------
آية اللّه الفقيه السيّد محمّد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)
المطبعة: قدس
إخراج:نهضة اللّه العظيمي
الطبعة الأولی - 1437ه- .ق
---------
شابك دوره: 8-270-204-964-978
شابك ج13: 8-283-204-964-978
-------------
دفتر مركزي: قم خيابان معلم، میدان روح اللّه،
نبش كوچه 19، پلاك 10، تلفن: 9 – 37744298
چاپ: شركت چاپ قدس، تلفن 37731354 فكس 37743443
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
--------------------------
و المضاف ب- : «ما لايصحّ إطلاق الماء عليه إلّا مع الإضافة».
وينبغي أن يكون المراد بالصحّة: الصحّة على وجه الحقيقة مع الإطلاق؛ وذلك لصحَّة إطلاق لفظة «ماء» مع الإضافة على «الماء المضاف» على نحو الحقيقة، وبدونها على نحو المجاز، وصحته مطلقاً على نحو الحقيقة في الماء المطلق.
هذا، وقد يقال: بصحة الإطلاق على المضاف على وجه الحقيقة مطلقاً أو في بعض أقسامه، لكن حيث امتزج الماء بغيره قُيَّد بالممتزج معه من دون
ص: 8
--------------------------
انعدام ماهيّته الأصلية، نعم لا يترتّب عليه آثار المطلق للإمتزاج الغالب القاهر.
وفيه نظر: لصحة السلب وعدم صحّة الحمل وفاقاً للسيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(1).
وممّا تقدم يظهر أنّ التقسيم المذكور في المتن إنّما هو بلحاظ إطلاق اللفظ لا بلحاظ انطباق المفهوم.
بيانه: انَّ التقسيم نوعان: تقسيم بلحاظ انطباق المفهوم الكلي على مصاديقه كقولنا: «الانسان إمّا مؤمن أو كافر». وتقسيم بلحاظ استعمال اللفظ فيما يستعمل فيه ولو على نحو المجاز كقولنا: «الأسد إمّا مفترس أو رجلٌ شجاع».
وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ إطلاق الماءِ مطلقاً على «المطلق» حقيقي، وعلى «المضاف» مجازي، فيكون تقسيم الماء إليهما بلحاظ استعماله فيهما ولو مجازاً، لا بلحاظ انقسام المفهوم حقيقة إليهما.
هذا، وذكر في التنقيح أنَّ للمائع قسماً آخر وهو: «ما يصح سلب عنوان الماء عنه بما له من المعنى ولا يطلق عليه الماء بوجهٍ لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز، وهذا كما في اللّبن والدُهن والنفط والدبس وغيرها»(2)،
ثم ذكر أنَّ هذا القسم: «خارج عن محل الكلام رأساً»(3).
ص: 9
--------------------------
وقال في المباني: «لايبعد أن يكون إطلاق الماء عليه غلطاً»(1).
وفيه نظر: وذلك لصحة الإطلاق عليه على نحو المجاز، وفاقاً للسيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(2)، قال اللّه تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهينٍ}(3)، وقال سبحانه: {خلق مِنْ ماءٍ دافِقٍ}(4)، كما أنّه قد يطلق على النفط «ماء الحياة» فيقال: «إنَّ مياه الحياة تجري تحت أراضي ذلك البلد».
نعم، صحّة استعمال اللفظ تحتاج إلى المناسبة بين «ما وضع له» و«ما استعمل فيه» وتكفي في المناسبة مساعدة الطبع، وإن لم يساعد عليه الوضع كما ذكره صاحب الكفاية(5).
ص: 10
--------------------------
ثم إنّ جميع الأحكام المذكورة في القسم الثاني تعمّ القسم الثالث، نعم اختص بعض الأقسام بالخلاف في بعض الأحكام مثل كونه طاهراً في نفسه، وأنّه غيرمطهر لغيره من الخبث ولا من الحدث، وأنّه ينجس بمجرد الملاقات وإن كان كثيراً، وأنّه يطهر بالتصعيد إن لم يصدق عليه عنوانه السابق، أو مطلقاً. إلى غير ذلك من الأحكام.
وحيث إنَّ الاحكام مشتركة(1)، والمجازية في المقسم لازمة على كلّ تقدير فلا وجه لخروج القسم الأخير عن محل الكلام، فتأمل.
ص: 11
--------------------------
والأولى أن يجعل المقسم: «المائع» أو «المائع السيال» ثم يقسّم إلى ثلاثة أقسام:
أ) ما يصح إطلاق لفظ الماء عليه على نحو الحقيقة مطلقاً، أي سواءِ اُفرد أو اُضيف إلى غيره. يعني أن لا تكون الإضافة مقوّمة لصدقه على نحو الحقيقه، بل تكون لتعيين الفرد، كماءِ البحر مثلاً.
ب) ما يصح إطلاق لفظ الماء عليه على نحو الحقيقة في صورة الإضافة فقط، وأمّا بدونها فيكون مجازاً. بمعنى أن تكون الإضافة مقوّمة للصدق الحقيقي، كماءِ الرمّان مثلاً.
د) ما لا يصح إطلاق لفظ الماء عليه على نحو الحقيقه مطلقاً، سواءٌ اُفرد أو اُضيف إلى غيره وإنْ صحَّ إطلاق الماء عليه - مفرداً أو مضافاً - على نحو المجاز كالنفط مثلاً(1).
ص: 12
كالمعتصر من الأجسام أو الممتزج بغيره ممّا يخرجه عن صدق اسم الماء[1] والمطلق أقسام: الجاري، والنابع غير الجاري، والبئر، والمطر، والكر، والقليل[2].
--------------------------
[1] والأوّل كماء العنب، والثاني كماء الورد.
[2] إنَّ المصنّف (رحمه اللّه) لم يقسّم المضاف؛ لعدم اختلاف أحكام أقسامه عند المشهور(1)، والتقسيم إنّما يكون عادة بلحاظ اختلاف أحكام الأقسام، كما ذكره السيّد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(2).
وأمّا المطلق، فقد اختلفت الكلمات في تقسيمه:
أ) فربّما يقسّم الى ما ينفعل بالملاقات وما لا ينفعل بها(3).
ب) وقد يقسّم إلى الجاري وماء البئر والمحقون مع تقسيم الأخير إلى كثير وقليل، كما هو المعروف بين الأصحاب على ما قيل(4).
ج) وقد يقسّم إلى كرٍ وغير كر، وغير الكر إلى ما له مادّة وما ليس له
ص: 13
--------------------------
مادة(1).
د) وقد يقسّم بتقسيم رباعي مذكور في التنقيح(2).
ه) وقد يقسّم إلى ستة أقسام كما فعله المصنّف (رحمه اللّه) .
و) وقد تُجعَل الأقسام سبعة بإضافة ماء الحمام فإن له أحكاماً تختص به(3).
ز) وقد يضاف إليها أقسام اُخر، كالمستعمل والسؤر ونحوهما، كما في الفقه(4).
هذا، وقد يشكل على بعض هذه التقسيمات - كتقسيم المصنّف (رحمه اللّه) - بعدم اختلاف أحكام بعض الأقسام عن البعض الآخركالمطر والجاري، فيكون التقسيم لغواً؛ لعدم ترتب ثمرة عملية عليه.
والجواب أوّلاً: قد لا نُسلِّم عدم اختلاف أحكام الأقسام، فالنزح - مثلاً - مستحب في البئر دون النابع سواء كان جارياً أم غير جارٍ لعدم الدليل عليه.
ثانياً: يكفي في التقسيم وجود القول باختلاف أحكام الأقسام(5)، فمثلاً
ص: 14
--------------------------
ذهب البعض(1) إلى وجوب تعدد غَسل البول في ماء البئر والنابع غير الجاري، وكفاية المرّة الواحدة في الجاري استناداً إلى قوله (عليه السلام) : «فإن غسلته في ماء جارٍ فمرّة واحدة»(2).
فباعتبار وجود الأقوال ظهرت هذه التقسيمات(3)، والأمر في ذلك كلّه سهل(4). وقد ذكرنا بعض ما يرتبط ب«التقسيم» و«ضوابطه» في بداية (مباحث الحجج) في الاُصول، فَراجع(5).
ص: 15
وكلّ واحد منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر مطهّر من الحدث والخبث[1].
--------------------------
[1] فيما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) بحثان:
البحث الأوّل : في طهارة الماء المطلق بأنواعه فنقول: لا ينبغي أن تقع طهارة الماء المطلق محلاً للبحث؛ لتكفّل الضرورة والأدلّة الاجتهادية والأصل العملي بإثباته، مضافاً الى أنَّ ما دَلَّ على المطهّرية - كما سيأتي إنْ شاء اللّه - يدلّ على الطهارة بالملازمة العرفية.
وأمّا دعوى الملازمة العقلية بين كون الماءِ مطهّراً وكونه طاهراً كما في «التنقيح»(1)
فهي لا تخلو من نظر؛ إذ لا امتناع عقلاً في كون النجس مطهّراً لغيره، وقولهم: «فاقد الشيء لا يعطيه» إنّما هو في الاُمور التكوينية لا في الاُمور الاعتبارية والطهارة اعتبار شرعي، بل ذلك واقع خارجاً: فإنّ الماء الذي يغسل به الشيء المتنجّس ينفعل بمجرد ملاقاته له ومع ذلك يُطَهِّرُهُ، فالمتحصّل من ذلك كلّه هو ثبوت الملازمة العرفية بين المطهّرية والطهارة.
البحث الثاني: في مطهّرية الماء المطلق للحدث والخبث وأدلتها خمسة.
ص: 16
--------------------------
الدليل الأوّل : الضَّرورة الفقهيَّة والمذهبيّة والدينيّة، وفي الفقه «بضرورة دين الإسلام»(1).
الدليل الثاني: الإجماع(2) والتَّسالم. وفي المستمسك: «إجماعاً مستفيض النقل»(3) وفي التنقيح: «تسالم المسلمون كافة»(4).
نعم، نُسِب الخلاف في بعض الصغريات إلى من لايُعبأ به، كأبي هريرة في مطهّرية ماء البحر عن الحدث(5).
لكن ينبغي أن يُعلم: أنَّ هذين الدَّليلين يُثبِتان المدّعى في الجملة، إذ الدليل الُّلبي يُقتصَرُ فيه على القدر المتيقّن كماء المطر مثلاً، وأمّا غيره - كالمطلق الحاصل من تصعيد المضاف، والماء المصنوع في المختبر وماء الفم المجتمع في إناء(6) - فلاينهضان بإثبات مطهّرية، فإنّهما قد انعقدا على
ص: 17
--------------------------
الكبرى لا على الصغرى المشكوكة(1)، فتأمل(2).
ومن هنا تمس الحاجة إلى الرجوع إلى الإطلاقات اللفظية من الآيات الكريمة والروايات الشريفة. فلا وجه لما قيل من: «عدم الحاجة إلى ذكر الآيات والروايات بعد قيام الضَّرورة على مطهّرية الماء»(3)؛ فإنّ التمسّك
ص: 18
ص: 20
--------------------------
--------------------------
الاشكال الأوّل : إنّ الطَّهور هو «ما كان طاهراً في ذاته». فلا يدلّ على المطهّرية كما نقل عن بعض أهل اللغة(1)،
ونقل عن بعض آخر(2) كونه على صيغة «فَعول» للمبالغة ومعناه شدِّة الطَّهارة ف- «ماء المطر طاهر بطهارة شديدة»، ولا دلالة فيه على المطهّرية لغيره. والحاصل: أنّ الطَّهور إمّا بمعنى الطاهر أو بمعنى شديد الطهارة.
هذا، ولكن يورد عليه:
أوّلاً: أنّ المدّعى ظهور طهور في المطهِّر، والملاك هو الظهور العرفي الذي منشأه التبادر لاكلمات اللغويين، ومع التعارض يُقدَّم عليها(3).
ص: 22
ص: 23
--------------------------
[( ما يمكن ان يقال: إنّه تارة يحصل التكاذب بين المعنى اللغوي والعرفي، واُخرى لا تكاذب بينهما.
فعلى الأوّل : يُقدَّم قول اللغوي لوثاقته فيما يعكس من المعنى في ذلك الظرف، والتكاذب الحاصل يدلّ على تغيير المعنى، فالمعنى العرفي دالٌّ على معناه الفعلي، والمعنى اللغوي دال على معناه السابق.
وعلى الثاني: فالمعنيان حجتان بعد، فالبيع مبادلة مال بمال لغة، وعند
ص: 24
--------------------------
العرف أعمّ ليشمل مبادلة حق بمال. هذه الكبرى. وأمّا فيما نحن فيه: فالظاهر هو المعنى اللغوي للطهور، أمّا المطهر فمعناه أيضاً لكن عند العرف)](1).
ثانياً: أنّ هذين المعنيين غير تامّين(2).
ص: 25
ص: 26
--------------------------
[( أمّا المعنى الأوّل : فقد نفاه البعض معترضاً بصحة إطلاق الطهور على كل شيء طاهر.
ولكن فيه : عدم لزوم الاطراد على كل شيء طاهر وذلك لصحة السلب فلا يطلق الطهور على الشجر، وعليه فالإطلاق محتاج لخصوصية.
وأمّا المعنى الثاني فقد أشكل عليه: بعدم إمكان المبالغة في الاُمور الاعتبارية.
وفيه أوّلاً: الاُمور الاعتبارية منوطة بالاعتبار، فكما أنّ أصلها باعتبار المعتبر فكذلك يمكن له ان يعتبر الشدة والضعف، كما يقال: البول انجس من الدَّم. وكذلك قد يقال: الماء الجاري اطهر من الماء المحقون.
ثانياً: تسلمون المبالغة في الاُمور التكوينية والطهارة في الآية المباركة قد تكون بمعنى الطهارة التكوينية التي تقبل المبالغة )](1).
ثالثاً: نقل اللغويون للطَّهور معنى ثالثاً وهو المطهِّر(2)،
ومعنى رابعاً وهو كونه «اسم آلة» مثل الوَقود: أي آلة الايقاد، والفَطور بمعنى: الآلة التي يفطر بها(3). فالقول: إنّه لغة بمعنى الطّاهر أو شديد الطَّهارة غير تام.
ص: 27
--------------------------
هذا، ولكن الإيراد الثالث لايكفي في المقام إلّا بضميمة الظُّهور العرفي؛ وذلك لسقوط الاستدلال مع وجود معاني لغوية متعددة واحتمال إرادة بعضها.
وممّا يؤيّد كون الطَّهور بمعنى المطهِّر - سواء كان بمعنى اسم الفاعل أو اسم الآلة - :
أ) ما حكي عن الشيخ في التهذيب: «والطَّهور هو المطهِّر في لغة العرب، الى أن يقول: وليس لأحدٍ أن يقول: إنّ الطَّهور لايفيد في لغة العرب كونَه مطهّراً؛ لأنّ هذا خلاف على أهل اللغة»(1).
ب) ما نقله مجمع البحرين عن بعض العلماء واختاره بقوله: «وهو في غاية الجودة» ما لفظة: «و إنكار أبي حنيفة استعمال الطَّهور بمعنى الطاهر المطهّر غيره وانّه لمعنى الطاهر فقط وأن المبالغة في فعول إنّما هي زيادة المعنى المصدري كالأكول لكثير الأكل، لايلتفت إليه بعد مجيء النص من أكثر أهل اللغة»(2).
د) مجموعة من الروايات اُستخدمت فيها كلمة الطهور بمعنى المطهِّر و
ص: 28
--------------------------
قد ذكرها السيد الوالد في الفقه(1).
منها: ما عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً»(2) والظاهر من الطهور في التراب ليس الطَّاهر فَحسب؛ وإلّا لم تثبت خصوصية للنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تكن في الأُمم المتقدِّمة، وقد كان التراب طاهراً عندهم أيضاً، وإلّا لكانوا في أشدِّ أنواع الحرج(3)، ولَنُقِلَ ذلك في الرِّوايات والتَّواريخ ولم يحتمل أحد ذلك.
ومنها: قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد سُئِلَ عن الوضوء بماء البحر فقال: «هو الطَّهور ماؤه، الحلّ ميتته»(4) ولكونه في مقام الجواب عن صحّة الوضوء بماء البحر لايمكن حمل الطَّهور على الطَّاهر؛ وإلّا لم يرتبط جوابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسؤال.
ومنها: قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً»(5)، ومعناه أنّ المطهِّر للإناء غَسله سَبعاً.
ص: 29
--------------------------
لا يقال: الإستعمال أعمّ من الحقيقة. إذ يجاب: بكفاية استعماله في المطهِّر كمؤيد(1).
ص: 30
--------------------------
الاشكال الثاني: وقد اعتمد عليه جمع(1) في ردّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة من «عدم الدليل على كون المراد من التطهير المعنى الشرعي، بل يمكن أن يكون المراد منه المعنى العرفي، فلم يثبت كون الآية في مقام بيان التطهير من القذارات الشرعيه، والقدر المتيقّن كونها في مقام بيان التطهير من القذارات العرفية، ومع طُرُو الاحتمال يبطل الاستدلال، فمعنى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(2) هو الرافع للخباثات العرفية، فلا يدلّ على المطلوب.
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ حذف المتعلَّق يفيد العموم، فالآية الكريمة مطلقة تشمل كلتا القذارات الشرعية والعرفية.
فإن قيل(3):
نشك في إطلاقها للشك في وجود مفهوم للقذارة الشرعية وقت نزولها.
قلنا: إنّ الآية المباركة مسوقة على نحو القضيَّة الحقيقيّة وليست مختصَّةً بفترة محدَّدة، فتشمل جميع المصاديق وإن كانت متجدّدة(4)، وإلّا لزم أن
ص: 31
--------------------------
ينكر شمولها للمصاديق المتجدِّدة من القذارات العرفية، كالأبخرة المتصاعدة من المصانع - مثلاً - وهو كما ترى.
نعم، قد يقال: بأنّ الآية المباركة ليست في مقام بيان المطهّرية من جميع الجهات، بل هي في صَدَد بيان نِعَم اللّه سبحانه وتعالى والتي منها المطر، والإطلاق فرع كون المولى في مقام البيان من نفس الجهة.
بل يحتمل أن لايرتبط الطَّهور بمتن السياق، فإنّ محور السياق هو الماء، والغاية أو العاقبة لا ترتبط بطهوريَّته بل بذاته، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً}(1) فالآية في سياق الإمتنان بالمطر والطهور وصف عَرضي(2).
ص: 32
--------------------------
والحاصل: أنّ الكلام لم يسق لبيان هذه الصفة، فمعنى الآية - واللّه أعلم - : «إِنّا امتننّا على عبادنا بالمطر والغاية من ذلك أن نحيي به بلدةً ميتةً ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً».
إلّا أن يقال: إنَّ الأصل كون المولى في مقام البيان من جميع الجهات إلّا أن يثبت الخلاف.
وفيه: عدم ثبوت هذا الأصل، بل الملاك الظهور العرفي، فلو قال الطبيب لمريضٍ: عليك بالدواء لايمكن للمريض أن يستعمل أيَّ دواء شاء؛ نظراً لإطلاق كلام الطبيب. بل إنّ العرف يرى الكلام مجملاً لا ظهور فيه(1).
ص: 33
ص: 34
--------------------------
الاشكال الثالث: سلّمنا أنّ الآية تدلّ على المطهّرية من القذارات العرفية والشرعية، ولكن القذارات الشرعية على نوعين: الحدثية والخبثية، ومع الشك في إطلاق الآية يقتصر على القدر المتيقّن وهو التطهير من القذارات الخبيثة؛ وذلك لأنّ القذارات الحدثية أبعد عن الذهن العرفي، ولاأقل من الإجمال(1).
وفيه : ما ذكر في الاشكال السابق من الإطلاق.
الاشكال الرابع: إنَّ لفظ «ماء» نكرة في سياق الإثبات، وهي لاتفيد العموم.
ويمكن أن يجاب عنه أوّلاً: بعدم القول بالفصل، فلو قلنا: بأنّ بعض المياه مطهّر لقلنا بمطهريّة جميعها.
ص: 35
--------------------------
وفيه: أنّ المعتبر القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل(1) وإلّا لزم عدم
ص: 36
--------------------------
حجية جميع التقسيمات المتأخرة، فإنّ أغلب المسائل كان فيها قولان ثم نشأ فيها التفصيل.
وثانياً: سلّمنا بأنّ النكرة في سياق الإثبات لاتدلّ على العموم في حدِّ ذاتها، ولكن لامانع من أن يفيد السياق العمومَ كما في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}(1) ولباس نكرة في سياق الإثبات وليس معناه مبهماً بل يدلّ على العموم(2)،
وكذلك «بلدة» في
ص: 37
--------------------------
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ ممّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}(1).
الاشكال الخامس: إنَّ الآية الكريمة خاصّة بماء المطر ولاتدلّ على مطهّرية غيره، والفرق بين الاشكالين هو أنّ السّابق لايدلّ على مطهّرية ماء المطر مطلقاً ولا يفيد إلّا أنّ فرداً من أفراد مياه المطر طهورٌ، وهنا يسلّم العموم ولكن في ماء المطر فحسب.
هذا، ولكن يمكن أن يجاب عنه أوّلاً: بعدم القول بالفصل. وفيه: التأمل الذي سبق.
وثانياً: بأنّ الآيات والروايات تدلّ على أنَّ جميع المياه الموجودة في الأرض إنّما هي من ماء المطر(2) ومع طهوريته تكون طهوراً أيضاً(3).
ص: 38
--------------------------
و لكن الظاهر عدم دلالتها على ما ذكر: فإنّ استدلالهم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي اْلأرض}(1) غير تام فإنّ غاية ماتدل عليه الآية المباركة أنَّ ماء المطر تَحَوَّلَ إلى ينابيع ولاتدلّ على أنّ كلّ ينبوع هو ماء مطر، ولو سُلَّمَ فإنّها تختص بالينابيع ولا تَعُمُّ الأنهار والبحار والغدران والآبار.
ومثلها في عدم الدلالة، التمسّك بقوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اْلأرض وَ إِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ}(2) قال في الدلائل: «فإنّ المستفاد من هذه الآية: أنّ اللّه سبحانه في بيان عظم قدرته والتهديد بأنّه يمكنه أن يذهب بما يكون قوام كلّ شيء وهو الماء، ولوكان
ص: 39
--------------------------
غيرماء المطر ماءً في الخارج لما كان قوام الناس بما أنزل من السماء»(1).
وفيه: أنّ ماء المطر اُسكن في الأرض لا أنَّ كلّ ما اُسكن في الأرض من المياه ماء مطر، والتهديد يتمّ وإن كان بالإبادة الجزئية، فلو فرض أن نصف ماء الأرض من المطر، لمات نصف البشر مع انقطاعه كما يموت الملايين في المجاعات التي تحصل عند منع السماء قطرها، فالحاصل: أنّ التهديد النصفي تهديد أيضاً.
فالاستدلال بالآيات الكريمة غير واضح.
وأمّا الاستدلال بالروايات الشريفة كرواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «{وَ أَنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي اْلأرض}(2) فهي الأنهار والعيون والآبار»(3) فغير تام أيضاً لعدم الإطلاق فيها.
نعم، قد يُستدلُّ بما هو ثابت من الناحية العلمية: بأنّ الأرض كانت كتلة ملتهبة غير قابلة لوجود الماء فيها، ثم على أثر العوامل الطبيعية حدثت أبخرة نزلت في صورة المطر فَتَكوَّنَ منها جميع مياه الأرض(4)، واعتماد
ص: 40
--------------------------
أهل الخبرة عليها تدلّ على كونها حقيقة علمية لافرضية علمية كما قيل(1).
فتحصَّل من جميع ذلك: أنَّ العمدة في الاشكال ما ذكر في الاشكالين الثاني و الثالث من أنّ الآية الكريمة تدلّ على المطهّرية من القذارات العرفية ولا إطلاق لها للقذارات الشرعية وبالخصوص الحدثيَّة منها؛ لعدم كونها في مقام البيان، فلا يمكن الاستدلال بها في المقام.
إلّا أن يدفع بأصالة الإطلاق وكون المولى في مقام البيان من كلّ الجهات
ص: 41
--------------------------
إلّا أن يثبت الخلاف، كما سبق، فتأمل(1).
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}(2) فقد ذكر أكثر المفسرين أنّها نزلت في حرب بدر وقد احتلم كثير من المسلمين بعد أن اُلقي عليهم النعاس فتمثَّل لهم الشيطان وقال: «كيف أنتم على حق وقد أصابتكم الجنابة ومحلُّكم غير صالح - لكون الأرض رملية غير ثابتة -ولاماء لكم بينما المشركون على الماء؟»، فأنزل اللّه عليهم المطر فثبتَتِ الأرض وإغتسلوا وارتَووا، فنزلت الآية: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}. أي لأجل حدوث الأمن في قلوبكم وإزالة الخوف عنكم، والأمانة بمعنى الدَعَة ضد المَخافة، فقوله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} يعني وسوسته {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، والتطهير يشمل التطهير من الحدث والخبث، لمصاحبة الاحتلام الحدث والخبث عادة.
هذا، ولايخفى أنَّ بعض المناقشات المتقدِّمة في الآية الأولى - مثل أنَّ الطَّهور بمعنى الطَّاهر، أو بمعني شديد الطَّهارة - لاتأتي في المقام، كما أنّ
ص: 42
--------------------------
بعض المناقشات الاُخرى مضى عنها الكلام في الآية المتقدمة.
ولكن تبقى مناقشتان:
الأولى: لم يثبت شرعاً أنّ المبتلى به في واقعة بدر هو الاحتلام، فإنَّ ما ذكر في شأن نزول الآية المباركة لم أجده في رواية معتبرة وإنما ذكره بعض المفسّرين، فيحتمل أن يكون المراد منها التطهير من القذارات العرفيَّة، وبما أنّ الفرد يَتَّسِخ في ساحة القتال وتصدر منه الراوائح النَّتِنَة فتنتابُهُ حالة التنفّر من نفسه، أنزل اللّه المطر ليطهرهم ممّا ابتلو به من الأوساخ المنفّره والأقذار العرفية. و مع طرو احتمال القذارة العرفية يسقط الاستدلال بالآية المباركة.
الثانية: ما في الحدائق(1) والمستمسك(2) من عدم عموم للآية المباركة لوقوعها في واقعة خاصة.
ولكن فيه أوّلاً: قاعدة الإشتراك في التكليف.
وثانياً: ما في التنقيح(3):
«إنّ هناك روايات دلَّتنا على أنّ ورود آية من آيات الكتاب في مورد أو تفسيرها بمورد خاص، لايوجب اختصاص الآية بذلك المورد؛ لأنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ويشمل جميع
ص: 43
--------------------------
الأطوار والأعصار من دون أن يختص بقوم دون قوم، بل وفي بعض الأخبار أنَّ الآية لو اختصت بقوم تموت بموت ذلك القوم»(1).
ومنها: ماروراه العيّاشي في تفسيره عن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه رفعه إلى خيثمة، قال: «قال أبو جعفر (عليه السلام) : يا خيثمة، القرآن نزل أثلاثاً، ثلث فينا وفي أحبائنا، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا، وثلث سُنَّةٌ ومَثَل، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيئ، ولكنّ القرآن يجري أوله على آخره مادامت السماوات والأرض..»(2).
وفيها: ضعف سندها.
ومنها: مارواه في الكافي عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان وآخرين، عن عُمَر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : ﴿الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ﴾؟ قال: نزلت في رَحم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد تكون في قرابتك. ثم قال: فلا تكونَنَّ ممن يقول للشيء إنّه في شيء واحد»(3) أي لاتُخَصِّص الآية بذلك الشيء بل عَمِّمها إلى النظائر، والرواية حسنةٌ.
ص: 44
--------------------------
هذا، ولكن في الإجابتين نظر فإنّ الروايات الشريفة وقاعدة الاشتراك إنّما تدلان على جريان الآية والحكم النازل في مورد معيَّن إلى نظائره، ولا تدلاَّن على التَّعدية من عنوان إلى عنوان آخر، فلو تناولت آية حكماً يتعلّق بالفقراء أو المجاهدين، لايمكن التمسّك بهذه الروايات لتشمل الآية الأغنياء أو القاعدين أيضاً بدعوى أنَّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.
وبعبارة اُخرى: يمكن أن يلاحظ العنوان الشامل للأفراد ثم تُلغى خصوصيات الأفراد فيُعمّم العنوان لجميع الأفراد الداخلين تحته، ولايمكن الخروج من عنوان إلى عنوان آخر، فتأمل.
وفيه ما لايخفى: فإنّ العرف يلغي - بارتكازه - خصوصية الحضر والسفر والجهاد وعدمه عن هذا الحكم، فإنّه يرى أنَّ الحكم مختصّ بالماء بما هو ماء لا بما هو ماء نازل في بدر أو على المجاهدين أو ما أشبه ذلك من العناوين المكتنفة، فيثبت أنَّ ماء المطر يطهِّر جميع الأفراد مجاهدين كانوا أو غيرهم، واقفين أو قاعدين، مسافرين أو حاضرين(1).
ص: 45
ص: 46
--------------------------
وبما ذكرنا ثبت أنّ الآية الكريمة - مع قطع النظر عن الاشكال الأوّل - تدلّ على المطهّرية المطلقة للماء بلافرق بين الجنابة والحيض وغيرهما، فما ذُكرَ من مطهّريته لخصوص الجنابة (1)لا وجه له، فإنّ العرف يرى أنّ هذه صفةٌ تتعلق بطبيعة الماء ولاخصوصية لتلك المكتنفات.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّباً}(2)
دَلَّت على مطهّرية الماءِ من الحدث، وعلى مطهّريَّته من الخَبَث بالأولويّة - لو تمت - أو بالملازمة العرفية حيث فيها: ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ﴾(3)، ومع الاشكال في شمولها للخبث (4) تدلّ على مطهّرية الماء في الجملة.
ص: 47
الدليل الرابع: الروايات الدّالَّة على مطهّرية الماء المطلق: وهي تتنوَّع إلى نوعين:
النوع الأوّل : الروايات التي لاتختصّ بمورد معين:
منها: صحيحة داود بن فرقد: «إنّ اليهود كانوا إذا أصاب أحدهم بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وَسَّع اللّه عليكم بأوسعِ ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهوراً»(1).
بناءً على شمولها لجميع الخبائث، وأمّا على القول باختصاصها بالبول فقط - لكونه القدر المتيقّن منها - دخلت في النوع الثاني.
و منها: صحيحة الفاضلين: «إنَّ اللّه جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(2).
ومنها: المعتبرة الواردة في الوسائل: «الماء يطهِّر ولا يطهَّر»(3) يعني: الماء يطهِّر غيرَه ولايطَهَّر بِغيرهِ(4). وغيرها من الروايات الدالة على مطهّرية الماء.
ص: 48
--------------------------
النوع الثاني: الروايات الواردة في موارد خاصة مثل تطهير الثياب أو تطهير إناء الولوغ(1) وغيرهما. بضميمة الإجماع على عدم الفرق بين الموارد.
الدليل الخامس: وبيانه متوقّف على ثبوت الكبرى الكليّة المذكورة في أبواب المعاملات والعقود والإيقاعات من أنَّ الكيفية المستعملة للألفاظ
ص: 49
--------------------------
عند الشرع هي نفس الكيفية العرفية؛ وذلك لأنّ طُرُق الطاعة والمعصية عقلائية - كما ذكره في الكفاية(1) -. فلو قال الشارع: ﴿أَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ﴾. فإنّ البيع عنده نفس الماهية العرفية، والدليل عليه: صِدقُ إطلاق المطيع و العاصي شرعاً على من هو كذلك عند العرف.
وعليه فلابدّ أن تثبت الكبرى في المقام أيضاً، فأمر الشارع «طهِّر» و «اغسل» يُحمل على المعنى العرفي ويحصل التطهير بالماءِ: المطلق عند العرف(2).
نعم، ينقل عن بعض جريان الإشتغال العقلي فيما نحن فيه.
وفيه: أنّ الإشتغال العقلي إنّما يصار إليه مع عدم ورود الدليل الاجتهادي، وذلك: للشك في الإمتثال الحاصل من الشك في مطهّرية ماء
ص: 50
1 مسألة: الماء المضاف مع عدم ملاقات النجاسة طاهر[1] ولكنّه غير
--------------------------
البحر مثلاً، ولكن فهم العقلاء وبنائهم ووجود الطريق العقلائي في باب الطاعة والعصيان يرفع الشك تعبّداً، فعليه يحمل التطهير على المعنى العرفي.
وبعبارة اُخرى: لو شكّ في قول المولى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ لكفاية التطهير بماء البحر، كان المتبع رأى العرف القاضي بأنَّ التطهير بماء البحر تطهيرٌ فنعمّم ذلك في الشرع أيضاً، وإلّا لوجب عليه أن يضيِّق أو يوسِّع، فالغاسل ثوبه في البحر مع عدم توسعة أو تضييق من الشرع يُعَدُّ مطيعاً وذلك كما في قول الشارع: «بع» فإنَّ ما يُعتبرُ بيعاً عرفاً هو بيعٌ شرعاً، ولو كان للشارع مفهوم آخر لوجب عليه البيان، وحيث لم يُبَيِّن فهو يرضى بالطَّريقة العرفيَّة، ومثل مالو قال المولى: «جئني بحنطةٍ» فإنّ الإتيان بما اعتبره العرف حنطة إطاعة للمولى.
مطهّر من الحدث ولا من الخبث ولو في حال الإضطرار[2].
--------------------------
[2] فالمباحث ثلاثة: أ: عدم مطهّرية الماء المضاف للحدث. ب: عدم مطهّرية المضاف للخبث. ج: عدم الفرق في الحكمين بين الإختيار والإضطرار.
وقد استدل على المبحث الأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل : الإجماع. وفيه اشكالان:
الأوّل: مخالفة البعض في بعض الجزئيات كالشيخ الصدوق في جواز الوضوء والغسل بماء الورد وتبعه في ذلك المحدّث الكاشاني، وكابن أبي عقيل في جواز الوضوء بالنَّبيذ.
ولكن يورد عليه: بأنّ مخالفة البعض لاتضرّ بالإجماع لما ثبت في محلّه من أنّ حجية الإجماع إنّما هو بوجود الملاك فيه، والملاك هو الكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) على المعروف. ولا فرق فيه بمخالفة البعض وعدمِهِ(1).
ص: 52
--------------------------
الثاني: كونه محتمل الإستناد، ومبنى المشهور عدم حجيّته(1).
الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً طَهُورًا}(2) وقوله عزّ وجلّ: {وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ}(3)
وغيرهما. وجه الإستشهاد أنّ التخصيص بمطهّرية الماء المطلق - مع كونه تعالى في مقام الإمتنان - يدلّ على عدم مطهّرية المضاف.
وفيه ما لايخفى: فقد يكون الشارع في مقام الإمتنان من جميع الجهات، وقد يكون في مقام الإمتنان من بعض الجهات.
الوجه الثالث: - وهو العمدة في المقام - قوله تعالى: {فَلَمْ فَتَيَمّمُوا}(4). فإنَّ الماء بقول مطلق هو الماء المطلق، والتنزّل إلى التيمم مع
تَجِدُوا ماءً
ص: 53
--------------------------
الوجه الرابع: الروايات الشريفة.
منها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في خبر أبي بصير: «عن الرجل يكون معه اللَّبن أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إنّما هو الماء والصعيد»(1).
لكن فيه ضعف لمكان ياسين الضرير حيث اعتبره البعضُ مجهولاً، ولكن توجد بعض القرائن على وثاقته(2).
ومنها: ما عن عبداللّه بن المغيرة، عن بعض الصادقين قال: «إذا كان الرجل لايقدر على الماء وهو يقدر على اللَّبن فلا يتوضأ باللَّبن إنّما هو الماء أو التيمم»(3).
ويتمّ الاستدلال بالرواية مع القول بظهور بعض الصادقين في الأئمه (عليهم السلام) بقرينة قوله تعالى: {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(4).
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنَّ الماء المضاف لايرفع به الحدث.
ولكن ذكرت استثناءات أربع لهذه القاعدة الكليّة:
ص: 55
--------------------------
الاستثناء الأوّل : ما ذكره الشيخ الصدوق من جواز الوضوء والغسل بماء الورد(1) وتبعه على ذلك المحدِّث الكاشاني(2) واستند إلى رواية يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «قلت له الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة، قال: لابأس بذلك»(3).
ولكن فيها مناقشات:
المناقشة الأولى: إجمال الرواية؛ لِطرُوِّ احتمال كون الواو في لفظة «الورد» مكسورة، فماء الوِرد معناه: المياه التي ترِدها الدَّوابُّ في الطُّرُق، فلا تدلّ على مطهّرية الجُّلاب كما عليه الصدوق.
و أمّا ما أورد عليه من سقوط هذا الاحتمال وعدم الإعتناء به؛ لوصول الروايات إلى أرباب الحديث قراءةً بعد قِراءةً وسِماعاً بعد سماع، فالصدوق سمع من شيخه «ماء الوَرد» وشيخه سَمع ممن روى عنه كذلك وهكذا، فيجب اتّباعُهُ في نقله ولايصغى معه إلى احتمال كسر الواو؛ فإنّه يستلزم فتح باب جديد للإستنباط لِتطرُّق هذه الاحتمالات في أكثر الأخبار(4).
ص: 56
--------------------------
فغير واضح: لتعدُّد طُرُق نقل الأخبار كما في كتب الدراية، فهناك أ: قرائة الشيخ على تلميذه. ب: قرائة التلميذ على الشيخ. ج: المناولة باعطائه كتاباً والإجازه له برواية مافيه عنه. ومع تطرُّق الاحتمال تسقط الرواية عن الاستدلال ولاتنهظ لإثبات مدعى الصدوق.
المناقشة الثانية: معارضتها للكتاب.
وقد أجاب عنه في الفقه: «إنّه أخَصُّ من تلك فيتقدَّم عليها»(1) فالرواية تُقَيِّدُ الإطلاق القرآني إلى: «لَم تجدوا ماءً ولا ماءَ وَردٍ».
وأمّا ما ذكره في الفقه أيضاً من حكومة الرواية بقوله: «و فيه: أنّه لو ثبت كان موسِّعاً لدائرة الماء المذكور في الآية» (2) فالرواية تُدخِلُ في الموضوع فرداً تعبدياً، وتجعلُ ما ليس مصداقاً تكوينياً للماء مصداقاً تعبدّياً شرعيّاً له.
فغير واضح: فإنّ الرواية في مقام بيان جواز الوضوء بماء الورد، ولاتشير إلى أنَّ ماء الورد ماءٌ، فالمقام صغروياً مقام التَّخصيص(3) لا الحكومة؛ لكون
ص: 57
--------------------------
المناقشة الثالثة: إعراض الأصحاب عنها، قال في التَّهذيب: «إنّه خبرشاذ شديد الشذوذ وقد اجتمعت العصابة على ترك العمل بظاهره»(1) وقال الشهيد: «إنَّ قول الصَّدوق مسبوق بالإجماع وملحوق به فلا يعبأ به»(2) والإعراض مسقط عن الحجّية، بل قيل كلما ازداد صحّة ازداد وهناً بالإعراض.
وأشكل عليه في الفقه: «إنّ الإعراض غير مسقط عن الحُجِّيَّة، والإجماع لا دليل على اعتباره»(3).
ولكنّه عدل فيما بعد عن هذين الاشكالين.
المناقشة الرابعة: إمكان حملها على التقية - كما ذكره في الوسائل - قال: «ويمكن حمله على التقية لمامرَّ»(4) ويقصد به مامرّ في بحث النبيذ حيث
ص: 59
--------------------------
قال: «ويجب حمل هذا على التقية؛ لمعارضته الأحاديث المتواترة ولموافقته لأشهر مذاهب العامة ولمعارضته للإجماع».
وفيه: أنّ الحمل على التقية إنّما يصار إليه مع وجود التعارض المستقر(1) بين الدليلين، ولاتعارض فيما نحن فيه؛ فإنّ هذه الرواية تخصّصُ الأدلّة العامة والمطلقة، ولا تعارضها كي تحمل على التقية لموافقتها للعامة(2).
ص: 60
ص: 61
--------------------------
والروايات العلّاجية(1)
إنّما وردت مع عدم إمكان الجمع العرفي في الدليلين المتعارضين.
وفي المقام لاترد المرجّحات لإمكان الجمع العرفي فإنَّ نسبة هذه الرواية إلى الآيات والروايات العامَّة أو المطلقة نسبة المقيّد إلى المطلق.
وأمّا الموافقة لأشهر مذاهب العامة، فليس بنفسه مسقطاً لحجّية الخبر ولايطرح الخبر لأجله(2).
وأمّا معارضتها للإجماع، فمئاله إلى المناقشة الثالثة.
المناقشة الخامسة: ما حكي عن الشيخ من أنّه: «ليس الوضوء والغُسل فيها بالمعنى المصطلَح عليه بل بمعناهما اللغوي وهو التطيب والتنظف»(3) وذلك كما استفيد غسل اليدين من الوضوء في قوله (عليه السلام) : «يستحب الوضوء قبل تناول الطعام»(4).
إلّا أنّ هذا الحمل خلاف ظاهر الرواية؛ لكونها في مقام بيان جواز الوضوء والغُسل بماء الوَرد للصلاة.
المناقشة السادسة: ما في التنقيح من أنَّ ماء الورد على ثلاثة أنواع:
أ) الماء المعتصر من الورد كماء الرمان، ولم يشاهد هذا في الأعصار
ص: 62
--------------------------
المتأخرة ولعلّه كان موجوداً في العصور المتقدمة، ولاشك في كونه ماء مضافاً.
ب) الماء المجاوِر للوَرد، كما لو جعل الورد في إناء ماء فاكتسب الماء رائحة عطرة من الورد ويطلق عليه ماء الورد، ولكنّه ماء مطلق وليس بمضاف؛ وذلك لأنّ عنوان الإضافة غير عنوان التغيّر، كما في تغيّر رائحة الماء المطلق المجاور لميتَةٍ أو الملقى فيه ميتة طاهرة كالسمك، فإنَّ الماء متغيّر وليس بمضاف.
ج) ماء الورد الحاصل من تصعيد الماء الممتزج بالورد بالتَّبخير وهو المتداول في العهد الحاضر، وهو أيضاً نوع من أنواع الماء المطلق(1)،
فلو فرضنا أنّ اللّه سبحانه خلق بحراً من ماء الورد يطلق عليه الماء المطلق ولا يمكن أن يطلق عليه الماء المضاف بوجه(2). ثم قال ما لفظه: «وعليه، فلا
ص: 63
--------------------------
محيص من حمل الرواية على القسمين الأخيرين، فإنّ القسم المضاف منها لا يوجد في الأعصار المتأخرة، ولعلّه لم يكن موجوداً في زمان الأئمة (عليهم السلام) أيضاً فلاتشمله الرواية»(1)، فالرواية ناظرة إلى القسمين الآخرين وليست ناظرة إلى القسم الأوّل.
ويمكن أن يورد عليه بإيرادين:
الإيراد الأوّل : الأصل في القضايا أن تكون حقيقيَّة لاخارجية، والقضية الحقيقية تَعُمُّ جميع الأقسام، فإنّها كما تشمل ما يقطع وجوده فعلاً تشمل ما يقطع بعدم وجوده، فكيف بما يحتمل وجوده كما صرح في التنقيح بقوله: «ولعلّه كان موجوداً في الأزمنة السالفة» وعليه فالمصاديق المتجددة من: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}(2) أو {وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(3)
داخلة فيهما، وكذلك الإنارةُ بالمصابيح الكهربائية مصداقٌ لقوله: «من أنار مسجداً»(4).
ولكن فيه: أنّ الموضوع إنّما يُحمل على القضية الحقيقية مع صدوره عن
ص: 64
--------------------------
المعصوم (عليه السلام) ، وأمّا وروده في كلام السائل فيحتمل كونه استفساراً عن قضية خارجية - كماء الورد -، ويكون جواب الإمام (عليه السلام) على سؤاله، فلا ينعقد عموم للجواب(1).
ص: 65
--------------------------
الإيراد الثاني: إنّ الملاك في الإطلاق والإضافة العرف، ولاشك في أنّه يعتبر الأنواع الثلاثة من المضاف.
فالحاصل: أنّ ماء الورد المتداول فعلاً هو ماء مضاف لايصح إطلاق الماء مطلقاً (1) عليه(2).
ص: 66
ص: 67
--------------------------
المناقشة السَّابعة(1):
إنّ الرواية تعارض الكتاب بالعموم الوجهي، ولافرق في طرح معارض الكتاب بين أن يكون التعارض بالتباين الكلي أو بالعموم من وجه - على ما ذكر في التعادل والتراجيح -.
بيان المعارضة: لنا في المقام دليلان:
الأوّل: جواز الوضوء بماء الورد، وله فردان: ماء الورد المضاف. وماء الورد المطلق.
الثاني: الآية الكريمة: ﴿فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾(2)
وتشمل: وجود ماء الورد المضاف، وعدم وجود ماء و لا ماء ورد مطلقاً.
فتعارض الدليلان بالعموم من وجه، فمورد التقاء الدليلين وجود ماء ورد مضاف، ومورد افتراق الرواية: وجود ماء ورد مطلق، ومورد افتراق الآية: عدم وجود ماء مطلق ولا ماء ورد أصلاً، وتسقط الرواية مع تعارضها للكتاب في ماء الورد المضاف، وأمّا ماء الورد المطلق فإنّه يرفع الحدث؛ لكونه مطلقاً لا لرواية يونس.
وفيه: أنّ ما ذكر مبني على وجود قسمين لماء الورد والمبنى باطل والنسبة العموم المطلق.
ص: 68
--------------------------
المناقشة الثامنة: ضَعف سند الرواية على ما سيأتي.
نعم ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه: «إنّه ليس المعتبر في الحُجِّيَة الصحّة بل يكفي مثل هذا السند، ولذا عمل بما هو أضعف منه»(1) فلايخدش اعتبار الرواية بضعف سندها، فإنّ اعتماد الكليني والصدوق عليها يدلّ على الصحّة القدمائية التي هي عبارة عن: «الخبر الذي يعمل به وإن كان في سنده مجهولون أو ضعاف»(2) وإن لم تكن صحيحة عند المتأخرين.
هذا، ولكن فيه: أنّ قرائن الصحّة على نحوين: القرائن الداخلية وهي: وثاقة الرواة. والقرائن الخارجية وهي كما في المعالم(3) كخبر موت ابن الملك وإن كان راويه مجهولاً أو ضعيفاً. ولا يخفى أنَّ القرائن الخارجية حدسيَّة اجتهاديَّة لا تنفع الفقيه إلّا مع البناء على اجتهاد فقيه لآخر مع عدم التَّوصُّل إلى الخلاف. و لكنّه محل تأمل(4).
ص: 69
--------------------------
ثم إنّ الرواية نقلها محمد بن يعقوب، عن على بن محمد بن بندار، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) .
و الاشكال في السند من جهتين:
الجهة الأولى: البحث في سهل بن زياد الملقَّب «بأبي سعيد الآدمي» وهو من المكثرين، فقد روى ما يزيد عن ألفين وثلاثمائة رواية، وقد اختلفت كلمات الأصحاب في وثاقتة وضعفه.
أمّا قرائن توثيقه:
فمنها: وروده في اسناد تفسير القمي(1). إلّا أنّ المبنى محل اشكال.
ومنها: وروده في اسناد كامل الزيارات(2). وفيه ما في سابقه.
ص: 70
--------------------------
ومنها: توثيق الشيخ له في رجاله بقوله «ثقة»(1).
ومنها: نقل عدة من الأجلاء عنه.
ومنها: كونه من مشايخ الإجازة، ولقد وثقه المجلسي لذلك قال: «إنّه ضعيف عند المشهور، ثقة عندي لكونه من مشايخ الإجازة»(2).
ومنها: أنّه كثير الرواية وأكثر رواياته مقبولة مفتى بها.
ومنها: - وهي العمدة عندنا - كثرة رواية الكليني في الكافي الشريف عنه مع كثرة إحتياطه ودقَّته الشَّديدة، وقوله في المقدمة: «بالرَّوايات الصَّحيحة عن الصادقين (عليهم السلام) »، فقد روى عنه أكثر من ألف رواية منتشرة في الأجزاء المختلفة، وترتيبها بعد احصائي لها كالآتي:
ص: 71
--------------------------
في الجزء الأوّل من اُصوله: مائة وأربع روايات (104).
في الجزء الثاني من اُصوله: مائه وأربع وستون رواية (164).
في الجزء الثالث من فروعه: مائتان وأربع عشر رواية (214).
في الجزء الرابع من فروعه: مائتان وتسع وعشرون رواية (229).
في الجزء الخامس من فروعه: مائتان وأربع وعشرون رواية (224).
في الجزء السادس من فروعه: ثلاثمائة ورواية واحدة (301).
في الجزء السابع من فروعه: مائة وواحد وسبعون رواية (171).
في الجزء الثامن من الروضة: ست وثمانون رواية (86).
ومنها: اعتماد الصدوق عليه في الفقيه وهو: «لا يروي إلّا ما هو حجة فيما بينه وبين اللّه» كما ذكر في المقدمة(1) وقد ذكر اسمه - مع أنّه يحذف الأسناد - في الجزء الأوّل ثلاث مرات، وفي الجزء الثاني سبع مرات، وفي الجزء الثالث ست مرات، وفي الجزء الرابع إحدى عشر مرة.
وأمّا قرائن ضعفه:
منها: تضعيف الشيخ له في عدة مواضع(2).
ومنها: قول النجاشي عنه: «كان ضعيفاً في الحديث غيرمعتمد فيه»(3).
ص: 72
--------------------------
ومنها: شهادة أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي عليه بالغلو والكذب، وإخراجه من قم إلى الرَّي وإظهار البرائة منه والنهي عن السماع عنه والرواية عنه(1).
ومنها: قول الفضل بن شاذان: «هو الأحمق»(2).
ومنها: ذكر الشيخ في الإستبصار: «إنّه ضعيف جداً عند نُقّاد الأخبار»(3).
ومنها: استثناه الشيخ الصدوق من رجال نوادر الحكمة، فقد صَرَّح: أنّ كلّ الرواة في نوادر الحكمة معتمدون إلّا مجموعة منهم سهل بن زياد(4).
ولكن ما ذكره الفضل لايدلّ على ضعفه؛ فإنّ الحُمق لاينافي الوثاقة.
وكذلك قول النَّجاشي في كونه: «ضعيف الحديث غير معتمد عليه» فإنّه قد نَسبَ الضعف إلى حديثه ولم ينسبه إلى ذاتة، فقد ينقل الثقة أحاديثاً من كلّ بَرّ وفاجر، فيقال عنه: إنّ أحاديثه لايعتمد عليها، لا أنّه لايعتمد عليه، بخلاف الكذَّاب الوضَّاع الذي لايعتمد على شخصه(5).
ثم إنّه تحوم شبهة في تضعيفات النجاشي، وهي كونها كتضعيفات زميله
ص: 73
--------------------------
في الدِّراسة ابن الغضائري حيث الأخير كان يُلاحق متون الأحاديث و لأجلها يُضعِّف الرواة، فيضعِّف الرّاوي من خبره بالدليل الإنّي، حيث كان له في الغلو وما أشبهه اعتقاد ورأي، فيرى روايات يتخيّلها ضعيفة فينسب الكذب والوَضع إلى راويها، ومع وجود هذه الشبهة لايمكن الإعتماد على تضعيفاته.
هذا مضافاً إلى أنَّ مجموعة من مشايخ النجاشي كانوا من العامَّة؛ فلايبعد أنّه كان خاضعاً لجوٍّ معين فيلاحق متون الروايات و يضعف الراوي إن وجد فيها الغلو بإعتقاده، وسهل بن زياد قد أكثر من ذكر روايات الفضائل والمعاجز عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فتأمل(1).
ص: 74
--------------------------
وأمّا شهادة أحمد بن محمد بن عيسى عليه بالغلو فلا تضرّ، فإنّ العقيدة لاترتبط بوثاقة اللّهجة، وأمّا اخراجهُ له فقد يكون لسبب هو معذور فيه كإيجاد الفتنة والتشويش في المدينة وما أشبه ذلك.
نعم يبقى في المقام الإتهام له بالكذب، ولكن يحتمل أن يكون منشأ الإتهام نقله لروايات يراها احمد بن محمد بن عيسى غلواً.
وأمّا استثناء الصدوق له في نوادر الحكمة فقد لايكون معتبراً لشدَّته في روايات الغلو(1) - مثلاً: إنّه قد نسب الغلو إلى من يروي أنّ علياً ولي اللّه ويقول: إنّه أوّل درجات الغلو - مضافاً إلى أنّه تابع لشيخه ابن الوليد في توثيقاته وتضعيفاته.
وأمّا قول الشيخ في الإستبصار بأنّه ضعيف جداً عند نُقَّاد الأخبار فلا يدلّ على ضعف شخصه بل ضعف خبره، فإنّ النُقّاد هم نُقّاد الأخبار لا نُقّاد المخبرين، ولا أقل من وجود الاحتمال، نعم الإنصاف أنَّ ظاهر كلامه تضعيف شخصه.
هذا، ولكن صرَّح الشيخ في عدة مواضع أنّه ضعيف، وظاهر الضعف ضعفه في ذاته لا ضعيف حديثه، وقال في المعجم: «فسهل بن زياد الآدمي ضعيف جزماً أو أنّه لم تثبت وثاقته»(2).
ص: 75
--------------------------
فالمتحصّل: تعارض التوثيق والتضعيف فيه، فهنا طريقان:
الأوّل: التوقّف فيه للتَّعارض وهو يساوق سقوط جميع أخباره إلّا مع قيام قرينة خارجية.
الثاني: القول بوثاقته، فإنّ اعتماد الكليني عليه في أكثر من ألف رواية لايحتمل أن يكون لقرائن خارجيّة، والتضعيفات يحتمل أن تعدو إلى روايته أو عقيدته لا إلى شخصه خصوصاً مع ملاحظة تقدم الكليني على النجاشي(1)، والأقربيّة تعطيه نوعاً من القوّة(2)، فالأمر دائر بين أن نميل إلى وثاقته أو نتوقّف فيه.
ص: 76
--------------------------
الجهة الثانية: البحث في محمد بن عيسى بن عبيد، والأمر فيه دائر بين القول بتضعيفه مطلقاً كما اختاره بعض، أو تضعيف ما رواه عن يونس بن عبدالرحمن خاصة كما عن آخر، وبين القول بوثاقته مطلقاً حتى فيما يرويه عن يونس كما نميل إليه.
فالبحث في مقامين:
المقام الأوّل : الأمارات الدالّة على وثاقته وهي خَمس:
الأولى: توثيق النجاشي له في رجاله بقوله: «إنّه جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حَسَنُ التصانيف»(1).
الثانية: دعوى الإجماع على عُلُوِّ شأنه كما يظهر من كلمات النجاشي، قال مالفظه: «و رأيت أصحابنا ينكرون هذا القول - أي القول بتضعيفه - ويقولون: من مثل أبي جعفر محمد بن عيسى؟»(2).
الثالثة: ما حكاه الكشي في رجاله عن على بن محمد القُتيبي أنّه قال: «كان الفضل بن شاذان (رحمه اللّه) يحب العبيدي [يعني محمد بن عيسى] ويثني عليه ويمدحه ويميل إليه ويقول: ليس في اقرانه مثله»(3).
ص: 77
--------------------------
هذا، ولكن ذكر في المعجم أنّ «علي بن محمد القتيبي لم يوثق»(1) فنقله عن فضل لا يغني شيئاً.
إلّا أنَّ اعتماد النجاشي على ما نقله الكشي عن القتيبي بقوله: «وبحسبك هذا الثناء من الفضل»(2) ظاهر في وثاقته.
نعم يحتمل اعتماد النجاشي على قرائن بصحَّة هذه الرواية فحسب، ولكنّه احتمال مرجوح.
الرابعة: قال النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر الحكمة ما لفظه: « قال أبوالعباس بن نوح(3): وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه(4)، وتبعه أبوجعفر بن بابويه (رحمه اللّه) على ذلك، إلّا في محمد بن عيسى بن عبيد فلا أدري مارابَه فيه - وفي بعض النسخ ما رأيهُ فيه - لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة»(5).
الخامسة: قال الكشِّي في ترجمة محمد بن سنان: «وقد روى عنه الفضل وأبوه ويونس ومحمد بن عيسى العبيدي.. وغيرهم من العدول والثقات من
ص: 78
--------------------------
أهل العلم»(1).
المقام الثاني: الأمارات الدالة على ضعفه مطلقاً أو ضعف مارواه عن يونس خاصة وهي أربع:
الأولى: حكى أبو جعفر بن بابويه عن شيخه ابن الوليد أنّه قال: «ما تفرّد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لايعتمد عليه»(2)، وهو ظاهر في تضعيف ما يرويه عن يونس فحسب لامطلقاً، وسيأتي البحث فيه لاحقاً.
الثانية: ما نقله النجاشي عن الكشي عن نصر بن الصباح أنّه قال: «إنّ محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين أصغر في السنِّ أن يروي عن ابن محبوب»(3). وعليه فكلامه يعتبر تدليساً لعدم نقله الواسطة بينه وبين ابن محبوب.
ولكن فيه مواضع للنظر:
أمَّا أوّلاً: فلأنّ نصر بن الصباح مجهول لا يعتَدُّ بكلامه.
وثانياً: حذف الوسائط أمر متعارف إمّا للاختصار أو لجهة اُخرى.
وثالثاً: بتخالف ما نقله النجاشي عن الكشي مع ما نقله الكشي عن النصر تحت رقم 415 فقد قال: «إنّه من صغار من يروي عن ابن محبوب في
ص: 79
--------------------------
السن»(1) ولم يقل إنّه أصغر من أن يروي، فإمّا أن نقول بخطأ نقل النجاشي، أو بأنّه نقل عن نُسخة اُخرى لم تصلنا أو نقل آخر، وعليه فيتعارض النقلان ويتساقطا.
ورابعاً: بطلان كلام نصر ووهنه، فإنّ محمد بن عيسى قد أدرك الإمام الرضا (عليه السلام) الذي استُشهد في 203 هجرية، وقد مات ابن محبوب أواخر سنة 224 هجرية، وعليه يكون عمر محمد بن عيسى عند وفاة ابن محبوب فوق العشرين، فكيف يدّعي نصر أنّه أصغر من أن يروي عنه(2)؟
الثالثة: روايته مجموعة من الأخبار في ذَم جماعة من الأكابر كزرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وأبي بصير واسماعيل بن جابر ومؤمن الطاق.
وفيه: أنّ هذه الروايات إمّا غير ثابتة لضعفها سنداً، وإمّا واردة عن المعصوم لحكمة كالتقية، فلا تشكِّلُ قدحاً فيه.
الرابعة: تضعيف الشيخ له في الإستبصار والفهرست(3) وموارد متعددة من رجاله(4)، ولولا عدم انفراد الشيخ بالتضعيف لقدّمنا توثيق النجاشي لكون
ص: 80
--------------------------
المعروف أنّه أضبط الرجاليّين في توثيقاته، وإن كانت شبهة في تضعيفاته وتظهر من كلامه شبهة الإجماع كما سبق.
هذا مضافاً الى توثيق شيخه ابن نوح و أصحابه والفضلِ والكشِّي، إلّا أنّ الشيخ ينسب التضعيف إلى غيره - أي الصدوق - والصدوق - عادة - تابع لشيخه ابن الوليد في تضعيفاته وتوثيقاته، فقد يكون ابن الوليد من المضعّفين أيضاً.
هذا، ولكن يمكن دفع تضعيف الشيخ له بذكر أمرين تستخلصان من مجموع كلام ذكره في المعجم(1):
الأوّل: إنّ تضعيف الشيخ معتمد على تضعيف الصدوق وابن الوليد.
الثاني: إنَّ تضعيفهما تضعيف مقيّد وليس بمطلق لكنّ ظنّ الشيخ الإطلاق وغفل عن التقييد الوارد في كلام الصدوق وابن الوليد، فإنّهما ضعَّفا ماكان فيه الإسناد منقطعاً أو خصوص مارواه عن يونس، فلا يعبأ بتضعيفه، وذلك كمن اعتمد على شهادة مقيّدة لشاهدين إلّا أنّه ظَنَّها مطلقة وشهد على الإطلاق فإنّه لاتقبل شهادته بالإطلاق؛ لأنّها مبنية على شهادة مقيّدة، فلا يعتمد على كلام من شهد بفسق زيد وعُلم أنّ شهادته مبنية على شهادة عدلين شهدا بفسقه أيام شبابه؛ فإنّ الشهادة المقيّدة لاتثبت الإطلاق.
و لكن الدعويين محلّ اشكال:
ص: 81
--------------------------
أمّا قوله: «إنّ تضعيف الشيخ - كما هو صريح كلامه في الإستبصار وفي الفهرست - مبني على استثناء الصدوق وابن الوليد»(1).
ففيه: أمّا في الرجال فتضعيف الشيخ له مطلق(2).
وأمّا في الإستبصار فيقول - بعد ذكره خبراً رواه ابن عبيد عن يونس: «إنّ هذا الخبر مرسل منقطع وطريقه محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس وهو ضعيف، وقد استثناه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه من جملة الرجال الذين روى عنهم صاحب نوادر الحكمة وقال: مايختص بروايته لا أرويه ومَن هذه صورته في الضعف لا يعترض بحديثه»(3).
ولكنّ العبارة ليست صريحة في أنّ تضعيفه مبتنٍ على تضعيف الصدوق - كما ادّعاه المعجم - بل الشيخ يضعّفه ويعضد كلامه بكلام الصدوق، - وذلك كما لو قال شخص: هذا الماء كر، وشهد فلان بكرّيته، أو قال: هذا اليوم عيد. وقد قال فلان: إنّه عيد. منتهى الأمر وجود الإجمال والاحتمال
ص: 82
--------------------------
في كلامه لا أنَّ كلامه صريح.
وأمّا في الفهرست(1) فقد قال: «محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ضعيف، استثناه أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه الصدوق عن رجال نوادر الحكمة، وقال: لا أروي ما يختص برواياته». وهو أيضاً كسابقه.
وأمّا قوله بكون تضعيف ابن الوليد والصدوق ليس بمطلق بل مقيّد بصورتين فقط وهما: أن يكون الإسناد منقطعاً. و فيما يرويه عن يونس حيث قال: «والذي ظهرلنا من كلامهما أنّهما لم يناقشا في محمّد بن عيسى بن عبيد نفسه، فإنَّما ناقشا في قسمين من رواياته وهما: فيما يروي صاحب نوادر الحكمة عنه بإسناد منقطع.. وفيما ينفرد بروايته محمّد بن عيسى عن يونس، وأمّا في غير ذلك فلم يظهر من ابن الوليد ولا من الصدوق ترك العمل بروايته»(2)
وذكر في مكان آخر: «ولكن الشيخ قد غفل عن هذه الخصوصيّة»(3).
ففيه أوّلاً: سلّمنا أنَّ ما وجدناه من كلام ابن الوليد والصدوق مقيّد بهاتين الصورتين فقط لكنّه لايسوّغ لنا أن ننسب الخطأ والغفلة للشيخ، فلعلّه وجد منهما كلاماً مطلقاً ولاتعارض بين المطلق والمقيّد، فتارةً التضعيف في جميع
ص: 83
--------------------------
الروايات واُخرى في بعضها، وإثبات الشيء لاينفي ما عداه.
ثانياً: تضعيفهما مطلق وليس بمقيّد، قال الشيخ (رحمه اللّه) : «محمَّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ضعيف، استثناه أبوجعفر محمد بن علي بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة، وقال: لا أروي ما يختصّ برواياته»(1) وهذه العبارة على نقل الشيخ مطلقة غير مقيّدة.
وقال (رحمه اللّه) أيضاً عن محمد بن أحمد بن يحيى - صاحب نوادر الحكمة - مالفظه: « وقال أبوجعفر بن بابويه: إنّه يروي روايات محمَّد بن أحمد بن يحيى إلّا ما كان فيها من غلو أو تخليط وهو الذي يكون طريقه.. أو عن محمَّد بن عيسى بن عبيد بإسنادٍ منقطع ينفرد به»(2).
وفَسَّرَ الشيخ محمَّد تقي التستري الإسناد المنقطع بأنّ معناه: أنّه متفرّد به، ف- «ينفرد به» عطف بيان(3)، فالعبارة على تفسيره مطلقة، بل لامنافاة بين هذه العبارة وإن فرضت مقيّدة وبين العبارة المطلقة السابقة، فإنَّ إثبات الشيء لاينفي ماعداه.
ثم إنَّ النجاشي ذكر في رجاله في محمَّد بن احمد بن يحيى مانصَّه: «وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد بن احمد بن
ص: 84
--------------------------
يحيى مارواه عن.. أو عن محمّد بن عيسى بن عبيد بإسنادٍ منقطع»(1) والصدوق تابع لابن الوليد.
هذا، وتوجد في نقل الشيخ عن الصدوق عبارة التفرّد مضافاً الى الإنقطاع.
فالحاصل: - مع ضمِّ عبارة الصدوق بنقل الشيخ، إلى عبارة ابن الوليد بنقل النجاشي، مع ما فهمه التستريّ خرِّيت هذا الفنّ- انّ الإسناد المنقطع يعني ما تفرّد به.
وبعبارة ثانية: إنَّ ما استثناه الصدوق هو بنفسه ما استثناه ابن الوليد، لاحظ عبارة الصدوق بنقل الشيخ: «بإسناد منقطع ينفرد به» مع عبارة ابن الوليد بنقل النجاشي: «أو عن محمد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع». سترى أنَّ الصدوق التابع لشيخه فهم من عبارة «وباسناد منقطع» «ماينفرد به». فالمراد بالإسناد المنقطع: ما تفرّد به. ويعضده فهم التستري أيضاً حيث قال: معنى منقطع: تفرّد به. أي أنّه فقط من نقل هذا الكلام بوحده، و هو ظاهر في التضعيف المطلق.
ويؤيّد ما ذكرنا ما يظهر من كلمات ابن نوح حيث فهم من الصدوق التضعيف المطلق لابن عبيد ولذلك أشكل على تضعيفه له لكونه على ظاهر العدالة والثقة ما لفظه: «إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابَهُ
ص: 85
--------------------------
فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة»(1).
نعم، يظهر التضعيف المقيّد مِن عبارة النجاشي، قال: «ذكر الصدوق عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه»(2).
و صفوة القول أوّلاً: أنّ تضعيف ابن الوليد تضعيف مطلق إن كان معنى «الإسناد المنقطع» أنّه تفرّد به.
ثانياً: تضعيف الصدوق مطلق أيضاً كما نقله الشيخ تحت رقم 611 «وهو ضعيف» وقال: «لا أروي ما يختص بروايته».
ثالثاً: تضعيف الشيخ له مطلق على بعض النقولات.
فما ذكره في المعجم من خطأ الشيخ وأنّه معتمد على نقل الصدوق وشيخه غير تام؛ لإطلاق بعض نقولات الشيخ هذا اولاً، وعلى تفسير معنى منقطع ب- : ما تفرّد به. تكون العبارات الدالة على التضعيف المطلق أكثر ثانياً، ووثاقة الشيخ وهو ينقل الإطلاق تَمنع من نسبة الخطأ والغفلة إليه ثالثاً.
ولكن هذه التضعيفات المطلقة لا تُرجّح على تلك التوثيقات القويَّة؛ لوجود شبهة الغلو في محمد بن عيسى، ومعها يوهن القول بضعفه.
ويظهر إتهامه بالغلو في مكانين:
ص: 86
--------------------------
الأوّل : قال الشيخ في الفهرست: «وقيل: إنّه كان يذهب مذهب الغلاة»(1).
الثاني: قال الشيخ في محمد بن احمد بن يحيى: «له كتاب نوادر الحكمة أخبرنا بجيمع كتبه ورواياته.. وأخبرنا بها عن جماعة عن الصدوق عن.. وقال أبوجعفر: إلّا ما كان فيها - يعني في كتبه ورواياته - من غلو أو تخليط، وهو الذي يكون طريقه.. أو عن محمد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع ينفرد به»(2) فلا يرويها لاحتمال الغلو، ويحتمل أن يكون التضعيف بمعنى عدم نقل رواياته.
ثم إنّه قد ذُكر معنىً آخر للإسناد المنقطع لا بعد فيه وهو: أنَّ «الظاهر هو انقطاع الإسناد بين محمد بن أحمد بن يحيى ومحمد بن عيسى(3) ولأجل ذلك يروي النجاشي كتب محمد بن عيسى بن عبيد عن احمد بن محمد بن يحيى عن الحميري عن محمد بن عيسى»(4).
فالإسناد المنقطع هو مارواه محمد بن احمد بن يحيى عن محمد بن عيسى بن عبيد فهناك واسطة مفقوده، فالتضعيف على ماذكره مقيّد وليس بمطلق، وهذا ما يزيد في وثاقة ابن عبيد؛ فإنّ الاشكال في الإسناد لا في شخصه.
ص: 87
--------------------------
والمتحصّل من ذلك كلّه: ميلنا لوثاقته كما وثقه النجاشي في رجاله(1)، بل نرى اعتبار ما يرويه عن يونس بخلاف المعجم(2) الذي يوثقه إلّا فيما يرويه عن يونس، ومن الغريب عدم تقييده لما انفرد به بل نفى وجود هذا القيد، مع أنّ القيد مصرّح به و ظاهر:
أمّا صريحاً: ففي عبارة الفهرست عن الصدوق، قال: «ما انفرد به».
وأمّا ظاهراً: فعند تلفيق عبارة الشيخ عن الصدوق بعبارة النجاشي عن ابن الوليد حيث استظهرنا أنّ انقطاع الإسناد يعني التفرد.
الاستثناء الثاني: لعدم مطهّرية الماء المضاف « النبيذ»، حيث دَلَّت بعض الرِّوايات على جواز الوضوء بالنبيذ في حال الإضطرار عند عدم وجدان الماء المطلق.
منها: ما ذكره محمد بن الحسن بإِسناده عن محمد بن محبوب، عن العباس، عن عبداللّه بن المغيرة، عن بعض الصادقين (عليه السلام) ، قال: «إذا كان الرَّجل لايقدر على الماء وهو يقدر على اللَّبن فلا يتوضأ باللبن، إنّما هو الماء أو التيمُّم، فإن لم يقدر على الماء وكان نبيداً فإني سمعتُ حُريزاً يذكر
ص: 88
--------------------------
في حديث: أنَّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد توضأ بنبيذ ولم يقدر على الماء»(1).
و لكن فيها اشكالات:
الاشكال الأوّل : ليس المراد بالنبيذ في الروايات النبيذ المسكر، بل له معنى آخروهو: وضع شيء من التمر في الماء لايخرجه عن إطلاقه؛ لكسر ملوحته أو مرارته ليسوغ شربه والوضوء به. وقد ذكر السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه(2)
مجموعة من الروايات تدلّ على وجود هذا النوع من النبيذ.
منها: ما في الوسائل أنّه سُئِل أبوعبداللّه (عليه السلام) عن النبيذ فقال: «حلال، فقال: إنا ننبذه فنطرح فيه العُكر وما سوى ذلك، فقال: شه شه تلك الخمرة المنتنة. قلت: جعلت فداك! فأي نبيذ تعني؟ فقال: إنّ اهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه حين تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشِّن، فمنه شربه ومنه طهوره. فقلت: وكم كان عدد التمر الذي كان في الكف؟ قال: ما حمل الكف. فقلت: واحدة أو اثنتين؟ فقال: ربّما كانت واحدة وربّما كانت اثنتين. فقلت: وكم كان يسع الشِّنُّ ماءً؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك. فقلت: بأيّ الأرطال؟ قال: أرطال مكيال العراق»(3).
ص: 89
--------------------------
فالأمر دائر بين حمل الرواية على المعنى الثاني وبين القول بالإجمال فتسقط عن الاستدلال، فإنّ الاستثناء مبني على أن يكون المراد بالنبيذ المعنى الأوّل ، والشك يسقطها عن الاعتبار.
و لا يرد على الخبر: وجود التناقض بين الصدر والذيل من القدرة على الماء وعدم القدرة عليه؛ وذلك لأنّه فُرِضَ في مقدم الشرطيَّة عدم القدرة على الماء فكيف يفرض أن يكون النبيذ ماءً مطلقاً؟ قال في التنقيح ما معناه: «فإنّ النبيذ لو كان كما فرضه المجيب ماءً مطلقاً فما معنى عدم القدرة على الماء؟ فهذا الجواب على خلاف مفروض الرواية»(1).
إذ يجاب عنه: بأنّه لا مانع من تشكيل مثل هذه القضية الشرطية لِفردٍ غير متعارف من أفراد الحقيقة في جهة معينة، وماء النبيذ الحلال المتعارف في جهة الشرب ليس متعارفاً في جهة التطهير؛ لوجود الحلاوة واللزوجة فيه إلّا عند الإضطرار، فلا مانع من أن يقال: إن لم تقدر على الماء فعليك بالنبيذ، و وزانه وزان الطعام يحمل على المتعارف و إن وجد بعضه غير متعارف بلحاظ الأكل، وعليه فلا تناقض فيما لو قال المولى: «كل الطعام، فإن لم تجد فكل الحشيش أو قشور الرقّي» - وهما من الطعام لغة، فإنّ الطعام ما يطعم - وذلك لأنّ المراد بالطعام هو المتعارف، ومفروض الرواية عَدَم القدرة على الماء المتعارف من هذه الجهة مع القدرة على الماء غير
ص: 90
--------------------------
المتعارف(1).
الاشكال الثاني: إنّ الراوي - وهو عبداللّه بن المغيرة - ينقل عن بعض الصادقين، وبعض الصادقين مجمل قد يكون شاملاً لزرارة عند عبد اللّه.
لايقال: إنّ مثل عبداللّه بن المغيرة - وهو من أصحاب الإجماع في الطبقة الثالثة - لاينسب الصادقين إلى غير المعصوم لجلالة مكانه.
فإنّه يقال: النسبة إلى بعض الصادقين كالنسبة إلى بعض الثقات(2) معناه رفع الأمر عن كاهله، أمّا لو أتى بالضمير بأن قال «عنه» لكان ظاهراً في النقل
ص: 91
--------------------------
عن المعصوم لو ثبتت تلك الجلالة والمكانة له، اللّهم إلّا بادّعاء ظهور كلمة الصادقين في الأئمة لقوله: {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(1).
وأمّا ما ذكره البعض: من أنّ المراد ببعض الصادقين بعض العدول؛ «لأن صيغة الصادقين - التي هي صيغة جمع في الرواية لمكان البعض - لم يرَ استعمالها وإرادة الأئمة منها في شيء من الموارد، نعم الصادقَين بصيغة التثنية يطلق على الباقر والصادق (عليهما السلام) »(2) .
فغير تام؛ فإنّ كلمة الصادقين اُطلقت على الأئمة (عليهم السلام) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(3)، ففي الكافي: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه: {اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. قال: إيّانا عَنى»(4).
وفي الصحيحة عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قول اللّه عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. قال (عليه السلام) : «الصادقون هم الأئمة والصدّيقون بطاعتهم»(5).
ص: 92
--------------------------
و قد ذكر في تفسير البرهان(1) أربعة عشر رواية منها: ما قاله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «وأمّا الصادقون فخاصة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة».
الاشكال الثالث: يحتمل أن لايكون ذيل الرواية - وقد اشتملت على حكم الوضوء بالنبيذ - من كلام الإمام (عليه السلام) ، بل هو رأي عبداللّه بن المغيرة ألحقه بكلام بعض الصادقين، ومثل هذه التركيبة يوجب الشك لورود كلا الاحتمالين فكما يحتمل أن يكون من كلام الإمام (عليه السلام) فيكون حجة، يحتمل أن يكون لعبداللّه بن المغيرة ينقلها عن حريز، وحريز عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتكون مرسلة؛ لعدم ذكر الوسائط بين حريز والرسول الأعظم، فتسقط عن الاعتبار.
الاشكال الرابع: سلّمنا صدوره من الإمام (عليه السلام) ، إلّا أنّ طريقة النقل هذه تشعر إشعاراً قوياً - إن لم تدلّ - على كونها من باب التَّقيَّة؛ فإنَّ بعض العامَّة يجوِّزون الوضوء بالنبيذ(2)، والإمام لم ينسب الحكم إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مباشرة
ص: 93
--------------------------
بل نَسَبها إلى حريز حين قال: «إن لم يقدر على الماء وكان نبيذاً، فإنّي سمعت حُريزاً يذكر في حديث..».
الاشكال الخامس: إنّ جواز الوضوء بالنبيذ خلاف الإجماع المدّعى في التهذيب(1) قال: «أجمعت العصابة على أنّه لايجوز الوضوء بالنبيذ». وبتقرير آخر: أنّها معرض عنها بالإعراض القطعي.
الاشكال السادس: إنّه خلاف ارتكاز المتشرعة، بل خلاف ضروري المذهب، فالرواية لا يعمل بها على كلّ التقادير.
--------------------------
نعم على المبنى الآخريجوز ذلك، وعليه تستثنى القاعدة الكلية بهذه الصورة(1).
الاستثناء الرابع(2):
الماء المضاف في حال تعذر الماء المطلق، وقد استدل على ذلك بقاعدة الميسور.
ويُشكل عليها أوّلاً: بعدم ثبوتها لضعف أسانيد رواياتها.
وفيه: مضافاً الى كونها مجبورة بالعمل، أنّه يمكن البناء على مضمونها ومفادِها بحديث الرفع(3)
وذلك في خصوص المركبّات فقط.
وبيان ذلك يتمّ فيما لو فرضنا وجود دليلين.
أوّلهما: وجوب الحج لقوله عزّ وجلّ: {وَ لله عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ}(4). و ثانيهما: وجوب الرَّمي في الحج.
ص: 95
--------------------------
أمّا المضطر إلى ترك الرمي فيتركه بحديث الرفع، ولكن الحديثَ لايرفع الدليلَ الأوّل ، فيبقي الأمر بالحج على حاله.
وهذا إنّما يتمّ لو كان الحج موضوعاً للأعم، فإنّه يصدق على الفاقد للرمي، فيؤول ما ذكر إلى قاعده الميسور، ولكن على الوضع للصحيح يُشك في صدق الحج على الفاقد للرمي، فيكون التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية(1).
ص: 96
ص: 97
--------------------------
وثانياً: ما ذكره السيّد الوالد (رحمه اللّه) : «إنّ المضاف ليس بميسور الماء عرفاً»(1)
فهو خروج موضوعي.
ولكن في إطلاقه تأمل، فإنّ الماء المضاف على قسمين:
ص: 98
--------------------------
أ) ما هو حقيقة مباينة للماء كماء الرمان.
ب) ما لايباين الماء عرفاً كماء الورد، والمختار أنَّ الميسور هو الميسور العرفي وهو يشمل القسم الثاني، فلو أمر المولى بغسل الوجه بالماء وكان له أمر سابق بالميسور ثمّ فَقَد العبد الماء، رأى العرف لزوم غسل الوجه بماء الورد كونَه الميسور من الماء.
نعم قد يقال: إنّ مطلق الماء المضاف لايعدّ ميسوراً للماء المطلق، وإنّما هما حقيقتان متباينتان(1).
وثالثاً: ما ذكره في الفقه أيضاً قال: «إنّ القاعدة تدلّ على أنّ التكليف هو الميسور من المأمور به فيما لم يعيّن الشارع غيره في ظرف عدم التمكن من
ص: 99
--------------------------
المأمور به، وأمّا إذا عيّن غيره فلا مَسرَحَ للقاعدة»(1) ثم نقل عن الفقيه الهمداني ما يؤدي هذا المعنى ظاهراً، فهذا تخصيصٌ في قاعدة الميسور.
وفيه تأمل: فإنّ الميسور وجود تنزيلي للمعسور وموسِّع لموضوع الدليل الأوّل ، وعليه فلا يصدق فاقد الماء على من وجد ماء الورد.
فللمولى أدلّة ثلاثة:
أ) التوضأ بالماء.
ب) والتيمّم بالصعيد لمن فقد الماء.
ج) الميسوركأن يقول: إن لم تتمكن من الماء فعليك بميسوره، وماء الورد ميسور الماء عرفاً فلا يصدق على واجده قوله تعالى: {لم تجدوا ماءً}.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسح على الجبيرة، فقد أمر المولى بالمسح على البشرة، و ميسوره المسح على الجبيرة للمريض(2)، وقد قال المولى: إن
ص: 100
--------------------------
لم تتمكن من الوضوء فتيمّم.
وكما لو قال المولى «حج» المتكوّن من عشرين جزءً مثلاً، ودليل ميسوره الإتيان بتسعة عشر جزءً للمتمكن منه فحسب. ثم قال المولى: إن لم تتمكن من الحج فاذهب لكربلاء. فمن يتمكن من تسعة عشر جزءً لايصدق عليه أنّه لايتمكن من الحج، فالميسور حاكم وموسع لدائرة الدليل الأوّل.
فالمتحصّل من ذلك كلّه: عدم ثبوت هذه الاستثنائات في الثلاثة الاُوَل، أمّا الرابع فهو متوقّف على كون المضاف - في غير ما يباين المطلق في حقيقته كماء الورد - ميسورَ المطلق عرفاً.
هذا، ولكنَّ الظاهر أنّ ارتكاز المتشرعة والسيرة الخارجية على عدم الوضوء بماء الورد، فلم يثبت استثناء من تلك القاعدة الكلية.
المبحث الثاني: عدم مطهّرية المضاف للخبث. و فيه أقول متعددة:
القول الأوّل : ما ذهب إليه المحدث الكاشاني من التفصيل بين ما ثبت الأمر بغسله بالدليل كالثياب والبدن، فيجب غسله بالماء المطلق، وبين ما لم يأمر الشارع بغسله بالخصوص فيطهر - إن صح تعبير التطهير عليه - بالماء المضاف، بل بإزالة العين عنه بأيّ وجه اتفق، فيصح تطهير الزجاج - مثلاً - بالمضاف أو بالتَّفريك والدَّلك، حتى تزول عين النجاسة.
واستدل على ذلك: بعدم تنجيس ما لا دليل على تنجيسه كالملاقي
ص: 101
--------------------------
للنجاسة، فإنّ أدلّة التطهير بالغسل في الماء المطلق تختصّ بموارد خاصة كعين النجاسات فقط، فَوِزانُ هذه الأشياء وِزانُ باطن الإنسان(1)، فلو لاقى الدم فاكهة لا دليل على تنجُّسها فيجوز أكلها مع زوال عين النجاسة، فإنّ المنهي عن أكله هو الدَّم، لا الفاكهة.
ثم إنّه قال البعض بأنّ الظاهر من عبارته هو انحصار وجوب الغسل بالمطلق في الثياب والبدن (2).
إلّا أنّه غير تام، لعدم ظهور الحصر من كلامه؛ لمكان كاف التشبيه، فتُضاف الأواني إليهما لورود الأمر بغسلهما.
و لكن فيه عدة مناقشات:
المناقشة الأولى: مخالفته لارتكاز المتشرعة، كما ذهب إليها الفقيه الهمداني ونسبها إلى الشريف المرتضى، قال: « و هذا مخالف للقاعدة المسلمة المغروسة في أذهان المتشرِّعة من أنَّ ملاقات النجس برطوبة مسرية، سبب لتنجيس ملاقيه»(3).
ولكنّه ناقض نفسه: فقد التزم عدم حجية ارتكاز المتشرعة، قال في مسألة تنجيس المتنجّس: «ولو سبقنا بعض مشايخنا المتأخرين إلى إنكار إطلاق كون المتنجّس مُنجِّساً لجزمت بذلك، إذ ليست مخالفة الأصحاب في هذه
ص: 102
--------------------------
المسألة بأشكل من مخالفتهم في نجاسة البئر، بل كانت مخالفتهم في تلك المسألة أشكل بمراتب؛ لوضوح معروفيّة نجاسة البئر لدى المخالف والمؤالف من عصر الأئمة (عليهم السلام) ، ومغروسيتها في أذهان الرواة وغيرهم من العلماء ومقلديهم دائرة على ألسنتهم وفي جميع كتبهم الفقهية، حتى ارتكزت في نفوس العوام على وجه لم يذهب أثرها إلى الآن، ولذا كثيراً ما يسألون في موارد ابتلائهم عن حكم بئرماتت فيها فأرة أو دجاجة أو غيرهما زاعمين نجاستها بذلك، مع أنّ القول بها - على ما يظهر من بعض - قد نسخ منذ سنين متطاولة ربّما تزيد على ثلاثمائة سنة»(1).
أقول: في ارتكاز المتشرعة بحثان: كبروي وصغروي.
أمّا بحث الكبروي ففي حجية ارتكاز المتشرعة: وما يبدو في بادي الأمر أنَّ ملاك حجيته وشرائطه هو نفس ملاك وشرائط حجية سيرة المتشرعة(2). أمّا ملاك السيرة فهو الكشف الإنّي عن البيان الشرعي؛ ولذلك استغنت
ص: 103
--------------------------
السيرة عن الإمضاء بخلاف سيرة العقلاء التي تتوقّف حجيتها على الإمضاء(1).
و أمّا شروط حجّيتها فأهمها على المعروف شرطان:
الأوّل: اقترانها بزمن المعصوم (عليه السلام) ، فلا اعتبار بالسيرة المُتأخرة.
الثاني: عدم احتمال نُشُوِّها من منشأ آخرغير البيان الشرعي، وذلك كما في سيرة المتشرعة القائمة على العمل بالخبر الواحد؛ فإنّه يحتمل أن يكون
ص: 104
--------------------------
ذلك للارتكاز العقلائي لا للبيان الشرعي، فلايقال: ثبتت حجّية الخبر الواحد بسيرة المتشرّعة.
وكما في سيرتهم على التمليك بالحيازة التي يحتمل كونها ناشئةً من الجري على طريقة العقلاء وليست معلولة للبيان الشرعي، فإنَّ الإمضاء الشرعي - فيما نحن فيه - يقارن السيرة العقلائية، وذلك بدليل أنّه لو ردع لبان، وأمّا إن لم يُحتمل ذلك فتكون كاشفة كشفاً إنّياً عن البيان الشرعي، كما لو ثبت أنّ العقلاء كانوا يطوفون ويسارهم إلى الكعبة، فإنّه لا يكون إلّا لبيان شرعي لا لاحتمال عقلائي، ويقال نظير ذلك في كشف التبادر عن الوضع اللغوي.
وما ذُكرَ من الملاك والشروط في السيرة يجري في ارتكاز المتشرعة، فلا شبهة في اعتباره إن كان مقارناً ولم يحتمل وجود منشأ له سوى البيان الشرعي(1) كما في ارتكازهم على عدم تصدي المراة للفتوى والإمامة في
ص: 105
ص: 106
--------------------------
جماعة الرجال، ولا يخفى عدم لزوم كون البيان صريحاً وعدم الإحتياج الى الإمضاء، قال في التنقيح: «إنما علمنا بارتكازنا من الشارع أنّه لايريد أن تتصدّى المرأة للمرجعية فمن شرائط المرجع الذكورة»(1).
وأمّا البحث الصغروي: فإنّه هل يمكن إثبات أنَّ الارتكاز مقارن ولا منشأ آخرله؟
ناقش السيد الوالد (رحمه اللّه) الارتكاز بما يظهر منه أنّه يرتضيه كبروياً ويرفضه صغروياً، قال في مناقشته للفقيه الهمداني: «إنّ المركوزية في أذهان المتشرعة ليست من الحجج الشرعية؛ لإستنادها إلى فتاوى العلماء؛ ولذا مركوز في أذهان المتشرعة المتقدّمين نجاسة البئر مع أنّ المركوز فعلاً خلافها، ومثل هذا الحكم وغيره من سائر الأحكام التي تخالف فيه القدماء
ص: 107
--------------------------
والمتأخرون كالمعاطاة وغيرها»(1) بل حتى مع احتمال استناده إلى الفتاوى يسقط عن الحُجّية.
وأمّا في المقام، فهل للمتشرعة ارتكاز بأنّ كلّ ملاقٍ ينفعل بالملاقاة؟ ولايخفى أنّ انفعال الملاقي لم يقم عليه بناء من العقلاء، فإن ثبت يتبيَّن أنّه شرعي نابع عن البيان الشرعي، قال السيّد الوالد (رحمه اللّه) : «فإنّهم إذا اجتنبوا عن السُم - مثلاً - ثم لاقى السُم الرطب جسماً، فإنّهم إنّما يحكون بغسله بالماء؛ لوجود أجزاء السُم في الملاقي لا للتعبد»(2)، فملاكهم الاجتناب عن ذات السُم لا عن الملاقي بما هو ملاقي.
ثم إنّه مع ثبوت الارتكاز هل يمكن إثبات كونه في عهد الشارع؟
المظنون ظناً قوياً(3) للمتتبع أسئلة الرواة عن مختلف النجاسات، وجود مثل هذا الارتكاز في أذهانهم - راجع الوسائل باب المطهرات وباب ما لاقاه كلب أو مني، وما أشبه ذلك - فكأنَّ الانفعال مفروغ عنه والبحث في كيفية التطهير، فتأمل.
ص: 108
--------------------------
المناقشة الثانية: ما في التنقيح من إلغاء الخصوصية، قال: «ويدفعه أنَّ العرف يستفيد من الأوامر الواردة في موارد خاصة بغسل ملاقي النجاسات بعد إزالة عينها، عدمَ اختصاص ذلك بمورد دون مورد، فإذا لاحظوا الأمر بغسل الثوب والبدن والفرش والأواني وغيرها بعد إزالة العين عنها، فَهِمُوا مِنهُ عموميه ذلك الحكم(1)».
والظاهر تمامية الدليل في حد ذاته، فإنّ العرف يلغي الخصوصية، فقد يكون اللفظ ضيِّقاً ولكن العرف يوسِّع وكذلك العكس، ومنشأه مناسبة الحكم والموضوع، فلا فرق بين الجدار والبدن عند العرف(2).
ولكن يرد عليه: أنّنا نرى انثلاماً لهذه القاعده في كثير من الموارد:
منها: عدم نجاسة باطن الإنسان بملاقاة الدم.
ومنها: طهارة ظاهر الحيوان بازالة عين النجاسة ولو بفركها.
ومنها: طهارة باطن القدم وما يشبهها بإزالة عين النجاسة بالمشي على
ص: 109
--------------------------
الأرض.
ومنها: طهارة الأرض والثوابت عليها بتجفيف الشمس لها مع زوال العين.
فالحاصل: أنّ العرف يرى اختلاف الموارد وأنّ التطهير لاينحصر بالماء، فيحتمل وجود خصوصية في البدن والثوب والأواني بأنّها لاتطهر إلّا بالماء دون غيرها. نعم، ستأتي بعد قليل المناقشة في هذه المناقشة.
المناقشة الثالثة: ما ذكره الفقيه الهمداني من لزوم تأسيس فقه جديد ولزوم التفكيك بين آثار النجاسات، قال ما لفظه: «كيف ولو بني على الإقتصار في حكم كلّ واحدة واحدة من النجاسات على متابعة النص الوارد فيها بالخصوص؛ لاستلزم تأسيس فقه جديد وللزم التفكيك بين آثارها حتى في الثوب والبدن والأواني وغيرها من المأكول والمشروب»(1).
و لكن أورد عليه في الفقه أوّلاً: أنّ الاشكال باستلزامه فقهاً جديداً مع أنّه استعباد محض، قد وقع مثله في حكم البئر والمعاطات وعدم مُثبِتيَّة الاُصول.
وثانياً: أنّ كلام المشهور يستلزم القياس حيث قاسوا ماليس فيه نص على ما فيه نص، قال ما لفظه: «إن جَعل النجاسات كلّها بحكم واحد حتى أنّه لو وَرَدَ في الخمر دليل تُعُدِّيَ إلى الكلب الذي لا جامع بينهما عقلاً ولا نقلاً من أبين أفراد القياس، وهذا الإطِّراد أوجب طرح بعض الأخبار أو حملها على خلاف ظواهرها، كما أوجب تعدّي بعض الأحكام من موضوع إلى
ص: 110
--------------------------
موضوع بلا جامع قطعي وملاك معلوم. وأمّا التفكيك بين آثار النجاسات فهو شيء يلتزم به الكل، ولذا تراهم يفتون باختلاف حكم الثوب والآنيةِ في التعفير وعدد الغَسَلات وغيرها.. وكيف كان، فما ذكره الكاشاني (رحمه اللّه) قريب احتمالاً، وإن كان الخروج عمّا فهمه أساطين الفقهاء مشكل جداً، فالإحتياط لاينبغي تركه قطعاً»(1).
ولكن فيه تأمل؛ لأنّ مناسبة الحكم والموضوع المعتمدة على مجموعة من الارتكازات العرفية قد توجب التضييق أو التوسعة في الموضوع، ولا يعتبر هذا من القياس؛ لأنّه يؤول إلى الظهور، والظهورات حجة كما في قول الصادق (عليه السلام) : «إذا أصابَ ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله»(2) فمورد الرواية الثوب، إلّا أنّ الفهم العرفي لايرى خصوصية للثوب بل المراد الأعم، فلو أصاب البدن لوجب الغسل أيضاً.
ثم إنَّ الفرق بين مناسبة الحكم والموضوع والقياس: أنّ الثاني تعدية الشيء الظاهر في إطار إلى إطار آخر، ولكن مناسبة الحكم والموضوع هو الوقوف في حدود نفس الإطار الذي يفهمه العرف(3)، فإنّه لايُفَرَّقُ بين
ص: 111
--------------------------
الثوب والخاتم مثلاً، ويلغي خصوصية الثوب والآنية، فيفهم من الرواية الواردة بانفعال الثوب والآنية أنَّ النجاسة عند الشارع لها حالة السراية، فينفعل مطلق الملاقى.
وأمّا ما ذكر من الاشكال سابقاً بانثلام القاعدة في كثير من الموارد حيث لم يحدّد الشارع التطهير بالماء.
ففيه: أنّ الظاهر من كلام المحدث الكاشاني عدم انفعال غير ما ورد النص فيه، فالقول بمطهّرية الشمس إثبات للانفعال، وكذلك القول بمطهّرية الأرض لباطن القدم، ولا بأس باختلاف المطهرات التي تزيل الانفعال.
نعم يبقى ظاهر الحيوان وباطن الإنسان، ولكن يشك في انفعالهما ثمَّ طهارتهما بزوال عين النجاسة أو عدم انفعالهما أصلاً، وعلى الثاني فهما
ص: 112
--------------------------
تخصيصان في القاعدة الكلية من انفعال مطلق الملاقي.
ثم إنَّ ما ذكره في الفقه بقوله: «نعم التزم الكل بالتفكيك»(1) في مقام رَدِّ ما ذكره الفقيه الهمداني من: «لزوم التفكيك بين آثار النجاسات»(2).
غير تام، فإنّ التفكيك ليس في السراية بل في عدد الغسلات وفي المطهِّر، نعم يشكل الأمر في كثير من الموارد لو قيل بالتفكيك في السراية.
ثم إنّ فهم العلماء حجة ويحول دون تأسيس فقه جديد إلّا إذا قاومه دليل أقوى.
المناقشة الرابعة: مارواه الصدوق والشيخ بطريق صحيح عن عمار بن موسى الساباطي: «إنّه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يجد في إنائه فأرة، وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، وقد كانت الفأرة متسلِّخة(3)؟ فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رءآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة، وإن كان إنّما رءآها بعدما فرغ من ذلك وفعله، فلا يمس من الماء شيئاً وليس عليه شيء؛ لأنّه لا يعلم
ص: 113
--------------------------
متى سقطت فيه. لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رءآها»(1) .
والرواية عامة لقوله (عليه السلام) : «ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء». فلا فرق بين أن يكون ما أصابه الماء البدن أو الثياب أو الجدار أو الخاتم، ولا يكفي إزالة العين عنها بل يجب غسلها.
نعم قد يقال: بأنّ الحكم مختص بالماء الملاقي للفأرة فحسب، و لكنّه بعيد(2)، وإلّا لزم أن يؤخذ بجميع خصوصيات الرواية(3).
ص: 114
--------------------------
المناقشة الخامسة: الإجماع، وقد ادّعاه الفقيه الهمداني(1) والكلام فيه كباقي الإجماعات المنقولة.
المناقشة السادسة: ما ذكره في المستمسك(2) قال: «إنّ هذا خلاف استصحاب النجاسة من دون دليل عليه».
ويرد عليه أوّلاً: عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية على بعض المباني؛ لتعارض عدم الجعل والمجعول وسقوطهما، لكن المبنى غير مرضي.
ثانياً: ما فيه أيضاً(3) من إنكار سراية النجاسة إلى الملاقي على مبنى
ص: 115
--------------------------
الكاشاني، فلا يقين سابق. فتحصَّل من جميع ذلك عدم مساعدة الدليل على مقالة الكاشاني.
القول الثاني: ما ذهب اليه المفيد والمرتضى: «من انفعال جميع الأجسام بالملاقاة ولكن لايشترط في تطهيرها غسلها بالماء المطلق، وإنّما يكفي غسلها بالماء المضاف». وذلك كالتطهير بالمُعَقِّمات الحديثة.
وقد استدل عليه بادلة:
الدليل الأوّل : الإجماع، وقد ادّعاه السيد المرتضى قال: «إنّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات(1)».
ويرد عليه: أنَّ الإجماع المدّعى في المقام إمّا اَن يكون صغروياً أو كبروياً:
أمَّا الإجماع الصغروي فهو مقطوع الإنتفاءِ في المقام، إذ لا إجماع منهم على كفاية التطهير بالمضاف، بل لم ينقل ذلك عن أحد إلّا المفيد والمرتضى.
وأمّا الإجماع الكبروي - وهو ما نُطلق عليه الإجماع المُستَنبط - فإنّه لا اعتبار له لغير المستنبط. ومعناه كما ذكره الشيخ في الرسائل(2): أنّ مدعي
ص: 116
--------------------------
الإجماع يرى قاعدة مسلّمة ويطبِّقها على موردها فيدّعى الإجماع عليه، وذلك كما لو ادّعى شخص بأنّ ركوب الطائرة حلال بالإجماع، بدليل أنّه من مصاديق القاعدة المجمع عليها: «كل شي هو لك حلال»(1).
قال المحقق: «وأمّا قول السائل: كيف أضاف المفيد والسيد ذلك إلى مذهبنا ولا نص فيه؟ فالجواب أمّا علم الهدى فإنّه ذكر في الخلاف أنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا؛ لأنّ من الأصل العمل بدليل الأصل - وهو كلّ شيء لك حلال - ما لم يثبت الناقل، وليس في الشرع ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة»(2).
وقال الشيخ الأعظم: «فظهر من ذلك أنّ نسبة السيد (رحمه اللّه) الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل»(3) ثم ذكر الشيخ موارد متعددة ممّا ادّعى السيد الإجماع فيها بناء على الأصل.
أقول: المتحقّق في المقام هو الإجماع على الكبرى التي طبقها الشريف المرتضى على هذه الصغرى.
و لكن صحّة الإجماع الكبروي متوقّفة على شرطين في كليهما نظر: أوّلهما وجود المقتضي ومعناه الإذعان بالكبرى، و ثانيهما: عدم المانع.
ص: 117
--------------------------
وللشرط الأوّل تقريران. الأوّل : «كل شيء لك طاهر»(1) والثاني: «كل شي لك حلال»(2) ولم يمنع الشارع التطهير بالماءالمضاف.
ولكن يمكن التشكيك في المقتضي بتقريره الأوّل حيث ذهب جمع إلى عدم جريان أصالة الطهارة في الشبهات الحكمية، منهم صاحب الحدائق فقد ذكر أنَّ موثَّقة عمار: «كل شي نظيف حتى تعلم أنّه قذر»(3) خاصَّة بالشبهات الموضوعية، قال: «إجرائها في الشبهات الحكمية لايخلو من اشكال وجُرأة»(4)، وكذلك الأمين الاسترآبادي في فوائده المدنية، وعليه فلا تجري قاعدة البراءة في الثياب المغسولة بالمضاف مثلاً، فلم يتحقق الإجماع.
إلّا أن يقال: بوجود الإجماع إلى زمن السيد والمخالف متأخر عنه.
وكذلك يمكن التشكيك فيه بتقريره الثاني و هو البرائة حيث لم يحظر الشارع التطهير بالمضاف، فقد ذهب كثير من الأخباريين إلى عدم جريان البرائة في الشبهات التحريمية، وذلك كالشك في أنّ الشارع حَرَّمَ التطهير بالماء المضاف؟
الثاني: سلّمنا الإتفاق على الكبرى وتمامية المقتضي إلّا أنّه قد يدَّعى وجود المانع في المقام. والمانع يتصور على ثلاثة أنحاء:
ص: 118
--------------------------
النحو الأوّل : قيام الأدلّة الاجتهادية - على نحو الحكومة أو الورود - على وجوب التطهير بالماء فقط، وسنتعرَّضُ لها انشاء اللّه تعالى.
النحو الثاني: استصحاب نجاسة المغسول الحاكم أو الوارد على البرائة وأصالة الطهارة.
وأشكل البعض عليه: بتعارض الجعل والمجعول، فإن جريان (لاتنقض) في المجعول يقتضي النجاسة، وأصالة عدم جعل الشارع للنجاسة - بعد الغسل بالمضاف - تَقتضي الطهارة، فيتعارضان ويتساقطان فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة أو البرائة (1).
وفيه ضعف المبنى عند الكثير مِمَّن يرى أنّ المُحَكم بقاء المجعول(2) بجريان لاتنقض فيه فيبقى - على سبيل المثال - استصحاب نجاسة اليد بعد الغسل بالمضاف بدون معارض(3).
ص: 119
--------------------------
النحو الثالث: ما ذكره في المباني: من استصحاب عدم جعل الشارع الماء المضاف مطهّراً، وهو حاكم على أصالة الطهارة والبرائة(1).
ص: 120
--------------------------
فالخلاصة: إنّ الإجماعات الكبروية المستندة إلى دليل لاتسقط عن الاعتبار إلّا مع الاشكال فيه بعدم المقتضي أو بوجود المانع.
دليلي السيد المرتضى و الاشكال عليهما
الدليل الثاني: ما تمسّك به السيد من الإطلاق في روايتين معتبرتين إحداها: «اغسله مرتين». والثانية: « يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»(1).
ويرد عليه إيرادات(2).
ص: 121
--------------------------
الإيراد الأوّل : ما ذكره الفقيه الهمداني من انصراف المطلقات إلى ما هو المتعارف وهو الغسل بالماء المطلق.
وأجاب عنه السيد المرتضى بقوله: «ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب ألّا يجوز غَسل الثوبِ بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم تجر العادة بالغسل به، فلمّا جاز ذلك ولم يكن معتاداً بغير خلاف علم أنَّ المراد بالخبر ما يتناوله اسم الغسل حقيقة من غير اعتبار العادة»(1).
توضيح كلامه: أنّ المطلق لا يقتصر على الأفراد المتعارفة وإنّما يشمل الأفراد النادرة أيضاً بدليل أنّ الغسل بالمياه الزاجيِّة وشبهها جايز إجماعاً مع
ص: 122
--------------------------
عدم تعارفها ، فكذلك الأمر في الغسل بالماء المضاف(1).
و أشكل عليه الفقيه الهمداني(2) باشكالات ثلاثة(3):
الاشكال الأوّل : ثبوت الحكم للفرد النادر إنّما هو بدليل آخرلا لشمول المطلق إياه، فلا يشمل المطلق سائر الأفراد النادرة التي فقد فيها الدليل الآخر، فاغسل لايشمل المياه الزاجيِّة، بل ما ادخلها هو دليل آخرمفقود في المضاف، قال ما لفظه: «إن ثبوت الحكم لبعض الأفراد النادرة لدليل آخرلا يدلّ على إرادته من المطلق حتى يعم تمام الأفراد».
و لكن فيه أوّلاً: عدم وجود دليل آخر يُدخل المياه الزاجية والكبريتية في الحكم(4).
ص: 123
--------------------------
إلّا أن يقال: بأنّ الدليل هو الإجماع، ولكن لا إجماع في البين إلّا على نحو الإجماع المستنبط - الكبروي - وقد مرّ الاشكال فيه(1).
ثانياً: سلّمنا الإجماع، إلّا أنّه مدركي فإنّ مستنده الإطلاق.
ثالثاً: مع تسليم عدم الإستناد، إلّا أنّهما دليلان مستقلان لإثبات صحّة الغسل بالمياة الزاجية وغيرها، قال في الفقه: «ففيه: أنّ شمول الحكم لهذا النحو من المياه ليس لدليل آخرفقط بل لشمول إطلاقات الغَسل»(2).
ص: 124
--------------------------
الاشكال الثاني: قال «ثانياً: سلّمنا دلالته على ذلك [أي على أنّ المطلق نظره إلى الأفراد النادرة أيضاً] ولكنّه لايستلزم إرادة صرف الطبيعة من المطلق، حتى يتَسَرَّى الحكم إلى سائر الأفراد النادرة خصوصاً في مثل المقام المعلوم اشتراك الفرد النادر [الزاجية] الداخل مع تمام الأفراد [اي أفراد المطلقات] الشايعة في جنس قريب [الماء المطلق] أخصّ من صرف الطبيعة، وهو كونه ماءً مطلقاً، فالعلم بإرادة الغَسل بماء الكبريت لايدلّ إلّا على إرادة الغسل بجنس الماء مطلقاً [متعارفاً أو نادراً] لا مطلق الغسل مطلقاً [سواء كان نادراً أو متعارفاً كالمياه المضافه]».
فالمطلق شمل المياه الكبريتية ولكن لادليل على شموله المياه المضافة أيضاً خصوصاً إذا كان الفرد النادر - الكبريتية - مشترك مع الأفراد المتعارفة في جامع قريب ولم يكن مشتركاً مع الفرد الآخرالنادر في ذلك الجامع القريب - وهو الغسل بالماء المطلق - وإنما يشترك مع الفرد النادر الآخرفي جامع بعيد - الغسل مطلقاً - فلا يمكن أن يقال: إنّ المطلق بما أنّه شمل النادر الأوّل فيشمل النادر الثاني.
وفيه: أنّ الملاك واحد فإذا سرى المطلق بذاته لبعض الأفراد النادرة لسري إلى بقية الأفراد النادرة، وكون الجنس الجامع قريباً أو بعيداً غير مؤثر
ص: 125
--------------------------
بنفسه إلّا إذا فرض التشكيك في الصِدق(1)، وذلك لايكون إلّا في المطلقات المُشككة دون المتواطية(2)، فيكون التشكيك في صدق انطباق المطلق على
ص: 126
--------------------------
الفردين النادرين، فالملاك القرب والبعد إلى المطلق لا إلى الأفراد المتعارفة، فلا مدخليَّة لوجود جامع قريب أو بعيد في المقام.
نعم إن سبَّب البُعد عن الأفراد المتعارفة في الجامع البعدَ عن نفس المطلق أوجب انصراف المطلق عنه، و إلّا فلا(1)، فلو قال: أكرم العالم. وكان لعالم فردان نادران. أحدهما: من يكون طوله شبراً واحداً. وثانيهما: من يكون من الملائكة. لم يشترط اشتراك النادر الثاني مع الأفراد المتعارفة في الجنس القريب، بل المهمّ قربه أو بعده عن المطلق لا الأفراد المتعارفة، فافهم(2).
فالمهم أن ندور مدار الدليل، وفي الدليل «اغسله» وليس فيه «بالماء» واللازمُ على الفقيه الهمداني أن لا يَتَّكل على الجامع التبرعي - الماء - بل عليه الوقوف على النص – اغسله - فإن سَبَّبَ الجامعُ القربَ والبعدَ عن أفراد المطلق يكون المطلق مشككاً، فلو كان النص قريباً عن بعض الأفراد وبعيداً عن بعضها الآخر وهو النادر الثاني، لتمّ كلامه.
ص: 127
--------------------------
هذا، ولكن «الغسل» الوارد في الدليل أفراده متواطية بالنسبة إليه، فلإغسل ثلاث أفراد: أ: الغسل بالماء المطلق. ب : الغسل بالماء المطلق غير المتعارف. ج: الغسل بالماء المضاف.
الاشكال الثالث: وجود الفرق بين الانصرافين(1) قال: «فإنّ الانصراف عن ماء النفط والكبريت ليس إلّا لندرة هذا القسم بحسب الوجود(2)، فانصراف الذهن عنه منشأه الغفلة وعدم التفاته إليه تفصيلاً، وذلك نظير انصراف الذهن عن الغسل بماء غير المياه الموجودة في بلده، وأمّا الغسل بغير الماء كاللبن والخل فليس لندرة وجودها، بل لعدم تعارف الغسل بها، بحيثُ لو فرض وجودها عند السامع لايلتفت إلى الغسل بها أصلاً»(3)، فملاك الانصراف عنده هو: عدم تعارف الإستعمال دون الندرة الوجودية، وفيما نحن فيه العرف لايستعمل الماء المضاف ماءً فيخرج عن صدق الغسل عليه.
ولكن فيه مناقشتان:
الأولى: في الكبرى، فإنّ جعل الضابط للانصراف ب- «عدم تعارف الإستعمال دون الندرة الوجودية». غير تام؛ فلو قال الطبيب: امسح الدواء بركبتك. يكون المتعارف المسح بباطن الكف، لكنه لا يقدح في شمول
ص: 128
--------------------------
الإطلاق لظاهر الكف أو المسح بباطن الذراع، وكذلك لو قال المولى: «كلِ الطعام»، فإنّه يشمل الأكل من القفا وإن لم يكن متعارفاً.
بل ملاك الانصراف القادح هو: «تحوُّل وِجهة اللفظ عن المطلق إلى حصَّةٍ منه بحيث لا يرى العرف(1) اللفظ مُوَجَّهاً للمطلق وان وُضِعَ له»، وذلك كما في: «لا تُصَلِّ فيما لا يؤكل لحمه». فإنّه يشمل كلّ حرام اللحم لغة، إلّا أنّ العرف يرى انقلاب وِجَهتِهِ عن شعر الزوجة مثلاً.
الثانية: في الصغرى كما ذكرها في الفقه: بأنّ مفهوم الغَسلَ «المائع المنظف المزيل للقذارات»، وانصراف ذهن العرف عن مثل الغَسل باللبن والخلّ وغيرهما لكونها غير منظفةٍ، وأمّا مايراه العرف غسلاً كالغَسل بماء الورد مسلوب الرائحة فلا بأس به، قال مالفظه: «ففيه: أنّ ذلك لعدم منظفية تلك الأمثلة المذكورة في الإيراد، بضميمة أنّ العرف يفهم في معنى الغَسل «المنظفية»، فل-و فرض أنّ هنالك ماء ورد مسلوب الرائحة العرف يراه
ص: 129
--------------------------
غسلاً»(1) فيرى في الفقه أنَّ ما ذكره السيد المرتضى تام، إلّا أنّه يحتاط في الفتوى، قال: « إلّا أنّ الخروج عن مبنى الأساطين أشكل».
أقول: مع غض النظر عن الأدلّة الخارجية الاُخرى يمكن القول بصدقِ الغَسل على كلّ مائع منظف، وقد ذهب في المباني إلى ذلك قال: «و الإنصاف أنّ دعوى الإطلاق ليست جزافية، فإنّه لو غسل أحد يده بالإسبرتو يصدق عنوان الغسل بلا كلام»(2).
ثم إنّ احتمال الانصراف يقدح في شمول الإطلاق، فإنّ حجيته متوقّفة على الظهور ومع الاحتمال لا يقين بالظهور(3)، قال الحائري: «لا شبهة في
ص: 130
--------------------------
تعارف الغَسل بالماء، وصار ذلك سبباً لكثرة الإستعمال فيه(1)، فيحتمل الانصراف، فلا يبقى ظهور في الإطلاق»(2).
الإيراد الثاني(3): ما استند اليه مجموعة من الأعلام في ردّ إطلاق الغَسل الذي ادّعاه المفيد والمرتضى: بأنّ الإطلاقات مقيّدة. وله تقريران:
التقرير الأوّل: أنّ الروايات التي تحتوي على كلمة «الماء» تقيّد المطلقات، والقاعدة العامة في جميع الفقه هي حمل المطلق على المقيّد ولو كانا مثبتين إلّا إذا علم من الخارج التعدّد، وإلّا لزم انهدام البنيان الفقهي بأجمعه في أمثال ما نحن فيه: ف- «اغسله» المطلق يقيّد ب- : «اغسله بالماء». و{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(4) المطلق يحمل على «طف متطهراً» المقيّد(5)، و مئات الأمثلة على ذلك في مختلف أبواب الفقه، فالمثبتان يحمل المطلق
ص: 131
--------------------------
منهما على المقيّد إلّا بوجود قرينة خارجية تدلّ على تعدد المطلوب(1).
ص: 132
ص: 133
وقد التزم بالتقييد الفقيه الهمداني والحكيم والسبزواري والقمي(1).
أمّا الروايات المقيّدة فمنها موثقة عمار: «يغسل ثلاث مرات يصب فيه الماء»(2) وصحيحة محمد بن مسلم: «فإن غسلته في ماء جار فمَّرة واحدة»(3) وصحيحة الفضل: «اغسله بالتراب أوّل مرة ثم بالماء»(4)
الى غيرها من الروايات الكثيرة التي ورد فيها الغسل بالماء.
ولكن يرد عليه إيرادان:
أولاً : ما ذكره في الفقه: «من أنّ القيد وارد مورد الغالب»(5).
ص: 134
--------------------------
وفيه: أنّه خلاف الظاهر، فإنّ الأصل في القيود أن تكون إحترازية - كما تحرّر في محله - وإلّا لاحتاج إلى دليل، كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}(1) فالدليل الخارجي جعل القيد وارداً مورد الغالب، وإلّا لذهبنا إلى احترازيته كما هو الأمر في القيد الثاني: {منْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}(2) فلو لم يدخل بها تكون الرَّبيبة محلَّلة، والأمر كذلك في قول المولى: «إغسله بالماء». قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «فيدل على صحته(3) العرف العادي، فإنّ العرف لايزالون يقولون «اغسل بالماء»، مع أنّ المقطوع أنّهم لايرون خصوصية للماء، إنّما هو لكون المنظِّف القريب التناول هو الماء، حتى أنّه لو فُرِضَ شيء ينظِّف مثل الماء - كبعض المائعات في هذه الأزمنة الأخيرة - لم يروا مستعمله مخالفاً لقول القائل: اغسله بالماء»(4).
أقول: لابحث لو علمنا عدم الفرق، ولكن نحن وظاهر الجملة المقيّدة في «اغسله بالماء»، فإنّ الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه(5)، وليس هذا من
ص: 135
--------------------------
أخذ المفهوم كما هو واضح، فمطلوب المولى هو الغسل بالماء فحسب.
وثانياً: إنّ التقييد بالماء إنّما ورد في ثلاثة موارد فحسب، ولا دليل على تعديته لغيرها، و هي البول أوّلاً: فقد وردت فيه روايات مطلقة كصحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: «سألته عن البول يصب الثوب؟ فقال (عليه السلام) : اغسله مرتين»(1) وَ روايات مقيّدة كحسنة أبي اسحاق النحوي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن البول يصب الجسد؟ قال: صُب عليه الماء مرتين»(2) فيحمل المطلق فيه على المقيّد.
و إناء الولوغ ثانياً، و مطلق الأواني ثالثاً، حيث ورد التقييد فيه بالماء. و لا تقييد في باقي الموارد(3) مثل: «ملاقي ماء ماتت فيه الفأرة» كما في موثقة عمّار: «و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»(4) فإنّها مطلقة ولا توجد رواية مقيّدة.
ولكن يجاب عنه أوّلاً: بما في التنقيح من عدم القول بالفصل، قال: «لأن من قال باعتبار الغسل بالماء في الموارد المتقدمة قال به في جميع الموارد»(5)
ص: 136
--------------------------
وفيه: عدم حجيّة القول بالفصل(1).
و ثانياً: بإلغاء الخصوصية، فإنّ العرف لايراه خاصاً بالبول بل يعم جميع الموارد؛ لمناسبة الحكم والموضوع.
التقرير الثاني(2): ما ذكره في المباني من أنَّ المطلقات مقيّدة بارتكاز المتشرعة. قال: «إنّ المركوز في الأذهان من الباب إلى المحراب أنّ الغسل الشرعي يتوقّف على الغَسل بالماء، ولو كان الغَسل بغيره أمراً شرعياً لذاعَ وشاع ولم يكن باقياً تحت الستار بحيث لا يكون به قائلاً إلّا العلمان»(3) وهو حسن، فإنّ الارتكاز يقيّد الإطلاق(4) إن لم يواجه بدليل أقوى منه كما في روايات البئر المعلّلة: «بأنّ له مادة».
ص: 137
--------------------------
الدليل الثالث(1): تنقيح المناط، فإنّ الغرض من الغسل والتَّطهير بالماء المطلق إزالة النجاسة، فإذا أُزيلت النجاسة بالماء المضاف تحقّق المناط والغرض.
ويجاب عنه بعدة أجوبة:
الأوّل: إنّ مقتضى هذا الدليل عدم الإحتياج إلى الماء المضاف، بل تكفي إزالة النجاسة ولو بالحك، فيؤول إلى ما ذكره المحدث الكاشاني.
الثاني: المناط إمّا منصوص أو مستنبط، ولا وجود للأوّل فيما نحن فيه، والثاني ظني غير حجة(2).
ص: 138
--------------------------
الثالث: ما في المباني من أنّ تنقيح المناط لايجدي؛ لأنّ الطهارة والنجاسة أمران اعتباريان فقد يتحقّق المناط ولايتحقّق هذا الاعتبار، قال ما نصه: «إذ الطهارة والنجاسة أمران اعتباريان لايتحقّقان بدون اعتبار الشارع، ومع تنقيح المناط - لو لم يعتبر الشارع الطهارة - لا يمكن ترتيب آثارها(1)». فوجود المناط لايلازم وجود الاعتبار الشرعي.
ويمكن توضيح المدّعى المهم ببيان مقدمتين:
الأولى: لامانع في الطلب التكويني مع وجود الملاك في الجامع بين فردين من تعلّقه بأحدهما دون الآخركما في رغيفي الطالب وطريقي الهارب، فإنّ الغرض يتحقق في الجامع ولافرق بينهما إطلاقاً.
الثانية: في الطلب التشريعي مع تحقق الملاك في الجامع يمكن للمولى أن يأمر بالجامع، ويمكن أن يأمر بأحدهما معيناً أو بالآخر كذلك؛ وذلك لتحقق الغرض في جميع الصور، ولا اشكال في الترجيح بلا مرجح في الطلب التكويني والتشريعي.
ثم إنّ كان الملاك - فيما نحن فيه - إزالةَ الأقذار، فهو يتحقق ضمن فردين: الماء المطلق والماء المضاف، ويمكن للمولى أن يأمر بإزالته بالماء
ص: 139
--------------------------
المطلق، ويمكن أن يأمر بإزالته بالماءِ المضاف أو الجامع بين الفردين وهو مطلق المائع، والثابت أنّ المولى أمر بإزالته بالماء المطلق.
فإن قلت: المناط موجود في المضاف أيضاً.
قلت: وجود المناط لايستلزم وجود الاعتبار من المولى.
و لكن يرد عليه أمران:
الأوّل: استحالة الترجيح بلا مرجح -على بعض المباني- سواء في الطلب التكويني أو الطلب التشريعي؛ لأنّه يؤول إلى الترجُّح بلا مرجّح وهو مساوق لوجود المعلول بدون وجود علته، فإنّ تعلّق الإرادة بأحد المتماثلين دون الآخربلا مرجّح محال(1)، وبما أنّ توجه الإرادة إلى الرَّغيف ممكن - وليس بواجب ولاممتنع - فهو محتاج إلى علة.
الثاني: عدم أمر المولى بالعدل أو الجامع عند الإضطرار يستلزم نقض غرضه وهو قبيح أو محال، والغرض يتحقق بالتطهير بالمضاف لو فُقِدَ المطلق ولايرتضيه المباني.
ص: 140
--------------------------
الدليل الرابع: ما احتج به السيد المرتضى من قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(1) ولم يُقَيَّد بالماء، فيصح التطهير بماء الورد مثلاً. وقال في الفقه: «و لو استدل بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}(2) لكان أولى»(3).
و أُشكل عليه باشكالات:
الاشكال الأوّل : ما جعله أجود الأجوبة في الفقه(4)، و ذكره في المباني(5) من: أنّ التطهير فُسِّرَ بالتَّشمير وهو عبارة عن التَّطهير الدفعي، والكلام في المقام في التطهير الرفعي. قال في الفقه: «ليس المراد بالتَّطهير إزالة القذارة، وإنما المراد بها التشمير. وبعبارة اُخرى: ليس المراد التَّطهير الرفعي، وإنما المراد التَّطيهر الدفعي وذلك بتشمير الثياب».
ومنه يظهر دفع الاشكال في آية التطهير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا}(6) فقد قيل: إنّها تدلّ على وجود الرجس فيهم - والعياذ باللّه - فأراد اللّه اذهابه، فإنّ الإذهاب والتطهير دفعي لا
ص: 141
--------------------------
رفعي(1).
و ممّا يدلّ على أنّ المراد بالتطهير التشمير روايات متعددة:
منها: ما عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبداللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) - في قول اللّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(2) قال فشمِّر»(3) وهي صحيحة على المختار، وعليه فالآية لاترتبط بما ادّعاه السيد المرتضى (رحمه اللّه) .
ولكن فيه: إمكان ادّعاء كونه من باب التفسير بالمصداق لا من باب الحصر، ومن راجع الروايات الواردة في تفسير الآيات الكريمة يجد مئات الموارد من التفسير بالمصداق، ولايمكن الالتزام بأنّها تفسير مطابقي(4) ومن
ص: 142
--------------------------
التفسير بالمصداق القول بأنّ الأخلاق الحسنة هي الصدق والامانة.
نعم في التقريب: أنّه روي تفسير {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}(1) بالتطهير بالإزالة، قال مالفظه: «{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فإنّ المسلم يجب عليه تطهير قلبه عن أدران الشرك بتكبير اللّه وحده وتطهير ثيابه عن الأوساخ بتقصير ذيله حتى لايتسِّخ، وتنظيفه من النجاسات. وقد روي(2) في معنى الآية التطهير من النجاسة والتطهير بالتقصير(3)؛ وذلك لأنّ المراد هو الأعمّ منهما»(4) فقد أخذ السيد الوالد (رحمه اللّه) (فطهِّر) بالمعنى الأعم.
الاشكال الثاني: إنَّ معنى التطهير في الآية - لو سلم كونه رفعيَّاً - هو: إزالة الأوساخ والقذارات العرفيه؛ وذلك هو المناسب لمقام النبوة، فإن الأنبياء
ص: 143
--------------------------
يجب أن يبتعدوا عن المنفِّرات(1)؛ لكي لايستلزم نقض الغرض، فالمعنى: طهِّر ثيابك من القذارات العرفية، ويؤيده بأنّ أحكام النجاسات ربّما لم تكن ثابتة عند نزول هذه الآية؛ لكونها في السور المكية، وهذا خروج عن المقصود، فإنّ الكلام في الطهارة الاعتبارية لا التكوينية.
وفيه: أنّ حذف المتعلق يفيد العموم، فَيَعُمُّ القذارات الشرعيَّة والعرفيَّة.
وتوهم(2): عدم وجود موضوع للنجاسات الشرعية وقت نزول الآية حيث لم تُشَرَّع بعد. مدفوع: فإنّ القضايا الحقيقية لايشرط ثبوت موضوعها بالفعل، بل تعمّ الموضوعات المتحققة والمقدرة، وقد ثبت - في محله - أنّ القضايا الشرعية مسوقة على نحو القضايا الحقيقية إلّا فيما شذّ وندر كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جهّزوا جيش أُسامة»(3).
وعليه فقول المولى: «من أنار»(4) يشمل الإنارة بالمصباح الكهربائي -
ص: 144
--------------------------
أيضاً - وإن لم يكن موجوداً وقت الأمر(1).
الاشكال الثالث: ما في المستمسك(2): سلّمنا شمول التطّهير لإزالة القذارات الشَّرعية إلّا أنّ مفهومه مجمل.
وقد يوضَّح ذلك: بأنّا سلّمنا أنَّ المتعلق عام ولكن التطهيرَ حقيقةٌ شرعيةٌ وماهية مخترعة، ولا نعلم ماهيّة هذه الماهية المخترعة فيقتصر فيها على القدر المتيقن. وبعبارة اُخرى: المراد بالتَّطهير وان كان التطهير الشرعي، ولكن لايعلم ما هو التطهير الشرعي.
والجواب عليه: أنّ جميع الألفاظ تُحمل على الحقايق العرفية، إلّا إذا ثبت نقل الشارع للفظة من معناها العرفي إلى معنى جديد، والتطهير العرفي صادق في بعض أنواع الماء المضاف، وحاصله: أنّ جميع الماهيات تحمل على أنّها هي الماهيات العرفية.
الاشكال الرابع: سلّمنا أنّ التطهير هو التطهير العرفي، ولكن الآية الكريمة لا إطلاق لها لتشمل الماء المضاف؛ لعدم كونها في مقام البيان.
والجواب عليه: أنَّ الأصل كون المولى في مقام البيان، وإلّا لزم إلغاء
ص: 145
--------------------------
جميع الآيات القرآنية في الموارد المشكوكة، فقد قيل بحلية الربا التجاري؛ لعدم إطلاق: «حَرَّم الربا»(1) وعدم إمكان الاستدلال ب- : «أحلّ اللّه البيع»(2) على البيوع المشكوكة، وهو كما ترى(3).
ص: 146
--------------------------
الاشكال الخامس: إن لازم ما ذكره المفيد والمرتضى كفاية إزالة عين النجاسة ولو بالحك، كما عليه الكاشاني، ولم يلتزما به.
الاشكال السادس: سلّمنا الإطلاق لكن الآية المباركة مقيّدة بما سبق.
الدليل الخامس: الروايات الدالة على ماذهب إليه العلمان:
الأولى: مرسلة المفيد، فقد ادّعى في مسائل الخلاف: أنَّ مطهّرية الماء المضاف مروي عن الأئمة (عليهم السلام) . ونقلها صاحب الحدائق(1).
وفيه: عدم اعتبار المراسيل.
الثانية: مرسلة الكليني، قال: روي أنّه «لا يغسل بالريق شيء إلّا الدَم»(2) فالريق يطهِّر الدَّم.
ويرد عليها: إرسالها أولاً، وأنها أخص من المدّعى ثانياً.
الثالثة: ما رواه علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن حكم بن حكيم الصيرفي، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) : أبول فلا
ص: 147
--------------------------
أصيب الماء وقد أصاب يدي شيء من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال (عليه السلام) : لابأس به»(1).
و قد أورد عليها بإيرادات:
الأوّل: قصور السند بحكم بن الحكيم كما ذكره في المهذَّب(2)، وأشار إليه في المباني قال: «فإنها بعد تمامية سندها..»(3).
ولكن لم يظهر الاشكال في حكم بن الحكيم، فقد قال النجاشي: «حكم بن الحكيم أبو خلاد الصيرفي، ثقة(4)». ولم أجد معارضاً لهذا التوثيق، ولم يضعفه الشيخ بل قال: «الحكم بن الحكيم له كتاب»(5) وقد اعتبره البرقيُّ من أصحاب الإمام الصادق، وقد قيل: بأن أصحاب الصادق (عليه السلام) ثقات إلّا من خرج(6).
ص: 148
--------------------------
الثاني: ما ذكره جمع من كونها مهجورة عند الأصحاب والإعراض مسقط، فإنّ البول لايطهره إلّا الماء حتى عند المفيد والمرتضى، بل الكاشاني أيضاً؛ وذلك لورود النص في خصوص البول(1)، فاحتمال كون المسح على الحائط مطهّراً، أو العرق كذلك بشرط الجريان أو عدمه، باطل.
الثالث: وجود احتمالين في الرواية:
الأوّل: - ما سبق من - مطهّرية المسح بالجدار أو الغَسل بالعرق.
والثاني: منشأه عدم مُنجِّسيَة المتنجّس هو منشأ حكمه (عليه السلام) : «لا بأس به» كما أفتى به مجموعة، ومع طروّ الاحتمال يبطل الاستدلال.
ولا يخفى أنَّ المتيقّن عود «لا بأس» إلى الجزء الأخير من السؤال - وهو مصب سؤاله - أي: «فأمسح وجهي». وليس مقصوده (عليه السلام) من «لابأس» المسح بالحائط أو التراب كما هو مذكور في الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة(2).
ص: 149
--------------------------
الرابع: إنّ جواب الإمام (عليه السلام) على طبق القاعدة؛ وذلك لوجود احتمالات متعدّده تسبب جريان أصالة الطهارة أو استصحابها أو كلاهما معاً، فأوّلاً: يشك في ملاقاة النجاسة للوجه.
وثانياً: مع فرض التلاقي يشك في ملاقاة العرق للبول، حيث تشترط الرطوبة في السراية، ولعلّ كلّ اليد لم تعرق.
وثالثاً: يشك في السراية، قال في مصباح الفقيه: «فسؤاله إنّما هو عن الممسوح بعد ما تعرّق يده، والجواب حينئذٍ على طبق القاعدة إذ لا يقطع الإنسان غالباً بمباشرة الجزء حال كونه مشتملاً على رطوبة مسرية»(1).
وقال في المهذب: «إنّه موافق للقاعدة؛ لأنّ مسح اليد التي تكون بعض مواضعها نجسة مع الرطوبة لايستلزم حصول العلم بالسراية لاستصحاب طهارته(2)».
ص: 150
--------------------------
وفيه: إطلاق الرواية وترك الإستفصال، فتشمل الصورة الرابعة وهي: سراية الرطوبة إلى الوجه.
الخامس: إنّها محمولة على التقية؛ لمطابقتها لفتوى العامَّة بعد معارضة ما دلّ على لزوم الماء في التطهير من البول.
أو يقال: مع التعارض يؤخذ بالمشهور منهما.
إلّا أن يقال: إنّه تخصيص لتلك الأدلة، ومع وجود الجمع العرفي لاتصل النوبة إلى الحمل على التقية.
نعم قد يقال: بأنّ الرواية تحمل على التقية حتى مع إمكان الجمع العرفي، وذلك لشدة ظهوها في التقيه كما ذكروه في باب الغروب والمغرب، فمع وجود الجمع الدلالي بينهما بالأفضلية في المغرب إلّا أنّ روايات الغروب تحمل على التقية؛ لقوّة ظهورها فيها.
الرابعة(1):
ما رواه غياث بن إبراهيم عن علي (عليه السلام) قال: «لابأس أن يغسل الدم بالبُصاق»(2)
ولعلّها هي ما أشار إليها الكليني في مرسلته التي تقدمتها عن الباقر (عليه السلام) : «لا يغسل بالريق شيء غير الدم»(3). دلّت على مطهّرية
ص: 151
--------------------------
البصاق في الجملة، وبضميمة عدم فهم الخصوصية نعدّيه إلى سائر المياه المضافة، وإلى سائر النجاسات.
فهنا تعميمان. الأوّل: من حيث المغسول، والثاني: من حيث المغسول به، و إلّا دلّت على المدّعى في الجملة.
و يرد عليها اشكالات:
الأوّل: ما في التنقيح من ضعف السند، قال: «فهي ضعيفة السند بغياث بن إبراهيم إذ لا يعمل على ما تفرّد به من رواياته»(1) فقد رواها: محمد بن الحسن باسناده عن سعد بن عبداللّه الأشعري القمي، عن موسى بن الحسن بن عامر، عن معاوية بن حكيم، عن عبداللّه بن المغيرة، عن غياث بن إبراهيم، عن إبي عبداللّه، عن أبيه، عن على (عليهم السلام) . وإسناد الشيخ إلى سعد إسناد صحيح والرواة كلّهم ثقات، إلّا غياث بن إبراهيم فيما تفرّد به.
ولكن فيه نظر، فقد وثقه المعجم(2)، قال في المفيد: «غياث بن إبراهيم: ثقة من أصحاب الإمام الصادق(3)». وقد وثقه النجاشي في رجاله قال: «غياث بن إبراهيم ثقة روى عن أبي عبداللّه وأبي الحسن (عليهم السلام) »(4) فالرواية
ص: 152
--------------------------
معتبرة السند. ولعلّ تضعيف التنقيح تابع لتضعيف المحقق في المعتبر على ما نقله صاحب الحدائق(1).
لايقال: بأنّ توثيق النجاشي معارض بتضعيف المحقق.
إذ يجاب عنه أولاً بما في المباني(2): من أنّ المحقق من المتأخرين فلا أثر لتوثيقه ولا تضعيفه.
إلّا أنّ المبنى محل مناقشة وتنقيحه موكول إلى محله. وإن كان الأقرب عدم الفرق بين المتقدمين والمتأخرين الذين نحتمل أنّه كانت في أيديهم ما لا يوجد في أيدينا(3).
ص: 153
--------------------------
ثانياً: سلّمنا التعارض، إلّا أنّ الترجيح من الناحية العقلائية مع توثيق النجاشي فإنّه أقوى الرجاليين على المعروف، والمحقق فقيه، فيقدم قول الأكثر خبرة في مجاله(1).
ص: 154
--------------------------
ثالثاً: إنَّ المتأمل في عبارة المحقق يجد أنّ المحقق في مقام رَدِّ الرواية لا الراوي، فإنّ عبارته كما في الحدايق: «وأمّا خبر غياث فمتروك؛ لأنّ غياثاً بُتريٌّ ضعيف الرواية ولا يعمل على ما ينفرد به». فلعلّ ضعفه لإشتراط الإيمان في الرواية لا لكونه كذاباً كما عليه بعض المباني، فلعلّ قوله: «ضعيف الرواية» شرح البتري، وإلّا لم يكن هنالك داعٍ لذكر البتري في المقام، فيحتمل مدخلية البتري في ضعف الرواية عند المحقق فتكون عبارته مجملة، ومع الإجمال لايمكن القول: بأنّ المحقق ضَعَّف غياثاً(1) فلا
ص: 155
--------------------------
يبقى في المقام إلّا توثيق النجاشي، فالرواية موثقة.
الثاني: الرواية أخص من المدّعى والمساوات غير واضحة فلا يصار إلى تساوي البول والدم مثلاً، خصوصاً مع اشدِّية بعض أحكام البول عليه(1).
ص: 156
--------------------------
الثالث: ما ذكره في المهذّب قال: «يمكن أن يراد من الغَسل إزالة العين بالبصاق ثم التطهير بالماء كما هو عادة بعض العوام حتى في هذه الأيام»(1) وقد سبقه المحقق على ما حكاه في الحدائق قال ما نصَّه: « ولو صحت - أي الرواية - نُزِّلت على جواز الإستعانة في غسله بالبصاق لا ليطهر المحل به منفرداً، فإنّ جواز غسله به لايقتضي طهارة المحل ولم يتضمن الخبر ذلك، والبحث ليس إلّا فيه»(2).
ولكن التقريب غير عرفي؛ وذلك لوجود الملازمة العرفية بين نفي البأس بغسله وبين الطهارة، وذلك كما لو سُئل فقيه عن جواز الغسل بماء الورد، فأجاب بالجواز ثم قال: «أنا لم أقل بأنّه طاهر». فإنّه من البعيد وجود احتمال الحرمة الذاتية ليستفسر عنها فيجيب الإمام بالجواز، بل الشبهة الموجودة في الأذهان المتعارفة أنّه يطهر أو لا يطهر، وقول الإمام «لابأس» معناه الطهارة(3).
ص: 157
--------------------------
الرابع: ما ذكره بعض: «إنّها ظاهرة في إزالة دم جوف الفَم والذي يطهر بمجرد الإزالة، بل لايكون نجساً إلّا بعد خروجه من الفم»(1).
ولكن مراده غير واضح، فإن أراد بالغسل الاستهلاك، ففيه: أنّ من المعلوم أنّه غيره. وإن أراد تطهيرَ الباطن، ففيه: أنّه طاهر ولاينجس، وعلى فرض نجاسته يطهر بزوال الدَم لا بغسله بالبُصاق، كظاهر الحيوان. فما ادّعى كونه ظاهراً خلاف ظاهر الرواية.
الخامس: الإعراض وكونها مهجورة، قال في مصباح الفقيه: «وقد أعرض الأصحاب عنه فيجب طرحه أو تأويله»(2) وفي المهذب(3) والمستمسك(4) أنّها مهجورة فترد علمها إلى أهلها(5).
نعم تأمل في الفقه في كلام المصباح بقوله: «و فيه تأمل لايخفى». وظاهره أنّه لا يعبئ بإعراضهم.
فتحصّل من مجموع ما ذكرنا أنّ العمدة هو الاشكال الأخير. مضافاً الى كون الرواية أخص من المدّعى. فالأدلّة الخمسة للمفيد والمرتضى
ص: 158
--------------------------
لاتنهض لإثبات القول الثاني.
القول الثالث: ما حكي عن ابن أبي عقيل من التفصيل بين الإختيار والإضطرار، وقد ألزم المطلق في الأوّل وأجاز المضاف في الآخر.
ثم إنَّ في حكاية قوله نقلان:
الأوّل: ما نقله السيد الوالد (رحمه اللّه) : «إنَّ تفصيل ابن أبي عقيل إنّما هو في إزالة الخبث»(1).
الثاني: ما نقله في المهذّب: «إنَّ تفصيله أعمّ من الخبث والحدث»(2).
وكيف كان، فقد يستدل له بأدلّة ثلاثة:
الأوّل: رواية عبداللّه بن المغيرة: «إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) توضأ بنبيذٍ ولم يقدر على الماء»(3) فلو رفع النبيذ الحدث لرفع الخبث بطريق أولى، للتشديد في رفع الحدث، ولا أقل من المساواة وعدم الفرق في الفهم العرفي.
ويرد عليه ما تقدم.
الثاني: الأصل. فإنّه يقتضي برائة الذمة عن اشتراط الإطلاق في حال الإضطرار، بضميمة أنّ المنصرف من الغَسل الوارد في الأخبار هو حال
ص: 159
--------------------------
الإختيار وأنّ الروايات الأمرة بالغَسل بالماءِ الواردة في باب الخبث إنّما توجَّهُ: للواجد للماء عقلاً؛ وذلك لأنّ القدرة العقلية شرط من الشرائط العامة للتكليف، ولايعقل أن يخاطب المولى الفاقد للماء بقوله (اغسل)، أو لا أقل من انصرافه عن الفاقد للماء.
والحاصل: «إغسل بالماء المطلق» لايشمل الفاقد للماء، وإنما يشمل حالة الإختيار إمّا للتقييد العقلي أو للانصراف العرفي، ف- «رفع ما لايعلمون» يرفع الشَّرطيَّة المشكوكة لو شك في اشتراط الإطلاق في حالة الإضطرار في المائع الذي يغسل به. والمحصّل: أن الشك الحاصل في كون المضاف مطهّراً مسبّب عن الشك في شرطيَّة الإطلاق للمضطر.
ويرد عليه أوّلاً: ورود أو حكومة الأدلّة الاجتهادية الدالة على اشتراط الإطلاق(1) - كما سيأتي في القول الخامس - على البرائة، والأصل أصيل حيث لادليل.
وثانياً: أنّ مفاد البرائة الرفع لا الوضع، فهي ترفع الشرطية ولاتثبت مطهّرية المضاف.
إلّا أن يقال: بأنّ وضع المطهّرية لأدلّة اغسل لا البرائة، فترتفع شرطية الإطلاق بعد أمر المولى بالغسل مع الشك فيها(2).
ص: 160
--------------------------
وبعبارة اُخرى: نَضُمُ الدليل الاجتهادي إلى الأصل العملي، وذلك كما لو أمر المولى بالصلاة وشك في كون القنوت جزءً منه، فإنّ البرائة ترفعه ولاتثبت وجوب الباقي بل وجوب الباقي ثابت بأمر المولى بالصلاة.
فتحصّل من ذلك: تمامية الدليل الثاني لو وصل الأمر إلى الشك لعدم مانع من التمسّك به.
الثالث: قاعدة الميسور.
وقد أشكل في الفقه عليها أوّلاً بقوله: «لا يعلم أنّ المضاف ميسور المطلق»(1)
بل هما حقيقتان متباينتان.
وأجاب عنه قائلاً: «لكن من المعلوم أنّ الإزالة بالمضاف ميسور الإزالة بالماء». فإنَّ الالتزام بكونهما حقيقتين متباينتين لا ينافي كون مفهوم الإزالة والغسل ذا مراتب: فالمرتبة الكاملة هي الإزالة بالماء المطلق، ودونها الإزالة بالماء المضاف، وهو ما نطلق عليها بالميسور.
ومثاله العرفي: يؤمَرُ عاملُ التنظيف بالغسل بالماء المطلق فإن انقطع الماء في أثناء غسله وكان له أمر سابق بعدم سقوط الميسور أكمل الغَسل بالديتول لكونه ميسور الماء وإن اختلف معه في الحقيقة(2).
ص: 161
--------------------------
وثانياً: «النجاسة من الاُمور التي لايمكن فيها الوضع والرفع؛ لأنّها من الأحكام الوضعية، وقاعدة الميسور إنّما ترفع ما يمكن فيه الرَّفع»(1)
وذلك كزوجية الأربعة لاتقبل وضعاً ولا رفعاً.
وأجاب عنه: بأنّ الاُمور الوضعية على نوعين: فتارة تكون حكماً شرعياً، واُخرى منتزعة من حكم شرعي، فالأوّل يوضع ويرفع بذاته، والثاني يوضع ويرفع بوضع ورفع منشأه. والظاهر أنَّ النجاسة والطهارة من الأوّل فللمولى أن يقول: إني وضعت الطهارة أو رفعتها. والشرطية والجزئية والمانعيَّةُ والقاطعيَّة من الثاني، وكذلك الأمر في زوجيَّة الأربعة، فرفعها لا يكون إلّا برفع منشأها وهوالأربعة(2).
نعم الأدلّة الآتية في القول الخامس لا تَدَعُ مجالاً للميسور(3).
ص: 162
ص: 163
--------------------------
القول الرابع: ما ذكره ابن الجنيد من التفصيل بين البصاق فيُزيل الدم فقط وبين غيره فلايزيل شيئاً، وقد تقدم دليله وجوابه.
القول الخامس: ما عليه المشهور: «إنّ الماء المضاف لايزيل خبثاً لا في حالة الإختيار ولا في حالة الإضطرار». وقد استدل له بأدلّة عديدة:
الدليل الأوّل : الإجماع. ذكره في الجواهر وادعاه في المهذّب (1).
وقد أجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) : بأنّ الإجماع غير موجود لمخالفة هؤلاء الأعلام، مع أنّه لو فرض عدم المخالف لم يكن حجة أيضاً(2).
ولكن فيما ذكره تأمل: أمّا بحسب الصغرى فلوجود الإجماع الملاكي في المقام على ما مضى بيانه، فإنّ ملاك حجية الإجماع هو الكشف عن قول المعصوم (عليه السلام) أو عن دليل معتبر، ومخالفة جماعة لايضرّ به.
ص: 164
--------------------------
وأمّا بحسب الكبرى فلما قرّر في الاُصول من حجيته لقيام الأدلّة عليه.
وأمّا المناقشة بأنّ الإجماع مدركي أو محتمل المدركية. ففيه: إنها وإن كانت تامة على بعض المباني، إلّا أنّ المختار حجية محتمل المدركية، كما قررناه في الاُصول(1).
الدليل الثاني: الاستصحاب. استدل به الشيخ الأعظم(2) قال: «لاستصحاب حكم النجاسة المتَفق عليه بين الكل حتى الأخباريين، بل عَدَّ مثله المحدث الاسترآبادي من ضروريات الدين». حيث لاشك في نجاسة المحل سابقاً ويشك في إرتفاعها بالماء المضاف فيتسصحب.
وتماميته مبنيّة على التسليم بثلاثة اُمور:
الأوّل: ثبوت السراية من النجاسة إلى الملاقي، وأمّا على مبنى الكاشاني فلا حالة سابقة متيقّنة حتى نستصحِبها.
الثاني: فقدان دليل اجتهادي حاكم أو وارد. وأمّا على رأي السيد المرتضى من إطلاق «إغسل» فلا يبقى مجال للأصل العملي.
الثالث: جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، خلافاً للنراقي وبعض المتأخرين من عدم جريانه فيها(3).
ص: 165
--------------------------
نعم الظاهر عدم تمامية الدليل - وإن سلّمنا بتلك المقدمات -؛ لحكومة أصالة عدم اشتراط الإطلاق(1) في الغَسل على الاستصحاب، فإنّ الشك في بقاء النجاسة مسبّب عن الشك في شرطية الإطلاق، والأصل عدمها.
ولكن فيه: أنّ جريان هذا الأصل موقوف على وضوح مفهوم الغَسل وعدم إجماله(2)، وإلّا فمع الإجمال يكون جريانه مثبتاً حيث لا يُعلم أنَّ
ص: 166
--------------------------
الغسل بالماء المضاف غَسل أو لا، والتمسّك بأصالة عدم الإشتراط لا يثبت أنّه غَسل ليكون مطهّراً إلّا على الأصل المثبت(1).
توضيحه: ذكر بعض الفقهاء بأنّ الإطلاق مقوِّم لمفهوم الغَسل، ومفهوم الغَسل لايصدق بالغَسل بالماء المضاف، ومع الشك لايمكن إجراء أصالة عدم اشتراط الإطلاق؛ لإثبات أنَّ هذا غسل حتى يرتَّب عليه أثره الشرعي وهو الطهارة، فإنّه مثبت [حيث يقال: إن لم يكن الإطلاق شرطاً فقد تحقق الموضوع العرفي - بالغسل بالمضاف - فيترتب عليه أثره - الطهارة -]
ولكن إن لم نَحتمل أنّ الإطلاق مقوِّم للماهية العرفية - وهي مفهوم الغَسل - فيقال: هل أضاف الشارع شرطاً شرعياً وهو الإطلاق؟ نقول بعدمه، ف- «اغسل» متحقق قطعاً والشرط الشرعي منتف، فإنَّ الأصل البرائة وعدم الشرطية، كالبيع المُنشأ خارجاً إن شك في اشتراط العربية كان الأصل عدم اشتراطها، و يكون من ضمٍ للوجدان إلى الأصل، فيقال: هذا بيع عرفاً، والأصل عدم اشتراط الشارع ما لم يشترطه العرف من العربية فيترتّب عليه الأثر. وكذلك إن كان الغَسل بماء الورد غسلاً عرفاً، يقال: هذا غَسل عرفاً، و الأصل عدم اشتراط الإطلاق عند الشرع.
وبعبارة اُخرى: الشروط على قسمين:
ص: 167
--------------------------
الأوّل: ما هي دخيلة في الماهية ومقوِّمة لها عرفاً، و تصبح شروطاً شرعية بإمضائه.
الثاني: ما ليست دخيلة في الماهيِّة و غير مقوّمة، و تسمّى بالشروط الشرعية.
أمّا لو شُك في شرعيّة شرط لكان التمسك بعدمه لإثبات الماهية العرفية لازماً عقلياً، فتكون القضية على نحو القضية الشرطية الآتية: لو كان شرطاً مقوماً عرفاً لكان شرطاً شرعاً ولو إمضاءً، لكنّه ليس بشرط شرعاً بدليل الرفع، فليس بمقوّم عرفاً ولو في مرحلة الظاهر. إلّا أنّ الاشكال في الملازمة أنّها عقلية، فيكون الأصل مثبتاً.
وبالجملة: مع إجمال مفهوم الغَسل لايمكن رفع شرطيَّة الإطلاق لتثبيت الماهية - أي اغسل - بأصالة عدم الاشتراط الشرعي ليترتّب عليها أثرها وهو التطهير.
ولكن المختار: أنّ الإطلاق ليس مقوماً للماهيَّة العرفية للغَسل(1) كما
ص: 168
--------------------------
مضت الإشارة إليه فالاشكال تام والاستصحاب محكوم بالبرائة.
والمتحصّل من ذلك كلّه: أنّ البرائة - على كلا المبنيين - حاكمة أو واردة على الاستصحاب الذي التزم به الشيخ في مقام الشك، ولكن حكومتها متوقّفة على أن لا يكون الشرط من الشروط المحتملة المقوِّمية، وبما أنّا نرى عدم المقوِّميّة العرفيَّة فتجري البرائة قبل الاستصحاب، نعم مع إجمال المفهوم لايمكن إجراء البرائة لكونه مثبتاً، فإنّ أصالة عدم الشرطية لاتثبت تحقق الماهية العرفية ليترتّب عليها أثرها.
الدليل الثالث(1):
الأخبار الأمرة بالغسل، بضميمة أنَّ المنصرف(2) من الغَسل هو الإزالة بالماء المطلق. وقد مضى البحث فيه.
ص: 169
--------------------------
الدليل الرابع: إنّ مفهوم الغَسل هو الغَسل بالماء المطلق لا أنّه منصرف إليه.
والظاهر أنَّ هذه الدعوى مَحَلُّ نظر؛ لصدق الغَسل عرفاً ولغة(1) بالماء المضاف ولذلك يقال: غسلت يدي بماء الصابون. وما أشبه ذلك من الإستعمالات.
الدليل الخامس: ارتكاز المتشرعة، فإنّهم لايشكون في عدم زوال النجاسة إلّا بالماء المطلق.
وفيه: ما ذكره السيّد الوالد (رحمه اللّه) من كون الدليل في غاية الوهن لكونه دورياً، قال: «لم تثبت حُجيَّة أذهان المتشرعة، فتتوقّف حجية الأذهان على الأدلّة المستفاد منها ذلك - ما في ارتكازهم مِن عدم مطهّرية الماء المضاف - فلو كانت الأذهان من الأدلّة لزم الدور»(2) فأذهانهم ليست دليلاً وحجيتها متوقّفة على أدلّة ثابتة في مرحلة متقدمة عليها، فلو قيل: بأنّ من تلك الأدلّة الارتكاز، لزم الدور.
ص: 170
--------------------------
ولا يخفى أنَّ ما ذكره ليس بالدور الحقيقي بل هو الدور الملاكي لوجود ملاك الدور فيه، فإنّ الدور هو: «توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه». كتوقّف الإبن على الأب وبالعكس، و الدور الملاكي هو: «توقّف الشيء على ذاته». كأن يقال: زيد علّة نفسه. فإنّه يلزم أن يكون في رتبة متقدّمة حتى يكون خالقاً، وفي رتبة متأخرة حتى يكون مخلوقاً، وهو ليس بالدور وإن اشترك معه في الاستحالة.
وأمّا كونه من الدور الملاكي فلتوقّف حجية ذهنية المتشرعة على الأدلّة التي تستند إليها، فلو كانت هي من الأدلّة لكانت في رتبة متقدمة ومتأخرة في آن واحد، فيُجعَلُ ما يتوقّف حجيته على الدليل دليلاً، فيفيض الدليلية ويستفيضها.
ولكن فيه تأمل: لأنّا نعتبر ذهنية المتشرعة كاشفة عن الدليل الشرعي، فلا دور على ما أوضحناه فيما مضى، والأمر في الارتكاز كالأمر في الإجماع والسيرة.
ويؤيده ما في المهذب، قال: «استنكار المتشرعة -من أهل المذهب- ذلك في كلّ عصر، بحيث يعلم إتصال ذلك إلى عصر المعصومين (عليهم السلام) وتلقي ذلك عنهم»(1).
وما في المباني: «المركوز في الأذهان من الباب إلى المحراب، أنَّ
ص: 171
--------------------------
الغَسل الشرعي يتوقّف على الغَسل بالماء، والسيرة جارية عليه، ولو كان الغَسل بغيره أمراً شرعياً لشاع وذاع(1) ولم يكن باقياً تحت الستار بحيث لايكون قائلاً به إلّا العلمان»(2).
والظاهر تمامية الارتكاز للكشف الإني عن البيان الشرعي.
الدليل السادس: ما في الجواهر مِن تلفيق إجماعين لإثبات المدّعى. قال: «الإجماع على نجاسة سائر المائعات بملاقاة النجاسة، ولم يثبت كون الإنفصال قاضياً بطهارة المتبقي، والماء خرج بالإجماع»(3). فلنا إجماعان:
أوّلهما : جميع المائعات تتنجَّسُ بمجرد ملاقاة النجاسة سواء كان مطلقاً قليلاً أو مضافاً.
ثانيهما: الإنفصال وخروج معظم الماء بالعصر مطهّر للباقي من ذرات الماء في الماء المطلق، فيبقى الماء المضاف تحت العام بلا مخصص؛ لعدم الإجماع فيه.
وأشكل عليه في الفقه: بأنّ «التطهير ليس إلّا إزالة عين النجاسة، وطهارة
ص: 172
--------------------------
ونجاسة الماء بالملاقات لا مدخلية له في الإزالة، فإذا أُزيلت النجاسة طهرت، ولذا لانقول بأحد الإجماعين»(1).
ولعلّ مراده: أنّ في الأدلّة «اغسله»، وبدلالة الإقتضاء لابدّ أن يقال بطهارة المتبقّي وإلّا لزم لغوية الأمر ب- «اغسله»(2)، فدليل «اغسله» بنفسه يدلّ على طهارة المتبقّي، فلا حاجة للإجماعين؛ فإن إطلاقات أدلّة الملاقاة تثبت النجاسة، فلا حاجة إلى الإجماع الأوّل ، ودلالة الإقتضاء تثبت بأنّ الإنفصال مطهّر للمُتَبقِّي، فلا حاجة إلى الإجماع الثاني.
وبالجملة فيورد على ما ذكره: بأنّ الإجماع مدركي أو محتمله(3)، وبأنّ الملاك في طهارة المتبقي من الماء المطلق يوجد في الماء المضاف أيضاً.
الدليل السابع: ما في المهذب، قال: «أصالة عدم جعل المطهّرية لغير الماء، ولو كان لظهر و بانَ في مثل هذا الأمر العام البلوى»(4).
والدليل ينحل إلى شِقين: أمّا الأوّل من أصالة عدم جعل المطهّرية لغير الماء. فيرد عليه:
ص: 173
--------------------------
أوّلاً: أنّها أصيلة حيث لا دليل، ومدعي العَمَلان وجود الدليل.
وثانياً: قد يقال بمعارضتها بأصالة عدم شرطية الإطلاق فيتساقطان، فنبقى بلا دليل، وهو اشكال عام يرد في كلّ نفي جزء وشرط.
نعم قد يقال: بأنّ أصل عدم الشرطية مثبِتٌ لمطهّرية الماء المضاف(1).
و أمّا الثاني: ففي قوله: «ولو كان لظهر وبان في مثل هذا الأمر العام البلوى». نظر، و ذلك لأنّ فقدان الماء المطلق مساوق - عادة - لفقدان المضاف المطهِّر المزيل عرفاً - لا كماء الرمان والمرق - ووجود المضاف المزيل أمر نادر - مع فقد المطلق - فلا يشمله: «لو كان لبان».
هذا، ولكن قد يقال بغرابة التطهير بالمضاف، فلو كان لذاع وشاع بين الجميع.
الدليل الثامن: قاعدة الإشتغال بالنسبة للاُمور المشروطة بالطهارة، كما في مصباح الفقيه(2)، فإن كانت طهارة البدن من شرائط الطواف مثلاً وشُك في امتثال التكليف مع تطهيره بالمضاف، استدعى الإشتغال اليقيني البرائة
ص: 174
--------------------------
اليقينية، وقاعدة الإشتغال متقوّمة بالشك في الإمتثال، كما أنَّ البرائة متقومة بالشك في الإشتغال، والقاعدة تامة إلّا أن يقال بوجود دليل حاكم عليها(1).
الدليل التاسع: ما نُقِل عن المحقق في المعتبر(2) وهو قريب ممّا ذهب إليه في الجواهر - في الدليل السادس - و بيانه أنّ لنا قاعدتين:
الأولى: النَجِسَ لا يطهِّرُ لكون فاقد الشيء لايعطيه.
الثانية: انفعال الماء القليل إن لاقى نجساً مضافاً كان أو مطلقاً، و خرج الثاني للإجماع.
والفرق بين ما ذكره المحقق وبين ما مضى من كلام الجواهر: أنّ كلام الثاني في بقاء نجاسة المتبقي بعد العصر، فلا يطهر الثوب، وكلام الأوّل: أنّ الماء المتنجّس لايُطَهِّر، والمضاف بمجرد الملاقاة ينفعل، إلّا أنّه خرج المطلق بالإجماع.
أقول: في المقام أدلّة ثلاثة متعارضة:
الأوّل: قول المولى: «اغسل» و له إطلاق يشمل بالكثير وبالقليل.
الثاني: قوله: «الماء القليل ينفعل» وله إطلاق يشمل المزيل وغير المزيل وارداً أو كان موروداً.
ص: 175
--------------------------
الثالث: قوله: «الماء المتنجّس لايطهِّر». وله إطلاق يشمل المتنجّس بهذه النجاسة التي يريد أن يزيلها أو بنجاسة اُخرى.
ويمكن الإجابة عن دليل المعتبر:
أوّلاً: بأنّ لنا روايات تنص على جواز الغَسل بالماء القليل كقوله (عليه السلام) : «اغسله في المركن - أي بالماء القليل - مرتين، فإن غسلته في ماء جارٍ فمرةً واحدة»(1) فالدليل الأوّل أخص من الدليلين الثاني والثالث فيخصّص أحدهما، فإمّا أن يقال: الماء القليل لاينفعل - مع الشروط - فهذا تخصيص للدليل الثاني - أو يقال: بأنّه ينفعل ويطهر - وهو تخصيص للدليل الثالث - وإلّا لكان الدليل الأوّل - و هو كون الغسل بالقليل مطهراً - لغواً.
نعم لو كان الدليل الأوّل مطلقاً شاملاً للقليل والكثير بإطلاقه لصحّ ما ذُكرَ.
وثانياً: بأنّ الشهبة آتية في الماء المطلق أيضاً، فما يجاب به هناك يجاب به هنا.
والحل: هو الانصراف في كلا الموضعين - بالنسبة إلى الدليل الثالث - فيبقى الدليلان الأوّلان على إطلاقهما. بيان الانصراف: إنّ دليل «الماء المتنجّس لايطهِّر» منصرف إلى النجاسة السابقة ولايشمل - عرفاً - النجاسة المقارنة المأخوذة من نفس المحلّ الذي يُطَهَّرُ به.
ص: 176
--------------------------
وعليه فلا حاجة للإجماع؛ وذلك لحلّ التعارض قبل مرحلة الإجماع بالانصراف. ولو اشكل الانصراف لاقتضت دلالة الإقتضاء تقييده، ولولا ذلك لغى دليل «اغسل».
الدليل العاشر: ما ذكره صاحب الحدائق (رحمه اللّه) واحتمل كونه أقوى دليل في المقام، قال: «إنّ الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان لامدخل للعقل فيهما بوجه كسائر أحكام الشرع، فما علم من الشرع كونه منجّساً يجب قصر الحكم بالنجاسات على ملاقاته، وما علم من الشرع كونه رافعاً للنجاسة وموجباً للتطهير يجب قصر الحكم بالطهارة عليه»(1) والظاهر أنّه يقصد أنّهما أمران توقيفيّان.
ولكن فيه أوّلاً: ما في الفقه، قال: «عدم تسليم كونهما حكمين شرعيين بل هما أمران عرفيان»(2) وكأنّ مراده أنّهما ليستا ماهيتين مخترعتين، بل الطهارة والنجاسة باقيتان على ما لهما من المعنى اللغوي والعُرفي، وقال أيضاً: «تصرف الشارعُ في بعض خصوصياتهما زيادة ونقيصة، وحيث لم يعلم أنَّ الشارع تصرَّف في هذه الجهة، فالأصل بقائها على أصلها العرفي».
فهما كالبيع فإنّها ماهية ممضاة وليست مخترعة، بل جميع الماهيات كذلك إلّا ما خرج بالدليل، وفي الإمضاءيات يمكن للشارع أن يُضيف
ص: 177
--------------------------
شرطاً أو غيره، وما لم تُعلم الإضافة تبقى الماهية على ما كانت عليه عند العرف، فالشروط المشكوكة - كالعربية في البيع - غير معتبرة شرعاً؛ لكونها ليست بشرط عرفاً، لإمضاء الشارع الماهية العرفية، والطهارة والنجاسة من هذا الباب.
وَتوضيح الفرق بين الماهيتين المخترعة والممضاة: أنّ الشارع تارة يضع اللفظ للخصوصيات الجديدة، وتارة يضعها لأصل المعنى ولكنّه يضيف قيوداً:
أما الأوّل : فهو الماهية المخترعة كالصلاة حيث لم يضعها الشارع للدعاء، وإنما للدعاء المشروط بالكيفية الخاصة من الحركات والمقولات الماهوية المختلفة، ولا توصف بالصحّة والبطلان، بل الباطل ليس بصلاة أصلاً.
وأمّا الثاني: فهو الماهية الممضاة كالبيع، حيث إنَّ الشارع قصد ب- : ﴿أَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ﴾(1) معناه العرفي، أي مبادلة مال بمال، ولكنّه أضاف إليه قيداً كالعربية أو الماضوية، وتوصف بالصحّة والبطلان فيقال هذا بيع ولكنّه لاينفع، وهكذا الأمر في التطهير الفاقد للشروط، فإنّه يقال فيه تطهير باطل، ولا ينفي عنه أصل التطهير.
ثانياً: النقض بالشروط المشكوكة في جميع الماهيات المخترعة، ولايلتزم صاحب الحدائق بوجوب الإحتياط في أي شرط مشكوك، كما لو
ص: 178
--------------------------
شك في لزوم التعدد لتطهير الدم، أو كون القنوت من الصلاة وإتيانها معه مبرء للذمة قطعاً، والالتزام بهذا اللازم مشكل، مع أنّه قال: «فما علم من الشرع كونه رافعاً يجب قصر الحكم بالطهارة عليه». ومعناه: أن ما عُلِمَ من الشرع كونه مبرئاً للذمة - كالتعدد مثلاً - يجب قصر الحكم بالإبراءِ عليه، وما لم يعلم فلا.
وثالثاً: الحل بوجود العلم التعبدي في البين - قال: «ما علم من الشرع كونه رافعاً» - فإنَّ العلم تارَة يكون وجدانياً واُخرى تعبدياً، والعلم التعبدي حاصل فيما نحن فيه في مرحلة الأدلّة الاجتهادية وفي مرحلة الاُصول العملية: أمّا الأوّل فلإطلاق أمر المولى في «اغسل»، وأمّا الثاني فلأصالة عدم الاشتراط(1) التي تولّد العلم أيضاً فإنّ المولى عليه أن يبيّن الماهية التي يخترعها، وقد بيّنها بالإطلاق وبأصالة عدم الإشراط، والإطلاق نوع بيان وهو علم تعبدي وإن لم يكن علماً وجدانياً، وكذلك الأصل العملي، فما ذكره صاحب الحدايق لايخلو من تأمل.
الدليل الحادي عشر: مجموعة روايات تنقسم إلى خمسة أقسام:
القسم الأوّل : ما في الوسائل عن محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه، هل تطهّره الشمس من
ص: 179
--------------------------
غير ماء؟ قال (عليه السلام) (1): كيف يطهُرُ من غير ماء؟»(2) وهي بمثابة كبرى كلية دلّت على عدم إمكان تطهير شيء بغير الماء، والماء ظاهر في المطلق فلا يكفي المضاف.
و في الاستدلال بها اشكالات نشير إليها إجمالاً:
الأوّل: ما في الفقه، قال: «إنّ هذه الرواية مضمرة»(3).
وفيه تأمل: فإنَّ الكلمات المذكورة في محمد بن اسماعيل بن بزيع ربّما ترفعه إلى مصاف الذين لايضمِرون إلّا عن المعصوم (عليه السلام) ، كقول النجاشي: «كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، كثيرالعمل»(4) ونقل عن بعض أنّه قال فيه: «ثقة ثقة عين»(5). وذكر رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال عنه: «وددت أن فيكم مثله»(6).
وقال عنه الشيخ: «ثقة صحيح»(7). وقوله (عليه السلام) : «إذا كان ألقيمُ مثلك ومثل عبدالحميد فلابأس»(8).
ص: 180
--------------------------
الثاني: معارضتها بصحيحة زرارة(1) وموثقة عمار(2)، وقد عمل بهما فترجحان عليها.
الثالث: سلّمنا التعارض، ولكن المضمرة موافقة لمعظم العامة القائلين بعدم مطهّرية الشمس.
الرابع: انّ الرواية دالّة على الإحتياج إلى الماء في خصوص المورد ولا تُصَرِّح بوجود ضابطة كلية، فهي كما لو سُئلتم: «ولغ الكلب في إناء فهل يطهر من غير تراب؟». فأجبتم: «كيف يطهر من غير تراب؟». فإنَّ الجواب لايدلّ على ضرورة وجود التراب في كلّ عملية تطهير، وكذلك لو قيل: «طلعت الشمس على الجدار المتنجّس ولكنّه لم يجف؟». فاجبتم: «كيف يطهر بدون تجفيف» فهل يشترط التجفيف في كلّ تطهير، حتى تطهير اليد؟
الخامس: ما ذكره في الوسائل من: «انَّ الإحتياج إلى الماء من باب الإحتياج إلى الرطوبة لا لموضوعية الماء، فيجب ترطيب الأرض الجافة حين تشرق الشمس عليها؛ ليكون الجفاف مستنداً إلى الشمس، فالمقصود بالماء في الرواية هو رطوبة وجه الأرض»(3) ولا بأس به لكي لاتطرح الرواية رأساً كما طرحت في الاشكالين الثاني و الثالث.
ص: 181
--------------------------
القسم الثاني: المعتبرة المروية في الوسائل من أنَّ بعض الاُمم المتقدمة كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض: «وقد وَسَّعَ اللّه عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).
ولكن فيه أوّلاً: أنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه، وقد ثبت بالضرورة الفقهية وجود مطهّرات اُخرى.
وثانياً: ما سيأتي في المناقشة على القسم الرابع.
القسم الثالث: الآيات والروايات الدالة على مطهّرية الماء الواردة في مقام الإمتنان، وكونها كذلك يقتضي عدم مطهّرية غيره.
وفيه: أنّ المولى قد يكون في مقام الإمتنان من كلّ جهة، وقد يكون في مقام الإمتنان في الجملة، والآيات والروايات المشار إليها ليست في مقام الإمتنان من كلّ جهة حتى يكون إغفال شيء دليل على عدم مطهّريته.
القسم الرابع: الإطلاقات الأمرة بغَسل الثوب والإناء والبدن وغيرها بالماء.
هذا، ولكن أشكل عليه السيد الوالد(2) (رحمه اللّه) بما حاصله: أنّه من القياس، فإنّ التقييد بالماء إنّما ورد في موارد خاصة، فحمل غيره عليه قياس، وذكر أنَّ التعدي من القضايا الشخصية الجزئية إلى الكليات على أنواع ثلاثة
ص: 182
--------------------------
وبعضها قياس، وما نحن فيه من هذا القبيل.
والظاهر حسب استقرائنا أنّ التقييد بالماء ورد في ثلاثة موارد: البول وإناء الولوغ ومطلق الأواني، وأمّا في غيرها فلا تقييد بالماء المطلق(1).
إلّا أن يجاب عنه أوّلاً: بعدم القول بالفصل(2).
وثانياً: بإلغاء الخصوصية عرفاً(3).
وثالثاً: بفهم الفقهاءِ، فإنّهم فهموا العموم في المقام، ولفهمهم الجبر والكسر الدلالي حتى وإن كان التقييد وارداً في موارد جزئية وتوقّف العرف في التعدية، ففهم العلماء كاف في التعدية(4). و قد يؤول هذا
ص: 183
--------------------------
الجواب الى الجواب الاوّل.
القسم الخامس: ما في الفقه الرضوي: «كل ماء مضاف أو مضاف إليه فلايجوز التطهر به»(1). إلّا أنّه ضعيف السند(2).
ص: 184
وإن لاقى[1] نجساً تنجَّس وإن كان كثيراً، بل وإن كان مقدار ألف كرٍّ فإنّه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو بمقدار رأس إبرة في أحد أطرافه فينجس كلّه(1)[2].
--------------------------
هذا تمام الكلام في أدلّة المشهور، والأقرب ما ذهبوا اليه.
[1] أي الماء المضاف.
[2] وبناء على ذلك: ينفعل معمل ضخم يحتوي على أُلوف الكيلوات من العصير أو الألبان إن وقعت في جانب منه قطرة دم، ولا طريق إلى تطهيره أبداً إلّا بانعدام موضوعه كما سيأتي. وكذلك ينفعل بئر النفط الذي يحتوي على ملايين البرميلات بأسرع من سرعة الضوء، لو وضع كافر إصبعه فيها.
ولم يعلّق عليه: النائيني والحائري والعراقي والإصفهاني والبروجردي والشيرازي ابن العم، والحكيم والگلپايگاني والمرعشي والخويي والخونساري والسيد حسن القمي رحمهم اللّه، وكثير ممن رأيت تعليقاتهم إلّا الوالد (رحمه اللّه) : حيث علّق على قوله: «وإن كان مقدار ألف كر». بقوله: «في المثال ونظائره اشكال»(2) وهذه المسألة من المسائل المهمة جداً؛ لكثرة
ص: 185
--------------------------
الإبتلاء بها في العهود الحاضرة.
والبحث فيها يتمّ في مقامين:
الأوّل: في أصل انفعال الماء المضاف بملاقاة النجاسة.
الثاني: في عدم الفرق في الانفعال بين القليل والكثير.
أما المقام الأوّل : فقد استدل عليه بادلة:
الدليل الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة بل المتواترة كما ذكره في الفقه(1)، وقد حكي الإجماع عن كتب الفاضلين والشهيدين وعن السرائر نفي الخلاف فيه، وذكره السبزواري(2)، وقال الهمداني: «إجماعاً منقولاً نقلاً يورث القطع بتحققِّه»(3) ونقل الإجماع في مفتاح الكرامة(4) عن المعتبر والمنتهى والتذكرة والذكرى والروضة وكشف الالتباس والدلائل. هذا، ولكن ناقش الإجماع في الفقه بمناقشتين:
ص: 186
--------------------------
الأولى: «عدم حجية الإجماع المحصّل فكيف بالمنقول إلّا إذا علم بدخول المعصوم فيه»(1).
ولكنها محل تأمل. أمّا أوّلاً: فلأن ملاك حجية الإجماع - عادة - هو الحدس دون الدخول و اللطف، وإن كان الدخولي منه حجة أيضاً، وما ذكرناه من الملاك موجود في الإجماع المحصّل عادة.
وأمّا ثانياً: أنّ نقل الإجماع - فيما نحن فيه - يورث الإطمينان بالإجماع المحصّل؛ لوصول النقل إلى حد التواتر.
الثانية: «إنّها محتملة الإستناد، فتسقط عن الحجية».
وفيه: أنّ الاحتمال لايسقطها عن الحجية وتفصيله في الاُصول(2).
الدليل الثاني: ما في التنقيح(3):
«من التسالم، ولم يستشكل في ذلك أحد من الأصحاب». وكأنّ المراد بالتسالم: كون الأمر من الواضحات عند الفقهاء أو من الضرورات الفقهية. وهذا هو الفرق بين الإجماع الذي لايرتضيه التنقيح عادة(4) والتسالم الذي يدعيه(5)، ولا يبعد صحّة هذه
ص: 187
--------------------------
الدعوى في الجملة، فإنّ الكلام في أصل الانفعال على نحو القضية المهملة.
الدليل الثالث: إنّ المضاف ليس بأقوى من المطلق في العصمة، فكما أنّ المطلق ينجس بالملاقاة كذلك المضاف ينجس بها.
وأشكل السيد الوالد (رحمه اللّه) (1) عليه في المبنى والبناء؛ وذلك لعدم معلومية نجاسة المطلق بالملاقاة كثيراً كان أو قليلاً. ويوكل إلى بحث انفعال القليل. ولكن المبنى محل تأمل(2)، ولا يعمل بالقياس و إن سُلِّم الحكم في المقيس عليه لاحتياجه إلى دليل مفقود في المقام.
ولكن قد يتأمل فيه: بإلغاء الخصوصية عرفاً، لعدم تفرقة العرف في الانفعال بين المطلق والمضاف.
اللّهم إلّا أن يقال: بأنّ كثافة المضاف تمنع السراية ولا توجد تلك الكثافة في المطلق(3).
ص: 188
--------------------------
الدليل الرابع: طوائف متعددة من الروايات:
الطائفة الأولى: روايات الأسئار(1) المذكورة في الوسائل في ابواب متفرقة كما في الباب الأوّل : «باب: نجاسة سؤر الكلب والخنزير» وبعضها معتبرة. وفي الباب الثالث: «باب: نجاسة أسئار أصناف الكفار». والباب الرابع روايات تدلّ على ذلك. والباب العاشر: «باب: طهارة سؤر ما ليس له نفس سائلة وان مات». وقد استدل بها الفقيه الهمداني قال: «ويدلّ عليه ما دل على نجاسة سؤر اليهودي والنصراني»(2) وقال في المهذب: «و ما دل على الاجتناب عن سؤر الكلب»(3).
ونحو الاستدلال بهذه الطائفة: أنَّ السؤر يشمل الماء المطلق والماء المضاف، فإنّه عبارة عن البقيَّة التي يبقيها الشارِب، أو مطلق البقية، أو ما باشر جسم الحيوان، على الإختلاف بين اللغويين، وعلى كلّ فإنّه يشمل المضاف الذي باشره الكافر وما أشبهه بفمه، أو بجسمه مطلقاً كما في رواية الناصبي(4).
وفيها : أنّها أخص من المدّعى دالة عليه في الجملة لاختصاصها:
أوّلاً: بأعيان النجاسات دون المتنجّسات كما في المعتبرة: «إلّا أن ترى
ص: 189
--------------------------
في منقاره دماً»(1).
وثانياً: ببعض النجاسات كالكلب والخنزير والكافر والناصبي فلعلّ فيها خصوصية. اللّهم إلّا أن تلغى(2).
الطائفة الثانية: روايات تنجس القدر ونحوها بالملاقاة، وهي كثيرة فيها معتبرة السند، مذكورة في أبواب متفرقة:
منها: موثقة الصدوق باسناد معتبر إلى عمّار الساباطي: «عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد كانت متسلخّة؟ قال (عليه السلام) : فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء، ويعيد الوضوء والصلاة»(3) الدالّة على انفعال الماء المطلق، ووجوب غَسل كلّ ما اصابه ذلك الماء، فلو وقعت قطرة من ماء الفأرة في المضاف وَجَبَ غسله.
ص: 190
--------------------------
نعم قد يقال: بأنّ «يغسل» إنّما يصدق في الجوامد ولا معنى لذكره في المائعات. إلّا أنّ الظاهرأنَّ المراد من الغَسل التطهير، وذكر «يغسل» من باب العادة لا لخصوصية في الغَسل، فالمعنى: ويطَهِّرُ كلّ ما أصابه ذلك الماء.
والحاصل: أنّ العرف يلغي خصوصية أن يكون الملاقي ممّا يقبل الغَسل(1).
ومنها: صحيحة زرارة المروية في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسنادة عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها وما يليها وكلّ ما بقي، وإن كان ذائباً فلاتأكله واستصبح به والزيت مثل ذلك»(2).
ومنها: المعتبرة المروية في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه الباقر (عليهما السلام) : «إن
ص: 191
--------------------------
علياً (عليه السلام) سُئِل عن قدر طُبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال (عليه السلام) : يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل»(1).
ومنها: موثقة عمار الساباطي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «سُئِل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسَّمن وشبهه، قال (عليه السلام) : كلّ ما ليس له دَم فلا بأس»(2)،
فما له دَم فيه البأس، وإلّا لزم لغوية التخصيص(3).
ومنها: صحيحة معاوية بن وهب عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلت جُرذٌ مات في زيت أو سمن أو عَسل، فقال (عليه السلام) : أمّا السمن والعسل، فيؤخذ الجرد وما حوله والزيت يستصبح به»(4).
ص: 192
--------------------------
ومنها: ما عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي قال: «سألت اباعبداللّه (عليه السلام) عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه، فقال (عليه السلام) : إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً فإنّه ربّما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فارفعه حتى تُسَرِّج به»(1).
الى غيرها من الروايات المذكورة في أبواب 43، 44، 45، 46 فراجع.
هذا، إلّا أنّ إثبات الحكم متوقّف على نوعين من التعدّي:
التعدّي في الملاقي. و التعدي في الملاقى؛ وذلك لأنّها احتوت على مجموعة من العناوين: كالميتة والماء الملاقي لها والفأرة وقطرة خمر أو نبيذ مسكر، فنحتاج الى التعدّي إلى جميع النجاسات كالبول وغيره، وكذلك احتوت اُموراً معينة: كالزيت والإدام والسمن والمرق. فيكون التعدي إلى كلّ ملاقى.
نعم، يستغنى عن التعدي الثاني لعموم موثقة عمّار: «ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»(2).
هذا، وقد أضاف في المستمسك تعدياً ثالثاً بقوله: «لأنّها وإن لم تكن من المضاف، إلّا أنّها مثله في الميعان الموجب لسراية النجاسة حسب الارتكاز
ص: 193
--------------------------
العرفي»(1).
وفيه ما ذكره في الفقه: «من عدم الحاجة للتعدي الثالث؛ لكون المرق من المضاف(2)» نعم لابدّ من التعدي في رواية الزيت والسمن.
فتحصّل من ذلك كلّه: أنّ بعض الروايات تحتاج إلى ثلاث تعديات، وبعضها إلى تعديّين، ولكن جميعها تحتاج إلى التعدي الأوّل ، وقد تكفَّلهُ إلغاء الخصوصية عرفاً(3).
وترد على هذه الطائفة اشكالات:
الأوّل: تعارضها بما دلّ على عدم نجاسة القدر بسقوط الدم فيها.
وفيه: ما ذكره في العروة بقوله: «و القول بعدم نجاسة المرق إذا وقع فيه الدم لرواية ضعيفة ضعيف»(4) ولكنّه غير تام؛ لصحة بعض تلك الروايات وعلاج المسألة في بحث الدم.
نعم، إنّها خلاف ارتكاز المتشرعة وكون: «مضمونها من المستنكرات
ص: 194
--------------------------
الواضحة عند المتشرعة». كما في المستمسك(1)، فتحمل على التقية أو غيرها. ولو سُلِّم تماميّتها وكون الفتوى عليها فهي تخصيص، وقد علّل بعضها ب- : «لأن النار تأكل الدم»(2) فالنار تُعدم الدَّم في المرق حال غليانه، فالمضاف الملاقي للنجاسة ينفعل إلّا المرق إن وقع فيه دم؛ لأنّ النار تأكله(3).
الثاني: لعلّ الاجتناب لحرمة الميتة والدم و ليس لأجل انفعال الملاقي؛ فالاجتناب عنه إنّما يكون لاحتوائه على ذرّات الملاقي لِتَحَلُّلِ النجاسة فيه.
وفيه: بُعده جداً خصوصاً عن مثل موثقة عمار في الفأرة التي ماتت في الماء حيث أجابة الإمام باجتناب كلّ ما أصابه ذلك الماء(4) آبية عن الاحتمال المذكور، فليس الاجتناب لتحلّل الفأرة ووجود ذرات منها في
ص: 195
--------------------------
جميع الملاقي خصوصاً في مثل السمن والعسل التي لاتتحلَّل فيها بسرعة، وإن تحلّلت لاتنتشر في جميع أجزاءها، وإلّا لزم الاجتناب عن المقدار المنتشر فيه الذرات المتحلله فحسب، وهو كما ترى.
فتحصّل: أنَّ هذه الطائفة دالة على انفعال المضاف في الجملة.
الطائفة الثالثة: الروايات الكثيرة الدالة على وجوب الاجتناب عن الأواني الملاقية لبعض النجاسات.
منها: ما عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس، فقال: لاتأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر»(1).
ومنها: موثقة عمار الساباطي وفيها: «اغسل الإناء الذي تُصيب فيه الجرذ ميتاً سبع مرآت»(2).
ومنها: موثقة عمار: «سألته عن الدِن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غُسل فلابأس»(3).
ص: 196
--------------------------
فالغَسل إمّا لأمر تعبدي أو لانفعال الماء، إلّا أنّ الظاهر عرفاً الثاني، وعليه فلا فرق بين أن يوضع فيه ماء مطلق أو مضاف، فَدَلَّت على انفعال المضاف الموضوع في آنية الخمر وشبهها.
لايقال: إنّ النهي إنّما هو عن شرب الخمر المختلط بالمضاف ولايدلّ على انفعاله.
فإنّه يقال: الرطوبة القليلة مستهلكةٌ، كما ذكره في العروة في لعاب الفم إذا كان فيه دَم مستهلك(1) هذا أولاً.
وثانياً: بأنّ الإطلاق يشمل حالة يُبس الدِن(2)، ولا يرى العرف التعبّد من أمر الإمام بالاجتناب في الرواية الأولى، أي لايرى الخل طاهراً، ولكن بما
ص: 197
--------------------------
وُضع في آنية الخمر يجب أن يجتنب؛ بل الاجتناب لانفعاله.
فثبت أنّ المضاف ينفعل بملاقاة النجاسة أو بملاقاة ملاقيها كالدِّن.
وأمّا موثقة عمّار الأولى فليس وجوب الغسل فيه وجوباً نفسياً بل هو وجوب مقدّمي - وذلك بالظهور العرفي وبذهنية المتشرعة وبأنّه لم يفتِ أحد بوجوبه النفسي - فيجب الاجتناب عن الماء المضاف الموجود في الإناء الذي مات فيه الجُرذ للانفعال لا لأمر تعبدي.
نعم يبقى أن نُلغي الخصوصية في الخمر والميتة إلى بقية النجاسات على ما تقدم(1).
الدليل الخامس: ما في المهذّب قال: «الظاهر أنّ الانفعال بالقذارات في الجملة من المرتكزات إجمالاً، فلا نحتاج إلى دليل عليه بالخصوص»(2).
الدليل السادس: ما ذكره الفقيه الهمداني قال: «ما علم من تتبع الأدلّة من أنّ ملاقاة النجس برطوبة مسرية سبب للتنجيس مطلقاً من دون فرق بين الجوامد والمائعات وإن اختلفنا في كيفية الانفعال»(3).
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل : ولم ينقل الخلاف فيه عن أحد.
ص: 198
--------------------------
في استثناء المضاف الكثير من الانفعال
المقام الثاني: في عدم الفرق بين انفعال المضاف بين القليل والكثير فلو وقعت قطرة دم في الف كر من المضاف تنجّس كلّه. وهو من المباحث المشكلة جداً فينبغي بسط البحث فيه فنقول إنّ فيه أقوالاً أربعة:
القول بانفعال المضاف مطلقاً و بيان ادلته
القول الأوّل : الانفعال قليلاً أو كثيراً واستدل عليه بأدلة:
في قاعدة المقتضي و المانع
الدليل الأوّل : قاعدة المقتضي والمانع، وقد ذكره الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة(1) وشيَّد أركإنّه الفقيه الهمداني(2)، وتلخيص العمدة من كلامه بتوضيح منا يكون بعد ذكر مقدمة كلية وهي: أنّ الخصوصيات المأخوذة في الموضوع:
تارة: يعلم عدم مدخلية شيء منها في الموضوع كما لو سأل: «وقعت في بئري» فإنّ المأخوذ في الموضوع وإن كان بئره إلّا أنّه يعلم عدم خصوصية بئره، وكذلك لو سأل: «أودعني رجل مالاً فَغابَ» فأُجيب: «حج عنه». فهنا لافرق بين الرجل والمرأة والوديعة والعارية.
واُخرى: يشك في مدخلية الخصوصيات في الموضوع وعدمها، وهو
ص: 199
--------------------------
على ثلاثة أنواع: الأوّل: ما كانت مدخليته بطريق الجزئية.
الثاني: ما كانت مدخليته بطريق الشرطية الوجودية.
ومثال الأوّل : - على سبيل الفرض - لو قال: «سألته عن ماء بئر وقعت فيه فأرة؟ فقال: انزح ثلاث دلاء». كانت مدخلية البئر في الموضوع على نحو الجزئية، فهذا حكم ماء البئر.
ومثال الثاني: لو قال: «عثرت على مال في بلاد الكفر. فقال: هو لك». حيث يحتمل أن لايكون التملك حكم اللقطة مطلقاً، بل بشرط أن تكون في بلاد الكفر.
ففي هذين النوعين يرى الفقيه الهمداني عدم صحّة التمسّك بتلك القضية الشخصية في موارد الشك؛ لقصور اللفظ وعدم الإطلاق، ولايقطع فيها بإلغاء الخصوصية؛ فإنّه يحتمل وجود الخصوصية لماء البئر فكيف يعَدّى إلى ماء الحوض؟ وكذلك الأمر في اللقطة في بلاد الكفر، كيف يعدى إلى لقطة غير بلاد الكفر؟
الثالث: ما كانت مدخليته في الحكم بطريق الشرطية العدمية، كما في مثل: «الماء بشرط عدم بلوغه الكر ينفعل» وقد حكم الفقيه الهمداني فيه بعموم الحكم وعدم مدخلية الشرط المشكوك، قال: «الظاهر كفاية الشك فيه في الحكم بعموم الحكم(1)» - وإن كان الشرط في المثال الآنف الذكر
ص: 200
--------------------------
معلوماً -. وحكمه يبتني على مقدمات:
المقدمة الأولى: العدم لايعقل أن تكون له مدخلية في التأثير؛ لأنّ ثبوت شي لشيء فرع ثبوت المثبت له، والعدم بما أنّه لاذات له لايعقل أن يكون شرطاً أو مؤثراً.
المقدمة الثانية: مرجع شرطية العدم إلى مانعية الوجود، فمرجع انفعال الماء بشرط عدم بلوغ الكرّ إلى أنّ وجود الكرّية مانع عن تأثير فعلية الحكم بالانفعال، فالمثال الآنف الذكر يؤول إلى: أنّ الماء ينفعل والكرّية مانعة.
المقدّمة الثالثة: مئال المانعية في ظرف التحليل إلى قضّيتين:
الأولى: ثبوت الانفعال للطبيعة من حيث هي هي، فالماء يقتضي الانفعال بطبعه.
الثانية: ثبوت نقيض الحكم على تقدير المانع، حيث الكرية تمنع انفعال الماء، فوجود المانع مؤثر في ثبوت النقيض لا عدمه في حصول الحكم، ولذلك نستفيد حُكماً شأنيّاً بالنسبة للأفراد المقارنة مع وجود المانع فنقول: لولا كرّية الملاقي لكان نجساً. فيعلم أنّ الكرّية مانعة، وكما لو قال المولى: «أكرم العلماء الذين ليسوا هم بفساق». فيقال: لولا فسق الشلمغاني لأكرمناه، فالفسق مانع لا أنّ عدمه شرط.
المقدّمة الرابعة: مع وجود المقتضي والمانع يكون التأثير للمانع؛ لأنّه آكد في الإقتضاء، ولوجود المزاحم عن فعلية الحكم.
المقدمة الخامسة: الشك في المانعية شك في التخصيص الزائد، والأصل
ص: 201
--------------------------
عدمه.
ثم إنّه بعد تماميّة المقدمات الخمس، نقول: إنّ ما ذُكر في المثال السابق من انفعال الماء المضاف بشرط عدم الكثرة - بما أنّ شرط عدم الكثرة مشكوك - يؤول إلى قضّيتين ولا يراد به ظاهره:
الأولى: الماء المضاف يقتضي الانفعال. و الثانية: كون الكثرة مانعة.
ولكن يُشك في مانعية الكثرة، وهو شك في التخصيص والأصل عدمه.
والحاصل: أنّ الانفعال ثبت لطبيعة الماء المضاف والشك في خروج المضاف الكثير والأصل عدم التخصيص الزائد، فيثبت انفعال المضاف قليلاً كان أو كثيراً.
ولكن يرد عليه أوّلاً: عدم تسليم المقدمة الأولى؛ فإنّ العدم لا يعقل أن يكون مؤثراً في عالَم التكوين دون الاعتبار.
توضيحه: إنّ البرهان العقلي قائم على عدم تأثير الأعدام في عالم التكوين كما قيل: ]كذك في الأعدام لا عليّة......و إن بها فاهوا فتقريبيّة[
فيجب حمل مدخلية العدم على المجاز والمسامحة، فيجب تأويل ما لو قيل: بأنّ عدم المطر علّة لعدم النبات.
نعم، في عالم الاعتبار لامانع من أن يكون العدم مؤثراً ومتأثراً وفاعلاً ومنفعلاً؛ وذلك لعدم كونه تأثيراً حقيقياً، فإنّ عالم الاعتبار عالم فرضي؛ لخروجه عن وعائي الذهن والخارج الموجودان حقيقة، فللمولى أن يقول: إنّي جعلت عدم عدالة زيد علّة لعدم جواز تقليده. ولا اشكال فيه ولا
ص: 202
--------------------------
ثانياً: عدم قبول المقدمة الثانية، فإنّه يمكن أن يكون مرجع شرطية العدم إلى شرطية الوجود لا إلى مانعية الوجود، فتأويل «الماء بشرط عدم بلوغه الكر، ينفعل» ب- «الماء بشرط القلّة ينفعل». ولا مُلزم لتأويله إلى مانعية الوجود، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فمعنى: الماء المضاف بشرط عدم الكثرة ينفعل أنّه ينفعل بشرط القلّة، وقد اعترف الفقيه الهمداني في عدم عموم الحكم مع الشك في الشرطية الوجودية وكذلك في الجزئية كما سبق في مثال نزح ماء البئر فإنّ الحكم لا يُعَدّى إلى ماء الحوض(1).
ص: 204
--------------------------
ثالثاً: سلّمنا أوله إلى المانعية، إلّا أنّ المقدمة الثالثة من «ثبوت الانفعال للطبيعة» ممنوعة؛ فإنّه لايُدرى أنّ ثبوت الانفعال هل هو للطبيعة المطلقة أو المقيّدة أو المهملة؟ نعم يعلم إجمالاً أنّ الماء المضاف فيه طبيعة الانفعال في مثل ماء القدر ولكن الشك حاصل في أنّ النفط كذلك(1) ؟ فالقول بأنّ «طبيعة المضاف تنفعل بما هي هي والشك في المانعية» أوّل الكلام.
والحاصل: أنّه لم يثبت أنَّ طبيعة المضاف تنفعل مطلقاً بعمومٍ، حتى يعم الحكم للموارد المشكوكة.
ص: 205
--------------------------
رابعاً: ما أشار إليه الفقيه الهمداني من منع المقدمة الخامسة: فإنّه مع الشك في المانعية لايمكن القول بإحراز المقتضى و التمسك بأصالة العموم؛ وذلك لاعتماد هذا القول على قاعدة المقتضي والمانع، إلّا أنّ المشهور عدم اعتبارها؛ لعدم الدليل عليها لا عقلاً ولا عقلائياً ولا شرعاً، فإنّه مع إحراز المقتضي ووجود الشك في المانع لا يحكم بوجود المقتضى و المعلول(1) فالورقة مشكوكة الرطوبة لا يحكم باحتراقها مع ملامستها النار، والملقي أحداً من شاهق يحتمل سقوطه على شاحنة تحمل القطن لا يكون قاتلاً، فإنّ السقوط وإن اقتضى الموت إلّا أنّ احتمال وجود المانع بوقوعه على القطن يمنع من أن يوصف بالقاتل(2).
ص: 206
--------------------------
وبعبارة واضحة: لا دليل على تعدية الحكم من ماء البئر إلى بئر النفط؛ فإنّ المولى ذكر الانفعال في الأوّل فحسب. والعجيب اعتماد الشيخ الأعظم(1) و الهمداني في حاشيته على الرياض(2)عليها، وإن تراجع عنها في
ص: 207
--------------------------
مصباح الفقيه(1).
الدليل الثاني: الإجماع، اعتبره الفقيه الهمداني(2) مع الدليل الثالث العمدة في المقام.
وفيه أوّلاً: عدم ثبوته، ففي المستمسك: «وثبوت الإجماع على السراية في الكثرة المفرطة غير ظاهرة»(3)، وفي فقه الصادق: «لأنّ ثبوت الإجماع في الفرض ممنوع»(4).
وثانياً: ما في الفقه، قال: «فحيث إنّه دليل لبّي يلزم أن نأخذ بقدره المتيقّن في موضع الشك، وليس ذلك إلّا مثلما إذا لاقى النجس القِدْر والخابية ونحوهما»(5). فلا لسان له ليؤخذ بإطلاقه، ولا معقد له ليشمل هذا الفرد على نحو اليقين، فإنّه ليس نظر المجمعين إلى ألف كرٍّ من المضاف أو بئر نفط(6). قال في المهذب: «ولا وجه لشمول إطلاق معقده لمطلق الكثير؛ لأنّه
ص: 208
--------------------------
من التمسك بإطلاق كلمات المجمعين في فرد غير مأنوس بأذهانهم الشريفة بل بأذهان المتشرعة، إذ المأنوس في الأذهان هو مثل القِدر والحُبِّ والطشت و..لا مثل أنابيب النفط التي تبلغ طولها فراسخ متعددة»(1).
الدليل الثالث: ماذكره الفقيه الهمداني من القاعدة المغروسة في أذهان المتشرعة من أن الماء المضاف ينفعل مطلقاً(2).
وقد ناقشه في الفقه - مضافاً إلى المناقشة الكبروية في غير المقام من عدم حجّية ذهنية المتشرعة - بقوله: «ففيه: عدم معلومية مغروسة النجاسة في أذهان المتشرعة بأكثر من السراية في مثل هذه الموارد»(3)، فقد جعل (رحمه اللّه) ملاكين للانفعال: الملاقاة والسراية(4)،
والمغروس في أذهانهم انفعال ما
ص: 209
--------------------------
لاقته النجاسة وما سرت إليه عرفاً دون الأكثر من ذلك، فالعرف يستقذر جميع ما في الإناء الواقع فيه ذبابٌ دون الجانب الآخرمن الواقع في الحوض. وسيأتي في بحث السراية: أنّ كيفية السراية موكولة إلى العرف؛ لعدم تحديدها من قبل الشارع.
الدليل الرابع: ما في التنقيح وحاصله: أنّ الأمر لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة: الأوّل: القول بعدم الانفعال مطلقاً. الثاني: القول بالانفعال في مقدار معين. الثالث: القول بالانفعال في الكل. وبما أنّه لاسبيل إلى الأوّلين فيتعين الثالث. قال مانصّه: «إن قلنا: بعدم انفعاله أصلاً فهو مخالف للأدلّة المتقدمة، وإن قلنا: بانفعاله لا في تمامه بل في حوالي النجاسة الواقعة فيه واطرافها فيقع الكلام في تحديد ذلك وأنّه يتنجس بأيّ مقدار، مثلاً: إذا وقعت قطرة دَم في مرق كثير فهل نقول بتنجس المرق بمقدار شبر أو نصف شبر من حوالي تلك القطرة فيه أو بازيد من ذلك أو أقل؟ لا سبيل إلى تعيين شيء
ص: 210
--------------------------
من ذلك؛ إذ لو قدَّرنا الانفعال بمقدار شبر مثلاً فلنا أن نسأل عن أنّه لماذا لم يُقَدَّر شبرٌ ومقدار اصبع؟ وهكذا. فيتعين أن يحكم بنجاسة جميعه، وهذا أيضاً من أحد الأدلّة على انفعال المضاف الكثير بملاقاة النجس(1)».
ولكنه محلّ تأمل لما ذكره في الفقه من أنّا نحكم بانفعال الملاقي والمقدار الذي سرت إليه النجاسة عرفاً دون البقية. توضيحه: لنا حالات ثلاث:
أ) ما تيقنّا بانطباق هذين العنوانين عليه نحكم بانفعاله.
ب) وما تيقنّا بعدم الانطباق نحكم بعدم انفعاله.
د) وماشككنا فيه نجري فيه أصالة الطهارة، أو استصحابها على الخلاف في جريان أيّ الأصلين، وإن كان الأقوى ثالث الأقوال من تواردهما معاً.
وبعبارة اُخرى: علينا أن ندور في حدود الألفاظ الواردة في الروايات، فما علمنا بانطباق اللفظ عليه نحكم بانفعاله، وما علمنا بالعدم نحكم بعدم انفعاله، وما نشك فيه نجري فيه أصالة الطهارة أو استصحابها.
وقد مضت الألفاظ الموجودة في الروايات المعتبرة و هي على النحو التالي:
أ) «السؤر» وهذه الكلمة لا تطلق عرفاً على الجانب الآخرمن بحيرة ماء مضاف شرب منه الكافر(2)
فالواجب الوقوف على حدود كلمة «السؤر»
ص: 211
--------------------------
الواردة في الروايات المعتبرة فيقال للتنقيح: إنّ أطراف الملاقي سؤر، والمشكوك طاهر.
ب) تكرُّرُ كلمة «في» الظرفية في كثير من الروايات مثل: «يجد في إنائه فأرة»(1) ولا يقال البحيرة ظرف الفأرة، مع إلغاء خصوصية الإناء(2).
ج) عنوان ثالث وهو «أصابه» في قوله (عليه السلام) : «ويُغسل كل ما أصابه ذلك
ص: 212
--------------------------
الماء»(1).
نقول: هناك مرتبتان، فما هو مقدار ما أصابه عرفاً؟ فما أصابه عرفاً نحكم بنجاسته، و ما لم يصبه عرفاً نحكم بطهارته، وبينهما مراتب مشكوكة نحكم فيها بالطهارة، وما ذكرناه جار في كل حقيقة لها فرد متيقّن وفرد خارج ومتخلّلات مشكوكات، فلو قيل: حدث تلوث في جانب المحيط الهندي لا يطلق عرفاً تلوّث الجانب الآخر منه.
وقد انتزع السيد الوالد (رحمه اللّه) ومجموعة من الفقهاء من مجموع هذه العناوين عنوانين: الملاقاة. والسراية العرفية. وإن لم يكن العنوان الثاني موجوداً في الروايات الشريفة(2).
ص: 213
--------------------------
الدليل الخامس(1):
موثقة عمار السابقة، وقد ورد في ذيلها: «وعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كُلّ ما أصابه ذلك الماء(2)» قال في التنقيح: «حيث دلّت بعمومها على وجوب غَسل كل ما لاقاه متنجّس فنجاسة الملاقى بنفسها تقتضي نجاسة كل ما لاقاه كثيراً كان الملاقي أم قليلاً ماء كان أو مضافاً»(3).
ويرد عليه أمران. الأوّل : إنّ العنوان المأخوذ في هذه الموثقة هو عنوان «أصابه»، وقد سبق: أنّ المضاف المفرط في الكثرة لا يصدق عنوان «أصابه» على الاطراف البعيدة منه كما في أُنبوب نفط يمتد مئات الكيلومترات(4).
ص: 214
--------------------------
الثاني: إنّ في الرواية مٌعَدّاً عنه وهو الإجسام الجامدة، ومُعَدّاً إليه وهو المائعات، والرواية بمدلولها اللفظي تختص بالجوامد؛ فإنّها هي التي يمكن أن تُغسل ويُغسل كل ما أصابه ذلك الماء، وأمّا المائعات فهي غير قابلة للغسل، ولكن نعدّيه بعدم فهم الخصوصية عرفاً(1) فماء الفأرة - كما في الموثقة - يصيب الثوب والبدن والأرض لكونه توضأ منها، فبما أنّ الملحوظ في ماء الفأرة الجوامد، عَبَّرَ الإمام (عليه السلام) ب- «يُغسَلْ»، والمقصود الحقيقي منه هو: «يُطَهّر كل ما أصابه».
ثم نأتي إلى المعدّى منه، حيث لا يجب غسله أجمع، فإن أصاب ماء الفأرة ثوباً لا يجب غسل جميعه بل موضع الملاقاة فَحسب. وإن أصاب البدن وكلّه رطب، لا يُغسل جميعه بل موضع الملاقى(2).
فإذا اقتصر في المعدّى منه على نفس الموضع ولم يُتعدّى منه إلى الجميع، فكيف تحكمون في المعدّى إليه - وهو المائعات - بنجاسة الكل
ص: 215
--------------------------
ووجوب تطهير الكل(1)؟
هذا مضافاً الى أنّ التعدية إنّما هو للارتكاز العرفي المفقود في المضاف الكثير ولا تظهر من الرواية.
والحاصل: أنّه لم يذكر نجاسة الكل في المقيس عليه فكيف يذكر في المقيس؟
وبعبارة اُخرى: التعدية إلى المائعات إنّما كان بالارتكاز العرفي، فيجب الإقتصار على حدود التعدية بالارتكاز العرفي، وإلّا كانت التعدية فاقدة للدليل.
فنقول: إنّ الرواية وردت في الجامدات، وتعديتها إلى المائعات إنّما يكون بالارتكاز العرفي، وهو مفقود في الأطراف البعيدة للماء المضاف.
ص: 216
--------------------------
الدليل السادس: ذكره في التنقيح أيضاً، قال: «وممّا يوضح ماذكرناه ويؤكّده الاستثناء الواقع في بعض روايات الأسئار(1)» ويقصد ببعض روايات الاسئار رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «ليس بفضل السنّور بأس أن يتوضأ منه ويشرب منه ولا يشرب من سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستسقى منه(2)».
وقد عبّر عنها بعض المعاصرين بالصحيحة وآخرون بالضعيفة، إلّا أنّ المختار أنّها موثقة لسماعة، فإنّ سندها - كما في الوسائل -: «محمّد بن الحسن عن سعد عن أحمد بن محمّد عن عثمان بن عيسى عن سماعة بن مهران عن أبي بصير(3)».
والاشكال(4) في عثمان بن عيسى الرواسي شيخ الواقفة ووجهها المنحرف
ص: 217
--------------------------
عن الحق، المعارض للإمام الرضا (عليه السلام) ، وقد كان مع زياد بن مروان القندي وعلي بن أبي حمزة البطائني الاقطاب الثلاثة للوقف.
ولكن فيه: أنّ النجاشي وثقه تحت عنوان: محمّد بن الحسن بن أبي سارة، قال: «بيت الرواسي كلّهم ثقات»(1) وكذلك وثقه الشيخ في العدّة(2)، وقد وثقه ابن شهر آشوب(3) -على مبنى قبول توثيقات المتأخرين(4).
قال في التنقيح في وجه الاستدلال بها مانصّه: «حيث إنّه بعدما مَنَعَ عن استعمال سؤر الكلب في الشُرب، استثنى منه ما إذا كان السؤر حوضاً كبيراً يستقى منه، فإنَّ الاستقاء قرينة على أنّ المراد بالحوض الكبير هو الحوض
ص: 218
--------------------------
المحتوي على الماء؛ لأنّه الذي يستقى منه للحيوان أو لغيره، والحوض الكبير يشمل الكر بل الأكرار فالرواية دلّت على نجاسة السؤر في غير ما إذا كان كرّاً من الماء(1)».
فهنا مستثنى ومستثنى منه. المستثنى: الكر المطلق من الماء، فكل ما عداه يدخل في المستثنى منه وهو: المطلق القليل والمضاف القليل والمضاف الكثير، ف«كل سؤر يجب الاجتناب عنه» عام يشمل الثلاثة الأوّل ، وخرج الرابع وهو المطلق الكثير بالاستثناء.
وأمّا كون المستثنى هو المطلق فقد اعتمد التنقيح على قرينة الإستقاء، والأولى القول بأنّ المجموع يدلّ على أنّ المراد الماء المطلق، فإنّ الحوض الكبير الذي يستقى منه ظاهر في الماء المطلق إمّا على نحو الانصراف، أو أنّ القدر المتيقّن منه ذلك.
ولكن فيه أوّلاً: ماسبق من عدم إطلاق السؤر على الأطراف البعيدة.
ثانياً: المستثنى يشمل المضاف. إلّا أن يورد عليه: بأنّه منصرف. إلّا أن يقال: بأنّه بدوي. إلّا أن يجاب: بأنّه مستقر، والظاهر ذلك ولو بقرينة فهم الفقهاء.
ثالثاً: إنّ الاستثناء منقطع فلا دلالة له على العموم إذ السؤر لا يعم المائع الكثير.
ص: 219
--------------------------
ولكنه منظور فيه من جهات ثلاث:
الأولى: قد يُدّعى صدق السؤر على الحوض الكبير الذي يحتوي كرّاً أو اكراراً متعارفة، فيكون الاستثناء متصلاً لا منقطعاً.
الثانية: سلّمنا أنّ الاستثناء منقطع، ولكنه كالمتصل يدلّ على العموم في المستثنى منه، بل لعلّ الاستثناء المنقطع أقوى في الدلالة على العموم من الاستثناء المتصل، ف: «جاء القوم إلّا زيداً» يؤكّد مجيء القوم بأجمعهم، ولكن: جاء القوم إلّا حماراً. يدلّ على أنّ المستثنى عام بحيث لا مجال إلّا لاستثناء المباين، ولا أقل من المساواة(1).
الثالثة: سلّمنا بأنّ المستثنى منقطع ولا يفيد العموم، إلّا أنّ المستثنى منه بذاته يدلّ على العموم، فقوله (عليه السلام) : «ولا يشرب سؤر الكلب(2)»، كقوله (عليه السلام) : «لا يتوى حق أمرء مسلم(3)» فإنّ المصدر المضاف يفيد العموم كما في قولنا: «أكل زيد كثيراً». أو: «ضربه شديداً». فما ذكره في التنقيح
ص: 220
--------------------------
من عموم المستثنى منه - مع قطع النظر عن الجوابين الأوّلين - تام(1).
ويلحق بالدليل السادس جميع الروايات الواردة في السؤر.
الدليل السابع: ما في التنقيح أيضاً من الاستدلال بموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه قال: كل ما ليس له دم فلا بأس(2)» قال في وجه الاستدلال بها ما لفظه: «حيث يظهر من قوله (عليه السلام) : وشبهه أنّه لا خصوصية للزيت والسمن المذكورين في الرواية، بل المراد منهما مطلق المائع والرواية دلّت على أنّ المائع إذا وقعت فيه ميتة ما لا نفس له لم يحكم بانفعاله، وأقرَّت السائل فيما هو عليه من أنّ وقوع الميتة ممّا له نفس سائلة في شيء من المائعات يقتضي نجاسته، وقد دلّت بإطلاقها على عدم الفرق في المائع بين المضاف والمطلق وبين كثرته وقلّته(3)».
فقد دلّت الرواية على انفعال ما يقع فيه ممّا له دم دافق، فإنّ الإستفصال في الجواب دليل على الفرق. ولو قال: «ويدلّ بالإستفصال على الفرق». لكان أوضح فإنّ السائل قد لايكون في ذهنه شيء.
ويرد عليه ثلاثة اُمور:
ص: 221
--------------------------
الأمر الأوّل : لإثبات المدّعى يجب إثبات الإطلاق في الرواية من نواحي ثلاث:
الأولى: الملاقى، وهو الحيوان الذي وقع في البئر كالجراد والنملة وغيرهما. الثانية: أصناف الملاقى كالبئر والسمن والزيت وشبهها.
الثالثة: كمّية الملاقى قليلاً كان أو كثيراً، كرّاً أو ألف كر(1).
أقول: لاشك في وجود الإطلاق أو العموم من الناحيتين الأوليين، ولكن يشك في إطلاق الرواية من الناحية الثالثة؛ حيث لا يعلم كون الإمام (عليه السلام) في مقام البيان من هذه الجهة. بل ربّما يقال: بأنّا نعلم أنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة فلا إطلاق.
لايقال: الأصل عند الشك كون المولى في مقام البيان.
فإنّه يقال: إنّ ما ذُكر إنّما يتمّ مع الظهور العرفي، ولا ظهور فيما نحن فيه، كما عليه مجموعة من الأعلام منهم الفقيه الهمداني(2).
الأمر الثاني: سلّمنا ذلك إلّا أنّ المفهوم على نحو الموجبة الجزئية، فلا
ص: 222
--------------------------
عموم له.
توضيحه: إنّ الوصف واللقب وغيرهما ليس لها مفهوم كالشرط، وأمّا إن اضطررنا إلى انتزاع المفهوم منهما - للغويّة التقييد أو الوصف - لكان المفهوم موجبة جزئية أو سالبة جزئية ولا كلّية له، وذلك لأنّ علّة انتزاع المفهوم - اللغوية - تندفع بوجود مفهوم مخالف على نحو الجزئية، ولا يتوقّف الأمر على الكلّية، فلو قال المولى: أكرم كل رجل عالم - والمفروض وجود المفهوم كي لا يلزم لغوية التقييد بالعلم(1) - لكان مفهومه: «بعض الرجال غير العالمين لا يجب اكرامهم». ولا عموم لمفهوم كلامه ليشمل: «لاتُكرم كل رجل غير عالم وإن كان أباً أو مؤمناً».
وكذلك الأمر في الرواية فإنَّ مفهوم قول الإمام (عليه السلام) : «كل ماليس له دم فلا بأس». هو: «بعض ماله دم فيه البأس». وليس مفهومه: «كل ما له دم في كل ملاقي بأيّ مقدار كان فيه البأس»؛ وذلك لأنّ المفهوم الذي يبنى على اللغوية أو على الإستفصال يكون جزئياً.
وإنّما ذهبنا إلى التفصيل بين ما له دم وغيره للغوية التقييد بدونه، حيث أمكنه (عليه السلام) أن يُجيب: «كل حيوان لا بأس به». فالتقييد بما لا دم له مفهومه: «أنّ بعض ما له دم فيه البأس». فيدل على الجزئية في الملاقي والملاقى و
ص: 223
--------------------------
الكمية. وبما ذكرنا ثبت الاشكال على المستدل القائل بعموم المفهوم(1).
الأمر الثالث: سلّمنا كون الإمام في مقام البيان وأنّ المفهوم عامٌ، إلّا أنّ الموضوع في الرواية كلمة «في» في قوله (عليه السلام) : «في البئر والزيت والسمن». والظرفية نوعان حقيقية وعرفية:
ص: 224
--------------------------
أمّا الظرفية الحقيقية الدقّية العقلية فهي لا تدلّ على المدّعى؛ فإنّ الظرف هو مايحيط بالشيء وهو يشمل عدة سنتيمترات فقط، ولكن الألفاظ لاتحمل على المعاني الدقّية بل العرفية.
وأمّا الظرفية العرفية فإنّ لها مقداراً محدّداً ولاتشمل الأطراف البعيدة فالملاك والمدار لفظ الرواية فما يشمله «وقع فيه» ينفعل، ولكن العرف لا يرى الطرف البعيد كألف كيلومتر ظرفه بل يرى أنّ الأطراف المحيطة بالملاقي هي ظرفه فقط(1) فجواب الإمام (عليه السلام) بمقدار سؤال السائل عن الموت في البئر.
الدليل الثامن: صحيحة زرارة المروية عن محمّد بن الحسن باسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن عُمَر بن أُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها ومايليها وكُلْ ما بقي، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به، والزيت مثل ذلك»(2).
ص: 225
--------------------------
وجه الاستدلال بها كما في التنقيح: «إنّنا نقطع من قوله: والزيت مثل ذلك. أنّ الحكم لا يختص بالسَّمنِ أو الزيت، وإنما هو مستند إلى ميعانهما وذوبانهما»(1).
فالدليل ينحلّ إلى دعويين:
الأولى: عدم الفرق بين السمن والزيت والماء المضاف، فالرواية وإن لم ترد في الماء المضاف؛ لخروج السمن والزيت موضوعاً عنه إلّا أنّه يُقطع بعدم الخصوصية فيهما، أو نقول بالأولويّة؛ لوجود الكثافة التي تمنع السراية إلى حَدٍّ ما فيهما دون المضاف فينفعل بطريق أولى.
الثانية: الرواية مطلقة تشمل القليل والكثير.
ويرد عليه أوّلاً: ما ذكره المهذّب في مقام آخرقال: «يمكن أن يحمل النهي عن أكل ما عدى موضع الملاقاة على الإستقذار والتنزّة»(2) فالانفعال معلّق على السراية و لا سراية في الأجسام الكثيفة، فكما أنّ حمرة الدم لا تنتشر إلّا إلى شعاع محدود كذلك الأمر في الفأرة فإنّه ينفعل موضع الملاقاة، وأمّا الأكثر فالرواية وإن شملته إلّا أننا نحملها على التنزّة يعني الافضلية.
وقال في موضع آخر: «لا يخفى على كل أحد أنّ الفأرة إذا وقعت في
ص: 226
--------------------------
مائع تتحرك فيه كثيراً إلى أن تخرج منه أوتموت فيه، وهي حيوان خبيث حتى سمّيت في الأخبار بالفويسقة(1) وورد النهي عن أكل ما تشمّه فيستقذر نوع النفوس على تناول ما ماتت فيه الفأرة، فيمكن أن يحمل النهي عن أكل ماعدى موضع الملاقاة على الإستقذار والتنزّة(2)»
وفيه: أنّ قوله عليه السلام: «فألقها ومايليها» صيغة «افعل» الدالة على الوجوب، وقوله (عليه السلام) : «فلا تأكله» صيغة النهي الدالة على الحرمة، فلا معنى لحمل الرواية على التنزه.
ثانياً: سلّمنا، ولكن نقتصر بالنجاسة في خصوص الفأرة الواقعة في السمن والزيت الذائبين؛ للتعبد بالنص دون سائر النجاسات التي لا نص فيها، كما نقول بالتعفير للولوغ لورود النص فيه دون غيره.
ولكن مضى سابقاً مافيه من فهم عدم الخصوصية(3) ومن الأولوية.
ثالثاً: ماسبقت الإشارة إليه بأنّ موضوع الرواية كلمة «في» الدالة على الظرفية ولا تصدق على الأطراف البعيدة كاُنبوب نفط.
رابعاً: الانصراف عن الأطراف البعيدة لو فرض تسليم شمول «في» للمجموع.
ص: 227
--------------------------
ولو نوقش في الاشكالين الأخيرين(1) فلابدّ من الذهاب إلى قول المشهور من انفعال المضاف الكثير بملاقاة النجاسة.
الدليل التاسع: رواية السكوني المروية عن محمّد بن الحسن باسناده عن محمّد بن احمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) : «إنّ علياً (عليه السلام) سُئل عن قدر طُبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال: يهراق مرقها ويُغسل اللحم ويؤكل»(2) وقد جعلها في التنقيح مؤيدة، إلّا أنّ البعض يرى وثاقة النوفلي. وفيه نظر مضى، وستأتي المناقشة في هذا الدليل مع الدليل العاشر.
الدليل العاشر: رواية زكريا بن آدم المروية، عن محمّد بن الحسن باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن مبارك، عن زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر ونبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير ؟ قال: يُهراق المرق أو يُطعمه أهل الذمة أو الكلب، واللحم اغسله وكله..»(3) وهي ضعيفة؛ لجهالة الحسن بن مبارك(4).
ص: 228
--------------------------
إلّا أنّ وجه الاستدلال بهاتين الروايتين بأنّ الأولى منهما مطلقة، فإن القدر يشمل القليل والكثير، والثانية نصّت على الكثرة، فَدَلَّتا على انفعال المضاف الكثير.
والقول بعدم وجود مرق بمقدار كر أو أكثر، أو أنّ الرواية تنصرف إلى القدور المتعارفة. غير تام، لما ذكره الغروي، قال: «ولا استبعاد في كون المرق بمقدار كر لما حكاه سيدنا الأستاذ من أنّ العرب في مضايفهم ربّما يطبخون بعيراً في القدر، والقدر الذي يطبخ فيه البعير يشتمل على مرق يزيد على الكر قطعاً». ثم قال: «في القرى والبوادي كثيراً ما يجمعون الألبان في القدور وغيرها بما يزيد على الكر بكثير». وقال في الهامش: «المراد به الدوغ لا الحليب، فلا تستبعد»(1). وقد أيّد التبريزي ذلك بقوله: «كما هو موجود بالفعل عند بعض عشاير العرب»(2) ولكن شكّك بعض المعاصرين في الحكاية بالقول : إنّها دعوى تحتاج إلى دليل نعم، نَصَّ القرآن الكريم بوجود «قدور راسيات» في زمن النبي سليمان (عليه السلام) .
ولكن أورد على الرواية الأولى: باحتمال اشتمال المرق على أجزاء النجاسة ولأجله يهراق له. إلّا انّ المناقشة غير تامة:
ص: 229
--------------------------
أوّلاً: لترك الإستفصال في الجواب بين تفرق الأجزاء في المرق فيهراق، وبين عدم التفرق فلا يهراق.
وبعبارة اُخرى: إطلاق الرواية يشمل ما لو وقعت الفأرة في القدر وأُخرجت فوراً، أو عُلم عدم تفرّق أجزائها، فليس المحذور وجود أجزائها في المرق بل نجاسة المرق.
وثانياً: يُدفع احتمال وجود أجزاء الفأرة فيه بالأصل الموضوعي فيستصحب عدم احتوائه على أجزاء الميتة، وبالأصل الحكمي لقوله (عليه السلام) : «كُلُّ شيء لك حلال»(1) فإنّ الاحتمال غير مُنجّز للتكليف، وإلّا لزم الاجتناب عن الأطعمة التي يحتمل احتوائها على أجزاء محرّمة فالاحتمال المذكور مؤمّن عنه بالأصل الموضوعي والحكمي(2).
فالعمدة في الجواب عن الروايتين في دليلي التاسع والعاشر مضافاً الى ما مضى من الاشكال السندي، ما ذكرناه من أنَّ الظرفية المستفادة من كلمة «في» في الروايتين لا تشمل الكثير المفرط في الكثرة(3).
ص: 230
--------------------------
إن قلت: وردت لفظة «كثير» في الرواية في قوله (عليه السلام) : «لحم كثير ومرق كثير»(1).
قلت: تلاحظ الكثرة في الموارد المختلفة نسبيّة لامطلقة، فالثمانون كثير بالنسبة إلى الحرب كما في قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}(2) وقد كانت نيفاً وثمانين، ولكنه قليل بالنسبة إلى حبة الحنطة، بل لاتصدق الكثرة على ألف حبّة من الحنطة أيضاً(3)،
وكذلك الأمر في الكبير، فإنّ الورم الكبير في الرأس له حجم معيّن لا يقاس بالبيت الكبير.
والحاصل: أنّ المرق الكثير لايشمل آلاف الأكرار من النفط في الآبار(4).
ص: 231
--------------------------
الدليل الحادي عشر: ما ادّعي عليه الإجماع من أنّ المائع الواحد لا يختلف حكمه(1).
ص: 232
--------------------------
وفيه أوّلاً: عدم تحقق الموضوع وهو المائع الواحد عرفاً، حيث لا وحدة عرفية في الكثرة المفرطة بلحاظ الملاقاة.
ثانياً: سلّمنا الوحدة العرفية، إلّا أنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على مالم يكن كثيراً بكثرة مفرطة، «فالمائع الواحد» يشمل المأنوس للأذهان ولايعلم شموله لغير المألوف(1)
هذا مضافاً إلى كونه منقولاً لا يُعتدّ به.
الدليل الثاني عشر: ما ذكره بعض المعاصرين من: «أنّ موثقة أبي بصير: «إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(2) دلّت على نجاسة الحوض الكثير المضاف بالملاقاة، إلّا أنّه لا يحتمل عرفاً الفرق بينه وبين المضاف المفرط في الكثرة من حيث الانفعال»(3).
توضيحه: إنّ العرف في النظرة البدوية يرى أنّ ملاك النجاسة هو السراية ولا يحكم بانفعال ما لم تسرِ إليه النجاسة، ولكنه بعد تمعُّن النظر في انفعال الحوض بأجمعه - من وقوع قطرة دَم لا تنتشر حمرتها إلّا إلى شعاع محدود مثلاً - يرى أنّ الملاك هو الملاقاة، فعليه لا يُفرّق بين الحوض وألف كر من الماء المضاف.
ص: 233
--------------------------
وفيه: مع ما مضى(1) من أنّ الموضوع في الروايات «السؤر» وهو لايصدق على الكثير المفرط، أنّ الإنصاف احتمال وجود الفرق عرفاً بين المضاف الكثير والمضاف المفرط في الكثرة، ومع طرو الاحتمال تجري أصالة الطهارة أو استصحابها(2).
ص: 234
--------------------------
هذه مجموع الأدلّة التي عثرنا عليها بعد التتبع في الكتب المختلفة، والظاهر أنّ عمدة الأدلّة إطلاق الروايات الشامل للقليل والكثير والمفرط في الكثرة.
وعمدة الأجوبة - بعد التشكيك في العموم - ما ذهب إليه السيّد الوالد (رحمه اللّه) من الانصراف، فالقول بعدم الانفعال كما عليه السيدان الوالد والحكيم رحمهمااللّه ليس ببعيد.
القول الثاني: في عدم انفعال الاطراف البعيدة للمضاف الكثير
القول الثاني: عدم انفعال المضاف أكثر من المقدار الملاقي وما تسري إليه النجاسة عرفاً.
ويدلّ عليه أوّلاً: ما ذكره في المهذّب من أنَّ السراية غير متحققة أو غير معلومة التحقق. قال: «إنَّ سراية النجاسة في مثل الدبس والدهن المائع ونحوهما عن موضع الملاقاة إلى غيره مشكل؛ لقوة احتمال أن تكون الدسومة واللزوجة ونحوهما حافظة للنجاسة في موضع الملاقاة فقط»(1)
وهو يشمل القليل أيضا.
ولكنه محل تأمل: فإن السراية لم تذكر موضوعاً في دليل من الأدلة، مضافاً إلى منافاة كلامه مع المنع الوارد في صحيحة زرارة وأمثالها من
ص: 235
--------------------------
قوله (عليه السلام) : «وإن كان ذائباً فلا تأكله»(1) ولذلك اضطر السيد إلى تأويلها بالتنزه مثلاً، ولا حاجة للتأويل بعد ظهورها في انفعال جميعه.
ثانياً: ماذكره السيّد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه من أنّ أدلّة الانفعال لا تشمل المضاف، قال(2) : «لأنّ دليل نجاسة المضاف بالملاقاة إن كان هو الإجماع فحيث إنّه دليل لبّي، يلزم أن نأخذ بقدره المتيقّن(3) على تقدير حجيته.
وإن كان هو التنظير بالمطلق ففيه: أن ذلك إنّما يفيد نجاسة الأقل من الكر المضاف كما هو حكم الممثل به، فيبقى الكر خالياً من هذا الدليل.
وإن كان هو الأخبار فهو ليست إلّا في الموارد التي يقطع بقلّتها، ولا أقل من الشك، فأصالة عدم النجاسة إلّا في المقدار الملاقي وما تسري إليه النجاسة محكمةٌ.
وإن كان القاعدة المغروسة في أذهان المتشرعة، ففيه: عدم معلومية
ص: 236
--------------------------
مغروسية النجاسة بأكثر من السراية في مثل هذه الموارد»(1).
فقد حصر أدلّة الانفعال في أربعة وأشكل على جميعها: فالإجماع لبّي والتنظير بالمطلق غير تام؛ لعدم انفعال الأكثر من الكر، والأخبار الواردة في القدر والخابية وشبهها يحتمل قلّتها إن لم يقطع بها، والارتكاز ممنوع الصغرى، فلا دليل على انفعال المضاف المفرط في الكثرة، فتجري فيه أصالة الطهارة أو استصحابها، وهو تام في الجملة(2).
القول الثالث: التفصيل في الماء المضاف بين أن يكون قليلاً فينفعل، أو كثيراً شرعاً بمقدار الكر، فما زاد فلا ينفعل مطلقاً إلّا مع التغيّر. فوِزان المضاف وزان المطلق، مال إليه بعض المعاصرين(3)
في بحثه، واختاره آخر منهم. وتدل عليه روايتان:
الرواية الأولى: الصحيحة المروية عن محمّد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري - أحمد بن ادريس - عن محمّد بن عبد الجبار، عن محمّد بن
ص: 237
--------------------------
اسماعيل - ابن بزيع بقرينة الراوي عنه - عن علي بن نعمان، عن سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الفأرة والكلب يقع في السمن والزيت ثم يخرج منه حياً. قال: «لا بأس بأكله»(1)
وجه الاستدلال: كونها مطلقة تشمل القليل والكر، إلّا أن الأوّل خرج بالأدلّة الاُخرى من إجماع أو ضرورة أو غيرهما فيبقى الثاني، هذا أولاً.
وثانياً: يُقيّد الإطلاق فيها بالرواية الثانية الآتية؛ حيث دلّت على التفصيل بين القليل والكثير.
ويرد على الاستدلال بها اُمور:
الأمر الأوّل : لاوجود لكلمة «الكلب» في رواية التهذيب(2) المروية باسناده الصحيح عن الحسين بن سعيد عن علي بن نعمان عن سعيد الاعرج، فالإمام في ذكر حكم الفأرة الحيّة الخارجة عن السمن والزيت، وهي طاهرة.
ولكن فيه أوّلاً: إنّه مع دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة - وهما أصلان عقلائيان يجريان في الكلام - تقدم أصالة عدم الزيادة؛ لكون الزيادة مؤونة زائدة، فإنّ الغفلة والسهو عن كتابة الكلمة من
ص: 238
--------------------------
الشيخ أولى عقلائياً من إضافة الكليني لها(1).
هذا، مضافاً إلى عدم المانع من وجود روايتين رواهما سعيد الاعرج وعدم اتحادهما وإن بَعُدَ ذلك.
وثانياً: أنّه من الثابت عند أهل الفن كون الكليني أضبط من الشيخ، فمع تعارض نقليهما يقدم عليه، فقد صرف على الكافي عشرين عاماً من عمره ولم يُعرف عنه مؤلفات كثيرة، ولعلّ الشيخ صرف على التهذيب ستة أشهر من عمره فقط لو قسمنا مجموع مؤلفاته - البالغة مئات من كتب وموسوعات - على حياته، والتهذيب شرح كتاب المقنعة للمفيد، وهو أوّل مُؤَلَّف عنه وكان عمره يناهز الخمسة والعشرين عاماً، كتب جزءً منه في حياة المفيد وجزءً منه بعد وفاته. كما ان له في كُلَّ علم مغرفة أراد حفظ تراث الشيعة أمام تحدّي العامّة. والمنقول: إنَّ السيد البروجردي بعد أن كان يورد على الشيخ اشكالاً كان يعتذر له بأنّي قد صَرَفت على هذا البحث شهراً - مثلاً - والشيخ لم يصرف عليه إلادقيقتان! وليس اشكالي تقليلاً لمقام الشيخ (رحمه اللّه) .
ص: 239
--------------------------
وذكر صاحب الحدائق في مقام التعارض بين نقل الشيخ ونقل الصدوق عبارة لاتخلو من شدّةٍ تجاه كتب الشيخ وبالخصوص تهذيبه، قال ما لفظه: «والظاهر أنّ هذه الزيادة سقطت من قلم الشيخ كما لا يخفى على من له أنس بطريقته سيما في التهذيب، وما وقع له فيه من التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان في الاسانيد والمتون، بحيث إنّه قل ما يخلو حديث من ذلك في متنه أو سنده كما هو ظاهر للممارس»(1)
الأمر الثاني: إنّ صحيحة الأعرج تحتمل احتمالات أربعة:
أن لا يكون الكلب نجساً فلا ينجس السمن والزيت. أو أن يكون نجساً لكنه غير منجِّس. أو أنّه نجس مُنجِّس إلّا أنّه لاينجس الكر فصاعداً. أو أنّه نجس منجس لكن لاينجس المضاف المفرط في الكثرة.
أمَّا الأوّل : فتعارضه الروايات المتواترة الدالة على نجاسة الكلب كصحيحة أبي العبّاس: «..رجس نجس»(2) وموثقة ابن أبي يعفور: «..فإنَّ اللّه لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأنَّ الناصب لنا أهل البيت لأنّجس منه»(3).
ومع فرض التعارض هناك مرجحان للنجاسة: الشهرة ومخالفة بعض
ص: 240
--------------------------
العامّة(1).
وأمّا الثاني: ففيه أوّلاً: الإعراض، فإن المعروف نجاسة سؤر نجس العين، قال في العروة: «سؤر نجس العين كالكلب والخنزير نجس»(2) ولم يعلق عليه أحد ممن رأيت.
هذا مضافاً إلى الإجماع المنقول عن جماعة كما في مفتاح الكرامة(3).
ثانياً: تقييد الصحيحة بعدم انفعال الجامد دون المائع، قال في الوسائل: يحمل «على مالو كان ما وقع فيه جامداً»(4) ووجه الحمل صناعة الإطلاق والتقييد؛ فإن هذه الرواية مطلقة تشمل المائع والجامد، وقد فصلت بينهما
ص: 241
--------------------------
روايات اُخرى كصحيحة الحلبي: «في الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت..»(1) مع ظهور أنجسية الكلب من الفأرة الميتة(2).
وأمّا الاحتمالان الثالث والرابع، فالجمع فيهما تبرعي لا شاهد عليه، نعم الرواية الآتية تفصل بين الجرّة والأكثر، فإطلاق هذه يُقيد بالمفصّلة إن تمت.
الرواية الثانية(3) : صحيحة علي بن جعفر قال: «وسألته عن فأرة أو كلب شَرِبا من زيت أو سمن، قال (عليه السلام) : إن كان جَرَّة أو نحوها فلا تأكله، ولكن ينتفع به لسراج أو نحوه، وإن كان أكثر من ذلك فلا بأس بأكله، إلّا أن يكون صاحبه موسراً يحتمل أن يهريقه فلا ينتفع به في شيء»(4) فصلت بين الجرّة والأكثر والموسِر وغيره، وقد استدل بها على عدم انفعال الكر من المضاف وانفعال الأقل منه.
ص: 242
--------------------------
ولكن يرد عليها إيرادات:
الأوّل: أنّها متضمنة للنهي عن سؤر الفأرة باسناد واحد مسند للكلب، والنهي إمّا أن يحمل على الكراهة أو الحرمة أو الجامع.
أمّا الأوّل: فلا ينفع التفصيل، بل يدلّ على عدم انفعال الأقل من الكر.
وأمّا الثاني: فهو خلاف المبنى؛ لعدم حرمة سؤر الفأرة.
وأمّا الحمل على الجامع - وهو مطلق المرجوحية -، فإن كان على نحو المنع من النقيض: فالاشكال الثاني، أو لم يكن كذلك: فالأوّل، وإن قيل بالاعم: فلا ينفع التفصيل.
هذا، ولكن يرد عليه:
أوّلاً: بأنّه لابأس بكون الاسناد واحداً ف«لا تأكله» مستعمل في معنيين: الحرمة والكراهة.
إن قلت: يستحيل استعمال اللفظ الواحد في معنيين، إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين فيرى الواحد اثنين.
قلت: ليس بمحال، بل هو واقع كما في: «ويستفيدون من نعمائه عيناً». وتفصيله في مباحث الألفاظ(1).
ص: 243
--------------------------
إن قلت: سلّمنا الإمكان إلّا أنّه خلاف الظاهر.
قلت: نسلم ذلك إلّا مع القرينة الواردة في المقام من الروايات الاُخرى والإجماع وما قرّر في بحث الاسئار.
ثانياً: سقوط بعض الرواية للإجمال أو نحوه(1) كما في قوله (عليه السلام) «إن
ص: 244
--------------------------
كان جرة أو نحوها فلا تأكله»(1) لايلازم سقوط جميعها عن الاعتبار، فيستدل لعدم الانفعال في سؤر الكلب كالفأرة بقوله (عليه السلام) : «وإن كان أكثر من ذلك فلا بأس بأكله».
وأمّا الأقل فلا اشكال في انفعاله بسؤر الكلب للإجماع أو غيره.
ثالثاً: النهي في: «لا تأكله». يُستعمل للزَّجر، فإن تَعَقَّبَهُ الإذن دَلَّ على الكراهة كما في شرب سؤر الفأرة(2). وإن لم يتعقبها ذلك ينتزع منه الحرمة كما في شرب سؤر الكلب.
رابعاً: الرواية دلت على الحرمة، و بعض المصاديق خرج بالإجماع(3).
الثاني: إنّها لاتدلّ على المدّعى من التفصيل بين الكر والقليل، بل دلت على التفصيل بين الجَرَّة فتنفعل والأكثر منها فلا ينفعل، مضافاً إلى التفصيل بين الموسر وغيره الوارد فيها أيضا.
وقد أجاب عنه بعض المعاصرين: بأنّ الجرة على درجات متفاوتة من
ص: 245
--------------------------
السعة، ففي صحيح علي بن جعفر: «سألته عن جَرَّة ماء فيها ألف رطل»(1)، وفي موثقة سعيد الاعرج: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الجَرَّة تسعمائة رطل من الماء، يقع فيها أوقية من دم، أشرب منه وأتوضأ؟ قال (عليه السلام) لا»(2) فالجرة قد تحتوي ألف رطل أو تسعمائة لو قرئت اسم عدد ويحتمل كونها فعل أي [تَسَعُ مائة] فتكون الرواية مجملة.
ولكنه غريب؛ لإثباته تفاوت سعة الجرة والتحديدات المذكورة دون الكر فإنّه ألف ومأتا رطل بالعراقي(3)، فلا دليل على حمل الجرة على الكر.
هذا مضافاً إلى أن اللفظ إن وقع موضوعاً لحكم يكفي في صدقه كل مصاديقه المتعارفة، وذلك كما في أشبار الكر فيكتفى فيه بأصغر الأشبار المتعارفة، فقوله (عليه السلام) : «إن كان جرة ونحوها فلا تأكله، وإن كان أكثر من ذلك فلا بأس بأكله». يدلّ على عدم انفعال الأكثر من أصغر الجرّات المتعارفة.
ص: 246
--------------------------
الثالث: ماذكره العلّامة المجلسي (رحمه اللّه) قال: «ويمكن تخصيصه بالفأرة(1)» لكنه خلاف الظاهر.
الرابع: ما ذكره في الوسائل من قوله (قدس سره) : «أقول الرخصة هنا مخصوصة بالضرورة وهو ظاهر»(2) وفيه تأمل ظاهر؛ لعدم وجه للتفصيل إن كان الملاك الضرورة. إلّا أن يقال: إن التفصيل بين الموسر الذي يَحتَملُ أن يهريقه، وغيره الذي يتضرر من إراقته يدلّ على الضرورة العرفية فإنّهم يرون أنَّ غير الموسر لا يحتمل أن يهريق السَمن لأنّه يتضرر، أمّا الضرورة الشرعية فتشمل حتى الأقل من الجرَّة، فافهم(3).
الخامس: ما في الوسائل : «أو بالجامد بعد طرح النجس ويكون على وجه الاستحباب، والشرب والاهراق مجازاً»(4)
فتخصص الرواية بالجامد للروايات المفصلة بين المائع والجامد ثم تقيد بطرح النجس، وعدم الانتفاع بالبقية من باب الاستحباب.
ص: 247
--------------------------
وفيه: ما ذكره العلّامة المجلسي من أن حمله على الجامد بعيد جداً لا سيّما في الأخير(1) ويقصد به اللبن المذكور في بعض الروايات، اللّهم إلّا أن يحمل اللبن على «الروبة» وهو ما يسمى بالفارسية : «ماست».
السادس: الإعراض المحقق عنها، فتسقط عن الاعتبار، بل إن القول بانفعال الأقل من الجرَّة دون الأكثر منها من العجايب في أذهان المتشرعة.
ولايخفى أن الإعراض لا يتمّ في جزئي أفتى الفقهاء بخلافه في كُلّيه، فالفتوى بنجاسة سؤر الكلب بقول مطلق، لا يكفي في القول بالإعراض عن جزئي لم يتعرضوا له وهو السؤر الموجود في الجرّة(2).
نعم قد يفصل بين عدم كون الرواية - المتناولة لحكم جزئي المخالفة للقاعدة الكلية - في متناول أيديهم فلا يثبت الإعراض، وبين ما لو كانت في متناول ايديهم ومع ذلك اطلقوا القاعدة الكلّية بلا استثناء، فإنّه ظاهر في ثبوت الإعراض عن مؤدّاها.
هذا، والظاهر أن ما نحن فيه من النوع الثاني؛ فإن الرواية مذكورة في كتاب علي بن جعفر(3) وقرب الاسناد(4) ولم يفت أحد بها مطلقاً - كما بحثنا
ص: 248
--------------------------
عنها في الكتب الفقهية والمجاميع - ولم يتعرض لها إلّا ثلاثة:
1: صاحب الوسائل(1) ولم يعمل بمؤداها بل أوّلها إمّا بالضرورة أو بالجامد أو بالاستحباب.
2: العلّامة المجلسي(2) وقد أوّلها بقوله: ويمكن تخصيصه بالفأرة. وقال: وأمّا تجويز الاكل مع كثرة الدهن فلم أر قائلاً به في الكلب.
3: المحقق الخونساري(3) وقال إنّه خبر شاذ. وأمّا الآملي وبعض المعاصرين فقد حملوها على الكر والقليل، وهو يدلّ على طرحها ايضاً.
السابع: حملها على التقية لفتوى مالك بطهارة الكلب الحي.
ولكنه واضح الاندفاع؛ فإنّ الترجيح بالجهة فرع التعارض ولا تعارض فيما نحن فيه، فإن النسبة بين هذه الرواية وغيرها الدالة على انفعال المضاف هي العموم المطلق فَتُخصصها، ولا يطرح الخاص الموافق للعامة؛ لعدم التعارض بين العام والخاص، هذا اولاً.
وأمّا ثانياً: فإن المشهور بين العامة القول بنجاسة الكلب، ولم ينقل القول بطهارته إلّا عن مالك(4) ظاهراً، فلم تتفق كلمتهم على الطهارة، فَلِمَ لا يقال بكون المطلقات الموافقة لأكثرهم هي للتقية؟ بل ينبغي البحث والتحقيق
ص: 249
--------------------------
التاريخي في التقية وملاحظة الفقه الحاكم في كل زمان فإنّه الذي يُتَّقى منه؛ وذلك لترويج بعض المذاهب من قبل الحكومات الظالمة. فلا يصار إلى القول بالتقية بصرف موافقة الرواية للعامة(1)، وهذا ما يحتاج إلى بحث تاريخي معاصر لزمن كل إمام عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وثالثاً: إن التفصيل المذكور في الرواية يأبى الحمل على التقية، فإنّه يدلّ على نجاسة الكلب لا طهارته، نعم إنَّ النجاسة مُزاحمة بالمانع في بعض المراتب وهو فوق الجرَّة كما هو الأمر في الدم فإن التفصيل بنجاسة ملاقيه القليل دون الكثير يدلّ على نجاسته، فالإيراد السابع محل تأمل.
الثامن: إن هذه الصحيحة معارضة للروايات الدالة على اختصاص الطهورية بالماء المطلق المفرّعة عليه بعدم تنجسه إلّا بالتغيّر، كقوله (عليه السلام) : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته»(2).
ويرد عليه أوّلاً: ما ذكره في التنقيح في موضع آخر، قال: «إنها ضعيفة
ص: 250
--------------------------
الاسناد جميعاً ومروية من طرق العامة ولم يرد منها شيء من طرقنا»(1).
وفيه: ماذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في بحث انفعال القليل من ورود مجموعة من القرائن الدالة على اعتبارها، مضافاً إلى دعوى بعض الفقهاء استفاضتها أو تواترها أو كونها متفق على روايتها(2).
ثانياً: لم يظهر منها الاختصاص، والامتنان لا ينافيه، وإثبات شيء لا ينفي ما عداه، فالصحيحة دالة على أنّ السمن الكثير كالمطلق لا ينجسه شيء إلّا مع التغيّر.
ثالثاً: لا نسلم أن الطهور بمعنى شديد الطهارة ليصار الى اشتراك السمن مع الماءِ في عدم الانفعال، بل هو اسم آلة بمعنى المطهر وهذه الميزة مختصة بالمطلق حيث خلقه اللّه مطهّراً، فلا يشمل السمن والعسل.
لايقال: إن كونه بمعنى اسم الآلة ينافي التفريع المذكور ب- «لاينجسه شيء».
فإنّه يقال: لا نسلّم بكونه تفريعاً بل هو خبر ثان، قال ابن مالك:
واخبروا باثنين أو بأكثرا***عن واحدٍ كهم سُراة شُعرا
فلا تفريع بل الرواية دلّت أوّلاً: على أنّ اللّه خلق الماء طهوراً أي مطهّراً. وثانياً: على أنّ الماء لا ينجسه شيء إلّا ما غيّر..، وليس ما نحن فيه من قبيل
ص: 251
--------------------------
زيد شاعرٌ مُجيد، أي مجيد في شعره. اللّهم إلّا أن يُدعى أن الظاهر هو التفريع، فمعنى الطهور شديد الطهورية(1) لاكونه مطهّراً.
التاسع: ماذكره المحقق الخونساري من أنّها غير نقية السند(2).
وفيه تأمل؛ وذلك لأنّ للرواية طريقين لا اشكال في ثانيهما.
أما الطريق الأوّل: ما نقله في الوسائل(3) بطريق صحيح الى عبد اللّه بن جعفر الحميري في قرب الاسناد، عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) .
إلّا أن الاشكال في عبد اللّه بن الحسن لكونه مجهولاً.
وأمّا الطريق الثاني: ما فيه أيضاً(4) بطريق صحيح عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) . ولا اشكال في هذا السند.
العاشر: إن الرواية تدلّ على طهارة الكل فتطرح لذلك.
وفيه نظر: فإنّها دالة على طهارة الملاقى لا الملاقي، بل دَلَّت على عكس ماذكره، فإنّها تثبت إقتضاء التنجيس في الكلب؛ حيث منعت عن أكل ما في الجرة ونحوها، وكون الملاقى الأكثر منها مانع من الانفعال.
ص: 252
--------------------------
فتحصل: أنَّ العمدة من الاشكالات هو الاشكال الثاني والسادس، وبهما يسقط القول بالتفصيل بين الجرة والأكثر منها.
تنبيه: إن الثمرة بين القول الثاني والقولين الثالث والرابع(1) تظهر:
أوّلاً: في عدم انفعال الكر من المضاف على الثالث، وعدم انفعال الأكثر من الجرّة على الرابع، وانفعال الكر من المضاف على الثاني.
ثانياً: في عدم انفعال أي جزء من الملاقى على القولين الثالث والرابع، وانفعاله وما جاوره على الثاني. ولاخلاف في هذين الفرقين.
ثالثاً: في طريقة تطهير المضاف القليل، فإنّه على القول الثالث يطهر باستهلاكه في الكر المضاف.
وأمّا على القول الثاني فإن طهارته مبنية على أن المتنجّس بالواسطة لا يُنَجِّس، فمثلاً: لو ألقى كوب من عصير برتقال متنجّس في بحر نفط، فإنّه ينجس بمقدار مائة كوب من النفط؛ لكونه المقدار الملاقي لعصير البرتقال، ولكنه لا ينجس الأبعد - أي الملاقي للمائة - لكونه ملاقٍ للمتنجّس بالواسطة فلا ينفعل، وعليه فلو خُلِط المجموع فإنّه يطهر، هذا.
ص: 253
--------------------------
ولكن الثمرة الثالثة لا تخلو من تأمل؛ وذلك لوجود الفرق بين الاستهلاك وتفرق الأجزاء فإنَّ لنا مفاهيم ثلاثة:
الأوّل: الاستحالة وهي: زوال الصورة النوعية وحدوث صورة نوعية اُخرى كالكلب المتبدل الى ملح.
الثاني: الاستهلاك وهو: انعدام المهية عرفاً(1)، كقطرة دم تلقى في بحر.
الثالث: تفرق الأجزاء بالإمتزاج وهو: خلط المهية مع مهية اُخرى(2)، كمثقال من لحم خنزير مثروم يوضع في رطلٍ من حم غنم مثروم(3).
ص: 254
ص: 255
--------------------------
الماء المضاف من القسم الثالث حيث لم يستهلك بل تفرقت أجزائه فلا يطهر، وعليه فالثمرة الثالثة محل اشكال.
ولبيان الفرق بين الاستهلاك وتفرق الاجزاءِ نقول إنّ المحمول:
تارة:: يكون قائماً ومحمولاً على المادة، يعني موضوعه المادة، ففي هذه الحالة لا يؤثر زوال الصورة النوعية أو زوال الأوصاف في انتفاء المحمول؛ وذلك لأنّ المادّة محفوظة في الصورتين: حالة وجود الصورة النوعية الأولى، وحالة وجود الصورة النوعية الثانية، أو حالة اتصاف المادّة بأوصاف وحالة اتصافها بأوصاف اُخرى(1).
واُخرى: يكون محمولاً على الصورة النوعية، فإن تبدلت إلى صورة نوعية
ص: 256
--------------------------
ثانية ينتفي المحمول لانتفاء موضوعه، وذلك مثل النجاسة في الدم حيث إنّها محمولة على الصورة النوعية وهي الدموية، فلو وقعت قطرة دم في حوض ماء، تضمحل تلك الصورة النوعية ويستهلك الدم، ومع زوال الموضوع لا يبقى المحمول، فللمكلف أن يشرب ماء الحوض كلّه ولم يعص الأمر باجتناب الدم فإنّه لم يشربه؛ وذلك لأنّ الألفاظ ملقاة إلى العرف(1)، ومع انعدام الصورة النوعية لا وجود للدم عرفاً. و قد قيل في بيان أن حقيقة الشيء بصورته النوعية:
وذو قوامٍ من معانٍ بقيا***لأنّ ذا الفصل لها تضمنّا
ما دام فصله الأخير وُقيا***فهي وإن تبدلت ذي عُيّنا
نظيرهُ(2) ما يذكر في كفاية التطهير مع بقاء اللون، فإن اللون عبارة عن ذرات من الدم بالنظر الدِّقي، إلّا أن العرف لا يرى ذلك ويَبتّ بعدم وجود الدم.
وهذا بخلاف القسم الأوّل ، فإن المحمول فيه قائم بالمادّة لا الصورة النوعية ولا بالأوصاف، وذلك مثل الملكية، فإنّه لايستهلك كوب ماء زيد لو اُلقي في حوض عمرو بل يمتزج ويختلط، فإن الملكية تحمل على المادّة وهي موجودة في هذا الحوض، بخلاف الاستهلاك فإنّه الانعدام ولا
ص: 257
--------------------------
معنى للملكية معه.
وكذلك الأمر في الحنطة، فإن المشتري يملك الحقيقة الخارجية وهي المادّة لا الحنطة بصورتها فقط، ولا تزول ملكيتها لو طحنها غاصب ولا يمكن تملكها إلّا برضى صاحبها.
قال المصنّف في وضوء العروة ما لفظه: «إذا وقع قليل من الماء المغصوب في حوض مباح، فإن أمكن ردُّه إلى مالكه وكان قابلاً لذلك لم يجز التصرف في ذلك الحوض، وإن لم يمكن رَدُّه يمكن أن يقال بجواز التصرف فيه؛ لأنّ المغصوب محسوب تالفاً، لكنه مشكل من دون رضى مالكه»(1)، وقد اختار مجموعة اشتراكهما في الحوض(2) فالملكية ليست قائمة بالصورة النوعية ولا بالأوصاف بل بالمادّة ولازالت موجودة ممزوجة؛ وذلك لأنّ ذرات الماء لم تنعدم. وهذا بخلاف الكلب المتبدل إلى ملح فإنّه يجوز أكله؛ لانّتفاء الصورة النوعية وإن اشتركت الهيولا الثانية مع الهيولا الأولى والنجاسة موضوعها الصورة لا المادة.
ثم إنّه لو تم ما ذكر نأتي إلى ما نحن فيه على القول بعدم انفعال الكر من المضاف:
فإنّه لا يتحقق الاستهلاك لو اُلقي كوب مضاف منفعل كماء البرتقال -
ص: 258
--------------------------
مثلاً - في كر منه، بل المتحقق الإمتزاج؛ وذلك لأنّ الانفعال قائم بالماء المضاف الذي لا زال موجوداً لا بالصورة البرتقالية، والحال أنَّ ما في الكوب لم ينعدم بل تفرقت أجزائه، فلو بُدّل الكوب من ماء البرتقال بطرق علمية إلى ماء رمان لا يطهر لوحدة المادّة وهذا بخلاف الدم، فإن المحمول قائم بالصورة النوعية الدموية.
وممّا يدلّ على أنَّ الانفعال قائم بالمادّة لزوم اجتناب الملاقي، والمادّة هي الملاقية لا الصورة، ولا زالت بعد تبدل الصورة موجودة. نعم لو تحول ماء البرتقال إلى بخار، فإن المادّة قد تغيّرت ويطهر للاستحالة(1).
ثم إن تم ما ذكر من الفرق بين الاستهلاك والإمتزاج، تصبح الثمرة الثالثة محل تأمل، وعدم القبول يستلزم الالتزام بتوالي يبعد الالتزام بها:
ص: 259
نعم إذا كان جارياً من العالي إلى السافل(1) ولاقى سافله النجاسة، لاينجس العالي منه كما إذا صب الجُلاّب من ابريق على يد كافر، فلا
--------------------------
منها: جواز أكل جميع المحرمات إن خلطناها في حجم أكبر من طاهر(2).
ومنها: عدم جواز مطالبة مَن اُلقي كوب من مائه في حوض الآخر، لاستهلاكه وانعدامه عرفاً.
فينبغي التأمل في أطراف المسألة لترتب آثار كثيرة عليها، فالمنتجات الحديثة كالجلاتين - الجلي - البقري القادم من البلاد الأجنبية قيل بجواز أكلها للاستهلاك، إلّا أن السؤال: أنّه مستهلك أم متفرقة أجزائه؟
والحاصل: إن الحكم في النجاسات محمول على الصورة النوعية، وفي المتنجّسات محمول على المادّة لمكان الملاقي، فتم الفرق واللّه العالم.
ص: 260
ينجس ما في الابريق وإن كان متصلاً بما في يده[1].
--------------------------
[1] وللمسألة نظير يأتي في المسألة الخامسة من: «فصل الراكد بلا مادة». يقول فيها المصنف: «نعم، لو كان جارياً من الأعلى إلى الأسفل لا ينجس العالي بملاقاة السافل، من غير فرق بين العلو التسنيمي والتسريحي»(1) والفرق بينهما: أنَّ البحث فيما نحن فيه إنّما هو في المضاف، وفيما سيأتي في الماء المطلق إلّا أن الملاك فيهما واحد، فما يلتزم هنا من الحكم يسري هناك أيضاً.
ثم إنّه قد يستدل على ماذكره بأدلة:
الدليل الأوّل : الإجماع المنقول في المقام.
وفيه أوّلاً: عدم قبول الصغرى، فقد قيل باختصاصه بالماء المطلق، فلا يجري في المضاف وسائر المائعات كالنفط - الداخل في المضاف ملاكاً لا موضوعاً -.
ثانياً: سلّمنا، إلّا أنّه محتمل الإستناد إلى ما سيأتي من الأدلة، ومحتمل الإستناد لا يعلم كونه إجماعاً تعبدياً، فليس بحجة على بعض المباني(2).
ثالثاً: سلّمنا الصغرى والكبرى بحجية محتمل الإستناد، إلّا أنّه دليل لبي لا يفيد الإطلاق في الحكم(3)، ولا يثبت أن مطلق العالي لا ينجس بملاقاة
ص: 261
--------------------------
السافل، بل غاية ما يثبته عدم انفعال ما في الابريق دون عمود الماء - الجاري بين اليد والابريق - الملامس لملامس بدن الكافر، مع أنّ كلام المصنّف مطلق.
الدليل الثاني: ما في التنقيح وحاصله عدم الوحدة العرفية بين السافل والعالي، قال ما حاصله: «انفعال المضاف يختص بما إذا عُدّ المضاف باسفله وأعلاه شيئاً واحداً عرفاً، وأمّا اذاكان متعدداً - كما إذا جرى المضاف من طرف إلى طرف بقوة ودفع ولاقى أسفله نجساً - فلا نحكم بنجاسة الطرف الأعلى منه؛ لأنّ السافل مغاير لعاليه عرفاً»(1).
ولكن يرد عليه - مع الجمود على عبارته الدالة على اعتبار الوحدة العرفية المفقودة في المقام، وعدم ارجاعها إلى دليل آخر - :
أوّلاً: النقض بالكر في حفر بينها سواقي، فإنّه معتصم مع عدم الوحدة العرفية.
قال في العروة: «سواءكان مجتمعاً أو متفرقاً مع اتصالها بالسواقي، فلو كان هناك حفر متعددة فيها الماء واتصلت بالسواقي ولم يكن المجموع كراً، إذا لاقى النجس واحدة منها، تنجس الجميع، وإن كان بقدر الكر لاينجس»(2). وقد علق عليه في التنقيح بقوله: «وذلك لأنّ الإتّصال مساوقٍ
ص: 262
--------------------------
للوحدة، وهي المعيار في عدم انفعال الماء إذا بلغ قدر كر، فما عن صاحب المعالم من عدم الإعتصام ممّا لم نقف له على وجه محصّل»(1) فكيف جعل الإتّصال مساوقاً للوحدة في الكر دون مانحن فيه؟ وهذا ممّا لم نقف له على وجه محصّل.
ثانياً: النقض بالراكد دون الكر في انبوب عمودي طويل جداً - كمائة متر - إن لاقى اسفله النجاسة ينفعل العالي منه كما في التنقيح ولا وحدة عرفية فيه(2).
ثالثاً: لا وجود للوحدة العرفية ولا للتعدد العرفي في روايات المقام- حسب استقرائنا الناقص- فلا ينبغي أن تجعل ملاكاً ليدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، وبصورة عامّة ينبغي الوقوف على الألفاظ الواردة في الروايات وعدم استبدالها بألفاظ اُخرى؛ فإنّ لكل كلمة ظلالاً معيناً يختص بها ويختلف بإبدالها، ففي حديث «لا تعاد» مثلاً أخذت كلمة الإعادة فينبغي الوقوف عليها.
ص: 263
--------------------------
رابعاً: إن ما ذكر متكفّل بحل إحدى المشكلتين دون الاُخرى.
بيانه أنَّ في المقام مشكلتين: الأولى: ملاقاة النجس. الثانية: ملاقاة المتنجّس بالنجس. فما في الابريق من ماء الجلاب وإن لم يلاق يد الكافر للتعدد العرفي إلّا أنّ ما لاقى يد الكافر - وهو السطح الأسفل من الماءِ - ملاق للسطح الأعلى منه فينفعل بالملاقاة، والسطح الأعلى منه - وهو ملامسُ ملامسِ يد الكافر - ملاقٍ للسطح الأعلى منه فينفعل وهكذا إلى أن يصل إلى مافي الابريق. وقد ادّعي الإجماع على أن المتنجّس ينجّس إلى مالا نهاية، فلايمكن حل المشكلة الثانية بالقول بالتعدد العرفي(1) إلّا أن تكون الوحدة طريقاً إلى دليل سيأتي.
الدليل الثالث: ما اختاره غير واحد من المتأخرين والسيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه مكرراً، من أنّ ملاك التنجيس هو السراية وهي مفقودة في المقام(2) . وفي شرح العروة: «مقتضى الدليل أنّه ينجس بالنجس ما يرى العرف فيه السراية من القذارات العرفية»(3)
.
وهو قوي إلّا أنّه محل تأمل من وجهين:
الأوّل: لم نعثر على لفظ السراية في الأدلّة الشرعية على ما رأينا، وسوق
ص: 264
--------------------------
الكلام فيه كسوقه في سابقه(1).
الثاني: إن السراية على احتمال ليست بمقصوده قطعاً، وعلى آخرتدلّ على نقيض المطلب، وعلى ثالث بينه وبين المدّعى العموم من وجه، ولا ينهض العام من وجه دليلاً على العام من وجه.
وبيان ذلك يتمّ بذكر الاحتمالات الثلاثة لمعرفة المراد من السراية؛ وذلك لأنّه إمّا أن يراد من السراية السراية الحقيقية أو الحكمية أو العرفية.
أمَّا الاحتمال الأوّل: فإن السراية الحقيقية عبارة عن سراية النجس في سائر الأجزاء حقيقة. وبعبارة اُخرى: دخول الجزء الملاقي الحامل للقذارة في جميع الأبعاض.
ولكنه غير مراد قطعاً لعدم حصوله وجداناً، فإن قطرة الدم لاتنتشر لتلاقي كل جزء من أجزاء الماء دون الكر، ومعنى السراية الحقيقية الانتشار. هذا مضافاً إلى أن لازمه حصول النجاسة تدريجاً، فإن الطفرة كما لا تعقل في الزمان لا تعقل في المكان.
وأمّا الاحتمال الثاني: فإن السراية الحكمية عبارة عن انفعال الجزء الملاقي بالنجس، وأمّا الجزء المتصل بالجزء الملاقي فانفعاله لأجل ملاقاته المتنجّس وهكذا، فنجاسة كل جزء مسببة عن نجاسة الجزء السابق عليه
ص: 265
--------------------------
باتصاله به، ولكن لا يتوقّف تنجس الأجزاء المتأخرة على تخلل زمان بل التأخر رتبي، وقد ادّعي في الحِكمَة استحالة انفكاك العلّة عن معلولها زماناً، والانفعال من باب العلّية والمعلولية، وفي الفاعلية التقدم والتأخر رتبي لازماني(1)، ومن المعلوم أن ملاك التأخر الرتبي تخلل الفاء مثل: تَحَرَّكَت اليد فتحرك المفتاح.
ولكنه ينتهي إلى نقيض المدّعى وهو نجاسة العالي بملاقاة السافل لوجود السراية الحكمية، حيث نقول: انفعل الجزء الأوّل فانفعل الجزء الثاني فانفعل الجزء الثالث وهكذا، ويستحيل من الناحية الحكمية تأخر الجزء الثاني.
هذا مضافاً إلى استلزامه القول بنجاسة الجوامد الرطبة كلّها لما ذكر من الملاك فإن وقع الدم على جزء من البطيخ مثلاً تنجس كلّه(2).
وأمّا الاحتمال الثالث: أي السراية العرفية، فإنّها قد لاتوجد في الساكن وقد توجد في المتحرك، فبين الدليل والمطلوب عموم وخصوص من وجه ولا ينهض العام من وجه دليلاً على مثله. فالانبوب العمودي الطويل المليء بماء ساكن دون الكر، إن لاقت اسفله النجاسة لا ينفعل أعلاه لعدم السراية العرفية، إلّا أنّه خلاف مبناهم من الانفعال مع الركود.
ص: 266
--------------------------
وأمّا الماء المتحرك النازل من منحدر بمقدار أُنملتين، إن لاقى أسفله الذباب مثلاً أو السم، فإنّه يسري إلى الأعلى عرفاً حيث يستقذره للسراية مع أنّه متحرك، إلّا أنّ مبناهم عدم انفعال الجاري، وقد جعل الحائري الملاك هو السراية، قال: «ما يرى العرف فيه السراية من القذارات العرفية»(1) أي إنَّ وزان السراية الشرعية هي وزان السراية العرفية(2).
الدليل الرابع: إن القول بانفعال العالي بملاقاة السافل يستلزم عدم إمكان التطهير بالمطلق القليل لوحدة الملاك، ومعه تُغلق باب التطهير بالقليل مع كثرة الحاجة إليه فيما مضى؛ لقلة المياه المعتصمة عندهم بل في هذه الازمنة أيضا، وهو يخالف الإجماع و ارتكاز المتشرعة وسيرتهم، بل الضرورة والرويات الواردة في التطهير بالماء القليل.
وما ذكرناه يجري في المضاف بضميمة إلغاء الخصوصية(3)، لعدم الفرق
ص: 267
--------------------------
عرفاً بين القليل المطلق وبين صب الجلاب على يد الكافر إن لم نقل بالأولويّة في عدم انفعال المضاف؛ لوجود كثافة فيه تمنع السراية.
الدليل الخامس: ما ذكره الفقيه الهمداني(1) وتبعه في الفقه(2) وحاصله على ما استفدناه من ظاهره: «أنَّ الأدلّة تكفلت أصل التنجيس ولم تتكفّل كيفية التنجيس، وبما أنّ الشارع لم يبيّن الكيفية فتكون موكولة إلى العرف، والعرف يُفرق بين الموارد:
أ) فلو اصابت قطرة دم ثوباً، يرى العرف تنجُّس تلك البقعة لا الثوب باكمله.
ب) ولو وقعت في ابريق، يرى العرف نجاسة ما في الابريق بأجمعه.
ج) ولو لاقت أسفل قليل جارٍ من جبل، لا يرى العرف نجاسته باجمع.
ص: 268
--------------------------
قال ما لفظه: «إذ لايستفاد من الأدلّة إلّا كون وصول النجس إلى الماء سبباً لنجاسة الماء في الجملة [أي: أصل التنجيس على نحو القضية المهملة مبيّن] إمّا كونه مقتضياً لنجاسة مجموع أجزائه أو بعضها أو خصوص الجزء الملاقي للنجس، فلايكاد يستفاد من شيء من هذه الأخبار بالنظر إلى مدلولها اللفظي من حيث هو؛ إذ لافرق من حيث اللفظ بين قولك: الثوب يتنجس بالبول، والماء يتنجَّس بالبول. إلّا أنّ بينهما فرقاً فيما يُتفاهم منهما عرفاً؛ حيث إنَّ كل جزء من أجزاء الثوب لجموده موضوع مستقل للانفعال بنظر العرف، وأمّا الجسم المائع فمجموع أجزائه موضوع واحد عرفاً، فلا يلاحظ كل جزء جزء بحياله معروضاً للانفعال، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن كيفية الانفعال أمرها موكول إلى ماهو المغروس في أذهان عرف المتشرعة؛ إذ ليس لنا في الأدلّة الشرعية ماكان مسوقاً لبيان كيفية التنجيس، فلابدّ من أن يُرجع في تشخيص الموضوع إلى مايفهمه العرف من الخطاب، إذا عرفت ذلك فنقول: إن أهل العرف لا يتعقلون سراية النجاسة إلى العالي ولا يفهمونها من الخطابات الشرعية»(1).
ولا يخفى اضطراب عبارته، إلّا أن ظاهر مجموعها ماذكرناه من تبيين الشارع لأصل الانفعال دون كيفيته وحدوده فمرجع ما اهمله الى العرف.
وللتأمل في كلامه مجال واسع، فإن الشارع قد لايبين موضوعاً أو شأناً
ص: 269
--------------------------
من شؤونه، وقد يبينه وشؤونه، إلّا أن انطباق الموضوع يختلف باختلاف الأفراد أو الابعاض، أو يقصر الدليل عن شمول بعض الأفراد أوالابعاض. فالاختلاف فيهما بلحاظ الانطباق لايستلزم إجمال الدليل أو اهماله. فالموضوع في قول المولى: «اغسل ما اصابته النجاسة» مبين شرعاً غير مبهم أو مجمل، إلّا أن انطباق الموضوع على المصاديق يختلف فإن غسل البشرة إنّما هو بصب الماء عليها والثوب بعصره.
والحاصل: أنّ اختلاف المفهوم بلحاظ الانطباق لا يعني الإهمال أو الإجمال، نعم وقع الاختلاف في الانطباق على المصاديق فقد ذهب المشهور في عدم الحاجة إلى العصر في الأجسام الصلبة؛ لانطباق المفهوم عليها دون غيرها لعدم الانطباق بدونه.
وعليه، فما ذهب إليه الفقيه الهمداني من اهمال الشارع أو إجماله على مايظهر من كلامه غير تام، قال: «إذ لايستفاد من الأدلّة إلّا كون وصول النجس إلى الماء سبباً لنجاسة الماء في الجملة». أي: وجود الاهمال في الدليل: «أما كونه مقتضياً لنجاسة مجموع اجزائه أو بعضها أو خصوص الجزء الملاقي للنجس». كالثوب للاخير والإناء للأوّل والعالي والسافل للوسط: «فلا يكاد يستفاد من شيء من هذه الأخبار». ثم قال: «إن كيفية الانفعال أمرها موكول إلى ماهو المغروس في أذهان عرف المتشرعة» (1).
ص: 270
--------------------------
والمدّعى فيما نحن فيه: عدم الإهمال والإجمال في قول الشارع(1): «ما أصابهُ»، فبالنسبة إلى الثوب العرف يطبقه على خصوص الجزء الملاقي، وليس هذا من الايكال إلى العرف بل تطبيق المفهوم على مصداقه، وذلك كأن يقول المولى: جئني بسبع، فإن تطبيق الكبرى على الصغرى بيد العرف فيرى هذا سَبُعاً أو ليس بسبع. و عليه يكون «ما اصابه»:
أ - في الثوب : خصوص تلك البقعة.
ب - وفي العالي والسافل : ما إليه الدفع لا ما منه الدفع، لعدم صدق ما اصابه عليه(2).
ج - وفي إناء الماء: جميع الماء.
مثال آخر: قال المولى: «الماء مطهّر». ولا غموض في الموضوع لوضوح مفهوم الماء، ولا في المحمول، فانتهت مهمة الشارع بيان الموضوع والمحمول فلا إجمال ولا اهمال، نعم التطبيق بيد العرف ليرى أن المياه الزاجية - مثلاً - من الماء أم لا.
ص: 271
--------------------------
والحاصل: أنّ المدّعى وضوح الموضوع والمحمول في قوله: «اصابه». والتطبيق عند العرف، وليس هذا من الايكال إليه.
نعم قد يقال بأن الخلاف لفظي فنعم الوفاق.
الدليل السادس وهو العمدة: عدم انطباق ملاك انفعال المضاف على المقام؛ وذلك لعدم شمول أدلّة الانفعال من الإجماع والتسالم والروايات والارتكاز لما نحن فيه فإنَّ:
أ) الإجماع لبّي لا يُعلم شموله لما منه الدفع وهو العالي.
ب) والتسالم مشكوك الصغرى؛ فإنّه لا تسالم على انفعال العالي بملاقاة السافل بل لعلّه على خلافه.
ج) والروايات لاتدل، فإن الألفاظ الواردة فيها:
إمّا «السؤر»: ولكن لا يطلق على العالي السؤر.
وإمّا «ما أصابه» كما في موثقة عمّار: «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء»(1) و لكن لايقال للدم الذي أصاب السافل إنّه أصاب العالي.
وإمّا «في» الدالة على الظرفية كما في قوله (عليه السلام) : «تقع في الطعام والشراب فتموت فيه»(2): ولكن العالي ليس ظرف موت الفأرة(3).
ص: 272
--------------------------
د) وارتكاز المتشرعة غير موجود في العالي.
والظاهر أنّ ما ذكر من الدوران مدار ألفاظ الدليل هو العمدة في المقام، ولم أرَ من أشار إليه إلّا ما يظهر من عبارة صاحب الجواهر قال ما لفظه: «ومن هنا يتجه احتمال أن يقال: إن السراية على خلاف الأصل، وتنجيس المائع كلّه بتنجيس طرف منه لعلّه للصدق عليه أنّه لاقى نجساً ولو لاقى بعض أجزائه، فما دل على نجاسته بمجرد الملاقاة يشمله.. فالتحقيق الرجوع إلى ماتقتضيه الأدلّة الشرعية فيتبعُ مضمومنها في الجامد والمائع والعالي والسافل وغيرهما، مع تحكيم أصل الطهارة فيما لايندرج تحتها» (1)
الدليل السابع: انصراف الأدلّة عن العالي بعد تسليم شمولها له.
الدليل الثامن: التسالم الفقهي فيمن تعرض لهذه المسألة على أن العالي لاينجس بملاقاة السافل، إلّا من صاحب المناهل.
الدليل التاسع: ارتكاز المتشرعة بعدم انفعال العالي.
الدليل العاشر: إنّ الانفعال إنّما هو لغلبة النجاسة وقاهريتها كما هو المفهوم من تعليل طهارة ماءِ الإستنجاء، ولا قاهرية ولا مقهورية في المقام. ففي رواية الأحول أنّه قال لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : «الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به؟ فقال (عليه السلام) : لابأس. فسكت (عليه السلام) فقال: أو تدري لم صار لابأس به؟ قلت: لا واللّه، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر»(2)
ص: 273
--------------------------
ولكن فيه اشكالان:
الأوّل: كونها مرسلة(1)،
فقد رواها الصدوق، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن اسماعيل بن بزيع، عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجلٍ، عن العيزاز، عن الاحول. اللّهم إلّا أن يقال بأن أصحاب الإجماع - ومنهم يونس - لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، ولكن المبنى غير مقبول.
الثاني: ضعف الدلالة، فإن الاستدلال مبني على أن الأكثرية أخذت طريقية إلى القاهرية وعدم المقهورية، فالماء الكثير لايكون مقهوراً بالنجاسة بخلاف المساوي أو الأقل، فالعالي لايقهر بملاقاة السافل. إلّا ان المشهور تعاملوا مع التعليل معاملة الحكمة لا العلّة، فقد افتوا بانفعال القليل وإن لم يتغيّر مع عدم القاهرية والمقهورية(2)، وتفصيل ذلك في بحث الماء القليل، فلا يمكن القول بعدم انفعال العالي لعدم المقهورية بالسافل؛ لكونه حكمة لاعلة فلا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.
ص: 274
--------------------------
فروع أربعة
ثم إنّه يبقى الكلام في تفريعات أربعة:
الأوّل: لافرق بين كون العلّو علواً في الهواء - كالماء الجاري من الميزاب على الأرض - أو علواً في الأرض - كالجبل - لوحدة الملاك المذكور.
الثاني: لافرق بين كون العلّو تسنيمياً - من سنام الابل: كالجدار - أو تسريحياً - ماله تدرج - لوحدة الملاك ايضاً(1).
الثالث: ذهب الكثير إلى عدم الفرق بين كون الجريان من العالي إلى السافل أو العكس كالنافورة، أو من اليمين إلى الشمال أو عكسه، قال: السيد ابو الحسن الاصفهاني: «الملاك التدافع بقوة مطلقاً ولو كان من الاسفل إلى الاعلى كالفوارة وشبهها فلا ينجس الاسفل». وذكر السيد عبد الهادي الشيرازي أنَّ «الملاك التدافع لا العلّو»، وقال المحقق الخوئي: «الملاك أن يكون الجريان عن دفع وقوة»، وكذلك السيد الگلبيگاني، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وأقاضياء العراقي، وآل ياسين، والسيد الوالد(2) رحمهم اللّه.
ص: 275
--------------------------
والذي يبدو للنظر أن الملاك شمول العناوين المذكورة في الأدلّة ك- «اصاب» و «فيه» فينفعل، ومع الشك في الشمول تجري أصالة عدم الانفعال فإنّ «كل شيء طاهر»(1).
الرابع: افتى الفقيه الهمداني بعدم انفعال ماء إناء مثقوب بثقب يخرج الماء منه بحدّة على سطح متنجّس كابريق في المرافق القديمة، قال: «إن ما في الابريق يبقى على طهارته بلا اشكال»(2) وقال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «فيه اشكال وإن كان الأقوى طهارة ما في الظرف»(3) لأنّ المناط في النجاسة على رأيه (رحمه اللّه) إمّا شهادة العرف بكونه معروضاً للنجاسة قال: «وجه عدم شهادة العرف بالنجاسة ليس إلّا عدم السراية»، أو دليل تعبدي، ولا يوجد شيء منهما في المقام.
وماذكر إنّما هو لإختلاف ملاك النجاسة: فيرى الفقيه الهمداني أن كيفية الانفعال موكولة إلى العرف. ويرى السيد الوالد أن السراية هي ملاك
ص: 276
2 مسألة: الماء المطلق لايخرج بالتصعيد عن إطلاقه [1]
--------------------------
النجاسة. إلّا أنّا نرى ضرورة الدوران مدار ألفاظ الرواية مثل:اصابه(1).
[1] في المسألة بحثان:
البحث الأوّل : في بقاء إطلاق المطلق بعد التصعيد. وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل : فيمايرتبط بعالم الثبوت، فنقول: الصور المتصورة في المقام ثلاثة:
الصورة الأولى: بقاء صدق الماء عليه عرفاً بعد التصعيد، ولاشك أنّه محكوم بالإطلاق، فإن العرف هو المرجع في صدق المطلق والمضاف.
الصورة الثانية: زوال الصدق العرفي بأن لا يصدق عليه الماء المطلق بعد التصعيد، ولاشك في خروجه عن الإطلاق ولحوق حكم الإضافة عليه(2).
والحاصل: أنّ الملاك الصدق العرفي بعد التصعيد، فما صدق عليه الماء فهو مطلق وإلّا فمضاف.
الصورة الثالثة: الشك في كونه مطلقاً أو مضافاً، فهل توجد حالة أوّلية
ص: 277
--------------------------
يرجع إليها عند الشك؟ وبعبارة اُخرى : ما هو الحكم لو شك في انقلاب مهيّة إلى اُخرى؟
قد يقال ببقاء المائية بتقرير: «أن الصورة الجسمية كانت متلبسة بالصورة النوعية المائية، ويُشكُّ في خلع تلك الصورة النوعية وتلبُّس الصورة الجسمية بصورة نوعية اُخرى، فمقتضى الاستصحاب بقاء الصورة النوعية المائية». نعم، ذلك متوقّف على وحدة موضوع القضيتين المتيقّنة والمشكوكة، أمّا مع تغاير الموضوع اوالشك(1) في الوحدة فلا مجرى للاستصحاب؛ لاختلال الركن الثالث من اركان الاستصحاب في الصورتين.
والحاصل: أنّه تارة يقطع ببقاء موضوع القضيتين المتيقّنة والمشكوكة عرفاً، واُخرى يقطع بالتغيير، وثالثة: يشك، ومن الثابت عدم جريان «لاتنقض» في الأخيرين.
فلو لمسنا برطوبة مسرية كلباً كان قد وقع في أرض مالحة لا يدرى أبقي على كلبيته ام تحول إلى ملح؟ نحكم بانفعال موضع اللمس، وذلك لأنّ الشك حاصل في تغيّر الصورة النوعية الكلبية الى الصورة النوعية الملحية مع ثبات الموضوع - أي المادّة الجسمية - ووحدته في القضيتين المتيقّنة
ص: 278
--------------------------
والمشكوكة، ولكن لا يعتنى بهذا الشك فيكون مقتضى «لاتنقض» بقاء الصورة النوعية الكلبية للمادّة الجسمية، واثره الشرعي النجاسة. ولذا قال المصنّف في بحث المطهرات: «إذا شك في الانقلاب بقي على النجاسة»(1) وقال: «ومع الشك في الاستحالة لا يحكم بالطهارة»(2) ويجري ماذكرناه في المقام ايضاً: فإنّ المادّة الجسمية كانت متلبسة بالصورة النوعية المائية والشك في فقدانها للمائية، فنستصحب كونها ماءً مطلقاً(3).
ص: 279
--------------------------
المطلب الثاني: فيمايرتبط بعالم الإثبات فنقول: لامصداق للصورتين الثانية والثالثة لأنّ المطلق لايخرج بالتصعيد عن إطلاقه، كما ذهب إليه المصنّف، وأيده في ذلك النائيني وآقا ضياء العراقي والاصفهاني والبروجردي، والشيخ عبد الكريم الحائري وابنه الشيخ مرتضى والسيد عبد الهادي الشيرازي، والخونساري والحكيم و الخوئي والمرعشي النجفي والقمي المشهدي والگلبايگاني.
وَوُجّهَ ذلك: بأن التصعيد «فكٌ لجُزئي الماء، فتتبدل الصورة النوعية من الماء إلى غازي العنصرين، ثم يتحدان مَرّة اُخرى بالتكثيف وتتكون صورة نوعية للماء، وتكثيف الغازين إن لم يُصاحب غازاً آخرينتج الماء المطلق»(1). إلّا أن السيد الوالد (رحمه اللّه) أشكل فيه قائلاً: «نعم لو فُرض زوال الصدق كأن صار له طعم و لون وخاصية جديدة - كما ربّما لا يبعد فيما يصعَّد مراراً - خرج عن الإطلاق ولحقه حكم الإضافة»(2) والأمر موكول إلى العرف.
ص: 280
--------------------------
البحث الثاني: في مطهّرية الماء المطلق المصعّد مع فرض بقاءه على الإطلاق.
وقد أشكل عليه (1): بأن الطهورية مختصة بماء المطر بمقتضى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(2) فإنّه يدلّ على الانحصار، ولو فرض عدم دلالته عليه كفى عدم ثبوت الوصف لغيره، وليس الماء المصعد بعد تبخيره وعودته إلى المائية ماءَ المطر، بل هو ماء جديد قد وُجد بعد انعدام الماء الأوّل إذ المفروض أنّه انقلب بخاراً، والبخار غير الماء عرفاً، فالحاصل منه مغاير للماء السابق.
ويرد عليه أوّلاً: النقض بالغصب، فالغاصب للماء إن صَعّده وعاد البخار ماءً فهل يحق لثالث أن يتملكه لكونه ماء جديداً وُجدَ بعد انعدام الماء الأوّل(3)؟
وثانياً: الملاك في المغايرة والاتحاد هو النظر العرفي، ولاشك أن العرف يحكم بالاتحاد، فيترتّب عليه جميع الأحكام. والحاصل: إن الماء المطلق قبل التبخير وبعده شيء واحد عرفاً.
ص: 281
نعم لو مزج معه غيره وصُعِّدَ كماء الورد يصير مضافاً(1)[1]
--------------------------
إن قلت: إن كان عينه فَلِمَ الفتوى بطهارة المتنجّسات بالتصعيد؟
قلت: المبنى محل اشكال؛ لعدم طهارة ما لو عاد كما هو قبل التصعيد.
وثالثاً: ماذكره في التنقيح: «من عدم اختصاص الطهورية بالماء النازل من السماء، وإنما هي حكم مترتب على طبيعي الماء أينما سرى، والمفروض أنّ الماء الحاصل بالتصعيد ممّا تصدق عليه الطبيعة».
ويدلّ عليه : الأخبار كقوله (عليه السلام) : «جعل لكم الماء طهوراً»(2)،
و أدلّة الغسل والوضوء بالماء، وأدلّة مطهّرية الماء من البول والولوغ. وغيرها(3). فطهورية الماء الجديد - وإن لم يكن مطراً - ثبتت بالروايات لا بالآية المباركة.
[1] في المسألة بحثان:
البحث الأوّل : في بيان الفارق بينها وبين المسألة اللاحقة بكون: «المضاف المصعد مضاف». وفيه احتمالان:
الأوّل: «أن لايصل المزج إلى مرحلة الإضافة»(4) كما ذكره الشيخ مرتضی
ص: 282
3 مسألة: المضاف المصعد مضاف(1)[1].
--------------------------
مرتضى الحائري فيما نحن فيه، ويدلّ على ذلك قوله «يصير» وكأنّه لم يصر مضافاً من قبل التصعيد، كماء جعلت فيه مادّة لم تخرجه عن إطلاقه ولكنه بالتصعيد خرج عن الإطلاق، وهذا بخلاف الفرع اللاحق فإنّه مضاف قبل التصعيد.
الثاني: ما يظهر من المسألة الثالثة انشاء اللّه تعالى(2).
البحث الثاني: لايخلو إطلاق ماذكره من نظر وإن سكت عليه مجموعة من الاكابر ك- : النائيني والعراقي والاصفهاني والحائري والخونساري والحكيم، فإن التصعيد قد يوجب الإطلاق كماء ممزوج بالملح، وقد يوجب الإضافة كماء ممزوج بالورد، والملاك الصدق العرفي، ولذلك أشكل مجموعة من الفقهاء على إطلاق المتن منهم: البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والخوئي والگلبايگاني والقمي والمرعشي النجفي والوالد رحمهم اللّه.
[1] الظاهر أن للمضاف المصعد ثلاث حالات:
الأولى: صدق أصله عليه كعصير البرتقال المصعد إن صدق عليه ذلك، أو صدق عليه عنوان مضاف آخر.
الثانية: صدق عنوان آخرعليه فيندرج تحته(3).
ص: 283
4 مسألة: المطلق أو المضاف النجس يطهر بالتصعيد لاستحالته بخاراً ثم ماءً(1)[1].
--------------------------
الثالثة: أن يشك، وقد سبق الكلام فيه.
فإطلاق المصنّف محل تأمل، والظاهر اختلاف المياه المضافة، فماء التفاح يبقى مضافاً بعد التصعيد ظاهراً دون ماء الملح. قال السيد الوالد (رحمه اللّه) : «إن أراد بيان الموضوع ففي كليّته تأمل، وإن أراد بيان أنّه محكوم بالإضافة وإن لم يصدق عليه المضاف، ففيه إنّه لادليل لبقاء الحكم بعد انتفاء الموضوع»(2) .
و لم يعلق عليه بعض الاعاظم كالنائيني و العراقي و الاصفهاني و الحائري و البروجردي و الخونساري و الحكيم، و كأنهم رأوا أن المراد بالمضاف هنا هو المضاف بالذات، و أن مراده بالماء الممتزج في المسألة السابقة المضاف بالتركيب(3).نعم ليس من شأن الفقيه تنقيح الموضوع.
[1] ماذكره المصنّف ليس من المسلمات، فقد ذهب مجموعة من الفقهاء إلى خلافه(4)، فقد احتاط آل ياسين بقوله: «لايطهر على الأحوط»،
ص: 284
--------------------------
وأشكل عليه البروجردي والخونساري بقولهما في التعليقة: «محل اشكال». وكذلك الگلبايگاني و المرعشي النجفي بقولهما: «مشكل». وذهب الحائري إلى أن: «الأقوى النجاسة». وتأمل فيه الفيروز آبادي، وقد اضاف السيد الوالد مالفظه: «إذا لم يصدق عليه عنوانه السابق».
ولا يخفى وجود صورتين غير منظور إليهما في كلام المصنّف ولايشملهما الحكم بالطهارة:
الأولى: لو كان المصعد من أفراد النجاسات وصدق عليه عنوان السابق بعد التصعيد، فحكمه النجاسة؛ وذلك لأنّ الحكم مسوق على نحو القضية الحقيقية، وفعلية المحمول فيها تابعة لفعلية الموضوع، فإن اصبح الموضوع فعلياً ترتب عليه الحكم، والمفروض وجود فرد جديد للجنس بعد التصعيد فيشمله الحكم، وذلك كما لو عاد البول بعد التصعيد بولاً فإنّه لا يمكن الحكم بطهارة البول الجديد. وأمّا في مثل الخمر المصعد فإن ارتكاز المتشرعة بل الضرورة على نجاستها إن رجعت عَرَقاً؛ لكونه مصداقاً جديداً ل- : «كل مسكر حرام»(1).
الثانية: مع فرض وحدة الظرف يكون المصعد نجساً وإن فُرض طهارة المصعّد؛ وذلك لانفعاله بالعرض أو بالتَّبَع لملاقاته للظرف المتنجّس.
إن قلت: يُنقض على ماذكر بطهارة الخمر المنقلبة خلاً.
ص: 285
--------------------------
قلت: إن طهارتها ثابتة بالدليل التعبدي ولولاهُ لحكمنا بنجاستها(1)، هذا.
ثم إنّه يدلّ على الحكم بالطهارة في كلام المصنّف وجود استحالتين في
ص: 286
--------------------------
المقام:
الأولى: استحالة الماء إلى البخار، ولا وحدة عرفية بينهما؛ لتغاير المفهومين ولا يجري استصحاب الحكم مع تغاير الموضوعين والمُحَكَّم في البخار أصالة الطهارة.
الثانية: استحالة البخار إلى الماء وهما متغايران، فتجري في الماء الجديد أصالة الطهارة، وحتى مع القول بالاستصحاب، فإنّ استصحاب طهارةِ مرتبةِ البخارية إلى مرتبة المائية تام الاركان، بخلاف استصحاب نجاسة الماء الأوّل؛ لعدم اتصال زمان اليقين بزمان الشك لتخلل الطهارة في المرتبة البخارية. هذا تمام الكلام في توجيه الاستدلال على مدعى المصنّف.
ولكن يرد عليه أمران وهما وجود الدليل الاجتهادي اولاً والأصل العملي ثانياً.
أما الأوّل : فإن الرجوع إلى الاُصول العملية من أصالة الطهارة والاستصحاب إنّما يكون بعد فقد الأدلّة الاجتهادية،إلّا أنّها غير مفقودة في المقام، وذلك لوجود الدليل على نجاسة الملاقي للنجس، فإن الماء الأوّل شمله الدليل لمكان الملاقاة ثم انعدم الموضوع - بنظر العرف - إلّا أنّه عاد الموضوع بعينه من جديد فشمله الدليل الاجتهادي.
وبعبارة واضحة: إن الماء الجديد عين الماء الأوّل عرفاً، وبما أنّ الأوّل ملاق فيشمل الثاني حكمه. فإن قال المولى: من حاز شيئاً ملكه. فإن حزت الماء ثم تحول إلى بخار ثم إلى ماء فقد شمله الدليل ولا يجوز لآخر غصبه،
ص: 287
--------------------------
وقد قال في الفقه: «النقض بالتراب المتنجّس، فإن جُعل غباراً ثم عاد تراباً هل يحكم بطهارته؟» (1).
والحاصل: وحدة المائين بحسب الأدلّة الاجتهادية.
وأمّا الثاني: وينبغي تقديم شبهة ذكرت في باب الاستصحاب قبل بيانه. والشبهة مبنية على مقدمتين:
الأولى: إنّ العرف هو المرجع في مقام بيان المراد من الموضوعات الواردة في الأدلّة الشرعية فيرجع اليه في مفهوم الموضوع.
الثانية: إنَّ العرف هو المرجع - أيضاً - في بقاء الموضوع المعتبر بقائه في جريان الاستصحاب وعدم بقائه كي لا يستصحب حكمه.
وحينئذ ترد الشبهة التي كان يطرحها المجدد الكبير على الطلبة: «من أن الموضوع إن كان باقياً عرفاً فلا مجال لجريان الاستصحاب؛ لأنّ المفروض بقاء الموضوع فيشمله الدليل الاجتهادي، وإن لم يكن باقياً فلا مجرى للاستصحاب لعدم اتحاد القضيتين».
ص: 288
--------------------------
والجواب عنها: تغاير موضوع الاستصحاب مع موضوع الدليل، والمرجع في كليهما وإن كان هو العرف إلّا أن موضوع الأوّل باق بنظر العرف دون موضوع الآخر، فلو قال المولى: «الماء المتغيّر ينجس» فإن موضوع الدليل ينتفي بزوال التغيّر، فلو زال بتصفيق الرياح مثلاً تغيّر الموضوع فلا يشمله الدليل الاجتهادي.
ولكن لو فرض أن الماء غير المتغيّر متحّد عرفاً مع الماء المتغيّر، عندها نشير إلى الماء في المرحلة الثانية:«مرحلة زوال التغيّر بتصفيق الرياح» ونقول: هذا الماء كان نجساً ويشك في بقاء نجاسته، فيجري لاتنقض اليقين بالشك.
فتغايَرَ الموضوعان فإن موضوع الدليل هو الماء المتغيّر وموضوع الاستصحاب هو «هذا الماء»، والعرف يرى الماء بعد التغيّر نفس الماء قبل التغيّر. فهناك احتمالان: إمّا أن يكون التغيّر علّة محدثة ومبقية، وأمّا أن يكون علّة محدثة فقط، ومع الجهل يحصل الشك في حكم المرحلة الثانية، فيجري «لاتنقض» ويزول الشك.
وبعبارة اُخرى : موضوع الدليل ليس بموجود في المرحلة الثانية ولكن يحتمل بقاء الحكم فيها لاحتمال كون القيد علّة محدثة فقط لا أنّها محدثة ومبقية، فيشك في بقاء الحكم والمفروض وحدة الموضوع في المرحلتين عند العرف - لا عند الدليل - فيجري «لاتنقض» والاستصحاب تابع للعرف لا الدليل.
ص: 289
--------------------------
وبعبارة ثالثة: إن القيود الموضوعة في الموضوع على قسمين:
ما بانتفائها ينتفي الحكم مثل: صل خلف العادل، فلو اصبح فاسقاً ينتفي الحكم بالصلاة خلفه.
ما بانتفائها لاينتفي الحكم مثل: خليفتي خاصف النعل(1) فلو توقّف الامام (عليه السلام) عن خصف النعل لاينتفي الحكم.
وأمّا لو شك في أنّ قيد المسافر في قول المولى: «اكرم المسافر» من قبيل القسم الأوّل فينتفي الحكم بانتفائه، أو من قبيل القسم الثاني فلا ينتفي بانتفائه؟ نقول: زيد في السفر نفس زيد في الحظر، وقد كان واجب الاكرام بدليل اكرم هذا المسافر، ولكن بعد رجوعه يشك في بقاء الحكم فيجري لا تنقض؛ لأنّه واحد عرفاً في السفر والحظر فيستمر الحكم إلى مرحلة الشك(2)، وأمّا منشأ الشك فهو الجهل بكون القيد أي المسافر علّة محدثة
ص: 290
--------------------------
فقط أو مبقية ايضاً(1)؟
مثال آخر: قال المولى: «لاتغصب هذا العنب». وبعد شهر تحول العنب إلى زبيب - والمفروض وحدة العنب والزبيب عند العرف - كما ادّعاه صاحب الكفاية(2) - فمع الشك في شمول الحكم - وهو لاتغصب - للزبيب يقال: هذا الزبيب نفس العنب، وكان العنب محكوماً بحرمة غصبه، فتستصحب حرمة غصبه.
والوحدة هنا وحدة عرفية، ولا وحدة دليلية بينهما للاثنينية المفهومية بين الزبيب والعنب، فالتغاير دليليٌ ولا تغاير عرفاً. والحاصل في عبارة موجزة: «التعدد مفهومي والوحدة مصداقية» فاندفعت شبهة المجدد الكبير.
ثم إنّه بعد تمامية ماقدمناه نقول: مع فقد الدليل الاجتهادي ووصول الأمر إلى الأصل يتمّ إثبات النجاسة بتقريرات ثلاثة(3):
التقرير الأوّل : الماء الثاني عين الماء الأوّل عرفاً إلّا أنّه عاد بعد انعدامه، والدليل الاجتهادي وإن لم يشمل إلّا الماء الأوّل لكون موضوعه «الملاقي»
ص: 291
--------------------------
و «ما اصابه» و «وقع فيه» وهذه العناوين لا تشمل الماء الثاني، إلّا - أنّه قد مضى - أن وحدة الموضوعين عرفية لادليلية، وحينئذٍ تستصحب النجاسة من المرحلة الأولى إلى الثالثة.
ولايرد على ذلك إلّا اشكالان:
الأوّل: أنّه من الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.
وفيه: أنّه لامحذور فيه على ما قرر في محله.
الثاني: انفصال زمان الشك عن زمان اليقين بتخلل المرحلة البخارية.
وفيه: أنّه لم يدلّ دليل على لزوم الإتّصال(1)، بل اللازم اتحاد القضيتين:
ص: 292
--------------------------
المتيقّنة والمشكوكة. بنظر العرف وهو متحقق في المقام، فالنجاسة تستصحب من المرحلة الأولى إلى الثالثة بلا تنقص.
إن قلت: في الحالة البخارية - وهي المرحلة الثانية - انتقض اليقين السابق بيقين آخرمضاد، لكون البخار طاهراً فلا يصدق نقض اليقين بالشك، مضافاً الى أن النقض هو قطع الهيئة الإتّصالية.
قلت: النقض إنّما يصدق مع تخلل حكم مضاد ولا يصدق مع انعدام الموضوع ورجوعه، فَلَوْ اُحيى الميت تُستصحب أحكامه قبل الموت من الزوجية وغيرها.
إن قلت: فعليه يبطل الزواج بالخامسة لو عادت الرابعة إلى الحياة لاستصحاب زوجيتها، وكذلك الأمر لو تزوجت بعد انقضاء عدة وفاة زوجها فعاد للحياة.
قلت: لا نسلّم ذلك، بل يستمر زواجه بالخامسة وزواجها بالثاني؛ وذلك
ص: 293
--------------------------
لحكومة الدليل على الاستصحاب. والدليل في الأوّل : جواز الزواج بالرابعة بعد موت احداهن. وفي الثاني: جواز التزويج بعد انقضاء العدة لقوله تعالى: {يتربَّصْن بِأَنْفُسِهِنَّ أربعةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}(1) وقد اعتدت عدة صحيحة والحكم تابع لموضوعه(2).
والحاصل: لامانع من استصحاب النجاسة من المرحلة الأولى إلى الثالثة وإن لم يشملها الدليل.
ص: 294
--------------------------
التقرير الثاني: البخار بحكم الماء المتجمد في عدم تغيّر الموضوع عرفاً، فتستصحب نجاسة الماء في المرحلة البخارية، فيكون البخار نجساً، والكلام نفسه في المرحلة الثالثة، فوزان البخار وزان الغبار.
وفيه نظر: إذ لاشك في كون البخارمغايراً للماء عرفاً، كما لاشك في مغايرة الماء الثاني للبخار، فانعدم ماكان موضوعاً للنجاسة فاختل الركن الثالث للاستصحاب.
التقرير الثالث: لاشك في أنّ البخار يحمل ذرات ماء غير مستحيلة لتبلُّل اليد لو وضعت فوقه وتدسُّمها وتنجسها لو وضعت فوق بخار الدهن المتنجّس، ولذلك أفتى المشهور تبعاً لرواية بلزوم الاستصباح به تحت السماء(1)، وإن خالفهم: السيد الجد والسيد الوالد والسيد الخونساري والسيد البروجردي. والبخار فيما نحن فيه حامل لجزيئات مائية وهي باقية على نجاستها، فينجس الماء في المرحلة الثالثة. وقيل بأن الحرارة المرتفعة جداً تسبب رفع جزئيات مائية بخلاف الحرارة القليلة، إلّا أنّ الأمر في ذلك كلّه موكول إلى التحقيق.
ص: 295
5 مسألة: إذا شك في مائع أنّه مضاف أو مطلق، فإن علم حالته السابقة أخذ بها(1)[1] وإلّافلا يحكم عليه بالإطلاق
--------------------------
ثم إنّ المرجع أصالة الطهارة إن لم تتم الطرق الأربعة لإثبات النجاسة.
تفريعان. الأوّل: الظاهر أن الحكم المذكور في المتن يسري على المصعد من الأعيان النجسة لوحدة الملاك، إلّا إذا انطبق عليه أحد العناوين النجسة كما سبق.
الثاني: لازم ماذكر الحكم بالنجاسة لو اجتمع بخار البول بصورة القطرة؛ وذلك إمّا لصدق البول عليه أو لاستصحاب النجاسة لو فرض وحدة الموضوعين عرفاً وكان التبدل في بعض الأوصاف.
نعم مع فرض تعدد الموضوعين عرفاً أو الشك في الوحدة لامجرى للاستصحاب(2)
[1] ل: «لا تنقض» فإن كان مطلقاً حكمنا به وبجميع أحكامه، وإن كان مضافاً فكذلك؛ إذ لافرق فيه بين العلم الوجداني والتعبدي.
ص: 296
ولا بالإضافة(1)[1] لكن لا يرفع الحدث والخبث(2)[2] وينجس بملاقاة النجاسة إن كان قليلاً (3)، وإن كان بقدر الكر لاينجس لاحتمال كونه مطلقاً، والأصل الطهارة(4)[3]
--------------------------
[1] لعدم وجود أصل يعين أحدهما في مرحلة الإثبات، وإن لم يخل عن أحدهما ثبوتاً.
[2] فإنّ رافعهما الماء المطلق ولم يثبت أنّه مطلق، فنلجأ إلى استصحاب نجاسته وبقاء الحدث لو توضأ به.
[3] وذلك لتولد العلم التفصيلي بالنجاسة مع العلم الإجمالي:
فإن لاقت النجاسةُ المطلقَ لاينفعل، وإن لاقت المضاف ينفعل، ومع الشك تجري أصالة الطهارة أو استصحابها وإن كان الأقوى جريانهما معاً، أمّا لو وضعت اليد النجسة - مثلاً - في كر مشكوك الإطلاق والإضافة، استصحبت نجاسة اليد وطهارة الماء.
ص: 297
--------------------------
هذا، وتفصيل الكلام في المقام أن الشبهة على نوعين:
أ) مصداقية ناشئة من غموض الواقع الخارجي، أي ناشئة من الجهل بخصوصية مافي الخارج.
ب) مفهومية نابعة من الشك في سعة المفهوم وضيقه(1).
فيجب البحث في مقامين:
المقام الأوّل : في الشبهة المصداقية والشك فيها يتصور على أربع صور:
الأولى: أن يعلم بسبق إطلاق الماء ويشك في اضافته، كماء اضيف اليه الملح قليلاً لم يخرجه عن إطلاقه، وإن اضيف ضعف الكمية السابقة من الملح يتحول إلى مضاف، ولكن الشك في مقدار الملح الممزوج بالماء، فهنا استصحابان:
الأوّل: موضوعي، وهو استصحاب الإطلاق، ولا اشكال في جريانه.
والثاني: حكمي وهو كونه مطهّراً من الحدث والخبث، إلّا أنّ جريانه مبني على جريان الاُصول الحكمية في عرض الاُصول الموضوعية مع توافقهما، ولجريان الأصل المسببي مع الأصل السببي ثمرات تظهر في
ص: 298
--------------------------
جريان الاُصول مع الامارات ايضاً.
الثانية: الشك في الإطلاق مع سبق الإضافة كماء مضاف لايخرج عن الإضافة بإضافة إناء من ماءِ مطلق فيه، ويخرج عنها بانائين، ولكن لايعلم المقدار الملقى عليه، وحكمها يعلم من الصورة الأولى.
الثالثة: توارد الحالتين مع الشك في المتقدم منهما فنقول: في المقام استصحابان، موضوعي وحكمي. فالكلام في مقامين:
الأوّل: الاستصحاب الموضوعي، وفيه قولان - وإن اتحدت النتيجة في كليهما - :
الأوّل: ماهو المعروف من جريان الاستصحابين لتمامية اركانهما وتعارضهما فتساقطهما.
الثاني: ماذهب اليه في الكفاية(1) من عدم جريانهما لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك، حيث لنا مراحل ثلاث: الإطلاق، الإضافة، الشك. فإن كان الإطلاق في المرحلة الثانية فيقينه متصل بالشك، ولكن يحتمل كونه في المرحلة الأولى فينفصل زمان اليقين بالإطلاق عن الشك به لمكان الإضافة، وكذلك الأمر في الإضافة، والشرط في جريانه إحراز اتصال الزمانين، وهو هنا مفقود في الجانبين فلا يجري الاستصحابان.
وفيه: أنّه بحث مبنائي متوقّف على اشتراط الإتّصال فلا يجريان، وعدمه
ص: 299
--------------------------
فيجريان ويتساقطان، والنتيجة واحدة.
الثاني: الاستصحاب الحكمي، ولكنه لا يجري؛ لعدم إحراز الموضوع، فالماء غير محكوم بالإطلاق ولا بالإضافة، والمرجع سائر الاُصول العملية المذكورة في الصورة الرابعة، فانتظر.
الرابعة: عدم العلم بالحالة السابقة، فلا يدرى أن الماء وجد مطلقاً أو مضافاً.
نعم، تفرّد السيد حسن القمي - فيما رأيت(1) - بطرح شبهة تُلغي الصورة الرابعة وتُدرجها في الصورة الأولى، قال مالفظه: «إن جميع المياه المضافة تكون حالتها السابقة هي الإطلاق، أمّا في الماء الممزوج بغيره فواضح، وأمّا في مثل ماءالرمان، فلأنّه قبل جريان الماء في عروق الأرض وفي عروق الشجر وإمتزاجه مع المواد الرُّمانية كان ماء مطلقاً. فنقول: هذه المادّة المائعة كانت في أوّل تكونها ماءً مطلقاً ونشك في الإمتزاج والجريان وصيرورته مضافاً والأصل عدمه»(2) نعم إنّه احتاط فيها بقوله: «لايترك الإحتياط».
ص: 300
--------------------------
ولكنه محل نظر: وذلك لأنّ الماء المطلق والمضاف ماهياتان متغايرتان عرفاً، ومع احتمال الإضافة في المائع المشكوك لا يحرز اتحاد موضوع القضيتين المتيقّنة والمشكوكة، فلا يجري الاستصحاب(1)، - على بعض المباني.
توضيح ذلك: إنَّ التغيّر إمّا في بعض العوارض، وإمّا في الماهية، أو يشك فيهما، والأوّل مجرى الاستصحاب دون الثاني كالماء والبخار، وأمّا مع الشك
ص: 301
--------------------------
الشك فإنّه لايجري - أيضاً - لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإن النقض إنّما يصدق مع وحدة الموضوع لا مع التعدد، ومع الشك لانقض ايضاً، فأخذ ملعقة من حوض يحتوي الكر وإن كان تغيّراً دقّياً إلّا أن العُرف يرى الموضوع واحداً، فالشك في سقوطه عن الكرية مجرى للاستصحاب، وهذا دون مالو تبخر ثلاثة أرباع الحوض فإن الماء الجديد غير القديم، ولايمكن استصحاب كريته لو شك لتغيّر الموضوع عرفاً، وأمّا لوشك في أحد الأمرين مع ظلمة مانعة من التثبت، فهنا نشك في أنّ استصحابنا كريته هل هو نقض اليقين بالشك؟ عندها تكون هذه الشبهة شبهة وجدانية في: «لاتنقض اليقين بالشك». ومن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فانتفى الركن الثالث للاستصحاب وهو إحراز اتحاد موضوع القضيتين عرفاً.
فهنا بحثان: كبروي موكول إلى محله، ومن المسلم عندهم في مثال الحوض عدم جريان الاستصحاب(1).،
وصغروي في أنّ الموضوع هنا هو بنفسه السابق عرفاً أو غيره.
ويمكن تقريب كلام القمي بالقول: بأن الهيولا كانت متلبسة بالصورة المائية، فنشك في تلبسها بالصورة المضافية، وبما أنّ الهيولا واحدة ولم تتبدل
ص: 302
--------------------------
فقد احرز اتحاد موضوع القضيتين فتستصحب الإطلاقية. وبعبارة أوضح: المادّة الجسمية كانت متلبسة بالصورة النوعية الإطلاقية، و حصل الشك في أنّها خلعتها وتلبست بالصورة النوعية المضافية، فبما أنّ المادّة الجسمية واحدة عرفاً، فيجري استصحاب الصورة النوعية الإطلاقية؛ وذلك لإحراز اتحاد موضوع القضيتين المتيقّنة والمشكوكة.
أقول: لا اشكال في الكبرى، ولكن إن تمت الصغرى فالشبهة ثابتة وتنتفي معها جميع مباحث الصورة الرابعة، إلّا أنّ أحداً - ومنهم السيد القمي - لم يلتزم بها(1)، والأمر موكول إلى التأمل.
وكيف كان فإن البحث في الصورة الرابعة ينفع في مقامين:
الأوّل: فيما لو فرض خلق ماءٍ مشكوك دفعة، وقد فرض الفقهاء نظيره في الإنسان المخلوق دفعة في أنّه متطهر أو محدث.
الثاني: في الماء الذي تواردت عليه حالات متضادة.
ولا يخفى أنَّ ما يذكر من الأحكام هنا يجري في الصورة الثالثة أيضاً.
ثم إنّه في الصورة الرابعة مباحث أربعة:
الأوّل: الماء الذي جهلت حالته السابقة لايحكم عليه بالإطلاق ولا بالإضافة لعدم أصل محرز لذلك. إلّا على ما ذكره المحقق القمي(2) في غير
ص: 303
--------------------------
المقام من أصالة الغلبة لقاعدة: الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب. وادّعى كونها قاعدة عقلائية، وعليه فيحكم على المشكوك بالإطلاق لأنّ أغلب المياه الموجودة في الخارج مطلقة. ولكن المبنى غير مرضي(1).
الثاني: لايرفع الماء المشكوك الحدث والخبث لعدم إحراز إطلاقه، فلا تترتب عليه الأحكام الثابتة للمطلق، وعليه فتستصحب الحالة السابقة كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) .
نعم علق عليه السيد الجد (رحمه اللّه) بما هو مقبول في باديء النظر، مالفظه: «مع عدم الانحصار، وأمّا معه فلابدّ من الجمع بين وظيفتي واجد الماء وفاقده»(2).
وقد علّل ذلك السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه بقوله: «للعلم الإجمالي فيما لم يكن أصل حاكم»(3) فلِواجد الماء المشكوك علم إجمالي بأن وظيفته إمّا الوضوء أو التيمم، فإن كان الموجود ماءً فعليه الوضوء وإن كان مضافاً فعليه التيمم.
إن قلت: يستصحب عدم الإطلاق بالعدم الأزلي.
قلت: إنّه معارض باستصحاب عدم الإضافة بالعدم الأزلي، فيتعارضان
ص: 304
--------------------------
ويتساقطان ويبقى العلم الإجمالي ومقتضاه الجمع، وستأتي تتمة للكلام(1).
لايقال: المتعين التيمم لقوله عزّ وجلّ : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}(2) فإنّه يقال: الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية لا المعلومة.
الثالث: ينجس الماء المشكوك بملاقاة النجاسة إن كان قليلاً كما ذكره المصنّف؛ لتولد العلم التفصيلي بالنجاسة من العلم الإجمالي.
الرابع: لاينجس الماء المشكوك بملاقاة النجاسة إذا كان بقدر الكر؛ لاحتمال كونه مطلقاً والأصل الطهارة، كما ذكره المصنّف أيضاً.
ولكن يمكن القول بالنجاسة لوجوه:
الوجه الأوّل : استصحاب العدم الأزلي المنقّح للموضوع، فيندرج الفرد المشكوك تحت عمومات أدلّة الانفعال كما عليه التنقيح(3).
توضيحه: أن مقتضى الأدلّة تنجس المائعات كلّها بالملاقاة وخرج منها عنوان الكر من الماء، فهناك عام مخصص بعنوان وجودي - الكر المطلق - وقد أحرز أحد الجزئين - الكرية - بالوجدان، وأمّا الجزء الآخر- الإطلاق - فمشكوك، والأصل عدم الاتصاف؛ فإنّه قبل أن يوجد لم يكن متصفاً بالمائية؛ والاتصاف إنّما كان بعد خلقته لا قبلها؛ لكونه أمراً حادثاً مسبوقاً
ص: 305
--------------------------
بالعدم، فيستصحب عدم اتصافه به، فإذا ثبت عدم اتصافه بعنوان المخصص - الماء الكر- لانتفاء أحد جزئي المركب بحكم الأصل، يبقى المائع المشكوك تحت عموم أدلّة الانفعال، ونظيره في المرأة القرشية والنبطية.
فالحاصل: كل ماء ينفعل إلّا الكر المطلق، والمشكوك لم يكن مطلقاً فيستصحب عدم إطلاقه، فخرج من الاستثناء ودخل في العموم، فمع العدم الأزلي لاشك.
ولكن في المبنى والبناء نظر، فإنّ استصحاب العدم الأزلي غير مرضي اولاً(1)، واستصحاب عدم كونه مطلقاً معارض باستصحاب عدم كونه مضافاً بالعدم الأزلي ثانياً.
وأمّا ما أجابه في دروس فقه الشيعة(2) من أن استصحاب عدم كونه مضافاً قبل وجوده لايثبت أنّه مطلق إلّا بناءاً على الأصل المثبت.
فغير تام، فإنّه كما أن استصحاب الإطلاق إثبات لآثاره ونفيه نفي لآثاره، كذلك الأمر في استصحاب الإضافة.
توضيحه: أن للإطلاق آثاراً كعدم انفعال الكر منه، والإضافة لها آثار
ص: 306
--------------------------
أيضاً - تظهر بمراجعة روايات أبواب الماء المضاف والاسئار والاطعمة والاشربة من الوسائل والمستدرك، وكذلك بمراجعة العروة الوثقى في أحكام الماء المضاف. فلكل المحتملين آثار، وما له أثر لا مانع من استصحاب عدمه لنفي تلك الآثار. وعليه، فليس الأصل مثبتاً فتتحقق المعارضة فالتساقط، أو يقال بعدم جريانهما فتجري أصالة الطهارة.
وكأن المستشكل لاحظ أثر الانفعال فقط وهو محمول على غير المطلق، ولكن لاداعي لقصر النظر على خصوص هذا الأثر، بل يجب ملاحظة جميع آثار المياه المطلقة أو المضافة ولكل منهما آثار، فيُستصحب عدم الإثنين بالعدم الأزلي فيتعارضان ويتساقطان(1).
والحاصل: طهارة الماء لأصالة الطهارة.
ص: 307
--------------------------
الوجه الثاني: ماذكره المحقق النائيني من مبنى التزم به في الفقه بأجمعه(1)، قال بعبارة التنقيح ما حاصله: «أنَّ الاستثناء إذا علق على عنوان
ص: 308
--------------------------
وجودي وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له، فلا بد من إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخروج عن الإلزام أو ملزومه، مثلاً إذا نهى المولى عبده عن الإذن في الدخول عليه إلّا لصديقه لم يجز للعبد الاذن إلّا لمن أحرز صداقته، وفي المقام نلتزم بعدم الطهارة؛ لأنّ المستثنى من الحكم بالانفعال عنوان وجودي، أي مطلق الكر، وهو غير محرز على الفرض، مع أنّ إحرازه معتبر في الحكم بعدم الانفعال»(1) فالماء مشكوك الإطلاق داخل تحت عموم: «كل ماء ينفعل». فليس التمسك بالعام فيه من التمسك في الشبهة الموضوعية.
نعم على المبنى الآخر: فإنّ الماء لايشمله العام ولا الاستثناء، ولا يبقى له دليل، فيجب الرجوع إلى باقي العمومات أو الاصول.
ولكن يرد على ماذكره المحقق النائيني: أنّ الإحراز لم يؤخذ في لسان دليل الخاص دخيلاً في الموضوع، فلا تكون له مدخلية بلحاظ نفس الدليل،
ص: 309
--------------------------
وقد قرّر في محله: أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي هي لابما هي معلومة. وحينئذ فلابدّ من القول بأخذ الإحراز في الموضوع من ناحية الفهم العرفي، وهو غير واضح؛ إذ الظاهر أنّ الخارج نفس عنوان الخاص الواقعي لا عنوانه المحرز المعلوم، مثلاً لو قال المولى: لعن اللّه بني امية إلّا المؤمن منهم. فالخارج - عرفاً - عنوان المؤمن لاعنوان معلوم الايمان، فمعلوم الايمان داخلٌ في المستثنى، ومعلوم عدم الايمان داخل في المستثنى منه، وأمّا المشكوك فلا يتمسك فيه بالعام؛ لكونه تمسكاً به في الشبهة المصداقية حيث تعنون العام بغير عنوان الخاص، فمفهوم العام: بنو أُمية غير المؤمنين، وهو مركب من قيدين، والثاني مشكوك فلا مجال للتمسك بالعام.
ثم إنّ الظاهر عدم الفرق فيما ذكر بين المخصّص المتّصل والمنفصل؛ لأنّه شبهة مصداقية للعام بما هو حجة لا له بما هو عام، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بماهو هو، إلّا أنّه لم يُعلم أنّه من مصاديقه بماهو حجة، فالمرجع - إذاً - الاُصول اللفظية أو العملية الاُخرى.
وفي المقام عمومات أدلّة الانفعال مخصّصة بالكر المطلق، فالمعلوم قلّته أو إضافته ينفعل، والكر المشكوك محكوم بالطهارة؛ لأنّه غيرمعلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين، فيكون مشمولاً لأصالة الطهارة.
وبعبارة واضحة: إنّ الاستثناء في لعن اللّه بني أُمية إلّا المؤمن، معناه معلوم الايمان على مبناه، إلّا أنّ المؤمن ليس معناه معلوم الايمان لغة؛ لكون معناه المتلبس بالإيمان، ولا عرفاً لعدم ثبوت ذلك. فعليه يؤخذ الخاص بماهو هو
ص: 310
--------------------------
لابما هو معلوم.
وفيما نحن فيه: يلتزم النائيني بأنّ الماء المشكوك داخل تحت عموم «كل ماء ينفعل إلّا الكر المطلق» فإنّ الخاص عنده «إلّا المطلق معلوم الكرية». والمشكوك ليس بمعلوم الكرية فيشمله العام.
ولكن اشتراط الإحراز في الخاص يستلزم تعنون العام - أيضاً - بالإحراز بعدم الخاص:
أ) فيجب الالتزام بطهارة الدم المشكوك كونه دم شاة أو دم بعوض.
ب) و بطهارة الجلود المستوردة من البلاد الأجنبية المشكوك كونها لحيوان أو غيره.
ج) و بجواز النظر إلى المرأة المكشّفة التي يشك في كونها أجنبية أو محرمة - بغض النظر عن العدم الأزلي والاُصول الاُخرى، بل نحن والدليل -؛ وذلك لأنّ العام وهو: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}(1) مخصّص ب- : «إلّا المحارم كالاخت و..». والمرأة مشكوكة الحرمة يجوز النظر إليها، لعدم معلومية شمول «لا تنظر إلى المرأة» لها، كما أنَّ دليل جواز النظر إلى الاخت غير معلوم شموله لها، فتجري أصالة البراءة عند الشك في كون النظرة محرّمة أو محلّلة ف- «كل شيء لك حلال». مُحَكَّم(2).
ص: 311
--------------------------
وبما أنّ أغلب الفقهاء لم يرتضوا مبنى المحقق النائيني، فيبقى الماءُ طاهراً(1).
ص: 312
--------------------------
الوجه الثالث لانفعال الماء المشكوك إطلاقه: ما يحتمل أن يكون مراد الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة(1) من أنّ: «الانفعال مقتضى نفس الملاقاة والكرية المائية مانعة، والمفروض في المقام وجود المقتضي والشك في المانع، فيرجع إلى أصالة عدم المانع فيؤثّر المقتضي أثره».
وفيه: أنّه مبتنٍ على قاعدة المقتضي والمانع ولا دليل عليها في الأدلّة اللفظية كما أنّه لا بناء للعقلاء عليها، وقد اعترف الشيخ بذلك في الرسائل(2) فإنّ من الواضح أنّه لا يتحقق القتل برمي سهم نحو زيد يقتضي قتله لولا
ص: 313
--------------------------
هبوب الريح مع الشك في هبوبها، فلا يقال: بأنّ أحد الجزئين - وهو المقتضي أي : رمي السهم - متحقّق بالوجدان، والجزء الآخر- وهو عدم المانع أي: عدم هبوب الريح - محرز بالأصل، فيُضم الوجدان إلى الأصل فيُقتَصُّ من القاتل مثلاً. و مثله ما لو شك في وجود اللون المانع على وجه الصباغ، فإنّه لايكتفي بصب الماء عليه المقتضي لرفع الحدث، والحكم بارتفاعه(1).
الوجه الرابع: أصالة عدم التخصيص الزائد في الأدلّة اللفظية الدالة على انفعال كل مائع بعد ثبوت التخصيص في المطلق المعلوم دون المشكوك.
وقد أشكل عليه الفقيه الهمداني بقوله: «إنّه لو تم فإنّما هو في الشبهات الحكمية - أعني في مانعية مفهوم كلي - لا في الشك في كون الموضوع الخارجي مصداقاً لمانع معلوم»(2) فالشبهة قد تكون مفهومية وهي الشك في المانعية، وقد تكون في كون فرد مصداقاً لمانع معلوم.
أ) فلو قال المولى: «اكرم العلماء» ثم قال: «لا تكرم فساقهم» وشُك أنّ مرتكب الصغيرة فاسق أيضاً، حُكّمت أصالة العموم لأصالة عدم التخصيص الزائد، على تأمل فيه عندنا.
ب) وأمّا لوكان الشك في أنّ زيداً مرتكب الكبيرة مع العلم بأنّ مرتكبها
ص: 314
--------------------------
فاسق، فهنا لايمكن التمسك بالعام في الفرد المشكوك. وقد بيّن الفقيه الهمداني حكمة عدم جريان أصالة العموم بقوله: «لأنّ اندراجه - أي الفرد المشكوك - تحت عنوان الفاسق - الخاص - لايستلزم تخصيصاً زائداً على ما علم حتى تنفيه أصالة العموم أو أصالة عدم التخصيص»(1) فلو فرضنا اندراج زيد المشكوك تحت عنوان الفاسق فإنّه ليس تخصيصاً زائداً للعام، بل هو خارج بالتخصيص الأوّل .
وأمّا فيما نحن فيه، قال المولى: «كل مائع ينفعل بالملاقاة» خرج منه «الكر المطلق»، وأمّا شمول العام والخاص ل: «الكر غير المعلوم إطلاقه واضافته» فمجهولٌ، وعدم درجه في العام لا يستلزم تخصيصاً إضافياً وراء «إلّا الكر المطلق» فلا ندرجه في العام ولا في الخاص إثباتاً.
والحاصل: أنّ الوجوه الأربعة التي ذكرت لإثبات الانفعال محل نظر، فالكر المشكوك إطلاقه واضافته لا ينفعل بالملاقاة سواء على مبنى السيد القمي لاستصحاب إطلاقه، أوعلى مبنى المصنّف لأصالة الطهارة. هذا تمام الكلام في الشبهة موضوعية.
المقام الثاني: ما لو كانت الشبهة مفهومية(2) ك- : ماءٍ إن اُلقي فيه ملعقة
ص: 315
--------------------------
ملح بقي على إطلاقه، وإن أُضيف إليه ثلاثة معالق أصبح مضافاً، ولكن اُلقي فيه ملعقتين وشك في إطلاقه وإضافته، وليس الشك لغموض في الواقع الخارجي بل لغموض في حدود مفهوم الماء المطلق والماء المضاف، فهل يجري فيما نحن فيه استصحاب الحالة السابقة؟ والمسألة سيالة في أبواب متعددة كالشك في مفهوم النهار ما بين الغروب وذهاب الشفق، فإنّه قبل الغروب نهار وبعد ذهاب الشفق ليل إلّا أنّ الشك في الفترة المتخلّلة بينهما، وكالشك في مفهوم العدالة أنّها هل تزول بارتكاب الصغيرة أم أنّها لاتتحقق إلا باجتناب الكبائر والصغائر.
ظاهر كلام المصنّف جريان الاستصحاب في هذه الصورة، قال: «إذا شك في مائع أنّه مضاف أو مطلق، فإن علم حالته السابقة أخذ بها»(1) وكلامه يعمّ الشبهات الموضوعية والحكمية، فعليه يؤخذ بالحالة السابقة
ص: 316
--------------------------
إطلاقاً كانت أو إضافة وتترتّب عليه جميع الأحكام؛ فإنّه إحراز تعبدي لأحدهما.
أقول: في المقام بحثان. الأوّل: في مطهّرية هذا الماء وإطلاقه واضافته.
الثاني: في انفعاله بالملاقاة.
أما البحث الأوّل : ففي المقام استصحابان.
الأوّل: موضوعي وهو استصحاب الإطلاق أو الإضافة.
الثاني: حكمي وهو استصحاب المطهّرية.
ومحلّ البحث في جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية باستصحاب إطلاق الماء أو اضافته فيما نحن فيه، وبقاء عدالة زيد وبقاء النهار في الأمثلة السابقة.
وقد رفض جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية وكذلك الاستصحاب الحكمي أكثر الأعلام.
وقد وُجِّهَ عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية بتقريرات:
التقرير الأوّل : مافي التنقيح وقد أصرّ عليه في الفقه والاُصول بما ملخصه: «ماله أثر لا شك فيه، وما يتعلق به الشك لا أثر له» فالاستصحاب غير جار. قال: «الاستصحاب الموضوعي ممنوع إذ لاشك لنا في شيء؛ لأنّ الأعدام المنقلبة إلى الوجود كلّها والوجودات الصائرة إلى العدم بأجمعها معلومةٌ، وقد مثلّنا له بالشك في الغروب، فإنّ الموضوع غير قابل للاستصحاب؛ إذ
ص: 317
--------------------------
لاشك لنا في شيء، فإنّ غيبوبة القرص مقطوعة الوجود وذهاب الحمرة مقطوع العدم؛ فلاشك إلّا في مجرد الوضع والتسمية»(1).
فيعرُب إمّا سمّى النهار تسمية واسعة أو ضيقة، ولكن لا أثر لتسميته لها؛ فإنّ الأحكام موضوعة على الموضوعات الخارجية لاعلى تسمية واضع اللغة، فأصل عدم تسمية يعرب بالمعنى الضيق لايثبت المعنى الواسع، لوساطة «ثبوت النهار» بين التسمية والأثر الشرعي فالأمر دائر بين معلوم له أثر ومشكوك لاأثر له، فإضافة ملعقتين من الملح معلوم لاشك فيها، وفي التسمية الشك - أي وضع الواضع كلمة الماءِ المطلق أو المضاف على أي شيء - لكن لا أثر لها، إمّا لكونها مثبتة أو للمعارضة.
ولكن يرد عليه: أنّ الحصر - الذي استخرجناه من كلامه - غير حاصر، إذ هنالك أمر ثالث وهو مايتعلق به الشك وله أثر شرعي، وهو بقاء النهار فإنّه مشكوك وله أثر شرعي، وهو وإن كان مسبباً عن الشك في الوضع اللغوي، إلّا أنّه حيث لم يجر الأصل في رتبة السبب تصل النوبة إلى المسبب، ويتم تقريره العرفي بمثالين:
احدهما: كان النهار قائماً وبعد دقيقة غربت الشمس، فيشُك في بقاء النهار فيستصحب، وللنهار أثر فقد قال المولى «صم النهار» فحصر التنقيح: بأنّ مايتعلق به الشك لا أثر له، وماله أثر شرعي لم يتعلق به الشك غير تام، فإنّ
ص: 318
--------------------------
الكلام في بقاء النهار.
ثانيهما: زيد كان عادلاً شرعاً، ثم حلق لحيته مرة واحدة، على أن يكون حلق اللحية مرة واحدة صغيرة، فزيد كان عادلاً وللعدالة أثر شرعي فنستصحبه(1).
فالحاصل: أنّ التسمية مثبت، لا أنّ بقاء النهار والعدالة مثبت.
وأمّا مانحن فيه: كان الماء مطلقاً، فجعل فيه قليلاً من الملح لم يخرجه عن إطلاقه ثم أضيف إليه مرة اُخرى، وهكذا إلى أن يعجز العرف عن بيان كونه مطلقاً أو مضافاً، ولا اشكال في جريان استصحاب إطلاقه.
ص: 319
--------------------------
وما ذكر كالكلي من القسم الثاني المُرَدَّد أمره بين القصير والطويل - كالفيل والبق - فمع الشك لايجري الأصل ولكن يستصحب الحيوان الذي وُجد وشك في بقاءه(1)، وذلك لتحقق عنوان النهار والعدالة فيستمر بلا تنقض، فتأمل.
التقرير الثاني: ماذكره السيد الوالد في الفقه بقوله: «والأقرب الثاني - وهو عدم الجريان - للشك في بقاء الموضوع، إذ المفروض أنّه لم يعلم أنّ هذا المشكوك هو المتيقّن السابق؛ لاحتمال كونه من أفراد مايضاد السابق فكيف نجري الاستصحاب المشروط فيه بقاء الموضوع قطعاً»(2).
ولكنه محل تأمل نقضاً وحلاً:
أما النقض: ففيما لو شكَّ في بقاء الحي حيّاً، حيث لا يعلم أنّ المشكوك هو المتيقّن السابق؛ لاحتمال كونه من أفراد ما يُضاد السابق، وهكذا في بقية الأمثلة كما لو شُكَّ في بقاء المتحرك متحركاً والساكن مضاد للمتحرك؛ فيحتمل أنّ هذا المشكوك مضاد للمتيقن السابق.
وأمّا الحل: فبأنّ هنالك لحاظين : لحاظ الذات ولحاظ الوصف، والملحوظ في الاستصحاب وحدة الذات لا وحدة الوصف.
والخلاصة: أنّ المائع واحد عرفاً في القضيتين المتيقّنة والمشكوكة، والشك
ص: 320
--------------------------
إنّما هو في الإطلاق والإضافة وهما من الحالات، كما أنّ زيداً واحدٌ والشك إنّما هو في حياته وموته(1).
التقرير الثالث: ماذكره الشيخ مرتضى الحائري(2) قال: «إنّ الموضوع للأثر هو حقيقة الماء بعنوانه الواقعي، وحقيقته مرددة بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع»(3).
وفيه أوّلاً: النقض بالشبهة المصداقية، فإنّ الموضوع للأثر هو حقيقة الماء وهي في الشبهة المصداقية مرددة بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع.
ثانياً: الحل، فإنّ القطع إنّما هو بلحاظ عالم الثبوت وهو لاينافي الشك بلحاظ عالم الإثبات، فزيد إمّا حي أو ميت ثبوتاً، لكن الشك في الإثبات فيجري الاستصحاب، وكذلك الأمر في العدالة حيث لنا قطعان ثبوتاً وشك إثباتاً، وإلّا لجرى الأمر في جميع الشبهات حتى الموضوعية منها، ومن المعلوم
ص: 321
--------------------------
أنّ مراد المولى ب- «اكرم العادل» هو العادل الواقعي، وإحراز عدالته إمّا بالوجدان أو التعبّد.
التقرير الرابع: إنّ اجراء الأصل في الشك ها هنا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ حيث إنّه على تقدير وضع اللفظ للخاص فقد انتقض بنفسه، وعلى تقدير وضعه للعام فهو باق ومورد ل- «لا تنقض»، فلو وضع الشارع مفهوم العدالة لمجتنب الصغائر والكبائر، وحلق زيد لحيته مرة واحدة فقد انتقضت عدالته وهو الذي نقضها، فلا يوجّه لي الخطاب ب- «لا تنقض»، وأمّا لو وضع مفهومها لمجتنب الكبائر فقط كان حكمي بعدم عدالته نقض، ولا يجوز نقض اليقين بالشك، فمع الجهل بأنّ مفهوم العدالة واسع أو ضيق لا يُدرى أنّ عدم الحكم ببقاء عدالته نقض لليقين بالشك، أو ليس نقضاً بل انتقاض من نفسه.
وفيه: أنّه مع تحقق الوحدة العرفية يصدق النقص حقيقة، مع أنّ الاشكال سارٍ في جميع الموراد.
فالحاصل: أنّه لامانع من جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية مع فرض وحدة موضوع القضيتين عرفاً، فتأمل.
ثم إنّه مع البناء على عدم جريان الاستصحاب الموضوعي - كما هو المعروف - فهل يمكن الإلتفات على المشهور بجريان الاستصحاب الحكمي كما ذهب إليه في المستمسك(1) ؟ فلو كان الماء مطلقاً وشك في
ص: 322
--------------------------
طروّ الإضافة عليه على نحو الشبهة المفهومية جري استصحاب مطهّريته من الحدث و الخبث، ولو كان مضافاً جري عدمه.
الظاهر عدمه لاُمور:
الأمر الأوّل : إنّه من الاستصحاب التعليقي وهو غير جار لعدم تمامية اركانه فيه؛ وذلك لوجود حالتين للماء: حالة اليقين وحالة الشك. ولا يكفي كون الحالة الأولى هي الإطلاق؛ فإنّ التطهير في حالة اليقين لم يكن فعلياً بل هو تعليقي، أي لو غُسلت اليد به لطهرت، ولكن لم تغسل اليد في حالة اليقين.
فالحاصل: أنّه يراد سحب التعليقي من مرحلة اليقين إلى مرحلة الشك، فالماء - قبل التطهير - ليس بمطهر فعلاً، وذلك كما لو اُريد استصحاب حرمة العنب لو غَلى في مرحلة الزبيبية لحرمة المغلي في مرحلة العنبية.
إن قلت: الماء بذاته مطهّر ومن شأنه ذلك.
قلت: معنى ذلك أنّه لو غُسل به لَطَهَّر. فرجع اشكال التعليق.
ولكن فيه أوّلاً: لامانع من القول بأنّ الماء مطهّر بالفعل لأنّ من شأنه التطهير وهو صفة فعلية تنجيزية.
ثانياً: أنّ الاركان تامة، إذ المعلّق وإن لم يكن موجوداً بالفعل إلّا أن القضية التعليقية موجودة بالفعل فتستصحب، وهي «لو غسل به شيء لطهّره» ولكنه بحث مبنائي، فتأمل.
الإيراد الثاني: إنّه وإن فرض تمامية أركانه إلّا أنّه معارض بالاستصحاب
ص: 323
--------------------------
التنجيزي، إذ هذا الماء لم يكن مطهّراً بالفعل فنستصحب عدم مطهّريته، فإنّ جريان استصحاب الحرمة لو غلى من مرحلة العنبية إلى مرحلة الزبيبية، معارض باستصحاب الحلية في مرحلة العنبية لعدم الغليان.
وفيه: أنّ التعليقي حاكم؛ فإنّ الشك في بقاء الحلية للعنب مسبّب عن الشك في جعل الشارع للقضية التعليقية في المرحلة الثانية فتمت الحكومة، كما أنّ الشك في عدم مطهّرية الماء في المرحلة الثانية مسبّب عن الشك في أنّ الشارع هل جعل غسل اليد به مطهّراً لها أم لا، والحاصل: أنّ الشك في التنجيزي نابع من الشك في القضية التعليقية.
الإيراد الثالث: ماذكره التبريزي من أنّ: «الأصل عدم جعل المطهّرية لمثله»(1).
ولكن لم يتبين مقصوده. فإن كان مراده أصالة العدم، فلا أصل له على المشهور، مع أنّه يجري في غيرمورد الاستصحاب.
وإن أراد به الاستصحاب، ففيه: أنّه انتقض العدم بجعل القضية التعليقية في المرحلة السابقة لإطلاق الماء فيها(2).
الإيراد الرابع: ما ذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) ، قال:«إنّه لا يجري استصحاب
ص: 324
--------------------------
الحكم مع الشك في الموضوع، فمن لم يحرز وحدة الموضوع في القضيتين كيف يستصحب الحكم»(1) فمع عدم قبول جريان الاستصحاب الموضوعي في المرحلة المتقدمة وعدم الالتزام بإطلاقه كيف نلتزم بمطهريته، فإنّ ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، ومع عدم ثبوت الموضوع تعبداً أو وجداناً لا يمكن استصحاب الحكم. هذا مضافاً إلى أنّه مثبت، فلاحظ.
والظاهر أنّ الإيراد على المستمسك تام، ومن العجب أنّه نفى الاستصحاب الموضوعي ولكنه أجرى الاستصحاب الحكمي.
قال في التنقيح: «لأجل الشك في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه»(2) وقال: «لأنّه من الشبهة المصداقية لدليل حرمة نقض اليقين بالشك؛ وذلك لأجل الشك في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه، فلاندري أنّ رفع اليد عن الحكم في ظرف الشك نقض لليقين بالشك كما إذا كان الموضوع باقياً بحاله، أو أنّه ليس من نقض اليقين بالشك كما إذا كان الموضوع مرتفعاً وكان الموجود موضوعاً آخر غير الموضوع المحكوم بذلك الحكم، فلم يحرز اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة وهو معتبر في جريان الاستصحاب»(3).
ص: 325
--------------------------
وبناءاً على ما تقدّم من عدم جريان الاستصحابين الموضوعي والحكمي يكون المرجع سائر الاُصول العملية كاستصحاب بقاء الحدث والخبث.
يبقى الكلام في انفعال هذا الماء بالملاقاة إذا كان بمقدار الكر، ولا يخفى أنّه - على ما ذكرناه من جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة المفهومية - يكون محكوماً بحالته السابقة.
ولكن على عدم جريان الاستصحابين الموضوعي و الحكمي فقد ذهب في التنقيح(1) إلى التفصيل حسب اختلاف مبنى المحقق النائيني ومبنى غيره.
أمّا على مبنى المحقق النائيني فإنّه يتعين الالتزام بعدم جريان أصالة الطهارة في المقام لأنّ المستثنى من الحكم بالانفعال عنوانٌ وجوديٌ وهو غير محرز، وإحرازه معتبر في الحكم بعدم الانفعال.
وأمّا على المبنى الآخر فإنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة للشك في طهارته ونجاسته، وحيث إنَّ مبنى المحقق النائيني غير مرضي يتعين الحكم بالطهارة في المقام.
ولكن أشكل عليه التبريزي(2) بوجوب الالتزام بجريان أصالة الطهارة في المقام حتى على مبنى الميرزا النائيني بعد ثبوت عدم سراية إجمال الخاص
ص: 326
--------------------------
المنفصل - إن كان على نحو الدوران بين الأقل والأكثر - الى العام بل يؤخذ العام في غير مورد اليقين بالتخصيص، فلو قال المولى: «اكرم العلماء» وخصصه في دليل منفصل: ب- : «لاتكرم فساق العلماء» وكان مفهوم الفاسق مجملاً مردداً بين الأقل - مرتكب الكبيرة - والأكثر - مرتكبها أو الصغيرة -، شمل العام مرتكب الصغيرة دون الخاص(1).
وأمّا بيان الاشكال فيما نحن فيه - على هذا المبنى المرضي للتنقيح - فإنّ العام: «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء»(2) خرج منه «الكر المطلق» وهو دائر بين الأقل والأكثر؛ لأنّ الشبهة مفهومية والفرد المشكوك فيها يشمله العام، فما اُلقي فيه ملعقة من الملح مطلق خارج عن العموم، وما أُضيف فيه ثلاثة معالق مضاف داخل في الخاص، وأمّا ما اُلقي فيه ملعقتان لا يُدرى أن
ص: 327
--------------------------
الواضع وضع المطلق لما يعم الملعقة والملعقتين أم وضعه لخصوص الملعقة وبما أنّ الخاص «الكر المطلق» مجمل فإنّ اللازم انفعال الماء لاعدمه.
اللّهم إلّا أن يقال: بأنّ إجمال الخاص المتّصل - بل والمنفصل - في الشبهة المفهومية يسري إلى العام وإن دار بين الأقل والأكثر، فلايشمل المشكوكَ العامُ ولا الخاصُ، فيرجع فيه إلى أصالة الطهارة.
أو يقال: لا عموم لنا في المقام صغروياً، للشك في شمول: «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء» للمائعات فإن الغَسل لا يطلق على الجوامد، والمائع لايغسل - إلّا بما سبق ذكره من أنّ المراد بالغسل التطهير - وعليه فليس لنا أصالة النجاسة في المياه، فلا عام فيما نحن فيه فإنَّ النجاسة استخرجت من: «ويُغسل كل ما اصابه..».
بل الأمر كذلك وإن وُجد العموم؛ وذلك لأنّ مخصصه متصل كما في رواية السؤر: «إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1) والمتصل يسري إجماله إلى العام.
والحاصل: أنّه لايبقى مجال لأصالة الطهارة مع القول بوجود عام يدلّ على نجاسة مطلق الملاقي وإن كان من المائعات، أو مع القول بوجود عام مخصص بالمتصل.
ص: 328
6 مسألة: المضاف النجس يطهر بالتصعيد - كما مرّ(1) - وبالاستهلاك في الكر(2) أو الجاري(3)[1].
--------------------------
[1] هذه المسألة تتناول طرق تطهير المضاف المتنجّس إلّا أنّ حصرها في اثنين غير تام؛ لوجود طرق اُخرى سنتطرق إليها لاحقاً.
أما ماذكره المصنّف فطريقان.
الأوّل : التصعيد، وقد مضى الكلام فيه.
الثاني: الاستهلاك. وقبل التعرض لأدلّة مطهّريته ينبغي بيان مقدمات أربع:
الأولى: في مفهوم الاستهلاك وهو: «تفرق أجزاء المستهلك في المستهلك فيه على نحو لا يبقى له وجود محفوظ في نظر العرف، وإن كان له وجود بحسب الدقة العقلية».
الثانية: إنّ ملاك مطهّرية الاستهلاك يعم استهلاك عين النجس كاستهلاك الدم في الكر أو الجاري ولا يختص بالمتنجّس(4).
ص: 329
--------------------------
الثالثة: قد يقال: بأنّ تأثير الاستهلاك لا يختص بتطهير المتنجّسات والنجاسات، بل يؤثر - أيضاً - في تحليل المحرمات. فلو استهلك الطين المحرّم في الماء جاز شربه، وقد أفتى المصنّف في كتاب الصوم بجواز شرب الدم إذا استهلك في ماء الفم على تفصيل(1)، فراجع.
الرابعة: إنّ غرض المصنّف التمثيل، ومراده مطلق الماء المعتصم، فلو كان المستهلك فيه ماء بئر شمله الحكم أيضاً. والحاصل: أنّ إطار البحث عام لعمومية ملاكه.
ثم إنّه يمكن أن يذكر لمطهّرية الاستهلاك في المضاف المنفعل وجوه:
الوجه الأوّل : الاستهلاك انعدام للحقيقة وارتفاع للموضوع بالنظر العرفي(2)، فلا وجود للموضوع كي يحكم عليه بالنجاسة، وعليه يكون التعبير بالتطهير مسامحياً؛ إذ لا مضاف حتى يطهر. والحاصل: أنّه سالبة
ص: 330
--------------------------
بانتفاء الموضوع.
وفيه نظر: لأنّ النجاسة لم تحمل على عنوان المضاف بل على المائع، والمائع بما هو مائع لم يستهلك وإن استهلك بما هو مضافٌ فالمستهلك لم يحمل عليه عنوان «نجس»، وما حمل عليه عنوان «نجس» لم يستهلك، فلا يستهلك إناء ماءٍ مغصوب لو اُلقي في كرٍ بل هو موجود كمزج مقدار قليل من حنطة مغصوبة في صبرة منها، وإلّا لزم الالتزام بجواز أكل طحين حنطة وقعت فيها فضلة فأرة يابسة وطحنت معها؛ وذلك باعتبار انعدام الفضلة بالنظر العرفي، إلّا أنّ الظاهر أنّها لم تنعدم بل تفرقت اجزائها، والتفرق ليس من المطهرات(1)، ولذا قد يستقذره العرف ممّا يدلّ على عدم انعدامه عرفاً(2)، وكذلك فيما يوضع في المياه الغازية أو الكاكاو من مواد محرمة أو شحم خنزير بنسبة قليلة جداً.
وبعبارة اُخرى: إنّ هنالك ثلاثة مفاهيم عرفية:
ص: 331
--------------------------
الأوّل: الإنعدام العرفي كالطين الذي يوضع في الماء فينعدم عرفاً.
الثاني: الاستحالة وهو انقلاب الماهية كاستحالة الكلب ملحاً.
الثالث: تفرق الأجزاء كلحم الخنزير الذي يثرم مع كثير من لحم الغنم(1).
والحاصل: أنّ مفروض المصنّف تفرّق الأجزاء وتبعثرها لا الإنعدام ولا الاستحالة، والموارد تختلف، فلم يخالف نهي المولى بأكل الطين من وضع شيئاً منه في ماءٍ ولم يبقى له وجود عرفاً، بخلاف من أخذ لحماً محرماً وثرمه مع أضعافه من لحم محلّل فإنّه مخالف للمولى عرفاً في النهي عن أكل اللحم المحرم، فهنالك فرق بين المفهومين، فالمضاف - فيما نحن فيه - إن اُلقي في كرّ ينعدم بما هو مضاف، لكنه لا ينعدم بما هو مائع، وقد تناول المكلف ذلك المائع، والنجاسة حملت على المائع لا المضاف بما هو مضاف، ومثله ما لو اُلقي مقدار ماء مغصوب في حوض، فإنّ شرب ماء الحوض كلّه شربٌ للماء المغصوب.
والحاصل: أنّ هناك فرقاً بين تفرق الأجزاء وانعدام الشيء، فليتأمل في الموارد.(2)
ص: 332
--------------------------
الوجه الثاني: صِغَرُ الأجزاء إلى حدٍّ لا تقبل معه للحكم عليها بالنجاسة.
وفيه نظر: إذ كون الصِغَر من المطهرات غير واضح، ولذلك أفتى المصنّف بأنّ: «الراكد بلا مادّة ينجس بالملاقاة حتى برأس إبرة من الدم الذي لا يدركه الطرف»(1) ولم يعلق عليه أحد فصغر الأشياء لا يمنع الحكم عليها بالنجاسة والتنجيس، وهو خلاف ما كاد أن يكون إجماعاً.
نعم ذهب الشيخ إلى عدم النجاسة لرواية(2) يحتمل دلالتها على ذلك.
الوجه الثالث: امتناع تعدّد حكم الماء الواحد عرفاً شرعاً، أمّا الوحدة
ص: 333
--------------------------
العرفية فهي ظاهرة، وأمّا الإمتناع شرعاً فلعلّه لادعاء الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يتعدد حكمه، فلا يمكن الذهاب إلى أنّ: «المضاف الملقى في الكر نجس ولكن الكر طاهر لم ينفعل». والكلام فيه كالكلام في معظم الإجماعات المنقولة(1).
الوجه الرابع: مجموعة من النصوص الواردة في المقام ولعلّها أقوى دليل على الحكم(2) :
منها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «إنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال (عليه السلام) : إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه، وإن لم تغيّرهُ أبوالها فتوضأ منه، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه»(3).
ووجه الاستدلال بها واضح؛ لإذن الامام التوضأ مع وجود الابوال في الماء.
لايقال: إنّ بول الدواب طاهر.
فإنّه يقال: الدواب مختلفة وبول بعضها ليس بطاهر كالكلب. إلّا أن يدعى الانصراف إلى المركوب.
ص: 334
--------------------------
أما الدم فإنّه كالبول يطهر مع الاستهلاك.
ولايمكن الذهاب إلى جواز التوضأ مع القول ببقاء الماء على طهارته والبول على نجاسته للعلم الإجمالي - مع كون جميع الأطراف محل ابتلاء - فلا تجري أصالة الطهارة، فإطلاق الرواية دالٌّ على طهارة الماء المحتوي على بول الدواب.
ولكن في السند ضعف: لمجهولية ياسين الضرير وطرق تصحيحه غير مرضية(1).
ومنها: ما عن العلاء بن الفضيل قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الحياض يبال فيها؟ قال: لابأس إذا غلب لون الماء لون البول».(2) ويبال فيها يشمل بول الانسان - أيضاً - فإنّ الاطفال يقومون بذلك، والمقصود بالغلبة في ذيل الرواية الاستهلاك.
ص: 335
--------------------------
والحوض يشرب منه ويتوضأ فيه ويغتسل فيه الجنب، ولا يدرى أنّ ما اغتسل به الماء المطلق أو البول خصوصاً مع بقاء حرارة البول، والرواية دلّت على أنّ هذا الماء له حكم الحوض.
فإن تمّ ذلك في أعيان النجاسات لتمّ في المتنجّسات ومنها المضاف بطريق أولى، وقوله (عليه السلام) : «إذا غلب» مشعر بالعلّية، فالغلبة هي الملاك.
ولكن في السند محمد بن سنان، وقد مضى البحث فيه وقد ملنا إلى وثاقته(1).
ومنها: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لو أنّ ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء فاختلطا ثم أصابك، ماكان به بأس»(2) ولايخفى خروج صورة التغيّر بالأدلّة.
وفي السند الحكم بن مسكين ومحمد بن مروان وفيهما اشكال(3).
ص: 336
--------------------------
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «وسُئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال (عليه السلام) : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء»(1).
ووجه الاستدلال: أنَّ البول في الماء إن كان باقياً على نجاسته فكيف يغتسل به الجنب ويتوضأ؟ وإن انقلب إلى ماء مطلق فقد ثبت المطلوب، فما دام مستهلكاً ليس له أحكام النجس، وإلّا لزم على الإمام التنبيه، ويثبت ذلك في المضاف المتنجّس بالأولوية.
ومنها: موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : «لا تشرب من سؤر الكلب إلّا
ص: 337
--------------------------
أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1) فلاحكم بنجاسة لعاب الكلب الممتزج بالحوض.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن الدجاجة والحمامة واشباههما تطئ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال (عليه السلام) : لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء»(2)
وقريب منها صحيحة محمد بن مسلم(3) و قريب منها أيضاً صحيحة معاوية بن عمّار(4).
ومنها: موثقة أبي بصير قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنا نسافر فربّما بُلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فتكون فيه العذرة، ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث. فقال (عليه السلام) : إن عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا، يعني أفرج الماء بيدك ثم توضأ فإن الدين ليس بمضيّق، فإنّ اللّه
ص: 338
--------------------------
يقول: {وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}»(1).
ومنها: صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر به»(2) وغيرها كثير.
وما ذكرناه كاف للدلالة على المدّعى بأنّ الشارع اعتبره منعدماً لا حكم له.
الوجه الخامس: إنّ أدلّة مطهّرية الماء تدلّ على تطهيره للماء المضاف كقوله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا}(3) وقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الماء يطهِّر ولا يطهَّر»(4) وفي صحيحة داوود بن فرقد: «جعل لكم الماء طهوراً»(5) فالماء يطهّر المضاف المستهلك؛ لكونه لامس كل جزء جزء منه، وإلّا لما غلب عليه(6).
ص: 339
--------------------------
الوجه السادس: ارتكاز المتشرعة.
الطريق الثالث: من طرق تطهير المضاف بعد التصعيد والاستهلاك ماتفرّد به العلّامة على ماحُكي عنه من: «طُهر الماء المضاف المتنجّس بمجرد الإتّصال بالمعتصم». فما يقال في المطلق يقال في المضاف، وفيما ذكره تيسير كبير(1).
والبحث في دعواه يتمّ في مقامين: بيان المقتضي ووجود المانع.
أما المقام الأوّل فقد استدل له بوجوه:
الوجه الأوّل : إنّ النجاسة كما تسري وتنجّسُ المضاف كذلك المطهر يسري ويطهرُ المضاف. وفيه: أنّه قياس أو كالقياس.
الوجه الثاني: إطلاقات أدلّة مطهّرية الماء، كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا}(2)
فإنّ حذف المتعلق يفيد العموم فيطهر الماء المضاف أيضاً، وكصحيحة داوود بن فرقد: «وجعل لكم الماء طهوراً»(3) ورواية
ص: 340
--------------------------
السكوني: «الماء يطهِّر ولا يُطهَّر»(1).
والخلاصة: إنّ إطلاقات أدلّة مطهّرية الماء تدلّ على مطهّريته للماء المضاف أيضاً.
وفيه: أنّ التمسك بالإطلاق فرع إحراز كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، ولم يعلم ذلك.
وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه:(2) بأنّ الأصل الإطلاق، وعدمه يحتاج إلى دليل، نعم مع العلم بكون المولى في مقام الإهمال أو الإجمال لا يتمسك به، ولكن يجري الأصل العقلائي - الإطلاق - مع الشك، ولذلك علَّق (رحمه اللّه) - في بحث مقدمات الحكمة في اشتراط كون المولى في مقام البيان - «ولو بأصل كونه في مقام البيان»(3). فلا يحتاج إلى إحراز علمي، بل يكفي الأصل العقلائي على الإطلاق، وإلّا لانسدّ باب التمسك بأكثر العمومات
ص: 341
--------------------------
كقوله عزّ وجلّ: {وَأَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(1) فلو شك في بيع لايمكن التمسك بإطلاق الآية الكريمة؛ لعدم إحراز كونه - عزّ وجل - في مقام البيان من هذه الجهة.
نعم يبقى في المقام: أنّ المطلقات وإن أثبتت الإطلاق الأفرادي ودلت على أنّ جميع الأشياء تقبل التطهير، إلّا أنّها لاتدلّ على كيفية التطهير، وكيفية التطهير إمّا ببيان الشارع، أو بالايكال إلى العرف، والأوّل غير متحقق، والتطهير العرفي يختلف: فإنّ تنظيف الزجاج بالمسح عليه وتنظيف الإسفنجة القذرة بعصرها.
وفيما نحن فيه لايرى العرف أنّ الإتّصال لحظة بعاصم تطهير للماء المضاف. والحاصل: أنّ الإطلاق أفرادي وأحوالي لاكيفوي(2).
وأمّا ماذكره الهمداني - من تعميم بيان المولى إن بيّن واقعة جزئية خارجية ولم يكن له بيان في سائر الموارد، فلكونه بَيَّن كيفية تطهير الماء القليل بكفاية اتّصاله بالعاصم لحظة، نسحب الحكم الى المضاف الذي
ص: 342
--------------------------
سكت فيه، فالإطلاقات تشمل المضاف والكيفية تؤخذ من المشابه أي المطلق - فهو قياس مع الفارق والأمر موكول إلى التأمل.
الوجه الثالث: مرسلة الكاهلي عن رجل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال في حديث: «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر»(1).
الوجه الرابع: مرسلة العلّامة في المختلف قال: «ذكر بعض علماء الشيعة أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال له الإمام: إنّ هذا - ماء الغدير - لايصيب شيئاً إلّا طهّره»(2).
ويرد على الخبرين: ضعف سندهما لإرسالهما. و ان أجاب عنه في الفقه(3) بجبرهما بالعمل. هذا أولاً.
وأمّا ثانياً: فبضعف الدلالة كما في التنقيح قال ما حاصله: «الاستدلال بهما يتوقّف على حمل الإصابة والرؤية على مفهومها العرفي، وهو غير ممكن؛ لاستلزامه القول بطهارة مثل الخشب فيما إذا كان كلا طرفيه نجساً واتصل أحدهما بالكر أو المطر دون الآخر، حيث يصحّ أن يقال عرفاً: إنّه أصابه أو رآه. مع أنّه لاوجه لطهارة الطرف الآخر، فلابدّ من حمل الإصابة والرؤية على معناهما التحقيقي، وأنّ إصابة كل موضع توجب طهارة ذلك
ص: 343
--------------------------
الموضع بخصوصه»(1).
وحاصله: إن كان الملاك الرؤية والإصابة العُرفيتين فله تال فاسد فإنّ نزول المطر على جزء من خشبة لايطهر جميعها، وإن كان الملاك الرؤية والإصابة الدقية - كما في الخشب - فلا يطهر من المضاف المتنجّس إلّا كل جزء أصابه المطر، فلا وجه لما ذكره العلّامة فإنّه لايكفي إصابة المطر للمضاف، بل يجب أن يصيب جميع أجزائه ليطهر.
وفيه تأمل: للفرق بين الجوامد والمائعات؛ لاستساغة التفكيك عرفاً في الأوّل دون الثاني. والخلاصة: أنّ الرؤية والإصابة تصدق في المائعات دون الجوامد.
ولايقال: بإنّه مصادرة. إذ يجاب عنه: بأنّ الملاك في الألفاظ الفهم العرفي، فيقال للمضاف الذي جرى عليه المطر أنّه رآه ماء المطر، ولا يقال ذلك للخشبة التي لم يرَ جانب منها ماء المطر، فالعرف يفرق بينهما(2).
ص: 344
--------------------------
المقام الثاني: سلّمنا وجود المقتضي ولكن قد يدعى وجود المانع، والمانع المتصور أمران:
المانع الأوّل : الروايات الدالة على طرح الزيت والسمن والمرق ونحوها بالملاقاة، حيث دلّت على عدم قابلية المضاف للتطهير وإلّا لم يتعين طرحه.
منها: صحيحة زرارة: «في فأرة وقعت في سمن فماتت.. إن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به، والزيت مثل ذلك»(1).
ومنها: صحيحة معاوية بن وهب قال: «والزيت يستصبح به»(2).
ومنها: صحيحة الحلبي: «إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً.. إن كان الصيف فارفعه حتى تُسرج به»(3).
ومنها: «سُئل (عليه السلام) عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة؟ فقال: يهراق مرقها ويُغسل اللحم ويؤكل»(4) وغيرها كثيرة في أبواب النجاسات والأطعمة والأشربة.
وأمر الإمام (عليه السلام) ظاهر في الوجوب التعييني كما في الكفاية، وإلّا لزم أن
ص: 345
--------------------------
لا يتعيَّن طرح المرق والعسل والزيت إن تم كلام العلّامة.
إلّا أنّ السيد الوالد أشكل على وجوب الطرح باشكالين:
الأوّل: بما في روايات الزيت والسمن ونحوهما قال: «عدم البيان ليس لأجل عدم إمكان التطهير بهذا النحو بل للتعذر العرفي»(1).
وفيه: أنّه لاتعذر عرفي، فإنّ صبَّ كُرٍّ عليه أو جعله في الغدير - وقد كان كثيراً - ممكن.
مع أنّ حمل الرواية على القضية الخارجية دون الحقيقة خلاف الأصل، وإلّا لجرى الاحتمال في أغلب الموارد، فإنَّ وجوب الزكاة في التسعة - مثلاً- لأجل كونها عمود الإقتصاد سابقاً، ولا وجوب في غيرها وإن أصبح مداراً للإقتصاد.
الاشكال الثاني: «إنّ الإراقة هنا مثل الإراقة في باب الإنائين المشتبهين مع قابليتهما التطهير، ومثل الإراقة للدُهن مع قابليته لجعله صابوناً، فإنّها كناية عن عدم الانتفاع الفعلي»(2).
وقد يورد عليه : أنّ الكناية إنّما تتحقق فيما إذا كان الشيء مسلوب الانتفاع عرفاً والإنائان المشتبهان كذلك، ومثلهما الدُهن المتنجّس بالنسبة إلى جعله صابوناً، أمّا مع وجود المنفعة العُرفية المقصودة فالكناية خلاف الظاهر.
ص: 346
--------------------------
مع أنّ حمل يهريقهما على الكناية محلُّ بحث، إذ ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ إراقة الإنائين في المشتبهين واجبة؛ وذلك ليتحقق موضوع: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}(1).
المانع الثاني: إعراض الفقهاء عن الدلالة بحيث لم يُرَ في المتقدمين ولا في المتأخرين موافق له، بل إنّ دلالة عبارته على ذلك وقعت موقع الشك من قبل بعض.
تفريع: لو امتزج المضاف المتنجّس بالمطلق المعتصم، واستهلك فيه بنفسه لا بوصفه واحدث أثراً في لون المطلق أو طعمه أو رائحته ولم يسلبه إطلاقه - فإنّ التغيير لا يساوق الإضافة كماء النهر المختلط قليلاً بالطين، أو ألقى قارورة عطر في حوض ماء كبير - فهل يوجب ذلك تنجُس المطلق بتغيّره بأوصاف المتنجّس أو لا؟
أقول: سنتطرق إلى أنّ التغيّر بوصف النجاسة يوجب نجاسة الماء المعتصم، وأمّا التغيّر بوصف المتنجّس فلايوجب النجاسة، فلا يكون تأثير المضاف في تغيّر المطلق موجباً لانفعاله، نعم إذا صيّره مضافاً ففيه بحث سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
وعليه يتّضح ماذكره في الفقه من أنّه: «حُكي عن بعض فقهاء عصرنا أنّه
ص: 347
--------------------------
أفتى لبعض من سأله من صانعي الدّبس عن دبس كثير متنجّس، فأجابه بأنّه يخلطه بكر من الماء بحيث يبقى على إطلاقه ثم يستعمل ذلك الماء في الدبس الذي يريد صنعه بعد ذلك»(1).
الطريق الرابع: انقلاب الماء المضاف النجس مطلقاً ولو بالوسائل الكيميائية.
وفي المقام فرضان:
الأوّل: أن يكون قليلاً فهو باقٍ على نجاسته؛ وذلك لعدم الدليل على أنّ الإنقلاب مطهّر، ولتنجسه بالظرف المتنجّس لو فرض كون الإنقلاب مطهّراً.
نعم لو ورد الدليل على الطهارة كانت دلالة الإقتضاء مقتضية لطهارة الظرف بالتبع كالخمر المنقلبة خلاً بناءاً على القول بنجاستها.
الثاني: أن يكون كثيراً فَيَطهُر بالإنقلاب بناء على أن قوله (عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل خبثاً»(2)
يشمل الدفع والرفع.
إلّا أنّ المبنى محلُ اشكال(3).
ص: 348
--------------------------
الطريق الخامس(1):
استهلاكه فيما يتمّمه كراً. إلّا أنّ تماميته مبنية على أنّ المتمّم كرّاً دافع للنجاسة(2).
ص: 349
7 مسألة: إذا اُلقي المضاف النجس في الكر فخرج عن الإطلاق إلى الإضافة تنجس إن صار مضافاً قبل الاستهلاك، وإن حَصَلَ الاستهلاك والإضافة دفعةً لايخلو الحكم بعدم تنجيسه عن وجه، لكنه مشكلٌ(1)[1].
--------------------------
الطريق السادس: أن يستهلك في مقدار من ماءٍ مضاف كثير ثم يستهلك المجموع المركب في مقدار أكبر وهكذا حتى تنتهي إلى واسطة لا تنجس.
إلّا أنّ تماميته - أيضاً - مبنية على أنّ تعدد الوسائط رافع للتنجيس، ومبني - أيضاً - على قبول صغرى الاستهلاك، وقد مضى التأمل في ذلك.
[1] للمسألة صور أربع:
الصورة الأولى: بقاء المضاف النجس على إضافته والمطلق المعتصم على إطلاقه، ولاشك في أنّ كلاً منهما باقٍ على حكمه السابق؛ لعدم طرو مايغيّر حكمه، فالكر باقٍ على طهارته لفرض اعتصامه وعدم تغيّره بالنجاسة وعدم صيرورته مضافاً، والمضاف النجس باق على نجاسته لعدم تطهيره بإحدى طرق تطهير المضاف(2).
ص: 350
--------------------------
الصورة الثانية: أن يصل الاستهلاك قبل الإضافة بأن يُستهلك المضاف المتنجّس في الكر أولاً ثم يوجب إضافة الكر ثانياً بعد مدة وزمان، ومُثّلَ لذلك بما إذا مَزَجنا مقداراً من النشاء في الماء، فإنّه قد يستهلك في الماء حين إمتزاجهما بحيث لايطلق على المجموع إلّا الماء المطلق، ولكن ينقلب مضافاً ويَغلُظ بعد ايصال الحرارة إليه، فإنّ الاستهلاك ليس بمعنى انعدام المضاف بالدقة العقلية، بل بمعنى تفرّق أجزائه، فيمكن أن تؤثر هذه الأجزاء المتفرقة في الماء الكر بعد حين، ولاشك في طهارة الماء حينئذ؛ إذ المضاف النجس قد استهلك(1) فلا وجود له كي يحكم عليه بالنجاسة، والكر المطلق حين إطلاقه لم ينفعل لإعتصامه وحين إضافته لم تحصل الملاقات، فلا وجه للنجاسة أصلاً.
ص: 351
--------------------------
وللسيد الوالد (رحمه اللّه) تفصيل في الصورة الثانية بين صَبّ المضاف في المطلق أو صَبّ المطلق في المضاف، لم يتضح لنا وجهه، قال: «ثم لو فرض تقدم الاستهلاك على الإضافة كما لو كان شيء لايظهر أثره إلّا بعد مُدة، وصببناه في الماء فلا اشكال في طهارة الماء، هذا ممّا إذا صُبَّ المضاف في المطلق، وأمّا لو اُلقي المطلق على المضاف النجس فاللازم الحكم بعدم الطهارة؛ لأنّ موضع المضاف النجس نجسٌ فيبقى على نجاسته؛ لأنّ المضاف لايطهره فينفعل به، فتأمل»(1).
لكن المفروض أنَّ المضاف استهلك، والماء المعتصم يطهّر الإناء.
وبعد بيان حكم هاتين الصورتين نعطف عنان الكلام إلى بيان الصورتين اللّتين ذكرهما المصنّف.
الصورة الثالثة: أن تحصل الإضافة قبل الاستهلاك، بأن يصير الكر المطلق مضافاً ثم يستهلك المضاف المتنجّس فيه.
وقد ذهب مجموعة من الأعلام إلى استحالة هذا الفرض(2) وليس البحث في ذلك بمهم في المقام، إلّا أنّ السيد الوالد (رحمه اللّه) قرّبه، قال: «بعض الأشياء له فورة في أوّله لايبقى معها صدق الإطلاق ويزول بالسرعة»(3)
كالقرص الفوّار
ص: 352
--------------------------
حيث إنّه يحول الماء المطلق عندما يقع فيه إلى المضاف ثم ينهدم، وقد حكم في المتن بالنجاسة؛ لأنّه ماء مضاف لاقى متنجّساً فينفعل، فهنا مضافان ينفعل ثانيهما بأوّلهما - المضاف الثاني الكر ينفعل بالمضاف الأوّل - ولايجدي استهلاك المضاف بعد ذلك؛ إذ لم يرد على الكر مطهّر شرعي بعد نجاسته، كما لايجدي صيرورة الكر المضاف مطلقاً لما تقدّم.
و لا يخفى أنّ هذا الحكم إنّما يتمّ في صورة كون الماء بقدر الكر لا أكثر، أو كونه أكثر لكن الماء الذي لم يصر مضافاً أقل من الكر، أمّا لو كان كرّاً فلا ينفعل ويطهِّر ما تنجَّس لو فرض زوال تغيّره، وكذا لو كان له مادّة فإنّ مالم يصر مضافاً يبقى على طهارته مع اتصاله بالمادة، وما طرأت عليه الإضافة يطهر لو فرض زوال إضافته، لأنّ له مادّة كما في صحيحة ابن بزيع(1).
والحاصل: وجود فروض أربعة في الصورة الثالثة:
الأوّل: انقلاب الكر المطلق مضافاً ثم استهلاك المضاف المتنجّس - مع فرض إمكانه -، والحكم: نجاسة الماء.
الثاني: كون المطلق أكثر من كرّ وقد تغيّر جزء منه، إلّا أنّ مالم يتغيّر أقل من الكر، والحكم: انفعال الماء كلّه.
ص: 353
--------------------------
الثالث: كالثاني، إلّا أنّ مالم يتغيّر بمقدار الكر، فإنّه لاينفعل وإن زال تغيّر المضاف المتصل بالمطلق الكر، فإنّ الكر يطهّره.
الرابع: كون المقدار غير المتغيّر أقلّ من كرّ إلّا أنّه متصل بمادّة كماء البئر، والحكم أنّه إذا زال تغيّر المتغيّر فإنّ المادّة تطهّره.
الصورة الرابعة: أن تحصل الإضافة والاستهلاك دفعة، كأن يتحول الكُرُّ إلى ماء مضاف ويستهلك المضاف المتنجّس الذي اُلقي فيه في آن واحد. وفي إمكانها بحث بين الأعاظم(1) ولكن مع فرض إمكانه فقد صرَّح المصنّف ب- : «أنَّ الحكم بالطهارة لايخلو من وجه».
ويمكن أن يُبَيَّنُ ذلك بتقريرين:
الأوّل: استصحاب الطهارة أو قاعدة الطهارة أو كلاهما معاً(2).
ص: 354
--------------------------
الثاني: ما اعتمد عليه بعض(1) وحكموا لأجله بطهارة الماء.
بيانه: إن الماء حال الملاقاة وقبل استهلاك المضاف فيه ماء مطلق معتصم ولاوجه لانفعاله، وأمّا آن إنقلاب المطلق مضافاً فهو آن استهلاك المضاف، فلا مضاف نَجِسَ ليُلاقي الماء ويُنجِّسَه لاستهلاكه في المطلق. والحاصل: أنّه حال وجود المضاف كان المطلق الملاقي معتصماً، وبعد انقلاب المطلق مضافاً لا مضاف نَجِسَ كي يُنَجِّسَهُ.
فهناك مضافان. الأوّل : عصير الرمان المتنجّس مثلاً -
الثاني: الكر المتحول إلى مضاف بإلقاء العصير عليه، فهناك حالة تغالب وتأثير لكل واحد على الآخر، فإنَّ الكُرَّ أعدم ذات المضاف والمضاف أعدم وصف الكر، فيكون الكر طاهراً.
ولكن في الطهارة اشكال وتقريره من وجوه:
الأوّل: ماذكره السيد الوالد (رحمه اللّه) في الفقه - وإن خرج عن المسألة بتردّد - قال: «إنّ عدم تنجيس الماء بالملاقاة إنّما يكون حال الإعتصام، والمفروض أنّ ملاقاة النجاسة في حال عدم العصمة»(2).
ص: 355
--------------------------
ولكنه لايخلو من نظر؛ إذ لا نجاسة حتى يقال إنّ ملاقاة النجاسة في حال عدم العصمة، فإنّ المفروض أنّه في آن انقلاب الحوض مضافاً استهلك العصير المتنجّس، فالكر المضاف لم يلاق العصير المتنجّس إذ لا وجود له، وإنما المطلق هو الذي لاقى العصير، فالاستدلال المذكور خروج عن البحث.
الثاني: استصحاب نجاسة أجزاء المضاف.
وفيه: أنّ الموضوع متبدّل عرفاً وإن بقيت الأجزاء بالدقة العقلية، مضافاً إلى تعارض استصحاب نجاسة الذرات مع استصحاب طهارة الحوض.
الثالث: ماذكره في التنقيح(1) واعتمد عليه في الحكم بالنجاسة ما حاصله: أنّ تغيير الكرِّ تدريجي فينفعل الباقي. فإنّ العصير لا يُغيّر الحوض الكر دفعة لاستحالة الطفرة بل يغيره تدريجاً، فإذا غير مقداراً منه يكون الباقي أقل من كرّ فينفعل.
ولكن يرد عليه: إمكان الدَّفعة بما ذكره في الفقه. قال: «وتقريبه إلى الذهن أنّه لو فرض شيء له تأثير في الإضافة ولكن لايظهر أثره إلّا بعد ساعة وكان هو بنفسه بحيث يُعدم بعد ساعة، فإنّه لو اُلقي في الماء حصل الإنعدام والإضافة دفعة بعد ساعة»(2).
فيكون التحويل إلى مضاف دفعة، وذلك كالنشآء الذي يؤثر في الماء
ص: 356
--------------------------
دفعة واحدة، فدليل التنقيح أخصّ من المدّعى.
الرابع: ما أشار إليه في المهذب(1) بعبارات مختصرة قال: «إنّ المتفاهم من الأدلّة اعتبار بقاء الإعتصام بعد الاستهلاك عرفاً في مطهّرية النجس المستهلك فيه».
وهو متين؛ فإنّ دليل مطهّرية الاستهلاك : إن كان ارتكاز المتشرعة، فهو لبي مع أنّه اختلف الأعاظم فيه.
وإن كان الأدلّة اللفظية مثل: «كلب ولغ في ماء؟ قال (عليه السلام) طاهر توضأ به»(2) و: «دم اُلقي في حوض، قال (عليه السلام) : إن غلب لون الماء لون الدم فلا اشكال». فإنّ ظاهرها بقاء الإطلاق بعد الاستهلاك، فلا تشمل انقلاب الحوض مضافاً في آن الاستهلاك؛ لانصرافها إلى صورة بقاء الحوض على إطلاقه بعد استهلاك الدم(3)، وعليه فيبقى المضاف الأوّل نجساً فينجس
ص: 357
8 مسألة: إذا انحصر الماء في مضافٍ مخلوط بالطين، ففي سعة الوقت يجب عليه أن يصبر(1) حتى يصفو ويصير الطين إلى الأسفل ثم يتوضأ على الأحوط، وفي ضيق الوقت يتيمّم(2)؛ لصدق الوجدان مع السعة دون الضيق[1].
--------------------------
المضاف الثاني، ويكفي عدم الدليل على تطهير المضاف.
والمتحصّل: انفعال الحوض الكر بأجمعه اعتماداً على الوجه الرابع.
[1] في المسألة فرضان:
الفرض الأوّل : سعة الوقت، وهذا الفرض مصداق من مصاديق العلم بالتمكّن من استعمال الماء قبل انقضاء الوقت وإن كان عاجزاً عنه بالفعل، والحكم في هذه المسألة مبتنٍ على: أنَّ الاعتبار في وجوب الوضوء على الواجد، ووجوب التيمم على الفاقد مجموع الوقت، أي مابين الحدين على وجه الإستيعاب، أو العدم في خصوص زمان العمل.
فإن كان المناط الأوّل فيجب عليه الصبر مجموع الوقت، إذ يصير واجداً إلى آخر الوقت.
وإن كان الثاني جاز البدار؛ لأنّه حين قيامه إلى الصلاة ليس بواجدٍ.
وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى الأوّل؛ إذ التكليف تعلّق بطبيعي الصلاة لابفرد خاص منها، والمكلف واجد للماء بلحاظ الطبيعي - وإن لم يكن واجداً
ص: 358
--------------------------
بلحاظ الفرد - فيجب عليه الإنتظار، وهو المستفاد من الأدلّة العامة لذوي الأعذار، كما أنّه المستفاد من الأدلّة الخاصة الواردة في خصوص المقام، كصحيحة محمد بن مسلم: «إذا لم تجد ماءً وأردتَ التيمم فأخّر التيمم إلى آخرالوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض»(1).
ولكن مع ذلك قد أفتى كثير من الفقهاء بجواز البدار وهو المحكي عن الصدوقين والجُعفي والمنتهى والتحرير والبيان والإرشاد ومجمع البرهان وحاشيتي الإرشاد والمدارك وغيرها، وتفصيل الكلام في مباحث التيمّم. هذا، ولكن الأحوط وجوب الإنتظار.
ثم إنّ المصنّف علّل وجوب الصبر بصدق الوجدان بالسعة ومقتضاه الفتوى بوجوب الصبر لا الإحتياط، وقد أفتى المصنّف بوجوب الصبر في المسألة الثالثة من أحكام التيمم(2) وسكت عنه في المقامين بعض المعلّقين، ووجه الجمع بينهما غير واضح.
ولا يخفى أنّ وجوب الصبر إنّما يتمّ في صورة عدم إمكان تصفية الماء بوسائل كالخرقة مثلاً كما ذكره السيد الجد (رحمه اللّه) في تعليقته، وإلّاكان مخيراً بينهما.
الفرض الثاني: ضيق الوقت. ولا اشكال في وجوب التيمم حينئذ:
أوّلاً: لصدق عدم الوجدان المأخوذ موضوعاً في الآية الكريمة: {فَلَمْ
ص: 359
--------------------------
تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}(1) سواء قيل بأنّ المراد بعدم الوجدان عدم القدرة أو عدم الوجود.
وثانياً: لأهمية الوقت، إذ الأمر دائر بين الصلاة خارج الوقت بالطهارة المائية وبين داخله مع الطهارة الترابية، والمستفاد من الأدلّة تقدّم الوقت على كل شرط وجزء - كما سيأتي في محله - ماعدى مطلق الطهارة حيث اختلف في فاقد الطهورين.
ثم إنّه قد استشكل المحقق النائيني على تعليل المصنّف بقوله: «بل لأنّ عدم الوجدان حاصل مع الضيق دون السعة»(2) والظاهر أنّ نظره إلى أنّ المناط في الآية الكريمة عدم الوجدان، دون الوجدان فكان على المصنّف أن يقول: «لصدق عدم الوجدان في الضيق دون السعة» لا أن يقول: «لصدق الوجدان مع السعة دون الضيق».
وأجاب عنه السيد الوالد (رحمه اللّه) : «بأنّ المراد الوجدان وعدمُه بين الحدّين الذي هو موضوع التكليف المستفاد من الآية منطوقاً ومفهوماً»(3).
فتعليل المصنّف تامّ فإن الموضوع كلاهما.
ص: 360
فصل في المياه... 5
فصل في المياه... 7
في تعريف الماء المطلق و المضاف... 7
في أقسام المياه و أحكامها... 13
أدلّة مطهّرية الماء المطلق... 16
في الايات الدالة على مطهّرية الماء و بيان اشكالاتها... 21
بحث في معنى الطهور... 22
الآية الثانية... 42
الآية الثالثة... 47
في الاستدلال بالروايات لمطهّرية الماء... 48
في طاهريّة المضاف دون مطهّريته... 51
المضاف لا يرفع الحدث... 52
استثناءات عدم رفع المضاف للحدث... 55
الأوّل: ماء الورد... 56
بحث في وثاقة سهل بن زياد... 70
ص: 361
بحث في اعتبار محمد بن عيسى العبيدي... 77
الثاني: النبيذ للوضوء الاضطراري... 88
الثالث: ماء السدر و الكافور لتغسيل الميت... 94
الرابع: عند فقد المطلق... 95
هل يرفع المضاف الخبث؟... 101
القول الأوّل : تفصيل الكاشاني... 101
بحث في ارتكاز المتشرعة... 103
القول الثاني: كفاية التطهير بالمضاف... 116
في بيان الإجماع المستنبط –الكبروي... 116
الروايات الدالة على كفاية التطهير بالمضاف... 147
بحث في وثاقة غياث بن ابراهيم... 152
القول الثالث: التفصيل بين الاختيار و غيره... 159
القول الرابع... 164
القول الخامس: عدم مطهّرية المضاف مطلقاً و بيان ادلته... 164
أدلّة انفعال المضاف بملاقاة النجاسة... 186
القول الثالث: عدم انفعال الكر من المضاف إلّا مع التغيّر... 237
الفرق بين الاستحالة و الاستهلاك و تفرق الاجزاء... 254
في عدم انفعال العالي بملاقاة السافل للنجاسة و بيان ادلته... 261
الماء المطلق بعد التصعيد موضوعاً و حكماً... 277
في التصعيد موضوعاً و حكماً... 282
ص: 362
في المائع مشكوك الإطلاق والإضافة... 296
أقسام الشبهة و بيانها... 298
أقسام الشك في الشبهة المصداقية... 298
في الشبهة المفهومية و طهارة الماء و عدم انفعاله بالملاقاة... 315
الاستهلاك طريقٌ لتطهير المضاف المتنجّس... 329
بين الاستهلاك و الاستحالة و تفرق الاجزاء... 330
هل الإتّصال بالعاصم مطهّر للمضاف؟... 340
في بيان المانع عن إمكان تطهير المضاف... 345
فرع في التغيّر بوصف المتنجّس... 347
صور إضافة المطلق بإلقاء مضاف منفعل... 350
وظيفة من لم يجد إلّا المضاف بالطين للصلاة... 358
فهرس المحتويات... 361
ص: 363